×
مجموع رسائل الفقه : مجموع يضم عدة رسائل فقهية، للعلامة المعلمي اليماني - رحمه الله -، وهي 38 رسالة متفاوتة الحجم، بعضها تامة حررها المؤلف، وأخرى ناقصة لم يُكمِلها.

 مجموع رسائل الففة

الشيخ العلامة عبد الرحمن المعلمي

تحقيق

محمد عزير شمس (مقدمة 16/1)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(مقدمة 16/2)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة التحقيق الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه المبين: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}، والصلاة والسلام على رسوله القائل: "من يُردِ الله به خيرًا يُفقِّهه في الدين"، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد، فبين أيدينا مجموعة الرسائل الفقهية للعلّامة المحقق الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله، الذي عرفه الناس بتحقيقاته ومؤلفاته المطبوعة في الدفاع عن الحديث وأهله مثل "التنكيل" و"الأنوار الكاشفة"، وجلُّ آثارِه التي ألَّفها بقيت مخطوطة في حياته، وكان تلاميذه والمحبون له يحثُّونه على نشرها، فيقول: إن كان فيها فائدة فسيأتي فيما بعدُ مَن يقوم بطبعها. وقد آن الأوان لنشرها في هذا المشروع العلمي المبارك إن شاء الله، الذي يجمع جميع آثاره وكتاباته في المسوَّدات والدفاتر، ويُخرِج كثيرًا منها إلى النور لأول مرة. ورسائل هذه المجموعة كتبها الشيخ في فتراتٍ مختلفة من حياته التي تقلَّب فيها في بلدان مختلفة، فقد كتب بعضها في اليمن ناقش فيها أحد فضلاء الزيدية في مسألة اشتراط الصوم في الاعتكاف، وهذا قبل أن يرتحل إلى جازان سنة 1336، وهو في ريعان شبابه في الثالثة والعشرين من عمره، وقد كان الشريف محمد بن علي الإدريسي حاكمًا لعسير والمخلاف

(مقدمة 16/5)


السليماني آنذاك، فولّاه رئاسة القضاء هناك، ولما ظهر له ورعه وعلمه وزهده وعدله لقَّبه بشيخ الإسلام، وكان إلى جانب القضاء يشتغل بالتدريس والمذاكرة مع الإدريسي والتأليف في بعض المسائل. ومنها "مسألة منع بيع الأحرار" التي كتب فيها مرارًا، وعرضها على الإدريسي لينظر فيها. ولما توفي الإدريسي سنة 1341 وتغيرت الأحوال ارتحل الشيخ إلى عدن، وبقي فيها سنةً مشتغلًا بالتدريس والوعظ، ومما ألَّفه هناك رسالة في "حقيقة الوتر ومسماه في الشرع"، فقد ألَّفها في رمضان سنة 1342. وفي أواخر هذه السنة سافر الشيخ إلى إندونيسيا، وبقي فيها إلى سنة 1344، ثم انتقل إلى الهند، واستقر فيها بحيدر آباد إلى سنة 1371، اشتغل فيها مصححًا لأمهات الكتب في الحديث والرجال والتراجم وغيرها من الفنون بدائرة المعارف العثمانية، وهو إلى جانب ذلك يكتب في بعض المسائل الفقهية التي يرى الحاجة إلى تحرير القول فيها، منها "جواب الاستفتاء عن حقيقة الربا" الذي ردَّ فيه على بعض علماء الهند، ومنها "رسالة في المواريث" التي ردَّ فيها على كتاب "الوراثة في الإسلام" (المطبوع بالهند سنة 1341) الذي أثار ضجة في الأوساط العلمية. وهناك كتبٌ ورسائل في علوم أخرى غير الفقه ألَّفها الشيخ في الهند، دخلت ضمن هذه الموسوعة. انتقل الشيخ في أواخر سنة 1371 إلى مكة المكرمة، وعُيِّن أمينًا لمكتبة الحرم المكي في شهر ربيع الأول سنة 1372 وبقي على هذا المنصب إلى وفاته سنة 1386. وكان يشتغل في هذه الفترة بفهرسة المخطوطات، وتصحيح الكتب وتحقيقها لتطبع في دائرة المعارف العثمانية بحيدراباد،

(مقدمة 16/6)


وتأليف أغلب الرسائل والكتب في الفقه وغيره، ولم ينشر منها في حياته إلّا القليل، مثل "مقام إبراهيم" و"الأنوار الكاشفة" و"طليعة التنكيل". وتوفي الشيخ وترك وراءه مجموعة من المسوَّدات في أوراق ودفاتر بأحجام مختلفة، استُخْرِج منها ما يُنشر في هذه السلسلة. وقد أُسنِدَ إليَّ تحقيق الرسائل الفقهية منها، وهي 38 رسالة متفاوتة في الحجم، بعضها تامَّة حرَّرها المؤلف، وأخرى ناقصة لم يُكمِلها، أو ضاعت بعض أوراقها، فلم نجدها في الدفاتر. ثم بعضها مبيَّضة، وأخرى مسوَّدة كثُر فيها الشطب أو الزيادة بين الأسطر وفي الهوامش، أو الإلحاق في أوراق مستقلة وجزازات. وبعد كلِّ هذا وذاك فبعضها مضطربة الأوراق، تحتاج إلى إعادة الترتيب بعد التأمل فيها ومعرفة سياق الكلام، وسيأتي في منهج التحقيق ذِكر ما بذلنا في تحقيقها وإخراجها من جُهد. ويهمنا هنا بيان منهج الشيخ في تناوله لهذه المسائل الفقهية، والسمات البارزة لكتاباته. وأوّل ما نذكره بهذا الصدد أنه كتب في النوازل المهمة التي وقعت في عهده، مثل بيع الأحرار الذي شاع في زمنه، وحول أجور العقار بمكة المكرمة، وتوسعة المسعى، ونقل مقام إبراهيم، وتوكيل الولي غير المجبر بتزويج موليته، ومسألة الطلاق الثلاث المجموع، وغيرها من القضايا والنوازل التي كانت بحاجة إلى تفصيل القول وبيان ما هو الحق والصواب أو الراجح فيها، ودفع الشُّبَه الواردة عليها. وقد كان لكتاباته أثرٌ ملموسٌ في الأوساط العلمية، فأيَّده العلماء، وكان سندًا قويًّا للحكّام فيما نفَّذوا من إصلاحات. ومع أن الشيخ كان يشتغل بتحقيق المخطوطات وتصحيح الكتب والعمل في المكتبة، إلّا أنه لم ينقطع عما يجري في

(مقدمة 16/7)


المجتمع من أمور تحتاج إلى تحرير القول فيها من الناحية الشرعية، فقام بها أحسن قيام، ووقف موقفَ الفقيه الذي ينظر إلى مقاصد الشرع ويتأمل في النصوص ويستنبط منها ما فيه صلاح العباد والبلاد. والأمر الثاني الذي نلاحظه في هذه الرسائل أنه يردُّ على من يثير الشغب في المسائل المجمع عليها، مثل ما فعل الجيراجي في كتابه "الوراثة في الإسلام" الذي أراد أن يهدم به نظام المواريث، فانبرى له الشيخ، وألَّف في الردّ عليه، وأطال في مناقشته، وفسَّر آيات المواريث تفسيرًا صحيحًا يجلو كلَّ غبار، وينسف ما بناه الجيراجي في كتابه المذكور. وهذا يدل على غيرته وحميته للدين، ودفاعه عن القرآن والسنة وإجماع الأمة. وهكذا ردّ في رسالته عن الربا على من يُجوِّز بعض أنواعه، مثل فائدة البنوك والبيع المسمَّى ببيع الوفاء أو بيع العهدة، وأطال المناقشة والحوار معه، وذكر مفاسدها من وجوه. أما المسائل الخلافية مثل سنة الجمعة القبلية، وعدد الركعات في قيام رمضان، والوتر، وإعادة الصلاة، وإدراك الركعة بإدراك الركوع وغيرها، فقد تأنّى فيها الشيخ، ونظر في الأدلة الواردة في هذه المسائل، وتكلم على الأحاديث تصحيحًا وتضعيفًا، ثم تطرَّق إلى دلالتها وبيان اختلاف العلماء فيها، ورجَّح ما رآه راجحًا دون القدح في المذاهب أو الأئمة. يقول في آخر رسالته في الوتر: "هذا ما اقتضاه قول الحق الذي أوجبه الله على كلِّ مسلم على مَبْلغِ علمه ومقدار فَهْمِه. وليس فيما قلنا غضاضة على أئمة مذهبنا، فإنهم حَفَظَة الدين وأئمة اليقين، وهم جبال العلم وبحاره، وشموس الحق وأقماره، وإنما معنا آثار فوائدهم وأسْقاطُ موائدهم".

(مقدمة 16/8)


ويقول في آخر رسالته في عدم إدراك الركعة بإدراك الركوع: "لا يُنكَر أن للقول بالإدراك قوَّةً مَّا لذهاب الجمهور إليه، فلا لومَ على مَن قوِي عنده جدًّا فقال به. فأما أنا فلا أرى له تلك القوة، والأصل بقاء النصوص على عمومها". ويقول في قيام رمضان: "أما الحدّ المحتَّم فلا، وأما الأفضل فالاقتصار على الإحدى عشرة، وفي بعض الليالي ثلاث عشرة، إلا إذا شقَّ عليهم إطالتها حتى يستغرق الوقتَ الأفضل، فلهم أن يزيدوا في العدد، على حسب ما يخفُّ عليهم، وعلى هذا جرى عمل السلف". وبمثل هذه الآراء النيِّرة يُنهي كتاباته في المسائل الخلافية، فهو مع ترجيحه لرأي معيَّن يجعل الأمر واسعًا، فلا يتعصب لمذهب ولا يتشدد في الدفاع عنه. وقد كانت نشأة الشيخ على المذهب الشافعي، وله اطلاع واسع على نصوص الإمام الشافعي في كتاب "الأم"، وأقوال الشافعية في كتب الفقه، إلّا أن ذلك لم يمنعه من مناقشة الإمام وأصحابه في بعض المسائل، مثل سنة الجمعة القبلية، حيث خالف المذهب وناقش الأصحاب، وردّ على جميع ما استدلوا به. وقال في آخره: "مَن كان منكم يحبُّ ثبوتها انتصارًا لمن أثبتها من العلماء فهذا غرض آخر، ليس من الدين في شيء. والعلماء مأجورون على كل حال، وليس في المخالفة لهم تبعًا للدليل غضاضةٌ عليهم، إذ ليس منهم من يُبرِّئ نفسَه عن الخطأ ويدَّعي لنفسه العصمة. ومَن كان منكم يحبُّ ثبوتها لكونه من المقلدين للمذهب القائل بثبوتها، فهذا لا ينبغي له أن يُعوِّل على ثبوتها من حيث الدليل وعدمه، لأنه مقلِّد لا يَسأل عن حجة، ولا يُسأل عن حجة، فهو ملتزم لقول من قلَّده. فإن تاقت نفسُه إلى

(مقدمة 16/9)


الاحتجاج فليوطِّن نفسه على قبول الحجة، ولو على خلافِ قولِ إمامه، وإلَّا وقع في الخطر من تقديم هواه على ما جاء به الرسول، وجَعْلِ كلامِ مقلَّدِه أصلًا يُرَدُّ إليه ما خالفه من كلام الله ورسوله. والله يهدي من يشاء إلى سراطٍ مستقيم". كان الشيخ عالمًا بالحديث والرجال والعلل، وتغلب عليه هذه النزعة عندما يذكر الأحاديث، فيتكلم عليها تصحيحًا وتضعيفًا، ويأتي بالطرق والشواهد، ويترجم لرجال الأسانيد، ويشير إلى بعض العلل الخفية، ويُعقِّب أحيانًا على الحافظ ابن حجر والنووي وغيرهما من النقّاد. والأمثلة على ذلك كثيرة في هذه الرسائل، ويكفي مراجعة رسالته "سنة الجمعة القبلية"، و"هل يُدرِك المأموم الركعة بإدراكه الركوع مع الإمام"، و"القبلة وقضاء الحاجة"، وبحث في حديث قيس بن عمرو في صلاة ركعتي الفجر بعد الفرض، ومسألة إعادة الصلاة، وبحث في حديث معاذ بن جبل في صلاته بقومه، وبحث في وقت تشريع ونزول آية صلاة الخوف، وغيرها، فقد أطال الشيخ فيها الكلام على نقد الأحاديث الواردة في الباب، وناقش بعض العلماء في القديم والحديث من الذين تكلموا عليها وعلى فقهها، ووفَّق بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض. وقلَّما تخلو رسالة من هذه الرسائل الفقهية من فائدة حديثية، أو تنبيه على إشكال وحلّه، أو تعقيب على وهم، أو كلام على الرجال والعلل، يكون من بنات فكره ودقائق استنباطه. وإلى جانب تمكُّنه من علوم الحديث والرجال كان واسعَ الاطلاع على كتب التراث في فنون مختلفة، وقد استفاد منها وأحال إليها كثيرًا في هذه الرسائل، ولو قرأنا مثلًا رسالته "مقام إبراهيم" و"توسعة المسعى" و"سير

(مقدمة 16/10)


النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج" و"مسألة منع بيع الأحرار" نعرف سعة اطلاعه على كتب التاريخ والتفسير واللغة والفقه وغيرها، وقد مكَّنه الاشتغال بتحقيق الكتب والعمل في المكتبة من الاطلاع على أغلب ما وصل إلينا من كتب التراث، يأخذ منها ما يشاء ويدع ما يشاء مع التنبيه على ما فيها من أوهام وأخطاء. ويميل الشيخ كثيرًا إلى أسلوب الحوار والمناقشة، لتوضيح بعض المسائل والردّ على بعض الشبه والإشكالات، وقد ألَّف بعض رسائله بصورة أسئلة وأجوبة، ومنها في هذه المجموعة أسئلة وأجوبة في المعاملات، بسّط فيها مسائل البيوع وسهَّلها، وهي من أكثر الأبواب الفقهية تعقيدًا وصعوبةً. وكان للشيخ خبرةٌ في القضاء عدة سنوات، فاستطاع بذلك أن ينقد بعض الأحكام التي صدرت من أحد القضاة، ويبيِّن ما فيها من خللٍ من الناحية القضائية، ومخالفةٍ لحكم الشريعة، كما في الرسالتين (24، 33) ضمن هذه المجموعة. وكذلك في مسألة منع بيع الأحرار انتقد صنيع القضاة في الحكم بالرق على شخص دون النظر في ذلك من جميع الجوانب، وردَّ على أولئك الذين توهَّموا من بعض النصوص في كتب الفقه تأييدًا لمطلبهم، وعكَف على هذه الكتب واستخرج منها نصوصًا كثيرة من أبواب مختلفة تُؤيّد ما ذهب إليه، وبيَّن بعض أحكام الرقّ في الشريعة بتفصيل. وقد ظهر لي في أثناء تحقيق هذه الرسائل أن الشيخ لا يُصرِّح غالبًا باسم الشخص المردود عليه من المعاصرين، فينقل كلامه ويناقشه دون أن يجرح شخصه أو يفضحه، وإذا ذكر اسمه ذكره بكل ثناء وتبجيل دون تشهير وتجهيل، وهذه عادة مطّردة للشيخ في سائر مؤلفاته مع جميع المعاصرين له

(مقدمة 16/11)


حتى مع أشدّ المخالفين لأهل الحديث، كما هو معروف. ويبدو جليًّا من قراءة هذه المجموعة وغيرها من مؤلفاته أن الشيخ كان يستحضر نصوص كتاب "الأم" للشافعي، وتحقيقات الحافظ ابن حجر في "الفتح"، وتراجم الرجال في "الميزان" و"اللسان" و"التهذيب"، وآثار الصحابة والتابعين في "تفسير" الطبري، فهو كثير الاعتماد عليها والإحالة إليها في بحوثه، ويعقّب عليها أحيانًا ويستدرك. كما أنه كثير التتبع لـ "مسند" الإمام أحمد و"السنن الكبرى" للبيهقي لمعرفة طرق الحديث وألفاظه، أما الصحيحان والسنن الأربع فقد كانت منه على طرف الثمام، يعتمد عليها بالدرجة الأولى، ويستنبط منها ما يفيد في المسألة المبحوث عنها. هذه بعض الملامح العامة لهذه الرسائل الفقهية، وهناك استطرادات وفوائد كثيرة منثورة في أثنائها، فلا يغتر القارئ بعناوين الرسائل التي لا تُبيِّن له كلَّ ما بداخلها، وعليه أن يقرأها بعناية، ويجني ثمارها بنفسه، ويستفيد من أسلوب الشيخ وطريقته، ويستمتع بمناقشته واستنباطه، ويطّلع على آرائه ونظراته، ويقتبس من دراساته وتحقيقاته.

(مقدمة 16/12)


 التعريف بهذه الرسائل وأصولها

توجد هذه الرسائل مثل سائر مؤلفات الشيخ في مكتبة الحرم المكي، التي كان أمينًا لها من سنة 1372 إلى وفاته سنة 1386، وهي في دفاتر وكراسات وأوراق من أحجام مختلفة، وقد سُجِّلت كلها في السجلّ العام للمكتبة، ووُضِعت عليها أرقام. وأخطأ المفهرسون أحيانًا فرتّبوا الأوراق ورقّموها دون رعاية الترتيب الصحيح لها. وقد عانيتُ كثيرًا في بعض الرسائل المضطربة وإعادة ترتيبها، حتى استقام السياق. وأصابَ بعضَ هذه الرسائل البللُ أو الاهتراء من أطرافها أو القطع من المجلد أو الخرق، فأثَّر كلُّ ذلك على الكلام الموجود في تلك الأوراق، وبعضها مخرومٌ من أولها أو من آخرها، ولم أجد بقية الكلام في الدفاتر والأوراق. وأحيانًا كتب الشيخ تتمةً أو ملخصًا في أوراق مستقلة ضاع بعضها وبقي البعض. وفيما يلي تعريف بهذه الرسائل ومخطوطاتها، وذِكرٌ لمناسبة تأليفها إن وُجدتْ، واستعراضٌ لأهم موضوعاتها ومباحثها، يكون مدخلًا للقراء إليها إن شاء الله، وقد رتبتها بحسب مكانها من الكتب الفقهية.

  1 - القِبْلة وقضاء الحاجة:

توجد نسختها الخطية في مكتبة الحرم المكي برقم [4692] في قطعتين، أولاهما في 13 صفحة، والثانية في عشر صفحات، وبعدها صفحات مشطوب عليها، وكلتاهما بخط المؤلف في قطع طويل مقاسه 32× 21 سم. وفيهما تخريجات وزيادات في مواضع.

(مقدمة 16/13)


أما القطعة الأولى فقد بدأها الشيخ بذكر أحاديث النهي عن استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، وهي سبعة أحاديث تكلم على أسانيدها ومتونها واختلاف ألفاظها. ثم بيَّن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتى أحدكم الغائط" وهل يفيد إخراج الأبنية؟ فذكر أن المراد هنا المعنى الكنائي، أي إرادة قضاء الحاجة بغضّ النظر عن الحقيقة، فيشمل الأبنية وغيرها، وأيَّد ذلك بأمور، وتوصّل إلى أنه لا حجة فيه لمن خصَّص الحكم المذكور بغير الأبنية. ثم ذكر الأحاديث التي تدلُّ على الرخصة، وتكلم عليها وعلى معانيها، فذكر أن من الناس من أخذ بها وقال بنسخ النهي، وفرَّق بعضهم بين البناء والفضاء، فحملوا النهي على الفضاء، والفعل على البناء. ومن أهل العلم من بقي على عموم النهي، ورجَّح المؤلف هذا الرأي بقوله: "وهو الحق إن شاء الله تعالى". وأيَّد ذلك بأمور، ثم أورد ثلاثة اعتراضات وإيرادات على هذا الرأي، وردَّ عليها، وأطال الكلام على حديث ابن عمر: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على لبنتين مستقبلًا بيت المقدس لحاجته" أو "مستقبل الشام مستدبر القبلة"، وناقش أقوال العلماء في تأويله وكونه ناسخًا للنهي، وتكلم على تعليل النهي. ثم عقد "الباب الثاني في الرخصة"، وكأن ما سبق كان هو الباب الأول، ذكر فيه بقية الأحاديث الدالة على الرخصة في استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، وأطال الكلام في نقدها وتحقيقها، ودراسة رجال أسانيدها، وبه تنتهي القطعة الأولى. أما القطعة الثانية فعنون لها بـ "حكم القبلة وقضاء الحاجة"، وأورد

(مقدمة 16/14)


حديث أبي أيوب الأنصاري وبعض الأبحاث المتعلقة به، وتكلم على فقه الحديث وبسط الكلام فيه. ثم ذكر حديث عائشة قالت: ذُكِر لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أن ناسًا يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم، فقال: "أوَ قد فعلوها؟ حَوِّلوا مقعدي قِبَلَ القبلة". وأطال الكلام في تخريجه وبيان الاختلاف فيه على خالد الحذاء، وأورد كلام النقاد في تضعيف الحديث، وكيف أن بعض المتأخرين حسَّنه بل صححه. ثم تكلم عن سماع عراك من عائشة وردّ على من أثبت السماع، وأطال الكلام حوله. وهو المبحث الأول من المباحث التي كان الشيخ يريد أن يكتبها، ولم أجد المباحث الأخرى المتعلقة بالحديث في هذه القطعة. وفي أثنائها الكلام على اشتراط اللقاء أو الاكتفاء بالمعاصرة بين الرواة لصحة الحديث، تناوله المؤلف بطريقة جديدة.

  2 - فائدة في السِّواك:

توجد ضمن مجموع في مكتبة الحرم المكي برقم [4707]، ذكر فيها أولًا الأحاديث الواردة في فضل السّواك، وتكلم على أسانيد بعضها، ثم انتقل إلى بيان أهمية السِّواك، وأنه مطهرة للفم وطريق القرآن، وكما أن مسَّ المصحف مع الحدث حرام، وتلطيخه بالنجس المستقذر إن قارنه استهزاءٌ فكفرٌ وإلَّا فحرام، وكذا تلطيخ الذكر أو اسم من أسماء الله أو اسم من أسماء أنبيائه أو ملائكته ونحوه يحرم في الأماكن النجسة ويُكره في الأماكن المستكرهة، فكان القياس أن يحرم القراءة والذكر ونحوها عند تغيُّر الفم؛ لأن التلفظ بالقرآن بمنزلة كتابته، بل هو أبلغ. وأما مجرد الريق وما عسُر إزالتُه من التغيُّر فيُعفى عنه للضرورة.

(مقدمة 16/15)


 3 - مسألة بطلان الصلاة بتغيير الآيات في القراءة:

لم يذكر لها الشيخ عنوانًا، وهي برقم [4708] في مكتبة الحرم المكي، وقد ألَّفها سنة 1339 م، ومناسبة تأليفها أن الإمام في صلاة الجمعة قرأ سورة الغاشية، فأبدل لفظ الغاشية بالخاشعة، ففتح عليه المصلُّون فلم يتنبه، فلما سلَّم قال السيد صالح بن محسن الصيلمي: أعيدوا الصلاة، فنازعه السيد العربي محمد بن حيدر النعمي بأنه لا يلزم في مذهبهما (أي المذهب الزيدي) إعادة في مثل ذلك، ثم قال له: الإمام حاكم وهو شافعي. فسُئل المؤلف عن هذه الصلاة في مذهب الشافعية، فقال: صحيحة، فطلب منه الصيلمي دليل الشافعية على عدم بطلان الصلاة، فأجاب وقرّر المسألة ناقلًا فيها الآيات والأحاديث، ومحرِّرًا مذهب الشافعية في ذلك. وقد استدل على استصحاب الأصل فيه بحديث علي بن أبي طالب الذي رواه أبو داود أن رجلًا دعاه وعبد الرحمن بن عوف فسقاهما الخمر قبل أن تُحرَّم، فأمَّهم علي في المغرب، فقرأ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فخلَّط فيها. وليس فيه أنهم أُمِروا بالإعادة. وردَّ على قول الصيلمي: "إن سبب البطلان هو الإتيان بكلمة ليست من القرآن"، فلفظ "الخاشعة" قد جاءت في القرآن مع أن إتيانه بها خطأ، والكلام الأجنبي لا يبطل صلاة المعذور فيه، سواء كان جاهلًا أو ناسيًا أو مخطئًا، كما يدل عليه حديث معاوية بن الحكم السلمي وحديث ذي اليدين وغيرهما. وتكلم في أثنائه على تحريم الكلام في الصلاة ومتى كان ذلك، واختلاف العلماء في المدة التي لا يجوز للمسافر أن يقصر فيها إذا مكث

(مقدمة 16/16)


بمنزلٍ، ومسألة القراءة خلف الإمام، وأطال الكلام في هذه المسألة، وتكلم على حديث عبادة بن الصامت وأبي هريرة، وتوصَّل إلى أن الفاتحة لابدّ منها للإمام والمأموم في كل ركعة لحديث المسيء صلاته. وأما قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] فقيل: نزلت في القراءة خلف الإمام، وقيل: في الكلام والإمام يخطب، وقيل: في الكلام في الصلاة، ورجَّح الثاني، وقال: وهو الذي يميل إليه المفسرون، وهو موافق لحديث: "من قال لصاحبه يوم الجمعة والإمام يخطب: "صَهْ" فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له". وعليه فالظاهر وجوب الإنصات إلا إذا كان الكلام لمصلحة الخطبة، كما ورد في بعض الأحاديث. وختم الرسالة بحكم النفخ والتنحنح ونحوه هل يُعدُّ كلامًا يُبطل الصلاة؟ فقال: الأصح عند أصحاب الشافعي: نعم، والصحيح هو الصحيح، والله أعلم. ومراده بالصحيح أي في المذهب الشافعي، وهو يقابل الأصح.

  4 - هل يدرك المأموم الركعة بإدراكه الركوع مع الإمام؟

لم تصل إلينا نسختها بخط المؤلف؛ لأنه كان قد أهداها إلى تلميذه الشيخ محمد أحمد المعلمي في مكتبة الحرم المكي الشريف، عندما أراد العودة إلى وطنه اليمن سنة 1373 بعد ملازمته لمدة سنتين، وحصل عليها منه الشيخ عبد الرحمن بن عبد القادر المعلمي (ابن أخت المؤلف) سنة 1395، فبادر بنسخها في دفتر خاص، وأعطى النسخة الأصلية لأحد الأقارب ليقوم بعضهم بنشرها في صنعاء، ولكنها لم تُنشر هناك، بل فُقدت تلك النسخة ولم يُعرَف مصيرها.

(مقدمة 16/17)


ثم قام بتحقيقها الشيخ عبد الرحمن بن عبد القادر المعلمي بالاعتماد على منسوخته التي كانت طبق الأصل كما شهد بذلك تلميذ المؤلف الشيخ محمد أحمد المعلمي، ونشرتها مكتبة الإرشاد بصنعاء سنة 1414. وعلى هذه الطبعة اعتمدتُ في تحقيقها وإخراجها من جديد حسبَ المتبع في تحقيق هذه السلسلة المباركة، وقد أذن المحقق جزاه الله خيرًا بالإفادة من طبعته والاعتماد عليها. وقد أصلحتُ بعض الأخطاء والتصحيفات بالرجوع إلى المصادر، ونقلتُ بعض حواشي المؤلف إلى مكانها الصحيح. ومناسبة تأليفها أن الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة أطلعَ المؤلفَ على رسالته في اختيار إدراك المأموم الركعةَ بإدراكه الركوعَ مع الإمام، وأشار عليه أن يكتب ما يظهر له في هذه المسألة، فكتب هذه الرسالة وناقش فيها الشيخَ محمد عبد الرزاق حمزة فيما ذهب إليه، فأجمل أولًا ذكر الأدلة الخمسة التي احتجَّ بها الشيخ، ثم تكلم عليها واحدًا واحدًا، ونظر في جميع الأحاديث على طريقة المحدثين، وبحث عن معانيها وفقهها. وقد أطال الكلام على حديث أبي بكرة، وعلى معنى "الركعة" في حديث: "من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها" هل هي بمعنى الركوع لغةً وشرعًا كما ادعى الشيخ، وأورد من الأحاديث والنصوص ما يدل على خلاف ذلك. وتكلم على ضعف زيادة "قبل أن يقيم الإمام صلبه" في هذا الحديث. وفي أثنائها أبحاث وتحقيقات في علوم الحديث والرجال، نثرها المؤلف بمناسبة الكلام على الأحاديث. وختم الرسالة بقوله: "لا يُنكَر أن للقول بالإدراك قوةً مَّا لذهاب الجمهور ــ ومنهم جماعة من علماء الصحابة ــ إليه، وما جاء مما يدلُّ عليه

(مقدمة 16/18)


على ما فيه، فلا لومَ على مَن قوي عنده جدًّا فقال به. فأما أنا فلا أرى له تلك القوة، والأصل بقاء النصوص على عمومها، واشتغال الذمة بالصلاة كاملةً، والله الموفق". ولا أدري هل طبعت رسالة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة أم لا، وينبغي أن تُطبع وتُقرأ مع رسالة العلامة المعلمي هذه للاطلاع على أدلة الفريقين ومناقشتها مناقشة علمية هادئة. وقد ألَّف العلماء كثيرًا في هذه المسألة وخاصة في بلاد الهند، ولم أر مَن حرَّر القول فيها وتناولها بالأسلوب الذي تميَّز به المؤلف.

  5 - بحث في حديث قيس بن عمرو في صلاة ركعتي الفجر بعد الفرض:

توجد نسخته الخطية ضمن مجموع في مكتبة الحرم المكي برقم [4693] في ورقتين (ق 8 - 9)، تكلم فيه الشيخ على حديث قيس بن عمرو قال: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلًا يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين، فقال: "أصلاةَ الصبح مرتين؟ " فقال الرجل: إني لم أكن صلَّيتُ الركعتين اللتين قبلهما فصلَّيتهما الآن، قال: فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ذكر الشيخ طُرق الحديث وألفاظه من كتب الحديث أولًا، ولاحظ اختلاف الألفاظ في موضعين: الأول في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أصلاة الصبح مرتين" فقد روي بألفاظ مختلفة. والثاني أن في عامة الروايات: "فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - "، وفي رواية الدراوردي وحدها: "فقال: فلا إذًا". وتكلم على الموضعين، وبيَّن المعاني المحتملة لهما، ورجَّح من حيث الإسناد والمعنى ما هو الراجح في نظره. وردَّ على بعض الحنفية (وهو الشيخ أنورشاه الكشميري)

(مقدمة 16/19)


تأويله لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فلا إذًا" بمعنى: "فلا جوازَ إذًا"، وبيَّن أنه ليس فيما استشهد به ما تقوم به الحجة. وكان مقصود المؤلف هنا الكلام على هذا الحديث، لا على أصل المسألة، فإن للكلام فيها موضعًا آخر. ونبَّه في آخره على حديث المغيرة في إدراك النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس وهم يصلون الصبح خلفَ عبد الرحمن بن عوف وقد صلَّوا ركعة، قال المغيرة: "قام النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلَّى الركعةَ التي سُبق بها، ولم يَزِد على ذلك"، وردَّ على الكشميري تأويله لقوله: "ولم يزد على ذلك" على أنه لم يتدارك ركعتي الفجر.

  6 - إعادة الصلاة:

هكذا عنون المؤلف هذه الرسالة، وهي ضمن المجموع السابق برقم [4693] (الورقة 10 - 26). وقد بدأها بذكر حديث ابن عمر مرفوعًا: "لا تصلُّوا صلاةً في يومٍ مرتين" بطرقه وألفاظه في كتب الحديث، وتكلم على معنى إعادة الصلاة، هل هو صلاتها مرتين أو أكثر، ثم أورد بعض الآثار عن ابن عمر في مشروعية الإعادة مع الجماعة، وذكر الأحاديث المرفوعة الدالة على مشروعية الإعادة، وهي عشرة أحاديث خرَّجها وتكلم على أسانيدها. وبعد الانتهاء منها عنون بقوله: "الفقه"، تكلم فيه على فقه هذه الأحاديث، وأن الأصل عدم مشروعية الإعادة، وأن دلالة الأحاديث المذكورة على مشروعية الإعادة في أربع صور، فما عداها باقٍ على الأصل. وهذه الصور هي: 1 - من صلَّى في بيته أو نحوه، ثم أدرك الجماعة في المسجد. 2 - إذا رأى إنسانًا يريد الصلاة وحدَه، فيتصدَّق عليه.

(مقدمة 16/20)


3 - أن يكون الرجل إمامًا راتبًا، فيصلِّي في غير مسجده، ثم يرجع إلى مسجده فيصلِّي بهم. 4 - في صلاة الخوف. ثم شرح معنى حديث ابن عمر بألفاظه المختلفة: "لا تصلُّوا صلاةً في يومٍ مرتين" أو: "لا تُعاد الصلاة في يومٍ مرتين" أو: "لا صلاةَ مكتوبة في يومٍ مرتين"، وتوصَّل إلى أنه عام، وأحاديث الباب خاصَّة، فيُعمل بها فيما دلَّت عليه، وما بقي فللعام. وذكر المؤلف اختلاف الناس في إعادة صلاة الفجر والعصر والمغرب، فقد منع بعضهم من إعادة الصبح والعصر للنهي عن الصلاة بعدهما، ومن إعادة المغرب قياسًا على الوتر، ورجَّح المؤلف إعادتها كلها، وناقش أدلة القائلين بكراهتها. ثم عقد فصلًا بقوله: "هل يُعيد إمامًا؟ "، فذكر أدلة المجيزين، وهي ثلاثة أحاديث: 1 ــ حديث جابر في قصة معاذ، وتكلم على طرقه، ومن رواه عن جابر (مثل عمرو بن دينار، وعبيد الله بن مقسم، وأبي الزبير، وأبي صالح، ومحارب بن دثار، وعبد الرحمن بن جابر) وما وقع في رواياتهم من الاختلاف، وأطال الكلام عليها، وعلى أن معاذًا كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المغرب أو العشاء. 2 ــ حديث جابر في صلاة الخوف، ذكره من طرق وخرَّجه من كتبٍ مختلفة، وتكلم على رجال الأسانيد، ثم قال: إن حديث جابر قد يُحمل على

(مقدمة 16/21)


ثلاثة أوجه: الأول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتمَّ تلك الصلاة، وأتموها لأنفسهم. والثاني: أن يكون أتمَّ وقصَروا. والثالث: أن يكون قَصَر وقصروا، ولكنه أعاد صلاته، فصلَّى بهؤلاء صلاةً كاملة، وبهؤلاء صلاةً كاملة. ورجَّح المؤلف الوجه الثالث، وأبطل الوجهين الأولين، وأيَّد موقفه ببعض الروايات التي تصرِّح بذلك. وفي أثناء الكلام على ذلك تحدَّث عن مشروعية صلاة الخوف متى كانت، وذكر اختلاف الروايات في هذا الأمر، وحقَّق الكلام حوله بعد ما سرد هذه الروايات. 3 ــ حديث أبي بكرة في صلاة الخوف، خرَّجه من المصادر وذكر طرقه وألفاظه وتكلم عليها. وبعد ذكر أدلة المجيزين وضع عنوان "أجوبة المانعين" منها: أنه يحتمل في هذه الوقائع أن تكون الإعادة لما كانت الفريضة تُصلَّى مرتين، ثم نُسِخ ذلك. ومنها في خصوص قصة معاذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم بذلك. وردّهما المؤلف، واستحسن ما قاله الشيخ شبير أحمد العثماني الحنفي في "شرحه لصحيح مسلم" بشأن حديث معاذ بحيث تتفق الروايات المختلفة في الظاهر. وشرح معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: "إما أن تُصلّي معي، وإما أن تخفِّف على قومك". وذكر من أجوبتهم الخاصة بقصة معاذ: احتمال أن يكون معاذ كان يُصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنها نافلة له، ثم يُصلِّي بقومه على أنها فريضته، ثم ردَّه. كما ذكر دعواهم النسخ بما لا طائل تحته. ثم عقد فصلًا ردّ فيه على بعض الحنفية في تأويله لحديث معاذ وحديث صلاة الخوف، واستبعد ذلك التأويل جدًّا.

(مقدمة 16/22)


ثم عقد فصلًا ذكر فيه أن أجود ما رأى للمانعين قول الشيخ شبير أحمد العثماني في "شرحه لصحيح مسلم" في الاحتجاج لما ذهبوا إليه، فقد احتجوا بحديث: "الإمام ضامن" وحديث: "إنما جُعِل الإمام ليُؤتمَّ به"، وقوله: "فلا تختلفوا عليه". وناقشهم المؤلف في دلالة هذه الأحاديث على المنع. وفي الفصل الأخير من الرسالة تكلم على مسألة اقتداء المفترض خلف المتنفل، واحتج لصحتها، وردَّ على شبه المانعين. وبه ختم الرسالة. هذا استعراض سريع لموضوعاتها ومباحثها، وهي من أهم الرسائل التي أُلِّفت في الباب، وقد أكثر من التأليف فيه علماء الهند من أهل الحديث والحنفية باللغة الأردية، ولم أجد من استوفى الكلام عليه مثل المؤلف، فرحمه الله رحمةً واسعة.

  7 - بحث في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه في صلاته بقومه:

توجد مخطوطته ضمن مجموع في مكتبة الحرم المكي برقم [4665] (الورقة 6/أ- 8/ب)، وهي متآكلة من بعض الجوانب، والخط دقيق لا بأس به، وفي بعض المواضع كُتِب بقلم الرصاص. ويبدو أن أوله ناقص، فقد بدأ بقوله: "أقول: معنى هذا بنحو لفظه في رواية ابن عيينة في صحيح مسلم وغيره، وقد تقدم". يشير بذلك إلى حديث جابر بن عبد الله في قصة معاذ بن جبل، وقد أخرجه مسلم (465) وغيره، والكلام التالي كله مبني عليه. فقد تكلم على معنى الحديث، وأن شكوى الناس كان من تأخير معاذ وتطويله في القراءة، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتعجيل في الإتيان إلى الصلاة والاختصار في القراءة. وعليه يُحمل قوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية

(مقدمة 16/23)


أخرى: "إما أن تصلّي معي وإما أن تخفِّف على قومك". وتكلم بعد ذلك على إعادة الصلاة وذكر أن دلائلها قد تقدمت، ومنها ما كان في آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنها ما أمر أصحابه أن يعملوا به من بعده. أما حديث ابن عمر في النهي عن الإعادة فتاريخه مجهول، وغايته أن يكون عامًّا يُخصُّ منه ما قام الدليل على خصوصه، ومنه قصة معاذ وما في معناها. وردَّ على الطحاوي وبعض الحنفية من الهند في تأويلهم لقول معاذ: "إما أن تصلّي معي وإما أن تخفّف على قومك". وناقش ما قاله الشيخ شبير أحمد العثماني الحنفي في شرحه لصحيح مسلم بهذا الصدد، وردّ على من قال من الحنفية بالهند من أن أصل القصة أن معاذًا كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المغرب، ثم يرجع إلى قومه فيصلِّي بهم العشاء، وادعى حذفَ "المغرب" من الرواية، وأن بعض الرواة وهموا في ذلك، ليستقيم له ما أراد من عدم تكرار الصلاة كما هو مذهب الحنفية. وقد أطال الكلام على هذا، وشدَّد النكير عليه وقال: إن ما ذهب إليه من توهيم الرواة يلزم منه وهمهم جميعًا، فإن الروايات على كثرتها ليس فيها رواية واحدة تحتمل ما قاله احتمالًا قريبًا. وإذا كان العالم لا يخشى على دينه من ارتكاب مثل هذه التأويلات، فينبغي له على الأقل أن يستحضر أن ارتكابه لها يُجرِّئ مخالفيه على ارتكاب مثلها في معارضته. ثم عقد المؤلف فصلًا ذكر فيه تأويلات بعض الحنفية لحديث معاذ، منها أن ما فعله كان بغير علم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنها أنه كان في الوقت الذي كانت الفريضة فيه تُصلَّى مرتين ثم نُسِخ، وردَّ عليها جميعًا في ضوء الأحاديث وأقوال المحققين من العلماء. وبه ينتهي الموجود من المخطوط، ويبدو أن

(مقدمة 16/24)


له تتمة لم نجدها ضمن المجموع، فقد أشار في أثناء الكلام على بعض الموضوعات إلى أنها ستأتي فيما بعد. ولعل ما سبق من كلامه في رسالته "إعادة الصلاة" يقوم مقام المفقود.

  8 - حقيقة "الوتر" ومسماه في الشرع:

وصلت إلينا هذه الرسالة بخط المؤلف في مكتبة الحرم المكي برقم [4245]، وهي أوراق متفرقة عددها 25 ورقة، وقد رُقّمت ترقيمًا مسلسلًا دون ترتيبها بعناية. وسبب تأليفها أن بعض الإخوان سأل الشيخ في رمضان سنة 1342 عن بعض أحكام الوتر المختلف فيها، طالبًا بيانَ الراجح من الأقوال مع ذكر الدليل. ولما بدأ الشيخ بتصفح الأدلة وجد أحكام الوتر مترابطةً آخذًا بعضها برقابِ بعض، فعزَم على تأليف كتاب يشتمل على عامة أحكام الوتر. وقد ذكر الشيخ في ورقة منها العناوين الرئيسة، وهي: (وجوب، عدد، نية، قراءة مخصوصة، سبْقُ شَفْع، أول وقته وآخره، في السفر على الدابة، قضاء، قنوت، محلّ قنوت، ما يقال فيه، فصل ووصل، الركعتان بعده، فعله من قعود، أفضليته). ولكن الأوراق الموجودة لا تحتوي إلّا على أبحاثٍ معدودة منها. ويبدو لي أن الشيخ كتب هذه الأوراق في أوقاتٍ مختلفة، بدليل اختلاف الخط والورق، وتكرار بعض الصفحات في تناول موضوع واحد بأسلوبٍ واحد مع قليل من الخلاف، ومن أظهر الأدلة على أن الشيخ كتبها في أوقات مختلفة أنه يبدأ الكتاب بقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذي لا تنحصر مواهبه .... مقدمة في حقيقة الوتر ... ". وفي ورقة أخرى

(مقدمة 16/25)


يقول: "الحمد لله. مبحث في الوتر. (مقدمة) بعد استقراء الأحاديث والآثار تلخص لنا ... ". وفي ورقة مستقلة يكتب: "الحمد لله. مبحث في الوتر. أجاز الشافعية الاقتصار على واحدة ... ". وفي ورقة رابعة يبدأ بقوله: "الحمد لله. بحث في حقيقة الوتر ومسماه في الشرع ... " ثم يورد الأحاديث الواردة في الباب. فهو كلّ مرة يبدأ الكتابة من جديد، ويكرِّر بعض الموضوعات التي تحدَّث عنها سابقًا. وكان غرضه ــ كما ذكر في مقدمة الكتاب ــ أن يبيِّن حقيقة الوتر أولًا، أي المعنى الذي يكون إطلاق لفظ الوتر عليه حقيقة شرعية، ثم يشرع في بيان الوجوه المختلف فيها، مُفرِدًا كلَّ وجهٍ بمقالة. وقد عنون "المقالة الأولى في حقيقة الوتر"، كما ذكر بعد الخطبة: "مقدمة في حقيقة الوتر". ولم نجد بعدها عناوين المقالات الأخرى، ولكنه عنون بقوله: "مبحث في الوتر"، و"بحث في حقيقة الوتر ومسماه في الشرع"، و"الفصل الثاني في الاقتصار على ثلاث". وهي فصول متفرقة ضاعت بعض أوراقها، وما بقي منها يحتوي على مباحث في الوتر فصَّل الكلام عليها، وتوسَّع في مناقشة آراء بعض العلماء فيها. وقد قمتُ أولًا بنسخ كل ورقة على حدة، ثم تأملتُ في سياق الكلام، ورتَّبتُ الأوراق حسب ما يقتضيه الموضوع والسياق، ووجدتُ أحيانًا تكرارًا في الكلام في بعض الصفحات فحذفته، واتبعتُ إشاراتِ المؤلف في الإلحاقات والتكملة وفي ترتيبِ أول الكتاب، فقد كتب في أعلى صفحة الخطبة إلى اليسار: (الخطبة، ثم المقدمة، ثم المقالة الأولى، ثم كلام

(مقدمة 16/26)


الشافعي، ثم تلخيصه، ثم كلام الباجي، ثم كلام ابن رشد، ثم تلخيصهما). وهو خلاف الترتيب الذي في النسخة، فكأن الشيخ أراد ترتيب الموضوعات فيما بعد حسب الترتيب المذكور، فجعلتُه كما أراد، وهو أولى بالسياق. أما الإلحاقات والزيادات فقد أشار إليها بالأرقام، وربما يكتبها في صفحات مستقلة، فقمتُ بإلحاقِ هذه الزيادات في أماكنها. وأرجو أن يستفاد منها مع النقص الحاصل في النسخة. ويمكن تلخيص محتويات الموجود من هذه الرسالة بما يلي: بدأه الشيخ بالخطبة وبيان سبب التأليف، ثم نقل عن الحافظ في "الفتح" الموضوعات التي وقع الخلاف فيها في الوتر. ثم كتب مقدمة في حقيقة الوتر، فذكر أن الوتر أُطلِق على ثلاثة معانٍ في السُّنَّة كما يظهر ذلك باستقراء الأحاديث والآثار: أولها: أن يُراد به صلاة الليل التي غايتها ثلاث عشرة، سواء صُلِّيتْ وصلًا أو فصلًا. والثاني: أن يُراد به الركعة الفردة، سواء وقعتْ موصولةً أو مفصولةً. والثالث: أن يُراد به ما كان وِترًا بتسليمة واحدة، سواء كان واحدةً أو ثلاثًا أو خمسًا. وقد مثّل لها بالأحاديث الواردة في الباب، وقال: إن المعنى الثالث هو الذي عليه أكثر الأحاديث.

(مقدمة 16/27)


بعد بيان حقيقة الوتر في السُّنَّة ذكر في المقالة الأولى رأي الإمام الشافعي في "الأم" في بيان حقيقة الوتر وأنها ركعة واحدة، وذكر مذهب الإمام مالك وأبي حنيفة نقلًا عن الباجي وابن رشد، وأورد الأحاديث الواردة في الاقتصار على ركعة واحدةٍ في الوتر، وذكر صنيع أصحاب السنن وخاصةً الإمام النسائي في بيان عدد الوتر، فإنه قصد بعقد أبواب الوتر أن الوتر ما صُلِّي وترًا بتسليمةٍ واحدة، سواء كان ركعةً أو ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو تسعًا، وهذا المعنى هو الذي عليه عامة الأحاديث والآثار. وإذا أُطلق الوتر على أكثر من ذلك فالمراد به صلاة الليل. ثم تكلم على معنى حديث: "صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل"، وأنه لا يفيد الحصر، فقد منعت منه قرائن، منها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ثبت عنه الوصل بثلاث وبخمس وبسبع وبتسع. وأورد بعض الأحاديث التي تُوهم أن الإحدى عشرة والثلاث عشرة كانت موصولة، ولكن عامة الأحاديث أنها لم تقع إلّا مفصولةً. ثم ذكر الأحاديث التي احتج بها الشافعية للاقتصار على ركعة واحدة في الوتر، وقال: في كلّ أدلتهم نظرٌ. ثم تكلم على هذه الأحاديث، وبيَّن معانيها، وناقشهم طويلًا، وقرَّر أن إطلاق الوتر على الركعة الواحدة خاصٌّ بما إذا كانت مفصولةً، ويُشترط الشفع قبل الواحدة، ولا يكفي في ذلك سنة العشاء. ثم عقد "الفصل الثاني في الاقتصار على الثلاث"، وذكر مذهب الشافعية والحنفية في ذلك، وأورد أحاديث الإيتار بثلاثٍ وحديث النهي عن الثلاث: "لا توتِروا بثلاثٍ تشبِّهوا بصلاة المغرب"، وبيَّن المقصود منهما بعد

(مقدمة 16/28)


ما نقل عن الحافظ في "الفتح"، وعقَّب عليه بأنه ليس المراد من إطلاق "أوتر بواحدة" و"أوتر بثلاثٍ" الاقتصار عليها بدون سبق غيرها، كما يدلُّ عليه صنيع الإمام النسائي في سننه. ثم حقَّق الكلام على حديث: "لا توتروا بثلاث" وبيَّن صحته، ثم ذكر أن النهي عن التشبيه بصلاة المغرب هل هو فيما يتعلَّق بالكمّ وحده أو بالكيف وحده أو بهما معًا؟ ورجَّح أن الحديث باللفظين (اللذين أوردهما) نصٌّ أو ظاهرٌ في إرادة الكم، فلو اقتصر في ليلةٍ على ثلاث ركعات عدا سنة العشاء والفجر فقد شبَّه، سواءٌ وصلها بتشهدٍ واحد أو تشهدين، أو فَصَلَها بزمن قصير أو طويل. وفي النهاية لخَّص كلامه في الفصلين، فقال: لابُدَّ أن يتقدم الواحدةَ شَفْعٌ غير سنة العشاء، كما يدلُّ عليه سياق حديث: "صلاة الليل مثنى مثنى". وهذا الشَّفع الذي يتقدم الواحدةَ لابدَّ أن يكون أربعًا فأكثر، نظرًا لحديث: "لا تُوتِروا بثلاثٍ، أو تِروا بخمسٍ ... ". فتقرر أنه لابدَّ أن يُصلّي الإنسان بعد سنة العشاء وقبل سنة الصبح خمسًا على الأقل. وبهذا ينتهي هذا البحث المتعلق بالاقتصار على الواحدة أو الثلاث في الوتر. ووجدنا في المخطوط ثلاثة أوراق تتعلق بالموضوع، فألحقناها في آخر الرسالة، ولم نجد تتمة الكلام الموجود فيها.

  9 - مبحث في الكلام على فرضية الجمعة وسبب تسميتها:

توجد ثمان صفحات بخط الشيخ في مكتبة الحرم المكي برقم [4691]، وهي أوراق مفرقة كتبها الشيخ في أوقات مختلفة، تتناول الكلام على فرضية الجمعة، وتاريخ نزول سورة الجمعة، وبيان المراد بقوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ}، وسبب تسمية الجمعة، ودراسة ما ورد في هذا الباب من

(مقدمة 16/29)


الروايات والأقوال. وبعد إمعان النظر فيها ظهر لي أن الشيخ نفسه أشار إلى بحث مستقل له في هذا الموضوع، حيث قال (ص 5 من المخطوط): "أقول: قد بسطتُ الكلام على الحديثين وعلى تاريخ نزول سورة الجمعة في مبحث مستقل، أفردتُه لبيان المراد بقوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ}، وبينتُ فيه أن الذي يظهر أن معظم سورة الجمعة نزل قبل إسلام أبي هريرة بمدةٍ قد لا تبلغ سنةً فيما يظهر، والله أعلم". والمبحث المشار إليه هو ما في الصفحات الأربع الأولى من هذا المخطوط، إلّا أنه ناقص الأول مع الأسف. أما الصفحتان (5 - 6) ففي بدايتهما الكلام الذي نقلتُه الآن، فيبدو أن الشيخ كتب مرةً ثانية في موضوع تسمية الجمعة، ويختلف الخط والورق هنا عن الصفحات السابقة. ثم كتب مرة ثالثة في ورقة ذات وجهين (ص 7 - 8) في هذا الموضوع، والصفحة (8) منهما مشطوب عليها. وبعد دراسة هذه الأوراق المتفرقة وترتيبها كما سبق جمعتُها تحت عنوان واحدٍ، وإن كان فيها شيء من التكرار بسبب كتابة المؤلف لها في أوقاتٍ مختلفة، فلا تخلو من فائدة جديدة ونظرات في الموضوع من جوانب متعددة. ومن أهم المباحث التي حوتها هذه الأوراق بيان المراد من قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3]، وأنهم العرب كما يظهر من سياق الآية، ولكن يعارضه ما رواه الترمذي (1) عن أبي هريرة قال: كنا عند رسول _________ (1) رقم (3310).

(مقدمة 16/30)


الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزلت سورة الجمعة، فتلاها، فلما بلغ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قال له رجل: يا رسول الله! مَن هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فلم يكلِّمه، قال: وسلمان الفارسي فينا، قال: فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سلمان يده فقال: "والذي نفسي بيده، لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجالٌ من هؤلاء". فما معنى الحديث؟ ذكر المؤلف أنه ليس فيه التصريح بأن فارسًا هي المراد بقوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ}، بل أعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - عن السائل ليردَّه الإعراض إلى التدبُّر، ثم نبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنه كان الأولى بالسائل أن يسأل عن أمر آخر، وهو: هل التعليم والتزكية يختص بالأميين أو لا يختص؟ فأجاب عن هذا بقوله: "لو كان الإيمان بالثريا ... "، أي أنه لا يختص. وهذا هو الذي يسمّيه البلاغيون "الأسلوب الحكيم". قال المؤلف: "هذا بحمد الله ظاهر جدًّا، وإن لم أرَ من نبَّه عليه". وهذا تحقيق نفيس يُشَدُّ إليه الرحال، يُدفع به التعارض بين سياق الآية وظاهر ما يُفهم من الحديث، ولم يسبقه أحدٌ فيما أعلم. وفي الرسالة أبحاث وتحقيقات أخرى متناثرة في اللغة والتاريخ والرجال، وفيها أيضًا الكلام على الإسناد المشهور في كتب التفسير: (أسباط عن السدّي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - .... )، ما المراد بذلك؟ وكيف صار هذا الإسناد في أول تفسير كثير من الآيات بهذا الشكل؟ قال المؤلف بعدما ذكر أقوال بعض العلماء: والذي يقع لي: أن هذه كانت نسخة عند السدّي لم يكن فيها إسناد، فأخذها أسباط، وسأله عن إسنادها، فقال: "عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن

(مقدمة 16/31)


ابن مسعود، وعن ناسٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ". يريد السدّي أن في النسخة ما سمعه من أبي مالك من قوله، وفيها ما سمعه من أبي صالح عن ابن عباس، وفيها ما سمعه من مرة عن ابن مسعود، وفيها ما بلغَ السديَّ عن بعض الصحابة. والذي يدل على هذا اتفاق لفظ الإسناد في السياق في جميع المواضع، كما في تفسير ابن جرير، ولو كان السدّي هو الذي يذكر السند في أول كلِّ أثر لاختلف سياقه حتمًا، كما تقضي به العادة". ثم قال الشيخ: لا أدري أسباطٌ أم مَن بعده مزج هذه النسخة ببقية تفسير السدّي مما يقوله هو أو يرويه مما ليس في النسخة، فعمدَ إلى هذا السند فأثبته في أول كلّ أثر من الآثار التي كانت في النسخة، ومن هنا جاء الضعف والنكارة فيما يُروى بهذا السند". وهذا تحقيق علميٌّ نفيس بشأن تفسير السدّي، لم أجد مَن سبقه إليه، وبناء عليه بيَّن خطأ الحاكم الذي يختصر هذا السند فيقول: "عن أسباط عن السدّي عن مرة عن ابن مسعود". وينظر تفصيل الكلام حوله في الرسالة.

  10 - سنة الجمعة القبلية:

توجد نسختها في مكتبة الحرم المكي برقم [4684] في 22 صفحة، وهي مسوَّدة المؤلف فقد كثر فيها الشطب والاستدراك في الهوامش بخطه الدقيق المعروف، وهو يُقرأ بصعوبة في بعض المواضع. وقد ألَّف هذه الرسالة عندما سُئل: هل للجمعة سنة قبليَّة؟ فأجاب أن المقرر في المذهب أنها كالظهر في ذلك، فسُئِل النظر في ثبوت ذلك وعدمه من حيث الدليل، فاستجاب لذلك، وقبل الكلام في هذه المسألة بحثَ عن التنفل يوم الجمعة قبل الزوال، وتحقيق وقت الجمعة، وقرَّر في ضوء

(مقدمة 16/32)


الأحاديث والآثار التي ذكرها أن التنفل يوم الجمعة قبل الاستواء مرغَّبٌ فيه، وأنها نفلٌ مطلقًا لكونها واقعةً قبل دخول وقت الجمعة على ما عليه الجمهور. وذهب الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه إلى أن وقت الجمعة يدخل قبل الزوال، واستُدِلَّ لهما بأحاديث ذكرها المؤلف وتكلم على فقهها ومعانيها، ثم قرَّر أن تأخير أذان الجمعة إلى خروج الخطيب دليل ظاهر على أنه ليس للجمعة سنة قبلية؛ لأن صلاتها بعد خروج الخطيب ممنوعة، فلو كانت ثابتة لسُنَّ الأذان قبل خروج الخطيب حتى يتمكن الناس من فعلها بعد الأذان، فإن وقت الرواتب القبلية بين الأذان والإقامة، فلو قُدِّمت لم تقع الموقعَ. ثم ذكر المؤلف أدلة القائلين بسنة الجمعة القبلية، وناقشها مناقشة تفصيلية، وتوسَّع في الكلام على الاحتجاج باللفظ الوارد في بعض الروايات في قصة سُليك الغطفاني: "أصلَّيت ركعتين قبلَ أن تجيء"، وأن زيادة "قبل أن تجيء" لم تثبت، وأن الاستدلال بها على ثبوت سنة الجمعة القبلية لا يصح. وختم الرسالة بنصيحة للمثبتين أن يُبكِّروا إلى الجامع فيصلُّوا النفل المطلق إلى خروج الإمام ليحوزوا بذلك فضيلةً أعظم، وذكر أن الانكفاف عن الراتبة القبلية للجمعة امتثال للسنة، والإقدام عليها بعد العِلم بقيام الدليل على عدم مشروعيتها معصية. وقد اختلف العلماء قديمًا في هذه المسألة، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من المانعين، ووافقهما المؤلف وأتى باستنباطات وفوائد ومناقشات لا توجد عند غيره، وحرَّرها تحريرًا بالغًا. وللشيخ الألباني كلام في هذه المسألة ضمن كتابه "الأجوبة النافعة" (ص 21 - 35).

(مقدمة 16/33)


 11 - بحث في وقت تشريع ونزول آية صلاة الخوف:

توجد النسخة الخطية منه ضمن المجموع رقم [4665] (الورقة 8/ب- 9/أ)، وينطبق عليها الوصف الذي ذكرناه سابقًا. ويبدو أنه تتمة للكلام السابق على رواية قتادة عن سليمان بن قيس، كما أشار إليه المؤلف في أوله. ويقصد بهذه الرواية حديث جابر بن عبد الله في قصة قصر الصلاة في الخوف، الذي أخرجه الطبري في تفسيره (7/ 414). فذكر أنه يعارضه حديث أبي عياش الزرقي أن آية صلاة الخوف نزلت بعُسفان، وخرَّجه من مصادر مختلفة، ثم ذكر أحاديث أخرى في الباب عن ابن عباس وأبي هريرة وخالد بن الوليد، وتكلم عليها. وبه ينتهي المخطوط الذي بين أيدينا. وقد فصَّل المؤلف الكلام على هذا الموضوع في رسالته "إعادة الصلاة"، وبيَّن اختلاف الروايات في الباب، ولم يترجح له شيء كما صرَّح به هناك.

  12 - قيام رمضان:

وصلت إلينا نسخة المؤلف من هذه الرسالة في مكتبة الحرم المكي برقم [4685] في 14 صفحة من القطع الطويل. وهي بخط واضح، وكأنها مبيضة، ومع ذلك ففيها إلحاقات وزيادات وشطب في بعض الصفحات، على منهج المؤلف في أغلب ما وصل إلينا بخطه. وتوجد منها نسخة أخرى منسوخة عن أصلٍ آخر للمؤلف بخط تلميذه الشيخ عبد الرحمن بن أحمد المعلمي، انتهى من نسخها في 29 صفر سنة 1383، وقال في آخرها: "إلى هنا انتهى النقل لتأليف قيام رمضان، وأفاد

(مقدمة 16/34)


المؤلف أن له بقية، فبحثنا عليه أن يُكمل التأليف بإلحاح، ولشغلتِه (كذا) بما هو أهم لم يفرغ لإكماله، وصارت هذه النسخة ناقصة الإكمال". هذه العبارة تدل على أن المؤلف كان ينوي أن يضيف إليها أشياء أخرى، ولكنه لم يجد الفرصة لذلك، فبقيت كما هي في النسختين. وقد اعتمدتُ في تحقيقها على نسخة المؤلف، ثم بعث الشيخ عبد الرحمن بن عبد القادر المعلمي (ابن أخت المؤلف) مشكورًا بالنسخة الثانية أخيرًا، فقابلتها عليها، ووجدتُ في بعض المواضع من هذه النسخة اضطرابًا في الترتيب ونقصًا وأخطاءً، فلم أشر إلى شيء منها لعدم الفائدة، وإنما أثبتُّ تلك الفروق التي لها وجه صحيح، وكانت كذلك في أصل المؤلف. تناول المؤلف في هذه الرسالة مباحث تتعلق بقيام رمضان، واستوفى الكلام عليها، فذكر أولًا فضل قيام الليل مطلقًا ثم في رمضان خاصةً، وبيَّن عدة صفاتٍ إذا اتصف بها قيام الليل عظُم أجره، وسمَّاها مكملات، وهي: أن يكون تهجدًا أي بعد النوم، وأن يكون بعد نصف الليل، وأن يستغرق ثلث الليل، وأن يكثر فيه من قراءة القرآن، وأن يكون مثنى مثنى ثم يوتر بركعة، وأن لا يزيد على إحدى عشرة ركعة، وأن يكون فرادى، وأن يكون في البيت. وأورد بعض الأحاديث الواردة في هذا الباب، وعقد فصلًا للمقارنة بين حديثي زيد بن ثابت وعائشة رضي الله عنهما في صفة قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الليالي وصلاة بعض الناس خلفه، وعدم خروجه في بعض الليالي خشية أن تفرض عليهم صلاة الليل. وأجاب عن بعض الإشكالات الواردة على الحديثين.

(مقدمة 16/35)


ثم ذكر مجمل ما كان عليه قيام رمضان في العهد النبوي، وما صار إليه في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث استمر قيامهم في المسجد في جميع ليالي رمضان، فجمعهم عمر على إمام واحد، ولم ينكر عليه أحدٌ من الصحابة، فكان في ذلك حجة على صحة اجتهادهم، وعلى أنه لو اتفق مثل ذلك في العهد النبوي لما أنكره النبي - صلى الله عليه وسلم -. وبهذا خرج ذلك العمل المتصل عن البدعة، فإنه إذا قام الدليل على أن الحكم مشروع، وتُرِك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدم مقتضيه، ثم وُجد المقتضي بعده، فالعمل به حينئذٍ سنة لا بدعة. أما عدد الركعات فقد تكلم عليه المؤلف، وذكر الأوجه التي وردت في الأحاديث والآثار، ونقل عن بعض الأئمة آراءهم، وقال في آخر البحث: "أما العدد المحتم فلا، وأما الأفضل فالاقتصار على الإحدى عشرة، وفي بعض الليالي ثلاث عشرة، إلّا إذا شقَّ عليهم إطالتُها حتى يستغرق الوقتَ الأفضلَ، فلهم أن يزيدوا في العدد، على حسب ما يخفُّ عليهم. وعلى هذا جرى عمل السلف". وعقد فصلًا لبيان الاختلاف في الأفضل: أفي البيت أم في المسجد؟ وفرادى أم جماعةً؟ ذكر فيه بعض الآثار وأقوال الأئمة نقلًا عن كتاب محمد بن نصر المروزي وغيره، وقال في آخره: "ومن تدبَّر السنة وحقَّق ثم تتبع أحوال الناس، علم أنه قد تطرَّق إلى هذا الأمر غير قليل من الخطأ والغلط ومخالفة السنة، وشرحُ ذلك يطول". وبهذه الإشارة ختم الرسالة، ولم يدخل في التفصيل والشرح، فإن بيان السنة الثابتة يُغني عن الخوض فيما يخالفها.

(مقدمة 16/36)


وبعد الانتهاء من الرسالة ألحق المؤلف بها الجواب عن الإشكال الوارد على حديث خشية افتراض قيام الليل، مع ما ثبت في حديث الإسراء من أن الله تعالى قال: "هنَّ خمسٌ وهي خمسون، لا يُبدَّلُ القول لديَّ". فإذا أُمِنَ التبديل فكيف يقع الخوف من الزيادة؟ وقد ذُكِرتْ عنه عدة أجوبة كما في "فتح الباري" وغيره، وكان المؤلف قد ترك التعرض لهذا البحث لدقته، ولكن لما أثاره الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة رأى أن ينظر فيه، فتكلم عليه بكلام لم يُسبَق إليه، وردَّ على بعض الأجوبة الضعيفة وبيَّن وهاءها. وقال: تأخير البيان عن وقت الخطاب جائز على الصحيح، وإنما الممتنع تأخيره عن وقت الحاجة. ومثَّل له بقصة إبراهيم عليه السلام في ذبح ابنه.

  13 - مسألة اشتراط الصوم في الاعتكاف:

لم يعنون لها المؤلف، وتوجد مخطوطته في أربع صفحات من الحجم الكبير في مكتبة الحرم المكي برقم [4676]. ومناسبة تأليفها أنه جرت مذاكرة بينه وبين السيد صالح بن محسن الصيلمي الزيدي في اشتراط الصوم في الاعتكاف، فقال الصيلمي: علماؤنا يُلزِمونكم القول باشتراط الصوم في الاعتكاف بقياس العكس، فقال المؤلف: ما وجهُ تأتّي قياس العكس هنا؟ (ثم تكلم عن هذا القياس في ضوء كتب الأصول)، فإن لنا في النصوص الصحيحة ما يُقِرُّ الناظر. ثم ذكر الأحاديث الواردة في الباب وتكلم عن معانيها، واختلاف العلماء فيها، وتكلم على لفظ "لا اعتكاف إلا بصوم" في الحديث هل هو مدرج من كلام الزهري أو من كلام عائشة، وليس مسندًا إلى السنة؟ وردّ على من استدل بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتكف إلا صائمًا، بقوله: إن هذا دليل الاستحباب لا

(مقدمة 16/37)


الوجوب. ونقل ما يستلزم أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتكف بلا صوم، وهو حديث عائشة عند البخاري ومسلم أنه اعتكف عشرًا من شوال، وفي رواية لمسلم: "اعتكف العشر الأول من شوال"، فإن أول شوال يوم العيد، وصومه حرام. واحتج أيضًا بحديث الصحيحين عن عمر رضي الله عنه أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلةً في المسجد الحرام، قال: فأوفِ بنذرك". والليل ليس ظرفًا للصوم، فلو كان شرطًا لأمره - صلى الله عليه وسلم - به. وذكر أيضًا الحديث الذي رواه الحاكم: "ليس على المعتكف صيامٌ إلّا أن يجعله على نفسه". وقد أجاب عنه الصيلمي بما نقل المؤلف خلاصته، ثم ردّ عليه المؤلف بتفصيل، وناقشه في تأويله لحديث: "ليس على المعتكف صيام إلَّا أن يجعله على نفسه"، وطالبه الدليل الذي يقتضي اشتراط الصوم، وحديث "لا اعتكاف إلا بالصيام" سبق ما فيه. ولو فُرِض اعتباره دليلًا فهناك طرقٌ مسلوكة في الجمع بينه وبين سائر الأدلة، وهي أن نقول بنفي الكمال، كما قالوه في الأحاديث التي وردت بمثل هذه الصيغة. وبعدما انتهى المؤلف من بحث هذا الموضوع ألحق به رسالةً منه إلى الصيلمي وردّ الأخير عليه، فيهما خلاصة ما سبق من الكلام في هذه المسألة. وتوجد على حاشية الصفحة الثانية تعليق نحوي لا علاقة له بموضوع هذه الرسالة، يشرح فيه جزءًا من متنٍ في النحو، وهو قوله: (الكلام هو اللفظ المركب المفيد بالوضع. وكل كلمة إما معربة وإما مبنية، والمعرب إما أن يكون أصليَّ الإعراب أو فرعيَّه، والمبني إما أن يكون أصليّ البناء وإما فرعيَّه).

(مقدمة 16/38)


 14 - مقام إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام:

نُشرت هذه الرسالة بعناية الشيخ محمد حامد الفقي بمطبعة السنة المحمدية بالقاهرة في محرم سنة 1378، ولم نعثُر على الأصل الذي اعتُمد عليه في هذه النشرة. والموجود في مكتبة الحرم المكي برقم [4687] مسودة أولية لها بخط الشيخ في دفتر صغير مسطّر في 31 صفحة، مع ملاحق في 9 صفحات، وفيها شطب كثير واستدراكات وتخريجات طويلة. وعندما قابلناها بالمطبوع ظهر لنا فرق كبير بينهما، ففي المطبوع زيادات كثيرة لا توجد في المسوَّدة، وتعديلات في مواضع في الكلمات والفقرات، وبذلك عرفنا أن النسخة المطبوعة نسخة محرَّرة من هذه الرسالة، وأنها طبعت بالاعتماد على مبيضة المؤلف، فهي أجدر بأن يُعتمد عليها عند إعادة تحقيقها دون المسوَّدة التي كتبها المؤلف كتابةً أولية. ومع ذلك فقد استفدنا من هذه المسودة تصحيح بعض الأخطاء الموجودة في المطبوع. وكانت مناسبة تأليفها أن الملك سعود بن عبد العزيز رحمه الله عندما بدأ بتوسعة المسجد الحرام وتوسعة المطاف حول الكعبة المشرفة، اقتضى ذلك نقل "مقام إبراهيم" وتأخيره عن موضعه، حتى لا يؤذي الطائفين، ولا يعوقهم عن سيرهم. فظنَّ بعض الناس أن في ذلك مخالفةً وتغييرًا للمشاعر، فكتب المؤلف هذه الرسالة لبيان أن الحق والهدى هو في نقل "المقام" وتأخيره عن موضعه، اقتداءً بفعل عمر بن الخطاب الذي أقرَّه عليه الصحابة رضي الله عنه وعنهم وأرضاهم جميعًا. وقد اطلع مفتي المملكة العربية السعودية سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ على هذه الرسالة فقرظها بما يلي:

(مقدمة 16/39)


"الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه. وبعد، فقد قُرئتْ عليَّ هذه الرسالة التي ألَّفها الأستاذ عبد الرحمن المعلمي اليماني، بشأن "مقام إبراهيم" وتنحيته عن مكانه الحالي، فيما إذا أُريد توسيع المطاف. فوجدتُها رسالة بديعة، وقد أتى فيها بعين الصواب في هذه المسألة. وفَّقنا الله وإياه لما يحبُّه ويرضاه، وجعل عملَ الجميع خالصًا لوجهه الكريم. أملاه الفقير إلى عفو ربه: محمد بن إبراهيم آل الشيخ. وصلى الله على عبد الله ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم". لقيت رسالة المعلمي هذه قبولًا من العلماء، ولكن الشيخ سليمان بن حمدان ردَّ عليها بكتابه "نقض المباني من فتوى اليماني، وتحقيق المرام فيما تعلق بالمقام" أساء فيه للمعلمي، ووصفه بأوصاف لا تليق، فأشار عليه الشيخ محمد بن إبراهيم بأن لا ينشره لما فيه من أخطاء وأغلاط، ولكنه بادر إلى طبعه وتوزيعه دون أن يغيِّر شيئًا من الأخطاء. فألَّف الشيخ محمد بن إبراهيم ردًّا عليه بعنوان "نصيحة الإخوان ببيان ما في "نقض المباني" لابن حمدان، من الخبط والخلط والجهل والبهتان" (1). انتصر فيه للمعلمي، وبيَّن ما وقع فيه ابن حمدان من الأخطاء الفاحشة والأغلاط الشنيعة. وأعقبها أيضًا برسالة "الجواب المستقيم في جواز نقل مقام إبراهيم" مؤيدًا فيها ما قاله المعلمي. _________ (1) طبع ضمن فتاواه (5/ 56 - 132).

(مقدمة 16/40)


وقد ألّف بعض العلماء في ذلك الوقت رسالة باسم "سبيل السلام في إبقاء المقام" تأييدًا لابن حمدان. وفي هذا الموضوع قال الشيخ عبد الرحمن الدوسري (ت 1399) في كتابه "الحج ــ أحكامه ومنافعه" (ص 35، 36): "وقد حصل خلافٌ هذه السنوات في تحويل المقام عن مكانه إلى ما يعادله من الشرق بسبب الضيق والازدحام، وقد أفتى أكثر العلماء بجوازه للضرورة التي هي أشد من الضرورة التي حدت بأمير المؤمنين إلى تحويله، وقد أبدوا تعليلات كافية لكل منصف. ولكن حصلت معارضة في وقت كانت السماء كثيفةً بالغيوم، فتوقف التنفيذ إلى تحريك جديد نرجو من الله تعجيله ما دامت السماء صحوًا" (1). قدَّم المعلميّ لهذه الرسالة بمقدمة فسَّر فيها بعض الآيات، واستنبط منها ضرورة توسعة المطاف، ونقل المقام من مكانه إذا كان مظنة تضييق على الطائفين، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عهده، وأقرَّه سائر الصحابة، فكان إجماعًا. ولا ريب أنه إذا تحققت العلة ولم يكن هناك مانع من تأخير المقام، فتأخيره هو الطريقة المثلى. ثم أشار إلى ثلاث معارضات يعتبرها بعضهم موانع، فذكرها مع ما لها وما عليها: المعارضة الأولى: قول بعضهم: إن المقام ليس هو الحجر فقط، بل هو الحجر والبقعة التي هو فيها الآن، وتأخير البقعة غير ممكن. فإذا نُقِل الحجر عنها فإما أن يفوت العمل بالآية، وإما أن يبقى الحكم للبقعة لأنها موضع الصلاة. _________ (1) هذه الفقرة من إفادات الشيخ سليمان العمير حفظه الله.

(مقدمة 16/41)


المعارضة الثانية: تأخير المقام عن موضعه مما تنكره قلوب الناس، فينبغي اجتنابه، كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبقى الكعبة على بناء قريش، ولم يَبنِه على قواعد إبراهيم لهذا السبب. المعارضة الثالثة: أن المقام استقرَّ في موضعه طوال هذه القرون، مع كثرة الحجاج وازدحامهم في المطاف في كثير من الأعوام، ولو كان تأخيره جائزًا لما غفل عنه الناس طول هذه المدة، وفي ذلك دلالة واضحة على اختصاصه بموضعه الذي استمر فيه. أما المعارضة الأولى فقد ردّ عليها بتفصيل، وعقد لذلك عدة فصول: الأول: في بيان ما هو المقام؟ الثاني: لماذا سُمّي الحجر مقام إبراهيم؟ الثالث: أين وضع إبراهيم المقام أخيرًا؟ الرابع: أين كان موضعه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ الخامس: لماذا حوّل عمر رضي الله عنه "المقام"؟ السادس: متى حوَّل عمر رضي الله عنه "المقام"؟ ولماذا قدَّره المطَّلب واحتاج عمر إلى تقديره؟ وتوصّل أخيرًا إلى أن القول بأن موضعه الآن هو موضعه الأصلي ضعيف، بحيث لا يحتاج إلى فرض صحته وما يتبع ذلك. وردَّ على المعارضة الثانية أيضًا بثلاثة أوجه، وعلى المعارضة الثالثة بأن إعراض من بيننا وبين الصحابة عن تأخير المقام مرةً ثانية محمول على عدم

(مقدمة 16/42)


تحقُّق العلة، وأن مثل هذا الإجماع الفعلي ــ لو تحقق ــ لا يمنع من العمل بما يأمر به القرآن وما أجمع عليه الصحابة في عهد عمر رضي الله عنه. وختم الرسالة بتلخيص وتوضيح لما توصَّل إليه بعد البحث والتحقيق. وبعد، فهذه أول رسالة علمية تناولت هذه الموضوع بهذا التفصيل، وبأسلوب علمي هادئ يدلُّ على تمكن المؤلف من علوم الحديث واللغة والتاريخ والتفسير، واطلاعه الواسع على المكتبة الإسلامية، ودقة استنباطه، وقوة مناقشته للمعارضين دون تجريح أو تحقير، مع تواضع جمّ واعترافٍ بالآخرين. رحمه الله رحمةً واسعة.

  15 - رسالة في توسعة المسعى بين الصفا والمروة:

توجد نسخته بخط المؤلف في مكتبة الحرم المكي برقم [4683] في 5 ورقات، وفيها شطب في بعض المواضع وإلحاقات. ويبدو أنه ألَّفها عندما قام الملك سعود بن عبد العزيز رحمه الله بتوسعة المسجد الحرام سنة 1377، واقتضى ذلك توسعةَ المسعى أيضًا تيسيرًا للحجاج والمعتمرين، فبيَّن المؤلف حكم الشرع في هذه المسألة. بدأها بذكر قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} وكيفية سعي النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وكيف كان حال الصفا والمروة فيما مضى، وهل يمتنع توسيعه وقوفًا على عمل من مضى وإن ضاق وضاق؟ أم ينبغي توسيعه؟ ذكر الشيخ أن الطريق الذي بينهما كان واقعًا بين الأبنية من الجانبين، يتسع تارةً ويضيق أخرى، وذلك يدلُّ على أنه لم يحدَّد، ولم يجئ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه ومن بعدهم بيانٌ لتحديد عرض المسعى، وهذا

(مقدمة 16/43)


يُشعِر بأن تحديده غير مقصود شرعًا، وإلّا لكان أولى بالتحديد من عرفات ومزدلفة ومنى، وقد ورد في تحديدها ما ورد. فهل يبقى المسعى كما هو وقد ضاق بالساعين وأضرَّ بهم؟ أم ينبغي توسعته؟ لأن المقصود هو السعي بين الصفا والمروة، وهو حاصل في المقدار الذي يوسع به هذا الشارع. نقل المؤلف بعض النصوص من كتب الفقه للدلالة على أن السعي كالطواف، وكما أن المكان الذي يختص به الطواف لا يقتصر على ما كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد وُسِّع المسجد وزيد فيه مرةً بعد أخرى، وما زيد فيه صحَّ الطواف فيه، فكان المسعى أولى. واستدل المؤلف بقوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] أن التطهير يشمل التطهير من الأرجاس المعنوية والحسّية، ويقتضي كذلك أن يكون الموضع بحيث يسعهم، وتوسعة المسجد هي نفسها توسعةٌ للمطاف. وردّ على شبهة من توقَّف عن تأخير مقام إبراهيم، واختصر الكلام الذي قاله في رسالته "مقام إبراهيم". وانتقل بعد ذلك إلى حكم توسعة المسعى، وقال إنه مثل توسعة المطاف، فإن أمر الله سبحانه بالسعي بين الصفا والمروة يوجب تهيئةَ موضعٍ يسعى الناس فيه يكون بحيث يكفيهم، وعدمَ الاقتصار على ما كان يكفي الناسَ في الماضي وضاق بهم الآن، وإذا وُسِّع الآن بحيث يكفي الناسَ فقد يجيء زمانٌ يقتضي توسعتَه أيضًا. وقد صدق ظنُّ المؤلف، فقد جاء هذا العصر الذي ازدحم الناس فيه للحج والعمرة، وضاقت التوسعة الأولى للمسعى، واضْطُرَّ إلى التوسعة

(مقدمة 16/44)


الثانية التي عُمِلت في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز حفظه الله، وعادَ الكلام من جديد في هذا الموضوع وخالفَ بعض العلماء وكتبوا فيه، وسيزول الخلاف بمرور الأيام، ولا يبقى له أثر في المستقبل إن شاء الله. وقد استعرض المؤلف بعض التغييرات التي حصلت للمسعى في بعض جهاته فيما مضى، ونقل من كتب التاريخ نصوصًا تدل على ذلك، وذكر إشكال القطبي أن السعي بين الصفا والمروة من الأمور التعبدية، ولا تُعتبر تلك العبادة إلا في ذلك المكان المخصوص الذي سعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه، ثم أورد جواب القطبي عنه أن المسعى في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عريضًا، وبُنِيت الدُّور بعد ذلك في عرض المسعى القديم، فهدمها المهدي وأدخل بعضها في المسجد الحرام، وترك بعضها للسعي فيه، ولم يُحوِّل تحويلًا كليًّا، وإلّا لأنكره علماء الدين. رد المؤلف على القطبي قوله: "إن المسعى كان عريضًا، فبُنِيت فيه الدور"، وقال: إن المسعى لو كان محدَّدًا لبَعُد أن يجترئ الناس على البناء فيه، ويُقِرَّهم العلماء والأمراء. ولو صحَّ قول القطبي لدلَّ إقرار أهل العلم للمهدي أنهم يرون جواز توسعة المسعى من الجانب الآخر، فيرون أنه إذا ضاق ما أبقاه المهدي بالناس أمكن توسعة المسعى من الجهة الأخرى، فهذا أيضًا يدل على جواز التوسعة عند الحاجة. واستشهد بقول عمر بن الخطاب للذين نازعوا في بيع دورهم لتوسعة المسجد: "إنما نزلتم على الكعبة فهو فِناؤها، ولم تنزل الكعبة عليكم" على أن ما حول الكعبة هو من اختصاصها، وكذلك ما بين الصفا والمروة من اختصاصهما، فإذا جُعِل بعضُه مسعًى صار مسعًى يصح السعي فيه، وبقي

(مقدمة 16/45)


الباقي صالحًا لأن يُزاد في المسعى عند الحاجة، فما زيد فيه صار منه. ثم إن الصفا والمروة هما الشعيرتان بنصّ القرآن، فأما ما بينهما فهو بمنزلة الوسيلة ليُسعَى فيه بينهما، والوسائل تحتمل أن يُزاد فيها بحسب ما هي وسيلة له، ولا يجب أن تُحدَّد تحديدَ الشعائر نفسها. بهذا الفقه الدقيق ختم المؤلف كلامه في هذه الرسالة، التي تعتبر أولَ بحثٍ علمي رصين في هذا الموضوع، ولم أجد أحدًا سبقه إلى التأليف فيه، فجزاه الله عن العلم وأهله خير الجزاء.

  16 - رسالة في سير النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج، والكلام على وادي محسِّر:

توجد نسختها بخط المؤلف في مكتبة الحرم المكي برقم [4704] في أربع صفحات، ويبدو أنها مبيضة، فليس فيها الشطب والإلحاق والتخريج كما في سائر مسوَّداته. وهي بقطع طويل 25× 20 سم. وليس عليها تاريخ التأليف أو النسخ. بدأها المؤلف بذكر الأحاديث الواردة في سير النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج بين المشاعر، وشرح كلمتي "العَنَق" و"النصّ" وأنهما من سير الإبل، وبيَّن أنه من عرفة إلى مزدلفة لم يُسرع النبي - صلى الله عليه وسلم - فوق العادة، وأنه ليس بينهما مكانٌ يُشرَع فيه الإبطاء أو الإسراع المعتاد، وإنما المدار على الزحام وعدمه. أما من مزدلفة إلى جمرة العقبة فقد كان يسير سيرًا لينًا، حتى أتَى واديَ محسِّر، فقرعَ ناقتَه فيه لتُسرِع فوق العادة، حتى جاوز الوادي. ففهم الصحابة منه أن مثل ذلك الإسراع مشروع في ذلك المكان. وقد اختُلِف في سبب الإسراع هناك على أقوال:

(مقدمة 16/46)


الأول: أن ذلك الوادي مأوى للشياطين. الثاني: أن النصارى كانوا يقفون بمحسّر، فأوضعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالفةً لهم. الثالث: أن المشركين كانوا يقفون به يتفاخرون بآبائهم. الرابع: أن وادي محسِّر موضع نزل به عذاب. وقد ضعَّف المؤلف الأقوال الثلاثة الأولى، ورجَّح الرابع وذكر له شاهدًا، وهو الإسراع في أرض ثمود. ثم قال: ولا يخدش في هذا الوجه أن نجهل ما هو العذاب الذي نزل بمحسّر، فقد ذكروا أنه عذاب أصحاب الفيل، وهو مخالف للمشهور أنه كان بالمغمَّس حذاءَ عرفة. وقيل: إن العذاب هو أن رجلًا اصطاد فيه، فنزلت نار فأحرقتْه. ثم عقد فصلًا لبيان أن محسِّرًا هل هو من منًى أو مزدلفة أم لا؟ فقد جاء ما يدلُّ على أنه من مزدلفة في الاسم مع خروجه منها في الحكم، وجاء ما يدلُّ على أنه من منًى في الاسم، وجاء ما يدلُّ على أنه ليس من منى ولا مزدلفة. وقد أورد المؤلف الروايات الواردة في هذا الباب وتكلم عليها، ورجَّح القول الأخير: إنه ليس من مزدلفة ولا من منًى، وهو المعروف في كتب الفقه والمناسك في المذاهب الأربعة. واستغرب قول ابن حزم: إن محسّرًا من الحلّ، وختم الرسالة بنقل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم اللذين صرَّحا بأن محسِّرًا برزخ بين مزدلفة ومنًى، لا من هذه ولا من هذه. هذه خلاصة مباحث هذه الرسالة الصغيرة، وفيها فوائد أخرى تتعلق

(مقدمة 16/47)


بنقد الأحاديث والأخبار والكلام عليها تصحيحًا وتضعيفًا، ومناقشة للأدلة التي احتجّ بها كل فريق. ولم أجد من أفردها بالبحث والدراسة غير المؤلف.

  17 - فلسفة الأعياد وحكمة الإسلام:

توجد نسختها بخط المؤلف في مكتبة الحرم المكي برقم [فلم 3579] (5 ورقات بقطع طويل 32× 21 سم). ذكر فيه أولًا معنى العيد في العرف العام، وتحدث عن منشأ الأعياد عند الأمم، وأن غالب الأعياد الدينية في غير الإسلام اصطلاحيٌّ. ثم عنونَ بقوله: "نظرية الإسلام في الأعياد" وذكر أن الشريعة الإسلامية لم تنظر إلّا إلى النعم الحقيقية التي تعمُّ جميعَ المسلمين، والموجود من هذه النعم الذي يتكرر كلَّ عام أمرانِ: تمام صيام شهر رمضان والخروج من مشقة الصيام، وتمام الحج والخلاص من مشقة الإحرام، فشُرِع عيد الفطر وعيد الأضحى لمن لم يحج، واقتضت الحكمة أن تكون الأعمال المشروعة في العيد جامعةً بين الزينة والعبادة، وأن يكون الاجتماع الحسي باعثًا على الاجتماع المعنوي. وبعد الانتهاء من ذكر حكمة الإسلام في الأعياد أشار إلى أن المسلمين لا يكاد يوجد منهم من يستحضر هذه المعاني ويبني عمله على تلك المقاصد، ولا يكاد يوجد من علمائهم من يبيِّن لهم ذلك. ثم ذكر أن الأعياد الاصطلاحية لم تلتفت إليها الشريعة الإسلامية من حيث هي أعياد، وفي عيدي الفطر والأضحى ما يفي بذلك، فعيد الفطر تذكارٌ لنزول القرآن في رمضان، وعيد النحر تذكارٌ لتمام الدين وعزِّه.

(مقدمة 16/48)


ثم نظرت الشريعة إلى الأيام التي حدثت فيها نعم عظمى عامة فرأتْ أن المثلية تُذكِّر بالنعم، فشرعت في أمثال تلك الأيام عباداتٍ مخصوصة، فإذا حدثت النعمة في يوم عيَّنت العبادة في مثله من كل أسبوع، وإذا حدثت النعمة في شهر عيَّنت العبادة في مثله من كلِّ سنة. فمن الأول: يوم الجمعة، وقد تحدَّث عن فضله وأهميته، وردَّ على من يعدُّونه عيدًا لأن كثيرًا مما شُرِع في العيد شُرِع فيه، وناقشهم في الأمور التي ذكروها، ومنها النهي عن تخصيص يوم الجمعة بصيام وليله بقيام، وبيَّن الحكمة في ذلك، كما ذكر حكمة تشريع صيام يوم الاثنين شكرًا على النعمتين العظيمتين: ولادة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنزال القرآن عليه، كما في حديث أبي قتادة الذي رواه مسلم (1162). ثم تطرَّق إلى الرد على القائلين بالاحتفال بالمولد النبوي بطريقة لطيفة حيث قال: "إن المسلمين ــ ويا للأسف ــ نسُوا صوم يوم الاثنين وما في صومه من شكر الله عزَّ وجلَّ، وما يتضمن ذلك من محبته - صلى الله عليه وسلم -، حتى إن أكثرهم يجهل ذلك، ولم أرَ طولَ عمري من يصومُه بتلك النية ولا من يذكره. إلّا أنني سمعتُ من يذكر الحديث احتجاجًا على مشروعية الاحتفاء بثاني عشر ربيع الأول، فالله المستعان". ثم تكلم عن مشروعية صوم عاشوراء، وهناك أيام حدثت فيها نِعَمٌ في العهد النبوي، ولم يُشرَع تخصيص أمثالها بعبادةٍ اكتفاءً عنه بغيرها، وهكذا الأيام التي حدثت فيها النِّعم بعد العهد النبوي ليس لأحدٍ تخصيص أمثالها بعبادة مخصوصة، لأن الدين قد كمُل في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولأن كلَّ نعمةٍ عامة للمسلمين حدثتْ بعده - صلى الله عليه وسلم - فهي فرع عن النعم التي حدثت في عهده. والمقصود من الكلام السابق كله بيان أن الأيام التي تحدُثُ فيها النِّعم العظام لا يجعلها الشرع أعيادًا، وإنما يجعلها مواسم للعبادات شكرًا على

(مقدمة 16/49)


تلك النعم، مع حِكَمٍ أخرى. وختم المؤلف هذه الرسالة بذكر أهم المقاصد في الأعياد، وهو الاجتماع، وبيَّن كيف راعت الشريعة الاجتماع في تعاليمها، فقد شُرِعت الجماعة في الصلوات الخمس لأهل كل قرية أو محلة، ثم شُرِعت الجمعة ليجتمع أهل كل مدينة في مسجد واحد، ثم شُرِع العيد لاجتماعٍ أعمَّ من الجمعة، ثم شرع الحج ليجتمع في موضع واحدٍ جميع المسلمين. ولكن المسلمين ــ ويا للأسف ــ جهلوا هذه الحكم، فقليلٌ منهم يجتمعون هذه الاجتماعات المشروعة، والمجتمعون قليلًا ما يبحثون عن مصالحهم، حتى إن الخطب الجمعية والعيدية والحجية نراها بمعزلٍ عن هذا.

  18 - توكيل الولي غير المجبر بتزويج موليته:

وصلت إلينا هذه الرسالة بخط المؤلف، وهي محفوظة في مكتبة الحرم المكي برقم [4688] في 34 صفحة من الدفتر الصغير من الدفاتر التي صُنعت بالهند، كما يدلُّ على ذلك صفحة الغلاف. ويُستنبط منه أن الشيخ ألَّفها في الهند قبل سنة 1371. والنسخة بخط واضح، وفيها شطب في بعض الصفحات، وفي هوامشها إلحاقات وزيادات في مواضع. ومناسبة تأليفها كما ذكر المؤلف أنه جرت المذاكرة في توكيل الولي غير المجبر بتزويج موليته إذا وقع التوكيل قبل إذنها، وبعد مراجعة المظانّ وجد الحاجة ماسة إلى البسط والتحقيق في المسألة، فألَّف هذه الرسالة عند ذلك. نقل فيها أولًا كلام الإمام الشافعي من كتاب الأم وكلام الفقهاء

(مقدمة 16/50)


الشافعية من المصادر الأخرى، ثم تكلم على قياس غير المجبر على المجبر، وقياسه على الوصي والقيم كما ذكر بعضهم، وتحدَّث عن وجوه الفرق بينهما. ثم ذكر شُبه القائلين بجواز توكيل غير المجبر قبل إذنها، وهي عشر شبه، وردَّ عليها من وجوه كثيرة، وأطال في الردّ والمناقشة، وانتهى في الأخير إلى أن التعسُّفات التي ذكرها الفقهاء المتأخرون لا تقوى على تخصيص أو تقييد نصّ الإمام الشافعي على بطلان توكيل غير المجبر إلا بأن تأذن له المرأة أن يوكّل بتزويجها، فالحق الذي لا يجوز غيره إبقاء نصّه على ظاهره. وفي أثناء هذه الردود والمناقشات تكلم عن الوكالة وشروطها والمباحث المتعلقة بها، وعلَّق على النصوص التي نقلها من كتب الفقه، وردّ على ابن حجر الهيتمي وغيره فيما ذهبوا إليه. وهذه الرسالة تدل على سعة اطلاع المؤلف على كتب الفقه الشافعي، ورسوخه في الفقه، وقوة مناقشته للفقهاء، فيما خالفوا فيه الحقَّ والصواب، وفهم نصوص الإمام الشافعي كما ينبغي.

  19 - الحكم المشروع في الطلاق المجموع:

توجد مخطوطته بخط المؤلف في مكتبة الحرم المكي برقم [4682]. وهي عبارة عن أوراق متفرقة من الكتاب، كتب الشيخ فصولًا منه، وزاد عليها زيادات في ملاحق، وأشار إلى أنها توضع في أماكنها. وقد بدأها المؤلف بالآيات وتفسيرها، ولما انتهى منها في خمس

(مقدمة 16/51)


صفحات قال في آخرها: "هذا ما يتعلق بهذه المسألة من كتاب الله عزَّ وجلَّ، فلننظر الآن ما يتعلق بها من السنة". ثم عنون بقوله: "الأحاديث التي احتجَّ بها مَن يرى أن من قال: طلقتُ ثلاثًا أو ألفًا أو كعدد ذرات العالم أو نحو ذلك فهي مرة واحدة، تكون له بعدها الرجعة". ثم كتب "بسم الله الرحمن الرحيم" وسرد هذه الأحاديث وتكلم عليها طويلًا، وخاصةً حديث ابن عباس المشهور الذي رواه مسلم، ومرسل عروة، وغيرهما من الأحاديث والآثار. ثم بدأ الشيخ من جديد بعد كتابة البسملة وعنوان الكتاب: "الحكم المشروع في الطلاق المجموع"، فقال: "الباب الأول في الطلاق المأذون فيه"، وذكر ثلاثة مذاهب للعلماء في ذلك، مع الاحتجاج لكل منها ومناقشتها، وردّ كلّ فريق على الآخر وجوابه. وبعدما انتهى من الباب الأول عقد بعد البسملة "الباب الثاني في الوقوع" وذكر تحته: "المسألة الأولى في وقوع الطلاق البدعي"، فذكر مذهب الجمهور القائلين بوقوعه ومذهب المانعين، واحتجاج الجمهور بحديث ابن عمر المشهور الذي لهم فيه أربع حجج، وقد سردها، ثم ذكر جوابَ المانعين وردَّهم عليها، مع مناقشة ما قاله كلُّ فريق ودفع ما لا يصح منه. وبه انتهى ما وصل إلينا أو ما ألَّفه الشيخ من هذا الكتاب، فلم يتكلم في الباب الثاني إلَّا على مسألة واحدة، ولعله كان يريد أن يضيف إليها مسائل أخرى من مسائل الطلاق، ولكنه لم يفرغ لها. والقضية الأساسية التي تناولها الشيخ بالبحث والدراسة في الكتاب قضية الطلاق الثلاث المجموع، التي كثر التأليف فيها منذ زمن شيخ

(مقدمة 16/52)


الإسلام ابن تيمية وابن القيم إلى الآن (1)، وخاصةً في بلاد الهند وباكستان. والجمهور من أتباع المذاهب الأربعة يدَّعون الإجماع على وقوعها ثلاثًا، والقائلون بوقوعها واحدةً يذكرون الخلاف في ذلك منذ زمن الصحابة والتابعين، ويردُّون دعوى الإجماع، ويقولون: إنها من مسائل الخلاف. وقد ذكر الشيخان (ابن تيمية وابن القيم) في كتبهما نصوصًا كثيرة من مصادر مختلفة تبيِّن اختلاف السلف في هذه المسألة، بل من أتباع المذاهب الأربعة جماعة من العلماء ممن كان يفتي بأنها واحدة، كما فصَّل ذلك الشيخ سليمان العمير في كتابه "تسمية المفتين". وقد احتدَّ النقاش في هذه القضية في هذا العصر بعد ما ألَّف العلامة المحدث أحمد محمد شاكر كتابه المشهور "نظام الطلاق في الإسلام" وقرَّر فيه أن الثلاث تقع واحدةً، ونصر مذهب شيخ الإسلام وغيره في هذا الباب، واحتجَّ لها بحجج شرعية ولغوية. فقام بالردّ عليه الشيخ محمد زاهد الكوثري الحنفي بكتابه "الإشفاق على أحكام الطلاق"، ودافع عن مذهب الجمهور، ولكنه على عادته لم يقتصر على البحث العلمي في القضية، بل تعدَّاه إلى التضليل والتبديع والتفسيق، حتى قال في موضع منه (ص 89): "إن كان ابن تيمية لا يزال بعدُ شيخ الإسلام فعلى الإسلام السلام". فانبرى له العلامة المعلِّمي، وألَّف هذا الكتاب، وناقش أدلة الفريقين مناقشة علمية هادئة، دون أن يصرِّح باسم الكوثري أو أحد من المخالفين، وتكلَّم على المسألة بمختلف جوانبها، وحقّق الأحاديث والآثار الواردة فيها، ونثر _________ (1) ذكر الشيخ سليمان العمير في كتابه "تسمية المفتين أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة" (ص 27 - 34) أكثر هذه الكتب المفردة.

(مقدمة 16/53)


في أثنائها فوائد علمية كثيرة على طريقته في البحث والتحقيق. وهكذا أصبح كتابه هذا متميزًا بين الكتب التي أُلِّفت في هذه المسألة.

  20 - رسالة في المواريث:

كان الشيخ أسلم الجيراجي الهندي (1) قد ألَّف كتابًا بعنوان "الوراثة في الإسلام"، ونشره بالمطبعة الملية في علي كره بالهند سنة 1341. وقد أحدث هذا الكتاب ضجَّةً في الأوساط العلمية لآراء المؤلف الجريئة والمخالفة لإجماع الأمة في باب المواريث، فصرَّح في مقدمته أنه وجد غالب أصول علم الفرائض مختلَّة، وأكثر مبانيه سقيمة ومعتلَّة، تخالف الكتاب، وتباين العقل والصواب، وذلك لأن الفقهاء قد خلطوا بأحكام الكتاب آراءهم، وتشبثوا بالروايات الضعيفة، وأسسوا عليها أصول الميراث، وسار عليها سلفهم وخلفهم. فقام الجيراجي في ظنه بالنقد والتصحيح، وبيان مواضع الزلل والخطأ، وتفسير آيات المواريث، وتمهيد القواعد وتحريرها بمقتضاها. _________ (1) هو ابن الشيخ سلامة الله الجيراجْفوري، نسبةً إلى "جَيْراج فور" من مديرية أعظم كره في شمال الهند، ولد سنة 1299/ 1881 م، وحفظ القرآن في صباه، ودرس العلوم الشرعية على المشايخ في بوفال، واشتغل مدرسًا في جامعة علي كره والجامعة الملية الإسلامية، وألَّف كتبًا في تاريخ الإسلام وتاريخ القرآن، وله دراسات قرآنية ومقالات دعا فيها إلى إنكار حجية السنة، والاقتصار على القرآن الكريم في أمور الدين، واعتبار الحديث شيئًا تاريخيًّا لا حاجة إليه في التشريع. توفي سنة 1375/ 1955 م.

(مقدمة 16/54)


ويذكر في إحدى مقالاته (1) أنه أثناء دراسته للسراجية توقف في مسألة حجب ابن الابن مع عمه، ولم تلقَ في نفسه قبولًا، فبحث في كتب علم الفرائض، فلم يجد له موافقًا، ثم قال: "وأخيرًا وجدتُ القرآن يوافقني في ذلك". وأخرج كتابًا بالأردية بعنوان "محجوب الإرث" (2) نقدًا لقواعد الميراث المجمع عليها بين المسلمين. وقد بنى الجيراجي كتابيه على أسس باطلة، واستنبط من القرآن الكريم استنباطات خاطئة، وادَّعى أن الوصية للوالدين والأقربين فرض على المسلم، وعليه أن يكتبها في حياته لوالديه ولأقربيه ويجعل ماله بينهم حسب ما تقتضي مصالحهم الشخصية، فإنه أدرى بها، ولم يعتبرها منسوخةً بآية المواريث كما يقوله جمهور الأمة، وقال: إنما يُقسَم المالُ بين الورثة إذا مات المورث بلا وصية، فحينئذٍ يُعمَل بآية المواريث ويُعطى كل ذي حق حقه. وخالف إجماع العلماء على أن أولاد الأم من ذوي الفروض، وأن بني الأعيان والعلات ملحقون بالعصبة، وانتقد صنيعهم في ذلك، وفسَّر آية الكلالة تفسيرًا بعيدًا، وقال: إن الفقهاء ظلموا الأَقرباء لأنهم جعلوا الأباعد من أولاد الأم ذوي فرض، والأقربين من بني الأعيان والعلات عصبة، وهي لا ترث إلا ما بقي من ذوي الفروض. وتوصَّل إلى أن أولاد الأم ليسوا بذوي فرض، بل حكمهم كحكم سائر الإخوة والأخوات، وهم يرثون إذا لم يكن هناك أحدٌ من بني الأعيان والعلّات. _________ (1) مجلة "طلوع إسلام" (عدد يناير 1956) ص 15. (2) أول ما نُشر في مجلة "معارف" (عدد يوليو وسبتمبر 1919 م)، ثم طُبع مستقلًّا.

(مقدمة 16/55)


ونفى أن يكون الجد والجدة من ذوي الفروض، لأنه ليس لهما فرضٌ مقدر في الكتاب، ولم يأخذ بالسنة والآثار الواردة في هذا الباب، بل استهزأ بها وقال: أشكلت مسألة الجد على عمر رضي الله عنه حتى قضى فيها بمئة قضية. وأنكر العصبة وتعريفَ الفقهاء للعصبة (وهو: كل من ليس له فرض معيَّن في كتاب الله، ويأخذ من التركة ما أبقته أصحاب الفرائض)، وافترض مسائل يرى فيها خللًا عظيمًا بسبب هذا التعريف، وخالف الحديث الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلِأَولَى رجلٍ ذكرٍ"، فقال: إنه ليس بحكم كلّي، بل قضى به - صلى الله عليه وسلم - في قضية خاصة، وتوصَّل إلى أن العصوبة ليست بشيء، وأن المال كله للأقربين. وخالف تعريف الفقهاء لذوي الأرحام (وهم أقرباء الميت الذين ليسوا بذوي فرضٍ ولا عصبة) وتقسيمهم أربعة أقسام، وقال: إن هذا كله ليس عليه دليل ولا برهان، بل هو مناقض للقرآن، ورأى أن ذوي الأرحام كالعصبة ليسوا من الوراثة في شيء إلَّا أن يكونوا أقربين. وهذا المعنى هو المراد في قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأحزاب: 6]، فالأقرباء من الأصول والفروع والأطراف ــ كالوالدين والأولاد والإخوة والأخوات والأعمام ــ كلهم داخلون في ذوي الأرحام. ويطول بنا الكلام لو استعرضنا أراءه الشاذة في العول والرد والحجب وغيرها من القضايا، وأخطاءه في تفسير آيات الوراثة، وقد أشرنا إلى بعض

(مقدمة 16/56)


ما في كتابه من الضلالات لبيان أنه يهدم علم المواريث المجمع عليه. فانبرى له بعض علماء الهند وقاموا بالرد عليه باللغة الأردية (1). ولما كان العلامة المعلمي في الهند آنذاك، وأدرك خطورة هذا الأمر، ألَّف هذه الرسالة التي بين أيدينا، وقد سمّاها الأستاذ عبد الله المعلمي في ترجمته للشيخ: "إغاثة العلماء من طعن صاحب الوراثة في الإسلام"، ولم أجد هذا العنوان بخط المؤلف. توجد النسخة الخطية منها ضمن مجموع في مكتبة الحرم المكي برقم [4701] (الصفحات 1 - 26، 33 - 39، 54 - 58، 67 - 74، 81 - 84، 92 - 100) بخط المؤلف، وقد كانت مضطربة الأوراق، فقمتُ بترتيبها حسب سياق الكلام، وفي النسخة تخريجات وإضافات كثيرة تبدأ من صفحة وتنتقل إلى صفحة أخرى، وشطبٌ في مواضع وبياضات في أخرى. ويبدو أنه كتب لبعض مباحثها تكملة في دفتر آخر يشير إليها بالصفحات بعدما يذكر بعض العبارة من أولها، ولم أجد هذه التكملة ضمن مسوَّدات المؤلف. وقد بنى المؤلف كتابَه ــ كما ذكر في أوله ــ على تفسير الآيات التالية: 1 - آية الوصية [سورة البقرة: 180]. 2 - آية الوصية للزوجة [سورة البقرة: 240]. 3 - {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ ... } الآيات [سورة النساء: 7 - 12]. 4 - {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ... } [سورة النساء: 176]. _________ (1) ردَّ عليه الشيخ أبو الحسنات الندوي في مجلة "معارف" (عدد يوليو 1923 م) وآخرون.

(مقدمة 16/57)


5 - {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ ... } [سورة النساء: 33]. 6 - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا ... وَأُولُو الْأَرْحَامِ ... } [سورة الأنفال: 72 - 75]. 7 - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ... } [سورة المائدة: 106]. وقال: "فلنبدأ بتفسير الآيات على هذا الترتيب، ثم نقتصُّ أثر الجيراجي على حسب ترتيبه". والمسوَّدة التي وصلتنا تحتوي على تفسير الآيات الأربع الأولى، ثم الردّ على الجيراجي فيما قاله بشأن آية الوصية، وبيان أنها منسوخة بدلالة الكتاب والسنة والإجماع، ثم الكلام على ذوي الفروض وأن أولاد الأم منهم، ثم الكلام على العصبة وسياق أدلة القول بالتعصيب والردّ على ما قاله الجيراجي، ثم الكلام على ذوي الأرحام ومناقشة الجيراجي فيما قاله. وبقي الكلام على "العَوْل" الذي عنونَ له المؤلف في المسوَّدة (ص 74)، وترك بعده بياضًا، وأشار في أثناء الرسالة إلى مبحث "الحجب" كثيرًا، ولكنه لا يوجد في المسوَّدة، فهل كتب المؤلف هذين المبحثين في الدفتر الآخر أو لم يتمكن من كتابتهما؟ لا نستطيع الجزم بشيء من ذلك. وقد خالف الجيراجي الجمهورَ في العول والحجب، وعنون لهما في كتابه، ولذا أراد المعلمي مناقشته في هذين البابين أيضًا. ولكن المسوَّدة للأسف تخلو من الكلام عليهما، ويوجد فيها (ص 81 - 84، 92 - 100) بدلًا من ذلك تفسير قوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ ... } [سورة النساء: 11] مرتين، فأثبتناه كما هو، لما فيه من زيادة الفائدة

(مقدمة 16/58)


على ما ذكر من تفسير الآيات سابقًا، وتوضيح لبعض المباحث في المواريث وأسباب اختلاف العلماء فيها.

  21 - مسألة منع بيع الأحرار:

توجد مخطوطتها في مكتبة الحرم المكي برقم [4696]، وقد كتب فيها الشيخ أربع مرات لأهميتها، فإنهم كانوا آنذاك يبيعون الأحرار ويجعلونهم رقيقًا دون بينة ولا شهادة، بل يُكرِهونهم على الإقرار بأنهم عبيد، وكان القضاة يوافقونهم على ذلك، ولا يسمعون الشهادة ولا يقبلون الدعوى. فأراد الشيخ أن يحرّر المسألة بأدلتها، فنقل كلام الفقهاء والشراح من كتب الفقه الشافعي، وترجَّح لديه إثبات البينة وسماع شهادة الحسبة. بدأ الشيخ الرسالة الأولى منها ببيان أهمية الحرية وعِظَمها، وفضل عتق الرقبة في الكتاب والسنة، وذكر أن سبب الرقّ أصله الكفر، وإنما يُسترقُّ الكافر بالسبي أو الأسر أو نحوه، وهذا من مدة طويلة إن لم يكن مفقودًا فنادر. وأما غير الكافر فإنما يُسترقّ بتبعيته له. ثم ذكر حكم الإماء المجلوبة في حال الجهل أنه لا يجوز بيعها ولا شراؤها، كما حرَّر السبكي الأحكام المتعلقة بهنَّ، ثم تحدَّث عن كيفية ثبوت الرقّ، فقال: إنما يثبت باليد أو بالبينة أو بالإقرار ونحو ذلك، وفصَّل في ذكر الشروط المتعلقة بكل قسم منها، ونقل نصوص الفقهاء الشافعية فيما إذا ثبت الإقرار المعتبر فهل تُسمَع الدعوى بعده؟ وقرَّر أن الإقرار بالرقّ لا حكمَ له لغلبة السفه وعدم المعرفة، وقيام أمارة الإكراه، مع غلبة الحرية ــ وهي الأصل ــ وندورِ الرقّ المتيقن. فعليه كلُّ مسترَق ادَّعى الحرية فالقول قوله بيمينه، سواء سبق منه إقرار بالرق

(مقدمة 16/59)


أم لا، إلّا أن يقيم مسترِقُّه بينةً برقِّه. وحذَّر المؤلف من التساهل في هذا الأمر، فإنه من أخطر الخطر، ثم قدَّم ما كتبه للإمام الإدريسي للنظر فيه. وأشار في آخره أنه أراد أن ينقل عبارات شرّاح المنهاج والمنهج والحواشي في أبواب مختلفة فلم تساعده العزيمة. وقد بدأ الرسالة الثانية بذكر ضياع حقوق الله بين الناس وفُشوّ السوء والفحشاء بينهم، ومن ذلك ما شاع من بيع الأحرار وإكراههم على الإقرار. وربما يحضر بعض هؤلاء العبيد إلى القاضي فيدَّعي الحرية، أو تجيء شهادة حسبة، فلا يسمعها اعتمادًا على ظاهر كلام أهل المذهب. ونظرًا إلى أهمية هذا الموضوع نقل المؤلف هنا من أبواب مختلفة من المنهاج والتحفة والحاشية للشرواني لإيضاح هذا الحكم في الفقه الشافعي، ثم قدَّم ما كتبه للإمام الإدريسي للنظر والجزم بما تبرأ به الذمة، وهو بحمد الله من العلم والتحقيق بمرتبة الاجتهاد. وذكر في أول الرسالة الثالثة أنه قد حمله على تأليفها ما طرأ على الناس من أحكام الأرقاء، وجرأة كثير من الناس على بيع الأحرار، مع إكراههم على الإقرار أو ترغيبهم به. ومع ذلك فإن بعض الحكَّام يقضي بمجرد الإقرار بالرقّ، ولا يقبل دعواه الحرية، ولا يسمع شهادة الحسبة. فأحبَّ المؤلف أن يذكر هنا عبارات كتب الفقه الشافعي، للردّ على هؤلاء القضاة، وتقرير ما يراه المؤلف من سماع البينة على الحرّية. وفي أول الرسالة الرابعة ذكر أنه وقعت المذاكرة فيما اشتهر آنذاك في بعض البلدان من بيع الأحرار والاعتماد على الإقرار، وما يقضي به بعض الحكام من عدم سماع دعوى من أقرَّ بالرقّ إذا ادَّعى الحرية، وعدم سماع

(مقدمة 16/60)


شهادة حسبة على ذلك، كيف حكمه؟ فذكر المؤلف نصوص كتب الفقه الشافعي، وتوصَّل إلى أن الحرية من أعظم حقوق الله تعالى، والأصلية أولى من العتق، ولا فرقَ بين كون العتق وقع ممن يريد أن يتملكه أو يبيعه أو من غيره. فالذي يظهر أن شهادة الحسبة لا تُردُّ في هذا، إذ هو مما لا يتأثر برِضا الآدمي. وبه انتهت الرسالة الرابعة. وقد تناول المؤلف هذا الموضوع في كل رسالة من هذه الرسائل بأسلوب مختلف وبخطبة جديدة وتمهيد مستقل، ففي بعضها اهتم بذكر نصوص الفقه الشافعي، وفي بعضها ذكر أحكام الإماء المجلوبة حسب ما فصَّلها السبكي، وفي بعضها تحدَّث عن أحكام الإقرار وشهادة الحسبة، وفي بعضها تكلَّم عن فضل عتق الرقبة في الإسلام. ويبدو أن الشيخ كان مهتمًّا جدًّا بهذه النازلة، وأراد من الإمام الإدريسي أن يَبُتّ في الأمر للقضاء على ظاهرة بيع الأحرار، وتوجيه القضاة إلى سماع دعوى الحريّة وإقامة البينة عليها بعد الإقرار بالرق، واعتبار شهادة الحسبة في هذا الأمر، لدفع المفاسد المترتبة على الرق.

  22 - أسئلة وأجوبة في المعاملات:

لم يضع لها الشيخ عنوانًا في مخطوطته التي وصلتنا منها بمكتبة الحرم المكي برقم [فلم 3555] في 7 ورقات، وعنون لها المفهرس "رسالة أسئلة وأجوبة في البيع". وقد بدأها الشيخ بتعريف البيع وما الذي يجوز بيعه وما الذي لا يجوز بيعه، والبيوع المنهي عنها في الأحاديث وتفسيرها، ثم عقد باب الربا تحدث فيه عما يتعلق به، ثم باب بيع الأصول والثمار، وباب الخيار، تكلم فيه عن أقسامه السبعة وأحكامها، وبعده باب السَّلم وباب

(مقدمة 16/61)


القرض وباب أحكام الدين. وفي الأخير عنونَ باب الحوالة والضمان، ولم يكتب بعده شيئًا. والرسالة بصورة سؤال وجواب بأسلوب سهل مبسط، لعلَّ الشيخ ألَّفها لطلاب العلم الذين يصعب عليهم فهمُ ما في المتون الفقهية المختصرة، التي يتشعب فيها الكلام، ويكثر ذِكْرُ الاختلافات والحدود والقيود، وكل ذلك باختصار شديد وإيجاز مخل بالمعنى. فأراد الشيخ أن يوضح أبواب المعاملات بطريقة السؤال والجواب، فإنها أدعى إلى فهمها واستيعابها. ولم يُكمل الشيخ للأسف هذه الرسالة، وتوقف عند باب الحوالة والضمان، ومع ذلك فما كتب منها يصلح أن يكون أنموذجًا يُحتذى لتدريس الفقه للمبتدئين والمتوسطين، وينبغي أن يُؤلَّف في جميع أبواب الفقه على هذا المنوال. وقد حاول بعضهم ذلك فيما صدر من كتب ورسائل، ولكنها لا ترقى إلى مستوى رسالة المؤلف هذه في الوضوح والاختصار، واستيعاب أهم الموضوعات ورؤوس المسائل في الباب، دون التعرض لاختلافات الفقهاء والمناقشات.

  23 - الإسلام والتسعير ونحوه (أو) حول أجور العقار:

كتب الشيخ مرتين في هذا الموضوع، وذكر كلًّا من هذين العنوانين بخطه في أول كل كتابة بعد البسملة، وهما في مجموعة واحدة ضمن مكتبة الحرم المكي برقم [4694]. والكتابة الأولى في ثلاث صفحات، والثانية في صفحتين. ولعلَّ الشيخ كان يريد أن يتوسع في الكلام على هذا الموضوع المهم، ولكنه لم يتفرغ لذلك بسبب أشغاله الأخرى.

(مقدمة 16/62)


بدأ الشيخ الكتابة الأولى بالإشارة إلى كثرة الضجيج من ارتفاع أجور العقار، وكتابة أحد العلماء في هذا الباب بما يفهم منه أن غلوّ الملّاك في زيادة الأجور عمل مذموم، فهو إما حرامٌ عليهم وإما قريبٌ منه. وما دام الأمر كذلك فعلى ولي الأمر منعُ الناس منه، وعليهم طاعته كما في الكتاب والسنة، وقد أورد المؤلف بعض هذه النصوص. ثم ذكر أن أحاديث التسعير ليس فيها نهيٌ عنه، وإنما فيها أن الناس طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُسعِّر فقال: "إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعِّر، وإني لأرجو أن ألقى الله عزَّ وجلَّ ولا يطلبني أحدٌ بمظلمة ظلمتها إياه في دمٍ ولا مال". فهذه واقعة حال، وقوله هذا تعليل للامتناع عن التسعير في تلك الواقعة. ويحتمل أن يكون غلاء السعر الذي حدث حينئذٍ لم يكن مصطنعًا، فليس للإمام أن يسعّر حتى يتبينَّ له جَشَعُ التجار وتواطؤهم. وتكلم بعد ذلك عن أحاديث النهي عن الاحتكار، وما رُوي عن سعيد بن المسيب ومعمر أنهما كانا يحتكران حملَه على وجهٍ غير الوجه المنهي عنه، فإن التمر مثلًا يكثر في الموسم ويُعرَض للبيع، فشراء التاجر حينئذٍ وادخاره إلى أن يحتاج الناس إلى التمر لقوته، وحينئذٍ ترتفع الأسعار في الجملة، فيُخرِجه للبيع، عملٌ لا تظهر فيه مفسدة، بل لو مُنِع التجار من الشراء حينئذٍ لتضرَّر أهل النخل. فهذا ــ والله أعلم ــ هو الذي كان يفعله معمر وسعيد، فلا يُترك لأجله العمل بالنهي عن الاحتكار. وبهذا ينتهي الكلام في الكتابة الأولى. أما الكتابة الثانية فهي بعنوان "حول أجور العقار". وقد بدأها الشيخ أيضًا بذكر ارتفاع أجور العقار، وأن الشيخ عبد الله الخياط وغيره كتبوا في

(مقدمة 16/63)


ذلك، والقضية تحتاج إلى تحقيق علمي مُشبِع. وتواضع المؤلف فذكر أنه لا يزعم أنه أهل له، ولكنه سيحاول كتابة ما عسى أن يكون حافزًا لمن هو أهل له على النظر في القضية وفصْل القول فيها. ثم أدار الحوار بين أرباب العقار وغيرهم في هذه القضية، وفيه احتجاج كل فريق لما ذهب إليه، وأطال في ذكر حجج أصحاب العقار، وتوقف في أثنائها، ولم يتمكن من استيفاء الكلام في الموضوع، ولعله لم يجد الفرصة لذلك.

  24 - مناقشة لحكم بعض القضاة في قضية تنازع فيها رجلان:

توجد نسختها الخطية في مكتبة الحرم المكي برقم [4690] في ثلاث صفحات طوال، وهي ليست بخط المعلمي، ولعله أملاها على كاتبه عند ما كان شيخ الإسلام عند الإدريسي، ثم أضاف إليها إضافاتٍ بخطه في مواضع عديدة في الهوامش. وموضوع الرسالة يدور حول نقض المعلمي لقضاء قاضٍ في قضية تشاجر فيها رجلان، وفيها بحث مسائل في الدعوى والشهادة واختلاف البينات وتعارضها، ومسألة غرز الأخشاب في جدار الغير. وقد ذكر فيها أولًا أنه ليس من وظيفة المدَّعي والمدعى عليه بيان الأحكام الشرعية، بل وظيفتهما الدعوى والإجابة بشروطها المعروفة، وأن دعوى الحسبة المعتمد قبولُها فيما تُقبل فيه شهادتها غير حقوق الله المحضة، لكنها لا تُسمَّى حسبة إلّا إذا كانت ممن لا يجرُّ بها لنفسه نفعًا أو يدفع بها ضررًا. وذكر أنه يُشترط لأداء الشهادة لفظ "أشهد"، ولا يكفي لفظ

(مقدمة 16/64)


"أعلمُ" كما صرَّحوا به، فالشهادة الموردة من طرف المدَّعي بهذا اللفظ باطلة. وعلى فرض صحتها فقد عارضتها الشهادة الواردة من طرف المدعى عليه، ولاسيَّما المصرِّحة بالملك. ثم تحدث عن اختلاف البينات وتعارضها، ونقل من كتب الشافعية ما يخالف حكم القاضي في هذه القضية، ففيها: "لو وُجِدتْ دكّة في شارع ولم يُعرَف أصلُها، كان محلُّها مستحقًّا لأهلها، فليس لأحدٍ التعرض لها بهدمٍ وغيره ما لم تقم بينة بأنها وُضِعتْ تعديًا". وبهذا يظهر بطلان ما حكم به الحاكم من هدم الدكاكين المذكورة، بل الحق الذي لا ريب فيه بقاؤها على ما هي عليه. ثم تكلم عن مسألة غرز الأخشاب في جدار الغير، فإن المدَّعي ذكر في دعواه مذهب الشافعي خلاف ما هو مثبت في الكتب المعتمدة، وحكم الحاكم بمضمون ذلك. فبيَّن المؤلف صوابَ ذلك نقلًا عن "المنهاج"، وذكر أنه عكس ما فهمه المدَّعي والقاضي.

(مقدمة 16/65)


رسائل المجلد الثالث (1)

  25 - مسائل القراءة في الصلاة والردّ على أحد شرَّاح الترمذي:

توجد نسخته الخطية في مكتبة الحرم المكي برقم [4695] ضمن دفتر طويل في 94 صفحة حسب ترقيم المؤلف، إلَّا أن إحدى عشرة صفحة من أولها (بعد المقدمة) لا توجد ضمن الدفتر، ولم نجدها في مسوّدات المؤلف الأخرى. وتوجد في أثنائها صفحات عديدة غير مرقمة، وكأنها كانت مسوَّدات من الكتاب كتبها الشيخ وتركها كما هي، وفي بعضها تكرار لما كتبه في المبيَّضة، وبعضها جديد يحتوي على إضافات ومناقشات مهمة تخلو منها المبيَّضة، فاستخرجنا هذا الجديد وألحقناه بآخر الكتاب، واستغنينا عن المكرر الذي ليس فيه أيّ إضافة. والنسخة أصابها بلل في بعض الصفحات، وفيها إلحاقات وزيادات كثيرة في الهوامش، وشطب وضرب على بعض الصفحات والأسطر. وكان سبب التأليف كما ذكر المؤلف في المقدمة أنه وقف على شرحٍ لـ"جامع الترمذي" لأحد علماء الحنفية من المعاصرين، اعتنى فيه بالمسائل الخلافية وسرْد الأدلة وتنقيحها روايةً ودرايةً، وقد طالعه المؤلف من أوله إلى أواخر كتاب الصلاة، فظهرت له مواضع تحتمل التعقُّب والمناقشة، فقيَّد ذلك، ثم رأى أن الكلام في مسائل القراءة في الصلاة يطول، فأفرده مرتبًا في هذا الكتاب. _________ (1) هذه الرسائل عثرنا عليها بعد الانتهاء من تحقيق الرسائل السابقة، فأفردناها في المجلد الثالث، وعرَّفنا بأصولها ومحتوياتها هنا.

(مقدمة 16/66)


وقد جاء في بالي في أول الأمر أنه أحد الشروح المعروفة لعلماء الحنفية في الهند، مثل "الكوكب الدرّي" للشيخ رشيد أحمد الكنكوهي (ت 1323)، أو "العرف الشذي" للشيخ أنورشاه الكشميري (ت 1352)، أو "الطيب الشذي" للشيخ أشفاق الرحمن الكاندهلوي (ت 1377). ولكن بعد مراجعتها ظهر لي أن الشرح المقصود غير هذه الكتب. ويبدو أن مؤلفه أحد علماء حيدرآباد، فإن الشيخ ذكره في أثناء "جواب الاستفتاء عن حقيقة الربا" وأشار إلى أنه أستاذ صاحب "الاستفتاء". فقال: "وقد سلك بعض متأخري الحنفية مسلكًا رديئًا في التفصّي من الأدلة التي تخالفهم من الكتاب والسنة، وذلك أن أحدهم يذكر الدليل ثم يبيِّن صورةً قد خُصَّت من عمومه ويقول: هذا متروك الظاهر إجماعًا. ويرى أنه بذلك قد أسقط الاستدلال بذلك الدليل البتة. وكثيرًا ما يسلكه صاحب الاستفتاء وأستاذه في "شرح سنن الترمذي"، ولعله يُنشر فيقف العلماء على ما فيه من العجائب" (ص 447). وقال: "وهذه قاعدة أخرى له ولأستاذه في "شرح الترمذي"، يَعمِد إلى الأحاديث التي تخالفه وتكون بغاية الصحة، فيذكر اختلافًا لفظيًّا أو قريبًا منه أو معنويًّا، والترجيح ممكن، فيزعم ذلك اضطرابًا قادحًا. وليس هذا سبيل أهل العلم" (ص 460). أفادنا المؤلف أن شارح الترمذي هذا أستاذ صاحب "الاستفتاء" وأن شرحه لم يُنشَر حتى يطلع العلماء على غرائبه وأوهامه، وأنه اتخذ منهجًا لردّ الأحاديث الصحيحة والتفصّي منها مما لا يوافقه عليه أهل العلم. والكتاب الذي بين أيدينا ناقش فيه المعلمي الشارحَ المذكور، ووصفه

(مقدمة 16/67)


أحيانًا بـ"المفتي" (ص 42، 43 وغيرها). وقد كان المفتي آنذاك في مدينة حيدرآباد السيد محمد مخدوم الحسيني مفتي المدرسة النظامية، وكان بينه وبين المعلمي علاقة كما يظهر من الرسالة السابعة والعشرين. فهل الشارح هو المفتي المذكور؟ وسواء كان هو أو غيره فأين شرحُه على الترمذي الآن؟ لقد بحثنا عنه في فهرس مكتبة الجامعة النظامية بحيدرآباد، فلم نعثر عليه. ولو وجدناه لاستفدنا منه في تصحيح هذا الكتاب وترتيبه، فقد اقتبس المعلمي نصوصًا كثيرةً منه في أوراق متفرقة دون ترقيم، ثم ردّ عليها وأطال الكلام في المناقشة. تكلَّم المؤلف في هذا الكتاب على ست مسائل، وناقش شارح الترمذي فيها: 1 - [المسألة الأولى: هل يجب قراءة الفاتحة في الصلاة؟ ]. لم يظهر عنوان هذه المسألة بسبب ضياع الصفحات الأولى من الكتاب، إلّا أن الكلام فيها على أحاديث وجوب القراءة في الصلاة، وتخريجها وبيان معناها وما يستنبط منها. وقد بيَّن المؤلف هنا ما وقع فيه شارح الترمذي من أخطاء في الكلام على الأحاديث. 2 - المسألة الثانية: هل تجب الفاتحة في كل ركعة؟ استدلَّ بالأحاديث على الأمر بالفاتحة في كل ركعة. واختصر المؤلف الكلام هنا، فلم يزد على صفحة. 3 - المسألة الثالثة: هل تجب الزيادة على الفاتحة؟ تكلم فيها على حديث: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدًا" كما ورد في بعض رواياته، وقد فصَّل القول في زيادة "فصاعدًا"، وردَّ على شارح الترمذي فيما

(مقدمة 16/68)


ذهب إليه من بيان معنى "فصاعدًا" في الحديث، وتوسَّع في مناقشته في ضوء أقوال أئمة اللغة، مع بيان نظائره في الأحاديث والآثار. 4 - المسألة الرابعة: قراءة المأموم الفاتحة. وقد أطال فيها الكلام أكثر من مئة صفحة، استعرض فيها أدلة من أوجبها، ثم أدلة القائلين بأن المأموم لا يقرأ مطلقًا أو لا يقرأ فيما يجهر فيه الإمام، وتكلم بتفصيل على آية الإنصات وسبب نزولها، وحديث: "وإذا قرأ فأنصتوا"، وحديث: "ما لي أنازع القرآن"، وقول الزهري: "فانتهى الناس عن القراءة ... "، وحديث: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة"، وحديث أبي بكرة: "زادك الله حرصًا ولا تعُدْ"، ودعوى الإجماع على عدم القراءة خلف الإمام، وغير ذلك من الموضوعات والأبحاث. 5 - المسألة الخامسة: هل يزيد المأموم في الأُولَيين من الظهر والعصر على الفاتحة؟ ذكر المؤلف أولًا أدلة المنع من ذلك وأجاب عنها، ورجَّح الجواز، واستدلَّ لذلك ببعض الأحاديث والآثار. 6 - المسألة السادسة: إذا كان المأموم أصمَّ أو بعيدًا عن الإمام لا يسمع قراءته، فهل يقرأ غير الفاتحة والإمام يجهر؟ ذكر فيها أن ظواهر الأحاديث المنعُ من ذلك من حيث ألفاظها، أما من حيث المعنى فالظاهر عدم المنع. ثم قال: والذي أختاره لنفسي عدم القراءة بغير الفاتحة لظواهر الأحاديث، ولأنه قد يُخِلّ باستماع غيره من المقتدين الذين يسمعون، وهذا ظاهر في الأصمّ وممكن في البعيد. إلى هنا ينتهي الكلام على المسائل الست، وبعده أوراق متفرقة كتبها المؤلف في الرد على شارح الترمذي ووضعها في أثناء الكتاب في مواضع،

(مقدمة 16/69)


فأفردناها وألحقناها بآخره، وفيها نقول من كلام الشارح ثم الرد عليه ومناقشته.

  26 - مسألة في إعادة الإمام الصلاةَ دون من صلَّى وراءه في الجماعة:

توجد نسختها ضمن المجموع رقم [4696] في ثلاث صفحات، وفيها السؤال والجواب. والسؤال هو ما دليل قول الفقهاء: "لو بان حدثُ الإمام بعد الصلاة وقد صلَّى بجماعة، لزمته الإعادة دونهم". بدأ المؤلف الجواب ببيان أن الأصل في جميع الأعمال عدم الوجوب، فلا يجب علينا شيء إلا بدليل، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، فلا يلزم من بطلان صلاة الإمام بطلانُ صلاة المأموم إلّا حيث وقع من المأموم تقصير. ولا يُنكَر أن بين الإمام والمأموم رابطة قوية، بحيث يؤدي تمام صلاة الإمام إلى تمام صلاة المأموم ونقصُها إلى نقصها، وكذا العكس. أما أن يؤدي بطلانها إلى بطلانها فلا يطلق ذلك. وقد استدل على ذلك ببعض الأحاديث والآثار.

  27 - صيام ستة أيام من شوال:

توجد نسخته بخط المؤلف في مكتبة الحرم المكي برقم [4911] في 15 صفحة طويلة. وفيها زيادات واستدراكات وضرب وشطب في بعض الصفحات، وملاحق وتتمات في مواضع. وهي تامة من أولها إلى آخرها، وقد حصل اضطراب في ترتيب بعض الصفحات، إلّا أن ترقيم المؤلف عليها يدلُّنا على الترتيب الصحيح.

(مقدمة 16/70)


وقد ألَّف الشيخ هذه الرسالة ردًّا على من قال: إن صيامها بدعة، وإن حديثها موضوع لأنه تفرد به سعد بن سعيد الأنصاري، وقد طعن فيه أئمة الحديث. فردَّ على كونه بدعةً ببيان صحةِ الحديث، وعملِ بعض الصحابة والتابعين به، وإطباق المذاهب على استحباب صيامها. وأما القول بأنه موضوع فلا يُتصوَّر أن يصدر عن عارفٍ بالحديث، وأعجب من ذلك توجيه وضعه بأنه تفرد به سعد بن سعيد. قال المؤلف: "وستعلم حال سعد وتَعلم طرقَ الحديث". ثم ذكر أن هذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقف المؤلف على رواية عشرةٍ منهم، وتكلم عليها في عشرة فصول: الفصل الأول: في حديث أبي أيوب. الفصل الثاني: في حكم الحديث. الفصل الثالث: في المتابعات. الفصل الرابع: في حديث ثوبان. الفصل الخامس: في حديث أبي هريرة. الفصل السادس: في حديث جابر. الفصل السابع: في بقية الأحاديث. الفصل الثامن: في الآثار. الفصل التاسع: في مذاهب الفقهاء. الفصل العاشر: في معنى الحديث.

(مقدمة 16/71)


أطال المؤلف الكلام في هذه الفصول، وقام بتحقيق جميع الأحاديث والآثار وبيان مذاهب الفقهاء بما يشفي ويكفي. وقد سبقه إلى التأليف في هذا الموضوع بعض المؤلفين، فللدمياطي (ت 705) "تحرير الأقوال في صوم الست من شوال"، وللعلائي (ت 761) "رفع الإشكال عن صيام ستة من شوال"، ولقاسم بن قطلوبغا (ت 879) "تحرير الأقوال في صوم الست من شوال" طبع في لقاء العشر الأواخر رقم 26، ولمحمد بن طولون الصالحي (ت 953) "تكميل الأعمال بإتباع رمضان بصوم ست من شوال" ذكره في "الفلك المشحون" (ص 88)، ولمرتضى الزبيدي (ت 1205) "الاحتفال بصوم الستّ من شوال". وجمع ابن الملقّن (ت 804) طُرق هذا الحديث وتكلم عليها في "تخريج أحاديث المهذب" كما أشار إليه في "البدر المنير" (5/ 752) وجمع العراقي طرق الحديث عن بضعة وعشرين رجلًا رووه عن سعد بن سعيد، كما في "فيض القدير" للمناوي (6/ 161). ولم يطلع المؤلف على شيء من هذه المؤلفات، بل قام بتتبع كتب الحديث والرجال والفقه بنفسه، وألَّف هذه الرسالة التي بين أيدينا.

  28 - جواب الاستفتاء عن حقيقة الربا:

وصل إلينا هذا الكتاب في دفترين: الأول في مكتبة الحرم المكي برقم [4244]، ويحتوي على المقدمة والقسم الثاني، وهو دفتر صغير عادي، والنص فيه ضمن الأوراق (5 - 42)، وقد أشار المؤلف في الورقة (13/ب) إلى "ملحق طويل ص 333"، وقد وجدناه في الدفتر الثاني، فنقلناه إلى مكانه، وهذا الملحق في 12 صفحة من القطع الطويل.

(مقدمة 16/72)


والثاني برقم [4686]، ويحتوي على القسم الأول من الكتاب كما أشار إليه المؤلف في آخره. وهو دفتر طويل في 50 صفحة. ويلاحظ أن الصفحة 15 في الواقع 6 صفحات، رقَّمها المؤلف 15/ 1، 15/ 2 ... وهكذا إلى الأخير. والأوراق الستة الأولى من المخطوط مخرومة الأطراف ومبلولة، ذهب بسببها كثير من الكلمات والجمل في أعلى الصفحات وجوانبها، فأثبتنا ما استطعنا أن نقرأ منها، وتركنا البياض لما ضاع، ولا سبيل إلى استرجاعها إلَّا إذا وُجِدت نسخة أخرى، والأمل في الحصول عليها ضعيف. كان سبب تأليفه أن بعض الفضلاء في حيدرآباد نشر سنة 1347 رسالة بعنوان "الاستفتاء في حقيقة الربا" أجلب فيها بخيله ورَجِله لتحليل ربا القرض، وأُرسِلتْ من طرف الصدارة العالية (مشيخة الإسلام) إلى علماء الآفاق لِيُبدوا رأيهم فيها (1). فوردتْ بعض الأجوبة منهم، وأجودها جواب الشيخ أشرف علي التهانوي (ت 1362) بعنوان "كشف الدجى عن وجه الربا"، حرَّره الشيخ ظفر أحمد التهانوي تحت إشرافه. وقد راجع الشيخ المعلمي صاحب رسالة الاستفتاء وناقشه في بعض المباحث، وأراد أن يكتب عنها جوابًا بعد ما تنبَّه لدقائق في أحكام الربا وحِكَمه، واطلع على كلام الشاطبي في "الموافقات" وغيره، فألَّف هذا _________ (1) نشر السيد رشيد رضا نصَّ الاستفتاء في مجلة "المنار" ثم ردَّ عليه وكتب مقالًا طويلًا في الربا (30/ 273، 419، 449).

(مقدمة 16/73)


الجواب وقسَّمه قسمين: الأول لبيان أحكام الربا وأنواعه، والثاني في البحث مع صاحب الاستفتاء. أما القسم الأول فسوف نلقي نظرةً سريعة لمعرفة محتوياته. بدأه الشيخ بمعرفة الحِكَم للأحكام الشرعية، وفوائد البحث عنها، ثم تطرق إلى الكلام على البيع وبيَّن أصوله، ثم انتقل إلى الحديث عن الربا، وأن ما ينشأ عنه من المفسدة غير موجود في البيع والقرض والهبة، وردّ على أولئك الذين يقولون: إن الربا ليس بظلم لكونه برضا الطرفين مثلما هو في البيع، ولأن فيه فائدةً للمقرض (لما يحصل له من النفع) والمستقرض (لأنه يتجر به فيستفيد). كما ردّ على شُبههم في بيان مضرة القرض (بدون ربا) بالنسبة للمقرِض، وذكر فوائد كثيرة للإقراض بدون ربًا. ثم وضع عنوان "مفاسد الربا"، وقدم لها بتمهيد في بيان أن المقصود من تشريع الأحكام هو تطبيق العدل، ومن أجله وُضعت العقوبات، وتحدث على سبيل المثال عن عقوبة الزنا لبيان أن حكمة التشريع تقتضي أن يكون بناء الأحكام على الغالب، وأن سنة الله فيها التدريج. ثم انتقل إلى الكلام على مفاسد الربا، وتوصَّل في النهاية على أن مَنْع الربا يضطرُّ كلَّ فردٍ من الأفراد إلى أن يكون عضوًا عاملًا نشيطًا، ينفع الناس وينتفع، ويفتح باب الغنى لأهل الكدّ والعناء، ويستخرج الأموال من أيدي من لا يستحقها. وبعد إيضاح الفرق بين البيع والربا ووجه التحليل والتحريم في الشريعة أورد سؤالًا، وهو أن الفقهاء يحلِّلون بيع السلعة نَساءً بأكثر من ثمنها نقدًا،

(مقدمة 16/74)


كما يجوِّزون أن يُسلِم الرجل عشرة دراهم في خمسة عشر صاعًا إلى الحصاد مثلًا، مع أن السعر حين العقد عشرة آصُع. فما الفرق بين المسألتين وبين الربا؟ أجاب عنه المؤلف بعدة أجوبة، وفصَّل الكلام فيها. ثم تكلم على الدين الممطول به والمال المغصوب، ولماذا لم تَفرِض الشريعة على الماطل والغاصب ربح المال مدةَ المطل والغصب عقوبةً له؟ وإنما شرعت عقوبته بالحبس والتعزير. ثم تحدث عن الربا مع الحربي الذي أجازه أبو حنيفة وحرَّمه الجمهور، وعن المضاربة التي يمكن لذوي الأموال من العجزة والكسالى أن يربحوا فيها ولكن بدون ضرر على غيرهم. وعنون بعد ذلك بقوله: "وجوه الربا"، وتكلم فيها عن بعض الصور التي تحتاج إلى إيضاح، مثل: العِينة، والانتفاع بالرهن (الذي يقال له: بيع العهدة، وبيع الوفاء ... إلى غير ذلك من الأسماء)، وأطال البحث فيهما، وذكر رأي الحنفية في بيع الوفاء واضطراب أقوالهم في كتبهم، وقام بتحرير المسألة على أصول مذهبهم، كما ردَّ على الحضارمة الشافعية الذين أجازوه بدعوى احتياج الناس واضطرارهم إلى هذه المعاملة، وبحثَ عن الضرورة وعن حكمها في فصل مستقل، ثم ردَّ عليهم في قولهم: إنهم لم يقصدوا الضرورة المتعارفة، وإنما أرادوا الحاجة. فأبطل المؤلف هذه أيضًا، وأدار الحوار معهم لبيان بطلانها، وذكر أن المفاسد التي تترتب على بيع الوفاء شديدة، وأشدها أنه ربًا في القرض، وعدَّد بعض المفاسد الأخرى. ثم وضع عنوان "ربا البيع"، وأورد الأحاديث الواردة في النهي عن بيع الذهب بالذهب إلَّا مثلًا بمثلٍ سواءً بسواءٍ يدًا بيد، وهكذا الفضة بالفضة إلى

(مقدمة 16/75)


آخرها، وجواز بيع جنسٍ منها بجنس آخر متفاضلًا نقدًا، ومَنْعه نسيئةً. وعقد بعد ذلك فصلًا أوضح فيه الفرق الذي ذكره سابقًا بين القرض بربًا وبين بيع السلعة بثمن إلى أجل أزيد من ثمنها نقدًا، وبين السَّلَم في سلعة إلى أجلٍ بأقل من ثمنها نقدًا، وبيَّن أن العلة في الذهب والفضة الثمنية، وفي الأربعة الباقية الطعم أو القوت مع الادخار. ورجَّح أن العلة في النهي عن بيع الفضة بالذهب نساءً هو الربا فقط لأمور ذكرها، وأن العلة في الأربعة الأخرى يحتمل أن تكون الربا، ويحتمل أن تكون الاحتكار، وأن تكون مجموع الأمرين. وفي آخر هذا القسم عقد بابين لبيان أحكام هذه الأجناس الستة: الباب الأول في تبايعها مع النسيئة، وفيه فصلان: الفصل الأول فيما اتحد فيه جنس العوضين، تكلم عليه في فرعين: الأول فيما تظهر فيه زيادةٌ ما في العوض المؤجل لا يقابلها شيء في المعجل، والثاني فيما لم تظهر فيه زيادة ما في المؤجل. وذكر صورهما. والفصل الثاني: في بيع واحدٍ من الستة بآخر منها نسيئةً. الباب الثاني في تبايعها نقدًا، ذكر فيه أن الذي حرَّمه الشارع هو البيع بالزيادة والرجحان، فقد صحَّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فمن زاد أو ازداد فقد أربى"، وأرشد إلى المخلص من ذلك بقوله: "بعِ الجَمْعَ بالدراهم، ثم اشترِ بالدراهم جَنِيبًا"، وقال: "فاذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيدٍ". وتكلم المؤلف على معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ربا إلَّا في النسيئة"، وبيَّن كيف جمع العلماء بينه وبين الأحاديث الأخرى، ورجَّح أن الربا في عرف اللغة خاصّ بالنسيئة، وقد دلَّ القرآن وحديث "لا ربا إلّا في النسيئة" على أنه في

(مقدمة 16/76)


الشرع كذلك، وإطلاق الربا في البيع المحرم نقدًا إنما هو من باب التشبيه، والجامع بينهما أن كلًّا منهما زيادة محرمة. وخصَّص فصلًا للكلام على الاحتكار وإيضاح علاقته بهذا الحكم، تحدث فيه عن احتكار الذهب والفضة، واحتكار بقية الأصناف، وتوصل إلى أن الربا والاحتكار أخوان، يتعاونان على الظلم والعدوان، ولذلك حرَّمهما الشرع. وذكر في الخاتمة ملخَّص ما ذكره سابقًا في موضوع الربا والاحتكار، وقال في آخرها: "المسألة تستدعي بسطًا لا أرى هذا محله". وأشار إلى أن هذا نهاية القسم الأول. أما القسم الثاني من الكتاب فهو في البحث مع صاحب الاستفتاء. ذكر المؤلف أولًا خلاصة الاستفتاء، وقال إن صاحبه لخَّصه في أربعة مقاصد: الأول: أن الربا المنهي عنه في القرآن مجمل عند الحنفية وغيرهم. الثاني: أن السنة فسَّرته بحديث عبادة وغيره: "الحنطة بالحنطة ... " وبالآثار في ربا الجاهلية، وهو الزيادة عند حلول أجل الدين في مقابل مدّ الأجل. والقرض ليس بدَين، لأنه لا يكون إلى أجل عند الفقهاء، فعلى هذا لا يكون الربا إلَّا في البيع. الثالث: أن النفع المشروط في القرض ليس بربًا منصوص. الرابع: أن النفع المشروط في البيع لا يصح قياسه على الربا المنصوص، ولو صحَّ فالأحكام القياسية قابلة للتغيُّر بتغيُّر الزمان، فلا محيصَ من تحليله في هذا الزمان، كما قالوا بجواز الاستئجار على تعليم

(مقدمة 16/77)


القرآن والأذان والإمامة وغيرها، مع أن حرمة الاستئجار في بعض ذلك ثابت بالنص. تكلم المؤلف بعد ذلك على جميع هذه الأمور، وناقش صاحب الاستفتاء وردّ على حججه بتفصيل، وبيَّن وهاءها. وقد تكلم في أثنائها على معنى الربا في اللغة، وأنه في القرآن مبيَّن وليس مجملًا، وأن الزيادة المشروطة في القرض ربًا منصوص في الكتاب والسنة، ثم أورد بعض الشُّبه والمعارضات ودفعها. ثم عنون بقوله: "أدلة تقتضي التحريم وليس فيه لفظ الربا". ثم ذكر الإجماع على تحريم اشتراط الزيادة في القرض، ونقل بعض الآثار عن الصحابة والتابعين، وردَّ على قول صاحب الاستفتاء في أثر: إنه موقوف وليس في حكم المرفوع، وإنه متروك العمل، وإنه يعارضه الأحاديث الصحيحة، وإنه لا يصلح لبيان الربا المذكور في القرآن. وقد ناقش المؤلف جميع هذه الأمور، وتكلم على جميع الآثار الواردة في الباب، وقال في آخرها: هذه نصوص الصحابة والتابعين ما بين صحيح وما يقرب منه كلها متفقة على المنع من الزيادة المشروطة وتحريمها. وصاحب الاستفتاء لم يستطع أن يحكي حديثًا ــ ولو موضوعًا ــ ولا أثرًا عن صحابي أو تابعي أو فقيه يدلُّ على أن الزيادة المشروطة وما في معناها ليست بربًا، وإنما بيده أحاديث حسن القضاء وقياسٌ ساقط. تكلم المؤلف على أحاديث حسن القضاء والألفاظ الواردة بها، وبيَّن معناها، وردَّ على احتجاج صاحب الاستفتاء بها على تجويز اشتراط الزيادة في القرض. ثم تكلم على القياس في هذه المسألة، وناقش صاحب الاستفتاء في ذلك. ثم انتقل إلى الحديث عن تغيُّر الأحكام بتغيُّر الزمان،

(مقدمة 16/78)


وقال إن هذا جرى على ألسنة بعض العلماء يريدون به شيئًا محدودًا، فأراد دعاة الضلالة في عصرنا أن يوسِّعوا دائرتَه، بحيث يزلزلون به قواعد الشريعة من أساسها. وفي آخر الكتاب تحدَّث المؤلف عن أحوال هذا العصر، وذكر أن المرض الحقيقي هو التبذير والكسل، ونتيجتهما الفقر، ثم ينشأ عن الفقر أمراض أخرى. والذي يُرخِّص في الربا إنما نظر إلى أمر واحد، وهو فقر جماعة المسلمين، وعلاجه هذا لا يُغني في ذلك شيئًا. وفقر جماعة المسلمين إنما نشأ عن التبذير والكسل وتوابعهما، فالتبعة عليهم. ولا يُعقَل أن يكون التقصير منهم والغرامة على الشريعة. ثم قام المؤلف بوصف أحوال المسلمين في حيدرآباد، فذكر أن نصف التبذير في الرسوم والعادات الاجتماعية، وثلثه في الملاهي، وسدسه في المعيشة، وفصَّل الكلام على هذه الأمور، وبيَّن العلاج وما يجب على العلماء والمرشدين بشأنها. وبه انتهى الكتاب.

  29 - كشف الخفاء عن حكم بيع الوفاء:

توجد نسخته ضمن الدفتر الذي فيه "جواب الاستفتاء عن حقيقة الربا" برقم [4244]، وهي أربع صفحات من القطع الصغير من آخر الدفتر، وقد كتبها المؤلف مقلوبًا على خلاف الكتاب السابق للتمييز بينهما، ولم يتمه. كتبه المؤلف عندما سأله بعض الإخوان عن حكم بيع الوفاء وبيع العهدة وغير ذلك من الأسماء، وهو شائع في بلاد حضرموت وكثير من البلدان. فراجع بعض ما تيسَّر من كتب علماء حضرموت، ونقل منها

(مقدمة 16/79)


نصوصًا، وتلخَّص له منها أمور: الأول: أن هذه المعاملة إذا كانت على ما ذكروه ــ من تقدُّم المواطأة ووقوع العقد باتًّا ــ حكمها في مذهب الشافعي ما قدَّمتْ من نفاذ العقد وبتاته، ويكون رضا المشتري قبل العقد بما تواطأ عليه وعدًا منه يُستحبُّ له الوفاء به ولا يجب. الثاني: أن العمدة في إلزام المشتري بالوفاء هو تقليد الإمام مالك. الثالث: أنه يمكن الاعتماد في ذلك على مذهب أحمد في جواز البيع بشرط. الرابع: إمكان الاعتماد على مذهبه في جواز تأبيد الخيار. الخامس: إمكان الاعتماد على مذهب أبي حنيفة. السادس: العذر عن الخروج عن المذهب بالضرورة. السابع: اعتماد المتأخرين على عمل من قبلهم من العلماء. كان المؤلف يريد أن ينظر في هذه الأمور واحدًا واحدًا، ولكنه توقف في أثناء الكلام على الأمر الثاني، ولم يتمّه. وقد سبق في "جواب الاستفتاء عن حقيقة الربا" الكلام على بيع الوفاء، وتكلم فيه على بعض الأمور السابقة، فيؤخذ رأي المؤلف فيها من هناك.

  30 - النظر في ورقة إقرار:

توجد نسخته في مكتبة الحرم المكي ضمن المسوَّدات التي عثرنا عليها أخيرًا، وهي في ثلاث صفحات من القطع الطويل، وفي بعض المواضع منها

(مقدمة 16/80)


شطب وإلحاق وزيادات في الهوامش. تكلم فيه المؤلف على ألفاظ ورقةٍ يُفهم منها الإقرار ومناقضة الإقرار، وذكر أنه إذا نُظر إلى السياق وإلى تسامح العوامّ في ألفاظهم وإلى كيفية الاشتراك بين المقرّ وإخوته= لم تكن تلك الألفاظ ظاهرةً فيما يناقض الإقرار، بل هي محمولة على ما يوافقه. ثم شرح ما فيها من الألفاظ والعبارات مع الاستناد إلى نصوص الكتب من الفقه الشافعي.

  31 - قضية في سكوت المدعى عليه عن الإقرار والإنكار:

توجد مخطوطتها ضمن المجموع رقم [4696] في صفحتين. والقضية هي أن رجلين ادُّعِي عليهما قتلُ شخص عمدًا وعدوانًا، فأجابا أنهما هجما عليه لقصد ضربه لا قتله، وأخذا يضربانه، فاستلَّ سكّينًا من حزام أحدهما، فأمسكا يده، وتجاذبا السكّين، فوقعتْ به طعنةٌ في جانب ظهره الأيسر. وكلٌّ منهما قال: لا أدري ممن الطعنة، ثم قال أحدهما: أنا القاتل، ثم رُوجع الآخر على أن يُقرّ أو يُنكر، فأصرَّ على قوله: لا أدري ممن؟ تكلم المؤلف على هذه القضية في ضوء ما وجده في كتب الفقه الشافعي، وذكر أن كون لفظ "لا أدري" في فعل نفسه يُعتبر إقرارًا غير ظاهر، لأن مبنى الإقرار على اليقين، ولا نظير لها في باب الإقرار يُقاس عليه، ولكنها قد تؤدّي إلى ما هو في حكم الإقرار، بأن يُصرَّ المدَّعى عليه، فيحكم القاضي بأنه كالمنكر الناكل، ويحلف المدعي اليمين المردودة.

(مقدمة 16/81)


 32 - الفسخ بالإعسار:

توجد النسخة الخطية منها في مكتبة الحرم المكي برقم [4707] في صفحة واحدة بقطع صغير ضمن مجموع. ذكر فيها المؤلف أن الفسخ بالإعسار ثابت في المذهب الشافعي، وإذا بحثنا عن علته ظهر لنا أن النكاح عقدٌ بمقابلٍ كالبيع، فهو إباحة الانتفاع بالبضع إلى مقابل الصداق والإنفاق. والمذهب أن المشتري إذا أعسر بالثمن أو كان ماله غائبًا بمسافة قصرٍ فللبائع الفسخ. وإذا بحثنا عن علة الفسخ بالإعسار ظهر لنا أنها تعذُّر تسليم العوض. والعلة موجودة فيما إذا غاب غيبةً منقطعةً، أو امتنع ولم يُقدَر على ضبطه.

  33 - مسألتان في الضمان والالتزام:

توجد مخطوطتهما ضمن المجموعة السابقة برقم [4707] في أربع صفحات، وفي هوامشها زيادات وإلحاقات. تكلم فيها الشيخ على قضيتين حكم فيهما القاضي بما هو مخالف للحق والصواب، ونقل من كتب المذهب الشافعي ما يُبيِّن ذلك. وقد حرَّر القضية الأولى في ربيع الثاني سنة 1337.

  34 - مسألة الوقف في مرض الموت:

هي في ثلاث صفحات من الأصل ضمن المجموعة السابقة برقم [4707]، وفي الصفحة الأخيرة منها كتابات على الهوامش وفي أولها نقص.

(مقدمة 16/82)


نقل فيها الشيخ نصوصًا من كتب المذهب الشافعي تُصرِّح بأنه لو وقف في مرض الموت ما يخرج من ثلثه على ورثته بقدر أنصبائهم صحَّ، من غير احتياج إلى الإجازة. ثم ذكر ما يخالف هذا في الظاهر، وتكلم عليه في ضوء كتب المذهب.

  35 - الفوضى الدينية وتعدُّد الزوجات:

توجد مخطوطتها في مكتبة الحرم المكي ضمن المسوَّدات والأوراق التي عثرنا عليها أخيرًا، ولم تفهرس حتى الآن. وهي في ثمان صفحات من القطع الطويل، وفي كل صفحة منها 34 سطرًا. وفيها شطب كثير وطمس في بعض المواضع. ذكر الشيخ في مقدمتها أن حبّ الاشتهار بحرية الفكر جعل الناس يُغفِلون النظر في صواب الفكر وخطئه، وأصبحت حرية الفكر مرادفةً للخروج عما كان عليه الآباء والأجداد، فهل يستحق صاحبها أن يقال له حرَّ الفكر؟ ومن يترك تقليد أسلافه ويُقلِّد بعض الملحدين فهل خرج هذا من الرق إلى الحرية؟ كلّا، بل خرج من رقٍّ إلى رقٍّ. ثم تكلم على مسألة تعدد الزوجات، وبيَّن أنها مسألة معلومة من دين الإسلام بالضرورة، بل ومن الفطرة ومن المصلحة. وردّ على الشبهة التي أثارها بعض المتأخرين استنادًا إلى آيتي سورة النساء (3، 129) أن إحداهما تُلزِم المسلم إذا خاف عدمَ العدل أن يقتصر على واحدة، والأخرى تُفيد أن كلَّ مسلم يعلم أنه لا يستطيع العدل، فأنَّى يتصور أن لا يخاف عدم العدل؟

(مقدمة 16/83)


ردَّ الشيخ على هذه الشبهة وبيَّن أن ظاهر القرآن لا يدلُّ على المنع، بل يدلُّ على الجواز. ثم فسَّر الآيتين تفسيرًا يوضّح المقصود منهما، وذكر أربعة أدلة بالتأمل في آية {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا} تدلُّ أن المراد بالعدل هنا العدل الكامل. ثم عنون بقوله: "تعدد الزوجات والفطرة" و"تعدد الزوجات والمصالح" ذكر تحتهما أمورًا تدلُّ على أن التعدد مناسب للفطرة وفيه مصالح عديدة. ثم تحدث تحت عنوان "مفاسد تعدد الزوجات" عن ثماني مفاسد يذكرها الناس، ونظر فيها واحدةً واحدةً، وبيَّن أنها أقلّ بمقابل المصالح. بل إن الزوج إن عدلَ عن طلاق زوجته ووقع في الزنا= تحصل به مفاسد أشدُّ من مفاسد التعدُّد. ثم عدَّدها، وقال: إن وراء ذلك مفاسد أخبث وأخبث، من فساد الأخلاق وخراب الدين وغير ذلك.

  36 - مسألة في رجل حنفي تزوَّج صغيرة بولاية أمها:

توجد نسختها في مكتبة الحرم المكي ضمن المسوَّدات التي لم تفهرس، وهي صفحتان من القطع الطويل، وقد أصابها البلل فطمسَ بعض الكلمات. وفي آخرها نقص. كتبها الشيخ ردًّا على سؤال السيد محمد مخدوم الحسيني مفتي المدرسة النظامية بحيدرآباد، ذكر فيها المذهب الشافعي في هذه المسألة نقلًا عن كتاب "الأم" وغيره، وبيَّن الخلاف بينه وبين المذهب الحنفي.

(مقدمة 16/84)


 37 - مسألة في صبيَّين مسلمين أخذهما رئيس الكنيسة فنشآ على دينه وبلغا عليه وتزوجا ثم أسلما:

عثرنا عليها ضمن المسودات والأوراق غير المفهرسة في مكتبة الحرم المكي. وقد كتب الشيخ جواب هذه المسألة مرتين، والأولى كأنها مسوّدة، فقد شطب على كثير منها، وهي ناقصة. والثانية كاملة تحتوي على تفصيل أكثر، مع ذكر النصوص من كتب الفقه، وهي التي أثبتنا نصَّها هنا. وفيها تداخل وشطب وضرب على بعض الكلمات والفقرات. ذكر الشيخ أن لهذين الصبيين خمس حالات: 1 - حالة صغرهما قبل دخول الكنيسة. 2 - حالة دخولها والتلبس بالنصرانية. 3 - حالة بلوغهما على ذلك. 4 - حالة عقد الزواج بينهما. 5 - حالة عودهما إلى الإسلام. ثم تكلم عن كل حالة بتفصيل، وذكر نصوص كتب الفقه الشافعي، واستنبط منها ما يبيِّن حكم ذينك الصبيين اللذين بلغا وتزوجا على النصرانية ثم أسلما.

(مقدمة 16/85)


 38 - بحث في قصة بني هشام بن المغيرة واستئذانهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يزوِّجوا عليًّا رضي الله عنه:

توجد مخطوطته ضمن المسوَّدات والأوراق التي اكتشفناها أخيرًا في مكتبة الحرم المكي. ولم نجد منه إلا ورقةً واحدة بقطع طويلٍ وفيها زيادات وإلحاقات في الهوامش، وبحثنا عن البقية فلم نعثر عليها. وقد كان الشيخ أراد أن يتناول عدة مباحث متعلقة بالحديث المذكور، كما أشار إليها في ركن الصفحة في آخرها بقوله: (الأول: الطعن في المسور وابن الزبير، الثاني: صغر سنّهما، الثالث: التفرد، الرابع: استبعاد ذلك لما عُرِف من فضل علي وإجلاله للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإكرامه لفاطمة، وبُغضه لأبي جهل وحزبه). والموجود منه يحتوي على تخريج الحديث الوارد في الباب، والكلام على المبحث الثاني فقط. وفيه تحقيق تاريخ ولادة راوي الحديث المسور بن مخرمة، فإن المؤرخين لم يختلفوا أن مولده كان بعد الهجرة، وقصة خِطبة علي كانت بعد مولد المسور بنحو من ست سنين أو سبع. ردَّ عليه الشيخ برواية الصحيحين في هذه القصة أن المسور قال: "فسمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب الناس في ذلك على منبره هذا، وأنا يومئذٍ محتلم". وتخريج الشيخين والإمام أحمد في "المسند" بدون إنكار لهذا اللفظ يدلُّ دلالةً ظاهرة على أن ما حكاه المؤرخون لا يُعرَف له أساس ثابت.

(مقدمة 16/86)


منهج التحقيق سُلِّمت إليَّ أغلبُ هذه الرسائل الفقهية بعد نسخها من أصولها الخطية المحفوظة في مكتبة الحرم المكي، وقد قابلتُها على الأصول مقابلةً دقيقة، واضطررتُ إلى مراجعة أصولِ كثيرٍ منها، إما لرداءة التصوير، أو لاضطراب الأوراق، أو لمعرفة السياق الصحيح للتخريجات والزيادات بقلم المؤلف. وقد قام بنسخ كثيرٍ منها من الأصول أو المصورات مجموعة من الأفاضل تُراجَع أسماؤهم في مقدمة المشروع، وقمتُ بنسخ وقراءة ما لم يُنسَخْ منها. وكان أصعب هذه الرسائل "رسالة في المواريث" التي كثرت فيها الزيادات والإلحاقات من المؤلف، والتخريجات التي تبدأ من صفحة وتستمر إلى الصفحة التي قبلها أو بعدها في الهوامش، ثم الكتابة الدقيقة بين الأسطر في مواضع كثيرة منها، وأحيانًا تكون مقلوبة الصفحة. وبعد الانتهاء من النسخ والمقابلة قمتُ بضبط النصّ، ووضعه في فقرات متناسبة، وتخريج الأحاديث والأقوال والأشعار والنصوص من المصادر التي ذكرها المؤلف، ومن غيرها، وعلّقتُ تعليقات مختصرة للتنبيه على خطأ أو خلل في العبارة، أو فائدة تتعلق بالموضوع، واستدركتُ بعض الكلمات ووضعتُها بين المعكوفتين في النص للدلالة على أنها ليست من الأصل، وينبغي إضافتها ليستقيم السياق، ومثل هذه الزيادات قليلة، وكثير منها مأخوذ من المصادر التي ينقل منها المؤلف. وإذا كان هناك خرمٌ في الأصل أو بياض فإني أضع مكانه معكوفتين أو نقطًا، وأشير إلى ذلك في الهامش في بعض الأحيان، وقد لا أشير إذا كثر ذلك وتتابع.

(مقدمة 16/87)


وقد أشار المؤلف إلى بعض المصادر بذكر الجزء والصفحة، فأبقيتها كما هي في النصّ، وأحلتُ إلى الطبعات المحققة المتداولة في الهامش، وإذا كانت الطبعة التي يذكرها المؤلف هي المعروفة فاكتفيتُ بالإحالة إليها في النصّ، ولم أكرِّرها في الهامش. ورسائل هذه المجموعة كانت متفرقة، كتبت في فترات مختلفة، ويصعب ترتيبها تاريخيًا، فرتبتها حسب الأبواب الفقهية، فقدَّمتُ منها ما كانت متعلقة بالعبادات، وأتبعتُها بما كانت في المعاملات. ثم صنعتُ لها فهارس لفظية وعلمية تكشف عمّا فيها من أبحاث وتحقيقات نادرة، وفوائد واستدراكات مهمة، تدلُّ على تفوق العلامة المعلمي على كثير من أهل عصره في علوم الحديث والفقه والرجال. وفي الختام أدعو الله أن يوفقنا جميعًا لخدمة ديننا ولغتنا، وإخراج دفائن الكنوز من تراثنا، إنه سميع مجيب. محمد عزير شمس

(مقدمة 16/88)


نماذج من النُّسخ الخطية

(مقدمة 16/89)


القبلة وقضاء الحاجة

(مقدمة 16/91)


فرضية الجمعة وسبب تسميتها

(مقدمة 16/92)


سنة الجمعة القبلية

(مقدمة 16/93)


حقيقة الوتر ومسماه في الشرع

(مقدمة 16/94)


مقام إبراهيم

(مقدمة 16/95)


توسعة المسعى

(مقدمة 16/96)


رسالة في سير النبي صلى الله عليه وسلم في حجه بين المشاعر

(مقدمة 16/97)


فلسفة الأعياد في الإسلام

(مقدمة 16/98)


الحكم المشروع في الطلاق المجموع

(مقدمة 16/99)


توكيل الولي غير المجبر

(مقدمة 16/100)


الإسلام والتسعير ونحوه

(مقدمة 16/101)


أسئلة وأجوبة في المعاملات

(مقدمة 16/102)


جواب الاستفتاء عن حقيقة الربا

(مقدمة 16/103)


رسالة في المواريث

(مقدمة 16/104)


مجموع رسائل الفقه الشيخ العلامة عبد الرحمن المعلمي تحقيق محمد عزير شمس

(16/1)


الرسالة الأولى القِبلة وقضاء الحاجة

(16/3)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

  القِبْلة وقضاء الحاجة

أحاديث النهي ثابتة في الصحيح: 1 - ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي أيوب الأنصاري، فرواه البخاري (1) عن آدم عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي أيوب مرفوعًا: "إذا أتى أحدُكم الغائطَ، فلا يستقبل القبلة، ولا يُولِّها ظهرَه، شرقوا أو غرِّبوا". وعن ابن المديني عن ابن عيينة عن الزهري بسنده: "إذا أتيتم الغائطَ، فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا" (2). ورواه مسلم (3) عن يحيى بن يحيى عن ابن عيينة بسنده مثله، إلا أنه قال: "ولا تستدبروها ببول ولا غائط، ولكن ... ". وبمعناه رواه عن سفيان بن عيينة جماعة، منهم: أبو نعيم عند الدارمي (4)، ومُسَدَّد عند أبي داود (5)، ومحمد بن منصور عند النسائي (6)، _________ (1) رقم (144). (2) البخاري (394). (3) رقم (264). (4) رقم (671). (5) رقم (9). (6) (1/ 22).

(16/5)


وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي عند الترمذي (1). ورواه الإمام الشافعي في كتاب "اختلاف الحديث" بهامش "الأم" (7/ 269) (2) عن ابن عيينة بسنده: "أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نهى أن تُستقبل القبلة بغائط أو بول، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا". ورواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 421) عن ابن عيينة بسنده: "لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا". ورواه الزعفرانيُّ عن ابن عيينة بسنده عن أبي أيوب الأنصاري قال: "لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها". وقال مرةً: يبلغُ به النبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم -. "سنن البيهقي" (1/ 91). وبالجملة؛ فالأكثر عن ابن عيينة إثبات قوله: "إذا أتيتم الغائط" أو معناها. وقد تابعه ابن أبي ذئب كما مرَّ، ومعمر عند النسائي (3) وعند أحمد في "المسند" (5/ 416 و 417 و 421)، وفي بعضها: "الخلاء" بدل "الغائط"، ويونس عند ابن ماجه (4)، ولفظه: نهى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يستقبل الذي يذهب إلى الغائط القِبْلةَ، وقال: "شرِّقوا أو غرِّبوا". _________ (1) رقم (8). (2) (10/ 219) ط. دار الوفاء. (3) (1/ 23). (4) رقم (318).

(16/6)


وكذلك رواه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن رافع بن إسحاق عن أبي أيوب، رواه عنه مالك في "الموطأ" (1)، ولفظه: "إذا ذهب أحدكم الغائطَ أو البولَ، فلا يستقبلِ القبلةَ ولا يستدبِرْها بفرجه". هكذا في "موطأ يحيى بن يحيى". ورواه أحمد في "المسند" (5/ 414) عن إسحاق بن عيسى عن مالك بلفظ: "إذا ذهبَ أحدُكم إلى الغائط أو البول، فلا يستقبلِ القبلةَ ولا يستدبِرْها". وبهذا اللفظ رواه ابن القاسم عن مالك عند النسائي (2). ورواه أحمد (5/ 415) عن عفان عن همام عن إسحاق بسنده، ولفظه: "نهانا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن نستقبل القبلتين ونستدبرهما" وقال همام: يعني الغائطَ والبولَ. وأخرجه البيهقي (3) من طريق عمر بن ثابت عن أبي أيوب مرفوعًا: "لا تستقبلوا القبلةَ ولا تستدبروها بغائط ولا بول، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا". 2 - وفي "صحيح مسلم" (4) من طريق سُهَيل بن أبي صالح عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح [عن] أبي هريرة مرفوعًا: "إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلةَ ولا يستدبِرْها". _________ (1) (1/ 193). (2) (1/ 22، 23). (3) في السنن الكبرى (1/ 91) ولكن من طريق عطاء بن يزيد عن أبي أيوب. (4) رقم (265).

(16/7)


وقد رواه أبو داود (1) من طريق ابن عجلان عن القعقاع بسنده، ولفظه: " ... فإذا أتى أحدكم الغائطَ فلا يستقبلِ القبلةَ ولا يستدبِرْها". وهو عند النسائي (2) بلفظ: "إذا ذهب أحدكم إلى الخلاء فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها". وهو في "سنن البيهقي" (1/ 91) من طُرق عن ابن عجلان بلفظ: "فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط"، وفي رواية: "فإذا ذهب أحدكم الخلاءَ". وزاد في رواية: "لغائط ولا بول". ورواه الشافعي عن ابن عيينة عن ابن عجلان بسنده: "فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط، فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بغائط ولا ببول" هامش "الأم" (1/ 11) (3). 3 - وفي "صحيح مسلم" (4) من حديث سلمان: "نهانا ــ يعني النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ــ أن يستنجي أحدُنا بيمينه أو يستقبل القبلة". وأخرجه أبو داود والنسائي (5) وغيرهما بزيادة: "بغائط أو بول". 4 - وفي "مسند أحمد" (4/ 190 - 191) من طرق، و "سنن ابن ماجه" (6) عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي قال: أنا أول من سمع _________ (1) رقم (8). (2) (1/ 22). وفيه "الغائط" بدل "الخلاء". (3) (2/ 48) ط. دار الوفاء. (4) رقم (262). (5) أبو داود (7) والنسائي (1/ 44). (6) رقم (317).

(16/8)


النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: "لا يبولن أحدكم مستقبلَ القبلة"، وأنا أول من حدَّث الناس بذلك. وسنده [صحيح] على شرط الشيخين، وصححه ابن حبان (1)، لكن نقل بعضهم عن ابن يونس أنه معلول. والله أعلم. 5 - وفي "سنن أبي داود" وابن ماجه (2) وغيرهما من طريق أبي زيد مولى بني ثعلبة عن معقل بن أبي معقل الأسدي قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن نستقبل القبلتين ببول أو غائط". وأبو زيد لم يُوَثَّق، وقال ابن المديني: ليس بالمعروف. 6 - وفي "سنن ابن ماجه" (3) من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر حدثني أبو سعيد الخدري: "أنه شهد على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه نهى أن نستقبل القبلة بغائط أو ببول". وابن لهيعة ضعيف. [ص 2] 7 - وفي "مسند أحمد" (3/ 487): ثنا روح وعبد الرزاق قال (4) (كذا) أنا ابن جريج قال: حدثني عبد الكريم بن أبي المُخَارق أن الوليد بن مالك بن عبد القيس أخبره ــ وقال عبد الرزاق: من عبد القيس ــ أن _________ (1) رقم (1419). (2) أبو داود (10) وابن ماجه (319). قال البوصيري: أبو زيد مجهول الحال، فالحديث ضعيف به. (3) رقم (320). (4) في طبعة الرسالة (15984): "قالا" على الصواب، فيزول استشكال المؤلف رحمه الله.

(16/9)


محمد بن قيس مولى سهل بن حُنَيف من بني ساعدة أخبره أن سهلاً أخبره أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعثه، قال: "أنت رسولي إلى أهل مكة .... وإذا تخليتم فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها". وأخرجه الدارمي (1/ 170) ثم قال: عبد الكريم شبه المتروك. وفي الباب: عن أبي أمامة أشار إليه الترمذي، وعن سهل بن سعد، وأسامة بن زيد، وسراقة بن مالك ــ ورجح أبو حاتم وقْفَه ــ وعن أسامة بن زيد، وعن نافع عن رجل من الأنصار عن أبيه، وهو في "الموطأ" (1). إلى غير ذلك، وتأتي في أحاديث الرخصة، وفيها دلالة على هذا في الجملة. والذي علينا أن ننظر في قوله: "إذا أتى أحدكم الغائط" هل يفيد إخراج الأبنية؟ فأقول: المتبادر من هذه العبارة أنها كناية عن إرادة قضاء الحاجة، كما ذكروا أن قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] كناية عن الحَدَث، ومن شأن الكناية أن يكون النظر فيها إلى المعنى الكنائي، سواءً أوافق الحقيقة أم لا، كما ذكروه في: طويل النجاد، وكثير الرماد ونحوهما، كما إذا قيل: إن اللصوص نهبوا قافلة وذهبوا. فيقال: يد السلطان طويلة. أي: أن قدرته متمكنة من أخذهم، ولو بعدوا. ويؤيد أن المعنى هو هذا أمور: منها: أن الصحابي فهم العموم، كما في رواية عنه في الصحيحين (2) _________ (1) (1/ 193). (2) البخاري (394) ومسلم (264).

(16/10)


وغيرهما، ذكر الحديث ثم قال: "فقدمنا الشامَ، فوجدنا مراحيضَ قد بُنِيت قِبَلَ القبلة، فننحرف عنها ونستغفر الله". قال الشافعي: "وسمع أبو أيوب الأنصاري النهي من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولم يعلم ما علم ابن عمر من استقباله بيتَ المقدس لحاجته، فخاف المأثم في أن يجلس على مرحاضٍ مستقبلَ الكعبة، وتحرَّف لئلا يستقبل الكعبة، وهكذا يجب عليه إذا لم يعرف غيره". كتاب اختلاف الحديث بهامش "الأم" (7/ 270 - 271) (1). ومنها: أنه كذلك فهم الرواة، فأسقط بعضهم العبارة المذكورة: "إذا أتى أحدكم الغائط" كما مر في رواية أحمد والزعفراني عن ابن عيينة، وأسقط بعضهم قوله: "ببول أو غائط" كما مر عن صحيح البخاري. فلو حملت تلك الرواية على الحقيقة لشملت من أتى مكانًا منخفضًا، فمشى فيه أو وقف أو جلس لغير قضاء الحاجة. وتصرف بعضهم فيها، فقال بعضهم: "إذا أتى أحدكم الخلاء". وقال غيره: "إذا جلس أحدكم لحاجته". إلى غير ذلك، كما مر بعضه. ومنها: أنه لا فرق في المعنى بين المكان المنخفض في الفضاء، وهو حقيقة الغائط لغة، وبين المكان المرتفع والمكان المستوي، بل ولا بين الفضاء والبيوت؛ لأننا إن قلنا بأن الانحراف يكفي، فواضح. وإن قلنا: لا بد أن تجعل القبلة عن اليمين أو اليسار، وأن [هذا] قد يتعسَّر في المراحيض، فهذا لا يدفع أصل العموم؛ لأن أكثر العمومات مقيدة _________ (1) (10/ 221) ط. دار الوفاء.

(16/11)


بالاستطاعة، قال الله تبارك وتعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. بل يمكننا أن نقول: إن تبادر المعنى الكنائي من العبارة المذكورة يدل أنها صارت حقيقةً عرفيةً فيه. فإن قيل: فما فائدة الإتيان بها مع "إذا"؟ فإنه لو اجتزئ عنها بقوله: "لا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط" لصح المعنى. قلت: من فائدتها التنبيه على أنه ينبغي للإنسان أن يستحضر هذا الحكم قبل القعود، لأنه إذا لم يفعل قد يغفل عنه، وقد لا يتذكره إلا بعد الشروع، فيشق عليه التحرف. والحاصل أنه لا حجة في العبارة المذكورة لمن يُخصِّص الحكم المذكور. والله أعلم.

(16/12)


أحاديث الرخصة 1 - حديث ابن عمر في الصحيحين (1) وغيرهما، وهو من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري وعبيد الله بن عمر العمري عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع عن ابن عمر. فأما رواية يحيى؛ ففي "الموطأ" (2) الرخصة في استقبال القبلة لبولٍ أو غائط، مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حَبَّان عن عمه واسع بن حَبَّان عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول: إن أُناسًا يقولون: إذا قعدت لحاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس. قال عبد الله: لقد ارتقيتُ على ظهر بيتٍ لنا، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على لَبِنَتين مستقبلَ بيت المقدس لحاجته ... ". "الموطأ" بهامش شرح الباجي (1/ 336). وأخرجه الشافعي عن مالك. هامش "الأم" () (3). وقال البخاري (4): باب من تبرز على لبنتين. حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن يحيى ... " فذكره، وكذلك رواه غيرهم عن مالك. وكذلك أخرجه مسلم (5) عن القعنبي عن سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد الأنصاري. _________ (1) البخاري (145، 148) ومسلم (266). (2) (1/ 193، 194). (3) كذا في الأصل دون تقييد الصفحة. وهو في "الأم" (10/ 220) ط. دار الوفاء. (4) الصحيح مع الفتح (1/ 246، 247). (5) رقم (266).

(16/13)


وأخرجه الدارقطني (1) من طريق هشيم عن يحيى عن محمد عن واسع: سمعت ابن عمر يقول: ظهرتُ على إجَّارٍ (2) على بيت حفصة في ساعة لم أظنَّ [أحدًا يخرج في] تلك الساعة، فاطلعت فإذا أنا برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على لبنتينِ مستقبلَ بيتِ المقدس". وقال البخاري (3): باب التبرز في البيوت. قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا يزيد (هو ابن هارون) قال أخبرنا يحيى (وهو ابن سعيد الأنصاري) .... فذكره بنحو لفظ "الموطأ". وكذلك رواه عن يزيد أحمد في "المسند" (2/ 41)، والدارمي في "مسنده" (1/ 17)، وأبو بكر بن خلاد ومحمد بن يحيى عند ابن ماجه (4)، ولكن سقط منه قوله: "ولا بيت المقدس". وأخرجه البيهقي في "السنن" (1/ 92) عن الحاكم عن ابن الأخرم عن إبراهيم بن عبد الله عن يزيد بن هارون بسنده، وفيه: "على لبنتينِ لحاجته مستقبلَ الشام مستدبرَ القبلة". كذا قال! وإبراهيم بن عبد الله هو السعدي النيسابوري، قال الذهبي في "الميزان" (5): صدوق. قال الحاكم: كان يَستخفُّ بمسلم، فغمزه مسلم بلا حجة. _________ (1) في السنن (1/ 61). (2) الإجَّار: السطح بلغة أهل الشام والحجاز. (3) الصحيح مع الفتح (1/ 250). (4) رقم (322). (5) (1/ 44).

(16/14)


أقول: صنيعه في هذا الحديث مما يصلح حجة لمسلم، فإن الناس قالوا عن يزيد وعن غير يزيد عن يحيى: "مستقبلاً بيت المقدس"، وقال إبراهيم هذا: "مستقبل الشام مستدبر القبلة". انتقل ذهنه إلى رواية عبيد الله، كما يأتي. وأما رواية عبيد الله ففي الصحيحين وغيرهما، وليس فيه قوله: "إن ناسًا يقولون"، وإنما هو من قوله: "ارتقيتُ على ظهر ... "، ولفظه في آخره عند مسلم: "مستقبل الشام مستدبر القبلة"، وعند البخاري: "مستدبر القبلة مستقبل الشام". هكذا اختلف الرواة عن عبيد الله في تقديم إحدى الصفتين على الأخرى، وجاء في بعض الروايات "مستدبر الكعبة"، وفي أخرى "مستدبر البيت". ولم يقل "مستقبلاً بيت المقدس"، لأن مَن بالمدينة إذا استقبل [ص 3] بيت المقدس متحريًا، لم يكن مستدبرَ الكعبة، بل يكون متحرفًا عنها شرقًا، فعبر بقوله: "مستقبل الشام" لأن مَن بالمدينة إذا استدبر الكعبة متحريًا، كان مستقبلاً مشارقَ الشام. ولقائل أن يقول: فيما ذكرته نظر: أولاً: لاحتمال أن يكون ابن عمر قال مرةً كما ذكر يحيى، ومرة كما ذكر عبيد الله، وحفظ واسعٌ اللفظينِ، وحدَّث بهذا تارة، وبذاك أخرى، وكذلك محمد بن يحيى، ثم سمع يحيى من محمدٍ أحدَ اللفظين، وعبيد الله الآخر. فإذا سلمنا أن ابن عمر إنما قال أحد اللفظين كما تدل عليه رواية مسلم

(16/15)


وغيره عن القعنبي عن سليمان بن بلال عن يحيى عن محمد عن واسع قال: كنت أصلي في المسجد وعبد الله بن عمر مُسنِدٌ ظهرَه إلى القبلة [فلما] قضيتُ صلاتي انصرفتُ إليه من شِقِّي، فقال عبد الله: يقول ناس .... "، فدل هذا على أن سماع واسعٍ من ابن عمر إنما كان في هذه الواقعة، ويبعد أن يجمع ابن عمر بين اللفظين، فقد يكون التصرف من واسع، عبَّر مرة بهذا، ومرة بهذا، أو من محمد، فحفظ عنه يحيى إحدى العبارتين، وحفظ عبيد الله الأخرى. وأما ثانيًا: فإذا سلمنا أن واسعًا إنما أتى بإحدى العبارتين، وكذلك محمد، لأن الظاهر الرواية باللفظ، ولم يقم دليل على خلاف ذلك في حقِّ واسعٍ ولا محمدٍ، فغاية الأمر أن يرجح قول يحيى "مستقبلاً بيت المقدس" على قول عبيد الله "مستقبل الشام"؛ لأنه يبعد الإتيان باللفظين جميعًا، ولأن المعنى متقارب. فأما قول عبيد الله: "مستدبر القبلة، أو الكعبة، أو البيت"، فهي زيادة من ثقة ضابط فوجب قبولها، فعلى هذا يترجح أن يكون أصل لفظ ابن عمر "مستقبلاً بيتَ المقدس مستدبرَ القبلةِ"، ولَأن يُظَنَّ بيحيى أنه ترك هذه الزيادة "مستدبر القبلة" أقربُ من أن يُظَنَّ بعبيد الله أنه زادها بناءً على فهمه. أقول: هذا متجه، ولكن قد بيّنَّا أن مَن بالمدينة إذا استقبل بيت المقدس تمامًا لم يكن مستدبر الكعبة تمامًا، بل يكون منحرفًا عنها شرقًا. فإن قلت: قد يكون أراد ببيت المقدس الشام، فإن مَن بالمدينة إذا استدبر الكعبة تمامًا، كان مستقبلاً مشارق الشام، ويكون هذا هو الحامل لعبيد الله على تعبيره بقوله: "مستقبل الشام".

(16/16)


قلت: قد يعكس هذا فيقال: أراد بقوله: "مستدبر القبلة" أي مستدبرًا جهتها في الجملة، فإن مَن بالمدينة إذا استقبل بيت المقدس تمامًا كان مستدبرًا القبلة في الجملة، أي: أن البيت حينئذٍ ليس أمامه، ولا عن يمينه ولا عن يساره، بل هو من خلفه مائلاً إلى يساره. فإن قلت: يُرجِّح الأولَ قولُ ابن عمر: "إن أُناسًا يقولون ... فلا تستقبل القبلة"، وإنما يكون للقصة علاقة بهذا إذا كان فيها استدبار القبلة تمامًا، فيقاس الاستقبال على الاستدبار. قلت: ويُرجِّح الثانيَ قولُ ابن عمر: "ولا بيت المقدس"، وإنما يكون للقصة علاقةٌ باستقبال بيت المقدس إذا كان فيها استقباله تمامًا. فإن قلت: فما الذي يتجه؟ قلت: كلام ابن عمر يحتمل وجهين: الأول: أن يكون قوله: "إن أُناسًا يقولون ... فلا تستقبل القبلة، ولا بيت المقدس" لم يقصد به إنكار كل من الأمرين، وإنما قصد به إنكار تسوية بيت المقدس بالقبلة، فيتحصل من هذا أنه إنما أنكر النهي عن استقبال بيت المقدس، فكأنه قال: يقولون: لا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس، فيسوُّون بينهما، وإنما الثابت النهي عن استقبال القبلة فقط، وإلى هذا ذهب العيني (1). الوجه الثاني: أن يكون من رأي ابن عمر أن الاستقبال والاستدبار يكفي فيهما الجهة، ولا يقدح فيه التحرف عن العين، فمَن بالمدينة إذا استقبل بيت _________ (1) في "عمدة القاري" (2/ 282).

(16/17)


المقدس عينه، فقد استدبر جهة القبلة، وإن لم يكن مستدبرًا لعين الكعبة تمامًا، ويرى أنه إذا جاز مثل هذا جاز استدبار البيت عينه، وكذلك من بالمدينة إذا استدبر البيت تمامًا فقد استقبل جهة بيت المقدس، وإن لم يكن مستقبلاً لعين بيت المقدس، وإذا جاز هذا جاز استقبال عين بيت المقدس. [ص 4] وعلى كل حال، فقد ترجح في الرواية قوله: "مستقبلاً بيت المقدس مستدبرًا القبلة"، وظاهر قوله: "مستقبلاً بيت المقدس" استقباله تمامًا، وحينئذٍ فاستدبار القبلة ليس بمعنى استدبار البيت تمامًا، بل بالتحرف عنه إلى جهة الشرق. [ص 5] هذه الألفاظ الصحيحة صريحة في أن المدار على استقبال القبلة بالنجس حال خروجه من أحد الفرجين، وقد عورضت بحديثين: الأول: حديث الصحيحين عن ابن عمر قال: "إن ناسًا يقولون: إذا قعدت على حاجتك، فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس، فقال عبد الله بن عمر: فلقد ارتقيتُ يومًا على ظهر بيتٍ لنا، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على لَبِنَتين مستقبلاً بيت المقدس لحاجته" لفظ البخاري (1). وفي رواية (2): "مستقبل الشام، مستدبر القبلة". الحديث الثاني: أخرج أحمد وأبو داود وابن خزيمة والحاكم في المستدرك (3) وقال: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي، بسند صحيح _________ (1) رقم (145). (2) رقم (148). (3) أحمد (3/ 360) وأبو داود (13) وابن خزيمة (58) والحاكم (1/ 154).

(16/18)


إلى ابن إسحاق حدثني أبان بن صالح عن مجاهد عن جابر قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قد نهانا أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا أهرقنا الماء، ثم رأيناه قبل موته وهو يبول مستقبل القبلة". وحديث ثالث: اتفق البخاري وأبو حاتم وغيرهما على تعليله. انظره في ترجمة خالد بن أبي الصلت من التهذيب (1). فمن الناس من أخذ بهذين الحديثين، وقال: إنهما ناسخان للنهي، فإن الأول أباح الاستدبار، والثاني أباح الاستقبال. وفرق جماعة ــ كمالك والشافعي وغيرهما ــ بين البناء والفضاء، فحملوا النهي على الفضاء، والفعل في الحديثين على البناء. ومن هؤلاء من زاد فقال: فالإباحة في الفضاء إذا كان بينه وبين القبلة ساتر، ويستدل لهذا بما رواه الحاكم في "المستدرك" (2) وغيره من طريق الحسن بن ذكوان عن مروان الأصفر قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن! أليس قد نُهي عن هذا؟ قال: إنما نُهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس به". قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، فقد احتج بالحسن بن ذكوان. وللشافعية كلام طويل في تقرير المسألة وتفصيله، يقيسون فيه على _________ (1) (3/ 97). والحديث أخرجه ابن ماجه (324) عن عائشة. (2) (1/ 154).

(16/19)


 سُترة المصلي في الجملة.

ومن أهل العلم من بقي على عموم النهي، وهو الحق إن شاء الله تعالى. فأما حديث ابن عمر فليس بصريح في المخالفة؛ لاحتماله أن مقصود ابن عمر إنما هو الإنكار على من يُسوِّي بين الكعبة وبيت المقدس، وبيان أن استقبال بيت المقدس غير محظور، ويكون رأى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قاعدًا يبول مستقبل بيت المقدس، ولا يلزم من ذلك إخلال في حق الكعبة؛ لأن استدبار البائل لها، ولاسيَّما إذا كان مستور الدبر، كما هو المعروف في عادة العرب؛ لأن غالب لباسهم الأزر، فأما من زعم أن مثل هذه الحال داخلة في النهي، فقد أبطل. أما أولاً: فلأن الروايات الصحيحة التي قدمتُها لا تشمل هذه الحال، فإن جاء في بعض الروايات ما يظهر منه شمولها فهو من تصرف الرواة، فلا يُعبأ به، والواجب في ذلك حمل المطلق على المقيد. وأما ثانيًا: فالمعقول أن هذه الحال أبلغ في احترام القبلة مِمَّا ثبت الإذن به، واتفق عليه الناس، وهو أن يشرق أو يغرب من كانت قبلته في الشمال أو الجنوب. فإن قيل: إن فيه مواجهتها بالدُّبر. قلت: مثله مباح إجماعًا في المشي والجلوس وغير ذلك، ونظيره المفروض من استقبالها في الصلاة، مع أن فيه مواجهتها بالقُبُل. فإن قيل: فإن قول ابن عمر: "مستدبر القبلة" قد يُشعِر بخلاف ما ذكرتَ.

(16/20)


قلت: قال الحافظ في "الفتح" (1): [ولم يقع في رواية يحيى]: "مستدبر القبلة" أي الكعبة، كما في رواية عبيد الله بن عمر؛ لأن ذلك من لازمِ مَن استقبل الشام [بالمدينة، وإنما ذكرت في رواية عبيد الله] للتأكيد والتصريح به. [ص 6] وقد يورد على ما تقدم أمور: الأول: أن الأئمة فهموا من رواية يحيى مثل ما يُفهَم من رواية عبيد الله ففي "الموطأ" (2): "الرخصة في استقبال القبلة لبول أو غائط"، وذكر رواية يحيى. وذكر الشافعي في كتاب اختلاف الحديث (3) رواية يحيى، واحتج بها على الرخصة في البيوت، وقال البخاري في "الصحيح" (4): "باب من تبرَّز على لبنتين"، ثم ذكر رواية يحيى، ولفظ التبرز ظاهر في التغوط، ثم قال: "باب التبرز في البيوت"، وذكر القصة من الوجهين. الأمر الثاني: ما ذكرته من أن مَن بالمدينة إذا استقبل بيت المقدس تمامًا لم يكن مستدبر الكعبة تمامًا، بل يكون متحرفًا عنها إلى جهة المشرق= صحيح في نفسه، ولكن قد يقال: لا أثر له، أما على القول بالتوسعة في القبلة، فأهل المدينة قبلتهم في الجنوب كله؛ لأن البيت جنوبهم، كما دل عليه _________ (1) (1/ 250). (2) (1/ 193). (3) مع "الأم" (10/ 220). (4) مع "الفتح" (1/ 246، 250).

(16/21)


الحديث الذي صححه الترمذي (1) وغيره: "ما بين المشرق والمغرب قبلة". بل في حديث أبي أيوب في هذا الباب: "ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا". فدل على أن التحرف اليسير لا يكفي، بل لابد أن تكون القبلة عن يمين قاضي الحاجة أو يساره، والتحرف الحاصل لمن بالمدينة عند استقباله بيت المقدس ليس بهذا القدر، ولا قريب منه. وأما على القول: بأن القبلة هي البيت نفسه، وأنه يضرُّ في الصلاة التحرف اليسير إذا عرف، فقد يقال: لا يلزم من القول بذلك في الصلاة أن يقال به في قضاء الحاجة، وقد ثبت في قضاء الحاجة قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا". وعلى تسليم اللزوم، فإنما ذلك عند ظن التحرف، ومثل ذاك التحرف ــ أعني تحرُّفَ مَن بالمدينة عن الكعبة إذا استقبل بيت المقدس ــ إنما يحصل به الظن لمن عرف الحساب ونحوه، وبنى عليه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "نحن أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب ... " الحديث. والظاهر عند عدم الحساب أن المدينة بين مكة والقدس، من استقبل أحدهما استدبر الآخر. الأمر الثالث: أن تجويز أن يكون عبيد الله إنما سمع القصة باللفظ الذي رواه يحيى، ولكنه تصرف فيها التصرف المذكور، يؤدي إلى سقوط الثقة بالأحاديث التي يحتمل أنها رُوِيتْ بالمعنى، وهي غالب السنة. [ص 7] قال عبد الرحمن: أما الأمر الأول؛ فأرى أن الأئمة لاحظوا ما دلَّ عليه كلام ابن عمر من أن _________ (1) رقم (344).

(16/22)


الموضع الذي رأى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قاعدًا عليه كان معدًّا لقضاء الحاجة، وإذا كان كذلك ثبت وقوع الاستدبار عند التغوط، إن لم يكن في هذه الواقعة ففي غيرها؛ لأن الموضع كان معدًّا لذلك، وفي "الفتح" (1): أنه جاء في رواية لابن خزيمة: "فرأيته يقضي حاجته محجوبًا عليه بلَبِنٍ". قال: وللحكيم الترمذي بسند صحيح: "فرأيته في كنيف". وبهذا يندفع ما يتراءى أن من تقدم من أهل العلم أغفلوا الاحتجاجَ بما ذُكِر، واقتصروا على الاحتجاج بالواقعة التي ذكرها ابن عمر. ثم يحتمل أن مالكًا لم يستحضر ما قدمناه من أن مَن بالمدينة إذا استقبل بيتَ المقدس تمامًا لم يكن مستدبرًا الكعبةَ تمامًا، بل يكون منحرفًا عنها إلى الشرق. ويحتمل أن يكون استحضر ذلك، ولكنه بنى على رأيه في التوسعة في القبلة، ومثله البخاري، وأما الشافعي فيتعين في حقه الاحتمال الأول. إذا تقرر هذا فالجواب عما يحتج به بأن ذلك الموضع كان معدًّا لقضاء الحاجة أنه يحتمل أنه يكون معدًّا للبول فقط، وعلى تسليم أنه كان معدًّا للأمرين، فالتوسعة في القبلة إنما هي إذا لم يحصل العلم أو الظن بالانحراف عن البيت، كما هو مقرر في مذهب مالك نفسه. والحجة على ذلك واضحة؛ فإن من بالمسجد الحرام لا تصح صلاته إذا كان البيت عن يمينه أو يساره يقينًا أو ظنًّا، فكذلك من بَعُدَ، وإنما الرخصة في الصلاة والتشديد في قضاء الحاجة عند الاشتباه. _________ (1) (1/ 247).

(16/23)


وعلى هذا فنقول: قد ذكروا أن قبلة المسجد النبوي مقطوع بمُسامتتها للبيت، وفي بعض الآثار أن جبريل أقامها للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - (1)، فيحتمل مثل ذلك في بيت المقدس لما كان قبلةً، وإذا علم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - السمتَ الذي يستقبل به بيت المقدس تمامًا، والسمت الذي يستقبل به الكعبة تمامًا، فقد علم أنه إذا استقبل بيت المقدس لم يكن مستدبرًا البيتَ، بل منحرفًا عنه كما مر. وأما الأمر الثاني؛ فقد تقدم الجواب عنه قريبًا. وقوله في حديث أبي أيوب: "ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا" يحتمل أنه عند الاشتباه كما مر، ويحتمل أن يكون المراد: فانحرفوا إلى جهة الشرق أو إلى جهة الغرب. فإن مَن كان مستقبلاً بعض الربع الجنوبي إذا مال عنه يَسْرةً صَدق عليه أنه شرَّقَ، أو يَمنةً صَدق أنه غرَّب، وإن كان مع انحرافه لا يزال مستقبلاً بعضَ الجنوب. وقد يحتمل أن يكون الأمر بالتشريق أو التغريب أريد بهما جعلُ القبلة عن اليمين أو اليسار تمامًا، ولكن يكون ذلك عند التيسر، ولما كان يكثر التعسير في البيوت اكتُفي فيها بالتحرُّف، كما قال أبو أيوب: "فننحرف ونستغفر الله". ولما كان الانحراف في البيوت كافيًا جاز بناء المرحاض فيها منحرفًا فقط، وإن أمكن خلافه، على أنه قد لا يتيسر في البيوت الضيقة بناء المرحاض بحيث تكون القبلة عن يمين القاعد فيه أو يساره تمامًا، وقد يجوز أن يكون ذلك الموضع الذي في بيته - صلى الله عليه وآله وسلم - اتخذ قبل نزول الحكم، _________ (1) ذكر ذلك شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (27/ 420) نقلًا عن مالك قال: بلغني أن جبريل هو الذي أقام قبلته للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وانظر "المغانم المطابة" للسمهودي (2/ 77).

(16/24)


فإن حجرات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أو بعضها كانت بيوتًا [ ... ] (1). وقد يحتمل أن يكون ذلك الموضع بُنِي للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قبل هذا الحكم، ولا يدفع هذا قول عائشة: "والبيوت يومئذٍ ليس فيها [كُنُفٌ] (2) "؛ لاحتمال أن يكون المعنى ليس فيها كلها، فلا ينافي أن يكون قد كان في بعضها، ولم يُغيِّره النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد الحكم؛ لأنه منحرف، وفي تغييره كلفة. وأما الأمر الثالث؛ فلا ريب أن الأصل والظاهر هو الرواية باللفظ، أو بما لا يخالفه مخالفةً لها شأن، وأنه لا يجوز تجويز خلاف هذا لغير دليل، وأنا إنما جوزته في رواية عبيد الله لما يتراءى من الأدلة. [ص 8] على أني أقول: قد تقدم ترجيح ما في رواية يحيى من قوله: "مستقبلاً بيت المقدس" بما لا غبار عليه، وإذا صح وصححنا زيادة عبيد الله، فالراجح من وجوه الاختلاف فيها تأخيرها بلفظ: "مستدبرًا القبلةَ". ويحتمل في حقه الاحتمالان اللذان تقدما في حق مالك فقد جاء عن ابن عمر التوسعة في القبلة، وعليه فالجواب ما تقدم. والله أعلم. هذا ولأهل العلم في هذا الحديث أقوال أخرى: منها: أنه لا يحتج به، لاحتمال أن القصة كانت قبل النهي، وفي هذا بحثٌ محلُّه كتب الأصول. ومنها: عكسه، وهو أنه ناسخ للنهي إما مطلقًا، وإما بالنسبة إلى الاستدبار أو إلى البيوت، أو إلى المراحيض، ورُدّ من وجوه: _________ (1) هنا بياض في الأصل. (2) هنا بياض في الأصل. وقول عائشة في حديث الإفك الطويل: "وذلك قبل أن نتخذ الكُنُفَ قريبًا من بيوتنا"، أخرجه البخاري (2661، 4750) ومسلم (2770).

(16/25)


الأول: أن الفعل لا ينسخ القول، وفي هذا بحث محلُّه كتب الأصول. وقد جاء عن الصحابة الاحتجاج بالفعل على نسخ القول، كما في الوضوء مما غيَّرت النار، مع أنه قد يقال: ليس هذا مجرد فعل، بل فيه تقرير؛ لأن الظاهر أن المرحاض إذا كان في البيت لا يختص بالرجل، بل تشاركه فيه النساء، بل هن أولى. الثاني: أنه لو كان هناك نسخٌ لأعلنه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كما أعلن النهي، ومن البعيد أن ينسخ الحكم فلا يبينه - صلى الله عليه وآله وسلم -، بل يقتصر على الفعل في خلوته. وقد يدفع هذا بأنه بنى المرحاض في بيته - صلى الله عليه وآله وسلم - على الهيئة المؤذنة بالنسخ، فعلم بذلك أهل البيت، وقد احتج الصحابة على نسخ عدم وجوب الغسل على من أكسل بخبر بعض أمهات المؤمنين، بأنه وقع ذلك منه - صلى الله عليه وآله وسلم - ومنها فاغتسلا، مع ما في هذا من الاحتمال، ومن كان له معرفة بالسيرة عرف أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان ربما اكتفى في تبليغ النسخ بإخبار الواحد أو الاثنين، وفي ذلك من الحكمة ما ليس هذا محلَّ بيانه. الثالث: أن التاريخ مجهول، وعليه فإما أن يترجح احتمال أن الواقعة كانت قبل النهي على حسب الإباحة الأصلية، فلا يكون هنا نسخ، وإما أن يتوقف على الجزم، ويعمل بعموم النهي احتياطًا. ومنها: أن هذا الحديث مخصِّص لعموم أحاديث النهي على ماهو مختارُ كثيرٍ من الأصوليين، أنه عند جهل التاريخ، إذا أمكن الحمل على العموم والخصوص حُمِل عليه. وقد يُردُّ هذا بأن التخصيص بيان لا يجوز تأخيره عن وقت الخطاب عند قوم، وعن وقت الحاجة عند آخرين، وهذه الواقعة ليست مقترنةً

(16/26)


بخطاب النهي كما هو ظاهر، فإن كانت متأخرة فقد تأخرت عن وقت الحاجة حتمًا؛ لأن الحاجة إلى قضاء الحاجة متكررةٌ كلَّ يوم، وإذا تأخرت عن وقت الحاجة فلا تخصيص، وإنما يبقى احتمال النسخ، وقد مرَّ ما فيه. وإن كانت متقدمة عن النهي، فالأولى حملها على موافقة الإباحة الأصلية، كما مر. ومنها: حمل الواقعة على خصوصيةٍ للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقوَّاه بعض الأجلة بما قيل: إن فضلاته - صلى الله عليه وآله وسلم - طاهرة. وليس بالبين: أولاً: لأن في الطهارة نظرًا. ثانيًا: لأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يعاملها معاملة الأنجاس، فيبعد عند قضاء الحاجة، ويستنجي، وغير ذلك. فالظاهر أن تعاملها في استقبال القبلة كذلك، وهو أحق بإكرام قبلة ربه عز وجل. ثالثًا: الظاهر من كون المرحاض في البيت أنه لا يختص بالرجل، بل يحتاج إليه النساء، كما مر. وبالجملة فالذي يترجح لي في هذا الحديث ما قدمتُه، وحاصله أن الذي في حديث النهي هو النهي عن استقبال القبلة بالبول أو استدبارها بالغائط، والقبلة في الأصل هي سَمْتُ البيت نفسه، ومن وسَّع فيها فمحل التوسعة عند الاشتباه. فأما من علم أو ظن أنه منحرف عن سمت البيت، فلا صلاة له، وليس ذلك قبلةً في حقه، وإذا لم يكن قبلةً في حقه فلا حرج عليه

(16/27)


في استقباله. [ص 9] إذا تقرر هذا فأقول: نهى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - المسلمين عن مثل ذلك الفعل، كما نهاهم الله عز وجل أن يقولوا لرسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "رَاعِنا"، كما كان اليهود يقولونها، يريدون بها معنى سوء. والله أعلم. وجاء عن الشعبي ولم يصح كما يأتي، أنه قال: [ ... ] (1). ورُدَّ بأنه لو لوحظ هذا لمنع قضاء الحاجة في الفضاء مطلقًا؛ لأن ما يحتمل معاينة المصلين من الملائكة ومسلمي الجن في حال الاستقبال يجيء مثله في غيره. فالمعتمد ما تقدم، وهو ملاقٍ للتعليل المشهور بالإكرام، فإنّ تحرِّي تركِ ما قد يكون إهانةً إكرامٌ، وإذا ظهر أن المفسدة المنظور إليها في المنصوص هي إنما ذلك الفعل، مظنةَ أن يقصد به إهانة القبلة، تكذيبًا لآيات الله، تبين أن مجرد كشف العورة ليس كذلك؛ لأنه لا يكادُ يقصد به الإهانة، وتبين أن استدبار من يريد البول فقط القبلةَ لا محذور فيه، وإن كان بعض ألفاظ النصوص قد يشمله، وقد منعه بعض الشافعية، وتلك ظاهرية صرفة. وظهر أيضًا صحة ما اقتضاه إطلاق النصوص من شمول النهي للتغوط نحو القبلة مع عدم الانحناء، كما إذا كان بين قاضي الحاجة وبين القبلة ساتر، وكما إذا كان في البيوت أو في المواضع المعدَّة لقضاء الحاجة. لأن (2) القبلة هي الكعبة، وإهانتها إنما تتحقق بتنجيسها وتقذيرها ونحو _________ (1) هنا بياض في الأصل. وأثر الشعبي سيأتي (ص 32). (2) من هنا إلى "الباب الثاني" مكتوب في أسفل الصفحة في الركن مقلوبًا.

(16/28)


ذلك، ولو رُئي رجل يبول أو يتغوط مستقبلاً بيت الملك من مسافة ميل أو أبعد، لم يعد ذلك إهانةً لبيت الملك، اللهم إلا أن يقصد الإهانة، فتكون الإهانة في الحقيقة بالقصد أو بتحري ذلك، فيدل على قصد الإهانة. فإن قلت: فليكن العلة هو أن ذلك الفعل قد يُقصد به الإهانة. قلت: الأفعال التي قد يُقصَد بها الإهانة كثيرة، وفيها ما ليس يُنهى عنه عند عدم قصد الإهانة إجماعًا، كوضع مرحاض البيت في قبلته، وكالجلوس مستدبر القبلة. فإن قلت: الاستقبال بالبول والغائط أظهر في احتمال قصد الإهانة، وأشبه بالإهانة بالفعل؛ لأنه لو كان بالقرب يحصل به التنجيس، وهو إهانة بالفعل. أقول: هذا في نظري قوي.

(16/29)


الباب الثاني في الرخصة 2 - ترجم البخاري لحديث أبي أيوب بقوله: [باب لا تُستقبل القبلة بغائطٍ أو بولٍ إلّا عند البناء: جدارٍ أو نحوه] (1). فقال الحافظ في "الفتح": [ ... ] (2). أقول: المختار من هذه الأجوبة هو الثالث، والاعتراض عليه ليس بسديد؛ لأن البخاري إنما فصَّل التراجم لأحكام أخرى، فإنه قال: "باب من تبرز على لبنتين"، ثم ذكر حديث ابن عمر، ومراده الدلالة على استحباب مثل أن يكون قاضي الحاجة على لبنتين أو نحوهما مما يرفعه عن الأرض؛ لأن ذلك أبعد عن احتمال تنجس رجله أو ثيابه. ثم قال: "باب خروج النساء إلى البراز"، وساق حديث الإذن في ذلك، ثم قال: "باب التبرز في البيوت"، وساق فيه حديث ابن عمر، قال الحافظ في "الفتح" (3): "عقب المصنف بهذه الترجمة ليشير إلى أن خروج النساء للبراز لم يستمر، بل اتُّخِذتْ بعد ذلك الأخليةُ في البيوت، فاستغنين عن الخروج إلا للضرورة". _________ (1) هنا بياض في الأصل. (2) بياض في الأصل. وراجع "الفتح" (1/ 245) حيث ذكر ثلاثة أجوبة لمن قال: ليس في حديث الباب دلالة على الاستثناء المذكور، ثالثها أن الاستثناء مستفاد من حديث ابن عمر المذكور في الباب الذي بعده. (3) (1/ 250).

(16/30)


وحاصله الاستدلال بأن الخروج إنما هو رخصة قبل اتخاذ الأخلية في البيوت، فلا ينبغي للمرأة التي في بيتها خلاء أن تخرج. نعم قد يقال: إذا كان البخاري إنما أخذ الاستثناء من حديث ابن عمر، فقد كان ينبغي له أن يذكره في تلك الترجمة، أو يشير إليه. وبالجملة، فمن المحتمل أن البخاري إنما أخذ الاستثناء من حديث ابن عمر، ولم يلتفت إلى هذا الاعتراض الصناعي، ومن المحتمل أن يكون جوَّز دلالة قوله في الحديث: "إذا أتى أحدكم الغائط" على الاستثناء المذكور [ص 10] ببول أو استدباره بغائط؛ لأنه لم يستقبل القبلة ولم يستدبرها. وقوله: "ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا" محمولٌ إما على موضع الاشتباه، وإما على أن المراد: انحرِفُوا إلى جهة الشرق، أو إلى جهة الغرب، وذلك الانحراف يحصل بمثل انحراف من بالمدينة إذا استقبل بيت المقدس تمامًا، وإما على أنه ترغيب في الاحتياط، وليس على الوجوب، والصارف ما تقدم من أن المحذور هو استقبال نفس القبلة أو استدبارها، وإما على أنه مقيد بعدم المشقة، كما يشير إليه قول الله عز وجل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}. وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (1). وذلك الموضع الذي كان في بيته - صلى الله عليه وآله وسلم - مما يشق فيه التشريق والتغريب تمامًا؛ إما لأن البقعة ضيقة، لا يتيسر وضع المرحاض فيها إلا على تلك الهيئة، وإما لأنه بُنِي قبل النهي؛ وكان في تغييره كلفة. _________ (1) أخرجه البخاري (7288) ومسلم (1337) عن أبي هريرة.

(16/31)


فغاية ما في هذا الحديث أنه يدل على جواز الاقتصار على التحرف عن القبلة الخاصة إذا لم يتيسر أن يجعلها عن يمينه أو يساره، وهذا مما ينبغي الأخذ به، وقد أخذ به أبو أيوب كما تقدم، مع أنه لم ينقل عنه إلا حديث النهي. والله أعلم. 3 - أخرج الدارقطني (1) من طريق عيسى الحناط عن الشعبي عن ابن عمر قال: "أتيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في حاجة، فلما دخلت إليه فإذا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الحَرَج على لبنتينِ مستقبلَ القبلة". قال الدارقطني: عيسى بن أبي عيسى الحناط ضعيف. وأخرج هو (2) وغيره من طريق عيسى الحناط أيضًا قال: قلت للشعبي: عجبت لقول أبي هريرة ونافع عن ابن عمر! قال: وما قالا؟ قلت: قال أبو هريرة: "لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها". وقال نافع عن ابن عمر: "رأيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ذهب مذهبًا مواجه القبلة". فقال: أما قول أبي هريرة ففي الصحراء، إن لله تعالى خلقًا من عباده يصلون في الصحراء، فلا تستقبلوهم ولا تستدبروهم، وأما بيوتكم هذه التي تتخذونها للنتن، فإنه لا قبلة لها. قال الدارقطني: عيسى بن أبي عيسى هو عيسى الحناط، وهو عيسى بن ميسرة، وهو ضعيف. أقول: عيسى مجمع على ضعفه، وقال جماعة: متروك الحديث (3). _________ (1) في "السنن" (1/ 60). والحرج مجتمع شجر ملتفّ كالغيضة. "النهاية" (1/ 362). (2) المصدر نفسه (1/ 61). (3) انظر "تهذيب التهذيب" (8/ 234 ــ 236).

(16/32)


4 - أخرج جماعة منهم الحاكم في "المستدرك" والدارقطني (1) من طريق صفوان بن عيسى ثنا الحسن بن ذكوان عن مروان الأصفر قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبلَ القبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قد نُهِي عن هذا؟ قال: "إنما نُهِي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس". قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، فقد احتج بالحسن بن ذكوان. وأقره الذهبي. "المستدرك مع تلخيصه" (1/ 154). وقال الدارقطني: هذا صحيح، كلهم ثقات. وقال الحافظ في "الفتح" (2): رواه أبو داود والحاكم بسند لا بأس به. أقول: بلى وأي بأس؟ فإن الحسن بن ذكوان ضعفه الأئمة: أحمد ويحيى وعلي وأبو حاتم والنسائي وغيرهم. قال أحمد: أحاديثه أباطيل، يروي عن حبيب بن أبي ثابت، ولم يسمع من حبيب، إنما هذه أحاديث عمرو بن خالد الواسطي. وجاء نحو هذا عن يحيى بن معين وأبي داود، كما في "التهذيب" (3). قال: وأورد ابن عدي حديثين من طريق الحسن بن ذكوان، وقال: إنما سمعهما الحسن من عمرو بن خالد عن حبيب، فأسقط الحسن بن ذكوان عمرو بن خالد من الوسط. أقول: إن كان الحسن قال: حدثنا حبيب أو نحو ذلك، فهذا هو الكذب. _________ (1) "المستدرك" (1/ 154) و"سنن الدارقطني" (1/ 58). (2) (1/ 247). والحديث عند أبي داود (11). (3) (2/ 276، 277).

(16/33)


وإن كان قال: قال حبيب أو نحو ذلك، فهذا تدليس عن الهلكى، فإن عمرو بن خالد تالف، رماه بالكذب ووضع الحديث: وكيع وأحمد وإسحاق ويحيى وأبو زرعة وأبو داود وغيرهم (1). فعلى القول بأن التدليس عن مثل هذا يُسقِط العدالة فظاهر، وأما على القول إنه لا يسقطها إذا كان إذا سئل بيَّن، فالمتفق عليه بين أهل العلم أن مثل هذا لا يُعتدُّ بما رواه غير مصرِّح بالسماع، وحديثه هذا لم يصرح فيه بالسماع، فسقط إجماعًا. فأما قول الحاكم: "إن البخاري احتج به" ففيه نظر؛ إنما أخرج له البخاري حديثًا واحدًا في الشفاعة (2)، رواه من طريق يحيى القطان عن الحسن بن ذكوان حدثنا أبو رجاء. قال الحافظ في "الفتح" (3): الحسن بن ذكوان .... تكلم فيه أحمد وابن معين وغيرهما، لكنه ليس له في "البخاري" سوى هذا الحديث، من رواية يحيى القطان عنه، مع تعنته ــ يعني يحيى ــ في الرجال، ومع ذلك فهو متابعة. وقال في المقدمة (4): روى له البخاري حديثًا واحدًا ... ، ولهذا الحديث شواهد كثيرة. _________ (1) انظر "تهذيب التهذيب" (8/ 26، 27). (2) رقم (6566). (3) (11/ 441). (4) مقدمة "الفتح" (ص 397).

(16/34)


أقول: فالحديث من رواية يحيى القطان، وتثبته معروف، وهو متابعة [ص 11] وصرح الحسن بالسماع، فكيف يقاس عليه حديث هذا الباب؟ لا والله، بل حديثه في الباب ساقط؛ لاحتمال أنه سمعه من أحد الوضاعين. والله أعلم. 5 - أخرج جماعة منهم الحاكم في المستدرك وابن خزيمة كما في الفتح وأحمد وأبو داود وغيرهم (1) من طريق ابن إسحاق حدثني أبان بن صالح عن مجاهد عن جابر قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قد نهانا أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا أهرقنا الماء، ثم رأيناه قبل موته وهو يبول مستقبلَ القبلة". قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وأقره الذهبي. المستدرك مع تلخيصه (1/ 154). أقول: ابن إسحاق فيه كلام كثير، يتحصل منه أنه مدلس، في حفظه شيء. فأما التدليس؛ فمأمونٌ هنا للتصريح بالسماع. وأما سوء الحفظ؛ فتردد نظرهم فيه، وقال الذهبي في "الميزان" (2) بعد حشد الأقوال: فالذي يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث صالح الحال _________ (1) أحمد (3/ 360) وأبو داود (13) والترمذي (9) وابن ماجه (9) وابن خزيمة (58) وابن حبان (1420) والحاكم (1/ 154) والبيهقي (1/ 92). وانظر "الفتح" (1/ 245). (2) (3/ 475).

(16/35)


صدوق، وما انفرد به ففيه نكارة، فإن في حفظه شيئًا، وقد احتج به أئمة. فالله أعلم. وقد استشهد به (1) مسلم بخمسة أحاديث لابن إسحاق ذكرها في "صحيحه". وفي "طبقات المدلسين" (2) لابن حجر: أن مسلمًا إنما أخرج لابن إسحاق مقرونًا بغيره. وأبان: وثقه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم وغيرهم (3). وقال ابن عبد البر (4) في حديثه هذا: ليس صحيحًا؛ لأن أبان بن صالح ضعيف. وقال ابن حزم (5) لما ذكر حديثه هذا: أبان ليس بالمشهور. ذكر ذلك ابن حجر في "التهذيب" (6) وتعقبهما. ومجاهد: إمام، لكن ذكر ابن حجر في "التهذيب" (7) عن القطب الحلبي قال: مجاهد معلوم التدليس، فعنعنته لا تفيد الوصل. قال ابن حجر: ولم أر مَن نسبه إلى التدليس، نعم إذا ثبت قول ابن معين _________ (1) كذا في الأصل بزيادة "به". وفي "الميزان" بحذفها، وهو الوجه. (2) "تعريف أهل التقديس" (ص 51) ط. مكتبة المنار. ولا يوجد في طبعة المباركي. (3) انظر "تهذيب التهذيب" (1/ 94). (4) في "التمهيد" (1/ 312). (5) في "المحلى" (1/ 198). (6) (1/ 95). (7) (10/ 44).

(16/36)


إن قول مجاهد: "خرج علينا علي" ليس على ظاهره فهو عين التدليس. أقول: قد صرحوا بأن مجاهدًا روى عن جماعة من الصحابة الذين عاصرهم وأنه لم يسمع منهم، وهذا تدليس عند جماعة من أهل العلم، وعلى القول بأنه لا يسمى تدليسًا فهو في معناه، خصوصًا على ما ذهب إليه الجمهور من حمل الرواية عن المعاصر على السماع وإن لم يعلم اللقاء، على أني لم أجد ما يصرح بسماع مجاهد من جابر، وقد راجعت مسند جابر في مسند أحمد فلم أر لمجاهد عنه إلا أحرفًا لم يصرح في شيء منها بالسماع. ومع ذلك فقد روى منصور عن مجاهد عن ابن عباس حديث: "مر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بحائطٍ من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانينِ يُعذَّبان". ورواه الأعمش عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس، أخرجهما البخاري (1). قال ابن حجر في "الفتح" (2): إخراجه له على الوجهين يقتضي صحتهما عنده، فيُحمل على أن مجاهدًا سمعه من طاوس عن ابن عباس، ثم سمعه من ابن عباس بلا واسطة أو العكس، ويؤيده أن في سياقه عن طاوس زيادة. وصرَّح ابن حبان (3) بصحة الطريقين معًا، وقال الترمذي (4): رواية الأعمش أصح. _________ (1) رقم (216، 218). (2) (1/ 317). (3) في "صحيحه" (7/ 400). (4) عقب الحديث (70).

(16/37)


وفي "الفتح" (1) في الكلام على هذه المسألة: وقال قوم بالتحريم مطلقًا، وهو المشهور عن أبي حنيفة وأحمد، وقال به أبو ثور صاحب الشافعي، ورجحه من المالكية ابن العربي، ومن الظاهرية ابن حزم، وحجتهم أن النهي مقدم على الإباحة، ولم يصححوا حديث جابر. أقول: الحق في هذه الأمور أنه لم يتعيَّن من واحدٍ منها ما هو بيِّنٌ في تضعيف الحديث، إلا أنها بمجموعها تُزلزِل الثقة به، على أنه على فرض صحته واقعةُ حالٍ يكفي في دفعها الاحتمال، فيحتمل أن جابرًا أراد بالقبلة: القبلةَ الموسعة، وهي جهة الجنوب لأهل المدينة، والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد علم عينَ القبلة، فلعله تحرَّف عنها يمنةً أو يسرةً، فكان في الحقيقة غير مستقبل القبلة، وبنى جابر على توسعة القبلة. ومما يؤيد هذا قول أبي أيوب ــ كما في رواية عنه في "الصحيحين" (2) ــ: "فقدمنا الشام فوجدنا مراحيضَ قد بُنِيتْ قِبَلَ القبلة، فننحرف عنها ونستغفر الله". فإن قوله: "ونستغفر الله" يدل أنه يشكُّ في الانحراف هل يدفع الإثم؟ ويوضحه قوله في رواية أخرى: "والله ما أدري ما أصنعُ بكِسْر (3) أبيكم هذه"، فهذا يدل أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرون أن النهي يتناول ما عن يمين القبلة الخاصة ويسارها، فكأن جابرًا كان قد استقر في نفسه هذا المعنى، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يبول مستقبلاً يسارَ القبلة الخاصة أو يمينَها، _________ (1) (1/ 246). (2) البخاري (394) ومسلم (264). (3) الكِسْر: ناحية البيت، ولكل بيتٍ كسران عن يمين وشمال. انظر "النهاية" (4/ 172).

(16/38)


وقع له أنه مستقبلٌ القبلةَ الموسعةَ، ورأى أن هذا يخالف أصل النهي، لشمول النهي عنده كما سلف. ثم أقول: إن احتمل في واقعة جابر مشقة جَعْلِ القبلة عن اليمين أو اليسار تمامًا فظاهر، وإن لم يحتمل لأن الظاهر أنه لو كان هناك مشقة لكان الظاهر أن يلاحظها جابر ويخبر بها، ففي الحديث على فرض صحته دليل على أن الانحراف يكفي ولو عند عدم المشقة، وعليه يُشبِه حملُ قوله في حديث أبي أيوب: "ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا" على معنى: انحرِفُوا إلى جهة الشرق أو إلى جهة الغرب كما مر، أو على أن الأمر بجعل القبلة يمينًا أو يسارًا تمامًا للندب فقط، ولكن واقعة جابر لبيان الجواز. والله أعلم. [ص 12] 6 - أخرج الإمام أحمد والدارقطني وآخرون (1) من حديث عائشة أنها قالت: "ذُكِر لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن ناسًا يكرهون أن يستقبلوا القبلةَ بفروجهم، فقال: أو قد فعلوها؟ حوِّلوا مقعدي قِبَل القبلة". وفي سنده اضطراب كثير، فرواه الإمام أحمد في المسند (6/ 137): ثنا وكيع ثنا حماد بن سلمة عن خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت عن عِراك عن عائشة. ورواه (ص 219): ثنا بهز ثنا حماد بن سلمة ثنا خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت قال: ذكروا عند عمر بن عبد العزيز رحمه الله استقبال القبلة بالفروج. فقال عراك بن مالك: قالت عائشة: .... _________ (1) أحمد (6/ 227) والدارقطني (1/ 60). وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة في "المصنف" (1/ 151) وابن ماجه (324) والطحاوي في "معاني الآثار" (4/ 234).

(16/39)


ورواه (ص 183): ثنا عبد الوهاب الثقفي ثنا خالد عن رجل عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: ما استقبلتُ القبلةَ بفرجي منذ كذا وكذا، فحدَّث عراك بن مالك عن عائشة. وفي (ص 227): ثنا أبو كامل ثنا حماد بن سلمة عن خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت أن عراك بن مالك حدث عن (كذا وكأنها زائدة) عمر بن عبد العزيز أن عائشة قالت .... وقال (ص 239): ثنا يزيد أنا حماد بن سلمة عن خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت قال كنا عند عمر بن عبد العزيز، فذكروا الرجل يجلس على الخلاء فيستقبل القبلة، فكرهوا ذلك، فحدث عن (كذا وكأنها زائدة) عراك بن مالك عن عائشة. وقال (ص 184): ثنا علي بن عاصم قال خالد الحذاء: أخبرني عن خالد بن أبي الصلت قال: كنت عند عمر بن عبد العزيز في خلافته، قال: وعنده عراك بن مالك، فقال عمر: ما استقبلتُ القبلةَ ولا استدبرتُها ببول ولا غائط منذ كذا وكذا، فقال عراك: حدثتني عائشة. وفي ترجمة خالد بن أبي الصلت من "التهذيب" (1): وقال إبراهيم بن الحارث: أنكر أحمد قول من قال [عن] عراك: سمعت عائشة. وقال: عراك من أين سمع من عائشة؟ وقال أبو طالب عن أحمد: إنما هو عراك عن عروة عن عائشة، ولم يسمع عراك منها. _________ (1) (3/ 98).

(16/40)


وفي ترجمة عراك (1): عن الأثرم أنه ذكر لأحمد رواية خالد بن أبي الصلت عن عراك سمعت عائشة. فقال أحمد: مرسل، عراك بن مالك من أين سمع عن عائشة؟ إنما يروي عن عروة، هذا خطأ. ثم قال: من يروي هذا؟ قلت: حماد بن سلمة عن خالد الحذاء. فقال: قال غير واحد عن خالد الحذاء ليس فيه سمعتُ. وقال غير واحد أيضًا عن حماد بن سلمة ليس فيه سمعت. وقال أحمد في موضع آخر: أحسن ما روي في الرخصة ــ يعني في استقبال القبلة ــ حديث عراك، وإن كان مرسلاً؛ فإن مخرجه صحيح (2). وفي ترجمة خالد بن أبي الصلت من "التهذيب" (3): قال البخاري: خالد بن أبي الصلت عن عراك مرسل ..... قال البخاري في "التاريخ" (4): قال موسى: ثنا حماد هو ابن سلمة عن خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت قال: كنا عند عمر بن عبد العزيز فقال عراك بن مالك: سمعت عائشة .... وقال موسى: ثنا وهيب عن خالد عن رجل أن عراكًا حدّث عن عمرة عن عائشة. وقال ابن بكير: حدثني بكر عن جعفر بن ربيعة عن عراك عن عروة أن عائشة كانت تنكر قولهم: لا يستقبل القبلة. وهذا أصح. قال (5): وقال الترمذي في العلل: سألت محمدًا ــ البخاري ــ عن هذا الحديث. فقال: فيه اضطراب، والصحيح عن عائشة قولها. وذكر أبو حاتم _________ (1) من "تهذيب التهذيب" (7/ 173). (2) في "التهذيب": "حسن" بدل "صحيح". (3) (3/ 97). (4) "التاريخ الكبير" (3/ 156). (5) في "التهذيب" (3/ 98).

(16/41)


نحو قول البخاري، وأن الصواب: عراك عن عروة عن عائشة قولها، وأن من قال فيه: عن عراك سمعت عائشة مرفوعًا، وهم فيه سندًا ومتنًا. أقول: فهذا كلام أئمة الفن: أحمد والبخاري وأبي حاتم، جزموا بأن عراكًا لم يسمع من عائشة، وزاد البخاري وأبو حاتم فحكما بأن المرسل المرفوع خطأ، وأن الصواب موقوف على عائشة. وأخرج الدارقطني (1) الحديث من طريق يحيى بن مطر نا خالد الحذاء عن عراك بن مالك عن عائشة قالت: "سمع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ... ". ثم قال: هذا القول أصح، هكذا رواه أبو عوانة والقاسم بن مطيب ويحيى بن مطر عن خالد الحذاء عن عراك. ورواه علي بن عاصم وحماد بن سلمة عن خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت عن عراك. وتابعهما عبد الوهاب الثقفي إلا أنه قال: عن رجل. ثم ساقه من طريق علي بن عاصم، ثم قال: هذا أضبط إسناد (؟ ) (2)، وزاد فيه خالد بن أبي الصلت، وهو الصواب. ثم ساقه من طريق يحيى بن إسحاق ووكيع كلاهما عن حماد بن سلمة عن خالد عن خالد عن عراك عن عائشة مرفوعًا. وقوله في الأول: وهذا القول أصح، وفي الثاني: وزاد فيه خالد بن أبي الصلت وهو الصواب، ليس تناقضًا، وإنما صحَّح من الأول قولهم: عراك _________ (1) في "السنن" (1/ 59). (2) كذا في الأصل. وكأنه يشير إلى الإشكال في كلمة "إسناد" أو "أضبط". وانظر ما يأتي (ص 57).

(16/42)


عن عائشة، أي ليس فيه تصريح بالسماع، وصوَّب من الثاني زيادة خالد بن أبي الصلت، فليس في كلامه مخالفة لكلام من تقدمه، كما قد يتوهم. [ص 13] وساق الحازمي في "الاعتبار" (1) الحديث من طريق علي بن عاصم، ثم قال: وتابعه حماد بن سلمة وعبد الله بن المبارك. أقول: لم أظفر برواية ابن المبارك، ولا أدري كيف السند إليه، وهل مراد الحازمي متابعته لعلي في زيادة خالد بن أبي الصلت في السند فقط، أو في ذلك وفي ذكر عراك أنه سمع من عائشة؟ وبالجملة فالحق زيادة خالد بن أبي الصلت في السند، فأما تصريح عراك بالسماع، فإنه ثابت عن علي بن عاصم عن خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت، ولكن علي بن عاصم على يَدَيْ عدلٍ. قال يزيد بن هارون: ما زلنا نعرفه بالكذب. ذكره في "التهذيب" (2). وقال محمد بن المنهال (3): ثنا يزيد بن زريع قال: لقيت علي بن عاصم بالبصرة، وخالد الحذاء حي، فأفادني أشياءَ عن خالد، فسألته عنها، فأنكرها كلها، وأفادني عن هشام بن حسان حديثًا، فأتيت هشامًا فسألته عنه، فأنكره. وقال البخاري (4): قال وهب بن بقية: سمعت يزيد بن زريع ثنا علي عن خالد بسبعة عشر حديثًا، فسألنا خالدًا عن حديث فأنكره، ثم آخر فأنكره، ثم ثالث فأنكره، فأخبرناه، فقال: كذّاب فاحذروه. _________ (1) (ص 25) ط. المنيرية. (2) (7/ 346). (3) "التهذيب" (7/ 347). (4) "التاريخ الكبير" (6/ 290، 291).

(16/43)


وفيه (1): قال عباد بن العوام: ليس يُنكَر عليه أنه لم يسمع، ولكنه كان رجلاً موسرًا، وكان الوراقون يكتبون له، فنراه أُتِي من كتبه. وذكر نحوه عن يعقوب بن شيبة. أقول: فأحسن حال علي بن عاصم أنه كان يعتمد على وراقين غير مرضيين، فيُدخِلون في كتبه أحاديثَ لم يسمعها، ومنها ما هو كذب وغلط، فلا يَفطَن لذلك، ويتحفظ من تلك الكتب، ويحدث بما وجده فيها، فبهذا وقع ما حكاه يزيد بن زريع، وهذا أمرٌ لا يمكن من يدافع عن علي بن عاصم أحسن منه، وإذًا فعلي بن عاصم لا يُعتدُّ بحديثه. وأما حماد بن سلمة؛ فيتلخص مما تقدم أن جماعة رووه عنه، وفيه عراك عن عائشة، منهم وكيع وبهز ويزيد بن هارون وعبد الوهاب الثقفي وأبو كامل، وهؤلاء أئمة أثبات، ورواه موسى بن إسماعيل عن حماد فقال فيه: عراك بن مالك سمعت عائشة. وموسى ثقة متقن، ولكن أعرف الناس به تلميذاه البخاري وأبو حاتم حكمَا على روايته بالغلط، وكذلك الإمام أحمد. والذين قالوا: عن حماد عن خالد عن خالد عن عراك عن عائشة أكثر، وبعضهم أثبتُ من موسى وأكبر منه، فسماعهم من حماد أقدم من سماع موسى، وحماد تغير حفظه بأَخَرةٍ. وقولهم موافق لرواية غير حماد عن خالد، ومع ذلك فخالد الحذاء تغير حفظه بأخرة، ولا يبعد أن يكون الاضطراب منه، فقد رواه عنه وهيب فقال: عراك عن عمرة عن عائشة. _________ (1) "التهذيب" (7/ 345).

(16/44)


وفوق هذا كله، فخالد بن أبي الصلت مجهول الحال، قال الإمام أحمد: ليس معروفًا. وقال عبد الحق: ضعيف. وقال ابن حزم: مجهول (1). يريد: مجهول الحال. فلا يدفعه تعقب ابن مفوّز بقوله: هو مشهور بالرواية، معروف بحمل العلم. ولا ينفعه ذكر ابن حبان له في "الثقات" (2)، فإن معنى الثقة عنده كما صرح به: أن يروي الرجل عن ثقة، ويروي عنه ثقة، ولا يكون حديثه منكرًا. وهذا خلاف ما عليه الجمهور، ومع ذلك فإنه لا يراعي هذا الشرط كما ينبغي، بل قد عرفتُ بالتتبع أنه ربما ذكر الرجل، ولا يدري عمن روى، ولا من روى عنه، ولا ما روى، وربما كان ينظر في "تاريخ البخاري" ثم يلخصه في "الثقات"، ووجدتُ تراجم كثيرة في "تاريخ البخاري" لا يصرح فيها البخاري بقوله: "روى عن فلان، وروى عنه فلان". ووجدتُ ابن حبان يذكرهم في الثقات قائلًا: "يروي المراسيل، روى عنه أهل بلده"، أو نحو ذلك. فهذا ظاهر جدًّا أنه إنما وجد التراجم في تاريخ البخاري، فذكرهم في الثقات، مع الجهل بهم البتةَ. وكذلك قد يصرح البخاري بمن روى عنه الرجل، ولا يذكر من روى عنه، أو عكس ذلك، فيذكره ابن حبان، فيصرح بما صرح به البخاري، ويُمَجْمِجُ (3) عما تركه البخاري، وقد نبهتُ في حواشي "تاريخ البخاري" _________ (1) انظر "تهذيب التهذيب" (3/ 98). (2) (6/ 252) وفيه: "خالد بن الصلت"، وهو خطأ. (3) أي لا يُبيِّن.

(16/45)


على كثير من هذا. وأوضح من ذلك أن حديث خالد هذا منكر كما يأتي، فلم يتحقق فيه شرطُ أن لا يكون حديثه منكرًا. ورأيت لبعض أجلّة العصر كلامًا في تصحيح هذا الحديث، وجزم بأنه صحيح على شرط مسلم. وأقول: في هذا نظر من وجوه: أظهرها: أن خالد بن أبي الصلت مجهول الحال كما علمت، وليس من مذهب مسلم الاحتجاج بأمثاله. الثاني: أن المعاصرة لم تتحقق، فإنه لا يثبت أن عراكًا أدرك سِنَّ السماع والضبط في حديث عائشة. نعم احتج ابن دقيق العيد على ذلك بأنه عراكًا سمع من أبي هريرة وروى عنه، ووفاة أبي هريرة وعائشة في عام واحد. ولكن في هذا نظر؛ لأنه لم يثبت ثبوتًا يقوم به الحجة أن أبا هريرة وعائشة توفيا في عام واحد، وإنما قال ذلك هشام بن عروة: إن عائشة توفيت سنة 57، وتوفي أبو هريرة بعدها في السنة. وهشام لم يدرك ذلك، وقد قال بعضهم: إن أبا هريرة تأخر إلى سنة 58، وقال بعضهم: تأخر إلى سنة 59.

(16/46)


 حكم القبلة وقضاء الحاجة

في الصحيحين (1) وغيرهما من حديث أبي أيوب قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا". ولم يذكر البخاري قوله: "ببول ولا غائط"، ولكنه أشار إلى صحتها بقوله في الترجمة: "باب لا تُستقبل القبلة ببول ولا غائط"، وفي موضع آخر (2): "باب قبلة أهل المدينة ... لقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "لا تستقبلوا القبلة بغائط أو بول، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا". وفي "صحيح مسلم" (3) وغيره عن سلمان: "نهانا ــ يعني النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ــ أن نستقبل القبلة بغائط أو بول ... " الحديث. وفي ترجمة البخاري إشارة إليه. [ص 2] فيه مباحث: الأول: احتجّ بعضهم بقوله: "إذا أتى أحدكم الغائط" على اختصاص الحكم بما عدا الأبنية، ويأتي الكلام في ذلك في البحث عن الرخصة إن شاء الله تعالى. _________ (1) البخاري (144) ومسلم (264). (2) صحيح البخاري مع الفتح (1/ 498). (3) رقم (262).

(16/47)


الثاني: قال الحافظ في "الفتح" (1): "والظاهر من قوله: "ببولٍ" اختصاص النهي بخروج الخارج من العورة، ويكون مثار إكرام القبلة عن المقابلة بالنجاسة ... وقيل: مثار النهي: كشف العورة". أقول: الذي تدل عليه الأحاديث هو الأول، أعني النهي عن أن يبول الإنسان مستقبلًا القبلة، أو يتغوط مستدبرًا لها. فقوله: "عن المقابلة بالنجاسة" إن أراد به عن هذه النجاسة الخاصة حال إخراجها من البدن فذاك، وإن أراد به التعميم فيشمل أن القصد مستقبلًا القبلة بالفروج، دون أن يكون في إناءٍ بولٌ فيُراقَ إلى جهة القبلة، فليس هذا في النصوص، ولا في معنى ما فيها، كما يأتي في بيان العلة، إن شاء الله تعالى. وأما الثاني: وهو كشف العورة، فخلاف المتبادر من النصوص، وخلاف قوله: "إذا أتى أحدكم الغائط"، وقوله: "ببول أو غائط"، وإهمالٌ لما ذكرته النصوص، ونَصْبٌ لما لم تذكره، وإطلاقٌ لما قيدتْ به الاستقبال؛ من كونه عند قضاء الحاجة ببول أو غائط، وتقييدٌ لما أطلقته من ذلك، إذ لم تقيد بالكشف، فالصواب الأول. المبحث الثالث: العلة، اشتهر بينهم أنها الإكرام عن أن تُستقبَل بالبول والغائط، وأوضحه بعض المحققين بقوله: "لمنافاة الإخراج المذكور لما شُرِع استقبالها لأجلهِ، وهو الصلاة". وأقول: الحكم المنصوص: نهي، فيقتضي أن العلة مفسدة فيما نهي عنه، _________ (1) (1/ 246).

(16/48)


فإذا اعتددنا بما تقدم، قلنا: إن استقبالها بما ذكر إهانةٌ لها، ولذا نراه بيِّنًا عند التحقيق باعتبار القصد والنية، ألا ترى أن أهل الشام لما كانوا يذكرون عليًّا عليه السلام بلفظ "أبو تراب" قاصدين الغضَّ منه، كان ذلك شتمًا، وإن لم تكن تلك الكنية في نفسها دالَّةً على نقصٍ ولا مُشعِرةً به، بل تُشعِر بالمدح بالنظر إلى سببها. وكذلك لما كتب زياد إلى الحسن عليه السلام: "إلى الحسن بن فاطمة" قاصدًا الغضَّ منه، عدَّ الحسن ذلك غضًّا [منه]. ويَهجِسُ (1) في نفسي أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما كان يستقبل أولًا بيت المقدس، ثم حُوِّل إلى الكعبة، وغاظ اليهودَ تركُه قبلتَهم إلى غيرها غيظًا شديدًا كما هو معروف، كان ذلك مظنةَ أن يَحمِلَ بعضَهم الغيظُ على أن يتحرى استقبال الكعبة بالبول والغائط، قائلًا: إنها لا تصلح لأن تُستقبلَ بل لأن تُستقبلَ بهذا، ويكون فعله هذا تغاليًا في الكفر، وتكذيبًا بآيات الله، وإهانةً للقبلة. [ص 3] فقه هذا الحديث الذي يتحقق من الواقعة هو استقبال الشام بالبول. أما الشام: فإن الرواية اختلفت؛ فجاء "مستقبلَ الشام"، وجاء "مستقبلًا بيتَ المقدس". وبيت المقدس من الشام، لكن الذي يترجح "مستقبلًا بيتَ المقدس"، فإنها الثابتة عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو أكبر من عبيد الله وأجلُّ، وموصوف بالفقه، وبأنه كان يؤدي الحديث على وجهه. _________ (1) أي: يخطر في البال.

(16/49)


وأما البول: فلأن الجالس لحاجته إن كان للبول فقط فواضح، وإن كان للغائط فمن لازمهِ عادةً البولُ وإن قلَّ، وليس في كلام ابن عمر ذكرٌ للغائط، والظاهر أنه لم يُثبِته؛ لأنه إنما حانتْ منه التفاتةٌ، والظاهر أنه يَصرِف نظره قبل أن يستثبت، وأقوى من هذا أن الله تبارك وتعالى لم يكن ليكشف لأحدٍ تلك الحالَ من رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -. إذا تقرر هذا فقد يقال: لا حجة للمرخصين في هذه الواقعة البتة. أما أولًا: فلأن من كان بالمدينة إذا استقبل بيت المقدس تمامًا لم يكن مستدبرًا الكعبةَ تمامًا، بل يكون منحرفًا عنها إلى جهة الشرق، فلو كان ثَمَّ تغوّط لما كان إلى القبلة. وأما ثانيًا: فلأنه ليس في الواقعة ذِكرٌ للغائط. فإن قيل: فما وجه احتجاج ابن عمر بالقضية على ما أنكره من قول الناس: "لا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس"؟ قلت: أما احتجاجه بالنسبة إلى بيت المقدس فواضح، وأما بالنسبة إلى القبلة فلعله لم يُرِد إنكارَ قولِ الناس فيها، وإنما أنكر التسويةَ بينها وبين بيت المقدس، فكأنه قال: يقولون: لا تَستقبلِ القبلةَ ولا بيتَ المقدس، فيسوُّون بينهما، وإنما الثابت أن لا تُستقبلَ القبلةُ، فأما بيت المقدس فالواقعة تردُّه. وقد يؤيد هذا أنه لم يتعرض في قوله: "إن أُناسًا يقولون .... " لاستدبار القبلة. فإن قيل: فلماذا ذكر في وصف الواقعة قوله: "مستدبر القبلة"؟ قلت: ليس هذا في رواية يحيى، وإنما هو في رواية عبيد الله، واختُلِف

(16/50)


فيه تقديمًا وتأخيرًا وغير ذلك كما مر، ويحيى أكبر وأجلُّ وفقيه، وممن يؤدي الحديث على وجهه، وعبيد الله إمام في الرواية، ولكن من المحتمل أن يكون تصرَّفَ في اللفظ بحسب ما فهمه من المعنى، كأنه سمع القصة باللفظ الذي رواه يحيى، فوقع في نفسه أن مقصود ابن عمر إنكار النهي عن استقبال القبلة واستدبارها بالحاجة، فلما أدّى الحديث تصرَّفَ في لفظه بحسب ذلك، فأسقط أول الكلام "إن أُناسًا يقولون ... " كما مر، وقال: "مستقبل الشام" بدل "مستقبلًا بيت المقدس" كأنه علم ما قدمتُه من أن [مَن] بالمدينة إذا استَقبَل بيتَ المقدس تمامًا لم يكن مستدبر الكعبة تمامًا؛ فوقع له أن مراد ابن عمر ببيت المقدس مطلقُ الشام، ومَن بالمدينة إذا استدبر الكعبة تمامًا يكون مستقبلًا مشارقَ الشام. وزاد قوله: "مستدبر القبلة، أو الكعبة، أو البيت" لأنه فهم أن ذلك هو المقصود من القصة. ومما يُقوِّي هذا اضطرابُه في هذه اللفظة، فتارةً يؤخِّرها على الأصل من كونها زيادة، وتارةً يقدِّمها نظرًا إلى أنها هي المقصودة بحسب ما فهمه، وتارةً يقول: "القبلة" على الأصل، وتارةً يقول: "الكعبة أو البيت"، حرصًا على أداء ما فهمه من المعنى؛ لأن استقبال الشام يصدق باستقبال بيت المقدس، فلا يلزم منه استدبار الكعبة كما مر، وإن لزم استدبار القبلة، على رأي من يقول: إنها الجهة، أي: سمت البيت وما عن يمينه ويساره إلى حد ربع السماء. [ص 4] قوله: "إذا أتى أحدكم الغائط"، احتج به بعضهم على أن النهي لا يتناول البيوت؛ لأن الغائط هو المكان المنخفض من الأرض في الفضاء، ونسب ذلك إلى البخاري؛ إذ ترجم لحديث أبي أيوب بقوله: "باب لا

(16/51)


تُستقبل القبلةُ ببولٍ ولا غائطٍ إلا عند البناء: جدارٍ أو نحوه". وبسط الحافظ في "الفتح" (1) الكلام على ذلك بما لا أرى تحته طائلًا، فإن المتبادر من الحديث أن قوله: "إذا أتى أحدكم الغائط" إنما هو كناية عن إرادة قضاء الحاجة، كما أن قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} كناية عن الحدث. فحاصل معنى الجملة: إذا أراد أحد منكم أن يقضي حاجته، والمعتبر في الكنايات هو المعنى، ولا يفهم منها موافقة الحقيقة ولا مخالفتها، كما في قولنا: "يد السلطان طويلة" فإنما فيها أنه يقدر على تنفيذ إرادته فيمن يبعد عنه، ولا يفهم من ذلك طول الجارحة البتة. فإن قيل: فعلى هذا لا يظهر لهذه الجملة فائدة، إذ لو تُرِكتْ واقتُصِر على قوله: "لا يستقبل أحد منكم القبلة ... " لكان المقصود واضحًا. قلت: من فائدتها التنبيه على أنه ينبغي النظر قبل الجلوس حتى لا يغفل قاضي الحاجة عن التحري، أو يحتاج إلى الاستدارة بعد جلوسه، وقد لا يمكنه ذلك. نعم، في شرح الموطأ للباجي (2) ما يتحصل منه دعوى أن هذه العبارة إنما تكون كنايةً عن الخِراءة. أولًا: لأن الشارع لا يستنكر التصريح بالبول، بل جاء: "لا يقلْ أحدكم: _________ (1) (1/ 245). (2) "المنتقى" (2/ 390) ط. دار الكتب العلمية.

(16/52)


هَرَقْتُ الماء، وليقلْ: بُلْتُ" (1). ثانيًا: لأن الملازمة الغالبة التي بُنِي عليها مدارُ الكناية إنما هي بين إتيان المكان المنخفض في الفضاء وبين الخِراءة؛ لأن العرب لها كانوا يأتون الغِيطانَ، فأما البول وحده فلم يكونوا يأتونها له. وهذا أيضًا ليس بشيء. أما الوجه الأول: فلأنه أريد هنا ما يشمل البول والخِراءة، فجيء بهذه الكناية لتعمَّهما، ولو لُوحِظ عدم الكناية عن البول لاحْتِيجَ أن يقال مثلًا: "إذا أراد أحدكم أن يبول أو أتى الغائط". وهو تطويل لا حاجة إليه، وما ورد من كراهية أن يقال: "هَرَقْتُ الماء" إنما هو ــ والله أعلم ــ لأن هذه الكناية غير واضحة، فارتكابها أقبح من التصريح. أما الوجه الثاني: فقد دفعه في الحديث قوله: "فلا تستقبلوا القبلةَ ببولٍ ولا غائطٍ"، ومن الواضح أنه لا معنى للمنع من استقبالها بالبول حال التغوط، وإباحته عند عدم التغوط. وقد ظهر من الحديث أن المدار على استقبالها بالنجس حال خروجه، ولا يختص ذلك باجتماعٍ ولا افتراقٍ، ولا بمكان دون مكان، والذين فرَّقوا بين الأبنية وغيرها، عللوا ذلك بأمور: الأول: تضايق المنازل، وتعسر التحرف فيها. قال الشافعي في "كتاب _________ (1) أخرجه الطبراني في "الكبير" (22/ 62) وفي "مسند الشاميين" (3394) عن واثلة بن الأسقع بنحوه، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 210): فيه عنبسة بن عبد الرحمن بن عنبسة، وقد أجمعوا على ضعفه.

(16/53)


اختلاف الحديث" هامش "الأم" (7/ 270) (1): "وكانت المذاهب بين المنازل متضايقةً، لا يمكن من التحرُّفِ فيها ما يمكن في الصحراء". وهذا حق، ولا يقتضي الإباحة في البيوت مطلقًا، ولا في المراحيض مطلقًا، بل المدار على التعسُّر، فمن لم يتيسَّر له لقضاء حاجته إلا موضعٌ يتعسَّر فيه عدمُ الاستقبال أو الاستدبار جاز له ذلك. ومع هذا فإنما يحتاج إلى هذا إذا قلنا: إن الاستقبال يحصل باستقبال الجهة كالجنوب لأهل المدينة، وكذلك الاستدبار على ما يظهر من قوله: "ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا". وليس هذا بلازم؛ لاحتمال المدار على تحرِّي استقبال يمين الكعبة واستدبارها، كما هو مذهب الشافعي. ومعنى قوله: "شرِّقوا أو غرِّبوا" شرِّقوا عن القبلة أو غرِّبوا عنها، فيصدق ذلك بالتحرُّف عن يمين البيت. فأهل المدينة ــ وهم المخاطبون بهذا ــ البيتُ جنوبَهم بانحرافٍ يسيرٍ جدًّا في الجنوب، فإذا اتجه أحدهم نحو البيت فقد استقبل القبلة، وإذا تحرَّف إلى الشرق أو الغرب لم يصدُقْ عليه أنه استقبلها أو استدبرها، وصدق عليه أنه شرَّق عنها أو غرَّب. والسر في ذلك أنه إذا اعتُبِرت السماءُ أرباعًا: شرق وغرب وشمال وجنوب، فإن أحدنا إذا كان مستقبلًا بعض أجزاء الجنوب ثم تحرَّف يمنةً يقال: شرَّق، لا يقال: إلى جهة المشرق، وإن كان لا يزال مستقبلًا بعض _________ (1) (10/ 220) طبعة دار الوفاء.

(16/54)


أجزاء الجنوب. وقِسْ على ذلك. وعلى هذا فلا حاجة لتخصيص النهي بالفضاء البتةَ؛ لأن المراحيض وإن كان قد يتعسَّر فيها جعلُ القبلة يمينًا أو يسارًا على التحقيق، فلا يتعسَّر فيها التحرُّف، وبه يحصل المقصود من عدم استقبال القبلة أو استدبارها. [ص 5] 6 - أخرج الإمام أحمد وابن ماجه (1) وغيرهما من حديث عائشة قالت: ذُكِر لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن ناسًا يكرهون أن يستقبلوا القبلةَ بفروجهم، فقال: "أوَقد فعلوها، حوِّلوا مقعدي قِبَلَ القبلة". هذا الحديث ينفرد به خالد الحذاء، واختلف عنه فيه على أوجه: الأول: عنه عن عراك عن عائشة. ذكره الدارقطني (2) من طريق يحيى بن مطر عن خالد، وذكر أنه تابعه أبو عوانة والقاسم بن مُطيَّب. الوجه الثاني: عنه عن رجل عن عراك عن عمرة عن عائشة. قال البخاري في التاريخ (2/ 1/ ... ) (3). الوجه الثالث: عنه عن رجل عن عراك عن عائشة. قال أحمد في المسند (6/ 183): ثنا عبد الوهاب الثقفي ثنا خالد ... الوجه الرابع: عنه عن خالد بن أبي الصلت عن عراك عن عائشة. هكذا قاله حماد بن سلمة، فيما رواه عنه وكيع وبهز وأبو كامل ويزيد بن هارون، رواه عنهم أحمد في المسند (6/ 137 و 219 و 227 و 239). _________ (1) أحمد (6/ 227) وابن ماجه (324). وسبق تخريجه من مصادر أخرى. (2) في "السنن" (1/ 59). (3) "التاريخ الكبير" (3/ 156). وسبق نقل العبارة فيما مضى.

(16/55)


وكذلك يحيى بن إسحاق عند الدارقطني (1) وغيرهم. وأخرجه ابن ماجه (2) من طريق وكيع عن حماد فذكره، وفي النسخة بعده: "قال أبو الحسن القطان: حدثنا يحيى بن عبيد ثنا عبد العزيز بن المغيرة عن خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت مثله". الوجه الخامس: مثل الذي قبله، إلا أن فيه عن عراك: "حدثتني عائشة". هكذا رواه على بن عاصم عن خالد الحذاء، أخرجه عن علي أحمد في "المسند" (6/ 184) وغيره، وتابعه موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن خالد الحذاء. قال البخاري في التاريخ [ ... ] (3). الكلام في الحديث حكم الإمام أحمد والبخاري وأبو حاتم بأنه مرسل، وأن عراكًا لم يسمع من عائشة. وزاد البخاري وأبو حاتم فحكما بأنه مع إرساله غلط، وأن الصواب موقوف على عائشة. قال البخاري في التاريخ [ ... ] (4). وساق الدارقطني (5) الحديث من طريق من رواه عن خالد الحذاء عن عراك عن عائشة، ثم قال: وهذا القول أصح. ثم قال: "ورواه علي بن عاصم وحماد بن سلمة عن خالد بن أبي الصلت عن عراك ... " ثم ذكره من طريق _________ (1) في "السنن" (1/ 60). (2) رقم (324). (3) هنا بياض في الأصل، والنص فيه (3/ 156)، وسبق ذكره. (4) بياض في الأصل، وانظر "التاريخ الكبير" (3/ 156). ونقل النص فيما مضى. (5) في "السنن" (1/ 59).

(16/56)


علي بن عاصم، ثم قال: "وهذا أضبط (كذا) إسناد، وزاد فيه خالد بن أبي الصلت، وهو الصواب". فيظهر دفعًا للتناقض عن كلامه أن مراده بقوله في الأول: وهذا القول أصح" أراد به صحته في عنعنة عراك. وأما قوله في الثاني: "وهذا أضبط إسناد ... وهو الصواب "، فإنما صوَّب به زيادة خالد بن أبي الصلت في السند، ولم يتعرض للسماع، فكلامه موافق لكلام أحمد ومن معه، أو غير مخالفٍ له، فمن توهم خلاف ذلك فلم يتدبر. وخالفهم بعض المتأخرين فقال: "إسناده حسن، ورجاله ثقات معروفون، وأخطأ من قال خلاف ذلك، وقد علل البخاري الخبر بما ليس بقادح ... فإن ثبوت ما قال لا يستلزم نفي هذا، فبعد صحة الإسناد يجب القول بصحتهما". واختار بعض أجلة العصر أن الحديث صحيح على شرط مسلم، وقال الذهبي في ترجمة خالد بن أبي الصلت من "الميزان" (1): "هذا حديث منكر .... ". أقول: ههنا مباحث: الأول: في سماع عراك من عائشة. احتج بعضهم عليه برواية علي بن عاصم التي مرّت وما معها، وبأن مسلمًا أخرج في "الصحيح" (2) حديث عراك عن عائشة: "جاءتني مسكينة تحمل ابنتين .... ". وبأنه عاصرها وكان _________ (1) (1/ 632). (2) رقم (2630).

(16/57)


معها في المدينة، والحجة في المعاصرة أنه سمع من أبي هريرة، وإنما ماتت عائشة في رمضان سنة 57، فصلى عليها أبو هريرة ثم مات بعدها في السنة، ورواية الرجل عمن عاصره واحتمل لقاؤهما محمول على السماع عند الجمهور، كما شرحه مسلم في مقدمة "صحيحه" (1)، وشدد النكير على من خالفه. أقول: أما الحجة الأولى: ففيها أن علي بن عاصم كذَّبه جماعة، وقال يزيد بن زريع: لقيتُ علي بن عاصم بالبصرة وخالد الحذاء حي، فأفادني أشياء عن خالد، فسألته عنها فأنكرها كلها، وأفادني عن هشام بن حسان حديثًا، فأتيت هشامًا فسألته عنه فأنكره". وفي رواية أخرى عن يزيد بن زريع: "ثنا علي ــ بن عاصم ــ عن خالد بسبعة عشر حديثًا، فسألنا خالدًا عن حديث فأنكره، ثم آخر فأنكره، ثم ثالث فأنكره، فأخبرناه فقال: كذاب فاحذروه". ذكر ذلك في "التهذيب" (2). وأقوى ما اعتُذِر به عن علي بن عاصم قول عبّاد بن العوّام: "كان رجلًا موسرًا، وكان الوراقون يكتبون له، فنراه أُتِي من كتبه". ذكره في "التهذيب" (3)، ونحوه عن يعقوب بن إسحاق. أقول: إذا قبلنا هذا فلا مَحِيصَ عن القول بأنه كان يعتمد على وراقين لا يُوثَق بهم، ثم لا يَفْطَن لتخليطهم، بل ولا لكذبهم، وفوق ذلك فقد ذكروا أنه _________ (1) (1/ 29 وما بعدها). (2) (7/ 347). (3) (7/ 345).

(16/58)


كان يحتقر كبار العلماء ويعيبهم، وإذا نبَّهه أحد منهم على غلط لم يقبل منه، ومثل هذا لا يصلح للمتابعة فضلًا عن الحجة. فأما رواية أحمد عنه وتقويته من شأنه، وقوله: "إنما كان كثير الغلط"، فالظاهر أن أحمد لم يبلغه كلام يزيد بن زريع، أو حملها على أن ذلك كان من علي أولًا، ثم تاب وصلح في الجملة، وعلى كل حال فالجرح المفسر الواضح يجب قبوله. وأما متابعة حماد بن سلمة فيما رواه موسى بن إسماعيل عنه، فحماد تغير حفظه بأَخَرة، وموسى ممن سمع عنه بأخرة، وقد رواه القدماء الأثبات من أصحاب حماد عنه فقالوا: عن عائشة، أو نحو ذلك. وهناك أمور أخرى تُبطل ما ذكر في الرواية المذكورة: منها: أن خالدًا الحذاء تغير حفظه بأخرة، وقد ظهر أن ذلك في هذا الحديث كما مر، وقد رواه عنه وهيب أحد الأثبات المتقنين فقال: " ... خالد عن رجل عن عراك عن عمرة عن عائشة" كما مر، فأدخل بين عراك وعائشة واسطة، وإذا ثبتت الواسطة بطل السماع، وتجويز الرواية من الوجهين كما تقدم في شأن مجاهد [ص 6] إنما يُصار إليه في الأسانيد القوية الثابتة، وليس ما هنا كذلك. ومنها: حال خالد بن أبي الصلت، وسيأتي. وأما الحجة الثانية: وهي أن مسلمًا أخرج لعراك عن عائشة في صحيحه. فجوابه من وجوه:

(16/59)


الأول: أن مسلمًا رحمه الله أخرج حديث المسكينة أولًا من حديث عروة عن عائشة (1)، ثم أخرجه من حديث عراك عن عائشة، فطريق عراك متابعة، وهم يتسامحون فيها. الثاني: أنه في فضائل الأعمال، وهم يتسامحون في روايتها. والثالث: فإن عراكًا معروفٌ بالرواية عن عروة، وإذا انضمَّ إلى هذا أن عروة قد روى الحديث المذكور، وقع في النفس أن عراكًا إنما سمعه من عروة، وبذلك تُعلَم الواسطة، وإذا عُلِمت الواسطة صار الإرسال صوريًّا فقط. غاية الأمر أن يكون انضمَّ إلى هذه الأمور تجويز مسلم أن يكون عراك سمع من عائشة، وهذا التجويز تتفاوت درجاته، كما يأتي في الحجة الثالثة، وإن صح استناد مسلم إلى تجويز سماع عراك من عائشة، فإنما ذلك عند انضمامه إلى الأوجه المتقدمة، ومع هذا فرأيُ مسلم ــ إن صح أنه كان يجوِّز سماع عراك من عائشة ــ معارِضٌ لرأي أحمد والبخاري وأبي حاتم. والله أعلم. وأما الحجة الثالثة: فالمذهب الذي انتصر له مسلم في أول صحيحه، حاصله أنه إذا روى ثقة غير مدلِّس عن ثقة، وكانا معًا في عصر، وكان جائزًا ممكنًا أن يكون سمع منه وشافهه، فالرواية محمولة على السماع. وعلى هذا فالشروط ثلاثة: الأول: الثقة مع عدم التدليس. الثاني: ثبوت المعاصرة. _________ (1) رقم (2629).

(16/60)


الثالث: أن يكون جواز اللقاء والسماع جوازًا ظاهرًا. وهذا مأخوذ من قول مسلم في المقدمة (1): "وجائزٌ ممكنٌ لقاؤه والسماع منه". فقوله: "ممكن" في معنى قوله: "جائز"، وإنما زاده تأكيدًا، ليفيد أنه لابد أن يكون الجواز ظاهرًا قريبًا. فأما الشرط الأول، فعراك ثقة، ولم يوصف بالتدليس نصًّا، إلا أن في كلام أحمد وغيره في إنكار سماعه من عائشة الحكم عليه بأنه قال عن عائشة، ولم يسمع منها. وأما الشرط الثاني، فإنما يتحقق بثبوت أن الراوي بلغ سنَّ السماع والضبط قبل وفاة الشيخ بمدة يتحقق فيها الشرط الثالث، وليس هنا من هذا الثبوت إلا أن عراكًا سمع من أبي هريرة وضبط عنه، وأن أبا هريرة توفي بعد عائشة في السنة أي بنحو ثلاثة أشهر على الأكثر، ومن البعيد بالنظر إلى العادة أن يقال: إنه سمع من أبي هريرة وضبط عنه في وقتٍ كان قبله بشهر أو شهرين أو ثلاثة غيرَ أهلٍ للسماع والضبط. والجواب [عن] هذا: أولًا: أن في هذا الاستبعاد نظرًا. ثانيًا: أن القول بأن أبا هريرة توفي بعد عائشة في السنة لم يثبت ثبوتًا تقوم به الحجة، وإنما نُقل عن هشام بن عروة، ومولد هشام سنة 61. _________ (1) (1/ 29).

(16/61)


ثالثًا: قد خالف هشامًا غيرُه في موت أبي هريرة، فقد قال ضمرة بن ربيعة وأبو معشر والهيثم بن عدي: مات سنة 58. وقال الواقدي وأبو عبيد وغيرهما: مات سنة 59. زاد الواقدي أنه صلى على أم سلمة في شوال سنة 59، ثم توفي بعد ذلك فيها. وغلَّطه ابن حجر (1) في وفاة أم سلمة، وغلَطُه في ذلك لا يلزم منه غلطه في موت أبي هريرة، نعم رجح ابن حجر قول هشام ومن تبعه، ولكن ترجيحه لا يوجب أن يكون قوله حجة تبنى عليه الأحكام. ثالثًا: قد استقرأتُ حديث أبي هريرة في "مسند أحمد"، فلم أجد لعراكٍ عنه إلا أحرفًا يسيرةً بمتونٍ قصيرة، والذي رأيتُه منها حديث: "ليس على المسلم في فرسه ولا عبده صدقة" (2)، وحديث: "إن شرَّ الناس ذو الوجهين، يأتي هؤلاء بوجهٍ وهؤلاء بوجهٍ" (3)، وحديث: "لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه فإنه كفر" (4)، وحديث: "من أدرك من الصلاة ركعةً فقد أدركها" (5). فهذه الأربعة متون قصيرة كما ترى. والخامس: "خُثَيم بن عراك عن أبيه أن أبا هريرة قدم المدينةَ في رهطٍ من قومه والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بخيبر ... " (6). وظاهر هذا الإرسال. _________ (1) "تهذيب التهذيب" (12/ 266). (2) "المسند" (2/ 242، 254 ومواضع أخرى). (3) "المسند" (2/ 307، 455). (4) "المسند" (2/ 526). (5) "المسند" (2/ 265). (6) "المسند" (2/ 345).

(16/62)


هذا ولا آمَنُ أن يكون زاغ نظري عن حديث أو حديثين آخرين (1)، ولا أن يكون لعراك عن أبي هريرة شيء آخر في غير "مسند أحمد" (2)، ولكن هذا كافٍ فيما أريده، وهو أن عراكًا إنما أدرك من السماع والضبط قبل وفاة أبي هريرة بيسير، فإن أبا هريرة مع كثرة حديثه كان يبذل نفسه للحديث، ويكثر من التحديث، وكان يكون تارةً هو الإمام فيخطب الناس ويحدِّثهم، وتارةً يكون الإمام غيره فيقوم أبو هريرة عند المنبر قبل أن يخرج الإمام فيذكِّر ويحدِّث. فلو قيل: إن عراكًا إنما سمع من أبي هريرة وضبط عنه في مجلس أو مجلسين قبيل وفاته، لما كان بعيدًا؛ إذ لو أدرك مدةً طويلة من حياة أبي هريرة لكثرت روايته عنه. [ص 7] وأما الشرط الثالث: فلو تحقق الشرط الثاني لتحقق هذا، فإن عراكًا كان مع عائلته بالمدينة، فمدارُ الكلام عند التحقيق إنما هو على الشرط الثاني. فإن قيل: إنما مدار اشتراط العلم باللقاء وعدمه إنما هو على أن المحدث إذا روى عن رجل ولم يصرح بالسماع، هل يكون الظاهر السماع؟ قد اتفقوا على أنه إذا تحقق اللقاء ولو مرةً كان الظاهر في كل ما يحدث به الراوي عن ذلك الشيخ السماع، وإن عُلِم أن تلك اللُّقية لا تَسَعُ تلك الأحاديث كلها، بل يشمل كلامهم ما لو قال الراوي: كنت جالسًا مع _________ (1) رحم الله المؤلف، فلم يفته شيء مما في "المسند" من هذا الطريق. (2) يراجع لأحاديث عراك عن أبي هريرة في غير "المسند": "إتحاف المهرة" (15/ 367 ــ 369).

(16/63)


جماعة فمرّ بنا فلان فسلّم، ويعني: ولم يكلِّم أحدًا، فمثل هذا يثبت به اللقاء، حتى لو حدَّث هذا الراوي عن ذلك المارِّ بألف حديث، ولم يُصرِّح في شيء منها بالسماع؛ لكانت كلها محمولةً على السماع. ثم اتفقوا على أن الراوي إذا عُرِف منه التدليس، كان كلُّ ما رواه ولم يصرِّح بالسماع محمولًا على الانقطاع. فهذا يدل على أن رواية الرجل عن آخر ظاهرها السماع، وإنما لم يُحمل على ذلك روايةُ المدلس؛ لأنه قد عُرِف منه مخالفة هذا الظاهر، فصار ذلك قرينةً يسقط بها الظهور. ثم إذا تقرر هذا، فقد يقال: ينبغي أن يُكتفَى باحتمال الإدراك؛ لأن الرجل إذا روى عمّن لم يتحقق إدراكه له ولكنه محتمل، كان الظاهر السماع؛ لأنه لم يتحقق ما ينافيه. وبعبارة أخرى: ليس هناك قرينة يُردُّ بها ذلك الظاهر. فالجواب: أن ابن المديني والبخاري اشترطا ثبوت اللقاء، ومعنى هذا أنهما يريانِ أن رواية الرجل عن الشيخ بدون تصريحٍ بالسماع إنما يكون ظاهرها السماع إذا كان قد لقيه ولو مرةً. نعم، زعم بعض أكابر العصر أن البخاري إنما يشترط اللقاء لصحة الحديث صحة أكيدة بحسب ما اشترطه في جامعه، وأنه لا يشترط اللقاء لأصل الصحة. وعلى هذا فلا خلاف بين قوله والقولِ الذي حكاه مسلم عن الجمهور. وهذا لا يصح؛ فإن مسلمًا صحب البخاري وحذا حذوَه، وكان من أعرف الناس بقوله، فلو كان هذا هو قول البخاري لما خفي على مسلم، ولو

(16/64)


عرفه لما كان هناك ما يحمله على تشديد النكير على هذا القول، كما تراه في مقدمة "صحيحه". وأوضح من ذلك: أننا نجد في كتب البخاري، كالتاريخ الكبير وغيره، أنه يحكم بعدم الصحة، ثم يُعلِّلها بعدم العلم باللقاء. والمقصود أن ذهاب ابن المديني والبخاري هذا المذهب يدل أن عندهما أن رواية الراوي عن الشيخ بدون تصريح بالسماع لا يكون ظاهرها السماع إلا إذا كان قد تحقق اللقاء. وأما مسلم ومن وافقه فإنهم وإن لم يشترطوا تحقُّقَ اللقاء فقد اشترطوا تحقُّقَ المعاصرة وإمكانَ اللقاء إمكانًا بينًا كما علمت، فكان من لازم قولهم أن رواية الرجل عن شيخٍ بدون تصريحٍ بالسماع، إنما يكون ظاهرها السماع بذينك الشرطين. وإذ لم يكن هناك مذهبٌ ثالثٌ، فهذا إجماعٌ منهم على أنه عند عدم تحقق الشرطين المذكورينِ لا يُحَمل على السماع، ولزِمَ من ذلك إجماعهم على أنه حينئذٍ لا يكون ظاهرُ الرواية السماعَ. وسرُّ المسألة: أن يُنظَر في الظهور المذكور من أين جاء؟ أمن وضع اللغة أم من العرف أم من العقل؟ فأقول: أما اللغة فلا شأنَ لها بهذا، فإن قول الرجل: "قال أو حدَّث أو ذكر أو نحو ذلك فلانٌ" حقيقة، سواء أكان سمعه منه أم لم يسمعه. وأما العرف؛ فالعرف العام لا يتحقق، وما يتراءى منه مصدره العقل، كما يأتي.

(16/65)


وأما العرف الخاص بأن يقال: كان من عادة أهل الحديث أن لا يروي أحدهم عمّن لقيه، أو عمّن عاصره، أو عمّن لم يتضح عدم سماعه منه إلا ما سمعه منه. فهذا يحتاج إلى [نقلٍ]، فإن عَدَدْنا كلامَ مسلم في المقدمة نقلًا، فقد خالفه قول ابن المديني والبخاري وهما أكبر منه وأجلُّ، وأعلمُ بمذاهب المحدثين وبعلل الحديث. نعم، ما اتفق عليه المذهبان يمكن أن يسلَّم، لذا فيقال: الثابت أنه كان من عادة المحدثين أن لا يروي أحدهم عمّن لقيه إلا ما سمعه منه، فإن بدا له أن يخبر عنه بما لم يسمعه بيَّن ذلك، كأن يقول: بلغني عن فلان. وشذّ أفراد فكانوا يروون عمّن لقوه ما لم يسمعوا منه، ويكتفون في البيان الذي يُخرِجهم عن الكذب بأنه قد عُرِف من شأنهم ذلك، وهؤلاء هم المدلِّسون الثقات. لكن يبقى علينا أمران: الأول: النظر في هذه العادة متى ابتدأت، فإننا نعلم أن كثيرًا من الصحابة كانوا يحدِّثون عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بما لم يسمعوه منه، وإنما سمعوه من غيرهم من الصحابة عنه - صلى الله عليه وآله وسلم -. الثاني: أن هذا إنما ينفعنا بالنظر إلى من اشتهر بطلب الحديث، وكثرت مجالسته لأهله حتى يظهر أنه [ ... ] (1)، فيخرج المقلون، ويمكن التخلص عن هذين، كما يأتي إن شاء الله تعالى. [ص 8] وأما العقل: فمدخله قوي هنا، بأن يقال: الإنسان العاقل المتثبت _________ (1) هنا خرم في الأصل.

(16/66)


لا يخبر إلا بما يَثِقُ به، لأمرين: الأول: التدين. الثاني: خشية الاتهام بالكذب. فإنه إذا أخبر عن رجل خبرًا (1) يحتمل أنه سمعه منه، ثم ظهر صحةُ عدمِ ذلك الخبر، اتُّهِم المخبر بالكذب، ولا يدفع ذلك عنه أن يقول: أنا لم أسمعه منه، إنما أخبرني عنه مخبر؛ لأنه يقال: يحتمل أن يكون صادقًا في هذا، وأن يكون إنما أراد أن يدفع عن نفسه الكذب، فإذا تكرر هذا منه قويت التهمة. فالعاقل المتثبت ينفي هذا من أول الأمر، ولمّا عُرِف هذا في الناس علموا أن العاقل المتثبت لا يخبر إلا بما يثق به، ولمّا كانت الثقة التامة إنما تحصل غالبًا بالمشاهدة صار يتراءى للناس أن العاقل المتثبت إذا أخبر عن شخص بخبر، فالظاهر أنه سمعه منه، فهذا مصدر الظهور فيما أرى. فأما الصحابة رضي الله عنهم فكانوا بغاية التحرز فيما يخبرون به عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فكان الرجل منهم يعلم تحرِّيَ الآخر الصدقَ وشدةَ احترازه عن الغلط، فإذا أخبره عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بشيء كان عنده في الوثوق نحوًا مما لو سمعه هو من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكانوا مع ذلك معروفين عند إخوانهم وعند التابعين بالصدق والأمانة، فكان أحدهم إذا سمع من أخيه الحديث وثقَ به هذه الثقةَ، فيرى أنه ليس في الإخبار به عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بدون بيان الواسطة غِشٌّ في الدين، ولا تعرُّضٌ للاتهام. _________ (1) في الأصل: "أخبارًا".

(16/67)


أما عدم الغشّ فظاهر، وأما التعرُّض للاتهام؛ فلأنه يعلم صدق أخيه وتحرُّزه، فيثِقُ بأنه لن يظهر على الخبر المذكور أنه كذب، لا عمدًا ولا خطأً، فإن فُرِض في النادر أن يظهر أنه خطأٌ أمكنه أن يعتذر بأنه إنما أخبره فلان، ويرى أنه لن يُتَّهم بالكذب، لا هو ولا أخوه، ولا أن يُتَّهم بأنه كذب بقوله: إنما أخبره فلان؛ لعلمِ الناس بصدق الصحابة وأمانتهم. فمن تدبَّر هذا وعلم مصدر الظهور السابق، علم أن قول الصحابي: قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كيتَ وكيتَ، لا يكون ظاهرًا في أنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. بل هو على الاحتمال في أن يكون سمعه منه - صلى الله عليه وآله وسلم -، أو من صحابي آخر عنه - صلى الله عليه وآله وسلم -. وأما التابعون فلم تكن لهم تلك الثقةُ، ولكن بقي قريبٌ منها، فإن العصر كان الغالب فيه الديانة والأمانة، واستعظام الكذب على الله وعلى رسوله، فانقسموا إلى ثلاثة أقسام: الأول: من جرى على نحو ما وقع من الصحابة، فربما روى عمّن لقيه ما لم يسمعه منه، فمن هؤلاء: أيوب السختياني، وزيد بن أسلم، وطاوس، وأبو قلابة الجرمي، وعمرو بن دينار، وموسى بن عقبة، وأبو مِجْلز، والحسن البصري، والحكم بن عتيبة، وسالم بن أبي الجعد، وسعيد بن أبي عروبة، ويحيى بن أبي كثير، وأبو سفيان طلحة بن نافع، وعبد الملك بن عمير، وعكرمة بن عمار، وأبو الزبير المكي، وابن شهاب، ومكحول، وعدة قد جمعهم ابن حجر في "طبقات المدلسين". وأكثر هؤلاء إنما كانوا يفعلون ذلك عند الوثوق بصدق من بينهم وبين من سَمَّوه، فيرون أنه ليس في فعلهم غِشٌّ في الدين، وأنه إن ظهر غلطٌ واعتذروا لا يُتَّهمون؛ لعلم الناس بصدقهم وأمانتهم، وأن من تدبر هذه

(16/68)


الحال وعرف مصدر الظهور الذي تقدم بيانه، يرى أنه لا يظهر من روايتهم على الوجه المذكور أنهم سمعوا، بل يكون على الاحتمال، فحالهم قريب من حال الصحابة رضي الله عنهم. وقليلٌ من هؤلاء كانوا يتساهلون فيروون على الوجه المذكور وإن لم يَثِقُوا بمن بينهم وبين من سمَّوا، والعذر في حقهم أنهم إن شاء الله كانوا أولًا يفعلون ذلك ثم يبينون في المجلس إلى إن اشتهر عنهم أنهم يفعلون ذلك، فعدوا تلك قرينة تصرف عن الظهور، وأهل الحديث يسمون ما وقع من هذا القسم تدليسًا، وهذا الاسم مناسب للمتساهلين، ولكن قد أطلق عليهم وعلى الآخرين. القسم الثاني: قوم لم يكونوا يفعلون ذلك، ولكنهم كانوا يروون عمن عاصروه ولم يَلْقَوه، كأنهم يرون أن الظهور الذي تقدم بيانه إنما يقوى إذا عُلِم أن الراوي قد لقي من سمى. وأنت إذا تدبرت لم تستبعد هذا، فاعتبِرْه بأهل عصرك، إذا أخبرك واحد منهم عن آخر لم تعلم أنه لقيه، هل يكون الظاهر عندك أنه سمعه منه؟ فإن قلت: بلى قد يكون الظاهر في ذلك إذا كانا في بلد واحد. قلتُ: أَنْعِمِ النظرَ وكثِّر الأمثلة، فإنك تجد أنه لا يظهر السماع حتى يكون الظاهر اللقاء، بل قد ترتاب في ظهور السماع مع ظهور اللقاء، بل ومع العلم به إذا كان معروفًا أن اللقاء وقع نادرًا، كأن يكون تاجر لا شأن له بمخالطة الملك، ولكنك تعلم أنه قد رأى الملك مرةً في مجلسٍ وسمع كلامه، فتدبر. والسرّ في هذا أن ذلك التاجر لا يخشى الاتهام بالكذب إذا ظهر بطلان الخبر؛ لأنه يقول: إنما أخبرني [تعلمون الملك ولا]، فإن قلت [ ... ]

(16/69)


فلعل [ ... ] أحدهم كان [ ... ] مع من سمعه كذلك، وكان المعروف ذلك في عصرهم، وإن خفي بعضه [ ... ] على من بعدهم. ومن هؤلاء: قيس بن أبي حازم، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والشعبي، وابن سيرين، وعطاء، ومجاهد، [ ... ] من القسم الأول في جماعة كثير. راجع إن أحببتَ "المراسيل" لابن أبي حاتم. وحالهم في اشتراط الوثوق بالواسطة بينهم وبين من سمَّوا كحال القسم الأول. [ص 9] القسم الثالث: الذين لم ينقل عنهم الرواية عمن لقوه لِما لم يسمعوا، ولا الرواية عمّن عاصروه ولم [ ... ]، فأخذوا أنفسهم بالأحوط لدينهم، فمن هؤلاء فيما أرى: القاسم بن محمد بن أبي بكر، وخارجة بن زيد بن ثابت، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبيدة السلماني، وعلقمة بن قيس، والأسود بن يزيد، وأبو بردة بن أبي موسى، ومطرف بن عبد الله بن الشخير، وموسى بن طلحة، وجابر بن زيد، في آخرين. وكلام أئمة الحديث في تراجم من ذكرنا وغيرها يدل أن الإرسال الخفي كان فاشيًا في التابعين، ودونه التدليس عمّن يوثق به، ودونه التدليس مع التساهل، وتجدهم لا يحكمون بالتدليس إلا بحجة، وكثيرًا ما يكتفون في الحكم الإرسال (1) الخفي بالقرائن، بل وبعدم ثبوت السماع، فيقولون: _________ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: "بالإرسال".

(16/70)


لا يثبت له سماع من فلان، ونحو ذلك، يوجد هذا في كلام أحمد وابن معين وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم. وذلك يرد على مسلم رحمه الله ما زعمه في مقدمة صحيحه من أن قول البخاري مُحدَث، ويدل دلالة واضحة أنه كان عندهم أنه لا يكون الظاهر السماع في رواية أحدهم عمّن عاصره، ولم يتبين لقاؤه له، أو تبين لقاؤه له لُقيةً لا يتضح فيها إمكان السماع، كأن يقول: رأيته يطوف بالبيت، ونحو ذلك، وإذا كان كذلك فليس في روايته عنه ما لم يسمعه منه شبهة كذب، ولا ما يخالف الأمانةَ، وذلك أن السامع المتدبر يكون الأمر عنده على الاحتمال، فعليه أن يسأل ليتضح له الحال. وإذا كان الأمر هكذا، فالقول بالنسبة إلى التابعين هو القول الذي زعم مسلم رحمه الله أنه محدث، وقد سبق أنه قول الأئمة أحمد ويحيى وعلي والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم ممن تجد كلامه في تراجم أصحاب القسم الثاني، وحجتهم واضحة، وبذلك يردُّ على مسلم قوله (1): "فإن كانت العلة في تضعيفِك الخبرَ وتركِك الاحتجاجَ به إمكان الإرسال فيه لزمك أن لا تُثبِت إسنادًا معنعنًا ... وذلك أن الحديث الوارد علينا بإسناد هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، فبيقينٍ نعلم أن هشامًا قد سمع من أبيه، وأن أباه قد سمع من عائشة ... وقد يجوز إذا لم يقل هشام في رواية يرويها عن أبيه: سمعت أو أخبرني أن يكون بينه وبين أبيه في تلك الرواية إنسان آخر ... وكما يمكن ذلك في هشام عن أبيه، فهو أيضًا ممكن عن أبيه عن عائشة". _________ (1) في مقدمة "صحيحه" (1/ 30، 31).

(16/71)


وإيضاح ذلك أن مسلمًا يوافق على عدم قبول عنعنة المدلس، وفي تمثيله بهشام نظر؛ لأنه وُصِف بالتدليس وإن لم يتفق عليه، فنحصر الكلام في عروة، فنقول: إنما قبلنا عنعنة عروة؛ لأن عروة لم يوصف بالتدليس، وقد عُرِف بالثقة والأمانة وكثرة السماع من عائشة. ثم ههنا مسلكان: الأول: ردّ ما قدمناه في الاعتذار عن المتثبتين من القسم الأول. فنقول: لا يلزم من ثقة أحدهم بمن بينه وبين من سمَّى أن يكون في نفسه ثقة، فلعله قد بان لغيره منه ما لم يَبِنْ له، وعلى فرض أنه ثقة فلعله تبين لغيره منه أنه غلط في تلك الرواية. مثال ذلك: أن يكون سمعه من عمرة أنها سمعت عن عائشة، فيرويه هو عن عائشة، وتكون عمرة قد غلطت فيه لمّا حدثته عروة، فيكون غلطها إنما يتبين برواية أخرى عنها، فلو رواه عن عمرة عن عائشة لعرفنا غلط عمرة بالمقابلة بروايتها الأخرى، ولما رواه عن عائشة لم يتبين ذلك، بل تترجح رواية عروة لظن أنه سمعه من عائشة، وإذا كان هذا الاحتمال قائمًا فروايته ذلك عن عائشة لا تخلو من الغش وقلة التثبت، وإذ كان الظن به أنه يتحفظ من مثل ذلك، فالظاهر من روايته عن عائشة أنه سمعه منها، وإذ كان الظاهر ذلك فروايته عنها تعرض للكذب، إن لم نقل: إنه كذب. وإنما تخلص المدلسون من الكذب بما قدمنا أن الظن بهم أنهم كانوا أولًا يدلسون ويبينون في المجلس، حتى عُرِف ذلك من شأنهم، فزال الظهور المذكور، وبزواله زال الغِشُّ، وعروة لم يفعل ذلك؛ وإلا لوصفه أهل العلم بأنه يدلس.

(16/72)


فأما الصحابة رضي الله عنهم فقد كان معروفًا عنهم أنهم كثيرًا ما يروون عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ما لم يسمعوه منه، وإنما سمعوه من غيرهم من الصحابة عنه. المسلك الثاني: أن لا يتعرض لرد ما قدمناه في الاعتذار من المتثبتين من القسم الأول، ونقول: [ص 10] [ ... ] تتبعوا روايات التابعين، وبحثوا عنها، وقابلوا بعضها ببعض، فبان لهم من كان قد يقع منه التدليس من غيره، فبينوا ذلك، ولما لم يَصِفْ أحد منهم عروة بالتدليس ثبت عندنا أنه لم يكن يدلس، فأما الإرسال الخفي فقد عرف أنه كان فاشيًا في التابعين، وفُشوُّه يجعله محتملًا من كل أحد منهم، وبذلك يزول الظهور البتة، وبزواله يزول الغش والكذب البتة. والله المستعان.

(16/73)


الرسالة الثانية فائدة في السِّواك

(16/75)


 فائدة في السِّواك

قال ــ عليه أفضل الصلاة والسلام ــ: «لولا أن أَشُقَّ على أمّتي لأمرتُهم بتأخير العشاء وبالسِّواك عند كل صلاة». متفق عليه (1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «السِّواك مَطْهرةٌ للفم مَرْضاة للربّ» رواه الشافعي وأحمد والدارمي والنسائي، ورواه البخاري في صحيحه بلا إسناد (2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما جاءني جبريلُ ــ عليه السلام ــ قطُّ إلا أمرني بالسِّواك، لقد خَشِيتُ أن أُحْفِيَ مُقدَّمَ فيَّ». رواه أحمد (3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «تَفضُل الصلاة التي يُستاك لها على الصلاة التي لا يُستاكُ لها سبعين ضعفًا». رواه البيهقي في «شعب الإيمان» (4). _________ (1) أخرجه البخاري (887) ومسلم (252) من حديث أبي هريرة بالاقتصار على الجزء الثاني. وأخرجه بتمامه أحمد (7339، 7342) وأبو داود (46) والنسائي (1/ 266، 267) وغيرهم من حديث أبي هريرة. (2) أخرجه الشافعي في «الأم» (2/ 52) وأحمد (24203، 24332) والدارمي (690) والنسائي (1/ 10) من حديث عائشة. وعلَّقه البخاري قبل الحديث (1934). (3) في «المسند» (22269) من حديث أبي أُمامة. وفي إسناده عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد الألهاني، وهما ضعيفان. وأخرجه أيضًا ابن ماجه (289) والطبراني في «الكبير» (7876). (4) (6/ 70) ط. الهند، من حديث عائشة. وأخرجه أيضًا أبو يعلى في «مسنده» (8/ 142) وابن عدي في «الكامل» (6/ 399) وابن حبان في «المجروحين» (2/ 309) وفي إسناده معاوية بن يحيى الصدفي، وهو ضعيف.

(16/77)


وقال - صلى الله عليه وسلم - : «لولا أن أَشُقَّ على أمتي لأمرتُهم بالسّواك عند كل صلاة، ولأخَّرتُ العشاءَ إلى ثلث الليل». رواه الترمذي (1)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنّ أفواهكم طُرُقُ القرآن، فطَيِّبوها بالسِّواك». قال السيد المرتضى في «شرح الإحياء» (2): «قال العراقي (3): أخرجه أبو نعيم (4) من حديث علي، ورواه ابن ماجه (5) موقوفًا على عليٍّ، وكلاهما ضعيف. ورواه البزار (6) مرفوعاً وإسناده جيّد. قلتُ: وكذا أخرجه السِّجْزي في «الإبانة» من حديث عليٍّ مرفوعاً، ورواه أبو مسلم الكَجِّي في «السنن»، وأبو نعيم من حديث الوضِيْن، وفي إسناده مَنْدَل وهو ضعيف». وقوله: «رواه البزار ... » إلخ صرَّح به في «شرح التقريب» (7) بلفظ: «إن العبد إذا تسوَّك ثم قام يُصلِّي قام الملَكُ خلفه، فيستمع لقراءته، فيدنُو منه أو كلمة نحوها، حتى يضع فاه على فِيه، فما يخرجُ مِن فيه شيءٌ إلا صار في _________ (1) رقم (23) من حديث زيد بن خالد الجهني. وأخرجه أيضًا أحمد (17032) وأبو داود (47) والنسائي في «الكبرى» (3041). (2) «إتحاف السادة المتقين» (2/ 348). (3) في «تخريج الإحياء» (1/ 132). (4) في «حلية الأولياء» (4/ 296). وقال: «غريب من حديث سعيد، لم نكتبه إلا من حديث بحر». (5) رقم (291). قال البوصيري في الزوائد: إسناده ضعيف. (6) كما في «كشف الأستار» (1/ 242). وسيأتي لفظه والكلام عليه. (7) «طرح التثريب» (2/ 66).

(16/78)


جَوْف الملَك، فطَهِّروا أفواهَكم للقرآن». قال: ورجاله رجال الصحيح، إلاّ أنّ فيه فُضَيل بن سليمان النميري وهو وإن أخرج له البخار ي ووثَّقه ابن حبّان فقد ضعَّفه الجمهور (1)، فتأمّل. إذا تأمّلتَ ما مرَّ من الأحاديث علمتَ أنّ أمر السواك أمر مهمٌّ، وقد بيَّن الحديثُ الآخر أقوى علله، وهو أنّه مَطْهرة للفم، وهو طريق القرآن؛ لأن الإنسان لا يخلو من التلفظ بقرآنٍ أو ذكرٍ أو اسمٍ من أسماء الله أو اسمٍ من أسماءِ أنبيائه، وكما أن مسَّ المصحف مع الحدث حرام، وتلطيخه بالنجس المستقذَر حتى الرِّيق إنْ قارنَه استهزاءٌ فكفرٌ وإلاّ فحرامٌ، وكذا تلطيخ الذكر أو اسمٍ من أسماء الله أو اسمٍ من أسماء أنبيائه أو ملائكته ونحوه يَحرُم ذلك في الأماكن النجسة، وعند فعل المحرَّمات ومباشرة النجاسات، ويُكْرَه في الأماكن المستكْرَهةِ، وعند فعل المكروهات ومباشرة سائر المستقذرات، فكان القياس أنّه يحرم القراءة والذكر ونحوها عند تغيُّرِ الفم، لأنّ التلفظ بالقرآن بمنزلة كتابتها بل هو أبلغ، وأمّا مجرّد الرِّيق وما عَسُرَ إزالته من التغيُّر فيُعفَى عنه للضرورة. _________ (1) انظر «تهذيب التهذيب» (8/ 292).

(16/79)


الرسالة الثالثة مسألة

 بطلان الصلاة بتغيير الآيات في القراءة

(16/81)


الحمد لله. الحمد لله حمدًا لا انقطاعَ له أبدًا، فإن إحسانه علينا غير مقطوعٍ عنا، والصلاة والسلام على مولانا محمدٍ رسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد، فإنه لمّا كان في يوم الجمعة لأربعٍ خلون من شوال 1339 قرأ إمامُ الصلاةِ في الجمعة بسورتَي الأعلى والغاشية؛ فأبدل لفظ الغاشية بالخاشعة، ففتح عليه الحقيرُ فلم يتنبّه، ثم فتح عليه السيّد الضياء صالح بن محسن الصَّيلمي، وكرّر مرارًا فلم يتنبّه، بل استمرّ على القراءة، فلمّا سلّم قال الصَّيلمي: «أعيدوا الصلاةَ»، فنازعه السيّد العربي محمد بن حيدر النعمي بأنّه لا يلزم في مذهبهما إعادةٌ في مثل ذلك، ثم قال له: «الإمامُ حاكمٌ وهو شافعيٌّ». فسُئِلَ الحقيرُ عن الصلاة في مذهبنا، فقلتُ: صحيحة. فلما كان بعد ذلك قال لي الصَّيلمي: «ما دليل الشافعية على عدم بطلان الصلاة؟». فقلتُ له: أمّا صلاتُك أنتَ فقد بطلتْ بمذهبك؛ لأنّ فيه أنّه ليس للمأموم الفتحُ على الإمام في ما زاد على الواجب، وهو منه الفاتحة وثلاث آياتٍ في جميع الصلاة لا في كلِّ ركعةٍ، هذا [مع] (1) أنّه كرَّر الردَّ بعد أن تجاوز القارئ الآية بآياتٍ. فقال: لستُ ملتزمًا للمذهب، يعني: بل مجتهد. _________ (1) هنا كلمة غير واضحة. ولعلها ما أثبت أو نحوها.

(16/83)


فقلتُ ــ وعلى تسليم دعواه ــ: إذًا ليس لك أن تناظرني؛ لأنّي مقلّدٌ آخُذُ قولَ إمامي، ولا يلزمني معرفة دليله. لكني أتنازل عن هذا فأقول: لا يلزم إمامي الحجةُ؛ لأنه متمسك بالأصل، وهو عدم البطلان، فالبيّنة عليك. ولكنّي أتنازل عن هذا فأقول: لا يخلو دعوى البطلان إمّا أن تكون لتغيير نظم القرآن، وإمّا للإتيان بكَلِمٍ ليست من القرآن. أمّا الأول فيدلّ على استصحابِ الأصل فيه حديث عليٍّ عند أبي داود والترمذيّ والنسائي والحاكم (1) قال: «صنعَ لنا عبد الرحمن بن عوفٍ طعامًا، فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذتِ الخمرُ منّا وحضرتِ الصلاةُ، فقدّموني، فقرأتُ: (قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون). فأنزل الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]. هكذا ذكره الجلال السيوطي في «أسباب النزول» (2). ولفظ أبي داود بعد السند إلى علي: عن عليٍّ ــ عليه السلام ـــ: «أن رجلاً من الأنصار دعاه وعبد الرحمن بن عوفٍ، فسقاهما قبل أن تُحرَّم الخمر، فأمَّهم عليٌّ في المغرب، فقرأ: (قل يا أيها الكافرون) فخلّط فيها، فنزلت: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}. والاستدلال بهذا مِن حيثُ إنَّه لم يرد أنّهم أُمِروا بالإعادة، والأصل عدم _________ (1) «سنن أبي داود» (3671) والترمذي (3026) و «السنن الكبرى» للنسائي (11041) و «المستدرك» (2/ 307). (2) «لباب النقول» (ص 68، 69).

(16/84)


الأمر، بل والظاهر، إذ لو كان لنُقِل. وأمّا قولهم: «الدليل إذا تطرَّقَه الاحتمال سقط به الاستدلال» فليس هذا منه. فإن قيل: هذا قبل تحريم الكلام في الصلاة. قلنا: لسنا في الكلام، بل نحن في تغيير النظم، إذ قد يقال: إن تغيير النظم أشدُّ من الكلام الأجنبيّ. وسيأتي بحث الكلام إن شاء الله. فإن قيل: قد نُسِخ جواز صلاة السكران. قلنا: نعم، ولكن لم يُنسَخ جواز صلاة من غيَّر النظمَ غيرَ مُتعمِّدٍ، مع أنهم في تلك الصلاة كان التخليط بسببهم؛ إذ الشربُ باختيارهم؛ فصحّة صلاة من خلّط بغير سببٍ منه من باب أولى. فإن قيل: فإنّما كان نسخ صلاة السكران بسبب التخليط. قلنا: هذا لا يدل على بطلان الصلاة تلك ولا ما بعدها، فإنه إنما هو تحريم الصلاة مع وجود سبب التخليط، بل سبب ( ... ) (1) مُبطل، فإذا وقع سبب آخر للتخليط ليس باختيار المخلّط فهو معذور فيه، مع أنّ التخليط الذي في الحديث فظيعٌ في نفسه، وأمّا المخلِّط فمعذورٌ. فإن قيل: لم يعد القارئ لتصحيح القراءة؟ قلتُ: ليست القراءة واجبةً حتى تبطل الصلاة لبطلانها، إذِ الواجبُ في مذهبه الفاتحة، وفي مذهب غيره هي وثلاث آياتٍ في عموم الصلاة، وقد قرأ سورة الأعلى في الركعة الأولى، مع أنَّ التخليط هنا لم يكدْ يغيِّر المعنى، ومع ذلك فالحديث لم يرد فيه إعادته القرآن. _________ (1) كلمة غير واضحة.

(16/85)


وأمّا الثاني وهو: أن يكون سبب البطلان هو الإتيان بكلمةٍ ليست من القرآن، فلفظُ الخاشعة قد جاءت في القرآن، مع أنَّ إتيانه بها خطأٌ، والكلام الأجنبيُّ لا يبطل صلاة المعذور فيه، سواءً كان جاهلاً أو ناسيًا أو مخطئًا، فقد قال تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وهي دعوة مجابةٌ لجميع الأمة، وفي الحديث: «رُفِع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما استُكْرِهوا عليه» (1). فإن قيل: رُفِع الإثمُ لا الحكم. قلنا: كلاّ، ففي مسلمٍ وغيره (2) عن معاوية بن الحكم السُّلَمي قال: «بينا أنا أصلّي مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذْ عطسَ رجلٌ من القوم؛ فقلتُ: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلتُ: وا ثُكْلَ أُمِّياه! ما شأنكم تنظرون إليَّ؟! فجعلوا يضربون أيديَهم على أفخاذهم، فلمّا رأيتُهم يُصمِّتونني لكنّي سكتُّ، فلمّا صلّى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فبأبي هو وأمّي ما رأيتُ معلِّمًا قبله ولا بعده أحسنَ تعليمًا منه، فوالله ما كَهَرني ولا ضربَني ولا شتمَني، ثم قال: «إنّ هذه الصلاة لا يصلُح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فذكر الحديث. _________ (1) أخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 95) وابن حبان (7219) والدارقطني (4/ 170 ــ 171) والحاكم (2/ 198) والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 356) من حديث ابن عباس بلفظ: «إن الله تجاوز عن أمتي ... ». وإسناده صحيح. وأخرجه ابن ماجه (2045) أيضًا، ولكن في إسناده انقطاع بين الأوزاعي وابن عباس. (2) مسلم (537) وأبو داود (930، 931) والنسائي (3/ 14 ــ 18).

(16/86)


والدليل منه أنه تكلّم جاهلاً فلم يأمرْهُ الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بالإعادة، مع وضوح أنّ ذلك كان بعد تحريم الكلام، كما لا يخفى من إنكارِ الصحابة ثم كلامِ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهذا حريٌّ أن يكون مجمعًا عليه؛ لأنّ الجاهل المعذور إذا أتى مبطلاً لا يلزمه الإعادةُ، ومنه أهل قُباء الذين كانوا يصلُّون مستقبلين بيتَ المقدس فأُخْبِروا بتحويل القبلة فداروا كما هم (1) فهم قد فعلوا بعضَ الصلاةِ إلى غير القبلة ولم يؤمروا بالإعادة، وأدلّة هذا كثيرةٌ، هذا في الجهل. وأمّا السهو أو النسيانُ ففيه حديث ذي اليدين المشهور، ولفظ البخاريّ (2) فيه: عن أبي هريرة قال: صلّى بنا النبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فساقه. ولمسلمٍ وأحمدَ وغيرهما (3) عن أبي هريرة قال: بينما أنا أصلّي مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. وذو اليدين هذا غير ذي الشمالين الشهيد ببدرٍ، فإنّ هذا عاش بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وحدَّث بهذا الحديث كما عند الطبراني (4). وإسلامُ أبي هريرة وعمران بن حصين ــ الراوي الآخر ــ متأخّر عن تحريم الكلام، وكذا إسلامُ معاوية بن حُدَيج قبل موته - صلى الله عليه وآله وسلم - بشهرين، وله حديث عند أبي داود (5) بسندٍ صحيحٍ، فيها السهو وخطاب طلحة للنّبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والبناء. _________ (1) أخرجه البخاري (40، 399) ومسلم (525) من حديث البراء بن عازب. (2) رقم (6051). (3) مسلم (573) وأحمد (9444) والنسائي في الكبرى (567). (4) في «المعجم الكبير» (4224). (5) رقم (1023).

(16/87)


فهذه الأحاديثُ متأخرة عن تحريم الكلام بالإجماع، على قول من قال: إنّ النسخ بمكة، وعلى قول من قال: إن النسخ بالمدينة أوائلَ الهجرة، على أن الصحيح أنه كان بالمدينة، لحديث زيد بن أرقم عند البخاري (1) وغيره: «إنْ كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، يُكلِّم أحدنا صاحبَه بحاجته، حتى نزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ... } الآية [البقرة: 238]، فأُمِرْنا بالسكوت». والآية مدنية باتفاقٍ. ولا يعارضه حديث عبد الله عند البخاري (2) وغيره أيضًا أنَّه قال: «كنا نُسلِّم على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو في الصلاة، فيردّ علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلّمنا عليه، فلم يردَّ علينا، وقال: «إنّ في الصلاة لشُغلاً». فإنّ عبد الله رجع من الحبشة إلى مكة أولاً، ثم رجع إلى الحبشة، ثم رجع إلى مكة في ثلاثة وثلاثين رجلاً، فمات منهم رجلان بمكة وحُبِس منهم سبعة، وتوجّه إلى المدينة أربعةٌ وعشرون رجلاً، فشهدوا بدرًا، ومنهم عبد الله كما في سيرة ابن إسحاق (3)، وتضافرت عليه الأحاديث. مع أن عبد الله وافق زيدًا على أنّ الناسخ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} كما في البخاري (4)، والآية مدنيةٌ باتفاق. وقد حقّق الحافظ في «الفتح» (5) هذا المبحثَ بما لا مزيدَ عليه، وأكثرَ _________ (1) رقم (1200). (2) رقم (1199). (3) انظر «سيرة ابن هشام» (1/ 681). (4) رقم (1199، 1200). (5) (3/ 74، 75).

(16/88)


من الأدلة على أن تحريم الكلام إنّما كان بالمدينة، فراجعْه إن شئت، فإنّ أكثر ما ذكرناه هنا مأخوذٌ منه. وفي هذا أوضح حجّةٍ على من قال: إنّ الكلامَ يُبطِل الصلاة ولو سهوًا. ولا حجّة لهم في قولهم: «كيف يُعذَر الناسي وله حالةٌ تُذكِّره، وهي أقوالُ الصلاة وأفعالها». فإنَّ هذا لا يصدُقُ على من ظنَّ التمامَ مع أنّ النصّ قد ورد بضدِّ ما قالوه، فإنّ في حديث ذي اليدين أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تكلّم، وذا اليدين تكلّم، والصحابة تكلّموا. فإن قيل: في هذه سلّمنا، فكيف بالعقل حالَ مباشرة أفعال الصلاة وأقوالها، فإنّ العلّة موجودةٌ في ذلك ولا نصَّ؟ قلتُ: يُلْحَق ظنُّ التمام بمثله؛ لأنَّه وإن لم تكنِ العلّة المذكورة موجودةً فثَمَّ علّةٌ أخرى وهي عدم الضبط، بل هذه أشدُّ، وحيث لم يعتبر الشرعُ تلك فلا تُعتَبر هذه. ولا دليل في الحديث لمن قال: «إنّ الكلام لمصلحة الصلاة لا يُبطلها ولو عمدًا»، ويستدلُّ له بأنّ ذا اليدين والصحابة تكلّموا بعد قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كلُّ ذلك لم يكن» أو نحو ذلك، فعلموا أن الصلاة لم تُقصَر مع أنّها لم تتمَّ. فقد أجاب بعضُهم بأن الصحابة لم ينطقوا، وإنما أومَؤوا، كما صرّح به في «سنن أبي داود» (1)، ويحمل ما ذكره غيره من القول على المجاز. وهذا وجيهٌ في غير ذي اليدين. وأما هو فأجيبَ عنه وعن غيره بتقدير [ ... ] (2): _________ (1) رقم (1008). (2) هنا كلمة غير واضحة.

(16/89)


بأنّ إجابة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بل ومخاطبته لا تُبطِل، لأنّهم قد كانوا يقولون في التشهد: «السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته» وهو حيٌّ حاضرٌ. وأقول: ولو سُلِّم أن خطابه كغيره فلا نُسلِّم أنهم غير معذورين، فإنّهم قد يكونون يظنُّون أن السلام والتحوّل عن القبلة والكلام مُبطِل للصلاة، وأنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سيستأنف لهم الصلاة، فهم يظنون أنّهم ليسوا حالَ الكلامِ باقين في حكم الصلاة. لكن حديث معاوية بن حُدَيج ــ المتقدم ذكره ــ فيه خطاب طلحة له - صلى الله عليه وآله وسلم -[ ... ] (1) من هذا الاحتمال بعض الضعف؛ لأنَّ إسلام معاوية قبل موت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بشهرين، والراجح تأخُّر قضيّته عن قضيّة ذي اليدين، والظاهر أنَّ طلحة كان قد علم أن السهو لا يقطع الصلاة. وإن كان هذان الوجهان ضعيفين فيبقى الجواب الأول، وهو أنّ خطابه عليه الصلاة والسلام لا يُبطِل. وأمّا الخطأ ــ ومنه واقعتنا الحاضرة ــ فهو بالجهل أشبهُ منه بالنسيان؛ لأنّ علّة من أبطل بالنسيان أن للمصلي حالةً تُذكّره من أفعال الصلاة وأقوالها، وهذا غير موجود في الجهل. وقد قدَّر أصحابنا الكلام الذي لا يُبطِل سهوه بستِّ كلماتٍ أخذًا من حديث ذي اليدين، وحجّتهم أنّ ظاهر النصِّ والقياس إبطال الكلام مطلقًا كما هو مذهب الحنفية، وقد مرّ توجيهه وما فيه. فلمّا ورد النصُّ بخلاف ذلك لزِمَ قصْرُه حيث ورد. وهذا مثل قولهم في المدة التي لا يجوز للمسافر أن يقصر فيها إذا مكث بمنزلٍ ولم ينوِ إقامةَ أربعةِ أيام كواملَ، لأن ظاهر _________ (1) هنا كلمة غير واضحة.

(16/90)


حديث: «يقيم المهاجر [بمكة] بعد قضاء نسكه ثلاثًا» ــ متفق عليه ــ (1) على أن الثلاث لا تقطع السفر، وأفهمَ أنّ الأربعة تقطعه، ويلحق نيّةَ الإقامة الإقامةُ بالفعلِ. وحديث «الصحيحين» (2) عن أنس في القصر، وفيه: قال: «أقمنا بها عشرًا» أي بمكة، قالوا: العشر بمكة وضواحيها، والتي بمكة نفسها أربعة أيام. فلما رُدَّ بإقامته - صلى الله عليه وآله وسلم - ثمانية عشر يومًا يقصُر، حملوه على أنه لم يَنْوِ ذلك، بل كان متردّدًا متى [ ... ] (3) داع الحاجة يرحل. وقد يقال عليه: إن المسافر لا يسلب اسم السفر حتى يرجعَ إلى أهله، أو يستوطنَ بلدًا آخر، أو يقيمَ فيه مدةً تسلُبه اسمَ السفر عُرفًا، والأدلةُ علَّقتِ القصرَ باسم السفر، فما دام اسمُ السفر موجودًا فالقصر مشروع. وأمّا دليلا الأربعة أيام فلم يدلاّ على سلب اسم السفر [ ... ] (4)، أنّ الأول يدلُّ على أنّ الأربعة أيام ترفع حكم السفر؛ لأنّ المهاجر حُرِّم عليه طولُ المكث بمكة لحكمةٍ أخرى. وأمّا حديث أنس فلا دليلَ فيه، لأنّه من جملة وقائع الأحوال، ثم عثرت على كلام لابن القيم، وفي هذا خلافٌ طويل بين السلف، وكذا في مسافة القصر، والظاهر أنها ما يسمّى سفرًا للآية وهي على إطلاقها. ثم السفر ليس _________ (1) البخاري (3933) ومسلم (1352) ــ واللفظ له ــ من حديث العلاء بن الحضرمي. (2) البخاري (1081) ومسلم (693). (3) هنا كلمة غير مقروءة. (4) هنا كلمة غير واضحة ولعلها: سُلِّم.

(16/91)


مجملاً حتى يُبيَّن بما يرد من الأحاديث، بل هو مطلق في كل سفر، ولا يُقيَّد بما ورد من فعله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فإنّ الأفعال وقائعُ أحوال، ولا دليلَ على أنه لو وقعَ دونها في المسافة أو فوقَها في مُدّة اللبثِ لأتمّ، فتأمّلْ. وهذا بعدما تصفحَّتُ الأحاديث المستدلَّ بها في ذلك؛ فلم أرَ فيها ما يصحُّ الاحتجاجُ به، ولكنّي تعظَّمتُ هذه العبارة حتى عثرتُ على قول ابن القيّم في «زاد المعاد» (1): «ولم يَحُدَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لأمته مسافةً محدودةً للقصر والفطر، بل أطلق لهم ذلك في مطلق السفر والضرب في الأرض، كما أطلق لهم التيمّم في كلِّ سفرٍ، وأمّا ما يُروى عنه [من التحديد باليوم أو] (2) اليومين أو الثلاثة فلم يصحَّ عنه فيها شيءٌ البتة، والله أعلم». وإن كان قوله: «كما أطلق لهم التيمُّم في كلِّ سفرٍ» لا حجَّة فيه؛ لأنَّ العلة في التيمُّم عدمُ الماء، وإنّما خرج السفر مخرجَ الغالب، وأمّا في القصر فالعلّةُ في نفس السفر. وأمّا تحديد الكلام بالستِّ كلماتٍ فيقال: (التي دلَّ الحدُّ عليه) (3) السهو سهوان كما تقدّم، إمّا أن يكون في أثناء الصلاة فيغفل عنها، ويتكلّم بكلامٍ غير مُبطِلٍ وإن كثرُ ما دام معذورًا (4)، فيه للنصِّ. فإن قيل: سلّمنا أنه قد خرج من الصلاة مثلاً، فله الكلام (على الأخير _________ (1) (1/ 463). (2) سقطت من الأصل، استدركناها من «الزاد». (3) هكذا وجدت، وقبلها كلام قد خُط عليه. (4) فوق هذه الكلمة كُتب: «وإما أن يكون بطل».

(16/92)


بقدر الحاجة) (1)، في الأخير للنصِّ، فكيف يُلحق الأول به مع أنّ فيه تقصيرًا ليس في الثاني، وهو أنَّ له حالةً تذكّره؟ قلنا: وقد يقال: وفي الثاني تقصير أيضًا، وهو عدم الضبط مع إمكانه لولا السهو، فلمّا لم يعتبر الشارع عدم العذر فلا نعتبره. وأمّا كونه ستَّ كلماتٍ أو أقلَّ أو أكثرَ فواقعةُ حالٍ لا يُقيَّد بها الحكمُ، ولا دليلَ على أنَّه يُبِطل ما فوقها، وهذا لا غبار عليه إن شاء الله تعالى. فإن قيل: التقصير حاصلٌ لعدم الضبط. قلنا: لا تقصيرَ في ذلك يوجب العقوبة؛ إذ قد وقع ذلك منه - صلى الله عليه وآله وسلم - وإن اختلف السبب. وأمّا ما أشرنا إليه سابقًا أن مذهب الهدويّة (2) أنّ الفتح على الإمام إنّما جاز للضرورة، وهم بَنَوا قولهم على أنّ القراءة مع قراءة الإمام مُبطِلة، ولعمري إنّه لظاهر قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، نزلت في القراءة خلف الإمام، وقيل: في الكلام والإمام يخطب، وأُطلِق القرآنُ على الخطبة مجازًا، وقيل: في الكلام في الصلاة؛ فعلى هذا تكون ناسخةً لجواز الكلام. وفي حديث مسلمٍ (3) وغيره: «وإذا قرأ فأنصتوا» يعني الإمامَ، وأحاديث _________ (1) هذه العبارة وجد عليها بعض الضرب. (2) كذا في الأصل، والصواب: «الهادوية» نسبة إلى الهادي. (3) رقم (404) من حديث أبي موسى الأشعري. وأخرجه أيضًا أحمد (19723) وأبو داود (973) والنسائي (2/ 242) وابن ماجه (847). قال أبو داود: قوله «فأنصتوا» ليس بمحفوظ، لم يجئ به إلا سليمان التيمي في هذا الحديث. وأعلَّه كذلك الدارقطني في «العلل» (7/ 254) وأبو علي النيسابوري كما في «السنن الكبرى» للبيهقي (2/ 156). وقد رُوي أيضًا من حديث أبي هريرة، أخرجه أبو داود (604) والنسائي (2/ 141، 142) وابن ماجه (846)، قال أبو داود: «وهذه الزيادة «وإذا قرأ فأنصتوا» ليست بمحفوظة، الوهم من أبي خالد». وتكلم فيه أيضًا ابن معين وأبو حاتم الرازي والدارقطني والبيهقي، انظر «سنن» الدارقطني (1/ 329) والبيهقي (2/ 156) ولكن صححه مسلم في صحيحه (1/ 304) دون أن يخرّجه.

(16/93)


كثيرة يُخصِّصها حديث أبي داود والترمذي والنسائي (1) عن عبادة بن الصامت قال: كنّا خلفَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في صلاة الفجر، فقرأ فثقُلَتْ عليه القراءة، فلما فرغ قال: «لعلكم تقرأون خلف إمامكم؟ » قلنا: نعم يا رسول الله. قال: «لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاةَ لمن لم يقرأ بها». وفي روايةٍ لأبي داود (2): «وأنا أقول مالي ينازعني القرآن، فلا تقرأوا بشيء من القرآن إذا جهرتُ إلا بأمّ القرآن». مع عموم الأدلة المُلزِمة بقراءة الفاتحة. وفي «أسباب النزول» (3): «وأخرج ابن أبي حاتم (4) عن الزهري قال: نزلت هذه الآية يعني قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ ... } الخ في فتًى من الأنصار كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كلّما قرأ شيئًا قرأه». _________ (1) أبو داود (823) والترمذي (311) والنسائي (2/ 141). وقال الترمذي: حديث حسن. (2) رقم (824). (3) «لباب النقول» (ص 105، 106). وانظر «الدر المنثور» (6/ 721). (4) وأخرجه أيضًا الطبري في «تفسيره» (10/ 659).

(16/94)


وقال سعيد بن منصور في «سننه» (1): حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب قال: «كانوا يتلقَّفون من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، إذا قرأ قرأوا معه، حتى نزلت هذه الآية التي في الأعراف: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}. فهذا دليلٌ على أنّهم كانوا يقرأون غير الفاتحة. وفي حديث أبي داود (2): «فجاء رجلٌ فقرأ خلفه بسبح اسم ربّك الأعلى». وفي حديث أبي هريرة عند مالكٍ وأحمد وأبي داود والترمذي والنسائي، ولابن ماجه نحوه (3): «أنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - انصرف من صلاةٍ جهرَ فيها بالقرآن، قال: «هل قرأ معي أحدٌ منكم؟ » فقال رجلٌ: نعم يا رسول الله، قال: «إني أقول مالي أُنازَع». قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -». قال بعضهم: لعلّ هذا هو الناسخ لما تقدّم، يعني حديثَ عبادة ونحوه؛ لأنّ أبا هريرة متأخر الإسلام. قلتُ: هذا باطلٌ من وجوه: أولاً: دعوى النسخ مع إمكان الجمع، بل الجمع هو الظاهر، فالقصة واحدةٌ، وإنّما زاد عبادة: «إلا بأمّ القرآن»، وهي زيادة ثقةٍ مخصِّصةٌ لعموم _________ (1) رقم (978 ــ تفسير). (2) رقم (828) من حديث عمران بن حصين. (3) «الموطأ» (1/ 86) و «مسند» أحمد (7270) و «سنن» أبي داود (826) والترمذي (312) والنسائي (2/ 141) وابن ماجه (848).

(16/95)


الحديث، أو مقيِّدةٌ لإطلاقه، مع أن حديث عبادة أصله في الصحيحين (1) بلفظ: إن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب». وأمّا اختلاف العبارتين فهذا من الرواية بالمعنى، وهو واضحٌ، وممّا يدلُّك على ذلك حديث أبي هريرة عند مسلمٍ (2) وغيره قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من صلَّى صلاةً لم يقرأ فيها بأمّ القرآن فهي خِداجٌ، ثلاثًا، غير تمامٍ». فقيل لأبي هريرة: إنّا نكون وراء الإمام؟ قال: اقرأْها في نفسك، فإنّي سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «قال الله تعالى: قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ... » الحديث. واستدلالُ أبي هريرة به من حيث إنّه قال: «قسمتُ الصلاة»، ثم فسَّرها بالفاتحة، فدلّ على أنّ الفاتحة هي الجزء الأهمُّ في الصلاة، كما في قوله: «الحجُّ عرفة» (3)، فكيف يخفى عليه أن الحديث الذي رواه ناسخٌ لغيره؟ مع أنّ الحديث الذي رواه وذكرناه آنفًا هو عين حديث عبادة، إلا أنّه في حديث عبادة تلك الزيادة. وقوله: «لا صلاة ... » إلخ، النفي واقع على الذات، لأن ألفاظ الشارع محمولة على عُرفه، ولا يسمّى عنده صلاة إلا الصحيح المجزئ، فغير الصحيح المجزئ لا يسمّى عنده صلاة، فنفيه حقيقةٌ، ولو سُلِّم امتناع انتفاء _________ (1) البخاري (757) ومسلم (394). (2) رقم (395). وأخرجه أيضًا أبو داود (821) والترمذي (2953) والنسائي (2/ 135). (3) أخرجه أبو داود (1949) والترمذي (889) والنسائي (5/ 264) وابن ماجه (3015) من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي. وإسناده صحيح.

(16/96)


الذات فأقرب المجازات الصحة والإجزاء، وهذا واضح لا غبار عليه، مع ورود أحاديث كثيرة تنصُّ على وجوبها وبطلان الصلاة عند عدمها. وبهذا ــ ولله الحمد ــ تقرّر أن الفاتحة لا بدّ منها للإمام والمأموم في كل ركعة، لحديث المسيء صلاته (1)، وفيه: «ثم اقرأْ بما تيسَّر معك من القرآن»، فعلَّمه إلى تمام ركعة، وقال في آخره: «ثم افعلْ ذلك في صلاتك كلها». وفي رواية لأحمد وابن حبان (2): «ثم افعلْ ذلك في كل ركعة». وقد تحقَّق من حديث عبادة أن الفاتحة لا تصحُّ الصلاة إلا بها، فتكون هي الذي تيسَّر، وإذا لم يُسلَّم هذا فلا أقلّ من ثبوت وجوب ما تيسَّر في كلّ ركعة، ثم عيَّن حديثُ عبادة وحديثُ أبي هريرة الفاتحةَ، فتكون هي بمكان ما تيسَّر، وذلك في كلّ ركعةٍ، كذا قالوه. وبعدُ، فقد تقرّر أن الرجل المسيء صلاته هو خلاّد بن رافع الأنصاري، كما ذكره ابن حجر وبيَّن مستنده في ذلك في «الفتح» (3)، وخلاّد استشهد ببدرٍ، فدلّ على أنه كان أولَ الأمر يكفي في القراءة ما تيسر من القرآن: الفاتحةُ أو غيرها، ثم أوجبت الفاتحة، وعلى هذا يدلُّ حديث أبي داود (4) عن أبي سعيد قال: «أُمِرْنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسَّر»، وعن أبي هريرة (5) قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اُخرجْ فنادِ في المدينة أنّه لا صلاة _________ (1) أخرجه البخاري (757) ومسلم (397) من حديث أبي هريرة. (2) «مسند أحمد» (18995) و «صحيح ابن حبان» (1787) من حديث رفاعة الزرقي. (3) (2/ 277). (4) رقم (818). (5) عند أبي داود (819).

(16/97)


إلا بقرآنٍ، ولو بفاتحة الكتاب فما زاد». وفي روايةٍ (1): «أن أناديَ أنه لا صلاة إلا بقرآنٍ: فاتحة الكتاب فما زاد». فهذا يشير إلى النسخ؛ لأنّ النداء لا يكون إلا في أمرٍ تجدّد، لأنَّ إسلام أبي هريرة متأخّر جدًّا، ويستحيل أن يكون مَضَت تلك المدّة الطويلة، والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يُعلِمِ الناسَ بوجوب قراءة الفاتحة حتى يحتاج في إعلامهم حينئذٍ إلى نداءٍ إلا وهي لم تكن واجبةً، وهذا ــ إن شاء الله ــ مُتَّجهٌ. وقد يقال: هذه الأحاديث دلّت على وجوب قدر زائدٍ على الفاتحة. فنقول: قال الحافظ في «الفتح» (2): «وتُعقِّب بأنّه ــ أي قوله: «فصاعدًا» ــ ورد لدفع توهّم قصر الحكم على الفاتحة، قال البخاريّ في «جزء القراءة» (3): وهو نظير قوله: «تُقطَع اليدُ في رُبع دينارٍ فصاعدًا» (4)، وفي حديثٍ لأبي هريرة موقوفًا (5): «وإن لم تزِدْ على أمّ القرآن أجزأتَ»، ولابن خزيمة (6) من حديث ابن عبّاس أنّ النّبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قام فصلّى ركعتين لم يقرأ فيهما إلا بأمّ الكتاب. واعلم أنّ الأدلة تُعطِي أنّ القراءة إذا جهر الإمام حرامٌ إلا بالفاتحة، _________ (1) عند أبي داود أيضًا (820). (2) (2/ 243). (3) (ص 48) بتخريجه «تحفة الأنام». (4) أخرجه البخاري (6789) ومسلم (1684) من حديث عائشة. (5) أخرجه البخاري (772). (6) في «صحيحه» (513).

(16/98)


وكذا الدعاء، فإنّ ظاهر الآية الوجوب، وقد قال: «فأنصِتوا»، وظاهر النهيّ التحريم، وقد قال: «لا تفعلوا» و «فلا تقرأوا» وغير ذلك، لكنّه يجوز قول: «سبحان ربي الأعلى» عند قراءة الإمام: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} لوروده (1). فأمّا قول: «وأنا على ذلك من الشاهدين» بعدَ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8]، وقول: «بلى» بعدَ {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40]، و «آمنا بالله» بعد {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات: 50] فذلك بعد تمام القراءة، فهو بمنزلة التأمين. نعم، أمّا الدعاء عند آيات الثواب والاستعاذة عند ذكر العذاب، فإن دعا الإمام فللمأموم الدعاء؛ لأنّ الإمام حينئذٍ ليس في قراءة. وأمّا من قال: «إن الآية نزلت في الكلام في الخطبة» ــ وهو الذي يميل إليه المفسِّرون ــ فهو موافقٌ لحديث: «من قال لصاحبه يوم الجمعة والإمام يخطب «صَهْ» فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له» (2). وعليه فالظاهر وجوب الإنصات إلا إذا كان الكلام لمصلحة الخطبة، كما في حديث الذي سأل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو يخطب بقوله: «متى الساعة؟ » فقال: «ما أعددتَ لها؟ » (3). فافهم. _________ (1) أخرجه أحمد (2066) وأبو داود (883) من حديث ابن عباس. (2) أخرجه أبو داود (1051) من حديث علي بن أبي طالب، وإسناده ضعيف. (3) أخرجه البخاري (3688، 6167، 6171، 7153) ومسلم (2639) من حديث أنس بن مالك. وليس فيه أنه سأله وهو يخطب. بل في بعض طرقه أنه سأل والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان خارجًا من المسجد.

(16/99)


وهل النفخُ والتنحنح ونحوه يُعدُّ كلامًا يُبطِل الصلاة؟ الأصحُّ عند أصحاب الشافعيّ: نعم، والصحيح هو الصحيح، والله أعلم.

(16/100)


الرسالة الرابعة

 هل يدرك المأموم الركعة بإدراكه الركوع مع الإمام

(16/101)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصلَّى الله وسلَّم على محمد وآله وصحبه. أما بعد، فإن الأخ العلامة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة المدرس بالمسجد الحرام، ومدير دار الحديث ــ عافاه الله ــ، أَطلَعني على رسالته المحررة في اختيار إدراكِ المأموم الركعةَ بإدراكه الركوعَ مع الإمام، وأشار عليَّ أن أكتبَ ما يظهر لي في هذه المسألة، فأستعين الله تبارك وتعالى وأقول: قال البخاري في "جزء القراءة" (1): "والقيام فرضٌ في الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، وقال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صَلِّ قائمًا، فإن لم تستطعْ فقاعدًا" (2) ". وبسط الكلامَ في تثبيت فرضية قراءة الفاتحة في كل ركعة حتى على المأموم، وساق في موضعٍ آخرَ الأحاديثَ في وجوب قضاء المسبوق ما فاته، ولم يُنازِعْه الشيخ إلا في هذه القضية، فظاهرُ صنيعهِ أنه يُسلِّم ما استدلَّ به البخاري على فرضية القيام (3)، وعلى فرضية قراءة الفاتحة في كل _________ (1) (ص 283 ــ 285) بتخريجه "تحفة الأنام". (2) أخرجه البخاري في "صحيحه" (1117) من حديث عمران بن حصين. (3) إذا كان الإمام في الركوع فكبَّر المسبوق للإحرام قائمًا لا يُعدُّ هذا إدراكًا منه للقيام الذي هو الركن، كيف وقد فاته بفوات قيام الإمام؟ وإنما هذا قيام يشترطونه لتكبيرة الإحرام حتى فيمن أدرك الإمام ساجدًا، وقيام الركن شأنه الطول، قال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}، وأقلُّ ما يُقدَّر طوله بقراءة الفاتحة، فأما التكبيرة فالشأن أن تتأخر تكبيرة المأموم ولو كان غير مسبوق، وليس القيام كذلك، وأيضًا فإنه شُرِع للمسبوق أن يدخل في الصلاة على أي حال كان الإمام، فقد لزمه في ذلك أن يشرع له تكبيرة الإحرام، إذ لا يدخل في الصلاة إلا بها، وليس قيام الركن كذلك. [المؤلف].

(16/103)


ركعة حتى على المأموم (1)، وعلى فرضية قضاء ما فات، مع أن تلك الأدلة تتناول هذه القضية [أيضًا، فجعلها] مستثناةً من ذلك العموم. ويتلخَّص من كلامه الاحتجاجُ على هذا التخصيص (2) بأمور: الأول: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جِئتُم إلى الصلاة ونحن سجودٌ فاسجدوا ولا تَعُدُّوها شيئًا، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة". قال الشيخ: "سكت عليه أبو داود (3) والمنذري، واحتجَّ به ابن خزيمة في "صحيحه" (4) .... ". _________ (1) من لم يقل بفرضيتها على المأموم قد يكون لقوله وجه فيما إذا خصَّ ذلك بالجهرية وبالمأموم الذي يسمع قراءة الإمام، فإن استماعه يمكن أن يقال: إنه نابَ منابَ قراءته، ودون هذا من يقول بعدم فرضيتها على المأموم ولو لم يسمع قراءة الإمام، إذا كان عند قراءة الإمام قائمًا معه في الصلاة، فقد يقال: إن احتباسه مع الإمام والإمام يقرأ ربما يقوم مقام قراءته، والمسبوق خارج عن هذا كله. [المؤلف]. (2) في المطبوع: "التلخيص". ولعل الصواب ما أثبته كما يظهر من السياق. (3) رقم (893). (4) رقم (1622).

(16/104)


الثاني: ابن وهب: حدثني يحيى بن حميد عن قُرَّة بن عبد الرحمن عن ابن شهاب الزهري، أخبره أبو سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدركها قبل أن يُقيمَ الإمامُ صُلْبَه" (1). قال الشيخ: "أخرجه الدارقطني وابن خزيمة (2) محتجًّا على أن من أدرك الركوع مع الإمام أدرك الركعة". الثالث: حديث مالك عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "من أدرك من الصلاة ركعةً فقد أدركها" (3). الرابع: الحسن البصري عن أبي بَكْرة: أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع، فركع قبل أن يَصِلَ إلى الصفّ، فذَكَر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "زادك الله حِرْصًا ولا تَعُدْ". أخرجه البخاري في "صحيحه" (4)، وذكروا أنَّ فيه (5) دلالتين: الأولى: لولا أن أبا بكرة كان يرى أنه بإدراكه الركوعَ يدرك الركعة لما بادر إلى الركوع قبل أن يبلغ الصفَّ. _________ (1) هكذا في "سنن" الدارقطني (ص 132)، وهكذا في "سنن" البيهقي (2/ 89)، وهكذا نقله الشيخ عن "تلخيص الحبير" عن ابن خزيمة. وذكره الشيخ في تعداد الأدلة بلفظ: "من أدرك ركعة من الصلاة قبل أن يقيم الإمام صلبَه فقد أدرك الركعة". [المؤلف] (2) "سنن الدارقطني" (1/ 346، 347)، و"صحيح ابن خزيمة" (1595). (3) أخرجه بهذا الطريق البخاري (580) ومسلم (607). (4) رقم (783). (5) في المطبوعة: "أفيه".

(16/105)


الثانية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرَّ أبا بكرةَ على السلام معه، ولم يأمره بإتمامٍ ولا إعادة. الخامس: أشار الشيخ إلى دليل خامس، وهو: أنه ثبت عن جماعة من الصحابة القولُ بالإدراك، ولم يتحققْ عن أحدٍ منهم خلافهُ، وتَبِعَهم الجمهور. * * * *

(16/106)


النظر في هذه الأمور أما الحديث الأول: فتفرَّد به يحيى بن أبي سليمان، رواه عن زيد بن أبي عتّاب وسعيد المقبري عن أبي هريرة. ويحيى هذا قال فيه البخاري (1): "منكر الحديث، روى عنه أبو سعيد [عبد الرحمن بن عبد الله بن عبيد] مولى بني هاشم وعبدُ الله بن رجاء البصري مناكير، [يعني: وهما ثقتان، فالحمل في تلك المناكير على يحيى]، ولم يتبينْ سماعه من زيدٍ ولا من ابن المقبري به". ومذهب البخاري وشيخِه ابن المديني أن ذلك في حكم المنقطع، وجرى المتأخرون على هذا المذهب ونسبوه إلى المحققين، وخالفهم مسلم، فذكر في مقدمة "صحيحه" (2) أنه يكتفي بثبوت المعاصرة وإمكانِ اللقاء والسماع، لكن في سياق كلامه وفحواه ما يدلُّ أن مراده الإمكان البيِّن، وقد شرحتُ ذلك في موضع آخر (3). وقال أبو حاتم (4) في يحيى هذا: "مضطرب الحديث ليس بالقوي، يكتب حديثه"، وقال البيهقي في "المعرفة" (5) في هذا الحديث: "تفرد به _________ (1) في "جزء القراءة خلف الإمام" (ص 380). والزيادات بين المعكوفتين من المؤلف للإيضاح. (2) (1/ 29، 30). (3) انظر (ص 64 وما بعدها). (4) انظر "الجرح والتعديل" (9/ 155). (5) "معرفة السنن والآثار" (3/ 9).

(16/107)


يحيى بن أبي سليمان هذا، وليس بالقوي". كذا في "التعليق على الدارقطني" (ص 132) (1). وذكر البيهقي هذا الحديث في "السنن" (ج 2 ص 89) ثم قال: "تفرد به يحيى بن أبي سليمان المدني، وقد رُوِي بإسنادٍ آخر أضعف من ذلك عن أبي هريرة"، ثم ساق الحديث الآتي. وذكر الذهبي يحيى هذا في "ميزانه" (2)، وذكر له حديثًا آخر، كأنه استنكره. وقال ابن خزيمة بعد أن أخرج في "صحيحه" (3) هذا الحديث: "في القلب شيء من هذا الإسناد، فإني لا أعرف يحيى بن أبي سليمان بعدالة ولا جرح، وإنما أخرجتُ خبره لأنه لم يختلف فيه العلماء". كذا في "تهذيب التهذيب" (4). وظاهر هذا أن ابن خزيمة لم يكن حين كتب هذا يعرف اختلافًا في إدراك الركعة بإدراك الركوع، ثم كأنه اطلع بعدُ على الخلاف، فرجع إلى القول بعدم الإدراك، فقد نقلوا ذلك عنه. والله أعلم. ويعارض ما تقدم أن أبا داود أخرج الحديث في "سننه" (5) وسكت _________ (1) "التعليق المغني على سنن الدارقطني" (1/ 349) ط. عبد الله هاشم يماني. (2) "ميزان الاعتدال" (4/ 383). (3) (3/ 58). (4) (11/ 228). (5) رقم (893).

(16/108)


عليه، وقد قال في "رسالته إلى أهل مكة" (1): "ما كان في كتابي من حديثٍ فيه وهنٌ شديد فقد بينتُه، ومنه ما لا يصلح سنده، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح". وأن المنذري سكت عنه كما ذكر الشيخ، وأن ابن حبان ذكر هذا في "ثقاته" (2)، وأن شعبة روى عنه، كما في ترجمة يحيى من "التهذيب" (3)، وقد ذكروا شعبة فيمن لا يروي إلا عن ثقة، وأن الحاكم أخرج هذا الحديث في "المستدرك" (ج 1 ص 216)، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ويحيى بن أبي سليمان من ثقات المصريين". فأما سكوت أبي داود فإنما يدلُّ أنه يرى أن هذا الحديث ليس فيه وهن شديد، وهذا هو مراده بقوله "صالح"، على أنه إنما ذكره (4) في "باب الرجل يُدرِك الإمام ساجدًا كيف يصنع"، فلعل مراده أنه ليس فيه وهنٌ شديد بالنسبة إلى ذلك الباب، لأن ذاك الحكم متفق عليه، فلا يلزم من هذا أنه ليس فيه وهن شديد مطلقًا. وقد عُرِف من تصرفات البخاري في "صحيحه" ما يُشبِه هذا، فإنه ربما يذكر الحديث في غير مظنته، ويُعرِض عنه في مظنته حيث يترجَّح له في تلك المظنّة خلافُ ذلك الحديث، كأنه يرى أنه صحيح حيث ذكره لا في مظنته. وأما ابن حبان فإنه يذكر في "الثقات" كل من رَوى عن ثقة وروى عنه _________ (1) (ص 69، 70) ط. المكتب الإسلامي سنة 1417. (2) (7/ 604). (3) (11/ 228). (4) في المطبوع: "أنكره" تحريف.

(16/109)


ثقة، ولم يجد له منكرًا خرج هو بذلك من (1) الثقات ... ، فتوسَّع، كما شرحتُه في ترجمته من "التنكيل" (2)، وأوضحتُ هناك ما يُوثَق به من توثيق ابن حبان مما لا يُوثَق به ... من الثاني (3)، كما يُعلم مما شرحتُه هناك. وأما ما (4) في ترجمة يحيى هذا من "التهذيب": أن شعبة روى عنه ... ثقة"، فإن ابن حجر التزم أن يذكر في ترجمة شعبة جميعَ شيوخه (5)، ولم يذكر فيهم يحيى هذا، وإنما ذكر أبا بَلْج يحيى بن أبي سُليم، وهو رجل آخر، فأخشى أن يكون وقع اشتباه. ومع ذلك ففي "فتح المغيث" للسخاوي (ص 134) (6): "من (7) كان لا يروي إلا عن ثقة إلا في النادر: الإمام أحمد، وشعبة ... وذلك في شعبة على المشهور ... ، وإلا فقد قال عاصم بن علي: سمعتُ شعبة يقول: لو لم أحدِّثْكم إلا عن ثقةٍ لم أحدِّثْكم عن ثلاثة (8) وفي نسخة ثلاثين (9) ... ، وعلى كل حال فهو لا يروي عن متروك ولا عمن أُجمِع على ضعفه". _________ (1) في المطبوع: "في". (2) (1/ 450، 451). (3) كذا في المطبوع، ولم أعرف وجه الصواب. (4) "ما" ساقطة من المطبوع. (5) انظر "تهذيب التهذيب" (4/ 338 ــ 343). (6) (2/ 42) ط. الجامعة السلفية. (7) في "فتح المغيث": "ممن"، وفي هامشه إشارة إلى أن في بعض النسخ: "من". (8) انظر "حلية الأولياء" (7/ 156) و"سير أعلام النبلاء" (7/ 209). (9) انظر "الكفاية" للخطيب (ص 90).

(16/110)


وأما "مستدرك" الحاكم فقد عُرِف أن فيه تخليطًا كثيرًا، وتساهلاً في التصحيح وفيما يقع فيه من التوثيق، وقد شرحتُ ذلك في ترجمة الحاكم من "التنكيل" (1). وقد ذكر هو يحيى هذا في موضع آخر، واقتصر على قوله: "يحيى مدني سكنَ مصر، لم يُذكَر بجرح"، ذكر ذلك ابن حجر في "التهذيب" (2)، وقال: "كأنه جعله مصريًّا لرواية أهل مصر عنه"، يعني: والمعروف أنه مدني سكن البصرة، فأما رواية بعض المصريين عنه فكأنهم لَقُوه بالمدينة أو بالموسم أو نحو ذلك، وكفى بكلمة البخاري جرحًا، وقد جاء عنه أنه قال: "كل من قلتُ فيه منكر الحديث لا تحلُّ الرواية عنه". انظر "فتح المغيث" طبع الهند (ص 162) (3). ومما يُوضِّح وهنَ هذا الحديث أن يحيى هذا تفرَّد به عن رجلين معروفين، أحدهما ــ وهو سعيد المقبري ــ مشهور جدًّا، فكيف يُقبَل من مثل يحيى مثلُ هذا التفرد؟ وأما الحديث الثاني: فتفرَّد به يحيى بن حُميد بن أبي سفيان المعافري المصري، رواه عن قُرَّة بن عبد الرحمن بن حَيْوِيل (4) عن الزهري عن أبي _________ (1) (1/ 472، 473). (2) (11/ 228). (3) (2/ 125) ط. الجامعة السلفية. وانظر "ميزان الاعتدال" (1/ 6) و"لسان الميزان" (1/ 220). (4) في المطبوع: "جبرئيل" تحريف.

(16/111)


سلمة عن أبي هريرة. ويحيى بن حميد هذا قال فيه البخاري (1): "مجهول لا يُعتَمد على حديثه"، وضعفه الدارقطني (2)، وذكره "العقيلي" (3) في الضعفاء، وتقدم عن البيهقي أن هذا الحديث أضعفُ من سابقه. وقال ابن يونس في "تاريخ مصر" (4): "أسند حديثًا واحدًا، وله مقطعات". وقال ابن عدي (5): "تفرد بهذه الزيادة، ولا أعرف له غيره". أقول: وإذا لم يكن له غير هذا الحديث، وقد تفرد به، فكيف يُقبَل؟ فإن قيل: فقد ذكره ابن حبان في "الثقات" (6)، وأخرج ابن خزيمة حديثه هذا في "صحيحه". قلت: أما "ثقات" ابن حبان فقد تقدم ما فيها، وأما ابن خزيمة فإنه يُخرج في "صحيحه" للمجهول إذا لم يَستنكِرْ حديثَه، وكأنه لم يَستنكر هذا لأنه عند كتابة الصحيح كان يرى الإدراك متفقًا عليه بين أهل العلم، كما تقدم في الكلام على الحديث الأول. ومع هذا فقُرَّة بن عبد الرحمن فيه كلام (7)، قال الإمام أحمد: "منكر الحديث" وقال ابن معين: "ضعيف الحديث"، وقال أبو زرعة: "الأحاديث التي _________ (1) في "جزء القراءة" (ص 351، 352). (2) انظر "ميزان الاعتدال" (4/ 370) و"لسان الميزان" (8/ 431). (3) (4/ 398). (4) نقل عنه في "لسان الميزان" (8/ 432). (5) "الكامل" (7/ 228). (6) (9/ 251). (7) انظر أقوال النقاد فيه في "تهذيب التهذيب" (8/ 373، 374).

(16/112)


يرويها مناكير"، وأخرج له مسلم في "صحيحه" (1) مقرونًا بآخر، ولعل اعتماده كان على ذاك الآخر، وذكره ابن حبان في "الثقات" (2) وأشار إلى لينٍ فيه. نعم، قوله أولَ الحديث: "من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدركها" معروفٌ صحيحٌ، كما يأتي في الحديث الثالث، وإنما المنكر زيادته: "قبل أن يُقيمَ الإمام صُلبه". وقد دفع البخاري في "جزء القراءة" (3) هذه الزيادة بأن مالكًا وجماعة من الأئمة رووا الحديث عن الزهري بسنده ولم يذكروا هذه الزيادة، قال (4): "وقوله: قبل أن يُقيمَ الإمامُ صلبه، لا معنى له ولا وجهَ لزيادته". يعني أن معنى الحديث في رواية مالك والأئمة: من أدرك من الصلاة في وقتها ركعةً أي واحدة من الثنتين اللتين هما الصبح، أو الثلاث التي هي المغرب، أو الأربع التي هي الظهر أو العصر أو العشاء للمقيم= فقد أدركها، أي أدرك الصلاة أداءً، أي أنها لم تَفُتْه. وإذا كان كذلك فلا معنى ولا وجهَ لزيادة "قبل أن يقيم الإمام صلبه"، غاية الأمر أن يكون أحد الرواة توهَّم أن معنى الحديث: من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك الركعة؛ فزاد هذه الزيادة تفسيرًا في زعمه؛ وقد جوَّز بعضهم أن تكون من زيادة الزهري، لأنه قد عُرِف عنه أنه كان كثيرًا ما يَصِلُ الحديثَ بكلامٍ من عنده على وجه التفسير أو نحوه، فربما التبس ذلك على بعض الضعفاء كقُرَّة. _________ (1) رقم (1591/ 92). (2) (7/ 342 ــ 344). (3) (ص 352 ــ 355). (4) (ص 355).

(16/113)


قال البخاري في موضع آخر من "جزء القراءة" (1): "قال مالك: قال ربيعة للزهري: إذا حدثتَ فبيِّنْ كلامَك من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ". لكن سيأتي في الكلام على الحديث الثالث ما يدفع هذا التجويز، فالظاهر أن الزيادة من قرة بن عبد الرحمن أو يحيى بن حُمَيد. وأما الحديث الثالث: فلا خلافَ في صحته، وهو في "الموطأ" و"الصحيحين" (2) وغيرهما، والتشبُّثُ به في هذه المسألة مبنيٌّ على زعم أن معناه: من أدرك من الصلاة مع الإمام ركوعًا فقد أدرك الركعة، وقد يُستأنس لهذا بالزيادة المتقدمة، وبما في "صحيح مسلم" (3) عن حرملة عن ابن وهب عن يونس عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة". فأما الزيادة السابقة فقد فُسِّر ما فيها، وأما زيادة "مع الإمام" فقد ردَّها مسلم نفسُه، فرواه [عن يونس] وعن جماعة عن الزهري، قال (4): "وليس في حديث أحدٍ منهم "مع الإمام". وله في "صحيح البخاري" (5) و"جزء القراءة" (6) و"سنن [النسائي] " (7) _________ (1) (ص 230، 231). (2) "الموطأ" (1/ 10) والبخاري (580) ومسلم (607). (3) رقم (607/ 162). (4) تعقيبًا على الحديث المذكور. (5) رقم (580). (6) بأرقام (202، 203، 206 ــ 216) بتخريجه "تحفة الأنام". (7) هنا بياض في الأصل، وقد ذكر النسائي (1/ 274) طرق هذا الحديث.

(16/114)


وغيرها طرق كثيرة عن يونس وغيره بدون هذه الزيادة، والظاهر أن الوهم في زيادتها من حرملة، وهو الذي روى عن ابن وهب عن يحيى بن حميد الحديث، فكأنه جاءه الوهم من هناك. وقد أخرج البخاري في "جزء القراءة" (1) من طريق سليمان بن بلال أخبرني عبيد الله بن عمر ويحيى بن سعيد ويونس عن ابن شهاب [الزهري] عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أدرك من الصلاة ركعةً فقد أدرك الصلاة إلا أن يقضي ما فاته". وهو ذاك الحديث عينُه، وزيادة "إلا أن يقضي ما فاته" تدفع زيادةَ يحيى بن حميد وزيادة حرملة. وفي روايةٍ في "صحيح مسلم" (2) وغيره من طريق الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "من أدرك ركعةً من الصبح قبل أن تطلعَ الشمسُ فقد أدرك الصبحَ، ومن أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغربَ الشمس فقد أدرك العصر". والحديث بهذا اللفظ ونحوِه أشهر، فقد صحَّ هكذا كما ترى عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وهو سند الأول، وأخرجه البخاري في "الصحيح" (3) بنحوه من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، وأخرجه مسلم (4) من طريق عطاء بن يسار وبُسر بن سعيد والأعرج عن أبي هريرة، _________ (1) رقم (207). (2) رقم (608/ 163). (3) رقم (556). (4) رقم (608).

(16/115)


ومن حديث عائشة (1). ووقع في بعض الروايات بلفظ: "سجدة" (2)، ولفظ حديث عائشة: "من أدركَ من الصلاة سجدةً ... " وفي آخره: "والسجدة إنما هي الركعة" (3). وفي "الفتح" (4) في شرح قوله: "فقد أدرك الصبح": " .. يُحمَل على أنه أدرك (5) الوقت، فإذا صلَّى ركعةً أخرى فقد كملتْ صلاته .. وقد صرَّح بذلك في رواية الدراوردي عن زيد بن أسلم، أخرجه البيهقي (6) من وجهين، ولفظه: "من أدرك من الصبح ركعة (7) قبل أن تطلع الشمس، وركعةً بعدما تطلع الشمس، فقد أدرك الصلاة". وأصرحُ منه رواية أبي غسَّان محمد بن مُطرِّف عن زيد بن أسلم عن عطاء ــ وهو ابن يسار ــ عن أبي هريرة بلفظ: "من صلَّى ركعةً من العصر قبل أن تغرب الشمس ثم صلَّى ما بقي بعد غروب الشمس فلم تَفُتْه العصر"، وقال مثل ذلك في الصبح. وقد تقدمتْ رواية المصنِّف (8) من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة، وقال فيها: "فليُتِمَّ _________ (1) رقم (609). (2) هي رواية البخاري (556). (3) "صحيح مسلم" (609). (4) "فتح الباري" (2/ 56). (5) في المطبوع: "إدراك"، والمثبت من الفتح. (6) في "السنن الكبرى" (1/ 378، 379). (7) في المطبوع: "ركعة أخرى"، وهو خطأ، ولا معنى له. والتصويب من الفتح والبيهقي. (8) أي البخاري (556).

(16/116)


صلاتَه". وللنسائي (1) من وجه آخر: "من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة كلها إلا أنه يقضي ما فاته". وللبيهقي (2) من وجه آخر: "من أدرك ركعةً من الصبح قبل أن تطلع الشمسُ فلْيُصَل إليها أخرى". وهذا كله يُبيِّن أنه لا وجهَ لزيادة "مع الإمام"، ولا لزيادة "قبل أن يُقِيمَ الإمامُ صُلْبَه"، كما يُبيِّن أنه لا وجهَ للتشبُّث بهذا الحديث في قضية إدراك الركعة بإدراك الركوع. ويُوضِّح هذا أن أبا هريرة نفسه لم يفهم هذا من الحديث، فقد صحّ عنه كما يأتي: "لا يُجزِئك إلا أن تُدرِكَ الإمامَ قائمًا" (3). وهكذا الزهري، صحّ عنه أنه ذكر الحديث عن أبي سلمة مرفوعًا بلفظ: "من أدرك من الصلاة ركعةً واحدة فقد أدركها"، ثم قال الزهري (4): "ونرى لما بلغنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه من أدرك من الجمعة ركعة واحدة فقد أدرك" (5)، يعني أن كون الجمعة مع الإمام هو في معنى الوقت للصلاة في أن كلًّا منهما إذا فات فاتت الصلاة، فإن (6) كانت السنة بأنه يكفي لإدراك الوقت إدراكُ ركعةٍ، فكذلك ينبغي أن يكفي لإدراك الجمعة مع الإمام إدراكُ ركعة. _________ (1) (1/ 275). (2) "السنن الكبرى" (1/ 379). (3) أخرجه البخاري عنه في "جزء القراءة" (ص 267). (4) كما في "جزء القراءة" (ص 359). (5) أخرجه النسائي (3/ 112) وابن خزيمة في "صحيحه" (1850) والحاكم في "المستدرك" (1/ 291) من طريق الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا. (6) في المطبوع: "فإنه" خطأ.

(16/117)


ويوضِّحه أيضًا أن الركعة في عرف الشرع حقيقةٌ في واحدة من الاثنتين اللتين هما الصبح، أو من الثلاثِ التي هي المغرب، أو من الأربعِ التي هي الظهر أو العصر أو العشاء في حقِّ المقيم ونحو ذلك. وقد دفع الشيخ ــ عافاه الله ــ هذا، فقال: "بل الركعة حقيقة في الركوع لغةً وشرعًا كالسجدة في السجود، وإطلاقُها على ما يشمل القيامَ والقراءةَ والركوعَ والسجودَ من باب إطلاق الجزء على الكلّ، كإطلاق السجدة على ذلك، وكإطلاق العين على الجاسوس، والرقبة على العبد أو الجارية. ومما جاء في إطلاقها على الركوع أحاديث ... ". فذكر حديث يحيى بن أبي سليمان وحديث يحيى بن حُميد المتقدمَين، وحديث البراء في وصف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: "فوجدت قيامه كركعتِه وسجدتِه، واعتدالَه في الركعة كسجدتِه" (1). وستة أحاديث في وصف الكسوف. ثم قال: "فأنت ترى في هذه الأحاديث إطلاق الركعة على الركوع بدون قرينة، لأنها حقيقة، وإن كانت اشتهرتْ في عرف المتأخرين فيما هو أعمُّ من الركوع، فذلك لا ينافي حقيقتها اللغوية والشرعية في الركوع". أقول: في هذا كلِّه نظر، نعم إطلاق "ركعة" على المرَّة من الركوع موافق للحقيقة اللغوية، لكن لا يلزم أن يكون هكذا في الشرع. وقوله: "من باب إطلاق الجزء على الكل" حقٌّ، فيكون مجازًا لغةً، لكن لا يلزم من ذلك أن _________ (1) لفظ حديث مسلم (471): "فوجدتُ قيامَه، فركعتَه، فاعتدالَه بعد ركوعه، فسجدتَه، فجلْسته بين السجدتين، فسجْدتَه، فجلْستَه ما بين التسليم والانصراف= قريبًا من السواء".

(16/118)


يكون مجازًا في الشرع. وكافَّة الحقائق الشرعية ــ أعني الألفاظ التي نقلها الشارع عن معانيها اللغوية إلى معانٍ شرعية ــ بين معانيها الشرعية ومعانيها اللغوية علاقات مجازية، كالإيمان والصلاة والزكاة والصيام وغيرها. وأما تلك الأحاديث التي ذكرها الشيخ فالأولانِ لم يثبتا كما مرَّ، ومع ذلك فالقرينة فيهما قائمة، وهي في الأول قوله: "إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجودٌ فاسجدوا ولا تعدُّوها شيئَا"، وفي الثاني قوله: ""قبل أن يُقيمَ الإمامُ صُلْبه"، فكلٌّ من هاتين العبارتين تقتضي أن تكون كلمة "ركعة" في بقية الحديث مرادًا بها الركوعُ، فلولا هذا الاقتضاء لما سلَّمنا أن الركعة في الحديثين عبارة عن الركوع، على أننا إنما نُسلِّم ذلك على فرض صحة الزيادة المقتضية، فأما إذا أبطلناها فلا، كما تقدم. والقرينة في حديث البراء في قوله "قيامه كركعتِه (1) ": أنه من الممتنع أن يكون القيامُ وحدَه مساويًا لما يَشملُه ويشمَلُ الركوعَ والاعتدالَ والسجدتينِ والجلسةَ بينهما، ضرورةَ أن الجزء لا يساوي الكل. وأما قوله فيه: "واعتداله في الركعة كسجدته"، فالقرينة فيه أن يظهر أن تعريف الركعة للعهد الذكري، وبذلك تكون الثانية عينَ الأولى، ويساعد ذلك قولُه: "واعتداله". ومع هذا فليس هذا اللفظ في "الصحيح"، والذي في البخاري (2): "كان ركوعُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وسجودُه وإذا رفعَ رأسَه من الركوع وبين السجدتينِ _________ (1) في المطبوع: "كركعتيه". (2) رقم (801).

(16/119)


قريبًا من السواء"، ونحوه في "صحيح مسلم" في رواية (1)، وفي أخرى (2): "فوجدتُ قيامَه فركعتَه فاعتدالَه بعد ركوعِه فسجدتَه [فجلستَه] (3) بين السجدتين ... ". وأصل هذا الحديث من لفظ الصحابي لا من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومع ذلك فقد اختلفت رواياتها وألفاظها، فيمكن أن يكون ما وقع في بعض الروايات من التعبير عن الركوع بالركعة إنما هو ممن بعد الصحابي. وأما الأحاديث في صلاة الكسوف فأصلها من لفظ الصحابي أيضًا، ومع ذلك اختلفت رواياتها وألفاظها، فيمكن أن يكون ما وقع في بعض الروايات من التعبير عن الركوع بالركعة إنما هو ممن بعد الصحابي. ومع ذلك فالقرينة قائمة، وهي ما يُعلَم من السياق والروايات الأخرى، وأرى الأمر في ذلك أوضح من أن يُحتاج إلى الإطالة. على أن ورود الكلمة في النصوص الشرعية مع دلالة القرينة على أن المراد منها معناها اللغوي، لا يَدفعُ أن يكون الشرع نقلَها إلى معنى آخر تكون فيه حقيقةً شرعية. هذه كلمة "صلاة" نقلها الشارع إلى معنى غير معناها لغةً، ومع ذلك وردت في عدة نصوص بحسب معناها اللغوي، كقوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]، وقوله: {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة: 99]، وقوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. _________ (1) رقم (471/ 194). (2) رقم (471/ 193). (3) ساقطة من المطبوع، استدركناها من صحيح مسلم.

(16/120)


فإن قيل: فإنه يكفي القائلَ بأن لفظ "ركعة" حقيقة شرعية في المرَّة من الركوع أن يقول: قد ثبت أنها حقيقة لغوية في ذلك، والأصلُ موافقة الشرع للّغة. قلت: فعلينا البيان، في الصلاة الشرعية أمران يحتاج كلٌّ منهما إلى لفظ يدل عليه: الأول: المرة من الركوع. والثاني: الواحدة التي تتألف صلاة المغرب من ثلاثٍ منها، والصبح والجمعة من اثنتين، وكذا بقية الفرائض في حقّ المسافر. أما المقيم فمن أربع، وهكذا يختلف حال سائر الصلوات كالعيدين والاستسقاء والنوافل. والحاجة في الشرع إلى ذكر الثاني أكثر منها (1) إلى ذكر الأول، وبتتبُّعِ النصوص الشرعية يتضح أنها [تُعبِّر] (2) عن الأول غالبَا بالركوع، وتُعبِّر عن الثاني بالركعة، وكثُر هذا جدًّا من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولفظ أصحابه في حياته وبعد وفاته، وبتدبُّرِ ذلك يتبينُ أن الذي كان يتبادر في عهده - صلى الله عليه وسلم - من كلمة "ركعة" في الكلام الشرعي هو الأمر الثاني، فهي حقيقة شرعية. فمما ورد من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصةً مما ورد في "الصحيحين" أو أحدِهما: حديثُ أبي هريرة (3) مرفوعًا: "من أدرك من الصبح ركعةً قبل أن تطلع الشمس .. ومن أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس ... ". _________ (1) في المطبوع: "منهما" خطأ. (2) ساقطة من المطبوع، زدناها ليستقيم السياق. (3) أخرجه البخاري (579) ومسلم (608).

(16/121)


وحديث عائشة (1) مرفوعًا نحوه. وحديثها (2) مرفوعًا: "ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها". وحديث عثمان (3) مرفوعًا: "من توضأ نحوَ وضوئي هذا ثم صلَّى ركعتين ... ". وحديث أبي قتادة (4) مرفوعًا: "إذا دخل أحدُكم المسجدَ فلْيُصلِّ ركعتين". وحديث جابر (5) في القدوم من سفر مرفوعًا: "صلِّ ركعتينِ". وحديثه (6) في الداخل يوم الجمعة وقت الخطبة مرفوعًا: "قُمْ فصَلِّ الركعتين". وحديثه (7) أيضًا مرفوعًا: "إذا جاء أحدكم يومَ الجمعة وقد خرج الإمام فلْيُصَلِّ ركعتين". وحديثه في الاستخارة (8) مرفوعًا: " ... فليركَعْ ركعتين من غيرِ الفريضة ... ". _________ (1) أخرجه مسلم (609). (2) أخرجه مسلم (725). (3) أخرجه البخاري (159) ومسلم (226). (4) أخرجه البخاري (444) ومسلم (714). (5) أخرجه البخاري (443) ومسلم (715). (6) أخرجه البخاري (930، 931) ومسلم (875). (7) أخرجه البخاري (1166) ومسلم (875/ 57). (8) أخرجه البخاري (1162).

(16/122)


وحديث أبي ذر (1) مرفوعًا: " ... ويُجزِئ من ذلك كلِّه ركعتانِ يركعهما في الضحى". وحديث أم حبيبة (2) مرفوعًا: "من صلَّى اثنتي عشرةَ ركعةً ... ". وحديث ابن عمر (3) مرفوعًا: "الوتر ركعةٌ من آخرِ الليل". وحديثه (4) أيضًا مرفوعًا: "فإذا خشي أحدُكم الصبحَ صلَّى ركعةً واحدة". إلى غير ذلك من الأحاديث في "الصحيحين"، وأما في غيرهما فكثير. ومما في "الصحيحين" أو أحدِهما: الأحاديثُ التي يُنَصُّ فيها على العدد فقط، كحديث أبي سعيد (5) مرفوعًا: "إذا شكَّ أحدُكم فلم يَدْرِ كم صلَّى؟ ثلاثًا أم أربعًا؟ فليَطْرَح [الشَّكَّ] (6) ولْيَبْنِ (7) على ما استيقَنَ، ثم يسجد ... فإن كان صلَّى خمسًا شَفعْنَ له صلاتَه، وإن كان صلَّى إتمامًا لأربعٍ كانتا ترغيمًا للشيطان". فإن المتبادر الواضح أن المراد ثلاث ركعات ... وهكذا، ومثل هذا في الأحاديث كثير، ويدخل فيه تسميةُ صلاة الوتر وترًا، وقول الله تبارك وتعالى: _________ (1) أخرجه مسلم (720). (2) أخرجه مسلم (728). (3) أخرجه مسلم (752). (4) أخرجه البخاري (990) ومسلم (749). (5) أخرجه مسلم (571). (6) ساقطة من المطبوع، استدركناها من صحيح مسلم. (7) في المطبوع: "وليبني" خطأ.

(16/123)


{وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3] على ما رواه الإمام أحمد وغيره (1) عن عمران بن حُصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن ذلك، فقال: " [هي] (2) الصلاةُ، بعضها شَفْعٌ وبعضها وِتْر". وأما الحديث الرابع: وهو حديث الحسن عن أبي بَكْرة، ففي "الفتح" (3): "أعلَّه بعضُهم بأن الحسن عنعنه، وقيل: إنه لم يسمع من أبي بكرة، وإنما يروي عن الأحنف عنه، ورُدَّ هذا الإعلال برواية سعيد بن أبي عروبة عن الأعلم قال: حدثني الحسن أنّ أبا بكرة حدَّثه. أخرجه أبو داود والنسائي". أقول: وهكذا رأيتُه في عدة نسخ من "المجتبى" من سنن النسائي (4)، لكنه في نسخ "سنن" أبي داود (5): "أن أبا بكرةَ حدَّثَ"، وهذا في حكم العنعنة، وبين سياق أبي داود والنسائي اختلافٌ مع أن السند واحد، روياه عن حُميد بن مَسْعَدة عن يزيد بن زُريع ممن سمع منه قديمًا. والحسن معروف بالرواية عمن لم يَلْقَه، بل وُصِفَ بالتدليس، كما في "طبقات المدلِّسين" (6) لابن حجر، وروايتُه عن الأحنف عن أبي بكرة _________ (1) انظر "مسند أحمد" (19919، 19935، 19973) و"سنن الترمذي" (3342) و"المستدرك" (2/ 522). وإسناده ضعيف لإبهام الراوي عن عمران. (2) ساقطة من المطبوع، والزيادة من المصادر السابقة. (3) "فتح الباري" (2/ 268). (4) (2/ 118). (5) رقم (683). (6) "تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس" (ص 102).

(16/124)


مشهورة في حديث: "إذا التقى المسلمانِ بسيفَيْهما ... " (1)، لكن لا يلزم من ذلك أن لا يسمع من رجلٍ غيرِ الأحنف عن أبي بكرة. وقد يَشُدُّ الاتصالَ أن البخاري أخرج الحديث في "صحيحه"، ومذهبه اشتراط ثبوت اللقاء حتى فيمن لم يُعرف بالتدليس ولا بالرواية عمن لم يَلْقَه، فما بالك بهذا؟ وفي "مراسيل" ابن أبي حاتم (2) عن بَهْز بن أسد في شأن الحسن: "وسمع من أبي بكرة شيئًا". وعلى كلّ حالٍ فلم تَسْلَمْ صحةُ هذا الحديث من مقالٍ. ولننظر فيما ذكر من الدلالتين: فأما الأولى وهي قولهم: "لولا أن أبا بكرةَ كان يرى أنه بإدراكه الركوعَ يُدرِك الركعة لما بادر إلى الركوع قبل أن يبلغ الصفَّ"= ففيها نظر، لماذا لا يُبادِر لإدراك فضلِ (3) الركوع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن عَلِمَ أنه لا تُحْسَبُ له ركعة؟ بل قد يقال: إن هذا هو الذي ينبغي أن يُظَنَّ بالصحابي، لا أن يُظَنَّ به أنه حَرَصَ على إدراك الركعة وإن فاته الخيرُ الكثير فيها تفاديًا من أن يكون عليه ركعةٌ أخرى بعد سلام الإمام، فإن هذا يدلُّ على الكسلِ والتبرُّمِ بالتعب اليسير في العبادة والرغبةِ عن زيادة الأجر، فإنه إذا أدرك بعض الركعة ولم تُحْسَبْ له ثم صلّاها بعد سلام الإمام كُتِبَ له أجرُ الصلاة كاملةً وزيادةُ أجرِ ما أدركه من تلك الركعة، فأما من لم يُدرِك إلا بعض الركعة وحُسِبَتْ له ركعة فإنه يفوته بعضُ أجر الصلاة كما لا يخفى. _________ (1) أخرجه البخاري (31) ومسلم (2888). (2) "المراسيل" (ص). (3) في المطبوع: "أفضل" خطأ.

(16/125)


وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "زادك الله حِرْصًا، ولا تَعُدْ" يُشْعِر بما ذكرنا، فإنه يدل أن ذاك الحرص محمود، فلذلك دعا بالزيادة منه، وإنما نهى عن العود إلى الإخلال بالمشروع (1) من السكينة والوقار ونظم الصلاة، والحرصُ المحمود هو (2) الحرص على زيادة الأجر، لا على التخلُّص من زيادة العمل غيرَ مُبالٍ بما فيها من زيادة الأجر. فإن قيل: فإن في "جزء القراءة" (3) للبخاري من طريق عبد الله بن عيسى الخزَّاز عن يونس عن الحسن عن أبي بكرة: ... فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاةَ قال لأبي بكرة: "أنت صاحب النَّفَسِ؟ " قال: نعم، جعلني الله فداءك، خَشِيتُ أن تفوتني ركعةٌ معك، فأسرعتُ المشيَ. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "زادك الله حرصًا، ولا تَعُدْ، صَلِّ ما أدركتَ، واقْضِ ما سبقَ". وفي مسند أحمد (ج 5 ص 42) (4): " ... بشَّار الخيَّاط (5) قال سمعتُ عبد العزيز بن أبي بكرةَ يُحدِّث: أن أبا بكرة جاء والنبي - صلى الله عليه وسلم - راكع ... فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - صوتَ نعلِ أبي بكرةَ وهو يُحْضِرُ، يريد أن يُدرِك الركعةَ ... ". قلت: عبد الله بن عيسى الخزَّاز مُجمَعٌ على ضعفه (6). وبشار الخياط _________ (1) في المطبوع: "بالشروع" خطأ. (2) في المطبوع: "وهو"، ولا حاجة إلى الواو هنا. (3) (ص 340). (4) رقم (20435). (5) كذا في المسند، وفي "تعجيل المنفعة" (ص 51): "الحنَّاط". (6) انظر "تهذيب التهذيب" (5/ 353) و"ميزان الاعتدال" (2/ 470).

(16/126)


هو ابن عبد الملك ضعفه ابن معين (1)، فلا ينفعه ذكر ابن حبان له في "ثقاته" (2)؛ لما عُرِفَ من توسُّعه. وشيخه عبد العزيز فيه مقال (3)، وروايته مرسلة، لأنه لم يُدرِك القصة، ولعل قوله: "يريد أن يُدرك الركعةَ" من ظنِّ عبد العزيز، ومع ذلك فوَقْعُ كلمة "ركعة" في هاتين الروايتين في سياق بيان أنه جاء والنبي - صلى الله عليه وسلم - راكع ربما يُسوِّغ في حملها على معنى الركوع، والله أعلم. وأما الدلالة الثانية وهي قولهم: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرَّ أبا بكرةَ على السلام معه، ولم يأمره بإتمامٍ ولا إعادةٍ"= ففي هذه الدعوى نظرٌ، ولفظ البخاري في "الصحيح" (4) من طريق همَّام عن زياد الأعلم عن الحسن عن أبي بكرة: ... فذَكَر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: "زادك الله حرصًا ولا تَعُدْ"، كما تقدم أولَ الرسالة، وليس فيه ما يُثبِت هذه الدعوى. ونحو ذلك من "سنن" أبي داود والنسائي (5) من طريقي سعيد بن أبي عَروبة عن زياد الأعلم. ونحوه في "مسند أحمد" (ج 5 ص 39) (6) من طريق أشعث عن زياد الأعلم. ونحوه في "المسند" أيضًا (ج 5 ص 46) (7) من طريق قتادة وهشام عن الحسن البصري. _________ (1) انظر "تعجيل المنفعة" (ص 51) و"ميزان الاعتدال" (1/ 310) و"لسان الميزان" (2/ 285). (2) "الثقات" (6/ 113). (3) انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" (6/ 332). (4) رقم (783). (5) أبو داود (683) والنسائي (2/ 118). (6) رقم (20405). (7) رقم (20470، 20471).

(16/127)


ورواه حماد بن سلمة عن زياد الأعلم بسنده، واختُلِفَ على حماد: ، ففي "المسند" (ج 5 ص 45) (1) عن عفّان عن حمّاد بنحو رواية الجماعة، وفي "سنن" أبي داود (2) عن موسى بن إسماعيل عن حمّاد، وفيه: "فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاتَه قال: أيُّكم الذي ركع دون الصف، ثم مشى إلى الصفّ؟ فقال أبو بكرة: أنا ... ". وأرى رواية عفّان أرجحَ لمزيد إتقان عفان، ولموافقته روايةَ الجماعة كما تقدم، وحماد بن سلمة على إمامته كان يخطئ، وقد رَوى بهذا الإسناد عينهِ حديثًا آخر في تقدُّم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليؤُمَّهم، وتذكُّرِه أن عليه غسلاً، وفي آخره: "فلما قضى الصلاة قال: إنما أنا بشرٌ" (3). وقد لا يبعد أن يكون ذهن حماد انتقل من أحد الحديثين إلى الآخر، ثم أتمَّ التفسير بما يناسب، وجاء نحو هذه الزيادة في رواية عبد الله بن عيسى الخزّاز، وفي رواية بشار الخياط عن عبد العزيز بن أبي بكرة، وفي روايةٍ نقلَها الشيخ أول رسالته عن "تلخيص الحبير" (4) عن ابن السكن، فلا أدري ما سندها؟ وعسى أن تكون راجعةً إلى ما ذكر. وعلى كل حال، فالروايات الصحيحة المتينة لا أثرَ فيها لقوله: "فلما قضى ... " ولا ما في معناها، على أنها لو صحَّتْ لما كانت صريحةً في _________ (1) رقم (20457). (2) رقم (684). (3) أخرجه أحمد في "المسند" (20420) وأبو داود (234) وابن خزيمة (1629) وغيرهم. (4) "التلخيص" (1/ 285).

(16/128)


الفورية، وقد قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، ومعلوم أن بين القضاء والتزويج مهلةٌ، وقال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص: 29]، وبين قضائه الأجلَ وشروعِه في السير وبين الإيناس مهلة. وعلى فرض صحة تلك الزيادة وأن الظاهر في مثلها الفورية، فقد يكون أبو بكرة ممن يرى أن الركعة لا تُدرَك بالركوع، فرأى أن السياق قرينة على عدم الفورية، فيكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم أن الذي (1) لم يدرك إلا الركوع سيقوم لإتمام صلاته، فلما سلَّم وقام بعضهم يُتِمُّ اشتغلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذكر، حتى سلَّم من سُبِقَ، وحينئذٍ سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - . وأرى أن من تدبَّر وأنعمَ النظر [أقرَّ] (2) بأن هذا احتمالٌ غير بعيد، بل يتبين له أنه ليس هناك ما يدل دلالةً تقوم بها الحجة على أن ركوع النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أدركه أبو بكرة كان هو الركوع في الركعة الأولى، بل من المحتمل أن يكون هو الركوع في الثانية. وهَبْ أنه يَقوَى عندك أنه الركوع في الركعة الأولى، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل عقب السلام، فأجابه أبو بكرة فورًا، فهل تجد تلك القوة كافيةً لتخصيص هذه القضية من النصوص العامة الموجبة للقيام، ولقراءة الفاتحة، ولقضاء المسبوق ما قد فاته، إلى غير ذلك مما مر ويأتي؟ _________ (1) في المطبوع: "النهي" مكان "الذي". وهو تحريف. (2) زيادة على المطبوع ليستقيم السياق.

(16/129)


وأما الأمر الخامس: فقد أجاب عنه البخاري في "جزء القراءة" (1) بقوله: ثنا عُبيد بن يَعيش، قال: حدثنا يونس، [قال: حدثنا ابن إسحاق] (2) قال: أخبرني الأعرج، قال: سمعتُ أبا هريرة يقول: "لا يُجزِئك إلا أن تُدرِكَ الإمامَ قائمًا قبلَ أن يركع". حدثنا (3) عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني جعفر بن ربيعة (4) عن عبد الرحمن بن هرمز قال: قال أبو سعيد رضي الله عنه: "لا يَركعْ أحدُكم حتى يقرأَ أمَّ القرآن". قال البخاري: وكانت عائشة تقول ذلك. وقال علي بن عبد الله (5) (ابن المديني): إنما أجاز إدراكَ الركوع من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين لم يروا القراءةَ خلف الإمام، منهم: ابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عمر، فأما من رأى القراءة فإن أبا هريرة قال: "اقرأْ بها في نفسِك يا فارسيُّ"، وقال: "لا تعتدَّ بها حتى تُدرِكَ الإمام قائمًا". وقال البخاري في موضع آخر (6): حدثني مَعْقِل بن مالك، ثنا أبو عوانة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة قال: "إذا أدركتَ القومَ ركوعًا لم تعتدَّ بتلك الركعة". _________ (1) (ص 267 وما بعدها). والأثر الأول برقم (140). (2) ساقطة من المطبوع، والاستدراك من "جزء القراءة". (3) المصدر السابق رقم (141). (4) في المطبوع: "أي ربيعة" خطأ. والتصويب من المصدر السابق. (5) نقل عنه البخاري في "جزء القراءة" (ص 269 ــ 271). (6) "جزء القراءة" (ص 439).

(16/130)


وفي موضع آخر (1): عن يحيى بن بُكَير عن الليث عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز أن أبا سعيد الخدري كان يقول: "لا يركعنَّ أحدُكم حتى يقرأَ بفاتحةِ الكتاب"، قال: وكانت عائشة تقول ذلك. أجاب الشيخ ــ عافاه الله ــ بقوله: ما حكاه البخاري عن أبي هريرة هو من طريق ابن إسحاق، ومُعارَضٌ بما ذكر مالك في "الموطأ" (2) بخلافه، ويقول شارحه ابن عبد البر (3): "هذا قول لا نعلم أحدًا من فقهاء الأمصار قال به، وفي إسناده نظر. وما حكاه عن أبي سعيد وعائشة من قولها .. ليس نصًّا صريحًا في عدم الاعتداد .. بل هو في إتمام الفاتحة قبل أن يركع .... أقول: محمد بن إسحاق ثقة عند كبار الأئمة، وقد ساق البخاري في "جزء القراءة" (4) كلامًا طويلاً في تثبيته، وقد صرَّح هنا بالسماع، فانتفتْ تهمةُ التدليس. وأما ما في "الموطأ" فبلاغ منقطع لا تقوم به حجة، وربما يكون مالك إنما أخذه من عبد الرحمن بن إسحاق، فقد أشار البخاري إلى روايته نحو ذلك، وساق البخاري كلامًا في توهين عبد الرحمن هذا (5)، والبخاري وشيخه ابن المديني إمامان مجتهدان مقدَّمان في معرفة النقل والنقلة، فلا يُدفَع كلامهما في ذلك إلا بحجة واضحة. _________ (1) (ص 242، 243). (2) (1/ 11) ولفظه: "من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة". (3) "الاستذكار" (1/ 62) ط. دار الكتب العلمية. (4) (ص 301 ــ 304). (5) (ص 285 ــ 287).

(16/131)


وما ذكره عن أبي سعيد وعائشة إنما احتجَّا به؛ لأنه يدل أن المأموم إذا أدرك الإمام قُبيلَ الركوع لم يكن له أن يدع الفاتحة أو بعضها، ثم يعتد بتلك الركعة، فإذا لم يتحمل عنه الإمام بعضًا من الفاتحة فقط، فَلَأنْ لا يتحمَّلها عنه كلَّها، ومعها القيامُ أولى. وإذا كان الظاهر أن القول بالإدراك مخالفٌ للقول بافتراض الفاتحة على المأموم، وكان المصرِّحون من الصحابة بالإدراك هم من الذين عُرِف عنهم القولُ بعدم افتراض الفاتحة على المأموم، وجاء عن جماعةٍ من القائلين بالافتراض من الصحابة ما هو صريحٌ أو ظاهرٌ في عدم الإدراك، ولم يثبت عن أحدٍ منهم خلافُ ذلك= فإنه يَقوى جدًّا ظنُّ أن القائلين بالافتراض قائلون بعدم الإدراك، فكلام البخاريِّ وشيخِه متينٌ جدًّا. وأما أن الجمهور الغالب على الإدراك فحقٌّ، ولكن هل يكفي هذا لتخصيصِ (1) النصوص الدالة على فرضية القيام وفرضية الفاتحة وفرضية قضاء ما فات؟ ومع تلك الأدلة الاعتبار الواضح، فإن المعهود في فرائض الصلاة أن لا يسقط شيء منها إلا لعذرٍ بيِّن، وليس المسبوقية كذلك، لتمكُّنِ المسبوق بدون مشقةٍ تُذْكَر من الإتمام بعد سلام الإمام. ومن المسبوقين من يكون مقصِّرًا تقصيرًا واضحًا، فقد رأينا من يتكاسل عن القيام فلا يُكبِّر إلا عند ركوع الإمام، ومنهم من يتشاغل بمحادثة رفيقه، أو تجميلِ لِبْسته، أو التفرُّجِ على بعض الأشياء، أو يتخطَّى الصفوفَ لِيُزاحِم في الصفّ الأول بدون فُرجةٍ فيه، أو يتشاغل بذكر أو دعاء، إلى غير ذلك. _________ (1) في المطبوع: "التخصيص" خطأ.

(16/132)


والقائلون بالإدراك لم يُفرِّقوا فيما أعلم. نعم، لا يُنكَر أنَّ للقول بالإدراك قوةً مَّا لذهاب الجمهور ــ ومنهم جماعة من علماء الصحابة ــ إليه، وما جاء مما يدلُّ عليه على ما فيه، فلا لومَ على من قوِيَ عنده جدًّا فقال به. فأما أنا فلا أرى له تلك القوة، والأصل بقاء النصوص على عمومها، واشتغال الذمة بالصلاة كاملةً، والله الموفق.

(16/133)


الرسالة الخامسة

 بحث في حديث قيس بن عمرو "صلاة ركعتي الفجر بعد الفرض"

(16/135)


[ق 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه وبركاته على محمد وآله. أما بعد، فهذا بحث في حديث قيس بن عمرو، التمسه مني بعض الإخوان. قال الإمام أحمد في "المسند" (5/ 447) (1): ثنا ابن نمير ثنا سعد بن سعيد حدثني محمد بن إبراهيم التيمي عن قيس بن عمرو قال: رأى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - رجلًا يُصلِّي بعد صلاة الصبح ركعتين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "أصلاةَ الصبحِ مرتينِ؟ " فقال الرجل: إني لم أكن صلَّيتُ الركعتينِ اللتين قبلهما، فصليتهما الآن، قال: فسكت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. وأخرجه ابن ماجه (2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا عبد الله بن نمير ثنا سعد بن سعيد ... فذكره. وكذلك هو في "مصنَّف" (3) أبي بكر بن أبي شيبة. وأخرجه أبو داود (4): ثنا عثمان بن أبي شيبة، نا ابن نمير ... فذكره، _________ (1) رقم (23760). (2) رقم (1154). (3) (2/ 254). (4) رقم (1267).

(16/137)


وفيه: "صلاة الصبح ركعتان" بدل قوله في رواية أحمد وأبي بكر: "أصلاة الصبح مرتين". وأخرجه الشافعي في "الأم" (1/ 131) (1) أنا سفيان بن عيينة عن ابن قيس عن محمد بن إبراهيم التيمي عن جده قيس قال: رآني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأنا أصلي ركعتين بعد الصبح، فقال: "ما هاتان الركعتان يا قيس؟ " فقلت: لم أكن صليتُ ركعتي الفجر، فسكت عنه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وكذلك أخرجه البيهقي في "السنن" (1/ 456) من طريق الشافعي والحميدي كلاهما عن ابن عيينة، إلا أن في رواية الحميدي: ثنا سفيان ثنا سعد بن سعيد بن قيس عن محمد بن إبراهيم التيمي عن قيس جد سعد. قال البيهقي: زاد الحميدي في حديثه: قال سفيان: وكان عطاء بن أبي رباح يروي هذا الحديث عن سعد. قوله في "مصنف" ابن أبي شيبة (2): ثنا هشيم قال أخبرنا عبد الملك عن عطاء أن رجلًا صلَّى مع النبي عليه السلام صلاة الصبح ... فقال النبي: "ما هاتان الركعتان؟ " فقال ... ، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فلم يأمره ولم ينهه. ثنا هشيم قال أخبرنا شيخ يقال له مِسْمع بن ثابت قال: رأيتُ عطاءً فعل مثل ذلك. وأخرجه الترمذي (3): ثنا محمد بن عمرو السواق البلخي ثنا _________ (1) (10/ 101) ضمن "اختلاف الحديث" ط. دار الوفاء. (2) (2/ 254). (3) رقم (422).

(16/138)


عبد العزيز بن محمد عن سعد بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن جدّه قيس قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فأقيمت الصلاة، فصليتُ معه الصبح، ثم انصرف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فوجدني أصلِّي، قال: "مهلًا يا قيس! أصلاتانِ معًا؟ " قلت: يا رسول الله، إني لم أكن ركعتُ ركعتي الفجر، قال: "فلا إذًا". قال الترمذي: ... وإسناد هذا الحديث ليس بمتصل، محمد بن إبراهيم التيمي لم يسمع من قيس. وقال أبو داود: روى عبد ربه ويحيى ابنا سعيد هذا الحديث مرسلًا أن جدَّهم صلَّى مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. أقول: رواية عبد ربه عند أحمد في "المسند" (5/ 447) (1): ثنا عبد الرزاق أنا ابن جريج قال: وسمعت عبد الله (كذا) بن سعيد أخا يحيى بن سعيد يحدث عن جده قال: خرج إلى الصبح ... فمرَّ به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال: "ما هذه الصلاة؟ "، فأخبره فسكت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومضى ولم يقل شيئًا. وذكره البيهقي في "السنن" (1/ 487) عن الحاكم عن الأصمّ عن الربيع بن سليمان عن أسد بن موسى عن الليث عن يحيى بن سعيد عن أبيه عن جده أنه جاء والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يصلِّي صلاة الفجر، فصلَّى معه، فلما سلَّم قام فصلَّى ركعتي الفجر، فقال له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "ما هاتان الركعتان؟ " فقال: ... ، فسكتَ ولم يقل شيئًا. وفي ترجمة قيس من "الإصابة" (2) أن ابن مندة ذكر رواية أسد ثم قال: _________ (1) رقم (23761). (2) (9/ 137) ط. التركي.

(16/139)


غريب، تفرَّد به أسد موصولًا، وقال غيره: عن الليث عن يحيى أن جدّه (في النسخة: حديثه (1)) مرسل". أقول: سعد بن سعيد ليس بالحافظ عندهم (2)، وقد اختلفت الألفاظ في موضعين كما ترى: أما الأول: ففي رواية ابن نمير عنه "أصلاة الصبح مرتين؟ "، هكذا رواه أحمد وأبو بكر بن أبي شيبة عن ابن نمير، وفي رواية عثمان بن أبي شيبة "صلاة الصبح ركعتان"، وهي قريب من التي قبلها، فإن خالفتْها فأحمد وأبو بكر أثبتُ، وفي رواية سفيان بن عيينة عن سعد "ما هاتان الركعتان؟ "، ويوافقها ما في مرسل عبد ربه: "ما هذه الصلاة؟ "، وفي مرسل يحيى، وأسنده أسد: "ما هاتان الركعتان؟ "، وفي رواية الدراوردي عن سعد: "مهلًا يا قيس! أصلاتان معًا؟ ". والدراوردي ليس بالحافظ؛ إلا أن هذا اللفظ يقرب في المعنى من لفظ ابن نمير. [ق 8 ب] وأما الموضع الثاني: ففي عامة الروايات: "فسكت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - "، وفي رواية الدراوردي عن سعد وحدها: "فقال: فلا إذًا". فأما الموضع الأول ففيه احتمالان: الأول: أن ترجَّح رواية ابن عيينة لجلالته وقِدَم سِنِّه وسماعه، وذلك مظنة أن سماعه من سعد أقدم من سماع غيره، وإذا اختلفتْ رواية رجلٍ فالرواية التي ذكرها قبل تقدمه في السنّ أولى؛ لأن العادة أن الرجل كلما _________ (1) كذا في المطبوعة. (2) انظر "تهذيب التهذيب" (3/ 470).

(16/140)


تقدَّم في العمر ضعف حفظه. ولموافقتها ــ أعني رواية ابن عيينة عن سعد ــ لمرسل عطاء، والظاهر أنه إنما سمعه من سعد كما تقدم عن ابن عيينة، ولرواية عبد ربه ويحيى أخوي سعد، وهما أجلُّ من سعد، ولاسيما يحيى، فإن ابن عيينة عَدَّه في محدثي الحجاز الذين يجيئون بالحديث على وجهه. وعلى هذا، فالظاهر أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما سأل عن تينك الركعتين خشيةَ أن تكونا مما لا يجوز صلاته في ذلك الوقت، فلما ذكر الرجل أنهما ركعتا الفجر لم يُصلِّهما قبل الفريضة فقد أدركهما حينئذٍ سكت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فدلَّ سكوتُه على الجواز، كما فهمه عطاء والشافعي وغيرهما. الاحتمال الثاني: أن يقال: لا منافاة بين قوله: "ما هاتان الركعتان؟ " وبين قوله: "أصلاة الصبح مرتين؟ "، فلعله - صلى الله عليه وآله وسلم - جمع بين اللفظين. فأما قوله: "أصلاتان معًا؟ " فهو محتمل لأن تكون بمعنى: "أصلاة الصبح مرتين؟ ". وأما ما في رواية الدراوردي: "صلاة الصبح ركعتان" فهو قريب من ذلك، مع أن الدراوردي ليس بالحافظ. وعلى هذا الاحتمال فيكون قد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: "أصلاة الصبح مرتين؟ " وهذا يحتمل وجهين: الأول: إبقاؤه على ظاهره، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يعلم أن راتبة الصبح محلها قبلها، والغالب أداؤها كذلك، فلما رأى الرجل صلَّى بعد الصبح ركعتين جوَّز أن يكون إنما أعاد الصبح، فأنكر عليه ذلك، فلما أخبره بأنه لم يُصلِّ الصبح مرة أخرى، وإنما تداركَ الراتبة، سكت عنه.

(16/141)


الوجه الثاني: أن يحمل على نحو ما وقع في حديث عبد الله بن سَرْجَس في "صحيح مسلم" (1) وغيره أن رجلًا دخل المسجد والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في صلاة الصبح، فصلى ركعتين وحده، ثم دخل مع الجماعة فصلى، قال: فلما سلَّم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "يا فلان! بأيِّ الصلاتينِ اعتددتَ؟ أبصلاتك وحدك أم بصلاتك معنا؟ ". فلم يكن صلاة الرجل وحدَه مَظِنةَ أنه قصد بها الفرض، ولكن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نزَّلها منزلتَها، كناية عن أن ذلك الوقت إنما تصلح فيه الفريضة، كما صرّح به في الحديث الآخر: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاةَ إلا المكتوبةُ". فيحمل قوله في حديث قيس: "أصلاة الصبح مرتين" على نحو هذا، بأن يقال: لم يكن هناك مظنة لإعادة الرجل صلاةَ الصبح بعد أن صلاها مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وإنما نُزِّلتْ منزلةَ ذلك كنايةً عن أن الوقت إنما تصلح فيه الفريضة؛ لأنه وقت كراهة. أقول: وينبغي تدبر هذا الموضع، فإن فيه دقةً، فاعلم أن قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - للذي صلَّى بعد إقامة الصبح: "بأيِّ صلاتَيْك اعتددت؟ " يتضمن إنكارينِ: الأول: إنكار اشتغاله بصلاة غير المكتوبة، وقد أقيمت المكتوبة. وكنى عن هذا الإنكار بتنزيل صلاته وحده منزلة الفريضة، فكأنه قال: هذا الوقت ــ أي وقت إقامة المكتوبة ــ لا تصلح فيه إلا المكتوبة، فلعلك أردتَ بصلاتك أن تكون هي المكتوبة، وهذا كما تقول لمسلم تعلم أنه مفطر في نهار رمضان بغير عذر، وقد سمعته يشتم إنسانًا: لا ينبغي للصائم أن يشتم _________ (1) رقم (712).

(16/142)


الناس، تُنزِّله منزلةَ الصائم توبيخًا له؛ لأنه كذلك ينبغي له أن يكون. الإنكار الثاني: مبني على الأول، أي لا ينبغي أن يحضر الرجل الجماعةَ، فيصلِّي تلك الصلاةَ وحده، ثم يصلِّيها مع الجماعة. فأما قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - للذي صلى بعد الفراغ من الصبح: "أصلاة الصبح مرتين؟ " فإنه إنما يظهر منه الإنكار الثاني، وأما الأول فلا، وذلك أن الأول مبني على أن الوقت يصلح للصبح، ولا يصلح لغيرها، وهذا واضح في الصلاة بعد الإقامة، بخلاف الصلاة بعد الفراغ من الصبح، لأنك إن أردت الصلاحية في مثل تلك الحال، فالوقت في مثل تلك الحال غير صالح للصبح، لأن الرجل قد أدَّاها في جماعة في المسجد، فلم يبقَ الوقتُ صالحًا [ق 9 أ] لأن يعيدها وحده. وإن أردت الصلاحية في الجملة فهي ثابتة لها، ولراتبتها؛ لأنه بين طلوع الفجر وطلوع الشمس الوقتُ صالح لراتبة الصبح وفريضتها. فعلى كلا الحالين لا يصح أن يقال: إن ذاك الوقت إنما يصلح للفريضة، فتدبرْ، وأَنْعمِ النظر! فعلى الاحتمال الثاني يتعين الوجه الأول، وهو الموافق للظاهر، فيكون في الحديث النهي عن أن تُصلَّى الصبحُ مرتين. على أنه لو صح الوجه الثاني لوجب استثناء راتبة الصبح بدليل آخر الحديث. وأما الموضع الثاني: فلا ريب في مخالفة رواية الدراوردي لسائر الروايات؛ لأن عامة الروايات تتفق على أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سكت ولم يقل شيئًا،

(16/143)


والدراوردي يقول: "فقال: فلا إذًا". وهَبْ أن رواية الدراوردي صحت، فهي موافقة في الحكم لراوية الجماعة، وذلك أننا إذا قلنا في الموضع الأول بالاحتمال الأول، وهو أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما سأله عن تلك الصلاة خشيةَ أن يكون مما لا يجوز في ذلك الوقت، فأخبره الرجل بأنها راتبة الفجر تداركَها، فسواءٌ أسكتَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أم قال: "فلا إذًا"؛ لأن سكوته دلَّ على أنه تبين أنها مما يجوز، إذ لو كانت مما لا يجوز لبيَّن له ذلك، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز. فإن قيل: اكتفى ببيانٍ سابقٍ بالنهي عن الصلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس. قلنا: اعتذار الرجل يدلُّ أنه لم يبلغه ذلك، أو لم يفهم منه النهي عن تدارك راتبة الفجر، فكيف يسكت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن أن يبيِّن له في وقت حاجته اكتفاءً ببيانٍ لم يحصل له؟ مع أن السكوت مُوهِمٌ للجواز، كما لا يخفى. وإن صح قوله: "فلا إذَنْ" فهو أوضح من السكوت؛ لأن هذه العبارة معناها في العربية: "فإذا كان كذلك فلا"، فمؤدَّاها هنا: "فإذا كانت صلاتك إنما هي راتبة الصبح تداركتَها فلا". والمنفي بـ "لا" هو ما دل عليه قوله: "ما هذه الصلاة؟ " من أن من الصلاة ما هو ممنوع في ذلك الوقت، فكأنه قال: "فلا منْعَ". ونظير هذا ما في "الصحيحين" (1) أنهم أخبروا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قبيلَ طواف الوادع أن صفية حاضت، فقال: "أحابِستُنا هي؟ " قالوا: إنها قد أفاضت. قال: _________ (1) البخاري (1757) ومسلم (1211/ 384) من حديث عائشة.

(16/144)


"فلا إذنْ"، أي إذا كانت قد أفاضت فليستْ بحابستنا. ومثله ما في "صحيح مسلم" (1) في حديث النعمان بن بشير لما نَحَلَه أبوه غلامًا، وجاء يُشهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال - صلى الله عليه وآله وسلم - لبشير: "أكلَّ بَنِيكَ قد نَحَلْتَ مثل ما نحلتَ النعمانَ؟ " قال: لا. قال: "فأَشْهِدْ على هذا غيري"، ثم قال: "أيسرُّكَ أن يكونوا إليك في البرِّ سواءً؟ " قال: بلى. قال: "فلا إذَنْ" أي فإذا كان كذلك بأن كان يسرُّك استواؤهم في البر، فلا يصح أن تُفضِّل بعضَهم على بعض في النحلة. وحكى صاحب "فيض الباري" (2) من الحنفية عنهم أنهم قدَّروا: "فلا جوازَ إذنْ" قال: "إلا أنه لا يظهر فيه معنى الفاء ... ". ثم ذهب يُوجِّه ذلك، ويحاول أن يصير المعنى ما عبَّر عنه بلغة أردو بقوله: "بهر بهي نهين" أي "وأيضًا لا"، أو "ومع ذلك لا". ولم أر فيما استشهد به ما تقوم به الحجة. ومقصودي هنا الكلام على هذا الحديث لا على أصل المسألة، فإن للكلام فيها موضعًا آخر، حتى لو ثبت ما تقوم به الحجة على المنع من تدارك ركعتي الفجر بعد صلاتها وقبل طلوع الشمس، لكان الجواب عن حديث قيس أنه لم يثبت ثبوتًا تقوم به الحجة وحده، فأما دلالته فظاهرة، والله أعلم. _________ (1) رقم (1623/ 17). (2) هو الشيخ محمد أنور شاه الكشميري، وكلامه في "العرف الشذي" (1/ 402، 403).

(16/145)


نعم، أنبِّه على شيء واحدٍ، وهو أن صاحب "الفيض" ذكر ما وقع عن أبي داود (1) في باب المسح على الخفين في حديث المغيرة في إدراك النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الناسَ وهم يصلُّون الصبحَ خلف عبد الرحمن بن عوف وقد صلَّوا ركعة، قال المغيرة: "قام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فصلَّى الركعة التي سُبِقَ بها، ولم يَزِدْ على ذلك". فحمل صاحب "الفيض" قولَه: "ولم يَزِدْ على ذلك" على أنه لم يتدارك ركعتي الفجر، لا ما ذكره أبو داود من نفي سجود السهو. أقول: يحتمل في الواقعة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صلَّى ركعتي الفجر راكبًا قبل أن يصلَ إلى الجماعة لأنه كان مسافرًا، بل هذا هو الظاهر. وقوله: "ولم يَزِدْ شيئًا" يحتمل ما قال أبو داود، ويحتمل [ق 9 ب] معنى ثالثًا، وهو أنه لم يزِدْ ركعة أخرى، والحامل على هذا أنه قد يُتوهَّم أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يعتدُّ بالركعة التي صلَّاها خلف عبد الرحمن. فتأمل! والله أعلم. _________ (1) رقم (152).

(16/146)


الرسالة السادسة

 إعادة الصلاة

(16/147)


[ق 10] إعادة الصلاة أخرج أبو داود والنسائي وابن حِبّان في «صحيحه» وغيرهم (1) من طريق حسين بن ذَكْوان المعلِّم عن عمرو بن شعيب عن سليمان مولى ميمونة قال: أتيتُ ابنَ عمر على البلاط وهم يُصلُّون، فقلتُ: ألا تصلِّي معهم؟ قال: قد صليتُ، إني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «لا تُصَلُّوا صلاةً في يومٍ مرتينِ». لفظ أبي داود. ولفظ النسائي: «لا تُعاد الصلاةُ في يومٍ مرتينِ». وفي رواية لغيره (2): «والناس في صلاة العصر»، ذكره الدارقطني (ص 159) (3) وقال: تفرد به حسين المعلم عن عمرو بن شعيب. وللطحاوي (4) من طريق عمرو بن شعيب أيضًا عن خالد بن أيمن المعافري قال: «كان أهلُ العوالي يُصلُّون في منازلهم، ويُصلُّون مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يُعيدوا الصلاةَ في يومٍ مرتين». قال عمرو: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب، فقال: صدق. _________ (1) أبو داود (579) والنسائي (2/ 114) وابن حبان (2396). وأخرجه أيضًا أحمد (4689) وابن خزيمة (1641) والدارقطني (1/ 415، 416) والبيهقي في «السنن الكبرى» (2/ 303) بهذا الإسناد. (2) هي رواية الدارقطني (1/ 416). (3) (1/ 416) من طبعة عبد الله هاشم يماني. (4) «شرح معاني الآثار» (1/ 317).

(16/149)


أقول: أما الحديث الأول فترجم له أبو داود: «باب إذا صلى في جماعة ثم أدرك جماعة»، وترجم له النسائي «سقوط الصلاة عمن صلى مع الإمام في المسجد جماعةً»، أراد بذلك الجمعَ بين حديث ابن عمر وأحاديث الإعادة، وستأتي. وذلك أن حديث ابن عمر عامٌّ، وأحاديث الإعادة أخصُّ منه، وعبارة النسائي أفقه، كما ستعلم إن شاء الله تعالى. وحمل بعضهم (1) حديث ابن عمر على النهي عن الإعادة على سبيل الفرض، وليس بواضح. نعم، لفظه في رواية: «لا صلاة مكتوبة في يوم مرتين» (2) , وهذا يحتمل معنى أنها إنما تكتب مرة، ولا تُكتب مرة أخرى، أي لا تُفرَض، فيكون حاصله أنه لا تُفرض إعادة الصلاة. وأما مرسل خالد، وقد صدَّقه ابن المسيّب، فقوله: «مرتين» يحتمل أن يكون راجعًا إلى الصلاة، والتقدير: «أن يُعيدوا الصلاة، يصلوها في يوم مرتين»، فتكون كحديث ابن عمر باللفظ الأول. ويحتمل أن يكون راجعًا إلى الإعادة، أي «إعادتين» وهذا هو الظاهر، فإن قولك: «أعدتُ الصلاةَ مرتين» ظاهره أنك صلَّيتَها ثمَّ أعدتَها ثم أعدتَها. فإن قيل: الواقع من فعل القوم إنما هو أنهم كانوا يُصلُّون في منازلهم، ويصلُّون مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. _________ (1) هو البيهقي، انظر «السنن الكبرى» (2/ 303). (2) في المصدر السابق.

(16/150)


قلت: نعم، ولكن كان علمهم بمشروعية إعادة الصلاة في الجملة مظنةَ أن يرغب بعضهم في إعادتها أكثر من مرة. وحديث ابن عمر يحتمل هذا المعنى، بل لفظ النسائي ظاهر فيه، وهو: «لا تُعاد الصلاةُ في يوم مرتين». وقد اختلف النقل عن ابن عمر؛ ففي «مصنَّف ابن أبي شيبة» (1): عن يونس عن الحكم عن الأعرج قال: أتيتُ على ابن عمر والناسُ في صلاتهم الظهر، فظننته في غير طُهرٍ، فقلت له: يا أبا عبد الرحمن! آتِيْك بطهر. قال: إني على طهارة، وقد صليتُ، فبأيِّهما أَحتسبُ. قال يونس: فذكرت ذلك للحسن، فقال: رحم الله أبا عبد الرحمن، يجعل الأولى المكتوبة، وهذه نافلةً. وعن عبد الوهاب الثقفي عن عبد الله بن عثمان عن مجاهد قال: خرجتُ مع ابن عمر من دار عبد الله بن خالد، حتى إذا نظرنا إلى باب المسجد إذِ الناس في صلاة العصر، فلم يزل واقفًا حتى صلَّى الناس، وقال: إني صلّيتُ في البيت (2). وعن أبي خالد الأحمر عن الضحاك بن عثمان عن نافع أن ابن عمر اشتغل ببناءٍ له، فصلَّى الظهر، ثم مرَّ بمسجدِ بني عوف وهم يصلّون، فصلَّى معهم (3). _________ (1) رقم (6709). (2) المصدر السابق (6739). (3) المصدر السابق (7625).

(16/151)


وفي «الموطأ» (1): عن نافع أن رجلًا سأل ابنَ عمر فقال: إني أُصلِّي في بيتي، ثم أُدرِكُ الصلاةَ مع الإمام، أفأُصلِّي معه؟ فقال له عبد الله بن عمر: نعم ... ». وفي «مصنف ابن أبي شيبة» (2): عن ابن نُمير عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: «إذا صلَّى الرجل في بيته ثم أدرك جماعةً صلَّى معهم، إلا المغرب والفجر». وفي «الموطأ» (3) عن نافع عن ابن عمر نحوه. وفي هذه الآثار كالدلالة على أن أصل الحديث إنما هو النهي عن الإعادة مرتين، كما في رواية النسائي، لا عن الصلاة مرتين. وبالجملة، فالذي استقرَّ عليه رأيُ ابن عمر مشروعية الإعادة مع الجماعة، وإنما استثنى المغرب والفجر؛ لأن المغرب وتر، وللنهي عن الصلاة بعد صلاة الفجر، وإنما لم يستثنِ العصر؛ لأن مذهبه جواز الصلاة بعد العصر حتى تصفرَّ، كما في «فتح الباري» (4). ولننظر في الأدلة على مشروعية الإعادة: 1 - في «صحيح مسلم» (5) وغيره من حديث أبي ذر: قال لي _________ (1) (1/ 133). (2) رقم (6726). (3) (1/ 133). (4) (2/ 63). (5) رقم (648).

(16/152)


رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كيف أنت إذا كانت عليك أمراءُ يُؤخِّرون الصلاةَ عن وقتها، أو يُمِيتُون الصلاةَ عن وقتها؟ ». قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: «صلِّ الصلاةَ لوقتها، فإن أدركتَها معهم فصَلِّ، فإنها لك نافلة». وفي روايةٍ لمسلم (1): «صلِّ الصلاةَ لوقتها، فإن أدركتَ الصلاة معهم فصَلِّ، ولا تقلْ: إني قد صلَّيتُ، فلا أُصلِّي». وبمعناه أحاديث عن ابن مسعود (2) وعبادة بن الصامت (3) وغيرهما، وليس فيها التقييد بخوف فتنة أو نحوه. 2 - أخرج ابن خزيمة وابن حبان في «صحيحيهما» (4)، والحاكم في «المستدرك» (5) وقال: صحيح كما في «تلخيص المستدرك» (1/ 244)، وابن السكن وصححه (6)، والترمذي (7) وقال: حسن صحيح، والنسائي (8) وأبو داود (9) وغيرهم عن يعلى بن عطاء عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه قال: «شهدتُ مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حَجَّتَه، فصليتُ معه صلاة الصبح في _________ (1) رقم (648/ 242). (2) أخرجه مسلم (534). (3) أخرجه أبو داود (433). (4) ابن خزيمة (1279، 1638، 1713) وابن حبان (1564، 1565، 2395). (5) (1/ 244، 245). (6) نقل تصحيحه الحافظ في «التلخيص الحبير» (2/ 29). (7) رقم (219). (8) (2/ 112، 113). (9) رقم (575، 576).

(16/153)


مسجد الخيف، فلما قضى صلاتَه وانحرف إذا هو برجلين في أُخرى القوم لم يُصلِّيا معه، فقال: «عليَّ بهما»، فجِيءَ بهما تُرْعَدُ فَرائصُهما، فقال: «ما مَنَعَكما أن تُصلِّيا معنا؟ »، فقالا: يا رسول الله، كنَّا صلَّينا في رِحالِنا. قال: «فلا تفعلا، إذا صلَّيتما في رِحالكما، ثم أتيتُما مسجدَ جماعةٍ، فصلِّيا معهم، فإنها لكما نافلةٌ». أقول: جابر بن يزيد بن الأسود، قال ابن المديني: لم يروِ عنه غير يعلى بن عطاء (1)، ولذلك قال الشافعي: «إسناده مجهول، نقله البيهقي (2). وقد وثَّقه النسائي (3)، وصحَّح حديثه جماعة كما مر. ولأئمة الحديث مذاهبُ في توثيق من لم يروِ عنه إلا واحد، ليس هذا موضعَ شرحها. وقد أخرجه الدارقطني (ص 159) (4) بسندٍ رجاله موثَّقون عن بقيَّة حدثني إبراهيم (بن عبد الحميد) بن ذي حماية حدثني عبد الملك بن عُمير عن جابر بن يزيد عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نحوه. وإبراهيم، قال أبو زرعة (5): ما به بأس، وقال ابن حبان في أتباع التابعين من «الثقات» (6): من فقهاء أهل الشام، كان على قضاء أهل حمص. _________ (1) انظر «تهذيب التهذيب» (2/ 46). (2) في «السنن الكبرى» (2/ 302). (3) انظر «التلخيص الحبير» (2/ 29). (4) (1/ 414). (5) انظر «الجرح والتعديل» (2/ 113). (6) (6/ 13).

(16/154)


وهذه متابعة جيدة، وذكر الدارقطني وجهين آخرين (1)، فراجعه. 3 - مالك في «الموطأ»، وابن خزيمة في «صحيحه»، والحاكم في «المستدرك» وقال: صحيح، والنسائي (2) وغيرهم عن زيد بن أسلم عن بُسْر بن مِحْجَن الدِّيلي: أنه كان جالسًا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فأُوذِنَ (3) بالصلاة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فصلَّى بهم، ثم رجعَ ومِحْجَنٌ في مجلسه كما هو، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ما منعَكَ أن تُصَلِّي؟ ألستَ برجلٍ مسلم؟ » قال: بلى يا رسول الله، ولكني يا رسول الله كنتُ قد صلَّيتُ في أهلي. قال: «فإذا جئتَ فصَلِّ مع الناس وإن كنتَ قد صلَّيتَ». لفظ الحاكم في المستدرك (1/ 244)، ثم قال: هذا حديث صحيح، ومالك بن أنس الحَكَم في حديث المدنيين، وقد احتجَّ به في «الموطأ». أقول: لم يذكروا لبُسْرٍ إلا راويًا واحدًا هو زيد بن أسلم (4)، فحاله شبيهة بحال جابر بن يزيد، لكن رواية زيد مع جلالة محله تُقوِّي حالَه، وقد جاء عن زيد أنه سُئل عن حديثٍ فقيل له: عمَّن هذا؟ فقال: يا ابن أخي، لم نكن نجالس السفهاء (5). _________ (1) انظر «سننه» (1/ 414). (2) «الموطأ» (1/ 132) و «المستدرك» (1/ 244) والنسائي (2/ 112) ولم أجده عند ابن خزيمة. وأخرجه أيضًا أحمد (16395) وابن حبان (2405) والبيهقي (2/ 300). (3) في الموطأ والمسند: «فأُذِّن». (4) انظر «تهذيب التهذيب» (1/ 438). (5) انظر «تهذيب التهذيب» (3/ 396).

(16/155)


4 - أبو داود (1) وغيره من طريق سعيد بن السائب عن نوح [بن] (2) صعصعة عن يزيد بن عامر قال: جئتُ ... فقال له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إذا جئتَ إلى الصلاة فوجدتَ الناسَ، فصَلِّ معهم وإن كنتَ قد صلَّيتَ، تَكُنْ لك نافلةً، وهذه مكتوبة». أقول: نوح بن صعصعة لم يُذكَر له راوٍ إلا سعيد بن السائب (3)، واستنكروا قوله: «وهذه مكتوبة». 5 - مالك في «الموطأ» (4) عن عَفِيف السَّهمي عن رجلٍ من بني أسد أنه سأل أبا أيوب الأنصاري فقال: إنّي أصلِّي في بيتي، ثم آتي المسجدَ، فأجدُ الإمامَ يُصلِّي، أفأُصلِّي معه؟ فقال أبو أيوب: نعم، فَصَلِّ معه، فإنَّ من صنَعَ ذلك فإن له سَهْمَ جَمْعٍ، أو مثلَ سَهْمِ جَمْعٍ. وأخرجه أبو داود (5) بسند صحيح إلى بُكَير بن عبد الله بن الأشجِّ عن عَفِيف بن عمرو بن المسيّب، وفيه: فقال أبو أيوب: سألنا عن ذلك النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال: «فذلك له سهمُ جَمْعٍ». وقال بعضهم: «يعقوب بن عمرو بن المسيب» بدل «عفيف»، كما في «تاريخ» البخاري (4/ 2/ 190) (6). _________ (1) رقم (577). (2) ساقطة من الأصل. (3) انظر «تهذيب التهذيب» (10/ 485). (4) (1/ 133). (5) رقم (578). (6) «التاريخ الكبير» (8/ 390).

(16/156)


عفيف: وثَّقه النسائي (1)، ويكفيه رواية مالك وبُكير عنه، ومالك مشهور بأنه لا يروي إلا عن ثقة، وكذلك بُكير، قال عمرو بن الحارث (2): إذا رأيتَ بكير بن عبد الله روى عن رجلٍ فلا تسأل عنه، فهو الثقة الذي لا شكَّ فيه. ذكره في «التهذيب» في ترجمة بكير. 6 ــ أحمد في «المسند» (4/ 215) (3): ثنا يعقوب ثنا أبي عن ابن إسحاق قال: حدثني عمران بن أبي أنس عن حنظلة بن علي الأسلمي عن رجلٍ من بني الدِّيل قال: «صليتُ الظهر في بيتي، ثمّ خرجتُ بأباعِرَ لي لأُصْدِرَها إلى الراعي، فمررتُ برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو يُصلِّي بالناس الظهرَ، فمضيتُ فلم أُصَلِّ معه، فلما أَصدَرتُ أباعرِي ورجعتُ ذُكِرَ ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال لي: «ما مَنَعَك يا فلانُ أن تُصلِّي معنا حينَ مررتَ بنا؟ » قال: قلت: يا رسول الله، إنّي قد كنتُ صلَّيتُ في بيتي، قال: «وإنْ». [ق 11] أقول: الرجل من بني الدِّيل صحابي، ورجال السند كلهم ثقات، إلا أن في ابن إسحاق كلامًا، والراجح عندهم أنه ثقة يُدلِّس، وقد صرَّح هنا بالسماع، فزالت تهمة التدليس. 7 ــ أبو داود والترمذي (4) وقال: حديث حسن، وابن خزيمة وابن حبان في «صحيحيهما» (5)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 209) وقال: صحيح _________ (1) انظر «تهذيب التهذيب» (7/ 236). (2) بل أحمد بن صالح المصري كما في «التهذيب» (1/ 492، 493). (3) رقم (17890). (4) أبو داود (574) والترمذي (220). (5) ابن خزيمة (1632) وابن حبان (2397، 2398، 2399). وأخرجه أيضًا أحمد (11613، 11019) والدارمي (1/ 318) والبيهقي في «السنن الكبرى» (3/ 69).

(16/157)


على شرط مسلم، وغيرهم عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل وقد صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بمدة، فقال: «أيكم يَتَّجِرُ على هذا؟ »، فقام رجل فصلَّى معه. لفظ الترمذي، ولفظ أبي داود والحاكم: «ألا رجلٌ يتصدق على هذا فيُصلِّي معه». وجاء بمعناه من حديث أبي أمامة عند أحمد (5/ 254) (1)، ومن حديث أنس عند الدارقطني (ص 103) (2)، وفي «كنز العمال» (3) أنه أخرجه أبو عوانة والضياء في «المختارة» (4). وقال الترمذي (5): وفي الباب عن أبي أمامة وأبي موسى (6) والحكم بن عُمير (7). _________ (1) رقم (22189، 22316). وإسناده ضعيف جدًّا، لضعف عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد الألهاني. (2) (1/ 276). (3) (7/ 643) برقم (20692). (4) رقم (1670، 1671). وأخرجه أيضًا الطبراني في «المعجم الأوسط» (7282). وإسناده حسن. (5) عقب الحديث (220). (6) أخرجه ابن ماجه (972) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 308) والدارقطني (1/ 280) والحاكم في «المستدرك» (4/ 334) والبيهقي (3/ 69) بلفظ: «الاثنان فما فوقهما جماعة». وإسناده ضعيف جدًّا، الربيع بن بدر متروك، ووالده وجدّه مجهولان. (7) في الأصل: «عمرو»، والتصويب من الترمذي. والحديث أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (7/ 415) وابن عدي في «الكامل» (5/ 250) باللفظ المذكور. وفي إسناده عيسى بن إبراهيم القرشي، قال البخاري: «منكر الحديث».

(16/158)


وجاء من مرسل أبي عثمان النهدي (1)، والحسن البصري. قال ابن أبي شيبة في «المصنف» (2): ثنا هُشيم نا خصيف بن يزيد التيمي (3) قال: نا الحسن أن رجلًا دخل المسجدَ وقد صلَّى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال: «ألا رجلٌ (4) يقوم إلى هذا فيصلِّي معه؟ »، فقام أبو بكر فصلَّى معه، وكان قد صلَّى تلك الصلاة. 8 و 9 و 10 ــ حديث جابر في صلاة معاذ، وحديثه في صلاة الخوف، وحديث أبي بكرة في صلاة الخوف أيضًا، وستأتي إن شاء الله تعالى. _________ (1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف برقم (7173). (2) رقم (6723). (3) كذا في نسخ «المصنّف»، والصواب: «خصيب بن زيد التميمي»، كما في «التقريب» وغيره من كتب الرجال. (4) في الأصل: «رجلًا». والتصويب من «المصنّف».

(16/159)


الفقه لا يخفى أن الأصل عدم مشروعية الإعادة، وهذه الأحاديث إنما دلَّت على مشروعية الإعادة في صور: الأولى: من صلَّى في بيته أو نحوه، ولو جماعةً، ثم أدرك الجماعة في المسجد. وقولي: «ولو جماعةً» مأخوذ من عموم الأحاديث؛ إذ لم تُقيَّد الصلاة في الرحل بكونها فرادى. الثانية: فيما إذا رأى إنسانًا يريد الصلاة وحده، فيتصدَّق عليه. الثالثة: في الرجل يكون إمامًا راتبًا، فيصلِّي في غير مسجده، ثم يرجع إلى مسجده، فيصلِّي بهم. الرابعة: في الخوف. فما عدا هذه الصور باقٍ على الأصل من عدم مشروعية الإعادة، إلا أن يتفق ما هو في معنى واحدةٍ منها. فأما حديث ابن عمر مرفوعًا: «لا تُصلُّوا صلاةً في يومٍ مرتين» أو «لا تُعاد الصلاة في يومٍ مرتين» أو «لا صلاةَ مكتوبة في يومٍ مرتين»، فإن كان باللفظ الثاني، ومعناه النهي عن إعادتها مرتين، بأن يصلِّيها ثم يعيدها ثم يعيدها، فلا مخالفةَ فيه لما تقدم، إلا أن يُتصوَّر في بعض الصور الأربع ما يستلزم مثل هذا، كأن يصلّي في بيته، ثم يعيد مع الإمام، ثم يريد أن يتصدق بإعادتها مع من يريد أن يصلِّي وحدَه.

(16/160)


وإن كان باللفظ الثالث: لا تُكْتَب أي لا تُفْرَض صلاةٌ واحدةٌ في يوم مرتين، وحاصله أن تكون إعادةُ صلاةٍ من المكتوبات مفروضةً كأصلها، فلا خلاف فيه أيضًا. وإن كان باللفظ الأول: «لا تُصلُّوا صلاةً في يومٍ مرتين» فهو عام، وأحاديث الباب خاصة، فيعمل بها فيما دلَّت عليه، وما بقي فللعام. وهذا فيما يظهر مُجمَعٌ عليه في الظهر والعشاء، واختلف الناس في الباقي. أما الصبح والعصر، فللنهي عن الصلاة بعدهما. وأما المغرب فقياسًا على الوتر. والذي يترجح إعادة الصبح أيضًا للحديث الثاني، وكذلك العصر للحديث الأول، وقياسًا على الثاني من باب أولى؛ لأنه قد ورد جواز الصلاة بعد العصر في غير هذا. وقد يقال: إنه بين طلوع الفجر وطلوع الشمس إنما المنهيُّ عنها ما عدا راتبةِ الصبح وفريضتِها، فهي خارجة عن النهي، فكذلك الصبح إذا أُعيدَتْ حيث تُشْرَع إعادتها، ونحوه يقال في إعادة العصر. هذا، والأحاديث في الأوقات المكروهة تدلُّ أن الكراهة إنما تشتدُّ في وقت طلوع الشمس ووقت غروبها. وأما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، وبين صلاة العصر ووقت الغروب، فإنما هما كالحِمَى لسدِّ الذريعة. فلو قيل: إن ما عدا الفريضتين مما له سببٌ متقدمٌ أو مقارنٌ إنما يمتنع عند الطلوع وعند الغروب، لكان مذهبًا يتفق به عامة الأدلة، كذا كان يخطر

(16/161)


لي، ثم رأيتُ بعض أجلَّة العصرِ نحا نحوه. فأما المغرب فقد جاءت إعادتها في إمامة معاذ بقومه، كما يأتي، وكذلك في الخوف كما يأتي، وعموم الأدلة يقتضي إعادتَها بصفتها، وجاء عن جماعةٍ من السلف أنه يَشْفَعُها بركعة، كما قيل بنحوه في الوتر. وجاء عن بعضهم ما يدلُّ على التخيير بين أن يُعيدَها بصفتها، وأن يُعيدَها ويَشْفعَها بركعة. والأقرب ــ والله أعلم ــ أنه يُعيدها بصفتها، ومما يُؤيِّد هذا احتمالُ أن يكون في صلاته الأولى خللٌ ضارٌّ لم يتنبه له، فتكون الثانية هي فرضَه على الحقيقة، أو تكون الثانية أكثرَ أجرًا، فيتفضل الله عزَّ وجلَّ بجعلها فريضتَه حتى يكون له فيها الثواب الفرض. وهذا مجمل ما جاء عن ابن عمر وابن المسيِّب أن تعيين أيهما الفرض إلى الله عزَّ وجلَّ، ولا يُنافي هذا ما جاء من السنة، وفي كلام ابن عمر وغيره أن الثانية نافلة، فإن هذا ــ والله أعلم ــ مبنيٌّ على الظاهر من أنه قد صلَّى صلاةً صحيحة بَرِئتْ بها ذمتُه في الظاهر، فتدبَّر! والله أعلم.

(16/162)


فصل هل يُعيد إمامًا؟ * أدلة المجيزين: الأول: حديث جابر في قصة معاذ رواه عن جابر جماعةٌ أجلُّهم عمرو بن دينار، ورواه عن عمرٍو جماعةٌ أجلُّهم ابن جريج. قال الشافعي: أخبرنا عبد المجيد قال: أخبرني ابن جريج عن عمرو عن جابر قال: «كان معاذ يُصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - العشاءَ، ثم ينطلق إلى قومه، فيصلِّيها بهم، هي له تطوع، وهي لهم المكتوبة». (الأم 1/ 153) (1). ورواه عبد الرزاق في «مصنفه» (2) ــ كما يظهر من «الفتح» (3) وغيره ــ: أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني عمرو. وكذلك أخرجه الدارقطني (ص 102) (4) وغيره ــ من طريق عبد الرزاق. وأخرجه الدارقطني (5) أيضَا: حدثنا أبو بكر النيسابوري نا إبراهيم بن مرزوق ثنا أبو عاصم عن ابن جريج .... _________ (1) (2/ 347) ط. دار الوفاء. (2) رقم (2266). (3) (2/ 195، 196). (4) (1/ 275). (5) (1/ 274).

(16/163)


وقد طعن بعضم في زيادة «هي له تطوع» قال: قد رواه عن جابر جماعة غير عمرو ــ كما سيأتي ــ وعن عمرو جماعة غير ابن جريج ــ كما سيأتي ــ ولم يذكروا هذه الزيادة. ثم قال بعضهم: إنما وجدت في رواية الشافعي، وقد علمت أنها ثابتة من غير طريقه. وقال غيره: إنما هي في رواية ابن جريج، ويوشك أن تكون مدرجة، وجزم بعض المتأخرين أنه أدرجها ابن جريج، وقوى ذلك بموافقتها لمذهب ابن جريج. أقول: إن أراد أن ابن جريج أدرجها عمدًا؛ لتلتبس بالحديث وتُحسَب منه، فهذه تهمة باطلة تنافي أصلَ العدالة، فضلًا عما عُرِف به ابن جريج من التقوى والجلالة. فإن قيل: فإنه معروف بالتدليس. قلت: تدليسه المعروف عنه أنه إذا قال: «قال فلان» احتمل أن لا يكون سمعه منه، وقد أخبر بذلك عن نفسه، أي أنه لا يلتزم إذا قال: «قال فلان» أن يكون سمعه منه، بل قد يقول فيما لم يسمعه ممن سمَّاه، وقال ــ كما في «تهذيب التهذيب» (1) ــ: إذا قلت: «قال عطاء» فأنا سمعتُه منه، وإن لم أقلْ: سمعتُ. فأوضح أنه إنما يلتزم في قوله: «قال فلان» أن يكون سمعه من فلان إذا قال: «قال عطاء»، فأما في غيره فلا. _________ (1) (6/ 406).

(16/164)


[ق 12] وهكذا ينبغي أن تكون الحال في كل ثقةٍ عُرِف بالتدليس، فأما من يُدلِّس بدون أن يدلَّ على أنه يُدلِّس فالظاهر أن ذلك يَخدِش في عدالته. والمقصود أن اعتياد ابن جريج أن يقول: «قال فلان» ولم يسمع من فلان بعد أن بيَّن أنه قد يقول ذلك فيما لم يسمعه، لا يستلزم أن يلبس شيئًا من كلامه بالحديث؛ ليحسب من الحديث. وإن أراد أن ابن جريج زادها على وجه التفسير بحسب اعتقاده، كما يقع كثيرًا من أهل العلم، يذكر الرجل الآية، ثم يُتبِعها بشيء من عنده على وجه التفسير، وكذلك في الأحاديث، وقد بيَّن علماء الحديث نوع المدرج، وأن غالبه يكون على هذه الوجه= فيرُدُّه أن العادة في مثل هذا أن الشيخ إذا تكررت روايته للحديث إنما يتفق الإدراج في بعض الروايات، وبقية الروايات إما أن تسكتَ عنه، وإما أن تُفصِّل، فتُميِّز الحديثَ من كلام الشيخ. وهذا الحديث قد روي عن ابن جريج من أوجهٍ كما علمتَ، وتلك الجملة متصلة بالقصة فيها كلها. فالظاهر أنه إن كان هناك إدراج فهو من عمرو بن دينار؛ لأنه هو الذي تعددت عنه الروايات، ولم تقع الجملة المذكور إلا في رواية ابن جريج. فإن قيل بذلك، دُفِع بأن الإدراج خلاف الأصل، إذ الغالب مِن حال الثقة الضابط أنه إن أراد أن يُتبِعَ الحديثَ بشيء من عنده فصَّل ذلك وبيَّنه. وابن جريج إمام فقيه متقن، وهو بلديُّ عمرو، ولازمه مدةً، فمن البعيد أن يشتبه عليه الأمر في هذا بأن تكون تلك الجملة من كلام عمرو، فيحسبها ابن جريج من الحديث، ويستمرَّ عليه الوهم.

(16/165)


والحاصل: أن انفراد رواية ابن جريج بذكر تلك الجملة دون بقية الرواة عن عمرو ودون بقية الرواة عن جابر يُشعِر بالإدراج، والأصل المذكور ــ أي أن الغالب من حال العدل الضابط أن لا يُتبِع الحديثَ بشيء من كلامه بدون فصل أو بيان، والغالب من حال الفقيه المتقن التمييز بين ما يذكره الشيخ على أنه من الحديث، وما يزيده من عنده في الحديث ــ يُنافي الإدراجَ. فالميزان الترجيح بين هذين. وقد يُرجَّح عدم الإدراج: أولًا: بأن الإدراج في الأصل خلاف الظاهر الغالب، فلا يُصار إليه إلا بحجة واضحة، ولا يكفي ما يوقع في الشكّ والتردّد. وثانيًا: لا يُستغرب أن ينفرد ابن جريج بالزيادة عن عمرو، فإنه بلديُّه , قديم السماع منه، وهو فقيه يعقل قيمة هذه الزيادة فيعتني بحفظها، فأما من ليس بفقيه فقد يرى أن من صلَّى صلاة صحيحة ثم أعادها، لا يتصور فيه إلا أن تكون الأولى فرضه، والثانية نافلة، فيتوهم أن الزيادة المذكورة لا حاجة إليها. وقد قال الشافعي (1): أخبرنا إبراهيم بن محمد عن ابن عَجْلان عن عبيد الله بن مِقْسَم عن جابر أن معاذ بن جبل كان يُصلِّي مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - العشاءَ، ثم يرجع إلى قومه فيصلِّي بهم العشاء، وهي له نافلة. وإبراهيم بن محمد هو ابن أبي يحيى الأسلمي، كذَّبه جماعة، وكان الشافعي يُوثِّقه في حديثه، وكذلك وثَّقه ابن الأصبهاني، وقوَّاه ابن عُقدة _________ (1) في «الأم» (2/ 347، 348).

(16/166)


وابن عدي (1). ويظهر أن إبراهيم كان ــ أولًا ــ متماسكًا، وذلك لما سمع منه الشافعي، ثم تغيَّر بعده. وعلى كل حال، فرواية إبراهيم لا تصلح للحجة، وقد رواه غيره عن ابن عجلان، ولم يقل: «وهي له نافلة». راجع «مسند أحمد» (3/ 302) (2). وقال بعضهم: هَب الجملة المذكورة ثبتت عن جابر فذلك ظن منه، ولا يلزم أن يكون مطابقًا للواقع، وهَبْ أن معاذًا أخبر جابرًا بذلك، فذلك رأي لمعاذ، ولا يلزم أن يكون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عرف ذلك، وأقرَّه عليه. وغير ذلك مما قالوه، وسيأتي النظر فيه جملة إن شاء الله تعالى. ومنهم منصور بن زاذان: في «صحيح مسلم» (3) ولفظه: «أن معاذ بن جبل كان يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عشاء الآخرة، ثم يرجع إلى قومه، فيصلِّي بهم تلك الصلاةَ». ومنهم سفيان بن عيينة: قال الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة أنه سمع عمرو بن دينار يقول: سمعت جابر بن عبد الله يقول: كان معاذ بن جبل يصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - العشاء أو العَتمةَ، ثم يرجع فيُصلِّيها بقومه في بني سلمة، قال: فأخَّر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - العشاء ذاتَ ليلةٍ. قال: فصلَّى معه معاذ. قال: فرجع فأمَّ قومَه فقرأ بسورة البقرة ... فقال: يا رسول الله، إنك أخَّرتَ العشاء، _________ (1) انظر «تهذيب التهذيب» (1/ 158 ــ 160). (2) رقم (14241). (3) رقم (465/ 180).

(16/167)


وإن معاذًا صلَّى معك ثم رجع فأمَّنا، فافتتح بسورة البقرة، فلما رأيتُ ذلك تأخرتُ وصلَّيتُ، وإنما نحن أصحاب نواضِحَ نعمل بأيدينا، فأقبل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على معاذ فقال: «أفتَّانٌ أنتَ يا معاذ؟ أفتَّانٌ أنت يا معاذ؟ اقرأْ بسورة كذا وسورة كذا» (الأم 1/ 152) (1). ثم قال الشافعي: «وأخبرنا سفيان بن عيينة قال حدثنا أبو الزبير عن جابر مثله، وزاد ... ». الحميدي عن ابن عيينة عن عمرو وأبي الزبير معًا: أخرجه أبو عوانة في «صحيحه» (2/ 156) والبيهقي في «السنن» (3/ 112) عن الحميدي عن ابن عيينة عن عمرو فقط، ثم ذكر زيادة «أبي الزبير» التي رواها الشافعي، ذكره البيهقي أيضًا. ورواه عن ابن عيينة عن عمرو فقط جماعة، منهم الإمام أحمد في «المسند» (3/ 308) (2)، ومن طريقه أبو داود (3). ومنهم محمد بن منصور عند النسائي (4)، ومنهم محمد بن عبَّاد عند مسلم (5)، فلم يذكروا العشاء في أول الحديث، ولفظ مسلم: «كان معاذ يُصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم يأتي فيؤمُّ قومَه، فصلَّى ليلةً مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - العشاء ... ». _________ (1) (2/ 346) ط. دار الوفاء. (2) رقم (14307). (3) رقم (790). (4) (2/ 102). (5) رقم (465).

(16/168)


وممن رواه عن عمرو: شعبة، في «صحيح البخاري» (1) باب إذا طوَّل الإمام، أخرجه عن بندار عن غندر عن شعبة عن عمرو قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: كان معاذ بن جبل يُصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم يرجع فيؤمُّ قومَه، فصلَّى العشاءَ فقرأ بالبقرة ... ». وكذلك رواه أحمد في «المسند» (3/ 369) (2) عن غندر. ومنهم سُلَيم بن حيّان عند البخاري في «الصحيح» (3) في الأدب باب من لم يرَ إكفارَ من قال ذلك متأوّلًا، ولفظه: «إن معاذ بن جبل كان يُصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم يأتي قومَه فيصلِّي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة ... ». ومنهم أيوب السختياني، وستأتي روايته بعدُ إن شاء الله تعالى. فصل وممن رواه عن جابر: عبيد الله بن مِقْسم، قال أحمد في «المسند» (3/ 302) (4): ثنا يحيى عن ابن عجلان حدثني عبيد الله بن مِقْسم عن جابر بن عبد الله: «أن معاذ بن جبل كان يُصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - العشاء، ثم يأتي قومَه، فيصلِّي بهم تلك الصلاةَ». وكذلك أخرجه أبو داود (5) في باب إمامة من صلَّى بقومٍ، وقد صلَّى _________ (1) رقم (701). (2) رقم (14960). (3) رقم (6106). (4) رقم (14241). (5) رقم (599).

(16/169)


تلك الصلاة، عن عبيد الله بن عمر بن مَيْسَرة عن يحيى بن سعيد عن ابن عجلان. وأخرجه في باب تخفيف الصلاة (1): حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي ثنا خالد بن الحارث ثنا محمد بن عجلان عن عبيد الله بن مِقْسم عن جابر، ذكر تلك القصة. وقد ساقه بتمامه البيهقي في «السنن» (3/ 116)، قال: «كان معاذ يُصلِّي مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - العشاءَ، ثم يرجع فيصلِّي بأصحابه، فرجع ذات ليلة ... ». ومنهم أبو الزبير، وقد تقدم رواية ابن عيينة عنه مع روايته عن عمرو بن دينار. ورواه الليث بن سعد عن أبي الزبير مختصرًا: «صلَّى معاذ بن جبل الأنصاري لأصحابه العشاءَ فطوَّل عليهم ... ». أخرجه مسلم في «الصحيح» (2). ومنهم أبو صالح، وروايته أيضًا مختصرة، قرنه النسائي (3)، باب خروج الرجل من صلاة الإمام ... ، بمحارب، ولم يُسمِّ الصلاة. وأخرجه أبو داود (4) باب تخفيف الصلاة عن أبي صالح فقط، أخصر من ذلك، ولم يُسمِّ جابرًا، بل قال: «عن أبي صالح عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -». _________ (1) رقم (793). (2) (465/ 179). (3) في «سننه» (2/ 97، 98). (4) رقم (792).

(16/170)


ومنهم محارب بن دثار: قال النسائي (1) في باب القراءة في العشاء الآخرة بـ (سبح اسم ربك الأعلى): أخبرنا محمد بن قدامة قال حدثنا جرير عن الأعمش عن محارب بن دِثار عن جابر قال: قام معاذ فصلَّى العشاء الآخرة فطوَّل، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أفتّانٌ يا معاذ؟ ... ». وأشار إليه البخاري في «الصحيح» قال (2): قال عمرو وعبيد الله بن مِقْسم وأبو الزبير عن جابر: «قرأ معاذ في العشاء بالبقرة»، وتابعه الأعمش عن محارب. ورواه النسائي (3) في موضع آخر لكن مقرونًا بأبي صالح كما مر. [ق 13] ومنهم عبد الرحمن بن جابر: قال أبو داود (4) والطيالسي في «مسنده» (ص) (5): «مرَّ حَزْم بن أبي كعب بمعاذ بن جبل، وهو يصلِّي بقومه صلاة العتمة، فافتتح بسورة طويلة ... ». _________ (1) في «سننه» (2/ 172). (2) عقب الحديث (705). (3) (2/ 97، 98). (4) رقم (791). (5) كذا في الأصل بدون ذكر رقم الصفحة، وعزاه إليه الحافظ في «الفتح» (2/ 193). ولم أجد الحديث في مسنده، وأخرجه البزار (كما في «كشف الأستار» رقم 483) من طريق الطيالسي عن طالب عن ابن جابر عن أبيه. انظر «الإصابة» (2/ 523).

(16/171)


فصل وقع في رواية الثلاثة الآخرين بعض الاختلاف: أما أبو الزبير: فقد تقدم رواية ابن عيينة عنه، وكذلك رواية الليث، وفيها: «صلَّى معاذ بن جبل الأنصاري لأصحابه العشاء». ووقع في روايةٍ عنه عند عبد الرزاق: «المغرب» كذا نبَّه عليه ابن حجر في «فتح الباري» (1). وأما محارب: فتقدم برواية الأعمش عنه: «قام معاذ فصلَّى العشاء الآخرة»، ورواه ابن مهدي عن الثوري عن محارب «المغرب»، ذكره النسائي (2) في باب القراءة في المغرب بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}. وقال أحمد في «المسند» (3/ 300) (3): ثنا وكيع عن سفيان عن محارب .. عن جابر: «أن معاذًا صلَّى بأصحابه، فقرأ البقرة في الفجر، وقال عبد الرحمن ــ يعنى ابن مهدي ــ: المغرب». وقال أبو داود الطيالسي في «مسنده» (ص 239) (4): حدثنا شعبة عن محارب قال: سمعت جابرًا يقول: انتهى رجل من الأنصار معه ناضحانِ له إلى معاذٍ وهو يصلِّي المغرب، فاستفتح معاذ بسورة البقرة أو النساء ــ قال شعبة: شكَّ محارب ــ، فلما رأى ذلك الرجل صلَّى، ثم انطلق، فبلغ الرجلَ أن معاذًا يقول: هو منافق، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فذكر ذلك له، فقال رسول _________ (1) (2/ 193). (2) (2/ 168). (3) رقم (14202). (4) رقم (1728).

(16/172)


الله: «يا معاذُ، أفتَّان أفتان، أو قال: فاتن، أَوَ لَا قرأتَ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} أو {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ــ قال شعبة: شكَّ محارب ــ وراءك ذو الحاجة والصغير، أو قال: الضعيف ــ شكَّ محارب». وقد رواه أبو عَوانة في «صحيحه» (2/ 158) من طريق أبي النضر وأبي داود الطيالسي قالا: ثنا شعبة عن محارب قال: سمعت جابرًا قال: «أقبل رجلٌ بنا ضحينِ، وقد جَنَحَ الليلُ، فوافق معاذًا يصلِّي المغرب»، وذكر حديثه في هذا. وأخرجه أحمد في «المسند» (3/ 299) (1) عن محمد بن جعفر وحجاج عن شعبة، ولفظه: «أقبل رجل من الأنصار ومعه ناضحانِ له، وقد جَنَحَتِ الشمسُ، ومعاذٌ يُصلِّي المغرب ... » فساقه قريبًا من لفظ الطيالسي. وأخرجه البخاري في «الصحيح» (2) عن آدم عن شعبة، وفيه: «أقبل رجل بناضحَينِ وقد جنح الليلُ، فوافق معاذًا يُصلِّي، فترك ناضِحَه وأقبل إلى معاذ، فقرأ بسورة البقرة أو النساء ... فلولا صلَّيتَ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} , {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}». أحسب هذا في الحديث. قال البخاري (3): وتابعه سعيد بن مسروق ومِسْعَر والشيباني. قال عمرو وعبيد الله بن مقسم وأبو الزبير عن جابر: «قرأ معاذ في العشاء بالبقرة»، وتابعه الأعمش عن محارب. _________ (1) رقم (14190). (2) رقم (705). (3) بعد الحديث المذكور.

(16/173)


وذكر الحافظ في «الفتح» (1) أن رواية مِسْعر عن محارب وصلها السرَّاج، وأنه وقع عنده «البقرة والنساء». وأما رواية سعيد بن مسروق فعند أبي عوانة في «صحيحه» (2/ 158) وفي النسخة خطأ، ولفظها: «أن معاذًا أمَّ قومَه في صلاة المغرب، فمرَّ غلام من الأنصار ... »، وذكر حديثه في هذا. وأما عبد الرحمن بن جابر: فقال أبو داود (2) في باب تخفيف الصلاة: حدثنا موسى بن إسماعيل ثنا طالب بن حبيب، سمعت عبد الرحمن بن جابر يحدث عن حزم بن أبي كعب: أنه أتى معاذَ بن جبل وهو يُصلِّي بقومٍ صلاةَ المغرب ــ في هذا الخبر ــ قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يا معاذُ، لا تكن فتّانًا، فإنه يصلِّي وراءك الكبيرُ والضعيفُ وذو الحاجة والمسافر». وفي «الفتح» (3) أبو يعلى بإسناد حسن من رواية عيسى بن جارية ... عن جابر قال: «كان أُبي بن كعب يُصلِّي بأهل قباء، فاستفتح سورة طويلة، فدخل معه غلام من الأنصار .... » وفي آخره من كلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنَّ منكم منفِّرينَ ... فإنَّ خلفكم الضعيفَ والكبيرَ والمريضَ وذا الحاجة». وذكر الحافظ (4) أن هذه القصة هي نفس القصة التي في «الصحيحين» (5) _________ (1) (2/ 201، 193). وهو في «مسند السرّاج» (175) تحقيق إرشاد الحق الأثري. (2) رقم (791). (3) (2/ 198). وهو في «مسند» أبي يعلى (1792). (4) في المصدر السابق. (5) البخاري (702) ومسلم (466).

(16/174)


عن أبي مسعود الأنصاري: «أن رجلًا قال: والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا ... ». وفي «مسند أحمد» (5/ 355) (1): ثنا زيد بن الحُباب حدثنى حسين ثنا عبد الله بن بُريدة قال: سمعتُ أبي بُريدةَ يقول: إن معاذَ بن جبل يقول (2): صلَّى بأصحابه صلاةَ العشاء، فقرأ فيها بـ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}، فقام رجل ... وأتى الرجل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فاعتذر إليه، فقال: إني كنتُ أعمل في نخلٍ، فخِفتُ على الماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «صَلِّ بـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ونحوِها من السور». وفي «المسند» أيضًا (3/ 124) (3): ثنا إسماعيل بن إبراهيم ثنا عبد العزيز بن صُهَيب ــ وقال مرة: أخبرنا عبد العزيز بن صُهيب ــ عن أنس بن مالك قال: كان معاذ بن جبل يؤمُّ قومَه، فدخل حرامٌ وهو يريد أن يسقي نخلَه، فدخل المسجدَ ليصلِّي مع القوم، فلما رأى معاذًا طوَّلَ تجوَّزَ في صلاته، ولَحِقَ بنَخْلِه يَسْقيه ... فأقبل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على معاذ، فقال: «أفتَّانٌ أنتَ؟ أفتَّان أنت؟ لا تُطوِّلْ بهم، اقرأ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} , {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ونحوهما». _________ (1) رقم (23008). (2) كذا بزيادة «يقول» في الطبعة القديمة من «المسند». ولا توجد في الأصول الخطية والنسخة المحققة. (3) رقم (12247).

(16/175)


وفي «المسند» أيضًا (5/ 74) (1): ثنا عفّان ثنا وُهَيب ثنا عمرو بن يحيى عن معاذ بن رِفاعة الأنصاري عن رجل من بني سَلِمةَ يقال له: سُلَيم، أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: يا رسول الله، إن معاذ بن جبل يأتينا بعد ما ننام، ونكون في أعمالنا بالنهار، فيُنادِي بالصلاة، فنخرج إليه، فيُطوِّل علينا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يا معاذ بن جبل، لا تكنْ فتَّانًا، إما أن تُصلِّي معي، وإما أن تُخفِّفَ على قومك» ... ثم قال سليم: ستَرونَ غدًا إذا التقى القومُ إن شاء الله، قال: والناس يتجهزون إلى أُحُدٍ، فخرَج، وكان في الشهداء، رحمة الله ورضوانه عليه. وذكره الحافظ في «الفتح» (2) ثم قال: وقد رواه الطحاوي والطبراني من هذا الوجه عن معاذ بن رفاعة أن رجلًا من بني سلمة .. فذكر مرسلًا، ورواه البزار من وجه آخر عن جابر، وسماه سليمًا أيضًا. أقول: والسياق يُشبِه سياق رواية عبيد الله بن مِقْسَم عن جابر كما في «سنن» البيهقي (3/ 117)، لكن ليس في رواية ابن مقسم «إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف على قومك». ومعاذ بن رفاعة لم يدرك سليمًا؛ لأن سليمًا استشهد بأحد كما في القصة، ولكن يمكن أن يكون سمعها من جابر أو غيره. والله أعلم. _________ (1) رقم (20699). (2) (2/ 194). وأخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 409)، والطبراني في «الكبير» (7/ 67).

(16/176)


قال الحافظ في «الفتح» (1): وجمع بعضهم بين هذا الاختلاف بأنهما واقعتان، وأيَّد ذلك بالاختلاف في الصلاة: هل هي العشاء أو المغرب؟ وبالاختلاف في السورة: أهي البقرة، أو {اقْتَرَبَتِ}؟ وبالاختلاف في عذر الرجل: هل هو لأجل التطويل فقط لكونه جاء من العمل وهو تَعْبان، أو لكونه أراد أن يَسْقِيَ نخلَه إذ ذاك، أو لكونه خاف على الماء في النخل كما في حديث بريدة ... ويحتمل أن يكون النهي أولًا وقع لما يخشى من تنفير بعض من يدخل في الإسلام، ثم لما اطمأنَّتْ نفوسُهم بالإسلام ظنَّ أن المانع زال، فقرأ بـ {اقْتَرَبَتِ} ... فصادف صاحب الشغل. أقول مستعينًا بالله عز وجل: حديث أنس سندُه بغاية القوة، وهو ظاهر في أن الصلاة التي أطالها معاذ هي الصبح، فمن المحتمل أن يكون معاذ صلَّى الصبح فأطال ففارقه حرام، وصلَّى العشاء فأطال ففارقه سُلَيم، اتفق الأمرانِ في يومٍ، أو أيامٍ متقاربة، فكان معاذ يَعْتِبُ على كلٍّ منهما، فبلغَ النبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - الأمرانِ، فعاتب معاذًا، ولذلك كرَّر عليه: «أفتّان أفتّان أفتّان». وانفرد أنس بذكر قصة حرام؛ لأنه خاله، وانفرد جابر بذكر قصة سليم؛ لأنه من رهطه، وقضى الله عز وجل أن استشهد الرجلان: سُلَيم وحرام، الأول بأُحُد والثاني ببئر معونة. وأما حديث حسين ــ وهو ابن واقد ــ عن عبد الله بن بريدة عن أبيه: فأحسِبُه انتقل ذهن الراوي من قصة إلى قصة، فجاء المتن ملفَّقًا، وقد استنكر أحمد أحاديث حسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة جدًّا. _________ (1) (2/ 194).

(16/177)


وكذلك حديث طالب بن حبيب عن عبد الرحمن بن جابر: أخشى أن يكون ملفَّقًا من عدة قصص، وأخشى أن لا يكون هناك وجودٌ لحَزْم بن أبي كعب، وإنما وقع تحريف وتغيير، وذهاب إلى واقعة أبي بن كعب، وأكثر ما يقع في الكتب [ق 14] في هذه الطريق: «حزم بن أبي كعب»، وقد قال البخاري (1) في طالب: «فيه نظر»، ولم يُوثِّقه أحد، إلا أن ابن حبّان ذكره في «الثقات» (2)، وليس ذلك بنافعٍ له؛ لما عُرِف من شرط ابن حبان، مع تساهله حتى أنه لا يفي بشرطه، كما بينتُه في موضع آخر. وأما محارب: فإنه لم يضبط هذا الحديث، كما عُرِف من كثرة شكِّه فيه، واضطرابِه، كما يُعلَم مما تقدم، وأحسبه سمع في هذا الباب عدة أحاديث متقاربة المعنى، فكان يلتبس عليه بعضها ببعض. وبالجملة، فما وقع في تلك الرواية عن أبي الزبير من ذكر المغرب إذا ضُمّ إلى وقوع ذلك في أكثر الروايات عن محارب، مع وقوعه في روايةٍ لطالب، وإن ظهر أنه خطأ، فإنه يدل على أنّ هناك قصةً أخرى تتعلق بالمغرب. فصل قال البخاري في «الصحيح» (3): «باب إذ اصلَّى ثمَّ أمَّ قومًا: حدثنا سليمان بن حرب وأبو النعمان قالا: حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن _________ (1) في «التاريخ الكبير» (4/ 360). (2) (6/ 492). (3) (2/ 203) (مع الفتح)، ورقم الحديث (711).

(16/178)


عمرو بن دينار عن جابر قال: «كان معاذ يُصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم يأتي قومَه فيُصلِّي بهم». وكذلك أخرجه أبو عوانة في «صحيحه» (2/ 157) من طريق أبي معمر وعبد الوارث عن أيوب عن عمرو، ومن طريق سليمان بن حرب ومسدد ومحمد بن أبي بكر المقدَّمي كلهم عن حماد بن زيد عن أيوب عن عمرو. وقال مسلم في «الصحيح» (1): حدثنا قُتيبة بن سعيد وأبو الربيع الزهراني، قال أبو الربيع: ثنا حماد بن زيد حدثنا أيوب عن عمروبن دينار عن جابر بن عبد الله قال: «كان معاذ يُصلِّي مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - العشاءَ، ثم يأتي مسجدَ قومه فيُصلِّي بهم» قال النووي في «شرح مسلم» (2): «قال أبو مسعود الدمشقي: قتيبة يقول في حديثه: عن حماد عن عمرو، ولم يذكر فيه أيوب، فكان ينبغي لمسلم أن يبينه، وكأنه أهمله لكونه جعل الرواية مَسُوقةً عن أبي الربيع وحده». أقول: هذا العذر غير كافٍ، بل لابدَّ أن يزاد فيه أحد أمرين: إما أن يكون مسلم استثبت قتيبة لما قال حماد عن عمرو، فقال: الناس يروونه عن حماد عن أيوب عن عمرو، فقال قتيبة: نعم هو كذلك، ولكن مسلمًا لم يطمئن كل الاطمئنان إلى هذا لشبهة التلقين. وأشار إلى ذلك بجعله السياق لأبي الربيع. _________ (1) رقم (465/ 181). (2) (4/ 183).

(16/179)


الثاني: أن يكون مسلم جزم بأن في رواية قتيبة تقصيرًا محضًا، لا يلزم منه اختلاف. وفي «جامع الترمذي» (ص 75) (1): باب ما ذُكِر في الذي يُصلِّي الفريضة ثم يؤمُّ الناسَ بعد ما صلَّى: حدثنا قتيبة حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله: أن معاذ بن جبل كان يُصلِّي مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - المغربَ، ثم يرجعُ إلى قومه فيؤمُّهم». قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أصحابنا: الشافعي وأحمد وإسحاق، قالوا: إذا أمَّ الرجلُ القومَ في المكتوبة وقد كان صلّاها قبل ذلك، أن صلاة من ائتمَّ به جائزة، واحتجوا بحديث جابر في قصة معاذ، وهو حديث صحيح، وقد رُوِي من غير وجهٍ عن جابر ... أقول: يظهر أن الترمذي يخالف مسلمًا في هذا الحديث؛ فمسلم يرى أن حديث قتيبة هو حديث أبي الربيع نفسُه، وعنده فيما يظهر أن حماد بن زيد إنما روى عن أيوب عن عمرو بلفظ أبي الربيع، وأن كلمة «العشاء» صحيحة في الحديث، وإن لم تقع في رواية سليمان بن حرب وعارم، وأن قتيبة قصَّر في الإسناد، ووهم في قوله: «المغرب» بدل «العشاء». وأما الترمذي فيرى ــ فيما يظهر ــ أن حديث قتيبة غير حديث أبي الربيع، وأن حماد بن زيد سمع الحديث من عمرو بن دينار، كما رواه قتيبة، وفيه «المغرب»، وسمعه من أيوب عن عمرو، كما رواه سليمان بن حرب وعارم، أو بزيادة «العشاء» كما قال أبو الربيع. _________ (1) (2/ 477 تحقيق أحمد شاكر)، ورقم الحديث (583).

(16/180)


أقول: وإذا كان هكذا فزيادة أبي الربيع «العشاء» فيها نظر؛ لاحتمال أنه زادها بناءً على المعنى، على ما يظهر من أكثر الروايات. ثم رأى الترمذي أن معاذًا كان يصلِّي المغرب مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم يرجع إلى قومه فيصلِّي بهم، وإنما اختار الترمذي هذه الرواية لِنصِّها على المغرب؛ لأنه قد يستبعد هذا فيها: أولًا: ما جاء عن بعض السلف من كراهية إعادتها، أو عن جماعة منهم أنه إذا أعادها شَفعَها بركعةٍ، كما ذكره الترمذي في موضع آخر (1). ثانيًا: لضيق وقتها. فجواز الإعادة فيها يدلُّ على الجواز في غيرها من باب أولى، خاصةً الظهر والعشاء. فإن قيل: إن هذه الرواية تنفرد بذكر المغرب. قلت: إنما تنفرد بالنص عليها فقط، وكثير من الروايات تُطلِق، فتشمل المغرب، فقد تقدمت رواية شعبة عن عمرو: «كان معاذ بن جبل يُصلّي مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم يرجع فيؤمُّ قومه، فصلَّى العشاء ... » ونحوها رواية سُلَيم بن حيان، وقد تقدمت، وكذلك جاء في أكثر الروايات عن ابن عيينة كما مرَّ، وغيرها. بل أوضح الروايات في ذلك ما اختاره البخاري (2) رحمه الله في هذا الباب، وهي رواية سليمان بن حرب وعارم عن حماد بن زيد عن أيوب عن _________ (1) عقب الحديث (219). (2) في «صحيحه» (711).

(16/181)


عمرو، ولفظها: «كان معاذ يُصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم يأتي قومه، فيصلي بهم». فهذا لفظ الحديث بتمامه. وعلى هذا، فالظاهر أن جابر رضي الله عنه كان تارةً يقصد أن يخبر بجواز الائتمام بمن قد كان صلَّى تلك الصلاة، وهي مسألة الباب، فيُخبر بما وقع في رواية أيوب عن عمرو. وتارةً يقصد أن يُخبر بما يتضمن ذلك، ويتضمن النصّ على المغرب، وتعجيل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بها وتخفيفه فيها وامتداد وقتها، فيخبر بنحو رواية حماد بن زيد عن عمرو، وهي التي عند الترمذي. وتارةً يقصد الإخبار بذلك ــ أي بجواز الائتمام ــ وبما يشرع للإمام من التخفيف، وبيان ما يقرؤه من السور، فيخبر بنحو رواية شعبة عن عمرو. أو ينصُّ على العشاء، ويذكر القصة. فأما رواية من رواه بالنصّ على العشاء ولم يذكر القصة، فكأنه مقتطع من الذي قبله. والله أعلم. وكان عمرو بن دينار قد ضبط وأتقن، فكان يتبع جابرًا، فيحدِّث تارةً هكذا، وتارةً هكذا. وأما محارب: فالتبس عليه الأمر، كما تقدم بيانه. وأما أبو الزبير: فإن كانت روايته التي عند عبد الرزاق وفيها ذكر المغرب بمعنى رواية حماد بن زيد عن عمرو، فلا غبار عليها، وهي مؤكِّدة لرواية حماد عن عمرو. وإن كانت فيها أن الصلاة التي طوَّل فيها معاذ هي المغرب فهي شاذّة. والله أعلم.

(16/182)


الدليل الثاني حديث جابر في صلاة الخوف في «الصحيحين» من طريق أبي سلمة عن جابر: «أقبلنا مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى إذا كنّا بذات الرِّقاع قال: كنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، قال: فجاء رجل من المشركين، وسيفُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مُعلَّقٌ بشجرة، فأخذ سيفَ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فاخْتَرَطَه ... فنودي بالصلاة، فصلَّى بطائفة ركعتين، ثم تأخَّروا، وصلَّى بالطائفة الأخرى ركعتين، قال: فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أربع ركعات، وللقوم ركعتان». لفظ مسلم، أخرجه في صلاة الخوف (1) عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفَّان عن أبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، وذكر البخاري في «الصحيح» (2) عن غزوة ذات الرِقاع فقال: «وقال أبانٌ حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة». وأخرجه مسلم أيضًا (3) من طريق معاوية بن سلّام عن يحيى عن أبي سلمة عن جابر، مسلسلًا بالإخبار، ذكر الصلاة فقط. وقال البخاري (4): وقال لي عبد الله بن رجاء أخبرنا عمران القطّان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صلى بأصحابه في الخوف في غزوة السابعة غزوة ذات الرقاع». _________ (1) رقم (843). (2) رقم (4136) تعليقًا. (3) رقم (843/ 311). (4) رقم (4125).

(16/183)


وفي «فتح الباري» (1): أن السرَّاج أخرجه في «مسنده» (2) المبوَّب فقال: حدثنا جعفر بن هاشم ثنا عبد الله بن رجاء، فذكره ... ، وفيه: «أربع ركعات؛ صلَّى بهم ركعتين، ثم ذهبوا، ثم جاء أولئك، فصلَّى بهم ركعتين». قال البخاري (3): «وقال مسدَّد عن أبي عوانة عن أبي بشر: اسم الرجل غَوْرَث بن الحارث، وقاتلَ فيها مُحارِبَ خَصَفَةَ». قال في «الفتح» (4): «أخرجه مسدد في «مسنده» رواية معاذ بن المثنى عنه ... عن أبي بشر عن سليمان بن قَيْس عن جابر ... قال: غزا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مُحارِبَ خَصَفَةَ بنخلٍ ... ». أقول: وقد أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» (3/ 364) (5): ثنا عفان ثنا أبو عوانة ثنا أبو بشر عن سليمان بن قَيْس عن جابر بن عبد الله قال: «قاتل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مُحارِبَ خَصَفَة بنخلٍ، فرأوا من المسلمين غِرَّةً، فجاء رجل منهم يقال له: غَوْرث بن الحارث ... ، فلما كان الظهر أو العصر صلَّى بهم صلاةَ الخوف، فكان الناس طائفتين، طائفة بإزاء عدوِّهم، وطائفة صلَّوا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فصلَّى بالطائفة الذين كانوا معه ركعتين، ثم انصرفوا ... وجاء أولئك فصلَّى بهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ركعتين، فكان للقوم ركعتان ركعتان، ولرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أربعُ ركعات». _________ (1) (7/ 419). (2) رقم (1560). (3) رقم (4136). (4) (7/ 428). (5) رقم (14929).

(16/184)


وأخرجه أحمد أيضًا (3/ 390) (1) ثنا سُرَيج ثنا أبو عوانة ... فذكره بسنده ومعناه. وأخرجه الحاكم في «المستدرك» (3/ 29) من طريق عارم عن أبي عوانة، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقرَّه الذهبي. وفي «تفسير ابن جرير» (5/ 145) (2): ثنا ابن بشَّار قال: ثنا معاذ بن هشام قال: ثنا أبي عن قتادة عن سليمان اليَشْكُري أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة، أيَّ يومٍ أُنزِلَ؟ أو أيّ يومٍ هو؟ فقال جابر: انطلقنا نَتلقَّى عِيرَ قريش آتيةً من الشام، حتى إذا كنا بنخلٍ جاء رجل من القوم ... ثم نُودِيَ بالصلاة، فصلَّى رسول الله بطائفة من القوم، وطائفة أخرى يَحرُسونهم، فصلَّى بالذين يَلُونه ركعتين، ثم تأخَّر الذين يَلُونه على أعقابهم، فقاموا في مَصَافِّ أصحابهم، ثم جاء الآخرون فصلَّى بهم ركعتين، والآخرون يَحرُسونهم، ثم سلَّم، فكانت للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أربعَ ركعات، وللقوم ركعتين ركعتين، فيومئذٍ أنزل الله إقصارَ الصلاة، وأمر المؤمنين بأخْذِ السلاح». أقول: رواية أبي سلمة صحيحة، وأما رواية سليمان بن قيس فإن أبا بشر وقتادة لم يسمعا منه؛ لأنه تقدم موته، ولكن كان قد كتب عن جابر صحيفة، فهي صحيفة جابر المشهورة، فمن الناس من يروي ما فيها عن جابر رأسًا، ومنهم من يقول: عن سليمان عن جابر، ذكر هذا البخاري في «تاريخه» _________ (1) رقم (15190). (2) (7/ 414) ط. دار هجر.

(16/185)


وأبو حاتم وغيرهما (1). وفي «الكفاية» للخطيب (ص 354): «وقال همَّام بن يحيى: قدِمَتْ أمُّ سليمان اليشكري بكتاب سليمان، فقُرِئ على ثابت وقتادة وأبي بشر والحسن ومُطرِّف، فروَوْها كلَّها، وأما ثابت فروى منها حديثًا واحدًا. وفي «معرفة علوم الحديث» للحاكم (ص 110) من طريق ابن المديني سمعت يحيى يقول: قال التيمي: ذهبوا بصحيفة جابر إلى الحسن فرواها، وذهبوا بها إلى قتادة فرواها، وأتوني بها فلم أَرْوِها. أقول: وقد رُوِي هذا الحديث عن الحسن عن جابر، فيمكن أن يكون من هذه الصحيفة. قال الشافعي في «الأم» (1/ 153) (2): حدثنا الثقة ابن عُلَيَّة أو غيره عن يونس عن الحسن عن جابر بن عبد الله «أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يصلِّي بالناس صلاة الظهر في الخوف ببطنِ نخلٍ، فصلَّى بطائفةٍ ركعتين ثم سلَّم، ثم جاءت طائفة أخرى فصلَّى بهم ركعتين ثم سلَّم». وفي «سيرة ابن هشام» (3) في غزوة ذات الرقاع: حدثنا عبد الوارث بن سعيد التنّوري ــ وكان يُكنى أبا عبيدة ــ قال: حدثنا يونس بن عبيد عن _________ (1) انظر «التاريخ الكبير» (4/ 31) و «الجرح والتعديل» (4/ 136) و «تهذيب التهذيب» (4/ 214، 215). (2) (2/ 451، 452) ط. دار الوفاء. (3) (2/ 204).

(16/186)


الحسن بن أبي الحسن عن جابر بن عبد الله في صلاة الخوف، قال: صلّى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صلاة الخوف، ثم انصرف بالناس، قال ابن هشام: بطائفة ركعتين ثم سلَّم، وطائفة مُقبِلون على العدو، قال: فجاءوا فصلَّى بهم ركعتين أخريين ثم سلَّم. وأخرجه النسائي في «السنن» (1): أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا يونس عن الحسن قال: حدَّث جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صلَّى بأصحابه صلاةَ الخوف، فصلَّت طائفة معه، وطائفة وجوهُهم قِبَلَ العدوِّ، فصلَّى بهم ركعتين، ثم قاموا مقامَ الآخرين، وجاء الآخرون، فصلَّى بهم ركعتين، ثم سلَّم». وكذلك أخرجه البيهقي في «السنن» (3/ 259) من طريق أخرى عن عبد الأعلى. وقال النسائي (2): أخبرني إبراهيم بن يعقوب قال: حدثنا عمرو بن عاصم قال: حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن الحسن عن جابر بن عبد الله «أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صلَّى بأصحابه ركعتين ثم سلَّم، ثم صلَّى بآخرين أيضًا ركعتين ثم سلَّم». وبنحوه أخرجه البيهقي في «السنن» (3/ 86) بسند رجاله ثقات عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة، وأخرجه أيضًا (3/ 259). _________ (1) (3/ 179). (2) (3/ 178).

(16/187)


وقال الدارقطني في «سننه» (ص 186) (1): حدثنا الحسين بن إسماعيل ومحمد بن محمود السراج قال: نا محمد بن عمرو بن أبي مذعور ثنا عبد الوهاب الثقفي ثنا عنبسة عن الحسن عن جابر أن نبي الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان محاصرًا بني محاربٍ بنخلٍ، ثم نودي في الناس أن الصلاة جامعة, فجعلهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - طائفتين: طائفة مقبلة على العدو يتحدَّثون، وصلَّى بطائفة ركعتين، ثم سلَّم، فانصرفوا، فكانوا مكانَ إخوانهم، وجاءت الطائفة الأخرى فصلّى بهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ركعتين، فكان للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أربع ركعات، ولكل طائفة ركعتين». قال صاحب «التعليق المغني» (2): عنبسة هو ابن سعيد القطان ... لم يُحفَظ عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه صلَّى صلاة الخوف قطُّ في حضرٍ. أقول: بل الراجح أن هذا عنبسة بن أبي رائطة الغنوي، ضعَّفه ابن المديني، وقال أبو حاتم: [ق 16] روى عنه عبد الوهاب الثقفي أحاديث حسانًا ... وليس بحديثه بأس (3). والقصة في السفر، لا في الحضر. أقول: حديث جابر قد يحمل على ثلاثة أوجه: الأول: أن النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أتمَّ تلك الصلاة، ولا يُلتفَت إلى ما في رواية الحسن من ذكره «ثم سلَّم» بعد الركعتين الأوليين، وكذلك الطائفتان كلٌّ _________ (1) (2/ 60). (2) (2/ 60). (3) انظر «تهذيب التهذيب» (8/ 158، 159)، و «الجرح والتعديل» (6/ 400).

(16/188)


منها أتمّتْ لنفسها بعد أن صلَّت معه - صلى الله عليه وآله وسلم - ركعتين. وقوله: «إنه كان له - صلى الله عليه وآله وسلم - أربع، ولهم ركعتان ركعتان» يُحمَل على ما كان في الجماعة، فأربعتُه - صلى الله عليه وآله وسلم - كلُّها كانت في الجماعة، وأما أصحابه فإنما كان لكلٍّ منهم في الجماعة ركعتان فقط، فأمّا ركعتاهم الأخرى فإنما أتمُّوها لأنفسهم. الوجه الثاني: أن يكون - صلى الله عليه وآله وسلم - أتمَّ، وقَصَروا. الوجه الثالث: أن يكون - صلى الله عليه وآله وسلم - قَصَر وقَصروا، ولكنه أعاد صلاته، صلَّى بهؤلاء صلاةً كاملة، وبهؤلاء صلاةً كاملة. أما الوجه الأول: فلم يذهب إليه أحدٌ فيما أعلم؛ لأنه قد ثبت من حديث عائشة وغيرها أن الصلاة كانت قبل الهجرة ركعتين ركعتين، فلما هاجر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أُتِمَّتْ صلاة الحضر، وبقيتْ صلاة السفر على ما كانت قبل (1). وعلى هذا، فيتعين حملُ القصر الذي وقع في رواية قتادة عن سليمان بن قيس: «أنه إنما نزل يومئذٍ» على قصر آخر، وقد حمل جماعة من الصحابة، فمن بعدَهم القصرَ في الآية ــ وهو قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ــ على قصرٍ آخر خاصّ بالخوف، فمنهم من قال بقصر الصلاة في الخوف إلى ركعة، ومنهم من قال: المراد بالقصر قصر الصِّفة. وقد يقال: هو القصر إلى ركعة، ولكن بالنظر إلى الجماعة. _________ (1) أخرجه البخاري (350، 3935) ومسلم (685) عن عائشة. وفي الباب عن ابن عباس عند مسلم (687)، وعن أبي هريرة عند أحمد في «المسند» (9200).

(16/189)


وذلك أوضح بعض الصور الثابتة، وهي أن يصلي الإمام بطائفةٍ ركعةً، ثم تُتِمُّ لنفسها وتذهب، وتجيء الأخرى فيصلي بها ركعته الأخرى وتتم لنفسها، فلكلٍّ من الطائفتين ركعة واحدة في الجماعة. [وقريب منه] في الصفة الأخرى، وهو أن يَصُفَّهم صفَّينِ، ويكبِّر بهم جميعًا، ثم يتناوبون، فإنهم وإن كانت لهم في نية الجماعة ركعتان، لكن لم يتمَّ لكلٍّ منهم بالنظر إلى متابعة الإمام إلا ركعة واحدة. هذا، وقد احتج جماعة على أن المراد بالقصر في الآية هو القصر المشهور، أي من أربع إلى اثنتين، بأن يعلى بن أمية سأل عمر عن الآية وقال: فقد أَمِنَ الناسُ، فقال عمر: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألتُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن ذلك، فقال: «صدقةٌ تصدَّقَ الله بها عليكم، فاقبلوا صدقتَه» رواه مسلم (1). وسأل رجل ابن عمر فقال: سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - (2). وقد يجاب عن هذا باحتمال أن عمر لما سأل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يذكر الآية، وإنما قال مثلًا: كيف تَقْصُر ونحن آمنون؟ وقد كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ربما أجمل في تفسير بعض الآيات جريًا مع حكمة الله عز وجل في ترك مجالٍ للتدبر والاجتها د. وفي «صحيح مسلم» (3) عن عمر أنه خطب فقال في خطبته: إني لا أدع _________ (1) رقم (686). (2) أخرجه مسلم (689). (3) رقم (567، 1617).

(16/190)


بعدي شيئًا أهم عندي من الكلالة، وما راجعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ما راجعتُه في الكلالة، حتى طعنَ بأصبعه في صدري، فقال: «ألا يكفيكَ آيةُ الصيف التي في سورة النساء؟». هذا، مع أن عمر كان يتردد في معنى الآية، ولم يزل على ذلك حتى مات. غاية الأمر أن عمر وابنه ويعلى لم يكونوا يفهمون أن القصر في الآية غير القصر المشهور، وهذا لا حجةَ فيه مع وجود القائل بأنه غيره من الصحابة أيضًا. والله أعلم. وكذلك الوجه الثاني، لم يذهب إليه أحد فيما أعلم لاتفاقهم وإن كان منهم من يرى جواز الإتمام في السفر، فهم متفقون فيما ذكر غير واحد على أنه إذا أتمَّ الإمامُ لزِم المأمومَ الإتمامُ. وأما الوجه الثالث: فهو الذي ذهب إليه الشافعي وغيره، ويوافقه ما جاء في رواية الحسن من قوله بعد الركعتين الأوليين: «ثم سلَّم»، وقد جاء مثله من رواية الحسن عن أبي بكرة، كما يأتي، وعليه حمل أبو داود رواية أبي سلمة وسليمان اليشكري عن جابر، فإنه ذكر حديث الحسن عن أبي بكرة ثم قال (1): «وكذلك رواه يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكذلك قال سليمان اليشكري عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -». فصل تقدم الكلام في صحيفة سليمان اليشكري، والظاهر أن أولئك الأئمة لم يعتمدوا عليها إلا بعد الوثوق بصحتها، ورواية قتادة عنها قوية، فقد قال _________ (1) عقب الحديث رقم (1248).

(16/191)


البخاري في «التاريخ الكبير» (4/ 1/ 186): قال أحمد بن ثابت نا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر ... وعن معمر قال: رأيتُ قتادة قال لسعيد بن أبي عَروبة: أَمسِكْ عليَّ المصحفَ، فقرأ البقرة فلم يُخْطِ حرفًا، فقال: يا أبا النضر، لَأنا لصحيفة جابرٍ أحفظُ منّي لسورة البقرة. إلا أنَّ في صلاحيتها للاحتجاج بها وحدَه نظرًا، ولاسيَّما إذا لم يُصرِّح قتادة في روايته بأنه روى عن تلك الصحيفة، فإن قتادة مدلِّس، ومن الجائز أن يُدلِّس عن سليمان ما أخذه من واسطة غير تلك الصحيفة. هذا، وظاهرٌ من رواية قتادة عن سليمان في هذه القصة أن الصلاة التي وصفها كانت قبل نزول قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ... }، ولذلك احتاج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى أن يصلّي بالقوم صلاتين، لتكون لكل من الطائفتين صلاةٌ تامة في الجماعة بدون خلل في المتابعة. ولم يبين في هذه الرواية وغيرها مما تقدم: هل صلّى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في تلك الغزوة بعد هذه الصلاة على وجه آخر مما أذن الله عز وجل فيه؟ [ق 17] لكن قال البخاري في غزوة ذات الرقاع من «الصحيح» (1): وقال بكر بن سَوادة: حدثني زياد بن نافع عن أبي موسى أن جابرًا حدَّثهم قال: «صلّى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بهم يومَ مُحارِبٍ وثعلبةَ». وقد أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (5/ 146) (2) عن ابن أخي ابن وهب عن عمه قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن بكر بن سَوادة _________ (1) (7/ 417) مع «الفتح». (2) (7/ 417) ط. دار هجر.

(16/192)


حدَّثه ... يوم مُحارِب وثعلبةَ، لكل طائفة ركعة وسجدتين». وأخرج ابن جرير أيضًا (1): حدثنا محمد بن المثنى قال: ثنا محمد بن جعفر قال: ثنا شعبة عن الحكم عن يزيد الفقير عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صلَّى بهم صلاةَ الخوف، فقام صفٌّ بين يديه، وصفٌّ خلفَه، فصلَّى بالذين خلفه ركعةً وسجدتينِ، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا مقامَ أصحابهم، وجاء أولئك حتى قاموا مقامَ هؤلاء، فصلَّى بهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ركعةً وسجدتينِ، ثم سلَّم، فكانت للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ركعتين ولهم ركعة». وبنحوه أخرجه أبو عوانة في «صحيحه» (2/ 362) من طريق سليمان أبي إسحاق الشيباني عن يزيد الفقير. وكذلك أخرجه النسائي في «السنن» (2) عن إبراهيم بن الحسن عن حجّاج بن محمد عن شعبة، وأخرجه أيضًا (3) من طريق يزيد بن زريع عن المسعودي عن يزيد الفقير، فساقه بمعنى حديث شعبة عن الحكم إلى قوله: «وسجدتين»، وزاد بعدها: «ثمّ إنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - سلَّم، فسلَّم الذين خلفه، وسلَّم أولئك». وحديث شعبة أصح؛ لأن المسعودي ليس بالحافظ، وتغيَّر بأَخَرةٍ. فكأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد أن صلّى بهم الظهر صلاتينِ كما تقدم أنزل الله عزَّ وجلَّ الآيات، فصلّى بهم العصر على قصر الخوف، بأن كانت لكل من الطائفتين _________ (1) (7/ 419). (2) (3/ 174). (3) (3/ 175).

(16/193)


ركعة واحدة، إما مطلقًا، وإما في جماعة. والله أعلم. وقد جاء عن جابر صفة أخرى، أخرج مسلم في «الصحيح» (1) من طريق عطاء عن جابر قال: «شهدتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صلاة الخوف، فصفَّنا صفَّين، صفٌّ خلفَ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، والعدوُّ بيننا وبين القبلة، فكبّر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وكبّرنا جميعًا، ثم ركع وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصفُّ الذي يليه، وقام الصفُّ المؤخَّر في نَحْر العدوّ، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - السجود وقام الصفُّ الذي يليه انحدر الصفُّ المؤخَّر بالسجود، وقاموا، ثم تقدم الصفُّ المؤخَّر، وتأخَّر الصفُّ المقدَّم ... ». وبنحوه رواه عَزْرة بن ثابت عن أبي الزبير، أخرجه أبو عوانة في «صحيحه» (2/ 361). وقال النسائي (2): أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن أبي الزبيرعن جابر قال: «كنّا مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بنخلٍ، والعدوُّ بيننا وبين القبلة، فكبَّر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فكبَّروا جميعًا ... ». ذكر الصفة التي في رواية عطاء. وبنحوه رواه أيوب عن أبي الزبير، أخرجه أبو عوانة في «صحيحه» (2/ 360). ولا مانع من صحة هذا أيضًا: بأن يكون - صلى الله عليه وآله وسلم - صلَّى بهم في تلك الغزوة _________ (1) رقم (840). (2) (3/ 176).

(16/194)


بعد نزول الآيات مرةً هكذا، ومرةً هكذا، لكن أبا الزبير زاد فيه. أخرج ابن جرير (1) من طريق ابن عيّاش أخبرني عبيد الله بن عمر عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: كنتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فلقينا المشركين بنَخْلٍ، فكانوا بيننا وبين القبلة، فلما حضرتْ صلاةُ الظهر صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ونحن جميع، فلما فرغنا تذامرَ المشركون فقالوا: لو كنّا حملنا عليهم وهم يصلُّون! فقال بعضهم: فإنَّ لهم صلاةً ينتظرونها تأتي الآنَ، هي أحبُّ إليهم من أبنائهم، فإذا صلَّوا فمِيلُوا عليهم. فجاء جبريل إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بالخبرِ وعلَّمه كيف يُصلِّي، فلما حَضَرَتِ العصرُ قام نبيُّ الله مما يلي العدوَّ، وقمنا خلفه صفَّينِ، فكبَّر نبيُّ الله [وكبَّرنا] معه جميعًا ... ». ثم أخرجه ابن جرير (2) من طريق حمّاد بن مَسْعدة عن هشام بن أبي عبد الله عن أبي الزبير عن جابر، ومن طريق إسماعيل بن إبراهيم عن هشام أيضًا، وقال في كلٍّ منهما: «نحوه». وقال البخاري في «الصحيح» (3) في غزوة ذات الرقاع: وقال معاذ: حدثنا هشام عن أبي الزبير عن جابر قال: «كنّا مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بنخلٍ ... » فذكر صلاة الخوف. قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» (4): سياق رواية هشام عن أبي الزبير _________ (1) في «تفسيره» (7/ 439، 440). (2) (7/ 440). (3) (7/ 421) مع «الفتح». (4) (7/ 423).

(16/195)


هذه تدل على أنه حديث آخر في غزوة أخرى ... وهذه القصة إنما هي في غزوة عُسْفان، وقد أخرج مسلم (1) هذا الحديث من طريق زهير بن معاوية عن أبي الزبير بلفظٍ يدلُّ على مغايرة هذه القصة لغزوة محارب في ذات الرقاع , ولفظه عن جابر: «غزونا مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قومًا من جُهَينة، فقاتلونا قتالًا شديدًا، فلما أن صلَّينا الظهر قال المشركون: لو مِلْنا عليهم ... ». أقول: وكذلك رواه عبد الرزاق عن سفيان عن أبي الزبير، أخرجه أبو عوانة (2/ 360). وحديث أبي عياش الزرقي وحديث عند الواقدي عن خالد بن الوليد، كلها تذكر هذه القصة بعُسْفان، ثم قال (2): وهو ظاهر فيما قرَّرتُه أن صلاة الخوف بعُسْفان غير صلاة الخوف بذات الرقاع، وأن جابرًا روى القصتين معًا، فأما رواية أبي الزبير عنه ففي قصة عُسْفان، وأما رواية أبي سلمة ووهب بن كيسان وأبي موسى المصري عنه ففي غزوة ذات الرقاع، وهي غزوة محارب وثعلبة. أقول: وعلى هذا، فراوية عطاء عن جابر إنما هي في الصلاة بعُسْفان، ويكون أبو الزبير وَهِمَ في قوله: «بنخلٍ»، وقد روى الشيخان من طريق صالح بن خوّات قصتينٍ: الأولى: عمن صلَّى مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف، أن طائفة صفَّتْ معه، وطائفة وِجاهَ العدوّ، فصلّى بالذين معه ركعة ثم ثبت _________ (1) رقم (840/ 308). (2) أي الحافظ في «الفتح» (7/ 423).

(16/196)


قائمًا، وأتمُّوا لأنفسهم ثم انصرفوا، فصفُّوا وِجاهَ العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلّى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالسًا، وأتمُّوا لأنفسهم، ثم سلَّم بهم». لفظ مسلم (1). وهذه الصفة توافق الصفة التي رواها أبو موسى المصري ويزيد الفقير عن جابر، إلا أن في هذه بيان أن كلًّا من الطائفتين أتمَّتْ لأنفسها، فإذا كانت القصة واحدةً تعيَّن أن القصر إنما هو باعتبار الجماعة، وأن قوله هناك: «ولهم ركعة» أي في الجماعة، فلا يُنافي إتمامَهم لأنفسهم. والقصة الثانية: صالح عن سهل بن أبي حَثْمة «أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صلَّى بأصحابه في الخوف، فصفَّهم خلفه صفَّين ... » (2) فذكر قصة وقع في حكايتها اضطراب، وذكر الحافظ في «الفتح» (3) أن سهلًا لم يشهد ذات الرقاع، وأن مراد [صالح بن] (4) خوَّات بقوله في الأولى: «عمن صلى ... » رجل آخر غير سهل، أستظهِرُ أنه خوَّات والد صالح. [ق 18] فصل رواية قتادة عن سليمان اليشكُري تدلُّ أن ذلك اليوم نزلت الآية، وشُرِعت صلاة الخوف على الصفة التي يُصلِّي فيها الإمام صلاةً واحدة، ويعارضه ما رواه منصور بن المعتمر عن مجاهد عن أبي عيّاش الزُّرَقي قال: _________ (1) رقم (842). وأخرجه البخاري (4129). (2) أخرجه مسلم (841). ورواه البخاري (4131) بهذا الطريق. (3) (7/ 425). (4) زيادة من «الفتح».

(16/197)


«كنّا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بعُسْفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد، فصلّينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غِرّةً ... فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر، فلما حَضَرَتِ العصرُ قام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مستقبلَ القبلة، والمشركون أمامه، فصفَّ خلفَ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صفٌّ، وصفَّ بعد ذلك الصفِّ صفٌّ آخر، فركع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وركعوا جميعًا ... »، فذكر مثل الصفة التي تقدمت عن عطاء عن جابر، ثم قال: «فصلّاها بعُسْفان، وصلَّاها في بني سُلَيم». رواه أبو داود (1) عن سعيد بن منصور عن جرير بن عبد الحميد عن منصور. وخرَّجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 338) من طريق سعيد بن منصور، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقرّه الذهبي. ورواه البيهقي في «السنن» (3/ 256) من طريق يحيى بن يحيى وسعيد بن منصور كلاهما عن جرير. وأخرجه أحمد في «المسند» (4/ 59) (2): ثنا عبد الرزاق ثنا الثوري عن منصور ... وقال: «فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآيات بين الظهر والعصر {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102]. وبنحوه أخرجه أبو داود الطيالسي (3) عن ورقاء عن منصور. _________ (1) رقم (1236). (2) رقم (16580). (3) في «مسنده» (1347).

(16/198)


ورواه النسائي في «السنن» (1) عن عمرو بن علي عن عبد العزيز بن عبد الصمد ثنا منصور، وقال: «فنزلت ــ يعني صلاة الخوف ــ بين الظهر والعصر». وأخرجه أحمد في «المسند» (4/ 60) (2): ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن منصور قال: سمعتُ مجاهدًا يُحدِّث عن أبي عيّاش الزُّرَقي ــ قال: قال شعبة: كتب به إليَّ، وقرأتُه عليه، وسمعته منه يُحدِّث به، ولكني حفظتُه من الكتاب ــ «أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان في مَصَافِّ العدوِّ بعُسْفانَ، وعلى المشركين خالد بن الوليد، فصلَّى بهم النبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - الظهر، ثم قال المشركون: إنّ لهم صلاةً بعد هذه، هي أحبُّ إليهم من أبنائهم وأموالهم، فصلَّى بهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - العصر، [فصَفَّهم] صفَّينِ خلفَه ... ». فلم يذكر نزول جبريل، ولا نزول الآية، ولا قال في آخره: «فصلّاها بعُسْفانَ، وصلَّاها في بني سُلَيم». وكذلك أخرجه النسائي (3) عن أبي موسى وبُندار كلاهما عن غُندر، مع اختلاف يسير. أقول: حديث أبي عيّاش صحَّحه الحاكم كما تقدم، وكذلك الدارقطني (4)، وأخرجه ابن حبان في «صحيحه» (5) وعندي فيه وقفة، فإنني _________ (1) (3/ 177). (2) رقم (16581). (3) (3/ 176). (4) في «سننه» (2/ 60). (5) رقم (2876).

(16/199)


لم أرَ في شيء من طرقه تصريحَ مجاهدٍ بالسماع من أبي عياش، ومجاهد معروف بالإرسال عمن لم يَلْقَه حتى من عاصره. ثم رأيتُ البيهقي قال في «السنن» (3/ 257): «وقد رواه قتيبة بن سعيد عن جرير، فذكر سماع مجاهد من أبي عياش ... ». أقول: وقد روى ابن أبي نَجِيح نحوه عن مجاهد مرسلًا، أخرجه ابن جرير في تفسيره (5/ 142) (1) من طريقين عن ابن أبي نَجِيح، قال في الأول: حدثني محمد بن عمرو (هو الباهلي) قال: ثنا أبو عاصم قال: ثنا عيسى عن ابن أبي نَجِيح عن مجاهد في قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] قال: «يومَ كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه بعُسْفانَ، والمشركون بضَجْنانَ، فتوافقوا، فصلَّى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بأصحابه صلاة الظهر ركعتين، أو أربعًا ــ شكّ أبو عاصم ــ ركوعُهم وسجودُهم وقيامُهم معًا جميعًا، فهمَّ المشركون أن يُغِيروا على أمتعتهم وأثقالهم، فأنزل الله عليه: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ}، فصلَّى العصر ... وقصرَ العصر إلى ركعتين». ثم قال: حدثني المثنَّى قال: ثنا أبو حُذيفة قال: ثنا شبل عن ابن أبي نَجِيح عن مجاهد: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} قال: «كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه بعُسْفان، والمشركون بضَجْنانَ، فتوافقوا، فصلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بأصحابه صلاة الظهر ركعتين، ركوعُهم ... وقصرت صلاة العصر إلى ركعتين». كذا قال، فإن كان المراد القصر المشهور من أربع إلى اثنتين، ويكون _________ (1) (7/ 411، 412) ط. دار هجر.

(16/200)


لفظ مجاهد «الظهر أربعًا» كما شكَّ فيه أبو عاصم، فقد تقدَّم أن صلاة السفر لم تكن أربعًا قطُّ. وإن أراد قصر الخوف إلى ركعة مطلقًا، أو بالنظر إلى الجماعة والمتابعة، فكان ينبغي أن يقول في آخره: «وقصرت صلاة العصر إلى ركعة». وقد روى النسائي (1) وغيره من طريق سعيد بن عُبيد الهُنَائي ثنا عبد الله بن شَقِيق ثنا أبو هريرة قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - نازلًا بين ضَجْنانَ وعُسْفانَ، مُحاصِرًا المشركين، فقال المشركون: إنّ لهؤلاء صلاةً هي أحبُّ إليهم من أبنائهم وأبكارهم، أَجْمِعوا أمركم، ثم مِيلُوا عليهم مَيلةً واحدة، فجاء جبريل عليه السلام فأمره أن يَقْسِم أصحابَه نصفينِ، فيُصلِّي بطائفةٍ منهم، وطائفةٌ مقبلون على عدوِّهم ... فيصلِّي بهم ركعةً، ثم يتأخَّر هؤلاء، ويتقدَّم أولئك فيصلِّي بهم ركعة، تكون لهم مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ركعة ركعة، وللنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ركعتان». سعيد بن عُبَيد: قال أبو حاتم: «شيخ»، وذكره ابن حبان في «الثقات» (2)، وذلك لا يكفي في رفع جهالة حاله، مع أن هذه الصفة ــ كما يظهر ــ مخالِفة للصفة التي في حديث أبي عيّاش. وأخرج الحاكم في «المستدرك» (3) من طريق يونس بن بكير عن النضر أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «خرج رسول الله _________ (1) (3/ 174). وأخرجه أيضًا أحمد في «المسند» (10765) والترمذي (3035) وابن حبان (2872). وحسَّنه الترمذي. (2) (6/ 352). وانظر «تهذيب التهذيب» (4/ 62). (3) (3/ 30).

(16/201)


- صلى الله عليه وآله وسلم - في غزاةٍ، فلقي المشركين بعُسْفَانَ ... »، فذكر نحو ما في حديث أبي عيّاش. قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، وأقرَّه الذهبي، مع أن النضر أبا عمر وهو النضر بن عبد الرحمن الخزّاز لم يخرج له البخاري، بل هو أجمعوا على ضعفه (1). وقال ابن حجر في «الفتح» (2): وقد روى الواقدي من حديث خالد بن الوليد قال: «لما خرج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى الحديبية لقيتُه بعُسفانَ، فوقفتُ بإزائه، وتعرضتُ له، فصلَّى بأصحابه الظهر، فهَمَمْنا أن نُغِير عليهم، فلم يَعْزِم لنا، فأَطلعَ الله نبيَّه على ذلك، فصلَّى بأصحابه العصر صلاة الخوف ... » الحديث. أقول: حال الواقدي مشهور، ولكن ابن حجر استأنس به مع ما تقدم، وذلك أن ما جاء من حديث أبي عيّاش وأبي هريرة من الصلاة بعُسْفَان لم يتعين تاريخها، وقد جاء في المغازي أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أتى على عُسْفَان مرتين: مرةً في غزوة بني لِحْيان، ذكر ابن إسحاق (3) أنها كانت على رأس ستة أشهر بعد فتح بني قريظة. والثانية: في عمرة الحديبية. ولم يُذكر في شيء منهما قتال، ولا مقاربة لجيش قريش إلا ما رواه الواقدي. _________ (1) انظر «تهذيب التهذيب» (10/ 441، 442). (2) (7/ 423). (3) انظر «سيرة ابن هشام» (2/ 279).

(16/202)


نعم ذكر ابن إسحاق (1) في غزوة بني لِحْيان أن بني لحيان تحصَّنوا من المسلمين، فقال المسلمون: لو أنّا هبطنا عُسْفانَ لرأى أهلُ مكة أنّا قد جئنا مكة، فخرج ــ يعني النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ــ في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عُسْفان، ثم بعث فارسَيْنِ من أصحابه حتى بلغا كُراع الغَمِيم، ثم كرَّا، ورجع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قافلًا. فيحتمل أن قريشًا لما بلغهم خروج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه إلى بني لِحْيان، ثم نزول عسفان، خافوا ــ كما ظنَّه المسلمون ــ أن يكون قاصدًا مكة، فبعثوا خيلَهم وعليها خالد لترقب ما يفعله المسلمون، وتقاربوا ولم يكن قتال، والله أعلم بحقيقة الحال. هذا، وقد اختلف في غزوة ذات الرقاع: أهي غزوة مُحارِب خَصَفة، أم غيرها؟ فأكثر أهل المغازي على الأول، وزعم الواقدي أنها غيرها، وتبعه القطب الحلبي في «شرح السيرة»، ذكره الحافظ في «الفتح» (2). واختلف أيضًا في غزوة ذات الرقاع: فقال موسى بن عقبة: لا ندري كانت قبل بدر، أوبعدها، أو قبل أُحُد أو بعدها. قال ابن حجر (3): الذي ينبغي الجزم به أنها بعد غزوة بني قريظة؛ لأنه تقدم أن صلاة الخوف في غزوة الخندق لم تكن شُرِعتْ، وقد ثبت وقوع صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع. _________ (1) انظر «سيرة ابن هشام» (2/ 280). (2) (7/ 418). (3) في «الفتح» (7/ 417).

(16/203)


أقول: لم أجد نصًّا في أن صلاة الخوف لم تكن قد شرعت في الخندق، إلا ما جاء عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه ذكر تأخير النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الصلاة يوم الخندق، ثم قال: «وذلك قبل أن يَنزِل في القتال ما نزل» (1). وقد بيَّنه في رواية أخرى، قال: «وذلك قبل أن ينزل صلاة الخوف {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}». راجع «مسند أحمد» (3/ 25) (2). فيحتمل أنهم في الخندق لم يكونوا متمكنين من الصلاة جماعة على ما في آيات النساء: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ ... } مع ما بينه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وإنما كانوا متمكّنين من الصلاة على ما في قوله تعالى في سورة البقرة: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}، وإذا كان هكذا لم يكن في حديث أبي سعيد ولا قصة الخندق [ق 19] دليل على أن صلاة الخوف لم تكن قد شُرعتْ، وإنما في ذلك دليل على أنه لم يكن قد شُرع هذا القدر منها، وهو الذي تضمَّنه قوله تعالى: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}. والصلاة في ذات الرقاع كانت جماعة على ما بيَّن به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - آية النساء. وعلى هذا، فليس فيما ذُكِر دليلٌ على تأخر ذات الرقاع عن الخندق، وما اتصل به من أمر بني قريظة. _________ (1) أخرجه أحمد في «المسند» (11198) والنسائي (2/ 17) وابن خزيمة (996، 1703) وغيرهم. وإسناده صحيح. (2) رقم (11199).

(16/204)


وفي «الفتح» (1) أيضًا: عن ابن إسحاق وابن سعد وابن حبان أنها كانت قبل الخندق وقريظة، وأن أبا معشر يجزم بأنها كانت بعد الخندق وقريظة، وذهب البخاري إلى أنها كانت بعد خيبر، واحتج على ذلك بما صح عن أبي موسى الأشعري أنه شهد ذات الرقاع، مع أن أبا موسى إنما جاء بعد أيام خيبر (2)، وبما رواه عبد الله بن يزيد المقرئ عن حَيْوة وابن لَهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن مروان أنه سأل أبا هريرة: هل صلَّى مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صلاة الخوف؟ فقال أبو هريرة: نعم، في غزوة نجد. علَّق البخاري طرفًا منه (3) وأخرجه أبو داود في «السنن» (4)، وذكر أبو داود عقبه (5) بسند فيه مقال: عن عروة بن الزبير عن أبي هريرة قال: «خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى نجد، حتى إذا كنا بذات الرقاع ... ». وأبو هريرة إنما جاء أيام خيبر. وحكى الحافظ في «الفتح» (6) عن البيهقي وغيره: أنهم ذهبوا إلى أنها غزوتان، أطلق على كل منهما ذات الرقاع. _________ (1) (7/ 417). وانظر «سيرة ابن هشام» (2/ 203) و «الطبقات» (2/ 61) و «الثقات» (1/ 257). (2) انظر صحيح البخاري مع «الفتح» (7/ 416، 417). (3) عقب الحديث (4137). (4) رقم (1240). وأخرجه أيضًا أحمد (8260) والنسائي (3/ 173) وابن خزيمة (1361) وغيرهم. (5) رقم (1241). وأخرجه أيضًا الطحاوي في «معاني الآثار» (1/ 314) والبيهقي في «السنن الكبرى» (3/ 264). (6) (7/ 417). وانظر «دلائل النبوة» (3/ 372).

(16/205)


أقول: وما وقع في رواية قتادة عن سليمان بن قيس عن جابر: «انطلقنا نتلقَّى عِيرَ قريش آتيةً من الشام» (1) ظاهرٌ في تقدُّم ذلك على خيبر، بل وعلى الحديبية، وهي قبله، وذلك أنهم إنما يتلقَّون عِيرَ قريش إذا لم يكن بينهم موادعة، وقد وادعهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الحديبية، واستمرَّ ذلك حتى غَدَرتْ قريش بإعانة بني بكر على خزاعة، فغزاهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وافتتح مكة. هذا، وقد يُتوهَّم من قوله في رواية قتادة عن سليمان «نتلقَّى عِيرَ قريش آتيةً من الشام» أن هذا في غزوة بدر، وليس كذلك، بل هذه عِيرٌ أخرى. هذا، ومقتضى ما أطلق عليه أكثر أهل المغازي من أن ذات الرقاع، أو غزوة محارب وثعلبة بنَخْلٍ، كانت قبل الخندق وقريظة، فهي قبل غزوة بني لِحْيان، وقبل الحديبية فتكون الصلاة فيها قبل الصلاة بعُسْفان، وقد يجوز أن يكون أبو عيَّاش لما ذكر شأن عُسْفان إنما ذكر نزول جبريل ينذر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بما همَّ به المشركون، فتوهم بعضهم أنه نزل بالآيات في صلاة الخوف. وبالجملة، فلم يتضح أيهما السابق، غزوة محارب وثعلبة أم عُسْفان؟ والله أعلم. * * * * _________ (1) سبق ذكرها وتخريجها.

(16/206)


الدليل الثالث قال الإمام أحمد في «المسند» (5/ 39) (1): ثنا يحيى عن أشعث عن الحسن عن أبي بكرة: «أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صلَّى بهؤلاء الركعتين، وبهؤلاء الركعتين». وقال النسائي في السنن (2): أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال: حدثنا الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه صلَّى صلاة الخوف بالذين خلْفَه ركعتين، والذين جاءوا بعدُ ركعتين، فكانت للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أربعَ ركعاتٍ ولهؤلاء ركعتين ركعتين. وقال الإمام أحمد (5/ 49) (3): ثنا رَوح ثنا أشعث عن الحسن عن أبي بكرة قال: «صلَّى بنا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صلاةَ الخوف، فصلّى ببعض أصحابه ركعتين ثم سلَّم، فتأخَّروا، وجاء آخرون فكانوا في مكانهم، فصلَّى بهم ركعتين ثم سلَّم، فصار للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أربعُ ركعات، وللقومِ ركعتان ركعتان». وقال النسائي (4): أخبرنا محمد بن عبد الأعلى وإسماعيل بن مسعود واللفظ له، قالا: حدثنا خالد عن أشعث عن الحسن عن أبي بكرة: «أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صلَّى بالقوم في الخوف ركعتين ثم سلَّم، ثم صلَّى بالقوم الآخرين ركعتين ثم سلَّم، فصلَّى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أربعًا». _________ (1) رقم (20408). (2) (3/ 179). (3) رقم (20497). (4) (3/ 178).

(16/207)


وقال أبو داود في «السنن» (1): حدثنا عبيد الله بن معاذ نا أبي نا الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة قال: «صلَّى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في خوف الظهر، فصفَّ بعضُهم خلفه، وبعضُهم بإزاء العدوّ، فصلَّى ركعتين ثم سلّم، فانطلق الذين صلَّوا معه فوقفوا موقفَ أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلَّوا خلفه، فصلَّى [بهم] ركعتين ثم سلَّم، فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أربعًا، ولأصحابه ركعتين ركعتين». وبذلك كان يُفتي الحسن. قال أبو داود: وكذلك في المغرب، يكون للإمام ستّ ركعات، وللقوم ثلاث ثلاث. قال أبو داود (2): وكذلك رواه يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكذلك قال سليمان اليشكري عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وذكر البيهقي في «السنن» (3) رواية قتادة ويونس عن الحسن عن جابر، وقد تقدمت في الدليل الثاني، ثم قال: وخالفهما أشعث فرواه عن الحسن عن أبي بكرة، ووافقه على ذلك أبو حُرَّة الرقاشي. ثم ساقه من طريق سعيد بن عامر عن الأشعث، وفيه: «صلَّى ببعضهم ركعتين ثم سلَّم، فتأخَّروا، وجاء الآخرون فصلَّى بهم ركعتين ثم سلم ... ». ثم ذكر (4) رواية أبي داود، وقال في زيادة «وكذلك في المغرب»: _________ (1) رقم (1248). (2) عقب الحديث المذكور. (3) (3/ 259). (4) (3/ 260).

(16/208)


وجدتُه في كتابي موصولًا بالحديث، وكأنه من قول الأشعث، وهو في بعض النسخ: «قال أبو داود: وكذلك في المغرب». وقد رواه بعض الناس عن أشعث في المغرب مرفوعًا، ولا أظنُّه إلا واهمًا في ذلك. ثم ذكر (1) رواية المغرب: أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ [هو الحاكم] أخبرني أبو علي الحسين بن علي الحافظ أبنا عبدان الأهوازي ثنا محمد بن معمر القيسي ثنا عمرو بن خليفة البكراوي ثنا أشعث بن عبد الملك الحُمْراني عن الحسن عن أبي بكرة: «أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صلَّى بالقوم في الخوف صلاةَ المغرب ثلاث ركعاتٍ ثم انصرف، وجاء الآخرون فصلَّى بهم ثلاثَ ركعات». أقول: وحديث المغرب أخرجه شيخه الحاكم بهذا السند في «المستدرك» (1/ 337) وقال: سمعتُ أبا علي الحافظ يقول: هذا حديث غريب ... قال الحاكم: وإنه صحيح على شرط الشيخين، وفي «تلخيص» الذهبي: على شرطهما وهو غريب. وأخرجه الدارقطني في «سننه» (ص 187) (2): حدثنا علي بن إبراهيم النجار ثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة حدثنا محمد بن معمر ... ولعمرو بن خليفة ترجمة في «الميزان» (3)، وفيها: ربما كان في روايته _________ (1) (3/ 260). وما بين المعكوفتين من المؤلف. (2) (2/ 61). (3) لم أجد ترجمته فيه، ولعل المؤلف اعتمد على ما في «لسان الميزان» (6/ 205) وتعقيب الحافظ عليه بقوله: «قلت». فاعتبر الكلام السابق من «الميزان».

(16/209)


بعض المناكير، ذكره ابن حبان في «الثقات» (1). زاد ابن حجر في «لسان الميزان» (4/ 363) (2): قلت: هو البكراوي، روى عنه أيضًا محمد بن مَعْمر القيسي، وأخرج له ابن خزيمة في «صحيحه» (3). [ق 20] أقول: أما مخالفة أشعث وأبي حُرَّة ليونس وقتادة: فلا أراها مما يضر؛ لأن الحسن إمام واسع الرواية، لا ينكر له أن يكون عنده الحديث من وجهين وأكثر. وأما قول البيهقي فيمن روى عن الأشعث في المغرب: «ولا أراه إلا واهمًا» ظنٌّ منه، وقد خالفه غيره فصحَّحه، واحتمال الوهم لا أراه قويًّا. بقي أن الحسن وصفه النسائي وغيره بالتدليس، ولم يُصرِّح بسماعه من أبي بكرة، إلا أن الذي يظهر من كلام ابن المديني والبخاري في شأن أحاديث الحسن عن سمرة أنه إذا ثبت سماع الحسن من رجل ــ ولو مرةً ــ كان حديثه كلُّه عن ذلك الرجل صحيحًا، فلا أدري أذهبا إلى أنه إنما يُدلِّس عمن لم يسمع منه، أم إلى أنه إذا دلَّس عمَّن قد سمع منه لا يصنع ذلك إلا فيما سمعه من ثقةٍ متفقٍ عليه، كما قيل في ابن عيينة؟ والله أعلم. تنبيه: ما وقع في رواية أحمد (4) عن رَوْح: «عن أبي بكرةَ قال: صلَّى بنا _________ (1) (7/ 229). (2) (6/ 205) ط. مكتب المطبوعات الإسلامية. (3) انظر رقم (1368). (4) رقم (20497).

(16/210)


النبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - ... » يقتضي أن أبا بكرة شهد القصّةَ، وعليه فتكون غيرَ القصّةِ التي في حديث جابر قطعًا؛ لأن أبا بكرة إسلامه متأخر، ولكن أخشى أن يكون رَوْح وَهِم في ذلك، وأن يكون أبو بكرة إنما سمع هذا من بعض من تقدَّمه من الصحابة. وكلام الحافظ في «الفتح» (1) في غزوة ذات الرقاع يُوهِم أن حديث أبي بكرة في «سنن» أبي داود والنسائي يصرح فيه بشهوده القصة، وليس الأمر كذلك. والله المستعان. _________ (1) (7/ 424).

(16/211)


أجوبة المانعين منها: أنه يحتمل في هذه الوقائع أن تكون لما كانت الفريضة تُصلَّى مرتين، وقد نُسِخ ذلك. ورُدَّ بأنه إن كان المراد أن الفريضة كانت تصلَّى مرتين فرضًا، بمعنى أنه كان فرضًا على المسلم أن يُصلِّيها مرتين، فهذا لم يكن قطُّ، ونفيه معلوم. وإن أريد أنه كان يجوز إعادتها مرةً ثانية، فذاك الجواز باقٍ اتفاقًا في الجملة، وإنما الخلاف في بعض صوره، وقد تقدمت أدلته. وعلى هذا، يكون المجيب معترفًا بإمامة المتنفل للمفترض، ومدعيًا النسخ، فيُطالَب بالناسخ. فأما حديث: «لا تُصلُّوا صلاةً في يومٍ مرتين» والنهي عن الإعادة مرتين، فقد تقدم الكلام عليهما. ومنها: في خصوص قصة معاذ، أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يعلم بذلك. ويُرَدُّ بأننا ذهبنا مذهب جابر في قوله: «كنا نَعْزِل والقرآنُ يَنزِل» (1)، كفانا ذلك في ردِّ جوابكم. وتقريرُ هذا المذهب: أنه كما أن تقرير النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يدلُّ على الجواز، فأولى منه تقرير الله عزَّ وجلَّ في وقت وجود الواسطة لتبليغ أحكامه بينه وبين عباده، وهو الرسول، وقد صحّ أن الصحابة كانوا مكروهًا لهم سؤالُ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وذلك يدلّ على أنه كان لهم أن يتمسّكوا _________ (1) أخرجه البخاري (5208) ومسلم (1440).

(16/212)


بالأصل والظاهر ونحو ذلك، ويعملوا بما ظهر لهم حتى يجيئهم من الشارع ما يخالف ذلك، وهذا يُشعر بأن الشارع إنما أذن بذلك؛ لأن الله عزَّ وجلَّ رقيبٌ عليهم، فإذا علم منهم خطأً في الدين بيّنه لهم على لسان رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فأما إن وقعت من بعضهم معصية يعلم أنها معصية، وأن الله عزَّ وجلَّ يستره ولا يفضحه، وإنما يُنبِّه على ما يتعلق بالأحكام. وإن لم يُسَلَّم هذا المذهب، فإننا نُثبِت عِلْمَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صُنْعَ معاذٍ: أولًا: لأنه أعلمُ بالله [من] أن يُقدِم على ما لا يثق بصحته، وقد أثنى عليه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بأنه أعلم الأمة بالحلال والحرام (1)، وأنه يأتي يوم القيامة أمامَ العلماء [برَتْوةٍ] (2)، وهو الذي بيَّن للأمة متابعةَ الإمام، إذ كانوا أولًا إذا جاء الرجل الجماعة، فوجدهم يصلُّون وراء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سأل [فيُشير] إليه أحدهم أنه قد سُبِق بكذا، فيبدأ فيصلّي ما سُبِق به لنفسه حتى يدرك الإمام فيما هو فيه فيوافقه، فجاء معاذ فقال: لا أجدُه على حالٍ إلا كنتُ عليها، فوافق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما هو فيه، فلما سلّم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قام معاذ فأتمَّ ما سُبِق به، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إن معاذًا قد سَنَّ لكم، فهكذا فاصنعوا» (3) أو كما قال. فكيف يُظَنُّ به _________ (1) أخرجه الترمذي (3793، 3794) وابن ماجه (154) من حديث أنس بن مالك، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (2) الرتوة: رمية السهم. والحديث أخرجه الطبراني في «الكبير» (20/رقم 41) وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 229) من حديث محمد بن كعب القرظي مرفوعًا. وله طرق أخرى، انظر التعليق على «المسند» (108). (3) أخرجه أحمد (22124) وأبو داود (506، 507) والحاكم في «المستدرك» (2/ 274) وغيرهم من حديث معاذ، ورجاله ثقات، إلا أن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ، فهو منقطع.

(16/213)


وبقومه ــ وفيهم كما في «الفتح» (1) عن ابن حزم ثلاثون عَقَبيًّا، وأربعون بدريًّا ــ أن يُقدِموا على ما لا يثقون بصحته، بدون ضرورة تُلجِئهم إلى ذلك. وثانيًا: صنيعُه ذلك كان ظاهرًا مكشوفًا، كان يصلّي مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم يصلِّي بعشيرته، وهم كثير، وكان يصلّي معهم من يمرُّ على مسجدهم من غيرهم، كما في قصة حرام. ولم يكن بينهم وبين المسجد النبوي إلا نحو ميل، ولا يمرُّ عليهم يوم إلا ويجتمع فيه جماعة منهم بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكان - صلى الله عليه وآله وسلم - كثيرَ التفقُّد للأنصار، ولاسيّما في أمر دينهم، والظاهر أنهم لم يكونوا [يقررون] إمامًا في مسجد من مساجدهم إلا بإذن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. هب أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يعلم بذلك تلك المدة التي كان معاذ يصلّي فيها معه - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم يصلي بهم قبل أن يَشْكُوه سُلَيم أو حرام، أو كلاهما، فقد علم - صلى الله عليه وآله وسلم - عند الشكوى، فلم ينكر ذلك عليهم، وإنما أنكر تأخير معاذ وتطويله، فلم ينكر عليهم صنيعهم فيما سبق، ولا بيَّن لهم أنه لا يجوز، ولا نهاهم عن مثله. فإن قيل: فقد جاء في رواية معاذ بن رِفاعة: «يا معاذ بن جبل، لا تكن فتانًا، إما أن تصلِّي معي، وإما أن تُخفِّف على قومك» (2). قلت: تلك الرواية مرسلة، ولم تأت هذه الزيادة في شيء من الروايات الموصولة حتى الرواية التي يُشبِه سياقُها سياقَ هذه المرسلة، وهي رواية _________ (1) (2/ 196). وانظر «المحلَّى» (4/ 234). (2) سبق تخريجها.

(16/214)


عبيد الله بن مِقْسَم. وهبْ تلك الزيادة: «إما أن تُصلِّي معي، وإما أن تُخفِّف على قومك» صحَّت، فدونك تحقيق معناها: حكى ابن حجر في «الفتح» (1) عن الطحاوي أنه قال: معناها: إما أن تصلِّي معي، ولا تصلِّ بقومك، وإما أن تُخفِّف بقومك، ولا تُصلِّ معي. ثم قال ابن حجر: لمُخالفِه أن يقول: بل التقدير: إما أن تُصلِّي معي فقط إذا لم تُخفِّف، وإما أن تُخفِّف بقومك فتصلِّي معي، وهو أولى من تقديره؛ لما فيه من مقابلة التخفيف بترك التخفيف، لأنه هو المسؤول عنه المتنازَع فيه. وقال العلامة الجليل شَبِّير أحمد العثماني الحنفي في «شرحه لصحيح مسلم» (2): الظاهر من مجموع الروايات أنهم يَشْكُون تأخير معاذ في مجيئه إلى الصلاة؛ لصلاته مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، حتى كان ينام القوم، ويشقّ عليهم الانتظار، ثم قراءته السورَ الطويلة، وهذا صريح في سياق أحمد (يعني في المرسل المذكور)، وفي بعض روايات حديث الباب: فقال الرجل: يا رسول الله، إنك أخَّرتَ العشاء، وإن معاذًا صلَّى معك ثم أمَّنا، وافتتح سورة البقرة (أقول: وقد مر نحوه في رواية ابن عيينة) ... ففيه كما ترى شكاية التأخير، ثم التطويل، فأرشد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - معاذًا إلى إزالة شكواهم بأن يكتفي بأداء صلاته مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ويترك الإمامة، أو بأن يخفِّف على قومه ... وفي _________ (1) (2/ 197). وقول الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 410). (2) «فتح الملهم» (3/ 431 - 432) ط دار إحياء التراث العربي.

(16/215)


رواية للبزار «لا تكن فتّانًا تَفْتِن الناس، ارجِعْ إليهم فصَلِّ بهم قبل أن يناموا ... ». [ق 21] أقول: هذا تحقيق جيد، ومن الواضح جدًّا أن قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - لمعاذ: «لا تكن فتّانًا» إنما معناه: لا تكن سببًا لافتتان بعضهم بتشديدك عليهم، فكأنه قال: لا تُشدِّد عليهم. وإن قوله عقب هذه الجملة: «إما أن تصلّي معي، وإما أن تُخفِّف على قومك» إنما هو بيان لقوله: «لا تكن فتّانًا» أو استئناف بياني، كأنه لما قال لمعاذ: «لا تكن فتّانًا» قال معاذ: كيف أصنع؟ فقال: إما .... وهذا واضح جدًّا بدلالة المقام، وبعدم الإتيان بالواو بين الجملتين. إذا تحرَّر هذا، فقوله: «إما أن تُصلِّي معي، وإما أن تُخفِّف على قومك» إنما هي إرشاد إلى ترك التشديد الذي هو مَظِنّة الفتنة، كما قال العثماني نفع الله به: إرشاد إلى إزالة شكواهم. ثم هاهنا احتمالان: الأول: أن يكون مراد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - النهي عن التأخير وعن التطويل، حتى كأنه قال: لا تُؤخِّر ولا تُطوِّل، أو عجلِّ وخفِّف. وعليه، فالظاهر أن يتضمّن قوله: «إما أن تُصلِّي معي، وإما أن تُخفِّف على قومك» النهيَ عن كلٍّ من الأمرين. وقد تبين من الروايات الصحيحة ــ كما ذكره العثماني ــ أن التأخير إنما كان يقع بسبب أن معاذًا كان يبدأ فيصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فحينئذٍ لابدّ أن تتضمّن الجملة تخييرَ معاذ بين أن يترك الصلاة بهم ليقدموا غيره ممن لا

(16/216)


يصلّي مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فيعجِّل بهم؛ لأنه لا يحتاج إلى التأخير؛ لعدم صلاته مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، أو يترك معاذ الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيعجِّل بهم، لعدم احتياجه إلى التأخير. فإذا قلنا: إن الجملة المذكورة تتضمن النهي عن الجمع بين الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والصلاة بالقوم، فقد اتضح أن علة هذا النهي هي لزوم التأخير الذي شكاه القوم، وفيه تشديدٌ عليهم يُخشَى منه افتتانُ بعضهم. والحاصل: أنه على هذا الاحتمال يكون تقدير الطحاوي صحيحًا في الجملة، ولكن علة المنع إنما هي استلزام التأخير كما هو واضح من دلالة المقام والسياق. وعلى هذا، فلو فُرِض أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عجَّل العشاء في بعض الأيام بحيث لو صلَّى معاذ معه، ثم عاد إلى قومه معاذٌ في وقت لا يكون فيه تأخير يشقُّ عليهم، أو رَضُوا كلُّهم بالتأخير وأحبُّوه، أكان لهم أن يؤمَّهم معاذ بعد أن صلى مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ وذلك أنهم يقولون: إنما نهى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لمعنًى هو الآن منتفٍ، وهو التأخير الذي يُخشَى منه الفتنة. وعلى هذا، فليس في الجملة المذكورة إنكاره لعلة أخرى، وإذًا فليس فيها إنكار لائتمام المفترض بالمتنفل، وإذًا فسكوته - صلى الله عليه وآله وسلم - عن التعرض لذلك بعد علمه بصنيعهم تقريرٌ على صحة ذلك، وهو المطلوب. وذكر بعض أئمة الحنفية في الهند (1): أن الجملة المذكورة شبيهة بقوله _________ (1) هو الشيخ أنور شاه الكشميري (ت 1352) في كتابه «فيض الباري على صحيح البخاري» (2/ 228).

(16/217)


تعالى حكايةً عن المشركين: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ}، حيث قُوبل في الآية الافتراء بالجنون، لما أن من لازم الجنون عدم الافتراء، فكأنه قيل: أافترى أم لم يفترِ، فكذلك قُوبل في الحديث صلاة معاذ معه - صلى الله عليه وآله وسلم - بتخفيفه لقومه، كما أن تخفيفه بهم يتوقف على صلاته بهم، وصلاته بهم تستلزم عدمَ صلاته مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فكأنه قيل: إما أن تُصلِّي معي، وإما أن لا تُصلِّي معي. وأقول: لا بأس بهذا، وإنما الشأن في وجه الاستلزام، فاستلزام الجنون لعدم الافتراء واضح معلوم للمخاطب، وكذلك استلزام صلاة معاذ بقومه لعدم صلاته مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من حيثُ إن المطلوب أن يصلّي بهم معجّلًا، لما عُلِم من المقام والسياق من النهي عن التأخير، لما فيه من التشديد الذي يُخشى منه الفتنة. هذا هو الذي يفهمه القوم، ويقتضيه المقام والسياق وعدمِ الإتيان بالواو بين الجملتين، كما مرَّ. فإن زعم زاعم أن للاستلزام وجهًا آخر فهو باطل، إذ لم يكن القوم يعرفونه، ولا في المقام والسياق ما يدل عليه. الاحتمال الثاني: أن يكون مراده - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما هو النهي عن الجمع بين التأخير والتطويل. وعليه، فالتقدير كما قال ابن حجر، وقد يؤيده أن التأخير إنما شقَّ عليهم تلك الليلة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أخَّر العشاء فوق العادة، فتأخّر معاذ (1) فوق ما _________ (1) في الأصل: «بلال»، سبق قلم.

(16/218)


كان يتأخّر تلك الليلةَ، وهذا بيِّنٌ في الروايات المفصّلة الصحيحة، كرواية ابن عيينة: «وقال الرجل: يا رسول الله، إنك أخَّرتَ العشاء ... ». ومما يوضِّح هذا أن الروايات المفصّلة الصحيحة مقتصرة على [النهي] عن التطويل، وذلك يدلّ أنه هو الذي استوعب الحال. فأما الزيادة التي نقلها العثماني: «ارجعْ إليهم قبل أن يناموا» فهي تدلّ على تقرير النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لهم، وأن يأتمُّوا بمعاذ بعد أن يصلِّي معه - صلى الله عليه وآله وسلم -. وبيان ذلك: أن عادة بني سلمة كانت أن الأقوياء منهم يأتون إلى مسجد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فيصلُّون معه المغرب، ثم يرجعون إلى بيوتهم فيصلُّون، والرامي يرى موقعَ سهمه، كما يأتي عن جابر، ثم إذا جاء وقت العشاء أتوا المسجدَ النبوي وصلَّوا العشاء مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم يرجعون إلى بيوتهم، ومنهم معاذ، غير أنه انفرد بأنه كان إذا رجع إلى قومه صلَّى بالمتأخرين منهم، فإذا رجع عقب المغرب صلَّى بهم المغرب كما في حديث الترمذي، وقد تقدم، وإذا رجع عقب العشاء صلى بهم العشاء كما في حديث «الصحيحين» وغيرهما، فكان له في المغرب والعشاء مجيئان ورجوعان، ولا يحسن حمل الرجوع في قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ارجِعْ إليهم قبل أن يناموا» على الأول؛ لأن الحمل عليه يُحوِج إلى تقدير، والأصل عدمه، ولأن المتبادر إنما هو الرجوع الثاني؛ لأنه هو الذي شَكَوا من تأخُّره حتى يناموا. إذا تقرر هذا، فمعنى هذه الزيادة ــ والله أعلم ــ هكذا: إذا جئتَ لتصلِّي العشاء معي فانظر، فإن وجدتَني عجَّلتُها فصلِّ معي، ثم ارجِعْ إليهم قبل أن يناموا، وإن وجدتَني أخَّرتُها فلا تنتظرْني، وارجِعْ إليهم قبل أن يناموا.

(16/219)


وفي هذه مراعاة لرغبة معاذ ورغبة قومه؛ لأن معاذًا كان يرغب في أن يصلّي مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقومه ــ وإن شكا بعضُهم من تشديده ــ راغبون في أن يُصلِّي هو بهم، إذْ لم يكن فيهم أعلم ولا أفضل ولا أحبّ إليهم منه. [ق 22] ومن أجوبتهم الخاصة بقصة معاذ أيضًا: أنه يحتمل أن يكون معاذ كان يُصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على أنها نافلة له، ثم يُصلِّي بقومه على أنها فريضته. ورُدَّ بأن هذا خلاف الظاهر، بل الظاهر من حال مَن يعلم أن عليه فريضة يجب عليه أداؤها أنها إذا حضرتْ فصلّاها، إنما يَقصِد أداءها، ويتأكد ذلك بعدم الوقوف، أو من المحتمل أن يموت أو يعرض له عارض. وقال بعض الشافعية: لا يُظَنُّ بمعاذٍ أن يترك فضيلة الفرض خلف أفضل الأئمة في المسجد الذي هو من أفضل المساجد. حكاه ابن حجر في «الفتح» (1) ثم قال: للمخالف أن يقول: إذا كان ذلك بأمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يمتنع أن يحصل له الفضل بالاتباع. أقول: الأصل عدم الأمر، وإنما دلَّت الظواهر على إذنه - صلى الله عليه وآله وسلم - لهم أن يُصلِّي معاذ معه، ثم يؤمَّهم. فإن ادَّعَى مدّعٍ أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أمر معاذًا أن ينوي بصلاته معه نافلة، وبصلاته بقومه الفرض، فعليه البيان، والأصل عدم ذلك. وفوق هذا، فقد جاء في رواية ابن جريج عن عمرو عن جابر: «هي له تطوع، ولهم المكتوبة» وقد تقدم الكلام مع من زعم أنها مدرجة. _________ (1) (2/ 196).

(16/220)


فأما من قال: «ذاك ظنٌّ من جابر فلا حجة فيه» (1)، فقد دفعه ابن حجر في «الفتح» (2) بقوله: « ... مردود؛ لأن جابرًا كان ممن يصلّي مع معاذ، فهو محمول على أنه سمع ذلك منه، ولا يُظَنُّ بجابر أنه يخبر عن شخصٍ بأمر غير مشاهد، إلا بأن يكون ذلك الشخص أَطْلَعَه عليه». أقول: في هذا نظر، فقد يجوز أن يكون جابر بنى على الظاهر، نعم، إذا كان هذا هو الظاهر عند جابر، وكان ممن يصلِّي مع معاذ، ففي ذلك دليل على أنه لم يكن عند القوم خبر بما يخالف ذلك، وهذا يدلُّ على أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما أذِنَ لهم أن يصلِّي بهم معاذٌ بعد أن يُصلِّي به، لم يأمر معاذًا بأن ينوي بالأولى النافلة، وبالثانية الفريضة؛ إذ لو أمره بذلك لأخبر قومه؛ ليعرفوا الحكم، ولئلا تكون صلاتهم مختلة، فإن الحنفية لا يجيزون صلاة المقتدي إذا كان يرى أن إمامه قد أدّى تلك الصلاة، وإنما يُعيدها نافلةً. ومن أجوبتهم: دعوى النسخ، واستدلُّوا على النسخ بقوله في تلك الرواية: «إما أن تُصلِّي معي، وإما أن تُخفِّف على قومك»، وقد تقدم الكلام عليه. واستدلُّوا أيضًا بحديث ابن عمر: «لا تُصلُّوا صلاةً في يوم مرتين» وقد تقدم الكلام عليه. واستدلُّوا بحديث: «الإمام ضامنٌ»، وحديث: «إنما جُعِل الإمام ليُؤتَمَّ به». وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى. _________ (1) قاله الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 409). (2) (2/ 196).

(16/221)


فصل أجاب بعض أئمة الحنفية في الهند (1) عن حديث معاذ: بأن أصل القصة إنما هي أن معاذًا كان يُصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - المغرب، ثم يرجع إلى قومه، فيؤمُّهم في العشاء والصبح، فإن في حديث الترمذي (2): «أن معاذ بن جبل كان يُصلِّي مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - المغربَ، ثم يرجع إلى قومه، فيؤمُّهم». وفي «الصحيحين» (3): «كان معاذ بن جبل يُصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم يرجع فيؤمُّ قومَه، فصلَّى بهم العشاء، فقرأ بالبقرة». وفي موضع في رواية الترمذي اختصار فلم يذكر العشاء، وفي حديث الصحيح اختصار فلم يذكر المغرب، فلما تعدّد اللفظ منهما تصرَّف فيه الرواة على حسب ظنونهم. أقول: قد تقدَّم الكلام على حديث الترمذي، ويكفيك أن تراجع الروايات، وتتدبَّرها، لتعلم حال هذا الجواب. والله المستعان. وأجاب هذا الإمام (4) عن حديث صلاة الخوف أن الصلاة التي قيل في حكايتها إنه صلَّى بطائفةٍ ركعتين، ثم صلَّى بطائفة ركعتين، فكان له أربع ركعات، ولكل طائفة ركعتان، ووقع في بعض الروايات زيادة «ثم سلم»، إنما المراد بها الصفة التي رواها صالح بن خوّات عمن شهد ذات الرقاع، أنه _________ (1) هو الشيخ أنور شاه الكشميري في «فيض الباري» (2/ 229 - 230). (2) رقم (583). (3) البخاري (701) ومسلم (465). (4) «فيض الباري» (3/ 247).

(16/222)


صلَّى بطائفةٍ ركعةً ثم ثبت قائمًا، وأتمُّوا لأنفسهم وذهبوا، وجاءت الطائفة الأخرى فصلَّى بهم ركعةً، وثبتَ جالسًا حتى أتمُّوا لأنفسهم، ثم سلَّم. وإنما تجوَّز الراوي فاعتبرَ ثباتَ الإمام قائمًا حتى صلَّت الطائفة الأولى ركعتها الثانية، ركعةً تابعة له أي الإمام، وكذلك اعتبر ثباته جالسًا حتى صلت الطائفة الثانية ركعتها ركعة أخرى له. فالحاصل: أن الإمام صلّى بالطائفة الأولى ركعة على الحقيقة، وانتظرها حتى صلَّت ركعة أخرى، فكان كأنه صلَّى ركعة أخرى، فتكون له ركعتان بهذا التجوُّز. ثم صلَّى بالطائفة الثانية ركعةً على الحقيقة، ثم انتظرها حتى صلَّت ركعة أخرى، فكان كأنه صلَّى ركعة أخرى. وأما زيادة «ثم سلَّم» في الوسط فتجوُّزٌ أيضًا، والمعنى أن الطائفة الأولى سلَّمت لأنفسها، فأضيف ذاك السلام إلى الإمام. أقول: لا يخفى ما في هذا التأويل من البعد، مع أنه لا مُلْجِئَ إليه؛ لأن الرباعية تتكرَّر في اليوم ثلاث مرات، وقد يُحتاج في الغزوة الواحدة إلى صلاة الخوف في يومين وأكثر. والظاهر أن الصلاة التي صلّاها بنخلٍ ركعتين ثم ركعتين هي الظهر كما في رواية الشافعي وغيرها، وأن الصلاة التي صلّاها كما في رواية صالح بن خوّات عمن شهد هي العصر، وقد جاء مثلها عن جابر كما تقدم، ورواية قتادة عن سليمان بن قيس تُؤيِّد ذلك، وقد تقدَّم البحث فيها. وهبْ أنه لا دليلَ على هذا، فهو على الأقلّ محتملٌ احتمالًا ظاهرًا، وإذا كان كذلك فلا مُلجِئَ إلى ما ادّعاه هذا الإمام من حمْلِ الكلام على التعمية والإلغاز. والله الموفق.

(16/223)


وقد يجاب: بأن في رواية قتادة عن سليمان بن قيس أن تلك الصلاة كانت قبل نزول آية النساء في صلاة الخوف، وأن الآية نزلت بعدها، وعلى هذا فهذه الصفة منسوخة. أقول: قد تقدَّم الكلام على رواية قتادة عن سليمان، وأن قتادة مدلِّس، فيجوز أن يروي عن سليمان ما سمعه من غيره مما ليس في الصحيفة، وعلى فرض أنه إنما يروي عنه من تلك الصحيفة، ففي جواز الاحتجاج بما في الصحيفة وحده نظر، مع أن اعتماد جماعة من الأكابر عليها يُقوِّي شأنها، ولكن الذي يظهر من اعتمادهم عليها إنما هو في الرواية، ولم يتبين اعتمادهم عليها في الاحتجاج. فأما فتوى الحسن بصلاة الخوف مرتين بكل طائفة مرة، فلعله إنما اعتمد في ذلك على روايته عن أبي بكرة، ولعل روايته عن جابر لم تكن عن الصحيفة، بل عن طريق غيرها، كما يظهر من زيادته في روايته: «ثم سلَّم»، وليس ذلك في رواية أبي بشر وقتادة، حتى إن قتادة لما أراد [أن] يروي بزيادة «ثم سلَّم» رواه عن الحسن عن جابر، كما مر. وقد تقدم أن رواية مجاهد عن أبي عيّاش الزُّرَقي معارضة لرواية قتادة عن سليمان في تاريخ نزول الآية، وإن لم يتضح التاريخ، وأن البخاري رجَّح تأخُّر غزوة ذات الرقاع، فتكون على هذا قصة جابر متأخرةً عن قصة أبي عيّاش، وكذلك رواية أبي بكرة، إن صحّ ما في بعض الروايات أنه شهد تلك الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فهي متأخرة عن نزول الآية [ق 23] حتمًا، وإلا فالأمر محتمل.

(16/224)


فإن قيل: مما يدلّ على تقدُّمِ هذه الصلاة على نزول الآية أنها مخالفة لظاهر الآية، فإن في الآية: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102]. فظاهر قوله: {فَإِذَا سَجَدُوا} الأمرُ بتأخُّرهم عقب الركعة الأولى. قلت: قد يحتمل أن يكون صالحًا للسجود في الأولى، والسجود في الثانية، فيكون ذلك صالحًا لهذه الصفة التي فيها أنه يُصلِّي بكل طائفة مرةً. وعلى فرض أنه صالح لها، فقد تقدم أن الصفة التي فيها صلاة الإمام بكل طائفةٍ ركعة هي من القصر الذي أباحه الله عز وجل أول هذه الآية، إذ قال سبحانه: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]. فقوله بعد ذلك: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} إنما هو بيان لذلك القصر الذي أباحه، أو لبعض أنواعه، وإذا كان كذلك فليس الأمر لإيجاب هذه الصفة بعينها، لما علمتَ أنها بيان للمباح، بدليل اقتصاره على نفي الجناح. ومما يدل على هذا أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد صلَّى بعد نزول الآية صلاة الخوف بأوجهٍ أخرى، منها ما يخالف ظاهر الآية. فبان بهذا أن تلك الصلاة التي فيها أنه صلَّى بهؤلاء مرةً، وبهؤلاء مرةً، أن فرض تقدمها على نزول الآية، فليس في الآية ولا في صلاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعض الأحيان بحسب ظاهر الآية ما يوجب نسخَ الصفة السابقة، فتدبر! والله الموفق.

(16/225)


فصل أجود ما رأيته للمانعين ما قاله العلامة الجليل شبِّير أحمد العثماني الحنفي في «شرحه لصحيح مسلم» فإنه ذكر ما يحتجُّ به أصحابه من حديث «الإمام ضامن» (1) وحديث «إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به» (2) وقوله: «فلا تختلفوا عليه» (3)، ثم قال: ولا يخفى على المنصف الممعن أن مسألة الائتمام ــ أي متابعة المأموم للإمام ــ إنما كملت على لسان الشارع شيئًا فشيئًا ... ثم استشهد بقضية القراءة: أي أنهم كانوا أولًا يقرؤون خلف الإمام، ثم أُمِروا بالاكتفاء بقراءته، وأنها تكون لهم قراءة. وبقصة معاذ: إذ كانوا أولًا يجيء المسبوق، فيبدأ بصلاة ما سبُق به لنفسه، ثم يدخل مع الإمام فيما هو فيه، فخالفهم معاذ، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إن معاذًا قد سنَّ لكم». ثم قال: فينبغي أن يُحمَل كل ما جاء في الأحاديث مما ينافي مقتضى هذا الائتمام ولم يُعلَم تاريخه، على ما قبل أوامر الائتمام ونواهي الاختلاف. أقول: أما القراءة فلسنا نوافقه على مذهبه فيها، غاية الأمر أن بعض _________ (1) أخرجه أحمد (7818) والترمذي (207) وابن خزيمة (1528) وغيرهم من حديث أبي هريرة، وإسناده صحيح. (2) أخرجه البخاري (722) ومسلم (414) من حديث أبي هريرة، وفي الباب عن أنس وعائشة وغيرهما. (3) ضمن الحديث السابق.

(16/226)


الصحابة كان يقرأ زيادة على الفاتحة خلف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -[ ... ] فنهاهم، ولم يكن ذلك مشروعًا ثم نُسخ. وأما قصة معاذ: فأخرجها أبو داود وغيره (1)، وفيها كلام. وعلى كل حال، فينبغي أن نتدبَّر ما أشار إليه العثماني من الأوامر والنواهي، فإذا كانت دلالتها واضحةً على المنع من اقتداء المفترض بالمتنفل، بحيث لا يمكن الجمع بينها وبين أدلة المجيزين إلا بنسخ أحد [القبيلين] للآخر، فدلائل المنع أولى بأن تكون الناسخة. والله أعلم. ومما احتجوا به حديث: «الإمام ضامن». قالوا: وصلاة المأموم لا تكون في ذمة الإمام، فتعين أن يكون «ضامن» بمعنى متضمن، أي محتوٍ مشتمل، كما قال الشاعر (2): بالباعثِ الوارثِ الأمواتِ قد ضَمِنَتْ ... إيّاهم الأرضُ في دهرِ الدَّهارير فالمعنى أن صلاة الإمام متضمنة لصلاة المأموم بأن تكون صلاة المأموم في ضمن صلاة الإمام. قالوا: والشيء لا يتضمّن ما فوقه، وإنما يتضمّن ما هو مثله أو دونه. أقول: لا يخفى أن «ضامن» بمعنى متضمِّن أي محتوٍ مشتمل، قليل في الاستعمال، ومع ذلك فالذي في الحديث «الإمام ضامن»، فحَمْلُه على _________ (1) سبق تخريجه والكلام عليه. (2) البيت للفرزدق في «ديوانه» (1/ 214) ولأمية بن أبي الصلت في «الخصائص» (1/ 307، 2/ 195).

(16/227)


معنى: «صلاة الإمام ضامنة» مُحوِجٌ إلى تقديرٍ الأصلُ عدمه، وفي تضمُّن الشيء ما هو مثله نظرٌ، والمعروف أن الشيء إنما يتضمن ما هو دونه، كما في تضمن الأرض للموتى. وعلى هذا، فيلزم من الحمل على هذا المعنى أن لا يصحَّ اقتداء المفترض بالمفترض، والمتنفل بالمتنفل. وقولهم: «صلاة المأموم لا تكون في ذمة الإمام» إن سلم فذاك إذا حُمِل على ضمان الدين. والصواب أنّ ما في الحديث من باب ضمان العين، كما في ضمان العين المستعارة والمستأجرة والمستأجَر على إصلاحها , ويُؤيِّده قولُه عقبه: «والمؤذن مؤتمن»، وفي بعض طرقه زيادة «اللهم أَرشِدِ الأئمة، واغفر للمؤذنين» (1). وكما أن ضامن العين المالية يكون عليها بدلُها إذا تَلِفتْ، وأَرْشُ نقصِها إذا نقصتْ، على التفصيل المعروف في الفقه، فكذلك الإمام ضامن لصلاة المأموم عليه بدلُها إذا تَلِفتْ بسببه، وأرْشُ نقصِها إذا نقصَتْ بسببه، غير أن البدل والأَرْشَ هنا إنما يُستوفى في الآخرة، فإذا كان الإمام مُحدِثًا وهو يعلم ذلك، ولا يعلمه المأموم، فصلاة المأموم في نفس الأمر تالفة، والإمام ضامن لها غارم، ومعنى الغرامة ــ والله أعلم ــ أن الله عزَّ وجلَّ يكتب للمأموم صلاة صحيحة، ويَحْرِم الإمامَ ثوابَ صلاة من صلواته الصحيحة. _________ (1) أخرجه أحمد (7818) والترمذي (207) وابن خزيمة (1528) وغيرهم من حديث أبي هريرة. وإسناده صحيح.

(16/228)


أو قُلْ: يأخذ صلاةً من صلوات الإمام الصحيحة، فيجعلها للمأموم بدلًا من صلاته التي أتلفها الإمام، ويكون الإمام مسؤولًا عن صلاته هذه التي صلّى وهو مُحدِث، وعن صلاته التي أُخِذت منه؛ لأنها إذا أُخِذت منه صار في معنى مَن لم يُصلِّها. وقِسْ على هذا، وكذلك في النقص. ومما يُؤيِّد هذا ما أخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 216) وابن ماجه (1) من طريق عبد الحميد بن سليمان أخي فليح عن أبي حازم: أن سهل بن سعد كان يُقدِّم فتيانًا يصلُّون به، فقلت: أنت صاحب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، [ق 24] ولك من الفضل والسابقة، تُقدِّم هؤلاء الصبيان، فيصلُّون بك؟ أفلا تتقدَّم فتصلِّي لقومك؟ فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إن الإمام ضامن، فإن أتمَّ كان له ولهم، وإن نقصَ كان عليه ولا عليهم» فلا أريد أن أتحمَّلَ ذلك. لفظ الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، وأقرَّه الذهبي. كذا قال، مع أن عبد الحميد لم يُخرِّج له مسلم، وضعّفه ابن معين وابن المديني وغيرهما، وأحسنُ ما قيل فيه قول الإمام أحمد: ما كان أرى به بأسًا (2) (3). _________ (1) رقم (981). (2) انظر «تهذيب التهذيب» (6/ 116). (3) في موسوعة أقوال الإمام أحمد: أنه سُئل عن حديثه فقال: «لا أدري، إلا أنه ما أرى كان به بأسًا» اهـ. هكذا بتقديم «أرى» على «كان».

(16/229)


وبالجملة، فهو كما قال ابن عَدي: ممن يُكتَب حديثُه، فيصلح للاستشهاد والاعتضاد. وقوله: «فإن أتمَّ كان له ولهم، وإن نقصَ كان له ولا عليهم» لها شواهد ذكر البخاري في «الصحيح» (1) بعضها في باب إذا لم يُتِمَّ الإمام وأتمَّ مَن خلفه، وذكر ابن حجر في «فتح الباري» (2) بعضها. ووجه التفرقة بين الإمام والمؤذن ــ والله أعلم ــ أن الذي يتعلق بالمؤذن شيء واحد وهو دخول الوقت، والعلم بذلك متيسر للناس، فيمكنهم إذا قصَّر المؤذن أو أخطأ أن يعرفوا ذلك بسهولة، ولا يضطرُّهم شيء إلى اتباع المؤذن إذا تبين لهم خطاؤه. وأما الإمام فإنه يتعلق به أشياء كثيرة في الصلاة: فمن إخلاله وتقصيره ما لا يمكن أن يعرفه المقتدي، كالحدث الخفي، والنجاسة الخفية، والإخلال بقراءة الفاتحة في السرّية، وعدم الاطمئنان في الركوع والسجود، ولاسيّما في الظلمة، وغير ذلك. ومنه ما قد يعلمه المقتدي، ولا يمكنه الإتمام لنفسه، كترك الإمام القراءة بالسور المستحبة، كالجمعة والمنافقين في عشاء الجمعة، والسجدة والدهر في صبحها. ومنها: ما يمكنه أن يُتِمَّه لنفسه، ولكن يفوته فيه فضل الاتباع، فإن فضل الصلاة في الجماعة ببضع وعشرين، فالسنة التي يؤديها الإمام والمأموم معًا _________ (1) (2/ 187) «مع الفتح». (2) (2/ 187).

(16/230)


كالتسبيح في الركوع والسجود يكون ثوابها ــ والله أعلم ــ بذلك التضعيف، فإذا تركها الإمام، وأدَّاها المأموم فالأصل أن لا يكون له ذلك التضعيف، إلا أن يُعوِّضه الله عزَّ وجلَّ من حسنات الإمام؛ لأن الفوات إنما جاء بتقصير الإمام. فقوله: «الإمام ضامن» لو انفردت كان الظاهر أن يتضمن ما تعمَّد الإخلالَ به، أو أخطأ ولكن لتقصيرٍ بيِّن. فأما إذا قُرنتَ بقوله: «والمؤذن مؤتمن» فإن ذلك يُشعِر بأن الإمام يضمن وإن لم يُقصِّر، وذلك أن من الأشياء ما تُضمن بشرط التقصير كالوديعة، ومنها ما تضمن وإن لم يقصّر، كالمبيع في يد المشتري إذا عرض له نقص كقطع رجل الدابة مثلًا، ثم ظهر به عيب قديم، فأراد المشتري أن يردَّه، فإن النقص الحادث محكوم به على المشتري، وإن كان بدون تقصيره، والمؤتمن يضمن إذا قصَّر. فلو كان الإمام لا يضمن إلا إذا قصَّر لكان مساويًا للمؤذن، فلما فرق بينهما فقيل: «الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن» دلَّ ذلك على أن ضمان الإمام أشدُّ، وتأكَّد ذلك بما في بعض الروايات: «اللهم أَرشِدِ الأئمة واغْفِر للمؤذنين»، فدعا للأئمة بالإرشاد حتى لا يقع منهم إخلال، ودعا للمؤذنين بالمغفرة، وذلك يُشعِر بأن الأئمة إذا أخلُّوا فلابدَّ من الضمان، وأما المؤذنون فيُرجَى أن لا يَضمَنوا، ولذلك دعا لهم بالمغفرة. هذا ما يُشعِر به هذا اللفظ، وأما حقيقة الحال فتُعلَم بالرجوع إلى الأصول القطعية. فإن قيل: وكيف يَضْمَن المتنفل، ويَغْرَم للمفترض؟ قلت: إذا رضي أن يكون إمامًا فقد التزم، فيلزمه ما التزم، وإن كان متنفلًا.

(16/231)


والمقصود أن الحديث ظاهر في هذا المعنى، وهو معنى صحيح لا غبار عليه، فلا وجهَ لحمله على ذلك المعنى البعيد، مع ما يلزم عليه مما مرّ. والله أعلم. [ق 25] ومما احتجوا به حديث: «إنما جُعِل الإمام ليؤتمَّ به». قال العثماني (1): «يدلُّ على أن الإمام لا يكون إمامًا إلا إذا ربط المقتدي صلاتَه بصلاته، بحيث يُمكِنه الدخولُ في صلاته بنية الإمام ... ». أقول: قد يقرّر هذا بأن الحديث دلّ على أن شرع الإمام إنما كان للائتمام، وعُلِم بذلك أنه إذا انتفى الائتمام انتفى شرع الإمامة، والائتمام يشمل الائتمام في أصل الصلاة المَنْويَّة وفي أعمالها، فإذا أراد مفترض أن يقتدي بمتنفل، قيل له: أنت غير مؤتمٍّ به في أصل صلاتك فكيف تتخذه إمامًا أو أنت ناوٍ أن لا تأتم به في أصل صلاتك، فكيف يصحّ مع ذلك نيتك أن تتخذه إمامًا؟ والجواب: أنها قد تقدمتْ أدلة الجواز، واستقر الأمر على أن ذلك قد كان جائزًا صحيحًا يومًا ما في عهده - صلى الله عليه وآله وسلم -، والأصل استمرار ذلك إلا أن يثبت ناسخ، فاعلم الآن أن هذا الحديث لا يصلح ناسخًا؛ لأنه صريح في أن شرع الإمامة لم يكن أصلًا إلا للائتمام، فالائتمام المراد فيه، إما أن يصدق بائتمام المفترض بالمتنفل على ما تقدم في أدلة الجواز وإما أن لا يصدق، الثاني باطل؛ لأنه قد ثبت الجواز والصحة بعد شرع الإمامة، كما تقدم في أدلة الجواز، فتعين الأول. _________ (1) «فتح الملهم» (3/ 433).

(16/232)


فتقرر بهذا أنه يكفي في الائتمام في أصل الصلاة أن ينوي كلٌّ منهما الصلاة، وأن تتفق الصلاتانِ بأن لا تكون إحداهما صلاة جنازة، والأخرى ذات ركوع وسجود، ونحو ذلك مما هو مفصَّل في كتب الفقه. فإن قيل: سلَّمنا أن الحديث صريح في أن الإمامة إنما شُرِعت للائتمام، ولكنا نقول: هذه العلة لم يجب العمل بحسبها تمامًا من أول الأمر، بل كان الأمر على التدريج، فكأنه قيل: المقصود من شَرْعِ الإمامة هو الائتمام في كل شيء، ولكن في ذلك الوقت رُخِّص بالإخلال ببعض ذلك لحكمة التدريج. أو يقال: الإمامة إنما شُرِعت للائتمام، والائتمام يتفاوت، فاكتُفِي أولَ الأمر بائتمام غير كامل؛ لمصلحة التدريج إلى الائتمام الكامل. قلت: في هذا نظر من وجوه: الأول: أن الحديث وإن احتمل هذا المعنى، فهو محتمل لما قلنا، لعل ما قلنا أقرب. الثاني: أن التدريج إنما يقع في الشرع لمصلحة، كالتدريج في تحريم الخمر وغيره، وقد تظهر المصلحة في سنة معاذ، وذلك أن المسبوق يَشُقّ عليه أن يتابع الإمام فيما هو فيه، ثم يقضي بعد ذلك ما فاته؛ لأنه قد يدركه في ثانية المغرب بحيث لا تحسب له تلك الركعة، وقد أتى ببعضها، فيحتاج إلى أن يتشهد معه التشهد الأول والثاني، وليسا محسوبَيْنِ له، ثم يقوم فيصلّي ركعة ويتشهد، ثم أخرى ويتشهد. وقريب من هذا قد يتفق في الصلوات الأخرى، فأما إذا بدأ فصلَّى

(16/233)


لنفسه حتى لحِقَ الإمام فوافقه، فإنه يسلِّم معه، فرُخِّص لهم أولًا فيما يَخِفُّ عليهم، ومع ذلك فليس في ذلك مخالفةٌ لحديث: «إنما جُعِل الإمام ليؤتمَّ به»؛ لأن المسبوق إنما كان يصلّي ما سبق به منفردًا قبل أن يجعل الإمام إمامًا له، فإذا وصل إلى ما فيه الإمام اتخذه إمامًا من حينئذ، ووافقه وتابعه. فأما اقتداء المفترض بالمتنفل: فلا يظهر لي فيه شيء من هذا القبيل. الثالث: أن العمل إذا شُرِع لمعنى، واقتضت الحكمة التدريج في إبلاغ ذلك العمل غايتَه فالمعقول أن يرعى فيه أولًا المقصود الأهم، ويكون التدريج في الفروع. وأنتم تزعمون أن الموافقة في النية هي الأصل، حتى أن لا ينعقد عندكم إلا بها، فلو كان الأمر كما زعمتم لكان الظاهر أن يُهتمّ أولًا بالموافقة في النية، ويكون التدريج في الموافقة الظاهرة، فكيف وانعكس الحال؟ ! الرابع: أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فصَّل في حديث: «إنما جُعِل الإمام ليؤتمَّ به» أشياء، قال: «فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلَّى جالسًا فصلُّوا جلوسًا» وزاد في رواية: «فإذا كبَّر فكبِّروا ... وإذا سجد فاسجدوا» إلى غير ذلك. فنصَّ على المتابعة التي قد علموا أنها مشروعة، فلو أريد به نسخ جواز اقتداء المفترض بالمتنفل لكان أولى بأن ينصَّ عليه مما ذكر. الخامس: أنه نصَّ على المتابعة في الأفعال تفصيلًا، والمتابعة في النية على حسب دعواكم أهمُّ منها، فلو كان الأمر كما قلتم لكان النص على المتابعة في النية ــ على حسب دعواكم ــ أولى.

(16/234)


هذا، وقد نصّ في هذا الحديث على قوله: «وإذا صلّى جالسًا فصلُّوا جلوسًا» فبيَّن أن هذا من الائتمام الذي شُرِعت له الإمامة، وعندكم أن هذا منسوخ، وقال جماعة منهم أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي: إن الإمام إذا صلَّى قاعدًا لعذرٍ وجب على المأموم إذا لم يكن معذورًا أن يصلِّي قائمًا، ولا يخفى فُحْشُ المخالفة في هذا. واتفقوا على صحة اقتداء المتنفل بالمفترض مع اختلاف النية، وهو مخالف قطعًا لهذا الحديث، لو كان شاملًا للائتمام في النية على ما قلتم في اقتداء المفترض بالمتنفل. واتفقوا على أن من المخالفة في بعض ما نصّ عليه في التفصيل ما لا يبطل الصلاة ولا القدوة، حتى ولو كانت لغير عذر، فما لم ينصّ عليه أولى. فغاية الأمر أن يكون اقتداء المفترض بالمفترض أولى من اقتدائه بالمتنفل؛ لمخالفته له في بعض النية، فإن كان لعذر ما فلا حرج، وبهذا تتفق الأدلة بدون حاجة إلى نسخ، ولا فسْخٍ. هذا، وفي «الفتح» (1): عن ابن حبان أن القصة التي في هذا الحديث ــ وهي أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - جُحِش شِقُّه الأيمن، فصلَّى جالسًا، فصلّى وراءه قوم قيامًا، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما سلّم قال: «إنما جُعِل الإمام ليؤتمَّ به ... » ــ كانت في ذي الحجة سنة خمس. وعلى هذا فهي متقدمة على صلاته في الخوف بطائفةٍ ركعتين، ثم بطائفةٍ ركعتين، لأنها كانت بنَخْلٍ في غزوة محارب وثعلبة، وهي ذات الرقاع، فإن البخاري اختار أنها كانت بعد خيبر، _________ (1) (2/ 178). وانظر «صحيح ابن حبان» (5/ 492).

(16/235)


واستدلّ على ذلك بأدلّة. والله أعلم. ومما احتجوا به قوله في بعض طرق هذا الحديث: «ولا تختلفوا عليه» (1). قال العثماني (2): «فإنه يشمل الاختلافَ عليه في الأفعال الباطنة». ويُجاب: بأن حقيقة اختلافهم عليه هو أن يكون بعضهم موافقًا، وبعضهم مخالفًا. ولفظ مسلم (3): «إنما جُعِل الإمام ليؤتمَّ به, فلا تختلفوا عليه، فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهمَّ ربَّنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلَّى جالسًا فصلُّوا جلوسًا أجمعون». فقوله: «أجمعون» يعود ــ والله أعلم ــ إلى جميع الجمل قوله: «فإذا كبَّر فكبِّروا ... » وما بعدها. وقد علمتَ من الكلام على الدليل السابق جوازَ أن يصلِّي المأمومون كلهم مفترضين، والإمام متنفل، وأن ذلك ليس من الخلاف للائتمام الذي شُرِعت له الإمامة، فأولى من ذلك أن يكون بعضهم مفترضًا، وبعضهم متنفلًا. وبالجملة، فالتفصيل في الحديثين يدلُّ أن الموافقة والمتابعة المطلوبة _________ (1) سبق تخريجه. (2) «فتح الملهم» (3/ 433). (3) رقم (414).

(16/236)


إنما هي في الصفة الظاهرة، فأما الباطن فأصل مقصود الشارع من الباطن الإخلاصُ والخضوع وصدق التوجه إلى الرب سبحانه، وكلّ مصلٍّ مأمورٌ بذلك، فإذا اتفقوا فيه فقد اتفقوا في كل شيء من مقصود الباطن. هذا، وإذا دقَّ عليك فهمُ بعض ما تقدم، فيكفيك أن تعلم أن غاية ما في قوله: «إنما جُعِل الإمام ليؤتم به» وقوله: «فلا تختلفوا عليه» أن يكون ظاهر اللفظ يتناول الموافقة في نية الصلاة فرضًا ونفلًا. ويجاب عنه: بأن هذا العموم ــ على تسليمه ــ مخصَّص بأدلة الجواز، وقد تقدَّم عن ابن حبان والبخاري ما يقتضي أن بعض أدلة الجواز متأخرة حتمًا عن هذا الحديث. وما ذكره العثماني من أنَّ الظاهر التأخرُ، لا يصادم النقل. فإن سُلِّم الجهل بالتاريخ، أو تأخَّر هذا الحديث عن أدلة الجواز، فالصحيح في الأصول: العمل بالتخصيص أيضًا، وقد تأكّد ذلك بأنه في التفصيل اقتصر على الأعمال الظاهرة، مع أن المتابعة فيها كانت معلومة عندهم، فلو أريد نسخُ جواز ائتمام المفترض بالمتنفل لكان النصّ عليه في التفصيل أولى وأحرى. وأيضًا، فهذا العموم ــ على تسليمه ــ قد خُصَّ عند جماعة منهم أبو يوسف وأبو حنيفة والشافعي، قالوا: إذا صلى الإمام جالسًا لم يجب الجلوس على المأموم، بل يجب عليه القيام في الفرض. بل خُصَّ بالنظر إلى اختلاف النية اتفاقًا، فأجازوا ائتمام المتنفل بالمفترض.

(16/237)


وكذلك دلالته على بطلان القدوة والصلاة أو إحداهما عند المخالفة غير سالم؛ لاتفاقهم على أن من المخالفة في بعض ما نصّ عليه في التفصيل ما لا يبطل الصلاة ولا القدوة، ولو لم يكن للمخالف عذر. [ق 26] فصل مما يُستدل به لصحة اقتداء المفترض بالمتنفِّل: قصةُ عمرو بن سَلِمة الجَرْمي أنه كان يؤمُّ قومَه في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو ابن ست أو سبع سنين. أخرجه البخاري في «الصحيح» (1) في المغازي آخر الأبواب المتعلقة بفتح مكة، وفي «سنن» أبي داود (2) ما يدلُّ أنه استمرَّ على ذلك، فإن فيها عن عمرو أنه قال: «فما شهدتُ مجمعًا من جَرْمٍ إلا كنتُ إمامَهم». وقد أجيب عن هذا بأنه لم يُنقل أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - علم بذلك. ورُدَّ بأن ذلك كان في زمن نزول الوحي، وقد قال جابر: «كنا نَعزِل والقرآن ينزل» (3). وقد تقدم تقرير ذلك في الكلام على قصة معاذ. أقول: في قصته أنه كان قبل إسلام قومه يمرُّ بهم الركبان، فيسمع منهم القرآن فيحفظه، فحفظ قرآنًا كثيرًا، ولما وفد قومه، ثم أرادوا أن ينصرفوا، قالوا: يا رسول الله! فمن يؤمُّنا، قال: «أكثركم جمعًا للقرآن، أو أخذًا للقرآن». قال: فلم يكن [أحدٌ] من القوم جمَعَ ما جمعتُ، فقدَّموني. هكذا _________ (1) رقم (4302). (2) رقم (587). (3) سبق تخريجه.

(16/238)


في «سنن» أبي داود (1). وفي «التهذيب» (2): «روى ابن منده في كتاب «الصحابة» حديثه من طريق صحيحة، وهي رواية الحجاج بن المنهال عن حماد بن سلمة عن أيوب عن عمرو بن سَلِمة قال: كنتُ في الوفد الذين وفدوا على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. وقد روى أبو نعيم في «الصحابة» (3) من طُرقٍ ما يقتضي ذلك، وقال ابن حبان (4): له صحبة. أقول: إن صحَّ ذلك فالذي يقتضيه العادة أن يكون أبوه عرضه على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأخبره بما حفظه من القرآن. وعليه، فيكون قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - لما سألوه عمن يؤمُّهم: «أكثركم جمعًا للقرآن» كالنص عليه. والله أعلم. _________ (1) رقم (585 ــ 587). (2) «تهذيب التهذيب» (8/ 42، 43). وانظر «الإصابة» (7/ 398). (3) «معرفة الصحابة» (3/ 415، 416). (4) في «الثقات» (3/ 278).

(16/239)


الرسالة السابعة

  بحث في حديث معاذ بن جبل رضي الله عن في صلاته بقومه

(16/241)


(أقول: معنى هذا بنحو لفظه في رواية ابن عيينة في «صحيح مسلم» (1) وغيره، وقد تقدم). ففيه ــ كما نرى ــ شكاية التأخير، ثم التطويل، فأرشد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - معاذًا إلى إزالة شكواهم بأن يكتفي بأداء صلاته مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ويترك الإمامة، أو بأن يُخفِّف على قومه. ولما كان التشديد عليهم من وجهين يحصل التخفيف أيضًا بأمرين: أن لا يصلي مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فتزول الشكوى بالتأخير والانتظار الشديد. وفي رواية البزار: «لا تكن فتَّانًا تَفْتِن الناس، ارجعْ إليهم فصلِّ بهم قبل أن يناموا». «مجمع الزاوئد» (ص 195) (2). ويقرأ أوساط السور لتزول شكوى التطويل. فالتخفيف هنا مقابل التشديد الذي ذكروه، فيشمل التعجيل في الإتيان إلى الصلاة، والاختصار في القراءة. وبمجموعهما يحصل الأمن من تفتين القوم. قال عبد الرحمن: لا شك أن شكواهم ــ على ما في رواية ابن عيينة الصحيحة، ورواية معاذ بن الحارث المرسلة ــ كانت من أنه يتأخَّر ثم يُطوِّل. وهذا يحتمل أمرين: الأول: أن تكون الشكوى من الجمع بين الأمرين، فلو تأخَّر وخفَّف، أو _________ (1) رقم (465) من حديث جابر بن عبد الله في قصة معاذ بن جبل رضي الله عنه. (2) (2/ 133) من حديث جابر بن عبد الله. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح خلا معاذ بن عبد الله بن حبيب، وهو ثقة لا كلام فيه.

(16/243)


تقدَّم وطوَّل لم يشكُوا. الثاني: أن تكون من كل منهما، حتى لو تقدَّم وطوَّل أو تأخَّر وخفَّف ما زالت شكواهم. فإن بنينا على الأول كان معنى «إما أن تُصلِّي معي وإما أن تُخفِّف على قومك»: إما أن تصلِّي معي وتَدَعهم يقدِّمون غيرك فيصلي بهم قبل رجوعك، فيحصل التخفيف عنهم بالتعجيل، وإما أن تُخفِّف بهم إذا أبيت إلّا أن تصلي معي ثم تؤمَّهم. وإن بنينا على الثاني كان المعنى: إما أن تصلِّي معي وتدعَهم يؤمُّهم غيرك فيعجِّل بهم ويخفِّف، وإما أن لا تصلِّي معي فتؤمَّهم فتعجِّل بهم وتخفِّف. فأما الأول فواضح أنه ليس فيه المنع من أن يصلي معه - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم يصلي بهم، وإنما فيه المنع من أن يصلِّي معه - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم يطوِّل بهم. وأما الثاني ففيه المنع من أن يصلِّي معه - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم يصلي بهم، ولكن مغزى المنع إنما هو [ ... ] (1) التشديد عليهم بالتأخير. هذا واضح لا غبار عليه. وإذا كان كذلك فلا دلالة في العبارة المذكورة على المنع لمغزًى آخر. وعليه، فسكوت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حينئذٍ عن بيان امتناع أن يؤمَّ القوم في أداء فريضتهم من قد أدَّاها= دليل واضح على جواز ذلك. فأما إذا فرضنا أن الفريضة إنما هي واحدة ولكن كانت تعاد، فإعادتها غير مفروضة، فليست المعادة بفريضة. _________ (1) كلمة غير واضحة، وكأنها: «استلزام».

(16/244)


على أن قصة أهل العوالي ــ مع إرسالها ــ قد قدّمنا أن ظاهر ذلك المرسل النهيُ عن أن يعيد ثم يعيد، بأن يصلِّيها أولاً ثم يعيدها ثم يعيدها، وهذا لا ينفع المانعين بل يضرهم بمفهومه؛ لأن النهي عن إعادتها مرتين يُفْهِم صفة الإذن بإعادتها مرة. وقدمنا أن حديث ابن عمر يتفرد به حسين المعلم، وقد روي عنه بلفظ «لا تُعاد الصلاة في يوم واحد مرتين»، وهذا اللفظ ظاهره لفظ المرسل المذكور. وروي أيضًا بلفظ: «لا صلاة مكتوبة في يوم مرتين»، وهذا اللفظ يحتمل احتمالاً ظاهرًا توجُّه النفي إلى كونها مكتوبةً مرتين، فيكون حاصله أن من صلى الفريضة مرة فقد أدّى ما عليه، ولا يُفرض عليه إعادتها. فهذه الألفاظ مختلفة المعاني، ولا يُدرى أيّها قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فلا يصلح أن يحتجَّ بما يكون معنى [في] (1) بعضها دون الباقي؛ لاحتمال أن ذلك اللفظ لم يقله النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. هذا، وقد تقدَّمتْ دلائل الإعادة. ومنها ما كان في آخر حياة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومنها ما أمر أصحابه أن يعملوا به من بعده. وهَبْ أن حديث ابن عمر صحَّ بلفظ صريح في النهي عن الإعادة، فتاريخه مجهول، وغايته أن يكون عامًّا يُخصُّ منه ما قام الدليل على خصوصه، ومنه قصة معاذ وما في معناها. وجعل بعضهم الناسخ هو ما جاء في مرسل معاذ بن الحارث: أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال لمعاذ: «إما أن تصلِّي معي وإما أن تُخفِّف على قومك». _________ (1) كلمة غير واضحة، ولعلها كذلك.

(16/245)


وأجيب عن هذا بأنه مرسل لم يأتِ هو ولا معناه في شيء من الروايات الموصولة، حتى الرواية التي يُشبه سياقُه سياقَها. أعني رواية عبيد الله بن مِقْسم التي تقدمت عن أبي داود والبيهقي. ومع ذلك، ففي معنى هذه العبارة نظر. حكى ابن حجر في «الفتح» (1) عن الطحاوي أن معناها: «إما أن تصلِّي معي ولا تصلِّ بقومك، وإما أن تُخفِّف بقومك ولاتُصلِّ معي». قال ابن حجر: «لمخالفِه أن يقول: إن التقدير: «إما أن تصلِّي معي فقط إذا لم تخفِّف، وإما أن تخفِّف بقومك فتصلِّي معي»، وهو أولى من تقديره؛ لما فيه من مقابلة التخفيف بترك التخفيف، لأنه المسؤول عنه المتنازع فيه». وذكر بعض أئمة الحنفية بالهند أن هذا من باب ما حكاه الله عز وجل عن المشركين من قولهم: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8]. فأصلُ مقصودهم: افترى أم لم يفترِ، ولكن أُقِيمَ {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} مقام «أم لم يفترِ»؛ لاستلزام الجنون عدمَ الافتراء. فكذلك هنا المقصود: إما أن تصلّي معي، وإما أن لا تصلِّي معي، ولكن أقيم التخفيف بقومه مقام عدم الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ لأن التخفيف بقومه إنما يكون مع صلاته بهم، وصلاته بهم تستلزم عدم صلاته مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ للمنع من أن يؤمَّ الناس في أدائهم فريضتَهم مَن قد أدَّاها. أقول: وفَهْم هذا المعنى يتوقف على سبق العلم بالمنع المدَّعَى، على _________ (1) (2/ 197).

(16/246)


أنه يردُّه أن سياق هذه الجملة هكذا: «يا معاذ بن جبل، لا تكن فتّانًا، إما أن تصلّي معي، وإما أن تخفِّف على قومك». وذلك واضح في أن قوله: «إما أن تصلّي معي، وإما أن تخفِّف على قومك» إنما هو إرشاد إلى اجتناب ما تُخشَى منه الفتنة من التشديد. وقد قال العلامة المحقق شبير أحمد العثماني الحنفي في «شرحه لصحيح مسلم» (1): «والظاهر من مجموع الروايات أنهم يَشْكُون تأخير معاذ في مجيئه إلى الصلاة؛ لصلاته مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، حتى كان ينام القوم ويشقّ عليهم الانتظار، ثم قراءته السور الطويلة، وهذا صريح في سياق أحمد (يعني في مرسل معاذ بن رفاعة)، وفي بعض روايات حديث الباب: فقال الرجل: يا رسول الله، إنك أخَّرتَ العشاء، وإن معاذًا صلَّى معك، ثم أمَّنا وافتتح سورة البقرة، وإنما نحن أصحابُ نواضِحَ نعملُ بأيدينا» اهـ. «تلخيص الحبير» (ص 126) (2). وقرر العثماني النسخَ بأن أحكام الإمامة إنما تمَّتْ على لسان الشارع شيئًا فشيئًا، فقد كانوا أولاً إذا جاء الرجل والإمام في الصلاة سأل: كم قد صلَّوا؟ ، فيشار إليه بذلك، فيبدأ فيصلِّي ما سُبِق به، حتى يدرك الإمام فيوافقه فيما بقي، ثم نُسِخ ذلك وأُمِروا بالمتابعة. وكانوا أولاً يقرؤون خلف الإمام، ثم نُسِخ ذلك، وجُعِلتْ قراءة الإمام قراءةً للمأموم. _________ (1) (3/ 431). (2) (2/ 41) ط. النمنكاني.

(16/247)


قال: «فينبغي أن يُحمل كل ما جاء في الأحاديث مما ينافي مقتضى هذا الائتمام ــ ولم يُعلَم تاريخه ــ على ما قبل أوامر الائتمام ونواهي الاختلاف». أقول: سيأتي إن شاء الله تعالى النظر فيما ذكروه من أوامر الائتمام ونواهي الاختلاف، وهناك يُنظَر فيما ذكره العثماني إن شاء الله تعالى. فصل ذهب بعض أئمة الحنفية بالهند (1) إلى أن أصل القصة إنما هي أن معاذًا كان يصلِّي المغرب مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم يرجع إلى قومه فيصلّي بهم العشاء. واستدل بما روي عن جابر: «كنا نصلِّي مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - المغرب، ثم نأتي بني سلمةَ ونحن نُبصِر مواقعَ النَّبْل». «مسند» (3/ 382) (2). فهذه عادة بني سلمة قومِ معاذ، فلا بد أن تكون عادة معاذ أيضًا، كيف وقد جاء ذلك نصًّا في حديث الترمذي (وقد مرَّ)، ولكن حُذِفَت كلمة المغرب من العبارة، فصارت هكذا ــ مثلاً ــ: «كان معاذ يصلي مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - (المغربَ)، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم العشاء، فصلَّى بهم ليلةً فقرأ بالبقرة ... ». فلما حُذِفت كلمة «المغرب» توهَّم السامعون أن المراد: «كان معاذ يصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - العشاء، ثم يرجع إلى قومه فيصلِّي بهم العشاء». فلما توهَّموا هذا تصرَّفوا في الألفاظ، على قاعدة الرواية بالمعنى. يقول عبد الرحمن: ليس فيما ذكره ما يَصلُح للتشبث، فإنه إن ثبت أن معاذًا كان يصلِّي المغرب مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم يرجع إلى قومه فيصلِّي بهم _________ (1) هو الشيخ أنور شاه الكشميري كما سبق (ص 222). (2) (23/ 319) (15096) ط. الرسالة. وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه (337).

(16/248)


المغرب، كما فهمه الترمذي وتقدم بيانه، فهذا غير مخالف لعادة قومه، بل هو موافق لها , فإن ادعى أن بني سلمة كانوا كلهم يصلُّون المغرب مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - طُولِب بالحجة. فإن قال: قد ثبت في الصحيحين (1) وغيرهما أن بني سلمة كانت منازلهم بعيدة من مسجد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فأرادوا أن يتحوَّلوا إلى قرب المسجد، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يا بني سلمة، ألا تحتسبون آثاركم! »، وفي رواية: «دياركم، تُحسب آثاركم». فالجواب: أنه لا يلزم من ذلك أنهم كانوا بعد ذلك يحضرون كلهم. فإن زعمتَ ذلك فارفض الحديث من أصله، وقل: إنه لم يكن لبني سلمة مسجد، ولا صلَّى بهم معاذ قطُّ! ! فأما حديث جابر في حضورهم المغرب، فليس فيه أنهم كانوا يحضرون جميعًا، فالحق أنه كان منهم من يحضر مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في المغرب والعشاء وغيرهما، ومنهم من يتأخر فيصلُّون في مسجدهم، كما كان شأن غيرهم من العشائر في المدينة. فقد كان بالمدينة عدة مساجد يُصلَّى فيها، والأحاديث في ذلك معروفة. هذا، وفي «الفتح» (2): «ولابن مردويه ... عن أبي نضرة عنه (يعني جابرًا) قال: كانت منازلنا بسَلْعٍ. ولا يعارض هذا ... لاحتمال أن تكون ديارهم كانت من وارء سَلْعٍ، وبين سَلْعٍ والمسجدِ قدرُ ميل». _________ (1) البخاري (655) ومسلم (665) من حديث أنس. (2) (2/ 140).

(16/249)


وعلى هذا، فكان معاذ ومن خفَّ من بني سلمة يشهدون المغرب مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم يأتون بني سلمة وهم يبصرون مواقع النَّبل، فيصلِّي معاذ بالذين تأخَّروا، ثم يتأخَّر في شغلٍ إن كان له، ثم يَخِفُّ هو وجماعة فيشهدون العشاء مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم يرجعون إلى بني سلمة، فيصلي معاذ العشاء بالذين تأخروا. فإن قيل: وكيف يؤخِّر المتأخرون المغرب هذا التأخير؟ قلت: وأيُّ تأخيرٍ إذا كان معاذ يأتيهم والرامي يرى موقع سهمه؟ ! والظاهر أنه كان إذا اتفق أن يتأخر أكثر من ذلك قدَّموا غيره. هذا كله إذا بنينا على أن معاذًا كان يصلِّي المغرب مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم يعود فيصلِّيها بقومه، كما اقتضاه حديث الترمذي وعمومُ غيره من الروايات، كما تقدم. فأما إذا وافقنا مسلمًا على أن في حديث قتيبة وهمًا، وأن الصواب كما رواه أبو الربيع، وأخرجنا المغرب من عموم الروايات العامة، أو حملناها كلها على خصوص العشاء= فأيُّ مانع من أن يكون معاذ كان يعتاد عدم الرجوع إلى قومه بعد المغرب، أو أيُّ مانع من أن يكون كان يعود إليهم، ثم يرجع إلى مسجد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لصلاة العشاء، ثم يعود إلى قومه؟ فقد كان معاذ شابًّا نشيطًا حريصًا على الخير، فلا وجه لأن نقيسه على أنفسنا في عجزنا وكسلنا. ولم يكن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يعجِّل العشاء تعجيلنا. ومع هذا، فإن ما ذهب إليه من توهيم الرواة يلزم منه وهمهم جميعًا، فإن الروايات على كثرتها ليس فيها رواية واحدة تحتمل ما قاله احتمالاً قريبًا. حتى رواية قتيبة عند الترمذي، فإن ظاهرها ما فهمه الترمذي، بل لا

(16/250)


تكاد تظهر فائدة إن قيل: كان معاذ يصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - المغرب، ثم يعود فيصلِّي بقومه العشاء. ولو قيل هكذا لكان ظاهره أنه لم يكن بين صلاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - المغرب وبين صلاة بني سلمة العشاء إلا مقدار المسافة! وهذا باطل اتفاقًا. وهَبْ أن العالم لا يخشى على دينه من ارتكاب مثل هذه التأويلات، فينبغي له ــ على الأقل ــ أن يستحضر أن ارتكابه لها يُجرِّئ مخالفيه على ارتكاب مثلها في معارضته، ولاسيما المخالفين في أصول الدين من أهل البدع، بل والكفار أيضًا، فيحرِّفون السنن الصحيحة كيفما شاء لهم الهوى، فإذا قيل لهم: هذا تأويل بعيد، قالوا: إن في كلام أئمتكم تأويلاتٍ مثله أو أبعد منه. هذه نفثةُ مصدورٍ، والله عليم بما في الصدور. اللهم يا مقلِّب القلوب ثبِّتْ قلبي على دينك، واهْدِني لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك، واجعلْ هواي تبعًا لما جاء به نبيك - صلى الله عليه وآله وسلم -.

(16/251)


فصل اعتذر القائلون بمنع أن تؤدَّى الفريضة خلف من قد أدّاها بأمور: منها: أن ما فعله معاذ كان بغير علم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فلا حجة فيه. والجواب: أننا إن أخذنا بمذهب جابر وأبي سعيد إذ قالا: «كنا نَعزِلُ والقرآن ينزل، لو كان شيئًا يُنهى عنه لنهى عنه القرآن». فإن هذا العذر واضح. وتقرير مذهبهما في هذا: أنه كما تقرر عند أهل العلم أن تقرير النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حجة، فأولى منه تقرير الله عزَّ وجلَّ في الوقت الذي يكون فيه الواسطة ــ وهو الرسول ــ بين أظهر الناس. ويؤيده ما ثبت من أن الصحابة كانوا مَنْهيِّين عن سؤال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فإن ذلك يستلزم أن يكون مأذونًا لكلٍّ منهم أن يعمل بما يظهر له في الحكم، وإن كان عنده فيه تردُّد. وإنما ذلك لأن الله عزَّ وجلَّ رقيب عليهم، والرسول بين أظهرهم، فإذا علم الله عزَّ وجلَّ خطأهم في شيء أوحى إلى رسوله ما يبين به الحكم. وسيأتي إن شاء الله تعالى النظر في ما ذكروا أنه حجة على ما ذهبوا إليه. وإن لم نذهب هذا المذهب فإننا نقول: ظاهر الروايات أن صلاة معاذ بقومه الصلاةَ [التي] قد صلَّاها مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تكرر كثيرًا، وأن معاذًا كان كأنه الإمام الراتب لبني سلمة، وكان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مما يتعاهد الأنصار في أمر دينهم، وكانوا مما لا يكادون يصنعون في دينهم إلا ما يثقون بصحته، والظاهر أنهم لم يكونوا يبنون مسجدًا ولا يُرتِّبون إمامًا إلا بعد استئذان النبي

(16/252)


- صلى الله عليه وآله وسلم -، وقد كان في بني سلمة رجال من أهل العلم والدين، ذُكر في «الفتح» (1) عن ابن حزم: أنه كان فيهم ثلاثون عَقَبيًّا وأربعون بدريًّا. ولا يحفظ عن غيرهم من الصحابة امتناع ذلك، بل قال منهم بالجواز: عمر، وابن عمر، وأبو [الدرداء وأنس وغيرهم] (2). ومعاذ نفسه جاء عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام (3)، وأنه يأتي يوم القيامة أمام العلماءِ بِرَتْوةٍ (4)، وهو أول من سنَّ متابعة الإمام ... وهم في الصلاة، فقال: لا أراه على حال إلا كنت عليها، فدخل في الصلاة، ووافق النبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما هو فيه، فلما سلَّم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قام معاذ فأتمَّ ما فاته، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إن معاذًا قد سنَّ لكم» (5)، فأمرهم بمثله ... هذا، وسيأتي ما يُعلَم منه أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قرَّر معاذًا وبني سلمة على ما كان منهم. وقد ذهب جمعٌ من أهل العلم إلى أن قول الصحابي بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حجة، فأولى منه قوله في حياة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ لأنه يكون أبلغ تحريًا واحتياطًا، كما لا يخفى. هذا مع انضمامه إلى ما تقدم. _________ (1) (2/ 196). (2) كلمات لم تظهر في التصوير. والمثبت من «الفتح». (3) أخرجه الترمذي (3790، 3791) من حديث أنس. (4) أخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (58/ 406) من حديث أبي عون الثقفي مرسلًا. (5) أخرجه أحمد (22124) وأبو داود (506) وغيرهما من حديث معاذ.

(16/253)


وسيأتي إن شاء الله تعالى النظر فيما ذكروا أنه يُعارِض ذلك. هذا، وفي هذا الحديث كرواية ابن عيينة وغيره أن القوم أخبروا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم يصلِّي بهم، ولم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنكر عليهم ذلك، بل ظاهر أكثر الروايات أنه أقرَّهم على فعلهم، وإنما أنكر على معاذ التطويل. وما أوردوه مما يعتبر أنه إنكار، وهو ما في رواية ... (1) لم يصح، [بل هو] مرسل، ولم يقع في الرواية المتصلة، حتى رواية عبيد بن مقسم التي يُشبِه سياقها سياقَ ذلك المرسل، ولو صح ذلك القول فلا دلالة فيه على المدعَى، كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ومنها: أنه يحتمل أن يكون هذا كان في الوقت الذي كانت الفريضة فيه تُصلَّى مرتين. قاله الطحاوي. قال في «الفتح» (2): «أي فيكون منسوخًا»، وقال: «تعقبه ابن دقيق العيد بأنه يتضمن إثبات النسخ بالاحتمال، وهو لا يسوغ، وبأنه يلزمه إقامة الدليل على ما ادعاه من إعادة الفريضة». ثم ذكر أن الطحاوي ذكر دليله، وهو حديث ابن عمر مرفوعًا: «لا تُصلُّوا الصلاةَ في اليوم مرتين»، ومرسل خالد بن أيمن، وصدقة بن المسيب في قصة العوالي، وقد ذكرتها فيما تقدم. أقول: الظاهر أن ابن دقيق العيد إنما طالب بالدليل على أن الفريضة كانت تُعاد فريضةً، أي أنه كان مفروضًا صلاتها مرتين، فإن هذا هو الذي ينفع الطحاوي. _________ (1) هنا كلمات غير واضحة. (2) (2/ 196).

(16/254)


فيقال: كان معاذ يصلِّي مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهي فريضة عليه، ثم يعيدها بقومه وهي فريضة عليه أيضًا. ولا دلالة في حديث ابن عمر وقصة أهل العالية على هذا.

(16/255)


الرسالة الثامنة

 حقيقة "الوتر" ومُسماه في الشرع

(16/257)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي لا تنحصر مواهبُه، ولا تنقطع رغائبُه، ولا تُقلِعُ عن الجود سحائبُه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تثبت حقَّ الإيمان، وتُذهِب كيدَ الشيطان، وتوجب رضا الملك الديّان. وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الذي به استقام من الحق سبيلُه، ومُحِيَتْ شُبَهُ الشرك وأباطيلُه. اللهمّ صلِّ على محمدٍ نبيك الأمين، وآله المطهَّرين، وأصحابه الهُداة المهديين، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلِّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد، فإنه لمّا كان أوائل رمضان سنة 1342 سألني بعض الإخوان عن شيء من أحكام الوتر المختلف فيها، طالبًا بيانَ الراجح من الأقاويل مع بيان الدليل. ولما أخذتُ أتصفَّح الأدلة وجدتُ أحكام الوتر آخذًا بعضُها برقابِ بعضٍ، فانجرَّ بي الحالُ إلى توسعة المجال، فعزمتُ ــ متوكلًا على الله تعالى ــ على جمع كتابٍ يشتمل على عامة أحكام الوتر. على أن الباع قصير، والجناح كسير، ولكن لي في الله سبحانه وتعالى حُسن الظنِّ وصادق الرجاء، والفضلُ بيد الله يؤتيه من يشاء. قال الحافظ في "الفتح" (1): (فائدة) قال ابن التين: اختلف في الوتر في سبعة أشياء: في وجوبه، وعدده، واشتراط النية فيه، واختصاصه بقراءة، واشتراط شَفْعٍ قبلَه، وفي آخر وقته، وصلاته في السفر على الدابة. قلت: وفي قضائه، والقنوت فيه، وفي محلّ القنوت منه، وفيما يقال فيه، وفي فصله ووَصْله، وهل تُسَنُّ ركعتان قبله؟ وفي صلاته من قعود. لكن هذا _________ (1) (2/ 478).

(16/259)


الأخير ينبني على كونه مندوبًا أو لا. وقد اختلفوا في أول وقته أيضًا، وفي كونه أفضل صلاة التطوع، أو الرواتب أفضل منه، أو خصوص ركعتي الفجر. هـ. مقدمة في حقيقة الوتر الوتر عند أصحابنا صلاةٌ مندوبة مؤكَّدة، أقلُّها ركعة، وأكثرها إحدى عشرة، وقتها ما بين العشاء والفجر. ولا فرقَ عندهم في إطلاق الوتر على الإحدى عشرة بين فَصْلها بتسليمةٍ واحدةٍ وفَصْلها بأكثر. وأما تحقيق حقيقة الوتر في السُّنَّة فنقول: بعد استقراء الأحاديث والآثار تلخَّص لنا أن الوتر قد أُطلِق على ثلاثة معانٍ: أولها: أن يُطلَق مرادًا به صلاةُ الليل التي غايتها ثلاث عشرة، سواءٌ صُلِّيتْ وصلًا أو فصلًا، وعلى هذا حديث الحاكم والبيهقي ومحمد بن نصر (1) عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: "لا توتروا بثلاثٍ تُشبِّهوا بالمغرب، ولكن أوتروا بخمسٍ أو بسبعٍ أو بتسعٍ أو بإحدى عشرة أو بأكثر من ذلك". وعليه أيضًا حديث أحمد وأبي داود (2) بإسنادٍ صحيح عن عائشة وقد سُئلتْ: بكَمْ كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يُوتر؟ فقالت: كان يُوتر بأربعٍ وثلاث، وستٍّ وثلاث، وثمانٍ وثلاث، وعشرٍ وثلاث، ولم يكن يُوتِر بأنقصَ من سبعٍ _________ (1) "المستدرك" (1/ 304) و"السنن الكبرى" (3/ 31) و"مختصر قيام الليل وكتاب الوتر" (ص 125) من حديث أبي هريرة. (2) "المسند" (25159) وأبو داود (1362).

(16/260)


ولا بأكثر من ثلاثَ عشرةَ. وهذا الوجه هو الأقرب لمذهبنا. الثاني: أن يُطلَق مرادًا به الركعة الفردة، سواء أوقعتْ موصولةً أو مفصولةً. وعلى هذا حديث الصحيحين (1) ــ واللفظ لمسلم ــ: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيتَ الصبح فأوتِرْ بركعةٍ". وعليه حديث مسلم (2) عن ابن عمر وابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: "الوتر ركعة من آخر الليل". هكذا ورد عنهما. وقد رواه أبو داود والنسائي (3) كلاهما بإسنادٍ صحيح تحت ترجمة (باب كم الوتر)، ولفظه: عن ابن عمر أن رجلًا من أهل البادية سأل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن صلاة الليل، فقال بإصبعَيْه هكذا "مثنى مثنى، والوتر ركعةٌ من آخر الليل". ولا يخفى أن تعريف المسند إليه ظاهره الحصر، فهو في قوةِ "ليس الوتر إلا ركعة من آخر الليل". مع أنه قد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وصلَ بين ثلاثٍ وبين خمسٍ وبين سبعٍ وبين تسعٍ. والجمعُ بين ذلك أن الوتر في قوله: "الوتر ركعة من آخر الليل" يُرادُ به تلك الركعة الفردة وإن وُصِلَتْ. الثالث: أن يُطلَق مرادًا به ما كان وترًا بتسليمةٍ واحدةٍ، سواءً أكان واحدةً أو ثلاثًا أو خمسًا ... إلخ. وعلى هذا أكثر الأحاديث. _________ (1) البخاري (1137) ومسلم (749/ 146) عن ابن عمر. (2) رقم (753). (3) أبو داود (1421) والنسائي (3/ 233).

(16/261)


منها حديث عائشة عند أحمد والشيخين (1) بلفظ: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي من الليل ثلاثَ عشرةَ ركعةً يوتر بخمسٍ". ومنها حديثها المتفق عليه (2): "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي وأنا راقدةٌ معترضةٌ على فراشِه، فإذا أراد أن يُوتِر أيقظَني فأوترتُ". وفي رواية لمسلم (3): فإذا أوتر قال: "قُومي فأوتري يا عائشة". وفي روايةٍ له أيضًا (4): فإذا بقي الوترُ أيقظَها فأوترتْ. أقول: وقد رأيت أن أقدِّم تحقيق حقيقة الوتر، أعني المعنى الذي يكون إطلاقُ لفظ الوتر عليه حقيقةً شرعية، ثم أشرعُ في بيان الوجوه المختلَف فيها، مفردًا كلَّ وجهٍ بمقالةٍ إن شاء الله تعالى. * * * * _________ (1) "المسند" (24239) ومسلم (737). ولم أجده عند البخاري بهذا اللفظ. (2) البخاري (997) ومسلم (744). (3) رقم (744/ 134). (4) رقم (744/ 135).

(16/262)


المقالة الأولى في حقيقة الوتر قال الربيع في كتاب "اختلاف مالك والشافعي" (1): "باب ما جاء في الوتر بركعةٍ واحدة. سألتُ الشافعي عن الوتر: أيجوز أن يُوتِر الرجلُ بواحدةٍ ليس قبلها شيء؟ قال: نعم. والذي أختار أن أُصلِّي عشر ركعاتٍ ثم أُوتِرَ بواحدةٍ". ثم ساق الأدلة إلى أن قال (2): "فقلتُ للشافعي: فإنا نقول: لا نُحِبُّ لأحدٍ أن يُوتِر بأقلَّ من ثلاثٍ، ويُسلِّمَ بين الركعة والركعتين من الوتر". ثم ساق جواب الشافعي، وفي آخره: "قال الشافعي رحمه الله تعالى: وقد أخبرنا عبد المجيد عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يُوتِر بخمس ركعاتٍ لا يجلس ولا يُسلِّم إلّا في الآخرةِ منهن. فقلت للشافعي: فما معنى هذا؟ قال: هذه نافلةٌ، يَسَع أن يُوتِر بواحدةٍ وأكثر، ونختار ما وصفتُ من غيرِ أن نُضيِّق غيرَه. وقولكم ــ والله يَغفِر لنا ولكم ــ لا يوافق سنةً ولا أثرًا، ولا قياسًا ولا معقولًا، قولُكم خارجٌ من كل شيء من هذا وأقاويلِ الناس. إما أن تقولوا: لا يوتر إلا بثلاثٍ كما قال بعض المشرقيين، ولا يسلّم إلا في واحدةٍ منهن لئلا يكون الوتر واحدةً. [وإما أن _________ (1) ضمن كتاب "الأم" (8/ 554) ط. دار الوفاء. (2) المصدر نفسه (8/ 556).

(16/263)


لا تكرهوا الوتر بواحدةٍ، وكيف تكرهون الوتر بواحدةٍ] (1) وأنتم تأمرون بالسلام فيها، فإذا أمرتم به فهي واحدة. وإن قلتم: كرهناه لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يُوتِر بواحدةٍ ليس قبلها [شيء]، فلم يُوتِر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بثلاثٍ ليس قبلهن شيء، وقد استحسنتم أن تُوتِروا بثلاثٍ". فأول كلامه رضي الله عنه ــ ولاسيَّما قوله: "لئلا يكون الوتر واحدة" ــ يُفِيد أن الوتر هو ما صُلِّي بتسليمةٍ واحدةٍ: ركعة أو ثلاثًا أو أكثر، ولا يَشْرَكُه في اسم الوتر ما سبقَه من شَفْعٍ مفصولًا عنه. وآخر كلامه يُشبه خلافَ ذلك. وكلام المزني في "المختصر" (2) يؤيِّد الأول. وقد يقال: إن قول الشافعي: "وقد استحسنتم أن تُوتِروا بثلاث" تسليمٌ جدلي، كأنه قال: لا يخلو قولكم: "يُوتِر بثلاثٍ مفصولة" أن يكون وجهه كراهية الوتر واحدةً، أو كراهية مخالفة السنة في الوتر بواحدةٍ لم يسبقها شَفْعٌ، فإن كان الأول فإن اشتراطكم الفصلَ هو عينُ ما فررتم منه، إذ الركعة صُلِّيتْ مفردةً، فهي الوتر، ولا تَشْرَكها الركعتان في اسم الوتر لوجود الفصل، وإن كان الثاني فمن تأمل كلام الإمام رضي الله عنه حقَّ تأمُّلِه تبيَّن أن الوتر عنده هو ما صُلِّي بتسليمةٍ واحدة وترًا: ركعةً أو ثلاثًا أو أكثر. ولا يقدح في هذا قوله في آخر كلامه: "وقد استحسنتم أن تُوتروا بثلاثٍ"، لأنه على سبيل التسليم الجدلي، لما ستراه. وتفسير كلام الإمام بعبارةٍ أخرى: قولكم: "لا نحب أن يوتر [إلا] _________ (1) ساقط من الأصل، استدركناه من "الأم". (2) (ص 114) (ضمن المجلد الثامن من كتاب "الأم" طبعة دار الفكر بيروت).

(16/264)


بثلاثٍ مفصولة" لا يخلو عن أحد أربعة وجوه: إما أن يكون كراهيةَ إيقاع ركعةٍ منفردة، ولم يُعهَد ذلك في الصلاة. وإما أن يكون كراهيةَ الاقتصار عليها، والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يقتصر. وإما أن يكون ذهابًا إلى حديث "مثنى مثنى". وإما أن يكون كراهيةَ إيقاعها بدون سَبْقِ شَفْعٍ قبلها. فأما الأول فشرطكم الفصلَ وقوعٌ فيما فررتم منه، ووجودُ الركعتين قبلها لا يُخلِّصها من كونها مفردة. وأما الثاني فإن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يقتصر على الثلاث أيضًا، فلِمَ اقتصرتم عليها؟ وأما الثالث فإن أقلَّ ما يقع عليه "مثنى مثنى" أربع، فلِمَ اقتصرتم على ركعتين؟ وأما الرابع فإن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يُوتِرْ بثلاثٍ لم يَسْبِقْها شَفْع، وأنتم تزعمون أن الثلاث المفصولة وترٌ ولا تشترطون قبلها شفعًا. إذا تقرر ما ذُكِر علمتَ أن الوتر في كلام الإمام عبارة عمّا صُلِّي وترًا بنيته موصولًا بتسليمةٍ واحدة: ركعة أو ثلاث أو خمس أو أكثر. وأما أهل مذهبه فإن الوتر في كلامهم عبارةٌ عما صُلِّي بنية الوتر، من ركعةٍ إلى أحد عشر، مع الوصل أو الفصل. قلت: وظاهر قول الربيع: "فإنا لا نحب لأحدٍ أن يُوتِر بأقلَّ من ثلاثٍ، ويُسلِّم بين الركعة والركعتين من الوتر": أن مذهب مالك أن الوتر عبارة عن

(16/265)


تلك الثلاث المفصولة، وعليه بنى الشافعي جوابَه في الوجه الرابع حيث قال: "وقد استحسنتم أن توتروا بثلاثٍ"، والظاهر أن ذلك قولٌ في مذهب مالك. والراجح عنده أن الوتر هو الركعة المفصولة. قال الباجي في "شرح الموطأ": فأما المسألة الثانية في عدد الوتر، فإن مالكًا رحمه الله ذهب إلى أن الوتر ركعة واحدة، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: الوتر ثلاث ركعات. والدليل على ما نقوله قول عائشة رضي الله عنها في الحديث: "يُوتِر منها بواحدةٍ" (1). قال ابن رشد في "بداية المجتهد" (2): وأما صفته ــ أي الوتر ــ فإن مالكًا رحمه الله استحبَّ أن يُوتر بثلاثٍ يُفصَل بينها بسلام. وقال أبو حنيفة: الوتر ثلاث ركعات من غير أن يُفصَل بينها بسلام. وقال الشافعي: الوتر ركعة واحدةٌ. ولكلِّ قولٍ من هذه الأقاويل سلفٌ من الصحابة والتابعين. إلى أن قال: فمن ذهب إلى أن الوتر ركعة واحدة، فمصيرًا إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "فإذا خشيتَ الصبحَ فأوْتِرْ بواحدة" (3)، وإلى حديث عائشة أنه كان يُوتِر بواحدة (4). ومن ذهب إلى أن الوتر ثلاث من غير أن يُفصَل بينها، وقصرَ حكم الوتر على الثلاث فقط ... إلخ. _________ (1) (2/ 161) ط. دار الكتب العلمية. (2) (1/ 236 - 238) ط. دار الكتب الإسلامية بمصر. (3) أخرجه البخاري (1137) ومسلم (749) من حديث ابن عمر. (4) أخرجه أبو داود (1336، 1337) والنسائي (2/ 30، 3/ 65) وابن ماجه (1177، 1358). وصححه ابن حبان (2422، 2423) وغيره.

(16/266)


إلى أن قال: وأما مالك فإنه تمسك في هذا الباب بأنه عليه الصلاة والسلام لم يُوتر قطُّ إلّا في إثر شَفْعٍ، فرأى أن ذلك من سنة الوتر، وأن أقل ذلك ركعتان، فالوتر عنده على الحقيقة إما أن يكون ركعةً واحدةً، ولكن من شرطها أن يتقدمها شَفْع، وإما أن يرى أن الوتر المأمور به هو يشتمل على شَفْع ووتر، فإنه إذا زيد على الشفع وترٌ صار الكلُّ وترًا. ويشهد لهذا المذهب حديث عبد الله بن قيس المتقدم (1)، فإنه سمَّى الوتر فيه العدد المركب من شفع ووتر، ويشهد لاعتقاده أن الوتر هو الركعة الواحدة أنه كان يقول: كيف يوتر بواحدة ليس قبلها شيء؟ وأي شيء يُوتِر له؟ وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "تُوتِر له ما قد صلَّى" (2). فإن ظاهر هذا القول أنه كان يرى أن الوتر الشرعي هو العدد الوتر بنفسه، أعني الغير المركب من الشفع والوتر، وذلك أن هذا هو وتر لغيره، وهذا التأويل عليه أولى. هـ. قلتُ: فكلام الباجي قاطعٌ بأن الوتر عند مالك ركعة واحدة، ومفادُه أن الشفع الذي قبلها لا يجوز أن يكون بنية الوتر. وأما ابن رشد فرجَّح ذلك أيضًا، وكلاهما نسباه إلى الشافعي. وأجاز ابن رشد أن يكون مالك يرى أن الوتر يشتمل على شفعٍ ووتر، أي مفصولين، لاستدلاله بحديث عبد الله بن قيس، ولفظه: "قلت لعائشة: بكم كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يُوتر؟ قالت: كان يُوتِر بأربعٍ وثلاثٍ، وستٍّ وثلاث، وثمانٍ وثلاث، وعشرٍ وثلاث. ولم يكن يُوتِر بأنقصَ من سبعٍ، ولا بأكثر من ثلاث عشرة". وأما مع الوصل فثلاثٌ _________ (1) أخرجه أبو داود (1362) من حديث عبد الله بن أبي قيس عن عائشة. ويقال له "ابن قيس" أيضًا. (2) أخرجه البخاري (990) ومسلم (749).

(16/267)


بتسليمة، أو خمسٌ أو سبع أو تسع، فآخر كلامه أن مالكًا ــ بناءً على الراجح عنه ــ يُسمِّي المجموع وترًا، إلّا أنه لم يُجِز الوصل. فقد تبيَّن لك أن الراجح عنده عن مالك أن الوتر هو حقيقة شرعية في الركعة الواحدة، ولو أُجِيز الوصلُ بثلاثٍ أو أكثر لكان ذلك وِترًا أيضًا. وأما إذا حصل الفصل بين ركعتين وركعة مثلًا، فلا يكون الوتر إلّا الركعة، فتأمَّلْ. وظاهر كلامهما نسبة ذلك إلى الشافعي، وهو صحيح. * * * *

(16/268)


مبحث في الوتر [بواحدة] أجاز الشافعية الاقتصار على واحدةٍ ليس بين العشاء وطلوع الفجر غيرُها، واستدلُّوا بأحاديث: منها: حديث مسلم (1) عن ابن عمر وابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "الوترُ ركعةٌ من آخر الليل". ومنها: عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "الوتر حقٌّ على كل مسلمٍ، من أحبَّ أن يُوتِر بخمسٍ فليفعلْ، ومن أحبَّ أن يُوتِر بثلاثٍ فليفعلْ، ومن أحبَّ أن يُوتِر بواحدةٍ فليفعلْ". رواه أبو داود (2) بإسناد صحيح، كما قاله النووي في "شرح المهذَّب" (3). ورواه النسائي وابن ماجه (4)، وصححه ابن حبان والحاكم (5)، كما في "الفتح" (6) وغيره. وعند الدارقطني (7) بإسنادٍ قال بعض شُرَّاحه (8): رواتُه كلهم ثقات عن _________ (1) رقم (753). (2) رقم (1422). (3) "المجموع" (4/ 17). (4) النسائي (3/ 238، 239) وابن ماجه (1190). (5) "صحيح ابن حبان" (2407، 2410، 2411) و"المستدرك" (1/ 302، 303). (6) (2/ 482). (7) في "سننه" (2/ 33). (8) هو شمس الحق العظيم آبادي في "التعليق المغني" (2/ 34).

(16/269)


عائشة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أوتر بركعة. قال في "المغني" (1): وفي "صحيح ابن حبان" (2) من حديث ابن عباس أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أوترَ بركعة. قال بعضهم (3): قال العراقي: وممن أوترَ بعد العشاء بركعةٍ من الصحابة: الخلفاء الأربعة، وسعد بن أبي وقاص، ومعاذ بن جبل، وأُبي بن كعب، وأبو موسى الأشعري، وأبو الدرداء، وحذيفة، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، ومعاوية، وتميم الداري، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو هريرة، وفضالة بن عُبيد، وعبد الله بن الزبير، ومعاذ بن الحارث القاري. هـ قلت: في البخاري (4) أن سعد بن أبي وقاص أوتر بواحدةٍ. وفيه أيضًا (5) كذلك عن معاوية، وأن ابن عباس أقرَّه على ذلك بقوله لمن اعترض عليه: دَعْه فإنه فقيهٌ. والبحث معهم يتوقف على مقدمة، وهي تحقيق مسمَّى "الوتر" ما هو؟ أهو صلاة الليل التي يكون آخرها فردًا مطلقًا، أو الركعة الفردة منها مطلقًا، أو هو آخر صلاةٍ في الليل تكون وترًا بتسليمةٍ واحدة، سواء أكانت واحدةً أو أكثر؟ _________ (1) "مغني المحتاج" (1/ 221). (2) رقم (2424). (3) هو الشوكاني، انظر "نيل الأوطار" (3/ 39). (4) رقم (6356). (5) رقم (3764).

(16/270)


بحث في حقيقة "الوتر" ومسمَّاه في الشرع روينا في "صحيح مسلم" (1) بسنده إلى أبي مِجْلَز قال: سالتُ ابن عباس عن الوتر، فقال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: "ركعةٌ من آخر الليل"، وسألتُ ابن عمر فقال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: "ركعةٌ من آخر الليل". وهذا الحديث بعض حديث. أقول: رويناه في "سنن أبي داود" و"سنن النسائي" و"سنن ابن ماجه". قال أبو داود (2): (باب كم الوترُ؟) حدثنا محمد بن كثير أنا همام عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن ابن عمر أن رجلًا من أهل البادية سأل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن صلاة الليل، فقال بإصبعَيْه هكذا: "مَثْنَى مَثْنَى، والوتر ركعة من آخر الليل". قلت: وهذا الإسناد صحيح. وقال النسائي (3): (باب كم الوترُ؟) أخبرنا محمد بن يحيى بن عبد الله قال: حدثنا وهب بن جرير قال: حدثنا شعبة عن أبي التيَّاح عن أبي مِجْلَز عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "الوتر ركعةٌ من آخر الليل". أخبرنا محمد بن بشار قال: حدثنا يحيى ومحمد قالا: حدثنا ــ ثم ذكر كلمةً معناها ــ شعبة عن قتادة عن أبي مِجْلَز عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "الوتر ركعةٌ من آخر الليل". _________ (1) رقم (753). (2) في "سننه" (2/ 62) رقم (1421). (3) (3/ 232).

(16/271)


أخبرنا الحسن بن محمد عن عفان قال: حدثنا همام قال: حدثنا قتادة عن عبد الله بن شقيق عن ابن عمر أن رجلًا من أهل البادية سأل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن صلاة الليل، قال: "مثنى مثنى، والوتر ركعةٌ من آخر الليل". وهذا الإسناد الأخير صحيح. وقال ابن ماجه (1): حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، ثنا عبد الواحد بن زياد، ثنا عاصم عن أبي مِجْلَز عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعة". قلت: أرأيتَ إن غلَبتْني عيني، أرأيتَ إن نِمْتُ؟ قال: "اجعَلْ "أرأيتَ" عند ذلك النجم". فرفعتُ رأسي، فإذا السِّماكُ. ثم أعاد فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعةٌ قبلَ الصبح". وإسناده صحيح، ولفظ "قبل الصبح" هو بمعنى اللفظ الآخر: "من آخر الليل". وقد ورد إطلاق الوتر على الركعة الواحدة الموصولة بالشفع، كما في روايةٍ لأبي داود (2) في حديث سعد بن هشام عن عائشة، وفيها: "فصلَّى ثماني ركعاتٍ يُخيَّلُ إليَّ أنه يُسوِّي بينهن في القراءة والركوع والسجود، ثم يوتر بركعةٍ ... " الحديث. مع أن عامة طرق الحديث عند أبي داود (3) وعند مسلم (4) وغيرهما مبينةٌ أن الركعة متصلة بالثمان، وذلك أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - صلَّى تسعًا جميعًا، وإنما أفردت الركعة في هذه الرواية لأنه فصلَ بينها وبين الثمان _________ (1) رقم (1175). (2) رقم (1352). (3) رقم (1342، 1343، 1346، 1347). (4) رقم (746).

(16/272)


بتشهدٍ، ولم يُسلِّم إلّا في التاسعة، كما في عامة الروايات. وقد تُحمل هذه الرواية على أن يُوتِر بركعة بمعنى يُوتِر الثمانَ، أي يُصيِّرها وترًا. وإن لم يُقبل هذا التأويل فهذا إطلاق ثالث مجازًا، ومنه أيضًا رواية أبي سلمة عند مسلم (1) قالت (2): "كان يصلِّي ثلاث عشرة ركعةً، يُصلِّي ثمانَ ركعات ثم يُوتِر، ثم يُصلِّي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع، ثم يُصلِّي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح". كما ثبت عنها في مسلم (3) وغيره من رواية سعد بن هشام، وفيه: "ويُصلِّي تسعَ ركعاتٍ لا يجلس فيها إلّا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يُسلِّم، ثم يقوم فيصلِّي التاسعة ... " الحديث. وأصرحُ منه رواية النسائي (4) في حديث سعد بن هشام المذكور، ولفظه: "قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا أوتر بتسع ركعاتٍ لم يقعد إلا في الثامنة، فيحمد الله ويذكره ويدعو، ثم ينهض ولا يُسلِّم، ثم يُصلِّي التاسعة ... " الحديث. وهذا الإطلاق مجازٌ أيضًا. وقد يُطلق الوتر مجازًا على مطلقِ صلاة الليل، لاشتمالها على الوتر، رواه بعضهم عن الطيبي، ومرَّ نَقْلُه فيه عن "سنن الترمذي"، واقتضاه كما _________ (1) رقم (738/ 126). (2) أي عائشة رضي الله عنها. (3) رقم (746). (4) (3/ 240).

(16/273)


ذكرنا صنيع الإمام النسائي، بل يقتضيه كلام أكثر العلماء لتأوُّلهم إطلاقَ الوتر على الثلاث عشرة في بعض الأحاديث على أنه أدخل فيه سنة العشاء أو افتتاح الوتر أو سنة الصبح، ومنه حديث أم سلمة وحديث الحاكم السابقانِ، وحديث أبي داود (1) بإسناد صحيح إلى عبد الله بن أبي قيس قال: قلتُ لعائشة رضي الله عنها: بكَمْ كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يُوتر؟ قالت: كان يُوتِر بأربعٍ وثلاث، وستٍّ وثلاث، وثمانٍ وثلاث، وعشرٍ وثلاث. ولم يكن يُوتِر بأنقصَ من سبعٍ ولا بأكثر من ثلاث عشرة. وهذا الحديث دليل واضح على ما قلناه؛ لأنه صُرِّح فيه بالتقطيع، وقد عرفتَ أن عامة الأحاديث على إطلاق الوتر على القطعة الأخيرة. وقوله: "ولم يكن يُوتِر بأنقصَ من سبعٍ" مع أن القطعة الأخيرة قد صحَّ وقوعُها ركعةً واحدةً. وليس من هذا بعض روايات حديث ابن عمر (2): "صلَّى ركعةً واحدةً تُوتِرُ له ما قد صلَّى"؛ إذ لا يتعين أن يكون معنى "تُوتِر له ما قد صلَّى" أي تُصيِّره وترًا، بل المعنى: تكون منه وترًا. وهذا الإطلاق هو الأقرب إلى مذهبنا؛ لأن الوتر عند أصحابنا عبارة عن صلاةٍ مخصوصةٍ، أقلُّها ركعةٌ وأكثرها أحد عشر. قالوا: وما ورد من أنه ثلاثة عشر أو خمسة عشر، فهو بضمِّ ركعتين خفيفتين عند افتتاح الوتر، وركعتين قبليَّة الصبح. قلت: وهذا هو المجاز الذي قلناه، وقلنا: إنه كذلك إذا ورد مطلقًا على أحد عشر مقطعة أو نحوها، وحقيقة فيما صُلِّي وترًا بتسليمةٍ واحدةٍ، ولم يثبت ذلك في أكثر من تسعٍ. _________ (1) رقم (1362). (2) عند البخاري (990) ومسلم (749).

(16/274)


ولا ينافي ما ذكرناه من وَصْل الثلاث والخمس والسبع والتسع قولُه - صلى الله عليه وآله وسلم -: "صلاة الليل مثنى مثنى"، وإن اقتضى ذلك الحصر؛ لأننا نقول: صلاة الليل غير الوتر، كما هو مفهوم من السنة. ولذلك ترى الأئمة كالشيخين وغيرهما يُفرِدون كلًّا بترجمة (1). وحينئذٍ فالصلاة التي تُقدَّمُ على الوتر ينبغي أن تكون مثنى مثنى، فإذا جاء الوتر كان الإنسان بالخيار: إن شاء صلَّى واحدةً، وإن شاء صلَّى ثلاثًا، وإن شاءَ سبعًا، وإن شاء تسعًا، كما مرَّ. ويَدُلُّك على ذلك أنه لو قال: "صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ثلاث" أو نحو ذلك لكان الكلام _________ (1) ذكر المؤلف في هامشه ما يلي: قال في "الفتح" في أول أبواب الوتر: ولم يتعرَّض البخاري لحكمه، لكن إفراده بترجمةٍ عن أبواب التهجد والتطوع يقتضي أنه غير ملحقٍ بها عنده. ثم ذكر أن ذلك يقتضي أنه يُوجِبه، ولكنه أورد ما يُنافي الوجوب. وأقول: بل المقتضي لإفرادِه بترجمة هو ما عرفتَ، ومما يدلُّك على ذلك أن صلاة الليل كانت مشروعةً من أول الإسلام، بخلاف الوتر، فإنما شُرِع أخيرًا. ويُبيِّن هذا حديثُ "السنن": "إنَّ الله أمدّكم بصلاةٍ هي خيرٌ لكم من حُمر النعم. قلنا: وما هي يا رسول الله؟ قال: الوتر". الحديث سيأتي إن شاء الله. لا يقال: إن شرطَ وقوعه في الليل يُدخِلُه في صلاة الليل، فإنا نقول: هذا وإن اقتضَتْه اللغة، لكن صلاة الليل أُطلِقَتْ شرعًا على صلاةٍ مخصوصة، ولا تَشْمَلُ كلَّ ما وقع بالليل، إذ لا تَشْمَلُ المغربَ والعشاء ورَواتبَها اتفاقًا، فكذا الوتر. ولا يَرِدُ على هذا أن الوتر يكفي عن صلاة الليل، لأننا نقول: ذلك مثل سنة الوضوء وتحية المسجد، يكفي عنهما وقوعُ صلاةٍ في وقتهما. فتأمَّل. [المؤلف]. والحديث الذي ذكره أخرجه أبو داود (1418) والترمذي (452) وابن ماجه (1168) من حديث خارجة بن حُذافة. قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن حبيب.

(16/275)


صحيحًا. وسيأتي بحث صلاة الليل مثنى مثنى إن شاء الله تعالى. وصنيع الإمام النسائي رحمه الله يقتضي أن الوتر عنده هو ما صُلِّي وترًا بتسليمةٍ واحدةٍ، سواء أكان واحدةً أو ثلاثًا أو سبعًا أو تسعًا، وأنه قد يُطلَق على الإحدى عشرة والثلاث عشرة مجازًا. وهذا هو الحق عندي، وعامة الأحاديث والآثار تدلُّ عليه إلا ما ندر. قال أولًا (1): (باب كم الوتر؟ )، فأورد فيه حديث: "الوتر ركعة من آخر الليل" بروايتين، ثم ختمه بأصله أن رجلًا من أهل البادية سأل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن صلاة الليل، قال: "مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل". ثم قال (2): (باب كيف الوتر بواحدة؟ ) وأورد فيه حديث ابن عمر بلفظ: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا أردتَ أن تنصرفَ فاركعْ بواحدة" وروايات أخرى بألفاظ مختلفة. وختمه بحديث عروة عن عائشة: "كان يُصلِّي من الليل إحدى عشرة ركعة يُوتِر منها بواحدة ... " إلخ. ثم قال (3): (باب كيف الوتر بثلاث؟ )، وأورد حديث عائشة، وفيه: "يُصلِّي أربعًا فلا تسأَلْ عن حسنهن وطولهن، ثم يصلِّي أربعًا فلا تسألْ عن حسنهن وطولهن، ثم يُصلِّي ثلاثًا ... " الحديث. ثم ثنَّى بحديث سعد بن هشام عن عائشة "أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان لا يُسلِّم في ركعتي الوتر". ثم أطال بالاختلافات الواقعة في بعض أحاديث [الوتر] بالثلاث. _________ (1) "سنن النسائي" (3/ 232). (2) المصدر نفسه (3/ 233). (3) المصدر نفسه (3/ 234).

(16/276)


ثم قال (1): (باب كيف الوتر بخمسٍ؟ )، وصدَّره بحديث الحكم عن مِقْسم عن أم سلمة: "كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يُوتِر بخمسٍ وبسبعٍ لا يَفصِل بينها بسلامٍ ولا بكلام". ورواه أخرى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس عن أم سلمة بلفظ "بسبعٍ أو بخمسٍ". ثم رواه بسنده إلى الحكم عن مقسم قال: "الوتر سبع، فلا أقلَّ من خمس". فذكرتُ ذلك لإبراهيم فقال: عمن ذكره؟ قلت: لا أدري. قال الحكم: فحججتُ فلقيتُ مِقْسمًا، فقلت له: عمن؟ قال: عن الثقة عن عائشة وعن ميمونة. قلت: وفي "تهذيب التهذيب" (2): قال أحمد وغيره: لم يسمع الحكم حديث مقسم ــ كتاب ــ إلا خمسة أحاديث، وعدَّ منها حديث الوتر. ومِقْسم من رجال البخاري، وممن طُعِن فيه منهم، وقد وثَّقه جماعة، ولكن في "تهذيب التهذيب" (3): وقال البخاري في "التاريخ الصغير": لا يُعرف لمِقسمٍ سماعٌ عن أمّ سلمة ولا ميمونة ولا عائشة. قلتُ: والرواية الوسطى بواسطة ابن عباس. قلتُ: ورجال الثالثة رجال الصحيح إلّا شيخ النسائي محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، فهو من أفراده، وقال عنه ــ كما في "الخلاصة" (4) وغيرها ــ: ثقة حافظ. وأما مِقْسم فقد علمتَ ما فيه. _________ (1) المصدر نفسه (3/ 239). (2) (2/ 434). (3) (10/ 289). (4) (ص 327)، و"تهذيب التهذيب" (9/ 56).

(16/277)


ثم ذكر النسائي (1) حديث عائشة: "كان يوتر بخمسٍ ولا يجلس إلّا في آخرهن". ثم قال (2): (باب كيف الوتر بسبعٍ؟ )، فذكر حديث سعد بن هشام عن عائشة مختصرًا بلفظ: "قالت: لما أسنَّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأخذَ اللحمَ، صلَّى بستّ ركعاتٍ لا يقعد إلا في آخرهن" الحديث. ثم ذكره مطوَّلًا. ثم قال (3): (باب كيف الوتر بتسعٍ؟ )، فذكر حديث سعد بن هشام عن عائشة، وفيه: "ويصلّي تسع ركعاتٍ لا يجلس فيهن إلَّا عند الثامنة، ويحمد الله ويصلّي على نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - ويدعو بينهن، ولا يسلِّم، ثم يُصلِّي التاسعة ... " الحديث. ثم أعاده بروايات أخرى. ثم روى بسنده إلى الأسود عن عائشة قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يصلّي من الليل تسعَ ركعات". ثم أراد أن يُبيِّن أن الوتر إذا أُطلِق على أكثر من ذلك فالمراد به صلاة الليل، والحال أنه قد ذكره في (باب كيف الوتر بواحدةٍ؟ )، وذلك صريح في أن الوتر في هذا الحديث واحدة. ثم ذِكْره هنا في (باب الوتر بإحدى عشرة) صريح في أن الوتر فيه بإحدى عشرة. وهذا بحسب الظاهر مناقضة، والسرُّ ما ذكرناه من أنه أراد أن يُبيِّن ما أشرنا إليه، فحينئذٍ الاستدلال بهذا الحديث في البابين هو باعتبارين، فذكره هناك باعتبار أن الوتر هو ما صُلِّي وترًا بتسليمةٍ واحدة، وذكره هنا باعتبار أن الوتر قد يطلق على صلاة الليل، فقال (4): (باب _________ (1) (3/ 240). (2) (3/ 240). (3) (3/ 241). (4) "سنن النسائي" (3/ 243).

(16/278)


كيف الوتر بإحدى عشرة)، فذكر حديث عروة عن عائشة: "كان يُصلِّي من الليل إحدى عشرة ركعة ويُوتر منها بواحدة" الحديث. ثم قال (1): (باب الوتر بثلاثَ عشرةَ)، وذكر فيه حديث أم سلمة: "كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يُوتِر بثلاثَ عشرةَ ركعةً، فلما كبر وضعُف أوتَر بتسعٍ". وهو بمعنى الذي قبله، فالمراد بالوتر فيه صلاة الليل. فالحق ــ إن شاء الله ــ أن الوتر حقيقة شرعية تقعُ على ما صُلِّي وِترًا بتسليمةٍ واحدةٍ، سواء أكان ركعةً أو ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو تسعًا، ولا يثبت أكثر من ذلك. وهذا المعنى هو الذي عليه عامة الأحاديث والآثار، وهو المتبادر من لفظ الوتر؛ إذ الوتر في اللغة هو كما في "القاموس" (2): "الفرد أو ما لم يتشفَّعْ من العدد"، وذلك إنما يُعتبر فيما جُمِع، لا فيما فُرِّق. فلو صلَّى ركعتين ثم سلَّم ثم صلَّى ثلاثًا، لم يَنْبغِ أن يُطلَق الوتر إلّا على الثلاث التي وقعت بتسليمة واحدة، ولا تشركُ معها الركعتان، لانفصالِ كلٍّ من الصلاتين عن الأخرى وانقطاعها. وقد أفهمك حسنُ صنيع الإمام النسائي رحمه الله ما قلناه من أن لفظ: "الوتر ركعة من آخر الليل" هو بعض الحديث الآخر، وإنما أفرده ابن عباس وابن عمر لأن أبا مِجْلَز إنما سألهما عن الوتر كما في مسلم (3)، وأصل _________ (1) (3/ 243). (2) (2/ 152). (3) رقم (753).

(16/279)


الحديث مشتمل على بيان صلاة الليل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أجاب به من سأله عنها كما مرَّ، فأخذا من الحديث ما يتعلق به الغرض، ومثل هذا كثير في الأحاديث. وقد روى البخاري ومسلم حديث: "صلاة الليل مثنى مثنى" عن ابن عمر بروايات مختلفة (1)، فإما أن تُحمَل على التعدد، وإما أن تكون من باب الرواية بالمعنى، وقد ثبت للواقعة التعددُ مرتين، وذلك في رواية عبد الله بن شقيق عند مسلم (2) عن عبد الله بن عمر أن رجلًا سأل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأنا بينه وبين السائل، فقال: يا رسول الله، كيف صلاةُ الليل؟ قال: "مثنى مثنى، فإذا خشيتَ الصبحَ فصلِّ ركعةً، واجعل آخرَ صلاتك وترًا". ثم سأله رجل على رأس الحول وأنا بذلك المكان من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فلا أدري أهو ذلك الرجل أو رجل آخر، فقال له مثله. انتهى. فيمكن أن يكون الجواب الثاني مغايرًا للجواب الأول في اللفظ، وقول ابن عمر: "فقال له مثله" أي مثل معناه. قال في "الفتح" (3): ووقع في "المعجم الصغير" (4) للطبراني أن السائل هو ابن عمر لكن يُعكِّر عليه روايةُ عبد الله بن شقيق عن ابن عمر (5) أن رجلًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا بينه وبين الرجل ... ، فذكر الحديث، وفيه: ثم سأله رجلٌ _________ (1) انظر "صحيح البخاري" (472، 473، 990، 993، 1137) ومسلم (749). (2) رقم (749/ 148). (3) (2/ 478). (4) (1/ 103). (5) عند مسلم (749/ 148).

(16/280)


على رأس الحول وأنا بذلك المكان منه، قال: فما أدري أهو ذلك الرجل أو غيره. وعند النسائي (1) من هذا الوجه أن السائل المذكور من أهل البادية. وعند محمد بن نصر في كتاب "أحكام الوتر" ــ وهو كتاب نفيس في مجلدة ــ من رواية عطية عن ابن عمر أن أعرابيًا سأل. فيحتمل أن يُجمَع بتعدد من سأل، وقد سبق في باب الحِلَق في المسجد أن السؤال المذكور وقعَ في المسجد والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على المنبر. هـ (2). أقول: قد يثبت برواية "المعجم" زيادة مرة ثالثة للتعدد، وأما رواية أعرابي فهي بمعنى رجل من أهل البادية، وكلاهما بمعنى رواية عبد الله بن شقيق التي أشار إليها الحافظ. ولا يثبت زيادة تعدد برواية ابن عباس، لاحتمال أنه سمعه مع ابن عمر، ولاسيَّما والسؤال وقع في المسجد والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على المنبر، والغالب حضور ابن عباس حينئذٍ. وقد أفهمَ قولُ "الفتح": "وعند النسائي من هذا الوجه ... " إلخ، أن الحديث واحدٌ وإن اختلفت الروايات، وهو ظاهر. وقد عرفتَ لفظ النسائي، وعلى كثرة الروايات فالظاهر أن لفظ النسائي من أصحِّها؛ لأن ابن عباس وابن عمر أفرداه في مقام الفتوى في الوتر كما علمتَ. إذا تقرر ذلك فلنُعِدْ لفظَ الإمام النسائي (3) لنبني عليه البحث في حقيقة الوتر: عن ابن عمر أن رجلًا من أهل البادية سأل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن صلاة _________ (1) (3/ 233). (2) الهاء رمز "انتهى". (3) (3/ 233).

(16/281)


الليل، قال: "مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل". أقول وبالله التوفيق: قوله: "الوتر ركعة من آخر الليل" قد يقال: إنه يفيد الحصر، وهو أن الوتر لا يكون إلّا كذلك، وليس مرادًا هنا، لأن من قال به في مثل هذا شَرَطَ أن لا تمنع منه قرينة، وقد منعتْ منه ههنا قرائن، لأن القول به يقتضي أن لا تصلَّى تلك الركعة إلا مفصولةً، إذ لو وُصِلَتْ بركعتين مثلًا فإما أن ينوي بالثلاث وترًا، والوتر لا يكون إلّا واحدةً، وإما أن ينوي بالثنتين من قيام الليل وبالثالثة وترًا، ولم يُرِدْ مثل هذا مَن جمع صلاتين مختلفتين بتسليمة واحدة. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - الوصلُ بثلاثٍ وبخمسٍ وبسبعٍ وبتسعٍ، وورد في الإحدى عشرة إفراد واحدةٍ آخرَ صلاةِ الليل، كما يقتضيه هذا الحديث، وثبت عنه الثلاث عشرة بما يحتمله، وكل ذلك يُطلَق عليه لفظ الوتر. من ذلك: حديث مسلم (1) عن عروة عن عائشة قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يُصلِّي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء ــ وهي التي يدعو الناس العَتَمة ــ إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يُسلِّم بين كل ركعتين ويُوتِر بواحدة" الحديث. ومن ذلك: حديث مسلم (2) عن ابن عباس، وفيه: "فصلَّى ركعتين، فأطال فيهما، ثم انصرف فنامَ، ففعل ذلك ثلاث مرات بستّ ركعات، كلَّ ذلك يستاك ويتوضأ، ويقرأ هذه الآيات، ثم أوتر بثلاثٍ" الحديث. _________ (1) رقم (736/ 122). (2) رقم (763/ 191).

(16/282)


ومن ذلك: حديث أحمد والشيخين (1) عن عائشة: "كان رسولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يُصلِّي من الليل ثلاث عشرة ركعةً، يُوتِر بخمسٍ لا يجلس في شيء إلّا في آخرها". ولمسلم (2) في حديث عائشة وقد سألها سعد بن هشام عن وتر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وفيه: "ويُصلِّي تسعَ ركعات لا يجلس فيها إلّا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يُسلِّم، ثم يقوم فيصلِّي التاسعة"، وساق الحديث إلى أن قالت: "فلما أسنَّ نبي الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأخذه اللحم أوتر بسبعٍ" الحديث. وأما الإحدى عشرة فيحتمله حديث عائشة عند الشيخين (3): "كان يصلي من الليل عشر ركعات، ويُوتِر بسجدةٍ" لاحتمال أن يكون وصل الأحد عشر بتشهدين: تشهُّد في العاشرة ولم يُسلِّم، وتشهُّد في الحادية عشرة وسلَّم. وقد وقعت مثل هذه العبارة بمثل هذه الصورة في بعض روايات حديث سعد بن هشام عند أبي داود (4)، ولفظه: "فصلَّى ثمان ركعاتٍ يُخيَّل إليَّ أنه يُسوِّي بينهن في القراءة والركوع والسجود، ثم يوتر بركعة ... " الحديث. يحتمل أن التسع موصولة، وقولها مع ذلك: "يوتر _________ (1) "المسند" (24239) وصحيح مسلم (737/ 123). ولم أجده بهذا اللفظ عند البخاري. (2) رقم (746). (3) مسلم (738/ 128). ولفظ البخاري (1140): "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعةً، منها الوتر وركعتا الفجر". (4) رقم (1352).

(16/283)


بركعةٍ" مجاز كما سيأتي. وأصرح منه حديث البخاري (1) عن عروة عن عائشة: "وقد كان يُصلِّي إحدى عشرة ركعةً، كانت تلك صلاتَه" الحديث. وأما الثلاث عشرة فيحتمله حديث النسائي (2) بإسنادٍ فيه أحمد بن حرب، قال فيه ابن أبي حاتم: صدوق، وقال النسائي: لا بأس به. ذكر ذلك في "تهذيب التهذيب" (3). قال: وذكره ابن حبان في "الثقات" (4)، وخرَّج له في "صحيحه". قلت: وبقية رجاله رجال الصحيح، فهو إسناد صحيح. ولفظ الحديث: عن أم سلمة قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يوتر بثلاثَ عشرةَ ركعةً، فلما كبر وضعُفَ أوتَر بتسع". فظاهر الحديث أن الثلاث عشرة موصولة، ولكن عامة الأحاديث أن الإحدى عشرة والثلاث عشرة لم تقع إلا مفصولةً، ومنه حديث الشيخين (5) عن عائشة: "كان يصلِّي من الليل عشر ركعات ويوتر بسجدةٍ". وحديث البخاري (6) عن عروة عنها، وفيه: "كان يصلِّي إحدى عشرة ركعة، كانت _________ (1) رقم (1123). (2) (3/ 243). (3) (1/ 23). (4) انظر (8/ 39). (5) مسلم (738/ 128). وسبق التنبيه على لفظ البخاري (1140). (6) رقم (1123).

(16/284)


تلك صلاته ... " الحديث. وحديث مسلم (1) عنها، وفيه: "إحدى عشرة ركعة، يُسلِّم بين كلِّ ركعتين، ويُوتر بواحدةٍ ... " الحديث. ومنه حديث أم سلمة أن الترمذي رواه في "سننه" (2) بلفظ النسائي، إلا أنه قال: "بسبعٍ". ثم قال (3): حديث أم سلمة حديث حسن، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الوتر بثلاثَ عشرة وإحدى عشرة وتسعٍ وسبعٍ [وخمسٍ] وثلاثٍ وواحدة. قال إسحاق بن إبراهيم: معنى ما رُوِي أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يُوتِر بثلاثَ عشرةَ، قال: إنما معناه أنه كان يُصلِّي من الليل ثلاث عشرة ركعةً مع الوتر، فنُسِبَتْ صلاة الليل إلى الوتر. ورَوَى في ذلك حديثًا عن عائشة. واحتجَّ بما رُوِي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: "أوتروا يا أهل القرآن". قال: إنما عَنَى به قيام الليل، يقول: إنما قيام الليل على أصحاب القرآن. هـ قلتُ: استدلالُه بحديث: "أوتروا يا أهل القرآن" يُعكِّر عليه أن في آخره كما في "بلوغ المرام" (4): "فإن الله وِتْرٌ يحبُّ الوتر". قال: رواه الخمسة (5)، وصححه ابن خزيمة (6). فالتعليل بقوله: "فإن الله وتر" يستدعي مناسبةً مَّا، فتأمَّلْ. _________ (1) رقم (736/ 122). (2) رقم (457). (3) أي الترمذي بعد رواية الحديث في "سننه" (2/ 320، 321). (4) (2/ 14) مع "سبل السلام". (5) أحمد في "المسند" (877) وأبو داود (1416) والترمذي (453) والنسائي (3/ 288، 229) وابن ماجه (1169). (6) رقم (1067).

(16/285)


وأما قوله: "إنها أرادت كان يُصلِّي من الليل ... " إلخ، فجيد جدًّا، وعامة الأحاديث تؤيِّده، وكل ما روي في الثلاث عشرة فمُفصَّلٌ بالتقطيع والوتر فيه، إلّا هذا الحديث وحديث الحاكم (1): "لا تُوتِروا بثلاثٍ تُشبِّهوا بالمغرب، أو تروا بخمسٍ أو بسبعٍ أو بتسعٍ أو بإحدى عشرة أو أكثر من ذلك"، فهما مجملان، فيُحملانِ على الأصحّ الأغلب. إذا تقرر ما ذُكِر فقد أجاز أصحابنا الاقتصارَ على ركعة واحدةٍ بعد العشاء، واستدلُّوا بحديث مسلم (2) عن ابن عمر وابن عباس مرفوعًا: "الوتر ركعةٌ من آخر الليل". وحديث أبي أيوب مرفوعًا: "الوتر حقٌّ على كل مسلم، فمن أحبَّ أن يُوتر بخمسٍ فليفعل، ومن أحبَّ أن يُوتِر بثلاثٍ فليفعلْ، ومن أحبَّ أن يُوتِر بواحدةٍ فليفعلْ" رواه أبو داود (3) بسند صحيح. قاله النووي في "شرح المهذّب" (4). ورواه النسائي وابن ماجه، وصححه ابن حبان والحاكم (5) كما في "الفتح" (6). _________ (1) في "المستدرك" (1/ 304). (2) رقم (753). (3) رقم (1422). (4) (4/ 17). (5) "سنن" النسائي (3/ 238) وابن ماجه (1190) وابن حبان (2407) و"المستدرك" (1/ 302). (6) (2/ 482).

(16/286)


وحديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أوتر بركعةٍ. رواه الدارقطني (1). قال بعض شرَّاحه (2): رواته كلهم ثقات. ومثله في صحيح ابن حبان (3) عن ابن عباس، قاله في "المغني" (4). قالوا: وقد ثبت عن جماعة من الصحابة الإيتار بركعةٍ، كسعد بن أبي وقّاص، ومعاوية وصوَّبه ابن عباس (5)، بل رُوي عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة فمَن بعدهم. وفي كلٍّ من أدلتهم نظر: أما حديث: "الوتر ركعة من آخر الليل" فهو من الإطلاق الثاني كما مر، وليس فيه الاقتصار عليها، بل قد ثبت عن ابن عمر التصريحُ بخلافه كما مرَّ عن "سنن أبي داود" (6). نعم، هو دليلٌ على مَن يقول: لا تكفي الواحدة وترًا وإن سبَقَها شفعٌ بغير نية الوتر. وأما حديث أبي أيوب ففي "بلوغ المرام" (7): ورجَّح النسائي وقفَه، _________ (1) (2/ 33). (2) هو شمس الحق العظيم آبادي في "التعليق المغني" (2/ 34). (3) رقم (2424). (4) "مغني المحتاج" (1/ 221). (5) أخرجه البخاري (3764). (6) رقم (1421) عن ابن عمر أن رجلًا من أهل البادية سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل، فقال بإصبعيه هكذا: "مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل". (7) (2/ 8) مع "سبل السلام".

(16/287)


قال الشارح ابن الأمير (1): وكذا صحَّح أبو حاتم والذهلي والدارقطني في "العلل" والبيهقي وغير واحدٍ وقفَه. قال المصنِّف: وهو الصواب. انتهى. وأما قول الشارح بعد ذلك: "قلت: وله حكم الرفع، إذ لا مَسْرحَ للاجتهاد فيه أي في المقادير"، ففيه نظر ظاهر. ومع الإغماض عن ذلك فهو محمولٌ على الإطلاق الثالث، وليس فيه الاقتصار على .... ، وغايةُ ما فيه أن يكون دليلًا على من يقول: لا تكفي الواحدة وترًا وإن سبَقَها شفعٌ بغير نية الوتر، كما في ........ (2). وأما حديث عائشة عند الدارقطني، وابن عباس عند ابن حبان (3)، أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -[أوتَر] بركعةٍ، فهو محمولٌ على الإطلاق الثاني أو الثالث، وكأنه مختصر من أحاديثهما المطولة، كما في الصحيحين (4) عن عائشة كان يصلِّي من الليل عشر ركعات ويُوتِر بسجدة، وعنها عند مسلم (5): إحدى عشرة. وحديث ابن عباس عندهما (6)، وفيه: "فصلَّى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر". قال في "الفتح" (7): وظاهره أنه فصلَ بين كل ركعتين، ووقعَ التصريحُ _________ (1) في "سبل السلام" (2/ 8). وانظر "العلل" لابن أبي حاتم (2/ 428 - 430) و"علل الدارقطني" (6/ 95 - 97) و"السنن الكبرى" للبيهقي (3/ 24). (2) مكان النقط كلمات غير واضحة. (3) سبق تخريجهما. (4) البخاري (1140) ومسلم (738/ 128). (5) رقم (736). (6) البخاري (993) ومسلم (763/ 182). (7) (2/ 483).

(16/288)


بذلك في رواية طلحة بن نافع (1)، حيث قال فيها: يُسلِّم من كلِّ ركعتين، ولمسلم (2) من رواية علي بن عبد الله بن عباس التصريحُ بالفصل أيضًا، وأنه استاك بين كل ركعتين، إلى غير ذلك. هـ يُقوِّي أنها لا تُصلَّى إلا مفصولةً حديثُ علي عليه السلام قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "أَوتِرُوا يا أهلَ القرآن، فإن الله وِترٌ يحبُّ الوتر" رواه الخمسة (3)، وصححه ابن خزيمة (4) قاله في "بلوغ المرام" (5). ووجهُ التقويةِ المقابلةُ بين قوله: "فإن الله وِتر يحبُّ الوتْرَ". فتأمَّلْ، ويقويه صدرُ الحديث نفسه. قال في "الفتح" (6): وقد فسَّره ابن عمر راوي الحديث، فعند مسلم (7) من طريق عُقبة بن حُرَيث قال: قلتُ لابن عمر: ما معنى مثنى مثنى؟ قال: تُسلِّم من كل ركعتين. وفيه ردٌّ على من زعم من الحنفية أن معنى "مثنى" أن يتشهد بين كل ركعتين؛ لأن راوي الحديث أعلم بالمراد به، وما فسَّره به هو المتبادر إلى الفهم؛ لأنه لا يقال في الرباعية مثلًا: إنها مثنى مثنى. _________ (1) عند ابن خزيمة (1093). (2) رقم (763/ 191). (3) أحمد في المسند (877) وأبو داود (1416) والترمذي (453) والنسائي (3/ 228، 229) وابن ماجه (1169). (4) برقم (1067). (5) (2/ 14) مع "سبل السلام". (6) (2/ 479). (7) رقم (749/ 159).

(16/289)


واستُدِلَّ بهذا على تعيُّن الفصل بين كل ركعتين من صلاة الليل. قال ابن دقيق العيد: وهو ظاهر السياق، لحصْر المبتدأ في الخبر. وحمله الجمهور على أنه لبيان الأفضل، لما صحَّ من فعله - صلى الله عليه وآله وسلم -[بخلافه] (1). قلت: ولم يُبيِّن ذلك. فأما أحاديث الوصل بين التسع والسبع والخمس والثلاث فلا تُعكِّر عليه؛ لأنها وتر. وقوله: "مثنى مثنى" واقع على صلاة الليل. وأما حديث عائشة عندهما (2) وفيه: "كان يُصلِّي أربعًا فلا تسألْ عن حسنهن وطولهن، ثم يُصلِّي أربعًا فلا تسألْ عن حسنهن وطولهن، ثم يُصلِّي ثلاثًا"، فقد أجاب عنه الباجي في "شرح الموطأ" (3)، وعبارته: وقوله (4): "يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن" تُرِيد ــ والله أعلم ــ أنه كان يَفصِل بينهما بكلام، ولكنها جمعتهما في اللفظ لأحد معنيين: أحدهما: أن صفتهما وطولهما وحسنهما من جنس واحدٍ، وأن الأربع الأُخر ليست من جنسهما وإن كانت قد أخذتْ من الحُسن والطول حظَّها. والمعنى الثاني: أنه يحتمل أنه كان يُصلِّي أربعًا ثم ينام، ثم يصلي اربعًا ثم ينام، ثم يُصلِّي ثلاثًا. ثم استدل بحديث ابن عباس في تقطيع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صلاته بالنوم .... _________ (1) زيادة من الفتح ليتم المعنى. (2) البخاري (1147) ومسلم (738). (3) "المنتقى" (1/ 215 - 216) ط. السعادة. (4) كذا في الأصل، وفي المنتقى.

(16/290)


ويؤيد ما قاله قولها في آخر الحديث: "قلتُ: يا رسول الله، أتنامُ قبلَ أن توتر؟ ... " إلخ. وكذا حديث عائشة عند مسلم (1) برواية القاسم بن محمد: "كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من الليل عشر ركعات، ويُوتِر بسجدة، ويركع ركعتي الفجر، فتلك ثلاث عشرة" (2) = محمول على أنه كان يصلِّيها مثنى مثنى، لما ثبت عنها في رواية عروة (3): "كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يُصلِّي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء ــ وهي التي يدعو الناس العَتَمة ــ إلى الفجر إحدى عشرة ركعةً يُسلِّم بين كل ركعتين، ويُوتر بواحدةٍ، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر وتبيَّن له الفجر وجاءه المؤذن، قام فركع ركعتين خفيفتين ... " الحديث. وأما رواية أبي سلمة عند مسلم (4) قالت: "كان يُصلِّي ثلاث عشرة ركعةً، يُصلِّي ثمانَ ركعاتٍ ثم يُوتِر، ثم يُصلِّي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركعَ، ثم يُصلِّي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح"، فيحتمل وجهين: الأول: أن يُحمل على الفصل مثنى مثنى. الثاني: أنه جمع التسع معًا، كما شرحته رواية سعد بن هشام، وقد ورد في بعض طرقه عند أبي داود (5): "فيُصلِّي ثماني ركعاتٍ يُسوِّي بينهن في _________ (1) رقم (738/ 128). (2) في الأصل: "ثلاثة عشر"، والتصويب من صحيح مسلم. (3) أخرجها مسلم (736/ 122). (4) برقم (738/ 126). (5) رقم (1347).

(16/291)


القراءة والركوع والسجود، ولا يجلس في شيء منهن إلّا الثامنة، فإنه كان يجلس، ثم يقوم ولا يُسلِّم، فيصلِّي ركعةً يُوتِر بها ... " الحديث. وفي رواية أخرى (1): "فصلَّى ثمانَ ركعاتٍ يُخيَّلُ إليَّ أنه يُسوِّي بينهن في القراءة والركوع والسجود، ثم يُوتر بركعةٍ" الحديث. لكن قد ثبت عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - الوصلُ بثلاثٍ وبخمسٍ وبسبعٍ وبتسعٍ، وحينئذٍ فالحصر المفهوم من قوله: "صلاة الليل مثنى مثنى" والحصر المفهوم من قوله: "والوتر ركعة من آخر الليل" غير مرادَيْن. والحصر في مثل هذا مختلف فيه، ومن قال به قال: ما لم تَصْرِف عنه قرينة، وكفى بفعل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قرينةً، وليس هنا ما يُلْجِئ إلى دعوى الخصوصية، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - الفصلُ كما ثبتَ الوصلُ. وممّا ذُكِر تقرر أن إطلاق الوتر على الركعة الواحدة خاصٌّ بما إذا كانت مفصولةً. وقد ورد إطلاق الوتر على الثلاث أو الخمس أو السبع أو التسع التي تُوقَعُ موصولةً: فمنه حديث مسلم (2) عن ابن عباس، وفيه: "فصلَّى ركعتين أطالَ فيهما [القيامَ والركوعَ والسجود] (3)، ففعلَ ذلك ثلاث مراتٍ، ستَّ ركعاتٍ، كلَّ ذلك يستاك ويتوضأ، ويقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتَر بثلاثٍ" الحديثَ. ومنه حديث أحمد والشيخين (4) عن عائشة كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يصلِّي _________ (1) عند أبي داود (1352). (2) رقم (763/ 191). (3) مطموس في الأصل. (4) "المسند" (24239) ومسلم (737) ولم أجده عنده البخاري بهذا اللفظ.

(16/292)


من الليل ثلاثَ عشرةَ ركعةً، يُوتِر بخمسٍ لا يجلس في شيء إلا في آخرها. ولمسلم (1) في حديث عائشة، وقد سألها سعد بن هشام عن وتر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وفيه: "ويُصلّي تسعَ ركعاتٍ لا يجلس فيها إلّا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم ينهض، ولا يُسلِّم، ثم يقوم فيصلِّي التاسعة". ثم ساق الحديث إلى أن قالت: "فلما أسنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأخذَه اللحمُ أوترَ بسبعٍ" الحديث. وقد رواه أبو داود (2). فتلخَّص لنا أن الوتر بهذا الاعتبار عبارةٌ عن ما صُلِّي وترًا بتسليمةٍ واحدةٍ، سواء أكان ركعةً أو ثلاثًا أو أكثر وترًا. والظاهر أنه حقيقة شرعية فيه، لأن عامة الأحاديث عليه إلّا الأقلّ. ويُؤيِّد ما قلناه أن الخلاف كان شائعًا: هل تُختَم صلاة الليل بركعةٍ مستقلةٍ أو بثلاثٍ أو أكثر من ذلك؟ ويُطلقون على ذلك لفظ "الوتر"، كما هو شأن الإطلاق الثالث. يدلُّك عليه حديثُ البخاري (3) عن القاسم عن عبد الله بن عمر مرفوعًا: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا أردتَ أن تنصرفَ فاركعْ ركعةً تُوتِر لك ما صلَّيت". قال القاسم: ورأينا أناسًا منذ أدركنا يُوتِرون بثلاثٍ، وإن كلًّا لواسعٌ، وأرجو أن لا يكون بشيءٍ منه بأسٌ. هـ. _________ (1) رقم (746). (2) رقم (1342). (3) رقم (993).

(16/293)


قال في "الفتح" (1): قوله: "يوترون بثلاث، وإن كلًّا لواسعٌ" يقتضي أن القاسم فهم من قوله: "فاركَعْ ركعةً" أي منفردةً منفصلةً، ودلَّ ذلك على أنه لا فرقَ عنده بين الوصل والفصل في الوتر. والله أعلم. هـ فإنهما ذكَرا حديثهما لمجرد إفادة وقوع الفصل من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وأما فعل الصحابي فلا حجة فيه كما لا يخفى، على أن أكثر ما رُوي من ذلك محتمل. فإن قيل: سلَّمنا هذه الاحتمالات، ولكن ظاهر هذه الأحاديث لا يأبى جواز الاقتصار على ركعة، ومثل هذا الظاهر يُكتفَى به ما لم يُعارضه ما هو أقوى منه. قلت: فقد عارضه ما هو أقوى منه في ذلك، حديث الصحيحين (2): "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدُكم الصبحَ صلَّى ركعةً واحدةً تُوتِر له ما قد صلَّى". قال في "الفتح" (3): واستُدِلَّ به على تعيُّنِ الشَّفْع قبل الوتر، وهو عن المالكية بناءً على أن قوله: "ما قد صلَّى" أي من النفل. وحملَه من لا يشترط سبقَ الشَّفْع على ما هو أعمُّ من النفل والفرض، وقالوا: إنَّ سبْق الشَّفْع شرطٌ في الكمال لا في الصحة. هـ ثم أيَّده بحديث أبي أيوب وما رُوي عن بعض الصحابة. _________ (1) (2/ 485). (2) البخاري (990) ومسلم (749) عن ابن عمر. (3) (2/ 481).

(16/294)


قلت: أما الحمل على ما هو أعمُّ من النفل والفرض فيُبطِله السياق، بل المتعين: "تُوتِر له ما قد صلَّى" أي من صلاة الليل التي الكلام فيها. وأما تأييده بحديث أبي أيوب فقد علمتَ ما في حديث أبي أيوب، وكذا ما رُوي عن بعض الصحابة كما مرَّ آنفًا. وقد ورد النهيُ عن البُتَيراء كما أشار إليه في "الفتح" (1). وفيه: أن الطحاوي (2) حملَ البتيراء على إفراد ركعةٍ واحدةٍ وإن سبقها شَفْعٌ. قال الحافظ (3): مع احتمال أن يكون المراد بالبتيراء أن يُوتِر بواحدةٍ فردةٍ ليس قبلها شيء. وقد يطلق الوتر على صلاة الليل، كما نقله بعضهم عن الطيبي (4). ومن ذلك حديث أحمد وأبي داود (5) عن عائشة، وقد سبق، وإسناده صحيح كما مرّ. وفيه: "ولم يكن يُوتِر بأنقصَ من سبعٍ، ولا بأكثر من ثلاثَ عشرةَ". والمراد بالوتر في هذا الحديث مطلق صلاة الليل كما مرَّ في الإطلاق الأول، فلا ينافي ما ثبتَ أنه كان يُوتِر بواحدةٍ وبثلاثٍ وبخمسٍ، إذ هذا من الإطلاق الثالث، فالمراد بالسبع إلى الثلاث عشرة صلاة الليل، مع قطع النظر عن الوصل والفصل، والمراد بالواحدة واحدةٌ سبَقَها شَفْعٌ سِتٌّ فأكثر، وبالثلاث ثلاثٌ سبقها شَفْعٌ أربعٌ فأكثر، وبالخمس خمسٌ سَبقَها شَفْعٌ _________ (1) (2/ 486). (2) في "شرح معاني الآثار" (1/ 279). (3) في "الفتح" (2/ 486). (4) بعده بياض في الصفحة. (5) "المسند" (25159) وأبو داود (1362).

(16/295)


ركعتانِ فأكثر، جمعًا بين الأحاديث. وبما ذُكر تقرر اشتراط الشفع قبل الواحدة، ولا يكفي في ذلك سنة العشاء، لما مرَّ أن سياقَ حديث "صلاة الليل مثنى مثنى" يُبيِّن أن قوله: "تُوتِر له ما قد صلَّى" أي من صلاة الليل التي الكلام فيها. وكذا حديث "ولم يكن يُوتِر بأنقصَ من سبعٍ" إذ الوترُ فيه من الإطلاق الأول كما علمتَ، وهو وإن شملَ صلاةَ الليل مطلقًا فليس منه بَعديَّةُ العشاء. * * * *

(16/296)


الفصل الثاني في الاقتصار على ثلاث أجازه أصحابنا لما مرَّ، وقد علمتَ الجواب عليه. وقال بعض الحنفية بتعيينه وصلًا، قال في "الفتح" (1): "واحتج بعض الحنفية لما ذهب إليه من تعيين الوصلِ والاقتصارِ على ثلاثٍ: بأن الصحابة أجمعوا على أن الوتر بثلاثٍ موصولةٍ حسنٌ جائز، واختلفوا فيما عداه. قال: فأخذنا بما أجمعوا عليه، وتركنا ما اختلفوا فيه". هـ أما تجويز أصحابنا فكما مرَّ في الاقتصار على الواحدة أن ظواهر ما استدلُّوا به لا تأبى ما قالوه، ومثلُ ذلك يُعمل به ما لم يعارضه أقوى منه. قلت: وقد عارضه حديث عائشة المارّ، وفيه: "ولم يكن يُوتِر بأنقصَ من سبعٍ". وعارضه أيضًا ما ساقَه في "الفتح" في سياق الرد على الحنفي. قال (2): "وتعقَّبه محمد بن نصر المروزي بما رواه (3) من طريق عراك بن مالك عن أبي هريرة مرفوعًا وموقوفًا: "لا تُوتِروا بثلاثٍ تُشبِّهوا بصلاة المغرب"، وقد صححه الحاكم (4) من طريق عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة والأعرج عن أبي هريرة مرفوعًا نحوه، وإسناده على شرط _________ (1) (2/ 481). (2) (2/ 481). (3) ومن طريقه الحاكم في "المستدرك" (1/ 304). (4) في "المستدرك" (1/ 304).

(16/297)


الشيخين، وقد صححه ابن حبان (1) والحاكم (2)، ومن طريق مِقْسم عن ابن عباس وعائشة كراهية الوتر بثلاث، وأخرجه النسائي (3) أيضًا. وعن سليمان بن يسار أنه كره الثلاث في الوتر، وقال: "لا يُشبِه التطوعُ الفريضةَ". فهذه الآثار تقدح في الإجماع الذي نقلوه. وأما قول محمد بن نصر: "لم نجد عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خبرًا ثابتًا صريحًا أنه أوتر بثلاثٍ موصولةً، نعم ثبت عنه أنه أوتر بثلاثٍ، لكن لم يبيِّن الراوي هل هي موصولة أم مفصولة". انتهى. فيَرِدُ عليه ما رواه الحاكم (4) من حديث عائشة أنه كان - صلى الله عليه وآله وسلم - يُوتِر بثلاثٍ لا يقعد إلَّا في آخرهن. وروى النسائي (5) من حديث أبي بن كعب نحوه، ولفظه: "يُوتِر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، ولا يُسلِّم إلّا في آخرهن". وبيَّن في عدة طرق أن السوَر الثلاث بثلاث ركعات. ويُجاب عنه باحتمال أنهما لم يثبتا عنده. والجمع بين هذا وبين ما تقدم من النهي عن التشبه بصلاة المغرب أن _________ (1) رقم (2429). (2) (1/ 304). (3) (3/ 239، 240). (4) في "المستدرك" (1/ 304). وفيه في المتن "لا يسلم"، وأشار في الهامش إلى "لا يقعد". وهو الصواب في هذه الرواية، كما نبَّه على ذلك شمس الحق العظيم آبادي في "التعليق المغني" (2/ 26، 27)، وبيَّن تحريف بعض الحنفية فيه. (5) (3/ 235، 236).

(16/298)


يُحمل النهي على صلاة الثلاث بتشهدين، وقد فعله السلف أيضًا، فروى محمد بن نصر (1) من طريق الحسن أن عمر كان ينهض في الثالثة من الوتر بالتكبير، ومن طريق المِسور بن مَخْرمة أن عمر أوتر بثلاثٍ لم يُسَلِّم إلّا في آخرهن، ومن طريق ابن طاوس عن أبيه أنه كان يُوتِر بثلاثٍ لا يَقعد بينهن، ومن طريق قيس بن سعد عن عطاء وحماد بن زيد عن أيوب مثله. انتهى. أقول: وقوله: "وقد فعله السلف ... إلخ" يُوهِم أنه صلاة الثلاث بتشهدين وتسليمة واحدةٍ، ولم يذكر ما هو صريح في ذلك إلا ما يوهمه حديث عمر. ثم قال بعدُ: وروى محمد بن نصر (2) عن ابن مسعود وأنس وأبي العالية أنهم أوتروا بثلاثٍ كالمغرب، وكأنهم لم يبلغهم النهي المذكور. وسيأتي في هذا الباب قول القاسم بن محمد في تجويز الثلاث، ولكن النزاع في تعيُّن ذلك، فإن الأخبار الصحيحة تأباه. انتهى (3). أقول: قد سُقتُ هنا عبارة "الفتح" بطولها لأَبني عليها: فأولًا: هل فيما ذكره دليلٌ لأصحابنا على جواز الاقتصار على (4) الثلاث؟ فنقول: يُوهِم ذلك قولُ محمد بن نصر: "نعم، ثبت عنه أنه أوتر _________ (1) "مختصر قيام الليل وكتاب الوتر" (ص 122). (2) المصدر نفسه (ص 122، 123). (3) أي كلام الحافظ في "الفتح" مع ما تخلَّله من كلام المؤلف. (4) في الأصل: "عن" سهوًا.

(16/299)


بثلاثٍ ... إلخ". والجواب عنه أن ما ثبت من ذلك هو بعدَ سَبْقِ شَفْعٍ، كما في حديث عائشة المتفق عليه (1): "يُصلِّي أربعًا، فلا تسألْ عن حسنهن وطولهن، ثم يُصلِّي أربعًا، فلا تسألْ عن حسنهن وطولهن، ثم يُصلِّي ثلاثًا" الحديث. وكذا رواية عند مسلم (2) في حديث ابن عباس، وفيها: "فصلَّى ركعتين أطال فيهما، ثم انصرف فنام حتى نفخَ، ففعلَ ذلك ثلاثَ مراتٍ ستَّ ركعات، كلَّ ذلك يستاك ويتوضأ، ويقرأ هؤلاء الآيات، يعني آخرَ آل عمران، ثم أوتَر بثلاثٍ" الحديثَ. وعلى هذا يُحمل ما رواه الحاكم عن عائشة، وما رواه النسائي من حديث أبي بن كعب (3)، وكذا ما رُوي عن عُمر ومَن بعده، وأشار إليه من قول القاسم وقد مرَّ، وعلى ما ذكرناه هنا وفي الفصل الأول يدلُّ سياق الإمام النسائي في "سننه" حيث قال (4): (باب كيف الوتر بواحدةٍ؟ ) ثم ساق حديث ابن عمر: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا أردت أن تنصرف فاركعْ واحدة" برواياته. ثم عقَّبه بحديث عائشة: "كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يُوتِر منها بواحدة" الحديث. ثم قال (5): (باب كيف الوتر بثلاث؟ ) وساق حديث عائشة الذي مرَّ، وفيه: "أربعًا وأربعًا وثلاثًا". فأَفْهَمك بحِذْقِه أن ليس المراد من إطلاقِ "أوتر بواحدة" [و] "أوتر بثلاث" الاقتصار عليها _________ (1) البخاري (1147) ومسلم (738). (2) رقم (763/ 191). (3) سبق تخريجهما. (4) (3/ 233). (5) (3/ 234).

(16/300)


بدون سَبْقِ غيرها، فافهمْ. ثانيًا: هل فيما ذكره دليلٌ على أصحابنا؟ أقول: نعم. ولنبدأ بتحقيق الكلام في حديث: "لا توتِروا بثلاثٍ": أولًا: حديث الدارقطني (1) عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "لا تُوتِروا بثلاث، أوتروا بخمسٍ أو سبعٍ، ولا تُشبِّهوا بصلاة المغرب". قال: كلهم ثقات. ورواه من طريق أخرى بمثله إلّا أنه قال: "بسبع". قال الشارح (2) على الرواية الأولى: وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (3) بهذا الإسناد والمتن، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يُخرجاه. وكذا أخرجه البيهقي (4). وأخرجه الحاكم (5) أيضًا من جهة أخرى بقوله: حدثنا، وساق السند إلى عِراك بن مالك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "لا تُوتروا بثلاثٍ تُشبِّهوا بصلاة المغرب، ولكن أوتروا بخمسٍ أو بسبعٍ أو بتسعٍ أو بإحدى عشرةَ أو بأكثر من ذلك". وأخرج محمد بن نصر المروزي في "قيام الليل" (6) له: حدثنا ... _________ (1) في "سننه" (2/ 24، 25). (2) هو العلامة المحدث شمس الحق العظيم آبادي في "التعليق المغني على سنن الدارقطني" (2/ 24، 25). (3) (1/ 304). (4) في "السنن الكبرى" (3/ 31). (5) في "المستدرك" (1/ 304). (6) (ص 125).

(16/301)


إلخ، وساق السند إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - نحوه. وهكذا أخرجه ابن المنذر وابن حبان (1)، كما في "التلخيص" (2). وقال الحافظ في "فتح الباري" (3): وقد صححه الحاكم من طريق عبد الله بن الفضل، وإسناده على شرط الشيخين، وقد صححه ابن حبان. انتهى. وقال في "التلخيص" (4): حديث أبي هريرة رجاله كلهم ثقات، ولا يضره وقفُ من أوقفَه. انتهى. وقد صحح زين الدين العراقي إسنادَ طريقين: طريق عراك بن مالك، وطريق عبد الله بن الفضل، كما في "النيل" (5). وصححه مجد الدين الفيروزابادي في "سفر السعادة" (6)، وكذا أقرَّ على صحته الحافظ ابن القيم في "إعلام الموقعين عن ربّ العالمين" (7) (8). أقول: أما الحديث فقد صحَّ، وقد مرَّ جمعُ الحافظ بينه وبين أحاديث الوتر بثلاث ركعات، وفي النفس من ذلك شيء. والتحقيق أن يقال: إن هذا _________ (1) رقم (2429). (2) "التلخيص الحبير" (2/ 15). (3) (2/ 481). (4) (2/ 15). (5) "نيل الأوطار" (3/ 43). (6) (ص 64) ط. دار القلم بيروت. (7) (2/ 354). (8) إلى هنا انتهى النقل من "التعليق المغني" للعظيم آبادي.

(16/302)


الحديث ورد بمتنينِ: أحدهما هو قوله: "لا توتروا بثلاثٍ، أوتروا بخمسٍ أو بسبعٍ، ولا تُشبِّهوا بصلاة المغرب". والثاني قوله: "لا توتروا بثلاثٍ تُشبِّهوا بصلاة المغرب، ولكن أوتروا بخمسٍ أو بسبعٍ أو بتسعٍ أو بإحدى عشرةَ أو بأكثر من ذلك". وظاهر المتن الأول أن قوله: "ولا تُشبِّهوا بصلاة المغرب" عطفُ تفسيرٍ لقوله: "لا تُوتِروا بثلاثٍ"، قيل لبيان علته، ويحتمل أن يكون نهيًا آخر. وأما المتن الثاني فإن "تُشبِّهوا" بدل من "لا تُوتِروا"، فلا يحتمل إلّا معناه. وبيانه أن النهي عن التشبيه بصلاة المغرب هل هو فيما يتعلق بالكمّ وحده أو بالكيف وحده أو بهما معًا؟ فإن كان بالكمّ فقط امتنع أن يصلي في الليل ثنتين، ثم بعد وقتٍ يُصلِّي واحدة؛ لأن المجموع حينئذٍ ثلاث، وهي قدر المغرب. وإن كان بالكيف فقط امتنع أن يصلِّي ثلاثًا معًا وإن سبقَ قبلَها عددٌ من الشفع. وإن كان بهما معًا لم يمتنع إلا أن يُجمع بين الثلاث ويقتصر عليها. فأقول: الحديث باللفظ الأول ظاهر في إرادة الكمّ محتملٌ للإطلاق، وباللفظ الثاني نصٌّ في إرادة الكمّ، فتعيَّن أن يكون الأول كذلك. إذا تقرر هذا فالحديث نصٌّ في النهي عن التشبيه بالمغرب بالكمّ، ثم هذا الكمّ هل هو معتبر في الوتر بالإطلاق الأول أو بالإطلاق الثالث؟ أقول: الحديث باللفظ الأول محتملٌ للأمرين، وباللفظ الثاني متعين للإطلاق الأول كما مرَّ؛ لأن فيه: "أو بأحد عشر أو بأكثر من ذلك"، وغاية صلاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الليل ثلاثة عشر على نزاعٍ.

(16/303)


ثانيًا: لو كان من الإطلاق الثالث لاقتضى أن الأحد عشر تُصلَّى بتسليمةٍ واحدة، وكذا الأكثر من ذلك، وهو غريب. ثالثًا: إن الوتر عند أصحابنا غايته أحد عشر، وهذا أربَى عليها، فثبتَ أن الوتر فيه من باب الإطلاق الأول، أي عبارة عن صلاة الليل يًصلِّيها - صلى الله عليه وآله وسلم -، مع قطع النظر عن النية وعن الوصل والفصل، وحينئذٍ فيتعين حمل اللفظ الأول عليه. فثبت أن مورد النهي عن التشبيه بالمغرب هو في الكمّ فقط، وفي مطلق صلاة الليل الذي كان يُصلِّيها - صلى الله عليه وآله وسلم -. إذا تقرر ذلك فلو اقتصر في ليلةٍ على ثلاث ركعات عدا سنة العشاء والفجر فقد شبَّه، سواء وصلَها بتشهُّدٍ واحد أو تشهدين، أو فصلَها بزمن قصير أو طويل، مع اتحاد النية بأن نوى بها الوتر، أو تفريقها بأن نوى بالركعتين من قيام الليل ونوى بالركعة الوتر، وإذا صلَّى في ليلةٍ عدا سنة العشاء والفجر اثنتين وثلاثًا، أو أربعًا وثلاثًا، أو ستًّا وثلاثًا، أو ثمانيًا وثلاثًا، أو عشرًا وثلاثًا= لم يقع في التشبيه أصلًا، سواء وصلَ الثلاثَ بتشهد أو تشهدين، أو فصلَها بزمن قصير أو طويل، مع اتحاد النية أو تفريقها، وحينئذٍ فالجمع الصحيح بين هذا الحديث وبين ما ورد من الإيتار بثلاثٍ: أن ما ورد من إطلاق الإيتار بالثلاث فالمراد به جمعها بعد أن يسبقها عددٌ من الشفع، ومن استقرأ الآثار وجدها كذلك إلّا ما شذّ. ويدلُّك على ذلك ظاهر وتر عمر أنه كان ينهض في الثالثة من الوتر بالتكبير، وما رُوِي عن ابن مسعود وأنس وأبي العالية أنهم أوتروا بثلاثٍ كالمغرب، وكفى بهؤلاء، ويبعد كل البعد أن لا يطلعوا على حديث النهي عن التشبيه بالمغرب، بل الظاهر أنهم كانوا أعلمَ به من غيرهم، حيث فهموا

(16/304)


أن مورده النهي عن التشبيه بالاقتصار على الثلاث في ليلة، لا التشبيه بالكيف، فكانوا رضي الله عنهم يُصلُّون ما شاء الله، ثم يُوتِرون بثلاثٍ كما عرفتَ. نعم، قد يقال: إن التشبيه بالكيف يُحكَم بالنهي عنه قياسًا على التشبيه بالكمّ، ولاسيَّما وقد نصّ على العلة في نفس الحديث. قلتُ: هذا قوي، ويدلُّ له أنَّ عامة ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من وتر الثلاث ليس فيه النصُّ على شيء أنه بتشهدين، وأما بتشهدٍ واحدٍ فكثير كما مرَّ. وأما فعلُ ابن مسعود وأنس وأبي العالية وظاهر ما رُوي عن عمر فمحمولٌ على أنهم لم يعتبروا القياس المذكور، كأنهم رأوا أن تشبيه النفل بالفرض ليس علةً كاملةً، إذ قد ورد صلاةُ أربعٍ قبل الظهر لا يُسلِّم إلّا في آخرهن، وذلك يُشبه الظهر. وقد مرّ حديث عائشة "أربعًا وأربعًا وثلاثًا" وغير ذلك. ولكن ظاهر الحديث خلاف ذلك، فاعتبار القياس قوي، وعليه فيمتنع الوتر بثلاثٍ بتشهدين ولو كان قد صلَّى قبلها عددًا من الشفع، وعليه فالجمع الذي ذكره الحافظ يعتبر لاعتبار الكيف، والله أعلم. تنبيه قد مرَّ في الفصل الأول أنه لابدّ أن يتقدم الواحدةَ شَفْعٌ غير سنةِ العشاء، كما يدلُّ عليه سياقُ حديث "صلاة الليل مثنى ... " إلى آخره، وتقرر في هذا الفصل أن الشفع الذي يتقدم الواحدة لابدَّ أن يكون أربعًا فأكثر، ولا يُعتَدُّ فيه بسنة العشاء لما قرَّرناه أن لفظ: "لا توتِروا بثلاثٍ، أوتروا بخمسٍ ... " إلخ من الإطلاق الأول، أي أن الوتر عبارة عما يَشملُ صلاةَ الليل إلى ثلاث عشرة ركعة، وسنة العشاء ليست من ذلك.

(16/305)


فتقرر أنه لابدَّ أن يُصلِّي الإنسان بعد سنة العشاء وقبل سنة الصبح خمسًا على الأقل، فإنه أقلُّ ما تُؤدَّى به السنةُ خارجًا من النهي، ومن أراد أدنى الكمال فلابدَّ من سبعٍ، لحديث عائشة المتقدم: "ولم يكن يُوتِر بأنقصَ من سبعٍ". والله أعلم. * * * *

(16/306)


اللفظ الثاني (1): "ولم يكن يُوتر بأنقصَ من سبعٍ"، إن قلتم: حقيقة، قلنا لكم: فكيف بقولها: "ولا بأكثر من ثلاث عشرة"؟ وتقدير: "ولا يصلي بأكثر من ثلاث عشرة" من الحذف، وقد مرَّ ما فيه، على أن الباء تدفع ذلك. وتقدير: "ولا يُوتِر بأكثر ... " إلخ، وإن دفع الباء فهو لا يُجدِيْ شيئًا. على أنه لا يضرُّنا القول بأنه حقيقة لاحتمال الوصل، وليس في قولها: "بأربع وثلاثٍ" أنه لم يكن يُصلِّي السبع إلّا كذلك. وقد ورد عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - وَصْلُ السبع من عدة روايات. وإن قلتم: مجاز، فهو بجميع طرقه لا يدلُّ على ما قلتم كما مرَّ، بل غاية ما فيه أن يحتمل ذلك، فيُطلب دليلٌ غيره، والدليل بيدنا. وإن قلتم: حقيقة باعتبار مجاز باعتبار، فقد مرَّ ما فيه، وغاية ما فيه الاحتمال أيضًا. اللفظ الثالث: "يُوتر بثلاث عشرة"، إما أن تقولوا: مجاز، أو حقيقة ومجاز باعتبارين، وكلُّ ذلك بأنواعه لا يُجدِيكم شيئًا، بل غايته الاحتمال. اللفظ الرابع: "أوترَ بسبعٍ". إن قلتم: حقيقة، فلا بأس، لاحتمال الوصل، ولكن جَعْله مقابلًا لما بعده يُنافي ذلك. اللفظ الخامس: ["لا تُوتِروا بثلاثٍ"]، كالذي قبله. اللفظ السادس: "أوتروا بخمسٍ أو بسبعٍ أو بتسعٍ أو بإحدى عشرة أو بأكثر من ذلك". يأتي فيه ما مرَّ في اللفظ الأول. وقد سبق ما يؤكِّد مجازية هذا الحديث فراجعه. _________ (1) الكلام من هنا غير متصل بما قبله، وهكذا وُجد في الأصل ناقصًا.

(16/307)


والحق في الألفاظ الستة من الأحاديث الثلاثة أنها كلَّها مجازاتٌ عن صلاة الليل، فمعنى الحديث الأول: كان يُصلِّي بالليل أربعًا وثلاثًا، وستًّا وثلاثًا، وثمانيًا وثلاثًا، وعشرًا وثلاثًا. ولم يكن يُصلِّي في ليلةٍ أقلَّ من سبعٍ ولا أكثر من ثلاث عشرة. فقولها: "أربع وثلاث، وستّ وثلاث، وثمان وثلاث" كرواية مسروق عند البخاري قال: سألتُ عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل، فقالت: "سبع وتسع وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر". وقولها: "وعشر وثلاث" كرواية عروة عند البخاري عنها أيضًا قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعةً، ثم يُصلِّي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين". ومعنى الحديث الثاني: كان يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، فلما كَبُرَ وضعُفَ صلَّى سبعًا. وهو شبيهٌ بحديث عائشة. ومعنى الحديث الثالث: لا تُصلُّوا في الليل ثلاثًا مقتصرةً عليها، تُشبهوا المغرب، صلُّوا خمسًا أو سبعًا أو تسعًا أو إحدى عشرة أو أكثر من ذلك. وقد مرَّ شرحه مستوفًى. * * * *

(16/308)


قال (1) شيخ الإسلام (2): "واستشكل وجوب الثلاثة عليه لضعف الخبر، وبجَمْعِ العلماء بين أخبار الضحى المتعارضة في سنيتها بأنه كان لا يداوم عليها، مخافةَ أن تُفرَض على أمته فيَعْجِزوا عنها، ولأنه قد صحَّ عنه أنه كان يُوتِر على بَعيرِه، ولو كان واجبًا عليه لامتنعَ ذلك. وقد يُجاب عن الأول باحتمال أنه اعتضد بغيره. وعن الثاني بأن صلاة الضحى واجبةٌ عليه بالجملة. وعن الثالث باحتمال أنه صلاها على الراحلة وهي واقفة، على أن جواز أدائها على الراحلة من خصائصه أيضًا". قلت: هذه الأجوبة لا تُجدي شيئًا. أما الأول: فإن مجرد احتمال الاعتضاد ليس اعتضادًا. وأما الثاني: فلا نعرف معنى الوجوب على الجملة، هل معناه أن ركعتي الضحى وجبتْ عليه في العمر مرةً أو غير ذلك؟ وأما الثالث فاحتمال وقوف الراحلة يُبعِده حديث سعيد بن يسار عند البخاري (3) قال: "كنتُ أسير مع عبد الله بن عمر بطريقِ مكة، فقال سعيد: فلما خشيتُ الصبحَ نزلتُ فأوترتُ ثم لحِقْتُه. فقال عبد الله بن عمر: أين كنتَ؟ فقلتُ: خشيتُ الصبحَ فنزلتُ فأوترتُ، فقال عبد الله: أما لك في رسول الله أسوةٌ حسنة؟ قلتُ: بلى والله! قال: فإن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يُوتِر على البعير". _________ (1) لم نجد الكلام المتعلق به في النسخة، وأبقيناه كما هو. (2) أي زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب في شرح روض الطالب" (3/ 98) ط. دار الكتب العلمية. (3) رقم (999).

(16/309)


قلتُ: فواقعةُ سعيد بن يسار كانت في حالة السير، كما يدلُّ عليه قوله: "ثم لَحِقتُه"، وقوله: "فقال: أين كنت؟ "، وذلك يدلُّ أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يوتر عليها في حالِ السير. وأما قوله: "على أن جواز أدائها على الراحلة من خصائصه أيضًا"، فهو مردود بما قلنا، ولنا أدلة أخرى على عدم وجوب الوتر عليه - صلى الله عليه وآله وسلم -، ربما نُشير إليها في المقالة الثانية. وأما ما رواه البخاري (1) عن نافع "أن ابن عمر كان يُسلِّم بين الركعة والركعتين في الوتر"، فإنه وإن كان ظاهره إيقاع الوتر على الثلاث المفصولة، فليس لكم فيه دليل: أولًا: أنه أطلق ذلك؛ لأن الناس كانوا يُوترون بثلاث، كما في البخاري (2): "قال القاسم: ورأينا أناسًا منذُ أدركنا يُوترون بثلاث". وحكاه مالك (3) عن عمل أهل المدينة وإن لم يأخذ به، فصار عندهم لكثرة فعل الوتر ثلاثًا يتبادر منه عند الإطلاق تلك الثلاث حتى كأنه خاص بها، فلذلك عبَّر به نافع مع وجود الفصل. ثانيًا: أن قوله: "في الوتر" ليس معناه: في وتره، وإنما معناه: في الثلاث التي تُوتِر الناسُ بها. _________ (1) رقم (991). (2) رقم (993). (3) في "الموطأ" (1/ 125).

(16/310)


ثالثًا: روى الطحاوي (1) من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه كان يَفصِل بين شَفْعِه ووترِه بتسليمةٍ، ذكره في "الفتح" (2). وعامة الأحاديث والآثار على هذا كما شرحنا، مع أن غاية ما في قول نافع أن يكون أثرًا عن تابعي، فلا حجة فيه على كل حال. وأما جوابكم عن المبحث الثاني فلا كلامَ لنا معكم فيه هنا؛ لأنا نُوافقكم في أن الوتر ليس ثلاثَ عشرة. وأما كون ذلك صلاةَ ليلٍ فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. وأما جوابكم عن المبحث الثالث، فقد مرَّ عند قولنا: "وأما حديث الشيخين عن عائشة: كان يُصلِّي من الليل عشرَ ركعاتٍ ويُوتِر بسجدةٍ ... " إلخ. ومن أصحابنا من اختار أن أكثر الوتر ثلاث عشرة ركعةً، ووافق الأكثر في عدم اشتراط الوصل. وينحصر الجواب عليه بالوجه الثالث الذي ذكرناه عن حديث ابن أبي قيس، وهو أن عامة الأحاديث والآثار مُطبِقةٌ على إطلاق الوتر الشرعي على ما صُلِّي وترًا موصولًا دون غيره، وأن الوصل لم يثبت في أكثر من تسع. وبذلك يتعيَّن كون إطلاق الوتر في هذه الثلاثة الأحاديث مجازًا عن صلاة الليل، كما أفاده الترمذي والنسائي في حديث أم سلمة، وأشار إليه أبو داود في حديث ابن أبي قيس، وظهر لنا رجحانُه في حديث أبي هريرة. وهذا ما اقتضاه قولُ الحق الذي أوجبه الله على كلِّ مسلمٍ على مبلغِ _________ (1) في "شرح معاني الآثار" (1/ 279). (2) (2/ 482).

(16/311)


علمه ومقدارِ فهمه. وليس فيما قلناه غضاضةٌ على أئمة مذهبنا، فإنهم حَفَظَةُ الدين وأئمة اليقين، وهم جبالُ العلم وبِحارُه، وشُموسُ الحقِّ وأقمارُه، وإنما معنا آثارُ فوائِدهم وأسْقاطُ موائدِهم. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

(16/312)


الرسالة التاسعة

 فرضية الجمعة وسبب تسميتها

(16/313)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [ص 1] فلمّا قرأ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قال رجل: مَن هؤلاء؟ ... " (1). فهذا الحديث يدلُّ على أنّ السورة لم تنزل إلا بعد إسلام أبي هريرة، وكان أسلم سنة ... (2)، لكن قال في "الفتح": "قوله: فأُنزِلتْ عليه سورة الجمعة: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} " كأنّه يريد: أُنزِلت عليه هذه الآية من سورة الجمعة، وإلاّ فقد نَزلَ منها قبل إسلام أبي هريرة الأمرُ بالسعي. ووقع في رواية الدراوردي عند مسلم: "نزلت عليه سورة الجمعة، فلمّا قرأ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} ". "فتح الباري" (ج 8 ص 453) (3). أقول: والدراوردي سيئ الحفظ، وإنّما أخرج له البخاري مقرونًا بغيره، وكان لحّانًا. فرواية سليمان أثبت. وعليها فقوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} بدلُ بعضٍ من سورة الجمعة، على وِزان قولهم: "أكلتُ الرغيفَ ثُلُثَه". فيتحصل من ذلك أنّ المراد: نزلت هذه الآية من هذه السورة؛ كما قال الحافظ. وقول الحافظ: "فقد نزلَ قبل إسلام أبي هريرة الأمرُ بالسعي"؛ لم أقف _________ (1) أخرجه البخاري (4897) ومسلم (2546) من حديث أبي هريرة قال: "كنّا جلوسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ نَزَلت عليه سورة الجمعة، فلما قرأ ... ". (2) هنا بياض في الأصل، وفي "الإصابة" (13/ 42): كان إسلامه بين الحديبية وخيبر. (3) (8/ 642) ط. السلفية.

(16/315)


على مستندٍ صريح له، وعلى تسليمه فلم تُحدَّد القبلية. ويمكن أن يكون استندَ إلى تقدُّم فرضية الجمعة، واستظهر أنّها إنما كانت بهذه الآية، وهو كما ترى. واحتجاج الشافعي والبخاري وغيرهما بآية السعي على فرضية الجمعة لا يستلزم أنّهم يرون أنّ الجمعة لم تُفرَض إلاّ بها، إذ لا مانعَ من أن يُفرَض الشيء ثم بعد مدّةٍ يُنزِل الله تعالى في القرآن الأمرَ به، ولهذا نظائر. والقرآن نفسه فيه آيات مكية تأمر بالشيء، وآيات مدنية متأخرة تأمر بذلك الشيء نفسه. فلا دليلَ فيما ذكرنا على تقدُّم الآية ولا تأخُّرها. وهكذا لا دليلَ فيما عُلِم من أنّ قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] الآية مدنية، على أنّ السورة كلها مدنية، ولا على أنّ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9 - 10] الآيتين مدنية، ولا على أنّهما نزلتا معها في وقت واحد. على أنّ من الناس من استشكل هذا الحديث لأمر آخر؛ وهو أنّه يظهر منه أنّ المراد بقوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} فارس. وهذا بعيدٌ جدًّا من ظاهر القرآن؛ لأنّ الضمير في قوله: {مِنْهُمْ} يعود على الأمّيين حتمًا، والأمّيون هم العرب، باتفاق المفسّرين من السلف وأهل اللغة وغيرهم. فتقدير الآية: "وآخرين من العرب"، وفارس ليسوا من العرب. وفي سند الحديث ثَور بن زيد عن سالم أبي الغيث؛ وقد تُكُلِّم في كلٍّ منهما (1)، وإن أخرج لهما الشيخان. _________ (1) انظر "تهذيب التهذيب" (2/ 32 و 445).

(16/316)


وقد روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: "لما نزلت {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] قالوا: يا رسول الله، مَن هؤلاء؟ ... وسلمانُ إلى جنبه، فقال: هم الفرس، هذا وقومه". "المستدرك" (ج 2 ص 458)، وقال: صحيح على شرط مسلم. وأخرجه ابن جرير في "تفسيره" (1) وغير واحد. وهذه القصة تُشبِه تلك، ولا يبعد أن تكون واحدةً؛ فانتقل ذهن سالم أو ثور من آية القتال إلى آية الجمعة. وقد روى الترمذي الحديثين (2)، وقال في كل منهما: غريب. أمّا أنا فأرى أنّه لا مانع من صحتهما معًا؛ كما ذكره الحافظ في "الفتح" (3). والقصة التي ذكر فيها آية الجمعة ليس فيها تصريح بأنّ فارسًا هي المراد بقوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ}، وإنّما فيها: "قال: قلت: مَن هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثًا، ومعنا سلمان الفارسي، فوضع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يده على سلمان، ثم قال: لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجالٌ أو رجلٌ من هؤلاء". _________ (1) (21/ 234). وأخرجه أيضًا ابن أبي حاتم في "تفسيره" كما في "تفسير ابن كثير" (7/ 306)، والطبراني في "الأوسط" (8838) والبيهقي في "دلائل النبوة" (6/ 334) وغيرهم. (2) رقم (3260، 3310). (3) (8/ 642).

(16/317)


إنّما أعرض النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مرّة بعد مرّة لأنّ في الآية نفسها البيان [ ... ]. [ص 4] فإن كان السائل لم يفهم هذا فهو مقصِّر، يستحقُّ الإعراض عنه، ليردَّه الإعراضُ إلى التدبُّر. وإن فهم هذا وأراد تعيينَهم بقبائلهم أو بأسمائهم، فلا فائدةَ في بيان ذلك. ثم نبَّه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على أنّه كان الأَولى بالسائل أن يسأل عن أمر آخر، وهو: هل التعليم والتزكية يختصُّ بالأمّيين أو لا يختصُّ؟ فأجاب عن هذا بقوله: "لو كان الإيمان ... إلخ" أي: أنّه لا يختصُّ. وهذا هو الذي يُسمِّيه أهل المعاني: الأسلوب الحكيم، وذكروا له أمثلةً من القرآن وغيره. ولو كان المراد أنّ الآخرين هم فارس لكان السؤال في محلّه، فلا يكون وجهٌ للإعراض، كما لم يقع الإعراض في القصة الأخرى، ولكان الجواب مصرِّحًا بذلك؛ كأن يقول: هم الفرس، كما قال في القصة الأخرى، والله أعلم. وهذا بحمد الله ظاهر جدًّا، وإن لم أرَ من نبَّه عليه. وإذ لم نظفر بما نعلم منه تاريخ النزول فلننظر من جهة أخرى. فأقول: الاحتمال الثالث بعيد، لأنّ الآية عليه تكون مجملةً، وهو خلاف الظاهر الغالب. ويبقى النظر في الاحتمالين الأولين: فإن كان نزول الآية متأخرًا، أي: بعد إسلام أبي هريرة أو قبله قريبًا منه تعيّن الاحتمال الأول؛ لأنّ الأحاديث كلها يُطلَق فيها "يوم الجمعة" على أنه عَلَم. ولو لم يكن جُعِل علمًا إلا أخيرًا لجاء في بعض الأحاديث ذكره باسمٍ آخر، أعني ببعضها ما كان قبل نزول الآية؛ إذ يبعد جدًّا أن تكون الأحاديث المروية في الجمعة إنّما سُمِعتْ وحُفِظَتْ بعد إسلام أبي هريرة أو قريبًا منه.

(16/318)


وإن كان نزول الآية بمكة أو أوائل قدوم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - المدينةَ فالاحتمال الثاني أقرب. وعلى كلا الاحتمالين فتسمية هذا اليوم "يوم الجمعة" تسمية شرعية؛ إمّا بالقرآن وإمّا بالسنة، متقدّمة على القرآن أو متأخرة عنه، والله أعلم. فالشرع سمّاه يوم الجُمُعة بضمتين؛ كما في قراءة العامة، فأخذَه بنو تميم وخفّفوه بإسكان الميم، وقرأ به بعض الشواذّ، وسمعه بنو عقيل فحرَّفوه، مع ملاحظة المعنى؛ فقالوا: يوم الجُمَعة، بضمٍّ ففتحٍ، والله أعلم. [ص 2] فصل يَرِد في الأحاديث عند ذكر اليوم "يوم الجمعة"، ويَرِد فيها "الجمعة" مفردًا، ويجيء فيها عند ذكر الصلاة "صلاة الجمعة"، ويَرِد فيها "الجمعة" مفردًا؛ فأيُّ هذه الأصلُ؟ أقول: أما تسمية الصلاة أو اليوم ابتداءً بهذا المصدر الذي معناه الاجتماع فبعيد، فتبقى احتمالات: الأول: أن يكون أول ما نظر الشرع إلى الصلاة فسمّاها "صلاة الجمعة"؛ أي: صلاة الاجتماع، ثم أتبعَها اليوم، فقال: "يوم الجمعة". وتقديره: يوم صلاة الاجتماع. الثاني: عكسه. الثالث: أن يكون نَظَر إليهما معًا؛ فسمّى الصلاة "صلاة الجمعة" واليوم "يوم الجمعة".

(16/319)


والأول أقوى؛ لأنّ الجمعة إذا أُطلِقَتْ في الشرع يتبادر منها إلى ذهن العارف به الصلاة، ولأنّ المعهود من الشارع وضع الأسماء للأحكام الشرعية، في أدلةٍ أخرى لا أُطيل بذكرها. [ص 3] ففي هذه الآيات تسمية هذا اليوم "يوم الجمعة". فهل سُمّي هذا اليوم "جمعة" من أول وهلة، ثم قالوا "يوم الجمعة" من باب إضافة العام إلى الخاص؟ أم الجمعة شيء أضيفَ إليه اليوم، فصار من باب العَلَم المضاف، ثم توسّعوا فأطلقوا على اليوم نفسه "جمعة"؛ كما قالوا في يوم السبت أنّ أصل السبت الراحة والقطع، فكأنّه قيل: "يوم الراحة"، ثم توسعوا فأطلقوا السبت على اليوم نفسه؟ ادّعى بعضهم الأول، وهو واهمٌ فيه؛ لما ستسمعه. واختلفوا في أصل معنى "جمعة" الذي أُضِيف إليه هذا اليوم. فالقول الأول: إنّه بمعنى الاجتماع. قال الزمخشري في "الأساس" (1): "وجمَّع القومُ: شهدوا الجمعة، وأدام الله جمعةَ ما بينكما؛ كما تقول: ألفةَ ما بينكما". وفي "القاموس" (2): "ويوم الجمعة ... وأدام له جمعةَ ما بينكما: أُلفةَ ما بينكما". قال شارحه (3): "قاله أبو سعيد". أقول: وهذا تنبيهٌ على أنّ "جمعة" من قولهم: "جمعةَ ما بينكما" مصدرٌ كالألفة، وأنّ الجمعة في قولنا "يوم الجمعة" من هذا المعنى. وقد بيّن ذلك _________ (1) (ص 100) ط. دار صادر. (2) (3/ 14) ط. بولاق. (3) "تاج العروس" (20/ 459) ط. الكويت.

(16/320)


المُطرِّزي في "المُغرِب" (1)؛ قال: "والجمعة من الاجتماع كالفرقة من الافتراق؛ أُضِيفَ إليها اليوم والصلاة، ثم كثر الاستعمال حتى حُذِف منها المضاف". وصرّح أبو البقاء بالمصدرية؛ قال (2): "الجمعة ــ بضمتين وبإسكان الميم ــ مصدرٌ بمعنى الاجتماع"، نقله في "روح المعاني" (3). فمن مثّله بـ "أُلْفة" مثّله بنظيره، ومن مثّله بـ "فُرقة" مثّله بضدِّه؛ لأنّ العرب كثيرًا ما تُسوِّي بين النظيرينِ وبين الضدّينِ؛ كما هو مقرر في محلّه. أقول: وهذا القول هو الظاهر، بل الصواب. وزاد أبو البقاء (4): "وقيل في المُسَكَّن هو بمعنى المجتمَع فيه؛ كرجلٍ ضُحْكةٍ؛ أي: كثيرٌ الضحكُ منه". أقول: إنما خصَّه بالمسكّن لأنه يكون حينئذٍ صفةً، والصفة تجيء على "فُعْلة" بضمٍّ فسكون، ولا تجيء بضمتين. والذين قالوا إنّ كلّ "فُعْلٍ" بضم فسكون يجوز أن يقال فيه "فُعُل" بضمّتين استثنوا الصفة؛ كما نصّ عليه الرضيُّ (5) وغيره. وهذا يردُّ على الآلوسي فيما صدَّر به، وهو القول الثاني؛ قال (6): _________ (1) (1/ 158). (2) "الكليات" (ص 355). (3) (28/ 99). (4) لم أجد قوله في "الكليات". (5) انظر "شرح الرضي على الشافية" (1/ 46). (6) "روح المعاني" (28/ 99).

(16/321)


"وذكروا أنّ الجُمُعة بالضم مثل الجُمْعة بالإسكان؛ ومعناه: المجموع، أي: يوم الفوج المجموع؛ كقولهم "ضُحْكة" للمضحوك منه". ويُردُّ عليه بأمور أخرى لا حاجة لبسطها؛ فإنّ هذا القول بعيدٌ على كل حال. والأولى حملُ المسكَّن على الذي بضمّتين، وأن يكون المعنى واحدًا كما هو الظاهر، فالصواب أنّه على اللغتين مصدرٌ بمعنى الاجتماع. وممّا يؤيِّد ذلك أن لغة الحجازيين بضمتين، وبها نزل القرآن، والتسكين لغة تميم، ولم يُقرأ بها إلا في الشواذّ. وفي "شرح القاموس" تخليطٌ سأنبِّه عليه فيما يأتي إن شاء الله تعالى. [ص 4] ثم اختلف أهل القول الأول في الاجتماع الذي أُضِيف إليه هذا اليوم. فالجمهور من أهل اللغة وغيرهم: أنّه اجتماع الناس. قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (1): "وسُمّي يوم الجمعة لاجتماع الناس فيه؛ هذا هو الأشهر في اللغة، وقيل ... "؛ فذكر القول الثالث. وفي "النهاية" (2): "ويوم الجمعة سُمّي لاجتماع الناس فيه". واختُلِف في المراد باجتماع الناس، فالجمهور أنّ المراد اجتماعهم للصلاة؛ نصَّ عليه جماعة، منهم ابن دريد في "الجمهرة" (3)، ولفظه: "والجمعة مشتقّة من اجتماع الناس فيها للصلاة". _________ (1) (2/ 1/54). (2) (1/ 297). (3) (1/ 484).

(16/322)


وقال الراغب (1): "وقولهم: "يوم الجمعة"، لاجتماع الناس فيه للصلاة". واختاره ابن حزم (2) كما سيأتي. قال في "الفتح" (3): "وقيل لأنّ كعب بن لؤي كان يجمع قومه فيه، فيذكِّرهم ويأمرهم بتعظيم الحرم، ويُخبرهم بأنه سيُبعَث منه نبي، روى ذلك الزبير في "كتاب النسب" عن أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف مقطوعًا، وبه جزم الفرّاء وغيره. وقيل: إنّ قُصَيًّا هو الذي كان يجمعهم؛ ذكره ثعلب في "أماليه" (4). وقيل: سُمِّي بذلك لاجتماع الناس للصلاة فيه؛ وبهذا جزم ابن حزم فقال (5): إنّه اسمٌ إسلاميٌّ لم يكن في الجاهلية، وإنّما كان يُسمَّى العَرُوبة. انتهى. وفيه نظر، فقد قال أهل اللغة: إنّ العَروبة اسمٌ قديم كان للجاهلية، وقالوا في الجمعة: هو يوم العروبة. والظاهر أنّهم غيّروا أسماء الأيام السبعة بعد أن كانت تُسمَّى: أوَّل، أَهْون، جُبار، دُبار، مُؤنِس، عَرُوبة، شِيَار (6). _________ (1) في "مفردات القرآن" (ص 202). (2) في "المحلى" (5/ 45). (3) (2/ 353). (4) لم أجده في المطبوع، وهو ناقص. (5) في "المحلَّى" (5/ 45). (6) قال بعض شعراء الجاهلية، ويقال: إنه النابغة: أُؤمِّل أن أعيشَ وأنَّ يومي ... لأوَّلَ أو لأهْونَ أو جُبَارِ أو التاليْ دُبارِ فإن أَفُتْه ... فمُؤنِسَ أو عَروبةَ أو شيارِ انظر: "الصحاح" (هون) و"صبح الأعشى" (2/ 365). وهما بلا نسبة في "اللسان" (عرب، جبر، دبر، شير، أنس، وأل، هون) و"التذكرة الحمدونية" (7/ 361).

(16/323)


وقال الجوهري (1): كانت العرب تُسمِّي يوم الاثنين "أهون" في أسمائهم القديمة. وهذا يُشعِر بأنّهم أحدثوا لها أسماء، وهي هذه المتعارفة الآن؛ كالسبت والأحد إلى آخرها. وقيل: إنّ أوّل من سمّى الجمعة "العَروبة" كعب بن لُؤي، وبهذا جزم الفرّاء وغيره. فيحتاج من قال إنّهم غيَّروها إلَّا (2) الجمعة، فأبقَوه على تسمية العروبة، إلى نقلٍ خاص". "فتح الباري" (ج 2 ص 239) (3). أقول: قوله: "وقيل: إنّ أوّل من سمّى الجمعة "العَروبة" كعب بن لؤي، وبهذا جزم الفرّاء وغيره" مخالفٌ لما تقدّم عن الفرّاء، وكأنّ العبارة انقلبت، والصواب: "إنّ أوّل من سمّى العَروبةَ الجمعةَ"، وهكذا قال غيره. والنظر الذي أطال في بيانه لا طائلَ تحته، فإنّه إن لم يثبت أنّ العرب قبل الإسلام تكلّمت بالأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة والسبت، فيمكن أن تكون هذه الأسماء كلها إسلامية. وإن ثبت أنّهم تكلَّموا ببعضها كالسبت، ولم يثبت في بعضها كالجمعة، فلا مانعَ من أن يكونوا غيّروا بعضًا وأبقَوا بعضًا؛ فأبقَوا العَروبةَ باسمها، حتّى غُيِّرت في الإسلام، وما الذي يوجب أن يكون التغيير كلُّه وقع في وقت واحد؟ وقول أهل اللغة: "الأسماء القديمة" يحتمل أن يكون المراد بالقِدَم ما _________ (1) في "الصحاح" (6/ 2218). (2) في الأصل "إلى"، وهو خطأ. والتصويب من "الفتح". (3) (2/ 353) ط. السلفية. هنا انتهى النقل الطويل من "الفتح".

(16/324)


قبل الإسلام، أو أنّ بعضها قديمٌ غُيِّر في الجاهلية، وبعضها قديمٌ غُيِّر في الإسلام. وهذا ابن مُقْبِل وهو مخضرم، أدرك الجاهلية وعاش إلى زمن عمر، وخاصم إليه يقول: وإذا رأى الوُرَّادَ ظلَّ بأَسْقُفٍ ... يومًا كيوم عَرُوبةَ المتطاولِ (1) كذا أنشده ياقوت في "معجم البلدان" (أسقُف) (2)، وهذا القُطامي، وهو شاعر إسلامي، يقول: نفسي الفداءُ لأقوامٍ هُمُ خَلَطوا ... يومَ العَروبةِ أورادًا بأورادِ (3) ونقل المرزوقي في "الأزمنة والأمكنة" (4) كلامًا عن الخليل، استشهد فيه بهذين البيتين. واستشهد بهما ابن دريد في "الجمهرة" (5)، وزاد قوله: يُوائِم رَهْطًا للعَروبة صُيَّما وفي هذا أوضحُ دليل على أنّ تسمية هذا اليوم يومَ العروبة لم تنقطع قبل الإسلام؛ كما انقطع أوّلُ وأهونُ وبقية الستة. وإنّما يُردُّ قولُ ابن حزم وموافِقيه (6) ــ وهم الجمهور ــ لو ورد بنقلٍ _________ (1) انظر "ديوانه" (ص 221). وفيه: "الرُّوَّاد". (2) (1/ 181). (3) "ديوانه" (ص 88). (4) (1/ 271). (5) (1/ 319، 320). (6) في الأصل: "وموافقوه".

(16/325)


صحيح أنّ العرب قبل الإسلام كانوا يقولون يوم الجمعة. ولا سبيل إلى إثبات هذا، ولا إلى إثبات أنّ كعبًا أو قُصَيًّا سمّياه الجمعة، ولا أنّهما كانا يجمعان الناس فيه؛ وإنّما يوجد نقلُ ذلك في أخبار القُصّاص التي لا تَصلُح للاعتماد. فالاجتماع المحقَّق في هذا اليوم هو اجتماع الناس للصلاة، وإنّما وقع ذلك في الإسلام، ولم يتحقّق أنّه قيل "يوم الجمعة" إلا في الإسلام. على أنّه لو ثبت أنّ كعبًا أو قُصيًّا كان يجمع الناس فيه لم يلزم من ذلك تسميتُه يوم الجمعة. وقد قال السُهيلي: "وكعب بن لُؤي هذا أوّل من جمع يومَ العروبة، ولم تُسَمَّ العَروبةُ الجمعةَ إلا مُذْ جاء الإسلام في قول بعضهم. وقيل: هو أول من سمّاها الجمعة". "الروض الأُنف" (ج 1 ص 6). [ص 5] أقول (1): قد بسطتُ الكلام على الحديثين وعلى تاريخ نزول سورة الجمعة في مبحثٍ مستقلّ (2)، أفردتُه لبيان المراد بقوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ}، وبيّنتُ فيه أنّ الذي يظهر أنّ معظم سورة الجمعة نزل قبل إسلام أبي هريرة بمدةٍ قد لا تبلغ سنةً فيما يظهر، والله أعلم. وعلى هذا فالّذي يظهر أن يكون التسمية وقعت بالسنة، ثم أقرّها القرآن. _________ (1) يبدو أنه تتمة لكلام لا يوجد هنا. (2) هو الكلام الذي سبق.

(16/326)


فصل ما وجه التسمية المشهور بين أهل العلم أنّه سُمّي يوم الجمعة لاجتماع الناس فيه. قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (1): "سُمِّيَ يوم الجمعة لاجتماع الناس فيه، هذا هو الأشهر في اللغة". وفي "النهاية" (2): "يوم الجمعة سُمّي لاجتماع الناس فيه". ثم اختلفوا؛ فقال قائل: إنّ أوّل ذلك اجتماع الناس في الجاهلية عند كعب بن لُؤيّ، أو ابنه قُصَيّ. وقد تقدّم ردُّ ذلك (3). وقال ابن سيرين على ما في "مسند عبد بن حميد" (4): إنّه اجتماع الأنصار عند أسعد بن زُرارة، كما تقدّم. وقد قدّمنا ترجيحَ أنه لم يُسمَّ يومَ الجمعة يومئذٍ، وإنّما سمّاه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. والظاهر أنّ ذلك بعد الهجرة، حين خصَّه بإبقاء الصلاة فيه ركعتين مع الخطبتين، وأوجب الاجتماع فيه. _________ (1) (2/ 1/54). (2) (1/ 297). (3) انظره فيما سبق. (4) قال الحافظ في "الفتح" (2/ 353): "أخرجه عبد بن حميد عن ابن سيرين بسند صحيح إليه ... ". والمقصود به "تفسيره" لا "المسند". وانظر "الدر المنثور" (14/ 469، 470).

(16/327)


وبهذا يترجح أنّه اجتماع الناس للصلاة بعد فرض الاجتماع؛ وهو المشهور. وممّن صرّح به ابن حزم كما في "فتح الباري" (1)، وابن دريد في "الجمهرة" (2)، وعبارته: "والجمعة مشتقة من اجتماع الناس فيها للصلاة". وقال الراغب (3): "وقولهم: يوم الجمعة، لاجتماع الناس للصلاة". القول الثاني: أنّه سُمّي بذلك لأنّ كمال الخلائق جُمِع فيه، قال في "الفتح": "ذكره أبوحذيفة البخاري في "المبتدأ" عن ابن عباس، وإسناده ضعيف". "فتح الباري" (ج 2 ص 39) (4). أقول: ورواه ابن جرير في "تاريخه" (5)، قال: [حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدّي في خبرٍ ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود، وعن ناسٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: ... وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض]. _________ (1) (2/ 353). وانظر "المحلَّى" (5/ 45). (2) "جمهرة اللغة" (1/ 484). (3) في "مفردات القرآن" (ص 202). (4) (2/ 353) ط. السلفية. قال الذهبي في "السِّير" (9/ 478): "كتاب المبتدأ كتاب مشهور في مجلدتين، ينقل منه ابن جرير فمَن دونه، حدَّث فيه ببلايا وموضوعات". (5) (1/ 59)، وترك المؤلف فراغًا بعد "قال" عدة أسطر، وقد أثبتُّ النصَّ نقلًا عن المصدر، فإن الكلام الآتي مبني عليه. وذكر ابن جرير في تفسيره (20/ 393) إسناده إلى السدّي.

(16/328)


أقول: أمّا أبو صالح فقد اتفقوا على ضعف ما يرويه عن ابن عباس؛ لأنّه لم يَلْقَه، وإنّما أصاب كتبًا فروى منها، وقد بان بنكارة ما يرويه أنّ تلك الكتب جمعَها من لا يُوثَق به. وأمّا أبو صالح في نفسه فصدوق، وإنّما ضعَّفه بعض الحفاظ لنكارة ما رواه، والحمل في النكارة على تلك الكتب. فأمّا زعْمُ الكلبي أنّ أبا صالح قال له: "كلُّ ما حدَّثتُك كذب" (1)، فالكلبي تالف، وفيما يرويه عن أبي صالح عجائب، فكأنّه حاول أن يُلقِي التَّبِعةَ على أبي صالح. وأمّا أبو مالك فثقة، ومُرَّة من سادات التابعين. ولكن في السُّدِّي ومن دونه كلام، فالسّدي مختلف فيه، وقد حُكِي عن الإمام أحمد توثيقُه، وحُكي عنه أنّه قال: "إنه ليُحسِن الحديث، إلاّ أنّ هذا التفسير الذي يجيء به قد جعل له إسنادًا واستكلفه" (2). وفي "الإتقان" في طريق السُّدي عن أبي مالك عن مُرّة عن ابن مسعود وناس من الصحابة: "لم يورد منه ابن أبي حاتم شيئًا؛ لأنّه التزم أن يُخرِج أصحَّ ما ورد، والحاكم يُخرِج منه في "مستدركه" أشياء ويصحّحه ... وقد قال ابن كثير: إنّ هذا الإسناد يروي به السُّدي أشياء فيها غرابة". "الإتقان" (ج 2 ص 188) (3). _________ (1) انظر "تهذيب التهذيب" (9/ 179، 180). (2) انظر "تهذيب التهذيب" (1/ 314). (3) "الإتقان" (6/ 2334، 2335) طبعة المدينة.

(16/329)


أقول: وفي "تهذيب التهذيب" (1) في ترجمة إسماعيل بن عبدالرحمن القرشي: "قد أخرج الطبري وابن أبي حاتم وغيرهما في تفاسيرهم تفسير السُدّي مفرَّقًا في السُّور". أقول: يؤخذ من هذا أنّ ابن أبي حاتم إنّما تجنَّب رواية السُّدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس. [ص 6] وعن مرّة عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وهذا يشهد لقول ابن كثير. ومع ذلك فإن كان هذا التفسير نسخة ذكر السُّدي هذا الإسناد في أولها، ثم ساق التفسير. فالذي يظهر بل يكاد يتيقّن أنّه لم يُرِد أنّ كل جملة من جمل التفسير محكية عن هؤلاء كلهم، وإنّما أراد أنّ منها ما هو عن أبي مالك من قوله، ومنها ما هو عن أبي صالح. أقول: أسباط مُضعَّف، والسُّدّي فيه كلام، وأبو صالح لم يسمع من ابن عباس، وإنّما وجد كتبًا فروى منها. وقد دلّ نكارةُ ما يرويه على أنّ تلك الكتب لم تكن معتمدة؛ بل زعم الكلبي أنّ أبا صالح قال له: "كلُّ ما حدَّثُتك كذب"، ولكن الكلبي تالف. واعلم أنّ هذا السند بهذا السياق رُوِيتْ به نسخةٌ من التفسير؛ فرَّقَها ابن جرير في مواضعها، وذكرها السيوطي في "الإتقان"، قال: "لم يُورِد منه ابن أبي حاتم شيئًا (2)؛ لأنه التزم أن يُخرِج أصحَّ ما ورد، والحاكم يُخرِج منه في "مستدركه" أشياء ويُصحِّحه؛ لكن من طريق مرّة عن ابن مسعود وناس _________ (1) (1/ 315). (2) بل أخرج منه أشياء كما يظهر بمراجعة تفسيره.

(16/330)


فقط دون الطريق الأول. وقد قال ابن كثير: "إنّ هذا الإسناد يروي به السُّدّي أشياء فيها غرابة". "الإتقان" (ج 2 ص 188). أقول: وكأنّ هذه النسخة هي المرادة بما حكاه السّاجي عن الإمام أحمد أنّه قال في السُّدّي: "إنّه ليُحسِن الحديث؛ إلاّ أنّ هذا التفسير الذي يجيء به قد جعل له إسنادًا واستكلفه" (1). والّذي يقع لي أنّ هذه كانت نسخةً عند السُّدّي لم يكن فيها إسناد، فأخذها أسباطٌ، وسأله عن إسنادها، فقال: "عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مُرَّة عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ". يريد السُّدّي أنّ في النسخة ما سمعه من أبي مالك من قوله، وفيها ما سمعه من أبي صالح عن ابن عباس، وفيها ما سمعه من مرّة عن ابن مسعود، وفيها ما بلغَ السديَّ عن بعض الصحابة. وقد روى السُّدّي عن أنس وابن عباس قليلًا، فالغالب أنَّ ما قال: إنّه "عن ناسٍ من الصحابة" إنّما بلغه. والذي يدلّ على هذا اتفاقُ لفظ الإسناد في السياق في جميع المواضع، كما في "تفسير ابن جرير"، ولو كان السُّدّي هو الذي يذكر السند في أول كل أثرٍ لاختلف سياقه حتمًا؛ كما تقضي به العادة. ثم لا أدري أسباطٌ أم مَن بعده مزجَ هذه النسخة ببقية تفسير السُّدّي، مما يقوله هو أو يرويه ممّا ليس في النسخة؛ فعَمَدَ إلى هذا السند فأثبته في أوّل كل أثر من الآثار التي كانت في النسخة. فقد يكون الأثر في الأصل عن _________ (1) انظر "تهذيب التهذيب" (1/ 314).

(16/331)


أبي مالك من قوله فقط، وقد يكون عن أبي صالح فقط، وقد يكون ممّا بلغ السُّدّيَّ عن بعض الصحابة، وقد يكون مما سمعه من مُرّة عن ابن مسعود. فمن هنا جاء الضعف والنكارة فيما يُروَى بهذا السند، إذ لا [ .... في] نكارة ما يقوله [أو يرويه] من كتبه أو ممّا بلغه، وما يرويه أبو صالح من كتبه، وما بلغَ السُّديَّ ولا ندري ممن سمعه. فالسدي بريءٌ من نكارة ذلك، وإنّما يضرُّه لو جاء منكر يرويه عن مرّة عن ابن مسعود، وهذا لم يثبت، لأنّنا لا ندري أنّ تلك الآثار هي في نفس الأمر عن مرّة عن ابن مسعود. وإذا كان الأمر هكذا فقد أخطأ الحاكم خطأً فاحشًا، إذ يُخرِج بهذا السند، فيختصر السند، يقول: عن أسباط عن السُّدّي عن مرّة عن ابن مسعود. [ص 7] فصل [ ....... ] (1) يحذف المضاف، ويقام المضاف إليه مقامه؛ فيقال: الجمعة، فهكذا يقال: صلاة الجمعة. وكثيرًا ما يُحذَف المضاف، ويُقام المضاف إليه مقامه، فيقال: الجمعة، وفي ذلك احتمالات: الأول: أن يكون الأصل الأول، ثم أُضيفتْ إليه الصلاة، على تقدير صلاة يوم الجمعة. الثاني: عكسه، بأن يكون الأصل الثاني، ثم أضيف إليها اليوم، على تقدير صلاة يوم الجمعة. _________ (1) هنا خرم في الركن الأيمن من الصفحة ذهب ببعض الكلمات.

(16/332)


الثالث (1): أن يكون كلاهما أصلًا. فقد يقال في الترجيح: إنّ الثالث مرجوح؛ لأنّ فيه ضربًا من الاشتراك، وقد تقرّر في الأصول أنّ المجاز والإضمار أولى منه؛ فيبقى النظر بين الأولَينِ، فيُرجَّح الأوّل بوروده في القرآن، والأصل عدم الإضمار. وبما تقدّم من احتمالِ أن لُوحِظ في التسمية مع اجتماع الناس للصلاة اجتماعُ كمال الخلائق، واجتماعُ خلق آدم، ويبعد ملاحظتهما في تسمية الصلاة بصلاة الجمعة ابتداءً، وإذا بَعُد فيه بَعُد في يوم الجمعة، على تقدير يوم صلاة الجمعة. ويُرجَّح الثاني بأنّ الصلاة معنىً شرعي، والمعهود من الشارع تسمية المعاني الشرعية؛ فهي الأولى بأن يكون التفتَ إليها أولًا فسمّاها، ثم أضاف اليوم إليها. وبأنّ لفظ "الجمعة" إذا ورد في الشرع مطلقًا تبادر إلى ذهن العارف به الصلاة. فقد يقال: إذا تعارض الترجيح وجب المصير إلى الاحتمال الثالث؛ وقد نصّ عليه المُطرِّزي في "المُغْرِب"؛ كما تقدّم من قوله: "الجمعة من الاجتماع كالفُرقة من الافتراق، أُضيفَ إليها اليوم والصلاة". ويُجاب عن الاشتراك بأنّه ليس اشتراكًا حقيقيًّا؛ لأنّه لم يتَّحد الاسم، وإنّما الأصل يوم الجمعة وصلاة الجمعة. وفي هذا نظر؛ لأنّ المضاف إليه واحد، ومعناه مختلف؛ لأنّ ملاحظة اجتماعِ كمالِ الخلائق واجتماعِ خَلْقِ آدم إنّما يَقرُب احتمالُه في "يوم الجمعة" إذا لم تُضمَر فيه "صلاة"، ويبعُد في "صلاة الجمعة" إذا لم تُضمَر _________ (1) في الأصل: "الثاني" سهوًا.

(16/333)


فيه "يوم". نعم، قد يقال: لا مفرَّ من هذا الاشتراك جمعًا بين الأدلة والأقوال، فعلى كلّ حالٍ الأقربُ أنّ كلًّا منهما أصلٌ لما ذكر، أو أنّ الأصلَ "صلاة الجمعة"؛ لقوة دلالة التبادر. وعلى كلٍّ فقد دلّت هذه التسمية في الكتاب والسنة على أنّ هذه الصلاة من شأنها الاجتماع.

(16/334)


الرسالة العاشرة

 سنة الجمعة القبلية

(16/335)


الحمد لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، وصلاته وسلامه على خير خلقه محمدٍ وآله وصحبه. وبعد، فقد سألني بعضُ الإخوان: هل للجمعة سُنَّة قبليَّة؟ فأجبته: أنَّ المقرَّر في المذهب (1) أنّها كالظهر في ذلك. فسألني النظرَ في ثبوت ذلك وعدمِه من حيث الدليل. فأقول: الكلامُ في هذه المسألة يَستدعي تقديم البحث عن شيئين: الأول: التنفُّل يوم الجمعة قبل الزوال. والثاني: تحقيق وقت الجمعة. فأما الأول: فقد ثبت في «صحيح البخاري» (2) عن سلمان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا يغتسلُ رجلٌ يومَ الجمعة ويتطهَّرُ ما استطاع من طهرٍ ويدَّهنُ من دهنه أو يمسُّ من طيبِ بيته، ثم يخرج فلا يفرِّق بين اثنين، ثم يصلِّي ما كُتِب له، ثم يُنصِت إذا تكلّم الإمام، إلا غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى». وفي «صحيح مسلم» (3) عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «من اغتسلَ ثم أتى الجمعةَ، فصلّى ما قُدِّر له، ثم أنصتَ حتى يفرغ من خطبته، ثم يصلِّي معه، غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضْلَ ثلاثة أيام». _________ (1) أي: الشافعي، وكان الشيخ قد كتب: «عند أصحابنا الشافعية»، ثم ضرب عليها. (2) رقم (883). (3) رقم (857).

(16/337)


فدلَّ هذان الحديثان على فضيلة التنفُّل يوم الجمعة قبل الزوال، ودخل في إطلاقها حالُ الاستواء يوم الجمعة، ولكنه معارض بعموم أحاديث النهي. وقد يُرجَّحُ الجواز بحديثين ضعيفين، روى أحدَهما الشافعيُّ (1) عن أبي هريرة، ولفظه: «أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - نهى عن الصلاةِ نصفَ النهار حتى تزول الشمسُ إلا يومَ الجمعة». وأخرجَ الآخرَ أبو داود (2) بإسناده إلى أبي الخليل عن أبي قتادة عن النَّبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: أنّه كَرِه الصلاةَ نصفَ النّهار إلَّا يومَ الجمعة، وقال: «إنَّ جهنّم تُسْجَرُ إلا يومَ الجمعة». قال أبو داود: وهو مرسل، مجاهد أكبر من أبي الخليل، وأبو الخليل لم يسمع من أبي قتادة. وفي إسناده: ليث بن أبي سليم، ضعيفٌ لا يُحتجُّ به. [ص 2] وأنت خبيرٌ أنَّ كِلا الحديثين لا يُحتجُّ به. وقد ذكر الإمام الشافعيُّ كما في «الأم» الحديثَ المذكور، ثم أعقبَه بآثارٍ عن عمل الصحابة في زمن عمر رضي الله عنه، ثم قال (3): «فإذا رَاحَ النَّاسُ للجمعة صَلَّوا حتى يصير الإمام على المنبر، فإذا صَارَ على المنبرِ كفَّ _________ (1) في كتاب «الأم» (2/ 397). وفي إسناده إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وقد اتفقوا على ضعفه. وشيخ الشافعي إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى متروك. (2) رقم (1083). (3) (2/ 398).

(16/338)


منهم مَنْ كان صلَّى ركعتين فأكثر، تكلَّم حتى يأخذ في الخطبة، فإذا أخذ فيها أنصتَ، استدلالًا بما حكيتُ، ولا يُنهى عن الصلاة نصفَ النهار مَن حضر الجمعة» اهـ. والظاهر أنَّ الإمام اعتبر ما دلّت عليه الآثار إجماعًا، وذكر الحديث المذكور استئناسًا؛ إذ لعلَّه إن كان إسناده ضعيفًا يكون صحيحًا في نفس الأمر، ويكون هو مستند الإجماع. وأمَّا الإمام مالك فإنَّ عمل أهل المدينة حُجَّةٌ عنده. وإذا تقرَّر ما ذُكِرَ عرفتَ أنَّ التنفُّل يوم الجمعة قبل الاستواء مُرغَّب فيه، وكذا عنده؛ لأنَّ فِعْلَ الصَّحابة ــ الذي رواه الشافعي وغيره ــ لا أقلَّ من أن يكون مرجِّحًا لإطلاق الحديثين السابقَيْن وغيرهما، مع ما انضمَّ إلى ذلك مما مرَّ. والصلاة في ذلك نفْلٌ مطلق قطعًا؛ لكونها واقعةً قبل دخول وقت الجمعة على ما عليه الجمهور. [ص 3] الأمر الثاني: تحقيق وقت الجمعة. ذهب الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه إلى أنَّ وقت الجمعة يدخل قبل الزوال، واسْتُدِلَّ لهما بحديث «الصحيحين» (1) عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: «ما كنَّا نَقِيلُ ولا نتغدَّى إلا بعد الجمعة»، هذا لفظ مسلم (2). _________ (1) البخاري (939) ومسلم (859). (2) وهو لفظ البخاري أيضًا.

(16/339)


وفي رواية (1): «في عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -». وفي «الصحيحين» (2) أيضًا عن سلمة بن الأكوع قال: «كنا نصلِّي مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان ظِلٌّ يُستَظَلُّ به»، هذا لفظ البخاري. وفي لفظٍ لمسلم: «كُنَّا نُجَمِّعُ معه إذا زالت الشمس، ثم نرجعُ نتتبَّعُ الفَيء». وفي «صحيح مسلم» (3) عن جابر: «كُنَّا نصلِّي مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم نرجع فنُريحُ نَواضِحَنا». قال حسن ــ يعني أحد الرواة ــ: قلت لجعفرٍ ــ يعني شيخَ حسنٍ ــ: في أيِّ ساعةٍ تلك؟ قال: زوالَ الشمسِ. انتهى. ثم قال (4): وحدثني القاسم بن زكريا، نا خالد بن مخلد، ح وثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي نا يحيى بن حسّان، قالا جميعًا: نا سليمان عن جعفر عن أبيه: أنه سأل جابر بن عبد الله: متى كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يُصلِّي الجمعة؟ قال: «كان يُصلِّي، ثم نذهب إلى جِمَالنا فنُرِيحها». زاد عبد الله في حديثه: «حين تزول الشمس». يعني: النواضحَ. وقد وردت آثار عن عمل الخلفاء الأربعة ومعاوية وابن مسعود وجابر وسعيد بن زيد وسعد بن أبي وقاص، لا يصحّ منها شيءٌ فلا نُطيل بذكرها. _________ (1) لمسلم. (2) البخاري (4168) ومسلم (860). (3) رقم (858). (4) أي مسلم (858/ 29).

(16/340)


وأما الأحاديث المارَّة، فكُلُّها لا تخلو عن نظر. أما حديث سهل: «ما كنا نَقِيل ولا نتغدّى إلا بعد الجمعة»، فالجواب عنه: أنَّهم كانوا يُبكِّرون إلى الجامع؛ امتثالًا للأمر، وطلبًا لعِظَم الأجر، فكانوا يشتغلون عن القيلولة والغداء بالمُكْثِ في المسجد والصلاة، فإذا خرجوا ناموا وتغدَّوا. وأطْلَق «نَقِيل» على النوم بعد الظهر؛ لأنه عِوَض عن القيلولة التي هي نوم نصف النهار. [ص 4] وأما حديث سلمة؛ فقد فسَّرتْه رواية مسلم: «كنا نُجمِّع معه إذا زالت الشمس»، ومع ذلك فالنفي منصبٌّ على القيد، أي: ليس هناك من الظلِّ ما يُستظلُّ به، كما تدل عليه الرواية الأخرى «نتتبَّعُ الفيءَ». فإن قيل: فقد كان النَّبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يُطيل الخطبة، كما يدلُّ عليه حديث مسلم (1) عن أم هشام قالت: ما حفظتُ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إلَّا من فِي رسولِ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو يقرؤها على المنبر كلَّ جمعة. ويُطيل الصلاة، فيصلِّيها بالجمعة والمنافقين، كما في «صحيح مسلم» (2) عن علي وابن عباس وأبي هريرة. وهذا يدلّ أنه كان يشرع في الخطبة قبل الزوال، إذ لو كان بعده لما فرغ إلا وقد صار للحيطان ظلٌّ يُستظَلُّ به، وقد نفاه سلمة في حديثه الثابت في «الصحيحين». _________ (1) رقم (873). (2) رقم (877، 879).

(16/341)


وأما رواية مسلم: «كنا نُجمِّع معه إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبَّعُ الفيء»، فذلك في بعض الحالات، فإن قوله: «نتتبَّعُ الفيء» يدلُّ على أنّه قد صار للحيطان ظلٌّ يُستَظلُّ به. فالجواب: أن هذا تَمحُّلٌ، والظاهر أن أحاديث سلمة متفقة غير مفترقة، وقد كانت حيطان بيوت الصحابة قصيرةً جدًّا، فلا يبعد أن لا يكون لها ظلٌّ يُستظلُّ به إذا وقعت الخطبة والصلاة عقبَ الزوال على الفور، ودلالة رواية مسلم على ذلك ظاهرة. وأما حديث سهل؛ فالظاهر أن قوله: «حين تزول الشمس» في رواية عبد الله مدرج من قول جعفر، بدليل أنه في رواية حسن روى له الحديث بدونها، فسأله حسن: أي ساعة تلك؟ ــ أي: ساعة وقوع الصلاة فيما يظهر ــ قال: زوال الشمس. وفي رواية القاسم بن زكريّا خاليًا عنها. وفي رواية عبد الله ذكرها. وعلى فرضِ صحتها عن جابر فيكون الظرف متعلقًا بـ «يُصلِّي» وإن بعُد، والله أعلم. وذلك أنه ثبت في «صحيح البخاري» (1) وغيره عن أنس قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يصلِّي الجمعة حين تميل الشمس». و (كان) تُشعِر بالدوام. نعم، الأحاديث متضافرة على أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يَخرج أولَ ما تميلُ _________ (1) رقم (904).

(16/342)


الشمسُ، وهذا شيءٌ متعيِّن. [ص 5] ومما هو صريحٌ فيه (1): أن أذان الجمعة كان في عهده - صلى الله عليه وآله وسلم - عقبَ خروجه وسلامه على الناس وجلوسه على المنبر. فلو كان يكون خروجه - صلى الله عليه وآله وسلم - متأخِّرًا عن دخول الوقت لشَرع ــ والله أعلم ــ الأذان حينئذٍ كسائر الصلوات. وأمَّا حديث البخاري (2) عن أنسٍ: كان النَّبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا اشتدَّ البردُ بكَّر بالصلاة، وإذا اشتدَّ الحرُّ أبردَ بالصلاة، يعني: الجمعة. فقوله: «يعني الجمعة» لا يُدْرَى مِن قَولِ مَن هي؟ ولهذا قال ابن المنيِّر ــ كما نقله عنه الشُّرَّاح (3) ــ: إنَّما قيل ذلك قياسًا على الظهر لا بالنَّصِّ؛ لأنَّ أكثر الأحاديث تدلُّ على التفرقة في الظُّهر، وعلى التبكير في الجمعة مطلقًا من غير تفصيل. قال (4): والذي نحَا إليه المؤلِّف مشروعيَّة الإبراد بالجمعة، ولم يَبُتَّ الحكم بذلك؛ لأنَّ قوله: «يعني: الجمعة» يحتمل أن يكون قول التابعيِّ ممَّا فهمه، وأن يكون من نقله، فرجح عنده إلحاقها بالظُّهر؛ لأنَّها إمَّا ظهرٌ وزيادة، أو بدلٌّ عن الظُّهر. اهـ. قلتُ: أمَّا قوله: «يعني الجمعة»، فهو من لفظ التابعيِّ، كما يدلُّ عليه قول البخاري (5) بعد ذلك: قال يونس بن بُكَير: أخبرنا أبو خَلْدة، وقال: _________ (1) هذه العبارة تكررت عند المؤلف. (2) رقم (906). (3) انظر «فتح الباري» (2/ 389). (4) المصدر نفسه. (5) عقب الحديث (906).

(16/343)


«بالصَّلاة»، ولم يذكر الجمعة. وأبو خلدة هو التابعيُّ الرَّاوي عن أنس. نعم، قال القسطلَّاني (1): أخرجه الإسماعيلي من وجهٍ آخر عن يونس، وزاد: «يعني الظُّهر». وأقول: لا يخفى أنَّ التبكير إلى المسجد يوم الجمعة مشروعٌ مطلقًا، فيكون الاجتماع في المسجد قبل الزَّوال، فلم يُشرع الإبراد؛ لأنَّ الإبراد إنَّما شُرِعَ ــ كما قال العلماء ــ تخفيفًا على المُصَلِّين، حتى لا يخرجوا من بيوتهم إلَّا وقد بَرَدَ النَّهار. وقد يُجابُ عن هذا بجوابين: الأول: أنَّه لا مانعَ أن يكون التبكير في شِدَّة الحرِّ خِلافَ التبكير في غيره. والثاني: بمنع كون العِلَّة هي كراهة المشقَّة؛ بل العِلَّة هي كون جهنَّم تفوح حينئذٍ. وحديث «الصحيحين» (2): «إذا اشتدَّ الحَرُّ فأَبرِدُوا، فإنَّ شِدَّة الحرِّ من فَيْحِ جهنَّم» نصٌّ على هذه العِلَّة. وهي نفسُها العلَّة في النهي عن الصَّلاة عند الاستواء، ففي حديث عمرو بن عَبَسَة: «ثمَّ صَلِّ فإنَّ الصَّلاة مشهودةٌ محضورةٌ، حتى يَستقِلَّ الظلُّ بالرُّمح، [ص 6] ثم أَقْصِرْ عن الصَّلاة فإنَّ حينئذٍ تُسْجَرُ جهنَّم ... » الحديث، وهو في «صحيح مسلم» (3). _________ (1) «إرشاد الساري» (2/ 174)، وقد ذكره الحافظ في «الفتح» (2/ 389). (2) أخرجه البخاري (533) ومسلم (615) من حديث أبي هريرة. (3) رقم (832).

(16/344)


والأحاديث تدلُّ على أنَّ جهنَّم تُسْجَر عند الاستواء (1)، وتتنفَّس في الصَّيف (2)، أي: ما بعد ذلك حتى يُقبِل الفيءُ. وإذا تقرَّر ذلك فحضورُ المُصَلِّين في المسجد لا يمنع من الإبْراد. وقد يُجاب عن هذا بالحديث الذي رواه أبو داود (3)، وفيه: «إنَّ جهنَّم تُسجَرُ إلَّا يوم الجمعة»؛ [ص 7] وكأنَّ الفرق ــ والله أعلم ــ أنَّ السَّجرَ أي: الإيقاد من فعل الملائكة عن أمر الله تعالى، فهو ظاهرٌ في تجلّي العَذَاب، بخِلاف التنفُّس فإنَّه من جِهة النَّار، فكان عدم السَّجر في يوم الجُمعة أنسب من عدم التنفُّس. ويؤيِّده قيام الدَّليل على عدم كراهية الصَّلاة يوم الجمعة عند الاستواء. وهو يدلُّ على انتفاء العِلَّة أو معارضتها بأقوى منها، كعِظَم تجلِّي الرَّحمة يوم الجمعة على المجمِّعين. والجواب: أنَّنا نُسلِّمُ عدمَ السَّجْر يوم الجمعة لما ذكرتم، وأمَّا التنفُّس فالظَّاهر أنَّها تتنفَّس يوم الجمعة كتنفُّسها في سائر الأيام، لأن في حديث «الصحيحين»: «فإنَّ شِدَّة الحَرِّ من فَيحِ جهنَّم» الحديث. ومن المحسوس أنَّ الحَرَّ في يوم الجمعة لا يَخِفُّ عن الأيَّام التي قبله وبعده، بل هو موجودٌ فيه كما فيها، وهو من فَيْحِ جهنَّم بالنَّصِّ. _________ (1) كما في حديث عمرو بن عبسة المذكور، وفي حديث أبي هريرة الذي أخرجه ابن ماجه (1252). قال البوصيري: إسناده حسن. (2) كما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه الترمذي (2592) وصححه. (3) رقم (1083). قال أبو داود: هو مرسل؛ مجاهد أكبر من أبي الخليل، وأبو الخليل لم يسمع من أبي قتادة.

(16/345)


فإن قيل: فإن مشروعيَّة التنفُّل حينئذٍ تُنافي وجود فيحِ جهنَّم في ذلك الوقت في يوم الجمعة، وكونُه هو العِلَّة في الأمر بالإبراد، ولاسيَّما عند مَن حمل الأمر بالإبراد على ظاهره من الوجوب. فالجواب: أنَّنا نختار مذهب الجمهور أنَّ الأمر بالإبراد إنَّما هو للنَّدب؛ لما هو مقرَّرٌ في محلِّه. والفرق بينَه وبين السَّجْر ما تقدَّم، فتكون مخالفته خلافَ الأولى فقط. ثم نقول: إنَّ العِلَّة التي هي تنفُّس جهنَّم حينئذٍ عارضها يوم الجمعه ما هو أقوى منها، وهو عِظَم تجلِّي الرَّحمة. فانتفت خلافيَّة الأولى، وثبَت الندب بدليله المتقدِّم. فإن قلت: فقد ثبت بهذا مقصودنا من عدم مشروعيَّة الإبراد بالجُمعة. فالجواب: أنَّنا نقول: إنَّ إبراده - صلى الله عليه وآله وسلم - بالجمعة لم يكن لهذه العِلَّة، وإنَّما هو لعِلَّة أخرى؛ وهي: كراهيةُ أن يشقَّ على أصحابه؛ باجتماعهم، وتزاحمهم، وتضايقهم في ذلك العريش في وقت شِدَّة الحَرِّ. فإنْ قلْتَ: فإنَّ مشروعيَّة التبكير يوم الجمعة تنافي ذلك. فالجواب: ما مرَّ من أنَّ التبكير يختلف باختلاف الأوقات، ففي وقت البرد يكون آخر الساعات حين الاستواء، وفي أوقات الحرِّ يكون آخر السَّاعات حين إقبال الفيءِ. سلَّمنا أنَّ التبكير لا يختلف، بل هو على القسم الأوَّل مطلقًا؛ ولكنَّا نقول: فههنا عِلَّةٌ أخرى، وهي حرصُه - صلى الله عليه وآله وسلم - على أنْ يَعِيَ أصحابُه موعظتَه، ويكون خشوعهم في الفريضة على أتمِّ الأحوال. وهذا ممَّا يمنع عنه اشتدادُ الحرِّ، فلذلك أبرد.

(16/346)


إذا تأمَّلتَ ما ذُكِرَ علمتَ أنَّ الظَّاهِرَ [ص 8] أنَّ الإبراد بالجمعة سُنَّة، وأنَّه لا يُنافي ندبَ التنفُّل قبلها إلى أن يخرج الإمام، وحينئذٍ فيكون تأخير الأذان مع الإبراد بالجمعة إلى خروج الإمام كتأخيره في الظُهر إلى البرد، فقد ثبت الأمرُ بذلك في «الصحيحين» (1) عن أبي ذرّ قال: «أذن مؤذّن النَّبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الظهر، فقال: أبرِدْ أبرِدْ، أو قال: انتظِرْ انتظِرْ ... » الحديث. فالسُنَّة في الظهر أن يؤذَّن لها إذا أُريد حضورُ المُصَلِّين، وهو يختلف باختلاف الحر والبرد. والسُنَّة في الجُمعة أن يؤذَّن لها إذا خرج الخطيب، وهو يختلف باختلاف الحر والبرد أيضًا. إذا تقرَّر ما ذُكِر فاعلم أنَّ تأخير أذان الجُمعة إلى خروج الخطيب دليلٌ ظاهرٌ على أنَّه ليس للجُمعة سُنَّة قبلية؛ لأنَّ صلاتها بعد خروج الخطيب ممنوع. فلو كانت ثابتةً لسُنَّ الأذان قبل خروج الخطيب حتى يتمكَّن النّاس من فعلها بعد الأذان؛ عملًا بحديث «الصحيحين» (2) وغيرهما عن عبدالله بن مغفَّل المُزَني رضي الله عنه أنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «بين كلِّ أذانينِ صلاة، ثلاثًا، لمن شاء». وقد حمل الأئمة هذه الصلاة على الرَّواتب القبليَّة. وعليه، فيكون وقتها ــ أي الرَّواتب القبليَّة ــ بين الأذان والإقامة، فلو قُدِّمَت لم تقع الموقع. فتأمَّل هذا تَجِدْهُ ظاهرًا في نفي أنْ تكون للجُمعة سُنَّة قبلِيَّةٌ. _________ (1) البخاري (535) ومسلم (616). (2) البخاري (624) ومسلم (838).

(16/347)


ويؤيِّدُه حديث البخاري (1) عن ابن عمر رضي الله عنهما، من رواية مالكٍ عن نافعٍ عنه، قال: «صَلَّيتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، كان يصلِّي قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين في بيته، وبعد العشاء ركعتين، وكان لا يصلِّي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلِّي ركعتين». وهذا في «صحيح مسلم» (2) مختصرًا. وأخرجاه (3) في التطوُّع، من رواية عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، بلفظ: «سجدتين، سجدتين». [ص 9] وإفراده للجمعة ههنا يردُّ على من زعم أنَّ حكمها حكم الظُّهر، وذكرُه الرَّكعتين بعدها فقط يدلُّ على أنَّه لا قبليَّة لها. ومن الباطل جواب ابن بطَّال (4) عن هذا بأنَّ ابن عمر إنَّما أعاد ذكر الجمعة بعد ذكر الظُّهر من أجل أنَّه كان - صلى الله عليه وآله وسلم - يصلِّي سُنَّة الجمعة في بيته بخِلافِ الظُّهر. فَمِن أين له أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يصلي قبلية الظهر أبدًا في بيته وبعدِيَّتَّها في المسجد أبدًا، حتى تَثبت مخالفتُها للجمعة في الثانية وموافقتها لها في الأولى، فيقال: ذَكَر ابنُ عمر ما خالفت فيه الجمعةُ الظهرَ وما وافقتها فيه؟ على أنَّ قضيَّة جوابه أنَّ الجمعة تسمَّى ظهرًا، وهذا واضحُ البطلان. _________ (1) رقم (937). (2) رقم (882/ 71). (3) البخاري (1172) ومسلم (729). (4) في شرحه على «صحيح البخاري» (2/ 526).

(16/348)


فتبيَّن أنَّ حديث ابن عمر يردُّ على مَن زعم أنَّ حُكْم الجمعة حُكْم الظُّهر، ويدلُّ على أنَّه لا قبليَّة للجمعة، فتأمَّل. وممَّا يؤيِّد ذلك: ورود الأمر بالصلاة بعد الجُمعة، وهو حديث أبي هريرة ــ عند مسلم (1) ــ قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إذَّا صلَّى أحدكم الجُمعةَ فليُصَلِّ بعدها أربعًا»، وفي رواية: «فإن عَجِلَ بك شيءٌ فصلِّ ركعتين في المسجد وركعتين إذا رجعت». فقد فُهِم من هذا الحديث نفيُ قبليَّة الجُمعة، إذ لو كانت لذُكِرَتْ، وليس هذا عمدتنا في ذلك. وظاهر من هذا الحديث أن هذه الأربع مؤكدة، بل ظاهره كما قال بعضُهم الوجوب، لولا أن في الرواية الأُخرى (2): «من كان منكم مصلّيًا بعد الجمعة فليصلِّ أربعًا». وهذا بخلاف بعديَّة الظهر، فإنَّ المؤكَّد منها ركعتان فقط. ولا ينافي تَأَكُّدَ الأربعِ حديثُ ابن عمر السابق في اقتصاره - صلى الله عليه وآله وسلم - على ركعتين؛ إذ قد يُقال: إنَّ الأربع تتأكَّد في حق المأمومين كما يقتضيه الأمر، ولا تتأكَّد في حق الإمام، لأنَّه قد حصل له مزيد الأجر بنصبه في الخطبة بخلافهم. وليس لقبليتها حديث صحيح، بل الأحاديث تُفيد عكسَ ذلك كما مرَّ. وبهذه الدلائل يُخصَّص عموم حديث ابن حبان (3): «ما من صلاةٍ مفروضةٍ إلَّا وبين يديها ركعتانِ»، كما سيأتي إن شاء الله. _________ (1) رقم (881). (2) «صحيح مسلم» (881/ 69). (3) في «صحيحه» (2455، 2488) من حديث عبد الله بن الزبير. وإسناده قوي.

(16/349)


[ص 10] وقد استدلَّ من يقول بأن لها سُنَّة قبليَّة بأمور: أحدها: القياس على الظهر. وهو ــ وإن ذكره النووي ــ بعيد، كما ذكره العراقي (1) وغيره. وما قيل: إنَّ البخاري أَوْمَأَ إليه بقوله في ترجمته: «باب الصلاة بعد الجُمعة وقبلها» فيه نظر. بل قد يُدَّعَى العكس؛ لأنَّ الحديث الذي أَوْردَه يدلُّ على أنَّه ليس للجُمعة سُنَّة قبليَّة، ويدل على أنَّها مخالِفة للظهر، وهو حديث ابن عمر الذي مرَّ قريبًا. ومن تراجم البخاري: «باب الصلاة قبل العيد وبعده» (2). ومراده أنها غير مشروعة، كما تدل عليه الأحاديث التي أوردها. فيكون مراده هنا أن الصلاة بعد الجُمعة مشروعة وقبلها غير مشروعة، فقدَّم المثبَت وأخّر المنفيَّ. والمراد بالصلاة قبل الجُمعة أي: الراتبة، فأما النفل المطلق فهو مشروع قطعًا كما مر. ومع ذلك فالقياس إنما يُعمَل به في إثبات الأحكام لا في إثبات عبادة مستقلّة. وقد أجاب بعضُ العلماء أن القول بالقياس هنا إنما هو بناءً على أن الجُمعة ظهرٌ مقصورة. وهذا باطل، والصحيح أن الجمعة صلاة مستقلّة. وزعم بعضهم أن الجمعة هي الظهر، وإنما أُقيمت الخطبتان مقام _________ (1) انظر: «طرح التثريب» (3/ 41). (2) «الصحيح مع الفتح» (2/ 476).

(16/350)


ركعتين، وكأنَّ هذا القائل غرَّه اتفاق العدد بين الركعتين والخطبتين، ولا أدري ماذا يقول في خُطبتي العيدين والكسوفين والاستسقاء عِوَض عن ماذا؟ والاستدلال بنحو هذا محض التكلُّف والتمحُّل الذي لا حاجةَ بطالب الحق إليه، والله أعلم. واستدلُّوا بحديث «الصحيحين» المتقدم: «بين كل أذانينِ صلاة». وهذا غفلة، فإنّ الأذانين في الحديث إنما أُريد بهما الأذان المشروع والإقامة اتفاقًا، والأذان المشروع في الجمعة هو الذي عند خروج الإمام، والصلاةُ بينه وبين الإقامة حرام إجماعًا، إلا ما سيأتي في ركعتي التحيَّة. ولو كان المراد أي أذانين كان؛ لكان الأحرى بذلك أذانا الصبح، ولم يقل أحد بأنه يُسَنُّ بينهما صلاة. أما سُنَّة الصبح فليست بينهما، وإنما هي بعدهما بين الأذان والإقامة. [ص 11] واستدلُّوا بأحاديث أُخرى ذكرها الحافظ في «الفتح» مع أجوبتها، وهذه عبارته (1): وورد في سُنَّة الجمعة التي قبلها أحاديث أخرى ضعيفة. منها: عن أبي هريرة، رواه البزار (2) بلفظ: «كان يصلي قبل الجمعة ركعتين وبعدها أربعًا». وفي إسناده ضعف. _________ (1) «فتح الباري» (2/ 426). (2) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (6/ 365) من طريقه، وفيه: « ... وبعدها ركعتين».

(16/351)


وعن علي، رواه الأثرم والطبراني في «الأوسط» (1) بلفظ: «كان يصلي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا»، وفيه محمد بن عبد الرحمن السهمي، وهو ضعيف عند البخاري وغيره، وقال الأثرم: إنه حديث واهٍ. ومنها: عن ابن عباس مثله، وزاد: «لا يفصل في شيءٍ منهنّ»، أخرجه ابن ماجه (2) بسند واهٍ. قال النووي في «الخلاصة» (3): «إنّه حديث باطل». وعن ابن مسعود عند الطبراني (4) أيضًا مثله، وفي إسناده ضعف وانقطاع. ورواه عبد الرزاق (5) عن ابن مسعود موقوفًا، وهو الصواب. وروى ابن سعد (6) عن صفيّة زوج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - موقوفًا نحو حديث أبي هريرة. إلخ. قلت: والموقوف عن ابن مسعود ذكره الترمذي (7) بقوله: ورُوي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يصلي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا. _________ (1) (2/ 172). (2) رقم (1129). قال البوصيري في «الزوائد»: إسناده مسلسل بالضعفاء، عطية متفق على ضعفه، وحجاج مدلس، ومبشر بن عبيد كذاب، وبقية هو ابن الوليد مدلّس. (3) (2/ 813). (4) في «الأوسط» (4/ 196). (5) في «المصنّف» (3/ 247). (6) في «الطبقات» (8/ 491). (7) في «الجامع» عقب الحديث رقم (523).

(16/352)


وقد استدلُّوا به على وقفه، قالوا: لأن الظاهر أنه توقيف. والجواب: أنه إن صحَّ فلا حُجَّة فيه، وقولهم: إن الظاهر أنه توقيف ممنوع، بل الظاهر أن المراد بذلك النفل المطلق الذي يصلِّيه الإنسان ما بين دخوله الجامع وخروج الإمام؛ كما مَرَّ بيانُه، بل هذا هو المتعين، لما مرّ أن السُنَّة في خروج الإمام أول الوقت وقبلَ الأذان، وأنَّ ذلك صريح في نفي مشروعية سنةٍ قَبْليّة للجمعة، والله أعلم. واستدلُّوا بما قاله العراقي في «شرح سنن الترمذي»؛ بعد ذكر حديث ابن ماجه المتقدم في عبارة «الفتح» قال: «وقد وقع لنا بإسنادٍ جيد من طريق القاضي أبي الحسن الخلعي من رواية ابن إسحاق عن عاصم بن عثمان عن علي». كذا وجدت نقل عبارته، ولتراجع (1). والجواب: أنَّ ابن إسحاق مختلفٌ فيه، وهو بَعْدُ مُدَلِّس، وقد عَنْعَنَ، ولم أقف على الإسناد بطوله حتى أعرفَ حاله، وفيما ذكرتُ كفاية. وهَبْ أنَّه صحَّ فالمراد النَّفْل المطلق؛ لما مرَّ، والله أعلم. واستدلُّوا بأحاديث: «أربع بعد الزوال». والجواب: أنَّ في بعضها التقييد بقبل الظهر، والمطلقُ يُحمَل على المقيَّد. وعلى فَرْضِ عدم الحمل فيكون عامًّا مخصوصًا بالجمعة؛ لما مرَّ أن السُنَّة خروج الإمام عقب الزوال، وبخروجه تمتنع الصلاة إلَّا ركعتي التحية، والله أعلم. _________ (1) في «طرح التثريب» (3/ 42): «من طريق أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي». وهو الصواب، و «ابن إسحاق» و «عثمان» تحريف.

(16/353)


واستدلَّ بعضهم بحديث أبي داود والترمذي (1)، عن عطاء قال: «كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا صلَّى الجمعة بمكة تقدَّم فصلَّى ركعتين، ثم يتقدَّم فيصلِّي أربعًا ... »، الحديث. والجواب: أنَّ الاستدلال به غفلة؛ لأنَّ الكلام في الصلاة بعد الجمعة. وقوله «تقدم» أي: من موقفه الذي صلَّى فيه الجمعة، يتقدَّم عنه فيصلِّي ركعتين، ثم يتقدَّم فيصلِّي أربعًا، وهذا لفظ الترمذي: [ص 13] «وابن عمر بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صلَّى في المسجد بعد الجمعة ركعتين، وصلَّى بعد الركعتين أربعًا». حدثنا بذلك ابن أبي عمر حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن عطاء، قال: «رأيتُ ابن عمر صلَّى بعد الجمعة ركعتين، ثم صلَّى بعد ذلك أربعًا». ولفظ أبي داود في باب الصلاة بعد الجمعة: عن عطاء عن ابن عمر قال: «كان إذا كان بمكة فصلَّى الجمعة تقدم فصلَّى ركعتين، ثم تقدم فصلّى أربعًا، وإذا كان بالمدينة صلّى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلَّى ركعتين، ولم يصلِّ في المسجد». فقيل له، فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يفعل ذلك. وكلاهما صريح أنَّ هذه إنَّما هي الصَّلاة بعد الجمعة. وفي رواية أُخرى (2): عن عطاء أنَّه رأى ابن عمر يُصَلِّي بعد الجمعة، فينماز عن مصلَّاه الذي صلَّى فيه الجمعة قليلًا غير كثير، قال: فيركع ركعتين. قال: ثم يمشي أنفسَ من ذلك، فيركع أربع ركعات. قلت ــ القائل ابن جريج الراوي عن عطاء ــ لعطاء: كم رأيتَ ابن عمر يصنع ذلك؟ قال: مرارًا. _________ (1) أبو داود (1130) والترمذي (2/ 401، 402). (2) عند أبي داود (1133).

(16/354)


وهذا الحديث ممَّا يدلُّ على الفَرْق بين الجمعة والظهر، والله أعلم. واستدلُّوا بما رواه الطبراني في «الأوسط» (1) بسنده إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «مَنْ شَهِدَ منكم الجمعة فليُصَلِّ أربعًا قبلها وبعدها أربعًا». والجواب: أنَّه حديثٌ ضعيفٌ، فيه محمد بن عبد الرحمن السهمي، كما في «شرح البخاري» (2)، وقد ضعَّفه البخاري وغيره كما مرَّ، والله أعلم. واستدلُّوا بحديث أبي داود وابن حبان (3) من طريق أيوب عن نافع قال: «كان ابن عمر يُطيل الصلاة قبل الجمعة، ويصلِّي بعدها ركعتين في بيته، ويُحدِّث أنَّ الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يفعلُه». والجواب: قال الحافظ (4): وتُعُقِّب بأن قوله: «كان يفعل ذلك» عائد على قوله: «ويصلِّي بعد الجمعة ركعتين في بيته». ويدلُّ له رواية الليث عن نافع عن عبد الله: أنَّه كان إذا صلَّى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته، ثم قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يصنع ذلك»، رواه مسلم (5). وأما قوله: «كان يطيل الصلاة قبل الجمعة» فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون [ص 14] مرفوعًا؛ لأنَّه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يخرج إذا زالت _________ (1) (2/ 172)، ولفظه: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلّي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا ... ». (2) «فتح الباري» (2/ 426). (3) أبو داود (1128) وابن حبان (2476). (4) «فتح الباري» (2/ 426). (5) رقم (882).

(16/355)


الشمس فيَشْتَغِل بالخطبة، ثمَّ بصلاة الجمعة. وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذاك مطلقُ نافلةٍ لا صلاةٌ راتبةٌ، فلا حجَّة فيه لسُنَّة الجمعة التي قبلها، بل هي تنفُّل مطلقٌ، والله أعلم. واستدلُّوا بحديث ابن حبان في «صحيحه» (1): «ما من صلاةٍ مفروضةٍ إلَّا وبين يديها ركعتان». والجواب: أنَّه عام مخصوص بالجمعة كما مرَّ بيانُه، مع أنَّه مُقيَّدٌ بحديث «الصحيحين»: «بين كلِّ أذانينِ صلاةٌ»، وقد مرَّ الكلام عليه. مع أنَّ ابن حبان يُطلِق الصحيح على الحَسَن، وربَّما يُصحِّح ويُحسِّن ما لا يُوافَق عليه، والله أعلم. واستدلُّوا بحديث ابن ماجه (2) بسند صحيح عن أبي هريرة وجابر قالا: «جاء سُلَيْك الغَطَفاني والنَّبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يخطب، فقال له النَّبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أصلَّيْتَ ركعتين قبل أن تجيء؟ » قال: لا، قال: «فصلِّ ركعتين وتَجوَّزْ فيهما». قال في التحفة (3): وقوله: «أصلّيتَ» إلى آخره يمنع حملَه على تَحيَّة المسجد ــ أي: وحدها ــ حتى لا ينافي الاستدلال به لندبها للداخل حال الخطبة، فينويها مع سُنَّة الجمعة القبليَّة إن لم يكن صلاَّها قبل .. إلخ [ص 15]، إذ المعروف في هذا الحديث الاقتصار على «أصليت» ونحوه، وهو كذلك في «الصحيحين» وغيرهما. ولم تجئ هذه الزيادة ــ أي قوله: _________ (1) رقم (2455)، وقد سبق ذكره. (2) رقم (1114). (3) «تحفة المحتاج» (2/ 224).

(16/356)


«قبل أن تجيء» ــ إلَّا في هذه الرواية التي أخرجها ابن ماجه. والجواب عنها من وجوه: الأوَّل: أنَّ حفص بن غياث قال عنه يعقوب: ثقة ثبت إذا حدَّث من كتابه ويُتَّقى بعض حفظه. وقال ابن عمار: كان لا يحفظ حسنًا، وكان عَسِرًا. فأطلق هذان وصفَهُ بسوء الحفظ. وقال أبو عُبيد الآجرِّي عن أبي داود: كان حفص بأَخَرةٍ دَخَله نسيان. فقيَّد أبو داود سوء الحفظ بأَخَرَة. وقال أبو زُرعة: ساءَ حفظُه بعدما استُقْضي، فمَن كَتب عنه من كتابه فهو صالح، وإلَّا فهو كذا. قلت: وهو كما في «تهذيب التهذيب» (1): كوفيّ استُقْضي بها وببغداد. وقال ابن معين: جميع ما حدَّث به ببغداد من حفظه. قلت: فحديثه ببغداد كان بأَخَرةٍ، وكان بعدما استُقْضي، وكان من حفظه. وداود بن رُشَيد بغداديٌّ كما في ترجمته (2)، فحديثه عنه بأخرةٍ بعدما استُقْضي، من حفظه. وقد قال داود بن رشيد نفسه ــ كما في «تهذيب التهذيب» (3) ــ: حفصٌ كثير الغلط. _________ (1) (2/ 415 وما بعدها). وفيه أقوال النقاد. (2) «تهذيب التهذيب» (3/ 184). (3) (2/ 416).

(16/357)


وأمَّا رواية الشيخين عنه فهي محمولة على ما ثبت عندهما أنَّه حدَّث من كتابه، وليس هذا لأحدٍ غيرهما؛ لالتزامهما الصحيحَ وتحرِّيهما وتيقُّظهما. وفي «تدريب الراوي» (1) للسيوطي عن ابن الصلاح قال: من حكم لشخصٍ بمجرَّد رواية مسلمٍ عنه في «صحيحه» بأنَّه من شرط مسلم، فقد غفل وأخطأ، بل ذلك متوقِّفٌ على النَّظَر في كيفيَّة رواية مسلمٍ عنه، وعلى أيِّ وجهٍ اعتمد عليه. الوجه الثاني: قال في «تهذيب التهذيب» (2): وذكر الأثرم عن أحمد بن حنبل أنَّ حفصًا كان يدلِّس. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا، كثير الحديث يُدلّس. والمدلِّس لا يكون حجَّةً إلَّا فيما صرَّح فيه بالسَّماع، وقد عَنْعن في هذا الحديث. الوجه الثالث: أنَّ الأعمش على جلالة قدره معدودٌ في المدلِّسين، والمدلِّس لا يكون حجَّة إلَّا فيما صرَّح فيه بالسَّماع، وقد عَنْعن في هذا الحديث. نعم، قال الحافظ في «المقدمة» (3) في ترجمة حفص بن غياث: «اعتمد البخاري على حفص هذا في حديث الأعمش؛ لأنَّه كان يُميِّز بين ما _________ (1) (1/ 129). (2) (2/ 417). (3) «هدى الساري» (ص 398).

(16/358)


صرَّح به الأعمش بالسماع، وبين ما دلَّسه، نبَّه على ذلك أبو الفضل ابن طاهر، وهو كما قال». وهذا لا يردُّ ما ذكرناه؛ لأنَّه لم يميِّز هنا، مع أنَّه في نفسِهِ مدلِّسٌ أيضًا كما مَرَّ عن الإمام أحمد وابن سعد. الوجه الرابع: أبو صالح شيخ الأعمش، هل هو ذكوان المدني السَّمَّان، أو باذام مولى أم هانئ؟ فإنَّ كلاًّ منهما كنيته أبو صالح، عن أبي هريرة وعنه الأعمش. فإن كان الثاني، فهو مُضعَّف، ورواية الأعمش عنه منقطعة. [ص 16] ففي «تهذيب التهذيب» (1): «أنَّ أبا حاتم قال: لم يسمع ــ يعني: الأعمش ــ عن أبي صالح مولى أُم هانئ، هو يدلِّس عن الكلبي». قال (2): «وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: الأعمش عن أبي صالح ــ يعني: مولى أم هانئ ــ منقطع». والذي يظهر أنَّ أبا صالح الذي روى عنه الأعمش هذا الحديث هو الأول: ذكوان المدني السَّمان؛ لأنَّ الثاني قال عنه ابن عدي ــ كما في «تهذيب التهذيب» (3) ــ: عامة ما يرويه تفسير، وما أقلَّ مَا لَهُ من المسند. _________ (1) (4/ 224). (2) المصدر السابق (4/ 225). (3) (1/ 417).

(16/359)


الطريق الأخرى: الأعمش عن أبي سفيان عن جابر. وفيها نَظَرٌ من وجوه: الأوَّل ــ وهو الخامس من أوجه الجواب ــ: رواية الأعمش عن أبي سفيان. قال في «تهذيب التهذيب» (1) في ترجمة الأعمش: «وقال أبو بكر البزَّار: لم يسمع من أبي سفيان شيئًا، وقد روى عنه نحو مئة حديث، وإنَّما هي صحيفة عرفت». وقد يجاب عن هذا بأنَّ غاية ما فيه أنْ يكون روى عنه بالوجادة، وهي طريق من طرق الرواية. الثاني ــ وهو السادس من أوجه الجواب ــ: حال أبي سفيان في نفسه. قال في «تهذيب التهذيب» (2): قال أحمد: ليس به بأس ... إلى أن قال: وقال ابن أبي خيثمة عن ابن مَعِين: لاشيء، ثم ذكر أقوال الأئمة فيه، وأكثرهم على توثيقه، وقد روى له الشيخان والجماعة. الوجه الثالث ــ وهو السابع من أوجه الجواب ــ: رواية أبي سفيان عن جابر. في «تهذيب التهذيب» (3): وقال أبو خيثمة عن ابن عُيينة: حديث أبي سفيان عن جابر إنما هي صحيفة، وكذا قال وكيع عن شعبة ... إلى أن قال: _________ (1) (4/ 224). (2) (5/ 27). (3) (5/ 27).

(16/360)


وفي «العلل الكبير» لعلي بن المديني: أبو سفيان لم يسمع من جابر إلَّا أربعة أحاديث. وقال فيها (1): أبو سفيان يُكتب حديثه وليس بالقويِّ، وقال أبو حاتم عن شعبة: لم يسمع أبو سفيان من جابر إلَّا أربعة أحاديث. قال الحافظ (2): قلتُ: لم يخرج البخاري له إلَّا أربعة أحاديث عن جابر، وأظنُّها التي عناها شيخه علي بن المديني، منها حديثان في الأشربة قَرنه بأبي صالح، وفي الفضائل حديث: «اهتز العرش» كذلك، والرابع في تفسير سورة الجمعة، قَرَنه بسالم بن أبي الجَعْد. [ص 17] فتبَيّن أنَّ هذا الحديث ممَّا لم يسمعه أبو سفيان عن جابر. وقد يُجاب عن هذا بأنَّ غاية ما فيه أنَّه من الصَّحيفة، ولعلَّها كانت صحيحة، فيكون مناولةً أو وجادةً، وأبو سفيان ثقةٌ عند الأكثر. الوجه الثامن: قال أبو داود (3): حدَّثنا محمد بن محبوب وإسماعيل بن إبراهيم، المعنى، قالا: ثنا حفص بن غياث، وساق الإسناد كإسناد ابن ماجه (4) بطريقيه، وذكر الحديث، وآخره: فقال له: «أصليتَ شيئًا؟ قال: لا». ومحمد بن محبوب وإسماعيل بن إبراهيم أرجح من داود بن رُشَيد. [ص 18] الوجه التاسع: أنَّه قد روى حديثَ سُلَيك عن الأعمش _________ (1) أي في «العلل الكبير». والنصّ في «التهذيب» الموضع السابق. (2) بعدما سرد الأقوال السابقة في المصدر السابق. وانظر «هدي الساري» (ص 431). (3) في «سننه» (1116). (4) رقم (1114).

(16/361)


عيسى بن يونس، وحديثه عند مسلم (1)، وأبومعاوية، وحديثه عند أحمد والدارقطني (2)، وسفيان، وحديثه عند أحمد والدارقطني (3) أيضًا. وخالفوا حفص بن غياث سنَدًا ومتنًا. أمَّا في السند: فلم يذكر أحد منهم الرواية الأخرى عن أبي صالح عن أبي هريرة، بل كلُّهم اقتصروا عن أبي سفيان عن جابر. وإنَّما قال الحافظ في «الإصابة» (4) في ترجمة سُلَيك وذكر هذا الحديث: «وروى ابن ماجه وأبو يعلى من طريق الأعمش [عن أبي صالح] (5) عن أبي هريرة ... » إلخ. ولا أدري كيف روايةُ أبي يعلى؟ فلْتُرَاجع (6)، إن لم يكن ذِكر أبي يعلى خطأ، والأصل «أبي داود». وأمَّا في المتن، فكلُّهم لم يذكروا تلك الزيادة. الوجه العاشر: أنَّه قد روى حديث سُليك عن أبي سفيان: الوليدُ أبو بشر، وهو الوليد بن مسلم بن شهاب التميمي العنبري. وحديثه عند أبي _________ (1) رقم (875/ 59). (2) «المسند» (3/ 316، 317) و «سنن الدارقطني» (2/ 13). (3) «المسند» (3/ 389) و «سنن الدارقطني» (2/ 14). (4) (4/ 442). (5) ليست في الأصل، وزيدت من «الإصابة». (6) الحديث عند أبي يعلى (2272) من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر، دون الطريق الثاني.

(16/362)


داود وأحمد والدارقطني (1)، ولم يذكر في حديثه تلك الزيادة. الوجه الحادي عشر: أنَّه قد روى حديثَ سُليك عن جابر: عمرو بن دينار، وحديثه في الصحيحين (2) وغيرهما. وأبو الزبير، وحديثه عند مسلم والشافعي وابن ماجه (3)، ولم يذكرا في حديثهما تلك الزيادة. الوجه الثاني عشر: أنَّه قد روى حديثَ سُليك: أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، وحديثه عند الترمذي وأحمد والشَّافعيِّ وابن ماجه (4)، ولم يذكر تلك الزِّيادة. والحاصل: أنَّ إسناد الحديث عن أبي هريرة انفرَد به حفصُ بن غياث عن الأعمش، وانفرَد به الأعمش عن أبي صالح، وانفرَد به أبوصالح عن أبي هريرة، وانفرَد بإدخال هذه الزِّيادة فيه داود بن رُشَيد عن حفص بن غياث. وانفرَد بإدخال الزِّيادة في حديث جابر: داود بن رُشَيد عن حفص، وحفص عن الأعمش، والأعمش عن أبي سفيان، وأبوسفيان عن جابر. وقد روى الحديثَ عن حفصٍ محمدُ بن محبوب وإسماعيل بن إبراهيم، فلم يذكراها. ورواه عن الأعمش عيسى بن يونس وأبو معاوية وسفيان، فلم يذكروها. _________ (1) أبو داود (1117) وأحمد (3/ 297) والدارقطني (2/ 13). (2) البخاري (930) ومسلم (875/ 54). (3) مسلم (875/ 58) و «الأم» للشافعي (2/ 399) وابن ماجه (1112). (4) الترمذي (511) و «المسند» (3/ 25) و «الأم» (2/ 399) وابن ماجه (1113).

(16/363)


ورواه عن أبي سفيان الوليدُ ين مسلم بن شهاب التميمي العنبري فلم يذكرها. ورواه عن جابر عَمْرو بن دينار وأبو الزُّبير فلم يذكراها. ورواه عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أبو سعيد الخدري فلم يذكرها. [ص 19] والظاهر ــ والله أعلم ــ أنَّ داود بن رُشيد أو حفص بن غِياث فَهِم من قوله في عامة الروايات: «أصليت» أنَّ المراد: «أصليتَ قبل أن تجيء»، فأدرج هذه الزيادة تفسيرًا أو غلطًا. وسبب الفهم أنَّ أكثر الروايات تُشعِر أنَّ سبب خطاب النَّبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لسُليك هو أنَّه رآه دخل المسجد ولم يُصلِّ، فلمَّا قال له: «أصلَّيْتَ؟ » لم يمكن أن يكون المراد: أصليتَ في المسجد؟ فلم يبقَ إلَّا أن يكون المراد: أصليتَ قبل أن تجيء؟ وهذا الفهم فيه نَظَرٌ من وجوه: الأول: أنَّ الذي يدلُّ عليه حديث أبي سعيد رضي الله عنه أنَّ سبب خطاب النَّبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لسُلَيك هو أنَّه رآه بهيئة بذَّةٍ، فدعاه رجاءَ أنْ يراه الناس بتلك الهيئة فيتصدَّقوا عليه، ثم سأله: «أصلَّيت؟ » لاحتمال أنْ يكون صلَّى قبل أن يدعوه، فقال: لا، فأمره بالصلاة. وهذا لفظ الحديث عن الإمام أحمد (1): عن أبي سعيد قال: «دخل رجلٌ المسجدَ يومَ الجمعة والنَّبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على المنبر، فدعاه فأمره أن يُصلِّي _________ (1) في «المسند» (3/ 25).

(16/364)


ركعتين. ثم دخل الجمعةَ الثانية ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على المنبر، فدعاه، فأمره. ثم دخل الجمعةَ الثالثة، فأمره أن يصلِّي ركعتين، ثم قال: «تصدقوا» ففعلوا، فأعطاه ثوبين ممَّا تصدَّقوا، ثم قال: «تصدَّقوا»، فألقى أحد ثوبَيْهِ، فانتهره رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكرِهَ ما صَنَع. ثم قال: «انظروا إلى هذا! فإنَّه دخل المسجد في هيئةٍ بذَّةٍ، فدعوتُه، فرجوتُ أن تُعطوا له، فتصدَّقوا عليه وتَكْسُوه، فلم تفعلوا، فقُلت: تصدَّقوا فتصدَّقوا، فأعطيتُه ثوبين ممَّا تصدَّقوا، ثم قلت: تصدَّقوا، فألقى أحدَ ثوبيه. خُذْ ثوبك»، وانتهره. وظاهره: أنَّ الأمرَ بالصدقة وإعطاء سُليك الثَوْبَيْن وإلقاءه أحدهما كان في المرَّة الثالثة. ورواية الشافعي (1) تُخالف ذلك، فراجِعْها. والمقصود بيان خطأ من ظنَّ أنَّ المراد: أصلَّيتَ قبل أنْ تجيء. [ص 20] الوجه الثاني: أنَّه قد يقال: سلَّمنا أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وآله وسلم - رآه حين دخل المسجد، ولكن جوَّز أن يكون قد جاء قبل ذلك، وإنَّما خرج إلى باب المسجد لحاجةٍ كأن يتنخَّم، ثم عاد. فبناءً على ذلك التجويز سأله هل صلَّى؟ الوجه الثالث: أن يُقَال: سَلَّمْنا أنَّ النَّبي صلَّى اللهُ عليه وسلم رآه حين دخل المسجد، وأنَّه لم يُجوِّز أن يكون قد جاء قبل ذلك، ولكنَّا نقول: إن قوله: «أصَلَّيْتَ» ليس للاستفهام الحقيقي، وإنَّما هو بمعنى الأمر، كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} [آل عمران: 20]. والمعنى: وقل للَّذين أوتوا الكتاب والأميين: _________ (1) في «الأم» (2/ 400)، فسياقها يدل على أن ذلك في المرة الثانية.

(16/365)


أسْلِموا، ذكره في «المغني» (1). فإن قيل: فما تصنعون بجواب سُلَيْك بقوله: لا؟ فالجواب: أنَّه فهم أنَّ الاستفهام على بابه، ولذلك أعاد النَّبي صلى عليه وآلِهِ وسلَّم الأمر صريحًا، فتأمّل. فإنْ أبيت إلَّا أنْ تجعل المعنى: أصَلَّيت قبل أن تجيء، فقد حمله أبو شامة على أن المراد: قبل أن تجيء إلى هنا من مؤخر المسجد. ومع هذا فقد قال الحافظ المزي وابن تيمية: إن هذه الكلمة «تجيء» تصحفت في «سنن أبي داود»، والصواب: «قبل أن تجلس». وردَّه بعض المعاصرين، فإن بعض المتقدمين إسحاق بن راهويه أو غيره بنى عليها مذهبه، فقال في تحية المسجد: إن كان الرجل قد صلَّى في بيته فلا يُصلِّها، وإلَّا فليصلِّها. وهذا الجواب قوي إن صحَّ النقلُ، ولكن ذلك لا يفيد القائلين بقبلية الجمعة شيئًا، لما مرَّ إيضاحه، ولله الحمد. وعلى كل حالٍ فلا يمكن أن يكون المراد قبليَّة للجمعة؛ لأنَّ الأدلَّة الصريحة قد قامت على أنَّ الجمعة لا قبليَّة لها؛ لما مرَّ آنفًا من أنَّ محلَّ القبليَّة بعد دخول الوقت، وبين الأذان والإقامة. وقد عُلِمَ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يخرج أوَّل دخول الوقت ــ إن لم يكن قبله ــ عامدًا إلى المنبر، فيؤذِّن المؤذِّنُ، فيقوم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للخطبة. وليس بين خروجه - صلى الله عليه وآله وسلم - وبين فريضة الجمعة إلَّا الخطبتان، والصَّلاة حينئذٍ حرامٌ إلَّا ركعَتَي التَّحيَّة. فكيف تكون للجمعة قبليَّة ويكون أداؤها في وقتها الذي هو أول الوقت _________ (1) «مغني اللبيب» (1/ 13).

(16/366)


وبين الأذان والإقامة حرامًا، ولو أُدِّيَت فيه لم تنعقد؟! هذا محالٌ. وأيضًا، قد دلَّ حديث ابن عمر وغيره على عدمها كما مرَّ، فتعيَّن الجمع بين الأدلَّة بما ذكرناه، والله الموفِّقُ، لا ربَّ غيرُه. [ص 21] وقال بعضهم: إنَّ هذه الأدلَّة التي استدلَّ بها المثبتون وإن كان بعضها غير صحيحٍ، وبعضها غير صريحٍ= فلا أقلَّ من أنْ تفيد بمجموعها المطلوب؛ لِما صرَّحوا به أنَّ الضَّعيف إذا تعدَّدتْ طرقُهُ بَلَغَ رتبة الحَسَن، فيحتجُّ به. وهَبْ أنَّه لا يكون كذلك، فقد صرَّحوا أنَّ الضَّعيف يُعمَلُ به في فضائل الأعمال. وأقول: الجواب أنَّ بلوغ الضَّعيف رتبةَ الحسن له شروطٌ لم توجد هنا. وكذلك العمل بالحديث الضَّعيف في فضائل الأعمال له شروطٌ لم تُوجد هنا. مع أنَّ تلك الأحاديث جميعها غير صريحة في إثبات صلاةٍ قبل الجمعة، بنيَّة راتبةٍ قبليةٍ للجمعة، لِما قدَّمْنَاهُ. وأنَّ ما صحَّ منها فهو محمولٌ على النَّفْلِ المطلق الذي يُصلِّيه الإنسان ما بين دخوله الجامع وخروج الإمام، ولاسيَّما وقد قام الدَّليل على نفي أن تكون للجمعة راتبةٌ قبلية؛ كما مرَّ بيانه. وفي الختام نقول للمثبتين: مَن كان منكم يُحِبُّ ثبوت راتبةٍ قبليَّةٍ للجمعة ليصلِّيها هو والمسلمون، فيَحُوزوا الفضيلة، فما عليه إلَّا أن يُبكِّرَ إلى الجامع فيصلِّي النَّفل المطلق إلى خروج الإمام، فيحوز فضيلةً أعظم ممَّا طلَبَ.

(16/367)


بل إنَّ الانكفاف عن صلاةٍ راتبةٍ قبليَّةٍ للجمعة امتثالًا للسُنَّة، يُحصِّل له فضيلةً لا تقِلُّ عمَّا طلَبَ. بل إنَّ الإقدام على صلاة راتبةٍ قبليَّةٍ للجمعة بعد العلم بقيام الدَّليل على عدم مشروعيِّتها معصية كما لا يخفى. ومن بقي في قلبه ريبٌ في بطلانها، فما عليه إلَّا أن يصلي ركعتين أو أربعًا من جملة النفل المطلق الذي قبله، وينوي في قلبه أنه إذا كان في مشيئة الله تعالى للجمعة راتبة قبلية، فهي هذه، وإلَّا فهي نفل مطلق. والتردد في النية مغتفر في مثل هذا. [ص 22] ومن كان منكم يحبُّ ثبوتها انتصارًا لمَنْ أثبتها من العلماء فهذا غرضٌ آخر، ليس من الدِّين في شيءٍ. والعلماء رضي الله عنهم مأجورون على كُلِّ حال، وليس في المخالفة لهم تبعًا للدَّليل غضاضةٌ عليهم؛ إذ ليس منهم من يُبرِّئُ نفسَه عن الخطأ ويدَّعي لنفسه العِصْمة. وأيُّهما أسهل؟ مخالفة الله ورسوله، أو مخالفة عالمٍ من العلماء؟ مع أنَّ مخالفة العالم لا تستلزم نقصَه ولا الحط منه؛ فقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ربَّما خالفوه في الآراء التي ليست من قبيل الوحي. ولم يُعَدَّ ذلك استنقاصًا منهم له - صلى الله عليه وآله وسلم -، وإلَّا لكَفرُوا. بل كان - صلى الله عليه وآله وسلم - ربَّما رَجَعَ إلى قولهم في ذلك. ومن كان منكم يحبُّ ثبوتها لكونه من المقلِّدين للمذهب القائل بثبوتها= فهذا لا ينبغي له أن يُعوِّل على ثبوتها من حيث الدَّليل وعدمه؛ لأنَّه مقلِّدٌ لا يَسأَلُ عن حُجَّة، ولا يُسأَل عن حُجَّة، فهو ملتزمٌ لقول من قلَّده، ولو ثبتت الحُجج القطعيَّة بخلافه. فالواجب عليه أن يقول: أنا مقلِّدٌ لفلان، وفلانٌ قال بثبوتها، ويقف عند ذلك.

(16/368)


فإن تاقت نفسُه إلى الاحتجاج فليُوَطِّن نفسَهُ على قبول الحُجَّة، ولو على خلاف قول إمامه، وإلَّا وَقَعَ في الخطَر من تقديم هواه على ما جاء به الرَّسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، وجعلِ كلام مقلَّدهِ أصلًا يُردُّ إليه ما خالَفَه من كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -. والله يهدي من يشاء إلى سراطٍ (1) مستقيمٍ. _________ (1) كذا بالسين، وهي لغة فصيحة. والصاد أعلى وإن كانت السين هي الأصل. قال الفراء: الصاد لغة قريش الأولين التي جاء بها الكتاب، وعامة العرب يجعلها سينًا. انظر «تاج العروس» (سرط).

(16/369)


الرسالة الحادية عشرة

  بحث في وقت تشريع ونزول آية صلاة الخوف

(16/371)


فصل قد علمتَ من رواية قتادة عن سليمان بن قيس (1) والكلام عليها أن ظاهرها أن ذلك أول ما نزلت الآية، أعني قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]. وقد عارض هذا حديث آخر. أخرج أبو داود (2) عن سعيد بن منصور عن جرير بن عبد الحميد عن منصور عن مجاهد عن أبي عياش الزرقي قال: «كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بعُسْفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد، فصلينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غِرَّةً، لقد أصبنا غفلة، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة! فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر، فلما حضرت العصر قام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مستقبلَ القبلة، والمشركون أمامه، فصفَّ خلف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صفٌّ، وصفَّ بعد ذلك الصفِّ صفٌّ آخر، فركع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وركعوا جميعًا ... » فذكر الصفة التي تقدمت [في] رواية عطاء عن جابر، ثم قال: «فصلَّاها بعُسْفان، وصلَّاها يوم بني سُلَيم». وأخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 334) من طريق ابن منصور، وقال: «صحيح على شرط الشيخين» وأقره الذهبي. _________ (1) أخرجها الطبري في «تفسيره» (7/ 414) من حديث جابر بن عبد الله في قصة قصر الصلاة في الخوف. (2) رقم (1236).

(16/373)


وأخرجه البيهقي في «السنن» (3/ 256) من طريق يحيى بن يحيى وسعيد بن منصور كلاهما عن جرير. وأخرجه النسائي (1) عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار عن محمد (غندر) قال: حدثنا شعبة عن منصور، قال: سمعت مجاهدًا يحدث عن أبي عيَّاش الزُّرقي ــ قال شعبة: كتب به إليَّ وقرأتُه عليه وسمعتُه منه يحدِّث، ولكني حفظته. قال ابن بشار في حديثه: حفظي من الكتاب ــ، فذكره وليس فيه: «فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر». وهكذا رواه أحمد أيضًا عن غندر. «المسند» (4/ 60) (2). وأخرجه النسائي (3) أيضًا عن عمرو بن علي عن عبد العزيز بن عبد الصمد ثنا منصور، فذكره. وفيه: «فنزلت ــ يعني صلاة الخوف ــ بين الظهر والعصر». ورواه أحمد (4) أيضًا: «ثنا عبد الرزاق ثنا الثوري عن منصور ... »، وفيه: «فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآيات بين الظهر والعصر: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102]. ورواه أبو داود الطيالسي (5) عن ورقاء عن منصور، وفيه: «فنزل جبريل _________ (1) (3/ 176). (2) رقم (16581). (3) (3/ 177). (4) رقم (16580). (5) في «مسنده» (1347).

(16/374)


عليه السلام على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بين الظهر والعصر، فأخبره، ونزلت هذه الآية: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ ... }. وأخرج الحاكم في «المستدرك» (3/ 30) قصة شبيهةً بهذه من طريق النضر أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس، وقال: «صحيح على شرط البخاري»، وأقره الذهبي. والنضر أبو عمر هو النضر بن عبد الرحمن الخزاز، مجمع على ضعفه. وأخرج النسائي (1) وغيره من طريق سعيد بن عبيد الهُنائي ثنا عبد الله بن شقيق ثنا أبو هريرة قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - نازلاً بين ضَجْنانَ وعُسْفانَ محاصرًا المشركين، فقال المشركون: إنّ لهؤلاء صلاةً هي أحبُّ إليهم من أبنائهم وأبكارهم، أجْمِعوا أمركم، ثم مِيلُوا عليهم ميلةً واحدة، فجاء جبريل عليه السلام فأمره أن يقسم أصحابه نصفين، فيصلي بطائفة منهم، وطائفة مقبلون على عدوِّهم ... فيصلِّي بهم ركعة، ثم يتأخر هؤلاء ويتقدم أولئك، فيصلي بهم ركعة تكون لهم مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ركعة ركعة، وللنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ركعتان». سعيد بن عبيد، قال أبو حاتم: «شيخ»، وذكره ابن حبان في «الثقات» (2) وقد عُلِم شرطه. _________ (1) (3/ 174). وأخرجه أيضًا أحمد في «المسند» (10765) والترمذي (3035) وابن حبان (2872)، وحسَّنه الترمذي. (2) (6/ 352). وانظر «تهذيب التهذيب» (4/ 62).

(16/375)


وقد روى أبو داود (1) وغيره من طريق أبي الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يحدِّث عن مروان بن الحكم أنه سأل أبا هريرة: هل صلَّيتَ مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صلاة الخوف؟ قال أبو هريرة: نعم، فقال مروان: متى؟ قال أبو هريرة: عامَ غزوة [نجد] (2)، قام رسول - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى صلاة العصر، فقامت معه طائفة، وطائفة أخرى مقابلَ العدو وظهورُهم إلى [القبلة، فكبر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فكبروا جميعًا: الذين معه والذين مقابلي العدو، ثم ركع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ركعة واحدة، وركعت الطائفة التي معه]، ثم سجد فسجدت الطائفة التي تليها، والآخرون قيامٌ مقابلي العدو، ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، [وقامت] الطائفة التي معه، فذهبوا إلى العدو فقابلوهم. وأقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو [فركعوا وسجدوا ورسول الله]- صلى الله عليه وآله وسلم - قائم كما هو، ثم قاموا فركع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ركعة أخرى وركعوا [معه]، وسجد وسجدوا معه. ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو، فركعوا وسجدوا ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قاعدٌ ومن معه، ثم كان السلام، فسلَّم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -[وسلَّموا جميعًا، فكان لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -] ركعتين (3)، ولكل رجل من الطائفتين ركعة ركعة». وعلَّق البخاري في غزوة ذات الرقاع في «الصحيح» (4) طرفًا منه. وهذه الصفة يمكن موافقتها للصفة التي رواها سعيد بن عبيد عن ابن _________ (1) رقم (1240). (2) مخروم في الأصل، وكذا ما يأتي بين المعكوفتين فيما بعد، واستدركتها من سنن أبي داود. (3) كذا كتبها المؤلف. والجادة ورواية السنن: «ركعتان» بالرفع. (4) رقم (4137).

(16/376)


شقيق عن أبي هريرة، كما مرَّ. فإن كانت قصة واحدة فهي مخالفة للصفة التي في حديث مجاهد عن ابن عباس. وفي «فتح الباري» (1) أن الواقدي روى بسنده إلى خالد بن الوليد قال: «لما خرج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى الحديبية [لقيتُه] (2) بعُسْفان، فوقفتُ بإزائه، وتعرَّضتُ له، فصلَّى بأصحابه الظهر، فهممنا أن نُغِيرَ عليهم فلم يعزم لنا، فأطلعَ الله نبيَّه على ذلك، فصلَّى بأصحابه العصرَ صلاةَ الخوف» الحديث. أقول: والواقدي لا يُفرح به. _________ (1) (7/ 423). (2) مخروم في الأصل، واستدركته من «الفتح».

(16/377)


الرسالة الثانية عشرة

 قيام رمضان

(16/379)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قيام رمضان وردت عدة نصوص في الترغيب في القيام مطلقًا، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64]، وغيرها. ونصوصٌ تؤكّد قيام رمضان، وخاصةً ليلةَ القدر، كحديث "الصحيحين" (1): "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه". وفي حديث آخر (2): "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه". وثبتت نصوص أخرى تبيِّن عدة صفاتٍ إذا اتصف بها قيام الليل عَظُم أجرُه، وكبُر فضلُه، وإن خلا عن بعضها أو عنها كلّها لم يمنع ذلك من حصول أصل قيام الليل. فلنسمِّها "مكمِّلات"، وهي: 1 ــ أن يكون تهجّدًا، أي بعد النوم. ومن أدلّة ذلك حديث "الصحيحين" (3) وغيرهما عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا، وفيه: "وأحبُّ الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود، كان ينام نصفَ الليل ويقوم ثُلثَه وينام سُدسَه". وفي "صحيح مسلم" (4) عن جابر مرفوعًا: "من خاف أن لا يقوم من _________ (1) البخاري (37) ومسلم (759) من حديث أبي هريرة. (2) أخرجه البخاري (1901) ومسلم (760) من حديث أبي هريرة. (3) البخاري (1131) ومسلم (1159/ 189). (4) رقم (755).

(16/381)


آخر الليل فليُوتِرْ أوّلَه، ثم ليرقُدْ، ومن طَمِعَ أن يقوم من آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودةٌ محضورةٌ، وذلك أفضل". 2 ــ أن يكون بعد نصف الليل. ومن أدلّته ما تقدم. 3 ــ أن يستغرق ثلث الليل. ومن أدلّته: حديث عبد الله بن عمرو المتقدم. وقد قال الله عزَّ وجلَّ في آخر سورة المزمل: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]. يريد به: ما تيسَّر من قيام الليل. 4 ــ أن يُكثِر فيه من قراءة القرآن. وهو مِن لازم الثالث؛ لما عُرِف من نظام الصلاة. 5 ــ أن يكون مثنى مثنى، ثم يوتر بركعة. هذا هو الأكثر من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبه أمر مَن سأله عن قيام الليل. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - صُوَرٌ أخرى، منها: مثنى مثنى ويوتر بثلاث. 6 ــ أن لا يزيد عن إحدى عشرة ركعة. كما ثبت من حديث عائشة في "الصحيحين" (1) وغيرهما، قالت: "ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضانَ ولا غيرِه على إحدى عشرة ركعةً ... ". أجابت بهذا مَنْ سألها عن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل في رمضان. وذلك _________ (1) البخاري (1147، 2013) ومسلم (738).

(16/382)


صريح في أن المشروع في قيام رمضان هو المشروع في غيره، إلَّا أنه آكدُ (1) فيه. وقد جاء عنها أنه صلَّى في بعض الليالي ثلاث عشرة ركعة (2). وفي "المستدرك" وغيره (3) عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا تُوتِروا بثلاثٍ تَشبَّهوا بالمغرب، ولكنْ أوتروا بخمسِ أو بسبعٍ أو بتسعٍ أو بإحدى عشرة أو بأكثر من ذلك". والمراد ــ والله أعلم ــ بالوتر في هذا الحديث: قيام الليل، كأنه كره الاقتصار على ثلاثٍ وأمرَ بالزيادة عليها. وأكثرُ ما جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه بتكبيرةٍ واحدةٍ تسع ركعات. فهو ــ والله أعلم ــ أكثر الوتر الحقيقي، فأمَّا الوتر بمعنى قيام الليل المشتمل على الوتر فلا مانعَ من الزيادة فيه، والأفضلُ ما تقدّم. 7 ــ أن يكون فُرادى. كما هو الغالب من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وهو كاللازم للأمر الآتي. _________ (1) في النسخة اليمنية: "يتأكد". (2) أخرجه البخاري (1170) ومسلم (737). (3) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (1/ 304) والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 31، 32) من طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن عراك بن مالك عن أبي هريرة. وإسناده صحيح. وأخرجه بنحوه ابنُ حبان (2429) والدارقطني (2/ 24، 25) والحاكم (1/ 304) والبيهقي (3/ 31) من طريق سليمان بن بلال عن صالح بن كيسان عن عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة. وصححه الحاكم.

(16/383)


ومع ذلك، فقد ثبت عن ابن مسعود اقتداؤه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض قيام الليل. وكذلك عن [ص 2] ابن عباسٍ لمّا بات في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - . وسيأتي ما يشهد لذلك. 8 ــ أن يكون في البيت. ومن أدلته: حديث "الصحيحين" (1) وغيرهما عن زيد بن ثابت قال: "احتجرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُجَيرةً بخَصَفةٍ أو حصيرٍ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلّي فيها، قال: فتتبَّع إليه رجالٌ وجاءوا يُصلُّون بصلاته، قال: ثم جاءوا ليلةً فحضروا، وأبطأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم، قال: فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحَصَبُوا الباب، فخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُغضَبًا، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما زال بكم صنيعُكم حتى ظننتُ أنه سيُكْتَب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة". هذا لفظ مسلمٍ في الصلاة، باب "استحباب صلاة النافلة في البيت"، ونحوه للبخاري في "صحيحه"، في كتاب الأدب، "باب ما يجوز من الغضب". والحديث وارد في قيام رمضان كما يأتي، وذلك قاضٍ بشمول الحكم له نصًّا، فلا يُقبَل أن يُخرَج منه بتخصيص (2). _________ (1) البخاري (6113) ومسلم (781). (2) أتعجّب مما وقع في "فتح الباري" في باب التراويح: "وعن مالك ... وأبي يوسف وبعض الشافعية: الصلاةُ في البيوت أفضل، عملًا بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". وهو حديث صحيح أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة" [المؤلف]. راجع "الفتح" (4/ 252)، والصواب أنه متفق عليه من حديث زيد بن ثابت، كما ذكره المؤلف.

(16/384)


وذكر مسلم رواية أخرى (1) قال في متنها: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ حُجْرةً في المسجد من حصيرٍ، فصلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها لياليَ حتى اجتمع إليه ناسٌ، فذكر نحوه وزاد فيه: "ولو كُتِبَ عليكم ما قمتم به". وهذه الرواية في "صحيح البخاري" (2) في كتاب الاعتصام، "باب ما يُكْره من كثرة السؤال، ومن تكلُّفِ ما لا يعنيه"، وقوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، وفيها بعد قوله: "ليالي": "حتى اجتمع إليه ناسٌ، ففقدوا صوتَه ليلةً، فظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم، فقال: "ما زال بكم الذي رأيتُ من صنيعكم حتى خشيتُ أن يُكْتَب عليكم، ولو كُتِب عليكم ما قمتم به، فصلُّوا أيها الناس في بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". وفي رواية للبخاري (3) في كتاب الصلاة، في "باب صلاة الليل" قُبيلَ "أبواب صفة الصلاة": "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخذ حجرةً ــ قال: حسبتُ أنه قال: من حصيرٍ ــ في رمضان، فصلَّى فيها لياليَ، فصلَّى بصلاته ناسٌ من أصحابه، فلما علم بهم جعل يقعد ... ". علَّل أمرهم بالصلاة في البيوت بأنها في غير المكتوبة خير وأفضل، _________ (1) رقم (781/ 214) (2) رقم (7290). (3) رقم (731).

(16/385)


فثبت أنه إنما أمرَهم أمرَ إرشادٍ لتحصيل زيادة الفضل، وأن الصلاة في المسجد فيها خيرٌ في الجملة وفضلٌ، وذلك شامل لقيام رمضان. والظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - كان تلك الليالي معتكفًا، والمسجد بيت المعتكف، فلا يكون في صلاته فيه ما ينافي منطوق الحديث. وكأنه كان يقتدي به أولًا المعتكفون، ومَنْ في معناهم من أهل الصُّفَّة الذين لا بيتَ لهم إلَّا المسجد، فلم ينكر عليهم. ثم حضر غيرهُم، ولم يشعُرْ - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا شَعَرَ قعد. وما يقع في بعض روايات حديث عائشة ممّا قد خالف ما هنا: الظاهرُ أنه من تصرُّفِ بعض الرواة، من باب الرواية بالمعنى على حسب ما فهم، والله أعلم. مقارنة بين حديث زيدٍ وحديث عائشة قد وردت القصة من حديث عائشة، ولكن في حديث زيدٍ زيادتان: الأولى: ما فيه مِنْ ذكر [ص 3] تنحنُحِ القوم، ورفْعِهم أصواتَهم، وحَصْبِهم البابَ، وغضَبِ النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثانية: ما فيه مرفوعًا: "فعليكم بالصلاة في بيوتكم؛ فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". والزيادة الأولى تُفْهِم أن صنيعهم ذاك هو الذي خشي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُعاقَبوا عليه بفرضِ قيام الليل في المسجد عليهم. وأشار إلى ذلك البخاريُّ؛ إذ ذكر الحديث في كتاب الاعتصام "باب ما

(16/386)


يُكْرَه من كثرة السؤال، ومن تكلُّفِ ما لا يعنيه"، وقوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}، وذكر معه حديث: "إنَّ أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يُحرَّم فحُرِّم من أجْلِ مسألته" (1). والزيادة الثانية تُفْهِم أن سبب احتباس النبي - صلى الله عليه وسلم - عنهم هو إرادة صَرْفِهم إلى الصلاة في بيوتهم؛ لأنها أفضل. ولو خلا الحديث عن هاتين الزيادتين لكان ظاهره أن الصنيع الذي خشي أن يترتَّبَ عليه الفرض هو مثابرة القوم على الحضور، وأن سبب احتباس النبي - صلى الله عليه وسلم - هو إرادة قطع المثابرة قبل أن يترتّب عليها الفرض. والظاهر أن خلوَّ حديث عائشة عن هاتين الزيادتين سببه أنها كانت في بيتها إذْ كان زيدٌ في المسجد شريكًا في القصة، وأن ذلك أدّى إلى هذا الفهم على ما فيه، ففي "الصحيحين" (2) من طريق مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة، قالت: "إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَيدَعُ العملَ وهو يُحِبُّ أن يعملَ به، خشيةَ أن يعملَ به الناس فيُفْرَضَ عليهم". لا أرى مأخذ هذا المعنى إلّا ما فُهِم من تلك القصة، بسبب خلوِّها عن تَيْنِكَ الزيادتين. قد يقال: إنّ هذا وإن استقام بالنظر إلى بعض روايات حديث عائشة، فلا يستقيم بالنظر إلى بعضها. _________ (1) البخاري (7289) من حديث سعد بن أبي وقاص. (2) البخاري (1128) ومسلم (718).

(16/387)


فأمّا الأول: فرواية عمرة عن عائشة، وأكثر الروايات عن أبي سلمة عن عائشة. ولفظ البخاري (1) عن عمرة: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي من الليل في حُجرته، وجدار الحجرة قصير، فرأى الناسُ شخصَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقام ناسٌ يصلُّون بصلاته، فأصبحوا فتحدثوا بذلك، فقام ليلةَ الثانية (2)، فقام معه ناس يصلُّون بصلاته، صنعوا ذلك ليلتين أو ثلاثًا، حتى إذا كان بعد ذلك جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يخرج، فلما أصبح ذكر ذلك الناس، فقال: "إني خَشِيتُ أن تُكتَبَ عليكم صلاةُ الليل". ذكره البخاري قبل أبواب صفة الصلاة، في "باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة". ثم قال بعده: "باب صلاة الليل"، فأخرج (3) من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له حصيرٌ يَبْسُطه بالنهار، ويَحتجِرُه بالليل، فثاب إليه ناسٌ فصلَّوا وراءه". [ص 4] كذا أخرجه مختصرًا. وقد أخرجه مسلم (4)، ولفظه: "كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصيرٌ، وكان يُحَجِّرُه من الليل، فيصلّي فيه، فجعل الناس يصلّون بصلاته، وَيْبسُطُه بالنهار. فثابوا ذاتَ ليلةٍ، فقال: "يا أيها الناس، عليكم من الأعمال ما تُطِيقون؛ فإن الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا، وإن أحبَّ الأعمالِ إلى الله ما دُووِمَ عليه _________ (1) رقم (729). (2) كذا الرواية عند الأكثر، وانظر توجيهها في "الفتح" (2/ 214). (3) رقم (730). (4) رقم (782).

(16/388)


وإنْ قَلّ". وكان آل محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا عملوا عملًا أثبتوه". وفي "فتح الباري" (1) في "باب تحريض النبي - صلى الله عليه وسلم - على قيام الليل" ما لفظه: "في رواية أبي سلمة المذكورة قبيل صفة الصلاة: "خشيتُ أن تُكْتَب عليكم صلاة الليل". كذا قال، وتبعه العينيّ (2)! وإنما هذا في رواية عمرة، كما مرّ. وأمّا الثاني: فما في "الصحيحين" (3) وغيرهما من رواية مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى ذاتَ ليلة في المسجد، فصلَّى بصلاته ناس، ثم صلَّى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة ــ أو الرابعة ــ فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فلما أصبح قال: "قد رأيتُ الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيتُ أن تُفْرَضَ عليكم" وذلك في رمضان". ففي هذه الرواية جاء هذا التعليل من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكيف يستقيم أن يقال: إنه إنما فُهِم من حديث عائشة لخلوِّه عن الزيادتين الثابتتين في حديث زيد؟ ! أقول: في "فتح الباري" (4) في الكلام على رواية عروة: "ظاهر هذا الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - توقَّعَ ترتُّبَ افتراضِ الصلاة بالليل جماعةً على وجود _________ (1) (3/ 13). (2) في "عمدة القاري" (7/ 177). (3) البخاري (1129) ومسلم (761). (4) (3/ 13).

(16/389)


المواظبة عليها، وفي ذلك إشكال ... ". [ص 5] وحاصِلُ الإشكال موضَّحًا: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا قد عرفوا فضل قيام رمضان، ولم يكونوا يعلمون أنه في البيوت أفضل، فلمّا سمعوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يصلِّيه (1) في مسجده، ويأتمُّ به مَنْ حضر؛ ظنّوا معذورين أن حضورهم للصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد أفضل، والمداومةُ التي كانت قد وقعت منهم قبل أن يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قصةَ الفرض= كان الظاهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرّهم عليها، فتأكّد العذر، ولو كان العمل مشروعًا ولم يقطعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان عملًا كلّه خير. والفرضُ الذي خشيه النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) كان عقوبةً، بدليل قوله: "ولو كُتِب عليكم ما قمتم به". وقد فهم البخاري ذلك، فأخرج الحديث في باب ما يُكرَه من السؤال (3)، وذكر معه آية: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ}، وحديث: "إن أعظمَ المسلمين جرمًا مَن سأل عن شيء لم يُحرَّم فحُرِّم من أجل مسألته". وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 160 ــ 161]. فكيف تكون المداومة على عملٍ _________ (1) في النسخة اليمنية: "يصلي". (2) هنا كلمتان بين السطرين لم أستطع قراءتهما، وليس هناك إشارة لحق، والكلام متصل بدونهما. (3) "الصحيح" مع الفتح (13/ 264).

(16/390)


مشروعٍ فاضلٍ سببًا لمثل هذا الفرض؟ وقد أجيب عن هذا الإشكال أجوبة لا تُسْمِن ولا تُغنِي من جوع، وفيه إشكال آخر، بناءً على فرضِ أن أصل ذلك العمل مشروع، وإنما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - لمانعٍ، وهو الخشية؛ فإنه لو صحَّ هذا لكان على الخلفاء الراشدين أن يعملوا بهذا عند زوال المانع بوفاته - صلى الله عليه وسلم - ، فيؤمُّوا الناسَ في قيام رمضان في المساجد. فلماذا تركوه؟ أجاب بعضهم: أن الصحابة كانوا في زمن أبي بكر مشغولين بحروب الردّة، ولهذا لمّا استقرّ الأمر عمل به عمر. وفي هذا أوّلًا: أنّ تضايق المدينة في قصة الردّة لم يَطُلْ، وبقي أبو بكر بعد ذلك مدةً متمكِّنًا كلَّ التمكُّن من القيام بالناس في المسجد لو أراد، وأن عمر لم يَقُم بالناس في المسجد قطّ، وإنّما أمر بما أمر به في آخر خلافته، فإنه استُشهِد آخرَ سنة 23. وقد روى عبد الرحمن بن عبد القاريُّ القصةَ كما في "صحيح البخاري" (1) أنه شهدها، وفي القصة ما يقتضي أن يكون عبد الرحمن حينئذٍ من أصحاب عمر، يدخل بدخوله ويخرج بخروجه، مع أن عُمره لوفاة عمر كان تقريبًا عشرين سنة، وعلى ما رجحه ابن حجر في "الإصابة" (2) أربع عشرة سنة. ورواها أيضًا روايةً واعيةً نوفلُ بن إياس الهذلي كما يأتي، مع أنهم لم يذكروه فيمن وُلِد في العهد النبوي، فعُمْرُه لوفاة عمر نحو ثلاث عشرة سنة. _________ (1) رقم (2010). (2) (8/ 62) حيث رجَّح أنه وُلد في آخر عُمْر النبي - صلى الله عليه وسلم - .

(16/391)


فهذا ممّا يدلُّك أنّ ما وقع من عمر رضي الله عنه من جَمْعِهم على أُبي بن كعب إنما كان في آخر خلافته. وهذا كلُّه يُثبِت أن الصواب ما دلَّ عليه حديث زيد. فأمّا ما في رواية عروة [ص 4] فقد فتح الله عليّ بجوابين: الأول: أن يقال: إن هذا اللفظ الذي وقع في رواية عروة منسوبًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس هو عين اللفظ النبوي، بل قد يكون اللفظ النبوي هو الذي وقع في حديث زيد أو في رواية عمرة. فأما ما في رواية عروة فتصرَّف فيه الراوي على وجه الرواية بالمعنى، على حسب فهمه. الجواب الثاني: أنه على فرض أن ما وقع في رواية عروة هو عين لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فالتوفيق بينه وبين حديث زيد ــ مع تجنُّب الإشكالين ــ متيسِّر بحمد الله، بأن يقال: إنه - صلى الله عليه وسلم - احتبس عنهم أوّلًا؛ ليصرِفَهم إلى الصلاة في البيوت، لمزيد فضلها، كما في حديث زيد، ثم كأنهم لمّا صنعوا ما صنعوا من التنحنُح ورفْع الأصوات وحَصْب الباب هَمَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يستجيب لإلحاحهم، فيخرج فيصلِّي بهم، لكنه خشي أن يكون في ذلك ما يؤكّد شناعةَ صنيعهم؛ لأنه يثبت بذلك [ص 6] أنهم اضطروا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إلى فعل ما يكرهه، ولعلّ هذا يوجب أن يُعاقَبوا بأن يُفرض عليهم ذلك العمل. فلم يخشَ ترتُّبَ الفرض على المواظبة، بل على إلحاحهم إذا تأكّدت شناعتُه باستجابته لهم. فتدبَّرْ. ولم أرَ مَنْ نحا هذا المنحى مع ظهوره، ومع استشكالهم ظاهرَ ما وقع في رواية عروة. فكأنهم احتاجوا إلى المحافظة على ظاهر ما في رواية عروة

(16/392)


ليدفعوا أن يكون ما أمر به عمر بدعةً، كما يدلُّ عليه قول كثيرٍ منهم: إنما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الاستمرار على إقامتها جماعةً في المسجد لمانعٍ، وهو خشية أن تُفْرضَ، وبموته - صلى الله عليه وسلم - زال هذا المانع. وإذا ثبت أن الحكم مشروعٌ، وتُرِك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لمانعٍ؛ فإنه إذا زال المانع بعده لم يكن العمل بذلك الحكم بدعة. وستعلم قريبًا ــ إن شاء الله تعالى ــ ما يغني عنه في دفع البدعة. وقد أخرج الإمام أحمد في "مسنده" (1) رواية أبي سلمة من طرقٍ، ثم أخرج (2) من طريق ابن إسحاق: "حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: كان الناسُ يصلّون في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان بالليل أوزاعًا، يكون مع الرجل شيء من القرآن فيكون معه النفرُ الخمسةُ أو الستة، أو أقلُّ من ذلك أو أكثر، فيصلُّون بصلاته. قالت: فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةً من ذلك أن أَنصِبَ له حصيرًا على باب حجرتي، ففعلتُ، فخرج إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن صلَّى العشاء الآخرة. قالت: فاجتمع إليه مَن في المسجد، فصلَّى بهم ... فقال: "أيّها الناس! أما والله ما بِتُّ ــ والحمد لله ــ ليلتي هذه غافلًا، وما خفي عليّ مكانكم، ولكني تخوَّفْتُ أن يُفتَرض عليكم، فاكْلَفُوا من الأعمال ما تُطِيقون ... ". في النفس شيء من هذه الرواية؛ قصةُ الأوزاع لم أجدها في شيء من _________ (1) (6/ 61، 241، 36، 73، 104). (2) (6/ 267).

(16/393)


الروايات الأخرى، وإنَّما المحفوظ أن ذلك كان في عهد عمر، كما في "الموطأ" (1) وغيره عن ابن شهاب عن عروة عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريِّ أنه قال: "خرجتُ مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلةً في رمضان إلى المسجد، فإذا الناسُ أوزاعٌ متفرقون، يُصلّي الرجل لنفسه، ويُصلّي الرجل فيصلي بصلاته الرهْطُ". وبقيةُ الكلام في رواية ابن إسحاق، كأنه ضمَّ رواية عروة إلى رواية أبي سلمة، مع زيادة تطويل. وابن إسحاق صدوق، وثَّقه جماعة (2)، وأثنى عليه الإمام أحمد وغيرُه، لكنْ قال أيوب بن إسحاق بن سافري ــ وهو صدوق ــ: سألت أحمد، فقلت له: يا أبا عبد الله! إذا انفرد ابن إسحاق بحديثٍ تقبله؟ قال: "لا والله؛ إني رأيته يُحدِّث عن جماعةٍ بالحديث الواحد، ولا يَفصِل كلامَ ذا من كلامِ ذا". وقد تابعه محمد بن عمرو بن علقمة (3) في "سنن أبي داود" (4)، ولكنه مختصر. ومحمد بن إبراهيم التيمي: وثَّقه جماعةٌ، واحتجَّ به الشيخان وغيرهما، _________ (1) "الموطأ" (1/ 114) والبخاري (2010). (2) انظر "تهذيب التهذيب" (9/ 39 وما بعدها) وفيه قول الإمام أحمد المذكور (9/ 43). (3) كانت غير واضحة في الأصل، فوضع المصنف بجوارها علامة، وكتب في الحاشية: "بيانه: محمد بن عمرو بن علقمة". (4) رقم (1374).

(16/394)


وقال الإمام أحمد: "في حديثه شيء، يروي أحاديث مناكير، أو منكرة" (1). والخطبُ سهلٌ هنا، فقصةُ الأوزاع لها شواهد في الجملة، وبقيةُ الزيادة في رواية أبي سلمة إن لم تصحّ عنه فقد صحَّ أكثرها من رواية عروة. أمّا شواهد قصة الأوزاع ففي "سنن البيهقي" (2) بسندٍ صحيح عن ثعلبة بن أبي مالك القُرَظي قال: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ ليلةٍ في رمضان، فرأى ناسًا في ناحية المسجد يصلّون، فقال: "ما يصنع هؤلاء؟ ". قال قائل: يا رسول الله، هؤلاء ناسٌ ليس معهم قرآن، وأُبي بن كعب يقرأ، وهم معه يصلّون بصلاته. قال: "قد أحسنوا، أو قد أصابوا". [ص 7] ولم يكره ذلك لهم". قال البيهقي: "هذا مرسل حسن، ثعلبة بن أبي مالك القرظي من الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة، وقد أخرجه ابن منده في "الصحابة"، وقيل: له رؤية، وقيل: سِنُّه سنُّ عطية القرظي، أُسِرا يوم قريظة ولم يُقْتَلا، وليست له صحبة". وفي "الإصابة" (3): "لا يمتنع أن يصح سماعُه". ثم قال البيهقي: "وقد رُوي بإسنادٍ موصول إلّا أنه ضعيف". فذكر ما رواه أبو داود في "السنن" (4) من طريق مسلم بن خالد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة، بنحو حديث ثعلبة. _________ (1) "تهذيب التهذيب" (9/ 6). (2) (ج 2 ص 495) [المؤلف]. (3) (2/ 78). (4) رقم (1377).

(16/395)


قال أبو داود: "هذا الحديث ليس بالقويّ، مسلم بن خالد ضعيف". أقول: مسلم بن خالد ضعَّفه جماعةٌ من جهة حفظه، وقد وثَّقه ابن معين (1). وقد كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل الصّفة كانوا ملازمين المسجدَ، وكان مِنْ غيرهم مَنْ ينام في المسجد، كابن عمر، فهؤلاء كانوا يصلّون في المسجد حتمًا. وقد عُلِم ممّا تقدم أنه ليس هناك دليلٌ يمنع الاقتداءَ في قيام الليل، بل قد ثبت اقتداء ابن مسعود بالنبي - صلى الله عليه وسلم - (2)، وكذلك اقتداء ابن عباس (3). وثبت في قصة عمر أن الناس كانوا قبل ذلك يصلّون أوزاعًا في المسجد، ولم ينكر عليهم أحد صلاتهم تلك، حتى جمعهم عمر على إمام واحد. هذا، وقد جاء من حديث أنس (4) وجابر (5) ما يوافقُ في الجملة حديثَي زيد وعائشة. وفي "مسند أحمد" و"السنن" (6) من حديث أبي ذر: "صُمنا مع _________ (1) انظر "تهذيب التهذيب" (10/ 129). (2) أخرجه البخاري (1135) ومسلم (773) عن ابن مسعود. (3) أخرجه البخاري (726) ومسلم (763) عن ابن عباس. (4) أخرجه مسلم (1104). (5) أخرجه ابن خزيمة (1070) وابن حبان (2409، 2415)، وفي إسناده عيسى بن جارية، وهو ضعيف. (6) أخرجه أحمد (5/ 163) وأبو داود (1375) والترمذي (806) والنسائي (3/ 83، 84)، وابن ماجه (1327). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

(16/396)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يُصلِّ بنا حتى بقي سبعٌ من الشّهر، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، ثم لم يقم بنا في التالية (1)، وقام في الخامسة حتى ذهب شطر الليل. فقلنا: يا رسول الله! لو نفَّلْتَنا بقيةَ ليلتنا هذه، فقال: "إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتِب له قيامُ ليلة". ثم لم يقم بنا حتى بقي ثلاث من الشهر، فصلى بنا في الثالثة ودعا أهله ونساءه، فقام بنا حتى تخوَّفْنا الفلاح". قيل لأبي ذرّ: وما الفلاح؟ قال: السحور. قد عُرِف من عادة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، ويعتكف معه بعض أصحابه، فلعل المعتكفين هم الذين صلَّوا معه، وقد يكون معهم غيرهم ممّن هو في حكم المعتكف، فقد كان أهل الصّفّة لا مأوى لهم إلا المسجد. نعم، قوله في الثالثة: "ودعا أهله ونساءه" يدلُّ على أنه يُشْرَع للإمام إذا كان معتكفًا أن يدعو أهله للقيام معه في المسجد في مثل تلك الليلة. وفي "مختصر كتاب قيام الليل" لمحمد بن نصر (ص 96): "قال مالك: كان عمر بن حسين من أهل الفضل والفقه، وكان عابدًا ... وكان في رمضان إذا صلَّى العشاء انصرف، فإذا كانت ليلة ثلاث وعشرين قامها مع الناس، ولم يكن يقومُ معهم غيرَها. وقد يجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما دعا من خَشِيَ أن يَغفُلَ في بيته، وفي قصته لمّا أيقظ عليًّا وفاطمة ما يدفع استبعاد هذا. والله أعلم. * * * * _________ (1) في الأصل: "الثالثة" سبق قلم.

(16/397)


مجمل ما كان عليه قيام رمضان في العهد النبوي وما صار إليه في عهد عمر تبيَّن ممّا تقدم أن أصل قيام الليل في رمضان وغيره يحصل بمطلق الصلاة بعد العشاء وراتبتها، [ص 8] وأن له مكمِّلاتٍ يَعظُم بها الأجرُ، ويتضاعف الفضل، وكان الغالب في العهد النبوي تمكُّن الناس من المكمِّلات ومحافظتهم عليها، وأكثر ما كان يعرض لهم ممّا يخالف ذلك هو خوف عدم الاستيقاظ بعد النوم في الوقت المتّسع، فلذلك كان كثير منهم يَدَعون المكمِّلَين الأوّلَين ــ وهما: كون القيام بعد النوم، وكونه بعد نصف الليل ــ، وربّما كان يتفق أن يوجد جماعة منهم يريدون القيام وليس معهم كثير من القرآن يحصِّلون به المكمِّل الرابع ــ وهو كثرة قراءة القرآن في القيام ــ على وجهه، فيريدون أن يعتاضوا عن القراءة بالسماع، فيلتمسون من بعض القرَّاء أن يؤمَّهم في المسجد. وبذلك يترك المأمومون والإمام المكمِّلَينِ الأخيرينِ، وهما: كون القيام فُرادَى، وكونه في البيت. أمّا المأمومون فلعدم تمكُّنِهم من ذلك، مع سماع كثير من القرآن، وأمّا الإمام فيرجو أن يكون في معونته لهم على العبادة، وما يُرجَى من انتفاعهم بسماع القرآن ما يُعوِّضه. لكنّ هذا لم يكثر في العهد النبويّ، ولا اتصل في جميع ليالي رمضان؛ لحرص المهاجرين والأنصار على حفظ القرآن، ونشاطهم في الخير، وضعف رغبة الوافدين من الأعراب في النوافل، كقيام الليل. فلمّا كان في عهد عمر رضي الله عنه كثُر الواردون من الآفاق، ممن

(16/398)


ليس معهم كثير من القرآن، ولهم مع ذلك رغبة في القيام؛ لتمكُّنِهم في الإسلام، ووُجِد في شبّان أهل المدينة جماعة لا يَنْشَطون للقيام الطويل في البيوت، فكان جماعة من الفريقين يقومون في المسجد: مَنْ كان معه قرآن قام وحدَه، ومن لم يكن معهم التمسوا من بعض القرَّاء أن يؤمَّهم، يرون أن لهم أسوةً بمن كانت حاله في العهد النبوي شبيهةً بحالهم. ولكثرة هؤلاء واستمرار عذرهم استمرَّ قيامهم في المسجد في جميع ليالي رمضان، ولم ينكر عليهم أحد من الصحابة، فكان في ذلك حجة على صحّة اجتهادهم، وعلى أنه لو اتّفق مثلُ ذلك في العهد النبوي لما أنكره النبي - صلى الله عليه وسلم - . وبهذا خرج ذاك العمل المتصل عن البدعة. فإنه إذا قام الدليل على أن الحكم مشروع، وتُرِك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدم مقتضيه، ثم وُجِد المقتضي بعده؛ فالعمل به حينئذٍ سنةٌ لا بدعة. فلمّا شاهد عمر رضي الله عنه حالَهم عرفَ عذرَهم، وصوَّبَ اجتهادَهم، لكنه رأى أنه قد نشأ من عملهم مفاسدُ، منها: ظاهرة التفرّق والتحزُّب التي يكرهها الشرع، ومنها: تشويش بعضهم على بعض. وفي "مسند أحمد" (1) و"سنن أبي داود" و"المستدرك" وغيرها (2)، بسندٍ على شرط الصحيحين "عن أبي سعيد الخدريّ، قال: اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، وهو في قُبّةٍ له، فكشفَ _________ (1) ج 3 ص 94 [المؤلف]. (2) أخرجه أحمد (11896) وأبو داود (1332) والنسائي في "الكبرى" (8092) وابن خزيمة (1162) والحاكم (1/ 310، 311) والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 11). وصححه الحاكم. وهو حديث صحيح.

(16/399)


الستورَ، وقال: "ألا إن كلَّكم مناجٍ ربَّه، فلا يُؤذِينَّ بعضُكم بعضًا، ولا يرفعنَّ بعضُكم على بعضٍ [ص 9] بالقراءة ــ أو قال: في الصلاة ــ". هؤلاء كانوا ــ والله أعلم ــ ممّن المسجدُ بيته: معتكفين، أو من أهل الصّفّة، أو من الفريقين. وكانوا يُصلُّون فُرادى، ويجهرون بالقراءة، فيُشَوِّشُ بعضُهم على بعضٍ، فأرشدهم - صلى الله عليه وسلم - إلى المخافتة. ولا يجيء مثل هذا في القائمين بالمسجد في عهد عمر؛ لأن كثيرًا منهم كانوا يُصلّون جماعاتٍ؛ ليسمع المأمومون القرآن، كما تقدم، فلو أُمِروا بالمخافتة لفات المقصود من تلك الجماعات كما لا يخفى. ومنها: أن بعضهم كانوا يتحرَّون الاقتداء بمن يُعجِبهم صوتُه، وإن كان غيره أقرأَ منه وأجدرَ أن يُقْتَدى به. أنكر عمر رضي الله عنه ــ بحقٍّ ــ هذه المفاسد، ولم يجد ما يدفعها بدون إخلالٍ بالمقصود إلّا أن يجمعهم على إمامٍ واحد، مقدِّرًا أنه لو اتفق مثل ذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمر بذاك. وبهذا خرج العمل عن أن يكون بدعة، كما يُعْلَم ممّا مرّ. فأمّا ما في "صحيح البخاري" (1) من قول عمر: "نِعْمتِ البدعةُ هذه، والتي ينامون عنها أفضل"= فإنّما أراد البدعة لغةً، على أنّ في "طبقات ابن سعد" (ج 5 ص 42) (2) بسندٍ صحيح عن نوفل بن إياس الهذلي قال: كنا نقوم في عهد عمر بن الخطاب فِرَقًا في المسجد في رمضان، ههنا وههنا، _________ (1) رقم (2010). (2) (7/ 63) ط. الخانجي.

(16/400)


فكان الناس يميلون إلى أحسنهم صوتًا، فقال عمر: ألا أراهم قد اتخذوا القرآن أغانِيَ؟ أما والله لئن استطعتُ لأغيِّرنَّ هذا. قال: فلم يمكث إلا ثلاثَ ليالٍ حتى أمر أُبيٍ بن كعب فصلَّى بهم. ثم قام في آخر الصفوف فقال: لئن كانت هذه بدعةً فنعمتِ البدعةُ هي". فهذا ــ والله أعلم ــ من باب قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81] (1). والظاهر أن الذين كانوا يصلّون فرادى دخلوا في الجماعة؛ لئلّا يُشوِّش عليهم قارئُ الجماعة، وقد يكون بقي منهم من يُصلِّي على الانفراد. وفي "مختصر كتاب قيام الليل" لمحمد بن نصر (ص 96) (2): "شعبة عن أشعث بن سليم: أدركتُ أهلَ مسجدنا يُصلِّي بهم إمام في رمضان، ويُصلُّون خلفه، ويُصلِّي ناس في نواحي المسجد لأنفسهم فرادى، ورأيتهم يفعلون ذلك في عهد ابن الزبير في مسجد المدينة. شعبة عن إسحاق بن سويد: كان صفُّ القرّاء في بني عديّ في رمضان: الإمامُ يصلّي بالناس، وهم يصلّون على حِدَةٍ. وكان سعيد بن جبير يصلي لنفسه في المسجد، والإمامُ يصلي بالناس. وكان ابن أبي مُليكة يصلي في رمضان خلف المقام، والناسُ بَعْدُ في سائر المسجد من مصلٍّ وطائفٍ بالبيت. وكان يحيى بن وثّاب يصلِّي بالناس في رمضان، وكانوا يصلّون لأنفسهم وُحدانًا في ناحية المسجد. _________ (1) الزيادة من "فهذا" إلى هنا من النسخة اليمنية. (2) من طبعة الهند. والنصوص الآتية كلها منه.

(16/401)


وعن إبراهيم: كان المجتهدون يصلّون في جانب المسجد، والإمامُ يصلي بالناس في رمضان. وكان ابن مُحَيريز يصلّي في رمضان في مؤخر المسجد، والناس يصلّون في مُقَدَّمه للقيام". هذا، وقد عُلِم حالهم بالنظر إلى أكثر المكمِّلات، فأمّا الباقي، وهي الثالث ــ أن يستغرق القيام ثلث الليل ــ، والخامس ــ وهو أن يكون القيام مثنى مثنى، والوتر ركعة، وفي بعض الليالي ثلاث ــ، والسادس ــ وهو أن لا يزيد على إحدى عشرة، وفي بعض الليالي: ثلاث عشرة ــ= فإنهم حافظوا عليها حتى ضعفوا عن المحافظة على الثالث والسادس معًا، فاختاروا الثالث لكثرة العبادة. روى مالك في "الموطأ" (1) عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد قال: "أمر عمر بن الخطاب أُبيّ بن كعب وتميمًا الدّاريّ أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة. قال: وكان القارئ يقرأ بالمئين، حتى كنّا نعتمد على العِصِيّ، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر". وفي "فتح الباري" (2) أن سعيد بن منصور رواه من طريق محمد بن إسحاق "حدثني محمد بن يوسف عن جده السائب بن يزيد قال: كنّا نصلي في زمن عمر في رمضان ثلاث عشرة". _________ (1) (1/ 115). (2) (4/ 254).

(16/402)


وحُمِلَ هذا على بعض الليالي، والغالبُ إحدى عشرة، كما في رواية مالك. وعُلِم من رواية مالك وغيرها أن القوم كانوا يقومون ثلث الليل أو أكثر، فيشُقُّ عليهم طولُ الوقوف كما مرّ. فروى مالك في "الموطأ" (1) عن يزيد بن رومان أنه قال: "كان الناس يقومون في زمان عمر بن الخطاب في رمضان بثلاث وعشرين". وفي "سنن البيهقي" (2) بسندٍ صحيح [ص 10] عن يزيد بن خُصَيفة عن السائب بن يزيد قال: "كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة ... ". قال البيهقي: "يمكن الجمع بين الروايتين، فإنهم كانوا يقومون بإحدى عشرة، ثم كانوا يقومون بعشرين ويوترون بثلاث، والله أعلم". وفي القسطلاني (3): "ذكر في النوادر عن ابن حبيب: أنها كانت أولًا إحدى عشرة ركعة، إلّا أنهم كانوا يطيلون القراءة، فثقُلَ عليهم ذلك، فزادوا في أعداد الركعات وخفّفوا في القراءة ... ". أقول: ولم يلتزموا ذلك، وفي "مختصر كتاب الوتر" لمحمد بن نصر (4) _________ (1) (1/ 115). (2) ج 2 ص 496 [المؤلف]. (3) "إرشاد الساري" (3/ 426). (4) (ص 91، 92).

(16/403)


و"فتح الباري" (1) أعداد مختلفة: 1 - إحدى عشرة. 2 - ثلاث عشرة. 3 - ست عشرة، والوتر. 4 - إحدى وعشرون. 5 - ثلاث وعشرون. 6 - أربع وعشرون، والوتر. 7 - خمس ترويحات، إلى عشرين ليلة، ثم في العشر الأخيرة ست ترويحات. 8 - ست ترويحات، إلى عشرين ليلة، ثم في العشر الأخيرة سبع ترويحات. 9 - مثله، ويوتر بسبع. 10 - أربع وثلاثون، والوتر. 11 - ست وثلاثون، والوتر ثلاث. 12 - ثمان وثلاثون، والوتر واحدة. 13 - إحدى وأربعون. 14 - أربعون، والوتر سبع. 15 - ست وأربعون، والوتر ثلاث. _________ (1) (4/ 253، 254).

(16/404)


وفي "مختصر كتاب قيام الليل" لمحمد بن نصر (1): "قال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد بن حنبل: كم من ركعة يُصلَّى في قيام رمضان؟ فقال: قد قيل فيه ألوان نحوًا من أربعين، إنما هو تطوُّع". ثم قال: "الزعفراني عن الشافعي: رأيت الناس يقومون بالمدينة تسعًا وثلاثين ركعة. قال: وأحبُّ إليَّ عشرون. قال: وكذلك يقومون بمكة. قال: وليس في شيء من هذا ضيقٌ ولا حدٌّ يُنتهَى إليه؛ لأنه نافلة، فإن أطالوا القيام وأقلُّوا السجودَ فحسنٌ وهو أحبّ إليّ، وإن أكثروا الركوع والسجود فحسن". أقول: أمّا الحدّ المحتّم فلا، وأمّا الأفضل فالاقتصار على الإحدى عشرة، وفي بعض الليالي ثلاث عشرة، إلّا إذا شقَّ عليهم إطالتُها حتى يستغرقَ الوقتَ الأفضلَ، فلهم أن يزيدوا في العدد، على حسب ما يخفُّ عليهم (2)، وعلى هذا (3) [ص 11] جرى عمل السلف كما مرَّ. * * * * _________ (1) (ص 92). (2) الكلمتان الأخيرتان لم تظهرا في التصوير، وكذا استظهرتهما. (3) كلمة لم تظهر في التصوير من الأصل، وهو واضح في النسخة اليمنية.

(16/405)


الاختلافُ في الأفضل: أفي البيت أم في المسجد؟ فرادى أم جماعة؟ قد تقدّم أن كونها في البيت هو أحدُ المكمِّلات، وحديثُ زيد بن ثابتٍ نصٌّ صريح في ذلك. وقد عُورض بحديث أبي ذر، وبما جرى في عهد عمر وبعده، وتقدم الجواب عن ذلك واضحًا. "المعاني والآثار" للطحاوي (ج 1 ص 207) (1): "عن إبراهيم، قال: لو لم يكن معي إلا سورتين لردّدتهما أحبُّ إليَّ من أن أقوم خلف الإمام في رمضان". وفي رواية (2): "لو لم يكن معي إلا سورة واحدة لكنت أن أردّدها أحبُّ إليّ من أن أقوم خلف الإمام في رمضان". وفي "مختصر كتاب قيام الليل" لمحمد بن نصر (ص 96 ــ 97): "قال الشافعي: إن صلَّى رجلٌ لنفسه في بيته في رمضان فهو أحبّ إليّ، وإن صلَّى في جماعة فهو حسن". وفيه (ص 91): "وقيل لأحمد بن حنبل: يُعجِبك أن يُصلّي الرجل مع الناس في رمضان، أو وحده؟ قال: يصلّي مع الناس. قال: ويُعجِبني أن يصلِّي مع الإمام ويوتر معه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن _________ (1) (1/ 351). (2) المصدر نفسه.

(16/406)


الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كُتِب له بقية ليلته" (1). قال أبو داود: شهدتُه ــ يعني أحمد ــ شهر رمضان يقوم مع إمامه إلا ليلةً لم أحضرها. وقال إسحاق: قلت لأحمد: الصلاة في الجماعة أحبُّ إليك أم يُصلِّي وحده في قيام شهر رمضان؟ قال: يُعجبني أن يصلّي في الجماعة، يحيي السنة. وقال إسحاقُ كما قال". وفي "مختصر كتاب قيام الليل" لمحمد بن نصر المروزي (ص 95): "باب ذكر من اختار الصلاة وحده على القيام مع الناس إذا كان حافظًا للقرآن". فذكر حديث زيد بن ثابت، ثم قال: "وقال الليث: ما بلغنا أن عمر وعثمان كانا يقومان في رمضان مع الناس في المسجد. وقال مالك: كان ابن هرمز ــ من القرَّاء ــ ينصرف فيقوم بأهله في بيته، وكان ربيعة ينصرف، وكان القاسم وسالم ينصرفان لا يقومان مع الناس، وقد رأيتُ يحيى بن سعيد يقوم مع الناس، وأنا لا أقوم مع الناس، لا أشك أن قيام الرجل في بيته أفضل من القيام مع الناس، إذا قوي على ذلك، وما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلّا في بيته". _________ (1) أخرجه أبو داود (1375) والترمذي (806) والنسائي (3/ 202، 203) من حديث أبي ذر، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

(16/407)


ثم ذكر بعد ذلك أن يحيى بن سعيد ترك القيام معهم، وقال: "كنت أقوم، ثم تركت ذلك، فإن استطعت أن أقوم بنفسي أحبُّ إليّ". وذكر عن مجاهد عن ابن عمر: "تُنصِتُ خلفَه كأنك حمار؟ ! صلِّ في بيتك". ثم ذكر عن ابن عمر أنه كان ينصرف، لا يصلّي معهم. ومثله عن القاسم، وسالم، ونافع، وعروة. وذكر عن مجاهد قال: "إذا كان مع الرجل عشر سورٍ فليردِّدْها، ولا يقوم في رمضان خلف الإمام". وذكر آخِرَ (ص 91) عن عمرو بن مهاجر أن عمر بن عبد العزيز قد كانت تقوم العامّة بحضرته في رمضان بخمس عشرة تسليمة، وهو في قبّته لا ندري ما يصنع. وذكر عن جماعةٍ أنهم كانوا يقومون في نواحي المسجد فرادى، لا يصلّون مع الجماعة. وذكر (ص 90 ــ 91) عن جماعةٍ صلاتها جماعةً في المسجد. والذي أرى أنَّ محلَّ ذلك فيمن له عذر، ومن الأعذار دفعُ توهُّم أن صلاتها جماعةً في المسجد منكرةٌ مطلقًا، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربّما يفعل الشيء لبيان الجواز. وجاء عن أبي بكر، وعمر، وابن عباسٍ: أنهم كانوا لا يُضَحُّون خشيةَ أن يعتقد الناس وجوبَ التضحية. فكان هؤلاء الأكابر يتركونها ليعلم الناسُ أنها ليست بواجبة، وهم في تركهم ذلك مُحسِنون، مُثابُون عليه؛ لما قصدوا به من بيان السُّنَّة.

(16/408)


فأمّا من لا عذر له البتَّةَ ففي السُّنّة كفاية. وفي "طبقات ابن سعد" (ج 7 قسم 2 ص 26) (1) عن بكار بن محمد أنَّ ابن عون كان في شهر رمضان لا يزيد على المكتوبة في الجماعة، ثم يخلو في بيته. ومن تدبّر السُّنَّة وحقَّق، ثم تتبَّع أحوال الناس، علم أنه قد تطرَّق إلى هذا الأمر غير قليلٍ من الخطأ والغلط ومخالفة السنة. وشرحُ ذلك يطول، نسأل الله تعالى أن يثبّت قلوبنا على دينه، ويهدينا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنه، ويرزقنا الاعتصام بكتابه وسنة نبيّه صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه. * * * * _________ (1) (9/ 263) ط. الخانجي.

(16/409)


[ملحق] (1) [ص 12] في "فتح الباري" (2): استشكل الخطابيّ أصل هذه الخشية، مع ما ثبت في حديث الإسراء من أنَّ الله تعالى قال: "هن خمس، وهي خمسون، لا يُبدَّل القول لديّ" (3). فإذا أُمِن التبديل فكيف يقع الخوف من الزيادة؟. ثم ذكر أجوبة. وقد كنت تركتُ التعرّض لهذا البحث لدقّته، مع أن الخشية قد ثبتت قطعًا بحديث زيد هذا في "الصحيحين" وغيرهما، وحديث عائشة في "الصحيحين" وغيرهما أيضًا من أوجهٍ عنها، وبحديثٍ لجابرٍ في صحيحي ابن خزيمة وابن حبان (4). فثبت أن ما في حدث الإسراء لا ينبغي أن يُفْهَم منه ما يناقض هذه الخشية، فمن فَهِم ذلك فقد أخطأ ولا علينا أن لا نبيّن وجه خطائه (5). ثم أثار هذا البحث أخي العلامة الشيخ محمد عبد الرزاق، فرأيتُ أن أنظر فيه، وأسأل الله التوفيق. _________ (1) زيادة توضيحية من عندي. (2) (3/ 13). (3) أخرجه البخاري (349) ومسلم (163) من حديث أبي ذر. (4) سبق تخريج هذه الأحاديث. (5) كذا رسمها المؤلف بالمدّ، وهو صحيح في اللغة.

(16/410)


استشكالُ الخطابيّ مبنيّ على أن كلمة "لا يُبدَّل القول لديَّ" قُصِد بها القضاء على معنى قوله: "هن خمس" بأنه لا يُغيَّر في المستقبل. ويردُّه أن عقب هذه الجملة في الحديث نفسه: "فرجعتُ إلى موسى، فقال: راجِعْ ربك، فقلت: استحييتُ من ربّي". ولو كان معنى (1) ما تقدم إخبارَ الله عزَّ وجلَّ بأنّ مقدار الخمس لا يتبدَّل في المستقبل؛ لعلم موسى أنه لم يبقَ موضعٌ للمراجعة، ولأجاب محمد بما يُفْهِم ذلك، ولم يقتصر على قوله: "استحييتُ من ربّي". فإن قيل: لعل في الكلام تقديمًا وتأخيرًا، كما تُشْعِر به بعض الروايات الأخرى، ولعلّ محمدًا لم يخبر موسى بما يدلّ على امتناع التغيير، وقصد محمد أنه يمنعه الاستحياء، حتى على فرض عدم إخبار الله عزَّ وجلَّ بأنه لن يقع تغيير، أو لعلّهما فهما أن المراد أنه لن يقع تغيير بالزيادة، وجوَّزا أن يقع تغيير بالنقصان. قلت: هذا كلّه تمحُّلٌ لا مُلجِئ إليه، ولم أر في الروايات الأخرى ما يصح الاستناد إليه في زعم أن هناك (2) تقديمًا وتأخيرًا ينفع الخطّابيّ. وتجويزُ أن يكون محمد أخفى عن موسى خبرَ الله عزَّ وجلَّ بعدم التغيير، فلمّا أمره بالمراجعة أجاب بما أجاب به= تجويزٌ ركيك، لا يخلو عن شناعةٍ يجب تنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها. _________ (1) في النسخة اليمنية: "ولولا". (2) في اليمنية: "في القضاء على أن في هذه" بدلًا في زعم أن هناك.

(16/411)


وتجويزُ أن يكونا فهما أن عدم التغيير يختصّ بالزيادةِ ركيكٌ أيضًا. وربما يكون أقرب منه أن يفهم أن المراد عدم التغيير بالنقصان، وذلك أنه سبحانه سُئل التخفيف فخفّف، ثم سُئل فخفّف، مرارًا، ثم قال: "هن خمس، وهي خمسون، لا يُبدَّل القول لديَّ". فلو كان المراد أن مقدار الخمس لن يُغيَّر بعد ذلك لقَرُب أن يُفْهَم منه المنع عن سؤال التخفيف بعد ذلك، وأنه لن يكون تخفيف. فإن قيل: فإذا لم يتوجه قوله: "لا يبدَّل القول لديّ" إلى قوله: "هن خمس" فإلى ماذا يتوجّه؟ قلت: قيل بتوجُّهه إلى قوله: "وهي خمسون"، وهذا قريب؛ لأن قوله "وهي خمسون" وَعْدٌ منه تعالى بأن يُثيِب على الخمس ثواب خمسين. وقوله: "لا يبدّل القول لديّ" قد عُرِفَ من كتاب الله عزَّ وجلَّ توجّهه إلى الوعد، ونحوه. قال تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس: 64]. وقال سبحانه: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 28، 29]. [ص 13] وفي "تفسير ابن جرير" (ج 11 ص 88) (1): "وأما قوله: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ}؛ فإن معناه: لا خُلْفَ لوعده، ولا تغييرَ لقوله عمّا قال". _________ (1) (12/ 225) ط. التركي.

(16/412)


ولا يلزم من امتناع تغيير الخمسين ثوابًا أن لا يُزاد في المستقبل على الخمس، ويثاب على الزائد ثواب مستقلّ، ولا أن لا يُنْقَص العدد عن خمسٍ ويبقى الثواب خمسين. وقيل بتوجّهه إلى ما وقع ابتداءً من فرض خمسين، والمعنى: هن خمسٌ كما أقوله الآن، وهنّ خمسون كما قلتُه أوّلًا، وليس ما جرى من التخفيف تبديلًا للقول الأول "لا يبدَّل القول لديّ"، ولكنه كان المراد به خمسون ثوابًا وهذا ثابت لم يبدَّل ولن يبدَّل. وهذا القول هو الظاهر من العبارة، وقد ذكره السهيلي في "الروض الأنف" (ج 1 ص 252) (1)، قال: "والوجه الثاني: أن يكون هذا خبرًا لا تعبُّدًا، وإذا كان خبرًا لم يدخُلْه النسخ، ومعنى الخبر: أنه عليه السلام أخبره ربّه أن على أمته خمسين صلاة، ومعناه أنها خمسون في اللوح المحفوظ، ولذلك قال في آخر الحديث: "هي خمس وهي خمسون، والحسنة بعشر أمثالها". فتأوّله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنها خمسون بالفعل، فلم يزل يراجع ربه حتى بيَّن له أنها خمسون في الثواب لا في العمل. فإن قيل: فما معنى نقصها عشرًا بعد عشر ... ". ذكر جوابًا غير مرضيّ، وقد فتح الله تعالى بجوابٍ أوجَهَ، وهو أن الله تبارك وتعالى قد حَطَّ مِنْ أوّل مرة خمسًا وأربعين، ولكن اقتضت حكمته إجمال الخبر أولًا، فيكون المراد منه أنها خمسون ثوابًا، ويَفْهَم _________ (1) ط. الجمالية بمصر.

(16/413)


الرسول منه أنها خمسون عملًا؛ ليترتَّب على هذا الفهم أولًا: أن يعزم الرسول على أن يعمل هو وأمّته خمسين إن لم يخفّف الله عزَّ وجلَّ، وثانيًا: المراجعة. وبذلك العزم استحق الرسول وأمّته ــ بفضل الله وكرمه ــ ثواب الخمسين. فأمّا حكمة المراجعة فقد أفاض فيها الشرّاح. وإذْ كان المحطوط في علم الله خمسًا وأربعين (1)، فقد حطّ في ضمنها جميع الأعداد الداخلة فيها. والإخبارُ بحطِّ الأقل لا ينفي حطَّ الأكثر؛ فإن العدد لا مفهوم له عند جمهور الأصوليين، ولو كان له مفهوم فظاهرٌ ضعيفٌ غير مرادٍ، كالإخبار أوَّلًا بخمسين وظاهره أنها خمسون عملًا. وتأخير البيان عن وقت الخطاب جائز على الصحيح، وإنما الممتنع تأخيره عن وقت الحاجة. وقريب من هذا قصة إبراهيم عليه السلام في ذبح ابنه. قال الله عزَّ وجلَّ: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 102 ــ 107]. _________ (1) في اليمنية: "وإذ حطت الخمس والأربعون".

(16/414)


رأى ــ والله أعلم ــ في نومه أنه مُضْجِعٌ ابنَه يُعالج ذبحَه، أي: يُمِرُّ الشفرة على عنقه، معتمدًا عليها، شأنَ القاصد قطعَ العنق وإبانة الرأس. هذا ــ والله أعلم ــ هو الذي رآه، وهو معنى قوله: {أَنِّي أَذْبَحُكَ}. وعلم إبراهيم أن الله تعالى أمره [ص 14] أن يفعل ذاك الفعل، وهذا حقّ، وفهم أيضًا أنه ــ بمقتضى العادة ــ إذا فعل ذاك الفعل قُطِع عنق ابنه، وبان رأسُه، ومات. ولم يُرِد الله عزَّ وجلَّ هذا، ولا أمر به، ولكنه سبحانه أراد أن يكون الأمر بحيث يَفْهَم إبراهيم منه هذا؛ ليكون ذلك ابتلاءً لإبراهيم وابنه، حتى إذا عزما وعملا العملَ المرئيَّ في النوم ــ الذي عندهما أنه موجب لموت الابن ــ كان لهما ثواب مَنْ قَبِل تلك النتيجة، وقام بها طاعة لله عزَّ وجلَّ. فلمّا أطاعا لذلك، وعمل إبراهيم مثل العمل الذي رآه في نومه، وأخذ يكُدُّ الشفرة لتقطع، ويكفّها الله عزَّ وجلَّ عن القطع، كما كفَّ النار عن الإحراق، ولم يزل إبراهيم يكُدُّ الشفرة ولا تَقْطع حتى ناداه الله عزَّ وجلَّ: {أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}. أي: قد جئت بمصداقها كاملًا، وهو تلك المعالجة؛ فإنه إيّاها رأى (1) في نومه، ولم ير ما يزيد عنها. فعلى هذا لا نسخَ في القصة البتةَ. فإن قيل: ربما يدفع هذا قوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}، فإنه إذا لم يؤمر في نفس الأمر إلّا بالمعالجة التي وفَى بها، فقد وفَى بها، فلماذا الفدية؟ قلت: كان إبراهيم قد عزم على قطع العنق، وإبانة الرأس، وإماتة ابنه، _________ (1) في اليمنية: "فإنه رأى إياها".

(16/415)


وإبراهيمُ قد يعدُّ ذاك العزم بمثابة النذر، ويحزُّ في نفسه أن لا يفي به، وإن لم يكن مأمورًا به. فمِنْ هنا ــ والله أعلم ــ طيَّب الله عزَّ وجلَّ نفسه بالفدية. وقد استنبط بعض الفقهاء من الآية أنّ من نذر ذبح ابنه كان عليه أن يذبح شاةً. ورُدَّ بأن إبراهيم نذر مباحًا في شريعته، وليس بمباحٍ في شريعتنا. والاستنباط لطيف، والردُّ صحيح. وقد تعرَّض لهذا المعنى في قصة إبراهيم بعضُ أهل العلم، فردّه بعضهم بتشنيعٍ لا حقيقة له (1)، بل يلزمه مثله أو أشدّ منه في دعوى النسخ التي ارتكبها. ومَنْ اعترف في المجمل الذي له ظاهر بجواز تأخّر بيانه إلى وقت الحاجة، لزمه أن يجيز مثل ما قلناه في المسألتين وأشدَّ منه، ولو لم تظهر حكمة فكيف يأباه هنا مع ظهور الحكمة البالغة؟ ! فأما من ينكر تأخير البيان مطلقًا، فالكلام معه مبسوط في كتب الأصول. فإن قيل: لماذا لا يجوز النسخ مع وجود الفائدة للتكليف، بأنْ يكون الله تعالى أمر إبراهيم بذبح ابنه ابتلاءً، فلما تبيَّن امتثاله واستعداده وعزمه الصارم _________ (1) انظر "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 377) والردّ عليه في "أحكام القرآن" للكياالهراسي (4/ 358). وراجع "أحكام القرآن" لابن العربي (4/ 1619) و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (15/ 111).

(16/416)


على العملِ نَسَخَهُ الله تعالى؟ ونحو هذا يقال في قصة الصلاة. قلت: أنا لم أَخْتَرْ عدم النسخ تفاديًا من النسخ قبل العمل، بل لما في السياق ممّا يبيّن عدم النسخ، كما مرَّ.

(16/417)


الرسالة الثالثة عشرة

  مسألة اشتراط الصوم في الاعتكاف

(16/419)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله سيدنا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه الطّاهرين. جرت المذاكرة بين الحقير وبين السيد العلامة صالح بن محسن الصَّيلمي من علماء المذهب الزيدي ــ حرسه الله ــ في اشتراط الصوم في الاعتكاف. فقلت له: الجديد عندنا عدمُه إلا إذا نذر أن يعتكف صائمًا لزِمه جمعُهما على الأصح. فقال: فلو نذر أن يعتكف مصلّيًا؟ قلت: فله أن يُفرِد الاعتكاف عن الصلاة. فقال: فهل قياس العكس عندكم معتبر في الأصول؟ قلتُ: نعم على الأصح. فقال: علماؤنا يُلزمونكم القولَ باشتراطِ الصوم في الاعتكاف بقياس العكس. فقلت له: ما وجهُ تأتّي قياس العكس هنا؟ فإنما قياس العكس كما قال الجلال المحلي في "شرح جمع الجوامع" (1): "إثبات عكسِ حكمِ شيءٍ لمثله، لتعاكسهما في العلة". واستدلّ له بقوله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه وقد قال لهم: _________ (1) (2/ 343).

(16/421)


"وفي بُضْعِ أحدكم صدقة". فقالوا: أيأتي أحدنا شهوتَه وله فيها أجر؟ [فقال] (1): "أرأيتم لو وضعَها في حرام أكان عليه وِزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر". قال: رواه مسلم (2). ثم أتيتُ إليه ناقلًا ما لفظُه: قال العلامة البَنَّاني في "حاشيته على شرح المحلّي لجمع الجوامع" (3): "قوله: "وهو إثبات عكس حكم ... إلخ"، الحكم في الحديث المذكور هو ثبوت الوزر، وعكسه ثبوت الأجر، والشيء الوضع في الحرام، ومثل ذلك الشيء هو الوضع في الحلال الثابتِ له العكسُ المذكور، وجعل الوضع في الحرام والوضع في الحلال مِثْلَين من حيث إن كلًّا منهما وضعٌ، وإلَّا فهما ضدّانِ في الحقيقة. وقوله: "لتعاكسهما" أي: الحكمين. وقوله: "في العلة" وهي الوضع في الحرام الذي هو علة ثبوت الوزر، والوضع في الحلال الذي هو علة ثبوت الأجر، فكلٌّ من ثبوت الأجر وثبوت الوزر عكسٌ للآخر؛ لأن كلًّا من الوضع في الحرام والوضع في الحلال عكسٌ للآخر فتعاكُسُ العلتين المذكورتين مقتضٍ لكون الحكم المترتب على إحداهما عكسَ الحكم المترتب على الأخرى" هـ. قلت: ولا تناقضَ في قوله: "لأن كلًّا من الوضع في الحرام والوضع في الحلال عكسٌ للآخر" مع قوله سابقًا: "والشيء الوضع في الحرام، ومثل ذلك الشيء هو الوضع في الحلال"؛ لأنَّ جَعْلهما مِثْلينِ هو باعتبار مطلق الوضع، وجَعْلهما ضدَّين هو باعتبارِ محلّه، كما يؤخذ من كلامه. فطَبِّقُوا _________ (1) بياض في الأصل. (2) رقم (1006) عن أبي ذر. (3) (2/ 343).

(16/422)


مسألة شرطية الصوم على قياس العكس كما طبق الحديث، ولا يخفى عليكم حقيقة العلة والتعاكس عند الأصوليين، وإنما نريد بذلك معرفة كيفية الاستدلال بقياس العكس فيها، لا استفادةَ الحكم وتسليمه، فإن لنا في النصوص الصحيحة ما يُقِرُّ الناظرَ ويُخرِس المناظر: أولها: ما في "شرح السيد المرتضى على الإحياء" بعد نقل حديث الصحيحين وأبي داود والنسائي (1) من طريق عُقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العَشْرَ الأواخر من رمضان حتى قبضه الله عزَّ وجلَّ، ثم اعتكف أزواجُه من بعدِه. قال (2): ثم قد استُدِلَّ بالحديث المذكور أنه لا يُشترط لصحة الاعتكاف الصومُ، وذلك من وجهين: أحدهما: أنه اعتكف ليلاً أيضًا مع كونه فيه غيرَ صائم، ذكره ابن المنذر. ثانيهما: أن صومه في شهر رمضان إنما كان للشهر؛ لأن الوقت مستحقّ له، ولم يكن للاعتكاف. ذكره المزني والخطابي. وبهذا قال الشافعي وأحمد في أصح الروايتين عنه، وحكاه الخطابي (3) عن علي وابن مسعود والحسن البصري. وقال مالك وأبو حنيفة والجمهور: يُشترط لصحة الاعتكاف الصومُ، ورُوي ذلك عن علي وابن عمر وابن عباس وعائشة، وروى الدارقطني (4) في حديث عائشة المتقدم من رواية ابن جريج عن _________ (1) البخاري (2026) ومسلم (1172) وأبو داود (2462) والنسائي في الكبرى (3324). (2) "إتحاف السادة المتقين" (4/ 233، 234). (3) "معالم السنن" (3/ 339). (4) في "السنن" (2/ 201).

(16/423)


الزهري بزيادة: "وأنَّ السنة للمعتكف ... " فذكر أشياء، منها: "ويُؤمَر من اعتكف أن يصوم". ثم قال الدارقطني: إن قوله: "وأن السنة ... إلخ" ليس من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه من كلام الزهري، ومن أدرجه في الحديث وهِمَ. ولكن في "سنن أبي داود" (1) صريحًا أنه من كلام عائشة، أي فمثلُه لا يُعرف إلا سماعًا. هـ. قلت: الحديث لفظه: "السنة على المعتكف أن لا يعودَ مريضًا، ولا يشهدَ جنازةً، ولا يمسَّ المرأةَ ولا يُباشرها، ولا يخرجَ لحاجةٍ إلا لما لابدَّ منه، ولا اعتكافَ إلا بصومٍ، ولا اعتكافَ إلا في مسجد جامع". فإن أراد بقوله: "فمثلُه لا يُعرف إلا سماعًا" أنه من قول الصحابي: "السنة كذا"، ففيه نظر؛ إذ يحتمل بل يظهر أن قولها: "ولا اعتكافَ إلا بصومٍ ... إلخ" ليس مسندًا إلى السنة، وإنما بينَتْ فيه برأيها، ومثل ذلك لا يمتنع قولُه من قبل الرأي. فليتأملْ. وقد يُحمَل قوله: "ويؤمَر" على الندب، كما يُحمل "لا اعتكاف إلا بصوم" على نفي الكمال، جمعًا بين الأدلة وإلحاقًا للضعيف بالقوي. وأمَّا ما استدل به مُثبِت الشرطية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتكف إلا صائمًا، فيقال له: قد تقرر في الأصول أن فعله - صلى الله عليه وسلم - غير الجبلِّي يخصُّه للندب مجردُ قصد القربة، وذلك بأن تدل قرينةٌ على قصدها بذلك الفعل، مجرَّدًا عن قيد الوجوب، والقرينة ههنا ما تراه من الأدلة، فالمواظبة دليل الاستحباب. على أنك سترى في الأدلة ما يستلزم أنه - صلى الله عليه وسلم - اعتكف بلا صوم، وهو حديث _________ (1) رقم (2473).

(16/424)


الشيخين (1) عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يعتكف، فلما انصرف إلى المكان الذي أراد أن يعتكف فيه إذا أَخْبِيةٌ: خِباء عائشة، وخباء حفصة، وخباء زينب، فقال: "آلبرَّ تقولون بهن؟ " ثم انصرف فلم يعتكف، حتى اعتكف عشرًا من شوال. قال الشرقاوي (2): وعند مسلم: "حتى اعتكف العشر الأُول من شوال" وفيه دليل على جواز الاعتكاف بغير صوم، لأن أول شوال يوم العيد، وصومه حرام. واعتُرِض بأن المعنى كان ابتداؤه في العشر الأول [ص 2] وهو صادق بما إذا ابتدأ باليوم الثاني، فلا دليل فيه لما قاله. قلت: ولسقوط هذا الاعتراض ــ كما لا يخفى على الناظر ــ لم يعتبره علماؤنا، ولا عدُّوه قادحًا، فهم يستدلّون بالحديث المذكور غيرَ ملتفتين إلى ذلك الاعتراض، وقد يَستبعدُ اعتكافَه - صلى الله عليه وسلم - ليوم العيد مَن يَقيسُه على أبناء زماننا في جَعْله يومَ العيد يومَ راحةٍ ورفاهية، وراحةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخلوةُ بمولاه، كما كان يقول: "يا بلالُ، أَرِحْنا بالصلاة" (3). والظاهر أنه اعتكف من ليلة العيد، ثم خرج لصلاة العيد، وعاد وأكمل العَشْر. ومن الأدلة: حديث "الصحيحين" (4) عن عمر رضي الله عنه أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: كنت نذرتُ في الجاهلية أن اعتكف ليلةً في المسجد الحرام، _________ (1) البخاري (2034) ومسلم (1173). (2) "فتح المبدي" (2/ 170). (3) أخرجه أحمد (23088) وأبو داود (4985) من طريق سالم بن أبي الجعد عن رجلٍ من أسلم مرفوعًا. وفي إسناده اختلاف، انظر "العلل" للدارقطني (4/ 121 - 122). (4) البخاري (2042) ومسلم (1656).

(16/425)


قال: "فأوفِ بنذرِك". قال الشرقاوي (1): واستُدِلَّ به على جواز الاعتكاف بغير صوم، لأن الليل ليس ظرفًا للصوم، فلو كان شرطًا لأمره عليه الصلاة والسلام به، لكن عند مسلم من حديث سعيد عن عبيد الله: "يومًا" بدل "ليلة". فجمعَ ابن حبان (2) وغيره بين الروايتين بأنه نذرُ اعتكاف يومٍ وليلة، فمن أطلق ليلةً أراد بيومها، ومن أطلق يومًا أراد بليلته. وقد ورد الأمر بالصوم في رواية عمرو بن دينار عن ابن عمر (3) صريحًا، لكن إسناده ضعيف ... إلخ. قلت: ولذلك يَضعُف استدلالنا بهذا الحديث إلا من حيث الاستدلال باعتكافه - صلى الله عليه وسلم - العشرَ من رمضان ليلاً ونهارًا، كما مرَّ نقلُه عن ابن المنذر، فأما كونُه لم يُنْقَل أمره بالصوم فقد يحتمل أنه أمره ولم يُنْقل، أو أن عمر كان يعرف اشتراط الصوم للاعتكاف. ومن الأدلة ما رواه الحاكم (4) وقال: صحيح على شرط مسلم: "ليس على المعتكفِ صيامٌ إلا أن يجعله على نفسه". فأجاب عليَّ السيدُ العلامة المذكور بما خلاصته: الجمهور على أن الصوم شرط في الاعتكاف، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "لا اعتكافَ إلا بالصيام". ولو لم يكن الصيام شرطًا في الاعتكاف لما وجب في نذره _________ (1) "فتح المبدي" (2/ 170). (2) في "صحيحه" (10/ 226، 227). وانظر "فتح الباري" (4/ 274). (3) أخرجه أبو داود (2474) والنسائي في الكبرى (3341)، وفي إسناده عبد الله بن بُديل، وهو ضعيف. (4) "المستدرك" (1/ 439).

(16/426)


كالصلاة حتى عند الشافعي، وأمَّا حديث: "ليس على المعتكف صيامٌ إلا أن يجعله على نفسه"، فالمعنى: الصوم لا يجب بنية الاعتكاف إلا حيث يجب الاعتكاف جمعًا بين الأدلة، وأما حديث عمر فقد تبين سقوط الاستدلال به. فثبت شرطيةُ الصوم بالدليل، ويُستَظهر عليه بقياس العكس، وهو إثبات خلاف حكم الأصل في الفرع، فالأصل الصلاة والفرع الصيام، والعلة عدم وجوب الصلاة بالنذر، أعني بنذر الاعتكاف مصلّيًا، وعكس العلة وجوب الصيام بالنذر، والحكم في الأصل عدم اشتراط الصلاة في صحة الاعتكاف، والحكم في الفرع خلافه، وهو اشتراط الصيام في صحة الاعتكاف. أقول: أمَّا قوله: "لا اعتكاف إلا بالصيام"، فلم أطَّلع عليه بهذا اللفظ، وإنما في "سنن" أبي داود (1) من لفظ عائشة: "ولا اعتكافَ إلا بصوم" وقد سبق الكلام عليه (2). وما سبقت الإشارة إليه من حديث الزهري، وفيه: _________ (1) رقم (2473). (2) بعده في هامش النسخة ما يلي بخط المؤلف (وهو تعليق نحوي خارج عن الموضوع): (الكلام هو اللفظ) وهو الصوت الخارج من الفم متقطعًا أحرفًا (المركب) من كلمتين فأكثر (المفيد) فائدةً يحسُنُ السكوت عليها (بالوضع) العربي أو القصد. (وكل كلمة إما معربة) وهي ما يتغير آخرها لاختلاف العوامل لفظًا أو تقديرًا، وهي الاسم الذي لم يُشبِه الحرفَ، والفعل المضارع الذي لم يتصل بنونِ إناثٍ أو توكيد. (وإما مبنية) وهي بخلاف الأُولى وهي الحرف والفعل الماضي والأمر والمضارع المتصل بما مرّ، (والمعرب إما أن يكون أصليَّ الإعراب) وهو الاسم، (أو فرعيَّه) وهو الفعل المضارع. (والمبنيُّ إما أن يكون أصليَّ البناء) وهو الحرف والفعل (وإما فرعيَّه) وهو الاسم.

(16/427)


"ويؤمر المعتكف بالصوم"، وقد سبق ما فيه. وما في رواية عمرو بن دينار قد سبق تضعيفه. وأمَّا قولهم: ولو لم يكن الصيام شرطًا في الاعتكاف لما وجب في نذره كالصلاة، فنقول: إن أريدَ بقوله: "وجب" أي الصيام، وبقوله: "في نذره" أي الاعتكاف، والمعنى: لو لم يكن شرطًا لما وجب حيث نذرَ الاعتكاف، فنحن لا نقول بوجوب الصوم في الاعتكاف المنذور وإن أريدَ: لو لم يكن الصوم شرطًا في الاعتكاف لما وجب الصوم حيث نذرَ مع الاعتكاف، كما لا تجب الصلاة حيث نُذِرَتْ مع الاعتكاف، فنقول: إن أريد بعدم وجوب الصلاة أنه لا يلزم مطلقًا فليس مذهبنا، أو أنه لا يلزم الجمع بينها وبين الاعتكاف كما يلزم الجمع بين الصوم والاعتكاف حيث نذرَ أن يعتكف صائمًا، فهذا مذهبنا، والإلزام ممنوع، إذ جَعْلكم له شرطًا ينافي كونَ النذر علةً لوجوبه، فلا يصدق عليه أنه وجب النذر. وقد فرق أصحابنا بين الصلاة والصيام بأن الصيام مشروع في الاعتكاف إجماعًا، وأنه مناسب له، إذ كلٌّ منهما كَفٌّ، ولا كذلك الصلاة، مع أنها أفعال مباشرة. وأمَّا تأويل حديث "ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه" فمردود، إذ لا يخفى أن المعتكف يصدق على المعتكف اعتكافًا منذورًا أو غيرَ منذور، وقوله: "إلا أن يجعله" أي: الصيامَ كما يعيِّنه السياق، فالمعنى: ليس على من نوى اعتكافًا منذورًا أو غيرَ منذورٍ أن يصوم إلا حيثُ نذر الصيام، وذلك ظاهر. [ص 3] وأمَّا قولكم: "جمعًا بين الأدلة"، فأين الدليل الذي يقتضي شرطيةَ الصوم، فلم تذكروا إلا قوله: "ولا اعتكاف إلا بالصيام"، وقد علمت ما فيه.

(16/428)


ولو فرضنا اعتباره دليلاً فلنا طريقٌ مسلوكة في الجمع بينه وبين سائر الأدلة، وهي أن نقول بنَفْي الكمال، كما قالوه في "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" (1)، وكما قال بعضهم في: "لا صلاةَ لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (2)، وقال بعضهم في: "لا وضوءَ لمن لم يذكر اسم الله عليه" (3)، وقولهم: "لا إيمانَ لمن لا أمانةَ له، ولا دينَ لمن لا عهدَ له" (4)، كما تقدم بيانه. والمطلوب هو موافقة الحق، وسلوكُ المسالك المألوفة بالمدارك المعروفة خيرٌ من ارتكاب الوعور، لاسيما إذا كان غلطًا وشططًا. وأما القياس، فقياس العكس عند أصحابنا مختلَفٌ في حجيته، وعلى الأصح أنه حجة فقد عرَّفْناكم أن الشافعي نصَّ على عدم شرطية الصيام للاعتكاف، ونصَّ على عدم وجوب الجمع بين الاعتكاف والصلاة على الناذر أنْ يعتكفَ مصلِّيًا، ولم ينصَّ على وجوب الجمع بين الاعتكاف والصيام على الناذر أنْ يعتكفَ صائمًا ولا عدمه، فقاسه بعض الأصحاب على الصلاة فلم يُوجبه، وأكثر الأصحاب على أنه يجب للحديث: "ليس _________ (1) أخرجه الدارقطني في "السنن" (1/ 420) والحاكم في "المستدرك" (1/ 246) والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 57) عن أبي هريرة. وإسناده ضعيف جدًّا، ويُروى من وجوهٍ أخرى كلها ضَعيفة. انظر "العلل المتناهية" (1/ 412، 413). (2) أخرجه البخاري (756) ومسلم (394) عن عبادة بن الصامت. (3) أخرجه أبو داود (101، 102) عن أبي هريرة، وأخرجه الترمذي (25) عن رباح بن عبد الرحمن عن جدته عن أبيها. وهو حديث حسن بشواهده. (4) أخرجه أحمد في "المسند" (12383، 12567، 13199) وأبو يعلى في "مسنده" (2863) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 288، 9/ 231) عن أنس بن مالك، وهو حديث حسن.

(16/429)


على المعتكف صيامٌ إلا أن يجعله على نفسه"، وفرقوا بينه وبين الصلاة كما مرَّ آنفًا. فإن قيل: قد ثبت "ليس على المعتكف صيامٌ إلا أن يجعله على نفسه" المفيد لوجوب الجمع بين الاعتكاف والصيام على من نذَره، وأنتم معشر الشافعية تقولون: لا يجب الجمع بين الاعتكاف وبين الصلاة على ناذره، وتلك مناقضة، إذ يلزمكم من قولكم: "لا يجب الجمع بين الاعتكاف والصلاة" أن تقولوا بعدم وجوب الجمع بينه وبين الصيام، ويلزمكم من إيجابكم الجمعَ في الصيام إيجابُه في الصلاة. قلنا: أمَّا وجوب الجمع في الصيام فقد نصَّ عليه إمام الكون - صلى الله عليه وسلم - ، وأما نصُّ الإمام على عدم وجوب الجمع في الصلاة، فعلى فرضِ أنه لا دليل له عليه من النصوص فقد بينّا الفارق، على أن هذه المنازعة المفروضة لا تكون إلا من طرف قائلٍ بوجوب الجمع في الصلاة، وأما قائل شرطية الصوم فقد صدقته النصوص على العموم والخصوص (1). * * * * _________ (1) بعدها رسالة من المعلمي إلى الصيلمي وردّ الأخير عليها.

(16/430)


[ص 4] سيدي العلّامة الهُمام ضياء الإسلام السيد صالح بن المحسن الصَّيلمي، حفظه الله تعالى، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته. قال الجلال المحلّي في "شرح جمع الجوامع" عند ذكر قياس العكس ما لفظُه: "وهو إثباتُ عكس حكم شيءٍ لمثله، لتعاكُسِهما في العلة" ثم [قال:] (1) ومن أدلته قوله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه عندما قال لهم في تَعداد وجوه البرّ: "وفي بُضْع أحدكم صدقة". فقالوا: أيأتي أحدُنا شهوتَه وله فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وِزْرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر". قال البَنَّاني في حاشيته: قوله: "وهو إثبات عكس حكم ... إلخ"، الحكم في الحديث المذكور هو ثبوت الوزر، وعكسه ثبوت الأجر، والشيء الوضع في الحرام، ومثل ذلك الشيء هو الوضع في الحلال الثابتِ له العكسُ المذكور، وجعل الوضع في الحرام والوضع في الحلال مِثْلَين من حيث إن كلًّا منهما وضعٌ، وإلَّا فهما ضدّانِ في الحقيقة. وقوله: "لتعاكسهما" أي: الحكمين. وقوله: "في العلة" وهي الوضع في الحرام الذي هو علة ثبوت الوزر، والوضع في الحلال الذي هو علة ثبوت الأجر، فكلٌّ من ثبوت الأجر وثبوت الوزر عكسٌ للآخر؛ لأن كلًّا من الوضع في الحرام والوضع في الحلال عكسٌ للآخر فتعاكُسُ العلتين المذكورتين مقتضٍ لكون الحكم المترتب على إحداهما عكسَ الحكم المترتب على الأخرى". وقولكم: "ما مذهب الشافعية في الاعتكاف؟ " فالاعتكاف عندهم ليس من شرطه الصيامُ إلا إن نَذَرَه، كأن يقول: لله عليَّ أن أعتكفَ صائمًا، بخلاف _________ (1) بياض في الأصل.

(16/431)


الصلاة، فلو قال: أن أعتكفَ مصلِّيًا فله إفراد الاعتكاف عنها. وقولكم: "إنه يلزمهم القول باشتراط الصيام في الاعتكاف بقياس العكس" لم يظهر وجهُه، ففضلًا انقلُوا تحت هذا لفظ "الغاية" مع شرحها. واستشهادكم على الحقير ببضاعته (ولكنما أعمى القلوبَ التعصُّبُ) ليس في محله، فإنما يتعصب من لم يجد مَحِيصًا عن اللزوم، فأما نحن معشرَ الشافعية فلنا عن التعصب ــ لو فُرِض ــ مندوحةٌ بأن اشتراط الصيام هو القول القديم لإمامنا، مع أن لنا على القول الجديد نصوصًا صحيحة، منها: اعتكافه - صلى الله عليه وسلم - الليلَ والنهارَ في العشر الأواخر من رمضان ونحوها، كما في حديث الصحيحين. ومنها: ما في الصحيحين (1) أيضًا عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله وسلم عليه وعلى آله قال: كنتُ نذرتُ في الجاهلية أن أعتكفَ ليلةً في المسجد الحرام قال: "فأَوْفِ بنذرك". ومنها: ما نقله ابن حجر في "التحفة" (2) عند قول "المنهاج": "بل يصحُّ اعتكافُ الليل وحده" قال: للخبر الصحيح: "ليس على المعتكفِ صيامٌ إلا أن يجعله على نفسه" (3). * * * * أخانا في الله سبحانَه، الوجيه في الأولى والآخرة، العلامة الشيظَمِي (4) _________ (1) سبق تخريج الحديثين. (2) "تحفة المحتاج" (3/ 469). (3) سبق تخريجه. (4) هو بمعنى الطويل الجسيم الفتيّ من الناس أو الإبل أو الخيل، فهو صفة وليس نسبة إلى عَلم أو قبيلة.

(16/432)


عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ونحمد الله إليكم حمدًا كثيرًا مؤبَّدةً أوقاتُه، والصلاة والسلام على خِيَرَة الخلق وآلِه، حَمَلةِ الشرع وهُداتِه، وأيَّده من نعش الهدى نهوضَه المبارك وغاراته. أما بعدُ، فنقول: (مسألة) العترةُ جميعًا وابن عباس وعبد الله بن عمر ومالك والأوزاعي وأبو حنيفة وأبو ثور: الصوم شرط في الاعتكاف، لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "لا اعتكافَ إلا بالصيام". ولو لم يكن الصيام شرطًا في الاعتكاف لما وجب في نذره كالصلاة. عبد الله بن مسعود والحسن البصري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه: لا، لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "ليس على المعتكف صيامٌ إلا أن يجعله على نفسه"، أراد: الصوم لا يجبُ بنية الاعتكاف إلا حيث يجب الاعتكاف، جمعًا بين الأدلة وصيانةً لمنطقه عن اللغو، ولأنه مهما أمكن الجمع بالتأويل وجب. قالوا: قال لعمر: "أوف بنذرك"، وقد نذر اعتكافَ ليلةٍ. قلنا: "بيومها"، بدليل أن إحدى الروايتين أنه نذرَ اعتكافَ يومٍ، فثبتَ اشتراطُ الصيام في صحة الاعتكاف بالدليل وقياس العكس استظهارًا. وقياس العكس إثبات خلاف حكم الأصل في الفرع، فالأصل الصلاة، والفرع الصيام، والعلة عدم وجوب الصلاة بالنذر، أعني: بنذر الاعتكاف مصلِّيًا، وعكس العلة وجوب الصيام بالنذر، والحكم في الأصل عدم اشتراط الصلاة في صحة الاعتكاف، والحكم في الفرع خلافه، وهو اشتراط الصيام في صحة الاعتكاف، وبهذا يستوي قياسُ العكس على سُوقِه.

(16/433)


الرسالة الرابعة عشرة

 مقام إبراهيم

(16/435)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي أحاط بكلّ شيءٍ علمًا، وأتقن كلَّ شيءٍ خلقًا وأمرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبدُه ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه. أمّا بعد، فهذه رسالة في شأن "مقام إبراهيم"، وما الذي ينبغي أن يُعمَل به عند توسعة المطاف؛ حاولتُ فيها تنقيحَ الأدلّة ودلالتها على وجه التحقيق، معتمدًا على ما أرجوه من توفيق الله ــ تبارك اسمُه ــ لي، وإن قلَّ علمي، وكلَّ فَهمي. فما كان فيها من صواب فمن فضل الله عليَّ وعلى النّاس، وما كان فيها من خطأ فمنّي، وأسأل الله التوفيق والمغفرة. قال الله تبارك وتعالى في سورة البقرة (الآية 125): {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}. وقال سبحانه في سورة الحج (الآية 26): {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}. جاء عن جماعة من السلف تفسير "التطهير" في الآيتين بالتطهير من الشرك والأوثان.

(16/437)


وهذا من باب ذكر الأهمّ الذي يقتضيه السبب؛ فإنّ إخلال المُشركين بتطهير البيت كان بشركهم ونَصْبِهم الأوثانَ عنده. ولا ريبَ أنّ التطهير من ذلك هو الأهمّ، لكنّ "التطهير" المأمور به أعمّ. أخرج ابن أبي حاتم (1) عن مجاهد وسعيد بن جبير قالا: "من الأوثان والريب، وقول الزور والرّجس". ذكره ابن كثير وغيره (2). وقال البغوي (3): قال ابن جبير وعطاء: "طهِّراه من الأوثان والريب وقول الزُّور". وأخرج ابن جرير (4) عن عُبيد بن عُمير قال: "من الآفات والريب". * * * * _________ (1) في "تفسيره" (1/ 227). (2) "تفسير ابن كثير" (1/ 613) و"الدر المنثور" (1/ 633). (3) في "معالم التنزيل" (1/ 114). (4) في "تفسيره" (2/ 532، 533).

(16/438)


أقام إبراهيم وإسماعيل ــ عليهما السلام ــ البيتَ على الطهارة بأوفى معانيها؛ فالأمر بتطهيره أمرٌ بالمحافظة على طهارته، وأن يُمنَع ويُزال عنه كلُّ ما يخالفها. وقوله: {لِلطَّائِفِينَ ... } الآية، يدلُّ على أنّه مع أنّ التطهير مأمورٌ به لحرمة البيت، فهو مأمورٌ به لأجل هذه الفِرَق ــ الطائفين والعاكفين والقائمين والرُّكع السجود ــ لتؤدِّي هذه العباداتِ على الوجه المطلوب. وهذا يبيّن أن "التطهير" المأمورَ به لا يَخُصُّ الكعبة، بل يَعُمُّ ما حواليها، حيث تُؤدَّى هذه العبادات، وأنّ في معنى التطهير إزالةَ كلِّ ما يمنع من أداء هذه العبادات، أو يُعسِّرها، أو يُخِلُّ بها، كأن يكون في موقع الطواف ما يَعُوق عنه؛ من حجارةٍ أو شوكٍ أو حُفَر. فثبت الأمر بأن يُهيَّأَ ما حول البيت تهيئةً تمكِّن الطائفين والعاكفين والمصلِّين من أداء هذه العبادات بدون خلل ولا حرج. لم يُحدّد الشارع ما أمر بتهيئته حول البيت بمقدارٍ مسمًّى، لكن لمّا أمر بالتهيئة لهذه الفرق على الإطلاق عُلِم أنّ المأمور به تهيئةُ ما يكفيها ويتّسع لهذه العبادات مع اليُسر. فلمّا كان المسلمون قليلاً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كان يكفيهم المسجد القديم. نعم كثُر الحُجّاج في حجّة الوداع، لكن لم يكن منتظرًا أن يكثروا تلك الكثرة، أو ما يقرب منها في السنوات التي تليها، وكانت بيوت قريش ملاصقةً للمسجد، لا تمكن توسعته إلا بهدمها، وهدمُها يُنفِّرهم، وعهدهم

(16/439)


بالشرك قريب. فلمّا كثروا في زمن عمر رضي الله عنه، وزال المانع؛ هدم الدُّور، وزاد في المسجد، وهكذا زاد مَن بعده من الخلفاء بحسب كثرة المسلمين في أزمنتهم. وادَّخر الله تعالى الزيادة العظمى لصاحب الجلالة الملك سعود بن عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، أيّده الله، وأوزعَه شكر نِعَمِه، وزادَه من فضله. * * * *

(16/440)


قدّم الله تعالى في الآيتين "الطّائفين" على "العاكفين" و"المصلين"، والتقديم في الذكر يُشعِر بالتقديم في الحكم، فقد بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - في السعي بالصفا، وقال: "نبدأ بما بدأ الله به" (1)، وبدأ في الوضوء بالوجه. فيؤخذ من هذا أنّ التهيئة للطائفين أهمّ من التهيئة للعاكفين والمُصلّين. فعلى هذا يُقَدّم الطائفون عند التعارض، ولا يكون تعارضٌ عند إقامة الصلاة المفروضة جماعةً مع الإمام؛ لأنّ الواجب عليهم جميعًا الدخولُ فيها، وإنّما يمكن التعارضُ بين الطائفين وبين العاكفين والمصلّين تطوّعًا. وإذْ كان المسجد ــ بحمد الله ــ واسعًا، وسيزداد سعةً، فإنّما يقع التعارض في المطاف، كما إذا كثُر الطائفون، وكان في المطاف عاكفون ومصلّون تطوّعًا، وضاق المطاف عن أن يسعَهم جميعًا بدون حرجٍ ولا خلل. فإن قُدِّم بقرب البيت العاكفون والمصلّون، وقيل للطائفين: طوفوا من ورائهم، كان هذا تأخيرًا لمن قدّمه الله، ولزم منه (2) الحرج على الطائفين، لطول المسافة عليهم، مع أنّ الطواف يكون فرضًا في الحجّ والعمرة، وإذا خرج العاكفون والمصلّون عن المطاف، وأدّوا عبادتهم في موضع آخر من المسجد، زال الحرجُ والخللُ البتّة. * * * * _________ (1) أخرجه مسلم (1218) ضمن حديث جابر الطويل. (2) ط: "فيه"، والتصويب من المخطوطة.

(16/441)


منذ بعث الله تعالى نبيّنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يزل عدد المسلمين يزداد عامًا فعامًا، وبذلك يزداد الحُجّاج والعُمّار، ومع ذلك فقد توفّرت في هذا العصر أسبابٌ زاد لأجلها عدد الحجّاج والعمّار زيادةً عظيمة. منها: حدوث وسائط النقل الأمينة السريعة المريحة. ومنها: الأمن والرّخاء الّلذان لا عهدَ لهذه البلاد بهما، ولذلك زاد عدد السّكان والمقيمين زيادةً لا عهدَ بها. ومنها: الأعمال العظيمة التي قامت وتقوم بها الحكومة السعودية لمصلحة الحجّاج، بما فيها تعبيد الطُّرق، وتوفير وسائط النقل، والعمارات المريحة، كمدينة الحُجّاج بجُدّة، والمظلاّت بمنًى ومزدلفة وعرفة، وتوفير المياه، وكلّ ما يحتاج إليه الحجّاج في كلّ مكان، وإقامة المستشفيات العديدة، والمَحْجَر الصحي الذي قضت به الحكومة السعودية على ما كانت بعض الدول تتعلّل به لمنع رعاياها عن الحجّ أو تصعيبه عليهم، والعمارة العظمى للمسجد النبوي، والتوسعة الكبرى الجارية الآن (1) للمسجد الحرام، وغيرُ ذلك ممّا زاد في رغبة المسلمين من جميع البلاد في الحجّ. فزاد عدد الحجّاج في السنين الماضية، ويُنتظَر استمرار الزيادة عامًا فعامًا، لذلك أصبح المسجد ــ على سعته ــ يضيق بالمصلّين في كثيرٍ من أيّام الجُمَع في غير موسم الحجّ، فما الظنُّ به فيه؟ فوفّق الله تعالى جلالة الملك المعظّم سعود بن عبد العزيز ــ أطال الله عمره في صالح الأعمال ــ لتوسعته، والعمل فيه جارٍ. _________ (1) محرم سنة 1378 هـ[المؤلف].

(16/442)


وأشدُّ ما يقع الزّحام في الموسم: في المطاف، وتنشأ عن ذلك مضارُّ تلحقُ الأقوياءَ، فضلاً عن الضعفاء والنساء، ويقع الخلل في هذه العبادة الشريفة ــ وهي الطواف ــ؛ لزوال ما يُطلَب فيه من الخشوع والخضوع والتذلُّل، وصدق التوجّه إلى الله عزّ وجل؛ إذ يهتمُّ كلُّ من وقع في الزّحام بنفسه. وقد يكون مع الرجل القويّ ــ أو الرجلين ــ ضعيفٌ أو امرأة أو أكثر فيحاول القويّ أن يدفع الزّحام عن نفسه وعمّن معه، فيدفع من بجنبه وأمامه ليشقّ له ولمن معه طريقًا على أيّ حالٍ، فيؤذي بعضهم بعضًا، وربّما وقع النزاع والخصام والضرب والشتم، ويقع زحام الرّجال للنساء، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" (1)، وقد رأينا من النّاس من يُسِيء بغيره الظنّ، وربّما أدّى ذلك إلى الإيذاء بالدّفع والشّتم، وربّما بالضرب. ومن المعلوم أنّ صحة الطواف لا تتوقّف على أدائه في المطاف، وإنّما شرطه أن يكون في المسجد، لكن جرى العمل على أن يكون في المطاف، ولو مع الزّحام؛ لأسباب: منها: أنّ خارج المطاف غير مهيّأ للطواف فيه بغير حرج. ومنها: أنّ غير الطائفين يقفون ويجلسون ويسلُكون وراءَ المطاف وعند زمزم، فيشقُّ على الطائفين تخلُّل تلك الجموع. ومنها: أنّ من أهل العلم من يشترط لصحّة الطواف في المسجد أن لا _________ (1) أخرجه البخاري (2038، 2039) ومسلم (2175) من حديث صفية بنت حُيي.

(16/443)


يحول بين الطّائف والكعبة بناءٌ ونحوه، وممّن ذكر ذلك صاحب "الفروع" (ج 2 ص 390) (1). وإزالة هذه العوائق إنّما تتمّ بتوسعة المطاف. فلم يكن بُدٌّ من توسعة المطاف، والعمل بذلك جارٍ، ولله الحمد. إنّ أضيق موضعٍ في المطاف هو ما بين المقام والبيت، ويزداد ضِيقُه بالنّاس شدّة؛ لقربه من الحجر الأسود والمُلتزم، حيث يقف جماعةٌ كثيرة للاستلام والالتزام والدعاء. وإذا كانت توسعة المطاف مشروعةً، فتوسعة ذلك الموضع مشروعةٌ، وما لا يتمُّ المشروع إلاّ به ــ ولا مانعَ منه ــ فهو مشروع. يرى بعضُ أهل العلم أنّ هذا منطبقٌ على تأخير المقام، وأنّ التوسعة المطلوبة لا تتمّ إلاّ به. فأمّا ما يقوله بعضهم من إمكان طريقة أُخرى لتوسعة المطاف في تلك الجهة أيضًا مع بقاء "المقام" في موضعه، وذلك بأن يُحدّد موضعٌ يكفي المصلّين خلفَه، ويُوسّعَ المطافُ من وراء ذلك توسعةً يكون مجموع عرضها وعرض ما بين المقام والبيت مُساويًا لعرض المطاف بتوسعته في بقيّة الجهات، فإذا كثُر الطائفون سلك بعضُهم أمام المقام كالعادة، وسلك بعضُهم في التوسعة التي خلفه، وخلف موضع المُصلّين فيه= ففي هذه الطريقة خلَلٌ من أوجهٍ: الأوّل: أنّها مخالفةٌ لعمل مَن عملُهُ حُجّة؛ فإنّ موضع المقام في الأصل _________ (1) (6/ 37) ط. مؤسسة الرسالة.

(16/444)


بلصق الكعبة، وسيأتي إثباته. فلمّا كَثُر النّاس في عهد عمر رضي الله عنه، وصار بقاءُ المقام بجنب الكعبة ــ ويصلّي الناس خلفَه ــ مظنّةَ تضييقِ المطاف على الطائفين= أخّرهُ ليبقى ما أمامه للطائفين مُتّسعًا لهم، ويخلو ما وراءه للمصلين، وأقرّه سائر الصحابة رضي الله عنهم، فكان إجماعًا، وهو حُجّة. وقيل: إنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - هو الّذي أخّرَ المقامَ للعلّة نفسِها. وأيًّا ما كان فهو حجّة، وكان ممكنًا حينئذٍ أن يبقى المقامُ بجنب الكعبة، ويُحْجَر لمن يصلّي خلفَه موضعٌ يطوف الطائفون من ورائه، ويُوسَّع لهم المطاف من خلف. وهذا نظير الطريقة الأخرى التي يشير بها بعضهم الآن، وأبعد منها عن الخلل، وقد أعرض عنها مَن عمله حُجّة، واختار تأخير المقام عن موضعه الأصليّ. وإذا كانت الحالُ الآنَ كالحال حينئذٍ، فالذي ينبغي هو الاقتداء بالحجّة، وتأخير المقام. وإذا ساغ لهذه العلّة تأخيره عن موضعه الأصليّ؛ فلَأن يَسُوغ لأجلها تأخيرُه عن موضعه الثاني أولى. الثاني: أنّ تلك الطريقة لا تفي بالمقصود؛ لأنّ حاصلها أن يكون للمطاف في ذاك الموضع فرعٌ يسلك وراء المقامِ وموضعِ المصلِّين فيه. وهذا مظنّة أن يَحرِص أكثر الطائفين على أن يسلكوا أمام المقام كالعادة، واختصارًا للمسافة، ويَحرِص على ذلك المطوّفون، وخلف

(16/445)


المطوّف جماعةٌ لا يجدون بُدًّا من متابعته، فيبقى الزّحام قريبًا ممّا كان. الثالث: أنّه إن أُحيط موضعُ المصلين خلفَ المقام بحاجز شقَّ الدّخولُ إليه والخروجُ منه، وإن لم يُحجَز كان مظنّة أن يسلكه بعض الطائفين اختصارًا للمسافة، فيقع الخلل في العبادتين. وإنّما كان يمنعهم من ذلك فيما مضى ــ مع بُعد المسافة ــ: توهُّمهم أنّ الطواف لا يصحّ إلا في المطاف. وسيزول هذا الوهم عند توسعة المطاف من خلفه. وبقيت أوجهٌ أُخرى؛ كتقديم حقّ المصلين على حق بعض الطائفين، وتطويل المسافة عليهم، واحتمال أن يضيق الموضع الذي يُخصَّص للمصلين خلف المقام؛ لأنّهم يكثرون في بعض الأوقات، ويَحرِص كثيرٌ منهم على المُكْث هناك للدعاء وغير ذلك. وبالجملة فلا ريب أنّه إذا تحقّقت العلّة، ولم يكن هناك مانعٌ من تأخير المقام؛ فتأخيره هو الطريقة المُثلى. هل هناك مانعٌ؟ يُبدي بعض الفضلاء مُعارضاتٍ، يرى أنّها تشتمل على موانعَ، وسأذكرها مع ما لها وما عليها، وأسأل الله التوفيق: المعارضة الأولى: يقول بعض الناس: ذكر جماعةٌ من المفسّرين ما يدلُّ على أنّ المقام ليس هو الحجر فقط، بل هو الحجر والبقعة التي هو فيها الآن، وتأخير

(16/446)


البقعة غير ممكن، فإذا نُقِلَ الحجر عنها، فإمّا أن يفوتَ العملُ بالآية، وإمّا أن يبقى الحكم للبقعة؛ لأنّها موضع الصلاة. وأقول: إنّ النّظر في هذا يقتضي بسطَ ما يتعلّق بالمقام، وسأشرح ذلك في فصولٍ:

(16/447)


الفصل الأول ما هو المقام؟ عامّة ما ورد فيه ذكر المقام من الأحاديث والآثار وكلام السّلف والأئمة ــ ويأتي كثيرٌ منها ــ يُبيّن أنّ "مقام إبراهيم" الذي في المسجد هو الحجر المعروف، غير أنّ بعض من رُوي عنه هذا رُوي عنه تفسير المقام في الآية بأنّه الحجُّ كلُّه، أو المشاعر. وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يبيِّن عدم الخلاف (1)، وأنّ من قال: "الحجّ كلُّه" أو "المشاعر" إنّما أراد أنّ الآية كما تنصُّ على شَرْعِ الصلاة إلى هذا الحجر الذي قام عليه إبراهيم لعبادة ربّه عزّ وجلّ ــ كما يأتي ــ، فهي تدلُّ على شرع العبادة في كل موضعٍ قام فيه إبراهيم للعبادة، على ما بيَّنه الشرع، وذلك هو الحجّ والمشاعر، ولهذا جاء عنهم في تفسير كلمة {مُصَلًّى} قولان (2): الأوّل: قِبْلَة؛ يُصلّون خلفه، أو يُصلّون عنده. الثاني: مَدْعىً. فالأوّل بالنسبة إلى الحجر. والثاني ــ كما أفاده ابن جرير ــ (3) بالنسبة إلى المشاعر؛ لأنّ الدعاء _________ (1) فقد روى الطبرى في "تفسيره" (2/ 525، 526) عنه عدة روايات. (2) انظر "تفسير الطبري" (2/ 529). (3) "تفسيره" (2/ 530).

(16/448)


مشروعٌ عندها كلّها، بل يجمع العبادات المختلفة المشروعة فيها؛ إذ المطلوب بتلك العبادات هو ما يُطلَب بالدعاء من رضوان الله ومغفرته، وخير الدنيا والآخرة، فالدُّعاء عبادةٌ، والعبادة دعاءٌ. فأمّا ما ذُكِرَ في المعارضة عن (1) بعض المفسرين؛ فأوّلهم ــ فيما أعلم ــ الزّمخشري، وتبعه بعض من بعده. والزَّمخشري ــ على حسن معرفته بالعربية ــ قليل الحظِّ من السنّة، ورأى أنّه لا يكون الحجر مصلّى على الحقيقة إلاّ إذا كانت الصلاة عليه، وذلك غير مشروع ولا ممكن؛ لأنّه يصغر عن ذلك. ولو وُفِّقَ الزمخشري للصواب لجعل هذا قرينةً على أنّ المراد بكلمة {مُصَلًّى} قِبلة، كما قاله السلف، أي: يُصلَّى إليه؛ كما بيّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعمل به أصحابه فمن بعدهم. ومن العلاقات المعتبرة في المجاز: المُجاورة، وهي ثابتةٌ هنا؛ فإنّ الصلاة إذا وقعت إلى الحجر فهي بجواره. ووجهٌ آخر: وهو أن تكون كلمة {مُصَلًّى} اسمَ مفعول، والأصل: "مصلّى إليه"، حُذِفَ حرف الجرّ، فاتصل الضمير واستتر، كما يقوله ابن جنّي في "مُزَمَّل" من قول امرئ القيس (2): كأنّ أبانًا في عَرانينِ وَبْلِه ... كبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزمَّل _________ (1) ط: "من". والمثبت من المخطوطة. (2) في المعلقة. انظر "ديوانه" (ص 25). ط. دار المعارف.

(16/449)


أنّ الأصل "مُزَمَّل به" فحذفَ حرف الجرّ، فاتصل الضميرُ واستتر (1). والنُّكتة على الوجهين هي ــ والله أعلم ــ: التنبيهُ على أنّ المزيّة للحجر لقيام إبراهيم عليه للعبادة، والمشروعُ لهذه الأمّة التأسّي به. والقيام على الحجر لمثل عبادة إبراهيم لا يمكن إلاّ نادرًا، فعُوّض عنه بما يمكن دائمًا، وهو القيام للصلاة، وهو يصغر عن الصلاة عليه، ودفنُه ــ ليتسع مع بعض ما حوله للصلاة ــ يؤدي إلى اندثاره. ولماذا التكلُّف؟ وإنّما المقصود: أن يكون للقيام في الصلاة تعلُّقٌ به، فشُرِعَت الصلاة إليه. وعبارة الزمخشري (2): "مقام إبراهيم: الحَجر الذي فيه أثر قدميه، والموضع الذي كان فيه الحَجر حين وضع عليه قدميه". ويُبطِل هذا القولَ ــ مع ما تقدّم ــ أنّ المذكور في الآية مقامٌ واحدٌ لا مقامان، وأنّ وضع الرِّجْل على الحجر بدون قيام حقيقيٍّ لا يكفي لأن يُطلَق عليه كلمة "مقام" على الحقيقة، وأنّ الذي كان من إبراهيم على الحجر فسُمّي لأجله "مقام إبراهيم" قيامٌ حقيقي، لا وضعُ رِجْلٍ فقط، وأنّ الموضع الذي قام فيه على الحَجَر ليس هو موضعه الآن، وأنّ المقام كان أولاً بلصق الكعبة، وكان الحكم معه، ثم حُوِّل إلى موضعه الآن، فتحوَّل الحكم معه. وسيأتي إثبات هذا كلّه في الفصول الآتية إن شاء الله تعالى. * * * * _________ (1) انظر "الخصائص" (3/ 221، 1/ 193). وفيه: "مزمَّل فيه". (2) في "الكشاف" (1/ 93) ط. دار المعرفة.

(16/450)


الفصل الثاني لماذا سُمّي "الحَجر" مقامَ إبراهيم؟ أعلى ما جاء في هذا: ما أخرجه البخاري (1) وغيره من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في خبر مجيء إبراهيم بإسماعيل عليهما السلام وأمّه إلى مكة، وما جرى بعد ذلك، وفيه في ذكر بناء البيت: "حتّى إذا ارتفع البناءُ جاء بهذا الحَجر، فوضعه له، فقام عليه وهو يَبني". وفي روايةٍ أُخرى (2): "حتّى إذا ارتفع وضَعُفَ الشيخ عن نقل الحجارة، فقام على المقام". وعند ابن جريرٍ (3) بسند صحيح يُلاقي سندَ البخاري الثاني: "فلمّا ارتفع البناء وضعُفَ الشيخ عن نقل الحجارة قام على حَجرٍ، فهو المقام". وفي "فتح الباري" (4): أنّ الفاكهيّ أخرج نحو هذه القصّة من حديث عثمان، وفيه: "فكان إبراهيم يقوم على المقام يبني عليه، ويرفعه له إسماعيل، فلمّا بلغ الموضع الذي فيه الركن وضعه ــ يعني الحَجر الأسود ــ موضعه، وأخذ المقام فجعله لاصقًا بالبيت ... ثم قام إبراهيم على المقام، فقال: يا أيها الناس! أجيبوا ربّكم". _________ (1) رقم (3364). (2) عند البخاري (3365). وقد سقطت هذه الفقرة من النسخة المطبوعة مع "الفتح" الطبعة السلفية الأولى. (3) في "تفسيره" (2/ 560) و"تاريخه" (1/ 259، 260). (4) (6/ 406).

(16/451)


قال في "الفتح" (1): "روى الفاكهيُّ بإسنادٍ صحيح من طريق مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قام إبراهيم على الحَجَر، فقال: يا أيها النّاس! أجيبوا ربّكم". وفي أوّل الخبر عند البخاري (2) عن كثير بن كثير قال: "إنّي وعثمان بن أبي سليمان جلوسٌ مع سعيد بن جبير، فقال: ما هكذا حدّثني ابن عباس، ولكنّه قال". وفي "فتح الباري" (ج 6 ص 283) (3) بيانُ ما نفاه سعيد بن جبير، ذكر ذلك عن رواية الفاكهيّ والأزرقيّ وغيرهما. وفيه: أنّهم سألوا سعيد بن جبير عن أشياء، قال: "قال رجلٌ: أحقٌّ ما سمعنا في المقام ــ مقام إبراهيم ــ أنّ إبراهيم حين جاء من الشام حلف لامرأته أن لا ينزل بمكّة حتّى يرجع، فقرَّبتْ إليه امرأةُ إسماعيل المقام، فوضع رجله عليه حتّى لا ينزل؟ فقال سعيد بن جبير: ليس هكذا ... ". والخبرُ ــ وفيه قريبٌ من هذا ــ عند الأزرقيّ (ج 2 ص 24) (4) وفي آخره: "فلمّا ارتفع البُنيان وشقَّ على الشيخ تناولُهُ؛ قرّب له إسماعيل هذا الحَجَر، فكان يقوم عليه ويبني، ويُحوِّلُهُ في نواحي البيت حتّى انتهى إلى وجه البيت. يقول ابن عباس: فذلك مقام إبراهيم عليه السلام، وقيامه عليه". _________ (1) (6/ 406). (2) رقم (3363). (3) (6/ 400) ط. السلفية. (4) (2/ 32) ط. رشدي ملحس.

(16/452)


وقصّة مجيء إبراهيم ولقائه امرأة إسماعيل قد ذكرها ابن عباس (1)، وليس فيها ما يُحكى من وضع رجله على الحَجر. وكان مجيئه ذلك قبل بناء البيت. فهبْ أنّه ثبت وضعُه رجلَه على الحَجر وهو على دابّته، فليس هذا بقيام على الحَجر، ولا هو في عبادة، فلا يناسب مزيّةً للحَجَر، وإنّما القيام الحقيقيّ على الحَجر الذي يُناسب مزيّةً له: هو ما وقع بعد ذلك من قيامه عليه لبناء الكعبة، ثمّ للأذان بالحجّ. فهذا هو الثابت في وجه تسمية الحَجَر "مقامَ إبراهيم". * * * * _________ (1) أخرجها البخاري (3364) عنه.

(16/453)


الفصل الثالث أين وضع إبراهيم المقامَ أخيرًا؟ تقدّم في الفصل السّابق من حديث عثمان رضي الله عنه: "فجعله لاصقًا بالبيت". ومن حديث ابن عبّاس: "فكان يقوم عليه ويبني، ويُحوِّلُهُ في نواحي البيت حتى انتهى إلى وجه البيت". وقد ظهر أنّ منشأ مزيّته وحصول الآية فيه ــ وهي أثرُ قدمَيْ إبراهيم ــ هو قيامه عليه لبناء البيت. فالظاهر أن يكون إبراهيم أبقاه إلى جانب البيت في ذلك الموضع الظاهر ــ وهو عن يَمْنة الباب ــ لتُشاهَد الآية، ويُعرَف تعلُّقه بالبيت. وجاء عن بعض الصحابة ــ وهو نوفل بن معاوية الدّيليّ رضي الله عنه أنّه رآه في عهد عبد المطلب ملصقًا بالبيت (1). وسنده ضعيف. ويأتي بيان أنّ ذلك في الموضع المسامت له الآن. وإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - له هناك، يصلي هو وأصحابه خلفه بدون بيان أنّ له موضعًا آخر: يدلُّ على أنّ ذلك هو موضعه الأصليّ. ولم أجد ما يخالف هذا من السنّة والآثار الثابتة عن الصحابة، ولا ما هو صريحٌ في خلافه من أقوال التابعين. إلاّ أنّ المحبّ الطبري قال في "القِرى" (ص 309): قال مالك في _________ (1) أخرجه الفاكهي (1/ 442) والأزرقي (2/ 30).

(16/454)


"المدونة": كان المقام في عهد إبراهيم عليه السلام في مكانه اليوم، وكان أهل الجاهلية ألصقوه إلى البيت خيفة السّيل، فكان ذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر رضي الله عنه، فلمّا ولي عمر رضي الله عنه ردّه بعد أن قاس موضعه بخيوط قديمة قِيسَ بها، حتّى أخَّروه، وعمر هو الذي نصب معالم الحرم بعد أن بحث عن ذلك". هذا آخر كلامه في "المدونة" فيما نقله صاحب "التهذيب مختصر المدونة". ولم أجد أصل ذلك الكلام في مظنّته من "المدونة" المطبوعة. ثم قال المحبُّ: "وقال الفقيه سَنَد بن عنان المالكي في كتابه المترجم بـ "الطّراز" ــ وهو شرحٌ لـ "المدونة" ــ: وروى أشهب عن مالك قال: سمعتُ من يقول من أهل العلم: إنّ إبراهيم عليه السلام أقام هذا المقام، وقد كان ملصقًا بالبيت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر رضي الله عنه وقبل ذلك، وإنّما أُلصِقَ إليه لمكان السيل؛ مخافة أن يذهب به، فلمّا ولي عمر رضي الله عنه أخرج خيوطًا كانت في خزانة الكعبة، وقد كانوا قاسوا بها ما بين موضعه وبين البيت في الجاهلية، إذ قدّموه مخافة السيل، فقاسه عمر، وأخّره إلى موضعه اليوم، قال مالك: والذي حمل عمر ... ". إنّ بين سند بن عنان وبين أشهب نحو ثلاث مائة سنة. فإن صحَّ عن مالك فهذا الذي أخبره بالحكاية لم يذكر مستنده، ولا أحسبه استند إلَّا إلى حكاية مجملة وقعت له عن تحويل عمر رضي الله عنه للمقام، وما جرى بعد ذلك، فقال ما قال. وسيأتي ــ إن شاء الله ــ تحقيق تلك القضية بما يتّضح به أن ليس فيها دلالةٌ على ما ذكر.

(16/455)


وعلى كلّ حال؛ فهذه الحكاية المنقطعة لا تصلح لمقاومة ما تقدم من الأدلة، والله المستعان. فالذي تعطيه الأدلة: أنّ إبراهيم عليه السلام وضع المقام عند جدار الكعبة في الموضع المسامت له الآن. * * * *

(16/456)


الفصل الرابع أين كان موضعه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ في هذا ثلاثة أقوال: الأوّل: أنّه كان في موضعه الذي هو به الآن. والأدلة الصحيحة الواضحة تردّ هذا القول، كما يأتي في القول الثالث. ولكنّي أذكر ما جاء في هذا، مع النظر فيه؛ ليعرف: أخرج الأزرقيّ (1) عن ابن أبي مُليكة قال: "موضع المقام هذا الذي هو به اليوم هو موضعه في الجاهلية، وفي عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، إلاّ أنّ السيل ذهب به في خلافة عمر رضي الله عنه، فجُعِلَ في وجه الكعبة حتى قدم عمر، فردّه بمحضرٍ من الناس". سند الأزرقي رجاله ثقات، وابن أبي مُليكة من ثقات التابعين، لكنّ الأزرقيّ نفسه لم يوثّقه أحدٌ من أئمة الجرح والتعديل، ولم يذكره البخاري، ولا ابن أبي حاتم، بل قال الفاسيّ في ترجمته من "العقد الثمين" (2): "لم أر من ترجمه". فهو ــ على قاعدة أئمة الحديث ــ مجهول الحال، وقد تفرّد بهذه الحكاية، والله أعلم. _________ (1) "أخبار مكة" (2/ 35). (2) (2/ 49).

(16/457)


وقال الأزرقيّ (1) أيضًا: حدّثني جدّي، حدّثنا داود بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن كثير بن كثير بن المطلّب بن أبي وَداعة السَّهميّ عن أبيه عن جدّه قال: "كانت السيولُ تدخل المسجدَ الحرام ... ربّما دفعت المقام عن (2) موضعه، وربّما نَحَّتْه إلى وجه الكعبة، حتى جاء سيلٌ في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُقال له: سيل أمّ نَهْشل .. فاحتمل المقام من موضعه، فذهب به، حتّى وُجدَ بأسفل مكة، فأُتي به، فرُبطَ إلى أستار الكعبة في وجهها، وكُتب في ذلك إلى عمر رضي الله عنه، فأقبل عمر رضي الله عنه فَزِعًا، فدخل بعمرة في شهر رمضان، وقد غُمّي موضعُهُ وعفّاه السيل، فدعا عمر بالنّاس، فقال: أَنشُد الله عبدًا عنده علم في هذا المقام، فقال المطَّلب بن أبي وَداعة السّهمي: أنا يا أمير المؤمنين عندي ذلك، فقد كنت أخشى عليه هذا، فأخذتُ قَدْرَه من موضعه إلى الركن، ومن موضعه إلى باب الحِجْر، ومن موضعه إلى زمزم بمِقَاطٍ (3)، وهو عندي في البيت، فقال له عمر: فاجلسْ عندي. وأرسِلْ إليها، فأُتي بها، فمدّها، فوجدها مستويةً إلى موضعه هذا، فسأل النّاس وشاورهم، فقالوا: نعم هذا موضعه، فلمّا استثبت ذلك عمر رضي الله عنه وحُقَّ عنده أمر به، فأعلم ببناء رَبَضِه تحت المقام ثم حوّله، فهو في مكانه هذا إلى اليوم". جدُّ الأزرقي وداود وابن جريج وكثير بن كثير: ثقاتٌ، لكن له عدّة علل: الأولى: حال الأزرقي كما مرّ. _________ (1) "أخبار مكة" (2/ 33). (2) في المطبوعة: "من"، والتصويب من المخطوط وكتاب الأزرقي. (3) المقاط: الحبل الصغير الشديد الفتل يكاد يقوم من شدة فتله.

(16/458)


الثانية: أنّ ابن جريج ــ على إمامته ــ مشهورٌ بالتدليس، ولم يُصرّح هنا بالسماع من كثير بن كثير. الثالثة: أنّه قد صحّ عن ابن جريج قولُه: "سمعت عطاء وغيره من أصحابنا ... " فذكر ما سيأتي في القول الثالث، على وجهٍ يُشعِر باعتماده له. الرابعة: أنّ كثير بن المطلب مجهول الحال (1)، ولا يُخرِجه عن ذلك ذِكْرُ ابن حبان له في "الثقات" على قاعدته التي لا يوافقه عليها الجمهور. وقد روى ابن جريج عن كثير بن كثير عن أبيه عن جدّه حديثًا، فذكر ابن عيينة أنّه سأل كثير بن كثير عنه، فقال: ليس من أبي سمعتُه، ولكن من بعض أهلي عن جدّي (2). وروى غير ابن عيينة عن ابن جريج عن كثير بن كثير عن أبيه عن جده حديثًا قريبًا من الأوّل، ولعلّه هو. راجع "المسند" (ج 6 ص 399) (3). فإن كان حديثًا واحدًا فليس لكثير بن المطلب في الكتب الستّة و"المسند" شيء. نعم أخرج ابن حبّان في "صحيحه" (4) الحديث الثاني من طريق الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن كثير بن كثير. وفيه ما يقتضي أنّه _________ (1) انظر "تهذيب التهذيب" (8/ 429) و"الثقات" (5/ 331). (2) انظر "مسند أحمد" (27243) و"سنن أبي داود" (2016) و"معاني الآثار" للطحاوي (1/ 461) و"مشكل الآثار" (2608) و"السنن الكبرى" للبيهقي (2/ 273). (3) رقم (27244). (4) رقم (2364).

(16/459)


حديثٌ آخر، لكنّ الوليد شاميّ، ورواية أهل الشام عن زهير أنكرها الأئمة؛ لأنّ زهيرًا حدّثهم من حفظه، فغلط وخلّط (1). الخامسة: أنّه لمّا جرى ذكر المطَّلب في القصة ذُكِر بما ظاهره أنّ المُخبِر غيرُه: "فقال له المطلب بن أبي وداعة السهميّ ... فقال له عمر ... ". وهذا يَرِيب في قوله في السند: "عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السّهمي عن أبيه عن جده"؛ ويُشعِر بأنّ الحكاية منقطعة. وقال الأزرقي (2): حدثني ابن أبي عمر قال: حدثنا ابن عيينة عن حبيب بن أبي الأشرس قال: "كان سيلُ أمّ نهشل قبل أن يعمل عمر رضي الله عنه الرّدمَ بأعلى مكة، فاحتمل المقام من مكانه، فلم يُدْرَ أين موضعه، فلمّا قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل: من يعلم موضعه؟ فقال المطّلب بن أبي وداعة: أنا يا أمير المؤمنين! قد كنتُ قدّرتُه وذَرعتُه بمقاط ــ وتخوفتُ عليه هذا ــ من الحِجر إليه، ومن الركن إليه، ومن وجه الكعبة إليه، فقال: ائْتِ به، فجاء به، ووضعه في موضعه هذا، وعمِلَ عمرُ الردمَ عند ذلك". قال سفيان: فذلك الذي حدّثنا هشام بن عروة عن أبيه: "أنّ المقام كان عند سُقْع (3) البيت، فأمّا موضعه الذي هو موضعه: فموضعه الآن، وأمّا ما يقوله الناس: إنّه كان هنالك موضعه، فلا". _________ (1) انظر "تهذيب التهذيب" (3/ 349، 350). (2) "أخبار مكة" (2/ 35). (3) في كتاب الأزرقي: "سفع" وهو تصحيف. وفي المخطوطة: "صُقْع"، والسُّقع والصُّقع بمعنى الناحية. انظر "القاموس" (سقع).

(16/460)


قال سفيان: وقد ذكر عمرو بن دينار نحوًا من حديث ابن [أبي] (1) الأشرس هذا، لا أُميّز أحدهما عن صاحبه. الأزرقي قد تقدّم حاله. لكن قال الفاسيّ في "شفاء الغَرام" (ج 1 ص 206): وروى الفاكهيّ (2) عن عمرو بن دينار وسفيان بن عيينة مثل ما حكاه عنهما الأزرقيّ بالمعنى. أقول: ليته ساق خبر الفاكهيّ؛ فإنّ الفاكهيَّ وإن كان كالأزرقيّ في أنّه لم يوثّقه أحدٌ من المتقدمين ولا ذكره، فقد أثنى عليه الفاسيّ في ترجمته من "العقد الثمين" (3)، ونزّهه عن أن يكون مجروحًا، وفضّل كتابه على كتاب الأزرقي تفضيلاً بالغًا، ومع هذا فالأخبارالتي يتفقان في الجملة على روايتها نجد الفاسيّ ومِن قبلِه المحب الطبري يُعنَيانِ غالبًا بنقل رواية الأزرقيّ، ويسكتان عن رواية الفاكهي، أو يشيران إليها إشارة فقط. وأحسب الحامل لهما على ذلك حسن سياق الأزرقي. وقد قيل لشعبة رحمه الله: مالك لا تحدّث عن عبد الملك بن أبي سليمان، وقد كان حسن الحديث؟ قال: مِنْ حُسْنها فررتُ (4). ويَرِيبني من الأزرقي حسنُ سياقه للحكايات وإشباعُه القولَ فيها، ومثل ذلك قليلٌ فيما يصح عن الصحابة والتابعين. _________ (1) الزيادة من الأزرقي. وهو حبيب بن أبي الأشرس كما سبق. (2) في "أخبار مكة" (1/ 456). (3) (1/ 411). (4) انظر "تهذيب التهذيب" (6/ 397).

(16/461)


ويَرِيبني أيضًا منه تحمُّسُه لهذا القول؛ فقد روى (ج 2 ص 23) (1) عن ابن أبي عمر بسندٍ واهٍ إلى أبي سعيد الخدري، أنّه سأل عبدا لله بن سلام عن الأثر الذي في المقام، فقال: "كانت الحجارة ... وذكر الخبر، وفيه في ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - : "فصلّى إلى الميزاب وهو بالمدينة، ثمّ قدم مكة، فكان يصلي إلى المقام ما كان بمكة". وقد روى الفاكهي (2) هذا الخبر كما ذكره الفاسيّ في "شفاء الغرام" (ج 1 ص 206)، ولم يَسُقْ الفاسيّ سنده ولا متنه بتمامه، إنّما ذكر قطعة منه، هي بلفظها في رواية الأزرقي. ثم قال: "وفيه أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم مكة من المدينة، فكان يصلّي إلى المقام، وهو مُلْصَقٌ بالبيت، حتّى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". أسقط الأزرقيّ في روايته قوله: "وهو ملصق بالبيت حتّى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، وجعل موضعها: "ما كان بمكة". وقال في (ج 2 ص 27) (3): حدّثني محمد بن يحيى قال: حدّثنا سُليم بن مسلم عن ابن جريج عن محمد بن عبّاد بن جعفر عن عبدا لله بن صفوان قال: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عبد الله بن السائب العابديّ ــ وعمر نازلٌ بمكة في دار ابن سباع ــ بتحويل المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم، قال: فحوَّلَه ثم صلّى المغرب، وكان عمر قد اشتكى رأسه، قال _________ (1) (2/ 30) ط. رشدي ملحس. (2) في "أخبار مكة" (1/ 442). وفي إسناده شيخ الفاكهي: عبد الله بن شبيب الربعي، أخباري ضعيف. انظر "لسان الميزان" (4/ 499). (3) (2/ 35).

(16/462)


[عبد الله بن السائب] (1): فلمّا صليتُ ركعةً جاء عمر فصلّى ورائي، قال: فلمّا قضى صلاته، قال عمر: أحسنتَ، فكنتُ أوّل من صلّى خلف المقام حين حُوّل إلى موضعه". عبد الله بن السائب القائل. ولم تَرُقْ الأزرقيَّ كلمةُ "حُوّل" فعقّبه بقوله: "حدثني جدّي قال: حدثنا سليم بن مسلم عن ابن جريج عن محمد بن عبّاد بن جعفر عن عبد الله بن السائب ــ وكان يصلّي بأهل مكة ــ فقال: "أنا أوّل من صلّى خلف المقام حين رُدّ في موضعه هذا ... ". هذا؛ وأمّا بقية السند بعد الأزرقيّ: فشيخه ابن أبي عمر سيأتي. وسفيان بن عيينة إمام. وحبيب بن أبي الأشرس ضعيف، راجع ترجمته في "الميزان" و "لسانه" (2). وعمرو بن دينار ثقةٌ جليل، لكن لا يُدرَى ما قال. نعم يستفاد إجمالاً أنّه قد ذكر ما يتعلّق بالتقدير. فأمّا ما ذكر في هذه الرواية من رأي ابن عيينة فقد ثبت عنه (3) ما يناقضه برواية ابن أبي حاتم الرازي وهو إمام، عن أبيه، وهو من كبار الأئمة المتثبتين، عن ابن أبي عمر شيخ الأزرقي، عن ابن عيينة نفسه. وسيأتي. وأبو حاتم هو القائل في ابن أبي عمر هذا ــ شيخه وشيخ للأزرقي ــ: "كان شيخًا صالحًا، وكان به غفلة، رأيت عنده حديثًا موضوعًا حدّث به عن _________ (1) هذه الزيادة من المؤلف على نصّ الأزرقي، لتوضيح القائل. (2) "الميزان" (1/ 450، 454) و"اللسان" (2/ 544). (3) "عنه" ساقطة من المطبوع. وهي مثبتة في المخطوط.

(16/463)


ابن عيينة، وكان صدوقًا" (1). أقول: ابن أبي عمر ثقةٌ فيما يرويه عنه أبو حاتم ومسلم ونحوهما من المتثبتين؛ لأنّهم يحتاطون وينظرون في أصوله، وإنّما تخشى غفلته فيما يرويه عنه من دونهم، ولاسيَّما أمثال الأزرقيّ. القول الثاني: قال بعضهم: كان المقام لاصقًا بالكعبة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتّى أخّره هو - صلى الله عليه وسلم - إلى موضعه الآن. ذكر ابن كثير (2) أنّ ابن مردويه روى بسنده إلى شريك عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله! لو صلينا خلف المقام؟ فأنزل الله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} فكان المقام عند البيت، فحوّله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا". أشار ابن كثير إلى ضعفه. وقال ابن حجر في "الفتح" (ج 8 ص 29) (3): أخرج ابن مردويه بسند ضعيف، فذكره. أقول: شريكٌ من النبلاء، إلاّ أنّه يخطئ كثيرًا ويدلِّس (4). وإبراهيم بن _________ (1) انظر "الجرح والتعديل" (8/ 124) و"تهذيب التهذيب" (9/ 519). (2) في "تفسيره" (1/ 612، 613). (3) (8/ 169) ط. السلفية. (4) انظر "تهذيب التهذيب" (4/ 335، 337).

(16/464)


مهاجر صدوقٌ كثير الخطأ، يحدّث بما لا يحفظ فيغلَط (1). وقد صحّ عن مجاهد أنّ عمر هو الذي حوّل المقام، كما سيأتي. وفي "شفاء الغرام" (ج 1 ص 206): "ذكر موسى بن عقبة في مغازيه ... قال موسى بن عقبة ... : وكان ــ زعموا ــ أنّ المقام لاصقٌ في الكعبة، فأخّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكانه هذا". موسى بن عقبة ثقةٌ أدرك بعض الصحابة، لكن ذكروا أنّه تتّبع المغازي بعد كِبَر سنّه، فربّما يسمع ممّن هو دونه (2)، وقد قال: "زعموا". القول الثالث: قال آخرون: كان المقام في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده لاصقًا بالكعبة، حتى حوّله عمر رضي الله عنه. قال ابن كثير (3): قال عبد الرزاق عن ابن جريج حدثني عطاء وغيره من أصحابنا قالوا: "أول مَن نقله عمر بن الخطاب رضي الله عنه". وقال عبد الرزاق (4) أيضًا: عن معمر عن حميد الأعرج عن مجاهد قال: "أوّل من أخّر المقام إلى موضعه عمر بن الخطاب". _________ (1) "تهذيب التهذيب" (1/ 168). (2) انظر: المصدر السابق (10/ 361). (3) (1/ 612). وهو في "مصنف عبد الرزاق" (5/ 48). (4) "المصنف" (5/ 47، 48).

(16/465)


وقال ابن حجر في "الفتح" (ج 8 ص 129) (1): "كان المقام من عهد إبراهيم لِزْقَ البيت، إلى أن أخّره عمر رضي الله عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن". أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" بسند صحيح عن عطاء وغيره وعن مجاهد أيضًا. ونقل الفاسيّ (2) عن كتاب "الأوائل" لأبي عروبة ــ أراه الحرّاني حافظٌ ثقة ــ عن سلمة ــ أراه ابن شبيب ثقة ــ عن عبد الرزاق ... ، فذكر السندين اللذين ذكرهما ابن كثير، وقال في متن الأول: "إنّ عمر رضي الله عنه أوّلُ من رفع المقام، فوضعه في موضعه الآن، وإنّما كان في قُبُلِ الكعبة". وقال في الثاني: عن مجاهد قال: "كان المقام إلى جنب البيت، وكانوا يخافون عليه من السيول، وكان الناس يُصلُّون خلفه". قال الفاسي: انتهى باختصار؛ لقصة ردّ عمر للمقام إلى موضعه الآن، وما كان بينه وبين المطّلب بن أبي وداعة السهميّ في موضعه الذي حرّره المطّلب. فلا أدري: أخبرٌ آخر هذا عن مجاهد؟ أم هو ذاك الخبر اختصره عبد الرزاق في "مصنفه"، وحدّث به سلمة من حفظه؟ أم ماذا؟ وعلى كلّ حال؛ فالذي نقل ابن كثير وابن حجر عن "مصنف عبد الرزاق" ثابتٌ، فيتعين حمل هذه الرواية على ما لا يخالفه. _________ (1) (8/ 169). (2) في "شفاء الغرام" (1/ 206).

(16/466)


وفي "الدُّرّ المنثور" (1): أخرج ابن سعد عن مجاهد قال: قال عمر بن الخطاب: "من له علمٌ بموضع المقام حيث كان؟ فقال أبووَدَاعة بن هُبيرة (2) السهمي: عندي يا أمير المؤمنين! قدَّرتُه إلى الباب، وقدرتُه إلى ركن الحجر، وقدرته إلى الرُّكن الأسود، وقدرته، فقال عمر: هاته، فأخذه عمر، فردّه إلى موضعه اليوم للمقدار الذي جاء به أبووداعة". لا أدري ما سنده، وبقيّة الروايات في هذا تذكر المُطّلب بن أبي وداعة، لا أبا وداعة نفسه. وقال ابن كثير (3): قال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي، أخبرنا ابن أبي عمر العدني، قال: قال سفيان ــ يعني ابن عيينة، وهو إمام المكّيين في زمانه ــ: "كان المقام من سُقْع البيت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فحوّله عمر إلى مكانه بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبعد نزول قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا، فردّه عمر إليه". وقال سفيان: "لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله". قال سفيان: "لا أدري: أكان لاصقًا بها أم لا؟ ". وقال ابن حجر في "الفتح" (ج 8 ص 129) (4): أخرج ابن أبي حاتم _________ (1) (1/ 629) ط. هجر. (2) كذا في الأصل. والصواب "ضُبَيرة" كما ضبطه الحافظ في "تبصير المنتبه" (3/ 831). (3) (1/ 612). والنص في "تفسير ابن أبي حاتم" (1/ 372). (4) (8/ 169).

(16/467)


بسندٍ صحيح عن ابن عيينة قال: "كان المقام في سُقع البيت في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحوّله عمر، فجاء سيلٌ فذهب به، فردّه عمر إليه"، قال سفيان: "لا أدري أكان لاصقًا بالبيت أم لا؟ ". هذا بغاية من الصحة عن سفيان بن عيينة؛ كما تقدم أواخرَ الكلام على القول الأول. تمحيص هذه الأقوال قد يُنتصر للأوّل بأنّ عمر رضي الله عنه لم يكن ليخالف النبي - صلى الله عليه وسلم -. وما معنى تقدير المطَّلب وتحرّي عمر؟ فالظاهر أنّ المقام لم يزل بموضعه اليوم، فقدّره المطّلب منه، فذهب به السيل، وطمس موضعه، فجُعل بجنب الكعبة حتى يقدم عمر، فقدم وتحرّى، وردّه حيث كان. وكأنّ هذه القضية بلغت بعضَ الناس مجملةً أنّه كان بجنب الكعبة، وأنّ عمر نقله إلى موضعه اليوم، فتوهّموا أنّه كان بجنب الكعبة منذ قديم، فراحوا يخبرون بذلك. ويُنتصَر للثاني بأنّ أولئك الأئمة لم يكونوا ليتوهموا بدون أصل، فلعلّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حوّل المقام أخيرًا، ولم يبلغهم ذلك، وثبت عندهم أنّه قد كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بجنب الكعبة، فاستصحبوا ذلك، والباقي كما مرّ. ويُنتصَر للثالث بأنّه قد يقع من عمر رضي الله عنه ما هو في الصورة مخالفة، وهو في الحقيقة موافقة بالنظر إلى مقاصد الشرع واختلاف الأحوال، وقد يخفى علينا وجه ذلك، ولكنّا نعلم أنّ الصحابة رضي الله عنهم

(16/468)


لا يُجمعون إلاّ على حقّ. وتقدير المطَّلب وتحرّي عمر ــ إن صحّ ــ فقد يخفَى علينا سببه. وإذا كان ذلك محتملاً؛ فليس لنا أن نجعل جهلنا به حجةً على توهيم أولئك الأئمة وهم هم، ومنهم عطاء وقَدمُه وفضلُ علمه بالمناسك، ومجاهد وقَدمُه وفضلُ علمه بالتفسير، ومالك وابن عيينة، وهما هما. ولم تكن قضية المطّلب لِتخفَى على أئمة مكة: عطاء ومجاهد وابن عيينة، بل قد ذكرها الأخيران فيما روي عنهما، والمخالف لهؤلاء ليس مثلَهم، ولا قريبًا منهم؛ فهو أحقُّ بالوهم. أقول: قد أغنانا الله ــ وله الحمد ــ عن هذا الضرب من الاحتجاج بثبوت النقل عمّن لا يمكن أن يُظنَّ به التوهم. أخرج البيهقي (1) من طريق أبي ثابت ــ وهو محمد بن عبيدالله المدني (2)، ثقة من شيوخ البخاري في "صحيحه" ــ عن الدراوردي عن هشام بن عروة عن أبيه (3) عن عائشة رضي الله عنها، أنّ المقام كان زمانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزمانَ أبي بكر رضي الله عنه ملتصقًا بالبيت، ثمّ أخَّره عمر رضي الله عنه". _________ (1) في "دلائل النبوة" (2/ 63). وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (1/ 629) إلى "سننه"، ولا يوجد فيه. (2) انظر "تهذيب التهذيب" (9/ 324). (3) "عن أبيه" ساقطة من المطبوع، وزيدت من مخطوطة المؤلف، وكذا في "الدلائل" و"تفسير ابن كثير".

(16/469)


ذكره ابن كثير في "تفسيره" (1) بسند البيهقي، ورجاله ثقات. وقال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح. وذكره ابن حجر في "الفتح" (2)، وقال: بسند قوي. وذكر الفاسي في "شفاء الغرام" (3): أنّ الفاكهيّ روى عن يعقوب بن حُمَيد بن كاسب قال: حدّثنا عبد العزيز بن محمد عن هشام بن عروة عن أبيه ــ قال عبد العزيز: أُراه عن عائشة ــ: "أنّ المقام كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى سُقع البيت". يعقوب بن حُميد متكلَّم فيه، ووثّقه بعضهم (4). والاعتماد على حديث أبي ثابت. وقال البخاري في "صحيحه" (5) في أبواب القبلة: باب في قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، ثمّ ذكر حديث ابن عمر (6) رضي الله عنهما لمّا سُئل عن رجلٍ طاف بالبيت للعمرة، ولم يَطُفْ بين الصفا والمروة، أيأتي امرأته؟ فقال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فطاف بالبيت سبعًا، وصلّى خلف المقام ركعتين، وطاف بين الصفا والمروة" الحديث. _________ (1) (1/ 612). (2) (8/ 169). (3) (1/ 207). والنصّ عن الفاكهي (1/ 455) والأزرقي (2/ 35). (4) انظر "تهذيب التهذيب" (11/ 383). (5) (1/ 499) مع "الفتح". (6) رقم (395).

(16/470)


ثم حديث ابن عمر (1) وحديث ابن عباس (2) رضي الله عنهم في دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - الكعبة. وفي الأوّل: "ثم خرج فصلّى في وجه الكعبة ركعتين". وفي الثاني: "فلمّا خرج ركع ركعتين في قُبُلِ الكعبة، وقال: "هذه القبلة". والقدوم الذي ذكره ابن عمر في حديثه الأول كان في عمرة؛ لأنّ ابن عمر أجاب به السائل عن العمرة، وأُراها عمرة القضية. وفي "المسند" (ج 4 ص 355) (3) من حديث ابن أبي أوفى: "اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فطاف بالبيت، وطفنا معه، وصلى خلف المقام وصلينا معه ... ". وسنده بغاية الصحة. وقد أخرجه البخاري مختصرًا في "باب عمرة القضية" من المغازي (4). وذكر ابن حجر (5) هناك مَنْ صرّح فيه بقوله: "في عمرة القضية"، وسياقه واضحٌ في ذلك. ولفظ "وجه الكعبة" ورد في عدة أخبارٍ تقدّمت. وفي "القِرَى" (ص 315) عن ابن عمر: "البيت كلُّه قبلة، قبلته وجهه". _________ (1) رقم (397). (2) رقم (398). (3) رقم (19131). (4) رقم (4255). (5) في "الفتح" (7/ 509).

(16/471)


نسبه إلى سعيد بن منصور. والمراد به في تلك الأخبار ــ كما يقضي به سياقُها ــ تارةً: جدارُها المقابل لموضع المقام الآن، وتارةً: ما بجانب هذا الجدار من المطاف. والأخبار التي أطلقته على هذا تُبيّن أنه ليس منه موضع المقام الآن, بل هو الموضع الذي كان فيه المقام قبل أن يُحوِّله عمر رضي الله عنه إلى موضعه الآن. ولفظ "قُبُل الكعبة" في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هو أيضًا ذاك الموضع. وابن عباس إنّما سمع هذا الحديث من أسامة رضي الله عنه كما بيّنه ابن حجر في "الفتح" (1)، وراويه عن ابن عباس عطاء، يرويه عطاء تارة عن ابن عباس عن أسامة، وتارة عن أسامة نفسه. وقد تقدّم قول عطاء: "إنّ عمر رضي الله عنه أوّل من رفع المقام فوضعه في موضعه الآن، وإنّما كان في قُبُل الكعبة". بل ثبت في حديث عطاء عن أسامة عند النسائي (2) بسند رجالُه ثقات: " ... ثمّ خرج فصلّى خلف المقام ركعتين، وقال: "هذه القبلة". ويؤيد ذلك ما في "السيرة" عن ابن إسحاق (3): حدّثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة أنّ _________ (1) (1/ 501). (2) (5/ 220). (3) انظر "سيرة ابن هشام" (2/ 411).

(16/472)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمّا نزل مكة واطمأنّ الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف على راحلته، يستلم الرُّكن بمِحْجَنٍ في يده، فلمّا قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له، فدخلها ... ". محمد بن جعفر وعبيدالله من رجال "الصحيح". وابن إسحاق حسن الحديث. فهذا الخبر يدلُّ على أنّ صلاته - صلى الله عليه وسلم - بعد خروجه كانت ركعتي الطواف، ومن سنته - صلى الله عليه وسلم - أن يصلّيهما خلف المقام. فأمّا صلاتُه في الكعبة ــ على القول بها ــ فهي تحيّتها. ثبت بما تقدم أنّ صلاته - صلى الله عليه وسلم - عقبَ خروجه من الكعبة كانت خلف المقام، وأنّ المقام حينئذٍ كان عند جدار الكعبة. لمّا دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - الكعبة كان ابن عمر غائبًا، فبلغه ذلك، فأقبل "يركبُ أعناقَ الرجال"، "المسند" (ج 6 ص 13) (1)، فجاء وقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبلال في الكعبة لمّا يخرج، فكان هَمُّ ابن عمر أن يزاحم ليسأل بلالاً: ماذا صنع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة؟ وفي تلك الأثناء صلّى النبي ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ خارج الكعبة. فكأنّ ابن عمر اشتغل بالمزاحمة والمساءلة، فلم يُحقّق أإلى المقام صلّى النبي - صلى الله عليه وسلم - أم عن يساره، أم عن يمينه؟ فاقتصر على قوله: "في وجه الكعبة". _________ (1) رقم (23897). وإسناده ضعيف، لضعف عثمان بن سعد أحد رجال الإسناد.

(16/473)


فأمّا ما في أكثر روايات حديث أسامة رضي الله عنه: "في قُبُل الكعبة"، فيظهر أنّ ذلك مراعاة لقوله عقب ذلك: وقال: "هذه القبلة". خشي أن يتوهّم أنّ الإشارة إلى المقام، مع قول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}؛ فعدل إلى قوله: "في قُبُل الكعبة"؛ ليعلم أنّ الإشارة إليها، أو إلى ذلك الموضع منها، كما يأتي. في "صحيح مسلم" (1) عن جابر ــ في حجّة الوداع، بعد ذكر الطواف ــ: "ثم نفذَ إلى مقام إبراهيم ... فجعل المقام بينه وبين القبلة". هكذا في عدة نسخ من "الصحيح" وكتب أخرى (2). وذكره الطبري في "القِرَى" (ص 310) بلفظ: "ثم تقدّم" (3)، وكذا نقله الفاسيّ (4) عنه. _________ (1) رقم (1218). (2) انظر "المنتقى" لابن الجارود (469). (3) هذا اللفظ في كثير من مصادر السنة، انظر: "سنن أبي داود" (1905)، والدارمي (1857) و"صحيح ابن حبان" (3944) و"مسند عبد بن حميد" (1135) و"مصنف ابن أبي شيبة" (ص 378، 427 ــ من الجزء المفقود) و"السنن الكبرى" للبيهقي (5/ 7، 91) و"دلائل النبوة" (5/ 534). وهو بلفظ "عمد" في "مسند أحمد" (14440) و"صحيح ابن خزيمة" (2754) و"منتقى ابن الجارود" (465). وبلفظ "قام" في "سنن النسائي" (5/ 235، 241) وابن ماجه (3074). وبلفظ "أتى" في "سنن الترمذي" (856) والنسائي (5/ 228) وابن ماجه (1008، 2960) و"صحيح ابن خزيمة" (2755) و"مصنف ابن أبي شيبة" (ص 422). وبلفظ "انطلق" عند ابن حبان (3943)، وبلفظ "ذهب" عند البيهقي (5/ 90). (4) في "شفاء الغرام" (1/ 206).

(16/474)


وزعم الطبري أنّه يُشعِر بأنّ المقام لم يكن حينئذٍ ملصقًا بالكعبة. ولم يصنع شيئًا. أمّا كلمة "تقدّم" ــ إن صحّت ــ فدلالتها على الملاصقة أقرب؛ لأنّه كان في الطواف، فأنهاه عند الرّكن، فإذا واصل مَشْيه بعد ذلك إلى يَمْنة الباب فهذا تقدُّم، ولو كان المقام حينئذ في موضعه الآن لكان المشي إليه مشيًا عن الكعبة، فكان حقُّه أن يقال: "تأخَّر". وأمّا قوله: "فجعل المقام بينه وبين الكعبة" فلا يخفى أنّ المصلِّي إلى المقام إذ كان بِلِصْقِ الكعبة إمّا أن يكون عن يمينه، أو يساره، أو خلفه، فإذا كان خلفه فقد جعله بينه وبين الكعبة. فقد ثبت بما تقدّم ــ لا سيّما حديث عائشة رضي الله عنه ــ صحّةُ القول الثالث الذي عليه أئمة مكّة: عطاء ومجاهد وابن عيينة، مع أنّ الإنصاف يقضي بأنّ قولهم مجتمعين يكفي وحده للحجّة في هذا المطلب، والله أعلم. * * * *

(16/475)


الفصل الخامس لماذا حوّل عمر رضي الله عنه المقام؟ قد تقدّم أوّل الرّسالة ما تقدّم. عَلم عمر رضي الله عنه أنّ أئمة المسلمين مأمورون بتهيئة ما حول البيت للطائفين والعاكفين والمصلّين؛ ليتمكنوا من أداء عبادتهم على الوجه المطلوب بدون خلل ولا حرج. وعلم أنّ هذه التهيئة تختلف باختلاف عدد هؤلاء. وعلم أنّهم قد كثروا في عهده، وينتظر أن يزدادوا كثرةً، فلم تبقَ التهيئة التي كانت كافيةً قبل ذلك كافيةً في عهده. ورأى أنّ عليه أن يجعلها كافية، فإن كان ذلك لا يتمّ إلا بتغيير يتمُّ به المقصود الشرعي، ولا يفوت به مقصودٌ شرعيّ آخر، فقد علم أنّ الشريعة تقتضي مثل هذا التغيير، فليس ذلك بمخالفة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، بل هو عين الموافقة، وشواهد هذا كثيرة، وأمثلته من عمل عمر رضي الله عنه وغيره من أئمة الصحابة رضي الله عنهم معروفة. فهذه حجّة بيّنة لعمر رضي الله عنه. هذه الحجة لا تُبِيح له من التغيير إلا ما لا بدّ منه. وللمقام حقوق: الأول: القرب من الكعبة.

(16/476)


الثاني: البقاء في المسجد الذي حولها (1). الثالث: البقاء على سمت الموضع الذي هو عليه. فقد تقدّم في حديث ابن عباس وأسامة رضي الله عنهم قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد صلاته إلى المقام: "هذه القبلة". قال ابن حجر في "الفتح" (2): "الإشارة إلى الكعبة ... أو الإشارة إلى وجه الكعبة، أي: هذا موقف الإمام ... ". وفي "المسند" (ج 5 ص 209) في حديث أسامة: "ثمّ خرج، فأقبل على القبلة، وهو على الباب، فقال: "هذه القبلة، هذه القبلة" مرّتين أو ثلاثًا". فقد يُجمَع بين الرّوايتين بأنّه قال هذه الكلمة "هذه القبلة" عند خروجه، ثم قالها عقب صلاته. فتكون الأولى إشارة إلى الكعبة، والثانية إشارةً إلى موقف الإمام. وهذا الثاني محمولٌ على الندب كما في "الفتح" (3)، وهو ظاهر. وجرى العمل على اختيار وقوف الإمام على ذاك السَّمت: إمّا خلف المقام، وإمّا أمامه. وبعد كثرة الناس وتضايق ما خلف المقام، بقي العمل على اختيار وقوف الإمام قُدّام المقام. _________ (1) ما زيد في المسجد القديم فله حكمه، كما يصح فيه الطواف وغير ذلك. [المؤلف]. (2) (1/ 501). (3) (1/ 502).

(16/477)


وفي "المسند" (ج 6 ص 14) في ذكر موضع صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة: "وجعل المقام خلف ظهره". وذكر المحب الطبري في "القِرَى" (ص 312 وما بعدها)، والفاسيّ في "شفاء الغرام" (ج 1 ص 219) أخبارًا وآثارًا تتعلّق بذاك الموضع، منها: من "سنن سعيد بن منصور" عن ابن عبّاس أنّه قال ــ وهو قاعدٌ قبالةَ البيتِ والمقام ــ: "البيت كلُّه قبلة، وهذه قبلته". وقد تقدّم في الفصلين الثاني والثالث ما يدلّ على أنّ إبراهيم عليه السلام انتهى إلى ذلك الموضع في قيامه على المقام لبناء البيت، وقام عليه وهو فيه للأذان بالحجّ. فالبيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام قبلة، والجانب الذي كان القيام فيه ــ وهو ما بين الحِجْر والحَجَر ــ خاصٌّ في ذلك. والموضع الذي كان القيام عنده أخصّ. وشُرعت الصلاة إلى المقام؛ لأنّ عليه كان القيام. فارتباطه بذاك الموضع من جدار الكعبة واضحٌ، وتعلُّق الصلاة بأن تكون إلى القبلة أبلغُ وأهمُّ من تعلُّقها بأن تكون قربَ القبلة. التغيير الذي لا بدّ منه يقتصر على التخفيف من الحق الأوّل للمقام ــ وهو القرب من الكعبة ــ ولعلّه أخفُّ حقوقه، وبذلك عمل عمر؛ أخّر المقام بقدر الحاجة محافظًا على الحقّين الأخيرين: بقاء المقام في المسجد، على السّمت الخاص. تقدّم في قول ابن عيينة الثابت عنه: "فحوّله عمر إلى مكانه بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ،

(16/478)


وبعد قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ". لماذا زاد ابن عيينة: "وبعد قوله تعالى .... " مع أنّ ذلك معلومٌ قطعًا ممّا قبله؟ لا يبعدُ أن يكون ابن عيينة أومأ إلى سبب تأخير عمر للمقام؛ لأنّ الآية أمرت بالصلاة خلفه، وبقاؤه بجانب الكعبة ــ والنّاس بين مصلٍّ خلفه وطائفٍ ــ يلزمه عند كثرة الناس أن يقع الخلل والحرج في العبادتين كما مرّ. وأخرج الفاكهيّ (1) بسندٍ ضعيف عن سعيد بن جبير: "كان المقام في وجه الكعبة .. فلمّا كثر الناس خشي عمر بن الخطاب أن يطأوه بأقدامهم، فأخّره إلى موضعه الذي هو به اليوم، حِذاءَ موضعه الذي كان قُدّام الكعبة". نقله الفاسيّ في "شفاء الغرام" (ج 1 ص 207) بسنده. وقال الفاسيّ (2): ذكر الفقيه محمد بن سُراقة العامري في كتابه "دلائل القِبلة": "وهناك بجنب الكعبة كان موضع مقام إبراهيم عليه السلام، وصلّى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنده حين فرغ من طوافه ركعتين ... ثم نقله - صلى الله عليه وسلم - إلى الموضع الذي هو فيه الآن ... لئلا ينقطع الطواف بالمصلين خلفه، أو يترك الناس الصلاة خلفه لأجل الطواف حين كثر الناس، وليدور الصّف حول الكعبة، ويروا الإمام من كلّ وجه". وذكر ابن فضل الله العمري في "مسالك الأبصار" (ج 1 ص 103) مثل هذا الكلام. _________ (1) في "أخبار مكة" (1/ 454). (2) في "شفاء الغرام" (1/ 207).

(16/479)


والمقصود منه ذكر العلّة، وإنّما كثر الناس في عهد عمر. وقوله: "وليدور الصفّ ... " مبنيٌّ على ما كان عليه العمل من وقوف الإمام خلف المقام. وقال ابن حجر في "الفتح" (ج 8 ص 119) (1) في الكلام على قول البخاري في تفسير البقرة: باب {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} بعد تثبيت تحويل عمر رضي الله عنه للمقام: "ولم تنكر الصحابة فعل عمر، ولا مَن بعدهم، فصار إجماعًا، وكأنّ عمر رأى أن إبقاءه يلزم منه التضييق على الطائفين أو على المصلين، فوضعه في مكان يرتفع به الحرج، وتهيأ له ذلك؛ لأنّه (2) الذي كان أشار با تخاذه مصلّى. [وأوّل من عمل عليه المقصورة الآن] (3) ". قوله: "فصار إجماعًا"، قد عرفتَ مستنده. وكلٌّ من المستند والإجماع يدلُّ على أنّه إذا وُجِد مثل ذلك المقتضي اقتضى فعلَ مثلِ ما فعل عمر رضي الله عنه. وقوله: "وتهيأ له ذلك ... "، لعلّ الإشارة إلى عدم الإنكار، أي: إنّه قد يكون في الصحابة ومَن بعدهم مَن يخفى عليه المقتضي، ولكن منعَه من _________ (1) (8/ 169) ط. السلفية. (2) ط: "لأن". (3) هذه العبارة التي وضعتُ عليها الحاجزين وقعت في نسخة "الفتح" المطبوعة متصلة بما قبلها كأنها تتمة له، وإنما هي ابتداء كلام لا أشك أن ابن حجر ترك بعده بياضًا، لأنه لم يعرف من أول من عمل المقصورة. وإنما عملت بعد عمر بنحو ست مئة سنة. راجع "شفاء الغرام" وغيره. [المؤلف].

(16/480)


الإنكار عِلمُه بأنّ عمر رضي الله عنه ــ مع مكانته في العلم والدّين ــ هو الذي أشار باتخاذ المقام مصلّى، فله فضل علم بالمقام وحكمه، فهذا قريبٌ. فأما ما يتوهم أنّ مشورة عمر تُعطيه دون غيره حقًّا بأن يغير بدون حجة، أو بحجة غير تامّة، فهذا باطل قطعًا. وحُجة عمر رضي الله عنه بحمد الله تعالى تامّة عامّة. * * * *

(16/481)


الفصل السادس متى حوَّل عمر رضي الله عنه المقام؟ ولماذا قدَّرَهُ المُطَّلِبُ، واحتاجَ عُمَرُ إلى تقديرِه؟ لم أَقِفْ على ما يُعلَمُ به تاريخُ التحويلِ، غيرَ أَنّه قد يُظَنُّ أَنّه حوَّلَهُ عند زيادتهِ في المسجدِ الحرامِ؛ لأَنَّ السببَ واحدٌ وهو كثرةُ النَّاسِ؛ ولأَنَّ تأخيرَ المقامِ يستدعي توسعةَ المسجدِ خلفَه. وقد زعم الواقديُّ ــ كما حكاهُ ابن جرير في "تاريخه" (1) ــ أَنَّ الزيادةَ كانت سنةَ سبعَ عشرةَ، وأَنَّ عمرَ رضي اللهُ عنه اعتمرَ في رَجَب، ومَكَثَ بمكّةَ عشرينَ يوماً لأَجلِ الزيادة وغيرِها. وحالُ الواقديِّ معروفةٌ. وفي خبرِ الأَزرقيّ المُتَقدّم في الفصل الرابع: "أَنّه لمّا ذهبَ السيلُ بالمقامِ أَرسلوا إلى عمر، فجاءَ مسرعًا وقدم بعُمرةٍ في رمضان". ورأيتُ بعضَهم ذَكَر "أَنَّ ذلك كانَ سَنَةَ سَبعَ عشرةَ" والعلمُ عندَ الله تعالى. ومرَّ في خبرِ الأزرقيِّ: "كانت السيولُ تدخلُ المسجدَ الحرام، فربّما رفعتِ المقامَ من موضعِهِ، وربّما نحَّتْهُ إلى وجهِ الكعبةِ، حتّى جاءَ سيلٌ في خلافةِ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه". فعلى فَرْضِ صحّةِ هذا يلزمُ أَنْ يكونَ التحويلُ قبلَ مدّةٍ أَقلّها ثلاثُ سنين _________ (1) (4/ 68) ط. دار المعارف.

(16/482)


أَو نحوُها. وقد تقدّمَ النَّظرُ في حالِ هذا الخبرِ. وأَمّا ما تقدَّمَ عن مجاهدٍ: "كانَ المَقامُ إِلى جَنْبِ البيتِ، وكانوا يخافونَ عليه من السيولِ، وكانَ النَّاسُ يصلّونَ خلفَه"، ثمَّ ذكرَ قصّةَ عمر والمطَّلب، ولم يَسُقِ الفاسيُّ لفظَها، ــ كما تقدّمَ ــ: فالجمعُ بينَ هذا وبينَ ما صحَّ عن مجاهدٍ ــ ونَقَلَهُ ابنُ كثيرٍ وابنُ حجرٍ عن "مصنّفِ عبد الرازق" ــ وبقيّة الأَدلّةِ وطُرُقِ القصَّةِ: أَنَّ المَقامَ كانَ إِلى جَنْبِ البيتِ، فأَخَّرَهُ عمرُ، فخافوا عليه من السيولِ، فقدَّرَهُ المُطَّلِبُ. وهذا هو المفهومُ من روايةِ ابن أبي حاتمٍ (1)، عن ابن أَبي عمر، عن ابن عُيينةَ. والذي يظهرُ: أَنَّ المَقامَ لمّا كانَ بجنبِ الكعبةِ أَوَّلًا كانَ بمأْمَنٍ من السيلِ؛ إِمّا لأَنّه كانَ قد نَشِبَ في الأرضِ إِذ لم تكنْ مُبلَّطةً، وإمّا لغيرِ ذلك، فلمّا حوَّلَه عمرُ رضي اللهُ عنه رأى المُطَّلِبُ أَنّه أَصبحَ عُرضةً للسيلِ. قد تقدَّمَ في الفصلِ السابقِ بيانُ ارتباطِهِ بالسَّمْتِ الخاصِّ الذي كانَ عليهِ وهو عندَ الكعبةِ، وأُبقي عليه عندَ تحويلِهِ. وتقدَّمَ بيانُ مزيّةِ ذاك السَّمْتِ وسببِها، وهو يَقْتَضي أَنْ يكونَ قَدْرُ ذاكَ السَّمْتِ موقفَ رجلٍ واحدٍ، وهو مقدارُ طولِ المَقام. فكأنَّ المَقامَ ــ مع مزيّتِهِ ــ علامةٌ محدَّدةٌ لذاكَ السَّمْتِ، عَلَّمَ المطّلبُ هذا، أَو رأى احتياطَ عمرَ رضيَ اللهُ عنه عند تحويله المقامَ للمحافظةِ على _________ (1) ط: "أبي حاتم".

(16/483)


السَّمْتِ، ورأى أَنَّ المَقامَ لمّا كانَ عندَ البيتِ كانَ السَّمْتُ معلومًا على التحديدِ بالمقامِ نفسِهِ. وكذلك لمّا حوَّلَ المَقامَ على السَّمْتِ، بقيَ السَّمتُ معلومًا على التحديدِ بالمقامِ نفسِهِ، لكنْ إِذا جَرَفَ السيلُ المقامَ، وعَفَّى موضعَه، ولم يكنْ هناك تقديرٌ محفوظٌ: أَشكلَ تحديدُ السَّمْتِ. وكثرةُ رؤيةِ النَّاسِ للمَقامِ في الموضعين لا تضمنُ معرفةَ التحديدِ يقينًا. واعتبِرْ ذلك إِنْ شئتَ في منزلِك: اعْمِدْ إِلى صندوقٍ مثلًا باقٍ منذُ مدّةٍ في موضعٍ واحدٍ إِلى جنبِ جدارٍ مع خُلُوِّ ما عن يمينِه ويسارِهِ، قد شاهدَهُ عيالُك مرارًا لا تُحصى، فَقَدِّرْ في غَيْبَتهم موضعَه بخيطٍ مثلًا، ثمَّ حوِّلْه إلى موضعٍ آخرَ غيرِ مُسامِتٍ للأَوَّلِ، واكْنِسْ موضعَه، ثمَّ ادْعُهُم واطْلُبْ منهم تحديدَ موضعِه الأَوَّلَ، وانظر النتيجةَ. من الجائزِ أَنْ يكونَ قد اتفقَ لبعضِهم الانتباهُ لعلامةٍ خاصّةٍ تبقى في الأرضِ أَو الجدارِ، لكنْ هذا احتمالٌ فقط. لهذا ــ واللهُ أَعلمُ ــ قدَّرَ المطَّلِبُ موضعَ المَقامِ. ولهذا سألَ عمرُ رضي اللهُ عنه النَّاسَ وأَخذَ بتقديرِ المُطَّلِبِ. هذا ما ظهرَ لي في توجيهِ ما اتَّفَقَتْ عليه رواياتُ قصّةِ المُطَّلِبِ على وجهٍ يوافقُ حديثَ عائشةَ رضي الله عنها، وقولَ أَئمّةِ مكّةَ، مع بُعْدِ أَنْ يكونَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هو الذي حوَّلَهُ ولم يُنقَل ذلك، ولا عرفه أئمةُ مكة. على أنه لو ترجَّح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي حوَّله لكانت الحجّةُ لاختيارِ تأخيرِهِ الآنَ بحالها، بل أَقوى.

(16/484)


فأَمّا القولُ بأَنَّ موضعَه الآنَ هو موضعُهُ الأَصليّ، فهو مِنَ الضَّعفِ بحيثُ لا يحتاجُ إِلى فرضِ صحّتِهِ وما يتبعُ ذلك. واللهُ أَعلمُ. المُعارَضةُ الثانية: قد يُقالُ: ثَبَتَ عن عائشةَ رضي اللهُ عنها أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "ألم تَرَيْ أنّ قومكِ حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟ " قالت: فقلت: يا رسول الله! ألا تردُّها على قواعد إبراهيم؟ قال: "لولا حَدَثانُ قومك بالكفر لفعلتُ". لفظ البخاري (1). وفي رواية له (2): "لولا أنّ قومكِ حديثٌ عهدُهم بجاهليّة، فأخاف أن تنكر قلوبهم ... ". وتأخير المقام عن موضعه ممّا تنكره قلوب الناس، فينبغي اجتنابه. والجواب من أوجهٍ: الأول: أنّ بقاء الكعبة على بناء قريش لم يترتّب عليه ــ فيما يتعلق بالعبادات ــ خللٌ ولا حرج، ولذلك لم يأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبار أصحابه ببنائها حين يبعد العهد بالجاهلية، وإنّما أخبر عائشة رضي الله عنها؛ لأنّها رغبَتْ في دخول الكعبة، فأرشدها إلى أن تصلّي في الحِجْر، وبيّن لها أنّ بعضه أو كلّه من الكعبة، قصّرت قريش دونه. ولا أرى عائشة رضي الله عنها كانت ترى إعادة بنائها على القواعد أمرًا ذا بال؛ فإنّه لم يُنقَل أنّها أرسلت إلى عمر أو عثمان رضي الله عنهم تخبرهم _________ (1) رقم (1583). (2) رقم (1584).

(16/485)


بما سمعَتْ. وفي "صحيح مسلم" (1) عنها أنّه - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "فإن بدا لقومكِ أن يَبنُوها بعدي فهَلُمِّي لأُرِيَكِ ما تركوا منه" أي: من الحِجْر. وصرّح بعض أهل العلم بأنّ إعادة بنائها على القواعد كان هو الأولى فقط. وترجم البخاري في كتاب العلم (2) لهذا الحديث: "باب من ترك بعضَ الاختيار مخافةَ أن يقصُرَ فهمُ بعض الناس عنه، فيقعوا في أشدَّ منه". وإبقاء المقام في موضعه ــ بعد كثرة الناس هذه الكثرة التي عرفناها، ويُنتظر ازديادها ــ يترتّب عليه الخلل والحرج، كما تقدّم. الوجه الثاني: أنّ الإنكار الذي خشيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفسدةٌ عظيمة؛ إذ هو إنكار قلوب بعض من دخل في الإسلام، ولمّا يؤمنْ قلبه. وإنكار هؤلاء هو ــ والله أعلم ــ ارتيابهم في صدق قوله؛ إذ قال - صلى الله عليه وسلم - لهم: "إنّ البناء الموجود يومئذٍ ليس على قواعد إبراهيم". يقولون: لا نعرف قواعد إبراهيم إلا ما عليه البناء الآن، ولم يكن أسلافنا ليغيّروا بناء إبراهيم. فيؤدي ذلك إلى تمكن الكفر في قلوبهم. ولهذا ــ والله أعلم ــ لم يعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - القول، إنّما أخبر به أمّ المؤمنين. _________ (1) رقم (1333/ 403). (2) (1/ 224 مع الفتح).

(16/486)


وإلى هذا ــ والله أعلم ــ تشير ترجمة البخاري في كتاب العلم كما مرّ آنفًا. فأما تفسير بعض الشرَّاح (1) إنكار قلوبهم بأن ينسبوه إلى الفخر دونهم، فلا يخفى ضعفه، وأيُّ مفسدةٍ في هذا؟ وقد كان ميسورًا أن يشركهم في البناء، أو يَكِلَه إليهم، ويَدَعَ الفخر لهم. والحامل لهذا القائل على ما قاله: ظنُّه أن المراد بقومها الذين قصَّروا هم الذين بنوه البناء الأخير الذي حضره النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان قبل البعثة بخمس سنين فيما قيل، فرأى ذاك القائل أنه لا مجال للارتياب في صدق القول؛ لأن العهد قريب، وأكثرهم شاهدوا ذلك. والظاهر أن التقصير كان قديمًا، وقد ورد أن قريشًا بَنَتِ الكعبة في عهد قُصيّ، فلعل التقصير وقع حينئذٍ، وإنما بنوها أخيرًا على ما كانت عليه من عهد قصي، وجهل التقصير لطول المدة. والمقصود: أن الإنكار الذي خَشِيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفسدة عظيمة لا يقاربها إنكار بعض الناس تأخير المقام. والعالم تُعرض عليه الحجة فيزول إنكاره، والجاهل تبعٌ له. وقد جرت العادة بأن الناس يستنكرون خلاف ما ألِفُوه، ولكنه إذا عُمِل به وظهرت مصلحته انقلب الإنكار رضًا وشكرًا. الوجه الثالث: أن المقام نفسه أُخِّر في صدر الإسلام عن موضعه الأصلي بجنب الكعبة للعلة الداعية إلى تأخيره الآن نفسها، وكان من _________ (1) نقله ابن بطال في شرح البخاري (1/ 205) عن أبي الزناد.

(16/487)


المحتمل قبل تأخيره أن تنكره قلوب بعض الناس. فلم يُلتفت إلى ذلك. المعارضة الثالثة: قد يقال: استقرّ المقامُ في هذا الموضع قرابة أربعة عشر قرنًا، ولا شكّ أنّ الحجاج كثروا في بعض السنين، وازدحموا في المطاف، ولم يخطر ببالِ أحدٍ تأخيرُ المقام. وفي ذلك دلالة واضحة على اختصاصه بموضعه الذي استمرّ فيه، إن لم يكن على وجه الوجوب فعلى وجه الاستحباب؛ لأنّ تأخيره لو كان جائزًا لما غفل عنه الناس طول هذه المدة، مع وجود الكثرة والزحام في كثير من الأعوام. أقول: قد تقدّم بيان العلة التي اقتضت تأخير الصحابة رضي الله عنهم للمقام من موضعه الأصليّ، وهي أنّ الطائفين والمصلّين خلف المقام كثروا في عهدهم، وكان ينتظر أن يستمرَّ ذلك ويزدادوا في مستقبلهم إلى ما شاء الله، ورأوا أنّ بقاء المقام بجنب البيت يؤدي ــ مع تلك الكثرة ــ إلى دخول الخلل والحرج على الفريقين والعبادتين، ويستمرّ ذلك إلى ما شاء الله، وذلك مخالفٌ للتهيئة المأمور بها. وأرى هذه العلة متحقّقةً الآن على وجه لم يتحقق منذ تأخير الصحابة رضي الله عنهم للمقام إلى هذا العهد الأغرّ. ويمكن استثبات هذا بسؤال الخبراء بالتاريخ. فإذا ثبت هذا؛ فإعراضُ مَن بيننا وبين الصحابة عن تأخير المقام مرّة ثانية محمولٌ على أنّه لعدم تحقّق العلة. وكما أنّ إعراض النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تأخير المقام لمّا تبين أنّه لعدم تحقّق

(16/488)


العلة في عهده، لم يمنع الصحابة من تأخيره عند تحقّق العلّة من بعده، فهكذا هذا، ولا يختلف الحال بقصر المدّة وطولها. على أنّه لو فرض أنّ هذه العلّة تحقّقت بتمامها فيما بين عصر الصحابة وعصرنا، ففي أيّ عصر؟ وهل استكملت بالسكوتِ حينئذٍ شرائط الإجماع؟ وقد ذكر ابن حجر الهيتمي في "تحفته" (1): أنّ الحاكم النيسابوري ــ وهو من أكابر القرن الرابع، ولد سنة 321 ــ قال عند ذكر الحديث في النهي عن الكتابة على القبور: "ليس العمل عليه؛ فإنّ أئمة المسلمين من المشرق إلى المغرب مكتوبٌ على قبورهم، فهو عملٌ أخذ به الخلف عن السّلف". فردّه ابن حجر وقال: "ويُرَدُّ بمنع هذه الكلية وبفرضها، فالبناء على قبورهم أكثر من الكتابة عليها في المقابر المسبّلة، كما هو مشاهد، لا سيّما بالحرمين ومصر، وقد علموا بالنهي عنه، فكذا هي. فإن (2) قلت: هو إجماع فعليّ، وهو حجة، كما صرّحوا به. قلت: ممنوع، بل هو أكثريٌّ فقط، إذ لم يُحفَظ ذلك حتّى عن العلماء الذين يرون منعه. وبفرض كونه إجماعًا فعليًّا، فمحلُّ حجيته ــ كما هو ظاهر ــ إنّما هو عند صلاح الأزمنة، بحيث ينفذ فيها الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، _________ (1) "تحفة المحتاج" (3/ 197). وقول الحاكم في "المستدرك" (1/ 370). وانظر ردّ الذهبي عليه في تلخيصه. (2) ط: "قال"، خطأ مطبعي.

(16/489)


وقد تعطّل ذلك منذ أزمنة". ويقول ابن حجر الهيتمي هذا في الكتابة والبناء على القبور، وذلك شائع ذائع، لا يخفى على عالم، وكذلك النهي عنه. فأمّا تحقّق العلة حول الكعبة، فإن فُرِض وقوعه فيما مضى فلم يعلم به من علماء ذاك العصر إلا القليل، ومن الممتنع أن يقوم إجماعٌ صحيحٌ يمنع من العمل بما يأمر به القرآن، أو ممّا أجمع على مثله أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . * * * *

(16/490)


تلخيص وتوضيح يتلخّص ممّا تقدّم: أنّ الآيتين الّلتين صدّرتُ بهما الرسالة وغيرهما من الأدلة، تأمر بتهيئة ما حول البيت للطائفين ــ مبدوءًا بهم ــ وللعاكفين والمصلِّين، وأنّ المقصود من التهيئة لهذه الفِرق: تمكينها من أداء تلك العبادات على وجهها بدون خلل ولا حرج. إنّ هذه التهيئة تختلف باختلاف قلّة تلك الفِرق وكثرتها. ففي يوم الفتح كان المهمّ إزالة الشرك وآثاره، وفي حجة أبي بكر رضي الله عنه سنة تسعٍ كان الناس قليلاً، يكفيهم المسجد القديم، ولا يؤدي بقاء المقام في موضعه الأصليّ بلصْقِ الكعبة، وصلاة من يصلّي خلفه، إلى تضييقٍ على الطائفين ولا خللٍ في العبادتين. وفي حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - كثر الحاجّون لأجل الحجّ معه - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن ينتظر أن تستمر تلك الكثرة في السنين التي تلي ذلك، وكان تأخير المقام حينئذٍ يستدعي توسعة المسجد؛ ليتسع ما خلف المقام للعاكفين والمصلين؛ وكانت بيوت قريش ملاصقة للمسجد، وتوسعته تقتضي هدمَ بيوتهم، وعهدُهم بالشرك قريب، وتنفيرهم حينئذٍ يُخشى منه مفسدة عُظمى لدنو وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلذلك لم يوسِّع النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجدَ، وخيَّم هو وأصحابه بالأبطح، وكان يصلِّي هناك. فلما كان في عهد عمر رضي الله عنه كثر الناس كثرةً يتوقع استمرارها في السنين المقبلة، وتمكن الإسلام من صدور الناس، ولم يبقَ خشيةٌ من نفرة من عساه أن ينفر ممن يهدم بيته، فهدم عمر ما احتاج إلى هدمه من

(16/491)


بيوتهم، ووسَّع المسجد بقدر الحاجة حينئذٍ، وأخَّر المقام، ، وزاد مَنْ بعده في توسعة المسجد لِيُخْلُوا المسجدَ القديم للطائفين. ثم لا نعلم: كثُر الحجّاجُ والعمّار بعد ذلك بقدر ما كثروا في هذه السنين. والنظر ينفي ذلك، كما تقدم أولَ الرسالة. وكانوا إذا كثروا في سنة لم ينتظر أن تستمر مثل تلك الكثرة فيما يليها من السنين. وكان المقام في القرون الأولى بارزًا، لم يكن عليه بناء، ولا بالقرب منه بناء. فكان من السهل على الطائفين عند الكثرة أن يطوفوا من ورائه، ويَكُفَّ غيرُهم في ذاك الوقت عن الصلاة خلفه؛ إذ كان يغلب على الناس معرفة أن إيذاء الطائف والمصلي خلف المقام لغيره حرام، وأن المندوب والمستحب إذا لزم من فعله مكروه ذهب أجره، فكيف إذا لزم منه الحرام؟ وأن من ترك المندوب اجتنابًا للمكروه أو الحرام ثبت له أجر ذلك المندوب أو أعظم منه. وما نُقِل عن ابن عمر (1) رضي الله عنهما من المزاحمة على استلام الحجر الأسود، إنما معناه: أنه كان يتحمل إيذاء الناس له، إن آذاه أحد منهم، ولا يؤذيهم هو، بل كان ينتظر حتى يجد فُرجةً أخرى فيتقدم، وهكذا. وكان جمهور الصحابة وأفاضل التابعين يتجنبون المزاحمة. * * * * _________ (1) أخرج الترمذي (959) عن عبيد بن عمير أن ابن عمر كان يُزاحم على الركنين زحامًا ما رأيتُ أحدًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله. قال الترمذي: هذا حديث حسن.

(16/492)


إن الحجّاج والعمّار قد كثروا في عصرنا كثرةً لا عهدَ بها، ويُنتظر استمرارها وازديادها عامًا فعامًا، وأصبح المطاف يضيق بالطائفين في موسم الحج ضيقًا شديدًا، يؤدي إلى الحرج والخلل، كما أشرتُ إليه أولَ الرسالة، ولا تتم التهيئة المأمور بها إلا بتأخير المقام، كما تقدم بيانه أيضًا. فصارت الحال أشدَّ مما كانت عليه حين أخَّر عمر رضي الله عنه المقامَ. إن الحكم المتعلق بالمقام ــ وهو اتخاذه مصلَّى، أي يُصلَّي إليه ــ لو كان يختص بموضع لكان هو موضعه الأصلي الذي انتهى إليه إبراهيم في قيامه عليه لبناء الكعبة، وقام عليه فيه للأذان بالحج، ونزلت الآية: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} وهو فيه، وصلَّى إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - مرارًا، تلا في بعضها الآية، وهو فيه. فلما أجمع الصحابة رضي الله عنهم على تأخيره، وانتقال الحكم ــ وهو الصلاة إليه ــ معه؛ ثبت قطعًا أن الحكم يتعلق به، لا بالموضع، إلا أنه يُراعى ما راعَوه من بقائه على السَّمت الخاص في المسجد، قريبًا من الكعبة القربَ الذي لا يؤدي إلى ضيق ما أمامه على الطائفين. * * * * إننا نقطع بأن تأخير الصحابة للمقام كان عملًا بكتاب الله تعالى الآمر بالتهيئة للطائفين أولًا، وللعاكفين والمصلِّين بعدهم، واتباعًا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقَّ الاتباع بالنظر إلى المقصود الشرعي الحقيقي. وإنه لا يَخدِش في ذلك أن فيه مخالفة صورية. فكذلك إذا تحقق الآن مثل ذاك المقتضي: فالعمل بمثل عمل الصحابة

(16/493)


مع رعاية ما رَاعَوه هو عمل بكتاب الله عز وجل، واتباع لسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وإجماع المسلمين الإجماعَ المتيقن. ولا يَخدِش في ذلك أن فيه مخالفة صورية. وكما يقول أهل العلم: إن الحكم يدور مع علته. وبعد، ففي علماء المسلمين ــ بحمد الله عز وجل ــ من هم أعلمُ مني وأعرف، ولا أكاد أكون ــ بالنسبة إليهم ــ طالب علم، ولاسيما سماحة المفتي الأكبر إمام العصر في العلم والتحقيق والمعرفة، الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، مدَّ الله تعالى في حياته، وهو المرجع الأخير في هذا الأمر وأمثاله. وإنما كتبتُ ما كتبتُ لِيُعرَض على سماحته، فما رآه فهو الأولى بالحق، والحقيق بالقبول. وكما قلت في أول الرسالة: "ما كان فيها من صوابٍ فمن فضل الله عليَّ وعلى الناس، وما كان فيها من خطأ فمني، وأسأل الله التوفيق والمغفرة". والحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على خاتم المرسلين، وإمام المهتدين محمد وعلى آله أجمعين.

(16/494)


الرسالة الخامسة عشرة

  رسالة في توسعة المسعى بين الصفا والمروة

(17/495)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]. الصفا والمروة معروفان، نصّت الآية على أنّهما شعيرتان من شعائر الله، والعبادة المتعلقة بهما هي التَّطَوُّف بهما، وبينته السنةُ بما هو معروف. قام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أول مرّة على موضع مخصوص من الصفا لا تُعرف عينُه الآن، ثم سعى إلى المروة فقام [في] موضع مخصوص منها كذلك، ثم عاد في الشوط الثاني إلى الصفا كالمروة، وهكذا سبعًا، قد يكون قام ثانيًا وثالثًا ورابعًا على الموضع الأول من كلٍّ منهما أو على ما يقرب منه، ثم أُقيم بعد ذلك (1) حاجزٌ حصر الموضع الذي يُقام عليه من كلٍّ منهما في مقدار معين، وكان ذلك المقدار يتّسع للناس فيما مضى، وأصبح الآن يضيق بهم، فهل يمتنع توسيعه وقوفًا على عمل من مضى؛ وإن ضاق وضاق؟ أم ينبغي توسيعه؟ لأنّ نصّ الكتاب ورد على "الصفا والمروة" وهما أوسع من ذاك المقدار. وحَصْرُ من مضى لذاك المقدار قد يكون لمزاحمة الأبنية وكفاية ذاك المقدار للناس إذ ذاك، فلم تَدْعُ الحاجةُ حينئذٍ لتوسعته بهدم الدور. وهكذا يأتي في المسعى، أي: الطريق الذي يقع فيه السعي، فإنه واقع بين الأبنية من الجانبين، يتّسع تارة، ويضيق أخرى، وذلك يدلُّ على أنّه لم يُحدَّدْ، ولم يجئ عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا عن أحد من أصحابه ومَن بعدهم بيانٌ _________ (1) كتب فوقها بخط دقيق غير واضح أربع كلمات (يوم في زمنها العصور المتصل).

(17/497)


لتحديد عرض المسعى، إلا ما ذكره الأزرقي (1) في زمانه: أنّه ذَرَع ما بين العَلَمَين الأخضرين اللّذَين يَلِيانِ المروةَ، فوجد ذلك خمسة وثلاثين ذراعًا ونصفَ ذراعٍ. وهذا المقدار لا يستمرُّ في بقية المسعى ويظهر [كما هو ثابت] عند الأزرقي أنَّ موضع هذه الأعلام ليس من المسعى الأصلي، وإنّما هو مما حوّله المهدي العباسي إليه. وعدمُ مجيء شيء عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - (2) وأصحابه في تحديد عرض المسعى يُشْعِر بأنّ تحديده غير مقصود شرعًا؛ وإلا لكان لتعرُّضِه لمزاحمة الأبنية أولى بالتحديد من عرفات ومزدلفة ومنى، وقد ورد في تحديدها ما ورد. فهل يبقى المسعى كما هو، وقد ضاق بالسّاعين وأَضرَّ بهم؟ أم ينبغي توسعته؟ لأنّ المقصود هو السعي بين الصفا والمروة، وهو حاصل في المقدار الذي توسع به هذا الشارع، كما هو حاصل في هذا الشارع نفسه. والله تبارك وتعالى عالم الغيب والشهادة لا يُكلِّف خلقَه بعبادة إلا ويُيسِّرها لهم أو يُرخِّص لمن شقّ عليه شيء منها أن يدَعَ ما شقَّ عليه، وقد أصبح السعي بحيث يضيق بالناس في أيام الموسم ويشقُّ عليهم، ولاسيَّما على النساء والضعفاء والمرضى، بل يلقَى منه الأقوياء شدّة، وسيزداد الحُجّاج إن شاء الله كثرةً سنةً بعد سنة. _________ (1) "أخبار مكة" (2/ 119). (2) أشار لها بـ (ص) لضيق المكان.

(17/498)


في "النهاية" لمحمد الرملي الشافعي (ج 2 ص 416): "لم أرَ في كلامهم ضبطَ عرضِ المسعى، وسكوتهم عنه لعدم الاحتياج إليه، فإنّ الواجب استيعاب المسافة التي بين الصفا والمروة كل مرة، ولو التوى في سعيه عن محلِّ السعي يسيرًا لم يضرّ، كما نصّ عليه الشافعي". وقال النووي في "شرح المهذب" (ج 8 ص 76): "وقال الشافعي والأصحاب: لا يجوز السعي في غير موضع السعي، فلو مرّ وراء موضع السعي في زقاق العطّارين أو غيره لم يصحّ سعيُه؛ لأنّ السعي مختصّ بمكان، فلا يجوز فعله في غيره كالطواف ... ، قال الشافعي في القديم: فإن التوى شيئًا يسيرًا أجزأه، وإن عَدَل حتى يفارق الوادي المؤدّي إلى زقاق العطّارين لم يَجُز، وكذا قال الدارمي: إن التوى في السعي يسيرًا جاز، وإن دخل المسجد أو زقاق العطارين فلا. والله أعلم". قوله: "لا يجوز السعي في غير موضع السعي"، يتبادر منه المكان المحدّد. ويحتمل أن يُراد: المكان المُعَدّ للسعي، فيشمل ما زاد على المسعى القديم توسعةً له. [ص 2] وقوله: "كالطواف" يُعيِّن المعنى الثاني، فإن المكان الذي يختصّ به الطواف لا يقتصر على ما كان في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقد كان المسجد في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هو الموضع المعروف الآن بالمطاف، وكان الطواف لا يجوز خارجه، ثم وُسّع المسجد مرة بعد أخرى. واتفق أهل العلم على أنّ ما زِيد في المسجد فصار منه؛ صحّ الطوافُ فيه، وإذا صح هذا في المطاف مع مشاركة الاعتكاف والصلاة وغير ذلك للطواف في الأحكام أنه تثبت تلك الأحكام كلها للزيادة ثبوتَها للأصل؛ ففي

(17/499)


المسعى أولى. والأصل في هذا قول الله تبارك وتعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]. والتطهير يشمل التطهير من الأرجاس المعنوية والحسية. والطوافُ والعكوفُ والصلاة موضعُها حولَ البيت، فما حولَ البيت داخل في الأمر بالتطهير. فأَمْرُ الله تعالى تطهيرَ ما حول البيت للطائفين والعاكفين والمصلين، كما يُوجب تطهيرَ الموضع لهؤلاء، يقتضي أن يكون الموضع بحيثُ يَسَعُهم، ولا تقتضي الحكمة أن يُوسَّع الموضع من أول مرّة إلى الغاية التي يُعلم أنّه لن يضيق بالناس مهما كثروا إلى يوم القيامة، وإنّما تقتضي أن يكون أوّلًا بحيث يكفي الناسَ في ذاك العصر، ومع ذلك فلا ريبَ أنّ النّاس إذا كثروا بعد ذلك ولم يَسَعْهم الموضع وجب توسعته بدلالة الآية، لأنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم أُمّته مِن بعده مُخَاطَبون بما خُوطِب به إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام من تطهير ما حولَ البيت للطائفين والعاكفين والمصلّين، أي: بالقدر الذي يكفيهم كما مرّ. وبهذا جَرى عملُ الأمة؛ فقد وُسِّع المسجد في عهد عمر، ثم في عهد عثمان، ثم في عهد ابن الزبير رضي الله عنهم، ثم بعد ذلك، وأكرم الله عزَّ وجلَّ إمام المسلمين صاحب الجلالة الملك سعود بن عبد العزيز ــ أيّده الله ــ لهذه التوسعة العظيمة. ولعلها مهما عَظُمت لا تكون آخرَ توسعةٍ. وهذه التوسعات كلها عملٌ بالآية. وتوسعة المسجد هي نفسها توسعةٌ للمطاف، لاتّفاق العلماء على صحة

(17/500)


الطواف فيما يُزاد في المسجد، غير أنّ منهم من شرطَ أن لا يَحُول بين الطائف والكعبة بناء، ولهذا ولأن ما وراء الموضع المعروف بالمطاف الآن غير مهيّأ للطواف، ويكون فيه المصلّون والجالسون والمشاة وغيرهم فيشقُّ الطواف فيه، لِمَا ذُكر= اقتصر الناس على الموضع المعروف بالمطاف، وأصبح يضيق بهم جدًّا أيامَ الموسم، فدعت الحاجة إلى توسعته، وبلغني أنّ التوقف عن ذلك منشؤه التوقف عن تأخير مقام إبراهيم. والبحث في مقام إبراهيم يطول، غير أنّه يمكن اختصاره بأنّ توسعة المطاف واجبة [ص 3] قطعًا عند تحقُّق الضيق كما اقتضته الآية، والأمر بتطهير الموضع للطائفين وغيرهم يستلزم الأمر بتهيئته لهم، وإبقاءُ مقام إبراهيم في مكانه يُنافِي ذلك، وليس على إبقائه حُجة تترجّح على هذه الحجة أو تُكافِئها. والمقام: هو الحَجَر المعروف، وأصله كما في "صحيح البخاري" (1) في ذكر إبراهيم من أحاديث الأنبياء عن ابن عباس: أنّ إبراهيم عليه السلام كان يقوم عليه وهو يبني الكعبة عندما ارتفع البناء. وعلى هذا فموضعه في الأصل عند جدار البيت، وأكثر الروايات وأثبتُها أنّ عمر هو الذي أخّره إلى موضعه الآن، وقيل: أخّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: جاء الإسلام وهو في محلِّه الآن، وأيًّا ما كان فإنّما أُخّر لئلا يُضيّق هو والمصلُّون خلفه على الطائفين، كما نبّه عليه ابن حجر في "الفتح" (ج 8 ص 129) (2). فهذا المعنى هو الموجب لتأخيره. _________ (1) رقم (3364). (2) (8/ 169) ط. السلفية.

(17/501)


وفي تأخيره لهذا المعنى الشهادةُ لهذا المعنى بأنّه موجب لتأخير المقام؛ فإن كان أُخّر قبل الإسلام فقد أقرّه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وإن كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هو الذي أخّره فالأمر أوضح، وإن كان عمر هو الذي أخّره فإنّما عمِلَ بدلالة القرآن كما مرّ، وكأنّ الضيق إنّما تحقّق في عهده حين كثر المسلمون، ومع دلالة القرآن عملُ الخليفةِ الراشد، وإجماع الصحابة فمن بعدهم، ودلالة القرآن مستغنية بنفسها. وهذا المعنى الذي اقتضى تأخيره إذ ذاك قائم الآن، فاقتضاؤه للتأخير الآن بغاية الوضوح. فأمّا ما رُوي (1) أنّ السيلَ احتمله في عهد عمر، فتحرّى عمر إعادته في مكانه، فكأنّ عمر لمّا أخّره قبل ذلك تحرّى أن يبقى مع تأخيره مُسامتًا (2) للموضع الذي كان يليه من جدار الكعبة لا يميل عنه يَمْنةً ولا يسرةً؛ لأنّ المعنى المذكور إنما أوجب التأخير فاقتضى .... (3)، فلمّا احتمله السيلُ بعد ذلك تحرّى عمر إعادته إلى مكانه لأجل المسامتة. وعلى القول بأنّه أُخِّر قبل عمر فتحرِّيه إعادته إلى مكانه قد تكون لما ذُكِر، وقد تكون لأنّه لم يكن يرى إذ ذاك داعيًا (4) لتحويله؛ لأنّه لم يكن قد حصل به التضييق. وعلى ما ذكر فإذا أُخِّر الآن فينبغي أن لا يخرج به عن مسامتة الموضع الذي يُسامِته الآن من الكعبة لا عن يَمْنة ولا يَسْرة. فأمّا ما اشتهر أنّ موضعه الأول كان في الحفرة المحدثة إلى جانب _________ (1) أخرجه الأزرقي في "أخبار مكة" (2/ 35). (2) في الأصل كلمة غير واضحة. وهكذا قدرتها. (3) كلمتان إحداهما لم أتبينها والأخرى لم تظهر في التصوير. (4) في الأصل: "داع".

(17/502)


الباب فهذا لم يثبت، وأقوى شيء فيه ما ذكره الأزرقي في "تاريخه" (1/ 239) (1): روى عن جده ثنا داود بن عبد الرحمن [عن ابن جريج عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي عن أبيه عن جده قال: كانت السيول تدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة الكبير قبل أن يردم عمر بن الخطاب الردم الأعلى، وكان يقال لهذا الباب باب السيل، قال: فكانت السيول ربما دفعت المقام عن موضعه، وربما نحته إلى وجه الكعبة، حتى جاء سيل في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقال له سيل أم نهشل ... إلى آخر الخبر] (2). وقد يمكن الجمع بين تهيئة المطاف والمحافظة على موضع المقام في الجملة، بأن يُهْدَم البناء ويعلّم موضع المقام بعلامة ثابتة، ثم يوضع في صندوق ثقيل وتُجعل له ظُلَّة خفيفة على عَجَل، ففي أيام الموسم يؤخَّر الصندوق بالظلَّة إلى حيث تدعو الحاجة مع المحافظة على السمت، ثم عند زوال الموجب يعاد إلى موضعه الآن. وكالحكم في المطاف الحكم في المسعى، أَمْرُ اللهِ عز وجل بالسعي بين الصفا والمروة يوجب تهيئة موضع يسعى الناسُ فيه يكون بحيث يكفيهم، فإذا اقتصر من مضى على موضع يكفي الناسَ في عصرهم، ثم ضاق بالناس فصار لا يكفيهم، وجبَ توسعته بحيث يكفيهم، وإذا وُسِّع الآن بحيث يكفي الناس، فقد يجيء زمان يقتضي توسعته أيضًا. هذا، وقد جرى تغييرٌ للمسعى في بعض جِهاته في زمن المهدي _________ (1) (2/ 33) ط. رشدي ملحس. (2) ما بين المعكوفين من كتاب الأزرقي.

(17/503)


العباسي، ففي تاريخ الأزرقي (ج 2 ص 59 ــ 60) (1) في زيادة المهدي سنة 160 فما بعدها: "ودخلت أيضًا دار خيرة بنت سباع الخزاعية، بلغ ثمنها ثلاثة وأربعين ألف دينار دُفِعت إليها، وكانت شارعة على المسعى يومئذ قبل أن يؤخَّر المسعى". وفيه (ص 63) (2) في ذِكْر زيادة المهدي الثانية: "وكان المسعى في موضع المسجد الحرام اليوم". [ص 4] وفيه (ص 64) (3): "واشتروا الدور وهدموها، فهدموا أكثر دار ابن عباد بن جعفر العائذي، وجعلوا المسعى والوادي فيها .... ". ويشهد لهذا انحراف المسعى في ذاك الموضع، وكأنّه كان قبل ذلك على خط مستقيم بين الصفا والمروة، أو أدنى إلى الاستقامة. وذكر القطبي في تاريخه (ص 47 من الطبعة الأولى) هذا التحويلَ ثم قال: "وههنا إشكال لم أرَ من تعرّضَ له، وهو أن السعي بين الصفا والمروة من الأمور التعبدية التي أوجبها الله علينا في ذلك المحلّ المخصوص، ولا يجوز لنا العدول عنه، ولا تُعتبر تلك العبادة إلا في ذلك المكان المخصوص الذي سعى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فيه، وعلى ما ذكره هؤلاء الثقات أدخل ذلك المسعى في الحرم الشريف، وحُوِّل المسعى إلى دار ابن عباد كما تقدم، وأمّا المكان الذي يُسعى فيه الآن فلا يتحقَّق أنه بعض من المسعى _________ (1) (2/ 74، 75) ط. رشدي ملحس. (2) (2/ 79). (3) (2/ 80).

(17/504)


الذي سعى فيه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أو غيره، فكيف يصحّ السعيُ فيه وقد حُوِّل عن محلّه كما ذكر هؤلاء الثقات؟ ولعلّ الجواب عن ذلك أنّ المسعى في عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان عريضًا، وبُنيت تلك الدور بعد ذلك في عَرْض المسعى القديم فهدمها المهدي وأدخل بعضها في المسجد الحرام، وترك بعضها للسعي فيه، ولم يحوّل تحويلًا كليًّا، وإلا لأنكره علماء الدين من العلماء المجتهدين رضي الله عنهم أجمعين مع توفُّرهم إذ ذاك، فكان الإمامان أبو يوسف ومحمد بن الحسن رضي الله عنهما والإمام مالك رضي الله عنه موجودين [ ... ] (1)، وقد أقرُّوا ذلك وسكتوا. وكذلك مَن صار بعد ذلك الوقت في رتبة الاجتهاد، كالإمام الشافعي وأحمد بن حنبل وبقية المجتهدين رضي الله عنهم فكان إجماعًا .... وبقي الإشكال في جواز إدخال شيء من المسعى في المسجد، وكيف يصير ذلك مسجدًا، وكيف حال الاعتكاف فيه؟ وحلُّه بأن يُجعل حكم المسعى حكم الطريق، فيصير مسجدًا ويصحُّ الاعتكاف فيه، حيث لم يضر بمن يسعى، فاعلم ذلك، وهذا مما انفردتُ ببيانه ولله الحمد". أقول: أمّا أوّل كلامه فيكفي في الجواب عنه الاعتبار بالمطاف، للاتفاق على صحة الطواف فيما زيد في المسجد في غير الموضع الذي طاف فيه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، والذي كان في عهده لا يجوز الطواف إلا فيه. _________ (1) لعل هنا تكملة لم تظهر في التصوير لعدم وضوح الأصل.

(17/505)


وأمّا حدسه "أنّ المسعى كان عريضًا فبُنِيَت فيه الدور"، فيَخْدِش فيه أنّ المسعى لو كان محدّدًا لبعُدَ أن يجترئ الناسُ على البناء فيه، ويُقِرّهم العلماء والأمراء، حتى يشتري المهدي منهم تلك الدور بأغلى الأثمان. ثم على فرض صحة هذا الحدس فلم يُجعل المسعى أوّلًا عريضًا إلا لترقُّب أن يكثر الناس فلا يسعهم ما دونه، وعلى هذا فقد كان يجب أن ينكر أهلُ العلم فعل المهدي، قائلين: إنّ هذا الذي أبقيتَ، وإن كان يكفي الناسَ الآن، فقد يكثرون فيما بعد ويضيق بهم، [ص 5] ولا يمكن أن يرد إليه هذا الذي تريد إدخاله في المسجد كما يمكن هدم الدور؛ لأنّه لا يمكن إزالة حكم المسجد ولا جَعْلُه مسجدًا ومسعى معًا؛ لأنّ كلًّا منهما يختصّ بحكم، فالحائض ليس لها أن تلبث في المسجد؛ ولها الّلبث في المسعى، فلو طافت المرأة للإفاضة طاهرًا، وبقي عليها السعي فحاضت عقب الطواف، أمكنها أن تسعى في المسعى وتُتمّ نُسكَها وتسافر، ولا يمكنها ذلك في المسجد، إلى غير ذلك من الأحكام. فلو صحّ حَدْس القطبي لدلّ إقرار أهل العلم له على أنّهم يرون جواز توسعة المسعى من الجانب الآخر، فيرون أنّه إذا ضاق ما أبقاه المهدي من المسعى بالناس أمكن توسعة المسعى من الجهة الأخرى، فهذا أيضًا يدلُّ على جواز التوسعة كما ترى. وقد يقال بناءً على حَدْس القطبي: لعل أهل العلم إذ ذاك علموا أنّ المسعى في الأصل حَصَرَ جميعَ ما بين الصفا والمروة، وأنّه لا يمتنع البناء فيما زاد على الحاجة، فإذا زادت الحاجة هُدِم من الأبنية ما تُوفي به الحاجة، فعلى كلّ حال لا بدّ من التوسعة عند الحاجة.

(17/506)


هذا، وإن الله تبارك وتعالى وضع البيت ولم يكن فيما حوله حقٌّ لأحد، ثم جعل له حِمًى واسعًا وهو الحرم الذي لا يحلُّ صيده، ولا تُعضَد شجره، فهذا الحرم كلّه من اختصاص البيت تقام فيه مصالِحُه، غير أنّه [يجوز] للناس أن يضعوا أيديهم على ما زاد عن مصالح البيت وينتفعوا به، على أن مصالح البيت [إن احتاجت] (1) يومًا ما إلى شيء مما بأيدي الناس من الحرم أُخِذ منهم، ووُفّيت به مصالح البيت. وإلى هذا يشير قول عمر للذين نازعوا في بيع دورهم لتوسعة المسجد قال: "إنما نزلتم على الكعبة فهو فناؤها، ولم تنزل الكعبة عليكم". تاريخ الأزرقي (ج 2 ص 55). فما حول الكعبة هو من اختصاصها، ليُجعَل منه مسجدٌ يُطاف فيه ويُعكَف ويُصلَّى، فإذا جُعِل بعضُه مسجدًا صار مسجدًا، وبقي الباقي صالحًا لأَنْ يزاد في المسجد عند الحاجة، فما زيد فيه صار منه. وما بين الصفا والمروة من اختصاصهما ليجعل منه مسعى يُسعى فيه بينها، فإذا جُعل بعضُه مسعى صار مسعى يصحّ السعي فيه، وبقي الباقي صالحًا لأن يُزاد في المسعى عند الحاجة، فما زيد فيه صار منه. والكعبة هي الشعيرة في الأصل، شُرِعَ الطوافُ بها والعكوف عندها والصلاة، وهذه الأمور لا بُدَّ لها من موضع، فهو حولها، فالموضع كالوسيلة ليكون فيه الطواف بالكعبة وغيره. وهكذا الصفا والمروة هما الشعيرتان بنصّ القرآن، فأمّا ما بينهما فهو بمنزلة الوسيلة ليسعى فيه بينهما، والوسائل تحتمل أن يُزاد فيها بحسب ما _________ (1) طمس في الأصل، لعله ما أثبته.

(17/507)


هي وسيلة له، كطواف الطائفين، وسعي الساعين، ولا يجب أن تُحدَّد تحديدَ الشعائر نفسها. والله الموفق.

(17/508)


الرسالة السادسة عشرة

  رسالة في سير النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج والكلام على وادي محسِّر

(17/509)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في "الصحيحين" (1) وغيرهما عن هشام بن عروة عن أبيه قال: سُئل أسامةُ وأنا جالس: كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في حجة الوداع حينَ دَفَع؟ قال: "كان يسيرُ العَنَقَ، فإذا وجدَ فجوةً نصَّ". لفظ البخاري، وزادا في رواية: "قال هشام: والنصُّ فوق العَنَق". المشهور أن العَنَق سيرٌ فيه إسراع، وقد يَرِدُ على ذلك أنّ في روايةٍ في "صحيح مسلم" (2). عن أسامة بن زيد: "فما زال يسير على هيئته (ويُروى: على هِينَتِه) حتى أتى جَمْعًا". وفي روايةٍ في "المسند" (3) سندها صحيح: "فجعل يَكْبَحُ راحلتَه حتى إنّ ذِفْرَاها لتكاد تُصِيب قادمةَ الرَّحْل، وهو يقول: يا أيها الناس، عليكم بالسكينة والوقار، فإن البرَّ ليس في إيضاع الإبل". وفي أخرى (4) سندها حسن: "فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا الْتحَمَ عليه الناسُ أعنقَ، وإذا وجدَ فُرْجةً نصَّ". وفي "المسند" و"صحيح مسلم" (5) في حديث جابر: "وقد شَنَقَ _________ (1) البخاري (1666) ومسلم (1286). (2) رقم (1286/ 282). (3) رقم (21756، 21803). (4) رقم (21760، 21761). (5) "صحيح مسلم" (1218). وحديث جابر في "المسند" (14440)، وليس فيه هذا اللفظ.

(17/511)


للقصواء الزِّمامَ، حتى إن رأسَها لَيصيبُ مَوْرِكَ رَحْلِه، ويقول: أيها الناس السكينةَ السكينةَ، كلَّما أتى حَبْلًا من الحِبال (1) أرخَى لها حتى تَصعَد". وفي معنى ذلك أخبار أخرى، فأيُّ إسراعٍ يكون لناقةٍ مُنوَّقةٍ، مشنوقٍ لها الزمامُ أشدَّ الشَّنْقِ، ملتحمٍ عليها المشاةُ والركبان؟ وقد يُجاب بأن العَنَق في الأصل كما هو في "الفائق" (2): "الخَطْو الفسيح"، فالسرعة فيه من جهة سعة الخطو، لا من جهة سرعة تتابُعِه، والإبلُ بطبيعة حالها واسعةُ الخطو. وفي "فقه اللغة" للثعالبي (3): "فصل في ترتيب سير الإبل: عن النضر بن شُميل: أولُ سيرِ الإبل الدَّبيبُ، ثم التزيُّد، ثم الذَّمِيل، ثم الرَّسِيم ... ، فصل في مثل ذلك عن الأصمعي: العَنَق من السير المُسْبَطِرّ، فإذا ارتفع عنه قليلًا فهو التزيد، فإذا ارتفع عن ذلك هو الذَّميل، فإذا ارتفع عن ذلك فهو الرَّسِيم". وقضيةُ هذا أن أول سير الإبل يسمَّى عَنَقًا. وبعدُ، فقد عُرِف بالوصف حقيقةُ سيرِ ناقتِه - صلى الله عليه وسلم - عند الازدحام. فأما النصُّ فهو كما قال هشام فوق ذلك، كأنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا وجد فجوةً أي خُلوًّا عن المزاحمين أرخَى الزِّمامَ، فتُسرِع قليلًا بطبيعة حالها. ولم يُعيِّن الصحابة مواضعَ تلك الفَجَوات؛ لأنه لا دَخْلَ لخصوص المكان فيها، وإنما المدار على الخُلوِّ من المزاحمين كما مرّ. _________ (1) الحبل: التلّ اللطيف من الرمل الضخم. وفي "شرح السنة" (7/ 165): الحبال ما كان دون الجبال في الارتفاع. (2) (1/ 429). (3) (ص 203).

(17/512)


وقد عُلِم مما مرَّ أنه من عرفةَ إلى مزدلفةَ لم يُسرِع النبي - صلى الله عليه وسلم - فوق العادة، وأنه ليس بينهما مكانٌ يُشْرَع فيه الإبطاء أو الإسراعُ المعتاد، وإنما المدار على الزحام وعدمه. فأما من مزدلفةَ إلى جَمْرةِ العقبة ففي "المسند" (1) بسند صحيح عن أسامة: "لما دَفَعَ من عرفةَ ... كَفَّ رأسَ راحلته، حتى أصاب رأسُها واسطةَ الرَّحْل أو كاد يُصيبه، يشير إلى الناس بيده: السكينةَ السكينةَ، حتى أتى جَمْعًا، ثم أردف الفضلَ بن عباس ... فقال الفضل: "لم يزلْ يَسير سَيْرًا لينًا كسَيْره بالأمس حتى أتى على وادي مُحسِّر، فدَفَعَ فيه حتى استوتْ به الأرضُ". وفي حديث جابر في "المسند" و"صحيح مسلم" (2) وغيرهما: "حتى أتى بطنَ محسِّر، فحرَّك قليلًا". وفي "سنن النسائي" (3) من حديث أبي الزبير عن جابر: "أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه السكينة، وأمرهم بالسكينة، وأوضَعَ في وادي مُحسِّر ... ". وهو في "المسند" وبقية السنن، قال الترمذي: "حسن صحيح". وفي بعض رواياته في "المسند" و"سنن ابن ماجه" (4): "وقال: لِتأخُذْ أمتي نُسكَها، فإني لا أدري لَعلِّي لا ألقاهم بعد عامي هذا". _________ (1) رقم (21812). (2) مسلم (1218). وليس في "المسند" هذا اللفظ. (3) (5/ 258). وهو في "المسند" (15207)، وأخرجه أبو داود (1944) والترمذي (886) وابن ماجه (3023) أيضًا. (4) "المسند" (14553، 14946) وابن ماجه (3023).

(17/513)


[ص 2] وفي "المسند" و"سنن الترمذي" (1) من حديث علي: " ... ثم أفاض حتى انتهى إلى وادي مُحسِّر، فقَرَع ناقته، فخَبَّتْ به حتى جاوز الوادي". لفظ الترمذي، وقال: "حسن صحيح". في هذه الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خصَّ واديَ مُحسِّر دون ما قبله وما بعده بأن قرعَ ناقتَه فيه لِتُسرِع فوق العادة، ولم يكن لذلك سببٌ طبيعي، ففهمَ الصحابة رضي الله عنهم أن ذلك لأمرٍ شرعي، وأن مثل ذلك الإسراع مشروع في ذلك المكان، ولذلك نَصُّوا عليه وفاءً بما أُمِروا به من التبليغ، وعَمِلوا به بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، جاء ذلك عن عمر وابن عمر، وأخذتْ به الأمة، فهو سنة ثابتة. وهل يُشرَع مثلُ ذلك الإسراع عند المرور بمُحسِّر في الطلوع إلى عرفةَ وعند المرور به في غير الحج؟ لم أجِدْ دليلا خاصًّا على ذلك، وقد يُستدلّ على عدمه بأنه لم يُنقَل أنه - صلى الله عليه وسلم - أسرعَ فيه عند طلوعه إلى عرفة، وقد يُدفَع هذا باحتمال أنه عند الطلوع لم يكن قد أمر بالإسراع، فتركَه لأنه لم يكن مشروعًا حينئذٍ، أو لعله أسرعَ ولم يُنقَل ذلك؛ لأنهم لم يَعتنُوا ببيان سَيْرِه في طلوعه كما اعتنَوا ببيان سيره في نزوله، واكتفاءً بدلالة إسراعه به في نزوله على أن الإسراع فيه مشروعٌ مطلقًا. فما هذه الدلالة؟ مدارها على المعنى الذي لأجله شُرِع الإسراعُ، وفي ذلك أقوال: الأول: أن ذلك الوادي مأوًى للشياطين، وكأن هذا مأخوذ من قصة الوادي الذي نام فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن صلاة الصبح، فلما استيقظوا وقد طلعت الشمسُ أمرهم بالخروج منه، وعلَّل ذلك بأن فيه شيطانًا، _________ (1) "المسند" (562) والترمذي (885).

(17/514)


فاقْتادُوا رواحلَهم حتى خرجوا منه، فصلَّى بهم (1). ويردُّ هذا أن الخروج إنما كان لمصلحة الصلاة، لا لكراهية الكون في الوادي، فقد باتوا فيه وناموا. وأيضًا فلم يُسرِع، ولا أمرهم بالإسراع في خروجهم. الثاني: أن النصارى كانوا يقفون بمُحسِّر، فأوضعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالفةً لهم. وكأنّ هذا مأخوذ مما رُوِي أن عمر قال وهو يُوضِعُ: إليك تَعْدُو قَلِقًا وَضِينُها مُعترِضًا في بطنِها جنينُها مخالفًا دينَ النصارى دينُها (2) ولا يخفى أن هذا لا يدلُّ على أن النصارى كانوا يقفون بمحسِّر، ويكفي في معنى البيت مخالفةُ النصارى في شركهم وعدمِ حجِّهم. وأيضًا فلو ثبت أنهم كانوا يقفون به فالمخالفةُ تحصلُ بعدم الوقوفِ، فلا تقتضي الإسراعَ. الثالث: أن المشركين كانوا يقفون به يتفاخرون بآبائهم. وكأن هذا مبنيٌّ على الذي قبله، ولكن لما كانت دعوى وقوف النصارى لا سندَ لها أبدلوا بالمشركين، لأنه قد رُوِي ما يُشبه ذلك (3) في تفسير قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]. _________ (1) أخرجه مسلم (680) وغيره من حديث أبي هريرة. (2) أخرجه الشافعي في "الأم" (3/ 552) وابن أبي شيبة في "المصنّف" (15889، 26564). والأبيات بلا نسبة في "اللسان" (قلق، وضن). (3) انظر ما رُوي في هذا الباب في "الدر المنثور" (2/ 444 ــ 446).

(17/515)


ويردُّه أنه إذا كانت الآية تشير إلى ذلك فإنها تشير إلى أن ذلك كافٍ عند قضاء المناسك، وأكثر الروايات توافق ذلك، وأنهم كانوا يتفاخرون بمنى، وفي بعضها: عند الجمرة، وفي بعضها: يوم النحر. وليس في الروايات ذِكرٌ لمُحسِّر. وأيضًا فمخالفتهم في ذلك لا تقتضي الإسراع. الرابع: وهو المشهور أن وادي مُحسِّر موضعٌ نزل به عذاب، قال ابن القيم في "الهَدْي" (1): "فلما أتى بطنَ محسِّر حرَّك ناقته وأسرعَ السير، وهذه كانت عادتَه في المواضع التي نزلَ فيها بأسُ الله بأعدائه، فإنَّ هنالك أصاب أصحابَ الفيل ما قصَّ الله علينا، ولذلك سُمِّي ذلك الوادي وادي مُحسِّر، لأن الفيل حَسُرَ فيه، أي أعيا وانقطع عن الذهاب. وكذلك فعلَ في سلوكه الحِجْرَ وديارَ ثمود، فإنه تَقنَّع بثوبه وأسرع السيرَ (2)، ومُحسِّر برزخ ... ". وسيأتي بقية عبارته. وهذا القول مقبول، وشاهده ــ وهو الإسراع في أرض ثمود ــ منقول، ووَجِيهٌ أن يُكرَه الكونُ بمنازل غضب الله عز وجل فوق ما لا بدَّ منه من المرور السريع، كما يُستَحَبّ الكونُ واللبثُ بمنازل بركة الله عز وجل كمكة والمدينة. ولا يَخدِشُ في هذا الوجه الوجيه أن نجهل ما هو العذاب الذي نزلَ بمُحسِّر، فإنّ ما ذكروه من أنه عذاب أصحاب الفيل، وأن الفيل حُبِسَ هناك، متعقَّب بأن المعروف في الأخبار والأشعار والآثار أن ذلك كان بالمغمَّس (3) حذاءَ عرفة، [ص 3] وأن الفيل حُبِس دون الحرم، لكن لا مانع _________ (1) "زاد المعاد" (2/ 236). (2) أخرجه البخاري (3380) ومسلم (2980) من حديث ابن عمر. (3) انظر "سيرة ابن هشام" (1/ 47، 48) و"تاريخ الطبري" (2/ 132).

(17/516)


أن تكون طليعة من أصحاب الفيل تقدَّمت الفيلَ والجيشَ فبلغتْ مُحسِّرا. وقيل: إن العذاب هو أن رجلاً اصطادَ فيه، فنزلتْ نار فأحرقتْه. وقد علمتَ أن وجاهة القول الرابع لا يَخدِش فيها الجهلُ بتعيين العذاب. وإذا كان ذاك المعنى هو المتجه فلا ريبَ أن اقتضاءه للإسراع في مُحسِّر كراهيةُ الكون به فوق ما لا بُدَّ منه من المرور السريع، لا يختص بالحاجّ المفيض من مزدلفة، فيُلْحَق به غيره استنباطًا، والله أعلم. فصل إذا ثبت أن مُحسِّرًا يُكرَه الكون به فوق ما لابدَّ منه من المرور السريع، وجب أن لا يكون من البقعة التي شُرِعت فيها البيتوتةُ لياليَ التشريق، والكون بها بقيةَ نهار الثامن وليلة التاسع ويوم النحر وأيام التشريق، وهي منى، فلا يكون مُحسِّر من منى في الحكم، فأما في الاسم فقد جاء ما يدل على أنه من مزدلفة في الاسم مع خروجه منها في الحكم، وجاء ما يدل على أنه من منى في الاسم، وجاء ما يدل على أنه ليس من منى ولا مزدلفة. فأما الأول: فأخرجه ابن جرير في "تفسيره" (1) عن زيد بن أسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عرفةُ كلها موقفٌ إلا عُرَنَة، وجَمْعٌ كلها موقف إلا مُحسِّرًا". وأخرج (2) عن ابن الزبير: "كلُّ مزدلفةَ موقفٌ إلا واديَ مُحسِّر". وعن عروة _________ (1) (3/ 521)، وهو مرسل. (2) أي ابن جرير في "تفسيره" (3/ 521). وأخرجه أيضًا عبد الرزاق في "تفسيره" (1/ 79).

(17/517)


ابن الزبير (1) مثله. وخبر عبد الله بن الزبير في "الموطأ" (2) عن هشام بن عروة عنه. والأصل في الاستثناء الاتصال، فيكون محسِّر داخلًا في مزدلفةَ في الاسم خارجًا عنها في الحكم. فعلى هذا لا يكون من منى في الاسم أيضًا. فإن قيل: قضية هذا أن تكون عُرَنَة داخلةً في اسم عرفة وإن خرجت عنها في الحكم. قلت: لا مانعَ من هذا، بل يشهد له ما ذكره صاحب "القِرى" (3) وغيره بعد ذكر تحديد ابن عباس لعرفة أنه يدخل فيها عُرنة، ويوافقه حديث ابن عمر في "المسند" و"سنن أبي داود" (4): "غدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... حتى أتى عرفةَ، فنزل بنَمِرَة، وهي منزل الإمام الذي ينزل به بعرفة ... ". ونَمِرة من عُرَنة. وأما الثاني: فيدلُّ عليه ما في "المسند" و"صحيح مسلم" و"سنن النسائي" (5) من حديث الليث بن سعد عن أبي الزبير عن أبي مَعبد مولى ابن عباس عن ابن عباس عن أخيه الفضل ــ وكان رديفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ــ أنه قال عشيةَ عرفة وغداةَ جَمْعٍ للناس حين دَفَعوا: "عليكم بالسكينة"، وهو كافٌّ _________ (1) "تفسير ابن جرير" (3/ 521). (2) (1/ 388). (3) "القرى لقاصد أم القرى" (ص 346، 347). (4) "المسند" (6130) و"سنن أبي داود" (1913). وإسناده حسن. (5) "المسند" (1796) و"صحيح مسلم" (1282) والنسائي (5/ 258).

(17/518)


ناقتَه حتى دخل مُحسِّرًا ــ وهو من منى ــ قال: "عليكم بحصى الخَذْف الذي يُرمَى به الجمرة"، وقال: لم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُلبِّي حتى رمى الجمرة. لفظ مسلم. وفي "المسند" و"سنن النسائي": "حتى إذا دخل". ثم ساقه مسلم (1) من طريق ابن جريج عن أبي الزبير، ولم يسق المتنَ، وقد ساقه الإمام أحمد في "المسند" (2)، وفيه: "حتى إذا دخل منًى حين هبط محسِّرًا قال: عليك بحصى الخَذْف ... ". ولم يكن مقصود الفضل إلا الإخبار بما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - في مَسِيره من المزدلفة إلى جمرة العقبة، بدون نظرٍ إلى حكم البيتوتة، فغايةُ ما يُؤخذ من خبره أن مُحسِّرًا من منًى في الاسم. ومسلم أخرج هذا الحديث في "صحيحه" في أحاديث استدامة التلبية إلى رمي جمرة العقبة، ولم يُخرِجه في الموضع الذي يتعلق بحكم البيتوتة، وبين الموضعين أربعة عشر بابًا في تبويب النووي. ولم أجد هذا الخبر عن أبي معبد إلا من رواية أبي الزبير، وقد رواه جماعة غير أبي معبد عن ابن عباس، ورواه جماعة غير ابن عباس عن الفضل، ولم أرَ في شيء من رواياتهم هذه الكلمة أو معناها أن مُحسِّرًا من منى. وأبو الزبير وثَّقه جماعة، وليَّنه آخرون. قال الشافعي: "أبو الزبير يحتاج إلى دعامة" (3). _________ (1) رقم (1282). (2) رقم (1794). (3) انظر "تهذيب التهذيب" (9/ 441).

(17/519)


وقد لا يبعد أن تكون كلمة "وهو من منى" ــ وهي في الرواية التي اتفق على إخراج لفظها الإمام أحمد ومسلم والنسائي ــ مدرجةً من قول أبي الزبير، وأن راوي الرواية الأخرى خفي عليه الإدراجُ، وروى بالمعنى. والله أعلم. [ص 4] وأما الثالث: وهي أن مُحسِّرًا ليس داخلًا في اسم منى ولا اسم مزدلفة فهو المشهور، وفي "تاريخ الأزرقي" (ج 2 ص 155) (1): "حدثني جدّي، حدثنا مسلم بن خالد عن ابن جريج ... قلت لعطاء: وأين المزدلفة؟ قال: المزدلفة إذا أفضْتَ من مأزِمَيْ عرفةَ فذلك إلى مُحسِّر ... ". وفيه (ص 139) (2) بهذا السند عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أين منى؟ قال: من العقبة إلى محسِّر. قال عطاء: فلا أحِبُّ أن ينزل أحد إلا فيما بين العقبة إلى محسِّر. وهو خبر واحد قطعَه. وقد روى ابن جرير في "تفسيره" (3) القطعة الأولى: "حدثنا هناد قال: ثنا ابن ابي زائدة قال: أنا ابن جريج قال: قلت لعطاء ... ". وسنده صحيح. فأما سند الأزرقي ففيه مسلم بن خالد فيه لين، لكنه فقيه مكة في عصره، وهذا الحكم مما يُعنَى به فقهاء مكة. وشيخه ابن جريج إمام، وهو فقيه مكة في عصره أيضًا، وهو ممن روى حديث أبي الزبير السابق، وكأنه لم يُعوِّل على ما فيه مما يدل أن محسِّرًا من منى. وعطاء إمام، وهو فقيه مكة في _________ (1) "أخبار مكة" (2/ 191، 192) ط. رشدي ملحس. (2) (2/ 172). (3) (3/ 519).

(17/520)


عصره، وروى عن ابن عباس حديثَ الفضل وغيره. ثم جاء فقيه عصره الإمام الشافعي، وهو مكي أخذ عن مسلم بن خالد وغيره، قال في "الأم" (ج 2 ص 179) (1): "والمزدلفة من حين يُفضِي من مأزِمَيْ عرفة ــ وليس المأزمان من مزدلفة ــ إلى أن يأتي قرنَ مُحسِّر". وقال (ص 182) (2): "ومِنًى ما بين العقبة ــ وليست العقبة من منى ــ إلى بطن محسِّر، وليس بطنُ مُحسِّر من منى". وهذا القول أعني أن محسِّرًا ليس من المزدلفة ولا من منى، هو المعروف في كتب الفقه والمناسك في المذاهب الأربعة. وقال ابن حزم في "المحلَّى" (ج 7 ص 188): المسألة 853: "وعرفة كلها موقف إلا بطنَ عُرَنة، ومزدلفة كلها موقف إلا بطنَ مُحسِّر، لأن عرفة من الحلّ، وبطن عُرَنة من الحرم فهو غير عرفة، وأما مزدلفة فهي المشعر الحرام وهي من الحرم، وبطن محسِّر من الحلّ فهو غير مزدلفة". ولا ريب أن منى عنده من الحرم، فهي غير محسِّر الذي هو عنده من الحلّ. وقد أغربَ في زعمه أن بطن عُرَنة من الحرم، وأغربُ من ذلك زعمُه أن محسِّرًا من الحلّ. احتجّ ابن حزم باختلاف المكانين في أن هذا من الحلّ وهذا من الحرم على تغايرهما واختلاف حكمهما، وإنها لحجةٌ لو صحَّ ذاك الاختلاف. _________ (1) (3/ 549) ط. دار الوفاء. (2) (3/ 561).

(17/521)


وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مناسكه" (1): "ومزدلفة كلها يقال لها المشعر الحرام، وهي ما بين مأزِمَيْ عرفة إلى بطن مُحسِّر، فإن بين كل مشعرينِ حدًّا ليس منهما، فإن بين عرفة ومزدلفة بطن عُرَنة، وبين مزدلفة ومنًى بطن محسر". كأنه نظر إلى عبارة ابن حزم، وأعرض عما فيها من الخطأ. وقد أوضح ابن القيم ذلك، فقال في "الهدي" (2): "ومُحسِّر برزخ بين مِنًى وبين مزدلفة، لا من هذه ولا من هذه، وعُرَنة برزخ بين عرفة والمشعر الحرام، فبين كل مشعرينِ برزخٌ ليس منهما، فمِنًى من الحرم وهي مشعر، ومُحسِّر من الحرم وليس بمشعر، ومزدلفة حرم ومشعر، وعُرنة ليست مشعرًا وهي من الحلّ، وعرفة حِلّ ومشعر". ولا ريب أن الشيخين كانا عارفين بحديث أبي الزبير عن أبي معبد، ومع ذلك قطعَا بأن مُحسِّرًا ليس من مِنًى، وفي هذا سند قوي لما تقدم من الكلام فيه. والله أعلم. _________ (1) ضمن "مجموع الفتاوى" (26/ 134). (2) "زاد المعاد" (2/ 236، 237).

(17/522)


الرسالة السابعة عشرة

  فلسفة الأعياد وحِكمة الإسلام

(17/523)


الحمد لله ... فلسفة الأعياد وحِكْمَة الإسلام العيد في العرف العام: يوم مخصوص من العام، تحتفل به الأمة بمظاهر السرور، وأهمها الزينة، ولذلك يسمى أيضًا يوم الزينة؛ كما أخبر الله عزَّ وجلَّ عن كليمه عليه السلام أنَّه قال لفرعون وقومه: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} [طه: 59]. منشأ الأعياد إنَّ بروز الأمة بمظاهر السرور والزينة يُعبِّر عن سرور عظيم عامّ حدث لها، والسرور العام إنَّما ينشأ عن نعمةٍ عظيمةٍ عامةٍ حدثت للأمة. إذن فالعيد يوم مخصوص من السنة، تحدث فيه كل سنة نعمة عظيمة للأمة، تبعث في قلوب أبنائها سرورًا عظيمًا، يسوقهم بطبيعة الحال إلى الاجتماع على إظهار الزينة بأنواعها. إذن فالعيد ناشئٌ عن سبب طبيعي ثابت. لكنَّ هذه الحال وإن انطبقت على بعض الأعياد، كيوم وفاء النيل بمصر، فإن غالب الأعياد ليس كذلك. فمن ذلك أنَّ كثيرًا من الأمم تتَّخذ يوم استقلالها عيدًا. ومن ذلك أول يوم من السَّنة؛ فإنَّ كثيرًا من الأمم تتَّخذ أول يوم من سنتها عيدًا. فحدوث الاستقلال نعمة عظيمة على الأمة، ولكن اليوم الذي يقابله من

(17/525)


السنة الثانية والثالثة وهكذا لم يحدث فيه شيء. وأول السَّنة التي ابتُدِئ بها التاريخ قد يكون يوم حدوث نعمةٍ، وقد يكون مبنيًّا على أمرٍ فلكي أو اصطلاحي. فأقول: لا ريب أنَّ اليوم المقابل ليوم الاستقلال من كل سنة، ومثله أول السنة، لم تحدث فيه نعمةٌ عظيمةٌ، ولكن المفكِّرين من الأمم جعلوه عيدًا لأغراض سياسية. فإذا ساغ لنا أن نعدَّ يوم وفاء النيل ــ مثلًا ــ عيدًا طبيعيًا، فلنعدَّ اليوم المقابل ليوم الاستقلال ــ مثلًا ــ عيدًا اصطلاحيًّا. إلاَّ أنَّ ههنا فرقًا بين اليوم المقابل ليوم الاستقلال، وبين أول السنة في التواريخ التي ابتُدِئت بمجرَّد الاصطلاح. فالأول وإن لم تحدث فيه نعمةٌ فإنها حدثت في مثله، وكما قيل: الشيء بالشيء يُذكَر، وليس الثاني كذلك. ولكن لما كانت المثلية توجد في كل أسبوعٍ، وفي كل شهرٍ، وفي كل فصلٍ، وكان تذكُّر النِّعْمة لا يقتضي حدوث سرورٍ عظيمٍ يبعث على إظهار الزينة؛ لم يخرج اليوم المقابل [ص 2] ليوم الاستقلال ــ مثلًا ــ من كونه عيدًا اصطلاحيًا. * * * *

(17/526)


الأعياد الدينية أمَّا الأديان التي عَبِثَتْ بها الأهواء فغالب أعيادها اصطلاحيٌّ، والبحث فيه يطول، والذي يهمُّنا هنا البحث عن الأعياد الثابتِ شرعُها عن الله تبارك وتعالى، وإنَّما يتيسَّر لنا ذلك في دين الإسلام. نظرية الإسلام في الأعياد قد علمت مما تقدَّم أنَّ الأعياد على نوعين: طبيعي واصطلاحي. فأمَّا ما يتعلَّق بالطبيعي فإنَّ الشريعة الإسلامية لم تنظر إلَّا إلى النِّعَم الحقيقية التي تعمُّ جميعَ المسلمين. والموجود من هذه النِّعَم متكرِّرًا كلَّ عام أمران: الأول: تمام صيام شهر رمضان، والخروج من مشقَّة الصيام. الثاني: تمام الحج، والخلاص من مشقة الإحرام. وصيام شهر رمضان والحج من أركان الإسلام، ومن أعظم النِّعَم على المسلمين أن يتمَّ صيامهم ويتم حجُّهم. فإن قيل: فإن الحجَّاج إنَّما هم طائفةٌ من المسلمين. قلت: نعم، ولكن حج البيت كل سنة فرض كفاية على جميع المسلمين؛ فإذا قام به بعضهم فقد تمَّت النِّعْمة على الجميع بسقوط الإثم. زِدْ على ذلك أنَّ تمكُّن المسلمين من إتمام الحج من مظاهر ظهور الإسلام واجتماع المسلمين؛ وذلك من أعظم النِّعَم عليهم.

(17/527)


وأظهر من ذلك: أنَّ من حِكَم شرع الحج اجتماعَ المسلمين، وكان ظاهرُ هذا وجوبَه على كل فرد منهم كل سنة. لأنَّه يُشَرع في الصلوات الخمس اجتماعُ أهل كل محلَّةٍ، وفي الجمعة اجتماع أهل كل مدينةٍ، وفي عيد الفطر اجتماع أهل كل مدينةٍ وما حولها؛ حتى النساء، بما فيه العواتق ذواتُ الخدور والحيَّض؛ كما في الحديث الصحيح (1). فما بعد ذلك إلاَّ اجتماع أهل قطر، وهذا أهمله الشارع اكتفاءً بالحج. فكان الظاهر أن يُشرَع في الحج اجتماع جميع المسلمين، ولكن لما كان في ذلك مشقةٌ عليهم، وضياعٌ لمصالحهم خفَّف الله عنهم. ومن هنا يُفهَم ما صحَّ: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سُئِل عن وجوب الحج؛ أكلَّ سنةٍ؟ ــ يعني: على كل فردٍ ــ فقال: «لا، ولو قلتُ: نعم لوجبَتْ» (2). فاكتفى الشرع بأن يحجَّ من أهل كل جهةٍ طائفةٌ، ثم هذه الطائفة تُبلِّغ مَنْ وراءها آثار الاجتماع في الحج. كما قال الله تعالى في الجهاد: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]. وكلَّف الذين لم يحجّوا باجتماع أهل كل بلد في بلدهم ليحصل بذلك ما يحصل من حضور الاجتماع الأعظم. ومن جهة أخرى فالغالب أنَّ كل فردٍ من المسلمين يكون له قريب أو صديق في الحج، وتمام النِّعْمة على ذلك يوجب سرور هذا. _________ (1) أخرجه البخاري (974) ومسلم (890) من حديث أم عطية. (2) أخرجه مسلم (1337) من حديث أبي هريرة.

(17/528)


ومع ذلك شرع للمقيمين صيام تسع ذي الحجة، ولا سيَّما التاسع، وبتمامها تتم عليهم نعمة أخرى، وشرع لمن أراد التضحية منهم أن لا يحلق شعرًا، ولا يقُصَّ ظُفْرًا حتى يُضحِّي؛ كما جاء في الحديث (1). وشرع لهم في عيد الأضحى: أن لا يَطْعَموا شيئًا حتى يُصلُّوا العيد، وبعد صلاة العيد ينفكُّ عنهم قيدُ الإمساك عن القَرْض (2) وعن الأكل؛ وهذه نعمةٌ أخرى. لم تكن الشريعة الإسلامية ــ وهي من وضع الحكيم العليم عزَّ وجلَّ ــ لتكتفي بهذا؛ بل نظرت إلى الأعمال التي ينبغي للمسلمين عملُها في عيدهم، فوجدت أنَّ تمام النِّعْمة كما يبعث المسلم ــ كغيره ــ على السرور طبعًا، والسرور يبعث على إظهار الزينة= فإنه يبعثه أيضًا على شكر المنعم عزَّ وجلَّ. لهذا اقتضت الحكمة أن تكون الأعمال المشروعة في العيد جامعةً بين الزينة والعبادة. فالتكبير، والصلاة، وأداء الفطرة، والصدقة من الأضحية= عبادةٌ محضةٌ. والتنظُّف، والتطيُّب، ولبس الجديد، والاجتماع، والتقرُّب بالأضحية= تتضمَّن الأمرين. أمَّا كونها عبادة فقد جاء في الحديث: «النَّظَافة من الإيمان» (3). _________ (1) أخرجه مسلم (1977) من حديث أم سلمة. (2) أي استعمال المقراض لقصّ الشعر. (3) أخرجه الطبراني في «الأوسط» (7311) وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» (1/ 183) من حديث ابن مسعود بلفظ: «النظافة تدعو إلى الإيمان». ولا يصح، قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 236): فيه إبراهيم بن حيان، قال ابن عدي: أحاديثه موضوعة. وقال العراقي في «تخريج الإحياء» (1/ 49، 125): سنده ضعيف جدًّا.

(17/529)


وجاء: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يحبّ الطِّيب (1)، وأن الملائكة يحبُّون الطِّيب. وجاء عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - الندبُ إلى حسن اللباس، وقال: «إنَّ الله يحبُّ أن يرى أثر نعمته على عبده» (2). وقال للِّذي أخبره أنَّه يحبُّ أن يكون ثوبه حسنًا، ورأسه دهينًا، ونعلاه حسنتين: «إنَّ الله جميل يحبُّ الجمال» (3). وعدم التنظُّف والتطيُّب يؤذي المجتمعين، واجتناب أذية الناس عبادةٌ. والاجتماع الحسي باعث على الاجتماع المعنوي؛ [ص 3] ولاسيَّما والمشروع أن يكون الإمام هو الأمير؛ فيخطب فيهم ببيان المصالح العامة التي ينبغي أن يتعاونوا عليها، ويمثل بصلاته بهم واقتدائهم به تقدُّمَه إياهم في طاعة الله عزَّ وجلَّ، وتبَعَهم له في ذلك، أعني في مصالح الإسلام والمسلمين. والتقرب بالأضحية ظاهر. وأمَّا كون هذه الأشياء من الزينة ــ أعني ما يعمُّ التوسُّعَ في الأكل ونحوه ــ فظاهر. _________ (1) أخرجه أحمد (3/ 128، 199، 285) والنسائي (7/ 61) من حديث أنس بن مالك مرفوعًا: «حُبِّب إليَّ الطيبُ والنساء ... » وإسناده حسن. (2) أخرجه الترمذي (2820) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وإسناده حسن. (3) أخرجه مسلم (91) من حديث ابن مسعود.

(17/530)


بقي ما أبيح في العيد من اللهو؛ كالضرب بالدفِّ، واللعب بالسلاح، وهذا أيضًا مشتملٌ على الأمرين. أمَّا كونه زينةً فظاهر. وأمَّا أنَّ فيه عبادةً فلِمَا جاء عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنَّه قال للحبشة ــ عندما كانوا يلعبون بحِرَابِهم ــ: «إيهِ بني أرفدةَ؛ لتعلم اليهود والنصارى أنَّ في ديننا فسحةً» (1). واللعب بالسلاح تدرُّبٌ على الجهاد، وأيضًا فإنَّ في إسعاف النفس ببعض حظوظها إجمامًا لها، وترويحًا عنها لتنشط للعبادات والأعمال المصلحية، ولاسيَّما وهي خارجةٌ من عمل شاقٍّ حالَ بينها وبين شهواتها؛ وهو الإحرام لمن حجَّ، وسرد الصيام في عِدَّة رمضان، وصيام تسع ذي الحجة لمن لم يحج، مع إمساكه عن الحلقِ وقصِّ الأظفار حتى يُضحِّي، وعن الطعام حتى يرجع من الصلاة، وأنت خبيرٌ أن اللهو إنَّما يحدث بعد ذلك. هذه حكمة الإسلام في الأعياد، ولكن ــ يا للأسف ــ إن المسلمين لا يكاد يوجد منهم من يستحضر هذه المعاني ويبني عملَه على تلك المقاصد، ولا يكاد يُوجد من علمائهم من يُبيِّن لهم ذلك؛ فالله المستعان. وكما رخَّص الشارع في بعض اللهو وغيره في العيدين، كذلك رخَّص فيها عند حدوث نعمةٍ عظمى؛ كالزواج، والختان، والقدوم من سفر؛ ولم _________ (1) أخرجه أحمد (6/ 116، 233) والحميدي في «مسنده» (254) من حديث عائشة. وإسناده حسن.

(17/531)


يُرخِّص في ذلك في مثل ذلك اليوم من الأسبوع، أو الشهر، أو السنة؛ لما علمت. أمَّا الأعياد الاصطلاحية فلم تلتفت إليها الشريعة من حيث هي أعياد، وما كان فيها من أغراض سياسية أدرجته الشريعة في الأعياد الطبيعية ــ كما مرَّت الإشارة إليه ــ، أو في عبادة تخصُّه؛ كما في يوم الجمعة؛ كما يأتي. مع أنَّ في عيدَي الفطر والأضحى ما يفي بذلك؛ فعيد الفطر تذكار لنزول القرآن في رمضان؛ كما يأتي. وعيد النحر تذكارٌ لتمام الدين وعزِّه. والعُرْف يقضي بأنَّ أمةً من الأمم لو جاهدت في سبيل استقلالها مثلًا، فانتصرت في عدة انتصارات= فإنَّما تجعل العيدَ اليومَ الذي تميَّز فيه نتيجة جهادها. وهذا المعنى نفسه بالنسبة إلى الإسلام كافٍ في عيد الأضحى؛ كما يأتي. ولكن الشريعة نظرت إلى الأيام التي حدثت فيها نِعَمٌ عظمى عامة؛ فرأت أن المثلية تذكِّرُ بالنِّعَم كما مرَّ. وتذكُّر النِّعْمة، وإن لم يكفِ في البعث على إظهار الزينة= فإنه يكفي للبعث على الشكر. فشَرَعت في أمثال تلك الأيام عباداتٍ مخصوصة، واختارت أقرب ما يكون من المثلية. فإذا حدثت النِّعْمة في يومٍ عيَّنت العبادة في مثله من كل أسبوع، ولا تخرج عن هذا إلاَّ لمعنىً آخر؛ كما سيأتي في صيام عرفة ويوم عاشوراء. وإذا حدثت النِّعْمة في شهرٍ عيَّنت العبادة في مثله من كلِّ سنة. فمن الأول: يوم الجمعة؛ ففي «صحيح مسلمٍ» (1) عن النَّبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خيرُ _________ (1) رقم (854) عن أبي هريرة.

(17/532)


يومٍ طلعتْ عليه [الشمسُ] (1) [ص 4] يوم الجمعة؛ فيه خُلِق آدم، وفيه أُدخِلَ الجنةَ، وفيه أُخرِجَ منها، ولا تقوم الساعة إلاَّ في يوم الجمعة». وخروج آدم عليه السلام من الجنة نعمةٌ في حقِّنا؛ لأنَّه سبب وجودِنا. وقيام الساعة نعمةٌ على المؤمنين؛ لأنَّ فيه القضاءَ لهم على أعدائهم، والأخذَ لهم بحقوقهم، بل إدخالهم الجنة، وتجلِّي الرب عزَّ وجلَّ لهم. ولما كانت هذه النِّعَم عامةً لجميع بني آدم شرع الله تعالى لهم جميعًا تخصيصَ هذا اليوم؛ ولكن اقتضت حكمته عزَّ وجلَّ أن لا يَدُلَّهم على يوم الجمعة من أول وهلةٍ؛ بل يأمرهم بتخصيص يومٍ من الأسبوع، ويدع تعيينه إلى اجتهادهم. ففي الصحيحين (2) عن النَّبي: «نحن الآخِرون السابقون يوم القيامة؛ بيدَ أنَّهم أُوتوا الكتابَ من قبلِنا، وأُوتيناه من بعدِهم، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم ــ يعني يوم الجمعة ــ فاختلفوا فيه، فهدانا الله إليه» الحديث. وهداية هذه الأمة له: ما ثبت في السيرة وغيرها أنَّ المسلمين في المدينة قبل هجرة النَّبي - صلى الله عليه وآله وسلم - اتفقوا ــ إمَّا بأمرٍ منه - صلى الله عليه وآله وسلم - أو باجتهادهم ــ على أن يخصِّصوا يومًا معيَّنًا من الأسبوع يجتمعون فيه لذكر الله تعالى والاتفاق على مصالح المسلمين؛ إذْ لا يتيسَّر لهم الاجتماع كلَّ يوم؛ لاشتغالهم بنخيلهم وتجارتهم، وغير ذلك من مصالح دنياهم، فأجمعوا على يوم الجمعة. _________ (1) سقطت من الأصل. (2) البخاري (876) ومسلم (855) عن أبي هريرة.

(17/533)


وكانت صلاة الظهر يومئذٍ ركعتين؛ كما في الصحيحين (1)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «فُرِضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ففُرِضَتْ أربعًا، وتُرِكَت صلاة السفر على الفريضة الأولى». أقول: وتُرِكَت ظهر يوم الجمعة في حقّ المجتمعين الاجتماعَ المخصوص، كما هو ظاهر، وههنا مباحث علمية ليس هذا موضعها. والمقصود: أن الله عزَّ وجلَّ شرع يوم الجمعة ما شرع من العبادة الزائدة على بقية الأيام؛ من الاجتماع، والخطبة، والغُسل، والسواك، والطيب، والتبكير إلى الجامع، وكثرة الصلاة قبل خروج الإمام= شكرًا له عزَّ وجلَّ على ما تقدَّم من النِّعَم وغيرها. ومن الناس من يَعُدُّ يوم الجمعة عيدًا؛ لأنَّ كثيرًا مما شُرِع في العيد من التطيُّب والتنظُّف والاجتماع والخطبة، شُرِع فيه. ولأنَّه صحَّ النهي عن تخصيصه بصيام (2)؛ كما نَهَى عن صيام يوم العيد (3). وليس هذا بظاهر. أمَّا التطيُّب والتنظُّف فإنَّما شرعت فيه لحقوق المجتمعين؛ كما صحَّ أنَّ الصحابة كانوا أولًا يجتمعون، ومنهم من لم يغتسل ولم يتطيَّب، فيؤذي _________ (1) البخاري (3935) ومسلم (685) عن عائشة. (2) أخرجه البخاري (1985) ومسلم (1144) من حديث أبي هريرة. وفي الباب أحاديث أخرى. (3) أخرجه البخاري (1991) ومسلم (783) من حديث أبي سعيد الخدري. وفي الباب أحاديث أخرى.

(17/534)


بعضهم بعضًا، فأُمِرُوا بذلك (1). وأمَّا الاجتماع والخطبة فأمر مصلحيٌّ لا يقتضي أن يُعَدَّ ذلك اليوم عيدًا. وأمَّا النهي عن تخصيص يوم الجمعة بالصيام؛ فلو كان لأنَّه عيدٌ لنَهَى عن صيامه مطلقًا، وليس كذلك؛ وإنَّما نَهَى أن يُصام وحده، فلو صامه مع الخميس [ص 5] أو مع السبت صحَّ؛ كما ثبت عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - (2). وههنا فائدةٌ يتعطَّش إليها القارئ، وإن كانت خارجةً عن الموضوع وهي حكمة النهي عن تخصيص يوم الجمعة بصيامٍ، وليله بقيام. فأقول: قد قيل: لأنَّه عيدٌ، وقد تقدَّم ما فيه. وقيل: لئلا يَضعُفَ بقيام ليلته وصيامه عن العبادات المشروعة فيه. وهذا أيضًا باطلٌ؛ لجواز قيام ليلته لمن يريد قيام ليلة السبت، وصيامه لمن يريد صيام يوم السبت؛ كما تقدَّم. والضعف حاصلٌ هنا، وقيل، وقيل. وعندي أنَّه - صلى الله عليه وآله وسلم - إنَّما نَهَى عن ذلك؛ لأنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يشرع التخصيص بذلك. وربما يتوَّهم بعض الناس مشروعية التخصيص بذلك لما ليوم الجمعة من الفضيلة؛ فبيَّن - صلى الله عليه وآله وسلم - أنَّ فضيلة اليوم لا تقتضي مشروعية تَخصيصِه بجميع العبادات؛ بأن يكون لها فيه أجرٌ أعظم منها في سواه؛ وإنَّما يشرع التخصيص بالعبادة التي شرع الله تعالى التخصيص بها. فيوم الجمعة بالنسبة إلى قيام ليلته وصيام نهاره بمنزلة يوم الثلاثاء في أنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يشرع تخصيص كل منهما بذلك. فمن خصَّص أحدهما _________ (1) أخرجه البخاري (903) ومسلم (847) من حديث عائشة رضي الله عنها. (2) في الحديث الذي خرجناه آنفا.

(17/535)


ظانًّا أنَّ أجر ذلك فيه أعظم من غيره فهو مبتدعٌ. وإنَّما نصَّ النَّبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على يوم الجمعة لأنَّه مظنَّة أن يتوهَّم الناس فيه زيادة الأجر لفضيلته. ولذلك أكَّد - صلى الله عليه وآله وسلم - النهي عن صيامه، حتى لمن لم يتعمَّد تخصيصَه التماسًا لزيادة الأجر. ولم يقل ذلك في يوم الثلاثاء مثلًا؛ فلو صامه أحدنا وحدَه غيرَ متعمِّدٍ للتخصيص، وإنَّما وقع ذلك اتفاقًا، ما كان بذلك بأسٌ. نعم، لما كان في الأعمال المشروعة في الجمعة ما فيه حظٌّ للنفس شرع الله تعالى للأمة صيام يوم الخميس؛ ليكون الصائم له مستحقًّا لما يكون في يوم الجمعة من حظِّ النفس. ولا ينافي ذلك ما جاء من حكمة استحباب صوم يوم الخميس؛ بأنَّه يومٌ تُعرَض فيه الأعمال (1). ومن ذلك يوم الاثنين؛ ففي «صحيح مسلم» (2) عن أبي قتادة قال: سُئل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن صوم يوم الاثنين؛ فقال: «فيه وُلِدْتُ، وفيه أُنزِل عليَّ». فشرع الله تعالى للمسلمين صيام يوم الاثنين؛ شكرًا على هاتين النِّعَمتين العظيمتين: ولادة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وإنزال القرآن عليه (3). _________ (1) أخرجه الترمذي (747) من حديث أبي هريرة، وفي سنده محمد بن رفاعة بن ثعلبة القرظي، لم يوثقه غير ابن حبان. ولكن للحديث شواهد منها حديث أسامة بن زيد الذي أخرجه أبو داود (2436) والنسائي (4/ 201، 202)، وبمجموعهما يرتقي الحديث إلى الحسن. (2) رقم (1162/ 198). (3) في هامش (ص 1) عبارة تناسب السياق المذكور هنا: «ولأنه لو فُتح هذا الباب لآل إلى تعميم الأيام، إذ لم يبقَ غيرُ خمسة أيام، وهي ما عدا الاثنين والخميس، وفي ذلك حرجٌ يؤدي إمّا إلى الاشتغال عن المصالح، وإمَّا إلى التهاون بالجميع».

(17/536)


وبهذا مع ما تقدّم عُلِمَ الجواب عن طعن بعض أهل الأديان في الإسلام؛ بأنَّه لم يشرع لأهله أن يتّخذوا يوم ولادة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، أو يوم بَعْثِه عيدًا. وطعن بعضهم في القرون الإسلامية الأولى بذلك؛ لأنَّه لم يحدث الاحتفاء بيوم 12 ربيع الأول إلاَّ في القرن ...... (1). فيقال لهم: إنَّ النِّعْمة كان حدوثها يومَ وُلِد - صلى الله عليه وآله وسلم -[ص 6]، ويوم بُعِث؛ وأمَّا مثل ذلك اليوم من كل أسبوع، أو شهر، أو فصل، أو سنة= فلا يحدث فيه إلَّا تذكُّر النِّعْمة. وتذكُّر النِّعْمة لا يُحْدِث في النفس سرورًا دنيويًّا، يبعثها على إظهار الزينة حتى ينبغي أن نتّخذه عيدًا، وإنَّما يُحدِث فيها سرورًا دينيًّا يبعثها على شكر تلك النِّعْمة. وقد شرع الله عزَّ وجلَّ لنا أقرب الأمثال لذلك اليوم، وهو مثله من كل أسبوع؛ أن نقوم بشكره عزَّ وجلَّ على تَينكَ النِّعمتين العظيمتين؛ بعبادةٍ خالصة عن حظِّ النفس، وهي الصيام الذي يناسب السرور الديني، فإن السرور الديني يبعث على الرغبة عن الدنيا. وقد ذكَّرني هذا الاعتراض ما صحَّ أنَّ اليهود قالوا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: آيةٌ في كتابكم معشرَ المسلمين لو علينا معشرَ اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. فأجابهم الفاروق رضي الله عنه بأنَّها _________ (1) بياض في الأصل. ومعلوم أن ابتداء الاحتفال بالمولد كان في القرن السادس على يد السلطان المظفر كوكبوري صاحب إربل، والله المستعان.

(17/537)


نزلت يوم الجمعة يوم عرفة؛ والنَّبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعرفةَ (1). يعني: وكلاهما يوم عبادة شرعها الله تعالى للمسلمين، فيوم عرفة يوم شُرِع فيه للحجاج الوقوف بعرفات، وذكر الله تعالى، ولغيرهم الصيام، ويوم الجمعة قد تقدم العبادات التي فيه. والعبادة هي التي ينبغي عملها عند تذكُّر النِّعَم لا الزينة. وعندي: أنَّ هذا الاعتراض من خُبْثِ المغضوب عليهم ــ قاتلهم الله ــ؛ طمعوا أن يَستزِلُّوا المسلمين إلى إحداثٍ يخالفون به نفس تلك الآية العظيمة؛ فكبَتَهم الله: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25]. ولكن المسلمين ــ ويا للأسف ــ نَسُوا صومَ يوم الاثنين وما في صومه من شكر الله عزَّ وجلَّ، وما يتضمَّن ذلك من محبَّته - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ حتى إنَّ أكثرهم يجهل ذلك. ولم أرَ طولَ عمري من يصومه بتلك النيَّة، ولا مَن يذكره؛ إلاَّ أنني سمعتُ مَن يذكر الحديثَ احتجاجًا على مشروعية الاحتفاء بثاني عشر ربيع الأول؛ فالله المستعان. فأمَّا صوم يوم عاشوراء فكان من بقايا شرائع الأنبياء المتقدّمين، وجاء: أنَّه اليوم الذي أنجى الله تعالى [فيه] موسى وقومه، وغرَّق فرعون وقومه. فصامه موسى عليه السلام، وأمر بصيامه، وصامه النَّبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأرشد إلى صيامه (2)؛ عملًا بقول الله عزَّ وجلَّ: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. _________ (1) أخرجه البخاري (45، 4407) ومسلم (3017) من حديث طارق بن شهاب عن عمر. (2) أخرجه البخاري (2004) ومسلم (1130) من حديث ابن عباس.

(17/538)


وقد كانت أيامٌ حدثتْ فيها نِعَمٌ في العهد النبوي، ولم يشرع تخصيص أمثالها بعبادةٍ اكتفاءً عنه بغيرها. وبما أنَّ الله تعالى قد أكمل الدين؛ فليس لأحدٍ إحداثُ شيء من ذلك. وهكذا الأيام التي حدثت فيها النِّعَم بعد العهد النبوي ليس لأحدٍ تخصيصُ أمثالها بعبادةٍ مخصوصةٍ؛ لأن الدِّين قد كمل في حياة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولأنّ كل نعمةٍ عامةٍ للمسلمين حدثَتْ بعده - صلى الله عليه وآله وسلم - فهي فرعٌ عن النِّعَم التي حدثتْ في عهده عليه الصلاة والسلام. ومن الباب ــ أعني حدوثَ النِّعْمة في شهرٍ ــ: شهر رمضان، قال الله عزَّ وجلَّ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. فالفاء في قوله: {فَمَنْ} للتعليل؛ تدلُّ على أنَّ ما قبلها علّة لما بعدها. ومثلُ (الشهر) إنَّما يحصل في السنة مرّةً، وهذا واضحٌ بحمد الله تعالى. [ص 7] ومن ذلك: تسع ذي الحجة؛ شرع الله تعالى لغير الحاجّ صيامها، وعدَّه شكرًا له عزَّ وجلَّ على تيسير طريق الحج لإخوانهم، وعلى النِّعَم التي شرع الحج شكرًا لها. وأكَّد لهم صوم يوم عرفة؛ لأنَّه يوم الحج الأكبر. وإخوانهم من جميع بلدان المسلمين قد برز فيهم الاجتماع الحسيّ بأجلى مظاهره؛ وهو رمز إلى اجتماع كلمة المسلمين جميعًا. وتلك من أعظم النِّعَم التي يجب شكرها لغيرهم، والله أعلم. فأمَّا سبب تخصيص الحج بالأيام من ذي الحجة فلم أستحضر الآن الأصلَ في ذلك؛ إلاَّ أنَّ الاستقراء يدلُّ على أنَّ لذلك سببًا، من جنس ما تقدَّم.

(17/539)


وعلى كل حال، فليس المقصود هنا استيفاء العبادات، وإنَّما المقصود: بيان أن الأيام التي تحدثُ فيها النِّعَم العظام مرَّة من الزمان لا يجعلها الشرع أعيادًا، وإنَّما يجعلها مواسم للعبادات؛ شكرًا على تلك النِّعَم، مع حِكَمٍ أخرى. أمَّا المقاصد السياسية في الأعياد فأهمها: الاجتماع؛ ليطَّلع كلٌّ من أفراد الأمة على أحوال غيره، ويتبادلوا الأفكار، ويوحدوا صفَّهم، وغير ذلك. وقد راعتِ الشريعة الإسلامية الاجتماعَ على غاية ما يمكن؛ فشُرِعَت الجماعة في الصلوات الخمس لأهل كل قريةٍ أو محلّةٍ، وشُرِعَ تقليل المساجد وتوسيعُها؛ حتى لا يزيد عددها على قدر الحاجة، فيكون الزائد كمسجد الضرار تفريقًا بين المؤمنين، مع ما في ذلك من تحجير البقعة لغير حاجةٍ، وكان يمكن أن تنفع المسلمين باتخاذها مدرسةً أو نحوها. وبعض الأئمة يرى أنَّ الجماعة فرض عينٍ؛ بل منهم من جعلها من شروط الصلاة. ثم شُرِعت الجمعة ليجتمع أهل كل مدينةٍ في مسجدٍ واحدٍ؛ ولذلك لم يُجوِّز بعضُ الأئمة تعدُّد الجمع في البلد الواحد وإن اتّسعَ وضاق المسجد، بل يجب على المسلمين توسيع المسجد ولو إلى أميال. وهذا هو الموافق للسنة، وعمل القرون الأولى مع اتساع المدن وكثرة الناس، وهو الموافق لحكمة الاجتماع. ثم شُرِع العيد لاجتماعٍ أعمَّ من الجمعة؛ حتى شُرع فيه إخراج النساء؛ صغارًا وكبارًا، حتى الحيَّض ــ كما مرَّ ــ. وبعض الأئمة يرى أن العيد فريضة.

(17/540)


ثم شُرع الحج؛ ليجتمع في موضعٍ واحدٍ جميعُ المسلمين. هذا هو الأصل؛ على ما تقدَّم. ولكن ــ ويا للأسف ــ المسلمون جهلوا هذه الحِكَم؛ فقليلٌ منهم يجتمعون هذا الاجتماعات المشروعة، والمجتمعون قليلًا ما يبحثون عن مصالحهم. حتى إنَّ الخطب الجُمعية والعيدية والحَجّيَّة تراها بمعزلٍ عن هذا. وأكثر الحجَّاج لا يبحثون عن شيء من مصالح المسلمين في سائر الأقطار. اللهم أَيقِظِ المسلمين لتدبُّر دينهم الكافل لمصالح دنياهم وأخراهم، بيدك الخير، وعلى كل شيء قدير (1). _________ (1) إلى هنا انتهت الرسالة. وقد كتب المؤلف على صفحة غلافها ما يلي: ما عليه كثير من الناس [من ذكر] الأيام التي وقعتْ في مثلها بليَّة أو مصيبة؛ كما كان ... وكما يفعله النصارى في تذكار صلب المسيح عليه السلام، وأيام قتل الشهداء، وغير ذلك، لا يُعلَم في الإسلام شيءٌ من ذلك. وسببه أنَّ المشروع عند المصائب الصبر؛ فإذا شرع ذلك في يوم حدوث المصيبة فبالأولى فيما يماثله من الأيام؛ لأنَّه لم يحدُثْ في المثل شيءٌ. وأمَّا ما سُمِح به يومَ حدوثِ المصيبة من إراقة الدمع؛ فذلك لأنَّه أمرٌ طبيعيٌ، لا يُستطاع دفعُه، ولا يكون هكذا في مثل ذلك اليوم. وهكذا ما أُمِرتْ به زوجةُ المتوفى من الإحداد فهو أمرٌ خاصٌّ بها لمدَّةٍ معيَّنةٍ، وقد صحَّ النهي عما عدا ذلك. وإذا تأمّل العاقل وجد أنَّ هذا النوع من الأعياد يُنتِج نقيضَ المقصود؛ ولأننا نرى الأقوام المعتنين بها تكون حالُهم فيها حالَ سرورٍ وفرحٍ، ولهو ولعب؛ إذا استثنينا بعض الحركات التكلُّفية التي أصبحت مظهرًا من مظاهر اللهو واللعب أيضًا، والله المستعان.

(17/541)


الرسالة الثامنة عشرة

  توكيل الولي غير المجبر بتزويج موليته

(17/543)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله على إفضاله، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه، سيّدنا محمد وآله. وبعدُ، فقد جرت المذاكرة في توكيل الولي غير المجبر بتزويج موليته إذا وقع التوكيل قبل إذنها، فلمّا راجعتُ المظانَّ وجدت الحاجة ماسةً إلى بسطٍ وتحقيق، فأقول مستعينًا بالله سبحانه: [ص 2] قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "وإذا جاز للمرأة أن تُوكِّل وليَّينِ جاز للوليِّ الذي لا أمرَ للمرأة معه أن يوكّل، وهذا للأب خاصة في البكر، ولم يجُزْ لوليٍّ غيرٍ هـ (1) للمرأة معهم أمرٌ، أن يُوكِّل أبٌ في ثيّب، ولا وليٌّ غيرُ أبٍ، إلا بأن تأذن له أن يوكّل بتزويجها، فيجوز بإذنها". "الأم" (ج 5 ص 14) (2). وأمّا كلام الأصحاب، فقال الشيخ أبو إسحاق في "المهذَّب": "ولا يصحُّ التوكيلُ إلا ممّن يملك التصرفَ في الذي يُوكَّل فيه بمِلْكٍ أو ولاية، فأمّا من لا يملك التصرفَ في الذي يُوكَّل فيه ــ كالصبي، والمجنون، والمحجور عليه في المال، والمرأة في النكاح، والفاسق في تزويج ابنته ــ فلا يملك التوكيلَ فيه .... وأمّا من لا يملك التصرف إلا بالإذن كالوكيل والعبد المأذون له، فإنّه لا يملك التوكيل إلا بالإذن. واختلف أصحابنا في _________ (1) وقوله "غيره" أي: غير الولي الذي لا أمر للمرأة معه، أو غير الأب في البكر. (2) (6/ 43) ط. دار الوفاء.

(17/545)


غير الأب والجد من العصبات هل يملك التوكيل في التزويج من غير إذن المرأة؟ منهم مَنْ قال: يملك؛ لأنّه يملك التزويج بالولاية من جهة الشرع، فيملك التوكيل من غير إذن كالأب والجدّ. ومنهم من قال: لا يملك؛ لأنّه لا يملك التزويج إلا بالإذن، فلا يملك التوكيل إلا بإذن، كالوكيل والعبد المأذون". "المهذب" (ج 1 ص 351) (1). [ص 3] أقول: مسألة "المهذَّب" في الولي غير المجبر الذي أذنت له بالزواج، ولم تأذنْ له بالتوكيل ولا نهتْه عنه، وهي غير مسألتنا. وقال الرافعي في "المحرر" (2): "وأمّا غير المجبر فإن نهتْه عن التوكيل لا يُوكِّل، وإن أذنتْ له وَكَّل، وإن قالت له: زوِّجني، فهل له التوكيل؟ فيه وجهان أصحهما نعم. ولا يجوز [له] التوكيل من غير استئذانها في النكاح في أصح الوجهين". وعبارة "المنهاج" (3): "وغير المُجْبِر إن قالت له وكِّلْ وَكَّلَ، وإن نهتْه فلا، وإن قالت: زوِّجْني فله التوكيل في الأصح، ولو وَكَّل قبل استئذانها لم يصحَّ على الصحيح". قال الخطيب في "المغني" (4) بعد قول "المنهاج": "على الصحيح": المنصوص، يريد نصّ الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وقد تقدم. _________ (1) (3/ 347) تحقيق الزحيلي. (2) (ص 293) ط. دار الكتب العلمية. (3) "منهاج الطالبين" (2/ 432) ط. دار البشائر. (4) "مغني المحتاج" (3/ 158).

(17/546)


وفي "الروض" مع شرحه: (ولغير المجبر) بأن كان غير أب وجدٍّ مطلقًا أو أحدهما في الثيّب (التوكيل) أيضًا، لكن (بعد الإذن له) منها (في النكاح والتوكيل أو في التوكيل فقط) أي: دون النكاح (وكذا في النكاح وحده) أي: دون التوكيل؛ لأنّه تصرّف بالولاية فيتمكن من التوكيل بغير إذن، كالوصيّ والقيّم، هذا (إن لم تنهَه) عن التوكيل، فإن نهتْه عنه لم يوكّل، لأنّها إنّما تزوج بالإذن، ولم تأذن في تزويج الوكيل بل نهتْ عنه، أمّا توكيله بغير إذنها له فلا يصح؛ لأنّه لا يملك التزويج بنفسه. "شرح الروض" (ج 3 ص 135) (1). ومقابل الأصح في عبارة "المنهاج" هو الوجه الذي صرّح به في "المهذب"، وذكر دليله، وهو موافق لنصّ الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وإن كان الأصح خلافه عند الأصحاب. وممّا يوضح ما قلنا ما في "صحيح مسلم" (2) وغيره من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الثيّب أحقُّ بنفسها من وليّها، والبكر تُستأمر وإذنها سكوتها"، وفي لفظٍ لأبي داود والنسائي وصححه ابن حبّان (3): "ليس للولي مع الثيب أمر، واليتيمة تُستأمر". [ص 4] وشبهتهم قياس غير المجبر إذا أذنت له بالتزويج على المجبر، _________ (1) "أسنى المطالب شرح روض الطالب" ط. مصر 1313 هـ. (2) رقم (1421). وأخرجه أيضًا أبو داود (2099) والنسائي (6/ 85). (3) انظر: "سنن أبي داود" (2100) و"النسائي" (6/ 85) و"صحيح ابن حبان" (4089).

(17/547)


ويُفرَّق بأنّ المجبر ولايته تامّة بدون إذنها، وغير المجبر إنّما تتمّ ولايته بإذنها، بل لو قيل: إنّه إنّما يستفيد الولاية بإذنها لما كان عجبًا، ألا ترى أنّها لو دَعَتْ إلى كُفْءٍ فقيرٍ مستضعف دميمٍ بصداقٍ قليل، ودعا غير المجبر إلى من هو خير من ذاك كفاءةً وكمالاً وجمالاً ومالاً وجاهًا بصداقٍ أضعافِ ما بذله الآخر لوجب إجابتها، حتى لو لم يُجِب الوليُّ إلى تزويجها بمن رغبتْ فيه عُدَّ عاضلاً فيزوِّجها السلطان، ولو قالت للمجبر: لا توكِّلْ، فوكّل صحّ، ولو أذنت لغير المجبر بالتزويج وقالت: لا توكِّلْ، لم يكن له أن يوكِّل اتفاقًا كما مرّ. ومنهم من قاسه على الوصي والقيّم، قال في "المغني" (1): "بل هو أولى منهما؛ لأنهما نائبان، وهو ولايته أصلية بالشرع، وإذنها بالتزويج شرط في صحة تصرفه، وقد حصل". أقول: لك أن تقول: بل الأصل هو إذنها، ولكن يشترط له أن يكون المأذون له أولى العصبات بدليل الحديث المذكور آنفًا وما معه، ثم نقول: يُفرَّق بين الولي وبين الوصيّ والقيم بأنّ الضرورة دعت إلى ذلك في الوصي والقيم، لعدم إمكان الإذن من الصبي ونحوه، ولهذا لو أذنت الصغيرة لوليها غير المجبر أن يزوِّجها لم يعتدّ بإذنها، فأمّا المرأة البالغة العاقلة فإنّ استئذانها في التوكيل ممكن، وإذنها معتدٌّ به شرعًا، بل المدار عليه كما مرّ. فإن قلت: إنّما قصدوا أنّ الوصي له أن يوكِّل، وإن لم يأذن له الموصي، والقيم له أن يوكِّل وإن لم يأذن له القيّم. _________ (1) "مغني المحتاج" (3/ 158).

(17/548)


قلتُ: وعلى هذا أيضًا فبينهما وبين الولي غير المجبر فرق، وهو أنّ عمل الوصي والقيم يكون كثيرًا متشعبًا، تدعو الحاجة إلى أن يستعينا بغيرهما ويُوكِّلاه؛ فلذلك عُدّ سكوت الموصي والقيم عن اشتراط عدم التوكيل بمنزلة الإذن بالتوكيل، ألا ترى أن الوكيل إذا كان العمل كثيرًا لا يستطيع مباشرته، وعَلِمَ الموكِّلُ ذلك عند التوكيل؛ عُدَّ توكيله وسكوته عن المنع عن التوكيل إذنًا بالتوكيل، فأمّا الولي فإنّما هي كلمة واحدة يقولها، وإن فرض أنّه قد يعرض له ما يحوجه إلى التوكيل فذلك نادرٌ، يمكنه حينئذٍ أن يستأذن المرأة في التوكيل، فأمّا الوصيُّ والقيّم فعملهما كثيرٌ كما مرّ، ولا يمكن الوصيَّ استئذانٌ عند عروض الحاجة؛ لأنّه قد مات، وكثيرًا ما يتعسّر الاستئذان من القاضي لبعد مكانه ونحو ذلك بخلاف الوكيل، فإنّ تعسُّر مراجعته للموكل كالنادر، وكذا العبد المأذون له في التجارة، فأمّا احتياج وليِّ المرأة إلى التوكيل فأقلُّ وأندر، وتعسُّر مراجعتها ممّا لا يكاد يقع. والحاصل أنّ المعنى الذي يدور عليه جواز التوكيل من النائب وعدمه هو كونه يكثر احتياجه إلى التوكيل، وعسر الاستئذان من المنيب، وهذا المعنى موجود في الوصي والقيم، وقليل في الوكيل والعبد المأذون له في التجارة، ونادرٌ جدًّا في ولي النكاح، فإذا منعنا الوكيل والعبد المأذون له في التجارة من التوكيل فوليُّ النكاح أولى، نعم إنّ له ولايةً شرعية، ولكنّه لا يملك بها الأمر الذي يريد أن يوكل به وهو العقد، وإنّما ملكه بإذنها، والله أعلم، على أنّ في الوصي والقيم خلافًا، والذي اختاره محمد رملي أنّه ليس لهما أن يوكلا إلا فيما عجزا عنه أو لم تلق بهما مباشرته. واعلم أنّ من قال: ليس لغير المجبر التوكيل حتى يأذن له به، ولا يكفي

(17/549)


إذنها له بالتزويج، يقول: إنّه لو وكَّل قبل إذنها بالتوكيل وبعد إذنها بالتزويج كانت الوكالة باطلة، ولو عقد الوكيل كان عقدُه باطلاً، كما يُعلَم من تمثيلهم له بالوكيل والعبد المأذون، وتوكيلهما بدون إذن الموكل والسيد باطلٌ، وتصرُّف من وكَّلاه باطلٌ. وممّا يبيِّن أنّ الشيخ رحمه الله ذكر مسألة الولي في الفصل المتقدم الذي لم يذكر فيه إلا من كان توكيله باطلاً، وتصرف وكيله باطلاً، فأمّا "المحرّر" و"المنهاج" فإنهما زادا المُحرِمَ في النكاح (1)، ولكن بيَّن الشرَّاح أنّ المراد المحرم الذي وكَّل ليعقد الوكيل حال الإحرام، وهذا التوكيل باطلٌ، ولو عقد الوكيل كان العقد باطلاً، والله أعلم. فأمّا غير المجبر فللقائل بجواز توكيله قبل إذنها أن يتمسّك بشُبهٍ: الشبهة الأولى: قد يقال: إنّما تُبطِلون توكيله؛ لأنّه لا يملك تزويجها حينئذٍ، ويجاب عنه: بأنّه من المتفق عليه أنّ الولي غير المجبر وليٌّ قبل إذنها، أي: أنّ له ولايةً شرعية ثابتة، سواءً أحبَّتْ ذلك أم كرهتْ، فلِمَ لا يكون له أن يجعل للوكيل مثل ما له من تلك الولاية؟ الجواب من وجوه: الأول: أنّ المقصود من الولاية إنّما هو تولّي العقد، والولاية المذكورة لا تُسوِّغ الوليَّ تولي العقد أصلاً، فهي كالعدم، ولو دعت إلى كفءٍ وأبى الوليُّ زوَّجَها السلطان. _________ (1) انظر "المحرر" (ص 195) و"منهاج الطالبين" (2/ 159).

(17/550)


الثاني: أنّه لمّا كان المقصود من الولاية تولي العقد فهو ثمرتها، والولي قبل إذنها لا يستحق [ص 5] الثمرة، فلا يؤثّر رضاه بجعلها لآخر، كالوصية بأكثر من الثلث توقف على إجازة الورثة بعد موت المُورِث، فلو أجازوا والمورِث في الغرغرة كانت إجازتهم لغوًا، مع أنّه في مرض الموت قد صار لهم اختصاص ما بالتركة، ولكن هذا الاختصاص إنّما يتم بالموت، فكذلك الولي له اختصاصٌ ما، ولا يتمّ إلا بإذنها. الثالث: أنّ الوكالة إنّما شُرِعت لينوب الوكيل عن الموكِّل في فِعلٍ يفعله، ولذلك عرَّفها الفقهاء كما في "التحفة" (1) بأنها تفويضُ شخص لغيره ما يفعله عنه في حياته ممّا يقبل النيابة، ولهذا يقال في الصيغة: وكَّلتُك بتزويجها أو نحو ذلك، ولا يقال: وكَّلتك بأن تكون وليًّا أو نحوه، وولاية غير المجبر قبل إذنها لا يترتب عليها وحدها فعلٌ حتّى يصحّ التوكيل، فتدبَّر. فإن قيل: فقد نصُّوا على أنّه لو نجَّز الوكالة وشرطَ للتصرف شرطًا جاز، وعبارة "المنهاج" (2): "فإن نجَّزها وشَرط للتصرّف شرطًا جاز". وعليه فلو قال المجبر: وكَّلتك بتزويجها ولا تَعقِد إلا بإذنها صحّ، مع أنّ الحقّ الذي جعله له لا يترتب عليه وحده فعلٌ، فمسألة توكيل غير المجبر قبل إذنها نظير هذه. فالجواب من وجهين: الأول: أنّ في صحة توكيل المجبر على الصفة المذكورة نظرًا، وفي _________ (1) "تحفة المحتاج" (5/ 294). (2) "منهاج الطالبين" (2/ 165).

(17/551)


الإيصاء من "شرح الروض" (1): "قال العبادي .... فإن قال له: لا تعمل إلا بأمر فلانٍ أو إلا بعلمه أو إلا بحضرته فليس له الانفراد؛ لأنّهما وصيّان". وصححه الشهاب الرملي كما في الحاشية. وعليه فلو قال في الوكالة: وكَّلتك بكذا ولا تتصرف إلا بإذن فلانٍ كانا وكيلين، وهما بمنزلة الوكيل الواحد، ويشترط في كلٍّ منهما شروط الوكيل، والمرأة لا تكون وكيلةً في عقد النكاح، ولاسيّما لنفسها، واشتراطُ إذنها توكيل لها، فهو باطل، فتبطل الوكالة من أصلها. وفي "الروض" (2): "ولو وكَّل حلالٌ مُحرِمًا ليُوكِّل حلالاً في التزويج جاز". قال في الشرح: لأنّه سفير محض، نعم إن قال له: وكِّل عن نفسك، قال الزركشي: ينبغي أن لا يصحّ قطعًا، كما ذكروا مثله فيما إذا وكَّل الوليُّ المرأةَ لتُوكِّل عن نفسها من يزوِّجها. انتهى". فإن قيل: إنه إن سُلّم في مسألتنا أنّها وكيلة، فإنما وكَّلها في الإذن. قلت: هذا قريب، وعليه فهما وكيلان، هي في الإذن والرجل في العقد، فتركبت من وكالتهما وكالة صحيحة، ولكن لا يأتي مثله في غير المجبر؛ لأنّ الإذن ليس إليه حتى يوكِّلها فيه. والله أعلم. وعلى كل حالٍ فقولهم: "فإن نجزها وشرط للتصرف شرطًا جاز" محلّه [ص 6] في شرط لا يعود على الوكالة بالبطلان. وعلى فرض صحة توكيل المجبر مع قوله: ولا تَعقِد إلا بإذنها، فالفرق بينها وبين غير المجبر إذا وكَّل قبل إذنها، وشرطُ إذنها ما قدمناه، أنّ قول المجبر "ولا تعقد إلا بإذنها" توكيلٌ منه لها في الإذن مع توكيله للرجل في _________ (1) "أسنى المطالب شرح روض الطالب" (3/ 71). (2) المصدر السابق (3/ 133).

(17/552)


العقد، فتركبت من وكالتهما وكالة صحيحة. وأمّا غير المجبر فإنه لا يملك العقد ولا الإذن، فكيف يوكّل فيهما؟ وأيضًا ولاية المجبر تامة؛ لأنّه يملك التزويج حين وكّل، فصحت وكالته وإن شرط الشرط المذكور، بخلاف غير المجبر فإن ولايته ناقصة، فلم يُغتفر فيها ذلك. والحاصل أنّ ولاية المجبر تامة لا نقصَ فيها، وإنّما النقص فيما جعله للوكيل من الحقّ، وأمّا غير المجبر فولايته ناقصة، والحقّ الذي جعله للوكيل ناقص، والله أعلم. الشبهة الثانية: قد يقال: إنّ عبارة "المنهاج" السابقة آنفًا تشمل مسألتنا؛ لأنّ غير المجبر إذا قال قبلَ إذنها: وكَّلتُك أن تُزوِّجها إذا أذنتْ، فقد نجز الوكالة وشرط للتصرّف إذنها، وإذنُها شرطٌ شرعي. الجواب: مرادهم بالشرط في عبارة "المنهاج" ونظائرها الشرط الجعلي، أعني الذي يجعله الموكِّل من عنده لا الشرط الشرعي، للعلم بأن الشرط الشرعي شرطٌ لملك الموكل لصحة المباشرة، وقد نصُّوا على أنّ الملك المذكور شرطٌ لصحة الوكالة، كما تقدّم أوّلَ هذه الرسالة في عبارة "المهذب"، وستأتي عبارات غيره إن شاء الله تعالى. وممّا يدلُّك على أنّ مرادهم ما ذُكِر قول الشيخ في "المهذب": "وإن عقد الوكالة في الحال، وعلّق التصرف على شرطٍ بأن قال: وكَّلتك أن تُطلِّق امرأتي أو تبيع مالي بعد شهرٍ، صحَّ". "المهذب" (ج 1 ص 352) (1). فمثّلها _________ (1) "المهذب" (1/ 357) ط. دار المعرفة.

(17/553)


بمثال يكون فيه الموكّل مالكًا للمحلّ، وإنّما شرط شرطًا جعليًّا، وذلك أنّه حالَ التوكيل المرأةُ امرأتُه يَملِك أن يطلِّقها، [ص 7] وكذلك المال ماله يملك بيعه حينئذٍ؛ ولذلك صحّ منه عقد الوكالة في الحال، وإنّما علَّق التصرف بشرطٍ جعلي وهو قوله: بعد شهر. ومثَّل في "شرح الروض" (1) بقوله: "وكَّلتك ببيع عبدي، وبِعْه بعد شهر"، ومثله في "المغني" (2)، ولفظ المحلِّي (3): "نحو وكَّلتك الآن في بيع هذا العبد، ولكن لا تبِعْه حتى يجيء رأسُ الشهر". وفي "شرح المنهج" (4): "نحو وكَّلتُك الآن في بيع كذا، ولا تَبِعْه حتى يجيء رجب". وعبارة "التحفة" (5) و"النهاية" (6): "كوكَّلتك الآن ببيع هذا، ولكن لا تبِعْه إلا بعد شهر"، لكن قال في "التحفة" ما يأتي، وهي: الشبهة الثالثة: قال في "التحفة" (7) بعد ما مرّ: "وبذلك يُعلم أن من قال لآخر قبل رمضان: وكَّلتك في إخراج فطرتي وأخرِجْها في رمضان صحَّ؛ لأنّه نجز الوكالة، وإنّما قيّدها بما قيَّدها به الشارع، فهو كقول مُحرِم: زَوِّجْ بنتي إذا _________ (1) "أسنى المطالب" (2/ 266). (2) "مغني المحتاج" (2/ 223). (3) "شرح المحلِّي على منهاج الطالبين" (2/ 341). (4) "فتح الوهاب شرح منهاج الطلاب" (3/ 407). (5) "تحفة المحتاج" (5/ 312). (6) "نهاية المحتاج" (5/ 29). (7) "تحفة المحتاج" (5/ 312).

(17/554)


حللتُ، وقول وليٍّ: زَوِّجْ بنتي إذا طُلِّقتْ وانقضتْ عدتها". فيقال: دلّت عبارة "التحفة" على أنّ الشرط في عبارة "المنهاج" السالفة ونظائرها أريد به ما هو أعمُّ من الشرط الجعلي والشرط الشرعي، فعلى هذا يشمل مسألتنا. الجواب: هذه دعوى من ابن حجر يردُّها نصوصهم على أنّه لا يصحّ التوكيل إلاّ ممّن يملك التصرف في الذي يوكَّل فيه بملكٍ أو ولاية، كما تقدّم أولَ هذه الرسالة عن "المهذب". [ص 8] وفي "الروض" (1): "الأوّل ما يجوز فيه التوكيل، وله شروط: الأول: الملك، فلا يصح في طلاق من سينكحها وتزويج من ستنقضي عدتها، ونحوه". وفي "المحرر" (2): "وفي الموكَّل فيه أن يملِكه الموكِّل، فأظهر الوجهين أنّه لا يجوز أن يُوكِّل ببيع عبدٍ سيملكه، وطلاقِ زوجة سينكحها". وفي "المنهاج" مع المحلّي (3): " (وشرط الموكَّل فيه أن يملكه الموكِّل) حين التوكيل (فلو وكّله ببيع عبدٍ سيملكه وطلاقِ من سينكحها بطل في الأصح) لأنّه لا يتمكن من مباشرة ذلك بنفسه، فكيف يستنيب فيه غيره". _________ (1) "أسنى المطالب شرح روض الطالب" (2/ 260). (2) "المحرر" (ص 195). (3) "منهاج الطالبين" (2/ 161) و"شرح المحلّي" (2/ 338).

(17/555)


ونحوه في "المغني" (1) و"التحفة" (2) و"النهاية" (3)، وعبارة "المنهج" مع شرحه (4): " (و) شرط (في الموكَّل فيه أن يملِكه الموكِّل) حين التوكيل (فلا يصح) التوكيل (في بيع ما سيملكه وطلاق من سينكحها) لأنّه إذا لم يباشر ذلك بنفسه فكيف يستنيب غيره". فهذه النصوص ونحوها تبيِّن ما قلناه: إنّ مرادهم بالشرط في قولهم: "فإن نجَّزها وشرط للتصرف شرطًا جاز" إنّما هو الشرط الجعلي، وتمثيلهم سلفًا وخلفًا يشهد لذلك، وقد حكى في "النهاية" كلام ابن حجر ثم قال (5): "والأقرب إلى كلامهم عدم الصحة؛ إذ كلُّ من الموكِّل والوكيل لا يملِك ذلك عن نفسه حال التوكيل". نعم، وافق على صحة التصرف بناءً على ما فهموه في مسألة التعليق، وسيأتي بيان وهمهم فيها إن شاء الله تعالى، ويأتي هناك الكلام على مسألة: زوِّجْ بنتي إذا طلقتْ وانقضتْ عدتها، ومسألة المحرم ستأتي قريبًا. [ص 9] هذا، ولو سلّمنا صحة الوكالة في مسألة الفطرة كما قال في "التحفة"، أو صحة الأداء على ما وافق عليه في "النهاية"، فبينها وبين توكيل الولي غير المجبر قبل إذنها فرقٌ من وجوه: الأول: ما اشتهر بينهم أنّه يُحتاط للأبضاع ما لا يحتاط لغيرها. _________ (1) "مغني المحتاج" (2/ 219). (2) "تحفة المحتاج" (5/ 301). (3) "نهاية المحتاج" (5/ 21). (4) "فتح الوهاب شرح منهج الطلاب" (3/ 403). (5) "نهاية المحتاج" (5/ 29).

(17/556)


الثاني: أنّ التوكيل في أداء الفطرة ليس فيه افتياتٌ على أحد، وتوكيل غير المجبر قبل إذنها فيه افتياتٌ عليها، وقد قال جماعة من أصحابنا: إنّها إذا أذنت له بتزويجها ولم تتعرّض لنهيه عن التوكيل ولا الإذن له به، أنّه ليس له أن يوكل، وقد مضت هذه المسألة بما لها وعليها، وبيّنا أنّ دليلها قويٌّ، وأنّ المنع هو الموافق لنصّ الإمام الشافعي رحمه الله تعالى. الثالث: أنّ أداء الفطرة عبادة يتشوّف إليها الشارع كالعتق والوقف، فيحتمل أن يُسامح فيها ما لا يسامح في غيرها. الرّابع: أنّ أداء الفطرة أمرٌ هيّن لا يترتب عليه أمرٌ عظيم له خطر، بخلاف التزويج. الخامس: أنّ أداء الوكيل لفطرة الموكِّل يبعد أن يندم عليه الموكِّل، بخلاف التزويج، فيمكن أن يندم، فيحتاط للتوكيل بالتزويج بأن لا يلزم الموكّل به إلاّ إذا وكّل وهو تام الولاية، كما في الوصية لغير الوارث، حيث لم تُعتبر [ص 10] إجازة سائر الورثة في حياة المُورِث ولو عند الغرغرة، وإنّما تعتبر إذا وقعت بعد موته حيث يصير الحقُّ كله للورثة. الشبهة الرابعة: في "الروض" (1): "فرعٌ: لو أحرم وكيل النكاح أو موكِّله أو المرأة لم ينعزل، فلا يزوِّج قبل تحلُّله وتحلُّلِ موكِّله، ولو وكَّله مُحرِمًا أو أذنت وهي مُحرِمة صحّ، لا إن شرط العقد في الإحرام". قال في الشرح (2) بعد قوله: _________ (1) "أسنى المطالب شرح روض الطالب" (3/ 133). (2) المصدر نفسه.

(17/557)


"صح": "سواء أقال: لتزوّج بعد التحلل أم أطلق". فيقال: كما صحّ توكيل المحرم وهو لا يملك التزويج، فليصح توكيل غير المجبر قبل الإذن. الجواب: بينهما فرقٌ من وجوه: الأوّل: أنّ ولاية المحرِم تامّة، والإحرام مانع فقط، وولاية غير المجبر ناقصة، وإذنها جزء أو شرط، وقد قال الإمام الرازي (1): إنّ المناسبة لا تنخرم بوجود المانع، بل يبقى المقتضي تامًّا، وإنّما يتخلَّف الحكم لوجود المانع، فأمّا فقد الجزء والشرط فلا نزاع أنّ المقتضي لا يتمّ بدونهما. بل قد تقدّم قُبيل الشبهة الأولى أنّ ولاية غير المجبر قبل إذنها بغاية الضعف، فارجع إليه. الوجه الثاني: أن منع المُحرِم من العقد ليس لخللٍ في أصل النكاح والمقصودِ منه، وإنّما هو لاحترام النسك، والتوكيلُ لا يُشعِر بعدم الاحترام، بل نقول: إنّ منع المحرم من العقد ليس لمفسدةٍ ذاتية، وإنّما هو سدٌّ لذريعة الجماع في الإحرام. وأما منع غير المجبر من العقد قبل إذنها فإنّه لِما يُخشى من عقده أن يُخِلّ بمقصود النكاح من الألفة والمودَّة والرحمة بأن يزوِّجها من لا تهواه، ويَحرِمَها من تهواه؛ ولأنّ في ذلك افتياتًا عليها. وإذا كان الشارع قد نهى المجبر أن يزوِّجها حتى يستأمرها، فما بالك بغيره؟ _________ (1) المسألة موجودة في كتب الأصول ونصُّوا فيها على قول الإمام الرازي ومخالفتهم له في انخرام المناسبة بوجود مانع.

(17/558)


[ص 11] هذا مع وفور شفقة المجبر ورحمته ومعرفته، وأنّ نظره لها خيرٌ لها من نظرها لنفسها، وتوكيل غير المجبر قبل إذنها لا يخلو من افتيات عليها، كما مرّ في الوجه الثاني من وجوه الفرق بين مسألتنا ومسألة الفطرة، فارجع إليه. الوجه الثالث: أنّ انقضاء الإحرام كالمقطوع بحصوله قريبًا، وإذنها ليس كذلك. الوجه الرابع: أنّ كون الإحرام مانعًا من العقد فيه خلافٌ بين الأمة، وإذن غير المجبرة لا بدّ منه إجماعًا. الوجه الخامس: سيأتي عن ابن حجر في مسألة التعليق ما معناه: أنّه لو أشار المجبر أو المأذون له بالتزويج إلى بنته المعتدّة، وقال: وكَّلتك بتزويج هذه، كان هذا لغوًا، لا يصحّ التوكيل ولا العقد ولو بعد العدّة، وزعم أنّه لو قال: وكَّلتك بتزويجها بعد انقضاء عدتها فسد التوكيل، وصحّ العقد إن وقع بعد انقضاء العدة. مع قوله كغيره في مسألة المحرم (1): "لو قال: وكلتك بالتزويج، ولم يقل حالَ الإحرام ولا بعده، صحّ التوكيل والعقد إذا وقع بعد الإحرام". فهذا يدلُّك على أنّ مانعية الإحرام ضعيفة، كما قدّمناه، والله أعلم. تنبيه: بعض هذه الفروق يأتي مثله بين مسألة المحرم ومسألة الفطرة، والله أعلم. _________ (1) انظر "تحفة المحتاج" مع حواشيه (7/ 257) و"حاشية القليوبي على شرح المحلّي" (2/ 337).

(17/559)


[ص 12] الشبهة الخامسة: أن يقال: النصوص المتقدمة إنّما تفيد بطلان الوكالة، وذلك لا يستلزم بطلان عقد الوكيل، وقد قال الشيخ في "المهذب": "فصلٌ: ولا يجوز تعليق الوكالة على شرط مستقبل ... فإن علَّقها على شرط مستقبل ووجد الشرط وتصرف الوكيل صحّ التصرف؛ لأنّ مع فساد العقد الإذن قائم، فيكون تصرفه بإذن، فصحّ ... وإن عقد الوكالة في الحال، وعلّق التصرف على شرطٍ بأن قال: وكَّلتك أن تطلّق امرأتي أو تبيع مالي بعد شهرٍ، صحّ؛ لأنّه لم يعلِّق العقد على شرط، وإنّما علّق التصرف على شرطٍ، فلم يمنع صحة العقد". "المهذب" (ج 1 ص 352) (1). وعبارة "المحرر" (2): "ولا يجوز تعليق الوكالة بالشروط على أظهر الوجهين، ويجوز أن ينجزها ويشترط للتصرف شرطًا". وفي "المنهاج" (3): "ولا يصح تعليقها بشرطٍ في الأصح". وفي "الروض" مع شرحه: " (ولو علّقها بشرطٍ) كقوله: إذا قدم زيدٌ أو جاء رأس الشهر فقد وكَّلتك بكذا، أو فأنت وكيلي فيه (بطلت) للشرط. (ونفذ تصرف صادف الإذن) فينفذ تصرفه في ذلك عند وجود الشرط إلا أن يكون الإذن فاسدًا ... وشمِلَ كلامهم النكاحَ، فينفذ بعد وجود [ص 13] الشرط في نحو: إذا انقضت عدة بنتي فقد وكَّلتك بتزويجها، بخلاف نحو: وكَّلتك بتزويجها ثم انقضت عدتها". "شرح الروض" (ج 2 ص 266). _________ (1) (1/ 357) ط. دار المعرفة. (2) "المحرر" (ص 196). (3) "منهاج الطالبين" (2/ 165).

(17/560)


وهذه الشبهة باطلة لوجوه: الأول: أنّ صحة التصرف مع بطلان الوكالة خاصٌّ بما إذا كان الإذن صحيحًا كما مرّ في عبارة "شرح الروض"، وذلك خاص بالوكالة التي لا يكون فيها نقصٌ ما إلا التعليق، كقوله: إذا جاء رأس الشهر فقد وكلتك أن تبيع عبدي هذا. وسيأتي تحقيق ذلك في جواب الشبهة السادسة إن شاء الله تعالى. الوجه الثاني: أنّ الفرق بين الوكالة الصحيحة والوكالة الفاسدة التي يصح معها التصرف لم يذكروا له ثمرةً إلا أنّه إذا سمّى للوكيل جُعلاً يبطُل المسمَّى وتثبت أجرة المثل. وهذه الفائدة إن اعتني بمراعاتها ففي باب الوكالة، فأمّا باب النكاح فإنّما يعتني بذكر الوكالة التي لها مساس بصحته، فإذا قالوا في باب النكاح: لا تصح الوكالة بكذا، لم يجز حمل كلامهم إلا على أنّ النكاح لا يصح بها. ونصُّ الإمام الشافعي الذي قدّمناه إنّما ذكره في النكاح، [ص 14] وكذلك النصوص التي ذكرناها بعده من "المحرر" و"المنهاج" و"الروض"، فأمّا "المهذّب" فإنّ نصّه المتقدم عقب نص الشافعي هو في الوكالة، ولكن فيه دلالة أخرى تمنع احتماله لهذه الشبهة كما سيأتي. الوجه الثالث: ولهذا المعنى الذي ذكرناه في الوجه الثاني فسّر ابن حجر والرملي في شرحيهما على "المنهاج" الضمير المستتر في "يصح" بالنكاح، ولفظهما مع "المنهاج" (1): " .... (لم يصح) النكاح (على الصحيح) ". _________ (1) "تحفة المحتاج" (7/ 264) و"نهاية المحتاج" (6/ 244).

(17/561)


فأمّا المحلي (1) والخطيب (2) فإنهما ذكرا التوكيل بدل النكاح، وكأنهما وثقا بأنّ المسألة حيث كانت في باب النكاح فلا بدّ أن يُفهم من بطلان التوكيل بطلان النكاح، ولكن صنيع "التحفة" و"النهاية" أجود. الوجه الرابع: أنّ من ذكر هذه المسألة في الوكالة ذكرها مع الأشياء التي تبطل معها الوكالة أصلاً، أي: بحيث إذا تصرف الوكيل كان تصرّفه باطلاً، كما تراه في عبارة "المهذب" المتقدمة عقب نصّ الشافعي رحمه الله تعالى، فإنه ذكرها مع الصبيّ والمجنون والمحجور عليه في المال والمرأة في عقد النكاح، والوكيل والعبد المأذون إذا لم يؤذن لهما بالتوكيل، [ص 15] وهؤلاء كلهم لا تصح وكالتهم، ولا ينعقد تصرف الوكيل. الوجه الخامس: أنّ الشيخ ذكر أنّ من قال ببطلان توكيل الولي غير المجبر المأذون له بالزواج دون التوكيل، من حجته القياس على الوكيل والعبد المأذون له، ومعلوم أنّ توكيل هذين بدون إذن باطلٌ، ولا ينعقد تصرف من وكّلاه، فكذا يقال في المسألتين المقيسة عليهما كما مرّ، وأولى منها مسألتنا. الشبهة السادسة: أن يقال: قال في "التحفة" بعد قول "المنهاج" (3): "فلو وكّله ببيع عبدٍ سيملكه وطلاق من سينكحها بطل في الأصح" ما لفظه (4): " ... وكذا لو _________ (1) "شرح المحلِّي" (3/ 229). (2) "مغني المحتاج" (3/ 158). (3) "منهاج الطالبين" (2/ 161). (4) "تحفة المحتاج" (5/ 301 - 302).

(17/562)


وكّل من يزوِّج موليته إذا انقضت عدتها أو طلقت، على ما قالاه هنا، واعتمده الإسنوي، لكن رجّح في "الروضة" في النكاح الصحة". ونحوه في "النهاية" (1)، قال علي شبراملسي في حواشيه (2): "قوله: (على ما قالاه) ضعيفٌ". فيقال: إنّ هذه المرأة تكون غير مجبرة؛ لأنّها قد تزوجت، ومع ذلك لم يذكر اشتراط أن تكون قد أذنت، فهو شاملٌ لمسألتنا. [ص 16] الجواب: أولاً: هذا الوجه الذي رجحه في النكاح من "الروضة" قد جزم بخلافه هو، وأصله في الوكالة منها كما علمت، وقد اعتمد الإسنوي عدم الصحة، وكذا الخطيب في "المغني" (3)، والرملي في "النهاية" (4)، ووالده في فتاواه كما في "النهاية" (5)، وأمّا ابن حجر فميله إلى الصحة بشرط أن يكون في الصيغة تعليق ولو ضمنًا، كما سيأتي نقله في جواب الشبهة التاسعة. والعجبُ منه أنّه استند في ذلك إلى القياس على صورةٍ ذكرها الإسنوي كما سيأتي، وخالف في ذلك نصّ الإسنوي نفسه. ثانيًا: دعوى أنّ هذه المرأة تكون غير مجبرة؛ لأنها قد تزوجت خطأً _________ (1) "نهاية المحتاج" (5/ 21). (2) بهامش "النهاية" (5/ 21). (3) "مغني المحتاج" (2/ 219). (4) "نهاية المحتاج" (5/ 21). (5) المصدر السابق.

(17/563)


لاحتمال أن يكون الوليُّ أبًا أو جدًّا، وتكون بكرًا لم يدخل بها زوجها حتى طلقها، فيحلّ زواجها عقب الطلاق، أو مات عنها فعليها عدة الوفاة. فقوله: "إذا انقضت عدتها" موجَّه إلى الثاني، وقوله: "أو طلقت" موجَّه إلى الأول. وممّا يدلُّ على أنّ المسألة مفروضة في المجبرة أنّ الخطيب في "المغني" (1) ذكرها بلفظ: "وتزويج بنته إذا انقضت عدتها أو طلقها زوجها". [ص 17] وفي "النهاية" (2) ما يدلّ على أنّ المسألة منقولة في النكاح من "الروضة" عن "فتاوي البغوي"، وذكر نصّ عبارة البغوي وهي: "كما لو قال الوليُّ للوكيل: زوِّج بنتي إذا فارقها زوجها أو انقضت عدتها". وفي "التحفة" (3) في الكلام على مسألة التعليق: "أو بتزويج بنته إذا طلقت وانقضت عدتها". وقد يُظَنّ أن الصواب "أو انقضت عدتها" كما ذكره نفسه فيما مرّ، وكما ذكره غير هـ، وأنّ الألف سقط قبل الواو من تحريف النساخ، ولكن في سياق عبارته ما يفيد أنّه بنى على العطف بالواو، وعليه فيمتنع فرض المسألة في المجبرة، ولكن يمكن فرضها في غير المجبرة إذا سبق منها الإذنُ لوليها بأن يزوِّجها، فإنّ إذنها حينئذٍ صحيحٌ عند القائل بصحة وكالة الوليّ على الوجه _________ (1) "مغني المحتاج" (2/ 219). (2) "نهاية المحتاج" (5/ 21). (3) "تحفة المحتاج" (5/ 311).

(17/564)


المذكور، بل وأفتى الشهاب الرملي بصحة إذنها مع إفتائه ببطلان الوكالة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وإذ قد أمكن فرض المسألة المذكورة في المجبرة أو في الإذن مع إشعار القرائن بذلك، فقد سقطت الشبهة في التمسك بها: أولاً: تنزيهًا للأصحاب عن مخالفة نص الإمام. ثانيًا: تقييدًا لنصّ من نصَّ على هذه المسألة ببقيّة [ص 18] نصوصهم التي قدّمنا بعضها، هذا مع أنّ المسألة في نفسها ضعيفة كما مرّ. الشبهة السابعة: أن يقال: سلَّمنا أنّ المسألة السابقة مفروضة في المجبرة أو الآذنة، ولكنّا نقول: إذا صحّ توكيل الأب بزواج ابنته وهي مزوّجة أو معتدّة فلْيصحَّ توكيله وهي ثيّب خلية قبل إذنها من باب أولى؛ لأنّ كونها مزوَّجة أو معتدّة أشدُّ في منع صحة تزويجها من كونها لم تأذن، بدليل أن عدم الإذن لا يكون مانعًا في المجبرة، وأمّا كونها مزوّجة أو معتدّة فإنه مانعٌ مطلقًا. والجواب من وجهين: الأول: أنّ المسألة المذكورة ضعيفة كما مرّ، فلا يفيد القياس عليها. والثاني: أنّ ولاية المجبر والمأذون له تامّة، وولاية غيرهما ناقصة إلى حدٍّ كأنها معدومة كما تقدم. فأمّا كونها مزوَّجة أو معتدَّة فإنّما ذلك مانعٌ كالإحرام، فارجع إلى جواب الشبهة الرابعة.

(17/565)


الشبهة الثامنة: أن يقال: قد نقل الشيخان في "الروضة" وأصلِها صحةَ إذن المرأة لوليّها أن يزوِّجها إذا انقضت عدتها أو طلقت، وأقرَّاه، وأفتى به الشهاب [ص 19] الرملي كما ذكره ولده في "النهاية"، وإذا صحّ ذلك فلْيصحَّ توكيله الوليَّ وهي مزوّجة أو معتدّة، ثم تقاس عليه مسألتنا. الجوابُ: يُعلَم ممّا تقدم في جواب الشبهة السابعة، ومع ذلك فبين المسألتين فرقٌ، وهو أنّ لولاية الوليّ أصلاً شرعيًّا، وإنّما يحتاج إلى الإذن تكميلاً للولاية. وأمّا الوكيل فإنّه إنّما يستفيد الحقَّ من الوكالة، فلا غروَ أن يُكتفَى في الأول بما لا يُكتفَى به في الثاني. وفي "النهاية" (1) عن والده الشهاب الرملي ما لفظه: "والفرق بينهما أن تزويج الولي بالولاية الشرعية، وتزويج الوكيل بالولاية الجعلية، وظاهرٌ أنّ الأولى أقوى، فيُكتفى فيها بما لا يُكتفى به في الثانية، وأن باب الإذن أوسع من باب الوكالة". وقال ابن حجر في النكاح من "التحفة" (2): "وعليه فالفرق بينها وبين وليّها أنّ إذنها جعليٌّ وإذنه شرعي، أي: استفاده من جهة جعل الشرع له ــ بعد إذنها ــ وليًّا شرعيًّا، والجعلي أقوى من الشرعي كما مرّ في الرهن". أقول: ومع هذا فالحق ما جزم به في "التحفة" في باب الوكالة من _________ (1) "نهاية المحتاج" (5/ 21). (2) "تحفة المحتاج" (7/ 265).

(17/566)


بطلان إذن المزوَّجة أو المعتدَّة، وقد نصّ الله تعالى في كتابه على النهي عن التصريح بخِطْبة المعتدّة، وإن لم يكن استئذانها وإذنها أشدَّ من التصريح بالخِطْبة فما هو بدونه، فأمّا المزوَّجة فالأمر فيها أشدُّ، ومحاسنُ الشريعة تقتضي سدّ هذا الباب كما لا يخفى، والله أعلم. الشبهة التاسعة: قد يقال: أمّا إذا قال غير المجبر قبل إذنها: وكَّلتك أن تزوِّج أختي مثلاً، فلا شكّ في بطلان الوكالة وعدم صحة النكاح لو أنكح الوكيل، ولكن إذا علّق بإذنها كأن قال: إذا أَذِنَت أختي بالنكاح فقد وكَّلتك في تزويجها أو نحو ذلك، فإنها تفسد الوكالة، ويصح النكاح لشمول نصوصهم في تعليق الوكالة لذلك. وقد تقدّم نصُّ "المهذّب" ونصُّ "الروض" مع شرحه مع قول الشرح: "وشمِلَ كلامهم النكاحَ إلخ". وفي "التحفة" (1) عقب قول "المنهاج" (2): "فلو وكَّله ببيع عبدٍ سيملكه وطلاقِ من سينكحها بطل في الأصح" ما لفظه: "لأنّه لا ولاية له حينئذٍ. وكذا لو وكّل من يزوِّج موليته إذا انقضت عدتها أو طلقت على ما قالاه هنا، واعتمده الإسنوي. لكن رجّح في "الروضة" في النكاح الصحةَ. وكذا لو قالت له وهي في نكاح أو عدّة: أَذِنتُ لك في تزويجي إذا حللتُ، ولو علّق ذلك ــ ولو ضمنًا، كما يأتي تحقيقه ــ على الانقضاء أو الطلاق، فَسَدت الوكالة، ونفذ التزويج للإذن". _________ (1) "تحفة المحتاج" (5/ 301 - 302). (2) "منهاج الطالبين" (2/ 161).

(17/567)


ثم قال بعد قول "المنهاج" (1): "ولا يصح تعليقها بشرطٍ في الأصح" ما لفظُه: "فلو تصرَّف بعد وجود الشرط، كأن وكَّله بطلاق زوجةٍ سينكحها [ص 21] أو بيعٍ أو عتقِ عبدٍ سيملكه أو بتزويج بنته إذا طلقت وانقضت عدتها، فطلَّق بعد أن نكح أو باع أو أعتق بعد أن ملك أو زوَّج بعد العدّة، نفذ عملاً بعموم الإذن. وتمثيلي بما ذكر هو ما ذكره الإسنوي في الأولى وقياسها ما بعدها، كما يقتضيه كلام "الجواهر" وغيرها. وقال الجلال البلقيني: يحتمل أن يصح التصرف كالوكالة المعلقة يفسد التعليق ويصح التصرف لعموم الإذن، ولم يذكروه أي: نصًّا، وأن يبطل لعدم ملك المحل حالة اللفظ بخلاف المعلقة فإنّه مالك للمحل عندها، وعلى هذا يلزم الفرق بين الفاسدة والباطلة، وهو خلاف تصريحهم بأنّهما لا يفترقان إلا في الحج والعارية والخُلع والكتابة. انتهى. وقضية ردّه للثاني بما ذكر اعتماده للأول، وليست المعلقة مستلزمة لملك المحل عندها، إذ الصورة الأخيرة فيها تعليق لا ملكٌ للمحل حال الوكالة، نعم الأوجه أنّه لا بدّ في هذه الصور أن يذكر ما يدلّ على التعليق كقوله: التي سأنكحها أو الذي سأملكه، بخلاف اقتصاره على: وكَّلتك في طلاق هذه أو بيع هذا أو تزويج بنتي؛ لأنّ هذا اللفظ يُعَدّ لغوًا لا يفيد شيئًا أصلاً، فليس ذلك من حيث الفرق بين الفاسد والباطل، فتأمّله. ويأتي في الجزية [ص 22] وغيرها ومرّ في الرهن الفرقُ بين الفاسد والباطل أيضًا، فحصرهم المذكور إضافيٌّ، وفائدة عدم الصحة بهما في المتن سقوط المسمّى إن كان ووجوب أجرة المثل". _________ (1) "منهاج الطالبين" (2/ 165)، "تحفة المحتاج" (5/ 311).

(17/568)


الجواب: أصل مسألة التعليق إنّما هي في التعليق بشرطٍ جعلي، أي: يجعله الموكِّل، كأن يقول: إذا قدم زيدٌ أو جاء رأس الشهر فقد وكَّلتُك في بيع عبدي هذا. يدلّك على هذا تمثيل "المهذب" (1) لتعليق التصرّف بقوله: "وكلتك أن تطلق امرأتي أو تبيع مالي بعد شهرٍ"، وقد مضى مثله عن غيره، ومسألة تعليق التصرف مرتبطة بتعليق الوكالة. ومثّل في "شرح الروض" (2) لتعليق الوكالة بقوله: "كقوله: إذا قدم زيدٌ أو جاء رأس الشهر فقد وكلتك بكذا أو فأنت وكيلي فيه". ومثَّلها المحلّي في "شرح المنهاج" (3) بقوله: "نحو: إذا قدم زيدٌ أو إذا جاء رأس الشهر فقد وكّلتك بكذا". وعبارة "المغني على المنهاج" (4) مثل عبارة "شرح الروض". وأصرح من ذلك عبارةُ الجلال البلقيني التي تقدمت عن "التحفة"، فإنها صريحة أنّ المعلقة خاصة بما ذكرناه، وأنّ الصور التي مثّل بها ابن حجر ليست من المعلقة، وإن احتمل أن تقاس عليها، فارجع إلى عبارة البلقيني وتدبرها، [ص 23] فإنّي أخشى أن يكون ابن حجر نفسه لم يتدبرها، كما يدلّ عليه قوله: "وليست المعلقة مستلزمةً لملك المحل عندها، إذ الصورة الأخيرة فيها تعليق لا ملك للمحل حال الوكالة". _________ (1) "المهذب" (1/ 357). (2) "أسنى المطالب شرح روض الطالب" (2/ 266). (3) "شرح المنهاج" (2/ 340). (4) "مغني المحتاج" (2/ 223).

(17/569)


فإنّ كلام البلقيني صريحٌ في أنّ المعلقة خاصة بما علقت مع ملك الموكّل للمحل عندها، وأنّ هذه الصور التي ذكرها ابن حجر كلها ليست منها، والبلقيني إمامٌ واسع الاطلاع فلا وجه لردّ قوله بلا حجة. وكأنّ الإسنوي لما رأى تعبير السلف بنحو: "فإن علَّقها على شرط"، سبق إلى ذهنه أنّ المراد بالشرط الشرط الشرعي، فمثّل بقوله: كأن وكّله بطلاق زوجة سينكحها. وتبعه ابن حجر وقاس على هذه الصورة غيرها كما رأيت، والله المستعان. والمراد بملك المحل الذي عبَّر به البلقيني ملك التصرف فيه، الناشئ عن ملك العين تارةً والولاية عليه أخرى، كما في "التحفة" في شرح قول "المنهاج": "وشرط الموكَّل فيه أن يملكه الموكِّل"، فيشمل ملكه لطلاق زوجته وتزويج موليته بشرطه، والله أعلم. فأمّا قول البلقيني: "وعلى هذا يلزم الفرق بين الفاسدة والباطلة .. إلخ". [ص 24] فجوابه من وجوه: الأول: ما ذكره ابن حجر أن الحصر إضافي. الثاني: أن يقال له: لا نزاع أنّ وكالة المحجور عليه في المال يُبنى عليها صحة التصرف، وأنّ الوكالة المعلَّقة في نحو: إذا قدم زيدٌ فقد وكَّلتك بعتق عبدي هذا، يبنى عليها صحة التصرف، فإن سميت الأولى باطلة والثانية فاسدة، فقد اعترفت بالفرق ولا بدّ، وإن قلت: الأولى لغوٌ، قلنا: فلتكن الوكالة بطلاق من سينكحها ونحوها ممّا ذكر معها لغوًا، فلم يلزم الفرق. الوجه الثالث: الوكالة يلزمها الإذن، ثم تارةً تبطل هي ويبطل الإذن،

(17/570)


وتارةً تبطل هي ويصح الإذن، فالتفرقة في الحكم مدارها على صحة الإذن وبطلانه، وأمّا الوكالة فهي باطلة في الصورتين. الوجه الرابع: أنّ من الأبواب التي فرّقوا بين باطلها وفاسدها الإجارة والجعالة، وقد صرّحوا أن ثمرة فساد الوكالة مع صحة الإذن إنّما هي أنّه لو سمّى للوكيل جُعلاً لم يلزم المسمّى، بل يرجع إلى أجرة المثل. وعلى هذا فالوكالة المعلقة من حيث هي وكالة هي صحيحة، وإنّما الفساد فيها من حيث هي إجارة أو جعالة، فليس للوكالة من حيث هي وكالة إلا حكمان: الصحة والبطلان. [ص 25] وممّا يدلُّ على بطلان التصرف فيما إذا وكَّله بطلاق من سينكحها، وغيرها من الصور التي ذكرها في "التحفة" ونحوها، ومنها مسألتنا: اختيارُ "المنهاج" التعبيرَ في ما إذا وكَّله ببيع عبدٍ سيملكه أو طلاق من سينكحها بقوله: "بطل في الأصح" (1)، مع تعبيره في المعلَّقة بقوله: "ولا يصح تعليقها بشرطٍ في الأصح" (2)، فأشار إلى أنّ الأولى تبطل أصلاً، أي: حتى لا يصح التصرف، وأنّ الثانية تفسد؛ لأنّ نفي الصحة كما يحتمل البطلان يحتمل الفساد. هذا مع أنّ الأولى معلَّقة ضمنًا على تفسير ابن حجر. فإن قلت: فقد عبّر النووي في النكاح بقوله (3): "ولو وكَّل قبل استئذانها لم يصحَّ على الصحيح". _________ (1) "منهاج الطالبين" (2/ 261). (2) المصدر نفسه (2/ 265). (3) "منهاج الطالبين" (2/ 432).

(17/571)


قلتُ: قد سبق الجوابُ عن هذا في جواب الشبهة الخامسة. وممّا يدلّ على بطلان التصرف أيضًا قول "الروض" مع شرحه (ج 2 ص 266) (1) في المعلقة: " (ونفذ تصرف صادف الإذن) فينفذ تصرفه في ذلك عند وجود الشرط إلا أن يكون الإذنُ فاسدًا. انتهى". ونحوه في "المغني على المنهاج" (2)، وكذا في "النهاية" (3) وغيرها. والإذن فيما لا يملك فاسد، وقد قال الشهاب الرملي في حواشي "الروض" (4): "قوله: (فينفذ تصرفه في ذلك عند وجود الشرط لوجود الإذن) الخالي عن المفسد .. إلخ" [ص 26] والإذن فيما لا يملك غير خالٍ عن المفسد. وقال الشهاب الرملي أيضًا (5): "قوله: (وشمل كلامهم النكاح، فينفذ عند وجود الشرط إلخ). كما يصح البيع بالإذن في الوكالة الفاسدة. وهو خطأ صريح مخالف للمنقول، قال في "الروضة": قال الإمام: إذا عينت المرأة زوجًا سواءً شرطنا التعيين أم لا، فليذكره الولي للوكيل، فإن لم يفعل وزوج الوكيل غيره لم يصحّ، وكذا لو زوّجه لم يصح على الظاهر؛ لأنّ التفويض المطلق مع أنّ المطلوب معيّن فاسد. وأيضًا فلو اختلطت محرمة بنسوة محصورات، فعقد على واحدةٍ منهنّ، لم يصح النكاح على الأصح، وإن ظهر كونها أجنبية. وكذلك لو عقد على خنثى فبان امرأة لم يصح. ولو _________ (1) "أسنى المطالب شرح روض الطالب" ط. مصر 1313 هـ. (2) "مغني المحتاج" (2/ 223). (3) "نهاية المحتاج" (5/ 29). (4) (2/ 266). (5) (2/ 266).

(17/572)


قبل النكاح لزيدٍ بوكالة فأنكرها زيدٌ لم يصح العقد، ولو اشترى له بوكالة فأنكرها صحّ الشراء للوكيل، ولو أذن لعبده إذنًا فاسدًا في النكاح لم يستفد العقد الصحيح ت". والمسألة الأولى مذكورة في متن "الروض" (1) في النكاح، ولفظه: "وإذا أذنت له مطلقًا فله التوكيل مطلقًا، فإن عينته وجب تعيينه للوكيل، وإلاّ لم يصحّ، ولو زوّج المعين كما لو قال وليّ الطفل: بعْ ماله بدون ثمن المثل فباع بثمن المثل". قال في الشرح (2) عقب قوله: "ولو زوّج المعين" ما لفظه: "لأنّ التفويض المطلق مع أنّ المطلوب معين فاسد". وقال عقب قوله: "فباع بثمن المثل" ما لفظه: "لم يصح لفساد صيغة التفويض". قال المحشي (3): "قوله: (لم يصح لفساد صيغة التفويض) ومن هنا يؤخذ أنّ الوكالة الفاسدة لا يصح بها عقد النكاح، وإن صح البيع في الوكالة الفاسدة في الأصح، وهو ظاهر، والفرق وجوب الاحتياط في النكاح بخلاف البيع. وغلط [الإسنوي] في "المهمات" في قوله: إنّ الوكالة الفاسدة يستفيد بها عقد النكاح كالبيع ت. ذكر الزركشي نحوه، انتهى. انظر "شرح الروض" (ج 3 ص 135). أقول: وكأنّ حرف "ت" في آخر العبارتين رمزٌ لكتاب "توقيف الحكام _________ (1) "أسنى المطالب شرح روض الطالب" (3/ 135). (2) المصدر نفسه. (3) المصدر نفسه.

(17/573)


على غوامض الأحكام" لابن العماد، ففي "حواشي عبدالحميد على التحفة" عند قول "التحفة" (1): "ولو علّق ذلك ولو ضمنًا إلخ" ما لفظه: "قوله: (ونفذ التزويج إلخ) قد بالغ ابن العماد في "توقيف الحكام على غوامض الأحكام" في تخطئة من قال بصحة النكاح عند فساد التوكيل فيه، وقد أشار إلى ذلك شيخنا الشهاب الرملي أيضًا. اهـ سم". وممّن صرّح بفساد الإذن في مسألة توكيل الولي بزواج موليته إذا طلقت إذا انقضت عدتها: ابن حجر نفسه، فإنّه ذكر في النكاح هذه المسألة [ص 27] كما ستأتي عبارته، ثم ذكر قول "المنهاج" (2): "وليقل وكيل الولي: زوجتك بنت فلان"، ثم قال في شرحها (3): "ثم يقول: موكلي أو وكالة عنه مثلاً، إن جهل الزوج والشاهدان أو أحدهما وكالته عنه، وإلاّ لم يحتج لذلك. تنبيهٌ: ظاهر كلامهم أنّ التصريح بالوكالة فيما ذكر شرط لصحة العقد، وفيه نظر [واضح] ... وليس هذا كما مرّ آنفًا، لأنّ الإذن للوكيل ثَمَّ فاسد من أصله بخلافه هنا". قال عبد الحميد (4): "قوله: كما مرّ آنفًا ... أقول: بل في شرح: لم يصح على الصحيح من قوله: لا إذن الولي لمن يزوج إلخ". _________ (1) "تحفة المحتاج" (5/ 302). (2) "منهاج الطالبين" (2/ 432). (3) "تحفة المحتاج" (7/ 265 - 266). (4) في حواشيه على التحفة، الموضع السابق.

(17/574)


أقول: وعليه ففي عبارة ابن حجر التصريحُ بفساد الإذن في مسألة توكيل الولي من يزوِّجها إذا طلقها زوجها إلخ، بل في عبارته أن عقد الوكيل غير صحيح؛ لأنّ معنى كلامه: (وليس هذا كما مرّ آنفًا) في مسألة إذن الولي لمن يزوِّج موليته إذا طلقت وانقضت عدتها، حتى يلزم عدم صحة العقد هنا كما أنّه غير صحيح هنالك، أي: في مسألة إذن الولي (لأنّ الإذن) من الولي (للوكيل ثَمَّ فاسدٌ من أصله) فلهذا لم يصح العقد هناك (بخلافه هنا). وفي "حواشي" القليوبي على المحلِّي (1): " ... وكذا لو قالت: وكَّلتك في تزويجي إذا انقضت عدتي، فإن كان قائل ذلك الولي لوكيله بطل الإذن أيضًا على المعتمد كما مرّ". فأمّا قول ابن حجر (2): "ولو علّق ذلك ولو ضمنًا إلخ"، فقد تعقبه الرملي في "النهاية" (3) فقال: "وما جمع به بعضهم بين ما ذكر في البابين بحمل عدم الصحة على الوكالة، والصحة على التصرف، إذ قد تبطل الوكالة ويصح التصرف= رُدّ بأنّه خطأٌ صريح مخالف للمنقول، إذ الأبضاع يُحتاط لها فوق غيرها". قال الشبراملسي في حواشيه (4): "قوله: وما جمع به بعضهم أي حج ــ ابن حجر ــ حيث قال: ولو علّق ذلك ولو ضمنًا ... ". _________ (1) "شرح المحلي مع حاشيتي القليوبي وعميرة" (2/ 341). (2) "تحفة المحتاج" (5/ 302). (3) "نهاية المحتاج" (5/ 21، 22). (4) "حاشية الشبراملسي" (5/ 22).

(17/575)


أقول: وقد تقدم ما كتبه الشهاب الرملي على "شرح الروض"، وما ذكره ابن قاسم عن ابن العماد. ثم إنّ ابن حجر وفى بما وعد، فذكر المسألة ونحوها عند مسألة التعليق، [ص 28] وقد تقدمت العبارة. ثم عاد في النكاح في الكلام على قول "المنهاج" (1): "ولو وكّل قبل استئذانها لم يصحّ على الصحيح"، فقال (2): "ويصحُّ إذنها لوليّها أن يزوِّجها إذا طلقها زوجها وانقضت عدتها، لا إذن الولي لمن يزوِّج موليته كذلك على ما قالاه في الوكالة، وقد مرّ بما فيه مع نظائره. وعليه فالفرق بينها وبين وليّها أنّ إذنها جعليٌّ، وإذنه شرعي، أي: استفاده من جهة جعل الشرع له بعد إذنها وليًّا شرعيًّا، والجعلي أقوى من الشرعي كما مرّ في الرهن، وبهذا جمعوا بين تناقض "الروضة" في ذلك. والجمع بحمل البطلان على خصوص الوكالة والصحة على التصرف لعموم الإذن، قال بعضهم: خطأٌ صريح مخالف للمنقول، ومرّ ما في ذلك في الوكالة". وفي حواشي عبد الحميد (3): " (قوله: خطأٌ إلخ) أي: لأنّه لا يصح النكاح بالوكالة الفاسدة. سم ورشيدي" اهـ. ثم إنّ ابن حجر ذكر بعد ما مرّ بقليل مسألة أنّ التصريح بالوكالة إذا لم تعلم شرط لصحة العقد، ونظر فيها، وفرَّق بينها وبين مسألة توكيل الولي المتقدمة بأنّ الإذن للوكيل في مسألة الولي فاسدٌ من أصله، أي: فلذلك كان _________ (1) "منهاج الطالبين" (2/ 432). (2) "تحفة المحتاج" (7/ 265). (3) في الموضع السابق.

(17/576)


العقد غير صحيح. وعلى هذا [ص 29] رجّح في باب الوكالة صحة العقد، ثم تردّد فيه في النكاح في شرح قول "المنهاج": (ولو وكَّل قبل استئذانها إلخ)، ثم أشار بعد ذلك بقليل إلى فساد الإذن من أصله وعدم صحة العقد، وهذا هو المتأخر، فعليه استقرّ قول "التحفة"، وعليه الاعتماد، ولله الحمد. هذا وقد تقدّم في الجواب عن الشبهة السادسة أنّ مسألة توكيل الولي في تزويجها إذا طلقت أو انقضت عدتها مفروضة في الولي المجبر البتةَ، أو فيه وفي غير المجبر الذي قد أذنت له، بناءً على صحة إذنها حينئذٍ. وعليه فلو سلّمنا أنّه إن عقد الوكيل في هذه المسألة صحّ عقده، فلا يلزم مثل ذلك في مسألتنا، وهي ما إذا وكل غير المجبر قبل إذنها وعلّق بإذنها. والفرق بين المسألتين أنّ المجبر والمأذون له ولايتهما تامّة، وإنّما هناك مانع من مباشرة العقد حالاً، فأمّا غير المجبر الذي لم تأذن له فولايته ناقصة، بل كأنّها معدومة كما مرّ قبيل الشبهة الأولى. ومرّ في جواب الشبهة الرابعة فرقٌ بين وجود المانع وفقد الشرط أو الجزء، فارجع إليه. [ص 30] الشبهة العاشرة: قد يقال: سلَّمنا بطلان الوكالة وعدم صحة التصرف فيما إذا وكّل غير المجبر قبل أن تأذن له، وكذلك في كلّ ما لا يملكه الموكل عند الوكالة إلا ما استثني من النكاح ونحوه، ولكن محلّ ذلك ما لم يكن غير المملوك تبعًا لمملوك، وإلاّ فيصحّ، كما إذا قال: وكَّلتك أن تنكح بنتي البكر التي لا مانع بها، وكل مَن لي عليها ولاية، ففي "الروض" وشرحه: " (فلا يصح) التوكيل

(17/577)


(في طلاق من سينكحها وتزويج من ستنقضي عدتها ونحوه) كبيع من سيملكه أو إعتاق من سيملكه؛ لأنّه لا يتمكن من مباشرة ما وُكِّل فيه حال التوكيل، نعم لو جعل ما لا يملكه تبعًا لما يملكه، كتوكيله ببيع عبده وما سيملكه، ففيه احتمالان للرافعي، والمنقول عن الشيخ أبي حامد وغيره الصحة، كما لو وقف على ولده الموجود ومن سيحدث له من الأولاد". "شرح الروض" (ج 2 ص 260) (1). الجواب: قال في "التحفة" (2): "ويؤيد ذلك قول الشيخ أبي حامد وغيره: لو وكَّله فيما ملكه الآن وفيما سيملكه صحّ، ويصح في البيع والشراء في: وكَّلتك في بيع هذا وشراء كذا بثمنه، وإذن المقارض للعامل في بيع ما سيملكه، وألحق به الأذرعي الشريك". فإن حملنا الملك في عبارة الشيخ أبي حامد وغيره على ملك العين كما هو [ص 31] المتبادر عند الإطلاق؛ ولذلك مثّلوا في "شرح الروض" و"المغني" و"النهاية" بالبيع، فلا تشمل النكاح والطلاق ونحوهما، وإن حملناه على ملك التصرف شملت ذلك. ثم تبين لي تعين الأول، فقد قال زكريا في "شرح المنهج" (3): "فيصحُّ التوكيل ببيع ما لا يملكه تبعًا للمملوك، كما نقل عن الشيخ أبي حامد، وببيع عينٍ يملكها وأن يشتري له بثمنها، كذا على الأشهر في المذهب، وقياس ذلك توكيله بطلاق من سينكحها تبعًا _________ (1) هو "أسنى المطالب شرح روض الطالب" ط. مصر 1313 هـ. (2) "تحفة المحتاج" (5/ 303). (3) "شرح منهج الطلاب" (3/ 51).

(17/578)


لمنكوحته". فأفاد أنّ عبارة أبي حامد إنّما هي في البيع لا تشمل الطلاق، إلا أنّه قد يقاس عليها. وعلى كل حال فالشيخ أبو حامد وغيره إنّما حجتهم القياس على الوقف كما في "شرح الروض" (1)، ونحوه في "المغني" (2) و"النهاية" (3). وفي "شرح المنهج": القياس على التوكيل ببيع كذا وشراء كذا بثمنه. ونحوه في "التحفة" (4)، وزاد القياس على القراض. فأمّا القياس على القراض، ففي حواشي عبدالحميد (5): "قوله: في بيع ما سيملكه" ما صورته: فقد يقال: هذا البيع لا يتوقف على إذنٍ زائد على العقد المتضمن للإذن. اهـ. سم. أقول: والفرق واضحٌ بين القراض وبين نحو: وكَّلتك أن تبيع عبدي هذا وعبدَ فلانٍ إذا ملكتُه، أو وكُلَّ عبدٍ أملكه، أولًا: لأنّ القراض لا يحصل أصل المقصود منه إلا بأن يشتري ثم يبيع، وهكذا. ثانيًا: أنّ عامل القراض إذا اشترى لم يكن المشترى للمالك فقط، بل للعامل فيه بقدر ربحه. _________ (1) "أسنى المطالب" (2/ 260). (2) "مغني المحتاج" (2/ 219). (3) "نهاية المحتاج" (5/ 22). (4) "تحفة المحتاج" (5/ 303). (5) في الموضع السابق.

(17/579)


ثالثًا: أنّ التصرف في القراض مرتبط بعضه ببعض، أي: أنّ الثاني مبنيٌّ على الأول، ومتوقفٌ عليه، كأن يشتري برأس المال عبدًا ثم يبيع العبد بنقدٍ ثم يشتري بالنقد ثيابًا، وهكذا. وهذه الأمور كلها ليست في الصورة الأخرى، أعني: نحو وكّلتك أن تبيع عبدي إلخ. نعم، الثالث حاصل في مسألة: وكلتك ببيع هذا وشراء كذا بثمنه، ولكنَّ في صحتها [ص 32] خلافًا، وأشهر القولين صحة التوكيل بالشراء، كما مرّ عن "شرح المنهج"، ونحوه في "المغني" و"النهاية". وأمّا القياس على هذه الصورة فالفرق ما ذكرناه من الارتباط، والحاجة ماسة كثيرًا إليها، كما تبعث الأرملة بصوفها أو غزلها أوسمنها أو نحو ذلك مع رجلٍ، ليبيعه ويشتري لها بثمنه طعامًا أو ثوبًا أو نحوه، وليست الحاجة إلى التوكيل ببيع عبده وعبد فلان إذا ملكه كذلك، مع أنّ المقصود في مثال الأرملة هو أن يشتري لها ببضاعتها طعامًا أو ثوبًا، وإنّما البيع بالنقد وُصلةٌ إلى ذلك، لما عُلم بأنّ التجار إنّما يرغبون أن يبيعوا بالدراهم. وأمّا الشركة فكالقراض، وأمّا القياس على الوقف فإن كان المراد بالملك في عبارة الشيخ أبي حامد ملك العين، فقد قاس البيع على الوقف على ولده ومن سيولد له، وهذا الوقف نفسه مَقِيسٌ على الوقف على الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، كما ورد في الصحيحين (1) في وقف عمر الذي أقره عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم, والقياس على القياس لا يجوز كما تقرّر في الأصول. _________ (1) البخاري (2737، 2772، 2773)، ومسلم (1632) من حديث ابن عمر.

(17/580)


وقد يقال: لا حاجة إلى قياس الوقف على ولده ومن سيولد له على ما ذكر، لدخوله في لفظ القربى أو للإجماع عليه. فأقول: إن كان هناك إجماعٌ فذاك، وإلاّ ففي دخوله في القربى نظر؛ [ص 33] لأنّ المراد بالقربى جميع الأقارب الذين يمكن أن يكونوا مصرفًا للوقف دائمًا، كما هو شأن الوقف، فالضرورة داعية إلى إدخال من لم يوجد بعدُ. فأمّا الوقف على ولده ومن سيولد له، فإنّه لم يقصد به أن يكون أولاده مصرفًا للوقف دائمًا؛ لأنّهم لا بدّ أن يموتوا، وعليه فكان يمكنه أن ينتظر حتى ييأس من الولد ثم يقف عليهم وهم موجودون كلهم، ولا يمكنه هذا في القربى كما مرّ. هذا، وقياس الوكالة بالبيع على الوقف مختلٌّ، أوّلاً: لأنّ الوقف من شأنه الدوام، فلا مندوحة مِن ضمّ من لم يوجد من المستحقين إلى الموجودين، بخلاف الوكالة. ثانيًا: الوقف قربة يتشوَّف إليها الشارع كالعتق، فيوسع فيها ما لا يوسع في الوكالة. ثالثًا: المعدوم في الوقف هو بعض الموقوف عليهم، والمعدوم في مسألة الوكالة هو بعض المال، وقد يُغتفر في المعقود له ما لا يُغتفر في المعقود عليه، كالوقف نفسه فإنّه يجوز على الموجود ومن سيوجد، ولا يجوز وقف ما يملكه وما سيملكه، فأمّا صحة وقف الجارية وحملها، فالحمل كالعضو منها، حتى لو بيعت الحامل دخل الحمل في البيع.

(17/581)


ثم قياس النكاح والطلاق على البيع قياسٌ على قياس، مع أنّ البيع قد يتصور فيه من الحاجة إلى التوكيل به فيما لم يملك بعدُ أشدّ ممّا يتصوّر في النكاح، وأيضًا فالأبضاع يُحتاط لها ما لا يحتاط لغيرها. وإن كان المراد بالملك في عبارة الشيخ أبي حامد ملك التصرف، بحيث يشمل النكاح والطلاق والولاية ونحوها، فقد عُلِم فساده ممّا مرّ. وإذا امتنع قياس البيع على الوقف وقياس النكاح على البيع، فما عسى أن يقال في قياس النكاح على الوقف، وهما على طرفي نقيض. [ص 34] وإذا كان الأمر على ما ذُكِر، فهذه التعسُّفات لا تقوى على تخصيص أو تقييد نصّ الإمام الشافعي رحمه الله تعالى على بطلان توكيل غير المجبر إلا بأن تأذن له المرأة أن يوكّل بتزويجها، فالحقُّ الذي لا يجوز غيره إبقاء نصّه على ظاهره. والله أعلم.

(17/582)


الرسالة التاسعة عشرة

  الحكم المشروع في الطلاق المجموع

(17/583)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الآيات وتفسيرها: قال الله تعالى: 1 - {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)}. 2 - {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)}. 3 - {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)}. 4 - {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)}. 5 - {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)} [البقرة: 228 ــ 232].

(17/585)


6 - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)} [الأحزاب: 49]. 7 - {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)}. 8 - {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 1 ــ 3] (1). [ص 3] صح عن عروة بن الزبير قال: قال رجل لامرأته على عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: لا آوِيكِ ولا أدعُكِ تَحِلِّين. فقالت له: كيف تصنع؟ قال: أطلِّقك، فإذا دنا مُضِيُّ عدتِك راجعتُك، فمتى تحلِّين؟ ! فأتت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فأنزل الله {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، فاستقبله الناس جديدًا، من كان طلَّق، ومن لم يكن طلَّق" (تفسير ابن جرير ج 2/ ص 258) (2). _________ (1) بعدها الصفحة الثانية فارغة في الأصل. (2) (4/ 126) ط. التركي. وفيها: "لا أُؤْوِيك" بدل "لا آوِيك".

(17/586)


هذا مرسلٌ صحيحٌ (1)، وقد رفعه بعضهم، قال: "عن عروة عن عائشة" (2). وله عواضد، وسيأتي بسط ذلك في البحث مع الإمام الشافعي رحمه الله تعالى. ومفاده: أن الطلاق في أول الإسلام لم يكن له حد، فكان للرجل إذا طلَّق أن يراجع قبل مضي العدة، ثم إذا طلَّق فله أن يراجع، ثم إذا طلَّق فله أن يراجع، وهكذا أبدًا، فا تخذ بعض الناس ذلك طريقًا للإضرار بالنساء، فأنزل الله سبحانه وتعالى {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (الآيتين: 2 - 3 من آيات البقرة). فقوله تعالى في الآية الأولى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ} الآية، يحتمل في نزولها ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون نزولها متقدمًا على نزول ما بعدها بمدة. الثاني: أن تكون نزلت مع ما بعدها معًا. الثالث: أن يكون نزولها متأخرًا عما بعدها في النظم. والأول أقرب؛ لأن التقدم في النظم يُشعِر بالتقدم بالنزول، وإن لم يكن ذلك حتمًا، ولأن ظاهرها عموم استحقاق الرجعة في كل طلاق، وهذا مطابقٌ للحكم المنسوخ بما بعدها، ولمرسل عروة وعواضده، فإن ظاهره أن قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} أول ما نزل بعد شكوى المرأة، وذلك يقتضي _________ (1) أخرجه الترمذي عقب حديث (1192) وابن أبي شيبة في "المصنف" (5/ 260). (2) أخرجه الترمذي (1192) والحاكم في "المستدرك" (2/ 279) والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 333).

(17/587)


أن الآيتين نزلتا منفصلتين عن الآية التي قبلها، وقد ثبت تقدمُها بالدليلين الأولين. وعلى هذا فكلمة (المطلقات) على عمومها، ولا ينافيه قوله في أثناء الآية: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}؛ لأن الآية نزلت قبل تحديد الطلاق كما سمعت، ويكون قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ... } (الآيتين) ناسخًا لبعض ما دخل في الآية الأولى، وهو استحقاق الرجعة بعد الطلاق الثالث. وأما على الوجهين الآخرين، فيحتمل في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ} أن يكون (1) من العام المراد به الخصوص، أو من العام المخصوص، أو (2) أن يكون باقيًا على عمومه، ولكن الضمير في قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} أخصُّ من مرجعه، كأنه قال: "وبعولة بعضهن"، والمراد ببعضهن: المطلقات مرةً أو مرتين فقط. وهذا الأخير ــ وإن ذكروه ــ بعيدٌ جدًّا؛ لمخالفته سنة الكلام من مطابقة الضمير لمرجعه، وتوجيهُه بإضمار "بعضهن" تعسفٌ، وهو شبيه بالاستخدام، وقد تكلمت على الاستخدام في مقالتي في بيان مَنِ المراد بقوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} (3). والحق في توجيه هذا أن الضمير عامٌّ كمرجعه، ولكن قد يرد التخصيص على العام باعتبار الحكم الواقع مع الضمير دون الحكم الأول، _________ (1) في الأصل: "تكون". (2) في الأول: "و". (3) انظر كلام المؤلف على المراد بهم في (ص 316 - 318).

(17/588)


فيكون الظاهر عامًّا باقيًا على عمومه، والضمير عامًّا مخصوصًا. وعلى هذا، فالضمير مطابقٌ لمرجعه على ما هو سنة الكلام. وإذ قد ترجح الاحتمال الأول، فلا حاجة لبسط الكلام في الاحتمال الثاني. وأما الآية الرابعة؛ وهي قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)}. ففيها احتمالان: 1 - أن تكون متقدمة النزول على الآيتين اللتين قبلها. وعليه؛ فهي على ظاهرها من أن الطلاق تحل الرجعة بعده مطلقًا، أي: سواء في المرة الأولى، أو الثانية، أو الثالثة، وهكذا. 2 - وتحتمل أن تكون متأخرة عنهما. وعليه؛ فقوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} من العام المراد به الخصوص، أو العام المخصوص، أو على عمومه، ولكنَّ الضمير في قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ} أخص من مرجعه، ولكن هذا الثالث بعيدٌ، أو باطلٌ ههنا، فإن الآية إنما سيقت لأجل هذا الحكم خاصة، أعني قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ} الآية.

(17/589)


وأما آيات سورة الطلاق؛ فيتعين فيها النزول معًا على نظمها؛ لأنها كلامٌ واحدٌ مرتبطٌ أوثقَ الارتباط. ويبقى النظر بينها وبين قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (الآيتين)، فإن كانت آيات سورة الطلاق نزلت قبل آيتي {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} فلا إشكال في هذا. وإن كانت نزلت بعدُ، فتحتاج إلى تأويل، فيقال: إن قوله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} إما عامٌّ مرادٌ به الخصوص، وإما عامٌ مخصوص، وإما على عمومه، وإن كان التعليل بقوله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} يختص بمن طلقت مرةً أو مرتين فقط. وهكذا الضمير في قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}. والاحتمال الأول أولى؛ لتسلَم الآياتُ من مخالفة الظاهر. ولا ينافي ما تقدم في الآية الرابعة من آيات البقرة، وما قلناه ههنا قولهم: "إن التخصيص أولى من النسخ"، فإن محله حيث لم يتحقق النسخ، وها هنا قد تحقق النسخ في الجملة كما تقدم. فأما على قول الحنفية ومن وافقهم: أن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم، فيتعين القول بتأخر نزول آيات سورة الطلاق، وإلا لزم أن يكون ناسخًا لقوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} الآيتين.

(17/590)


وكذلك لا ينافيه ما جاء أن سورة البقرة نزلت قبل سورة الطلاق بمدة؛ لأن المراد فيه معظم سورة البقرة، فقد صح عن ابن عباس: "أن آخر ما نزل من القرآن آية الربا" يعني التي في سورة البقرة. رواه البخاري وغيره (1)، وروي مثله عن عمر (2)، ولذلك نظائر في القرآن. انظرها في "الإتقان" (3). [ص 4] فصل قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} "ال" للعهد، أي: الطلاق الذي تعهدونه من حيث إن من شأنه أن الرجل إذا أوقعه كان له أن يراجع. وهذه الحيثية كانت سبب نزول الآية، كما تقدم في مرسل عروة، والذي من شأنه ما قاله ذلك الرجل، والذي تقدم ذكره في الآية السابقة، وهي قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ} إلى قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ}. ولا ينافي هذا ما اخترناه من تقدم نزول آية {وَالْمُطَلَّقَاتُ} بمدة؛ لأنها في علم الله تعالى متصلة بها، وجعلت في النظم متصلة بها. والعهد هنا أولى من الجنس لأمرين: الأول: لما تقرر في الأصول: أنه إذا تحقق عهدٌ تعين المصير إليه. الثاني: قوله: {مَرَّتَانِ} مع أن جنس الطلاق ــ مع صرف النظر عن المراجعة ــ ثلاث بمقتضى هاتين الآيتين. _________ (1) البخاري (4544). وأخرجه أيضًا أبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص 223 ــ 224) والطبري في "تفسيره" (5/ 67)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (7/ 138). (2) أخرجه البيهقي في "الدلائل" (7/ 138). (3) (1/ 180).

(17/591)


وقال ابن جرير (1): "اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: هو دلالة على عدد الطلاق الذي يكون للرجل فيه الرجعة على زوجته". ثم ذكر مرسل عروة (2)، ومرسلًا في معناه عن قتادة (3)، وآخر عن ابن زيد (4)، ثم ذكر عن السدي (5) قال: "هو الميقات الذي يكون عليها فيه الرجعة". ثم ذكر أثرًا عن عكرمة (6). ثم قال (7): "وقال آخرون: إنما أُنزِلت هذه الآية على نبي الله - صلى الله عليه وآله وسلم - تعريفًا من الله تعالى ذكرُه عبادَه سنةَ طلاقهم" (تفسير ابن جرير 2/ ص 258 - 259). وقد ذكر في موضعٍ آخر عن قتادة، ولفظه (8): عن قتادة قال: "جعل الله الطلاق ثلاثًا، فإذا طلَّقها واحدةً فهو أحقُّ بها ما لم تنقضِ عدتُها، وعدتها ثلاث حيض، فإن انقضت العدة قبل أن يكون راجعها، فقد بانت منه بواحدةٍ، وصارت أحقَّ بنفسها، وصار خاطبًا [من الخُطَّاب] (9)، فكان الرجل إذا أراد طلاق أهله نظر حَيْضَتها، حتى إذا طهرت طلَّقها تطليقة في _________ (1) "تفسيره" (4/ 125) ط. التركي. (2) سبق تخريجه. (3) "تفسير الطبري" (4/ 126). (4) المصدر نفسه (4/ 126). (5) المصدر نفسه (4/ 127). وأخرجه أيضًا البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 367). (6) المصدر نفسه (4/ 127). وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة في "المصنف" (5/ 261). (7) المصدر نفسه (4/ 127). (8) المصدر نفسه (4/ 166). (9) ما بين المعكوفتين مخروم من الأصل.

(17/592)


قُبل عدتها، عند شاهدَيْ عدلٍ، فإن بدا [له مراجعتها] راجعها ما كانت في عدتها، وإن تركها حتى تنقضي عدتها فقد بانت منه بواحدةٍ، وإن بدا له طلاقها بعد الواحدة وهي في عدتها نظر حيضتها، حتى إذا طهرت طلَّقها تطليقةً أخرى في قُبل عدتها، فإن بدا له مراجعتها راجعها، فكانت عنده [على] واحدة، وإن بدا له طلاقها طلَّقها الثالثةَ عند طهرها، فهذه الثالثة التي قال الله تعالى ذكره: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} " (تفسير ابن جرير ج 2/ ص 270) (1). [ص 9 مكرر] ودل على هذا قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} ولم يقل: ثلاث، ولا وجه لذلك إلا أنه أراد الذي تكون معه الرجعة، وهو الذي عهده الناس من قبل نزول الآية، والذي تقدم ذكره. قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}. قال ابن جرير (2): "فقال بعضهم: هو دلالة على عدد الطلاق الذي يكون للرجل فيه الرجعةُ على زوجته". ثم استدل على ذلك بمرسل عروة وما شاكله، ثم حكى أقوالًا مضطربة، ثم روى عن الضحاك قال (3): "يعني تطليقتين بينهما مراجعة، فأمر أن يمسك، أو يطلق بإحسان". _________ (1) كتب الشيخ بعدها: "ملحق". ويقصد به الآتي. (2) "تفسيره" (4/ 125). (3) المصدر نفسه (4/ 132).

(17/593)


واعترضه ابن جرير من جهة غير ما نحن بصدده. ثم قال ابن جرير (1): "فبيِّنٌ أن تأويل الآية: الطلاق الذي لأزواج النساء على نسائهم فيه الرجعة مرتان، ثم الأمر بعد ذلك إذا راجعوهن في الثانية إما إمساكٌ بمعروف، وإما تسريحٌ منهم لهن بإحسان بالتطليقة الثالثة". ثم قال (2) في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}: "فقال بعضهم: دل على أنه إن طلَّق الرجل امرأته التطليقة الثالثة بعد التطليقتين اللتين قال الله تعالى ذكره فيهما: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} فإن امرأته تلك لا تحلُّ له بعد التطليقة الثالثة حتى تنكح زوجًا غيره". ثم أخرج (3) عن قتادة قال: "جعل الله الطلاق ثلاثًا، فإذا طلَّقها واحدةً فهو أحقُّ بها ما لم تنقضِ العدة، وعدتها ثلاثُ حِيَض، فإن انقضت العدة قبل أن يكون راجعها، فقد بانت منه بواحدةٍ، وصارت أحقَّ بنفسها، وصار خاطبًا من الخطاب، فكان الرجل إذا أراد طلاق أهله نظر حيضتها، حتى إذا طهرت طلَّقها تطليقةً في قُبُل عدتها، عند شاهدي عدلٍ، فإن بدا له مراجعتها راجعها ما كانت في عدتها، ... وإن بدا له طلاقها طلَّقها الثالثة عند طهرها، فهذه الثالثة التي قال الله تعالى ذكره: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} ". _________ (1) المصدر نفسه (4/ 132). (2) المصدر نفسه (4/ 165). (3) المصدر نفسه (4/ 166).

(17/594)


ثم روى (1) بسند ضعيف عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يقول: "إن طلَّقها ثلاثًا فلا تحِلُّ حتى تنكح زوجًا غيره". وأخرج عن الضحاك قال (2): "إذا طلَّق واحدة أو اثنتين فله الرجعة ما لم تنقضِ العدة، قال: والثالثة قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} ... ". وعن السدي (3): "فإن طلَّقها بعد التطليقتين". ثم حكى عن مجاهد (4) ما حاصله أن الطلقة الثالثة قد تقدمت في قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} تفسيرٌ لذلك، كأنه قال: فإن وقع التسريح بالإحسان. وقد قدَّم في تفسير التسريح حديث أبي رزين (5) قال: قال رجل: يا رسول الله! يقول الله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} فأين الثالثة؟ قال: "التسريح بإحسان". وروى عن مجاهد وقتادة نحوه (6). وحكى عن السدي والضحاك أنهما قالا (7): "الإمساك: المراجعة، _________ (1) المصدر نفسه (4/ 166). (2) المصدر نفسه (4/ 167). (3) المصدر نفسه (4/ 167). (4) المصدر نفسه (4/ 167). (5) المصدر نفسه (4/ 130). (6) المصدر نفسه (4/ 131). (7) المصدر نفسه (4/ 131، 132).

(17/595)


والتسريح: أن يدعها حتى تمضي عدتها". وعلى كل حال فهم متفقون أن قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} أراد به الثالثة، سواء من قال: إنه لم يتقدم لها ذكر، ومن قال: بل قد تقدم. وهكذا ما روي عن ابن عباس ــ وإن لم يصح ــ من قوله: "إن طلَّقها ثلاثًا"، فإنه إنما أراد الثلاث التي تقدمت، وهي المرتان اللتان (1) راجع بعد كل منهما، والتسريح. هكذا يجب أن يُفهم، فإنه إن فُهِم على معنى: إن طلَّقها ثلاثًا دفعة واحدة، كان على خلاف سياق القرآن، وخلاف ما عليه سائر المفسرين. [منتصف ص 4] وقوله تعالى: {مَرَّتَانِ} لماذا عُدِل به عن "طلقتان"؟ عنه ثلاثة أجوبة: الأول: أن يقال: إنما عُدِل عنه؛ لأن تكرار الحروف يوجب ثقلًا في اللفظ. وليس هذا الجواب بشيءٍ؛ لأن التكرار هنا لا يوجب ثقلًا يعتدُّ به. وقد وقع في القرآن كثيرًا ما هو مثله، أو أدخلُ منه في شبهة الثقل، مثل {مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً}، {وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}، {عَاهَدُوا عَهْدًا}، {أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا}، وأبلغ من ذلك قوله تعالى: {وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ}، اجتمعت فيها سبع ميمات. _________ (1) في الأصل: "اللتين".

(17/596)


الثاني: ما قاله الجصاص في "أحكام القرآن" وغيره: أنه عُدِل عن "طلقتان" للدلالة على وجوب تفريق الطلاق، إما بأن يطلق واحدةً يقتصر عليها، ولا يطلق أخرى إلا إذا راجع بعد الأولى، وإما بأن يطلق عند كل طهر واحدةً، قولان لأهل العلم. قالوا: فقوله: {مَرَّتَانِ} دلالة على ذلك. قال الجصاص: "وذلك يقتضي التفريق لا محالة؛ لأنه لو طلَّق اثنتين معًا لما جاز أن يقال: طلَّقها مرتين، وكذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين لم يجز أن يقال: أعطاه مرتين حتى يفرق الدفع" (أحكام القرآن ج 1/ ص 378). بل في الطلاق نفسه لو قال قائلٌ: إن فلانًا طلَّق زوجته اليوم مرتين، لفُهِم منه التفريق، ولم يفهم منه أنه قال: أنت طالق طلقتين، أو أنت طالق أنت طالق. ومع ذلك ففي هذا الجواب نظرٌ؛ لأنه كان الظاهر أن يقال: "ثلاث مرات"، فلماذا قال: {مَرَّتَانِ}، ثم ذكر الطلقة الثالثة بعدُ؟ ولأن التفريق يصدق بما لو طلَّقها طلقةً، ثم بعد ساعة طلَّقها أخرى بدون تخلل رجعة، فلو أريد تفريق مخصوص، لكان الظاهر أن يقام عليه دليلٌ. نعم، من قال: إن السنة أن يطلق طلقة واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، فإن راجعها في العدة ثم بدا له أن يطلق، فليطلق مرة أخرى، فله أن يجيب بأن المراد بـ {مَرَّتَانِ} طلاقان يعقب كلًا منهما رجعة، وهذا لا يكون ثلاثًا، وبأن في الآية دليلًا على هذا التفريق بخصوصه، وهو قوله: {فَإِمْسَاكٌ

(17/597)


بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} بناءً على تفسير الإمساك بالرجعة، والتسريح بعدمها. وفيه: أن ذلك إنما يتم لو كان المعنى: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان بعد كل مرة، وهذا محتمل فيما حكاه ابن جرير عن الضحاك (1) [ص 5] قال: "يعني: تطليقتين بينهما مراجعة، فأمر أن يُمسِك أو يُسرِّح بإحسان، قال: فإن هو طلَّقها ثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره". وقد فسره ابن جرير بقوله: "وكأن قائلي هذا القول الذي ذكرناه عن السدي والضحاك ذهبوا إلى أن معنى الكلام: الطلاق مرتان، فإمساكٌ [في] كل واحدة منهما لهن بمعروف أو تسريح لهن بإحسان" (تفسير ابن جرير ج 2/ ص 260) (2). أقول: ولفظ السدي (3): "إذا طلَّق واحدةً أو اثنتين إما أن يمسك ــ ويُمسك: يراجع بمعروف ــ، وإما سكت عنها حتى تنقضي عدتها، فتكون أحقَّ بنفسها". وقوله: "واحدة أو اثنتين" أراد به على ما فهمه ابن جرير: الأولى أو الثانية، ولم يرد اثنتين لم تتخللهما رجعة. ولكن ابن جرير رد هذا القول بحديث رواه، كما سيأتي. _________ (1) (4/ 132). (2) (4/ 132). (3) المصدر نفسه (4/ 132).

(17/598)


وأقول: إن فيه بعدًا من جهة أن الظاهر في قوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أنه بعد المرتين كما تقتضيه الفاء. الجواب الثالث: أنه إنما لم يقل: "طلقتان" إشعارًا بأنه لو قال: طلقتك وطلقتك وطلقتك، أو قال: طلقتك ثلاثًا، أو ألفًا، أو عدد ذرات العالم، كان هذا كله مرةً واحدةً، كما تقول: ضرب فلانٌ عبده اليوم مرتين، فيصدق بما لو ضربه كل مرة من المرتين ضربةً، أو ضربتين، أو ضربات. ويحتج لهذا القول بأن الآية نزلت لإبطال ما سبق من تكرر الطلاق مع تكرر الرجعة مرارًا لا حدَّ لها، [إذ] كان لأحدهم أن يقول: أنت طالق ألفًا ثم يراجعها، ثم يقول: أنت طالق ألفًا ثم يراجعها، ثم يقول: أنت طالق ألفًا ثم يراجعها، وهكذا مرارًا لا حدَّ لها. فقيل لهم: إن الطلاق الذي تعقبه الرجعة مرتان، لا مِرارٌ لا حدَّ لها، فالمرة الواحدة هي طلاق تعقبه رجعة، مع صرف النظر عن ذلك الطلاق أطلقةً كان أم ألفًا (1). وهذا جوابٌ جيد، لكنه لا يأتي إلا على قول الظاهرية والزيدية وعامة الشيعة ومن وافقهم: إن الطلاق الثلاث الذي يحرمها حتى تنكح زوجًا غيره، إنما هو طلاق يتبعه رجعة، ثم طلاق يتبعه رجعة، ثم طلاق. فأما أن يقول: طلقتك ألفًا، أو يكرر لفظ الطلاق في كلامٍ واحدٍ، أو يطلق مرارًا كثيرةً لم تتخللها رجعة، فهذا كله مرةٌ واحدةٌ. _________ (1) كتب المؤلف هنا: "ملحق". ويقصد به الكلام الآتي.

(17/599)


ويحتجون بالآية، والإنصاف أن ظاهرها معهم، فإنها أثبتت أن للرجل أن يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، ولم تحدّد الطلاق الواقع كل مرة. ويحتجون بالآية الرابعة من آيات البقرة، فإنه تعالى قال: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} والإمساك هنا الرجعة اتفاقًا، قالوا: فأثبت لهم الرجعة بعد الطلاق، ولم يحدد الطلاق بحدّ، فهو صادق بأن يقول: طلقتك، وأن يقول: طلقتك وطلقتك وطلقتك، أو طلقتك ألفًا، أو عدد ذرات العالم، ولا حدَّدتْه بأنه أول طلاق، ولا أنه طلاق قد تقدمه طلاق ورجعة. فإن قيل: إنك قد قدمت استظهار أن هذه الآية متقدمة على قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ}! قلت: نعم، ولكن لهم أن يقولوا: إن آيتي {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} أقرت الآية الرابعة على هذا المعنى، ووافقتها عليه ــ كما تقدم ــ وإنما خالفتها في المرة الثالثة. [ص 5 مكرر] ويحتجون أيضًا بآيات سورة الطلاق، والكلام فيها كالكلام في الآية الرابعة من آيات البقرة سواء. واحتج مخالفوهم بقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}. أخرج أبو داود بسندٍ صحيحٍ كما في الفتح (1) عن مجاهد قال: "كنت _________ (1) (9/ 362). والأثر عند أبي داود (2197).

(17/600)


عند ابن عباس فجاءه رجل، فقال: إنه طلَّق امرأته ثلاثًا، فسكت حتى ظننت أنه سيردُّها إليه، فقال: ينطلق أحدكم فيركب الأُحموقةَ، ثم يقول: يا ابن عباس! يا ابن عباس! إن الله قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}، وإنك لم تتق الله، فلا أجد لك مخرجًا، عصيتَ ربك، وبانتْ منك امرأتك". ويجاب عن هذا بأن هذه الجملة وردت بعد أوامر ونواهي ليس فيها النهي عن جمع الطلاق، على أن من جملة الأوامر الطلاق للعدة، ومعلوم أن من طلَّق واحدة لغير العدة لا تبين منه امرأته إجماعًا. فهذا يدل أن المخرج في الآية ليس في خصوص عدم البينونة، فمن لم يتق الله فطلق لغير العدة، ضيَّقَ الله تعالى عليه بوجوب الرجعة، ومن لم يتق الله فقال: هي طالقٌ ثلاثًا، أو ألفًا، يُضيِّق الله عليه بأن لا تقع إلا واحدة، فإن وافق ذلك هواه ضيَّق الله عليه من جهة أخرى، كأن يوقع الخلاف بينه وبين امرأته، فيضطر إلى مفارقتها، أو يعيش معها في نَكَدٍ، أو غير ذلك. على أننا قد قدمنا أن الظاهر أن هذه الآيات نزلت قبل النسخ، وعليه فهذه الآية تشير إلى ما تقدم قبلها في الآية {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}. فكأنه قال: إن اتقيتم الله تعالى فلم تراجعوا المطلقات إلا بمعروف، جعل الله لكم مخرجًا بأن يستمر الحكم بعدم تحديد الطلاق، وإن لم تتقوا بل أخذتم تراجعون ضرارًا، فسيضيِّق الله تعالى عليكم.

(17/601)


وقد وقع هذا الوعيد، فإنهم لما أخذوا يراجعون ضرارًا، كما في مرسل عروة، ضيَّق الله عليهم بتحديد الطلاق، والله أعلم. هذا ما يتعلق بهذه المسألة من كتاب الله عزَّ وجلَّ، فلننظر الآن ما يتعلق بها من السُّنَّة.

(17/602)


الأحاديث التي احتج بها من يرى أن من قال: طلقتك ثلاثًا، أو ألفًا، أو كعدد ذرَّات العالم، أو نحو ذلك، فهي مرة واحدة، تكون له بعدها الرجعة [ص 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في "صحيح مسلم" (1) بسندٍ على شرطهما عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه". وبسندٍ آخر (2) على شرطهما عن ابن جريج أخبرني ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس: "أتعلم أنما كانت الثلاث تُجعَل واحدةً على عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبي بكر وثلاثًا من إمارة عمر؟ فقال ابن عباس: نعم". وبسندٍ آخر (3) على شرطهما عن إبراهيم بن مَيْسَرة أن أبا الصهباء قال لابن عباس: "هاتِ من هَنَاتِك! ألم يكن الطلاقُ الثلاثُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبي بكر واحدةً؟ فقال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تَتايَعَ الناسُ في الطلاق، فأجازه عليهم". ورجال هذه الأسانيد أئمة أثبات. _________ (1) رقم (1472). (2) تابع للرقم السابق. (3) تابع للرقم المذكور.

(17/603)


وفي "المستدرك" (1) من طريق ابن أبي مليكة أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس فقال: "أتعلم أن ثلاثًا كن يُرْدَدْنَ على عهد رسول الله إلى واحدة؟ قال: نعم". وفي "مسند أحمد" (2): ثنا سعد بن إبراهيم، ثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: طلَّق رُكانةُ بن عبد يزيد أخو بني المطَّلب امرأتَه ثلاثًا في مجلس واحد، فحزِن عليها حزنًا شديدًا. قال: فسأله رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: كيف طلقتَها؟ قال: طلقتُها ثلاثًا. قال: فقال: في مجلسٍ واحدٍ؟ قال: نعم. قال: فإنما تلك واحدةٌ، فارجِعْها إن شئت. قال: فراجعَها، فكان ابن عباس يرى أنما الطلاق عند كل طهر. وقد احتج الإمام أحمد بحديث آخر بسند هذا سواء (3). وفي "سنن أبي داود" (4) من طريق ابن جريج أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: طلق عبد يزيد أبو ركانة ... فقال (النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -): راجعْ أمَّ ركانة وإخوتِه. فقال: إني طلقتها ثلاثًا يا رسول الله! قال: قد علمتُ، راجعْها، وتلا: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}. _________ (1) (2/ 196). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي فقال: ابن المؤمل ضعفوه. (2) (1/ 265). (3) هو حديث إرجاع النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته زينب على زوجها بالنكاح الأول. أخرجه أحمد في "المسند" (2366) من طريق ابن إسحاق بهذا الإسناد. (4) رقم (2196).

(17/604)


وعورض هذا بحديث ضعيف (1)، ضعفه الإمام أحمد وغيره في "أن ركانة طلَّق البتة". وفي "صحيح مسلم" (2) من طريق محمد بن سرين قال: "مكثتُ عشرين سنة يحدثني من لا أتهم: أن ابن عمر طلَّق امرأته ثلاثًا وهي حائض، فأمر أن يراجعها، فكنت لا أتهمهم ولا أعرِفُ وجهَ الحديث، حتى لقيت أبا غلاب يونس بن جبير، وكان ذا ثبت، فحدثني أنه سأل ابن عمر، فحدثه أنه طلَّق امرأته تطليقةً وهي حائض". أقول: [ليس] بين ما أخبره الجماعة الذين لا يتهمهم، وما أخبره أبو غلاب عن ابن عمر [تعارض]، بل يُجمع بينهما بأنه طلَّق ثلاثًا في اللفظ، وواحدة في الحكم. وعلى هذا يُحمل ما جاء في عدة روايات من أنه طلَّق تطليقةً واحدةً، وكأن ابن عمر أو من بعده كان يعبر بهذا؛ لأنه يرى أن الحكم قد تغير بسبب استعجال الناس، كما مر في حديث ابن عباس، فصار الإنسان إذا طلَّق ثلاثًا حسبت عليه ثلاثًا، ولا يصرح بقوله ثلاثًا؛ لئلا يخطئ الناس بظن أن هذه الصورة مستثناة مما أمضاه عمر. وعلى هذا أيضًا يُحمل ما في "صحيح مسلم" (3): "وكان عبد الله إذا سئل عن ذلك قال لأحدهم: أما أنت طلقتَ امرأتك مرةً أو مرتين، فإن _________ (1) أخرجه أبو داود (2206، 2208). (2) رقم (1471/ 7). (3) رقم (1471/ 1).

(17/605)


رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أمرني بهذا، وإن كنتَ طلقتَها ثلاثًا، فقد حرمتْ عليك حتى تنكح زوجًا غيرك، وعصيتَ الله فيما أمرك من طلاق امرأتك". ومثله ما يُروى عن عمر: أن رجلًا قال له: إني طلقت امرأتي البتةَ وهي حائض. فقال: عصيتَ ربك، وفارقتَ امرأتك. قال: فإن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أمر ابن عمر أن يراجع امرأته؟ قال: إنه أمر ابن عمر أن يراجعها بطلاق بقي له، وأنت لم تُبقِ ما ترتجعُ به امرأتك. رواه الدارقطني (1) من طريق إسماعيل بن إبراهيم الترجماني عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، والسند بعد ذلك صحيح. والترجماني قالوا: "لا بأس به". ووثقه بعض المتأخرين (2)، والجمحي مختلف فيه (3). [ص 7] وقد أطال أهل العلم الكلامَ في هذه المسألة، فلنقدم كلام الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في كتاب "اختلاف الحديث" (4). قال: "باب في طلاق الثلاث المجموعة"، ثم ذكر حديث ابن عباس بمعنى الرواية الثانية عند مسلم، ثم أسند عن ابن عباس: "أن رجلًا قال له: طلَّقتُ امرأتي ألفًا. فقال: تأخذ ثلاثًا، وتَدَعُ تسعمائة وسبعًا وتسعين" (5). وبسند آخر: "قال رجلٌ لابن عباس: طلقتُ امرأتي مائةً. فقال: تأخذ ثلاثًا، وتَدَعُ سبعًا وتسعين". _________ (1) (4/ 8). (2) انظر "تهذيب التهذيب" (1/ 271، 272). (3) انظر المصدر السابق (4/ 55، 56). (4) ضمن كتاب "الأم" (10/ 256، 257) ط. دار الوفاء. (5) أخرجه أيضًا عبد الرزاق في "المصنف" (6/ 397) والبيهقي (7/ 337).

(17/606)


قال الشافعي: "فإن كان معنى قول ابن عباس أن الثلاث كانت تُحسَب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، يعني أنه بأمر النبي". أقول: هذا هو المتعين قطعًا؛ لأن هذا الجعل إنما يكون قضاءً أو إفتاءً، ولم يكن يقع القضاء والإفتاء في عهده - صلى الله عليه وآله وسلم - إلا منه، أو بأمره، أو بعلمه، إذ لا يجوز أن يكون وقع القضاء والإفتاء في هذا الحكم العظيم من أصحابه - صلى الله عليه وآله وسلم - باجتهادهم، ثم لا يبلغه ذلك، مع ما تُشعِر به الآثار من تكرر ذلك واستمراره. وعلى فرض أنه كان يقع ذلك ولم يبلغه ــ وهو محالٌ عادةً ــ فكفى بتقرير الله عز وجل حجةً. وفي "الصحيح" (1) عن جابر: "كنا نَعزِل والقرآن ينزل، لو كان شيئًا يُنهَى عنه لنَهَى عنه القرآن". وإذا كنا نحتج بتقرير النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فالاحتجاج بتقرير الله عز وجل أولى، فإن الوصلة كانت حينئذٍ موجودة بينه وبين عباده بوجود الوحي، فإذا لم يبين للناس خطأ ما يفعلونه حينئذٍ، فقد أقرهم عليه، ويوضح هذا قول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ}. وما تضافرت به الآثار أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يكره المسائل حتى قال: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا من سأل عن شيءٍ لم يُحرَّم على الناس، فحُرِّم من أجل مسألته". رواه الشيخان (2) من حديث سعد بن أبي وقاص. _________ (1) البخاري (5208) ومسلم (1440). والفقرة الأخيرة عند مسلم فقط. (2) البخاري (7289) ومسلم (2358).

(17/607)


وإنما المعنى أن الناس كانوا مأمورين أن يعملوا بما ظهر لهم من الشريعة، وبأصل الإباحة وعدم التكليف، متَّكلِين على أن الله تبارك وتعالى يعلم بهم وبما فعلوه، فإن أخطأوا غفر لهم خطأهم، وبين لهم على لسان رسوله، كما في "صحيح البخاري" (1) عن سهل بن سعد قال: "أنزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ولم ينزل {مِنَ الْفَجْرِ}، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجلَيْه الخيطَ الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد {مِنَ الْفَجْرِ}، فعلموا أنما يعني الليل والنهار". ويوضح هذا ما في "صحيح مسلم" (2) عن أبي هريرة قال: "خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحُجُّوا. فقال رجل: أكلَّ عامٍ يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثًا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "لو قلت: نعم، لوجبتْ، ولما استطعتم"، ثم قال: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيءٍ فأْتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيءٍ فدعوه" (صحيح مسلم ج 4/ ص 102). لما كان الأصل عدم التكليف بالحج، وقوله: "قد فرض الله عليكم الحج، فحجوا" يتحقق بمرةٍ واحدةٍ في العمر، كان عليهم أن يفهموا المرة الواحدة، ويقتصروا عليه، عالمين أن الله تعالى إذا أراد كل سنة فسيُبينه لهم _________ (1) رقم (1917). وأخرجه أيضًا مسلم (1091). (2) رقم (1337).

(17/608)


بدون سؤال. وهكذا ما كان الأصل فيه الإباحة، كان عليهم أن يستمروا على استباحته، فإذا أراد الله تعالى تحريمه، فسيبينه بدون سؤال. واعلم أن سكوت الشرع عن تنبيههم على خطئهم في القضاء والفتوى في الطلاق ــ لو كانوا أخطأوا ــ أبعدُ جدًّا من سكوته عن تنبيههم على الخطأ في فعل العَزْل، وتناوُلِ ما لم يروه حرامًا، والاقتصار على حجة واحدة، فدلالة السكوت على التقرير في الأول وأنهم مصيبون أوضح من الدلالة في الثاني، فتدبَّر هذا. مع أن الحكم في قضية ركانة، وقضية ابن عمر من النبي نفسه - صلى الله عليه وآله وسلم -. [ص 8] ولضعف أو بطلان احتمال أن ما كان يقع في عهده - صلى الله عليه وآله وسلم - مِنْ جعلِ الثلاث واحدةً، كان بغير أمره وبغير تقريره، لم يعتمد الشافعي على هذا الجواب، ولا اعتدَّ به، وإنما أشار إليه إشارةً، وإنما أمعنتُ في بيان سقوطه؛ لأن بعض أهل العلم ممن بعده اعتمد عليه، والله المستعان. قال الشافعي (1): "فالذي يُشبِه ــ والله أعلم ــ أن يكون ابن عباس قد علم أن كان شيئًا فنُسِخ. فإن قيل: فما دلَّ على ما وصفتَ؟ قيل: لا يُشبِه أن يكون يروي عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - شيئًا ثم يخالفه بشيءٍ لم يعلمه كان من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيه خلافُه. _________ (1) في "اختلاف الحديث" ضمن كتاب "الأم" (10/ 257، 258) ط. دار الوفاء.

(17/609)


فإن قيل: فلعل هذا شيءٌ روي عن عمر، فقال فيه ابن عباس بقول عمر. قيل: قد علمنا أن ابن عباس يخالف عمر في نكاح المتعة، وبيع الدينار بالدينارين، وفي بيع أمهات الأولاد، وغيره، فكيف يوافقه في شيءٍ، ويروي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيه خلافه؟ فإن قيل: فلِمَ لم يذكره؟ قيل: وقد يُسأل الرجل عن الشيء، فيجيب فيه ولا يتقصَّى فيه الجواب، ويأتي على الشيء، ويكون جائزًا له، كما يجوز له لو قيل: أصلَّى الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى بيت المقدس؟ أن يقول: نعم. وإن لم يقل: ثم حُوِّلتِ القبلة. قال: فإن قيل: فقد ذكر [على] عهد أبي بكر، وصدر من خلافة عمر. قيل ــ والله أعلم ــ: وجوابه حين استفتي يخالف ذلك، كما وصفتُ". أقول: أطال النووي في "شرح مسلم" (1) في الرد على احتمال النسخ، ورده واضح، فإن قول ابن عباس: "كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر الثلاثُ واحدةً، فقال عمر .. " صريحٌ في أن الطلاق كله كان على هذا، فإن هذه قضيةٌ عامةٌ، وليس مثلها ما لو قيل: "أصلَّى الناسُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى بيت المقدس"؛ لأن هذه قضية خاصة، فالأولى تدل على الاستمرار، بخلاف الثانية. وقول ابن عباس في جواب السائل: "قد كان ذلك، فلما كان في عهد _________ (1) (10/ 71، 72).

(17/610)


عمر تتايعَ الناسُ في الطلاق، فأجازه عليهم" صريحٌ في أنه أراد أن يُبين تغيرَ الحكم، فلو علم نسخًا في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما عدل عنه، بل كان يقول: قد كان ذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم نسخ، أو نحو هذا. واحتمالُ أن يكون النسخ وقع في آخر الحياة النبوية، فلم يعمل بموجبه في العهد النبوي، ولم يطلع عليه ابن عباس، يردُّه استمرار الحكم في عهد أبي بكر، وثلاث سنين من إمارة عمر، فيكونون قد أجمعوا على الخطأ. واحتمال أن يكونوا اطلعوا في عهد عمر على ناسخٍ، يردُّه أن عمر إنما بنى التغيير على قوله: "إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناةٌ"، ولو كان اطلع على ناسخٍ لما عَدَلَ عنه، بل كان يقول: قد كنا نَقضِي بكذا حتى وقفنا على هذا النص، ويذكره. وهكذا ابن عباس، إنما بنى التغيير على قوله: "فلما كان في عهد عمر تتايعَ الناسُ في الطلاق، فأجازه عليهم"، فبيَّن أن الإجازة كانت بسبب التتايع، فلو كانت الإجازة للاطلاع على ناسخٍ لما عدلَ عنه. وقد سلَّم الشافعيُّ أن الاستمرار في عهد أبي بكر ومدة من إمارة عمر يدفع النسخ، وإنما عارض ذلك بفتوى ابن عباس. وهذه معارضة ضعيفة، بل باطلة على أصل الشافعي الذي يوافقه عليه جمهور أهل العلم: أن العبرة بما رواه الراوي وإن خالفه. وقد قرر الشافعي هذه القاعدة في مواضع من "الأم"، منها: مسألة التحريم بالرضاع من جهة الفحل (1)، وغيرها. _________ (1) (8/ 768، 769) من "اختلاف مالك والشافعي".

(17/611)


ومن يقول: إن فتوى الراوي بخلاف مرويِّه تَخْدِش في مرويِّه، يستثني من ذلك ما إذا بيَّن الراوي مستندَ فتواه، وتبين لنا ضعف ذلك المستند. وقد بيَّن ابن عباس هنا أن مستند التغيير هو أن الناس تتايَعوا في الطلاق، فأجازه عليهم عمر. وإجازة عمر ليست عند ابن عباس حجة، كما ذكر الشافعي، فلم يبق إلا أنه وافقه على أن التتايع يقتضي الإجازة، وسيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. [ص 9] على أنه قد جاء عن ابن عباس الفتوى بأن الثلاث واحدة. قال أبو داود في "سننه" (1): روى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس: "إذا قال أنت طالق ثلاثًا، بفمٍ واحدٍ، فهي واحدة". ورواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة هذا قوله، لم يذكر ابن عباس، وجعله قول عكرمة. (سنن أبي داود 1/ 298). أقول: الظاهر صوابهما معًا، إذ لا مانعَ أن يرويه أيوب تارةً عن عكرمة عن ابن عباس، وتارةً عن عكرمة من قوله، فإن أبيتَ إلا الترجيح فقد اختلف الناس أيهما أرجح: حماد أم إسماعيل ــ وهو ابن عُلَية ــ؟ فقدَّم عثمان بن أبي شيبة ابنَ عُلَية. وقال يحيى بن معين: حماد بن زيد أثبت من عبد الوارث وابن عُلَية والثقفي وابن عيينة. وقال أيضًا: ليس أحدٌ أثبتَ في أيوب منه. وقال أيضًا: من خالفه من الناس جميعًا، فالقول قوله في أيوب. _________ (1) بذيل رقم (2197).

(17/612)


وقال يعقوب بن شيبة: ابن زيد معروفٌ بأنه يقصر في الأسانيد، ويُوقِف المرفوع، كثير الشك بتوقِّيه .. وكان يُعدُّ من المتثبتين في أيوب. وقال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى ــ هو ابن معين ــ يقول: لم يكن أحدٌ يكتب عند أيوب إلا حماد. وقال الخليلي: المعتمد في حديثٍ يرويه حماد، ويخالفه غيره عليه، والمرفوع إليه (1). أقول: كأنه يريد بقوله: "والمرفوع إليه" أنه إذا رفع حديثًا ووقفه غيره، فالقول قوله؛ لأنه كان كثير التوقي يتوقف عن الرفع لأدنى شك، كما مر عن يعقوب بن شيبة. ثم قال أبو داود (2): "وصار قول ابن عباس فيما حدثنا ... ". ذكر أثرًا أفتى فيه ابن عباس وغيره في البكر يطلقها زوجها ثلاثًا، فكلهم قال: "لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره". وعقَّبه بقوله (3): حدثنا محمد بن عبد الملك بن مروان نا أبو النعمان نا حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحدٍ عن طاوس: أن رجلًا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس، قال: أما علمتَ أن الرجل كان إذا طلَّق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها، جعلوها واحدةً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: بلى، كان الرجل إذا طلَّق _________ (1) انظر أقوال هؤلاء النقاد في "تهذيب التهذيب" (3/ 10، 11). (2) رقم (2198). (3) رقم (2199).

(17/613)


امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدةً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر، فلما رأى الناس قد تتايعوا فيها، قال: أجيزوهن (1) عليهم. ثم أخرج (2) رواية ابن طاوس عن أبيه بلفظ الرواية الثانية عند مسلم. فقوله: "وصار قول ابن عباس" ظاهرٌ في اعترافه بأن رواية حماد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس ثابتة، وأن لابن عباس قولين، كان يقول بأحدهما، ثم صار إلى الآخر، فإن أراد أنه كان يقول بأنها واحدةٌ، كما في رواية حماد، ثم صار إلى وقوع الثلاث، فهي دعوى بلا دليلٍ، وهكذا إن أراد عكسه، فالأولى أنه كان يفتي بهذا تارةً، وبهذا أخرى، يتوخى في كل قضية ما هو الأولى بها، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. وقد استدل بعضهم لما تقدم عن الشافعي من احتمال أن ابن عباس اطلع على ناسخٍ بما رواه أبو داود (3) قال: حدثنا أحمد بن محمد المروزي، حدثني علي بن حسين بن واقد، عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلَّق امرأته فهو أحقُّ برجعتها وإن طلَّقها ثلاثًا، فنسخ ذلك، فقال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} الآية. (سنن أبي داود ج 1/ ص 296). _________ (1) كذا في الأصل. وعند أبي داود: "أُجِيزُهن". (2) رقم (2200). (3) رقم (2195).

(17/614)


أقول: علي بن حسين بن واقد، قال أبو حاتم: ضعيف الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس (1). وعلى كلتا العبارتين فلا يصلح للحجة، وإنما يصلح على الثانية للمتابعة. وأبوه (2) وثقه يحيى، وقال أبو زرعة وأبو داود والنسائي وأحمد في رواية: ليس به بأس. وقال ابن حبان في "الثقات": كان من خيار الناس، وربما أخطأ في الروايات. وقال أحمد في رواية أخرى: في أحاديثه زيادة، ما أدري أي شيءٍ هي، ونفضَ يده. [ص 10] أقول (3): فالحديث غير صالح للحجة، ومع ذلك فإن كان مراده بقوله: "وإن طلَّقها ثلاثًا" يعني مجموعةً، فيؤخذ من ذلك أن هذا منسوخٌ، ومن جملة ما نسخ، فقد دلت الأحاديث الصحيحة الثابتة على بطلان هذا الحديث، بدلالتها على أن ابن عباس لم يكن يعلم ناسخًا، بل صرَّح بأن الحكم بجعل الثلاث واحدةً استمرَّ في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبي بكر وثلاثًا من إمارة عمر. وفيما تقدم عن سنن أبي داود من فتوى ابن عباس ثم عكرمة بعده بكونها واحدةً، دليلٌ آخر على بطلان هذا الحديث، لأنه مروي من طريق عكرمة عن ابن عباس. _________ (1) "تهذيب التهذيب" (7/ 308). (2) انظر المصدر السابق (2/ 373، 374). (3) قبلها في الأصل ورقة من مكان آخر.

(17/615)


وإن كان مراده بقوله: "وإن طلَّقها ثلاثًا" أي متفرقةً، بأن يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، ثم يطلق، فله شاهدٌ، وهو ما رواه مالك في "الموطأ" (1) عن هشام بن عروة عن أبيه قال: "كان الرجل إذا طلَّق امرأته، ثم ارتجعَها قبل أن تنقضي عدتها، كان ذلك له، وإن طلَّقها ألفَ مرة، فعَمَدَ رجلٌ إلى امرأته فطلَّقها، حتى إذا شارفَتْ انقضاءَ عدتها راجعها، ثم طلَّقها، ثم قال: لا والله لا أُوْوِيكِ (2) إليَّ، ولا تَحِلِّين أبدًا، فأنزل الله تبارك وتعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فاستقبل الناس الطلاقَ جديدًا من يومئذٍ، من كان طلَّق منهم أو لم يطلِّق". وذكر أيضًا (3) عن ثور بن زيد الدِّيلي: "أن الرجلَ كان يطلق امرأته، ثم يراجعها، ولا حاجةَ له بها، ولا يريدُ إمساكها، كيما تطول بذلك عليها العدة لِيُضارَّها، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} يَعِظُهم الله بذلك". (الموطأ هامش المنتقى ج 5/ص 175). وذكره الشافعي عقبَ ما حكيناه عنه سابقًا، فقال (4): "فإن قيل: فهل من دليلٍ تقوم به الحجة في ترك أن تُحسَب الثلاث واحدةً في كتاب أو سنة، أو أمرٍ أبين مما ذكرت؟ قيل: نعم، أخبرنا مالك ... ". _________ (1) (2/ 588). (2) في "الموطأ": "لا آويك". (3) "الموطأ" (2/ 588). (4) "الأم" (10/ 258).

(17/616)


فذكره ثم قال: "وذكر بعض أهل التفسير هذا، فلعل ابن عباس أجاب على أن الثلاث والواحدة سواء". أقول: روى ابن جرير (1) مرسل عروة بنحوه عن ابن حميد عن جرير عن هشام به، وعن أبي كريب عن ابن إدريس عن هشام به، وزاد بعد قوله: "ولا تحلين لي": قالت له: كيف؟ قال: أطلقك حتى إذا دنا أجلك راجعتك، ثم أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك، قال: فشكت ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فأنزل الله ... " (تفسير ابن جرير 2/ 258). وأخرج (2) عن قتادة وابن زيد نحو هذا المعنى، وأشار إليه الشافعي بقوله: "وذكر بعض أهل التفسير هذا". وقد أغرب يعلى بن شَبِيب، فروى (3) حديث عروة عن هشام عن أبيه عن عائشة. (جامع الترمذي ج 1/ص 224، المستدرك ج 2/ص 280). ويعلى (4) مجهول الحال، وإن ذكره ابن حبان في "الثقات" (5)، فإن مذهب ابن حبان أن يذكر في "ثقاته" المجهول الذي روى عن ثقة، وروى عنه ثقة، ولم يكن حديثه منكرًا، كما نص على ذلك في "الثقات" (6)، _________ (1) "تفسيره" (4/ 125، 126). (2) المصدر نفسه (4/ 126). (3) أخرجه من طريقه الترمذي (1192) والحاكم (2/ 279، 280) كما ذكره المؤلف. (4) انظر "تهذيب التهذيب" (11/ 401، 402). (5) (7/ 652). (6) المصدر نفسه (1/ 13).

(17/617)


وأوضحه ابن حجر (1) وغيره. انظر "فتح المغيث" (2). وكذلك لا ينفعه إخراج الحاكم له في "المستدرك"؛ لما علم من تساهله. [ص 11] نعم، إن مرسل عروة اعتضد، ولكنه لا علاقة له بمسألتنا، والكلام الآن في مقامين: الأول: فيما ظنه بعضهم أن هذا المرسل وعواضده يدل على نسخ ما تضمنته أحاديث جعل الثلاث واحدة، والظاهر من كلامهم تجويز أن ابن عباس إنما عنى بقوله: "إنما كانت الثلاث تُجعل واحدةً على عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - " بيانَ ما ذكره عروة بقوله: "كان الرجل إذا طلَّق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له، وإن طلَّقها ألف مرة". فاعلم أن قوله: "كانت الثلاث تُجعل واحدة" يُشعِر بأن هذا في وقت كان للطلاق فيه حد معين، والحالة التي ذكرها عروة لم يكن فيها حسابٌ أصلًا، فلم يكن للحكم تعلق بأن يقال: طلَّق واحدة، طلَّق ثنتين، طلَّق ثلاثًا، وإنما كان المعتبر الطلاق من حيث هو طلاق، إن طلَّق وانقضت العدة بانت، وإن راجع في العدة رجعت، وكأنه لم يُطلق، ثم إن طلَّق وانقضت العدة بانت، وإن راجع فيها رجعت وكأنه لم يُطلق، وهكذا أبدًا، فكان الطلاق بمنزلة العتق، فلو فُرِض أن الرجل إذا أعتق عبده كان له أن يرجع عن العتق إلى شهر مثلًا، ثم إذا أعتق ثانيًا فهكذا، وإذا أعتق ثالثًا فهكذا، وهكذا أبدًا، _________ (1) "لسان الميزان" (1/ 209). (2) "فتح المغيث" (2/ 45).

(17/618)


ففي هذه الحال لا يكون باعث للسيد أن يقول لمملوكه: أعتقتك ثلاثًا، أو أربعًا، أو غير ذلك، ولا يكون وجهٌ لأن يقال: إذا قال: أعتقتك ثلاثًا جُعِلت واحدةً، أو حُسِبت بواحدة، فتدبر. وإنما يأتي هذا لو كان الحكم أن من أعتق عبده كان له أن يرجع إلى شهر مثلًا، ثم إذا أعتق ثانيًا فهكذا، فإذا أعتق ثالثًا لم يكن له الرجوع. ففي هذا يمكن أن يقول بعض الناس لمملوكه: أعتقتك ثلاثًا، إما على وجه التوكيد، كأنه يقول: أعتقتك وعزمتُ على نفسي أن لا أرجع، كما لا يرجع من أعتق ثم رجع ثم أعتق ثم رجع ثم أعتق، وإما لظنه (1) ــ خطأً أو صوابًا ــ أنه إذا قال ذلك، كان كأنه قد أعتقه ورجع، ثم أعتقه ورجع، ثم أعتقه. وههنا يصح أن يقال: إذا قال: أعتقتك ثلاثًا جُعِلت واحدة. وإذا فرضنا أن الحكم كان على هذا برهةً، ثم غُيِّر إلى أن من قال: أعتقتك ثلاثًا لم يكن له الرجوع، فحينئذٍ يليق أن يقول من يخبر عن الحكم السابق: "إنما كانت الإعتاقات الثلاث تجعل واحدة". هذا وأنت خبيرٌ أن الحالة الأولى في مرسل عروة نُسِختْ نسخًا قطعيًّا بصريح القرآن، وكان النسخ بعد قدوم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بمدةٍ لا أراها تتجاوز ثلاث سنين، وانتشر ذلك في الصحابة انتشارًا تامًّا، وقضى به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وعلمه الصحابة، واستقبل الناس الطلاقَ من يومئذٍ جديدًا، كما قال عروة، وقالت امرأة رفاعة (2): "إن زوجي طلقني فبتَّ طلاقي". _________ (1) في الأصل: "على لظنه". (2) أخرجه البخاري (5260)، ومسلم (1433) من حديث عائشة.

(17/619)


وفي حديث فاطمة بنت قيس في الصحيح (1): "فانطلق خالد بن الوليد في نفرٍ، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في بيت ميمونة، فقالوا: إن أبا حفص طلَّق امرأته ثلاثًا".وقالت في رواية أخرى (2): "وأتيت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: "كم طلَّقَك؟ " قلت: ثلاثًا". وفيه في رواية ثالثة (3): "وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة بنفقة، فقالا لها: والله ما لكِ نفقةٌ إلا أن تكوني حاملًا" أي لأجل تمام الثلاث. بل إن هذا الحكم انتشر حتى عرفه المشركون، كما قد يؤخذ من قول الأعشى، أنشده الشافعي وغيره (4): أيا جارتا بِيني فإنكِ طالقه ... وموموقةٌ ما كنتِ فينا ووامقَهْ أجارتَنا بِيني فإنك طالقه ... كذاك أمورُ الناس غادٍ وطارقَهْ وبِيني فإن البينَ خيرٌ من العصا ... وأن لا تزالي فوق رأسِكِ بارقه حبستُكِ حتى لامَني كل صاحب ... وخفتُ بأن تأتِي لديَّ ببائقه (الأم ج 3/ ص 233). [ص 12] فذِكْره الطلاق مرتين، ثم قوله في الثالثة: "وبِيني"، واقتصاره على ذلك ظاهر في أن الحكم قد كان بلغه في الجملة، [ووقع له ما وقع] _________ (1) "صحيح مسلم" (1480/ 38). (2) المصدر نفسه (1480/ 48). (3) المصدر نفسه (1480/ 41). (4) الأبيات في ديوان الأعشى (ص 313) و"الأم" (10/ 215) في "اختلاف الحديث".

(17/620)


لبعض الصحابة كرُكَانة، وعُويمر العجلاني، إذ قال بعد أن لاعن زوجته: "هي طالقٌ ثلاثًا" (1). وقد مر توجيه ذلك في مثال العتق، وسيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. والأعشى هلك قبل فتح مكة، كما ذكره ابن قتيبة (2) وغيره. فمع هذا كله أيجوز أن يقال: إن الطلاق كان على ذلك الحكم المنسوخ في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبي بكر وثلاثًا من إمارة عمر حتى تتايَعَ الناس في الطلاق، فأُجِيزَ عليهم؟ إن العاقل ليستحيي من حكاية هذا القول، فضلًا عن توهمه، فكيف بمن يُجوِّزه، ويُفسِّر به كلام ابن عباس؟ والشافعي رحمه الله تعالى لم يقل هذا، وإن أوهمه قوله بعد أن ذكر مرسل عروة: "فلعل ابن عباس أجاب على أن الثلاث والواحدة سواء". وإنما أورد مرسل عروة جوابًا لقوله: "فإن قيل: فهل من دليلٍ تقوم به الحجةُ في ترك أن تُحسَب الثلاث واحدةً؟ ". المقام الثاني: في النظر في مرسل عروة، هل فيه دلالة على ترك أن تحسب الثلاث واحدة؟ حاصل مرسلِ عروة وما يوافقه: 1 - أن ارتجاع المطلق لزوجته لم يكن له شرط إلا وقوعه في العدة، _________ (1) أخرجه البخاري (5308، 5309) ومسلم (1492) من حديث سهل بن سعد. (2) "الشعر والشعراء" (1/ 257).

(17/621)


فلم يكن هناك حدٌّ لسلسلة الطلاق والرجعة. يطلق الرجل ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، وهكذا أبدًا. 2 - فاتخذ بعض الناس ذلك طريقًا للإضرار بالنساء. 3 - فأنزل الله تعال الآية، وشرع الحكم المستقر. 4 - فاستقبل الناس الطلاقَ من يومئذٍ جديدًا. فالنسخ إنما كان لحسم مادة الإضرار بالنساء، وقد أبقى الشرع للزوج حقَّ الرجعة اتفاقًا إذا طلَّق واحدةً، ثم راجع قبل انقضاء العدة، ثمَّ طلَّق ثانيةً، ثم راجع قبل انقضاء العدة. مع أن الزوج قد يتمكن بهذا من إضراره بالمرأة، ولكنه يسير، ولو لم يبقَ له ذلك لأضرَّ ذلك بالنساء وبالأطفال وبالأزواج ضررًا شديدًا. ولا يخفى أنه لا فرقَ في احتمال قصد الزوج مضارَّة المرأة بين أن يطلق واحدةً ثم يراجع، ثم يطلق أخرى ثم يراجع، وبين أن يقول: طلقتك عدد ذرات العالم ثم يراجع، ثم يقول مثل ذلك ثم يراجع. فالقول بأنه إذا قال: "طلقتك واحدة" كانت له الرجعة، وإذا قال: "طلقتك ثلاثًا" لم يكن له رجعة، لا يناسب سبب الآية، وما تضمنته من الحكم، فإن سببها هو إضرار الرجال بالنساء، ولا فرق من جهة الإضرار بين أن يطلق واحدة ثم يراجع، أو عدد ذرات العالم ثم يراجع. والحكم بأنه إذا قال: "طلقتك" كانت له الرجعة، ثم إذا قال: "طلقتك" كان له الرجعة أيضًا، إنما أُبقِي ــ مع احتمال قصد الرجل الإضرار بالمرأة ــ

(17/622)


دفعًا لضررٍ أشدَّ يلحق بالمرأة وأطفالها، وبالزوج أيضًا، فقد تكون المرأة وسطًا، ولها أطفال صغار، وليس لها من يقوم بها، ويكون الزوج غير غني، فيحتدُّ فيطلق، ثم يندم لما يلحقه من الضرر، مع ما يلحق الزوجةَ وأطفالَها، فأبقى الله عز وجل له فُسحةً لدفع هذا الضرر. ولا فرق في حصول هذا الضرر الشديد بالمرأة والأطفال والزوج بين أن يقول: "طلقتك واحدة"، وبين أن يقول: "طلقتك عدد ذرات العالم". ومن كان له معرفة بأحوال الناس في هذا العصر، وجدَ أن إضرار الرجال بالنساء بأن يطلق أحدهم ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع = نادرٌ جدًّا، بل لعله معدومٌ، والضرر الشديد الذي يلحق النساءَ والأطفالَ والأزواجَ بمنع الرجعة إذا غضب الرجل فطلقها ثلاثًا= كثيرٌ جدًّا، ولاسيَّما في الأقطار التي تقلُّ الرغبة فيها في زواج الثيبات كالهند. على أن الضرر الأول ــ مع خفته ــ يمكن علاجه بالصبر مدةً يسيرةً، والضرر الثاني ــ مع شدته، وتناوله للمرأة والأطفال والزوج ــ لا علاج له. [ص 12 مكرر] والتحليل باطلٌ عند جماعة من العلماء، وجائزٌ مع الكراهة الشديدة عند آخرين، وعلى كل حال فهو خبيثٌ شرعًا وطبعًا، ويجرُّ إلى مفاسد شديدة، وأهل التقوى أو الغيرة يُؤثِرون الضررَ الشديد على التحليل. وبالجملة فالضرر الشديد الناجم عن تنفيذ الثلاث محسوسٌ مشاهدٌ بكثرة فاحشة في جميع الأقطار، بل إن الضرر الذي يُخاف من عدم تحديد الطلاق أصلًا، كان يمكن دفعه بأمر الحكام بالتضييق على الأزواج إذا تبين منهم قصد المضارَّة.

(17/623)


فالقول بأن الآية نزلت لتدفع عن النساء هذا الضرر، ومع ذلك أوقعت عليهن وعلى أطفالهن وأزواجهن ضررًا أشد من ذلك، لا علاج له= فيه ما فيه. وإذا تأملتَ ذلك علمتَ أنه لو قال قائلٌ: "إن مرسل عروة أقرب إلى موافقة حديث ابن عباس وما معه، منه إلى مخالفته" لما أبعد. قال الشافعي (1) رحمه الله: "فلعل ابن عباس أجاب على أن الثلاث والواحدة سواء". أقول: هذا كلام موجَّه، يحتمل أنه أراد: لعل ابن عباس أجاب على أن الثلاث المجموعة والواحدة سواء في معنى الإضرار بالزوجة، فلا وجه للتفريق بينها في الحكم، فقد أبقى الله تعالى بعد النسخ للرجل أن يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، ثم إذا طلَّق فلا رجعة، فسواءً أثَلاثًا طلَّق في المرة الأولى أم واحدةً، وهكذا الثانية، فإن المقصود من النسخ لا يفرق بين ذلك، فعلى هذا تكون له الرجعة. ويحتمل أن يكون أراد: لعل ابن عباس أجاب على مقتضى ما كان قبل النسخ أن الثلاث والواحدة سواء، إذ لم يكن حدٌّ للطلاق، فإن كان أراد هذا الثاني فقد تقدم جوابه. ثم قال (2): "و [إذا] جعل الله عدد الطلاق على الزوج، وأن يطلق متى شاء، فسواء الثلاث والواحدة وأكثر من الثلاث في أن يقضى بطلاقه". _________ (1) "الأم" (10/ 258). (2) المصدر نفسه.

(17/624)


أقول: وهذا الكلام كأنه موجّه، فقد يحتمل أن يكون من تتمة تفسير قول ابن عباس على الاحتمال الأول، فيكون شرحه هكذا: (وجعل الله عدد الطلاق على الزوج) فجعل له أن يطلق ويراجع، ثم يطلق ويراجع، ثم إذا طلَّق لم يكن له أن يراجع؛ سدًّا لذريعة الإضرار بالزوجة (و) جعل للزوج (أن يطلق متى شاء) فإذا طلَّق وتركها حتى انقضت العدة بانت منه، وحلَّت لغيره، سواء أواحدةً طلَّق أم ثلاثًا أم أكثر. وغرض العاقل من الطلاق إنما هو هذا، ولا غرض له في أن يطلقها طلاقًا لا رجعة فيه، بل إنما يحرص العاقل على أن يطلق طلاقًا تمكنه معه الرجعة، أو النكاح بعقدٍ جديدٍ قبل أن ينكحها غيره، لأنه قد يندم، وقد تتضرر الزوجة أو أطفالها بالطلاق، فيكون عليه أن يدفع عنهم الضرر، وهذا هو الغرض المحمود شرعًا وعقلًا، فلم يكن هناك باعثٌ لشرع طلاق يقع مرةً واحدةً، ومع ذلك لا رجعة فيه. على أنه إن فُرِض غرضٌ فيمكنه تحصيلُه بأن يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، ثم يطلق. فقد جعل الله له أن يطلق متى شاء، ولم يقل له: إذا طلقت ثم راجعت، لم يجز لك طلاق بعد ذلك. وعلى هذا (فسواءٌ الثلاثُ والواحدةُ وأكثرُ من الثلاث في أن يقضى بطلاقه) من حيث هو طلاق يحصل به مقصود العاقل في تخلِّيه عنها، وإحلالها لغيره إذا انقضت عدتها، فإن كانت هذه أول مرة أو الثانية كان له أن يراجعها في العدة، أو يتزوجها بعدها قبل أن تنكح غيرَه، وإن كانت الثالثة لم تحلَّ له حتى تنكح زوجًا غيره.

(17/625)


[ص 13] ويحتمل أن يكون احتجاجًا من الشافعي على وقوع الثلاث المجموعة ثلاثًا تحرمها عليه حتى تنكح زوجًا غيره، وشرحه على هذا هكذا: (وجعل الله عدد الطلاق على الزوج) أي إليه (وأن يطلق متى شاء) فله ثلاث طلقات، يوقع منها ما شاء متى شاء، فإن أوقعها دفعة وقعت (فسواء الثلاث والواحدة وأكثر من الثلاث في أن يقضى بطلاقه) الذي أوقعه، فإن طلَّق ثلاثًا أو أكثر قضي بثلاث، وإن طلَّق واحدة أو اثنتين قضي بذلك. فإذا كان مراد الشافعي هو هذا الثاني، فجوابه: أن الثلاث التي جعلها الله تعالى على الزوج ليست ثلاث طلقات، وإنما هي مرتان، في كل مرة طلاق تعقبه رجعة، والثالثة طلاق تحرم به حتى تنكح زوجًا غيره، كما قدمناه في تفسير الآيات. ومن ادعى أنها ثلاث طلقات يجوز أن تقع معًا، أو تقع اثنتان منها معًا، فعليه البيان. فإن قال: إن الله لما جعل للزوج أن يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، ثم يطلق، كان معقولًا أنه قد جعل الأمر إليه، فإذا كان الأمر إليه وطلق ثلاثًا معًا، فلماذا لا يقع؟ فالجواب: أولًا: أن هذا قياس يعارض النص، فهو فاسد الاعتبار. وثانيًا: أن الله تعالى لم يجعل له إذا طلَّق المرة الأولى أو الثانية أن يراجع إلا إذا قصد بالرجعة الإمساك بمعروف. وثالثًا: أن الطلاق قد يضر بالزوج، وبالمرأة، وبأطفالهما، وبأهليهما،

(17/626)


فحدَّ الله تعالى له حدودًا تمنع أو تقلِّل هذا الضرر، فلم يجعل له أن يطلق وهي حائض، ولا في طهر قد قاربها فيه، والسر في ذلك ــ والله أعلم ــ أن الرجل إذا بعد عهده بالمرأة قوي ميله إليها، فإذا طلَّقها مع ذلك كان الظاهر أن رغبته عنها قد استحكمت، وهذا هو المقتضي للرخصة في الطلاق. وإذا كانت المرأة حائضًا كان محتملًا أن يكون قاربها في الطهر الذي قبل تلك الحيضة، فعهده بها قريب، وقرب العهد يُضعِف الميل، بل ربما أوجب النفرة. وينضم إلى ذلك أن نفس الرجل تنفر من الحائض، إما للأذى، وإما لليأس من مقاربتها، وهذه نفرةٌ عارضةٌ، لا يصح أن يكتفى بها لاستحقاق رخصة الطلاق. وهكذا إذا كانت طاهرًا وقد قاربها في ذلك الطهر، فعهده بها قريبٌ، وقرب العهد يُضعِف الميل، أو يوجب النفرة كما مر. فإذا أراد أن يطلقها وهي طاهرٌ في طهرٍ لم يقاربها فيه، فالظاهر أن رغبته عنها قد استحكمت، ولكن ربما تضعف هذه الرغبة أو تزول إذا ازداد العهد بعدًا. مع أن موجب النفرة قد يكون سببًا عارضًا، من ذنب وقع منها، أو إساءة، وإذا طال العهد غفر الذنب، ونسيت الإساءة، فرخص له أن يطلقها، على أن له أن يراجعها ما دامت في عدتها. فإذا طلَّق كان عليه أن لا يقطع عنها النفقة والسكنى، ومن الحكمة في ذلك ــ والله أعلم ــ أن يبقى باب الصلح مفتوحًا ميسرًا، والغالب أن يكون

(17/627)


بيتها الذي أمر أن يُسكِنها فيه هو بيته أو قريب منه، وذلك أدعى إلى الصلح، فقد تهيج به الذكرى وهو على فراشه في أثناء العدة، فلا يكون بينه وبينها إلا كشف الستر أو طَرْق الباب، ولعله لو صبر إلى الصبح لفترت رغبته، فلا يراجع، ولعله يبدو له خطؤه في إيقاع الطلاق، ومضرته عليه، ويلومه هذا، وتعذله هذه، ومع ذلك فقد جرَّب الفرقة وجرَّبتها، وذاق كل منهما مرارتها، فإذا وقعت الرجعة، فقد ذاقت هي من الفرقة ما يجعلها تخاف من وقوعها مرةً أخرى، فيدعوها هذا الخوف إلى حسن الطاعة والحرص على رضاه، وتحري ما يوافق هواه، وذاق هو ما يحمله على التأني والتريث في المستقبل، فلا يستعجل بإيقاع الطلاق، مع علم كل منهما بأنهما قد صارا على ثلث الطريق من الفرقة الباتة. [ص 14] فإن لم تعطفه العواطف حتى انقضت العدة، فالظاهر أن النفرة قد استحكمت، ومع ذلك بقي له أن يراجعها، ولكن برضاها، ومهر آخر، وعقد جديد. فإذا راجع من المرة الأولى، ثم طلَّق مرة أخرى بالشروط السابقة، وشرعت في العدة على الصفة الأولى، كان ذلك أدعى إذا وقعت رجعة أن لا تعصيه بعدُ ولا يطلقها، لعلمهما أنهما على ثلثي الطريق، وأنه إن طلَّقها المرة الثالثة حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره، فتخاف هي أن لا يرغب فيها أحدٌ، وإن رغب فيها فلعله يسيء عشرتها، ويظلمها ويمسكها على البؤس والشقاء، ويخاف هو إن طلَّقها أن تتبعها نفسه كما تبعتْها المرتين الأوليين، فلا يجد إلى ذلك سبيلًا، إذ لعلها لا تتزوج بعده، وإن تزوجت فلعل الزوج الجديد يكون أسعد بها، وأحرص عليها، وإن فارقها هذا الزوج

(17/628)


الجديد فلا ترجع إلى الأول إلا بعقد جديد، ومهر جديد، ثم ترجع إليه بعد أن ذاقت عسيلة غيره، وعرفت ما عرفت، إلى غير ذلك. فإذا علمتَ ما تقدم، فاعلم أن الله تعالى أرحم بعباده من أنفسهم، وأنه لا يُحِلُّ لهم أن يضروا بأنفسهم فضلًا عن غيرهم، فكيف يجعل لأحدهم أن يطلق زوجته ابتداءً طلاقًا يحرمها عليه البتة حتى تنكح زوجًا غيره؟! مع العلم بأن نظر الإنسان قاصرٌ، فقد يظن أنه لم يبق له إليها حاجة، وأنها قد استحكمت نفرته منها، وأن لا ضرر عليه في بينونتها منه، ويكون مخطئًا يتبين له خطؤه بعد ساعة، كما هو مشاهدٌ بكثرة فاحشة في هذه الأزمان. فإن قلت: عليك فيما أطلتَ به مناقشاتٌ: الأولى: أنك جعلت العلة في النهي عن الطلاق في حيضٍ أو طهر قاربها فيه = هي أن تلك مظنة لضعف ميله عنها، فلعله يطلق عن غير نفرة مستحكمة. والشافعي لا يقول بهذا، بل يقول: إن في طلاقها حائضًا إضرارًا بها لطول العدة، وفي طلاقها في طهر قاربها فيه استعجالًا، إذ لعلها تكون قد علقت منه، فيندم على الطلاق. الثانية: أنه إذا سُلِّم لك ما قلت، قيل لك: فإن الطلاق في حيضٍ أو طهرٍ قاربها فيه يقع مع ما فيه من خوف أن لا تكون النفرة قد استحكمت، فكذلك نقول نحن: إن طلاق الثلاث دفعةً يقع وإن خيف فيه ذلك. الثالثة: أن الغضب مظنة عروض النفرة، ولعلها تزول بعد ذلك بسرعة، ومع ذلك يقع فيه الطلاق، فهكذا القول في جمع الثلاث.

(17/629)


الرابعة: أنك جعلت العلة في وجوب النفقة والسكنى للمعتدة هي تيسير سبيل الصلح بالمراجعة، وهذا لا يأتى في المرة الثالثة. فالجواب عن الأولى: أن الصواب ــ إن شاء الله ــ ما قلته، فإن تحريم الطلاق في الحيض يتناول اللحظة الأخيرة منه، وأي ضرر عليها بلحظة تزيد في عدتها؟ وقد التزم الشافعي رحمه الله أنها لو رضيت بالطلاق وهي حائض لم يحرم لرضاها بالضرر، وهذا مخالف لعموم قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} فعمَّ من لم ترضَ ومن رضيتْ. ومخالف لعموم السنة، فإن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما أخبر بأن ابن عمر طلَّق امرأته وهي حائض، أنكر ذلك ولم يستفصل: أرضيتْ أم لم ترضَ. وقد قال الشافعي رحمه الله تعالى ووافقه الناس: "إن ترك الاستفصال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال". ومخالف لما فهمه الصحابة رضي الله عنهم، فإن عبد الرحمن بن عوف سألته امرأته الطلاق فقال لها: "إذا طهُرتِ فآذنيني". [ص 15] والعلة التي تعود على النص بالتخصيص قد أبطلها قوم، ومَن قَبِلها فإنما يقبلها إذا لم توجد علة أخرى سالمة من ذلك. والشافعي رحمه الله تعالى جعل العلة في الحيض شيئًا، وفي الطهر الذي قاربها فيه شيئًا آخر، والعلة التي ذكرتها أنا واحدة لهما معًا، فهي أولى. على أن العلة التي جعلها لتحريم الطلاق في طهر جامعها فيه، تكاد تكون هي العلة التي ذكرتها أنا، بل هي هي، فإن الشافعي رحمه الله تعالى لم

(17/630)


ينظر إلى لحوق الضرر بالحمل خاصة، بل ولا نظر إليه الشارع، فإنه يحل طلاق الحامل وقد تبين حملها، فبالأولى من احتمل أنها قد علقت. فالظاهر أن الشافعي إنما نظر إلى استحكام النفرة وعدمه، فرأى أنه إذا طلَّقها في طهر قد قاربها فيه، فربما لم تكن النفرة قد استحكمت، فلعله لو صبر حتى يجيء إبان حيضها ولم تحض ظن أن تكون حاملًا، فهنالك إن أراد أن يطلق كان له ذلك، لأن الظاهر استحكام النفرة، فإذا ثبت أن العلة في أحد الشِّقين هي كونه مظنة نفرة غير مستحكمة، فلتكن هي العلة في الشِّقين معًا. والجواب عن الثانية: أن الطلاق في حيض أو طهر قاربها فيه غير مجمع على وقوعه، فإذا قلنا بالوقوع فلا يقاس عليه الطلاق المجموع. أولًا: لأنه قياس يعارض النص، فهو ساقط الاعتبار. ثانيًا: لأن الخطر في إيقاع الطلاق المجموع أشد منه في إيقاع الطلاق في حيضٍ أو طهرٍ قاربها فيه؛ لأن هذا إن كان المرة الأولى أو الثانية فقد بقي له حق الرجعة، وإن كان في المرة الثالثة فقد أشعر وقوع الطلاق مرتين قبلها ثم وقوعها باستحكام النفرة. على أن ما احتج به من أجاز الطلاق في الحيض مورده الطلقة الأولى، والله أعلم. وأما الثالثة: فطلاق الغضبان غير مجمع على إجازته، وإذا قلنا بإجازته، فقد علم الجواب مما مر. وأما الرابعة: فوجوب النفقة والسكنى للمبتوتة مختلفٌ فيه، والحجة مع من ينفيه.

(17/631)


قال الشافعي (1) رحمه الله تعالى: "وحكم الله تعالى في الطلاق أنه {مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} يعني ــ والله أعلم ــ الثلاث، {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} فدل حكمه أن المرأة تحرم بعد الطلاق ثلاثًا حتى تنكح زوجًا غيره". أقول: أما الآية فمخالفك أسعد بها، كما تقدم. وقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} المراد به المرة الثالثة، أي بعد مرتين قد عقبتْ كلًّا منها الرجعة، هذا ظاهر القرآن، ومقتضى سياقه، وقد تقدم تحقيق ذلك، فانهدم ما بنيتَه. قال (2) رحمه الله: "وجَعْلُ حكمِه بأن الطلاق إلى الأزواج يدل على أنه إذا حدث تحريم المرأة بطلاق ثلاث، وجعل الطلاق إلى زوجها، فطلقها ثلاثًا مجموعةً أو مفرقة، حرمت عليه بعدهن حتى تنكح زوجًا غيره، كما كانوا مملكين عتق رقيقهم، فإن أعتق واحدًا أو مائةً في كلمة لزمه ذلك، كما يلزمه كلها، جمع الكلام فيه أو فرَّقه، مثل قوله لنسوةٍ له: أنتن طوالق، ووالله لا أقربكن، وأنتن علي كظهر أمي. وقوله: لفلان عليّ كذا، ولفلان عليّ كذا، فلا يسقط عنه بجمع الكلام معنى من المعاني جميعه كلام، فيلزمه بجمع الكلام ما يلزمه بتفريقه". أقول: يظهر من هذا الكلام أنه رحمه الله ظن أن الثلاث التي ذكر ابن _________ (1) "الأم" (10/ 258). (2) بعد الكلام السابق مباشرة.

(17/632)


عباس أنها كانت تُجعل واحدةً إنما هي الثلاث الواقعة في كلامٍ واحدٍ، حتى لو طلَّق، ثم بعد ساعة طلَّق، ثم بعد أخرى طلَّق، لم يكن هذا من ذاك، بل تكون ثلاثًا حتمًا. وهذا وهمٌ، وإنما المراد الثلاث التي توقع بدون تخلل رجعة، وقائل هذا يقول: إنما جعل الله إلى الزوج الطلاق مرةً واحدةً، فإذا طلَّق وراجع كان له الطلاق مرة ثانية، وإذا طلَّق وراجع كان له الطلاق المرة الثالثة، كما دل عليه القرآن، وتقدم بيانه. [ص 16] وعليه، فليس هذا بنظير للفروع التي ذكرها، فعتقُه مائة رقيقٍ بكلمة واحدة أو بكلمات متصلة لا شبهة في صحته؛ لأنَّ له في تلك الحال عتقهم جميعهم، ولا كذلك الطلاق، وإنما نظيره أن يطلق زوجته ونساءً غيرها، ثم قال بعد ذلك: إني طلقت هؤلاء النساء مع امرأتي، فلا يحللن لي، فكما يقال هنا: إنك لم تكن تملك طلاقهن، وإنما كان يمكن أن تملكه بزواجهن، وهذا مفروض لا واقعٌ، فلم يقع فيه شيءٌ، فكذلك يقال هنا: إنك لا تملك من طلاق زوجتك إلا مرةً واحدةً، وإنما كان يمكن أن تملك الثانية بمراجعتك من الأولى، وكان يمكن أن تملك الثالثة بمراجعتك من الثانية، وهذا مفروض لا واقعٌ، فلا يقع به شيءٌ. وهكذا لو كان قد طلَّق زوجته وراجعها مرتين، ثم [قال]: هي طالق اثنتين، فقيل له في ذلك، فقال: أردت أن لا أتمكن من نكاحها بعقد جديد، فهكذا من يطلق ثلاثًا، إذا قيل له: إن واحدة تكفي. قال: أردت أن لا أتمكن من مراجعتها. فإن قيل: وكيف تقيس الرجعة على النكاح؟ قلت: لأن كلا منهما عقد تحلُّ به المرأة لمن كانت حرامًا عليه، وقد

(17/633)


قاس الفقهاء من الشافعية وغيرهم الرجعة على النكاح في مواضع، وإن اضطربت فروعهم فيها: هل هي كابتداء النكاح أو كدوامه؟ والصواب أنها كابتداء النكاح وإن خالفته في بعض الأحكام، والاحتجاج لهذا يطول. والأقرب شبهًا بالطلاق المجموع: الهبة التي يجوز الرجوع فيها، كالهبة للفرع عند الشافعية، وللأجنبي عند الحنفية، والبيع مع خيار المجلس، إذا قال قائل: لله عليَّ إذا وهبتُ لابني هذا الثوب الذي عليه، ثم رجعت ثم وهبت، ثم رجعت ثم وهبت، أن لا أرجع في المرة الثالثة. ولله عليَّ إذا بعتُ منك هذه الدار، ثم فسخت في المجلس ثم بعت، ثم فسخت ثم بعت، أن لا أفسخ في المرة الثالثة. ثم قال بعد ذلك لولده: وهبتُك هذا الثوب الذي عليك ثلاثًا، وقال للآخر: بعتك هذه الدار ثلاثًا، فهل ينزل قوله: "ثلاثًا" منزلة قوله: وهبتُ رجعتُ، وهبتُ رجعتُ، وهبتُ، وبعتُ فسختُ، بعتُ فسختُ، بعتُ؟ هذا في غاية البعد. وقد اختلف أصحاب الشافعي في بيع الواهب السلعة الموهوبة، هل يكون رجوعًا عن الهبة؟ فإن قيل: نعم. فهل يصح البيع مع ذلك؟ والراجح عندهم أنه ليس برجوع. واختلفوا في البائع في مدة الخيار إذا وهب المبيع، هل يكون ذلك فسخًا؟ وإذا كان فسخًا فهل تصح الهبة؟

(17/634)


والراجح عندهم هنا أنه فسخٌ. وهذا أقرب جدًّا من قوله: وهبت ثلاثًا، أو بعت ثلاثًا. وفوق ذلك، فالأمر في الفروج أضيق منه في الأموال، والرجعة لا تكون إلا بنية، والقائل: طلقتك ثلاثًا لا التفات له إلى الرجعة. ثم غاية ما يدعى: أن يكون قوله: "طلقتك ثلاثًا" بمنزلة قوله: "طلقتك راجعتك، طلقتك راجعتك، طلقتك". وهذا من التلاعب بالأحكام، واتخاذ آيات الله هزوًا، وليس هذه الرجعة التي شرع الله تعالى بقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا}. ويُغنِي عن هذا كله ورودُ النص بأن الثلاث واحدة. والله أعلم. [ص 17] قال الشافعي (1): "فإن قال قائل: فهل من سنة تدل على هذا؟ قيل: نعم جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقالت: إني كنت عند رفاعة فطلقني فبتَّ طلاقي، فتزوجتُ عبد الرحمن بن الزَّبِير، وإنما معه مثل هُدبةِ الثوب، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته". قال الشافعي: فإن قيل: فقد يحتمل أن يكون رفاعة بتَّ طلاقها في مرات؟ _________ (1) "الأم" (10/ 259، 260).

(17/635)


قلت: ظاهره في مرة واحدة ... وفاطمة بنت قيس تحكي للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن زوجها بتَّ طلاقها، تعني ــ والله أعلم ــ أنه طلَّقها ثلاثًا، وقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "ليس لك عليه نفقة" لأنه ــ والله أعلم ــ لا رجعة له عليها". أقول: حديث امرأة رفاعة في صحيح البخاري (1)، وحديث فاطمة بنت قيس في صحيح مسلم (2)، وأشار إليه البخاري (3). والجواب عن الحديثين: أن كليهما قد جاء مفسرًا في رواية أخرى بما يزيل الشبهة. ففي صحيح البخاري في حديث امرأة رفاعة: " ... فقالت: يا رسول الله! إنها كانت عند رفاعة، فطلقها آخر ثلاث تطليقات". (صحيح البخاري ج 8/ ص 23، ومثله في صحيح مسلم ج 4 / ص 154) (4). وفي حديث فاطمة بنت قيس في رواية عند مسلم (5): " ... أن فاطمة بنت قيس أخبرته أنها كانت تحت أبي عمرو بن حفص بن المغيرة، فطلقها آخر ثلاث تطليقات". وفي رواية أخرى (6): "أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب إلى اليمن، فأرسل إلى امرأته فاطمة _________ (1) رقم (5260). (2) رقم (1480). (3) انظر "الصحيح" مع "الفتح" (9/ 477) وكلام الحافظ عليه. (4) البخاري (6084) ومسلم (1433/ 113). (5) مسلم (1480/ 40). (6) مسلم (1480/ 41).

(17/636)


بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها". (صحيح مسلم ج 4/ ص 196 ــ 197). قال (1) رحمه الله تعالى: "فإن قيل: أطلَّق أحدٌ ثلاثًا على عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ قيل: نعم، عويمر العجلاني، طلَّق امرأته ثلاثًا، قبل أن يخبرهُ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنها تحرم عليه باللعان، فلم أعلم النبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - نهاه .. ولم أعلمه عاب طلاق ثلاثٍ معًا". أقول: حديث لعان عويمر قد رواه نفرٌ من الصحابة، ولم يذكر الطلاق إلا في رواية سهل بن سعد، رواها الزهري عنه. ثم اختلف على الزهري: فروي عنه كما ذكره الشافعي، رواه مالك وابن جريج وغيرهما (2). وروي عنه بلفظ "فطلقها" فقط، رواه الأوزاعي كما في "صحيح البخاري" في تفسير سورة النور (3)، وعبد العزيز بن أبي سلمة عند أحمد (مسند ج 5/ ص 337) (4). وروي عنه بلفظ "ففارقها" فقط، رواه جماعة منهم: فليح عند البخاري في تفسير سورة النور (5)، وعبد العزيز بن أبي سلمة وإبراهيم بن سعد عند _________ (1) أي الشافعي في "الأم" (10/ 260). (2) رواية مالك عند البخاري (5308) ورواية ابن جريج عنده (5309). (3) البخاري (4745). (4) "مسند أحمد" (22856). (5) البخاري (4746).

(17/637)


النسائي (1)، وعقيل عند أحمد (مسند ج 5/ ص 337) (2)، وابن أبي ذئب عند البخاري في الاعتصام (صحيح البخاري ج 9/ ص 98) (3). وروي عنه بلفظ: "قال: يا رسول الله! ظلمتُها إن أمسكتها، فهي الطلاق، فهي الطلاق، فهي الطلاق". رواه ابن إسحاق، هكذا ذكره الحافظ في "الفتح" (4) نقلًا عن "مسند أحمد"، والذي في نسخة المسند المطبوعة بلفظ: "وهي الطلاق، وهي الطلاق، وهي الطلاق" (المسند ج 5/ ص 334) (5). ثم قال الحافظ: "وقد تفرد بهذه الزيادة، ولم يتابع عليها، وكأنه رواه بالمعنى؛ لاعتقاده منع جمع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة" (فتح الباري ج 9/ ص 365) (6). أقول: لم يذكر الزهري صفة الطلاق إلا في هذه الرواية، وابن إسحاق أعلم بالله من أن يسمع من ابن شهاب قوله: "فطلقها ثلاثًا" فيرى هذا المعنى مخالفًا لرأيه، فيعمد إلى إبداله بما يوافق مذهبه على أنه من لفظ الملاعن، وهذا تبديلٌ وتحريفٌ، لا رواية بالمعنى. وليس اتهامه بذلك بأقوى من احتمال أن يكون الزهري كان ربما زاد لفظ "ثلاثًا" لما فهمه من أن الطلاق كان باتًّا، بسبب _________ (1) النسائي (6/ 171). (2) "المسند" (22853). (3) البخاري (7304). (4) "فتح الباري" (9/ 451). (5) "المسند" (22831) بحذف واوات العطف. (6) "فتح الباري" (9/ 451).

(17/638)


أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فرق بينهما الفرقة الباتة، وظن أن سبب التفرقة تلك هو الطلاق، وإن صارت السنة بعد ذلك الفرقة المؤبدة، ولو بلا لفظ طلاق. وفي الصحيحين (1) بعد ذكر الطلاق، قال ابن شهاب ــ وهو الزهري ــ: "فكانت سنة المتلاعنين"، وفي رواية (2): "وكان ذلك تفريقًا بين كل متلاعنين". على أن قوله: "فطلقها ثلاثًا" محتملٌ احتمالًا قريبًا أن يكون معناه: كرَّر الطلاقَ ثلاثًا، فيكون طلَّق تطليقة، ولكن أكّد تأكيدًا لفظيًا. ويؤيد هذا اقتصار ابن شهاب تارةً على "طلَّقها"، وتارةً على "فارقها". وعلى هذا، فرواية ابن إسحاق إنما كانت تفيد طلقة واحدة، إلا أنه أكّد اللفظ، فأعاده ثلاثًا، كما فهمه ابن حجر، فهي مفسِّرة للروايات الأخرى، لا مخالفة. [ص 18] وفوق هذا كله، فلو ثبت أن عويمرًا قال: " طلقتها ثلاثًا" أو نحو هذا اللفظ، وأقره عليه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فإن ذلك لا يدل على إمكان وقوع الثلاث معًا، لاحتمال أن يكون لم يقصد إيقاع الثلاث، وإنما قصد إظهار أنه لا يريد أن يراجعها، فكأنه يقول: لو استطعتُ أن أوقع الثلاث معًا لأوقعتُها، كما يُعقَل أن يقول رجلٌ لزوجته: إن شئتِ فطلِّقي نفسك طلقة واحدة، فتقول: طلقتُ نفسي ثلاثًا، وهي تعلم أنه ليس لها إلا واحدة، وإنما قالت ذلك _________ (1) البخاري (5308) ومسلم (1492). (2) البخاري (5309) ومسلم (1492/ 3).

(17/639)


إظهارًا لشدة رغبتها في أن تبين منه. وإذ قد ثبت أن الطلاق في عهده - صلى الله عليه وآله وسلم - على ما قدمنا من أنه طلاق تحل بعده الرجعة، فإن رجع فله طلاق آخر تحل بعده الرجعة، فإن راجع فله طلاق ثالث لا رجعة بعده، فالظاهر أن عويمرًا كان يعلم ذلك، وعلمه بذلك قرينة على أنه إنما أراد ما ذكرناه، وحاله كحال المرأة التي ملَّكها زوجها طلقةً واحدةً، وهي عارفة بالحكم كما قدمنا. فإن قيل: فإن كان الظاهر أن من قال في عهده - صلى الله عليه وآله وسلم -: "هي طالق ثلاثًا" أو نحو ذلك، إنما يظهر منه أنه قصد إظهار العزم على عدم المراجعة، فلماذا نهى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن جمع الثلاث؟ قلت: إن صح النهي فسببه مخالفة هذا العزم لمقصود الشارع من الترغيب في المراجعة، وأنه إنما جعل له الرجعة بعد الطلاق الأول والطلاق الثاني، لعله يبدو له فيندم، فالذي يظهر العزم على عدم المراجعة ويؤكده، كأنه يؤكد عزمه على أن لا يفعل الخير، ولا يقبل من الله تعالى رخصته إذا احتاج إليها، وهذا مذمومٌ. ويقرب منه قول الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 223]. قال أهل التفسير: معناها: لا تحلفوا بالله على أن لا تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس، ومراجعة الزوجة داخلة في الإصلاح، وقد تكون برًّا وتقوى.

(17/640)


وقال تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ} الآية [النور: 22]. وكما نهاهم عن اليمين مع أنه شرع لهم أن يتخلصوا منها بالكفارة، وإتيان ما هو خير، فكذلك يجوز أن يكون نهاهم عن تأكيد العزم على عدم المراجعة مع تمكنهم من أن يراجعوا بعد ذلك العزم المؤكد. * * * *

(17/641)


[ص 1] الباب الأول (1) في الطلاق المأذون فيه اختلف أهل العلم في الطلاق المأذون فيه على مذاهب، بعد اتفاقهم على تحريم إيقاع الطلاق في حيض أو في طهر قاربها فيه. المذهب الأول: أن الطلاق إلى الزوج، فإن شاء طلَّق واحدة، وإن شاء جمع اثنتين، وإن شاء جمع ثلاثًا، وإن شاء طلَّق واحدة، ثم أتبعها واحدةً أو اثنتين في العدة، أو طلَّق اثنتين ثم أتبعها واحدة في العدة، كل ذلك جائزٌ له، وهذا قول الشافعي. المذهب الثاني: أن الذي يحل له أن يوقع طلقةً واحدةً، ثم ينتظر الطهر الثاني، فيطلق أخرى إن أحب، ثم ينتظر الثالث فيطلق الثالثة إن شاء، وهذا قول أبي حنيفة وأهل الكوفة. المذهب الثالث: أن الذي يحل له أن يطلق واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، وهذا قول مالك والليث والأوزاعي وأحمد وغيرهم. الاحتجاج للمذهب الأول: قال الإمام الشافعي (2) رحمه الله تعالى: "قال الله عز وجل: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} الآية، وقال: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ _________ (1) قبله في الأصل: "بسم الله الرحمن الرحيم. الحكم المشروع في الطلاق المجموع". ويبدأ من هنا ترقيم جديد للصفحات. (2) "الأم" (6/ 457).

(17/642)


تَمَسُّوهُنَّ}، وقال: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} الآية، وقال: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ}، وقال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}. فالطلاق مباحٌ، إلا أنه ينهى عنه لغير قُبُلِ العدة .. أختارُ للزوج أن لا يطلق إلا واحدةً؛ ليكون له الرجعة في المدخول بها، ويكون خاطبًا في غير المدخول بها .. ولا يحرم عليه أن يطلق اثنتين ولا ثلاثًا، لأن الله تبارك وتعالى أباح الطلاق، وما أباح فليس بمحظور على أهله". (الأم ج 5/ 162). وقال (1): "وحكم الله في الطلاق أنه مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريحٌ بإحسان، وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} يعني ــ والله أعلم ــ الثلاث، فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، فدل حكمه أن المرأة تحرم بعد الطلاق ثلاثًا حتى تنكح زوجًا غيره". (كتاب اختلاف الحديث هامش الأم ج 7/ ص 313). [ص 2] جواب أهل المذهب الثاني: أما قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} فـ (طلقوا) صيغة أمرٍ، ولا تدل على التكرار، وتتحقق بمرة واحدة، فأين دلالتها على الجمع؟ ويُبيِّن أن المراد بها طلقة واحدة قوله تعالى في أثناء الآية: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}. والإمساك هنا الرجعة، فدل هذا أن الآية واردة في أول طلاق يطلقه _________ (1) "الأم" (10/ 258).

(17/643)


الرجل، وذكر بعده الرجعة، فعلم أنه لا يكون ثلاثًا، وكذلك لا يكون اثنتين لما ذكرنا من عدم دلالة الصيغة على التكرار، ولأنا لا نعلم قائلًا يقول: يجوز جمع طلقتين، لا ثلاث. وأما الآية الثانية وهي قوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}، فليس فيها دلالة على الجمع، وهي مع ذلك مسوقة لبيان عدم وجوب العدة، لا لسنة الطلاق. وفوق ذلك، فالله عز وجل إنما أباح الطلاق ليتخلص كل منهما من الآخر، والتخلص في غير المدخول بها يحصل بواحدة، فجمع طلقتين أو ثلاث من اتخاذ آيات الله هزوًا، ومن تضييق الرجل على نفسه أن لا تحل له بعقد جديد إذا جمع ثلاثًا، أو تحل له على طلقة واحدة، وهذا إضرار بنفسه وبالمرأة أيضًا، لا تقابله منفعة ما، فأنى يجوز؟ وإنما أجزنا في المدخول بها أن يتبعها طلقة ثانية عن الطهر الثاني، وثالثة عن الثالث، لأنه قد يحتاج إلى إبانتها لئلا يموت قبل انقضاء العدة فترثه إذا كانت رجعية، ولا ترث إذا كانت مبتوتة عند بعض أهل العلم، ولإسقاط نفقتها أو سكناها أو كليهما عند من يقول من أهل العلم: إن المبتوتة لا نفقة لها، أو لا نفقة ولا سكنى، ولتعجل نكاح أختها مثلًا، أو رابعة عند من يقول بحل ذلك في العدة إذا كانت مبتوتة. وأما الآية الثالثة وهي قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]، فلا دلالة فيها على الجمع، وإنما سِيقَت للأمر بالوفاء بالصداق.

(17/644)


وأما الآية الرابعة فهي الحجة الواضحة عليكم، قال الجصاص: "وذلك يقتضي التفريق لا محالة؛ لأنه لو طلَّق اثنتين معًا لما جاز أن يقال: طلَّقها مرتين، وكذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين لم يجز أن يقال: أعطاه مرتين حتى يفرق الدفع" (أحكام القرآن ج 1/ ص 378). بل في الطلاق نفسه لو قيل: قد طلَّق فلان زوجته مرتين، لفُهِم منه أنه طلَّقها ثم بعد مدة طلَّقها. ثم ذكر الله عز وجل الثالثة بعدُ إما بقوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، وإما بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ} الآية. وأما قولكم: " {فَإِنْ طَلَّقَهَا} أي ــ والله أعلم ــ: ثلاثًا" فخطأٌ يخالفه ظاهرُ السياق، وما فهمه المفسرون من السلف، فإنهم اختلفوا على قولين: الأول: أن قوله تعالى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} هي الثالثة، وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} بناءٌ عليها، كأنه قال: فإن وقع التسريح المذكور. الثاني: أن التسريح هنا معناه عدم المراجعة، وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} هي الثالثة. وأما ما ذكره ابن جرير (1) عن ابن عباس قال: "يقول: إن طلَّقها ثلاثًا لا تحل حتى تنكح زوجًا غيره" (تفسير ابن جرير ج 2/ ص 270)، فسنده ضعيف، وهو مع ذلك محمول على أن المراد منه ثلاثًا متفرقات هذه آخرها، جمعًا بينه وبين الروايات الثابتة عن ابن عباس. _________ (1) "تفسيره" (4/ 166). وأخرجه أيضًا ابن أبي حاتم في "تفسيره" (2/ 422) والبيهقي (7/ 376).

(17/645)


اعتراض أهل المذهب الثالث: قالوا لأهل المذهب الثاني: أما ردكم على المذهب الأول تجويزَهم الجمعَ فقد وُفِّقتم فيه، ولكنكم أخطأتم في تجويزكم أن يُتْبِعها طلقة ثانية، ثم طلقة ثالثة، وهي في عدتها من الأولى. والآية الأولى حجة عليكم (1)، [ملحق ص 3] فإن قوله: {لِعِدَّتِهِنَّ} معناه: عند شروع عدتهن. قال الحافظ ابن حجر (2): "أي عند ابتداء شروعهن في العدة، واللام للتوقيت كما يقال: لقيتُه لليلةٍ بقيتْ من الشهر، قال مجاهد: قال ابن عباس: "في قُبُلِ عدتهن"، أخرجه الطبري (3) بسند صحيح، ومن وجه آخر (4) أنه قرأها كذلك، وكذا وقع في صحيح مسلم (5) من رواية أبي الزبير عن ابن عمر: وقرأ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قُبُلِ عدتهن}. ونقلت هذه القراءة أيضًا عن أُبيّ وعثمان وجابر وعلي بن الحسين وغيرهم". (فتح الباري ج 9/ ص 276). قالوا: وفي كتب اللغة: "والقُبُل من الزمن أوله". قالوا: فهذا إنما يصدق على الطلقة الأولى، فأما الطلقة الثانية والثالثة _________ (1) هنا كتب المؤلف في الهامش: "الصفحة الثالثة بعد" وفيها الكلام الذي يلحق هنا. (2) "فتح الباري" (9/ 346). (3) "تفسيره" (23/ 25). وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (5/ 2) والنسائي في "الكبرى" (5586). (4) "تفسير الطبري" (23/ 24). (5) رقم (1471/ 14).

(17/646)


على قولكم فإن إحداهما تقع بعد مضي ثلث العدة، والأخرى بعد مضي ثلثيها، فليستا في قُبُل العدة، فالآية تنفي قولكم بتاتًا، وتثبت قولنا، والحمد لله. وأما ما اعتذر به بعضكم بأن هذه اللام كاللام في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} قال: مع أن وقت الظهر لا يتعين عند دلوك الشمس، بل يمتد إلى صيرورة ظل الشيء مثله أو مثليه على الخلاف في ذلك، فعذر باطلٌ؛ لأن في هذه الآية ما يدل على الامتداد، وهو قوله: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} فدل على امتداد الوقت، ثم بينت السنة حد امتداد الظهر وحد امتداد العصر، ومع صرف النظر عن هذا فلنا أن نقول: لما دلت السنة على امتداد وقت الظهر علمنا أن الآية نصَّت على وقت الفضيلة، وهو أول الوقت، كما نصت عليه السنة. وقال ابن طاوس: "إذا أردتَ الطلاق فطلِّقها حين تطهر قبل أن تمسها تطليقة واحدة، لا ينبغي لك أن تزيد عليها حتى تخلو ثلاثة قروء، فإن واحدة تُبِينها" (تفسير ابن جرير ج 28/ ص 77) (1). فأما من قال من المفسرين كقولكم، فكأنه تأول العدة بالقرء؛ لأن به تكون العدة، فقال: يطلق ثلاثًا عند كل قرء، فمعنى الآية على هذا: فطلقوهن في قُبُل كل قرءٍ من أقراءِ العدة الثلاثة. وهذا خلاف الظاهر بلا حجة، بل هو تعسفٌ واضحٌ. _________ (1) (23/ 27) (ط. التركي). ونحوه عن أبيه طاوس في "مصنف عبد الرزاق" (6/ 302).

(17/647)


فإن قلتم: قد قدمنا أن قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أن هذا في الطلقة الأولى، فعلى هذا لم تبين الآية حكم الثانية والثالثة، فقسناها على الأولى فيما يمكن، وهو أن تكون في الطهر الثاني وفي الثالث. قلنا: فإن الآية نفسها تنفي أن يكون في العدة طلاق غير هذه الطلقة الأولى، فإنه [ص 3] لم يذكر فيها بعد الطلقة الأولى إلا قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}، فالإمساك هنا المراجعة، والفراق عدمها، كما ذكره ابن جرير ونقله عمن تقدم، ولم يذكر غيره. والآية وما بعدها مسوقة لتعليم سنة الطلاق اتفاقًا، وقد بينت أنه لا ينبغي أن يكون بين الطلقة الأولى وبين انقضاء العدة إلا مراجعة أو عدم مراجعة. ومن ادعى أن الفراق هنا بمعنى الطلاق، فدعواه مردودة، فإن الفراق لا يعطي ذلك لغةً ولا شرعًا، وإن كان قد يستعمل فيه، فإن استعماله في الطلاق بخصوصه مجازٌ، ولا قرينة هنا على هذا المجاز، بل القرينة تفيد خلافه، وهي أنه جعله مقابلًا للرجعة، والظاهر في مقابل المعنى الوجودي هو عدمه، فثبت ما قلنا. ويزيده وضوحًا أن قوله: {بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} ظاهر هذا اللفظ في الأصل "انقضت عدتهن" ــ كما لا يخفى ــ ولكنه استعمل ههنا في معنى قاربن بلوغ الأجل، واستعمال البلوغ في مقاربته تقتضي مقاربة شديدة، وعند القرب الشديد من انقضاء العدة لا تبقى حاجة لإيقاع طلاق آخر، بل لا يمكن هذا على قول من يقول منكم: إن الأقراء هي الحيض؛ لأن المقاربة الشديدة إنما

(17/648)


تكون في الحيضة الثالثة، وقد اتففنا على تحريم الطلاق في الحيض مطلقًا. وأيضًا لو أجزنا الطلاق عند مقاربة الانقضاء، فإما أن نجيز طلقة أو طلقتين معًا؟ وقد اتفقنا على منع الطلقتين، وعليه فلا يكون له ــ على ما فرضناه ــ أن يُوقِع إلا طلقةً أخرى، فتكون هي الثانية، فلا تحصل بها البينونة، فلا يكون للمطلق غرض صحيح، وإذا كان كذلك كان هذا الطلاق من اتخاذ آيات الله هزوًا والتلاعب بحدوده. على أننا نقول: إن الفوائد التي ذكرتم أنها قد تكون للمطلق إذا طلَّق المدخول بها من حرمان الميراث، وحرمان النفقة والسكنى، وتعجل نكاح أختها مثلًا أو رابعة، كلها أغراضٌ مذمومةٌ شرعًا. أما حرمان الميراث وحرمان النفقة والسكنى فظاهر، وقد قال الله تعالى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}، {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}، {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}، والطلاق لحرمان الميراث أو النفقة والسكنى منافٍ لهذا كله. وهكذا تعجل نكاح الأخت ــ مثلًا ــ مذموم؛ لأنه يثبت في نفس المطلقة أنه إنما طلَّقها لينكح أختها، فتهيج بذلك بغضاء بين الأختين، ويورث ذلك سوء ظن بين الناس فيه وفي الأخت الثانية؛ لأن عادة الناس أن لا تحتجب المرأة من زوج أختها، كما تحتجب من الأجانب. وأما الرابعة فالحاجة إلى استعجال نكاحها نادرة، ولا يخلو ذلك من إثارة البغضاء بين أهل الأولى وأهل الثانية، بقول أهل الأولى: إنما طلَّق صاحبتنا ليزوج صاحبتهم، وهم أفسدوه، وغير ذلك.

(17/649)


ومع هذا كله، فإن هذه المنافع غير مقررة في الشرع؛ لاختلاف أهل العلم فيها، وعلى ذلك فلا تقوم بكراهية الطلاق من أصله فضلًا عن الطلاق البائن. ولهذا ــ والله أعلم ــ حظر الطلاق في الحيض، وفي طهر قاربها فيه، والعلة في ذلك ــ والله أعلم ــ أن الزوج بعد مقاربة زوجته يقل ميله إليها إلى مدة، وعند قلة الميل [ص 4] قد يطلق عن غير نفرة صادقة، ولعله لو صبر أيامًا قوي ميله إليها، فأعرض عن الطلاق. فإذا كانت حائضًا كان لعله قريب العهد بها في الطهر الأقرب، ومع ذلك فإن النفس تنفر عن الحائض للأذى، ولحظر الشرع مقاربتها، فالنفس يائسة منها، فلا تتحدث بمقاربتها. والطهر الذي قاربها فيه يكون قريب عهد بها، فإذا حاضت المرأة ثم طهرت كان الميل قد قوي في الرجل؛ لأنه قد بعُدَ عهدُه بها؛ ولأنه يتمثلها قد اغتسلت، وتطيبت، ولبست، وتزيَّنت، فيدعوه ذلك إليها، فيعرض عن الطلاق، ما لم تكن النفرة قد قويت. ومع ذلك لم يأذن له إلا بطلقة واحدة، وفرض عليه نفقتها، لئلا ينسد باب الصلح، وإبقاؤها في بيتها، وهو في الغالب بيته الذي يسكن فيه، أو قريبًا منه، وأطيلت العدة إلى ثلاثة قروء، إذ لعله يقوى ميلُه إليها في أثناء هذه المدة، وينسى ما بعثه على الطلاق من الإساءة، وقد تهيج به الذكرى وهو على فراشه، فلا يكون بينه وبينها إلا أن يراجع، ثم يكشف الستر، أو يدقّ الباب.

(17/650)


فلو جمع الثلاث ربما ندم بعد ساعة، كما هو مشاهدٌ بكثرة فاحشة في جميع البلدان، فأدخل بذلك الضرر على نفسه، وعليها إذا كانت تحبه، أو لا يرغب فيها غيره كما في الهند وغيرها من الأقطار، تقل فيها الرغبة في زواج الثيبات، ولا سيما المطلقات، حتى لا تكاد تسمع بمطلقة تزوجّها رجلٌ آخر. ويدخل الضرر على أطفاله منها، إن كانوا، فإنهم إن بقوا عندها بعدوا عن أبيهم، فأضر ذلك به وبهم، وقد لا يكون عنده من المال ما يكفي لأن يرسل إليهم نفقة تكفيهم، وإن اتفق أن تزوجت رجلًا آخر، فإما أن يكونوا معها، وذلك بلاء عليهم، وإما أن تدَعَهم عند أمها، فيمسوا محرومين من أبيهم وأمهم مع أنهما حيان، وإن أبقاهم عنده فإن لم يتزوج كانوا عذابًا عليه، ولم يكن عنده من يقوم بمصالحهم من النساء، وإن كان فليست كأمهم، وإن تزوج كانت هذه المرأة عدوةً طبيعية لأولاده من الأولى، كما هو مشاهد. فاجعلْ كراهيةَ الشرع وهذه المضارَّ في كِفَّة، وما قد يقصده الزوج من تلك المنافع في كفة، وانظر أيهما يرجح. هذا، مع ما تقدم من أن تلك المنافع مذمومة وغير مقررة في الشرع، مما يبعد أن يُقِيم لها الشرعُ وزنًا البتة. قالوا: ولو كان لهذه المنافع أثرٌ في الشرع لكان أباح إيقاع الثلاث دفعةً، وقد اتفقنا على رده، وكان يلزمكم إذ لم تُسندِوا جواز إتباع الطلقة الثانية ثم الثالثة إلا إلى احتمال تلك الأغراض أن تقيّدوا الجواز بوجود غرضٍ مباحٍ منها إن كان، فكيف تكون سندًا لتشريع عامٍ وهي نادرة؟ ! هذا خلاف سنة الشرع، فإن سنته أن يُراعي الغالب ويُلغي النادر، لا عكسه.

(17/651)


قالوا: فإذا قلنا: إن قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} إنما هو في الطلقة الأولى، فالقياس الصحيح في الثانية والثالثة أن لا تُوقَع كلٌّ منهما إلا عندما يحتاج إليها كالحاجة إلى الأولى، وإنما يحتاج إلى الثانية إذا راجع من الأولى، فيحتاج حينئذٍ إلى ثانية لحل العصمة، فيحتاط لها كما احْتِيط للأولى، فلا توقع إلا في قُبُل العدة، والمعنى حينئذٍ كما في الأولى تمامًا، ثم لا تُوقع الثالثةُ إلا عند الحاجة إليها كالحاجة إلى الأولى وإلى الثانية، وإنما يكون ذلك إذا راجع من الثانية، واحتاج إلى الطلاق، فحينئذٍ يحتاط لها كما في الأُوليين، فلا تُوقَع إلا في قُبُل العدة، والمعنى قبل إيقاعها كالمعنى في الأوليينِ تمامًا، وأما بعد إيقاعها فقد اختلف المعنى، إذ لا رجعةَ بعدها. وأما إذا قلنا: إن قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} يصدق بالطلقة الأولى وبالثانية وبالثالثة ــ وإن كانت بعض الأحكام المذكورة في السياق تختصُّ بالأولى والثانية ــ فالأمر أظهر، فإن كلًّا من الثلاث تكون منصوصًا في الآية على إيقاعها في قُبُل العدة، وقد تقدم بقية الكلام. قالوا: وأما ما تُفسِّرون به قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} الآيتين: أن المرة الأولى في طهرٍ لم يقربْها فيه، والثانية في الطهر الثاني، والثالثة في الطهر الثالث، فمردودٌ عليكم. أخرج مالك رحمه الله في "الموطأ" (1) عن هشام بن عروة عن أبيه قال: "كان الرجل إذا طلَّق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك _________ (1) (2/ 588).

(17/652)


له، وإن طلَّقها ألف مرة، فعَمَدَ رجلٌ إلى امرأته فطلَّقها، حتى إذا شارفتْ انقضاءَ عدتها راجعها، ثم طلَّقها، ثم قال: لا والله لا آوِيكِ إليَّ، ولا تحِلِّينَ أبدًا، فأنزل الله تبارك وتعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، فاستقبل الناس الطلاقَ جديدًا من يومئذٍ، من كان طلَّق منهم أو من لم يطلِّق". ("الموطأ" بهامش شرحه "المنتقى" ج 5/ ص 125). [ص 5] هذا مرسلٌ صحيحٌ، وهكذا رواه ابن إدريس وجرير بن عبد الحميد عن هشام. انظر تفسير ابن جرير (ج 2/ص 259) (1). وقد رفعه بعضهم، أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2)، وصححه من طريق يعلى بن شَبِيب عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وله عواضد. أخرج ابن جرير (3) عن قتادة قال: "كان أهل الجاهلية يطلق أحدهم امرأته ثم يراجعها، لا حدَّ في ذلك، هي امرأته ما راجعها في عدتها، فجعل الله حد ذلك يصير إلى ثلاثة أقراء، وجعل حدَّ الطلاق ثلاث تطليقات". وأخرج (4) عن ابن زيد: " ... وطلق رجل امرأته حتى إذا كادت أن تَحِلَّ ارتجعها، ثم استأنف بها طلاقًا بعد ذلك لِيُضارَّها بتركها، حتى إذا كان قبل انقضاء عدتها راجعها، وصنع ذلك مرارًا، فلما علم الله ذلك منه، جعل الطلاق ثلاثًا: مرتين، ثم بعد المرتين إمساكٌ بمعروف أو تسريح بإحسان". _________ (1) "تفسيره" (4/ 125، 126). (2) "المستدرك" (2/ 279، 280). وأخرجه أيضًا الترمذي (1192). (3) في "التفسير" (4/ 126). (4) المصدر نفسه (4/ 126).

(17/653)


فقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} يعني ــ والله أعلم ــ: الطلاق الذي تعقبه رجعة؛ لأن هذا هو المعهود لهم سابقًا، والمعهود في القصة التي كانت سبب النزول، والمعهود في الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} إلى قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ}. فكأنه قال: الطلاق الذي تعقبه رجعة إنما هو مرَّتان، لا مِرارٌ كثيرة، كما أراد ذلك الرجل المضارُّ أن يفعل. وعليه، فكل مرة من المرتين عبارة عن طلاق عقبتْه رجعةٌ، لأن هذا ردّ على ذلك المضارّ الذي أراد أن يفعل هذا، أي الطلاق والرجعة مرارًا. وقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أريد به ــ والله أعلم ــ: وبعد أن يطلق أحدكم [ثم يراجع] ثم يطلق ثم يراجع، لا يبقى له إلا أن يمسكها ويحتفظ بها، أو يُسرِّحها السراحَ الأخير، وهو الطلاق الثالث. قال في الفتح (1): "معنى قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} فيما ذكر أهل العلم بالتفسير، أي: أكثر الطلاق الذي يكون بعده الإمساك أو التسريح مرتان، ثم حينئذٍ إما أن يختار استمرار العصمة فيمسك الزوجة، أو المفارقة فيسرِّحها بالطلقة الثالثة، وهذا التأويل نقله الطبري وغيره عن الجمهور". ثم ذكر القول الثاني، وسيأتي، ثم قال (2): "ويرجِّح الأولَ ما أخرجه _________ (1) (9/ 366). (2) أي الحافظ في "الفتح" (9/ 366).

(17/654)


الطبري (1) وغيره من طريق إسماعيل بن سميع عن أبي رزين قال: "قال رجل: يا رسول الله! الطلاق مرتان، فأين الثالثة؟ قال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان". أقول: وفي رواية للطبري (2): "قال رجل: يا رسول الله! يقول الله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} فأين الثالثة؟ قال: التسريح بإحسان". (تفسير ابن جرير 2/ ص 260). ثم قال الحافظ (3): "وسنده حسن، لكنه مرسلٌ؛ لأن أبا رزين لا صحبة له، وقد وصله الدارقطني (4) من وجهٍ آخر، فقال: "عن أنس" لكنه شاذ، والأول هو المحفوظ ... والأخذ بالحديث أولى، فإنه مرسل حسن، يعتضد بما أخرجه الطبري (5) من حديث ابن عباس بسندٍ صحيحٍ قال: "إذا طلَّق الرجل امرأته تطليقتين، فليتق الله في الثالثة، فإما أن يُمسِكها فيُحسِن صحبتها، أو يُسرِّحها فلا يظلمها من حقها شيئًا". (فتح الباري ج 9/ ص 293). وقال ابن جرير (6): "فقال بعضهم: عَنَى الله تعالى ذِكره بذلك الدلالةَ _________ (1) "تفسيره" (4/ 130). (2) المصدر نفسه (4/ 131). وأخرجه أيضًا عبد الرزاق في "تفسيره" (1/ 93) و"المصنف" (11091) وأبو داود في "المراسيل" (ص 145) وابن أبي حاتم في "التفسير" (2/ 419). (3) في "الفتح" (9/ 366). (4) في "سننه" (4/ 4) وقال: والصواب مرسل. (5) في "التفسير" (4/ 128). (6) المصدر نفسه (4/ 130).

(17/655)


على اللازم للأزواج للمطلقات اثنتين بعد مراجعتهم إياهن من التطليقة الثانية من عشرتهن بالمعروف، أو بفراقهن بطلاق". ثم قال (1) بعد أن ذكر الحديث وغيره، وذكر القول الثاني: "فإن اتباع الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أولى بنا من غيره، فإذ كان ذلك هو الواجب، فبيِّنٌ أن تأويل الآية: الطلاق الذي لأزواج النساء على نسائهم فيه الرجعة مرتان، ثم الأمر بعد ذلك إذا راجعوهن في الثانية إما إمساك بمعروف، وإما تسريح منهم لهن بإحسان بالتطليقة الثالثة". (تفسير ابن جرير ج 2/ص 259 - 260). [ص 6] أقول: والقول الثاني حكاه ابن جرير فقال (2): "وقال آخرون: بل عنى الله بذلك الدلالة على ما يلزمهم لهن بعد التطليقة الثانية من مراجعةٍ بمعروف، أو تسريحٍ بإحسان بترك رجعتهن حتى تنقضي عدتهن". ثم روى عن السدي (3) قال: "إذا طلَّق واحدةً أو اثنتين إما أن يمسك، ويمسك: يراجع بمعروف، وإما سكت عنها حتى تنقضي عدتها". وعن الضحاك (4) قال: "يعني تطليقتين بينهما مراجعة، فأمر أن يمسك أو يسرح بإحسان". وروى عنه قبل ذلك (5): "والتسريح أن يدَعَها حتى تمضي عدتها". (تفسير ابن جرير ج 9/ص 260). _________ (1) في "التفسير" (4/ 132). (2) المصدر نفسه (4/ 131). (3) المصدر نفسه (4/ 131، 132). (4) المصدر نفسه (4/ 132). (5) المصدر نفسه (4/ 132).

(17/656)


وأخرج (1) في تفسير سورة الطلاق عن الضحاك في قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} قال: "يعني بالمخرج واليسر: إذا طلَّق واحدةً ثم سكت عنها، فإن شاء راجعها بشهادة رجلين عدلين، فذلك اليسر الذي قال الله، وإن مضت عدتها ولم يراجعها كان خاطبًا من الخُطَّاب، وهو الذي أمر الله به، وهكذا طلاق السنة، فأما من طلَّق عند كل حيضة فقد أخطأ السنة، وعصى الرب، وأخذ بالعسر". (تفسير ابن جرير ج 28/ص 82). أقول: قال ابن جرير (2) في تحرير القول الثاني: "وكأن قائلي هذا القول الذي ذكرناه عن السدي والضحاك ذهبوا إلى أن معنى الكلام: الطلاق مرتان، فإمساكٌ [في] كل واحدة منهما لهن بمعروف، أو تسريح لهن بإحسان". أقول: وحاصله هكذا: المرة الأولى فمراجعةٌ أو تركٌ حتى تنقضي عدتها، فإذا راجع وأراد الطلاق فالمرة الثانية، فمراجعةٌ أو تركٌ حتى تنقضي عدتها، ثم قال تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}. ومعناها على هذا: فإذا راجع من الثانية، ثم بدا له الطلاق فإن طلَّقها ... إلخ. وعلى هذا، فهذا القول الثاني لا يخالف القول الأول فيما ذهب إليه _________ (1) "التفسير" (23/ 44). (2) المصدر نفسه (4/ 132).

(17/657)


أهل المذهب الثالث (1). أقول: والقائلون بأن الإمساك هو الرجعة يقولون كما ذكر بأن .... (2) فبعد المرتين إما مراجعة و .... في الاعتراض إما مراجعة وإما طلاق. فإن قيل: لكنه جاء الطلاق بعد ذلك في قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ}. [قيل]: هو مبني على فرض الإمساك وهو المراجعة؛ لأنه قد حصر الأمر بعد الثنتين في مراجعة أو عدمها، فإن عدمت حتى انقضت العدة كما هو ظاهر، فلا موقع للطلاق الثالث، وإنما يكون له موقع على فرض وقوع المراجعة، فتدبر. وأما من قال: المرتان طلقتان عند كل طهر واحدة، فلم يتبين ما يفسرون به الإمساك والتسريح، وعلى كل حال فقولهم مردود من أصله. وعلى كلٍ من الأقوال الثالثة، فقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ} المراد بها الطلاق الثالث. أما على قول من قال: الإمساك الإبقاء في العصمة، والتسريح الطلاق، فإنه يقول: إن قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} مبني على التسريح، كأنه قال: فإن وقع منه التسريح الذي تقدم ذكره. والتسريح هو الطلاق الثالث عند هؤلاء. وأما من قال: الإمساك المراجعة بعد كل من الطلقتين، والتسريح عدم _________ (1) بعدها صفحتان كتبهما المؤلف، ثم شطب عليهما. وكتب بعد صفحات ملحقًا يناسب هذا المكان. (2) الكلمات مخرومة في الأصل في مواضع النقط.

(17/658)


المراجعة، فإنه يقول: إن الطلقة الثالثة إنما ذكرت في قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا}. وأما من قال: المرتان طلقتان في كل طهر واحدة، فلا بد أن يوافق أحد القولين المتقدمين، ولو كان يقول بخلاف ذلك لكان الظاهر أن يحكيه ابن جرير. نعم، ذكر ابن جرير (1) في تفسير {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ} عن ابن عباس قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} يقول: "إن طلَّقها ثلاثًا لا تحل حتى تنكح زوجًا غيره". رواه من طريق عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة، وفي كل منهم كلام، وهو مع ذلك منقطع، فإن ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس، وصحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يستأنس بها أهل العلم، ولا يحتجون بها. على أن هذا الأثر لو صح لوجب حملُه على معنى "إن طلَّقها" الثالثةَ، فتمَّ طلاقُها "ثلاثًا"، توفيقًا بين هذا وبين الروايات الصحيحة عنه (2). واحتج أهل المذهب الثاني بالآية {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فإن المراد بالإمساك المراجعة، وبالتسريح الطلاق، كأنه قال: وبعد المرتين إما مراجعة وإما طلاق. وهذا يدل أن المرة الثانية طلاق لم يعقبه رجعة، إذ لو كانت طلاقًا _________ (1) في "تفسيره" (4/ 166). (2) هنا نهاية الملحق، وما بعدها وراء صفحة الملحق.

(17/659)


ورجعة لما أمكن أن تكون بعدها مراجعة أخرى، وإذا ثبت أن المرة الثانية طلاقٌ تصلح بعده المراجعة ويصلح الطلاق، فقد وقعت المرة الثالثة من الطلاق عقب الطلاق الثاني بدون تخلل رجعة، وإذا جاز هذا بين الثانية والثالثة فليجز بين الأولى والثانية، ولا قائل بالفرق. فالجواب: أن جمهور السلف فسروا الإمساك ههنا بالإبقاء في العصمة، لا بالمراجعة، ونظيره قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 37]. وقد أخرج الحاكم في "المستدرك" (1) عن أنسٍ قال: "جاء زيد بن حارثة يشكو إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من زينب بنت جحش، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: أمسِك عليك أهلَك، فنزلت". وذكر ابن جرير (2) أثرًا عن ابن زيد، وفيه: "فجاء فقال: يا رسول الله! إني أريد أن أفارق صاحبتي، قال: مالك؟ أرابَكَ منها شيءٌ؟ قال: لا والله ما رابني منها شيءٌ يا رسول الله، ولا رأيت إلا خيرًا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: أمسِكْ عليك زوجك واتق الله". وروى أثرًا عن قتادة بنحوه (3). (تفسير ابن جرير ج 22/ ص 9). وأصرح منه قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]. _________ (1) (2/ 417). (2) "تفسيره" (19/ 116). (3) المصدر نفسه (19/ 115).

(17/660)


وأكثر ما يجيء الإمساك في القرآن بهذا المعنى، أي عدم الإرسال. وإنما ذكرت الآيتين لئلا يقول قائل: قد جاء في القرآن {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} في موضعين، والمراد به في كل منهما "فراجعوهن"، فينبغي أن يكون قوله هنا: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} أي مراجعة. على أنه قد يقال: فرق بين قوله: {فَإِمْسَاكٌ}، وقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ}، فإن الاسم يدل على الثبات واللزوم، فيقتضي أن هذا الإمساك هو الإبقاء في العصمة؛ لأنه استمرار شيء ثابت، والفعل يدل على التجدد والحدوث، فيقتضي في قوله: "فأمسكوا" أي أحدثوا إمساكًا، وهو المراجعة، فتأمل. وقال ابن جرير (1) بعد أن ذكر أثر عروة وما في معناه: "فتأويل الآية على هذا الخبر الذي ذكرنا: عدد الطلاق الذي لكم أيها الناس فيه على أزواجكم الرجعةُ تطليقتان، ثم الواجب على من راجع منكم بعد التطليقتين إمساكٌ بمعروف، أو تسريح بإحسان". ثم حكى قول من قال: إن "المرتان" طلقتان في كل طهر واحدة، ثم الواجب بعد ذلك إما إمساك بمعروف وإما تسريح بإحسان، ثم رده بأنه مخالفٌ لظاهر التنزيل، ولمرسل عروة وعواضده. ثم حكى الخلاف في تأويل الإمساك والتسريح قال (2): فقال بعضهم: _________ (1) "تفسيره" (4/ 127). (2) المصدر نفسه (4/ 130).

(17/661)


عنى الله تعالى ذكره بذلك الدلالة على اللازم للأزواج للمطلقات اثنتين بعد مراجعتهم إياهن من التطليقة الثانية من عشرتهن بالمعروف أو فراقهن (1) بطلاق". وذكر حديث أبي رزين الآتي وآثارًا لا أراها صريحة فيما قال. ثم قال (2): "وقال آخرون: بل عنى الله بذلك الدلالة على ما يلزمهم لهن بعد التطليقة الثانية من مراجعة بمعروف، أو تسريح بإحسان بترك رجعتهن". ثم روى عن السدي قال (3): "إذا طلَّق واحدة أو اثنتين، إما أن يمسك ــ ويمسك: يراجع بمعروف ــ وإما سكت عنها حتى تنقضي عدتها". وعن الضحاك قال (4): "يعني تطليقتين بينهما مراجعة، فأمر أن يمسك أو يسرح بإحسان". ثم رد هذا التأويل بحديث أبي رزين (5): "قال رجل: يا رسول الله! قول الله {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} فأين الثالثة؟ قال: التسريح بإحسان". ثم قال (6): "فبيِّنٌ أن تأويل الآية: الطلاق الذي لأزواج النساء على _________ (1) في الأصل: "بفراقهن"، والتصويب من تفسير الطبري. (2) المصدر السابق (4/ 131). (3) المصدر نفسه (4/ 131، 132). (4) المصدر نفسه (4/ 132). (5) المصدر نفسه (4/ 132، 130). (6) المصدر نفسه (4/ 132).

(17/662)


نسائهم فيه الرجعة مرتان، ثم الأمر بعد ذلك إذا راجعوهن في الثانية إما إمساكٌ بمعروف، وإما تسريحٌ لهن بإحسان بالتطليقة الثالثة". (تفسير ابن جرير ج 2/ ص 259 - 260). [ص 7] السُّنَّة المذهب الأول: قالوا: السنة معنا، ففي حديث عائشة الذي في الصحيحين (1) وغيرهما في قصة امرأة رفاعة: أنها جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقالت: إني كنت عند رفاعة، فطلقني فبتَّ طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزَّبِير، وإنما معه مثل هُدْبة الثوب، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عسيلتك، وتذوقي عسيلته". قال الإمام الشافعي (2): "فإن قيل: فقد يجوز أن يكون رفاعة بتَّ طلاقها في مرات. قلت: ظاهره مرةً واحدةً". وفي حديث فاطمة بنت قيس، وهو في صحيح مسلم (3)، وأشار إليه البخاري (4): "أن زوجها طلَّقها ثلاثًا، فلم يجعل لها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سكنى ولا نفقة". _________ (1) البخاري (2639) ومسلم (1433). (2) "الأم" (10/ 259). (3) رقم (1480). (4) انظر "الصحيح" مع "الفتح" (9/ 477) وكلام الحافظ عليه.

(17/663)


وفي الصحيحين (1) من حديث عائشة: "أن رجلًا طلَّق امرأته ثلاثًا، فتزوجت فطلق، فسئل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: أتحلُّ للأول؟ قال: لا، حتى يذوق عُسيلتها، كما ذاق الأول". وفي الصحيحين (2) من حديث سهل بن سعد في قصة عويمر العجلاني: "أنه بعد أن لاعنَ زوجته قال: كذبتُ عليها يا رسول الله إن أمسكتُها، فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ". قال الإمام الشافعي (3): "وأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - علَّم عبد الله بن عمر موضع الطلاق، ولو كان في عدد الطلاق مباحٌ ومحظورٌ علَّمه ــ إن شاء الله ــ إياه؛ لأن من خفي عليه أن يطلق امرأته طاهرًا، كان ما يُكره من عدد الطلاق ويُحَبّ ــ لو كان فيه مكروه ــ أشبه أن يخفى عليه ... وطلق ركانة امرأته البتة، وهي تحتمل واحدةً، وتحتمل ثلاثًا، فسأله النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن نيته وأحلفه، ولم نعلمه نهى أن يطلق البتة يريد بها ثلاثًا، وطلق عبد الرحمن بن عوف امرأته ثلاثًا". رده: قالوا: أما الحديث الأول فقد جاء مفسرًا على خلاف ما ظننتم، ففي الصحيحين (4): " ... فقالت: يا رسول الله! إنها كانت عند رفاعة، فطلَّقها آخر ثلاث تطليقات" (صحيح البخاري ج 8/ص 23، صحيح مسلم ج 4/ص 154). _________ (1) البخاري (5261) ومسلم (1433/ 115). (2) البخاري (5308) ومسلم (1492). (3) "الأم" (6/ 457). (4) البخاري (6084) ومسلم (1433/ 113).

(17/664)


وهكذا الحديث الثاني، ففي رواية عند مسلم (1): "أن فاطمة بنت قيس أخبرته أنها كانت تحت أبي عمرو بن حفص بن المغيرة، فطلقها آخر ثلاث تطليقات"، وفي رواية أخرى (2): " ... فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها". (صحيح مسلم ج 4/ص 196 - 197). وأما الحديث الثالث فالظاهر أنه مختصرٌ من حديث امرأة رفاعة، كما جوزه الحافظ في الفتح (3)، قال: "وسيأتي في شرح قصة رفاعة أن غيره وقع له مع امرأته نظير ما وقع لرفاعة، فليس التعدد في ذلك ببعيد". (فتح الباري ج 9/ص 295). وذكر في (ص 375 - 380) (4) تلك الروايات، وهي بين ضعيفٍ أو غلطٍ في قصة امرأة رفاعة، فانظرها إن شئت. وأما الحديث الرابع فقصة عويمر، رواها جماعة من الصحابة، ولم يذكر أحدٌ منهم الطلاق إلا في رواية الزهري عن سهل بن سعد. والزهري يقول تارة: "فطلقها"، رواه عنه هكذا الأوزاعي، كما في صحيح البخاري في تفسير سورة النور (5)، وعبد العزيز بن أبي سلمة عند أحمد (المسند ج 5/ص 337) (6). _________ (1) رقم (1480/ 40). (2) رقم (1480/ 41). (3) (9/ 367). (4) (9/ 464 ــ 469). (5) البخاري (4745). (6) رقم (22856).

(17/665)


وتارةً يقول: "ففارقها"، هكذا رواه عنه جماعة، منهم فليح عند البخاري في تفسير سورة النور (1)، وابن أبي ذئب عند البخاري أيضًا في الاعتصام (2)، وعبد العزيز بن أبي سلمة وإبراهيم بن سعد عند النسائي (3)، وعقيل عند أحمد (المسند ج 5/ص 337) (4). وتارة يقول: "فطلقها ثلاثًا"، هكذا رواه مالك وابن جريج (5) وغيرهما. قال الحافظ في الفتح (6): "في رواية ابن إسحاق ــ يعني عن الزهري ــ: ظلمتُها إن أمسكتُها، فهي الطلاق، فهي الطلاق، فهي الطلاق". أقول: والذي في مسند أحمد "هي الطلاق، وهي الطلاق، وهي الطلاق". (مسنده 5/ 334) (7). ثم قال الحافظ (8): "وقد تفرد بهذه الزيادة ولم يتابع عليها، وكأنه رواه بالمعنى؛ لاعتقاده منع جمع الطلقات". (فتح الباري 9/ 365). وفي هذا نظر، فمن البين أن اختلاف هذه الألفاظ: "فطلقها"، _________ (1) رقم (4746). (2) رقم (7304). (3) (6/ 171). (4) رقم (22853). (5) انظر البخاري (5308، 5309). (6) (9/ 451). (7) رقم (22831). (8) "الفتح" (9/ 451).

(17/666)


"ففارقها"، "فطلقها ثلاثًا" ليس من سهل بن سعد، وإنما هو من الزهري، ومن الجائز أن يعني الزهري بقوله: "فطلقها ثلاثًا" أنه كرر الطلاق ثلاثًا، وهذا اللفظ يصدق بما إذا كان التكرار صالحًا للتوكيد، فتكون هذه الرواية موافقة لرواية ابن إسحاق، ومن الجائز أيضًا أن يكون الزهري سمع الحديث من سهل باللفظ الذي ذكره ابن إسحاق، ولكن كان الزهري يرويه بالمعنى، فقال مرة: "فطقها ثلاثًا" بناءً على ما ظنه من أن هذا اللفظ يثبت به ثلاث طلقات، ثم تردد في ذلك، فكان يقول تارةً: "فطلقها" ويقتصر عليه، وتارةً: "ففارقها" ويقتصر عليه، وذكر ابن إسحاق أصل اللفظ الذي سمعه (1) من سهل، فقد كان لابن إسحاق اختصاص بالزهري، قال ابن عيينة: "رأيت الزهري قال لمحمد بن إسحاق: أين كنت؟ فقال: هل يصل إليك أحد؟ قال: فدعا حاجبه وقال: "لا تحجبه إذا جاء". (ذكره في تهذيب التهذيب) (2). فأما أن يسمع ابن إسحاق "فطلقها ثلاثًا" فيراها مخالفة لرأيه، فيبدلها بلفظ يوافق رأيه، وينسبه إلى صاحب القصة، فهذا بغاية البعد، وليس هذا من الرواية بالمعنى، بل من التحريف والتبديل، وحاشا ابن إسحاق من ذلك (3). [ص 8] قالوا: وعلى فرض أنه ثبت ثبوتًا لا ريب فيه أن عويمرًا طلَّق ملاعنته ثلاث طلقات بحضرة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولم ينكر عليه، ودل ذلك على الجواز، فليس في هذا ما يدل على إباحة جمع الطلاق مطلقًا، فليجز مثل _________ (1) أي الزهري. (2) (9/ 40). (3) ثم الكلام يتصل بعد خمس ورقات في الأصل.

(17/667)


ذلك في مثل هذه الواقعة، وهي أن يطلق الزوج زوجته التي اطلع على زناها ولاعنَها فالتعنت، ولا يُقاس عليها من ليس مثل معناها. على أنه قد أغنى الله الملاعن عن الطلاق بقضائه بالتفريق بينهما مؤبدًا بغير طلاق. وقد أخرج النسائي (1) وغيره بسند صحيح عن مخرمة بن بكير عن أبيه قال: سمعت محمود بن لبيد قال: "أُخبِر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن رجل طلَّق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبانَ، فقال: أيُلْعَب بكتاب الله وأنا بين أظهركم، حتى قام رجلٌ وقال: ألا أقتله؟ ". (سنن النسائي 2/ 695). ومحمود بن لبيد ولد في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فالحديث مرسلٌ صحيحٌ. وأخرج البيهقي (2) وغيره من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "ما بالُ رجالٍ يلعبون بحدود الله؟ طلقتك راجعتك، طلقتك راجعتك! ". ورجاله رجال الصحيح إلا أن فيهم من يدلس. وفي رواية: "لِمَ يقول أحدكم لامرأته: قد طلقتك، قد راجعتك؟ طلقوا المرأة في قُبُل عدتها" (سنن البيهقي 7/ 322 - 323). وأخرج الحاكم (3) وغيره من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: _________ (1) (6/ 142). (2) "السنن الكبرى" (7/ 322). وأخرجه أيضًا ابن ماجه (2017). (3) "المستدرك" (2/ 196). وأخرجه أيضًا أبو داود (2178) وابن ماجه (2018).

(17/668)


"أبغض الحلال إلى الله الطلاق". قال الحاكم: صحيح الإسناد. وقال الذهبي: على شرط مسلم. وأورده البيهقي (1) من طرق موصولًا ومن أخرى مرسلًا، ورجّح بعضُ الحفاظ إرساله، قال صاحب الجوهر النقي: " ... فهذا يقتضي ترجيح الوصل، لأنه زيادة وقد جاء من وجوه". (الجوهر النقي مع سنن البيهقي) (2). أقول: وإن كان مرسلًا فمرسلٌ صحيحٌ، له شواهد وعواضد، فهو صالحٌ للحجة، إن شاء الله تعالى. ولا خفاء أن الله عز وجل إنما أحله مع بغضه له؛ لعلمه أن الحاجة تشتدُّ إليه، ومن القواعد المقررة أن ما أبيح للضرورة قُدِّر بقدرها، والضرورة أو الحاجة المشروعة يكفي للتخلص منها واحدة، وأما المنافع التي تقدم أن الزوج قد يحتاج إلى تعجلها، فقد مر الكلام عليها. (ملحق) ما يختص بالمذهب الثاني: قالوا: قد صح عن ابن مسعود أنه قال: "طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر تطليقة، فإذا كان آخر ذلك فتلك العدة التي أمر الله بها" (سنن الدارقطني 427) (3). أخرجه من طريق حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله. _________ (1) "السنن الكبرى" (7/ 322). (2) "الجوهر النقي" (7/ 323). (3) (4/ 5).

(17/669)


وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (1): حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله، فذكره بنحوه. وأخرجه ابن جرير (2) مطولًا: ثنا ابن حميد ثنا جرير عن مطرِّف عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله في قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} قال: "يطلقها بعدما تطهر من قبل جماع، ثم يدعها حتى تطهر مرة أخرى، ثم يطلقها إن شاء، ثم إن أراد أن يراجعها راجعها، ثم إن شاء طلَّقها، وإلا تركها حتى تتم ثلاثُ حِيضٍ، وتبين منه". (تفسير ابن جرير 2/ 259). قالوا: وقول الصحابي: "السنة كذا" في حكم الرفع. وجاء عن ابن عباس نحوه. أخرج ابن جرير (3) في تفسير سورة الطلاق، من طريق ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس: "أنه كان يرى طلاق السنة طاهرًا من غير جماع، وفي كل طهر، وهي العدة التي أمر الله بها" (تفسير ابن جرير ج 28/ص 77). قالوا: وهذا هو المروي عن مجاهد وقتادة وغيرهما من التابعين. _________ (1) (9/ 515). (2) "تفسيره" (4/ 128). (3) المصدر نفسه (23/ 23).

(17/670)


وقد ثبت في الصحيحين (1) وغيرهما من حديث ابن عمر في قصة طلاقه امرأته وهي حائض أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال لعمر: "مُرْه فليراجعْها، ثم ليمسكْها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعدُ، وإن شاء طلَّق قبل أن يمس". قالوا: وإنما لم يرخص له أن يطلق في الطهر الذي يلي تلك الحيضة؛ لأن محل الطلاق كان في الطهر الذي قبلها، ليكون بينه وبين الطلقة الثانية طهر وحيضة كاملة، فلما أوقعه في الحيضة أمره أن لا يوقع الطلقة الثانية إن أراد إلا بعد أن تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ليتم له طهر وحيضة كاملة بين الطلقتين، فدل الحديث على جواز إيقاع الطلقة بعد الطلقة إذا كان بينهما طهر لم يقربها فيه، ثم حيضة كاملة. جواب المذهب الثالث: قالوا: الأعمش وأبو إسحاق إمامان ولكنهما مدلسان، وابن حميد هو محمد بن حميد الرازي متهم، والصحيح عن ابن مسعود أنه قال: "الطلاق للعدة طاهرًا من غير جماع". أخرجه ابن جرير من طرق (تفسير ابن جرير ج 28/ص 76 - 77)، وذكر الحافظ في الفتح (2) أن سنده صحيح. (فتح الباري ج 9/ص 276) (3). وقال ابن أبي شيبة (4): ثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي _________ (1) البخاري (5251) ومسلم (1471). (2) "الفتح" (9/ 346). (3) أشار المؤلف هنا إلى ملحق في آخر الرسالة. (4) "المصنف" (9/ 511) طبعة عوامة.

(17/671)


الأحوص عن عبد الله قال: "من أراد الطلاق الذي هو الطلاق، فليطلقها تطليقة ثم يدعها حتى تحيض ثلاث حيض". وبسند صحيح عن طاوس (1): "طلاق السنة أن يطلق الرجل امرأته طاهرًا في غير جماع، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها". وبسندٍ صحيح عن أبي قلابة (2) نحوه. وقال (3): ثنا ابن إدريس عن هشام عن ابن سيرين عن عَبيدة عن علي قال: "ما طلَّق رجل طلاق السنة فندم"، وفسَّره في رواية أخرى (4) فقال: "يطلقها واحدة ثم يتركها حتى تحيض ثلاث حيض". وقال (5): ثنا وكيع عن سفيان عن مغيرة عن إبراهيم قال: كانوا يستحبون أن يطلقها واحدةً، ثم يتركها حتى تحيض ثلاثَ حِيَضٍ. ثنا (6): شبابة بن سوَّار عن شعبة عن الحكم وحماد في الطلاق السنة قالا: "يطلق الرجل امرأته ثم يدعها حتى تنقضي عدتها" (7). وأما أثر ابن عباس فهو مختصر من حديثه في قصة طلاق ركانة، _________ (1) المصدر نفسه (9/ 511). (2) المصدر نفسه (9/ 512). (3) المصدر نفسه (9/ 511). (4) المصدر نفسه (9/ 512). (5) المصدر نفسه (9/ 512). (6) المصدر نفسه (9/ 512). (7) هنا نهاية الملحق، ثم يرجع الكلام إلى صفحة (8).

(17/672)


وسيأتي، وليس فيه ذكر "السنة"، وإنما فيه بعد أن ذكر القصة: "فكان ابن عباس يرى إنما الطلاق عند كل طهر". ولفظ "السنة" في هذا المختصر إما من قول عكرمة، وإما من قول من بعده، وسيأتي بقية الكلام على هذا. قالوا: وأما حديث ابن عمر فالطلقتان فيه ليستا متتابعتين، فإنه أمره بالمراجعة من الأولى، وعليه فالطلقة الثانية تكون في قُبُل العدة، فأين هذا من مذهبكم؟ وقد ذكر العلماء توجيهات أخرى غير ما قلتم، منها قولهم: لو طلَّقها عقب تلك الحيضة كان قد راجعها ليطلقها، وهذا عكس مقصود الرجعة، فإنها شرعت لإيواء المرأة، ولهذا أسماها إمساكًا، فأمره أن يمسكها في ذلك الطهر، وأن لا يطلق فيه حتى تحيض حيضة أخرى ثم تطهر، لتكون الرجعة للإمساك. ويؤيد ذلك أن الشارع أكد هذا المعنى حين أمره أن يمسكها (يمسها) في الطهر الذي يلي الحيض الذي طلَّقها فيه، لقوله في رواية عبد الحميد بن جعفر (1): "مُره أن يراجعها، فإذا طهرت مسَّها، حتى إذا طهرت أخرى فإن شاء طلَّقها، وإن شاء أمسكها". فإذا كان قد أمره بأن يمسكها (يمسَّها) في ذلك الطهر، فكيف يصح له أن يطلقها فيه؟ وقد ثبت النهي عن "الطلاق في طهرٍ جامعها فيه" (فتح الباري _________ (1) ذكرها الحافظ في "الفتح" (9/ 350).

(17/673)


ج 9/ ص 280) (1). وقوله في الرجعة: إنها شرعت لإمساك المرأة يُبيّنه أن الله تعالى قيَّد استحقاقها بإرادة الإصلاح، قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا}، وقال: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}، وقال: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}. وفي الحديث دليل لنا، فإنه ذكر الطلقة الثانية، ثم قال: "فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء"، ولم يذكر بعد الطلقة الثانية إلا التنبيه على الآية، ودلالة الآية ظاهرة فيما ذهبنا إليه، فلذلك ــ والله أعلم ــ اكتفى بها عن أن يقول: ثم لا تطلق الثالثة إلا إذا راجعت من الثانية، ولو كان الأمر كما قلتم لكان الظاهر أن يذكر الثالثة (2)، لأن ما قلتم خلاف ظاهر الآية (3). وأما سكوت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن تعليم ابن عمر، فالظاهر أن عمر وابنه كان يعلمان ذلك، وقد روي عنهما تحريم إيقاع الثلاث جميعًا، والظاهر أن ابن عمر كان يعلم حرمة الطلاق في الحيض، وإنما وقعت منه زلَّةٌ، ولم يعلم هو وأبوه كيف المَخْلَص منها، فلذلك سأل عمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. والله أعلم. ومما يدل على علمه ما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تغيظ لما أخبره عمر. وأما ركانة فإنه أخبر أنه إنما أراد واحدة، وحلف على ذلك، فلما تبين أنه إنما طلَّق واحدةً، لم يكن هناك باعث في الحال إلى بيان تحريم إيقاع _________ (1) (9/ 350). (2) في الأصل: "الثانية". (3) ثم يتصل الكلام بالملحق الذي في الصفحة الآتية.

(17/674)


الثلاث دفعة. وأما عبد الرحمن بن عوف فقد ثبت أنه إنما طلَّقها آخر ثلاث تطليقات كانت لها، انظر الجوهر النقي مع سنن البيهقي (ج 7/ ص 330). أقول: ولقصة ابن عمر وركانة تعلقٌ بوقوع الثلاث دفعة أو عدمه، وكذلك حديث أبي موسى، وحديث محمود بن لبيد، بل لهذا الحكم ــ أعني تحريم إيقاع الثلاث دفعة أو إباحته ــ علاقة بذلك، فانتظر بيانها في الباب الثاني، إن شاء الله تعالى. * * * *

(17/675)


[ص 1] الباب الثاني (1) في الوقوع المسألة الأولى: في وقوع الطلاق البدعي الجمهور على وقوعه (2). احتج الجمهور من القرآن بقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} الآية، وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} الآية، وقوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ} الآية، وقوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ}، وقوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} الآية، وقوله: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} الآية. قالوا: والطلاق في هذه الآيات عامٌّ يتناول الطلاق المأذون فيه وغيره؛ لأن الطلاق كلمة معروفة المعنى في اللغة، لم يخصها الشارع بالطلاق المأذون فيه. واحتجوا بقوله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} إلى قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} فأفهم أن من لم يتق الله لم يجعل له مخرجًا، أي: بل يضيق عليه، والتضييق هو أن يعتد عليه بطلاقه. _________ (1) قبله: "بسم الله الرحمن الرحيم". وهذا الباب أربع صفحات بدون ترقيم في الأصل، ورقمناه ترقيمًا جديدًا من واحد. (2) بعدها بياض في الأصل بقدر خمسة أسطر.

(17/676)


ومن السنة بحديث الصحيحين (1) وغيرهما ــ بل هو متواترٌ ــ أن ابن عمر طلَّق امرأته وهي حائض، فأخبر عمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بذلك، فقال له: "مره فليراجعها" الحديث. قالوا: والمراجعة إنما تكون بعد طلاق واقع. قالوا: وقد أخرج ابن وهب في مسنده (2) عن ابن أبي ذئب، أن نافعًا أخبره: أن ابن عمر طلَّق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن ذلك فقال: "مره فليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر"، قال ابن أبي ذئب في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "وهي واحدة". قال ابن أبي ذئب: وحدثني حنظلة بن أبي سفيان أنه سمع سالمًا يحدث عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بذلك. وأخرجه الدارقطني (3) من طريق يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب وابن إسحاق جميعًا عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "هي واحدة". (فتح الباري ج 9/ص 282 - 283) (4). وفي صحيح البخاري (5) عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال: "حُسِبَتْ علي بتطليقة". _________ (1) البخاري (5251) ومسلم (1471). (2) انظر "فتح الباري" (9/ 353). (3) "سننه" (4/ 9). (4) "فتح الباري" (9/ 353). (5) رقم (5253).

(17/677)


قال المانعون: أما عموم الآيات فيخصه قوله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}، فدل اتفاقًا على أن المأذون فيه هو الطلاق للعدة، فما وقع من صورة طلاق وليس للعدة فهو غير مأذون فيه اتفاقًا. والأصل في النكاح أنه عقد لازمٌ يحب الله بقاءه، ولا يرضى قطعه، وقد مر دليل ذلك، وفي بعض الشرائع المتقدمة لا يمكن قطعه البتة، وإنما رخص الله تعالى لهذه الأمة في قطعه لشدة الحاجة إليه، فالطلاق رخصة، فإذا أوقعه الرجل كما أذن الله له وقع، وإذا أوقعه كما نهاه الله تعالى لم يقع. [ص 2] واحتج الجمهور من السنة بحديث ابن عمر المشهور بل المتواتر، ولهم فيه حجج: الأولى: قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - "فليراجعها"، والمراجعة حقيقة شرعية في ردّ الزوج لو أوقع عليها طلاقًا رجعيًا إلى عصمة نكاحه في العدة. الثانية: قوله: "ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعدُ، وإن شاء طلَّق قبل أن يمسَّ"، ولو كانت طلقته التي طلَّقها في الحيض لاغيةً لما منعه من تطليقها في الطهر الذي يليها. الثالثة: ما في الصحيحين (1) عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال: "حُسِبَتْ علي بتطليقة". قال في الفتح (2): "وقد أخرجه أبو نعيم من طريق _________ (1) البخاري (5253). وأخرجه مسلم (1471/ 11، 12) من طريق أنس بن سيرين بنحوه. (2) (9/ 352).

(17/678)


عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه مثل ما أخرجه البخاري مختصرًا وزاد ــ يعني حين طلَّق امرأته ــ: فسأل عمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن ذلك". (فتح الباري). وقال بعد ذلك (1): "النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هو الآمر بالمراجعة، وهو المرشد لابن عمر فيما يفعل إذا أراد طلاقها بعد ذلك، وإذا أخبر ابن عمر أن الذي وقع منه حُسِبت عليه بتطليقة كان احتمال أن يكون الذي حسبها عليه غير النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعيدًا جدًّا مع احتفاف القرائن في هذه القصة بذلك. وكيف يتخيل أن ابن عمر يفعل في القصة شيئًا برأيه وهو ينقل أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تغيَّظ من صنيعه؟ كيف لم يشاوره فيما يفعل في القصة المذكورة؟ ". ثم ذكر الحجة الرابعة: فقال (2): "وقد أخرج ابن وهب في مسنده عن ابن أبي ذئب أن نافعًا أخبره أن ابن عمر طلَّق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن ذلك، فقال: "مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر"، قال ابن أبي ذئب في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "وهي واحدة". قال ابن أبي ذئب: وحدثني حنظلة بن أبي سفيان أنه سمع سالمًا يحدث عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بذلك. وأخرجه الدارقطني (3) من طريق يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب وابن إسحاق جميعًا عن نافع عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "هي واحدة". _________ (1) "فتح الباري" (9/ 353). (2) المصدر نفسه (9/ 353). (3) في سننه (4/ 9).

(17/679)


وعند الدارقطني (1) في رواية شعبة عن أنس بن سيرين عن ابن عمر في القصة فقال عمر: يا رسول الله! أفتُحتسب بتلك التطليقة؟ قال: "نعم". ورجاله إلى شعبة ثقات. (فتح الباري ج 9/ص 283). وأخرج البيهقي من طريق أبي داود الطيالسي: نا ابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر: أنه طلَّق امرأته وهي حائض، فأتى عمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فذكر ذلك له، فجعلها واحدة. (سنن البيهقي ج 7/ص 326). جواب المانعين: قالوا: أما احتجاجكم بقوله: "فليراجعها" "فهو غير ناهض؛ لأن الرجعة المقيدة ببعد الطلاق عرفٌ (2) شرعيٌ متأخر، إذ هي لغةً أعم من ذلك" (سبل السلام 2/ 96) (3). أقول: في هذا الجواب نظر، فقد جاء ذكر مراجعة الرجل زوجته في أحاديث أخر، كما في حديث: "راجعْ حفصةَ فإنَّها صوَّامة قوَّامة" (4)، وحديث: "راجِعْ أمَّ ركانة" (5)، وكثر في كلام الصحابة جدًّا، فيظهر من هذا _________ (1) المصدر نفسه (4/ 5، 6). (2) في الأصل: "عرفي". (3) "سبل السلام" (3/ 171) طبعة دار الفكر. (4) قاله جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم -، كما في "الاستيعاب" (4/ 1810). وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" (8/ 84) والحارث بن أبي أسامة كما في "المطالب العالية" (4154) عن قيس بن زيد، وقيس مختلف في صحبته. انظر "فتح الباري" (9/ 286). (5) أخرجه أبو داود (2196) عن ابن عباس.

(17/680)


أن العرف جرى بذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، إذا قيل: "راجع فلان امرأته" ظهر من ذلك أنه طلَّقها، فأقلُّ ما فيه أنه حقيقة عرفية ثابتة في عهده - صلى الله عليه وآله وسلم -. فإن قيل: إذا سلم هذا، فإنما أطلقها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأن الذي وقع صورة طلاق. قلت: إنما فزع عمر وابنه إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ليبين لهم، وهذا مخالف للبيان. فإن قيل: قد بيَّن بقوله: "فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" فنبَّه بذلك على أن ما وقع من ابن عمر كان على خلاف ما أمر الله، وهذا يُشعِر بعدم وقوعه، على ما تقدم في الجواب عما احتج به الجمهور من القرآن. قلت: ليس هذا بالبين. قالوا: وأما الحجة الثانية فلا يتعين ما قلتم لاحتمال أن يكون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمره بالإمساك في ذلك الطهر معاملةً له بنقيض قصده من الاستعجال، وإظهارًا لبطلان تلك الطلقة، ولهذا ــ والله أعلم ــ أمره بأن يمس في ذلك الطهر، ولو أذن له بالطلاق فيه فطلق لحصل مقصوده من الاستعجال، ولم يظهر أثر بطلان تلك الطلقة التي طلَّق في الحيض. [ص 3] وأما الحجة الثالثة: فلم يتبين لنا متى حُسِبَتْ عليه، فقد ثبت في "صحيح مسلم" (1) عنه: "ثم طلَّقتُها لطهرها". _________ (1) رقم (1471/ 11).

(17/681)


فيحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بيَّن له حين أمره بالمراجعة أن تلك الطلقة محسوبة عليه. ويحتمل أن يكون فِهمَه من قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "فليراجعها" على ما ذكرتم في الحجتين الأولَيين. ويحتمل أن يكون بعد أن طلَّقها لطهرها أراد أن يراجعها، فبين له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حينئذٍ. ويحتمل أن يكون تركها حتى انقضت عدتها، [و] أراد أن يتزوجها فسأل، فحُسِبَتْ عليه. وفي هذا الأخير يحتمل أن يكون في حياة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فيكون الظاهر أنه هو الذي حسبها، ويحتمل أن يكون بعد وفاته - صلى الله عليه وآله وسلم -، وعلى هذا فيكون الظاهر أن غيره هو الذي حسبها. وليس هذا كقول الصحابي: "أُمِرنا بكذا"، فإن الظاهر في الأمر أنه من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأما حساب الطلقة فيكون من القاضي والمفتي. ويرجح هذا الأخير أن أكثر الروايات عن ابن عمر تدل أن حساب تلك الطلقة عليه كان باجتهادٍ ممن بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. ففي رواية (1) قال ابن عمر: "فراجعتها وحسبت لها التطليقة". وفي رواية أنس بن سيرين (2) أنه قال لابن عمر: قلتُ فاعتددتَ بتلك _________ (1) مسلم (1471/ 4). (2) المصدر نفسه (1471/ 11).

(17/682)


التطليقة التي طلقتَ وهي حائض؟ قال: "مالي لا أعتدُّ بها؟ وإن كنتُ عجزتُ واستحمقتُ". وفي رواية يونس بن جبير (1) نحوه. وفي رواية عبيد الله (2) عن نافع عن ابن عمر، قال عبيد الله: قلت لنافع: ما صَنَعتْ التطليقةُ؟ قال: "واحدة اعتدَّ بها". وفي رواية الزهري (3) عن سالم عن عبد الله بن عمر: "وكان عبد الله ابن عمر طلَّقها تطليقةً واحدة فحُسِبَتْ من طلاقها". هذا، وقد كان القول بعدم الوقوع مشهورًا حينئذٍ على ما قال في "الفتح" وعبارته (4): "قوله: "باب إذا طلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق" كذا بتَّ الحكمَ بالمسألة، وفيها خلاف قديم عن طاوس وعن خِلاس بن عمرو وغيرهما، ومن ثمَّ نشأ سؤال من سأل ابن عمر عن ذلك". (فتح الباري ج 9/ص 281). فعدم تنصيص ابن عمر ثم ابنه سالم ومولاه نافع بنص صريح مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على حسب تلك الطلقة مع تكرار السؤال واشتهار الخلاف= ظاهرٌ في أنه لم يكن عند ابن عمر نص صريحٌ، وسيأتي ما يؤكد هذا. _________ (1) المصدر نفسه (1471/ 9). (2) المصدر نفسه (1471/ 2). (3) المصدر نفسه (1471/ 4). (4) "فتح الباري" (9/ 351).

(17/683)


وأما الحجة الرابعة؛ فصنيع الدارقطني في "سننه" (1) يدل أنه يرى أن ذكر الواحدة في حديث ابن أبي ذئب إنما أصله أن ابن عمر طلَّق واحدة، أي: لم يطلق ثلاثًا، فإنه ساق من طريق أبي الزبير قال: سألت ابن عمر عن رجل طلَّق امرأته ثلاثًا وهي حائض، فقال: أتعرف ابن عمر؟ قال: قلت: نعم، قال: طلقت امرأتي ثلاثًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهي حائض فردها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى السنة". ثم قال (2): "هؤلاء كلهم من الشيعة، والمحفوظ أن ابن عمر طلَّق امرأته واحدة في الحيض". ثم ساق (3) رواية عبيد الله عن نافع عن عبد الله: "أنه طلَّق امرأته وهي حائض تطليقة". ثم قال (4): "وكذلك قال صالح بن كيسان وموسى بن عقبة وإسماعيل بن أمية وليث بن سعد وابن أبي ذئب وابن جريج وجابر وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن نافع عن ابن عمر: "أنه طلَّق امرأته تطليقة واحدة"، وكذلك قال الزهري عن سالم عن أبيه، ويونس بن جبير والشعبي والحسن". [ص 4] ثم ساق الأحاديث مستدلًّا على ذلك (5)، فذكر رواية عبيد الله _________ (1) (4/ 7). (2) المصدر نفسه (4/ 7). (3) المصدر نفسه (4/ 7). (4) المصدر نفسه (4/ 7). (5) المصدر نفسه (4/ 7 وما بعدها).

(17/684)


عن نافع، ثم رواية يونس بن جبير عن ابن عمر، ثم رواية إسماعيل بن أمية عن نافع، ثم رواية صالح عن نافع، وفي طريق منها: "نا نافع أن ابن عمر إنما طلَّق امرأته تلك واحدة" (1). وعقبه من طريق يزيد بن هارون أنا محمد بن إسحاق وابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر أنه طلَّق امرأته في عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهي حائض، فذكر عمر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم ذكر نحوه. وقال ابن أبي ذئب في حديثه: هي واحدة، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" (2). ثم ذكر رواية موسى بن عقبة عن نافع، ثم رواية جابر عن نافع (3). فيظهر مما ذكرناه أن الذي فهم الدارقطني من ذكر الواحدة في رواية ابن أبي ذئب: أن المقصود منها أن ابن عمر إنما طلَّق واحدة لا ثلاثًا، وهذا هو الموافق لرواية الجماعة عن نافع. وأما رواية البيهقي من طريق الطيالسي فهي لعمر الله ظاهرة فيما ذهبتم إليه، ولم نجد هذا الحديث في مسند الطيالسي، والطيالسي إمام حافظ ولكنه كثير الخطأ (4). قال أبو مسعود: "يخطئ"، وأقره أحمد على هذا القول. _________ (1) المصدر نفسه (4/ 9). (2) المصدر نفسه (4/ 9). (3) المصدر نفسه (4/ 10). (4) انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" (4/ 183 ــ 185). وفيه أقوال النقاد المذكورة.

(17/685)


وقال ابن عدي: "يخطئ في أحاديث منها، يرفع أحاديث يوقفها غيره، ويوصل أحاديث يرسلها غيره، وإنما أتي ذلك من حفظه". وقال ابن سعد: "ربما غلط". وقال أبو حاتم: "كان كثير الخطأ". أقول: ومن قارن الأحاديث التي في مسنده بنظائرها مما يرويه غيره، وجد اختلافًا كثيرًا في المتون، وكأنه كان يروي بالمعنى، فاختصر حديث ابن أبي ذئب، وبنى على ما فهمه فقال: "فجعلها واحدة". والله أعلم. نعم، قال (1) بعد ذلك: "نا أبو بكر نا عياش بن محمد نا أبو عاصم عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "هي واحدة". كذا وقع في النسخة "عياش"، وأحسبه "عباس" وهو الدوري، فإن كان هو فكلهم ثقات، ولكن ابن جريج مشهور بالتدليس، ومع هذا فقد أعرض الدارقطني عن ظاهر هذه الرواية وألحقها برواية الجماعة عن نافع ــ كما تقدم ــ أي أن ذكر الواحدة في الحديث إنما هو في أن ابن عمر طلَّق واحدة. وأما حديث الدارقطني من طريق شعبة عن أنس بن سيرين الذي قال الحافظ (2): "ورجاله إلى شعبة ثقات"، فقال الدارقطني (3): "نا عثمان بن أحمد الدقاق نا عبد الملك بن محمد أبو قلابة نا بشر بن عمر نا شعبة" فذكره. _________ (1) أي الدارقطني في "سننه" (4/ 10). (2) في "الفتح" (9/ 353). (3) في "السنن" (4/ 5).

(17/686)


فأما الدقاق، ويقال له: السماك وابن السماك، فثقة، وغمزه الذهبي في الميزان (1) بما لا يجرحه. وأما أبو قلابة فثقة، ولكن قال الدارقطني نفسه (2): صدوق كثير الخطأ في الأسانيد والمتون، كان يحدث من حفظه، فكثرت الأوهام في روايته. وقال الحاكم عن الدارقطني: لا يحتج بما ينفرد به، بلغني عن شيخنا أبي القاسم ابن بنت منيع أنه قال: عندي عن أبي قلابة عشرة أجزاء، ما منها حديث مسلَّم إما في الإسناد، وإما في المتن، كان يحدث من حفظه فكثرت الأوهام فيه". وقال ابن خزيمة: حدثنا أبو قلابة القاضي أبو بكر (3) بالبصرة قبل أن يختلط ويخرج إلى بغداد. أقول: والدقاق بغدادي، وكانت وفاة أبي قلابة سنة (276)، ووفاة الدقاق سنة (344)، أي بعد وفاة أبي قلابة بثمانٍ وستين سنة، فيظهر من هذا أنه إنما سمع من أبي قلابة بأخرة. ثم رأيت السخاوي في "فتح المغيث" (4) قد صرح بذلك، فقال عند قول العراقي في فصل معرفة من اختلط من الثقات: "وكالرقاشي أبي قلابة": "وممن سمع منه أخيرًا ببغداد: أبو عمرو عثمان بن أحمد السماك، وأبو بكر _________ (1) (3/ 31). (2) كما في "تهذيب التهذيب" (6/ 420). وفيه بقية الأقوال المذكورة هنا. (3) كذا في "التهذيب" بزيادة "أبو بكر"، ولا وجود لها في "تاريخ بغداد" (10/ 426). (4) (4/ 378) طبعة الهند.

(17/687)


محمد بن عبد الله الشافعي، وغيرهما، فعلى قول ابن خزيمة سماعهم منه بعد الاختلاط" (فتح المغيث ص 489). وحديث شعبة عن أنس بن سيرين في الصحيحين (1) وغيرهما من طرق كثيرة، والذي فيه أن أنس بن سيرين هو الذي سأل ابن عمر فأجابه، فوهم أبو قلابة على بشر عن شعبة في قوله: إن السائل هو عمر سأل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، الله أعلم. وقد ذكر الدارقطني (2) حديثًا آخر يشبه هذا قال: "نا عثمان بن أحمد الدقاق نا الحسن بن سلام نا محمد بن سابق نا شيبان عن فراس عن الشعبي قال: طلَّق ابن عمر امرأته وهي حائض، فانطلق عمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأخبره، فأمره أن يراجعها، ثم يستقبل الطلاق في عدتها، وتحتسب بهذه التطليقة التي طلَّق أول مرة". وأخرجه البيهقي (3) من طريق ابن أبي خيثمة قال: "ثنا محمد بن سابق أبو جعفر إملاءً من كتابه" فذكره. (سنن البيهقي ج 7/ص 326). أقول: ابن سابق وشيبان وفراس كلهم من رجال الصحيحين، لكن في مقدمة "فتح الباري" (4) في ترجمة ابن سابق: "وثقه العجلي، وقواه أحمد بن حنبل، وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقة، وليس ممن يوصف بالضبط، وقال _________ (1) البخاري (5252) ومسلم (1471/ 12). (2) (4/ 11). (3) (7/ 326). (4) (ص 439).

(17/688)


النسائي: لا بأس به، وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ضعيف. قلت: ليس له في البخاري إلا حديث واحد ... وقد تابعه عليه عنده عبيد الله بن موسى". وفي شيبان وفراس كلام يسير غير قادح، إلا أن الحديث مرسل، فإن الشعبي تابعي لم يدرك القصة. وهذا يشبه ما رواه عطاء عن ابن الحنفية (1): أن عمارًا مرَّ بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - .. إلخ. وقد حكم عليه يعقوب بن شيبة بالإرسال. ونحوه ما رواه عكرمة بن عمار عن قيس بن طلق (2): أن طلقًا سأل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وقد قال البيهقي (3): منقطع لأن قيسًا لم يشهد سؤال طلَّق. وهكذا قول ضمرة عن عبيد الله بن عبد الله (4): أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي. وقد نص ابن خزيمة على انقطاعه. ولهذا قال الإمام أحمد: إن "عن عروة أن عائشة" قالت: يا رسول الله، و"عن عروة عن عائشة" ليسا سواء. (انظر فتح المغيث ص 68 - 69) (5). _________ (1) أخرجه النسائي (3/ 6). (2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 135) و"المعرفة" (1/ 411). (3) "معرفة السنن والآثار" (1/ 411). (4) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (3/ 294). (5) "فتح المغيث" (1/ 196 ــ 198) طبعة الهند.

(17/689)


له الحمد (1): هذه القضية قد عُرِضتْ علي قبل مدة، وأجبت بما ظهر لي، وذكرت [قول] أصحابنا الشافعية: أن الزوجين إذا ادّعيا بعد الطلاق الثلاث أن النكاح الأول كان بشهادة فسَّاق، وغرضهما أن يثبت بطلانه في مذهب الشافعي، لكي يعقدا عقدًا جديدًا بدون تحليل، لم يسمع القاضي الشافعي دعواهما، ولم يقبل منهما بينة. ولم يظهر لي بعدُ ما يخالفه، وأرى أن التسهيل من هذا الوجه مخالفٌ لمقاصد الشريعة، ومفتاح فساد لتخريب حدودها، فإن كان الزوجان يريدان الترخص، فأقرب الطرق وأشبهها بالحق: تقليد من يقول من أهل العلم: إن الطلقات التي لم تتخللها رجعة إنما تحسب طلقة واحدة. القاضي أبو القاسم الداودي: إن الوداد لدى أناسٍ خدعة ... كوميضِ برقٍ في جَهامِ غَمامِ فهو المقال الفرد عند القوم كالـ ... إيمانِ عند محمدِ بن كِرَام (الإعجاز والإيجاز ص 266). _________ (1) كذا في آخر الكتاب في صفحة مستقلة، وألحقناه بالكتاب لأنه في موضوعه.

(17/690)


الرسالة العشرون

  رسالة في المواريث

(17/691)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه. فصل فيما كان عليه التوريث في الجاهلية، وكيف أبطل الله تعالى ما فيه من الجور كنتُ أريد أن أُثبِتَ في هذا الفصل ما وقفتُ عليه من الآثار في هذا المعنى، ولكن رأيتُ ذلك يطول، مع ما يستدعي منّي من التصحيح والترجيح والتأويل والتعويل، فاكتفيتُ بالإجمال عن التفصيل. قد تضافرت الآثارُ أن أهل الجاهلية لم يكونوا يُورِّثون النساء والضعفةَ، وفي "صحيح البخاري" (1) وغيره عن ابن عباس قال: "كان المال للولد، والوصية للوالدين والأقربين ... ". قوله: "كان المال للولد" أي في الجملة، فإنما كان للذكور الكبار منهم، كما تدلُّ عليه سائر الآثار، وسيأتي بعضها. فمن تأمل الآثار ومناسبة الآيات تبيَّن له أن ترتيبها على ما يأتي: 1 - آية الوصية. 2 - آية الوصية للزوجة. _________ (1) رقم (2747، 4578). وأخرجه أيضًا الطبري (6/ 459) وابن المنذر (1433) وابن أبي حاتم (3/ 880) في تفاسيرهم، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 226).

(17/693)


3 - {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ ... } الآيات. 4 - {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]. 5 - {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ ... } [النساء: 33]. 6 - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا ... وَأُولُو الْأَرْحَامِ} [الأنفال: 72 - 75]. 7 - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ... }. فلنبدأ بتفسير الآيات على هذا الترتيب، ثم نقتصُّ أثر الجَيْراجي على حسب ترتيبه. * * * *

(17/694)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه أستعين، وصلى الله وسلَّم وبارك على عبده ونبيه وخليله محمد وآله وصحبه، آمين. قال الله تبارك وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180]. قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا}، فُسِّر الخير بالمال، وفُسِّر بالمال الكثير. أخرج جماعة (1) عن علي رضي الله عنه أنه دخل على مولًى له في الموت، وله سبعمائة درهم، فقال: ألا أُوِصي؟ قال: لا، إنما قال الله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا}، وليس لك كثيرُ مالٍ، فدَعْ مالك لورثتك. وأخرج ابن أبي شيبة (2) أن رجلاً قال لعائشة رضي الله عنها: أريدُ أن أوصي، قالت: كم مالُك؟ قال: ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالُك؟ قال: أربعة، _________ (1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنَّف" (16351) وسعيد بن منصور (251 ــ تفسير) وابن أبي شيبة في "المصنف" (11/ 208) والطبري في "تفسيره" (3/ 136، 137) وابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/ 298) والحاكم في "المستدرك" (2/ 273، 274) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 270)، وصححه الحاكم (1/ 298)، فتعقبه الذهبي بقوله: فيه انقطاع. (2) في "المصنف" (11/ 208). وأخرجه أيضًا سعيد بن منصور في "سننه" (248 ــ تفسير) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 270). وإسناده صحيح.

(17/695)


قالت: قال الله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا}، وهذا شيء يسيرٌ، فاتركْه لعيالك فهو أفضل. ........................... كانوا رضي الله عنهم يرون أن آية الوصية كُتِب فيها الوصية من المال الكثير للوالدين وعامة الأقربين، وآية الميراث نسختْها بالنسبة للوالدين وبعض الأقربين فبقي بقية الأقربين داخلين في آية الوصية. وعندي أنها منسوخة بالنسبة لبقية الأقربين أيضًا، وأُقيمَ مقامَ ذلك قولُه تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى ... } [النساء: 8] كما يأتي إن شاء الله تعالى. {الْوَصِيَّةُ} هي الاسم من أوصى يوصي، وأصلها: أمْرُك من أنت غائبٌ عنه أو ستغيب بأمرٍ يفعله في الغَيبة، ويقال: أوصيتُ زيدًا بالصدقة، كما يقال: أمرتُه بها. ويقال: أوصيتُ لزيدٍ بمالٍ، كما يقال: أمرتُ له بمالٍ. {لِلْوَالِدَيْنِ} اللام في قوله: {لِلْوَالِدَيْنِ} تحتمل معنيين: وذلك أنه مما تقرر في العربية أن الفعل الذي يتعدى بنفسه يجوز في مصدرِه واسم مصدره ونحوِهما التعديةُ باللام دائمًا، وبنفسه بشرطه. قال ابن مالك في "الخلاصة" (1): _________ (1) "الألفية" بشرح ابن عقيل (3/ 93).

(17/696)


بفعلِه المصدرَ أَلحِقْ في العملْ ... مضافًا أو مجرّدًا أو معَ الْ إن كان فعلٌ مع أنْ أو ما يَحُلّ ... محلَّهُ ولاسْمِ مصدرٍ عَمَلْ قال الشارح (1): "وإعمالُ المضاف أكثرُ من إعمال المنوَّن، وإعمالُ المنوَّن أكثر من إعمال المحلَّى بألْ". واتفقوا على أنه إذا لم يُعَدَّ بنفسه يُعدَّى باللام. ولفظ "وصية" اسم مصدرٍ من أوصى، فيجوز تعديته إلى المفعول باللام، فإذا كان محلَّى بألْ فالغالب أو الواجب أن لا يُعدَّى بنفسه، بل يُعدَّى باللام. يقول: على كل مسلم الوصيةُ للمسلمين بالتقوى، وعلى هذا فمعنى الآية: كُتِب عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ إن ترك خيرًا أن يوصيَ الوالدين والأقربين بالمعروف. والمقصود أن يُوصي المحتضر والدَيهِ وأقاربَه بأن يبذلوا المعروفَ من ترِكتِه من صدقةٍ ونحوها، فتكون هذه الآية مشابهةً لقوله عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 8]. وهذا المعنى مستقيم كما تراه، إلّا أنه مخالف لحديث البخاري وغيره عن ابن عباس (2)، كما يأتي مع ما سيأتي من أدلة النسخ، فمَن لم يُسلِّم أدلة _________ (1) هو ابن عقيل، انظر شرحه (3/ 94). (2) سبق تخريجه (ص 693).

(17/697)


النسخِ فلا محيصَ له عن تسليم احتمال الآية لهذا المعنى، والله الموفق. فهذا أحد المعنيين اللذين يحتملهما اللام. المعنى الثاني ــ وهو المشهور ــ: أن اللام هي التي في نحو أوصيتُ لزيدٍ بمالٍ، فمعنى الآية عليه: كُتِب عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ إن تركَ خيرًا أن يوصي للوالدين .... ، وعلى هذا المعنى نبني البحث بعون الله تعالى. (للوالدين) هو مثنَّى والدٍ ووالدة، و"والدة" اسم فاعل من ولَدتْ تَلِدُ ولادةً: إذا وضعت حملَها، فهي والدةٌ ــ اسم فاعل ــ ووالدٌ أيضًا، حكاه ثعلب (1). تُرِك التاء لأمْنِ اللَّبْس، كما قالوه في حامل وحائض وطالق. فأما الذكر فإنه طبعًا لا يلد؛ إذ لا يكون منه في التسبُّب للولد ما يَصدُق عليه ولادة على الحقيقة، وإنما يُقال: وُلِدَ له. قال الله تبارك وتعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233]. وقد جاء نسبة الولادة إلى غير الأنثى، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد: 3]، وهو مجازٌ مرسل علاقتُه السببية، كما يقال: بنى الأمير المدينةَ، أي أمر ببنائها. ثمّ جرَّدوا لفظ "والدة" عن الوصفية، فأطلقوه على الأم مع عدم ملاحظة الوصفية، يقال: هذه والدتي، بمعنى أمي لا بمعنى التي ولدتْني. ويُبيِّن لك _________ (1) كما في "تاج العروس" (ولد).

(17/698)


الفرقَ تصوُّرُ الولادة عند قولك: "التي ولدتْني" حتمًا، بخلاف الحال عند قولك: "أمي". وبهذا الاعتبار أُطلِق على الأب "والد" ثم ثَنَّوهما فقالوا: "والدانِ" تغليبًا. ومَن زعم أنه لا تغليبَ لحكاية ثعلب المتقدمة فقد غفلَ؛ لأن "والد" في حكاية ثعلب وصفٌ لا اسمٌ، والوالدان اسمٌ لا وصف. وأيضًا التثنية واردة في الكلام بكثرةٍ، وحكاية ثعلب نادرة. بقي أنه قد يقال للجدّ وإن علا: "والد"، وللجدة وإن علَتْ: "والدة"، والجيراجي (1) يزعم أنه حقيقة، والحق أنه مجاز بدليل العلامات التي ذكرها أهل العلم للتفرقة بين الحقيقة والمجاز. وسيأتي ما يتعلق بهذا في بحث الأولاد إن شاء الله تعالى. {وَالْأَقْرَبِينَ} فصل في معنى "الأقربين" في المواضع كلِّها الأقربون يحتمل أن يُفسَّر على ثلاثة معانٍ: المعنى الأول: الأشخاص الذين كلُّ واحدٍ منهم أقربُ من سائر الناس مطلقًا، فلا يصدُق على ابن الابن والجدّ؛ لأن الابن أقرب منهما، وإنما يصدُق على الأبوين والبنين. المعنى الثاني: الذين كلُّ واحدٍ منهم أقرب من سائر الأحياء عند الموت. _________ (1) في كتابه "الوراثة في الإسلام" (ص 36).

(17/699)


المعنى الثالث: الأشخاص الذين هم من حيث المجموع أقربُ من غيرهم، وإن كان بعضهم أقربَ من بعض، أو قُل: الذين كلُّ فردٍ منهم أقربُ ممن ليس من الأقارب. وأرجح هذه المعاني: الثالث؛ لأنه هو المتبادر، فإنك إذا قلتَ: هؤلاء أقاربُ زيدٍ، لم يُفهَم منه إلا المعنى الثالث. والأقارب والأقربون واحدٌ، بل لا نعلم لفظ "الأقربين" جاء لغير المعنى الثالث. وهاك إثبات مجيئه بالمعنى الثالث. 1 - اقتصر عليه أهلُ اللغة، قالوا ــ والعبارة "للقاموس" (1) ــ: "وأقرباؤك وأقاربك وأقربوك: عشيِرتك الأدنَونَ". وقال في العشيرة (2): "وعشيرة الرجل: بَنُو أبيه الأدنَونَ أو القبيلة". وكذا في "اللسان" (3) إلّا أنه قال: "وقيل: القبيلة". وفي "شرح القاموس" (4) في "شعب": أن ترتيب بيوت العرب: شَعْب، فقبيلة، فعمارة، فبطن، ففخذ، ففصيلة". ونقل عن بعضهم أن الفصيلة هي العشيرة، وعن آخر أن العشيرة دون الفصيلة. وعلى كلِّ حالٍ فلا أقلّ من العشيرة، وهذا هو الصواب. وأما قولهم: "وقيل: هي القبيلة"، فكأن قائله ــ والله أعلم ــ أخذه من _________ (1) (1/ 114) ط. بولاق. (2) (2/ 90). (3) (6/ 250) ط. بولاق. (4) "تاج العروس" (3/ 134) ط. الكويت.

(17/700)


قوله عزَّ وجلَّ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، مع ما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند نزولها أنذرَ قريشًا أجمعَ (1). وهذا يحتمل التأويل، قال الحافظ في "الفتح" (2): يحتمل أن يكون أولًا خَصَّ اتباعًا لظاهر القرآن، ثم عمَّ لما عنده من الدليل على التعميم، لكونه أُرسِل إلى الناس كافَّةً. أقول: وعلى هذا فالوصف في الآية كاشفٌ فقط، بل ليس بوصفٍ، وإنما هو بدلالة الأقربين قد تجرَّد عن الوصفية، وغلب في استعمالِه استقلالُه. ويؤيد هذا أنه لو كان وصفًا لطابق لفظ "العشيرة"، بأن يقال: "القُربَى" مثلًا. ومما يؤيِّد أن العشيرة اسم لأقلِّ العقود في النسب قولُه تعالى في التوبة: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ ... } الآية [24]، وقوله عزَّ وجلَّ في سورة المجادلة: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} الآية [22]. ويؤيده أيضًا أن اشتقاقه من العَشرة، وهي أول عَقدٍ في العدد. هكذا ينبغي توجيه الاشتقاق، فالعشيرة أولُ عقدٍ في النسب، وكذلك الأقربون. وقد أوضح الإمام الشافعي معنى هذا في "الأم" في باب الوصية للقرابة (ج 4 ص 38) (3)، فمثَّل بنسبِ نفسه، فذكر أولًا بني عبد مناف، ثم _________ (1) أخرجه البخاري (2753، 3527، 4771) ومسلم (204، 206) عن أبي هريرة. (2) (5/ 382، 383). وفيه: "اتباعًا بظاهر القرابة" وهو تصحيف. (3) (5/ 239) ط. دار الوفاء.

(17/701)


ذكر أنهم تفرقوا، ومن جملة الفِرق بنو المطلب، ثم أخذ يُسلْسِلُهم إلى أن بلغ ببني السائب بن يزيد، فذكر أنهم تفرقوا إلى: بني شافع وبني علي وبني عباس، ثم قال: "فإذا كان من آلِ شافعٍ فقال: لقرابته (1)، فهو لآلِ شافعٍ دونَ آل علي وآل عباس، وذلك أن هؤلاء يتميزون ظاهرَ التمييز من البطن الآخر، يعرف ذلك منهم إذا قصدوا آباءهم دونَ الشعوب والقبائل في آبائهم، وفي تناصرهم وتناكحهم". فالحاصل أن الأقرباءَ والأقارب هم أدنى فصيلةٍ للرجل يختصون باسم، ولا عبرة بعدد الآباء. ففي مثال الشافعي لم يكن بنو السائب أقاربَه، لأنهم قد تفرعوا فروعًا اختصَّ كلُّ منهم باسم ........................................ ................................................. بخذلانهم في واقعة شعب ....... بل كان أقاربه - صلى الله عليه وسلم - بني هاشم؛ لأنهم ............ بني المطلب لمكان الموالاة، [كما] في "صحيح البخاري" (2) عن جبير بن مطعم. وأقول: كان بنو عبد منافٍ شَعبًا واحدًا، فتفرعوا، فلما جاء الإسلام وخذل ... عبد مناف بني هاشم وبني المطلب، لم يكن بُدٌّ من التميز .... ، والله أعلم. 2 ــ في "الصحيحين" (3) عن أنس في قصة أبي طلحة في تصدُّقِه ببَيْرُحَاء أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال له: " ... وإني أرى أن تجعلها في الأقربين". قال _________ (1) أي إذا أوصى بماله فقال: "هو لقرابتي". (2) رقم (3140، 3502، 4229) بلفظ: "إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد". (3) البخاري (1461) ومسلم (998).

(17/702)


أنس: فقال أبو طلحة: أفعلُ يا رسولَ الله، فقسمَها أبو طلحة في أقاربِه وبني عمّه". وفي أكثر الروايات أنه جعلها لحسان بن ثابت وأُبي بن كعب، وحسَّان أقربُ إليه. وفي رواية للبخاري (1): "فجعلها أبو طلحة في ذوي رحمه، وكان منهم حسَّان وأُبي بن كعب". وجاء من وجهٍ ضعيفٍ (2) زيادةُ أوس بن ثابت أخي حسان، أو ابنه شدّاد بن أوس ونبيط بن جابر، وهؤلاء الأربعة يجمعهم مع أبي طلحة مالك بن النجّار، وبعضهم أقرب إلى أبي طلحة من بعضٍ. والظاهر أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أخذ الجواب من قول الله عزَّ وجلَّ: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ... }. وكان والدا أبي طلحة قد توفيا، وبنو مالك بن النَّجار هم أقربُ فصيلةٍ لأبي طلحة. 3 - وفي "الصحيحين" (3) عن ابن عباس قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الصفا، فجعل ينادي: "يا بني فِهر! يا بني عدي! ... " لبطون قريش. ونحوه في "الصحيحين" (4) أيضًا عن أبي هريرة، وذكر فيه: "يا معشر قريش! يا بني عبد مناف! يا بني عباس بن عبد المطلب! يا صفية عمة _________ (1) رقم (2758). (2) ذكره محمد بن الحسن بن زبالة في كتاب المدينة كما في "الفتح" (5/ 381). (3) البخاري (4801، 4971) ومسلم (208). (4) البخاري (2753، 3527، 4771) ومسلم (204، 206).

(17/703)


رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -! يا فاطمة بنت محمد! ". وقد قدمنا توجيهه في الكلام على العشيرة. ثم إن المعنى الأول لا يصح في آية الوصية؛ لحديث البخاري (1) وغيره عن ابن عباس قال: "كان المال للولد، والوصية للوالدين والأقربين". وسيأتي إن شاء الله تعالى أن حُكمه الرفع. وهو صريح في أن الولد لم يدخلوا في الأقربين، فلم يبقَ إلا الوالدان، وقد ذُكِرا نصًّا، فلا تبقى فائدة لذكر الأقربين، بل يكون في معنى عطف الشيء على نفسه. وكذا لا يأتي في قوله عزَّ وجلَّ: {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] على تفسير {أَنْفُسِكُمْ} بأولادكم، ويشهد له ظاهر لفظ {شُهَدَاءَ} وأن الاعتراف قد تضمنه قوله: {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}. وكذا لا يأتي في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 215]، فإنهم إنما سألوا عن النفقة التي هي من قبيل الصدقة، ونفقتهم على أولادهم داخلة في نفقتهم على أنفسهم، وإذا كبر الأولاد فالغالب أن يكونوا مستولين على أموال آبائهم، أو يكون الوالدان قد شاخا وعجزا والأولاد أغنياء أو أقوياء، فيكون الوالدان هما المحتاجين إلى أولادهما. _________ (1) رقم (2747، 4578).

(17/704)


على أن حديث أنس السابق هو في معنى تفسيرٍ لهذه الآية، وقد علمتَ أنه لا يأتي إلا على المعنى الثالث. والمعنى الثاني ــ مع ما فيه من التقييد المخالف للظاهر، وكون الأدلة التي ذكرناها في ترجيح المعنى الثالث تردُّه ــ يلزم عليه مخالفةُ آيات المواريث لآية الوصية في المستحقين. وبيانه: أن الأقربين في آية الوصية وارثون، وفي آيات الميراث موروثون، فمعنى آية الوصية على المعنى الثاني: أن يوصي المحتضر للوالدين والأشخاص الذين هم أقربُ إليه عند الاحتضار. فيخرج ابن الابن إذا كان هناك ابن آخر أو بنت أو أب، فلا يكون ابن الابن على هذا مستحقًّا. ومعنى آية الميراث: للرجال نصيبٌ يَرِثُه كلٌّ منهم مما ترك والداه أو شخص أقربُ إليه ممن ترك بعده، فيدخل الجدّ في المثال المتقدّم، فيكون ابن الابن في ذلك المثال مستحقًّا. وكذلك يخرج من آية الوصية ابنُ الأخ إذا كان لعمّه المحتضر أولاد؛ لأنه ليس بأقرب إلى عمّه المحتضر، ولكنه يدخل في آيات الميراث، لأن المتوفى أقرب إليه ممن ترك بعده إذا كان ابن الأخ منقطعًا. وهناك صورٌ أخرى لا نُطيل بذكرها. وهذا كافٍ في إبطال المعنى الثاني في آيات الوصية والميراث، لأن آية الوصية كانت قائمة مقامَ بعض التوريث عندنا، وقائمة مقام التوريث أبدًا عند الجيراجي، فيجب عدمُ مخالفتها لآيات المواريث في تعيين المستحقين. ويحتمل أن يُورَد على المعنى الثالث أمورٌ: منها: أن الظاهر أنه بمعنى "ذوي القربي"، لم يقصد التفضيل فيه مع أن الصيغة صيغة التفضيل.

(17/705)


ومنها: أن المعروف في المواريث أنه لو انقرضَ آلُ شافع في مثال الشافعي إلا واحدًا فمات، وعرف عصبة من الفريقين الآخرين آل علي وآل عباس، دُفِع ميراثه إليه، مع أن الآية خصَّت الأقربين. ومنها: أنه يكون ظاهر العموم استحقاق كلِّ واحدٍ منهم ولو اجتمعوا، وهو غير مرادٍ قطعًا. والجواب عن الأمر الأول: أنهم وإن لم يكن كل واحد منهم أقرب مطلقًا فالمجموع أقربون. بل نقول: إن كل واحدٍ أقرب أي ممن لم يدخل في المجموع، كما إذا قلنا: إن أقارب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هم بنو هاشم، فإننا نقول: أبو سفيان بن الحارث أقرب من أبي سفيان بن حرب. ومع هذا فقد ثبت ورود "الأقربين" بالمعنى الثالث كما قدَّمناه، وورد نظيره في احتمال ورود هذا الاعتراض عليه، كقولهم في تفسير "العشيرة": بنو أبيه الأدنَون بصيغة التفضيل. وعن الأمر الثاني: بأن الآية خرجت مخرجَ الغالب، والغالب أن العشيرة لا ينقرض كلُّها. ومع هذا فالآيات لم تنزل للتحديد المفصّل، وإنما نزلت في مقاماتٍ لا يضرُّ في مثلها الإجمال. أما في آية الوصية فلأنها كانت موكولةً إلى نظر الموصي يجتهد رأيه، وقد علم الله عزَّ وجلَّ أنها ليست حكمًا دائمًا، وإنما هي تدريج اقتضته الحكمة، فاغتُفِر ما يقع فيه من الجنف والإثم، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وأما في آيات المواريث فلأن قوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 33]، وقوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ

(17/706)


وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 7] هو مجمل على كل حال؛ لأن النصيب مجهول يحتاج إلى بيان، وبيان النصيب لابدّ أن يصحبه بيان المستحقين. وعن الأمر الثالث: بأن تخصيص العمومات غير مستنكر، وقد قيل: ما من عامّ إلّا وقد خُصِّص. وهذا اللفظ ــ أعني "الأقربين" ــ لابدّ من تخصيصه على كل حال، حتى لو حُمِل على أحد المعنيين الأولين، وذلك في الكافر والقاتل. وعلى المعنى الثاني لابدّ من التخصيص؛ لأنه يدخل في آيات المواريث ابنُ الأخ المنقطع وإن كان لعمّه المتوفى أولاد، وكذا يدخل الأخ للأم مع وجود الأولاد والأب، ويخرج العمّ الذي له ولد ولو لم يكن هناك وارثٌ غيره، لأن ولده أقرب إليه من الميت، وغير ذلك. وقال الجيراجي (ص 25): "والمراد بالأقرب أن لا تكون واسطة بينه وبين المورث، إما مطلقًا، أو كانت لكن انتفت قبل وفاة المورث". فإن أراد أن هذا معنى مستقل للأقربين فممنوع، وإن أراد المعنى الثاني بعد إخراج بعض الصور بالتخصيص ففيه ما تقدم. على أنه قال في (ص 11): "لأن قرابة بني الأعيان إلى المورث من جهتي الأب والأم معًا، فهم أقربون إليه من بني العلّات". الظاهر أنه يريد الاستدلال بالقرآن على حَجْبِهم، فكان الصواب أن يقول: لأنه أقرب إليهم منه إلى بني العلات. وعلى كل حالٍ فهذا معنى آخر غير الذي قدَّمه، فإن هذا مبني على أن الأفضلية .... القرابة، وما تقدم مبني على الأفضلية في قرب القرابة، وهما معنيان متنافيان، فإن تلخيص الأول

(17/707)


كون الميت أقرب إلى الشخص ممن ترك بعده، وبعد التخصيص أن لا يكون بينهما واسطة الشخص ممن ترك بعده، وبعد التخصيص أن لا يكون بينهما واسطة حية، وتلخيص الثاني كون الميت أقربَ إلى الشخص منه إلى غيره. وبَنى على الأول توريثَ ابنِ الابن مع ابنٍ آخر، وعلى الثاني حَجْبَ الإخوة لأمٍّ بالأشقّاء والإخوة لأب، وحَجْبَ الإخوة لأبٍ بالأشقّاء. وأنتَ إذا تأملتَ وجدتَ صنيعَه متناقضًا، فإن الميت وإن كان أقربَ إلى ابنِ ابنِه من سائر الناس، فإنه ــ أعني الميت ــ أقربُ إلى ابنه منه إلى ابن ابنه. والميت وإن كان أقرب إلى شقيقه منه إلى أخيه لأبيه، فهو أقرب إلى أخيه لأبيه من سائر الناس. الحاصل أن الميت وإن كان أقربَ إلى ابنِ ابنهِ بالمعنى الأول، فليس بأقربَ إليه بالمعنى الثاني، وهو وإن لم يكن أقربَ إلى أخيه لأبيه بالمعنى الثاني، فهو أقرب إليه بالمعنى الأول. فتوريثُ الجيراجي ابنَ الابن مع ابنٍ آخر ــ مع إسقاطه الأخَ لأمٍّ بالشقيقِ أو الأخ لأبٍ، وإسقاطه الأخَ لأبٍ بالشقيقِ ــ متناقضان، واحتجاجه بالآية في الموضعين تهافُتٌ كما تراه. وعلى كلِّ حال فكلا المعنيين مردود لما قدَّمنا. واعلم أن الأقربين بالمعنى الثالث لا يدخل فيهم الوالدان ولا الأولاد، بدليل أنك إذا قلتَ: هؤلاء أقاربُ زيدٍ تبادر إلى الذهن أنه ليس له فيهم ولد ولا والد. ووجهُ ذلك ــ والله أعلم ــ شدّةُ قرب الولد والوالد، حتى كأنهما مع الشخص شيء واحد، كما يتحصل مما مثَّل به الصحابة رضي الله عنهم في مسألة الجد والإخوة.

(17/708)


وما استدلّ به على دخولهم من حديث "الصحيحين" (1) في إنذاره - صلى الله عليه وآله وسلم - ابنتَه عليها السلام مع مَن أنذر عند نزول قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} مدفوعٌ بمثلِ ما تقدم في الجواب عن إنذاره سائرَ بطونِ قريش. ولا ضرر في عدم دخول الوالدين والأولاد في لفظ الأقربين في آية الوصية وآيات الميراث، فإن الوالدين قد ذُكِرا نصًّا في أربعة المواضع، والأولاد في آية الوصية غير مرادٍ دخولهم، لحديث البخاري وغيره عن ابن عباس الآتي إن شاء الله تعالى، وفي آيات الميراث تُرِك ذِكرُهم لأنهم مورثون، وإثباتُ ميراث الرجال والنساء من الأقربين يُفهم منه إرثُهم من أولادهم من باب أولى. وفي هذا نكتة حسنة، وهي أن ما يأخذه أحد الأبوين من مالِ ولده كأنه ليس بميراث استحقَّ بالموت، بل هو حقّ ثابت على كل حال، من باب "أنت ومالُك لأبيك" (2)، فيكون في هذا الحثُّ على البرِّ بالأبوين. بل لا يدخل فيه أحدٌ من الأصول والفروع بدليل التبادر أيضًا، وإعطاءُ أولادِ فاطمة عليها السلام من سهم ذوي القربى إنما هو لكونهم أبناءَ ابن عمِّه عليه الصلاة والسلام، ولهذا لا يُسهَم لأبناء الهاشمية من غير هاشمي من خُمُس ذوي القربى. بل قيل: إنه لا تدخل فيه النساء، وليس في المواضع الأربعة ما يدلُّ على دخولهنَّ. _________ (1) سبق تخريجه قريبًا. (2) أخرجه أبو داود (3530) وابن ماجه (2292) من حديث عبد الله بن عمرو، وإسناده حسن. وفي الباب عن غيره من الصحابة.

(17/709)


أما آية الوصية فيحتمل ــ بل هو الظاهر ــ أنها نزلت قبل أن يفرض الله عزَّ وجلَّ للنساء نصيبًا، فهي مُقِرَّةٌ لعادتهم من حِرمانِ الإناث، غايتُها أنها أثبتت للأم لمزيد استحقاقها. وأما آيات المواريث فلأن لفظ الأقربين فيها مورثون، فالمعنى أن المرأة ترث من أمها ومن ذوي قرابتها، ولكنا نقول: لا مانعَ من أن تدخل فيه النساء تبعًا، كما يدخلن في "قوم". ولا يدخل فيه أقارب الأم، لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يُسهِم لأقاربِ أمِّه من سهم ذوي القربى. رجعنا إلى تفسير آية الوصية: قال تعالى: {وَالْأَقْرَبِينَ} قد علمتَ مما بسطناه في فصل الأقربين أن الراجح بل المتعين في تفسيره أن المراد به هنا مَن له قرابة بالمحتضر، بأن يكون من أدنى فصيلةٍ له تختصُّ باسم. وقدَّمنا أنه لا يدخل فيه أحدٌ من الأصول والفروع ولا أقارب الأم، وأيَّدنا عدم دخول الولد في آية الوصية بحديث البخاري وغيره عن ابن عباس، وسيأتي موضَّحًا في النسخ إن شاء الله تعالى. ومع هذا فالظاهر بل المتيقن أن الوصية للأولاد وإن لم تَشمَلْها الآية كانت جائزةً أولَ الإسلام، وكان للرجل أن يُوصيَ لأولادِه ويُفضِّلَ بعضَهم على بعض، وإنما الفرق أنه لم يكن لوالديه ولقريبه شيء إلّا إن أوصى، وكان الأولاد يأخذونه وإن لم يُوصِ. والله أعلم.

(17/710)


{بِالْمَعْرُوفِ} هو ما يعرفه العقلاء ولا ينكرونه، يريد ما يقتضيه العدلُ والحكمة. {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} ظاهر. قال تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} أي الإيصاء {بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} عَلِمَه {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ} أي إثم تبديله {عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فهو يسمع ما يقال فيما يتعلق بالوصية وتنفيذها أو تبديلها، ويعلم ما يُفعَل في ذلك، فيُجازي كلًّا بما يستحقُّ. {فَمَنْ} أي إنسان {خَافَ} عَرف، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [النساء: 35]، {مِنْ مُوصٍ جَنَفًا} أي ميلًا إلى مَن لا يستحق أصلًا أو لا يستحقّ الزيادة، ظنًّا من الموصي أنه مستحقّ، {أَوْ إِثْمًا} بإيصائه لمن لا يستحق أصلًا، أو زيادته مَن لا يستحق الزيادة، مع علم الموصي بعدم الاستحقاق، وإنما يُؤثِره محبةً له أو بُغضًا لغيره، {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} إما في حياة الموصي ليحمله على تغيير الوصية، أو بعد وفاته ليُسقِطَ بعضَهم سَهْمَه أو بعضَه عن طِيب نفسٍ، كما هو مقتضى الصلح، {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، وإن كان إطلاق قوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} يتناوله ظاهرًا؛ لأن المراد هناك: مَن بدَّله بمجرد الهوى أو بدون رضا الموصي أو الموصَى لهم، وهذا ليس كذلك. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يغفر للمذنب ويرحمه، فضلًا عمن لم يُذنب، والله أعلم.

(17/711)


قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} أي يقاربون الوفاة، {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} فلْيُوصُوا، أو فعليهم {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} بمالٍ يتمتعن به {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} الواجب عليهن تربُّصُه. وهذا قبل نزول قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (1). قال الله عزَّ وجلَّ: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ ... } الآيات. قد بينّا في المقدمة عادة أهل الجاهلية في عدم توريث النساء والصبيان، وأن آية الوصية لم تعرض لتعديل تلك العادة في غير الأم. وفي هذه الآية إبطال تلك العادة، ولهذا ــ والله أعلم ــ اقتصر هنا على إثبات النصيب للرجال والنساء من الوالدين والأقربين، ولم يذكر النصيب من الولد؛ لأنه كان قد تقرر في الجملة بآية الوصية، فافهمْ. وعبَّر بالرجال مع ذكر ما يدلُّ على شموله للصبيان كما يأتي إن شاء الله تعالى، مع أنهم كانوا يثبتون ميراث الرجال أعني البالغين، وذلك لئلا يُتوهَّم نفيُ استحقاقهم. {لِلرِّجَالِ} أي جنسهم الشامل للصبيان، دلَّ على ذلك أمور، أحدها: إثبات النصيب للنساء، وهو يقتضي ثبوتَ النصيب للصبيان من باب أولى؛ لأنهم كانوا يعلِّلون حرمان الصبيان والنساء بعدم الإطاقة للقتال والنصرة، وهذا مستمر في النساء، فأما الصبيان فإنهم وإن لم يطيقوه حالَ الصغر _________ (1) بعده بياض كبير في باقي الصفحة، وكأن المؤلف كان يريد مزيد تفسيرٍ للآية فلم يجد وقتًا لإكماله.

(17/712)


فسيطيقونه عند الكِبَر، فإلغاء هذه العلة في النساء يقتضي إلغاءها في الصبيان من باب أولى. وباقي تلك الأمور سيأتي في سياق الآيات إن شاء الله تعالى. {نَصِيبٌ} ثابت للرجل {مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ} أي والداه، وقد تقدم بيان معنى الوالدين في آية الوصية، وهما الأب والأم، {وَالْأَقْرَبُونَ} إليه، وهم أدنى فصيلةٍ له تختصُّ باسمٍ، كما بيَّنّاه في فصله. {وَلِلنِّسَاءِ} أي جنسهن {نَصِيبٌ} ثابت للمرأة {مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ} أي والداها {وَالْأَقْرَبُونَ} إليها. واعلم أن أهل الجاهلية لم يكونوا يقولون في الذكور الكبار أنهم يرثون على كلِّ حال، وإنما كانوا يقولون: إنهم يرثون في الجملة، فلو أُريد في إثبات النصيب للذكور الكبار في الآية أنه ثابتٌ لهم على كل حالٍ لصُرِّح بذلك، فلما لم يُصرَّح به وجاء إثبات النصيب للذكور الكبار في الآية مطلقًا عُلِمَ أنه ليس فيه ردٌّ عليهم من حيث الجملة، فظهر أن المراد في الآية من ثبوت النصيب للذكور الكبار ثبوته في الجملة. ولا يلزم من إقرارهم على الجملة إقرارُهم على التفصيل، كما لو قال لك قائل: في مكة علماء وليس في المدينة عالم، فقلتَ أنت: في مكة علماء وفي المدينة علماء، فأقررتَه على أن في مكة علماء، وقد تكون تخالفُه في تعيينهم وتعيين جهات اتصافهم ومقدارِه، وتقدُّمِ بعضهم على بعض، ولا يُفهَم من إقرارك إياه في ذلك الإجمال إقرارُك إياه في التفصيل. وكانوا يقولون في الصبيان: لا يرثون البتةَ، وذِكْرُهم في القرآن هو ردٌّ على أهل الجاهلية، والردُّ إذا أُطلِق حُمِلَ على المناقضة، ولو أُريد المناقضة

(17/713)


وزيادة لنصَّ على ذلك، ولأفردهم عن الكبار. ونقيض السالبة الكلية موجبةٌ جزئية، وهذا يقتضي أن المراد في الآية من ثبوت النصيب للصبيان ثبوتُه في الجملة. فتحصَّل من هذا أن المراد بالثبوت في الجملة الأولى الثبوتُ في الجملة، وأما الجملة الثانية فكما قلناه في الصبيان سواء، فثبت الإجمال في الجملة الثانية. ويؤيِّد الإجمالَ في الجملتين أن البيان التفصيلي بالكتاب والسنة جاء قاضيًا بما يوافقه، فنصَّ على أن الرجل قد لا يرث قريبَه، والمرأة كذلك، والإجمال والتفصيل لا نسخَ فيه ولا رائحة نسخٍ، فهو أولى مما فيه ذلك، أعني الإطلاق والتقييد أو العموم والخصوص. ثم إن العموم في لفظ "الأقربين" يقتضي بظاهره أن الرجل يرِث في الجملة من كلِّ قريب له، وهذا صحيح على ظاهره، فما من قريبٍ لك إلّا ويُتصوَّر أن ترِثَه، وذلك فيما إذا لم يكن له قريبٌ غيرك مثلًا. وكذلك الحال في النساء، فما من إنسان إلّا ويتصوّر أن ترِثه عمتُه وخالتُه مثلًا، أعني ميراثَ ذوي الأرحام. فإن قلت: إذنْ تختلف جهةُ ثبوتِ النصيب في الجملتين. قلت: وما المانع من ذلك؟ وقال الجيراجي (ص 19 ونحوه ص 33): "دلَّت الآية على أن للنساء نصيبًا من تركة أبويهن (1) وأقربائهن (2)، كما أن للرجال نصيبًا منها، سواءً _________ (1) الصواب: "آبائهن"، أو يقول: لكل واحدةٍ من أبويها، أو نحو ذلك. [المؤلف]. (2) "أقرباء" جمع قريب لا جمع أقرب. والجيراجي يفرّق بين القريب والأقرب ههنا. [المؤلف].

(17/714)


كانت قليلةً (1) أو كثيرةً (2)، يعني أنه لا يجوز أن يَرِث رجلٌ قريب من المورث ولا ترث امرأة قريبة منه في تلك الدرجة". أقول: قوله: "كما أن ... " ليس من معنى الآية في شيء، فإن كان فَهِمَه من ذكر الرجال في الآية وأنهم إنما ذُكِروا ليمثّل بهم النساء فهو فهمٌ في غير محلِّه، فقد تقدم حكمةُ ذكرهم، مع أن لفظ "الرجال" في الآية يشمل الصبيانَ كما تقدم. وأهل الجاهلية لم يكونوا يعترفون بأنهم يرثون حتى يَحسُنَ تمثيلُ استحقاق النساء باستحقاقهم واستحقاق الكبار. وإن كان فَهِمَه من اقتران الجملتين فقد تقرر في الأصول أن لا دلالةَ للاقتران، مع أنه لو قيل بها هنا لزم عليها ما لا يلتزمه الجيراجي ولا غيره. وإن كان فَهِمَه من كون الجملة الثانية كالأولى سواء لم يزد في إحداهما قيدٌ ولا شرطٌ، فهو باطل أيضًا؛ لأنه لا يلزم من ذلك تشابهُهما في كل شيء. نعم هما متشابهتان في أن كلًّا منهما أريد بهما الإثبات في الجملة، ولكن هذا التشابه لا يقتضي التشابه في التفصيل، كما هو واضح. وإن كان فَهِمَه من عموم لفظ "الأقربين" فقد قدَّمنا أنه إنما يفيد أنه ما من قريبٍ لرجلٍ إلّا ويُتصوَّر أن يكون له نصيبٌ مما ترك، وما من قريبٍ لامرأةٍ إلّا ويُتصوَّر أن يكون لها نصيبٌ مما ترك، والنصيب صادق بميراث ذوي الأرحام، فعموم الأقربين يقتضي ما ذكرناه. وفيه التشابه في الجملة كما تراه، ولا يلزم منه التشابه في التفصيل. _________ (1) فيه ما فيه. [المؤلف]. (2) فيه ما فيه. [المؤلف].

(17/715)


فثبوت النصيب في الجملة للرجل مقيَّد بقيودٍ وشروطٍ، وثبوت النصيب في الجملة للمرأة كذلك، وقد تتحد القيود والشروط وقد تختلف، وليس في نظم القرآن أدنى إشارةٍ إلى أنها لا تكون إلّا متحدة. فقول الجيراجي "يعني ... " دعوى مجردة، والله المستعان. ولما علم سبحانه وتعالى أن السامعين لهذه الآية سيظنون أنها تتميمٌ وتكميلٌ لآية الوصية، وأن المقصود منها إرشاد المحتضر إلى الوصية للصغار والنساء أيضًا= دفع ذلك بأمرين: الأول: قوله: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ} من المتروك {أَوْ كَثُرَ}، وهذا مخالفٌ لقوله في آية الوصية: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} أي مالًا كثيرًا كما تقدم. الثاني: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا} مقطوعًا معينًا من عند الله عزَّ وجلَّ سيبيّنه فيما بعد، وهذا مخالف لقوله في آية الوصية: {بِالْمَعْرُوفِ} أي بحسب ما يراه الموصي. وهذان الأمرانِ ظاهرانِ في نسخ حكم آية الوصية، ولو كان المقصود ــ ــ كما زعم الجيراجي ــ أن يُعمَل بهذه الآية حيث لا وصيةَ وأن آية الوصية لا تزال محكمةً، لمَا خالفَتْها في جعل النصيب هنا مما قلَّ أو كثُر وهناك مما كثُر فقط، ولمَا خالفتها في جعل النصيب هنا مفروضًا وهناك بالمعروف. وقد زعم أنه إنما جُعِل بالمعروف في الوصية ومفروضًا في الميراث لأن المورث أدرى من غيرِه بمصالح ورثته، ولأن مراعاة المصالح الشخصية في القانون الكلي ليست بممكنة. وهو مردود بأن المورث وإن كان أدرى فإنه يَعرِض له في الأهواء

(17/716)


والأغراض ما يُعمِي بصرَه ويُصِمُّ سمعَه، ويُوقِعه في الجنَف والإثم، كما شهدتْ به الآية نفسُها. ويكون غيرُه من صالحي جيرانِه وإخوانِه المطَّلعين على أحواله لسلامتهم من الهوى والغرض أقربَ إلى العدل والحكمة في وضع ماله في مواضعه، ولاسيَّما إذا أحيل ذلك إلى نظر قضاةِ المسلمين، فإنهم يكونون طبعًا علماء حكماء، فيكونون أعلم بمصلحة الموصي من نفسه. فلو لم يُرَد النسخُ لمَا فُرِضت الأنصباءُ، بل كان يُحال الأمرُ إلى القضاة والحكَّام. على أن الجيراجي فسَّر قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا ... } بقوله (ص 4): "أي إن عَلم أن الموصي في وصيته جنفَ عن الحق ومال إلى الإثم، فللمسلمين أو لقاضيهم حقٌّ في إصلاحها". وهذا ينقض قولَه (1): "إن المورث أدرى من غيره". وأما قوله (2): "إن مراعاة الأحوال الشخصية في القانون الكلي ليست بممكنة". فجوابه: أن هذه الأحوال الشخصية لو كانت مراعاتها مقصودة كما زُعِمتْ لم يُشرع ذلك القانون الكلي، بل كان يُحال الأمر إلى قُضاة المسلمين. ثم إن آية الوصية [لما] كانت عامةً لذوي القربى، والميراث الذي أُجمل في هذه الآية وبُيِّن بغيرها لا يَعمُّهم، وكان في الأمرين السابقين _________ (1) "الوراثة في الإسلام" (ص 3). (2) المصدر نفسه (ص 4).

(17/717)


الدلالة على نسخ تلك الآية، أراد الله عزَّ وجلَّ أن يُثبِت لذوي القربى غير الوارثين ما يقوم مقامَ ما كان لهم في آية الوصية، حتى يستوفي ما بقي من فوائد الوصية، فيتمّ نسخُ حكم تلك الآية، فقال تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} من المتوفى غير الوارثين، ولم يقل "الأقربون" ليشير إلى أن المراد هنا غير الوارثين، وذلك من تغيير العبارة، وأيضًا كثرة تكرار كلمة "الأقربون" يُوجِب كراهيةً في الكلام. وأيضًا كلمة "الأقربون" لم تجئ في القرآن إلّا معطوفةً على الوالدين، أو صفةً لموصوفٍ مذكور في آية {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، وعبَّر عنها في غير ذلك بأولي القربى ونحوها، ولعلَّ لذلك حكمةً، والله أعلم. {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}. في البخاري (1) وغيره عن ابن عباس نفْيُ نسْخِ هذه الآية، قال: ولكنها مما تهاونَ الناسُ بها، وهما واليان: والٍ يرث وذلك الذي يرزق، ووالٍ ليس بوارثٍ، فذاك الذي يقول قولًا معروفًا إنه مالُ يتامَى وما لي فيه شيء. وفيه شيء، فإن الظاهر أن الخطاب يعمُّ الوارثَ والوصيَّ بأن يرزق ويقول معروفًا معًا، غير أن الوصيّ يجب عليه الاقتصاد في العطاء. وإذا حملنا الأمر على الندب كما يشهد له الإجماع على عدم العمل، كان الأحوط للوصي أن لا يُعطي شيئًا، والله أعلم. _________ (1) رقم (2759). وأخرجه أيضًا سعيد بن منصور في سننه (576 ــ تفسير) والطبري في تفسيره (6/ 433) وابن المنذر (1412)، وابن أبي حاتم (3/ 874) وغيرهم.

(17/718)


ولم يقيّد هنا بترك المال الكثير كما في آية الوصية، لأنه لا حاجة لذلك هنا؛ لأنه لا يحضر القسمةَ من الأقربين التماسًا للرزق إلا المحتاجون منهم الذين يقبلون ما يُعطَون ولو قليلًا، ولعل في هذا إشارةً إلى النسخ أيضًا. ولما انتهى حكم الوصية التي كانت مشروعةً، وأقام الله عزَّ وجلَّ مقامَها ما يُغني عنها وزيادة، أشار سبحانه وتعالى إلى كراهة الإيصاء بشيء من المال، فقال: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9]. في "الدر المنثور" (1): أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في الآية قال: يعني الرجل يحضره الموت فيقال له: تصدَّقْ من مالك وأعتِقْ وأعطِ منه في سبيل الله، فنُهُوا أن يأمروا بذلك. يعني أن من حضر منكم مريضًا عند الموت، فلا يأمره أن يُنفِق ماله في العتق أو في الصدقة أو في سبيل الله، ولكن يأمره أن يُبيّن ما له وما عليه ويُوصي لذوي قرابته الذين لا يرثون، يوصي لهم بالخمس أو الربع. يقول: أليس أحدكم إذا مات وله ولدٌ ضِعاف يعني صغارًا، يخشى أن يتركهم بغير مالٍ، فيكونون عِيالًا على الناس؟ فلا ينبغي لكم أن تأمروه بما لا ترضَون به لأنفسكم ولأولادكم. ونهْيُ الحاضرين عن حمل المحتضر على الوصية يدلُّ على نهيه ــ أعني المحتضر ــ عن الوصية، ولكن الآية تدلُّ على الكراهة فقط. وفي قوله: {ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} تنبيهٌ على شمول لفظ "الرجال" للصبيان. _________ (1) (4/ 248). وانظر تفسير الطبري (6/ 447) وابن أبي حاتم (3/ 876، 877) والسنن الكبرى للبيهقي (6/ 270، 271).

(17/719)


ثم قال سبحانه وتعالى مؤكِّدًا هذا المعنى، ومقيِّدًا الأمرَ برزق الحاضرين، ومنبِّهًا على وجوب حفظ أموال الصغار على كل حال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}. وفي معنى الأكل إضاعتها، كإسراف الوصي في رزق حاضري القسمة، والتسبُّب في ضياعها بحمل المحتضر على الوصية، وغير ذلك. وفي هذه الآية تنبيهٌ أيضًا على شمول لفظ "الرجال" للصبيان. ثم أراد سبحانه وتعالى تفصيلَ ما تقدَّم من الإجمال فقال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} أيها الرجال، كما يدلُّ عليه قوله فيما يأتي {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ}، وحكم الإناث كذلك بالقياس، {فِي أَوْلَادِكُمْ} كل رجل في أولاده، فالكلام على التوزيع كما في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6]، أي ليغسلْ كلٌّ منكم يديه. ولعل الجيراجي يزعم أن التقدير: (يوصيكم الله في) شأن (أولاد) من توفى منـ (كم). ويبني على هذا شبهته التي ذكرها (ص 4) بقوله: "أما إذا مات المورث بلا وصية، ولم يقسم ماله بين ورثته، فحينئذٍ يعمل بآية الميراث". وتقرير هذه الشبهة بوجهٍ علمي أن آية الميراث على التقدير الأخير تعُمُّ المتوفى بدون وصية والمتوفى عن وصية، وآية الوصية خاصة في الثاني، والأصلُ في مثل هذا حملُ العام على الخاص، فيُعمل بالاثنين معًا: آية الوصية في معناها، وآية الميراث في الباقي، ولا نسخَ.

(17/720)


والجواب من وجوه: الأول: أن التقدير الثاني مردود، لما فيه من الحذف، وخلافِ الظاهر، والصواب التقدير الأول. الثاني: أن النسخ لازم حتى على زعم الخصم، لأن العام هنا متأخر عن الخاص، لا عن وقت الخطاب فقط، بل عن وقت العمل، ومثل هذا يكون العام فيه ناسخًا للخاص عند الحنفية وغيرهم، وأدلتهم مبسوطة في الأصول. الثالث: أن أدلة النسخ كثيرة، قد مضى بعضها وسيأتي بعضها إن شاء الله تعالى. واعلم أنَّ في هذه الكلمات أدلةً على النسخ. أحدها: كونها من مادة الوصية، ففيه إشارة إلى أن هذه وصية المالك الحقيقي العليم الحكيم، ووصيتُه مقدَّمةٌ على وصية العبد المعرَّض للجنف والإثم. وأكد هذا الوجه بالتصريح بلفظ الجلالة وضعًا للظاهر موضعَ المضمر، وكان الأصل أن يقال: "أوصيكم". ثانيها: كونها بصيغة المضارع. قال الحافظ في "الفتح" (1): أفاد السهيلي (2) [أن الحكمة في التعبير بلفظ الفعل المضارع لا بلفظ الفعل الماضي الإشارة إلى أن هذه الآية ناسخة للوصية المكتوبة عليهم]. ثالثها: توجيه الخطاب فيه إلى الرجال من حيث هم مورثون، وهو أمرٌ _________ (1) (12/ 3). (2) وضع المؤلف بعدها نقاطًا، وأشار إلى ص 14 رقم 3. ولم أجد الدفتر المشار إليه، فنقلت ما بين المعكوفتين من "الفتح".

(17/721)


لهم بتنفيذ هذا الحكم، والمراد من ذلك: إما أمرهم بالوصية على مقتضى هذه الآيات، وإما نهيُهم أن يوصوا بما يخالفها، والأول لا فائدة له، فتعيَّن الثاني. والمورث إذا لم يُوصِ بما يخالف وصية الله تعالى كان في معنى المنفِّذ لها، وهذا صريح في نسخ آية الوصية. فإن قيل: يَخدِش في هذه الأوجه الثلاثة أن الله عزَّ وجلَّ إنما قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ}، وقد قدَّمتَ أن الأولاد غير داخلين في آية الوصية. قلت: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} لا يختص بالأولاد، بل يتناول جميعَ ما ذُكِر في الآيات، كما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. ثم قد تقدم أن الأولاد وإن لم يكونوا داخلين، فالظاهر بل المتيقن أن حكم الوصية كان شاملاً لهم من حيث الجواز، فكان للمحتضر أن يوصي لأولاده ويُفضِّل بعضَهم على بعض. وهذه الأوجه تدلُّ على نسخ حكم الوصية مطلقًا، أعني التي كانت موجودة ولم تشملها الآية والتي شمِلَتْها الآية. واعلم أن الظاهر كون الخطاب في الآية للذكور، ويؤيده قوله فيما يأتي: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ}، ولكن حكم الإناث كذلك، كما دلَّت عليه قواعدُ الشريعة ثم الإجماع. واعلم أن في قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} وتناوُلِهِ الأبناءَ والآباء وبعضَ الأصناف ــ كما يأتي ــ إبطال (1) لاختراع الجيراجي في القول المبني على _________ (1) كذا في الأصل مرفوعًا، والوجه النصب.

(17/722)


زعم أن ميراث الزوجين وصية من الله، فيُخرج من رأس المال، وميراث غيرهم فريضة، فيكون في الثاني بعد ميراث الزوجين. فإنه يُردّ بأن ميراث الأبناء والآباء وصية بدخولها تحت قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ}. وسيأتي لهذا مزيدٌ إن شاء الله تعالى. وفي "فتح الباري" (1) نقلًا عن السهيلي: "وقال: {فِي أَوْلَادِكُمْ} ولم يقل: "بأولادكم" إشارةً إلى الأمر بالعدل فيهم، ولذلك لم يخصَّ الوصية بالميراث، بل أتى باللفظ عامًّا، وهو كقوله: "لا أشهدُ على جور" (2). أقول: قد تقدم أن التقدير: " (في) شأن (أولادكم) وسيأتي أن التقدير فيما يأتي: "بأن يكون (للذكر ... ) ". (الأولاد) قد مرَّ في آية الوصية معنى الولادة، ونقول هنا: إن الأولاد جمع ولد، والولد مشتق من الولادة، فهو في الأصل مَن ولدتْه المرأة، ولكنه تُوسِّع فيه كما تُوسِّع في "والد"، فأُطلق بمعنى الابن، وبهذا الاعتبار نُسِب إلى الذكر، فقيل: هذا ولدُ زيدٍ. ولا يلزم مما ذكرنا إطلاقه على ابن الابن حقيقةً، أما بحسب الأصل فواضح، فقد مرّ أن معنى الولادة وضْعُ المرأةِ حَمْلَها، ولا شكَّ أن هذا لا يصدُقُ إلا على الموضوع نفسه، فلا يقال حقيقةً: إن حواء هي التي وضعتْ جميع البشر، ولا أن جميع البشر قد ولدوا أو أنها تلد بعد موتِها. _________ (1) (12/ 3، 4). (2) متفق عليه. أخرجه البخاري (2650) ومسلم (1623) من حديث النعمان بن بشير.

(17/723)


وأما بحسب الاستعمال المتوسَّع فيه فلِوضوح الفرق بين الابن وابن الابن، فلا يلزم من استعمال لفظٍ في الأول حقيقةً استعمالُه في الثاني كذلك، على أنه قد تقرر في الأصول أن القياس في اللغة باطل. فتبيَّن بهذا بطلانُ قولِ الجيراجي (ص 36): "ومنهم من قال: إنه حقيقة في كليهما، وهو الحق؛ لأن الولد مشتق من الولادة فيشمل جميعَ مَن وُلِد من الأعلى إلى الأسفل، وولدُ الولدِ ولدٌ كما أن جزء الجزءِ جزءٌ". وقوله: "كما أن جزء الجزء جزء" فلسفة غريبة تُحوِجُنا المناقشة فيها إلى الخروج عن الموضوع، فلندَعْها ولننظْر في مواضع الحجة، فنعرِض كلمة "ولد" على العلامات التي ذكرها العلماء للتمييز بين الحقيقة والمجاز. وأظهر تلك العلامات هي التبادر عند عدم القرينة، والمتبادر حقيقة. وقد تأملنا مواقع كلمة "ولد" فتبيَّن أنها حقيقة في معنى "ابن"، إلّا أنها تُطلَق على الواحد والجمع. وذلك أنه لو أشار رجل إلى شخص قائلًا: انظروا إلى ولدي، تبادرَ إلى الأذهان أنه يريه أنه ابنه، ويبعد في أذهاننا أنه يريد أنه ابنتُه أو ابنُ ابنهِ، فإطلاقها على البنت وابنِ الابن مجاز. ويدلُّ على ذلك إنكارُ النفس أن يقال: "هذه ولدي"، إلّا إذا كان بمعنى أنها قائمة لي مقام الابن. وقد استدلَّ بعض العلماء على عدم دخول البنات ببعض الآيات التي فيها الافتخار بالولد، كقوله تعالى ..... (1)، نعم الجمهور على أن المراد بلفظ "ولد" في الآيات ما يصدق بالابن والبنت وابن الابن وبنت الابن وإن سفلا، وهذا ليس بحجة. _________ (1) ترك المؤلف هنا بياضًا، ولم يذكر الآيات.

(17/724)


إذا تقرر هذا فقوله في الآية: {أَوْلَادِكُمْ} لا يتناول من حيث الوضع إلا الأبناء الذكور، دون الإناث ودون بني البنين، لكن السياق دلَّ على دخول الإناث، فكان بمعنى البنين والبنات، وجُمِعوا معًا على أولاد تغليبًا، كما جُمِعَ الآباء والأمهات على آباء، والأبناء والبنات على أبناء في هذه الآية كما يأتي إن شاء الله تعالى. وليس ههنا قرينةٌ تدلُّ على دخول ولد الولد، فالقول بذلك مخالَفةٌ للأصل والظاهر معًا، ويُبطِلُه أن القول بدخولهم يقتضي التسوية بينهم وبينَ الأبناءِ مطلقًا، فيُعطَى ابن الابن مع أبيه وأعمامه، وهذا باطلٌ اتفاقًا. وأيضًا فسّر الأولاد فيما بعدُ بالأبناء في قوله: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ}، وليس أبناء الأبناء بأبناءٍ حقيقةً، وإن أطلق عليهم أبناء مجازًا. بأن (1) يكون {لِلذَّكَرِ} منهم {مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} منهم، عدَلَ عن "مِثْلَا حظِّ الأنثى" أو نحوه لفائدتين: الأولى: التنبيه على أن الذكر يُعادِل انثيين في الاستحقاق. الثانية: أنه سيأتي في الآية {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}، فربما يتوهم أن قوله: "مِثْلَا حظِّ الأنثى" إشارة إلى هذا، والمراد الكلُّ. الثالثة ــ وهي أهمها ــ: إفادة حكم الأنثيين إذا انفردتا، فإن أول الصُّوَر الداخلة تحت قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} أن يكون الأولاد ذكرًا وأنثى، ففي هذه الصورة يأخذ الولد الثلثينِ، وهو بمقتضى الآية مثلُ حظِّ الأنثيين، ففيه الإشارة إلى أن الأنثيين قد تأخذانِ الثلثينِ في بعض الصور، _________ (1) سياق الكلام: يوصيكم الله في أولادكم بأن يكون ... ، وتخلَّله تفسير "الأولاد" والرد على الجيراجي فيه.

(17/725)


وأيّ صورةٍ تلك إلّا صورة انفرادهما. وأكّد إرادة هذه الإشارة بعدم ذكر ميراث الأنثيين فيما سيأتي، بل نصّ على ميراث ما فوقهما وعلى ميراث الواحدة، فأفهمَ بذلك أن حكم الثنتينِ قد ذُكر في الآية، فليلتمسه العلماء. وإذ قد عُلِم حكم البنتين إذا انفردتا، فهاكُم حكم ما فوقهما وما دونهما: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ} أكثر من {اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}. هذا يُبطِل قولَ الجيراجي (1) في العول أن ميراث أحد الزوجين يؤخذ من رأس المال، ثم تكون الفروض منسوبةً إلى الباقي، فللبنتين ثلثا الباقي. فإن قلتَ: إنه زعم أن ميراث الزوجين وصية من الله تعالى، فيدخل في قوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ}. قلتُ: سيأتي إن شاء الله تعالى إبطال اختصاص ميراث الزوجين بكونه وصيةً من الله تعالى، ومع ذلك فالذي في الآية: {بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي} أي المورِث، لا مطلق وصية. ولا يفيده قراءة {يُوصَى} بالبناء للمفعول؛ لأنها مجملة، فتُحمل على المبيّنة؛ إذ الأصل الاتفاق. وزعم الجيراجي أن لفظة "فوق" تدل على ما ذهب إليه من توريث أولاد الأولاد مع غير آبائهم من الأولاد، على الطريقة التي اخترعها، قال (2): "ولفظة (فوق) ليست إلّا للتنبيه على طريقة التقسيم في مثل هذه الصورة؛ لأنه يدلُّ على الكسر ... ". والطريقة التي ابتكرها سيأتي إبطالُها إن شاء الله تعالى في الحجب. _________ (1) "الوراثة في الإسلام" (ص 23). (2) المصدر نفسه (ص 39).

(17/726)


وقوله: "كلمة فوق تدلّ على الكسر" ليس بلازم، وإنما هو بمعنى "أكثر من" كما هو معروف عند مَن له علم بالعربية. ثم إن تأويله هذا مع بطلانه لا يدفع الإشكال، وهو السكوت عن ذكر فرض الثنتين، وهلّا قيل: اثنتين فما فوقهما. {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ميراث أولاد الأولاد في الحجب. {وَ} في آبائكم، يُوصي الله كلَّا منكم في أولاده وفي أبويه {لأَبَوَيهِ} وبهذا علمتَ سبب التثنية والإضافة إلى ضمير المفرد الغائب مع قوله أولَ الآية {فِي أَوْلَادِكُمْ}، فتأمَّلْه. ويؤيد هذا التقديرَ قولُه فيما يأتي: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ}. والجملة مستقلة لا مبنية على ما قبلها؛ لأن الضمير يعود إلى الأحد المعلوم مما تقدم، وهو أحد مجرد، ويبيِّن هذا قوله: {إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}، والمورث المفهوم من أول الآية ذو أولاد. وهكذا جميع الضمائر الآتية تعود إلى الأحد المجرد، وإن شئت فقلْ: إلى المورث. والمراد بالأبوين: الأب والأم، قيل لهما "أبوانِ" تغليبًا. (الأب) الأب معروف، ولا يُطلق على الجدّ إلا مجازًا، على هذا عامة أهل اللغة، وهو الذي يتعيَّن عند عرضِه على العلامات التي ذكرها أهل العلم لتمييز الحقيقة من المجاز، ولا ينافي ذلك ما ورد في الكتاب من إطلاقِه على الجدّ، فإنه مجاز، ولا جَعْلُ بعضِ الصحابة الجدَّ أبًا، فإن المراد أنهم جعلوه كالأب، ولا استدلالُهم بإطلاق القرآن عليه أبًا، فإنهم إنما استدلُّوا

(17/727)


بذلك لأن المجاز لابُدَّ له من علاقة، ولاسيَّما إذا كان في كلام العليم الحكيم، فإطلاقُه سبحانه وتعالى على الجدّ أبًا يدلُّ أنه كالأب، وهذه الدلالة مما يصلح لتمسُّك المجتهد إذا لم يجد أقوى منها. نرجع إلى تفسير الآية: {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ} مرَّ ما فيه من الدلالة. {إِنْ كَانَ لَهُ} المورث {وَلَدٌ}. مقتضى الظاهر أن يفسَّر "ولد" بابن، ولكن الجمهور [على] أن المراد: ابن أو بنت أو ابنُ ابنٍ أو بنتُ ابن وإن سفلا، وهذا من عموم المجاز كما تقدم. ومن المفسِّرين من يفهم معنى قوله: "والباقي للولد"، وأنت تعلم أن هذا ليس على إطلاقه، وإنما لهم الباقي بعد ميراث الأبوين وبعد ميراث أحد الزوجين، والتزام الإطلاق والتقييد تكلُّف، إلّا أن يقال: والباقي بعد الفروض التي لا تسقط للولد، وهو كما ترى. فإن قلت: لكن ما ذكرتَ لا يرد على الجيراجي؛ لأنه يقول: إن ميراث الزوجين وصية داخل تحت قوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ}، وأن الفروض منسوبة إلى ما بقي بعد فرض أحد الزوجين. قلت: سيأتي إن شاء الله تعالى إبطالُ قوله هذا. {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ} المورث {وَلَدٌ} قد تقدم تفسيره {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ}، الجملة ــ قوله: "فإن ... " ــ مستأنفة، لا مبنية على ما قبلها. {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} قدَّر بعضهم هنا: وللأب الباقي، وفيه مثل ما تقدم. والآية ظاهرة في أن للأم الثلث مع الأب، وإن كان هناك زوج أو زوجة، وعليه جماعة من الصحابة كعلي وابن عباس رضي الله عنهما، وهو الحق الذي لا ينبغي العدولُ عنه.

(17/728)


وتأوَّل عمر رضي الله عنه وغيره، فذهبوا إلى أن للأم ثلث الباقي بعد بقية ..... ، قالوا: لا تفضل الأم على الأب، ولا يكتفى بتفضيله عليها إلّا بأن يكون له مثلها. وهذه معارضة للقرآن وللنظر، أما القرآن فظاهر، ودعوى أن المراد: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} أي فقط، تقدم ردُّها. وزَعْمُ الجيراجي أن الفروض منسوبة إلى ما بعد ميراث؟ ؟ ؟ ؟ وصي؛ لأن ميراثهما وصية، تقدمّ إبطالُها، ويأتي له مزيد إن شاء الله تعالى. وأما النظر فلأن الأم أبلغ في الاستحقاق من الأب، وقد جاء في الحديث أن رجلًا قال: يا رسول الله، مَن أَبَرُّ؟ قال: "أمك"، قال: ثم مَن؟ قال: "ثم أمَّك"، قال: ثم مَن؟ قال: "ثمّ أمَّك"، قال: ثم مَن؟ قال: "ثمَّ أباك" (1). وكيف لا يكون للأم هذه المزية وهي التي تحمله تسعةَ أشهر تتكبَّدُ فيها صنوف البلاء والمِحن، ثم تُرضِعه حولَينِ يمتصُّ فيهما قوَّتَها، ويَشْغَلُها عن أكلها وشربها ونومها، ويلطخها بقَذَرِه كلَّ يوم مرارًا. وشفقتُها عليه أضعاف شفقة الأب. فأما قولهم: إنه غير معروف في الفرائض تفضيل أنثى على ذكرٍ في مرتبتها مجتمعين. فيجاب عنه بأنه قد عُهِد التساوي في الإخوة لأم، وإنما لم يُعهَد تفضيل الأنثى لأن البنت مساوية للابن لا مزية لها، وتتقوى بوجوده وتعتضد كما _________ (1) أخرجه أبو داود (5139) والترمذي (1897) عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وإسناده حسن.

(17/729)


سيأتي، وكذا الأخت مع الأخ، وليس كذلك الأم مع الأب، فقد تقدم بيانُ مزيتها عليه، ولا يلزم من وجوده معها تقوِّيها واعتضادُه، إذ ربما يفارقها. فتدبَّر. وسيأتي أن المواريث على ضربين: الأول: سببه استحقاق الصلة والمواساة، والثاني: سببه العصبية. وأن الله عزَّ وجلَّ جعل الفروض بإزاء الأول، والباقي بعد الفروض بإزاء الثاني. وسيأتي تفصيل ذلك قريبًا إن شاء الله تعالى. وعلى هذا فلا بِدعَ أن يفرضَ للأم ضِعْفَي فرض الأب، لأنها آكدُ حقًّا منه. فأما تفضيله عليها إذا انفردا فإنما هو لأنها قد استوفت حقَّها وهو الثلث، فهو يستوفي حقَّه وهو السدس، ويأخذ الباقي تعصيبًا. فالسدس هو استحقاقه الذي لا ينبغي أن يُغضَّ عنه، وأما التعصيب فلم يأخذه باستحقاق الصلة، وإنما أخذه بالتعصيب، وإذا لم يحصل على هذا التعصيب في بعض الصور لم يجز لنا أن نعوِّضه مما فُرِض للأم باستحقاقها. ولم يُصرَّح بأن له السدس فيما إذا لم يكن حقه ذلك إذ لا فائدة لذلك، لأنه لا يُخشَى أن يُنقَص عنه، وصُرِّح به حيث خِيفَ أن يُنقص أو يُحرَم منه، وذلك فيما إذا كان هناك ولد، فإنه إذا كان الولد ذكرًا أخذ الباقي بعد الفرائض، ويُحرم الأب لو لم يُسَمَّ له السدس. وإذا كانت أنثى في: بنت ... زوج ... أم 6 ... 3 ... 2 لا يبقى للأب إلّا واحدٌ. وإذا كانت بنتان لا يبقى له شيء، فسمَّى الله

(17/730)


تعالى له السدس لذلك، والله أعلم. {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} أي معًا كما هو ظاهر، ويحتمل أوجهًا: 1 ــ أنه قيدٌ لِيُفَهم منه أنه إذا انفردت الأم لم يكن لها الثلث، وفي هذا متمسَّك للجيراجي القائل (1): إنها إذا انفردت كان لها حكم آخر. 2 ــ ليس قيدًا، بل جيء به لدفع ما يُتوهَّم من أن الأمّ لا تحوز الثلث حتمًا إلا إذا انفردت، فأما إذا كانت مع الأب فإنها لا تحوز إلّا مثل نصف ما يحوز هو، سواء أكان ذلك هو الثلث فيما إذا انفردا، أو السدس فيما إذا كان معهما زوج، أو الربع فيما إذا كان معهما زوجة. وهذا متمسَّكٌ لمن يخالف مذهب عمر في العمريتين. 3 ــ أنه قد يدعى أن فيه معنى الحصْر، أي وورثه أبواه فقط، فيُفهَم منه أنه إذا ورث معهما غيرهما، وذلك الغير لا يكون إلا أحد الزوجين، فلذلك حكم آخر. وفي هذا متمسَّك لمن يذهب مذهب عمر رضي الله عنه في العمريتين. والثالث ضعيف؛ لأن فيه دعوى الحصْر، وليس هنا ما يفيده. والثاني أرجح من الأول، لما تقرر في الأصول أن مفهوم المخالفة لا يُعتدُّ به إلّا حيث لم يظهر للقيد فائدة غير نفي حكم غيره، وقد ظهرت هنا فائدة جليلة، وهي ما بيَّناها في الوجه الثالث، وفائدة أخرى، وهي الدلالة على أن الجملة ــ أعني قوله: "فإن لم يكن له ولد ... " ــ مستقلة لا مبنيَّة على التي قبلها؛ إذ لو كانت مبنيَّة لكان المعنى: فإن لم يكن للمورث الذي له أبوان ولدٌ وورثه _________ (1) في "الوراثة في الإسلام" (ص 41).

(17/731)


أبواه، وهو كما ترى، وفي هذا الإشارةُ إلى أن الجملة الآتية ــ قوله: "وإن كان له أخوة ... " ــ مستقلة أيضًا. {فَإِنْ كَانَ لَهُ} المورث {إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} الجملة مستأنفةٌ كما علمتَ، فالإخوة يحجبون الأمَّ إلى السدس مطلقًا، سواء أكان هناك أبٌ أم لا. وقد زعم قوم أن هذه الجملة مبنية على ما قبلها، كأنهم يعنون أن الضمير يعود على مُورِث مخصوص، أي الذي له أبوان، أو أن المعنى: (فإن كان له) مع ذلك أي مع الأبوين (إخوة)، وهو غير ظاهر، وقد تقدم ما يردُّه. وعلى تسليمه فليس فيه تقييد كما توهَّمه الجيراجي (1)، وإنما أريد به النصُّ على أن الأخوة يحجبون الأمَّ إلى السدس مع وجود الأب، ويُفهم منه أنهم يحجبون الأم مع عدم الأب من بابِ أولى، لأنهم إذا حجبوها مع ضعفهم بوجوده، فمع قوتهم عند عدمه أولى وأحرى. (الإخوة) اختلف الأصوليون في أصل الجمع: أهو اثنان أم ثلاثة، والصحيح أن العرب مختلفون فيه، ففي لسان قريش أن أقلَّ ما يصدق عليه "الإخوة" ثلاثة، كما صحَّ عن ابن عباس في مراجعته لعثمان (2). وفي لسان الأنصار وغيرهم أنه يصدُق على اثنين، كما صحَّ عن زيد بن ثابت (3). وفي القرآن مواضع نزلت بلغة قريش، ومواضع بلغة غيرهم، فإجماع الصحابة ــ وفيهم _________ (1) في "الوراثة في الإسلام" (ص 41). (2) أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/ 465) والحاكم في "المستدرك" (4/ 335) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 227). (3) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/ 335) والبيهقي (6/ 227).

(17/732)


أكابر المهاجرين من قريش ــ على الاعتداد بالاثنين دليلٌ على إرادة لغة الأنصار وغيرهم. وزعم الجيراجي (1) أن المراد بـ"إخوة" الجنس، فيدخل الأخ الواحد والأخت الواحدة، واستدل بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً ... }، قال: "وهذا يتناول الأخ الواحد والأخت الواحدة بإجماع الفقهاء، مع أن الإخوة والرجال والنساء كلها جمع". أقول: إجماعُهم على تفسير كلمةٍ بمعنىً في موضع لا يلزم منه كونها كذلك في جميع المواضع، ولاسيَّما إذا كان ذلك التفسير مخالفًا للأصل كما هنا، ثم إن الذين أجمعوا هنا هم الذين أجمعوا هناك، فكيف تحتجُّ بإجماعهم تارةً وتردُّه أخرى؟ الله المستعان. فإن قلت: لم أُرد الاحتجاج، وإنما أردتُ الإلزام. قلت: لا إلزام، فإنهم بحمد الله تعالى لم يُجمعوا على ما ذكرتَ في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً}، وإنما أجمعوا على أن حكم الأخ الواحد مع الأخت الواحدة للذكر مثل حظِّ الأنثيين، وحجتهم في ذلك القياسُ، لا تفسيرهم الجمع بالجنس. والله أعلم. وحَجْبُ الإخوةِ الأمَّ مُفهِمٌ أنهم يرثون، إذ لا يحجبُ الوارثَ إلا وارث، مع أنهم حجبوا وارثًا قويًّا، وحجبُهم إياها نصٌّ صريح في أنهم يرثون معها؛ إذ لا يُعقل كونهم يحجبونها وهي تحجبهم، ولا نظير لذلك في المواريث، وإذا حجبوها مع ضعفهم بوجود الأب، فمع قوتهم بعدمه أولى وأحرى كما تقدم. _________ (1) "الوراثة في الإسلام" (ص 43).

(17/733)


وأجاب الجيراجي عن هذا (ص 41 و 42) بأن الإخوة لا يرثون إلّا من كلالة، أي ممن ليس له ولدٌ ولا أبوان. أقول: هذا التفسير باطل كما سيأتي. ثم قال: "أما سبب التفريق فهو أنه عند عدم الولد والإخوة لما لم يكن الفرع مطلقًا انتقل حظُّه إلى أبويه". أقول: هذا أمر تخيُّلي، بدليل حَجْبِ الولد للزوج إلى الربع والزوجة إلى الثمن، ولا كذلك الأبوان. وانظر المثال الآتي: - ابن ... بنت ... زوج 1 ... 2 (1) ... 1 - أب ... أم ... زوج 1 ... 2 ... 3 ... بنصّ كتاب الله تعالى 2 ... 1 ... 3 ... بتأويل عمر رضي الله عنه وحَجْبُهم إيّاها إلى السدس يقتضي أنهم كالولد، لكن هذا في الاثنين منهم فما فوق، وبقي حكم الواحد والواحدة مجملًا. وسكت هنا عن حكم الأب معهم، فاحتمل أن يكون إشارة إلى أنه يحجبهم. فإن قيل: هذا لا يستقيم، لأنه قد سكت أيضًا عن حكمهما مع الزوجين. قلنا: لكنه هنا بيَّن مواريث الأبوين، ثم ذكر حكم الأمّ مع الإخوة، فكان _________ (1) كذا في الأصل وهو سبق قلم، والصواب العكس، للابن سهمان وللبنت سهم.

(17/734)


مظنَّةَ أن يذكر حكمُ الأب معهم، فالسكوت عن ذكره في مظنته لا يخلو من إشارةٍ إلى أن حكمه لا يتغير بوجودهم، وهو معنى الحجب. لكن تُعارضُه الآيةُ التي آخرَ السورة، فإنه شرط في توريث الإخوة عدم الولد، وسكت عن ذكر الأب، ففيه إشارة إلى أنه لا ينقصهم عن شيء كتب لهم. ويرجِّح ما هنا أنه قال أولًا: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}، ولم يقل: "أو إخوة"، فدلَّ أنهم لا يساوون الولدَ في حجب الأبوين، ثم ذكر حكم الأم معهم فقط، فدلَّ أن حكم الأب بخلاف ذلك، فهي دلالة مضاعفة. وما في آية الكلالة يقابل الدلالة الأولى فقط. وقد يجاب: أن الدلالة الأولى غايتها إفهام أن الإخوة لا يحجبون كلًّا من الأب والأم إلى السدس، ثم أخرجت الأم، فبقي من الدلالة الأولى أن الإخوة لا يحجبون الأب إلى السدس، وهذا لا يقتضي أنه يحجبهم، فبقيت الدلالة الثانية، أعني السكوت عن بيان حكمه معهم، وهي وحدها لا تقوى على معارضة دلالة آية الكلالة مع ما يعضدها، كما يأتي إن شاء الله تعالى. ويُرَدُّ بأنه إذا سُلِّم أن الدلالة الأولى تقتضي أن الإخوة لا يحجبون الأب إلى السدس، فما يكون حكمه معهم إن جعلنا له ما بقي؟ كحاله مع أحد الزوجين كان معرضًا للسقوط، وكيف يسقط مع الإخوة ولم يسقط مع البنين؟ وإن قلنا غير ذلك كان تخرُّصًا بلا دليل، فوجب أن نرجع إلى النظر، نجد النظر يقتضي أن الإخوة لا يرثون مع الأب: أما إذا كانوا ذكورًا أو ذكورًا وإناثًا أشقَّاءَ أو لأبٍ فلأنهم عصبة، والأب أقرب تعصيبًا منهم. وأما إن كنَّ

(17/735)


إناثًا شقائقَ أو لأبٍ فلأنهن يَقْوَيْنَ بوجود الأب أشدَّ مما يَقْوَيْنَ بوجودِ أخٍ لهن، فيضعُفُ جانب الاستحقاق فيهن، فيرجعن إلى التعصيب، فيقدَّم الأب لأنه أقربُ تعصيبًا. وأما الإخوة لأمٍّ فلأن الله عزَّ وجلَّ إنما فرض لهم ممن يورث كلالةً، أي فيمن إذا كان له إخوة أشقَّاء أو لأبٍ لم يكونوا محجوبين. وقد علمت أن الأشقاء أو لأبٍ لا يرثون مع الأب، فلا يَرِث الإخوة من أمٍّ مع الأب. فأنت ترى أن الأبوين لم يقوما مقامَ الولد. وتفريقه بأن ميراث الزوجين وصية من الله، وباقي المواريث فريضة، لا يُجدِي، وسيأتي ردُّه إن شاء الله تعالى في العَوْل. قال (1): "أما مع الإخوة الذين هم فرعٌ لأصل المورث، ويقومون مقام فرع المورث عند عدمه". أقول: ليس على إطلاقه، فإن الإخوة لا يحجبون أحدَ الزوجين، وإذا لم يحجبوه اختلفت المقادير، فلم يقوموا مقام الفرع. قال (2): "فنصيبُ كلٍّ من الأبوين لا يكون إلّا السدس، كما كان مع فرع المورث". أقول: قد علمتَ أن الإخوة ليسوا بقائمين مقامَ الفرع في كلِّ شيء، ولم يحجبوا أحد الزوجين، وبالأولى أن لا يحجبوا الأب. بل لم يفرض الله عزَّ وجلَّ للأب قطُّ ثلثًا ولا ثلثين حتى يُحجَب إلى السدس. _________ (1) "الوراثة في الإسلام" (ص 42). (2) المصدر نفسه (ص 42).

(17/736)


قال (1): "لكن الإخوة لما كانوا يُدْلُون إلى الميت بهما، لا يصل إليهم حظُّ الفرع ما دام أحدهما موجودًا". أقول: لا دليلَ على ذلك من النصوص، بل ولا من النظر؛ لأن النظر إما أن يكون قياسًا على ولد الولد مع أبيه، والجدّ مع الأب، والجدة مع الأم، فهو قياس مع الفارق؛ فإن إدلاءَ هؤلاء لا يُشبِهه إدلاءُ الإخوة بالأبوين. والإدلاء ضربان: أحدهما: ابن ابنك، وأبو أبيك. والثاني: ابن أبيك. وحَجْبُ الأب للإخوة الأشقّاء أو لأبٍ في مذهب الجمهور ليس لأنهم يُدلُون به، بل لما سيأتي قريبًا أنهم لا يكونون معه إلّا عصبةً، وهو أقربُ تعصيبًا منهم، فهو مقدَّم عليهم، وعليه فلا تُقاسُ عليه الأم، لأنها ليست بعصبة. وأما حَجْبُه للإخوة لأمٍّ فلأن الله عز وجلَّ لم يفرض لهم إلّا ممن يورث كلالة، أي ممن لو كان له إخوة أشقّاء أو لأبٍ لم يكونوا محجوبين، وقد تبيَّن أن هؤلاء يُحجَبون بالأب. قال (2): "بل ينتقل ... ". أقول: أما انتقاله إلى الأب فمسلَّم، لكن لكونه أقربَ عصبةً لا للإدلاء، فلا تُقاس عليه الأم، والله أعلم. وهذا التقسيم يكون {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا} المورث. _________ (1) المصدر السابق (ص 42). (2) المصدر نفسه (ص 42).

(17/737)


نقل الآلوسي (1) عن الفخر ما يفيد أن في هذا القيد دلالةً على نسخ آية الوصية، وعكسَ الجيراجي (2) فزعمَ أن فيه دلالةً على عدم النسخ، وسيأتي ذلك مبسوطًا في الموضع الرابع إن شاء الله تعالى. {أَوْ دَيْنٍ} يكون عليه أي المورث، وفي تأخير الدين عن الوصية والإجماع على تقدمها ثم أدائه بحثٌ لا يُهِمُّنا؛ إذ ليس ذلك من مواضع الخلاف. قال عزَّ وجلَّ: {آبَاؤُكُمْ} أيها الرجال المورثون {وَأَبْنَاؤُكُمْ} أي: هؤلاء المبيَّنُ ميراثُهم آباؤكم وأبناؤكم، {لَا تَدْرُونَ} أنتم أيها المورثون {أَيُّهُمْ} الآباء والأبناء {أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} في الدنيا والآخرة، لقصور علمكم وما يغلب عليكم من الهوى، ولم يذكر "الإخوة" وإن كان قد تقدَّم الرمزُ إلى ميراثهم، لأنه ليس بيانًا تامًّا كما علمتَ. وههنا دليلٌ على نسخ آية الوصية هاكَ بيانَه، وخصّ الآباء والأبناء لأنهم أخصُّ وألصقُ بالمورث، فإذا جُهِل حالُهم فحالُ غيرهم من باب أولى. في تفسير الآلوسي (3): وعن ابن عباس [أنهم كانوا يعطون الميراث الأكبر فالأكبر] (ص 18 رقم 1) (4). _________ (1) "روح المعاني" (2/ 54). وانظر: "تفسير الفخر الرازي" (5/ 66). (2) انظر "الوراثة في الإسلام" (ص 43 ــ 44، 4، 7). (3) (4/ 228). وما بين المعكوفتين منه. (4) لم أجد الدفتر الذي يشير إليه المؤلف؛ ليُعْرَف تتمة الكلام.

(17/738)


ويؤيِّد هذا الوجهَ في الدلالة على النسخ وجهٌ آخر، وهو أن الله عزَّ وجلَّ أكَّد معنى ..... (ص 19 رقم 1) (1). ووجهٌ آخر، وهو في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} .... (ص 19 رقم 2) (2). واعلم أن المواريث على ضربين: الضرب الأول: مَن كان مستحقًّا للصلة والمواساة من الورثة. الضرب الثاني: مَن كان من العصبة الذين من شأنهم الحماية عن المورث والدفاع عنه. وباستقراء المواريث يُعلَم أن الله عزَّ وجلَّ جعل للمستحقين فرائض معلومة، وترك العصبة على ما بقي، ولا يختلف هذا إلّا لعلةٍ، فالأب جامعٌ بين الأمرين، فقدَّر له الفرض حيث خِيفَ أن ..... عن السدس، وذلك مع الولد، وحيث لم يكن ولد لم يُفرض له، لا لأنه ليس .... الاستحقاق، بل لأن ................... ثم إن من الورثة مَن يجتمع فيه الأمران، كالأب والابن، ويقرب منهما الإخوة الأشقّاء أو لأب. ومنهم مَن ينفرد بالاستحقاق، كالأم والبنت والأخت وأحد الزوجين والإخوة لأم. ومنهم من يضعف استحقاقه، فلا يُعتدّ إلا بعصوبته كالأعمام وبنيهم. ومنهم من ضعف استحقاقه وليس بعصبة. _________ (1) لم أجد الموضع المشار إليه. (2) لم أجد الموضع المشار إليه.

(17/739)


فأما القسم الثالث والرابع فلم يُذْكرا في القرآن إلا بالإجمال في قوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} إلخ، كما قدمنا. وقدَّم الله تعالى الأول، فذكَر أهم أركانه، وهم الأب والابن والأخ شقيقًا أو لأبٍ، وترك ذِكْر الجدود وأبناء الأبناء إلى الاجتهاد والنظر، وذَكَر الأم مع الأب لأنها قرينته، وكذا البنت مع الابن، مع أنها إذا كانت معه كان لها حكم خاص. وأما الإخوة فإنما ذكرهم إجمالًا على ما تقدم، لأنهم دون الآباء والأبناء في الاستحقاق وفي العصبية، مع أن القرآن كان ينزل بحسب الوقائع والدواعي. وقد عُلِم من ذكر الإخوة في النوع الأول أنهم جامعون بين الاستحقاق والعصبية، وهذا إنما يصحُّ في الأشقاء أو لأب. هذا من حيث استحقاقهم، فأما من حيث حَجْبُهم للأم فلا يلزم ذلك. وبهذا فُهِم من كون الإخوة يحجبون الأمّ أنهم الأخوة من أيّ نوعٍ كانوا، وفُهِم من حَجْبهم الوارثَ أنهم يرثون. ثم ختم هذا النوع بقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وكان مقتضى الظاهر بالقياس على ما يأتي أن يُذكَر هذا القيد عَقِبَ ميراث الأولاد، فتركه هناك اكتفاءً بهذا إشارةً ــ والله أعلم ــ إلى إرادة التقسيم الذي ذكرناه، وأنهم نوع واحد. وأكّد ذلك بقوله: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ ... }، فتبيَّن بذلك أن هذه الآية خاصة بنوع. وكرَّر هذا القيد فيما يأتي ثلاثًا، ولم يكتفِ في التقييد في الأخير لأمرين، الأول: الإشارة ــ والله أعلم ــ إلى أن هناك اختلافًا بين ميراث الزوجين والميراث الذي ذكره بقوله: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ ... }، وهذا

(17/740)


الاختلاف ظاهر على قول عامة المسلمين: إن هذا ميراث الإخوة لأم، فإن الاختلاف بينهم وبين الزوجين من حيث إن صلة الزوجين سببية وصلتهم سببية، وذكره عَقِبَ ميراث الأزواج ثم عَقِب ميراث الزوجات، ولم يكتفِ بالأخير منهما لأن الميراثين لا يجتمعان، والله أعلم. ولما خرج عن النوع الأول إلى النوع الثاني يئس السامع أن يبيِّن في هذا الموضع ميراث الداخلين في النوع الأول من الإخوة، وهم الأشقّاء أو لأب، ولم ييأس من بيان حكم الإخوة لأمّ، لأنهم من النوع الثاني، فذكر الله عزَّ وجلَّ النوع الثاني، وهم الأزواج أو الزوجات والإخوة لأم. ولما كان ميراث الأزواج آكدَ من ميراث الإخوة لأمّ، بدليل عدم سقوطه بحال، ويُحتاج إليه في دفع ما يتوهم مما تقدم أن للأولاد جميع المال بعد سدس الأبوين، وللأب جميع المال بعد ثلث الأم وغير ذلك= بدأ عزَّ وجلَّ به فقال: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ... }. وهل هذا داخل تحت قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} كما بيَّنا دخول قوله: {وَلِأَبَوَيْهِ ... }؟ عندي أنه داخل أيضًا، والتقدير هكذا: (يوصيكم الله في أولادكم) كلًّا منكم في أولاده، ( ..... و) في آبائكم كلًّا منكم في أبويه أن يكون (لأبويه .... و) في أزواجكم كلًّا منكم في زوجه أن يكون (لكم .... ). فإن قلت: قد مرَّ أن توجيه الوصية إلى الرجال بصفتهم مورثين المراد منه تحذيرهم من تغيير المواريث بالوصية، وهذا لا يأتي هنا، لأن الأزواج هنا وارثون.

(17/741)


قلت: إن الأزواج غالبًا يكونون ذوي نفوذٍ وسلطانٍ على أزواجهم، يضطرُّونهن إلى الإيصاء لهم، أو يستأثرون بأموالهن بدون وصية، فكانوا هم الذين ينبغي توجيه الوصية إليهم؛ إذ الوصية إنما وُجِّهت إلى مَن يُخشى منه مضارَّة المواريث، وهي هنا مخشيَّة من الأزواج، فتدبَّر. {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَ} أن يكون {لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ} منكم {يُورَثُ} ميراثَ {كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} تورث كلالةً، وسيأتي في الآية التي آخرَ السورة أن الكلالة هنا هي قرابة الإخوة العصبيين، فالمعنى على هذا: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ} ميراثَ {كَلَالَةً} أي إخوة عصبية، يعني مستحقًّا أن يَرِثه الإخوة العصبيون بأن لم يكن هناك حاجبٌ لهم، وليس في هذا حصرٌ كما لا يخفى. وعليه ففي الآية الدلالةُ على أن الإخوة لأمٍّ لا يحجُبُهم إلا مَن يحجب الإخوة العصبيين. وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى في الحجب. والقول الآخر: إن الكلالة اسم للمورث الذي ليس له ولدٌ ولا أب، والكلام عليه ظاهر. {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَـ} أن يكون {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} الأخ أو الأخت {السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا} الإخوة {أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}.

(17/742)


وانعقد الإجماع على أن المراد بالأخ والأخت وأكثر من ذلك: الإخوة لأم، وروى البيهقي (1) بسند صحيح إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه كان يقرؤها: "وله أخ أو أخت من أم"، ونُسب مثله إلى ابن مسعود وأُبي بن كعب. ولعله ــ والله أعلم ــ نَسْخُ لفظ "من أم" له في الآيات ما يدلُّ عليه: أولًا: ما قدَّمنا من أن المذكور في الآيتين الأوليين من كان جامعًا بين الاستحقاق والعصبية، وذكر معهم غيرهم تبعًا، وأجمل ميراث الإخوة فبقيت النفس متطلعة إلى بيانه، فلما خرج من النوع الأول ودخل في النوع الثاني يئس من بيان حكم الأشقّاء أو لأب في هذا الموضع، ولم ييأس من بيان حكم الإخوة لأم، فلما ذكر حكم الإخوة في النوع الثاني كان معلومًا أنهم الإخوة من أم أولًا، لأن النفس إنما بقيت متطلعةً إليهم. وثانيًا: لذكرهم في النوع الثاني: وليس الأشقاء والإخوة لأب منه. وأمر ثالث: وهو أنه فرض للأخ السدس مطلقًا، وقد علمتَ مما تقدم أن الفرائض إنما جُعِلت بإزاء الاستحقاق، والأخ الشقيق أو لأبٍ الغالبُ فيه جانب العصبية. وأمر رابع: وهو أن الكلالة المراد بها قرابة الإخوة العصبيين، كما يأتي في تفسير الآية التي آخر السورة، فكأنه تعالى قال: "وإن كان رجل يورث _________ (1) في "السنن الكبرى" (6/ 231). وأخرجه أيضًا سعيد بن منصور في "سننه" (592 ــ تفسير) والدارمي (2/ 366) والطبري في "تفسيره" (6/ 483) وابن المنذر (1450) وابن أبي حاتم (3/ 887).

(17/743)


بالإخوة العصبية وله أخ أو أخت". فقوله: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} لا يمكن أن يكون تفسيرًا للكلالة، لأنه عطف عليها بالواو، والعطف يقتضي التغاير، فتعين أن يكون أراد: أخ أو أخت غير عصبيّ، أعني من أمٍّ فقط. وهذا الأمر يأتي على تفسير الكلالة بالمورث الذي ليس له ولدٌ ولا أبٌ، لأن قوله: {يُورَثُ كَلَالَةً} معناه ــ والله أعلم ــ يُورث من حيث هو كلالة، وإنما يَرِثه مِن حيثُ هو كلالةٌ إخوتُه العصبيون، فكأنه قال: وإن كان رجل يورث بالإخوة العصبية. والله أعلم. وقد نازع الجيراجي في تفسير الآية، ودفع قولَ عامة المسلمين بوجوه، فقال (1) (ص 103 مسودة) .... قال تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} أي الإخوة كما يأتي إن شاء الله. {الْكَلَالَةِ} الكلام على الكلالة يحتاج إلى بسط وتحقيق، أما الجيراجي فإنه مرَّض القول فيها، وبنى الكلام على ما زعمه من أن الوارث في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} هو العهدي، وقد علمتَ بطلانه. وعلى أن الإخوة لا يرثون مع الولد والأب بالاتفاق، وهو غلط. فإن أراد بالولد ما يتناول البنت كما هو قوله، فإن الجمهور يُورِّثون الإخوةَ مع البنت والبنتين، _________ (1) انظر كلامه حول تفسير الآية في "الوراثة في الإسلام" (ص 45 ــ 48). ولم أجد ردّ المؤلف عليه ولا المسودة التي أشار إليها.

(17/744)


وصحَّ ذلك في أحاديث كثيرة كما ستأتي إن شاء الله تعالى. وإنما نازع ابن عباس في ذلك، ونزاعه ضعيف من حيث الدليل، ويحتمل التأويل كما يأتي إن شاء الله تعالى. ومن الأمة مَن يُورِّث الإخوة مع الأب، وهو مذهب الشيعة ومرويّ عن ابن عباس، وهو مقتضى الرواية عن عمر رضي الله عنه، ومعترك الخلاف في الكلالة هو هذا، أيَرِثُ الإخوة مع الأب أم لا؟ فادّعاءُ الاتفاق فيه غلط محض. وجعل الجيراجي الأمَّ مثل الأب بلا دليل غير مجرَّد الإدلاء (1)، والإدلاء ــ مع كونه لا يتحقق إلّا في الإخوة وفي نصيبها من الأشقّاء ــ لا يصلح أن يكون دليلًا، إذ لا نصَّ من الشارع أنه لا يرث أحدٌ مع مَن يُدلِي به. وبناؤه على تفسيره "الأقربين" قد بطل ببطلان ذلك التفسير كما تقدم. والإجماع إنما انعقد في الإدلاء المسلسل: أبو الأب، أُم الأم، ابن الابن، فلا يقاس عليه الإدلاء غير المسلسل: ابن الأب، ابن الأم. فأما الإجماع في عدم توريث ابن الأخ مع الأخ وابن العم مع العم فإنما هو مبني على أن ابن العم وابن الأخ عصبة محض، وذهاب الجمهور إلى أن الإخوة لا يرثون مع الأب ليس للإدلاء، وإنما هو لأنهم لا يكونون معه إلّا عصبة، وهو أقربُ تعصيبًا منهم، كما تقدم في قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ}. أما نحن فنقول في الكلالة: إنها مصدر من: كَلَّ السيفُ إذا ضعُفَ حدُّه، _________ (1) انظر "الوراثة في الإسلام" (ص 42).

(17/745)


والطَّرْفُ: إذا ضعُفَ بصره، والرجلُ: إذا ضعُفَ اقتدارُه. تُطلَق على القرابة الضعيفة، يقولون: هذا ابن عمِّي لَحًّا، وذاك ابن عمِّي كلالةً، يريدون أن بنوَّة عمِّ الأول تامَّة، وبنوَّة عمِّ الثاني ضعيفة. وأحسن ما ذكره أهل اللغة فيها: قول الزمخشري رحمه الله في "أساس البلاغة" (1): " [كلَّ فلانٌ كلالةً: إذا لم] يكن ولدًا ولا والدًا، أي كلَّ عن [بلوغ القرابة المماسَّة] ". لكن لابدَّ من اشتراط كونه ذا قرابةٍ، إذ لا يقال لمن لا قرابة له أصلًا: كلالة. ثم رأيتُ في "شرح السراجية" للسيد الشريف ما لفظه: "لفظ الكلالة في الأصل بمعنى الإعياء وذهاب القوة، كقوله (2): فآليتُ لا أرثي لها من كلالةٍ ثم استعيرتْ لقرابة مَن عدا الولد والوالد، كأنها كلالةٌ ضعيفة بالقياس إلى قرابة الولادة. ومما ذُكِر علمتَ أن تُطلَق على الإخوة والأخوات، لكن إذا كانوا من الأقربين، أي أشقَّاء أو لأبٍ، فإنهم لا يعتدُّون بقرابة الأمّ كما قدَّمنا في "الأقربين". ويشهد له قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ ... } كما قدَّمنا، فإنها _________ (1) (ص 550) مادة "كلل". (2) عجزه: ولا من حَفًى حتى تلاقي محمدا. والبيت للأعشى من داليته المشهورة في الديوان (ص 185).

(17/746)


تدلُّ على أن الإخوة لأمٍّ ليسوا بكلالةٍ، للعطف المقتضي للتغاير. وكذا تشهد لذلك الأدلّةُ التي دلَّت على أن المراد بالإخوة في هذه الآية الأشقَّاء أو لأبٍ، ومنها الإجماع. وفي البخاري (1) في بعض روايات حديث جابر أنه قال: "يا رسولَ الله، إنما يَرِثني كلالة". وفي بعض الروايات في "الصحيح" (2): "كيف أصنعُ في مالي ولي أخواتٌ". ففي هذا إطلاق الكلالة على الأخوات، وكانت أخواته شقائقَ أو من أبيه، فقد جاء بيانُ ذلك في أحاديث أخرى من رواية جابر (3) رضي الله عنه. وأخرج الإمام أحمد (4) عن عمرو القاريّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على سعدٍ وهو وَجِعٌ مغلوب، فقال: يا رسول الله، إنَّ لي مالًا وإنِّي أورث كلالةً". وقد ثبت في "الصحيح" (5) أنه كان له ابنةٌ. فإما أن يكون أطلق الكلالة على البنت لضعفها المعنوي، وإما أن يكون أراد أنه يَرِثه مع ابنته بنو أخيه عتبة وغيرهم، والثاني هو الظاهر. وقد قُرِئ في الآية التي أوّلَ النساء "يُورِث" بكسر الراء مخففةً، وبكسرها مشدَّدة. والظاهر على هاتين القراءتين أن "كلالةً" منصوب على _________ (1) رقم (194، 5676) ومسلم (1616/ 8). (2) البخاري (6743). وأخرجه أيضًا أبو داود (2886) وأحمد (14298) وغيرهما. (3) منها ما أخرجه البخاري (4052)، وفيه: "إنّ أبي قُتِل يومَ أحدٍ، وترك تسع بنات كن لي تسع أخوات ... ". وفي صحيح مسلم (2/ 1087) نحوه. (4) في "مسنده" (1440، 1474، 1479). (5) البخاري (5659) ومسلم (1628).

(17/747)


المفعولية، فهو يُطلَق على الورثة، والمراد ذوو كلالةٍ، وهو لا يخالف قراءةَ الفتح على ما قدَّرناه في تفسيرها. وجاء في بعض عبارات الصحابة: الكلالة ما دونَ الولد والوالد، وهو ظاهر في أنه يُطلق على الورثة. ففي "سنن البيهقي" (1) عن الشعبي قال عمر رضي الله عنه: الكلالة ما عدا الولد. وقال أبو بكر: الكلالة ما عدا الولد والوالد ... إلخ. وهذا هو الراجح عندي أن الكلالة اسم لقرابة الإخوة العصبيين وغيرهم من العصبية، لا للورثة ولا للمورث ولا للوراثة. على أنه لا مانعَ من إطلاقها على كلٍّ من هذه تجوُّزًا، وأكثرها الأول، فيقال: هم كلالةٌ، كما يقال: قرابة، أي ذَوُو كلالةٍ، وإطلاقُها على المورث بمعنى: ذُو ذَوي كلالة، أي ذو أقاربَ ذوي كلالةٍ، ففيه كثرة الحذفِ، فهو أضعف من الأول. إلّا أن لفظ الكلالة في القرآن لا يُحمل إلّا على المعنى المشهور المعروف أو ما يُقاربه، كيف وقد صحَّ في حديث جابر بن عبد الله كما تقدم، وسؤاله سبب نزول هذه الآية التي في آخر النساء، كما أخرجه الإمام أحمد والنسائي (2) من حديث أبي الزبير عن جابر، وهو في "سنن أبي داود" (3): ثنا أحمد بن حنبل ثنا سفيان قال: سمعتُ ابن المنكدر أنه سمع جابرًا ... فقلتُ: يا رسول الله، _________ (1) (6/ 224). وأخرجه أيضًا عبد الرزاق في "المصنف" (19191) وابن أبي شيبة في "المصنف" (11/ 415، 416) والطبري في "تفسيره" (6/ 475، 476). (2) "مسند أحمد" (14998)، والنسائي في "الكبرى" (6324، 7513). (3) رقم (2886) ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 224) بهذا الإسناد. وهو في "مسند أحمد" (14298).

(17/748)


كيف أصنع في مالي ولي أخواتٌ؟ قال: فنزلت آية الميراث: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}. وهو في "صحيح مسلم" (1) من طريق أخرى عن سفيان. وأطلق في بعض الروايات الثابتة في "الصحيحين" (2) فقال: "فنزلت آية الميراث". ووقع في بعض الروايات الصحيحة (3): "فنزلت: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ... } "، وهذا في قول بعض العلماء تفسيرٌ من الراوي على ما ظنَّه، أو لعله انتقل ذهنُه إلى قصة بنتَي سعد بن الربيع التي هي سببٌ لنزول قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ ... }، فإنها من رواية جابر. والدليل على ذلك أن جابرًا كما ثبت في "الصحيح" لم يكن له إلّا أخوات (4). أما الحافظ ابن حجر (5) فاختار الجمعَ بين الروايات بأن قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} الآيات، وقوله: {يَسْتَفْتُونَكَ} الآية، نزلتا معًا في جابرٍ وبنتَيْ سعد بن الربيع، والمتعلق بجابر من الأولى ذكر الكلالة. وأقول: لا ريبَ أن الجمع أولى من ردّ بعض الروايات الصحيحة، ولكن قد يُتعقَّب هذا الجمع بأمرين: أحدهما: أن قضية كون ذكر الكلالة في أول السورة متعلقًا بجابر أن _________ (1) رقم (1616/ 5). (2) انظر البخاري (5651، 6723، 7309) ومسلم (1616/ 7). (3) انظر صحيح مسلم (1616/ 6). (4) سبق تخريجه. (5) في "فتح الباري" (8/ 244).

(17/749)


يكون لجابر أختٌ أو أخ .................... إما شقائق وإما من أب ........... بيانه في الأحاديث ............ في "الصحيحين" عن عمر سؤال عن الكلالة وقول النبي ............ آية الصيف. وهذا يقتضي أن الآية الأولى نزلت في غير الصيف، وكون الاثنتين نزلتا في جابر يستلزم نزولهما في وقتٍ واحد. ويجاب عن الأول بأن غاية ما في الأحاديث الإخبار بأن لجابرٍ أخواتٍ شقائقَ أو لأب، وليس فيها نفي أن يكون له أخ أو أخت أو إخوة لأم. وعن الثاني بأنه قد لا يكون أراد بقوله "آية الصيف" تمييزها عن (1) الآية الأخرى في الكلالة، بل التمييز عن سائر آيات القرآن النازلة في تلك السنة، وربما يُستأنَس لهذا بقوله: "التي آخرَ سورة النساء". وهذا الجواب ليس بالقوي، ولكنه أولى من تغليط بعض الروايات الصحيحة. والله أعلم. فتحصَّل ممّا قدَّمنا أن الكلالة اسم للقرابة الضعيفة، والمراد بها قرابة مَن عَدا الولد والأب، لأن الولد والأب أقرب من غيرهم، وإن كانوا لشدة القرب لا يتناولهم لفظ "الأقربين"، فهي على هذا اسمٌ لقرابة الإخوة العصبيين وغيرهم من العصبة، وفي الآية التي آخرَ النساء اسم لقرابة الإخوة؛ لأنه اقتصر في جواب السؤال عن الكلالة على بيان ميراثهم، فدلَّ على أنهم هم المراد. _________ (1) في الأصل: "في".

(17/750)


{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} فيه احتمالانِ على قول مَن يجعل الكلالة اسمًا للمورث: أحدهما: أن يقول: إن المراد بـ "امرؤ": كلالة، وعليه فما يكون قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ}؟ أيُجعَل تكرارًا مع ما يتضمنه لفظ كلالة من عدم الولد؟ فما فائدةُ ذلك؟ قد زعم الجيراجي أنه تأكيد، أي لم يكن له ولدٌ إلى أسفل. فإن أراد أن لفظ الكلالة لا يتضمن نفي الولد إلى أسفل، فكيف يقول: تأكيدٌ، وإن أراد أنه يتضمن ولكن أكّد، فكيف يقول: أي لم يكن له ولد؟ وعلى كلِّ حال فالتأكيد غير ظاهر، فيلزم منه أن الشخص لا يمنعه وجودُ الولد عن أن يسمَّى كلالةً، فتكون الكلالة حينئذٍ المراد به من مات أبوه، وهو استعمال معروف، يقال لليتيم: كَلٌّ، ويحتمله قول الشاعر (1): وإن أبا المرءِ أحمَى له ... ومولى الكلالةِ لا يَغضبُ وقد رُوي عن عمر ما يوافق هذا، قال في الكلالة: هو ما خلا الأب (2). وعلى هذا فيضطرب الكلام في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} إذا فُسِّرتْ كلالة بما فُسِّرت به هنا ــ أعني من توفي أبوه ــ اسمًا للمورث، فيكون الظاهر أن الإخوة لأمٍّ يرثون مع الولد. وعلى كلِّ حال إن هذا التفسير باطلٌ بدليل السياق، ولو أُريد لقيل: " ... في الكلالة إن هلك" أو "إن كلالة هلك". _________ (1) البيت بلا نسبة في "تهذيب اللغة" (9/ 448) و"لسان العرب" (كلل). (2) سبق تخريجه.

(17/751)


ثانيهما: أن يقول: إنه أُريد بقوله: {إِنِ امْرُؤٌ ... } بيانُ الكلالة، فيلزمه أن الكلالة هو مَن لا ولد له. وله وجهٌ في اللغة كما تقدم، ووجهٌ آخر وهو أن الرجل إذا لم يكن له ولدٌ كان ضعيفًا، وبموته ينقطع نسبُه، إذ لم يترك مَن ينتسب إليه، ويبقى النظر في البنات، فإنهن وإن كنّ أنفسهنَّ ينتسِبْنَ إلى المورث، إلّا أنهن ضعافٌ لا يُفِدْن قوةً، مع أنه بموتهنّ ينقطع النسب؛ لأن بَنِيهنّ لا يُنسَبون إليه. وهذا الوجه هو الذي اختاره عمر بن الخطاب [رضي] الله عنه آخرَ عمرِه، فقد روى جماعة منهم الحاكم (1) بإسنادٍ ــ قال: على شرط الشيخين، وأقرَّه الذهبي ــ عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوصى عند الموت، فقال: الكلالة ما قلتُ، قال ابن عباس: وما قلتَ؟ قال: مَن لا ولدَ له. وفي "مسند" الطيالسي (2) عن شعبة عن عمرو بن مُرَّة أنه قال لمرّة: ومَن شكَّ في الكلالة؟ أمَا هو دون الولد والوالد؟ قال: إنهم يشكُّون في الوالد. وفي حواشي "السراجية": المرويُّ عن ابن عباس في أظهر الروايتين _________ (1) في "المستدرك" (2/ 303، 304). وأخرجه أيضًا عبد الرزاق في "المصنف" (19187، 19188)، وسعيد بن منصور في "السنن" (589 ــ تفسير)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (11/ 415) والطبري في "التفسير" (6/ 480) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 225). (2) رقم (60). ومن طريقه أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 225).

(17/752)


أن الكلالة ما سوى الولد (1)، فإنه قد روى عطاء أنه قال: سألتُ ابن عباس رضي الله عنه عن الكلالة، فقال: ما عدا الولد، فقلت: إنهم يقولون: ما عدا الوالد والولد، فغضب، قال: أنتم أعلم أم الله؟ قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} (2). وفي "سنن" البيهقي (3) وغيره عن الحسن بن محمد بن الحنفية أنه سأل ابن عباس عن الكلالة، فقال: ما دون الوالد والولد، فقال الحسن: إنما قال الله عز وجل: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ}. قال: فانتهرني. وقد روى البيهقي في "السنن" (4) حديث جابر من طريق أبي داود، وزاد في آخره: "من ليس له ولد وله أخوات". ولم أر هذه الزيادة في نسخة "سنن" أبي داود (5)، لكن عقبَ هذا الحديث "باب من ليس له ولد وله أخوات"، فذكر حديث أبي الزبير عن جابر (6). وعندي أن لفظ "باب" _________ (1) قال الطبري في تفسيره (6/ 479): هذا قولٌ عن ابن عباس، وهو الخبر الذي ذكرناه قبلُ من رواية طاوس عنه أنه ورَّث الإخوة من الأمّ السدسَ مع الأبوين. وقد أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (19027) والطبري (6/ 468) والبيهقي (6/ 227). (2) لم أجد هذه الرواية عن عطاء عن ابن عباس، ويناقضها ما يذكره المؤلف عن ابن الحنفية عن ابن عباس. (3) (6/ 225). وأخرجه أيضًا عبد الرزاق في "المصنف" و (19189) وسعيد بن منصور (588 ــ تفسير) وابن أبي شيبة (11/ 416). (4) (6/ 224). (5) رقم (2886) وهو في "مسند أحمد" (14298). (6) رقم (2887). وأخرجه أيضًا أحمد (14998) وعبد بن حميد في "مسنده" (1064) والطيالسي (1742) والنسائي في "الكبرى" (6324، 7513) والبيهقي (6/ 231) وغيرهم.

(17/753)


مدرج، وأن الصواب ما في "سنن" البيهقي (1). وقد راجعتُ "مسند أحمد"، فإذا فيه الحديث (ج 3 ص 308) (2)، وزاد بعد قوله: {يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}: "كان ليس له ولد وله أخوات {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} " (3). فهذه الأدلة تقتضي أن الكلالة اسم للمورث الذي ليس له ولد. وعلى كل حالٍ فالآية تقتضي أن الأب لا يحجب الإخوة. أما إذا قلنا: إن الكلالة هو المورث الذي ليس له ولد، فظاهر؛ لأنه لم يُشترط في توريث الإخوة غير تفسير الكلالة، أعني عدم الولد. وأما إذا قلنا: إنه اسم للإخوة فكذلك؛ لأنّ وجود الابن والأب لا يمنع إطلاق كلالة عليهم، فهم كلالةٌ وإن وُجِد الأب والابن. وإنما اشْتُرِط في توريثهم عدم الولد فقط، وهو يُفهِم أن _________ (1) أي بحذف كلمة "باب"، وجَعْل ما بعدها متصلًا بالحديث السابق. وهو ــ كما صححه المعلمي ــ في طبعة محمد عوامة للسنن (3/ 405)، وقد قال في هامشها: هكذا جاء آخر الحديث في الأصول كلها إلا (ك)، فإنه ختم الحديث بكلمة "الكلالة"، وبعدها: "باب من كان ليس له ولد وله أخوات". وفي (ظ) ضبة بين كلمة "الكلالة" و"من كان ... ". وفي (ح) ضبة كذلك لكن مع كتابة كلمة "باب" في الهامش على الحاشية، وأنه كذلك في نسخة. (2) كذا في الأصل، والحديث في "المسند" (3/ 307). ورقمه في الطبعة المحققة (14298). (3) في هامش الطبعة المحققة: أُقحِم في منتصف الآية في (م) و (س) و (ت): "كان ليس له ولد وله أخوات". ولم ترد في (ظ 4) فحذفناها.

(17/754)


وجود الأب لا ينقصهم شيئًا. وهكذا إذا قلنا: إن الكلالة أُطلِقت على الوراثة. فعلى كل حالٍ إن إطلاق هذه الآية يقتضي أن الإخوة يرثون مع الأب. فإذا أضفنا إلى هذا أن عمر رضي الله عنه كان أشدَّ الناس سؤالًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكلالة، وقد أوصى بما علمتَ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طعنَ في صدرِه وقال: "أما يكفيك آيةُ الصيف التي في آخر سورة النساء؟ " (1)، وهذه الآية تدلُّ على ما علمتَ، وأن هذه الآية وقعتْ جوابًا للاستفتاء عن الكلالة، وجوابُ الاستفتاء ينبغي أن يكون مستوفيًا= تَرجَّح (2) أن الإخوة يرثون مع الأب. ولكن قد قدّمنا في تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ ... } ما يدفع هذا، فارجع إليه. وعليه فيقال: إنه لما سكت هنا عن التقييد بعدم الوالد أحاله على ما تقدم هناك، والقرآن يُبيِّن بعضُه بعضًا. والله أعلم. بقي أن الجيراجي (3) زعم أن وجود الأمِّ يمنع إطلاق "كلالة". وهو قول بلا دليل، أما إذا قلنا: إن الكلالة تُطلَق على الإخوة فظاهر، وأما إن قلنا: إنه يُطلَق على المورث، فهذه الآية تدلُّ أنه الذي لا ولد له، وإنما فهمنا نفيَ الأب مما تقدم في الآية التي أوَّلَ النساء، وليس فيها دليلٌ على نفي الأمّ كما تقدم هناك. وإطلاقُ بعض الصحابة وأهل اللغة أنه مَن لا ولدَ له ولا والد، أو على ما عدا الولد والوالد، مع كونه ليس بحجة، فالوالد إنما هو حقيقة في الأب كما تقدم. _________ (1) أخرجه مسلم (567، 1617) عن عمر. (2) جواب "فإذا أضفنا ... ". (3) في "الوراثة في الإسلام" (ص 47).

(17/755)


وزعم (1) أن البنت وبنت الابن وبني البنات يدخلون تحت "الولد". فأما البنت وبنت الابن فقد وافقه غيرُه، وبيَّنّا في فصل الأولاد أن ذلك إن قيل له فهو من عموم المجاز، والأولى الوقوف عند الحقيقة، وإنما لا يُفرَض للأخت مع البنت وبنت الابن بأدلة أخرى، كالأحاديث الدالة على أن الإخوة والأخوات مع البنات عصبات. وسيأتي في مبحث ميراث الإخوة من الحجب إن شاء الله تعالى. وقد جاء عن ابن عباس أنه كان ينكر في بنت وأخت أن تُعطَى الأختُ النصفَ، ويقول: إنما قال الله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} فقلتم أنتم: لها النصف وإن كان له ولد (2). وهذا ضعيف، أما إذا قلنا: إن البنت ليست داخلةً تحت كلمة "ولد" فظاهر، وأما إن قلنا: إنها داخلة فلأنّ الذي في الآية: {فَلَهَا النِّصْفُ} أي فرضًا كما هو ظاهر، ونحن لا نُعطيها النصف فرضًا، بل نُعطيها ما بقي بعد الفرائض. وكونُه يقع نصفًا في بعض الصور لا ينافي الآية، وهذا كما نُعطي الأب النصف في: بنت وأب، مع أن الله تعالى إنما فرض له السدس. والعجب أن ابن عباس يورث الأخ مع البنت، مع أن دلالة الآية على عدم ميراثه معها أوضح من هنا كما سيأتي، وهذا مما يدفع به قوله. ومع هذا _________ (1) المصدر السابق (ص 29). (2) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (19023) والحاكم في "المستدرك" (4/ 339) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 233).

(17/756)


فقد تضافرت الأدلة الصحيحة الصريحة بتوريث الإخوة مع البنات، كما سيأتي بسطها إن شاء الله تعالى. فأما بنو البنات فإنهم ليسوا بأولادٍ حقيقةً كما هو ظاهر، ودعوى دخولهم بالمجاز لا دليلَ عليها إلا قياسُهم على بني البنين، وهو قياس في اللغة، مع أن قائلهم يقول (1): بنونا بنو أبنائنا وبناتُنا ... بنوهنَّ أبناءُ الرجالِ الأباعد ونحن إنما ورَّثنا أبناءَ البنين بالنصوص التي وردت في ذلك، كحديث ابن مسعود وغيره، ثم بالإجماع. وليس في بني البنات نصٌّ ولا إجماع، بل الإجماع على أنهم لا يرثون. والله أعلم. {وَلَهُ أُخْتٌ} شقيقة أو من الأب، لا أنها لا تكون كلالةً إلّا إذا كانت كذلك كما قدَّمنا، ولأن حكم الإخوة من الأمّ قد تقدم في موضعه على خلاف هذا، ولأن الإخوة هنا شُبِّهوا في فرائضهم بالأبناء، وهذا لا ينبغي إلّا في الأشقّاء أو لأبٍ، لأنهم من العصبة، فأما الإخوة من أم فإنهم أباعدُ، والإجماع فوق ذلك، والله المستعان. {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} المرء المورث، أي أخوها من أبيها وأمّها أو من أبيها، وقد تقدم ما تدلُّ عليه نسبة الفرض إلى "ما ترك" من إبطال رأي الجيراجي في العول. _________ (1) البيت بلا نسبة في "الحيوان" (1/ 346) و"شرح شواهد المغني" (2/ 848). ونُسب إلى الفرزدق في "خزانة الأدب" (1/ 213)، ولا يوجد في ديوانه.

(17/757)


{وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} فيأخذ جميع مالها أو ما يبقى بعد الفرائض التي لا تسقط، وإن فُسِّر الولد هنا بما يعمُّ البنتَ كان ظاهره أن الأخ يسقط معها، ولا يأتي هنا الجواب المتقدم في الأخت، والجواب أن الدلالة إنما هي بمفهوم الشرط. {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} تقدم ما فيه. {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ} منهم {مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} قد تقدم ما فيه، ولم يكتفِ به هنا عن بيان ميراث الاثنتين، لأن في ذلك نوعَ غموض، فلا يحسن أن يكون غامضًا في الموضعين. وأغمضَ هنا ميراث ما فوق الاثنتين لأنه بيَّنه هناك، وهذا حثٌّ لطالب العلم أن يتدبَّر القرآن كلَّه، ولا يقتصر على بعضه، والله أعلم. وقوله: {إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً} ثلاثتها جموعٌ، زعم الجيراجي أن المراد بها الجنس، حتى تصدُقَ على الأخ الواحد مع الأخت الواحدة مثلًا. وهذا غير لازم، أما "إخوة" فإنه صادق في الصورة المذكورة، لأن أقلّ الجمع اثنان في لسان الأنصار وغيرهم، وصحَّ ذلك في لفظ "إخوة" المتقدم في أول السورة، كما بيَّنا ذلك هناك. وأما "رجال ونساء" فلا داعي لإخراجها عن ظاهرها، بل نقول: إنهما لا يَصدُقان في الصورة المذكورة، ولا يَصدُق "رجال" في صورة: أخ وأخوات، ولا "نساء" في صورة: إخوة وأخت، لكن حكم هاتين الصورتين يُعلَم بالقياس، والله أعلم.

(17/758)


{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ} حكم الكلالة كراهيةَ {أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. قال الجيراجي (1): "فإن قيل: أيُّ ضلالٍ أكبر من أنه ما اتفق عليها الصحابة رضي الله عنهم، ولم يعلمها عمر رضي الله عنه، فكان يقول: اللهمَّ مَن كنتَ بيَّنتَها له فإنها لم تتبيَّنْ لي (2). وما زال الخلاف إلى اليوم. قلنا: ليس هذا ضلالاً، هذا هو البيان الموعود .... ". فقوله: "هذا هو البيان الموعود" لا أدري أشار إلى ما تقدَّم من أنه ما اتفق عليها الصحابة ... إلخ، أم إلى ما بيَّنه هو في تفسيرها؟ والأول بعيد جدًّا، فتعيَّن الثاني، وفيه من التبجُّح ما لا يخفى. ولعَمر اللهِ ما أنصف إذ جعلَ الصحابة رضي الله عنهم ــ وهم المخاطَبون أولًا وبالذات بقوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} ــ جعلَهم وسائرَ الأئمة وعلماء الأمة وجميع أفرادها أجمعوا كلُّهم على ضلالٍ في بعض أحكام الكلالة لتوريث الإخوة مع الأم، ولم يَجْنِ جَنى البيانِ ولا رُزِقَه إلا الحافظ أسلم الجيراجي! فالله المستعان. قال (3): "فيُدرِك بعضهم الصوابَ فيؤجَر عشرة أجور، ويُقصِّر آخر فيؤجَر أجرًا واحدًا". _________ (1) "الوراثة في الإسلام" (ص 51). (2) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (10/ 305) والطبري في "التفسير" (7/ 725). (3) "الوراثة في الإسلام" (ص 52).

(17/759)


هذا خلاف الحديث المشهور (1): "إذا اجتهد القاضي فأصاب فله أجرانِ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد". وكأن الجيراجي ذهب إلى الحديث الآخر: "مَن همَّ بحسنةٍ لم يَعملْها كُتِبتْ له حسنةٌ واحدة، فإن عَمِلَها كُتِبْت له عشرةُ حسنات" (2). ولم يعلم أن المراد بقوله: "ولم يعملها" بأن عرضَ له مانعٌ، فكفَّ عنها مختارًا، فأما مَن عمل عملًا ظنَّه حسنةً فلا يدخل في هذا، بل الظاهر أن يُؤتَى الأجر كاملًا، إنما الأعمال بالنيات (3). والحديث الأول يدلُّ على هذا، ولكن أعطى الله المصيب أجرينِ، وذلك عبارةٌ عن عشرين حسنةً، وأعطى المخطئ أجرًا كاملًا، وهو عبارة عن عشر حسناتٍ {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261] (4). (الوصية) استدلَّ الجيراجي (5) بآية الوصية، وقد تقدم تفسيرها وأنها تحتمل وجهين، أحدهما لا دلالةَ فيه على المدَّعَى أصلًا، ولكننا لا نتمسك به، بل نبني كلامنا على الوجه الآخر، فنقول: إن هذه الآية منسوخة بدلالة الكتاب والسنة والإجماع. _________ (1) أخرجه البخاري (7352) ومسلم (1716) من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة وأبي سلمة. (2) أخرجه البخاري (6491) ومسلم (130) من حديث ابن عباس. (3) أخرجه البخاري (1) ومسلم (1907) من حديث عمر بن الخطاب. (4) بعدها في المجموعة 14 صفحة لا علاقة لها بالمواريث، ثم يبدأ الكلام على الوصية في صفحة 54. (5) انظر "الوراثة في الإسلام" (ص 2 ــ 7).

(17/760)


أما الكتاب فأوّلًا هي نفسُها تدلُّ على أنها لا تصلُح أن تكون حكمًا دائمًا، وذلك أنه بيَّن فيها أن الموصي مُعرَّضٌ للجنف والإثم، ولم يشرع لذلك حلًّا كافيًا إلّا مجرد نفي الإثم عمن أراد أن يصلح بينهم، والصلح مداره على الرضا. واعلم أن الإنسان غالبًا .... ص 4 (1). فإذا تأملتَ هذا مع ما سيأتي بيانه من منافاة حكم الوصية للمصلحة الحقيقية، ولاحظتَ أن أهل الجاهلية كانوا يخصُّون أولادهم بأموالهم، إلى غير ذلك من أهوائهم، وكنتَ ممن يفهم حكمة الله عزَّ وجلَّ في الخلق والأمر من بناء الإصلاح على التدريج، رِفقًا بالخلق وتألُّفًا لهم وتعليمًا لهم طُرُقَ الحكمة= علمتَ أن الله عزَّ وجلَّ إنما شرع حكم الوصية تعديلًا لعادات الجاهلية مما لا يُنفِّر النفوس ويُعاكِس المألوف، فبيَّن أن للوالدين والأقربين حقًّا، ولم يُحتِّم أداءه، بل وكَلَه إلى رغباتهم، فمن شاء أكثر ومن شاء أقلَّ. وعلى كل حالٍ فالأمر يهونُ عليهم؛ لأنهم يرون أن الأمر راجعٌ إلى رضاهم، وليس قسرًا عليهم، ولكنه مع هذا نبَّههم على أنهم معرَّضون للجنف والإثم، ولم يجعل لذلك حلًّا كافيًا كما تقدم. ومن ذلك يعلم المتدبّر أن هذا حكم مؤقَّت، وفي هذا دلالة ظاهرة أن هذا الحكم سيُنْسَخ. ثانيًا: آيات المواريث، والدلالة فيها على النسخ من طريقين، إجمالية وتفصيلية. _________ (1) أشار المؤلف هنا إلى ص 4 رقم 1 لإكمال الكلام حول الموضوع في دفتر آخر، ولم نجده، وهكذا أشار المؤلف في الصفحة التالية ومواضع أخرى.

(17/761)


أما التفصيلية فقد تقدمت في تفسير الآيات، وهي في مواضع: 1 ــ {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ}. 2 ــ {نَصِيبًا مَفْرُوضًا}. 3، 4، 5 ــ {يُوصِيكُمُ اللَّهُ}. 6 ــ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ ... }. 7 ــ {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} وهو يشتمل على عدة أوجه. 8 ــ {غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ}. وأما الإجمالية فمن وجوه: 1) تعيين مواريث ..... ص 11 وأجاب الجيراجي (1) عن هذا الوجه بما مرَّ دفعُه في تفسير {يُوصِيكُمُ اللَّهُ}. 2) أن آية الوصية خاصة .... ص 13 3) أن قسمة العليم الحكيم ... ص 13 وثَمَّ غيرُ ذلك من الدلالات أشرنا إلى بعضها في تفسير الآيات. واستدلَّ الجيراجي (2) على بقاء حكم الوصية لقرابته بآية الوصية في _________ (1) في "الوراثة في الإسلام" (ص 4). (2) المصدر نفسه (ص 5).

(17/762)


المائدة، وقد بيَّنا بطلانَ استدلاله في تفسير الآية. والله أعلم. وأما السنة فاستدلَّ الجيراجي (1) منها بحديث الصحيحين (2): "ما حقُّ امرئ له شيءٌ يُوصي فيه يبيتُ ليلةً أو ليلتين إلّا ووصيته مكتوبة عنده". ولا دليلَ فيه؛ لأن الوصية ليست قاصرة على الوصية التوريثية، بل من المشروع أن يُوصي الإنسانُ بما له وعليه من الديون والحقوق، وعليه يُحمل الحديث. وبحديث ابن ماجه (3): "من ماتَ على وصيةٍ مات على سبيلٍ وسنةٍ". وسنده ضعيف، ومع ذلك فلا دليلَ فيه أيضًا. ثم لو فُرِض أنه ثبتَ شيء من السنة ينصُّ على الوصية التوريثية فهو محمول على أنه كان قبل نسخها، فيكون منسوخًا بما نُسِخت به الآية، والله أعلم. أدلة النسخ من السُّنَّة: عن ابن عباس قال: "كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنسخَ الله من ذلك ما أحبَّ، فجعل للذكر مثلَ حظِّ الأنثيين، وجعل للأبوين لكلِّ واحدٍ منهما السدسَ، وجعل للمرأة الثُّمنَ والربعَ، وللزوج الشَّطْرَ والربع" _________ (1) "الوراثة في الإسلام" (ص 2). (2) البخاري (2738) ومسلم (1627) عن ابن عمر. (3) رقم (2701) عن جابر بن عبد الله. قال البوصيري في الزوائد: في إسناده بقية، وهو مدلِّس. وشيخه يزيد بن عوف لم أر مَن تكلم فيه.

(17/763)


رواه البخاري في "صحيحه" (1) من طريق عطاء عن ابن عباس. قال الحافظ في "الفتح" (2): وهو موقوف لفظًا، إلّا أنه في تفسيره إخبارٌ بما كان من الحكم قبل نزول القرآن، فيكون في حكم المرفوع بهذا التقرير ... وقد أخرجه ابن جرير (3) من طريق مجاهد بن جبر عن ابن عباس .... وفي "سنن" أبي داود (4) من طريق عكرمة عن ابن عباس: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}، فكانت الوصية لذلك حتى نسختْها آية المواريث. وفي "الدر المنثور" (5): وأخرج أبو داود والنحاس معًا في "الناسخ والمنسوخ" وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} قال: كان ولد الرجل يورثونه (6)، و {لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} قال: كان الوصية لهما، فنسختْها {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} الآية. وأخرج وكيع وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر _________ (1) رقم (2747، 4578، 6739). وقد سبق في أول الرسالة. (2) (5/ 372). (3) في "تفسيره" (6/ 459). (4) رقم (2869). وأخرجه أيضًا البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 265). (5) (2/ 164، 165). والأثر في "الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص 88، 89) و"تفسير ابن أبي حاتم" (1/ 299). (6) في "الدر المنثور": "يَرِثونه".

(17/764)


والبيهقي (1) عن ابن عمر أنه سُئل عن هذه الآية {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}، قال: نسختْها آية الميراث. وعن جابر قال: عادني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبو بكر في بني سلمة ما شيَيْنِ، فوجدني النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا أعقِلُ شيئًا، فدعا بماءٍ فتوضأ، ثم رشَّ عليَّ، فأفقتُ، فقلتُ: ما تأمرُ أن أصنع في مالي؟ فنزلت {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} متفق عليه (2). وله رواياتٌ قد تقدَّم الإشارةُ إلى بعضها في الكلالة. وفي رواية الإمام أحمد والنسائي (3) من طريق أبي الزبير عن جابر قال: اشتكيتُ، فدخلَ عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقلت: يا رسولَ الله، أُوصِي لأخواتي بالثلث؟ قال: أحسن، قلتُ: بالشَّطْر؟ قال: أحسن. ثم خرج، ثم دخل عليَّ فقال: "لا أراكَ تموتُ في وجعك هذا، إن الله أنزل وبيَّنَ ما لأخواتك، وهو الثلثان". فكان جابر يقول: نزلتْ هذه الآية فيَّ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}. فجابر رضي الله عنه أراد أن يوصي بناءً على آية الوصية، ولكنه استشار النبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فأنزل الله عزَّ وجلَّ الميراث. _________ (1) العزو إليهم في "الدر المنثور" (2/ 165). وانظر "مصنّف" ابن أبي شيبة (11/ 209) و"تفسير" الطبري (3/ 131، 132) و"السنن الكبرى" للبيهقي (6/ 265). (2) البخاري (194، 4577) ومسلم (1616). (3) "المسند" (14998) و"السنن الكبرى" للنسائي (6324، 7513). وأخرجه أيضًا أبو داود (2887) وإسناده صحيح.

(17/765)


وعن سعد بن أبي وقّاص قال: مرضتُ عامَ الفتح مرضًا أَشْفَيْتُ [منه] على الموت، فأتاني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يعودني، فقلتُ: يا رسولَ الله، إنّ لي مالاً كثيرًا وليس يَرِثني إلا ابنتي، أفأُوصي بمالي كلِّه؟ قال: لا، قلت: فثُلثَي مالي؟ قال: لا، قلت: فالشطر؟ قال: لا، قلتُ: فالثلث؟ قال: "الثلث، والثلث كثير، إنك أن تَذَرَ ورثتَك أغنياءَ خيرٌ من أن تَذَرَهم عالةً يتكفَّفُون الناسَ" متفق عليه (1). فسعدٌ سأل عن الوصية لغير الورثة، ولم يتعرض لذكر الورثة، فلو كان حكم الوصية التوريثية باقيًا لما سكت عن ذلك، ولمَا أقرَّه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وفي رواية الترمذي (2) عن سعد قال: عادني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأنا مريض، فقال: "أوصيتَ؟ " قلت: نعم، قال: "بكم؟ " قلت: بمالي كلِّه في سبيل الله، قال: "فما تركت لولدِك؟ " قلت: هم أغنياء بخير، فقال: "أَوصِ بالعُشر" فما زلتُ أناقِصُه حتى قال: "أوصِ بالثلث، والثلث كثير". ففيها أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سألَه أوصيتَ، ففهمَ سعد أن المراد الوصية لغير الورثة، كما يدلُّ جوابُه، ولو كانت الوصية للورثة باقيةً لكانت أول ما يتبادر إلى ذهنه. وعن النعمان بن بشير قال: أعطاني أبي عطيةً، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشْهِدَ رسولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: إني أعطيتُ ابني من عمرة بنت رواحة عطيةً، فأمرتْني أن أُشْهِدَك يا رسولَ الله، قال: "أعطيتَ سائرَ ولدِك مثلَ هذا؟ " قال: لا، قال: "فاتقوا الله واعدِلوا بين _________ (1) البخاري (6733) ومسلم (1628). (2) رقم (975).

(17/766)


أولادكم"، قال: فرجعَ فردَّ عطيتَه. وفي روايةٍ أنه قال: "لا أشهد على جورٍ" متفق عليه (1). قال الحافظ في "الفتح" (2): تمسَّك به من أوجبَ التسوية في عطية الأولاد، وبه صرَّح البخاري، وهو قول طاوس والثوري وأحمد وإسحاق، وقال به بعض المالكية. ثم المشهور عن هؤلاء أنها باطلة. وإذا امتنع التفضيلُ في حال الصحة في حين لو أعطى المورث أجنبيًّا لجازت عطيته، فكيف في حال المرض حين يُحْجَر على المورث فيما زاد عن الثلث، كما جاء من حديث أبي بكر (3) وعلي (4)، وسعد بن أبي وقاص وقد تقدم، وابن عمر (5) وابن عباس (6) ومعاذ (7) وأبي هريرة (8) وأبي _________ (1) البخاري (2587) ومسلم (1623). والرواية الأخرى عند مسلم (1623/ 14). (2) (5/ 214). (3) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (2/ 794). وفي إسناده حفص بن عمر بن ميمون، وهو ضعيف. (4) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (11/ 202) موقوفًا عليه. (5) أخرجه ابن ماجه (2710). قال البوصيري في "الزوائد": في إسناده مقال؛ لأن صالح بن محمد بن يحيى لم أر لأحدٍ فيه كلامًا لا بجرح ولا غيره. ومبارك بن حسان، وثقَّه ابن معين، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال أبو داود: منكر الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ ويخالف. وقال الأزدي: متروك. (6) أخرجه البخاري (2743) ومسلم (1629). (7) أخرجه الطبراني في "الكبير" (20/ 54) والدارقطني في "السنن" (4/ 150). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/ 212): فيه عتبة بن حميد الضبي، وثقَّه ابن حبان وغيره، وضعَّفه أحمد. وفيه أيضًا إسماعيل بن عياش، وهو ضعيف في روايته عن غير أهل بلده. (8) أخرجه ابن ماجه (2709). وفي إسناده طلحة بن عمرو الحضرمي، وهو متروك.

(17/767)


الدرداء (1) وأبي أمامة (2) وشدَّاد بن أوس (3) وعمران بن حصين (4) وأبي زيد الأنصاري (5) وخالد بن عبيد الله السلمي (6). وفي بعضها التصريحُ بإبطال الوصية فيما زاد عن الثلث، وذلك فيما رُوي عن عمران بن حصين أن رجلًا أعتق ستةَ مملوكين له عند موته، لم يكن له مالٌ غيرُهم، فدعا بهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فجزَّأهم أثلاثًا، ثم أقرعَ بينهم، فأعتقَ اثنين وأرقَّ أربعةً، وقال له قولًا شديدًا. رواه مسلم (7). _________ (1) أخرجه أحمد في "المسند" (27482) والبزار (1382 ــ زوائد) والطبراني في "مسند الشاميين" (1484). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/ 212): فيه أبو بكر بن أبي مريم، وقد اختلط. (2) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (8665). قال الهيثمي (4/ 211): "فيه توبة بن نمير [كذا، والصواب: نَمِر]، ولم أجد من ترجمه. وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، وقد ضُعِّف ووُثِّق. وبقية رجاله ثقات" اهـ. أما توبة بن نمر، فكان فاضلًا عابدًا تولَّى قضاء مصر، كما في "تعجيل المنفعة" (ص 61). وأما عبد الله كاتب الليث فقد تابعه الإمام الثقة الثبت سعيد بن أبي مريم عند الدارقطني (4/ 234). (3) أخرجه الطبراني في "الكبير" (7171). قال الهيثمي (4/ 213): فيه الوليد بن محمد الموقري، وهو متروك. (4) أخرجه مسلم (1668). (5) أخرجه أحمد (22891) وأبو داود (3960) والنسائي في الكبرى (4973). وفي إسناده انقطاع بين أبي قلابة وأبي زيد. (6) أخرجه الطبراني في "الكبير" (4129). قال الهيثمي (4/ 212): إسناده حسن. (7) رقم (1668).

(17/768)


وفي رواية أبي داود (1) أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - قال في هذا المعتق: "لو شهدتُه قبلَ أن يُدفَن لم يُدفَنْ في مقابر المسلمين". ومن الحكمة ــ والله أعلم ــ في هذا أن الإنسان في حال صحته شحيحٌ، يأملُ طولَ الحياة ويخشى الفقرَ، فاكتفى الشرع بوازعِه الطبعي عن أن يَحجُر عليه، مع أنه إن أعطى لا يُعطي إلّا بسببٍ شديد يُجبِره على عصيانِ شُحِّ نفسِه. ولكن هذا بالنسبة إلى الأجانب، فأما بالنسبة إلى ولده فإنه يُؤثِرهم على نفسه، فمنعَ الله عزَّ وجلَّ من تفضيل بعضهم على بعضٍ سدًّا للذريعة. وأما حالة المرض فإن المرء يخِفُّ شُحُّه، ويَضعُفُ أملُه، وكثيرًا ما يكون له هوًى غيرُ مشروعٍ في أجنبي، أو بُغضٌ لوارثه، فيحمله ذلك على إعطاء الأجنبي وحرمان الوارث، وكثيرًا ما يكون لبعض الأجانب عليه حقوق عظيمة لم يتمكن من أدائها حالَ صحتِه، فجعلَ الله عزَّ وجلَّ له الثلث يُوصِي به حيث أراد، مع التصريح بكراهية ذلك في قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا ... } كما تقدم، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "والثلث كثير"، وأحاديث كثيرة في هذا المعنى. عن عمرو بن خارجة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خطبَ على ناقته وأنا تحتَ جِرانِها، وهي تَقْصَعُ بجِرَّتها وإنّ لُعابَها يَسِيل بين كَتِفَيَّ، فسمعته يقول: "إن الله قد أعطى كلَّ ذِي حقٍّ حقَّه، فلا وصيةَ لوارِثٍ" رواه الإمام أحمد والترمذي وحسَّنه، والنسائي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي (2). _________ (1) رقم (3960) من حديث أبي زيد الأنصاري. وأخرجه أيضًا النسائي في "الكبرى" (4973). (2) انظر "المسند" (17664، 18081) والترمذي (2121) والنسائي (6/ 247) وابن ماجه (2712) والدارقطني (4/ 152) والبيهقي (6/ 264). وفي إسناده شهر بن حوشب وهو ضعيف، ولكن الحديث صحَّ من طرقٍ أخرى.

(17/769)


وعن أبي أمامة قال: سمعتُ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: "إنَّ الله قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصيةَ لوارث". رواه الإمام أحمد والترمذي وحسَّنه، وأبو داود وابن ماجه (1)، وحسَّنه الحافظ ابن حجر أيضًا (2). وفي سنده إسماعيل بن عياش، رُمي بالتدليس، ولكنه هنا صرَّح بالتحديث. وغمزه بعض الأئمة، ولكن بيَّن حالَه جماعةٌ من الأئمة أنه إنما يُضعَّف إذا روى عن الحجازيين، قال بعضهم: لأن كتابه عنهم ضاع، فخلّط في حفظه، أما إذا روى عن الشاميين فأكثر الأئمة يُقَوُّون حديثه، ومنهم من يصححه، منهم: الإمام أحمد وابن معين وابن المديني والفلَّاس والبخاري ويعقوب بن سفيان وصالح بن محمد الأسدي والترمذي والنسائي وأبو أحمد الحاكم والبرقي والساجي والدولابي (3). وقد رُوِي الحديث موصولًا من أوجهٍ ضعيفةٍ عن علي (4) وابن عباس (5) وجابر (6) وعبد الله بن عمرو (7)، ومرسلًا عن مجاهد (8) وعطاء _________ (1) انظر "المسند" (22294) والترمذي (2120) وأبو داود (3565) وابن ماجه (2713). (2) انظر "فتح الباري" (5/ 372). (3) انظر "تهذيب التهذيب" (1/ 322 وما بعدها). (4) أخرجه الدارقطني (4/ 97). وفي إسناده يحيى بن أبي أنيسة الجزري وهو ضعيف. (5) أخرجه الدارقطني (4/ 98). وفي إسناده عبد الله بن ربيعة مجهول. (6) أخرجه الدارقطني (4/ 97). وقال: الصواب مرسل. (7) أخرجه الدارقطني (4/ 98). وفي إسناده سهل بن عمار، كذَّبه الحاكم. (8) أخرجه الشافعي في "الرسالة" (ص)، وهو ضمن كتاب "الأم" (1/ 60، 61) ط. دار الوفاء.

(17/770)


الخراساني (1)، وأما الموقوفات والمقطوعات فكثيرة في هذا الباب. وقد مال الشافعي إلى تواتر حديث "لا وصية لوارث" (2). وكثير من العلماء يقول بأن خبر الآحاد ينسخ القرآن، وحجتهم قوية؛ لأن النسخ إنما هو بيان انتهاء مدَّة الحكم، وهذا إنما يعارض دوامه، ودوامه ظنّي، فكيف لا يكفي في معارضته ظنّي؟ على أنك إذا تأملت ما تقدَّم، وتتبَّعتَ المواريث التي قُسِمتْ في حياة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأحوال الصحابة، وأنه لم يُوصِ أحدٌ منهم وصيةً توريثية= علمتَ أن معنى الحديث متواتر. والله أعلم. الإجماع: الإجماع على نسخ حكم الوصية معلوم، فلا حاجةَ لتعداد أسماء ناقليه. والاختلاف في الناسخ لا يلزم منه الاختلاف في النسخ كما لا يخفى. والله أعلم. * * * * _________ (1) أخرجه الدارقطني (4/ 98). (2) "الرسالة" (ص 140).

(17/771)


(ذوو الفروض) قال (1): "جعل الفقهاء أولاد الأم من ذوي الفروض، وألحقوا بني الأعيان والعلات بالعصبة، واستدلُّوا عليه بقول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً ... } ... ". أقول: قد مرَّ في تفسير هذه الآية ما يُغنِي عن الإعادة. قال (2): "فنقول: إن من الأقسام الثلاثة للإخوة والأخوات أولادهم بالميراث بنو الأعيان ثم بنو العلَّات، كما جاء في الحديث: "إنّ أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلَّات" (3)، لأن قرابة بني الأعيان إلى المورث من جهتي الأب والأم معًا، فهم أقربون (4) إليه من بني العلَّات الذين ليس اتصالهم به إلّا من جهة الأب وحده، وأما أولاد الأم فهم أبعدُ الكلِّ، لأنهم ربما لا يكونون من أولاد آباء المورث، بل من عائلاتٍ أخر". أقول: قوله: "فهم أقربون إليه من بني العلّات" يريد به الاستدلال على حَجْبهم لهم بقوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}. ولكنه _________ (1) "الوراثة في الإسلام" (ص 8). (2) المصدر نفسه (ص 11). (3) أخرجه الترمذي (2095) من حديث علي بن أبي طالب. وفي إسناده الحارث الأعور وهو ضعيف. وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث أبي إسحاق عن الحارث عن علي، وقد تكلم بعض أهل الحديث في الحارث. (4) وضع المعلمي في الهامش علامة استفهام (؟) على هذه الكلمة؛ لأنها خطأ في العربية.

(17/772)


فسَّر "الأقربين" في الحجب بقوله (1): "والمراد بالأقرب أن لا تكون واسطةٌ بينه وبينَ المورث، إما مطلقًا أو كانت لكن انتفتْ قبل وفاة المورث". وسيأتي تمام البحث في الحجب إن شاء الله تعالى. قال (2): "فالفقهاء ظلموا الأقرباء؛ لأنهم جعلوا الأباعدَ من أولاد الأم ذوي فرض، والأقربين من بني الأعيان والعلَّات عصبةً، التي لا يُصيبها إلّا ما بقي بعد ذوي الفروض". أقول: إذا تأملتَ ما قدَّمنا في تفسير الآية علمتَ أن الفقهاء لم يأتوا بشيء من عند أنفسهم، وإنما قبلوا ما جاءهم عن الله عزَّ وجلَّ وآمنوا به. ومع ذلك فندفع شبهته بمعونة الله عزَّ وجلَّ. قد قدَّمنا في تفسير الآيات أن مدار المواريث على أمرين: استحقاق الصلة والتعصيب، وجعل الفروض المعيَّنة بإزاء الأول، وما يبقى بإزاء الثاني، وفصَّلنا هناك بعض التفصيل. ونزيد هنا أن الضرب الأول هم الذين يستحقون المالَ حقيقةً، وأما الضرب الثاني فغاية الأمر أنه إذا لم يكن هناك أحدٌ يستحقُّ المالَ كانوا أولى من غيرهم. فالحاصل أن استحقاق الضرب الأول آكدُ من الضرب الثاني, وقد يكون الشخص الواحد مستحقًّا للصلة ومن العصبة، وهذا قد يكون أضعفَ استحقاقًا ممن هو من الضرب الأول. كان ذلك ــ والله أعلم ــ لأنَّ من لم يكن من العصبة فلا يحتمل النقصَ ولا الحرمان، بخلاف مَن كان من _________ (1) "الوراثة في الإسلام" (ص 25). (2) المصدر نفسه (ص 12).

(17/773)


العصبة، فإنه يحتمل ذلك، لأنّ من شأنِه المحاماةَ عن مولاه والدفاع عنه بدون التماس مقابل، فينبغي أن يكون من شأنه الحرصُ على أداء الحقوق اللازمة لمولاه ولو من ماله، أعني العصبة، فضلًا عن المسامحة بما يستحقُّه على المولى. ومما يؤيد هذا حكمُ الشرع بدية الخطأ على عاقلة الجاني. ثم إن للأخ من الأم حقًّا آكدَ من حقِّ الأخ للأب، وذلك أولًا من حيثُ كونُه ولدَ الأمّ التي أُمِرْنا بصلتها أكثرَ من الأب، فوردَ: "بِرَّ أمَّك ثمَّ أمَّك ثمَّ أمَّك ثم أباك" (1) أو كما قال. ووردَ أن مِن بِرِّ الوالدين بِرَّ القرابة التي كانت قرابةً بواسطتهما، وبِرَّ أهلِ وُدِّهما (2). فُضِّلت على الأب [في الميراث] أيضًا، فجُعل فرضها ......... عدم الولد الثلث، وليس للأب إلّا ما بقي، فنتجَ من ذلك أن تنالَ ضِعفَه إذا كان معهما زوج. وهذا صريح القرآن، وخلاف ذلك خطأ. وسِرُّ المسألة أن الأب جامع بين السببين اللذين أوضحناهما أولَ هذا البحث، أعني استحقاق الصلة والعصوبة، فاستحقاق الصلة غايته السُّدس، ففُرِض له مع الولد خشيةَ أن ينقصَ منه، ولم يُفرَض له مع عدم الولد لأنه لا يَنقُص عنه. وعلى هذا فأخذُه أكثرَ من الأمّ في بعض الصور ليس تفضيلًا له عليها من حيث استحقاق الصلة، وإنما بقي هناك شيء غير مستحق، والعصبة أولى به، والأب أولى عصبةً هنا. وإذا ثبت أن الأم آكد استحقاقًا من الأب، فكذا يكون ولدها بالنسبة إلى _________ (1) سبق تخريجه. (2) أخرجه مسلم (2552) من حديث ابن عمر.

(17/774)


ولده، فأما الأشقَّاء فلأنهم جامعون بين الوجهين: الاستحقاق من حيث الصلة والعصبية، وقد تقدم أولَ البحث أن الجامع بين الوجهين أضعفُ حقًّا من المنفرد بالاستحقاق من حيث الصلة، وبيَّنا حكم ذلك بحمد الله تعالى ... فإن قلت: يستلزم من هذا أن الإخوة للأم إذا كانوا من العصبة بأن كانوا أبناءَ عم مثلًا يفضلوا على الأشقَّاء؟ قلت: كلّا، فإن العصوبة هنا لا حكم لها؛ لأن ابن العم لا يُعتَدُّ بعصوبته مع وجود الأخ. وثانيًا: الغالب أن الرجل لا يواصل في حياته أخاه لأمه كما ينبغي، بل هو عنده في عداد الأجانب. وثالثًا: يريد الله عزَّ وجلَّ التأليف بين الناس، ولاسيَّما بين أولاد الأم الواحدة، وإنما يتم هذا بأن يعلموا أن لأحدهم حقًّا على الآخر قد يكون آكدَ من حقِّ الشقيقِ، فضلًا عن الأخ لأب، لعلَّهم إذا علموا هذا قوِيَ ارتباطُهم وتمكَّن اتصالُهم، بخلاف الأشقَّاء والإخوة لأبٍ، فإن الارتباط بينهم مألوف، سواء طمعوا في الميراث أم لا. فإن قلت: فلِمَ لم يُفضِّل الأخ لأم على الشقيق، أو الأخ لأب مطلقًا؟ قلت: الأخ لأم له حقٌّ محدود، لا ينبغي أن يُزاد عليه ولا يُنقَص، وهكذا سائر أصحاب الفروض. وأما العاصب فليس له حقٌّ مبتوت، وإنما له ما فضَلَ، فأصحاب الفروض كأصحاب الديون. فلما جاء الإسلام ..................................................

(17/775)


وبنى المواريث على أصول أخرى يطولُ بيانُها، وإنما نذكر بعون الله عزَّ وجلَّ أمثلةً منها: الزوج: الزوج: مكلَّفٌ بتسليم مَهْر زوجته ونفقتها طولَ حياتها، وحاملُ المشقَّات في التماسِ رضاها، والصبر على عِوَجها وكفرانها، الذي شهد به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - (1). وبهذه الأمور وغيرها جُعِلَ نصيبُه فرضًا لا يسقط بحالٍ. والزوجة تشبه الزوج في بعض الأمور المتقدمة، ولكنها دونه، فجُعِلت على النصف منه مع المحافظة على أن لا تسقط. الأب: الغالب أن يكون ابنه قد بَرَّه وواساه وخَدَمه في حياته بما يستطيع، فلم يكن حقه بمؤكَّدٍ كالزوج، ولكن يكون مؤكَّدًا في الجملة في الأحوال التي يُخشى فيها من سقوط؟ الابن: هو أحقُّ الورثة لأسبابٍ عديدة، ولكن لم يجعل له الله عزَّ وجلَّ فرضًا لأنه آمِنٌ من السقوط. البنت: هي آكدُ حقًّا من الابن لضعفها وعجزها، فلذلك رُجِّحتْ عليه بأن جُعِل لها فرضٌ لا يُنْقَص عنه. ولكن إذا كان لها أخٌ فإنها ترجع عصبةً، وذلك _________ (1) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (3331) ومسلم (1468) عن أبي هريرة.

(17/776)


لاشتدادِ ساعدِها وانجبارِ ضعفِها ووهنِها، فصارت في حكم الابن. الأخ: حق الأخ ضعيف؛ إذ ليس مكلَّفًا بشيء مما تقدم، ولكن له حقٌّ في الجملة، فجعله الله عزَّ وجلَّ عاصبًا، أي إذا بقي شيء بعد الحقوق أخذه. أخت: لها حقٌّ آكدُ من حقّ الأخ؛ لأنها تكون في حياتها أحنَى وأشفقَ على أخيها من الأخ على أخيه، وأيضًا هي أنثى ضعيفةٌ تستحق المواساة في الحياة وبعد الوفاة، فلذلك سمَّى لها الله عزَّ وجلَّ فرضًا يُؤْمَنُ من سقوطه، إلّا إذا كان هناك أبٌ للميت، لأنه أبوها، فوجوده يَشُدُّ من عضدها ويتكفَّلُ بمواساتها، وجَعْلُ المالِ في يده أولى من جعلهِ في يدها. وكذا إذا كان هناك ابنٌ للميت، أولًا لأن حقَّ الابن آكدُ، وثانيًا لأنها عمَّتُه، فهو أيضًا مكلَّفٌ بصلتها ومواساتها. ولم يُحْرَم الزوج مع الأب؛ لأن الزوج لا يبقى صلةٌ بينه وبين أبي زوجته بعد وفاتها، ولم يُحرم الزوج مع الولد، لأنه إن كان ابنه فالأمر ظاهر، وإن كان ابنَ غيره فلأنه لا صلةَ بينهما. فإذا وَرِث مع الأخت أخ شقيق فإنها تُجعَل عصبةً؛ لأنها بوجود شقيقٍ لها انجبر ضعفُها وكسْرُها، فصارت في حكم الأخ. قال (1): "ومن نتائجه أن في بعض الأحيان تَرِث أولاد الأم ويُحرَم بنو _________ (1) "الوراثة في الإسلام" (ص 12).

(17/777)


الأعيان والعلَّات مثلًا" ثم ذكر المسألة المشتركة، ثم قال: "كيف يجوز ..... " (ص 97) (1). * * * * _________ (1) بعده بياض في الصفحة في الأصل.

(17/778)


(العصبة) نبدأ فنسوقُ أدلة القول بالتعصيب، ثم نعطف على اعتراضات الجيراجي إن شاء الله تعالى. قد قدَّمنا أن مدار الوراثة على أمرين: استحقاق الصلة والعصبية، وأن الأول هو مدار الفروض، والثاني مدار ما يبقى. ولنبسط هنا الكلامَ على هذا الأصل وإن وقعَ تكرارٌ لبعض ما تقدم. أَجَلْنا النظرَ في المواريث المبيَّنة في كتاب الله تعالى فإذا هي فروضٌ مقدَّرة وإرثٌ مطلق، بيَّنت السنة ثم اتفقت الأمة أن المراد بإطلاقه أن جميع المال عند عدم الفروض، والباقي بعد الفروض عند وجودها. ثم أَجَلْنا النظرَ في ذوي الفروض، فإذا هم إما إناث وإما رجال، ليسوا من رجال عشيرة المورث الذين يغضبون له ويعصبون حوله، ولم يخرج من ذلك إلّا الأب عند وجود الولد. وأَجَلْنا النظر في الضرب الآخر، فإذا هم كلهم من عشيرة المورث بلا استثناء، ثم نظرنا فإذا هم إما رجالٌ فقط، وإما رجالٌ مع أخواتهم، ولم يخرج من ذلك إلا الأخوات مع البنات. فتبين لنا أن مدار الفروض على استحقاق الصلة، ومدار ما يبقى على العصبية. ولكن من الورثة مَن يجمع الأمرين، فاقتضت الحكمة في هذا أنه إذا لم يُخشَ من سقوطه لم يُفرض، وذلك الابن والأب عند عدم الولد، وإذا خُشِي سقوطُه فُرِض له، وذلك الأب عند وجود الولد.

(17/779)


ومن الورثة مَن يكون من نساء العصبة، ولها حالات: إحداها: أن لا يكون معها أحدٌ من رجال العصبة ولا من ذوي الحقوق، ففي هذه الحال لها فرض معين بمقتضى استحقاقها، كالبنات والأخوات الشقائق والأخوات لأبٍ، إذا انفرد كلٌّ من ثلاثة الأنواع عما تقدم. الحال الثانية: أن يكون معها ذو حقّ، فلا يخلو أن يكون الاستحقاقان سواءً أو أحدهما أولى، فإن استويا فلكلٍّ فرضُه، ويشتركون، وإن جرَّ ذلك إلى العَول. وإن كان أحدهما أولى فلابدَّ من تنفيذه، ثم إن كانا من نوعٍ واحد فُرِض للمرجوح ما بقي من استحقاق النوع إن كان، وهذا حال بنت الابن مع البنت، والأخت لأب مع الشقيقة. وإن كانا من نوعين قُدِّم الراجح وما يساويه من الحقوق، فإن بقي شيء فللمرجوح. وهذا حال الأخوات مع البنات. الحال الثالثة: أن يكون معها أحدٌ من رجال العصبة، فإنها في هذه الحال تتقوَّى به، ويشتدُّ جانبها، وينجبر ضعفُها. ثم إن كان ذلك العاصب أضعفَ منها، بحيث إنها تُقدَّم عليه لو كانت ذكرًا، فإن كان لها فرض تناله، فإنها تستوفي فرضَها كاملًا، وهذا كالبنت مع ابن الابن، وكالأخت الشقيقة مع الأخ لأب. وإن لم يكن لها فرض فإنها تكون معه عصبةً، للذكر مثل حظّ الأنثيين، وهذه مسألة التشبيب. وإن كان مساويًا لها فإنها تتحوَّل عن فرضها، وترجع معه عصبةً، للذكر مثل حظّ الأنثيين، كالبنت مع الابن، والشقيقة مع الشقيق، والأخت لأب مع الأخ لأب، وبنت الابن مع ابن الابن.

(17/780)


وإن كان أولى منها فإنه يُسقِطها، وهذا كبنت الابن مع الابن، وبنت ابن الابن مع ابن الابن، وكالأخت مع الأب والابن وابن الابن، وكالأخت لأبٍ مع الشقيق. ويبقى النظر بين الجدّ والأخت: أهما متساويان أم أحدهما أولى من الآخر؟ فتبيَّن لنا أن الإرث المطلق مداره على الرجال من العشيرة، وإنما يكون للنساء بالعرض ولنساءٍ مخصوصات، وهن ذوات الاستحقاق الذي ثبت الفرض لهنّ من حين انفرادهن، أعني البنات والأخوات. ثم نظرنا في التعصيب الأصلي، فإذا هو مرتَّبٌ على الأولوية الذكرية: الابن فالأب فالأخ. ونظرنا في مدارِه ــ وهي العصبية ــ فإذا هي ثابتة فيما بعدُ لبني الإخوة والأعمام وبني الأعمام ثبوتًا لا شكَّ فيه، بحيث يكاد يُساوي عصبية الإخوة بالنسبة إلى الأجنبي. ففهمنا من هذا أن السلسلة ستستمر على الترتيب المذكور: الأولوية الذكرية. ونظرنا في مدار الفروض ــ وهي استحقاق الصلة ــ فوجدناها قويةً في بنات البنين وضعيفة فيما عداهن، فعلمنا من ذلك أن السلسلة الفرضية مستمرة في بنات البنين على الترتيب، وأما فيما عداهن كبنات الأخ والعمَّات وبنات الأعمام فلا، وإذا لم يكن هؤلاء مستحقاتِ فرضٍ فلا يمكن أن يُشاركن إخوتهن في التعصيب. ونظرنا في الفروض المقدرة فإذا هي مبنية على الاستحقاق كما مرَّ، وكلٌّ من أهلها قد فُرِض له ما يستحقه، ولم يبقَ له حقٌّ في الباقي، لأن المال

(17/781)


إنما يُستَحقُّ باستحقاقِ صلةٍ وقد استوفاها، أو بتعصيبٍ وليس بعصبة، فلا ينبغي أن يُزَاد لذلك المستَحَقّ الذي قد استوفى استحقاقه شيءٌ ما دام هناك عصبة، وذلك في مثل: بنت، ابن عم. هذا مقتضى النظر المستند إلى الأصول القطعية، وجاءت النصوص طِبْقَه، فروى ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: "أَلْحِقوا الفرائضَ بأهلها، فما بقي فهو لأَولَى رَجلٍ ذكر" متفق عليه (1). وفهم منه جماعة أن المراد بالفرائض الفروض المقدَّرة، وعلى هذا التفسير بنى الجيراجي اعتراضاتِه في: (1) أم ... بنت ... ابن (2) أم ... بنت ... أخت ... أخ (3) بنتان ... أخت ... ابن الأخ (2) قائلًا: إن هذه الثلاثة الأمثلة تَنقُض هذا الأصل (3). فأقول: بل المراد بالفرائض المواريث المبيَّنة في كتاب الله تعالى أو في سنةِ رسولِه غيرِ هذا الحديث، ويدلُّ على ذلك ما في بعض الروايات الصحيحة (4): "اقْسِمُوا المالَ بين أهل الفرائض على كتاب الله تبارك وتعالى، فما تركتِ الفرائضُ فلأَولَى رجلٍ ذكرٍ". _________ (1) البخاري (6732) ومسلم (1615). (2) في الأصل: "أخ". والتصويب من كتاب الجيراجي. (3) "الوراثة في الإسلام" (ص 16، 17). (4) عند مسلم (1615/ 4).

(17/782)


وهذا الاستعمال هو المعروف، قال الله عزَّ وجلَّ: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} إلى قوله: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا} {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ}. وكثُر في الأحاديث إطلاقُ الفرائض على مطلق المواريث، واتفقت الأمة على تسمية علم المواريث بالفرائض. ثم إن كان اشتقاقها من الفرض بمعنى الإيجاب ــ أي لأن الله عزَّ وجلَّ أوجبها بعد أن كانت موكولةً إلى اختيار المورث ــ فظاهرٌ، وكذا إذا كان من الفرض بمعنى الإنزال أو التبيين أو الإعطاء بغير عوض. وإن كان من الفرض بمعنى التقدير والتحديد فلأن جميع المواريث مقدَّرة محدَّدة، إن لم تكن بأحد الكسور الستة فبغيرها، وإن لم تكن بالتصريح فباللزوم، فالابن إذا انفرد فرضُه الجميع، وإذا كان مع زوج فله ثلاثة أرباعٍ، أو مع زوجةٍ فسبعةُ أثمانٍ، وهكذا، وجميعها مقدَّرة محدودة. وعلى هذا فلا تَرِدُ الأمثلةُ التي اعترض بها الجيراجي؛ لأنها كلَّها من الفرائض المبينة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فدخلتْ تحت قوله: "ألْحِقوا الفرائضَ بأهلها". ففي المثال الثالث ألحقنا الثلثينِ بالبنتين لأنه فرضُهما بنصّ القرآن، وألحقنا الباقي بالأخت لأنه مفروضٌ لها بمقتضى السنة، ولم يبقَ شيء حتى نجعله لأولى رجلٍ ذكرٍ، وهو ابن الأخ. ومع هذا فمَن يقول بالتفسير الأول يُجيب عن تلك الأمثلة بأنها مما خُصِّص فيه عمومُ هذا الحديث، المثال الأول والثاني بالقرآن، والثالث بالسنة، وتخصيص العموم غير مستنكر، فلا معنى لقول الجيراجي: "يقعُ

(17/783)


مباينًا للقرآن ومناقضًا لما أجمع الفقهاء عليه" (1) إلّا أنه يمكن أن يناقش في هذا التخصيص، وكيف كان أولى من عكسه، وغير ذلك. ولا حاجة لبسط الاعتراض والجواب، إذ كان المعنى الأول هو الراجح. وقد تأوَّل الحديث بقوله: "وعندي أنه ليس بحكمٍ كلِّيٍ، بل قضَى به - صلى الله عليه وآله وسلم - في قضيةٍ خاصة ... " (2). أقول: أولًا هذا مجرد احتمال ... (ص 94). وسيأتي في الحجب في بحث ميراث الإخوة أدلةٌ أخرى إن شاء الله تعالى. وقد ثبت في الصحيحين (3) وغيرهما مطالبةُ العباس رضي الله عنه بميراثه من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولم ينكر عليه أحدٌ بحجة أن العمّ لا يرث مع البنت، وإنما دفعوه بحجة أخرى، وإجماع الأمة بعد ذلك، والله أعلم. قال الجيراجي (4): "ومن أجل اعتبار العصوبة يقع في مسائل الوراثة خلل عظيم نوضّحها (؟ ) (5) بالأمثلة: (1) عشْرُ بنات ... وابن 10 ... 2 ولو كان مكان الابن أخت أو أخ أو ابنه لأخذ ثلثَ التركة بالعصوبة، أي _________ (1) "الوراثة في الإسلام" (ص 16). (2) المصدر نفسه (ص 16). (3) البخاري (6725) ومسلم (1759/ 53) عن عائشة رضي الله عنها. (4) "الوراثة في الإسلام" (ص 15). (5) علامة الاستفهام من المعلمي استنكارًا لتأنيث الضمير الذي يرجع إلى المذكر.

(17/784)


ضِعْفَ ما أخذه الابن، فكأن كلًّا من هؤلاء أكبر وارث (؟ ) (1) عند الفقهاء من ابن المورث". أقول: إن الشرع جعل البنين شيئًا واحدًا، فالابن الواحد والمئة سواء، فلا يصح أن يُفرَد نصيب واحد من جملة العدد ويُوازَن بينه وبين الأخ مثلًا. وقد فرض الله عزَّ وجلَّ للبنات إذا لم يكن ابنٌ الثلثينِ بنصّ كتابه، وفرضَ إذا كان ابنٌ أن يكون للذكر مثل حَظّ الأنثيين. فهلَّا اعترض الجيراجي على هذين الحكمين، بأنه في مثاله المذكور أخذت البناتُ أكثر من الثلثين مع أنَّ معهنَّ ابنًا، وأنه لو كان بدلَ الابنِ أبٌ لما أخذنَ إلّا الثلثين. وأيضًا أخذ الابنُ في المثال سدسًا، ولو كان بدلَه أبٌ أخذ ثلثًا. والمقصود أن نقص الابن في المثال إنما جاءه من زيادة نصيب أخواته على الثلثين، فإن كان للجيراجي اعتراض فليعترضْ على هذا. وخذْ مثالاً آخر: ثلاثون بنتًا ابن للابن هنا نصف الثُّمُن، ولو كانت مكانَه زوجةٌ لحازت الثمنَ، أو زوجٌ لحازَ الربعَ، أو أمٌّ لحازت السدسَ، أو أبٌ لحاز الثلثَ. هذا، مع أن نصيب الزوج لا يجاوز النصفَ، والزوجة الربع، أما الأخ فقد يكون نصيبه الكلّ. ثم إن هذا الحكم ــ أعني كون الأخت أو الأخ أو ابنه يحوز الباقي ــ ثابت بالأدلة المتقدمة، وسيأتي نصٌّ في الأولينِ في بحث ميراث الإخوة من الحجب إن شاء الله تعالى. _________ (1) استفهام إنكاري من المعلمي.

(17/785)


قال (1): " (2) زوج ... أب ... أم ... ابنان 3 ... 2 ... 2 ... 5 لو كان ههنا مكانَ الابنين بنتانِ لأخذتا ثُلثين من المال، أي أزيد بكثير من الابنين، والله تعالى جعل حظّ الأنثى نصفًا من الذكر". أقول: هذا الاعتراض يحسُن إيرادُه على العَوْل لا على التعصيب، لأنك تُوافِق أن الابنين ليس لهما إلّا ما بقي، وتُوافِق على أن للبنتين الثلثينِ، وإنما تُخالِف في العَوْل، فتقول: إن نصيب الزوج يخرج من الرأس، ثم تُقسَم التركة على حسب الفرائض فيكون القَسْم عندك على ما يأتي: زوج ... أب ... أم ... ابنان 2 ... 1 ... 1 ... 4 وكذا لو كان بدلَ الابنين ابنتانِ. وسيأتي إن شاء الله تعالى نقضُ اختراعِك هذا، وبيانُ فساده ومخالفتِه لكتاب الله عزَّ وجلَّ، في فصل العَوْل. وإنما نقول هنا: إنّ غاية ما فيه مساواة البنتين والابنين، فأينَ فيه جَعْلُ حظِّ الأنثى نصفًا من الذكر. قال (2): "مسألة"، وذكر مسألة التشبيب، وسيأتي الجواب في بحث ميراث الأولاد مع أولاد الأولاد من الحجب إن شاء الله تعالى. * * * * _________ (1) "الوراثة في الإسلام" (ص 15). (2) المصدر نفسه.

(17/786)


(ذوو الأرحام) قال في فصل العصبة (1): "والناس كلهم من أولاد آدم عليه السلام، فلا يمكن أن يخلو ميتٌ من عصبة، فذوو الأرحام ــ الذين يرثون عندهم إذا لم يكن للميت عصبةٌ ــ لا تصل إليهم التركة أبدًا". أقول: هم لا يريدون بقولهم: "إن ذوي الأرحام لا يرثون إلّا إذا لم يكن هناك عصبة" انتفاءَ العصبة في نفس الأمر، بل انتفاء العلم بها، وأنت خبير أن الغالب في الناس جهل الأنساب بعد بضعة آباء، فحينئذٍ يكون الغالب الجهل بالعصبة البعيدة. ولا تحسبنّ هذا الحكم خاليًا عن الحكمة، بل الحكمة فيه بيِّنة، وهو أن العصبة إنما يَرِث لمكان العصبية، أعني كونه يغضب للمتوفى، ويَحمي عنه، ويبذل دمه وماله في الذبّ عنه، وطبعًا إن هذا إنما يكون فيمن يعلم أنه عصبته، أعني أنه ابن عمه أو ابن عمّ أبيه مثلًا، فأما عند الجهل فهذا السبب مفقود، فليسقط اعتبار ما بُني عليه من الميراث. ثم استدل بالآيات التي سبق تفسيرها وإبطالُ ما ادَّعى دلالتها عليه، ثم قال (2): "وكان عمر رضي الله عنه يتعجب من أن العمة تورث ولا ترث". أقول: تعجبُ عمر من ذلك دليلٌ على أنها لا ترث، وبيانه أنه رضي الله عنه كان إمامًا صارمًا لا تأخذه في الله لومةُ لائم، فما بالُه يتعجب هنا تعجبًا؟ والتعجب إنما يكون عند رؤية شيء عجيب، والعجيب في الأحكام على وجهين: _________ (1) "الوراثة في الإسلام" (ص 14، 15). (2) المصدر نفسه (ص 19).

(17/787)


الأول: ما يُعلَم أنه منافٍ للحكمة ومخالفٌ لها. الثاني: ما لم يُدرِك المتعجب حكمتَه مع إيمانه بأن له حكمة. والأول لا يجيء هنا؛ لأن عمر رضي الله عنه كان إمامًا صارمًا لا تأخذه في الحق لومةُ لائم، فلو علم أن هذا الحكم خطأ بأن كان من حكم أبي بكر أو غيره من الصحابة لخالفهم، كما خالفهم في أحكام كثيرة، فإذْ لم يخالف هذا الحكم علمنا أنه يعلم أنه حكم ممن لا يجوز عليه الخطأ، ولا تنبغي مخالفته، فيكون قد علمه من حكم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولم تتبيَّن له حكمته، فكان يتعجب لذلك. ومع هذا فإننا لا نرى عجبًا في هذا الحكم: أولًا: لأننا نقول: إن العمة ترِث في الجملة، وذلك إذا لم يستغرق الفروض ولم يُعلَم العصبة، وهذا كافٍ في المقابلة، كما أن الأخت ترِث من أخيها النصف فرضًا، ولا يرِث منها إلّا ما أَبْقَت الفروضُ تعصيبًا. وثانيًا: الوراثة ليست مبنيةً على المقابلة، بل على الأسباب، فأيُّ مانعٍ أن يثبت لزيدٍ حقٌّ على عمرو ولا يثبت لعمرو حقٌّ على زيد؟ وهذا واضح هنا، فإن عصبية ابن الأخ لعمتِه ظاهرة بيِّنة، واستحقاقها صلته ضعيف، وانظر هذا المثال: لو أن أخوينِ أحدهما منقطع، والآخر ذو ولد، فلو مات المنقطع لَورِثه ذو الولد، ولو مات ذو الولد لم يكن لذلك المنقطع شيء. وأنت ترى أن فرض الزوج من زوجته ضِعْفُ فرضها منه وفرض الأب من بنته ثُلُثُ فرضِها منه. وإذا جاز الاختلاف زيادةً ونقصًا جاز وجودًا وعدمًا.

(17/788)


وقد تقدم حديث ابن عباس: "ألِحقوا الفرائضَ بأهلها، فما بقي فلأولَى رجلٍ ذكر". وفي "الفتح" (1): قال الخطابي: إنما كَرَّر البيانَ في نعتِه بالذكورة ليُعْلَم أن العصبة إذا كان عمًّا أو ابنَ عمٍّ مثلًا، وكان معه أختٌ له، أن الأخت لا ترِث، ولا يكون المال بينهما للذكر مثل حظّ الأنثيين. ولا يُعتَرض بأن هذا معلوم من لفظ "ذكر"، لأننا نقول: أكَّده لدفع التجوُّز والتغليب، والله أعلم. وقد جاءت أحاديث في نفي ميراث العمة والخالة، انظرها في "تلخيص الحبير" (2). وقد ثبت في الصحيحين (3) وغيرهما في كتب الحديث والسير والتاريخ مطالبةُ العباس عمِّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بميراثه من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولم يُنقَل البتةَ أن صفيَّة عمة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - طالبت لا هي ولا ورثتُها، ولا ذُكِرتْ في تلك المحاورات، وهي إنما توفيت في خلافة عمر رضي الله عنه. قال (4): "ولو رأى الفقه اليوم لازداد عجبًا، فإن فيه ابن البنت يورث ولا يرِث، وأمّ الأمّ ترِث ولا تورث". أقول: هذه صورة واحدة جعلَها صورتين، فإن ابن البنت إنما ترِثه أمُّ أمِّه لا أبو أمِّه. وقد علمتَ الجوابَ مما تقدم، فابن البنت يرث من ميراث ذوي _________ (1) (12/ 12). وكلام الخطابي في "أعلام الحديث" (4/ 2289). (2) (3/ 94). (3) البخاري (6725) ومسلم (1759/ 53) عن عائشة. (4) "الوراثة في الإسلام" (ص 19).

(17/789)


الأرحام، فلا وجه لنفي إرثِه. وسيأتي ما يتعلق بهذا في بحث ميراث أولاد الأولاد من الحجب إن شاء الله تعالى. قال (1): "وكذلك ابن الابن مع ابن الميت لا يَرِث عن جدّه، وجدُّه يَرِث عنه". أقول: أما هذه فهي كمسألة الأخوين المنقطع وذي الولد، وقد تقدمت. وسيأتي بَسْط هذا في الحجب إن شاء الله تعالى. (العول) (2) _________ (1) المصدر نفسه (ص 19). (2) بعده بياض في الأصل بمقدار نصف صفحة.

(17/790)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الله تبارك وتعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]. قوله: {وَلِأَبَوَيْهِ} أي المتوفى، فيعمُّ كلَّ متوفى كما لا يخفى، وهذا خبر، والظاهر أن مبتدأه محذوف، تقديره: "إرث" أو نحوه. وقدَّره بعضهم "الثلث". وقال بعضهم: المبتدأ هو (1) قوله: {السُّدُسُ}، وقوله: {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} بدل بعض. وقد رُدَّ هذا القول الأخير وأجيبَ عن الرد كما في "روح المعاني" (2). ولا أرى الجواب مُقنِعًا، ثمّ كلٌّ من القولين الأخيرين يقتضي أن الكلام انتهى عند قوله: {إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}، ثم استأنف ما بعده. والظاهر هو القول الأول، فيكون قوله: {لِكُلِّ وَاحِدٍ} إلى قوله: {أَوْ دَيْنٍ} تفصيل (3) لقوله: {وَلِأَبَوَيْهِ} أي إرثٌ. كما أن قوله في أول الآية: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} تقديره على الصواب: "في توريث أولادكم"، ثم فصَّله بما بعده. وقوله: {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} ظاهر، _________ (1) في الأصل: "بعد". سبق قلم. (2) (4/ 223 ــ 224). (3) كذا في الأصل مرفوعًا، والوجه النصب.

(17/791)


ومنطوق الآية خاص بحكم الأبوين عند اجتماعهما معًا مع الولد، ويؤخذ منها بمفهوم الموافقة أنه إذا انفرد أحدهما مع الولد فله السدس. أما أنه لا ينقص عنه فلأنه إذا لم ينقص عنه مع وجود الآخر فكذلك عند فقده، إذ لا يُعرف في الفرائض ذَوا فرضٍ ينقص أحدهما عن فرضه بسبب فقدان الآخر. وأما أنه لا يزيد عليه فلأن سبب النقص هو الولد، وهو موجود، فينقص أحدهما كما ينقص كلّ واحدٍ منهما. ويؤخذ منها بمفهوم المخالفة أنه إذا لم يكن ولدٌ فللأبوين حكم آخر. هذا، ومع وجود الولد والأبوين أو أحدهما قد لا يبقى شيء، كأن يكون الولد ذكرًا. وقد يبقى شيء، كبنتٍ وأبوين، أو وأب فقط. وفي هذه الحال قد يكون ذو فرضٍ كأحد الزوجين، فيأخذ فرضه، فإن لم يكن، أو كان وبقي بعد فرضه شيء ــ كبنتٍ وأبوين فقط يبقى السدس، أو مع زوجة يبقى ربع السدس ــ فالجمهور أن ما بقي فللأب، يأخذه بحق العصوبة، لحديث الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس مرفوعًا: "ألحِقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولَى رجلٍ ذكر". وحُكي عن الإمامية أن الباقي يُردّ على الورثة ــ أي دون الزوجة فيما يظهر ــ على حسب سهامهم. وهو خلاف ما دلَّت عليه السُّنَّة ومضى عليه الجمهور. فإن قيل: فإن القرآن وكَّد أن للأب مع الولد السدس، ومفهوم ذلك أنه ليس له غيره. قلت: وكذلك يقال في الرد في صورة أبوين وبنت: قد نصَّ القرآن أن للبنت النصف، وللأبوين السدسان، فمفهوم ذلك أن لا يُزاد أحد منهم. والحق أن نصَّ القرآن إنما هو في الفرض المحتوم، فلا ينافي أن يؤخذ غيره

(17/792)


بغير طريق الفرض تعصيبًا أو ردًّا على ما يقتضي الدليل. ثم بيَّن تعالى ما أجملَه بمفهوم قوله: {إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}، فقال: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}. فقوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ} أي: وبقية القضية بحالها، وهي اجتماع الأبوين كما هو ظاهر، فقد يستشكل قوله مع ذلك: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ}. والجواب يختلف باختلاف المذهب، أو يختلف باختلافه المذهب. وهنا مذهبان: الأول: مذهب الجمهور أنه إذا لم يكن ولدٌ ولا إخوةٌ، وكان أبوانِ، فللأمّ ثلثُ ما يأخذانِه، فإن لم يكن معهما أحد الزوجين أخذتْ ثلثَ التركة، وإن كان معهما زوجة أخذت الأمُّ ثلثَ الباقي، وهو الربع، وإن كان بدل الزوجة زوج (1) لم يكن للأم إلا السدس. الثاني: مذهب ابن عباس، وهو أن للأم ثلث التركة في الصور الثلاث. فلنبدأ بالجواب الموافق لمذهب ابن عباس فنقول ــ على فرض التزامنا مذهبَه ــ: قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} تأكيد، وحَسُن لأنه لو قيل: "فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث" لقال قائل: هذا إذا لم يكن معها أبٌ، زاعمًا أن هذه الجملة مستقلة عما قبلها، فلا يلزم موافقتها لها في كونها في اجتماع الأبوين. ويؤيد قوله بأن هذه لو كان المعْنِيَّ فيها على اجتماع الأبوين لبيَّن حكم الأب، فلما اقتصر على بيان حكم الأمّ دلَّ أن هذه الجملة إنما هي في حكم الأم عند عدم الأب. _________ (1) في الأصل: "زوجة" سبق قلم.

(17/793)


فإن قيل: بناء الجملة على ما قبلها ظاهر، ولو قيل: إنها في حكم الأم عند انفرادها عن الأب، رُدَّ ذلك بأن هذا القيد ــ وهو قولكم: "عند انفرادها عن الأب" ــ لا دليلَ عليه، فغاية ما هناك أن يكون قوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ [وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ] فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} على إطلاقه، فيعُمُّ الحالين معًا، أعني أن يكون معها أب أو لا يكون، والحكم في ذلك صحيح، فإنها إذا كانت أمٌّ ولا ولد فلها الثلث، سواء أكان الأب موجودًا أم لا. وعلى هذا فلا محذورَ من أن يُفهم هذا، بل قد يقال: إن في فهم ذلك زيادة فائدة صحيحة، وعلى هذا فلا مقتضي للتوكيد. وأما سكوته عن بيان نصيب الأب فلا يدلّ على عدم دخوله في الكلام، إذ قد يترك لأن المعنى: أن الباقي له، أو لأن حكمه يختلف. وعلى فرض الإصرار على دعوى الدلالة فلا محذور فيها كما تقدم. فالجواب أن أكثر أهل العلم قامت عندهم شبهاتٌ نظرية ألجأتْهم إلى القول بأنّ فرض الأم مع الأب والزوج السدس، ومع الأب والزوجة الربع. ولا ندري لعله لولا قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} لقالوا: فرضُ الأم مع الأب السدسُ أبدًا. ولعلهم لا يُسلِّمون عمومَ قوله لو قيل: "فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث" لحال وجود الأب، بل يخصُّونها بحالِ انفراد الأم، ويُقوُّون ذلك بعدم ذكر ما للأب. ففائدة التأكيد هي دفع تلك الشبهات، وإثبات أن للأم مع الأب عند عدم الولد والإخوة الثلث مطلقًا، أي سواء كان هناك أحد الزوجين أم لا، كما هو مذهب ابن عباس ومَن وافقه. فإن قيل: الذي حملَ الجمهورَ على ما ذكرتم إنما هو استبعاد أن تفضُلَ الأمُّ الأبَ في مسألة أبوين وزوج، وإنما قالوا في أبوين وزوجة أن للأمّ الربع

(17/794)


لما حملوا عليه الآية كما يأتي. والظاهر أنه لو لم يقل: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} لما زادوا على قولهم، وهو أن يكون للأم مثل نصف ما للأب حيث لم يكن ولد ولا إخوة، فلو أريد دفعُ ما قام لديهم من النظر لصرَّح بأن للأم مع الأب الثلث مع وجود الزوج مثلًا. فالجواب أن سنة الله عزَّ وجلَّ في إيراد الحجج الاكتفاء في أكثرها بالتنبيه عليها تنبيهًا كافيًا، لمن حَرَصَ على الحق وأنعمَ النظر ووُفِّق للصواب وما تقتضي الحكمة من ترجيح مقابله في نفسه، وأن يدع مناصًا لمن كان له هوًى أو قصَّر، ومجالًا لما قد تقتضيه الحكمة في بعض الجزئيات من ترجيح الله عزَّ وجلَّ في فهم القاضي خلاف الراجح، لاقتضاء الحكمة ذلك في تلك الجزئية، وهذا موضَّح في موضع آخر. وههنا تنبيه كافٍ، فإن التأكيد بقوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} قد دلَّ على شدّة العناية بتثبيت أن الكلام في حال اجتماع الأبوين، وإنما يكون ذلك لما ذكرنا، ثم قد عمَّت الآية الحالين، أعني أن يكون هناك أحد الزوجين أو لا، ونصَّت نصًّا قاطعًا على ذلك في الجملة، فكانت منه صورة قطعية، وهي أن ينفرد الأبوان وليس معهما أحد الزوجين، ولزم من ذلك أن يكون الحكم كذلك عند وجود أحد الزوجين، إذ المعروف في الفرائض أن الوارث إذا نقصَ فرضُه بسبب وارثٍ آخر كان وجوده ناقصًا لذاك باطّراد، كالولد مع الأم أو الأب أو أحد الزوجين ينقُصُهم على كلّ حال، وكالإخوة مع الأم ينقصونها على كل حال، ففي أبوين وأحد الزوجين من ينقص الأم؟ لا يمكن أن يكون الأب، فإنه إذا لم يكن أحد الزوجين لم ينقصها قطعًا، ولا يمكن أن يكون أحد الزوجين لأن أحدهما لا ينقصها عند عدم الأب.

(17/795)


فإن قيل: نختار أن الذي ينقصها الأب، ولكن نقْصَه لها مشروط بوجود أحد الزوجين، كما أنه ينقصها بوجود الإخوة. فالجواب أنه في صورة أبوين وإخوة لم ينقصها الأب، وإنما الذي نقصَها الإخوة، كما ينقصونها عند عدم الأب. فإن قيل: فإن الإخوة لا يرثون مع الأب شيئًا. قلنا: قد نُقِل عن صاحبنا ــ أعني ابن عباس رضي الله عنه ــ أن الإخوة مع الأب والأم يأخذون السدس الذي نقصتْه الأم، ولا يلزمه أن يورثهم مع الأب حيث لا أمّ، لأنهم إنما يأخذون ما لو فُرِض عدمُهم لم يأخذه الأب، وهو ذاك السدس الذي نقصته الأم، فإنه لولاهم لكان لها لا للأب. فإن لم نقل به وقلنا: لا يأخذ الإخوة شيئًا، فعنه جوابان: الأول: أنهم نقصوها والأب حجَبَهم. فإن قيل: لا نظير لهذا في الفرائض ..... مذهب الجمهور فلها نظير، وهو الجد مع الأم لا ينقصها عن الثلث مع أحد الزوجين، فإن كان جدٌّ وأمٌّ وإخوةٌ لأمّ نقصَ الإخوةُ أمَّهم إلى السدس وحجبهم الجدُّ. وأما على مذهب صاحبنا ــ أعني ابن عباس ــ فلا يجيء هذا السؤال من أصله لما مرَّ أنه يجعل السدس المنقوص للإخوة، فلا يحجبهم الأب والجدُّ عنه. الجواب الثاني: أن ذلك السدس في الاستحقاق لهم، ولكن الأب يأخذه كِفاءَ ما أنفقه أو يُنفقه عليهم، كما قال قتادة: كان أهل العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمَّهم من الثلث لأن أباهم يَلِيْ نكاحَهم والنفقةَ عليهم دون أمِّهم. "تفسير ابن جرير" (4/ 174) (1). _________ (1) (6/ 468) ط. التركي.

(17/796)


فإن قيل: فالإخوة لأمّ ينقصونها السدس ولا يُعطَونه، فكيف يأخذه أبو الميت وهو لا يلي نفقة هؤلاء الإخوة ولا نكاحهم؛ لأن لهم أبًا غيره؟ فالجواب: قد قال الزيدية ومَن وافقهم: إن الإخوة للأم لا ينقصونها، وهذا بعيد، والأولى مذهب صاحبنا أن السدس يكون للإخوة، فإن لم يقْوَ قولُه في الأشقاء أو لأب فهو قوي في بني الأم. فأما على القول بأنهم ينقصونها ولا يعطون شيئًا، فالجواب: أن سبب نقصانها معهم غير سبب نقصانها مع الأشقاء أو لأب. وبيانه: أن بني الأم إن كانوا كبارًا فقد اعتضدتْ بهم أمهم، واستغنت بمعونتهم، فضعُفَ استحقاقُها، وإن كانوا صغارًا فالغالب أن يكون أبو الميت فارقها، فنكحت أباهم وثبتت قدمُها عنده بولادتها له أولادًا، فضعُفَ استحقاقها من ابنها الميت من جهتين: الأول: فراقها لابنه، الثانية: استغناؤها ببعلها الثاني. فإن قيل: فلمن يكون السدس الذي نقصتْه؟ قلنا: هو باقٍ بعد الفرائض، فيأخذه الأب تعصيبًا. فإن قيل: حاصل هذا الجواب أنه لم ينقصها الأب ولا بنوها، وإنما نقَصَها نقْصُ استحقاقها، فيُقْلَب سؤالكم عليكم، فيقال: لو كان نقصُ استحقاقها ينقصُها لنَقَصَها على كل حال. فالجواب: أما في الحكم فنقصَها بنوها، وأما في الحكمة فنقَصَها نقْصُ استحقاقها، ولكنه لا ينضبط، فضبطه الشرع بوجود الإخوة، فيُقتَصر عليه، كما أن أهل العلم يُعلِّلون شرعَ قَصْر الصلاة في السفر بالمشقَّة، قالوا: ولكن المشقّة لا تنضبط، فضبطها الشرع بالسفر المخصوص، وصار الحكم مقصورًا عليه. على أنه لا يلزم فيمن نقصَ وارثًا عن فرضه أن يكون ذلك

(17/797)


المنقوص له، ألا ترى إلى مسألة بنت وأم وعصبة، فالبنت تنقص الأم السدس، ولا يكون ذاك السدس لها، بل لو استوفت الأمُّ الثلث لما نقصَ على البنت شيء. فالبنت نقَصَت الأمَّ، والعصبة أخذ. فإن قيل: لكنها تظهر الفائدة إذا كثر الورثة، كبنات وزوج وأم، لو كمل للزوج النصف وللأم الثلث لعالت المسألة، فيكون أصلها ستة وتعول إلى تسعة، فينقص نصيب البنات؛ إذ يكون لهن ثمانية من ثمانية عشر، وبالنقصان صار لهن ثمانية من ثلاثة عشر. قلنا: أما على رأي صاحبنا ــ أعني ابن عباس ــ فلا عول، وأما على رأي الجمهور فلو كان الأصل الذي نفيناه معتبرًا لاقتصر به على ما إذا لزم العول، ولا عول في المسألة التي فرضناها، وهي: بنت وأم وعصبة. فإن قيل: إن الأب يحجب الإخوة، والإخوة ينقصون الأم، فيلزم أن يكون الأب ينقص الأم، لأنه إذا حجب من ينقصها فلأن ينقصها هو أولى. قلنا: هذا منقوض بمسألة الأبوين عند انفرادهما، وبالجدّ يحجب الإخوة لأم، ولا ينقص الأم إذا انفرد معها، أو كان معهما أحد الزوجين والله الموفّق. فصل وأما على مذهب الجمهور فإذا التزمناه قلنا: ما تقدم من الجواب الموافق لمذهب ابن عباس حاصلُه أن قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} تأكيد، وله عندنا محامل أخرى يكون لكلٍّ منها تأسيسًا، والتأسيس أولى من التأكيد، وبذلك يندفع الإشكالُ البتةَ، وهاك المحامل:

(17/798)


الأول: أن قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} توطئة لما بعده، ليُفهم أن المراد بقوله: {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} الثلثُ مما وَرِثاه، ولولا قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} لما فُهِم ذلك. أقول: هذا القول بعيد. أولًا: لأن المطَّرد في الأنصباء التي تُذكَر في الفرائض في الكتاب والسنة أنها منسوبة إلى أصل التركة، وليس في قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} ما يَصْرِف عن ذلك، غاية الأمر أن يقال: لو لم يقصد به ذلك لكان فضلًا أو تأكيدًا على ما تقدم، والتأسيس أولى منه. وأقول: التأكيد الواضح أولى من هذا التأسيس الذي لا يفهمه أحد، ولولا أن صاحب هذا القول اعتقدَ أن للأم ثلث الباقي ــ حيثُ كانت مع الأب وأحد الزوجين ــ لما وقعَ له هذا الفهم. وقاعدة "التأسيس أولى من التأكيد" محلُّها حيث يتعادل الاحتمالان، فأما حيث يكون احتمالُ التأسيس تعسُّفًا واحتمالُ التأكيد ظاهرًا فالتأكيد أولى. المحمل الثاني: أن المراد بقوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} أن يَرِثاه فقط، بأن لا يكون معهما وارثٌ آخر، قالوا: والحصر مأخوذ من التخصيص الذكري كما تدلُّ عليه الفحوى. أقول: لا شكَّ أن التخصيص الذكري قد يفيد الحصر، ولكنَّ محلَّ ذلك حيث يكون المقام مقتضيًا للاستيعاب، كأن يقال: مَن ورِثَ زيدًا؟ أو أخبِرْني بمن ورث زيدًا، فيقال: ورثه أبواه، فإن الاستخبار ههنا عامٌّ عن جميع الورثة، والأصل أن يكون الجواب مطابقًا للسؤال، فيظهر بذلك أن الجواب مستغرقٌ لجميع الورثة. غاية الأمر أن يقال: لو لم يقصد بقوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} الحصر لكان فضلًا أو تأكيدًا، وقد تقدم الجواب عنه.

(17/799)


المحمل الثالث ــ ولم أرَ مَن تعرَّض له ــ: أن الإرث إذا أُطلِق في القرآن ولم يُبيَّن النصيب فالمعنى على أنه تعصيب، قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، فلم يبيِّن كم لهم لأنهم عصبة، ثمَّ بيَّن حكم البنات إذا انفردنَ وسمَّى نصيبهن، لأنهنَّ ذوات فرضٍ. وقال تعالى في الأخ وأخته: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176]، فلم يُسمِّ له نصيبًا لأنه عصبة. إذا تقرر هذا فنقول: قال تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} ولم يُسمِّ لهما نصيبًا، فالمعنى أنهما عصبة، وإذا كانا عصبةً فقاعدة العصبة أن للذكر مثلَا (1) حظّ الأنثى. وأما قوله بعدُ: {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} فالمراد ثلث التركة كما هو ظاهر، ولكن قد دلَّ كونهما عصبة على أن هذا إنما يكون حيث يبقى للأب مِثلَا ذلك، وذلك إذا لم يكن معهم أحد الزوجين. ودلَّ ذلك أنه إذا كان معهما أحد الزوجين كان الباقي بينهما، له سهمان ولها سهم. أقول: الظاهر أن القاعدة صحيحة، ولكن بناء قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} عليها على النهج المذكور ليس هناك، لأنه قد سمَّى نصيبَ الأم، فلم يبقَ إلّا أن يكون الأب عصبةً، وهو متفق عليه، ولا يفيد ما تقدم. نعم، قد يقال: إنما سمَّى نصيبَ الأمّ بعد أن استقر أنها عصبة، وذلك أنه قال: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ}، ولم يُسمِّ إرثهما معًا، فثبت بمقتضى القاعدة أنهما عصبة، ولا ينقضه تسميةُ نصيب الأمّ بعد ذلك. _________ (1) الوجه: "مثلَي" منصوبًا.

(17/800)


وفيه نظر، إذ يقال: لم يقصد بقوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} إثبات إرثهما ولا بيان مالهما، وإنما المقصود به بيان وجودهما معه، كقوله: {وَلَهُ أُخْتٌ} من قوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} إلّا أنه قد يُخدَش في هذا بأنه لو كان هذا هو المقصود لقيل: "وله أبوان" مع أن وجود الأبوين معروف في الكلام بدون هذه الزيادة كما تقدم، وقد يُجاب عن هذا بأنه إنما عدل عن قوله: "وله أبوان" لأن التعبير بقوله: "وله كذا" إنما يَحسُن فيما قد يكون وقد لا يكون، كالولد والإخوة، فأما الأبوان فكلُّ إنسانٍ غير آدم وحواء وعيسى له أبوان. وقد يُخدَش في هذا بأنه حيث جاء في آيات الفرائض "وله ولد" "وله إخوة" المقصود منها وجود من ذُكِرَ حيًّا غيرَ ممنوعٍ من الإرث، فلو قيل: "وله أبوان" لكان: وله أبوان حيَّان غير ممنوعَيْنِ، وهذا صحيح في حقّ كل إنسان. وقد يُجاب بأن الأمر كذلك، ولكن الصورة الظاهرة من قوله: "وله أبوان" قد تُوهِم أن من الناس مَن ليس له أبوان مطلقًا، وهذا مما تقتضي البلاغة اجتنابه. بلى، قد يقال: المعنيانِ محتملانِ، أن يكون المعنى: "وله أبوان"، أو يكون: "وورثه أبواه جميعَ ماله"، أو غير ذلك، ولم يُسمَع بما ذكرنا. وإذا كان الأمر كذلك فالتأسيس أولى من التأكيد. أقول: على كل حال، ليس هذا المحملُ بذاك، والله أعلم. المحمل الرابع ــ ولم أرَ مَن تعرَّض له أيضًا ــ: "ورث" ونحوه مما اشتقّ من الإرث قد يُعدَّى إلى المال ونحوه مما كان للموروث منه بدون ذكر

(17/801)


الموروث منه، وهذا هو الغالب في القرآن، كقوله تعالى: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}، وقوله: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} وغير ذلك في نحو عشرين موضعًا من القرآن، ومنه في قول أكثر المفسرين من الصحابة وغيرهم وعليه سبب النزول قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا}، ففي "صحيح البخاري" (1) وغيره عن ابن عباس: "كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقَّ بامرأته، إن شاء بعضهم تزوَّجَها، وإن شاءوا زوَّجوها، وإن شاءوا لم يُزوِّجوها، وهم أحقُّ بها من أهلها، فنزلت هذه الآيات". فالحاصل أنهم كانوا يَعدُّون امرأة المتوفَّى من جملة تركتِه، فحكمها عندهم حكم المال، يَرِثونها كما يرثون المال. وقد يُعدَّى إلى الموروث منه فقط، فيعدَّى إليه تارةً بنفسه وتارةً بـ "مِن"، كقوله تعالى فيما قصَّه عن زكريا: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 5 ــ 6]. وقد يُعدَّى بـ "عن"، كقول عمرو بن كلثوم (2): وَرِثنا المجدَ عن آباءِ صدقٍ ... ونُورِثُه إذا مِتْنا بَنِينا وقد يُعدَّى إلى الاثنين معًا، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} إلى قوله: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 77 ــ 80]. _________ (1) رقم (4579). وأخرجه أيضًا أبو داود (2089) والنسائي في "الكبرى" (11094) والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 138) وغيرهم. (2) في معلقته، انظر "شرح المعلقات" للزوزني (ص 132).

(17/802)


والمعروف بين أهل اللغة وغيرهم أن حقَّه أن يتعدى إلى مفعولين، الأول: مَن كان له المال أو نحوه، الثاني: المال أو نحوه، على حدّ قوله تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} أي: ونرِثه مالَه وولده، ولكنه قد يُترك ذِكْر أحد المفعولين لعلَّةٍ تقتضي ذلك، ولم يُفرِّقوا بين وَرِثتُه ووَرِثتُ منه ووَرِثتُ عنه. هذا هو المعروف عنهم، ولكننا نُدرِك بذوقنا أن قولك: "ورثَ زيدًا أبواه" يدلُّ على إحاطتهما بإرثه، وأنه إذا أُرِيد خلافُ ذلك قيل: "ورِثَ منه أبواه"، ونُدرِك ذلك في قولِ زكريا: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} وأنه أراد: يرِثني كل ما هو لي أي من العلم والإمامة في الدين ونحو ذلك، ويَرِث بعضَ ما كان لآل يعقوب. ثم وجدتُ أهل العلم قد أدركوا ذلك في الجملة، ففي "فتح الباري" (1) ــ كتاب الفرائض: باب {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} ــ: وقال السهيلي: ومن العجب أن الكلالة في الآية الأولى من النساء لا يرِث فيها الإخوة مع البنت، مع أنه لم يقع فيها التقييد بقوله: "ليس له ولد"، وقيَّد به في الآية الثانية مع أن الأخت فيها ورثتْ مع البنت. والحكمة فيها أن الأولى عبّر فيها بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ}، فإن مقتضاه الإحاطة بجميع المال، فأغنى لفظُ "يُورَث" عن القيد، ومثله قوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} أي يُحيط بميراثها. وأما الآية الثانية فالمراد بالولد فيها الذكر كما تقدم تقريره، ولم يُعبَّر فيها بلفظ "يورث"، فلذلك ورثت الأخت مع البنت. _________ (1) (12/ 26). وقول السهيلي في كتاب "الفرائض وشرح آيات الوصية" (ص 74، 75).

(17/803)


أقول: وتقرر في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} أن الكلالة مصدر بمعنى القرابة بغير الأصلية والفرعية، ويُطلق على الأقارب بغير الأصلية والفرعية، فكأنه قيل: "وإن كان رجلٌ يرثه ذوو كلالة" أو "يرثه كلالة". وهذا لفظ الآية: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12]. فيقال: المراد بالإخوة هنا الإخوة لأم كما قُرِئ به وأُجمِع عليه، وفي القرآن المتلو (1) دلالةٌ عليه كما هو معروف في موضعه، فإذا كان المعنى "يرثه ذوو كلالة" فليس فيه تعرضٌ لعدم البنت، لأن ذوي الكلالة قد يرثون معها. وإذا كان كذلك فالآية تعمُّ مَن لم يكن له بنت ومن كانت له بنت، لأن الكلالة اسم للقرابة المذكورة أو ذويها على كل حال، حتى مع وجود الولد والوالد، مع أن الأخوة لأم تحجبهم البنت، فقد كانت هذه الآية أحقَّ بأن يُقيَّد فيها بعد الولد. والجواب أن معنى {يُورَثُ كَلَالَةً} أي يرثه كلالة أو ذوو كلالة، ومعنى يرثه هؤلاء: يحيطون بميراثه، وإنما يحيطون بميراثه إذا لم يكن وارث غيرهم. وأما الآية الثانية فلفظها: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ _________ (1) في الأصل: "المدلو".

(17/804)


الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [خاتمة النساء]. والكلام عليها يطول، والمقصود هنا أمران: الأول: أنه قال فيها: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ}، وهو يعمُّ كلَّ هالك، لا يخصُّ من يحيط ذوو الكلالة بإرثه، كما كان في الآية الأولى، فلهذا قيّدها بقوله: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ}. وأما ميراث الأخوات مع البنات فهو على وجه التعصيب، وهو غير الإرث المذكور في الآية، إذ المذكور فيها الفرض. الثاني: قوله: {وَهُوَ يَرِثُهَا}، وقد قال السهيلي: إنه على الإحاطة، ووافقه غيره. قال أبو السعود (1): فالمراد بإرثه لها إحراز جميع مالها، إذ هو المشروط بانتفاء الولد بالكلية، لا إرثه لها في الجملة، فإنه يتحقق مع وجود بنتها. أقول: وفيه نظر؛ لأن الإحاطة يَمنعُ منها أيضًا غيرُ البنت، كالزوج والأم والإخوة لأم. فالأَولى ــ إذا ثبت أن قولنا: "وَرِث زيدٌ عمرًا" يقتضي الإحاطة ــ أن يقال: هذا هو الأصل، وقد يُتوسَّع فيُطلَق في ما يقارب الإحاطة، وهو إرث العصبة، فإنه يحيط بالمال إذا انفرد، وكونه ليس له نصيب معيَّن يقتضي إطلاقَ إرثه، على ما تقدم في المحمل الثالث. هذا، وقد تُوجَّه دلالة "وَرِث فلانٌ فلانًا" على الإحاطة بأربعة أوجه: الأول: أن يقال: إن الذوق وكثرة الاستعمال ومواقعه يدلُّ أن حقَّ الإرث أن يُعدَّى فعلُه بنفسه إلى المال ونحوه، وأن يُعدَّى إلى من كان له _________ (1) في تفسيره "إرشاد العقل السليم" (2/ 264).

(17/805)


المال ونحوه بـ "عن" أو "من" الابتدائية. وإنما يقال: "ورِثَ فلان فلانًا" على حذفِ مضافٍ، والتقدير في ميراث المال: ورِثَ فلانٌ مالَ فلانٍ. وإذا كان التقدير ذلك فالإحاطة واضحة، لا لعموم الإضافة فحسب، بل لأن الحكم المفرد بما لا يقل شموله لجميع أجزائه يقتضي العموم فيها، كما في: اشتريتُ عبدًا أو دارًا، أو العبد والدار، أو هذا العبد وهذه الدار، فإنما هذا الكلام يدلُّ على شمول الشراء لجميع العبد والدار، فأما حيثُ يقلُّ الشمول أو يندر أو يمتنع مثل ضربتُ زيدًا، فإنه لا يُفهم منه الشمول، ولكن صرَّح ابن جني وغيره بأنه مجاز، أي وقرينته العادة، وناقش فيه بعض الأجلّة مع عدم إنكاره أن نحو اشتريت عبدًا أو دارًا يدلُّ على العموم. فإن قيل: لو كان التقدير في ورثتُ زيدًا: ورثتُ مالَ زيدٍ، لما صحَّ ورثتُ زيدًا مالاً، وقد قال تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ}، ونحو ذلك وارد في كلامهم. فالجواب: أنه قد يكون بتضمين "ورث" معنى فعلٍ آخر، مثل سلب، وذلك ظاهر في قوله تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ}، وقد يكون "مالًا" في "ورثتُ زيدًا مالًا" بدلاً لا مفعولًا ثانيًا، وقد يكون "زيدًا" منصوبًا بنزع الخافض، والأصل: ورثتُ من زيد مالًا. فإن قيل: فإذا كان "ورث" أن لا يتعدى إلى زيد مثلًا بنفسه، فكيف يُعدَّى إليه؟ قلت: بـ"عن" أو "من" الابتدائية. فإن قيل: سبق لك في الكلام عن قول زكريا: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} ما يقتضي أنها تبعيضية.

(17/806)


قلت: ذاك الظاهر هناك، وكان أصل الكلام: "ويَرِث مِن ما هو لآل يعقوب". وعلى هذا فإذا عدِّي بـ "من" فالظاهر أنها تبعيضية والكلام على حذف مضاف، ويحتمل أنها ابتدائية. الوجه الثاني: أن يكون الأصل "ورثتُ مالَ زيدٍ" أيضًا، ولكن نزَّلتَ تملُّكَك مالَ زيدٍ كلّه منزلةَ تملُّكِك زيدًا نفسه. وهذا قريب من الذي قبله. الوجه الثالث: أن يكون الأمر كما جرى عليه أهل اللغة أن "ورِث" يتعدى إلى مفعولين، ولكن إذا لم يذكر الثاني دلَّ على شمول الإرث لجميع ما كان للموروث منه، لأن حذف المعمول يُؤذن بالعموم كما صرَّحوا به. الرابع: أن يُدَّعى أن مادة الإرث تقتضي الإحاطة وضعًا، كما يدلُّ عليه التبادر عندما يقال: ورثَ فلانًا أبواه، ونحو ذلك. وتدلُّ عليه الشواهد المتقدمة وغيرها. فإن قيل: أما الوجهان الأولان فيكفي في ردِّهما مخالفتهما لما عليه أهل العربية وغيرهم، من أن "ورِث" يتعدى بنفسه إلى مفعولين. وأما الثالث فقولهم: "حذف المعمول يُؤذِن بالعموم" ليس على إطلاقه، وإنما محلُّه حيث يكون المقام مقامَ ذكر المعمول لو كان خاصًّا، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25] ونحو ذلك، وقولُه في الآية: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} ليس كذلك، والكلام على نحو ما تقدم في المحمل الثالث. وأما الوجه الرابع فلا نُسلِّم التبادر، وإن سلَّمناه فلنا أن نقول: لعل ذلك لوجهٍ آخر، لا لأن الوضع من أصله يقتضي الإحاطة، وكذلك يقال في الشواهد. فالجواب: أنه يجوز أن يكون المصرّحون بأن "ورِث" ينصب مفعولين

(17/807)


بنوا على الظاهر في نحو {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ}، ولم يراعوا صلب المعنى، ودخول قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} في قاعدة حذف المعمول قد سبق الكلام فيه في المحمل الثالث. ومَنْعُكم الرابع مع تسليم التبادر لا يضرُّنا، فإن مقصودنا أن قول القائل: "ورِث زيدًا أبواه" تُفهَم منه الإحاطة، وهذا أمرٌ ندركه بذوقنا العربي، وكلُّ ممارسٍ للعربية حقَّ الممارسة لابدَّ أن يجده كما وجدناه. فإن صحت الأوجه المذكورة أو بعضها فذاك، وإلّا كفانا الفهم. ثم إننا قد أثبتنا أن غيرنا ممن تقدم قد فهم ذلك كما فهمناه، وأوضحُ من ذلك أن الصحابة وعامة علماء الأمة فهموا من قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} نحو ما فهمنا، ولم يصحّ خلافُ أحدٍ منهم غير ابن عباس، مع أنه لم يدَّعِ في دلالة الآية خلافَ ذلك، فقد صحَّ عن مولاه عكرمة قال (1): [أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسألُه عن زوج وأبوين، فقال زيد: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، وللأب بقية المال. فأرسل إليه ابن عباس: أفي كتاب الله تجد هذا؟ قال: لا، ولكن أكره أن أفضِّل أمًّا على أب. قال: وكان ابن عباس يُعطي الأمَّ الثلث من جميع المال]. وهذا فصل الخطاب في الآية، فإن زيدًا ــ وهو أفرضُ الأمة ــ وابن عباس ــ وهو حبر الأمة، وهو المخالف في المسألة ــ اعترفا بأنه ليس في كتاب الله تعالى حجةٌ على بيان نصيب الأمّ في الغرَّاوينِ، وأنهما إنما قالا بالرأي. ومعنى ذلك أن الآية محتملةٌ عندهما للمعنيين، فقوله تعالى: _________ (1) لم يذكر النص في الأصل. وراجع له "مصنف عبد الرزاق" (19020) و"السنن الكبرى" للبيهقي (6/ 228).

(17/808)


{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} يحتمل أن يكون بمعنى: "وله أبوانِ" على ما قدَّمنا على مذهب ابن عباس، ويحتمل أن يكون على معنى الإحاطة بالتركة، أو غيره من المحامل التي تقدمت على مذهب الجمهور، فرجعا إلى النظر، فاقتضى نظر ابن عباس ما رجَّح عنده المعنى الأول، واقتضى نظرُ غيره ما رجَّح عندهم المعنى الثاني، فعلينا أن نتدبَّر جهتَي النظر. أما نظر ابن عباس فالظاهر أنه ما قدمناه من أن المعهود في الفرائض أن من نقصَ وارثًا نقصَه على كل حال، فلو كان الأب ينقُصُ الأمَّ لنَقَصَها على كل حال، وقد ثبت أنه لا ينقُصُها إذا لم يكن ولدٌ ولا إخوة ولا أحد الزوجين، فلا ينقُصُها في غير ذلك. وأما نقصُها مع الإخوة فإنما نقَصَها الإخوة، وهم ينقصُونها على كل حالٍ كما تقدم. وأما نظر الجمهور فأشار إليه زيد بن ثابت بقوله: "لا أُفضِّلُ أمًّا على أبٍ". وبيانه أنه في المسألة المنصوصة والمتفق عليها نجد الأب إما مساويًا للأم وإما زائدًا عليها، فمع الولد الذكر ومع البنتين لكل من الأبوين السدس، ومع البنت الواحدة للأمّ السدس وللأب الثلث. وكذلك الحال مع أولاد الابن. وعند انفراد الأبوين للأم الثلث وللأب الثلثان، وعند انفرادهما مع إخوة للأم السدس وللأب الباقي. فالمعهود في الفرائض أن لا تفضل الأم على الأب، وقد ثبت أنه لا تَفْضُلُه في غير الغرَّاوينِ، فلا تفضُلُه فيهما. فهذان نظرانِ متعارضان، وقد يُرجَّح نظر ابن عباس بأوجهٍ: الأول: أن استحقاق الأم آكَدُ؛ لأن تعبَها في شأن الولد أشدّ.

(17/809)


الثاني: أن بِرَّها آكَدُ، ففي الحديث الصحيح (1): "بِرَّ أمَّك ثمَّ أمَّك ثمَّ أمَّك، ثم أباك"، فجعل للأم ثلاثة حقوق من البر، وللأب واحدًا. الثالث: أن الأم ذات فرض، والأب عصبة، ومن شأن صاحب الفرض أن يلزم فرضه، والعصبة يختلف حاله زيادةً ونقصًا، فيأخذ جميعَ المال تارةً، ولا يبقى له إلا شيء يسيرٌ تارةً، ولا يبقى له شيء أخرى، كالأخ الشقيق يأخذ جميع المال إذا انفرد، ولا يبقى له إلا نصفُ السُّدُس مع بنت وأم وزوج، ولا يبقى له شيء مع بنتين وأم وزوج. وقد يُخدَش في هذه الأوجه: أما الأول: فإن الأب يتعب في السعي على الأم والولد معًا، فقد تعب في تحصيل مهر الأم وفي إسكانها والإنفاق عليها وإخدامِها وحفظِها وغير ذلك، ثم في شأن الولد وتأديبه والإنفاق عليه وتزويجه. وأما الثاني: فقد يقال: إن تأكيد الأمر ببرِّ الأمّ ليس هو لكونه آكَدَ من برِّ الأب، وإنما هو لأنه مظنَّة الإهمال، فإن الولد يحترم أباه لعلمِه بمزيَّتِه عليه في العقل غالبًا، ولاحتياجه إليه في مصالح دنياه، وخوف ملامة الناس، وقد يتهاون بأمر أمِّه، يقول: إنما هي امرأة ضعيفة العقل، ولا يحتاج إليها غالبًا، ويكثُر أو يغلب أن يقع بينها النزاع وبين زوجته وأن تتعنَّت في ذلك. وأما الثالث: فإن الأب ذو فرضٍ كالأم، وإنما لم يُسَمَّ له فرضٌ مع عدم الولد لأن الفرائض قد رُتِّبتْ ترتيبًا يُعلَم منه أنه لا ينقص فيه بل يزيد، كما هو الحال في الابن، فلم يُسَمَّ له فرضٌ بل جُعِل عصبةً، ولكن جُعِل ناقصًا لكثير _________ (1) البخاري (5971) ومسلم (2548) عن أبي هريرة نحوه.

(17/810)


من الورثة، فغاية ما ينقص في زوج وأبوين، يبقى له النصف إلّا نصف السدس. ثمَّ يُرجَّح نظرُ الجمهور بأوجهٍ: الأول: أنه نظر في حال الأبوين أنفسهما، فقاس ما اشتبه من أمرهما على ما تبيَّن، فهو ألصقُ بمحلِّ النزاع من النظر الآخر الذي نظر في حال الورثة إجمالًا. الوجه الثاني: أن المعنى فيه ظاهر، وهو أنه دلَّ على أن استحقاق الأب للمال لا ينقص عن استحقاق الأم، بل يزيد عليها غالبًا. الثالث: أن الأب وإن لم يتحقق أنه ينقص الأمَّ كما ينقص الولد، لكنه مظنة ذلك، بدليل أنه في مسألة أبوين وإخوة تأخذ الأم السدس، ويأخذ هو الباقي. والجواب عن هذا بما تقدم لا يدفع الترجيح به. الرابع: أن الأم مظنَّة أن تكون مع الابن عصبةً أو شبيهةً بالعصبة، وتحقُّقُ أنها ليست كذلك في بعض الصور لا يدفع أن تكون كذلك في غيرها، كما قالوه في: بنتين وبنتِ ابنٍ وابنِ ابنِ ابنٍ، أن بنت الابن تكون عصبة مع ابنِ ابنِ أخيها، ولا تكون عصبةً معه في: بنت وبنت ابن وابنِ ابنِ ابنٍ. فصل أما أنا فالذي ترجح عندي هو نظر الجمهور، وعليه فيختصُّ منطوق الآية بما إذا أحاط أبواه بميراثه، وتدلُّ بمفهومها على أنه إذا كان معهما أحد الزوجين فليس للأم الثلث، وأقرب ما يُحمل عليه أن يكون للأبوين الباقي: له سهمان ولها سهم كما هو مذهب الجمهور، فأما من قال: إن لها في أبوين

(17/811)


وزوجٍ السدس، وفي أبوين وزوجة الثلث، فليس قوله بشيء؛ لأنه اعتمد على النظر من حيث هو، وخرج عن الآية بمعنيَيْها، والصواب إنما هو أن يجعل النظر مرجِّحًا لأحد المعنيين في الآية، ثم يُعمَل بالمعنى الراجح. والله أعلم. ثم قيَّد سبحانه وتعالى ما أطلق أولًا من أن الأبوين إذا أحاطا بالميراث كان للأمّ الثلث بقوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}، وفي كلمة "إخوة" أبحاث: الأول: أنها جمع، ورُوي عن ابن عباس أنه قال لعثمان: فالأخوانِ بلسان قومك ليسا بإخوة، فقال عثمان: لا أستطيع أن أردّ ما كان قبلي، ومضى في الأمصار، وتوارث به الناس. وسُئل عنها زيد بن ثابت فقال: "إن العرب تسمِّي الأخوين إخوة". راجع "سنن" البيهقي (6/ 227). والذي يظهر من هذين الأثرين أن من العرب مَن يُطلق على الأخوينِ "إخوة"، فإن قول ابن عباس لعثمان: "في لسان قومك" يُفهِم بأن من العرب مَن يقول للأخوينِ إخوة، وإلّا لما خصّ ابن عباس لسانَ قريش، بل يقول: الأخوان ليسا إخوة. فإن قيل: لعله أراد بقومه العرب. قلت: هذا بعيد جدًّا، فإن القوم لم يكونوا يعرفون غير العربية، ولا يُتوهَّم أن يراعوا العجمية فيحملوا القرآن عليها دون العربية. ومع بُعْدِ هذا فلو كان المرادَ لكان الظاهر أن يقال: "في لسان العرب". وقد أكدَّ هذا ما رُوِي عن زيد، فإنه أثبت أن العرب تُسمِّي الأخوين إخوة، وقد خرجت من ذلك قريش بأثر ابن عباس. فإما أن يكون ما ذكره زيد لسان الأنصار فقط،

(17/812)


وإما أن يكون يوافقهم بعضُ القبائل من غيرهم. وعلى الأول فإنما عدلَ زيدٌ عن "الأنصار"، وقال: "العرب"، إشارةً إلى دفع اعتراض، فإنه لو قال "الأنصار" لقيل له: إن القرآن نزل بلسان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهو قرشيّ. فيُحتاج إلى دفعه بأن الأنصار من العرب، والقرآن نزل بلغة العرب عامّةً، وإنما اختار منها ما اقتضت الحكمة اختياره. وأما ما جاء عن بعض الصحابة وغيرهم من أن القرآن نزل بلغة قريش، أو بلغتهم ولغة خزاعة، أو ولغة هوازن ونحو ذلك، فإنما ذلك بالنظر إلى معظمه، فقد جاء عنهم في كلماتٍ كثيرة أنها بلغة اليمن أو بلغة أزد عُمان أو غيرهم، بل وفي كلمات كثيرة أنها بالرومية أو الحبشية أو غيرها (1). وقد يُدفَع بأوجُهٍ: الأول: ما احتج به مَن قال: أقلُّ الجمع ثلاثة، وهو أن اللغة خصَّت الاثنين بصيغةٍ غير صيغة الجمع، فيقال هنا: كيف يكون من العرب من يُطلِق الجمع ويريد به اثنين على غير سبيل التجوز، أو كراهية الثقل في نحو {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}، ومبنى لغتهم على الفرق؟ الثاني: أن أئمة اللغة لم ينقلوا عن قبيلة من قبائل العرب أنها تُطلِق الجمع على اثنين مطلقًا، ولا يوجد ذلك في أشعارهم المحفوظة. الثالث: أن أئمة التفسير قد كان منهم كثير من أئمة العربية، وتكلموا على هذه الكلمة، ولا نعلم أحدًا منهم قال: إن من العرب من يُطلِق الجمع على الاثنين. _________ (1) جمعها السيوطي في كتابين: "المهذب" و"المتوكلي" وكلاهما مطبوع.

(17/813)


أقول: قد يُجاب عن الأول بأنه قد يكون مَن يطلق من العرب الجمعَ على الاثنين رأى أن صيغة المثنَّى جُعِلت للنصّ على الاثنين، فلا يلزم من ذلك المنعُ من إطلاق الجمع على ما يصدق بالاثنين فأكثر كما في الآية، إذ المقصود بإخوة اثنان فأكثر. ونظيره ما أطبق عليه الفقهاء أنه لو قال: لفلان عندي عبيدٌ، ثم فسَّرهم بثلاثةٍ قُبِل، مع أن "عَبيد" جمع كثرة، وقد خصَّت العرب العشرة فما دونها بصيغ خاصة هي جمع القلة كأَعْبُدٍ، ووافقهم بعض أهل اللغة، ووجَّهوا ذلك بأن جمع القلة إنما جُعِل ليُستَعمل عند إرادة التنصيص على القلة، وجمع الكثرة يصلح للقليل والكثير. وأوضح منه لفظ "بِضْع" في العدد، فإنه [يَصدُق] بثلاثة، وإن كان قد وضع لثلاثةٍ لفظٌ خاصٌّ. وكذلك "الإنسان" يَصُدق بالصبي، وإن كان قد وُضِع للصبي لفظ خاصّ، وأمثال ذلك. وعن الثاني: بأن الشعراء الذين حُفِظتْ أشعارهم هم المشاهير، وكانوا يتحرَّون في أشعارهم أن تكون موافقةً لأشهر لغات العرب، ليَعُمَّ حفظُها وتناشدُها، فيتمُّ غرضُهم من الشهرة وبُعد الصيت، ولهذا نجد المحفوظ من شعر شعراء اليمن لا تكاد توجد فيها كلمة لا تعرِفُها مضر. وعن الثالث: بأننا قد أثبتنا النقل، ودلالته واضحة، ومن نقله من أهل الحديث والتفسير فقد نقل أن العرب تُسمِّي الأخوين إخوة، وذلك كافٍ. لكن هذا كلّه لا يكفي، لأن غايته إثبات لغة غير مشهورة ولا متبادرة إلى الفهم، بل المتبادر خلافها، فحملُ الآية عليها يحتاج إلى دليل.

(17/814)


وعلى هذا فقد يقال: سواء أثبتت تلك اللغة أم لم تثبت، فإنها إن لم تثبت لم يمتنع أن يصح ذاك الاحتمال في الآية على أنه مجاز بأن تُجوِّز بصيغة الجمع عن مطلق ما يدلُّ على التعدد، فيشمل الاثنين وأكثر (1). _________ (1) بعدها بياض في الأصل بقدر نصف صفحة.

(17/815)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الله تبارك وتعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]. قوله: {وَلِأَبَوَيْهِ} أي المتوفى، وقد يجتمعان، وقد يكون أحدهما فقط، ومنطوق الآية إنما هو حال اجتماعهما، أما في الجملة الأولى والثانية فظاهر، وأما الثالثة فلأنها مبنية على ما قبلها، ولكن الحكم فيما إذا كان أحدهما فقط يؤخذ من مفهوم الآية وغيره من الأدلة. فأما الجملة الأولى أعني قوله: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}، فإنها تُثبت حكمَ الأبوين إذا اجتمعا مع الولد، وهو أن لكل منهما السدس، فأما الباقي فالحكم فيه معروف، لم يعلم فيه خلاف إلا في صورة ما إذا كان الولد بنتًا واحدة، وليس معهم أحد الزوجين، فإن البنت تأخذ النصف كما نصّ عليه في أول الآية، ويأخذ الأبوان السدسين، فيبقى سدس، والجمهور أن هذا السدس الباقي يكون للأب على وجه التعصيب، لحديث "ألحِقوا الفرائض بأهلها". وخالف فيها الإمامية، فقالوا بردّ هذا السدس على الأم والبنت، وكذلك إذا كان مع من ذُكِر زوجة، فإنها تأخذ الثمن كما نصّ عليه في آخر الآية، فيبقى ربع السدس. وأما إذا كان أحد الأبوين مع الولد فالحكم أن له السدس فرضًا، وقد فُهم ذلك من الآية، أما أنه لا ينقص عنه فلأنه إذا لم ينقص عنه مع وجود

(17/816)


الآخر فكذلك لا ينقص عنه مع فقده، وأما أنه لا يُزاد عليه فلأن الولد إذا قصر كلًّا من الأبوين على السدس في حال اجتماعهما فكذلك ينبغي أن يقصر عليه أحدهما عند انفراده. وتفصيل الأحكام معروف. وأما الجملة الثانية أعني قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} فهذه الجملة في بيان حكم الأبوين إذا اجتمعا ولا ولد، أي ولا إخوة كما بيَّنته الجملة الثالثة، وكونها في حال اجتماعها واضح، أولًا لأن الجملة مبنية على الجملة قبلها، وهي كذلك كما مرَّ. ثانيًا لقوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ}، مع أنه لو ترك قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} وجُعِلت الجملة غير مبنية على ما قبلها لكانت الجملة مفيدةً بعمومها لحكم اجتماعهما. فيقع السؤال هنا: ما الحكمة في هذا الاعتناء الشديد ببيان حال اجتماعهما؟ ومحطُّ السؤال أن يقال: ما الحكمة في زيادة قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} مع أنها لو تركت لكان ذلك معروفًا ببناء هذه الجملة على التي قبلها؟ فإن ادُّعي أنها مستقلة عن التي قبلها، قلنا: فلو تُرِكت هذه الزيادة لكانت الجملة شاملة بعمومها لحال الاجتماع أيضًا، وتزداد الفائدة بشمولها لحال انفراد أحدهما. وقد تبيَّن من مفهوم الآية وأقوال أهل العلم أن الحكم لا يختلف، فإذا كان للميت أُم وليس له أب ولا ولد ولا إخوة كان فرض الأم الثلث، فالذي يتراءى أن قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} لا تظهر لها فائدة، بل يظهر أنها نقصت الفائدة، ويستند ذلك على مذهب الجمهور القائلين أنهما إذا اجتمعا لم يكن للأم الثلث إلا في حال واحدة، وهي أن لا يكون معهما زوج ولا زوجة.

(17/817)


والجواب على مذهب ابن عباس ــ القائل: إن فرض الأم مع الأب وأحد الزوجين ثلث التركة ــ أن الفائدة لقوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} هي التنصيص على حال الاجتماع، ليعلم أن وجود الأب لا ينقص الأمَّ عن الثلث بحال، إذ لو لم يذكر ذلك وقيل: "فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث" لقال قائل: هذا في حال انفرادها عن الأب، وكان سهلًا عليه أن يدعي أن الجملة الوسطى مستقلَّة عن الأولى ليست مبنية عليها، ويؤيد قوله بأنها إنما بيَّنت فرض الأم، فلو كان المعنى فيها على اجتماع الأبوين لكان الظاهر أن يبيِّن ما للأب. وأما الجمهور فعنهم أجوبة: الأول: أن قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} تمهيد لما بعدها، ليعلم أن المراد بالثلث في قوله: {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} ثلث ما ورثاه، ولو قيل: "فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث" لكان صريحًا في أن المراد ثلث التركة. الثاني: أن معنى قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} أنهما ورثاه دون غيرهما، فالفائدة إخراج ما إذا كان معهما أحد الزوجين، قالوا: والحصر مأخوذ من التخصيص الذكري، كما تدلُّ عليه الفحوى. الثالث ــ ولم أر من تعرَّض له ــ: أن هذا الفعل ــ وهو "ورث" ــ أكثر ما يُعدَّى بنفسه إلى المال ونحوه، كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ} [مريم: 40]، وقال سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ} [الأعراف: 169]، وقال عزَّ وجلَّ: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء: 85] أي الذين يرثونها،

(17/818)


وقال تعالى: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} [المؤمنون: 11]، وقال سبحانه: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، وقال تبارك اسمه: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ} [الأعراف: 100]، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 180، الحديد: 10] أي هو يرثها، وقال تبارك اسمه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19]. في "صحيح البخاري" (1) وغيره عن ابن عباس: "كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقَّ بامرأته، إن شاء بعضهم تزوَّجها، وإن شاءوا زوَّجوها، وإن شاءوا لم يُزوِّجوها، وهم أحقُّ بها من أهلها. فنزلت هذه الآيات". فكانوا يعاملون المرأة معاملة المال كما هو ظاهر. وقال عزَّ وجلَّ: {أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43، الزخرف: 72] أي جُعِلتم ترثونها. واقرأ (2) الأعراف: 128 ومريم: 40 والأحزاب: 27 وفاطر: 32 والزمر: 74 والمؤمن [أو غافر]: 53 والدخان: 28 والشعراء: 59 والشورى: 14 وغيرها. وقد يُعدَّى إلى من كان المال أو نحوه له، كقوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176]، وقال سبحانه: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16]، وقال تعالى فيما قصَّه عن زكريا: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) _________ (1) رقم (4579). (2) ذُكِرتْ في الأصل أمام أسماء السور أرقام لعلها أرقام الركوعات في المصاحف الهندية، فعدّلناها إلى أرقام الآيات.

(17/819)


يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 5، 6]. وقد يُعدَّى إليه بـ"من" كما في هذه الآية. وقد يُعدَّى إليهما، كما في قوله سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} إلى أن قال: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 77 - 80]. وفي كلام أهل اللغة أن الأصل فيه أن يتعدى إلى مفعولين: الأول من كان له المال ونحوه، والثاني المال ونحوه، وأنه قد يُعدَّى إلى الأول بـ "من". وظاهر صنيعهم أنه سواء عُدِّي إلى الأول بنفسه أو بـ"من" فالمعنى واحد، والذي يشهد به الذوق ويدلُّ عليه {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} أن المعنى يختلف، وأنه إذا عُدِّي بنفسه كان المعنى على الإحاطة بجميع ما كان للموروث منه، وإذا عُدِّي بـ"من" كان على عدم الإحاطة، فزكريا سأل ولدًا يحيط بما هو له ويأخذ بعض ما هو لآل يعقوب، وكأن وجه ذلك أن الأصل تعدِّي الفعل إلى المال ونحوه، كما يدلّ عليه كثرة ذلك في الكلام كما مرَّ، فإذا عدِّي إلى مَن كان له المال ونحوه، فالمعنى على تقدير المال ونحوه. فإذا قيل: ورثتُ زيدًا، فالتقدير: ورثتُ مالَ زيد، وإذا قيل: ورثتُ من زيد، فالتقدير: ورثت من ماله، فإذا قيل: ورثتُ زيدًا مالًا، فالوجه أن يكون ضُمِّن ورث معنى فعلٍ آخر مثل سلب كما في قوله تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} ضمِّن ــ والله أعلم ــ نرث معنى نسلب، أو يكون "مالاً" في قولك: "ورِثتُ زيدًا مالًا" منصوب (1) على الحال، لدلالة التنوين على الكثرة أو القلة، _________ (1) كذا في الأصل مرفوعًا.

(17/820)


والأصل: ورثتُ مالَ زيد حالَ كونه مالاً كثيرًا أو مالاً قليلًا. أو يكون زيدًا منصوبًا بنزع الخافض، والأصل: ورثتُ من زيد مالاً، فيقدَّر في كل موضع ما يليق به. فإن أبيتَ إلّا ما يقتضيه صنيع أهل اللغة فإننا نقول: فالأصل أن يقال: ورثتُ زيدًا مالاً، بالتصريح بالمفعولين، فإذا حُذِف الثاني فقيل: "ورثتُ زيدًا" كان حذفه دالًّا على العموم، كما تقرر في الأصول أن حذف المعمول يُؤذِن بالعموم، فكأنه قيل: ورثتُ زيدًا كلَّ ما كان له. فإن لم تقنَعْ فقد نصَّ أهل العلم على أن المفرد يعمُّ أجزاءه، فإن قيل: اشتريتُ عبدًا أو دارًا، كان المعنى على عموم الشراء، أي أنك اشتريت العبد كلَّه والدارَ كلَّها. واستثنى بعضُ الأجلَّة ما إذا كان الفعل مما يقلُّ في العادة شمولُه لجميع الأجزاء، كضربتُ زيدًا. وزعم ابن جني أن ضربتُ زيدًا مجاز، وإنما يكون حقيقةً لو شمِلَ الضربُ جميع أجزاء المضروب. فأما ورثتُ زيدًا فلا معنى لإرثِ جميع أجزائه إلّا إرثُ جميع أجزاء ما كان له، فتأمَّلْ. ففي "فتح الباري" (1) في كتاب الفرائض: باب {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}: وقال السهيلي: "الكلالة من الإكليل ... ، ومن العجب أن الكلالة في الآية الأولى من النساء لا يرث فيها الإخوة مع البنت، مع أنه لم يقع فيها التقييد بقوله: "ليس له ولد"، وقُيِّد به في الآية الثانية مع أن الأخت فيها ورثت مع البنت. والحكمة فيها أن الأولى عُبِّر فيها بقوله تعالى: _________ (1) (12/ 26).

(17/821)


{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ}، فإن مقتضاه الإحاطة بجميع المال، فأغنى لفظ "يورث" عن القيد، ومثله قوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} أي يحيط بميراثها. وأما الآية الثانية فالمراد بالولد فيها الذكر كما تقدم تقريره، ولم يُعبَّر فيها بلفظ "يورث"، فلذلك ورثت الأخت مع البنت". أقول: وإيضاحه أن الكلالة اسم للقرابة بغير الولادة، أعني قرابةً غير الولد والوالد، وتُطلَق على .... ، فتقدير الآية: "وإن رجلٌ يرثه كلالة"، ففهم منه أن الكلالة يحيطون بماله، فعُلِمَ بذلك أنه لا ولد له ولا والد. وأما قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} فمعناه: يفتيكم في الأقارب الذين ليسوا بولد ولا والد، والاسم يلزمهم مع وجود الولد والوالد، كما يلزمهم مع عدمهما، فلم يُفهم من هذا أنه لا ولد ولا والد. وقوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} المرء عام، فيشمل من له ولد ووالد أو أحدهما، فلذلك قيَّده بقوله: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ}. وإنما لم يقل: "ولا والد" لأن الإخوة لهم ميراث مع الأب، ولكن يُعطاه الأب كما يأتي. ولكن ميراثهم قد يقصر عن المقدار المذكور هنا، وقد لا يبقى شيء، ففي صورة أب وأختين كان للأب الثلث وللأختين الثلثين (1)، فيأخذ الأب الجميع، فإذا كان مع هؤلاء زوج لم يبق بعد فرض الأب والزوج إلا السدس. وفي صورة أبوين وأختين وزوج لا يبقى شيء. فإن قيل: فإن الأب يأخذ ما بقي بعد فرضه وفرض الأم أو الزوج على كل حال، سواء أكانت هناك أخوات أم لا. _________ (1) كذا في الأصل منصوبًا، والوجه الرفع.

(17/822)


قلت: نعم، لكنه هنا يأخذه بالتعصيب، ومع وجود الأخوات يأخذه بحقّه عليهن. وقوله: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} قد وافقَ السهيليَّ فيها غيرُه على أن المعنى على الإحاطة، وخالفه في تخصيص الولد بالذكر. قال أبو السعود (1): " {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} ذكرًا كان أو أنثى، فالمراد بإرثه إحراز جميع مالها، إذ هو المشروط بانتفاء الولد بالكلية، لا إرثه لها في الجملة، فإنه يتحقق مع وجود بنتها". أقول: لكن يبقى ما إذا كان معه أحد الأبوين أو كلاهما أو زوج، فإنه في هذه الصور لا يحوز جميعَ التركة كما لا يخفى. فالأقرب أن يقال: إن إطلاق "يرثها" هنا المراد به إثبات العصوبة، وصحَّ ذلك لأن من شأن العصبة أن يحيط بالتركة في بعض الصور، ولا شكَّ أنه في الصور المذكورة يرث بالعصوبة، أما مع الأم والزوج أو أحدهما فظاهر، وأما مع الأب فإن الأخ يستحق الإرث، ولكن يأخذه الأب لما تقدم قريبًا. فإن قيل: فلماذا قُيِّد بعدم الولد مع أن الأخ قد يأخذ بالعصوبة مع البنات؟ قلت: المعنى ــ والله أعلم ــ أنه مع عدم الولد يرث البتة، فيفهم منه أنه مع الولد بخلاف ذلك. فإن قيل: فلِمَ لا يقال مثل هذا في {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ}؟ _________ (1) تفسيره "إرشاد العقل السليم" (2/ 264).

(17/823)


قلت: الأصل والظاهر هو الإحاطة، وإنما يُعدَل عنها لموجب، ولا موجِبَ في {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ}، والله أعلم. إذا تقرر هذا فنقول: إن قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} معناه إحراز جميع ماله، أما على تقدير "وورثَ مالَه أبواه" فلعموم المال، وأما على تقدير "وورثه أبواه كذا" فلأن حذف المعمول آذنَ بالعموم، فصار المعنى: وورثه أبواه جميع مالِه. وأما على القول بأن "ورثتُ زيدًا" يعمُّ جميع أجزائه، فلكون ذلك باعتبار جميع أجزاء ما كان له فظاهر، وفائدة قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} على هذا واضحة، لأن هذا المعنى لا يتحصل بدونها. الجواب الرابع ــ ولم أر من تعَّرض له أيضًا ــ: أن الإرث إذا أُطلق في القرآن ولم يبيَّن النصيب كان المعنى أن الوارث عصبة، يُحرِز جميعَ المال إذا انفرد، والباقيَ بعد فرضٍ فأكثر إن كان. قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، فلم يُبيِّن مجموع ما لهم لأنهم عصبة، ثمَّ بيَّن نصيب البنات إذا انفردن، لأنهن يكنَّ ذواتِ فرض حينئذٍ. وقد تقدم نحو هذا في قوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا}. إذا تقرر هذا فنقول في قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ}: إن المعنى وكان أبواه عصبة، وذلك عند عدم الولد والإخوة، فيكون الأبوانِ عصبةً. وقوله بعد ذلك: {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} المراد ثلث التركة، ولكن قد دلَّ كونُهما عصبةً على أن هذا إنما يكون إذا لم يكن هناك أحد الزوجين، وأنه إن كان هناك أحد الزوجين فالباقي بينها وبين الأب، على قاعدة العصبة: للذكر

(17/824)


مثل حظّ الأنثيين. ولبعض كتّاب العصر جوابٌ بناه على أقوالٍ اخترعها في المواريث، لم يقل بها أحدٌ من أهل العلم، فلا حاجة إلى ذِكْره. فصل وأما الجواب المبني على مذهب ابن عباس فيمكن الإيراد عليه بأوجُهٍ: الأول: أن المستبعد إنما هو أن تأخذ الأم الثلث إذا كان أكثر مما أخذه الأب، وذلك مع الزوج. ولذلك نُقل عن ابن سيرين وقال به أبو بكر الأصمّ في أبوين وزوجة: أن للأم الثلث. وإنما قال الجمهور في هذه أيضًا: إن الأم لا تأخذ إلّا نصف ما يأخذ الأب، لأنهم فهموا من الآية ذلك على ما تقدم في الأجوبة التي من طرفهم. وكيف يستبعدون أن لا يكون له ضعفاها وقد تقدم أنه مع الولد يساويها؟ وذلك واضح في صورة: أبوين وابن، وأبوين وبنتين. وإذا كان هذا هو الواقع فلو أُريد التنبيه على أن وجود الأب لا ينقص الأمَّ بحالٍ لذكر مع الأبوين الزوج، فتكون الآية نصًّا في ذلك، فأما بدون ذكر الزوج فليست بنصٍّ بل ولا ظاهر، لما سمعتَ من الاحتمالات. الوجه الثاني: أن الجمهور موافقون على أن الأم تأخذ الثلث مع وجود الأب في بعض الأحوال كما علمت، فلهم أن يوافقوا على الجواب المذكور، ولكن يقصرون الحكم على الحال المذكورة. الوجه الثالث: أنه على هذا الجواب يكون قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} تأكيدًا، وهو على أجوبتنا تأسيس، والتأسيس أولى من التأكيد. والجواب عن الوجه الأول: أن من سنة الله تبارك وتعالى في العقائد

(17/825)


والأحكام التي تعترضها الأهواء والشُّبه أن لا يكشفها كشفًا تامًّا، لكنه يُنبِّه على الحقّ تنبيهًا كافيًا لمن تدبَّر وحقَّق النظر، وأسلم نفسَه للحق، ووفَّقه الله عزَّ وجلَّ، ويدَعُ مناصًا لمن قصَّر أو استكبر، أو اقتضت الحكمة أن لا يُوفَّق. ويُزاد في الأحكام أنه يدع سبيلًا لأن يوضع في فهم القاضي المحقّ خلافُ الراجح لمناسبته للقضية التي يحكم فيها. وهذا مشروح في موضع آخر. فقوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} فيه تنبيه كافٍ على ما ذكر من جهات: الأولى: أن الجملة الوسطى صارت في حكم الله عزَّ وجلَّ بقوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} صريحةً في أنها في حال اجتماعهما. الثانية: أن الحكم فيها عام، فيعمُّ جميعَ صور اجتماعهما، وهي ثلاث صور: أبوان فقط، أبوان وزوج، أبوان وزوجة. الثالثة: أن المعروف أن الوارث الذي [ينقص غيره] ينقصه على كل حال، فالولد ينقص الأم إلى السدس، سواء وُجِد الأب أم لا، والإخوة كذلك، وإذا كان الأب لا ينقصها مع عدم أحد الزوجين فكيف ينقصها مع أحدهما؟ فإن قيل: كما نقصها مع وجود الإخوة. قلنا: إنما نقصَها الإخوة. أما إذا قلنا بما يُنقل عن ابن عباس أن السدس الذي تنقصه الأم في هذه الحال يكون للإخوة فظاهر، ولا يرِد على هذا ما ذهب إليه ابن عباس وغيره أن الجدّ يحجب الإخوة، فيقال: فكيف لا يحجبهم الأب؟ لأن له أن يجيب بأنهم مع .... والأم لم يأخذوا من نصيب الأب شيئًا، وإنما أخذوا من نصيب الأم.

(17/826)


نعم، يلزمه أن يقول في جد وأم وإخوة أن الإخوة يأخذون السدس، والظاهر أنه يقوله؛ لأن المنقول عنه إنما هو أن الجد أب، لا أنه يحجب الإخوة مطلقًا، فإن حُكي عنه أن الجد يحجب الإخوة فلعل مراده أنه يحجبهم مما كان يأخذه لو لم يكونوا، وليس ذاك السدس من هذا؛ لأنهم لو لم يكونوا لأخذته الأم. وأما إذا قلنا بقول الزيدية وغيرهم إن الإخوة إن كانوا أشقّاء أو لأب لا يُعطَون شيئًا، وإن كانوا لأمّ أخذوا ذاك ... ، فنقول: الأصل على هذا أن السدس للإخوة، وإنما يأخذه الأب إذا كانوا بنيه، بحقّ أبوَّتِه لهم وولايته عليهم، فإن كانوا صغارًا فإنه مظنة أن ينفقه عليهم، وإن كانوا كبارًا فإنه إن أنفقه عليهم فذاك، وإن أنفقه على نفسه فهو في مقابل نفقته الواجبة عليهم، وإن تركه ميراثًا صار إليهم كلُّه أو جلُّه. وقد نُقل نحو هذا عن قتادة، رواه ابن جرير (1) وغيره. وأما إذا قلنا بقول الجمهور: إن الإخوة لا يأخذون مع الأب شيئًا ولو كانوا لأم، فالوجه في الأشقاء أو لأب ما تقدم، وأما في أولاد الأم فنقول: إن الأم نقص استحقاقها بسببهم؛ لأنهم إن كانوا كبارًا فذلك مظنة أن ينفعوها ويواسوها من كسبهم، وإن كانوا صغارًا فإنما يكون ذلك إذا فارقها أبو الميت ثم تزوجت أبا الصغار، والغالب أن يكون أبو الصغار حيًّا ينفق عليها وعليهم، وقد تأكدت صلتها به بولادتها الأولاد، فنقص استحقاقها من ابنها الذي قد تكون آذتْ أباه حتى فارقها وتزوجت غيره، وقرَّت عند هذا الآخر _________ (1) في "تفسيره" (6/ 467، 468). وأخرجه أيضًا ابن أبي حاتم في "تفسيره" (3/ 883).

(17/827)


حتى ولدت له أولادًا واستغنت به. وإذا نقص استحقاقها ولم يكن لبنيها حقٌّ فالذي نقصَه يكون .... لأبي الميت. على أنه لا يلزم فيمن كان النقص بسببه أن يأخذ هو ذاك المنقوص، ألا ترى أن البنات أو الأخوات ينقصن الأم سدسًا، ولا يكون لهن ذلك السدس، بل يذهب إلى العصبة، وذلك في صورة بنتين أو أختين وأم وعصبة، فالنقص بسبب البنتين أو الأختين، والفائدة للعصبة. ولا يلزم فيمن يحجب وارثًا أو ينقصه أن يحجب من يحجبه ذاك الوارث أو ينقصه، فالجد يحجب الإخوة للأم، ولا يحجب ولا ينقُص من ينقصه الإخوة للأم، وذلك كجدّ وأمّ وزوج، فتأخذ الأم ثلثها، ولا يقال: إن الجدّ يحجب الإخوة للأم لو كانوا، فلينقص من ينقصونه. فأما في أبوين وزوج ولا ولد ولا إخوة، فقد عُلِم أن الزوج لا ينقصها شيئًا إذا لم يكن أب إجماعًا، فكيف ينقصها مع وجود الأب؟ أو بأي وجه نقص استحقاقها؟ فإن الزوج أجنبي لا ينقصها إذا لم يكن أب، ولا يكون ما أخذه الأب كأنه أخذه الزوج، كما قلنا في الأشقاء أو لأب، ولا تنتفع الأم بشيء من زوج بنتها بعد موت الابنة، ولا ينقص استحقاقها بسبب أن بنتها تزوجت، فلم يبق إلا احتمال أن ينقصها الأب، ولو كان ينقصها لنقَصها عند عدم الزوج كما تقدم، فنصّ الله تعالى نصًّا قاطعًا على هذه الحال، أعني أن ينفرد الأبوان ولا زوج ولا زوجة، متناولًا بعمومه الحالين الأخريين. فإن قلتم: الذي ينقصها هو الأب، وإنما لم ينقصها إذا لم يكن معهما أحد الزوجين، لأنه ينال مقدارًا وافرًا، وهو الثلثان، فأما إذا كان معهما أحد الزوجين فإنه لا يبقى له ما يناسب حقَّه فينقصها.

(17/828)


قلنا: قد قدَّمنا أن سنة المواريث على أنه إذا نقص وارثٌ وارثًا كان حكمًا عامًّا بأن ينقصه على كل حال، وما توهمتموه في استحقاق الأب لا أثر له، لأن الله تعالى قال في آخر هذه الآية: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} وإذا سلَّمتم عموم الآية فلم يبقَ إلّا أن تخصُّوها بما لا علم لكم به، والله المستعان. هذا وقد بقيت جهاتٌ أخرى ستأتي إن شاء الله تعالى. والجواب عن الوجه الثاني: أن قَصْركم هذا النصَّ على ما إذا لم يكن فيها زوج ولا زوجة دعوى فارغة مردودة من جهات: الأولى: أن النصوص العامّة لا تخصُّ بلا حجة. الثانية: أن المعروف في سنة الكلام ونصوص الكتاب والسنة أن العام إن قام دليل على تخصيصه كان الباقي أكثر، وأنتم عكستم هنا، فأخرجتم صورتين وأبقيتم صورة. الثالثة: أن النصّ كما أفاد دخولَ الصورتين بلفظه فقد أفاد دخولهما بمعناه، أعني ما قدَّمناه، إذ لا وجه لأن ينقص الزوج الأمَّ، ولا لأن ينقصها الأب بشرط وجود الزوج. والجواب عن الوجه الثالث: أن قولكم: "التأسيس أولى من التأكيد" محلُّه فيما إذا تعادل الاحتمالان، وسيتبيَّن إن شاء الله تعالى حال الاحتمالات التي ذكرتموها بأجوبتكم. وأما الأجوبة التي من طرف الجمهور فالقدح فيها إجمالاً وتفصيلًا: أما الإجمال فإنه لا داعي إلى تكلُّفها إلا استبعاد أن تأخذ الأم ضِعفَ ما

(17/829)


يأخذ الأب في صورة زوج وأبوين، كما أجاب زيد بن ثابت لما راسله ابن عباس، فقال زيد: لا أفضِّلُ أمًّا على أب. وليس في النصوص ولا النظر ما يمنع أن تفضل الأم الأب حتى نحتاج إلى تأويل الآية. أما النصوص فظاهر، وأما النظر فإن كنتم تقيسون الأبوين على الابن والبنت وعلى الأخ والأخت شقيقين أو لأب فهذا خطأ، فقد بان بقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} أن الأبوين ليسا كالابن والبنت، ولا كالأخ والأخت، فإن الابن والبنت والأخ والأخت لا يكونان إلا عصبة، واتصال الابن والبنت بالمتوفى سواء من كل وجه، وكذا الأخ والأخت، ولا كذلك اتصال الأبوين، فإن اتصال الأم أقوى، فلو كان الأمر إلى القياس لكان الأشبه أن يشبه الأبوان بالبنت وابن الابن والأخت الشقيقة والأخ لأب. وإن نظرتم إلى مقدار التعب والعناء فأفضلية الأم ظاهرة، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وآله وسلم -: "بِرَّ أمَّك ثم أمَّك ثم أمَّك ثم أباك". فإن قلتم: ولكن الأب هو الذي أنفق المال أي في الغالب. قلنا: ولكن الأم قد تكون أحوجَ إلى المال من الأب، ولاسيَّما عند شيخوختها عندما يُعرِض عنها الأب، مع أن مثل هذه الأمور قد قطعها الله عزَّ وجلَّ بقوله: {لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} الآية كما مرَّ. والنظر الصحيح أن الأم ليست مع الأب عصبةً، وإلّا لكانت معه عصبة عند وجود الولد أو الإخوة، وأن الأب لا ينقصها عن ثلثها، وإلّا لنقَصَها عند انفراده معها، فإذا لم يكن لا ذا ولا ذاك فهي ذاتُ فرضٍ أبدًا، ينقصها الولد أو الإخوة إلى السدس، فإن لم يكن ولد ولا إخوة فهي على ثلثها، وأما الأب

(17/830)


ففرضه السدس أبدًا (1)، ثم هو عصبة يأخذ الباقي تعصيبًا إذا انفرد، والباقي بعد بقية الفرائض إن كانت ولم يكن ولد ذكر، فإن لم تُبقِ الفرائضُ شيئًا لم يكن له شيء (2)، كما هو الحكم في العصبة، ففي صورة بنتين وأبوين وبني ابن لا يبقى شيء لبني الابن. وفي الحديث: "الخراج بالضمان"، فكذلك حال العصبة، حرمانه تارةً، يأخذون جميع المال تارةً (3). ومبنى الفرائض على المشاحة والعصبات على المسامحة، فإن أصحاب الفرائض كأصحاب الدين على الميت، والعصبة أولياء الميت، وحقُّ الولي أن يحرِص على توفية الديون التي على ميته ولو من ماله، فإن لم يكن هناك ذو دَين أو كان ولم يستغرق فالوليُّ أولى به ممن لا دينَ له ولا ولاية. وبهذا نجيب الأشقاء في المشتركة، نقول لهم: إنكم عصبة الميتة وعاقلتها، لو جَنَتْ في حياتها جنايةً كان حقًّا عليكم أن تحملوها، ولو ماتت وعليها دَين لا وفاءَ له لكان ينبغي لكم أن تقضوه من أموالكم، فهذه الفرائض التي للأم والزوج والإخوة لأم بمنزلة الدين على أختكم، فلم يُكلِّفكم الله تعالى أن تقضوها من أموالكم، بل كلَّفكم أن تَرضَوا بقضائها من تركتها، وافرِضوا أن لكم ولبعض الأجانب دينًا على أختكم ولا تفي التركةُ بالدَّينين، أليس الذي ينبغي لكم أن تقضوا الأجانب وتُسامحوا بدينكم؟ فكذا يقال _________ (1) كتب المؤلف في الهامش: "كذا يظهر، ولكنه لم ينصّ عليه إلّا مع الولد؛ لأنه والله أعلم مع عدم الولد إن لم يحز أكثر من السدس باسم التعصيب لم ينقص عنه". (2) "أي زائد عن السدس، فأما هو فهو فرض فيما يظهر، كما مرّ" (من المؤلف). (3) كذا في الأصل، والمعنى واضح.

(17/831)


للأب على أنه قد أخذ دَينه المحتوم وهو السدس. وأما التفصيل فالجواب الأول دعوى بلا دليل، وليس في قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} إشارة ما إلى أن المراد بقوله: {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} أي ثلث ما أخذاه، بل المتبادر هو المطرد في آيات الفرائض وأحاديثها أن المراد ثلث التركة، والجملة الثانية مبنية على ما قبلها، وهي قوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}، والسدس هنا سدس التركة اتفاقًا، إذ لو كان المراد بالثلث ثلث ما أخذاه لكان المراد بالسدس هنا سدس ما أخذاه، وهو باطل اتفاقًا فيما إذا كان هناك أحد الزوجين. وأما الجواب الثاني فيرد عليه أنه لا دليلَ على الحصر، لا من الطرق التي ذكرها البيانيون ولا من غيرها، فإننا نسلِّم أن الحق غير محصور في تلك الطرق، وأنك إذا قلتَ لإنسانٍ: من ورِثَ فلانًا؟ فقال: ورثَه أبواه، فَهِمَ الحصر، ولكن فَهْمَه هنا من جهة أن مَن الاستفهامية للعموم، فالاستفهام واقع عن جميع الورثة، والجواب مطابق للسؤال، فلما اقتصر المجيب على قوله: ورثه أبواه، كان ظاهر ذلك أنهما جميع الورثة، ولكن لا نجد في الآية ما يماثل هذه الدلالة أو يقوم مقامَها. وقولكم: "إن الحصر مأخوذ من التخصيص الذكري كما تدلُّ عليه الفحوى" جعجعةٌ لا طِحْن، فإن التخصيص الذكري إنما يفيد الحصر حيث كان المقام يقتضي الاستيعاب، كما قدَّمنا في جواب "مَن ورث فلانًا"، وليس هنا كذلك، اللهمَّ إلّا أن تبنوا على القول بمفهوم اللقب، وهو قول ساقط بالاتفاق بيننا وبينكم.

(17/832)


وأما الجواب الثالث فيردُّه أن أهل اللغة ذكروا أن "ورث" يتعدَّى إلى مفعولين، ولم يفرقوا بين ورثتُه وورثتُ منه. وقولهم: "حذف المعمول يُؤذِن بالعموم" ليس على إطلاقه، فإنه يقال: "قَتلَ فلان" وليس المعنى أنه قتلَ كلَّ أحد، وقالوا: فلان يعطي وفلان يمنع، وليس المعنى يعطي كلَّ شيء ويمنع كلَّ شيء، وإنما يُؤذِن بالعموم حيث كان المقام يستدعي ذكره لو كان خاصًّا، ولا علة لتركه غير العموم، وما هنا ليس كذلك، فإن القصد من قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} إنما هو ذكر وجود الأبوين. وإنما لم يقل: "وله أبوان" لأن مثل هذا إنما يحسن فيما قد يكون وقد لا يكون البتة، كالولد والإخوة، فأما الأبوان فكل إنسانٍ له أبوان عدا آدم وحواء وعيسى عليهم السلام. فإن قيل: إنما المراد بقوله: "وله ولد"، "وله إخوة" من كان حيًّا، فلو قيلَ: "وله أبوان" لكان المعنى: وله أبوان حيَّان، والأبوان الحيَّان قد يكونان وقد لا يكونان في ... قلت: نعم، ولكن الكلام في حسن التعبير. وأما قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} ففي دعواكم نظر، ولا يلزم من ترك التقييد إغناء الكلام عنه، فقد يترك التقييد في آية لبيان أخرى .... وأما قوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} فقد لقيتمونا ببعض الكلام عليها، ولا حاجة بنا إلى استيفائه، بل يكفينا أن نقول: إذا اتجه أن يكون المراد هنا: يُحرِز جميعَ مالها، فلقائلٍ أن يقول إنما كان ذلك هنا لتقدُّم المبتدأ، كما في قولهم: أنا فعلتُ ذلك، أو أن المقام هنا يستدعي ذكر المفعول، فآذن حذفُه بالعموم، وليس قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} كذلك.

(17/833)


وأما قول زكريا عليه السلام: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} فكأن إحراز الجميع قوي فيها، ولكن قد يُوجَّه بأن المقام يستدعي ذلك؛ لأنه يسأل ولدًا يخلُفه، ولا يكفي في ذلك أن يرِثه في الجملة، بأن يحرز شيئًا ما مما هو له، وبأن تعدية "يرث" الأول بنفسه والثاني بمن يُشعِر بالفرق، والفرق الظاهر هو ما ذُكر. وأما الجواب الرابع فيرد عليه أن تلك القاعدة إذا سلمت ففيما يكون المقام فيه يستدعي بيان النصيب، فإنه إذا لم تذكر مع ذلك عُلِم أنه إنما تُرِك لنكتةٍ، والنكتة قد تكون العموم كما مرَّ، وقد تكون غير ذلك كما هنا، فإن كون النصيب غير مقدرٍ سبب لتركِ ذكره، فتدبَّر. وقد قدمنا أن قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} لا يستدعي ذِكْرَ المفعول. فصل قد يقال من طرف الجمهور: الكلام في مقامين: الأول في معنى الآية، والثاني في النظر. فأما معنى الآية فإنما دفعتم به الأجوبة السابقة كلامًا، ولكننا نقتصر على الجواب الثالث، ونقول: إن نحو "ورِث فلانٌ فلانًا" يقتضي ظاهره إحرازَه جميعَ ماله، كما يشهد به الذوق، وصَّرح به السهيلي وغيره، وقدَّمنا له ثلاثة أوجه. وإطلاق أهل اللغة أن "ورِث" يتعدى إلى مفعولين وعدم تفرقتهم بين "ورثتُه" و"ورثتُ منه" إن خالف ما قلنا عارضناه بما تقدم من الاستدلال. وقولكم في دفع الوجه الثاني "إن حذف المعمول إنما يؤذن بالعموم" حيث كان المقام يستدعي ذكره لو كان خاصًّا، ولا علة لتركه غير العموم=

(17/834)


مسلَّم، ونقول: إن قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} كذلك، قولكم إن القصد من قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} إنما هو ذكر وجود الأبوين دعوى غير مسلَّمة، فإن وجودهما قد علم من الجملة الأولى. والجواب الذي من طرف ابن عباس قد تقدم أن الكلام عليه يكون تأكيدًا، والتأسيس أولى منه، ويُرجّح قولنا التعبير بقوله: "ورث"، ولو كان الأمر كما قلتم لكان الظاهر أن يقال: "وله أبوان". قولكم إنه عدلَ عن ذلك لأن التعبير به غير جيد= غير مسلم. نعم، لا ننكر أنه يقال: ورث فلانٌ فلانًا، وليس المعنى على العموم حتمًا، ولكن لابدَّ أن يكون هناك ملاحظة للعموم، وذلك كقوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا} إذا حمل على معنى أنه عصبتها كما تقدم، وقدَّمنا أنه خلاف الأصل، فلا يُصار إليه إلّا بدليل، فإن أقمتم حجةً على أنه قد يقال مثلًا: مات فلانٌ وورثتْه زوجته" على معنى أنها ورثت فرضها فإننا نُسلِّم ذلك، ولكننا نقول: هذا المعنى أشدُّ في خلاف الظاهر، فلا يُحمل عليه الكلام ما دام المعنى الظاهر محتملًا، وقد يُوجَّه بأن الأصل: ورثتْ منه زوجته، ثم حُذِف حرف الجر، وسُلِّط الفعل على المجرور، كما في نحو: دخلتُ الدارَ. وقولكم في الجواب الإجمالي: إنه لم يَدْعُنا إلى تكلف الجواب إلّا استبعادُ أن تأخذ الأمُّ ضعفَ الأب، وذكرتم جواب زيد بن ثابت، فقد جاء ذلك في رواية مختصرة، وجاء في أخرى أوضح منها: "عن عكرمة أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسأله عن زوج وأبوين، فقال زيد: للزوج النصف وللأم ثلث ما بقي وللأب بقية المال، قال: فأتيتُ ابنَ عباس فأخبرتُه، فقال ابن عباس: ارجع إليه فقُلْ له: أبكتابِ الله قلتَ أم برأيك؟ قال: فأتيتُه، فقال: برأيي، فرجعتُ إلى ابن عباس فأخبرتُه، فقال ابن عباس:

(17/835)


وأنا أقول برأيي: للأم الثلث كاملًا" "سنن" البيهقي (6/ 228). فهذا فصل الخطاب في الآية، وهو أنها محتملةٌ كلا القولين باعتراف أفرض الأمة وباعتراف حبرها، وهو صاحب القول المخالف للجمهور، فإن كلا القولين عمدتُه في ترجيح ما ذهب إليه الرأي، وفي ذلك شهادة عظمى من حبر الأمة لصحة احتمال الآية لما قلنا. وأعظم منها اتفاق جمهور الصحابة ثم أئمة التابعين ومَن بعدهم، وبما ذكر يتم إجماع الصحابة على احتمال الآية لما قلناه وترجيح جمهورهم له، فلنقتصر على هذا وننظر في الرأي. وأما المقام الثاني فقد تقدم ما ظهر من النظر من طرف ابن عباس، فقولكم أولًا: إن المعروف من سنة الفرائض أن الوارث الذي ينقص غيره ينقصه على كل حال، والأب لا ينقص الأم عند عدم أحد الزوجين، فلا ينقصها عند وجوده. فهذا معارض بأخصِّ منه، وهو أن الأم لا تفضل الأبَ في الصور المتفق عليها، فهي إما أن تأخذ مثله، وذلك مع الابن أو البنتين فأكثر، وإما أن تأخذ نصف ما أخذ، وذلك مع البنت وعند انفراد الأبوين، وهذا القياس أقوى من قياسكم، فإن غاية قياسكم أن هذه الصورة لا نظير لها في الفرائض، قياسنا يقول مثل قولكم، وهو أن هذه الصورة ــ أعني أن تأخذ الأم ضعفَ ما يأخذ الأب ــ لا نظير لها في الفرائض، ثم هو ناظرٌ إلى المعنى، وهو أن الأحكام المتفق عليها تدلُّ أن الأب أكثر حقًّا من الأمّ. وأما قولكم: إن من شأن العصبة أن تختلف أحواله، فتارةً يحوز جميع التركة، وتارةً لا يبقَى له شيء، وتارةً يناله كثير منها، وتارةً قليل= فهذا حق في

(17/836)


غير الأب، فأما الأب فإنه صاحبُ فرضٍ فرض الله له مع الولد السدس، وكان مقتضى ذلك أن يُفرض له مع عدم الولد الثلث كالأم سواء على الأقل، ففي عدم الفرض له إشارة إلى أنه عند عدم الولد لابدّ أن يحوز الثلث على .... ، وإن كان بعضه باسم الفرض وبعضُه باسم التعصيب، وذلك كالابن لم يفرض الله عزَّ وجلَّ له، ولكن جعله يحجب بعض الورثة وينقص بعضهم، فلو اجتمع جميع الورثة من الأصول والحواشي ومعهم ابن واحد لما ورث منهم معه غير الأبوين وأحد الزوجين، فللأبوين السدسان وللزوج الربع، فيبقى للابن نصف إلّا نصف السدس، وإذا كان بدلَ الزوج زوجة فأكثر كان لها الثمن، فيبقى للولد النصف وربع السدس، هذا مع أن الأبوين جدّاه، والغالب أن يكون الزوج أباه والزوجة أمه. ولنكتفِ بهذين الوجهين من النظر ثم نقول: لم يعتمد جمهور الصحابة فمن بعدهم على النظر إلا من جهة ترجيحه لأحد المعنيين المحتملين في الآية باعتراف ابن عباس نفسِه كما مرَّ، ولما ترجَّح أن معنى الآية أنه إذا لم يكن للميت ولدٌ وحاز أبواه جميع التركة فلأمِّه الثلث، فقد فُهِم من التقييد بحوزهما جميع التركة أنهما إذا اجتمعا ولم يحوزا جميعَها لم يكن للأم الثلث، والمعقول أنه يكون لها حينئذٍ دون الثلث، فنظر الأئمة إلى حالة انفرادهما، فوجدوا أنها تأخذ مثل نصف ما يأخذ الأب، فقالوا: فالظاهر أنهما إذا اجتمعا ولم يحوزا جميع التركة ــ وليس هناك من ينقص الأم وهو الولد .... ــ نقصَ من نصيب الأم بنسبة ما نقص من التركة، وزاد ذلك عندهم قوةً أن ذلك لا ينقصها عن السدس، وهو الفرض المحتوم لها. والله أعلم.

(17/837)


فصل وأما الجملة الثالثة ــ وهي قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} فهي مبنية على ما قبلها، فمنطوقها أن الأبوين إذا اجتمعا ومعهما إخوة كان للأم السدس، وقد تقدم أنه رُوي عن ابن عباس أن السدس الذي نقصته الأم يكون للإخوة، ولم يثبت عنه ذلك، وقد تقدم بيان الحكمة في نقصهم الأمّ، وأن السدس وإن أخذه الأب فكأنه لهم، بل لو كان مع الأب أخوات فلا مانع أن يقال: إن لهنَّ الثلثين، ولكن أخذه الأب كما تقدم. وقد استشكل ابن عباس ما جرى عليه العمل من نقص الأم بالاثنين من الإخوة، وقال لعثمان: [لِمَ صار الأخوانِ يردَّانِ الأمَّ إلى السدس، إنما قال الله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ}، والأخوان في لسان قومك وكلام قومك ليسا بإخوة؟] (1). وسُئل زيد بن ثابت عن ذلك فقال: ["إن العرب تسمِّي الأخوينِ إخوةً"] (2). فالذي يظهر من قول ابن عباس وقول زيد أن الجمع في لسان قريش إذا أُطلِق كان المتبادر منه الثلاثة، وليس الأمر هكذا عند جميع العرب، وإلّا لما خصَّ ابن عباس قريشًا. ويظهر من قول زيد أن الجمع في لسان الأنصار يُطلَق على الاثنين إطلاقًا مستفيضًا، فجرى العمل قبل ابن عباس وبعده على الاعتداد بالاثنين. _________ (1) ما بين المعكوفتين بياض في الأصل. والأثر أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/ 465) والحاكم (4/ 335) والبيهقي (6/ 227). (2) هنا بياض في الأصل، والأثر أخرجه الحاكم (4/ 335) والبيهقي (6/ 227).

(17/838)


ومن جملة ما يرجَّح به أن الأحكام المنصوصة المتفق عليها في الفرائض لا تفرِّق بين الاثنين فما فوق، فللبنت أو بنت الابن النصف، وللثنتين فأكثر الثلثان، وكذلك للأخت شقيقةً أو لأبٍ النصف، وللثنتين فأكثر الثلثان، وللأخ لأمٍّ السدس، وللاثنين فأكثر الثلث. ويتأكَّد هذا بأن الظاهر أن الإخوة إنما ينقصون الأمَّ إلى السدس لأجل ميراثهم، حتى مع وجود الأب، فإنهم يرثون تقديرًا كما تقدم، وهم في ميراثهم لا يفترق الاثنان منهم والثلاثة فأكثر، أما الإخوة لأمَّ فظاهر، وأما الأشقاء أو لأب فيعتبر ذلك بإناثهم، فللأختين فأكثر الثلثان.

(17/839)


الرسالة الحادية والعشرون

  مسألة منع بيع الأحرار

(17/841)


(1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي أكرمنا بالهداية، ولاحظَنا بالرّعاية، وحَفَّنا باللطف والعناية، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الهادي من الغَواية، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي أنزل عليه الكتاب فأوضح آيه، صلّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أهلِ الفضل والدِّراية. أمّا بعدُ، فإنّي لمّا رأيتُ العِلْمَ قد خبا زِنادُه، وكَبا جَواده، بل كان قد أصبح نَسْيًا منسيًّا، وعَدّ الناسُ من بقيَ من حَمَلتِه مرتكبين شيئًا فريًّا، لولا قيامُ مولانا أمير المؤمنين لتجديده، واجتهاده في بنائه وتشييده. وكنتُ ممَّن تشبّه بأهله، ولبِسَ العِمامةَ مع جهله، أزعجني ما حَدَث في بيع الأحرار، وما يعاملُهم به القضاة من عدم سماع دعوى المبيع ولا شهادةِ الحسبة مؤاخذةً بظاهر الإقرار؛ فرأيتُ القيام بهذه المهمّة عملًا بالظاهر من كوني ممّن يُعتَدُّ به في هذا المجال، وإن كنتُ في الحقيقةِ من جملة الجُهَّال. فأولًا: لا يخفى عِظَمُ خَطَر الحريّة، قال الله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 11 ــ 13] إلى غير ذلك من الآيات، بحيث جَعَله كفَّارةً لأكبر الكبائر وهو القتل، وكفَّارةً للظهار، وكفَّارةً للجماع في رمضان إلى غير ذلك. وقد قرنَها الله تعالى بالإيمان، قال تعالى: {لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37]، أي: أنعم الله عليه بالهداية إلى الإسلام، وأنعمتَ عليه بالفكِّ من رِبْقةِ الرقِّ.

(17/843)


وفي الصّحيحين (1) عن أبي هريرة قال: قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: "مَن أعتقَ رقبةً مسلمةً أعتقَ الله بكل عضوٍ منه عضوًا من النار، حتَّى فَرْجَه بفَرْجِه". وروى البيهقيُّ في "شعب الإيمان" (2) عن البراء بن عازبٍ قال: "جاء أعرابيٌّ إلى النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال: علِّمني عملًا يُدخِلُني الجنّة. قال: "لئن كنتَ أقصرتَ الخطبةَ لقد أعظمتَ المسألة. أعتِقِ النَّسَمةَ، وفُكَّ الرقبةَ". قال: أوَليسَا واحدًا؟ قال: "لا، عِتْقُ النسَمة أن تنفرد بعتقها، وفكُّ الرقبةِ أن تُعِين في ثمنها ... " الحديث. وفي حديثٍ رواه أبو داود والنسائي (3): أنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - سُئِلَ في شأن رجلٍ قَتَل، فقال: "أَعتِقوا عنه، يُعتِقِ اللهُ إليه بكلِّ عضوٍ عضوًا منه من النار". وفي "شعب الإيمان" (4): أنّه - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "أفضلُ الصدقة الشفاعةُ، بها يُفَكُّ رقبةٌ". وفي مسلمٍ (5) عن أبي هريرة قال: قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: "لا يَجزِي ولدٌ والده إلا _________ (1) البخاري (6715) ومسلم (1509). (2) رقم (4026) ط. الهند. وأخرجه أيضًا أحمد في "مسنده" (18647) وابن حبّان في "صحيحه" (374) والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 272، 273). وإسناده صحيح. (3) أبو داود (3964) والنسائي في الكبرى (4872) عن واثلة بن الأسقع، وهو حديث صحيح. راجع تعليق المحققين على "المسند" (16012). (4) رقم (7279) عن سمرة بن جندب. وفي إسناده أبو بكر الهذلي، وهو ضعيف. وذكر الذهبي في "الميزان" (4/ 497) هذا الحديث من مناكيره. (5) رقم (1510).

(17/844)


أن يجده مملوكًا فيشتريَه فيُعتِقَه" هـ. ومن عرف خطرَ حقِّ الوالد عرفَ خطرَ العتق، وبطريق العكس فمن استرقّ حرًّا أو شهد عليه، أو حكم بغير تثبُّتٍ أو داهنَ، ثبت له عكسُ ما يثبتُ للمعتق. ومَن تأمّل أحكام الرقيق عرف عناية الشارع، فمنها السراية، ومنها شرط العتق في البيع، وغير ذلك ممَّا نقضت فيه القواعد، وعلّله الفقهاء بتشوّف الشارع إلى العتق. وسببُ الرقِّ أصله الكفر، فانظر كيف لم يرضَ سبحانه وتعالى استرقاقَ المسلم إلا بالتبعيّة، وإنّما يُستَرقُّ الكافر بالسَّبْي أو الأسر أو نحوه، وهذا من مُدَّةٍ طويلةٍ إنْ لم يكن مفقودًا فنادرٌ. وأمَّا غير الكافرِ فإنَّما يُسترقُّ بتبعيّتِه له، وندورُ الأصل يستلزم ندورَ الفرع. مع أنَّ العبيدَ المتوارثين من أزمنة الفتوح لا يكادون يُوجَدون إلا مَمْنُونًا عليهم بالعتق. ومِن العلماء مَن قال: إنَّ الإماء المجلوبةَ لا يجوز بيعها ولا شراؤها في حال الجهل، قد قيل هذا في القرنِ السادس أو السابع، وممَّن قال به القفَّالُ والردَّاد، ومَن قال بالجواز قال: والورعُ اجتنابُه. هذا إذْ ذاك فكيف اليوم؟! وفي "فتاوى ابن زياد" (1): مسألةٌ: الجواري المجلوبة الآن قد حرَّر السبكيُّ أحكامها، وحاصله: إمَّا أن يُجهَل حالُها، فالرجوعُ في ظاهر الشرع إلى السيِّد في الصغيرة، وإلى إقرارها واليد في الكبيرة. واليدُ حُجّةٌ شرعيّة _________ (1) "غاية تلخيص المراد من فتاوى ابن زياد" (ص 196، 197).

(17/845)


وكذا الإقرار، والورعُ التركُ. وإمَّا أن يُعلَم حالُها، وله مراتب: أحدها: أن يتحقق إسلامها في بلادها، ولم يَجْرِ عليها رِقٌّ قبل ذلك، فلا تحلُّ هذه بوجهٍ من الوجوه إلا بزواجٍ شرعيٍّ. ثانيها: كافرةٌ ممّن لهم ذِمَّةٌ وعهدٌ فكذلك. ثالثها: كافرة من أهل الحرب مملوكة للكافر، حربيًّا أو غيره، فهي حلال لمشتريها. رابعها: كافرةٌ من أهل الحرب قهرها وقهرَ سيِّدَها كافرٌ آخر، فإنّه يملكها ويبيعها لمن شاء، وتحلُّ لمشتريها ... ثم قال بعد ذلك ما مضمُونُه: خامسها: كافرةٌ لم يَجْرِ عليها رقٌّ أَخذَها مسلمٌ قهرًا، فإنْ كانت بإيجاف جيشٍ فغنيمةٌ مشتركةٌ بين الغانمين وأهلِ الخمس، أو غزا واحدٌ فأكثر بأمرٍ من الإمام أو بدونه ولو مُتَلصِّصًا فكذلك (1). والرقُّ إنَّما يثبت باليد أو بالبيّنة أو بالإقرار ونحو ذلك. أمَّا باليد ففي حقِّ الصغير والمجنون، فيصدَّق مَن هو في يده في كونه رقيقًا بيمينه مع بيان السبب المعتبر، كما قرّره شُرَّاح "المنهاج" (2) في باب اللقيط، عند قول المتن: "ولو رأينا صغيرًا مميزًا ... " إلخ، وفي باب الدعاوي. _________ (1) إلى هنا انتهى النقل من "فتاوى ابن زياد". (2) انظر: "نهاية المحتاج" (5/ 461).

(17/846)


وأمَّا بالبيّنة فأمرها ظاهرٌ، وشرطها بيانُ السبب المعتبر، كما قرَّروه عَقِبَ ما مرَّ عند قول المتن: "ومَن أقام بيّنةً بِرِقّه عُمِلَ بها" (1). ويُشترط أيضًا عدم المعارضة، فإنَّ بيّنةَ الحرّ تُقدَّم على بيّنةِ الرقّ، على ما نقله الهروي عن الأصحاب، وإنْ كان المعتمد خلافَه كما ذكره الرمليُّ في باب الدعاوي (2). وإذا لم تعتبر اليد، ولم تَرِدْ بيّنةٌ معتبرة، فالقول قول المُسْتَرَقّ البالغ بيمينه، وإنْ قد استخدم زمانًا وتداولته الأيادي، كما حققوه في باب الدعاوي. وأمَّا الصغير فيُقبَل قولُ مسترِقِّه الذي هو في يده بيمينه ما لم يعتمد على الالتقاط، فإذا بلغ وادَّعى الحريَّة لم يُصدَّق إلا ببيّنةٍ على الأصحِّ. أمَّا غيرُ ذي اليد فلا يُصدَّق إلا ببيّنة معتبرةٍ. وأمَّا الإقرار فأولًا: من المعلوم أنَّ الإقرار بالمال شرطه الرشد، ومن المعلوم أن مذهبَ الشافعي أن الرشدَ صلاح الدين والمال، وإنْ تجوَّز بعضُ المتأخرين فيعمل به حيث دعتِ الحاجةُ، والإقرارُ بالرقِّ هل يُعتبر فيه الرشد؟ الذي فهمه ابن حجر والرمليُّ من إطلاق الأصحاب في باب اللقيط عدمُ اعتباره، على أنَّ ابن حجر إلى اعتباره أميلُ، وباعتباره قال سلطان العلماء الشيخ عزُّ الدين عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله تعالى، ورجّحه المغني والزركشي والأذرعي وابن قاسمٍ والسيّد عمر، وهو الظاهر؛ لأنّه إقرار بمالٍ، والعذر عن إطلاق الأصحاب في باب اللقيط أنهم قد قيَّدوه في باب الإقرار، وهو الباب المعقود لذلك. _________ (1) المصدر نفسه (5/ 462). (2) المصدر نفسه (8/ 345).

(17/847)


وإذا تقرّر هذا فأين الرشد اليوم من أكثر الناس؟ ! ومن شروط الإقرار أيضًا عدم الإكراه، وقد نصُّوا على أنَّ القول قول مدّعي الإكراه إذا قامت أمارةٌ عليه، وكفى بحال الشخص تحت سيطرة المتغلِّبِ عليه الطامعِ في بيعه بمالٍ كثيرٍ، مع فساد الزمان وجهل الناس وشدّة ظلمهم، فإنها أمارةٌ واضحة على الإكراه. تنبيهٌ: ويُشتَرط في إثبات الرقّ بأدنى دليل، كأن يكون داخلًا تحت الإمكان. فمَن عُلِمت حريته وإسلامه لم تُسمع دعوى الرقّ عليه أصلًا. ويُشترط في الإقرار بالرقّ أيضًا أن لا يسبقه إقرار بالحريّة، كما قرَّروه في باب اللقيط. فإذا ثبت الإقرار المعتبر فهل تُسمع الدعوى بعده؟ قال القليوبي في "حاشيته" على المحلّي (1) قُبيلَ باب بيع الثمار: "إنّها لا تُسمع إلا أن يبيِّن له وجهًا محتملًا، وأنّ ابن حجرٍ قال: "تُقبَل مطلقًا لأجل حقّ الله تعالى". وقال في باب الحوالة (2): "نعم إنِ اعترفَ العبد قبلها بالرقِّ، أو صرَّح أحدُ الثلاثة قبلها بالملك، لم تُسمَع بيّنتُهم ولا دعواهم، كما اعتمده [شيخنا] (3) كشرح شيخنا الرملي، ونقل سماعها مطلقًا؛ لأنَّ الحريّة حقُّ الله تعالى ... " إلخ. _________ (1) (2/ 224). (2) (2/ 322). (3) زيادة من المطبوع.

(17/848)


فأمَّا إذا بيَّن وجهًا محتملًا فإنها تُقبل جزمًا، كما أشاروا إليه في باب الحوالة. وأمَّا ما ذكره عن ابن حجرٍ فلم أره لابن حجر فيِ "التُّحفة" بعد الفحص، بل في كلامه ما يفيد خلافه، قال في بابِ الحوالة (1): "إنَّ عدمَ سماعِها هو الأصحُّ، مع تناقضٍ لهما في مواضع" يعني الشيخين. وفي "الداغستاني" (2) في باب الحوالة: "قوله: (أو أقامها العبدُ)، قال في "شرح العباب": قال الجلال البلقيني: لم يذكروا إقرار العبد بالرقِّ، والقياس يقتضي تَعيُّنَ إقامة البيّنة حسبةً؛ لأنَّ إقراره بالرقِّ مُكذِّب لبيِّنتِه، فلا يقيمُها. انتهى. ونُقِل عن الأسنوي ما يوافقه، وعن السبكي والأذرعي ما يخالفه، ويؤيّد كلام الجلال والأسنوي امتناعُ سماعها من المتبايعين إذا صرّحا حين البيع بالملك، فإنّ تصريحهما بالملك نظير تصريح العبد بالملك". انتهى، سم بحذفٍ". فقوله: "ونقل عن الأسنوي ما يوافقه"، أي: قال بعدم سماعها إلا إن كانت حسبةً. وقوله: "وعن السبكي والأذرعي ما يخالفه"، أي: قالا بسماعها مطلقًا، كما هو ظاهرٌ. وأمّا الحسبةُ فإنَّه لا شكَّ فيها أنها تُقام على كلِّ حالٍ. _________ (1) "تحفة المحتاج" (5/ 237 - 238). (2) هو الشرواني، انظر حاشيته على التحفة في الموضع المذكور.

(17/849)


وفي "المنهاج" (1): "وتُقبل شهادةُ الحسبة في حقوق الله تعالى، وفيما له فيه حقٌّ مؤكّد كطلاقٍ وعتقٍ ... " إلخ. وفسَّر الشرَّاح (2) قوله: "وفيما له حقٌّ مؤكد" بما لا يتأثر برضا الآدمي، ولا شكَّ في أنّ الحريّة كذلك. إذا علمتَ ما مرّ فإنّ المستَرَقَّ في هذا الزمان إن كان مشهورَ النسب فلا تُسمع دعوى مسترِقِّه أصلًا. وإن كان مجهولًا لكونه مجلوبًا من قُطرٍ بعيدٍ فالقول قوله بيمينه، ما لم يَسبِق منه إقرارٌ بالرقِّ مستكملٌ للشروط، وهو عزيزٌ جدًّا، لقيام أمارة الإكراه، وعلَّتُه السَّفَهُ. ولو قامت بيّنةٌ أنّ المسترَقَّ قد أقرّ بالحريّة قبل إقراره بالرقّ قُبِلتْ، وأَبطلَتْ إقرارَه بالرقّ. فأمّا إذا ثبت إقراره المعتبر بالرقِّ ولم يكن مشهور النسب، فهل تُسمَع دعواه الحريّةَ أم لا؟ قد سبق نقل القليوبيِّ عن ابن حجرٍ والرمليّ، ونقلُ ابن قاسم عن السبكيِّ والأذرعي. وأمّا كلام الجلال البلقيني وموافقةُ الإسنوي له فهو عبَّر بقوله: "والقياس يقتضي ... " إلخ، وكثيرًا ما تُنقَض القواعد ويُخالَف القياس في هذا الباب لخطر شأن الحريّة. _________ (1) "منهاج الطالبين" (3/ 437). (2) انظر "تحفة المحتاج" (10/ 237) و"نهاية المحتاج" (8/ 306).

(17/850)


وبما قرَّرناه تبيّن أن الإقرار بالرقِّ لا حكمَ له، لغلبةِ السفه وعدم المعرفة، وقيامِ أمارة الإكراه، مع غلبة الحريةِ ــ وهي الأصلُ ــ ونُدورِ الرقّ المتيقّن. فعليه كلُّ مُسْتَرقٍّ ادَّعى الحريةَ فالقول قوله بيمينه، سواء سبقَ منه إقرارٌ بالرقِّ أمْ لا، إلاّ أن يقيم مُسْترِقُّه بيّنةً برقِّه، فإن أقامها ثبت الرقُّ إلاّ أن تقوم بيّنةٌ بالحريّة، سواء أقامها العبدُ ــ على ما مرّ عن السبكي، ونقله (ق ل) عن ابن حجرٍ والرملي، ومرّ توجيهُه ــ أم أُقيمتْ حسبةً، فإنّ بيّنةَ الحريّة تُقَدَّمُ على بيّنةِ الرقيّة، على ما نقله الهروي عن الأصحاب، ويتّجه ترجيحُه لفسادِ الزمان وكثرةِ العدوان، وغلبةِ الحريّة ــ وهي الأصلُ ــ ونُدورِ الرقِّ. وأيُّ إنسانٍ جلب مُسترَقًّا فالأحوط للمشتري أن لا يشتريه إلا بعد إخبار موثوقٍ بأنّه مملوكٌ حقًّا، وإلّا فاللازمُ عليه أنْ يشتريَه بخيار الشرط، ثم يؤمِّنه ويطمئنه [ ....... ] (1)، ويُسكِّن فَزَعه، ويقول له: إن كنتَ حُرًّا فأنت آمِنٌ ضامنٌ، وأنا أقبِضُ منهم دراهمي، وأحمِيْك منهم، وأمنعُهم عن التعرُّض لك، ثم إن أحببتَ البقاء لديَّ وإلّا أرجعتُك إلى أهلك مع مَن أَثِقُ به. وإن كنتَ مملوكًا فلا تكذِبْ. فإن قال: أنا حُرٌّ، لزِمَه رفعُه إلى الحاكم للبحث عنه، ولا يُسْلِمه إلى جالبِه. وإنْ قال: بل أنا مملوكٌ، فلا بأسَ أنْ يشتريَه معتمدًا على ظاهر اليد مع إقراره، بعد تأمينه وتَطْمِينه. _________ (1) هنا كلمتان غير واضحتين.

(17/851)


والحذرَ ثم الحذرَ من التساهل في هذا، فإنَّه من أخطر الخطر، كيف وما يترتَّبُ عليه من المفاسد كثيرٌ؟ ! كالتسرّي واسترقاق الأولاد، إلى غير ذلك. والنظرُ لمولانا أميرِ المؤمنين، مُقيمِ أَوَدِ الدين، المجتهد المطلق، سيّدنا الإمام محمد بن عليِّ بن إدريس، حفظه اللهُ تعالى، آمين. وقد كنتُ أردتُ نقلَ عباراتِ شُرَّاح "المنهاج" و"المنهج" و"الحواشي" في باب الإقرار، والحَجْر، والحوالةِ، واللقيط، والدعاوي والشهادات، فلم تُساعدني العزيمةُ، ورأيتُ الذي أوردتُ كافيًا. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

(17/852)


(2) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي لا إله إلا هو، والصلاة والسلام على نبيّه ورسوله محمدٍ وآله وصحبه. وبعدُ، فإنَّ هذا الزمانَ لا يخفى فيه ضياعُ حقوق الله تعالى بين الناس، وفُشوُّ السوء والفحشاء ما بينهم، ومن ذلك ما شاع من بيع الأحرار، وإكراهِهم على الإقرار، أو ترغيبهم بعضهم ببعضِ الثمن وإطماعِه بالهربِ، وبعضهم رغَّبه في تحمُّل مُؤْنتِه ومعيشته واستراحتِه من الطلب والتعب، وربّما حضر إلى بعض الحكام ذلك المقِرُّ فادَّعى الحريّة، أو جاءت شهادةُ حِسبةٍ، فلم يسمعها اعتمادًا على ظاهر كلام أهل المذهب. وأنا أنقلُ هنا بعضَ ما يلوحُ بالمسألةِ من كلام "المنهاج" و"التُحفة" و"الحاشية" للشِّرواني. في الإقرار (1): (يصحُّ) الإقرار (من مطلق التصرّف) أي: المكلّف الرشيد ... إلخ. وفي باب اللقيط (2): (إذا لم يُقرّ اللقيطُ برِقٍّ فهو حرٌّ، إلا أنْ يقيم أحدٌ بينةً لرقّه، وإنْ أقرَّ به) أي: الرقّ، وهو مكلَّفٌ، وعن ابن عبد السلام ما يقتضي اعتبارَ رشده أيضًا، _________ (1) "منهاج الطالبين" (2/ 177)، "تحفة المحتاج" مع الحواشي (5/ 354). (2) "المنهاج" (2/ 313، 314)، "تحفة المحتاج" (6/ 356).

(17/853)


وظاهر كلامهم خلافُه. (لشخصٍ فصدَّقه قُبِل إن لم يسبق إقراره) أي: اللقيط (بحريّةٍ) كسائر الأقارير، بخلافِ ما إذا أكذبه، وإنْ صدَّقه بعدُ أو سبق إقراره وهو مكلَّفٌ؛ لأنّه به التزمَ أحكام الإقرار المتعلّقة بحقوق الله تعالى والعبادِ، فلم يقدر على إسقاطها. وفي الحاشية (1): "اعتمده المغني والسيد عمر، ومال إليه ابن قاسم". عبارةُ المغني: تنبيهٌ: سكتوا عن اعتبار الرشد في المقر ههنا، وينبغي ــ كما قال الزركشي ــ اعتباره كغيره من الأقارير، فلا يقبل اعتراف الجواري بالرقّ كما حكي عن ابن عبد السلام؛ لأنَّ الغالب عليهنَّ السفه وعدم المعرفة، قال الأذرعيُّ: "وهذه العلّة موجودة في غالب العبيد، لا سيما من قرُب عهده بالبلوغ". وعبارة السيد عمر: "قوله: فظاهر كلامهم خلافه، قد يقالُ: إنَّما سكتوا عن هذا اكتفاءً بذكره في نظائره، إذِ الغالبُ استيعاب الشروط إنما يكون في الباب المعقود أصالةً لبيان ذلك الحكم كباب الإقرار هنا، ثم رأيتُ المحشي قال: قوله: "اعتبار رشده" قد يؤيّده أنه إقرار بمالٍ، وشرطه الرشدُ، اللهم إلا أن يمنع أن الإقرار بالرقِّ ليس من الإقرار بالمال، وإن ترتّبَ عليه المال، انتهى. وهو إشارةٌ إلى ما نبَّهنا عليه، وأمَّا قوله: "اللهم إلّا ... إلخ" فلا يخفى ما فيه من البعد بل المكابرة، إذْ لا معنى لقوله: أنا عبده أو نحوه إلا أنا مملوكٌ له، وهو نصٌّ في المالية. هـ. _________ (1) "حاشية الشرواني" المطبوعة مع "تحفة المحتاج" (6/ 356 - 357).

(17/854)


وفي الشرح (1) بعد: ولو أقرَّ بالرقِّ لمعيَّنٍ ثم بحريّةِ الأصل لم تسمع، لكن إن كان حالَ الإقرار الأول رشيدًا، على ما مرَّ. وقال في بابِ الحجر (2): (حجر الصبيِّ يرتفع ببلوغه رشيدًا) لقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] ... إلى (والرشدُ صلاح الدين والمال) معًا، كما فسَّر به ابن عباسٍ وغيره الآيةَ السابقة، ووجه العموم فيه مع أنه نكرةٌ مثبتةٌ وقوعُه في سياق الشرط. [وفي الدعاوي] (3): (ولو ادُّعيَ رقُّ بالغٍ) عاقلٍ مجهول النسب ولو سكرانَ (فقال: أنا حرٌّ) في الأصلِ، ولم يكن قد أقرَّ له بالملك، قيل: وهو رشيدٌ على ما مرَّ قبيل الجعالة (فالقولُ قولُه). وفي الشهادات (4): (وتُقبل شهادة الحسبة في حقوق الله تعالى وفيما له فيه حقٌّ مؤكَّدٌ) وهو ما لا يتأثَّر برضا الآدمي ... إلى أنْ قال: وإنما تُسمَع عند الحاجة إليها حالًا، كأخيها رضاعًا وهو يريدُ أنْ ينكحها، أو أعتقه وهو يريدُ أن يسترِقَّه (كطلاقٍ وعتقٍ وعفْوٍ عن قصاصٍ، وبقاء عدّةٍ وانقضائها، وحدٍّ له تعالى). _________ (1) "تحفة المحتاج" (6/ 357). (2) المصدر نفسه (5/ 162 - 166). (3) المصدر نفسه (10/ 301 - 302). (4) المصدر نفسه (10/ 237 - 239).

(17/855)


وفي الحاشية على (كطلاقٍ) أي: لأنَّ المكلَّف فيه حقّ الله تعالى، بدليل أنه لا يرتفع بتراضي الزوجين أسنى. هـ نعم في "بغية المسترشدين" (1) في الحجر عن الأشخر: مذهب الشافعيّ أن الرشد صلاح المال والدين، بأن لا يرتكبَ محرمًا مبطلًا للعدالة، ومنه أن تغلب طاعاتُه صغائره، إلى أن ذكر وجهًا آخر حكاه عن البعض وتجوّز فيه المتأخرون تيسيرًا، قال: وهو شاذٌّ. وفي باب الخلع (2) عن الأشخر أيضًا: هذا إذا قلنا بمذهب الشافعي أن الرشد صلاح الدين والمال، أمَّا إذا قلنا بالوجه الشاذّ أنه صلاح المال ... إلخ وفيه (3) عن بافقيه: ومعلومٌ أن الرشد على المذهبِ أن تبلغ مصلحة لدينها ودنياها ... إلخ. وفي فتاوي ابن زياد (4): مسألةٌ: عبد مسلمٌ بالغٌ رشيدٌ تحت يد مالكٍ مقرٍّ له بالملك مستخدم مستفاض بين الناس أنه عبدُه، ثم أعتقه السيد بحضرة بعض العلماء عتقًا صحيحًا، فانتقل العتيق إلى بلدٍ أخرى وأقرَّ أنَّه مِلْكٌ لشخصٍ آخر، لم يُقْبل إقراره بعد ثبوت العتق، ... إلخ. _________ (1) (ص 139). (2) (ص 217). (3) (ص 218). (4) "غاية تلخيص المراد من فتاوى ابن زياد" (ص 144).

(17/856)


وفي الحجر (1): مسألةٌ: الرشدُ صلاح الدين والمال، هذا مذهب إمامنا الشافعيِّ رحمه الله، وفي وجهٍ حكاه المتولّي ... إلخ. إذا تقرر ما نقلناه وعرفتَ أحوال الناس اليوم في بيع الجواري اتَّجه الجزمُ بسماع البيّنةِ على الحريّةِ؛ لأنَّ حقوق الله المتعلّقةِ بها عظيمةٌ، وكم مفاسد تترتب على الرقِّ. وتبيَّن مما نقل عن "المغني" والسيد عمر وابن قاسم عن الزركشي والشيخ عزّ الدين بن عبد السلام سلطان العلماء وغيرهم أن الرشد هنا معتبرٌ كسائر الأقارير. أمَّا حُجَّةُ من لم يشترطه فإنَّما هو مجرد إطلاقهم أنَّ الأصحاب .... ، وقد تبيّن أن إطلاقهم إنّما هو اكتفاء بذكره في أصل المسألة ونظَائرها، وذلك باب الإقرار. وكون الإقرار هنا إقرارًا بمالٍ لا يُمْتَرى فيه. وأمَّا كون الرشد مُعتبرًا في الدين فهو المذهبُ، وإنَّما تجوَّز فيه بعضُ المتأخرين تيسيرًا، وينبغي أنْ يعتبر التيسير قبل ادِّعاء المبيع الحريَّةَ، أو ورود شهادة الحسبة، وأمَّا عندهما ففيه تفويتٌ لحقوق الله تعالى، وخوضٌ في الأوحال، على أنَّ الحسبةَ الظاهرُ سماعُها هنا؛ لكون الغالب فيه حقّ الله تعالى، إذْ لا ترتفع الحرية بالتراضي كما لا يرتفع الطلاق. وأمَّا الرشدُ في الجواري والعبيد اليوم فمفقود؛ إذْ لا تُعرف منهم صلاة ولا صيام بل ولا ذِكرُ الله تعالى إلا نادرًا، مع جهلهم بما يترتب على _________ (1) المصدر نفسه (ص 138).

(17/857)


استرقاقهم من المفاسد، وإنما عامَّة قصدهم أن يستريحوا من طلب المعاش، وهذا مع استخفاف الناس بالمسألة وجرأتهم عليها، فطالما باعوا الأحرار وأكرهوهم على الإقرار، أو رغَّبوهم بمالٍ وأطمعوهم بالفرار، أو رغَّبوا في استراحتهم من الكدِّ والتَّعبِ في طلبِ المعاش بحمل المشتري لِمُؤنتهم، ولاسيَّما إذا كان من الأغنياء. وقد قيل في الأعجمي الذي يرى وجوبَ طاعةِ أميره: إنَّ حكمه مأمورًا كحُكْمه مُكْرهًا، ولا يبعد قياس هؤلاء عليه. وللإمام ــ أيَّده الله تعالى ــ النظرُ والجزمُ بما تبرأ به الذمَّةُ؛ إذِ الدينُ قِلادةٌ في عُنُقه، وهو بحمد الله من العلم والتحقيق بمرتبةِ الاجتهاد، والحقُّ أحقُّ أنْ يُتَّبع، ولا يرفع الحقَّ كلامُ أحد إلا الله ورسوله. واللهُ أعلمُ.

(17/858)


(3) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله ربّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. وبعد، فقد حملني ما طرأ على الناس من أحكام الأرِقّاء، وجرأة كثيرٍ من الناس على بيعِ الأحرار، مع إكراههم على الإقرار أو ترغيبهم به، ورغبتهم في المعرفة والمعيشة، ومع ذلك فإنَّ بعض الحكام يقضي بمجرد الإقرار بالرقِّ، لم يَعُدْ يقبل دعواه الحرية، ولا يسمع شهادة الحسبة. وهذا ما اطلعتُ عليه من عبارات "المنهاج" مع "التحفة" وحاشية الشِّرواني. متنٌ وشرحٌ: (يصحُّ) الإقرار (من مطلق التصرُّف) أي: المكلّف الرشيد ... إلخ. هـ من الإقرار (1). وفي باب اللقيط (2): (إذا لم يُقِرّ اللقيط برقٍّ فهو حرٌّ، إلا أنْ يُقيمَ أحدٌ بيِّنةً برقّه، وإنْ أقرَّ به) أي: الرقِّ وهو مكلَّفٌ، وعن ابن عبد السلام ما يقتضي اعتبارَ رشده أيضًا، وظاهر كلامهم خلافُه. (لشخصٍ فصدَّقَه قُبِل إنْ لم يسبق إقراره) أي: اللقيط _________ (1) "تحفة المحتاج بشرح المنهاج" (5/ 354). (2) المصدر نفسه (6/ 356).

(17/859)


(بحريّةٍ) كسائر الأقارير، بخلافِ ما إذا أكذَبَه، وإنْ صدَّقه بعدُ أو سبق إقراره بالحريّةِ وهو مكلَّف؛ لأنّه به التزمَ أحكام الإقرار المتعلّقة بحقوقِ الله والعباد، فلم يقدر على إسقاطها. وفي الحاشية (1) عند قوله: "ما يقتضي رشده": اعتمده المغني والسيد عمر، ومال إليه ابن قاسمٍ. عبارةُ المغني: تنبيهٌ: سكتوا عن اعتبار الرشد في المُقِرِّ ههنا، وينبغي ــ كما قال الزركشيُّ ــ اعتباره كغيره من الأقارير، فلا يُقبل اعتراف الجواري بالرقِّ كما حُكِيَ عن ابن عبد السلام؛ لأنَّ الغالبَ عليهنَّ السفهُ وعدم المعرفة. قال الأذرعيُّ: وهذه العلّةُ موجودةٌ في العبيد، لاسيّما من قرُب عهده بالبلوغ. وعبارة السيد عمر: قوله: "وظاهر كلامهم خلافه"، قد يقال: إنّما سكتوا عن هذا اكتفاءً بذكره في نظائره؛ إذِ الغالبُ أنَّ استيعاب الشروط إنّما يكون في الباب المعقود أصالةً لبيان ذلك الحكم، كباب الإقرار هنا، ثم رأيتُ المحشّي قال: قوله: "اعتبار رشده" قد يؤيده أنّه أقرَّ بمالٍ، وشرطه الرشد، اللهم إلا أن يمنع أنَّ الإقرار بالرقِّ ليس من الإقرار بالمال، وإنْ ترتّب عليه المال. هـ وهو إشارة إلى ما نبهنا عليه. وأمَّا قوله: "اللهم إلا ... " إلخ، فلا يخفى ما فيه من البعد بل المكابرة؛ إذْ لا معنى لقوله: أنا عبده أو نحوه إلّا أنا مملوكٌ له، وهو نصٌّ في المالية. هـ _________ (1) "حاشية الشرواني" المطبوعة مع "التحفة" (6/ 356 - 357).

(17/860)


وفي الشرح (1) بعد: ولو أقرَّ بالرق لمعيَّن ثم بحرية الأصل لم تُسمع، لكن إنْ كان حالَ الإقرار الأول رشيدًا، على ما مرَّ. وفي الحجر (2): (وحجر الصبيّ ببلوغه رشيدًا) لقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} ... إلى أن قال: (والرشدُ صلاح الدين والمال) معًا، كما فسَّر به ابن عباس وغيره الآية السابقة، ووجه العموم فيه مع أنه نكرة مثبتة وقوعُه في سياق الشرط. وفي الدعاوي (3): (ولو ادُّعي رقُّ بالغٍ) عاقلٍ مجهولِ النسب ولو سكرانَ (فقال: أنا حرٌّ) فالقول قوله. هـ وفي الشهادات (4): (وتُقبل شهادة الحسبة في حقوق الله تعالى وفيما له فيه حقٌّ مؤكّد) وهو ما لا يتأثّر برضا الآدمي ... إلى أنْ قال: وإنّما تُسمع عند الحاجة إليها حالًا، كأخيها رضاعًا وهو يريد أن ينكحها، أو أعتقه وهو يريد أن يسترقَّه (كطلاقٍ وعتقٍ وعفوٍ عن قصاص، وبقاءِ عِدّةٍ وانقضائها، وحقٍّ له تعالى). _________ (1) "تحفة المحتاج" (6/ 357). (2) المصدر نفسه (5/ 162 - 166). (3) المصدر نفسه (10/ 301 - 302). (4) المصدر نفسه (10/ 237 - 239).

(17/861)


وفي الحاشية على قوله "كطلاقٍ" أي: لأنَّ المكلّف فيه حقُّ الله تعالى، بدليل أنَّه لا يرتفع بتراضي الزوجين. أسنى هـ. وفي "البغية" (1) عن الأشخر: "مذهبُ الشافعيّ أن الرشد صلاح المال والدين، بأن لا يرتكبَ محرمًا مبطلًا للعدالة، ومنه أن تغلب طاعاتُه صغائره ... إلى أنْ ذكر وجهًا آخر حكاه عن البعضِ، ثم قال آخره: وهو شاذٌّ". وفي باب الخُلْعِ (2) عن الأشخر أيضًا: "هذا إذا قلنا بمذهب الشافعي أن الرشد صلاح الدين والمال، أمَّا إذا قلنا بالوجه الشاذّ أنّه صلاح المال ... " إلخ. وفيه (3) عن بافقيه: "ومعلوم أن الرشد على المذهب أن تبلغ مصلحة لدينها ودنياها". وفي "فتاوى" ابن زياد (4): مسألةٌ: عبد مسلم بالغ رشيدٌ تحت يدِ مالكٍ مُقرّ له بالملك مستخدمه مستفاض بين الناس أنه عبد، ثم أعتقه السيّدُ بحضرة بعض العلماء عتقًا صحيحًا، فانتقل العتيقُ إلى بلدٍ أخرى وأقرَّ أنه ملكٌ لشخصٍ آخر، لم يُقبل إقراره بعد ثبوت العتق؛ لأن العتيق المسلم لا يتصور حدوث الرقّ عليه ... إلخ. _________ (1) "بغية المسترشدين" (ص 139). (2) المصدر نفسه (ص 217). (3) المصدر نفسه (ص 218). (4) "غاية تلخيص المراد من فتاوى ابن زياد" (ص 144).

(17/862)


وفيها في الحجر (1): مسألةٌ: الرشدُ صلاح الدين والمال، هذا مذهب إمامنا الشافعيّ رحمه الله، وفي وجهٍ حكاه المتولّي. إذا تقرّر ما نقلناه، وعُرِفَ أحوال الناس اليوم في بيع الجواري اتَّجه الجزمُ بسماع البينة على الحريّة؛ لأنَّ الحقَّ في الحرية لله سبحانه وتعالى، وكم يترتب على الرقيّة من مفاسد خطيرة نعوذ بالله من ذلك. فأمَّا صحةُ الإقرار فقد تقرّر أن المذهبَ كون الرشد معتبرًا في الدنيا والدين، وإنْ ذهبَ بعضُ المتأخرين إلى الوجه الضعيفِ طلبًا للتسهيل على الناس؛ لأنَّ المشقّةَ تجلب التيسيرَ، على أنَّ المصلحة في مسألتنا مطابقةُ المذهب في اعتبار الدين حفظًا لحقوق الله تعالى من الضياع، وصدًّا لأهل الفجور والأطماع؛ لعموم البلوى بذلك، فإنَّ الناسَ لا يعرفون ما يترتبُ على الرقِّ من المفاسد، فهم يرتكبون الجرأة على بيع الأحرار طمعًا في الدنيا الفانية، فأمَّا المبيع فإمَّا أن يُكرِهوه على الإقرار، وتعتبرُ عليه بينة الإكراه بعدُ، وإمَّا أنْ يُرغِّبوه فيرغب في الرقِّ لما فيه من حملِ المالك مُؤْنتَه، فيستريح من تعب الطلب للمعاش، وقد شاع نَهْبُ الأحرار، وإكراههم على الإقرار، وبيعهم للتجار، وربّما علم ذلك المشتري فيبتاعه طلبًا للربح، أو يمسكه لئلا تذهب دراهمه. وأمَّا إقرار الجواري فإنّه وإنْ قيل: إنَّ المعتمدَ أنّه لا يُعتبر فيه الرشد، فقد عرفتَ ما فيه ممَّا حكيناه عن المغني والسيد عمر إلحاقًا له بسائر الإقرارات. _________ (1) المصدر نفسه (ص 138).

(17/863)


وأمَّا شهادة الحسبة فلا يخفى ما يترتب على استرقاق الحرّ مِنَ المفاسد المُخِلَّةِ بحقوق الله تعالى، وكما قيل في الطلاق: إنه حق الله تعالى بدليل أنَّه لا يرتفع بالتراضي. على أنَّ القول بعدم اعتبار الرشد في إقرار الجواري، فإن كان قبل البينة فتخفيفًا على الناس ينبغي اعتماده، أمَّا بعد ورود البيّنة من قِبل المبيع أو حسبةً فالذي يطمئنُّ إليه القلب ــ حفظًا لحقوقِ الله تعالى ــ اعتبار الرشد، تبريئًا لذمّةِ الإمام والحكام وسائر الناس. ولمولانا ــ حفظه الله تعالى ــ النظر، وعليه الجزمُ بما رآه الحقَّ، فإنَّ الحقَّ لا يرفعه قولُ قائلٍ، والله تعالى أعلمُ.

(17/864)


(4) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وقعت المذاكرةُ في ما اشتهر الآن في بعض البلدان من بيع الأحرار، والاعتماد على الإقرار، وما يقضي به بعض الحكام من عدم سماع دعوى مَنْ أقرَّ بالرقِّ إذا ادَّعى الحريّةَ، وعدم سماع شهادة حسبة على ذلك، كيف حكمُه؟ أقول: في ق ل (1) على ح ل قبيل باب بيع الثمار (2) ما لفظه: (تنبيهٌ): لو أقرَّ بالرقِّ لشخصٍ فبِيعَ، ثم ادَّعى الحريَّة لم تُقبل دعواه، إلّا إنْ بيَّنَ له وجهًا محتملًا، وقال ابن حجرٍ: تُقبل مطلقًا لأجل حقِّ الله تعالى. هـ فهذا إنْ صحَّ أغنى، لكن لم نعثر على ما يفيد ذلك لابن حجر، بل صرَّح بعكسه وأطلق، وإليك عبارتَه في "تحفته" في بابِ اللقيط (3): "ولو أقرَّ بالرقِّ لمعيَّنٍ ثم بحريّة الأصل لم تُسمَع". هـ نعم قد عُرِفَ أنَّ المذهبَ اشتراطُ الرشد للإقرار بالمال، والرشد هو صلاح الدين والمال، وأمَّا هنا فعبارةُ ابن حجرٍ عند قول "المنهاج" في باب _________ (1) قوله (ق ل) رمزٌ للمحشي قليوبي، له حاشيةٌ على (ح ل)، وهو شرح جلال الدين المحلّي على منهاج النووي. (2) "حاشية" قليوبي (2/ 224). (3) "تحفة المحتاج" (6/ 357).

(17/865)


اللقيط (1): (وإنْ أقرَّ به) أي: الرقّ وهو مكلَّف، وعن ابن عبد السلام ما يقتضي اعتبار رشده أيضًا، وظاهر كلامهم خلافه. هـ. وفي الحاشية (2): قوله: "ما يقتضي اعتبار رشده" اعتمده المغني والسيد عمر، ومال إليه سم (3). عبارة الأول: تنبيهٌ: سكتوا عن اعتبار الرشد في المُقِرِّ هنا، وينبغي ــ كما قال الزركشي ــ اعتبارُه كغيره من الأقارير، فلا يُقبل اعتراف الجواري بالرقّ كما حكي عن ابن عبد السلام، لأنَّ الغالبَ عليهنَّ السفه، وعدم المعرفة. قال الأذرعيُّ: "وهذه العلّةُ موجودةٌ في غالب العبيد، لا سيمَّا مَنْ قرُب عهده بالبلوغ". هـ وعبارة السيد عمر: قوله: "وظاهر كلامهم خلافه"، قد يُقال: إنما سكتوا عن هذا اكتفاءً بذكره في نظائره؛ إذِ الغالبُ في استيعاب الشروط إنما تكون في الباب المعقود أصالةً لبيان ذلك الحكم، كبابِ الإقرار، ثمَّ رأيتُ المحشّي قال: قوله: "اعتبار رشده" قد يؤيّده أنّه إقرار بمالٍ، وشرطه الرشد، اللهم إلا أن يمنع أن الإقرار بالرقّ ليس من الإقرار بالمال، وإن ترتّب عليه المالُ، انتهى. وهو إشارةٌ إلى ما نبّهنا عليه. _________ (1) المصدر نفسه (6/ 356 - 357). (2) "حاشية الشرواني" على الموضع السابق. (3) أي ابن قاسم.

(17/866)


وأمّا قوله: "اللهم ... إلخ" فلا يخفى ما فيه من البُعد بل المكابرة؛ إذ لا معنى لقوله: أنا عبدُه أو نحوه إلاّ أنا مملوكٌ له، وهذا نصٌّ في الماليّة. هـ فكلامُه هو لا يرجِّح اعتبارَ الرشد، وأين الرشد اليوم في كثيرٍ من الأحرار فضلًا عن الأرقّاء؟ ولو اعتُبِر هذا لشقَّ على النَّاس، إذ كلُّ من أراد بيعَ رقيقٍ احتاج إلى شاهدين على رِقّه، وعليه فتُسمع بعد ذلك دعوى المبيع؛ إذ لم يكن الحكم برقّه مبنيًّا على إقراره فتُرَدُّ دعواه. وأمّا شهادةُ الحسبة فإليك عبارةَ "المنهاج" مع ملخَّصٍ من عبارة "التحفة" (1): (وتُقبل شهادة الحسبة في حقوق الله تعالى وفيما له فيه حقٌّ موكَّدٌ) وهو ما لا يتأثّر برضا الآدمي ... وإنّما تُسمع عند الحاجةِ إليها حالًا، كأخيها رضاعًا وهو يريد أن ينكحها، أو أعتقه وهو يريد أن يسترقّه (كطلاقٍ وعتقٍ) بأن يشهد به أو بالتعليق مع وجود الصفة أو بالتدبير مع الموت أو بما يستلزمه. هـ والحريّة من أعظم حقوق الله تعالى، والأصليّة أولى من العتق، ولا فرقَ بين كونِ العتق وقع ممَّن يريد أن يتملّكه أو يبيعه أو مِنْ غيره، كما هو الظاهر. فالذي يظهر أنَّ شهادة الحسبة لا تُردُّ في هذا؛ إذ هو ممَّا لا يتأثّر برضا الآدميِّ، والله تعالى أعلمُ. _________ (1) (10/ 237 - 238).

(17/867)


الرسالة الثانية والعشرون

  أسئلة وأجوبة في المعاملات

(17/869)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ س: ما تعريف البيع؟ ج: البيع لغة: إعطاء شيء وأخذ شيء. وشرعًا: مبادلة مالٍ ــ ولو في الذمة ــ أو منفعةٍ مباحة بمثل أحدهما، للمِلْك على التأبيد. وفي "العمدة" (1): معاوضة مالٍ بمالٍ. س: ما الذي يجوز بيعه، وما الذي لا يجوز بيعه؟ ج: يجوز بيع كل مملوكٍ فيه نفع مباح، غير الكلب، ولا يجوز بيع الكلب، ولا ما لا نفع فيه، كالحشرات، ولا ما نفعه محرم، كالخمر والميتة، ولا بيع الإنسان ما لا يملكه إلا بإذنٍ من مالكه، أو دلالةٍ عليه، ولا بيعُ معدومٍ، كما ستُثمِره شجرته، ولا مجهولٍ كالحمل، والغائب الذي لم تتقدم رؤيته إلا ما يأتي في السَّلَم، ولا بيعُ غيرِ معين، كشاةٍ من قطيع، إلا ما تتساوى أجزاؤه، كصاعٍ من صُبْرةٍ معينة، ولا بيع ما يَعْجِز البائعُ عن تسليمه، كالآبق، والشارد، والطير في الهواء، والسمك في الماء، ولا بيع المغصوب إلا لغاصبه أو لمن يقدر على أخذه من الغاصب. س: لماذا لا يجوز بيع الكلب مع أن فيه نفعًا مباحًا؟ ج: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب (2). _________ (1) لابن قدامة (ص 47). (2) أخرجه البخاري (5346، 5761) ومسلم (1567) من حديث أبي مسعود. وفي الباب أحاديث أخرى.

(17/871)


س: فإن أتلف الإنسانُ كلبَ غيره الذي فيه نفع مباح، مثل: كلب الصيد، ألا يُغرم ثمنه؟ ج: ليس عليه غُرمُ ثمنهِ؛ للنهي عن ثمن الكلب مطلقًا. [ص 2] فصل س: هل ثَمَّ بيوعٌ منهيٌّ عنها؟ وما هي؟ ج: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيوع: الأول: بيع الملامسة. الثاني: بيع المنابذة. الثالث: بيع الحصاة. الرابع: بيع الرجل على بيع أخيه. الخامس: بيع حاضرٍ لبادٍ. السادس: النَّجَش. السابع: بيعتان في بيعة. الثامن: تلقِّي السِّلَع. التاسع: بيع المشتري للطعام قبل أن يستوفيه. العاشر: الربا. س: ما تفسير هذه البيوع؟ ج: الملامسة: أن يقول: أيّ ثوب لمستَه فهو لك بكذا. والمنابذة: أن يقول: أيّ ثوب نبذتَه إليَّ فهو عليّ بكذا.

(17/872)


وبيع الحصاة: أن يقول: ارْمِ هذه الحصاة، فأي ثوب وقعت عليه فهو لك بكذا. أو: ارْمِ بهذه الحصاة، فما بلغَتْه من أرضي هذه فهو لك بكذا. والبيع على بيع أخيه (1): وبيع الحاضر للبادي: أن يجيء البدوي ببضاعةٍ فيكون الحضري سمسارًا له، أي دلَّالًا. والنَّجَش: أن يزيد في السِّلعة من لا يريد شراءها. والبيعتان في بيعة: أن يقول: بعتك هذا بعشرةٍ من هذا النقد، أو خمسة عشر من هذا النقد الآخر. أو: بعتك هذا على أن تبيعني هذا، أو تشتري منه هذا. وتلقِّي السِّلَع: أن يخرج إلى خارج البلدة يتلقَّى القادمين [ص 3] بالسلع، يشتريها منهم قبل أن يُورِدوها السوقَ. وبيع الطعام قبل أن يستوفيه: أن يشتريه ثم يبيعه قبل أن يقبضه. وأما الربا فسيأتي. _________ (1) لم يفسّره المؤلف، وهو أن يشتري رجلٌ شيئًا وهما في مجلس العقد لم يتفرقا وخيارهما باقٍ، فيأتي الرجل ويعرض على المشتري سلعةً مثل ما اشترى أو أجود بمثل ثمنها أو أرخص، أو يجيء إلى البائع، فيطلب ما باعه بأكثر من ثمنه الذي باعه من الأول حتى يندم، فيفسخ العقد. انظر "شرح السنة" (8/ 117).

(17/873)


باب الربا س: ما تعريف الربا؟ ج: الربا لغةً: الزيادة. وشرعًا: زيادة مخصوصة. س: ما هي الأموال الربوية بالنص؟ ج: الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح. س: كيف الربا فيها؟ ج: أن يباع شيء منها بجنسه، كذهب بذهب، وبُرّ ببرّ، نسيئةً، أو بتفاوتٍ، كأُوقيةٍ بأوقيةٍ وربع، وصاع بصاع وربع. أو يباع الذهب بالفضة نسيئةً، أو أحد الأربعة الأُخر بآخر منها نسيئةً. ولا يحرم مثل هذا نقدًا بالتفاوت؛ لحديث: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، سواء بسواء، فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربَى" (1). س: فهل يُلحَق بهذه الأموال غيرُها؟ وما هو؟ ج: يُلحَق بالنقدين كلُّ ما يُوزن، وبالأربعة الباقية كلُّ ما يُكال. [ص 4] س: فهل يحِلُّ في التماثل أن يباع الذهب أو غيره مما يُوزن بمثله كيلًا نقدًا؟ أو يباع البرُّ أو غيره مما يُكال بمثله وزنًا نقدًا؟ ج: لا يحِلُّ، وإنما المعتبر التماثل وزنًا فيما يوزن، وكيلًا فيما يكال. _________ (1) أخرجه مسلم (1587) من حديث عبادة بن الصامت.

(17/874)


س: إذا تبايع اثنان بيعًا يُشترط فيه أن يكون نقدًا، فتبايعَا على أنه نقد، ولكنهما تفرقا قبل أن يتقابضا، فما الحكم؟ ج: ما اشترط فيه النقد فلا بدَّ من أن يتقابضا قبل التفرُّق، فإذا تفرقا قبل أن يقبض كل منهما الذي له، أو بعد قبض أحدهما وقبل قبض الآخر= بطل البيع. س: عرفنا أنه يجوز بيع البرِّ بالشعير متفاضلًا نقدًا، فهل يجوز بيع نوع من التمر بنوع آخر منه متفاضلًا نقدًا؟ ج: التمر بأنواعه كلها جنس واحد، لا يجوز بيع نوع منه بآخر إلا متماثلًا. وهكذا غيره، كنوع من البر بنوع آخر، ونوع من الأرز بنوع آخر، بل "كل شيئين جمعهما اسم خاصٌّ فهما جنس واحد". س: فما الحكم في دقيقِ بُرٍّ بدقيق شعيرٍ، هل يُعدَّانِ جنسًا واحدًا، لأن كل (1) منهما دقيق؟ أم جنسين باعتبار أصلهما؟ ج: المعتبر في الفروع أصولها، فدقيق البر ودقيق الشعير جنسان، وهكذا الأدهان وغيرها. [ص 5] س: فإذا كان الشيئان من جنس واحد، لكن أحدهما أخضر والآخر يابس، كعنب وزبيب، أو أحدهما خالص والآخر ممزوج، أو أحدهما نِيْءٌ (2) والآخر مطبوخ؟ _________ (1) كذا في الأصل مرفوعًا. والوجه النصب. (2) ويقال: "نِيٌّ"، والمؤلف همزه، وكلاهما لغة.

(17/875)


ج: لا يجوز البيع في مثل هذا أصلًا، إلا العرايا، وهو شراء الرطب في رؤوس النخل بخرْصِه تمرًا، بشرط كونه دون خمسة أوسُقٍ. * * * *

(17/876)


باب بيع الأصول والثمار س: ما الحكم في بيع الأشجار المثمرة؟ ج: في الحديث: "من باع نخلًا بعد أن تُؤبَّر ــ أي: تُلقَّح ــ فثمرتُها للبائع إلا أن يشترطَها المبتاع" (1). وفُهِم منه أنه إذا باعها قبل التأبير فالثمرة للمشتري. فأما غير النخل مما ثمره ظاهر، فالمدار على ظهور الثمرة، فإن لم تكن ظهرت فهي للمشتري، وإن كانت قد ظهرت فهي للبائع إلا أن يشترطها المشتري. س: فما الحكم في بيع أرضٍ فيها نبات؟ ج: إن كان النبات مما لا يُحصَد إلا مرةً، كالزرع والبصل ونحوه، فهو للبائع ما لم يشترطه المبتاع، وإن كان مما يُجَزُّ مرةً بعد أخرى كالكرَّاث، فالأصول للمشتري، والجزَّة الظاهرة حينَ البيع للبائع إلا أن يشترطها المشتري. فصل س: هل يجوز بيع الثمرة وحدها على شجرها؟ ج: يجوز إذا كان قد بدا صلاحُها، ولا يجوز قبل ذلك. ففي الحديث: "نهى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن بيع الثمرة حتى يبدُوَ صلاحُها" (2). _________ (1) أخرجه البخاري (2204، 2716) ومسلم (1543) من حديث ابن عمر. (2) أخرجه البخاري (1486) ومسلم (1534) من حديث ابن عمر.

(17/877)


س: وما حدُّ الصلاح؟ ج: صلاح ثمر النخل أن يحمرَّ أو يصفرَّ، وصلاح ثمر العنب أن يتموَّه، وسائر الثمر بأن يبدو فيه النضج ويطيب أكله. [ص 6] س: قد تُباع الثمرة لتقطع حالًا، وقد تُباع لتقطع وقتَ الجذاذ، فما الحكم؟ ج: كلاهما جائز. س: فإن باعها على أن تبقى إلى الجذاذ، فأصابتها جائحة (الجائحة: الآفة السماوية، كالبَرَد والجراد) أتلفت الثمرَ أو بعضَه، فما الحكم؟ ج: إن أصابتها جائحة رجع بها على البائع؛ لحديث: "لو بِعْتَ من أخيك ثمرًا، فأصابتْه جائحةٌ، فلا يحلُّ لك أن تأخذ منه شيئًا، بِمَ تأخذُ مالَ أخيك بغير حق؟ " (1). * * * * _________ (1) أخرجه مسلم (1554) من حديث جابر بن عبد الله.

(17/878)


باب الخيار س: ما هو الخيار؟ ج: الخيار: أن يكون العاقد مخيَّرًا، إن شاء أمضى العقدَ وإن شاء فسخَه. س: كم أقسام الخيار؟ وما هي؟ ج: أقسام الخيار سبعة: خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار العيب، وخيار التدليس، وخيار الغلط ونحوه في المرابحة، وخيار الاختلاف في قَدْر الثمن، وخيار الغَبْن الفاحش. س: ما هو خيار المجلس؟ وما حكمه؟ ج: هو الخيار في مجلس العقد، فيثبت لكلٍّ من المتبايعَينِ ما لم يتفرقا بأبدانهما، وينتهي بالتفرق. س: وما خيار الشرط؟ وما حكمه؟ ج: هو أن يشترطا أو أحدهما الخيارَ مدةً معلومة، وينتهي بأن يُسقِطه الذي [اشترطه]. [ص 7] س: ما هو خيار العيب؟ وما حكمه؟ ج: هو أن يجد أحدهما بما اشتراه عيبًا لم يعلمه، فيكون له أن يفسخ العقد، أو يطالب بأَرْشِ العيب، وهو ما ينقص بسببه من الثمن. فإن تَلِفَت السِّلعة أو عُتِقَ العبد أو تعذَّر الردُّ، فله المطالبة بأَرْشِ العيب.

(17/879)


س: ما هو خيار التدليس؟ ج: هو أن يدلِّس البائع بإيهام أن لها صفةً ليست لها، كتصرية الناقة أو الشاة، وهو أن يترك البائع حلبها مدةً، فيجتمع اللبن في ضرعها، فيظن المشتري أن ذلك عادة لها، ويُحمِّر وجهَ الجارية أو يُسوِّد شعرها أو يُجعِّده، فيظن المشتري أن تلك صفتها من غير تصنُّع، وكأن يَعْمِد إلى الرحى التي تدور بالماء فيحبس الماء من فوقها، ثم يرسله عند عرضها على المشتري، فتدور بشدَّة، فيحسب تلك عادتها، وكذلك أن يصف البائع السلعةَ بصفة من شأنها أن تزيد في الثمن، فتبيَّن عدمُها، كأن يزعم أن العبد صانع أو كاتب، أو أن الدابة هِمْلاجةٌ ــ أي سريعة ــ، أو أن الفهد صَيُود أو معلَّم، أو أن الطائر مصوِّت، ونحو ذلك. س: فما الحكم في ذلك؟ ج: إن علم بالتصرية قبل الحلب كان له ردُّها وفسخُ العقد، وله ردُّ غيرها مما وقع فيه التدليس. [ص 8] س: ما هو خيار الغلط ونحوه في المرابحة؟ ج: المرابحة: أن يكون الرجل قد اشترى سِلعةً، فيأتيه آخر فيطلبها منه، على أن يُربحه عشرةً في المائة مثلًا، فإذا قال المشتري الأول: اشتريتها بخمسين، فاشتراها الثاني منه بخمسة وخمسين، ثم تبين أن الأول إنما اشتراها بأربعين. فإذا كان الأول كذب كان للثاني الرجوعُ بالزيادة وحَطُّها من الربح، ففي المثال: يرجع بأحد عشر.

(17/880)


وإن كان الأول غلِطَ غلطًا كان الخيار له، إن شاء فسخ العقد وإن شاء دفع الزيادة وحطَّها من الربح، وإن بان أن الثمن الأول مؤجل ولم يبين الأول تأجيله. س: ما هو خيار الاختلاف في قدر الثمن؟ وما حكمه؟ ج: إذا وقع الشراء، ثم اختلفا، فقال البائع: الثمن عشرون، وقال المشتري: بل خمسة عشر، أو نحو ذلك من الاختلاف، ولا بيّنةَ؛ فإنهما يتحالفان، فيحلف كل منهما على دعواه. فإن حلف أحدهما وأبى الآخر حُكِمَ للحالف، وإن حلف هذا وحلف هذا فلكلٍّ منهما الخيار، إن شاء أمضى العقد بالقدر الذي قاله الآخر، وإن شاء فسخ. ففي المثال: إن رضي البائع أمضى البيعَ بخمسة عشر، وإن رضي المشتري أمضى العقدَ بعشرين. وإن لم يرضَ أحدهما كان له أن يفسخ. س: ما هو خيار الغبن الفاحش؟ ج: هو أن يتبين أن أحدهما غُبِنَ غبنًا فاحشًا لم تَجْرِ به العادة، فيكون له أن يفسخ. * * * *

(17/881)


باب السَّلم س: ما هو السَّلم؟ ج: السَّلم ــ ويقال له: السلف، أيضًا ــ: بيعٌ عُجِّلَ ثمنُه وأُجِّلَ مثمنُه. س: ما حكمه؟ ج: حكمه الجواز، بشروطٍ معروفة؛ لحديث: "من أسلفَ في تمرٍ فلْيُسْلِفْ في كيلٍ معلوم أو وزنٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم" (1). س: وما هي الشروط؟ ج: الشرط الأول: أن يكون فيما ينضبط بالصفة، فيضبط بها، كالتمر. الثاني: أن يُذكر قدْرُه بما يُقدَّر به، ككيلٍ ووزنٍ. الثالث: أن يكون إلى أجل معلوم. الرابع: قبض الثمن في مجلس العقد قبل أن يتفرقَا. س: فهل يجوز السَّلم إلى أجلين فأكثر؟ ج: إذا عُيِّنت الأجزاء والآجال، كأن قيل: نصفه إلى شهر، ونصفه الآخر إلى شهرين= جاز. س: فهل يجوز السَّلم في شيئين؟ ج: يجوز السَّلم في شيئين إذا عَيَّن لكل منهما ثمنًا، فأمّا بثمن واحد فلا. _________ (1) أخرجه البخاري (2239) ومسلم (1604) من حديث ابن عباس.

(17/882)


س: فإذا انعقد السَّلم ثم أراد المشتري التصرفَ في المبيع ببيعٍ ونحوه، فهل يجوز؟ [ص 10] ج: لا يجوز للمشتري التصرفُ في المُسْلَم فيه ببيعٍ أو حوالة أو غيرهما، حتى يقبضه. نعم تجوز الإقالة فيه أو في بعضه. * * * *

(17/883)


باب القرض س: ما هو القرض؟ ج: القرض ــ ويقال له: السلف، أيضًا ــ: دفع مالٍ لمن ينتفع به، ويردُّ مثلَه. س: إذا أقرض رجل رجلًا مالًا إلى أجل، فهل له مطالبته قبل الأجل؟ ج: له ذلك؛ فإن القرض لا يتأجل. س: هل للمُقرِض أن يشترط شيئًا ينتفع به غير رد المثل؟ ج: ليس له أن يشترط شيئًا، إلا أن يشترط رهنًا أو كفيلًا. س: فهل يجوز أن يرد المقترض أكثر مما أخذ أو أجود، أو نحو ذلك؟ ج: يجوز ذلك، إذا لم يكن مشروطًا عليه، وكان تبرعًا منه بطيب نفس؛ لحديث: "خير الناس أحسنهم قضاءً" (1). س: فإذا أهدى المقترض للمُقرِض هديةً، أو دعاه إلى طعام، أو نحو ذلك، فهل يجوز القبول؟ ج: إذا علم أن الهدية والدعوة ليست توسلًا إلى إمهاله، بل كانت عادةً بينهما قبل القرض؛ جاز القبول، وإلا فلا. * * * * _________ (1) أخرجه مسلم (1600) من حديث أبي رافع.

(17/884)


باب أحكام الدَّين س: إذا كان لرجل دينٌ على آخر إلى أجل، فهل له أن يطالبه قبل ذلك؟ ج: أما القرض فقد تقدم أنه لا يتأجل، وأما غيره، كثمنٍ اتفق [ص 11] المتبايعان على تأجيله إلى أجل معلوم، فليس للدائن المطالبةُ به قبل حلول أجله. س: فهل للدائن المطالبة بالحَجْرِ على المديون إذا خشي أن يَتْلَفَ ماله قبل حلول الأجل؟ ج: لما لم يكن له المطالبة بالدين نفسه، فليس له المطالبة بالحَجْر لأجله. س: فإذا حُجِر على رجل بديون حالَّة، وكان عليه دين مؤجل، فهل يحلُّ؛ ليشارك صاحبه بقية الدائنين في ماله؟ ج: لا يحل، بل ليس له المطالبة به حتى يحل. س: فإذا مات المدين قبل حلول الدين، أفلا يحل الدين؟ ج: لا يحلُّ، ولكن له مطالبة الورثة بأن يوثقوه برهنٍ أو كفيلٍ. س: فإذا كان على الرجل دينٌ إلى أجل، وأراد أن يسافر قبلَ حلوله، فهل يحل الدين؟ ج: لا يحلُّ الدين، ولكن للدائن المطالبةُ بمنع المدين من السفر، أو يوثق برهنٍ أو كفيلٍ.

(17/885)


س: فإذا كان عليه دين حالٌّ ولكنه مُعسِر، فما الحكم؟ ج: قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]. س: فإن ادَّعَى الإعسار، فما الحكم؟ ج: إن لم يُعرَفْ له مال قبل ذلك حُلِّفَ وخُلِّي سبيله، وإن عُرِف له مال [ص 12] لم يُقبل قوله إلا ببينة. س: فإن كان موسرًا وامتنع عن الأداء؟ ج: يحبسه الحاكم حتى يوفيه. س: فإذا كان عليه من الدين ما يزيد عن ماله، فما الحكم؟ ج: لغرمائه أن يطلبوا من الحاكم الحَجْرَ عليه، فتلزمه إجابتُهم. س: فإذا حجر عليه الحاكم، فما ثمرة ذلك؟ ج: ثمرته أنه بعد الحجر لا يصح تصرفه في شيء من المال، ولا يقبل إقراره بشيء منه بغير بينة، ثم يتولى الحاكم قضاء الديون من المال. س: فكيف يصنع بنفقة نفسه وأهله؟ ج: ما دام المال باقيًا، فينفق الحاكم منه على المَدِين، وعلى من تجب عليه نفقته. س: هل الديون سواء في استحقاق القضاء من المال؟ ج: لا، بل يبدأ بما يتعلق بجناية مملوكه، فيدفع إلى المجنيِّ عليه أقلَّ الأمرين من أَرْشِ الجناية أو قيمة العبد الجاني.

(17/886)


ثم بمن له رهين من أهل الدين، فيدفع إليه أقل الأمرين من مقدار حقه أو قيمة الرهن، ويشارك الباقي فيما يبقى. ثم بمن كانت عين ماله التي يطالب بقيمتها باقية لم يتلف منها شيء، ولا زادت زيادة متصلة، ولا قبض من ثمنها شيئًا، وذلك كأن يكون في المطالبين من يطالب بقيمة دابة باعها من المحجور عليه قبل أيام، وهي باقية، ولم يقبض من ثمنها شيئًا. ثم بعد تقديم هؤلاء يقسم الباقي بين بقية الديون، كلٌّ بقدر حقه. [ص 13] س: فإذا كانت له دعوى على آخر بمال، وعليها شاهد واحد، فطلب الغرماءُ إلزامَه بالحلف حتى يثبت الحق، أو الإذن لهم ليحلفوا بدلًا عنه؟ ج: لا يلزمه أن يحلف، ولا يكون لهم أن يحلفوا. * * * * باب الحوالة والضمان (1) _________ (1) إلى هنا انتهى الأصل.

(17/887)


الرسالة الثالثة والعشرون

  الإسلام والتسعير ونحوه وحول أجور العقار

(17/889)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الإسلام والتسعير ونحوه كثُر الضجيج من ارتفاع أجور العقار، وكتب بعض أهل العلم ما يفهم منه أن غلوّ المُلَّاك في زيادة الأجور عمل مذموم، فهو عنده إمّا حرام عليهم، وإمّا قريب منه. فإن كان يراه حرامًا فالمنع من ارتكاب الحرام معلوم من الشرع بالضرورة. وإن كان يراه دون ذلك إلا أنّه قريب منه، فلا ريب أنّه فاشٍ منتشرٌ عظيم الضرر، وما كان كذلك فلولي الأمر بل عليه منعُ الناس منه، وعليهم طاعته، قال الله تبارك وتعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [سورة النساء: 58]. وفي الصحيحين (1) وغيرهما من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "السمعُ والطاعةُ على المرء المسلم فيما أحبَّ وكرِهَ، ما لم يُؤمَر بمعصية، فإذا أُمِر بمعصية فلا سمعَ ولا طاعةَ". وفي الصحيحين (2) وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني". _________ (1) البخاري (7144) ومسلم (1839). (2) البخاري (7137) ومسلم (1835).

(17/891)


فقد أوجب الله طاعة أولي الأمر كما أوجب طاعة الوالدين، ولا ريب أنّه لو لم يجب طاعة أولي الأمر والوالدين (1) إلا فيما كان واجبًا بنصّ الشرع، لما ظهرت لتخصيصهم فائدة، [ص 2] فإن ما كان واجبًا بنصّ الشرع فإنّه يجب طاعة كل آمرٍ به كائنًا من كان، ولو لم يجب طاعة ولي الأمر إلا فيما كان واجبًا بنص الشرع لاختلَّت المصالح وعمّ الفساد. فأمّا قول الله تعالى عَقِبَ ما تقدم: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}، فذلك كما بيّنه الحديث السابق فيما إذا أمر الأمير بعملٍ لا يراه معصية لله، والمأمور يرى أنّه معصية لله. فأمّا ما يعترف المأمور أنّه ليس بمعصية لله، ولكنه يقول: لم ينص الشرع على وجوبه عليّ، فيكفي في دفعه أن يقال له: قد نصّ الشرع على وجوب طاعة أولي الأمر، ولم يعارض ذلك شيء. وأمّا أحاديث التسعير فليس فيها نهي عنه، وإنّما فيها أنّ النّاس طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُسَعِّر فقال: "إنّ الله هو القابض الباسط الرازق المسعِّر، وإنّي لأرجو أن أَلْقَى الله عز وجل ولا يطلبني أحدٌ بمظلمةٍ ظلمتُها إياه في دمٍ ولا مال". فهذه واقعة حالٍ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : "إنّ الله هو القابض الباسط الرازق المسعِّر ... " إنّما هو تعليل للامتناع عن التسعير في تلك الواقعة. ويحتمل أن يكون غلاء السعر الذي حدث حينئذٍ لم يكن مصطنعًا، فكان التاجر يجلب المال من المواضع البعيدة غالبًا، فيزيد عليه المعروف، [ص 3] فلم يكن هناك مبرِّرٌ لإجباره بأن يبيع بخسارة أو بدون ربح. وهذا حقٌّ _________ (1) في الأصل: "والواجبين" سهوًا.

(17/892)


لا غبارَ عليه، فليس للإمام أن يُسعِّر حتى يتبين له جَشَعُ التجار وتواطؤهم، وعدم قناعتهم بالربح بالمعروف، وتضرر الناس بذلك. ولنفرضْ أنّ بلدًا من بلاد المسلمين حاصرها العدوّ، ولم يكن فيها طعام إلا عند رجلٍ واحدٍ، فأبى أن يبيع لأحدٍ منهم قوتَه إلا بجميع ما يملك في ذلك البلد وغيره، فيبيع ما قيمته درهم بمائة ألف درهم ونحوها، هل يمكِّنُه أمير الواقعة من ذلك؟ فإن تبيّن وجوبُ التسعير في هذه الواقعة مثلاً تبينَ أنّ امتناع النبي - صلى الله عليه وسلم - منه إنّما كان لأنّ الحال حينئذٍ لا تستدعيه. وأحاديث النهي عن الاحتكار معروفة، ولم يعتذر عنها بشيء، إلا أنّ سعيد بن المسيّب لما روى الحديث عن معمر قيل له: إنّك تحتكر، فقال: كان معمر يحتكر. والواجب في مثل هذا أن يُحمَل احتكار معمر وسعيد على وجهٍ غيرِ الوجه المنهي عنه؛ كأن يقال: إن التمر مثلاً يكثُر في الموسم، ويُعرَض للبيع، فيشتري أرباب البيوت وسائر الناس حاجتهم بحسب ما يتيسَّر لهم، وليس كل محتاج للقوت يستطيع أو يرغب أن يشتري قوتَ سنته دفعةً واحدة، فيبقى الأكثر يشتريه التجار، فشراء التاجر حينئذٍ وادخاره إلى أن يحتاج الناس إلى التمر لقُوْتِه، وحينئذٍ ترتفع الأسعار في الجملة، فيُخرِجه حينئذٍ للبيع= عَملٌ لا تظهر فيه مفسدة. بل لو مُنِع التجار من الشراء حينئذٍ لتضرر أهل النخل؛ لأنّ مصلحتهم تقضي بأن يبيعوا كثيرًا منه حينئذٍ ليقضُوا حاجاتهم الأخرى.

(17/893)


فهذا ــ والله أعلم ــ هو الذي كان يقع من معمر وسعيد، وكان سعيد يتّجر في الزيت، والزيت يُجلب بكثرة في موسم معين من السنة، ويكون حال جالبيه كحال أرباب النخل في بيع التمر سواء. وإذا كان هذا محتملاً في فعل الصحابي والتابعي الذي يوجبه حسن الظن بهما، بل هو الظاهر بل هو الواقع إن شاء الله، فكيف يُترك لأجله العملُ بالحديث البتة؟

(17/894)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حول أجور العقار كثر الضجيج هذه الأيام من ارتفاع أجور العقار، وكتب في ذلك فضيلة الشيخ عبد الله الخياط وغيره، والقضيةُ وما يشبهها مفتقرة إلى تحقيق علمي مُشْبِع لا أزعم أنّي أهلٌ له، ولكنني سأحاول كتابة ما عسى أن يكون حافزًا لمن هو أهل له على النظر في القضية وفَصْلِ القول فيها. يقول أرباب العقار: هذه أموالنا، لا يحلُّ شيء منها لغير مالكه إلا بطيبةٍ من نفسه، كما ثبت ذلك بالنصوص الشرعية القطعية ــ وقد ذكر فضيلة الشيخ عبد الله الخياط بعضها ــ ولا تَطِيب أنفسُنا بأن نؤجرها إلا بأجرة نرضاها، وليس في الشرع ما يوجب علينا أن لا نزيد على مقدار معين. فيقال لهم: قد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُؤمِن أحدُكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّه لنفسه" (1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ المؤمنين ... " (2)، مع ما ذكر فضيلة الشيخ عبد الله الخياط من أدلة الحثِّ على الفضل والرحمة. فيقول أرباب العقار: إنّنا نُؤاخِي المستأجرين بقدر ما يُؤاخوننا، ونُحِبُّ _________ (1) أخرجه البخاري (13) ومسلم (45) من حديث أنس بن مالك. (2) بياض بالأصل، وتتمة الحديث ــ وهو مشهور ــ: "في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسَّهَر والحمَّى". أخرجه البخاري (6011) ومسلم (2586) من حديث النعمان بن بشير.

(17/895)


لهم ما يحبُّونه لنا، ونَعطِف عليهم بقدر ما يَعطِفون علينا، ونُفضِل عليهم بمثل ما يُفضِلون علينا لو كانوا مكاننا، ونَرحَمهم بقدر ما يرحموننا، ونحن واثقون أنّهم لو كانوا أرباب الدور وكنّا المستأجرين لعاملونا بمثل ما نعاملهم به الآن على الأقل. أرأيتَ قبل أن تعلن الحكومة حرية العقار، أليس قد كان النقص والحيف نال الملَّاك باعتراف الشاكِين الآن؟ فهل حاسبَ المستأجرون أنفسَهم، فزادوا ما يرون أنّ العقارات تستحقّه؟ هيهات! بل عارضوا ما ارتأته الحكومة من إعلان حرية العقار أشدّ المعارضة. هذا، مع أنّ حقّنا حقٌّ يُحتِّمه الشرع، وما يزعمونه من حقٍّ غايته أن يكون مرغَّبًا فيه. وقد قال فضيلة الشيخ عبد الله الخياط: ....... (1) [ص 2] فهذا هو الحقُّ الذي لا مَحِيدَ منه. هذا، ومنّا فقراء وأراملُ لا مورد لهم إلا ذاك البيت أو الدكان، ولعلهم لو زادوا ما زادوا ما كفاهم، فكيف يُطلَب منهم الفضل والإيثار؟ ومنّا من له ثروةٌ لا بأس بها، ولكنّه يرى أنّ للصدقة مواضعَ هي أحقُّ بها من تخفيض كراء داره. ومنّا ومنّا ... ، فمن عسى أن يكون أحكمَ من الشريعة التي تركت الأمر إلى الملَّاك، واكتفت بالترغيب، ووكَّلت كلَّ أحدٍ إلى نفسه، وهو أعرفُ بها من سائر الناس. _________ (1) بياض في الأصل.

(17/896)


الرسالة الرابعة والعشرون

  مناقشة لحكم بعض القضاة في قضية تنازع فيها رجلان

(17/897)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه. وقفَ الحقيرُ على صورة حكمٍ صدر من محكمة "باجل" لأحمد بن عبد الله مدابش على محمد بن علي مغبوش، فرأيت فيه انتقاداتٍ: أولًا: حكى الحاكم دعوى المدّعي أحمد بن عبد الله مدابش، وفيها التعرض لبيان الأحكام الشرعية، وممّا لا يحتاج إلى دليل أن ذلك ليس من وظيفة المدّعي ولا المدَّعى عليه، بل وظيفتهما الدعوى والإجابة بشروطها المعروفة. ثم ما حكاه المدّعي عن أحكام الشرع فيه غلط سنُبيِّنه فيما بعد إن شاء الله تعالى. وتلك الدعوى اشتملت على دعوى لحقٍّ لنفسِه، وهي طلب قَلْعِ الأخشاب، ودعوى لنفسه أيضًا ولكن بصورة حِسْبة، وهي طلب هدم الصفّة لكونها في السبيل. ولا بأس أن دعوى الحِسبةِ المعتمدَ قبولُها في ما تُقبل فيه شهادتها غير حقوق الله تعالى المحضة، لكنها لا تُسمَّى "حِسبة" إلا إذا كانت ممن لا يَجرُّ بها لنفسه نفعًا، أو يدفع بها ضررًا، أمّا ممن يجرُّ بها نفعًا أو يدفع بها ضررًا؛ فلا تُسمَّى دعوى حِسبةٍ، ولا الشهادة المبنيّة عليها شهادة حسبةٍ؛ لما في "البغية" (1) عن الأشخر: "مسألة: شهادة الحسبة نوعان: متمحِّضٌ حق لله _________ (1) "بغية المسترشدين" (ص 286).

(17/899)


تعالى، كالزنا حيث لم تَسُغ الدعوى به، فالشهادة به لا تكون إلا حسبةً؛ لأنها غير مسبوقةٍ بدعوى (1) أو طلبٍ من مدَّعٍ، بل شهادة الشاهد احتسابًا، أي طلبًا للثواب، وحميّةً لدين الله تعالى، فلم يؤثِّر فيها رضَى أحدٍ. وغير متمحِّض: كالزنا حيث ادّعاه القاذف، والطلاق، فإن سَبقتِ الشهادةُ الدعوى كان حِسْبة، وإن تأخرتْ وطلبها المدّعي فغير حِسْبة". انتهى. ثم حكى الحاكم إجابةَ وكيل المدَّعى عليه، وهي تفيد أن المتشاجرَ عليه دُكَّانانِ، أحدهما المغروزُ خشبُه في جدار المدّعي، والآخر المدَّعى كونُه في السبيل. والحاصل أن الحاكم حكى دعوى وإجابةً يَمَلُّها القارئ والسامع، ولم تطَّابقا، ولا بيَّنتا المقصود. ثم حكى بعد ذلك ما أورده المدّعي من الشهود، ولفظ شهادة كلٍّ منهم: "أشهدُ لله تعالى أني أعلم بهذه الساحة المتشاجَر فيها أنها كانت سبيلاً، ولا أدري على كيفَ صارتْ عمارتها". وهذه العبارة في أداء الشهادة منظورٌ في صحّتها، إذ قد صرَّح العلماء أنه يُشترط لأداء الشهادة لفظ "أشهد"، أي: أشهد بأن هذا مِلْك فلان ــ مثلًا ــ، كما يُمثِّلون له، ولا يكفي لفظ "أعلم" كما صرَّحوا به. وكذا ــ فيما يظهر ــ الصيغة التي حكاها الحاكم؛ لأنهم لم يشهدوا بأن هذا كان سبيلاً، وإنما شهدوا بأنهم يعلمون. ثم العبارة محتملة لكونهم يعلمون ذلك بالمشاهدة، أو بالسماع، والشهادةُ لا تُقبل فيها الألفاظُ المحتملة. وقد قال الشيخ ابن حجر ما لفظه (2): "ومعظم _________ (1) في الأصل: "بدعوة"، والتصويب من "البغية". (2) "الفتاوى الفقهية الكبرى" (4/ 347).

(17/900)


[شهادات] الناس يشوبها جهل وغيره، يُحوِج الحاكم إلى الاستفسار، وإن كانوا عدولاً. كذا قال الشيخان تبعًا للإمام، وبه قال ابن الرِّفعة وغيره، واختاره الأذرعي في مواضع من "شرح المنهاج" وقال: إنه الحق". ثم قال في "التحفة" (1): "والوجه أنه إن اشتهر ضبطه وديانته لم يلزمه استفسارُه، وإلّا لزمه (2) " اهـ. ثم الأقرب إلى كلام العامةِ الثاني، لا يقال: غاية ما في المقام أن تكون شهادة بالتسامع، فإن للشهادة بالتسامع شروطًا، منها ما ذكره في "الروضة" (3) بقوله: "فرع: لا يكفي أن يقول الشاهد: سمعت الناس يقولون: إنه لفلان، وكذا في النسب، وإن كانت الشهادة مبنيَّةً (4) عليه. بل يُشترط أن يقول: أشهد بأنه له، أو بأنه ابنه" إلخ. وبهذا تبيَّن بطلان الشهادة الموردة مِنْ طرف (5) المدعي. ثم حكى ما أورد من طرف المدَّعى عليه، وأن لفظ شهادة كل منهم: "أشهد لله تعالى أن هذا الدكَّان كان مفرش فيه السيد قاسم مغني، وبعده ولده السيد قاسم عمره، وفيما بعد حرَّج به واشتراه محمد مغبوش". وزاد أحدهم: أنه لا يعلم بالسبيل، وأن السبيل على حاله. _________ (1) "تحفة المحتاج" (10/ 237). (2) في الأصل: "لزمه استفساره، وإلا لم يلزمه" سبق قلم. (3) "روضة الطالبين" (11/ 270). (4) في الأصل: "متعينة"، والتصويب من "الروضة". (5) غير واضحة بالأصل، ولعلها هكذا.

(17/901)


وحكى شهادة شاهد اسمه عمر بن محمد هران الباجلي بقوله: "أشهد لله تعالى أن هذه الساحة أنها كانت ملك السيد قاسم مغني، وبعده ولده السيد أحمد قاسم، وبعد ذلك اشتراها المغبوش وصارت ملكه، والسبيل على حاله". ثم حكى شهادة محمد عيسى بن سالم، وحسين بن علي عَنْدَلَهْ، بمعنى شهادة عمر بن محمد، إلَّا أنهما قالا: "حقَّ السيد قاسم" بدل "مِلْك"، وهي في لغة العامة مرادفة لها. فإن لم يكفِ ذلك حلف مع المصرّح. ثم حكى أنه بعث أمينَيْنِ للكشف على المحلّ، فوجدا بين الدكان المدَّعى أنه في السبيل، وبين الدكان المقابل له ثلاثة أذرُعٍ ورُبُعٌ هي عرض السبيل، وأن ذلك ــ طبعًا ــ يضرّ بالمارّة، مع أن الشارع قدَّر الطريق سبعة أذرع. هذا خلاصة هذه الدعوى. ولما وصل الحاكم إلى الحكم وقع في حَيْصَ بَيْصَ! وبان الخُبر، وحار الغُمر، فلم يدر ما يقول في ذلك المقام، إلا أنه هَيْنَم بألفاظٍ نادَتْ عليه بالجهل، وأعلَمتْ أنه ليس للقضاء بأهل. وأمّا ما عندنا في ذلك: فأولاً: الشهادة الواردة من طرف المدّعي قد سبق إبطالها، وعلى فرض صحتها، فقد عارضتْها الشهادةُ الواردة من طرف المدَّعَى عليه، ولاسيّما المصرِّحة بالمِلْك، المبيِّنة لسببه بتسلسل الشراء إلى حيث انتهى علمها لطول المدة، مع أنه لا يُشترط لبيّنةِ الداخل بيانُ السبب.

(17/902)


هذا، وغاية ما هنالك التعارضُ، فينظر إلى المرجّحات، فمن الواضح أن بينة المدعي خارجة، وبينة المدّعى عليه داخلة، وأن الداخلة مقدَّمة ــ ولو شاهدًا ويمينًا ــ على الخارجة ولو كثر شهودها، ما لم يبلغوا حدّ التواتر. ولا يقال: إن الشهادة الموردة من طرف المدعي في حكم متقدّمة التاريخ، لأنها أثبتت أنه كان قبل أن يُبْنَى فيه سبيلاً، وأسبقيَّةُ التاريخ مرجِّح في الأظهر، مع أن الطريق له حكم الوقف، إذا لم يكن وقفًا، إذ لا يجوز التعدّي على [ .... ] (1) = فإنا نقول: اليد مع صاحب المتأخرة، ولم يُبيِّن شهود المتقدمة أن البناء وقع اعتداءً، بل قالوا: "ولا نعلم على كيف وقعت العمارة". وقد قال في "الروض" (2): [ص 2] وتُقدَّم بينةُ صاحب اليد على سابقة التاريخ. قال في "الشرح": فلو كانت سابقة التاريخ شاهدة بوقفٍ، والمتأخرة التي معها اليد شاهدة بملك أو وقفٍ= قُدِّمت التي معها يد. قال البلقيني: وعليه جرى العمل، ما لم يظهر أن اليد عادية، باعتبار ترتُّبِها على بيعٍ صدر من أهل الوقف أو بعضهم بغير سبب شرعي. إلخ. وفي "التحفة" (3) ــ بعد قول المتن: لو كان لصاحب متأخّرة التاريخ يدٌ قُدِّمت ــ: سواء أشهدت كل بوقف أو ملك، كما أفتى به المصنف كابن الصلاح، واقتضاه قول "الروضة": بَيِّنتَا المُلك والوقف يتعارضان، كبيِّنتَي _________ (1) غير ظاهرة في الأصل. (2) "أسنى المطالب شرح روض الطالب" (4/ 411). (3) "تحفة المحتاج" (10/ 333).

(17/903)


الملك. ثم حكى كلام البلقيني، ثم قال: واعتمده غيره، وفي "الأنوار" عن فتاوى القفال ما يؤيدّه. اهـ. ومع هذا، فإنّ واضع اليد قد وقف الموضع لصالح بيت من بيوت الله تعالى، وذلك في معنى السبيل أو أنفع. مع أن المدة لثبوت يد المدَّعى عليه بعد الأيدي المتسلسلة إليه طائلة، وأن مذهب الحنفيّة في طول المدة معلوم. وفي "حواشي الشرقاوي" على "التحرير"، بعد تعديد شروط الدعوى، ما لفظه: "ويُزاد سابع، وهو أن لا يمضي على الحق المدَّعى به خمسَ عشرةَ سنةً، فإن مضى عليه ذلك لم تُسْمَع الدعوى، كما أفتى به الزيادي، لمنع وليّ الأمر القضاةَ من ذلك. إلخ. وقد اطلعتُ على رسالةٍ للسيد العلامة عبد الرحمن بن عبد الله القديمي، كتبها إلى سيدنا الإمام أيَّده الله تعالى، قوَّى فيها جانبَ اليد، وأن إجراء مذهب الحنفية هو المطابق للمصلحة، مع كونه قد صار مذهبًا للشافعية بأمر وليّ الأمر. إلخ. ومع هذا، فإن سيّدنا أمير المؤمنين يُلزِم الحكام بأن لا تُسْمَع دعوى مضَتْ عليها عشر سنين إلّا لعذرٍ، كصِغَرٍ وغَيْبة ونحو ذلك. ومما يتعلّق بقضيّتنا: ما حكاه صاحب "بغية المسترشدين" (1) عن السيد الإمام عبد الله بن الحسين بن عبد الله بافقيه، ولفظه: "ولو وُجِدَتْ _________ (1) (ص 142).

(17/904)


دكّة في شارعٍ ولم يُعْرَف أصلها، كان [محلُّها] مستحقًّا لأهلها، فليس لأحدٍ التعرضُ لها بهدمٍ وغيره ما لم تقم بيّنةٌ بأنها وُضِعَتْ تعدِّيًا، كما صرّح به ابن حجر. اهـ. وأمّا قوله أخيرًا: "إن أقلَّ ما يقدر به الطريق سبعة أذرُعٍ" فذلك مفروض فيما إذا اختلف المُحْيُون عند الإحياء في قدره. وعبارة "الروض" (1): "وَلْتجعل سبعة أذرع إن اختُلِف عند الإحياء في تقديره" اهـ. وبعد ذلك حكى عن الزركشي ــ تبعًا للأذرعي ــ أن مذهب الشافعي التقديرُ بقدر الحاجة، وأن الحديث محمول على ذلك، وصرّح به الماوردي والروياني. فتقررّ ممّا أسلفناه: بطلانُ ما حكم به الحاكم من هدم الدكاكين المذكورة، بل الحق الذي لا ريبَ فيه بقاؤها على ما هي عليه (2). [ص 3] وأمّا مسألة غَرْزِ الأخشاب، فالمدّعي ذكر في دعواه أن مذهب الشافعي أنَّ للمعير الرجوعَ قبل البناء وبعده في الأصح، وأن فائدة الرجوع أن لصاحب الدكان بقاء الأخشاب المغرزة في جُدُرِه بأجرة، وله تكليف صاحب الأخشاب قلْعَها، ويُغرم صاحبُ الأخشاب أَرْشَ ما نقص بسبب القلع في جدار المالك، كما هو المعتمد في مذهب الإمام الشافعيّ. _________ (1) "روض الطالب" (2/ 220 - مع شرحه "أسنى المطالب"). (2) في طرف الصفحة هنا حاشية يظهر أنها تابعة لكلام مضروبٍ عليه.

(17/905)


هكذا زعم! فلما جاء الحاكم إلى الحكم حكم بمضمون هذا، مقلِّدًا للدعوى! ! فرحم الله العلماء، ذكروا أنه يحرم على الحاكم تلقينُ خصمٍ الحجةَ، ولم يَخْطُر أنَّ مِن الخصوم مَنْ يُلقِّن الحاكمَ الحكمَ! فإن الحاكم إنما قلّد المدعي؛ بدليل موافقته له في الغلط، كما يأتي بيانه، اللهم إلّا أن يكون الحاكم هو صوَّر الدعوى للمدّعي، ثم حكم بما قرّره فيها، فيكون الخطأ منه أولاً وآخرًا [مِنْ] (1) غير تلقين أحدٍ له. وأمّا بيان الخطأ في ذلك، فهاك عبارة "المنهاج" في باب الصلح. قال (2): "والجدار بين المالكينِ قد يختصُّ به أحدهما، وقد يشتركان فيه، فالمختص ليس للآخر وضْعُ الجذوع عليه بغير إذنٍ ــ في الجديد ــ، ولا يُجْبَر المالك، فلو رضي بلا عوض فهو إعارة، له الرجوعُ قبل البناء عليه، وكذا بعده في الأصحّ، وفائدة الرجوع تخييره بين أن يُبْقيه بأجرة، أو يَقْلَع ويغرم أرشَ نقصه". قال في "التحفة" (3) وغيرها: "وهو ما بين قيمته قائمًا ومقلوعًا". انتهى. فالغرامة لصاحب الأخشاب على صاحب الجدار، عكس ما فهمه الأغمار! ثم نظرنا إلى الشهادة التي أوردها المدَّعى عليه في مسألة غرز _________ (1) زيادة يقتضيها السياق. (2) "منهاج الطالبين" (2/ 135 ــ 136). (3) "تحفة المحتاج" (5/ 211).

(17/906)


الأخشاب، فإذا بعضهم يطلق أن الحاضرين بعد النزاع أصلحوا بين المتنازعين. وبعضهم قال: ثم قالوا: أمة محمد لله ورسوله وشاهد واحد شهد أنهما اصطلحا على أن يَغْرِز كل منهما خشبته في دكان الآخر. فشهادة هذا عندها زيادة علم، ولا تنافي ما مرّ. فإن كان كذلك، فقد وضح الأمر، ولم يبق إلا أن يُعدَّل هذا الشاهد، وإن كان الحاكم قد ألغى التعديل رأسًا، ويحلف المدَّعى عليه معه، فيُقْضَى له باستحقاق غرز الأخشاب أبدًا. ففي "الروض" ما لفظه مع شرحه (1): "ويجوز الصلح على وضعه ــ أي الجذع ــ على الجدار، بمال، لأنه انتفاع بالجدار، وهو إما بيع أو إجارة، وسيأتي بيانهما" اهـ. قوله: "وسيأتي" إلخ، أي: في مسألة بيع حق البناء على الجدار أو إجارته. وقد ذكرها في المتن بعد ذلك بقوله: "فرع: تجوز إعادة العلوّ للبناء عليه وإجارته، فإن باعه حقَّ البناء أو العلوّ للبناء عليه بثمن معلومٍ استحقّه، وهو متردّد بين البيع والإجارة، فلو عقد بلفظ الإجارة صحّ، وتأبدّ الحق إن لم يُوَقَّت" اهـ. فلو فُرِض أنه لم تقم له بينة على ذلك، فلا أقل من أن يكون عارية، وقد سبق بيان حكمها. تنبيه: تبيّن أن قول وكيل المدَّعى عليه له دافعٌ ورافعٌ وحججٌ شرعيّة قد أورده، ولكن الحاكم لم يفهم من لفظ "حجج" إلا قراطيس مسوّدة لا يقيم _________ (1) "أسنى المطالب شرح روض الطالب" (2/ 223).

(17/907)


لها مذهبُ الشافعي وزنًا في الاحتجاج. وهذا إذا لم يكن جهلًا فهو عدم معرفة. فنسأل الله التوفيق، والهدايةَ إلى أقوم طريق، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وصحبه وسلم.

(17/908)


مجموع رسائل الفقه الشيخ العلامة عبد الرحمن المعلمي المجلد الثالث تحقيق محمد عزير شمس

(18/1)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذا المجلد الثالث من الرسائل الفقهية التي عثرنا عليها بعد الانتهاء من المجلدين الأولين ضمن مسوّدات وأوراق متفرقة، بعضها لم تفهرس ولم تسجَّل في المكتبة حتى الآن، ووجدنا فيها تكملة لبعض الرسائل، ومن أهمها المقدمة والقسم الثاني من رسالة "الربا"، بحيث إنها اكتملت وعرفنا سبب تأليفها. وقد أدرجنا التعريف بأصول هذه الرسائل ومحتوياتها في مقدمة المجلد الأول من مجموع رسائل الفقه (ص 66 - 86)، فليُرجع إليه. وستأتي فهارس هذا المجلد في آخره. والحمد لله أولًا وآخرًا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. محمد عزير شمس

(18/2)


الرسالة الخامسة والعشرون

  مسائل القراءة في الصلاة والرد على أحد شرَّاح الترمذي

(18/4)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له ولا معين، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله إلى الناس أجمعين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد؛ فإني وقفت على شرح لبعض أجلة علماء العصر من الحنفية لـ "جامع الترمذي"، اعتنى فيه بالمسائل الخلافية، وسرد الأدلة وتنقيحها رواية ودراية، ولم يتقيَّد بأقوال المتقدمين في طرق التأويل والاستدلال، وإن تقيَّد بمذهبه في الأحكام. وقد طالعت منه من أوله إلى أواخر كتاب الصلاة، وكان يظهر لي عند المطالعة مواضع تحتمل التعقب والمناقشة؛ فقيَّدتُ بعض ذلك. ثم رأيت أنَّ الكلام في مسائل القراءة في الصلاة يطول؛ فأفردته مرتبًا في هذه الورقات، وقد علمت أنَّ التآليف في هذه المسائل كثيرة، وأنَّ من لم يعرف مقدار حسن ظن الإنسان بنفسه وبتأليفه وشعره لابد أن يُسدِّد إليَّ وإلى أمثالي سهام الملام. ولكني أرجو أن لا أَعدَمَ مَنْ عسى أن يَعْذِرني؛ بل أكاد أجزم أنَّ من طالع رسالتي هذه اضطرَّه الإنصافُ إلى أن يشكرني. وإلى الله تعالى أَضْرَع أن يُطهِّر قلبي من الهوى والعصبية، ويخلص عملي كلَّه لوجهه الكريم ونصرةِ شريعته المرضية، وهو حسبي ونعم الوكيل. [ ............................................................... ] (1) _________ (1) سقط من هنا إحدى عشرة صفحة.

(18/5)


[ص 12] فإن كان الواقع هو الأول فقد ثبتت الفاتحة نصًّا، وإن كان الثاني فتثبت استدلالًا، لما عُرِف (1) أنَّ هذا الحديث إنما اشتمل على الواجبات، وليس بين تكبيرة الإحرام وقراءة ما تيسَّر حمد وثناء وتمجيد يحتمل الوجوب إلاَّ الفاتحة، وهذا ظاهر. ومما يؤيده: حديث مسلم (2) وغيره، عن أبي هريرة رضي الله عنه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: قال الله تعالى: "قَسَمْتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل؛ فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمِدَني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجَّدني عبدي .. " الحديث. نصَّ فيه على أنَّ الفاتحة: حمد وثناء وتمجيد. وجاء في حديث رفاعة (3) تارة الأمر بالفاتحة، وتارة الأمر بالحمد والثناء والتمجيد، فتدبَّر. وقد وجدت متابعًا لمحمد بن عمرو (4)، وهو: بُكَير بن عبد الله بن الأشجّ، رواه عن علي بن يحيى، أخرجه البخاري في "جزء القراءة" (5)، _________ (1) تحتمل: "كما عرف". (2) رقم (395). وأخرجه أيضًا مالك في "الموطأ" (1/ 84، 85) وأبو داود (821) والترمذي (2953) والنسائي (2/ 135، 136). (3) أخرجه أحمد في "المسند" (18995) وأبو داود (861) والترمذي (302) والنسائي (2/ 193) وغيرهم. (4) الكلام متعلق بحديث المسيء صلاته من رواية محمد بن عمرو، عن علي بن يحيى بن خلَّاد، عن رفاعة بن رافع. وقد أخرجه أحمد في "مسنده" (18995). (5) (ص 234 - 236) بتعليقه "تحفة الأنام" ط. الهند.

(18/6)


وسنده على شرط الصحيح، إلاَّ عبد الله بن سُويد، وهو صدوق كما قال أبو زرعة (1)، وذكره ابن حبان في "الثقات" (2)، ولا مخالفَ لهما. ولكن فيه: عن علي بن يحيى، عن أبي السائب ــ رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ــ وفيه: "ابدأ فكبِّر، وتحمد الله، وتقرأ بأم القرآن، ثم تركع" الحديث. وذكر الحافظ في "الإصابة" (3) أنَّ ابن منده ذكر أبا السائب هذا في الصحابة، وقال: عداده في أهل المدينة. قال الحافظ: "وتعقبه أبو نعيم (4) بأنَّ المحفوظ رواية إسحاق بن عبد الله ... وغيرهم كلهم عن علي بن يحيى عن أبيه عن عمه رفاعة بن رافع. انتهى، ولا يمتنع أن يكون لعلي بن يحيى فيه شيخان". أقول: فعلى هذا، هذه رواية صحابي ثالث مصرِّحة بالفاتحة بلا خلاف. وأقوى الأجوبة بعد هذا: احتمال النسخ؛ فإنَّ الأحاديث الصريحة في إيجاب الفاتحة منها ما صرَّح فيه أبو هريرة بسماعه من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكان إسلام أبي هريرة سنة سبع. وقصة المسيء صلاته كانت قبل ذلك ببضع سنوات، أي قبل غزوة بدر؛ لأنَّ صاحب القصة مدني أنصاري بدري _________ (1) انظر "الجرح والتعديل" (5/ 66). (2) (8/ 343). (3) (12/ 284). وانظر "معرفة الصحابة" لابن منده (2/ 905). (4) في "معرفة الصحابة" له (4/ 492).

(18/7)


اتفاقًا (1)، ومثل هذا لا يُعقل أن يبقى مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ يجالسه، ويصلي معه، ويغزو معه سنة أو سنتين ولا يُحسِن الصلاة، فضلًا عن ست أو سبع سنوات! وهذا واضح جدًّا، مستغنٍ عن قول ابن الكلبي: إن صاحب القصة استشهد ببدر (2). وإذا صحَّ النسخ فكأنه قبل الأمر بالفاتحة كان الواجب الحمد والثناء والتمجيد مطلقًا، ثم قراءة ما تيسَّر من القرآن؛ على ظاهر رواية إسحاق بن أبي طلحة (3). ثم جمع الله تعالى لهم الأمرين في الفاتحة. ولما علم رفاعة أو من بعده ذلك عبَّر تارةً بأصل الحديث، وتارةً بما آل إليه الأمر من فرض الفاتحة، وإنما زاد: "ثم اقرأ ما شئت" ظنًّا أنَّ الفاتحة إنما جاءت بدلًا عن الحمد والثناء والتمجيد. وقد بيَّنت الأحاديث الأخرى الثابتة في الاقتصار على الفاتحة أنَّ الفاتحة جامعة للأمرين: الحمد والثناء والتمجيد، والقراءة. ومما يبيِّن ما قدَّمناه: أنَّ أبا هريرة ــ راوي الحديث ــ مذهبه الذي كان يفتي به أنَّ الفاتحة بعينها واجبة، ولا يجب غيرها. _________ (1) هو خلَّاد بن رافع، كما في "الفتح" (2/ 277). وانظر "الإصابة" (3/ 311). (2) انظر "نسب معد واليمن الكبير" (1/ 424). قال الحافظ في "الإصابة" (3/ 310): لم يذكره في شهداء البدريين غيره. (3) التي أخرجها البخاري في "جزء القراءة" (ص 245) وأبو داود (858) والنسائي (2/ 225، 226) وابن ماجه (460) وغيرهم.

(18/8)


[ص 13] وفي "الصحيحين" (1) وغيرهما عنه: "وإن لم تَزِدْ على أمِّ القرآن أجزأتْ، وإن زدتَ فهو خير". وفي "سنن أبي داود" (2) وغيره عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمره فنادى: "أن لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب فما زاد". وهذا مما يقوي احتمال النسخ؛ إلاَّ أنَّ في سنده جعفر بن ميمون، مختلف فيه، وقال العقيلي (3) في حديثه هذا: "لا يتابع عليه". وسيأتي ــ إن شاء الله تعالى ــ الكلام على قوله: "فما زاد"، وأنها لا تدلُّ على وجوب الزيادة. فأما الجواب باحتمال أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد كان علم أنَّ الرجل لا يحفظ الفاتحة فليس بذاك، وإن ساعده لفظ "معك". ولما كان النزاع إنما هو مع الحنفية، والحديث وارد عليهم، كما هو وارد علينا فلا حاجة إلى التطويل، وفيما قدمناه كفاية لطالب الحق إن شاء الله تعالى. [ص 14] سؤالان وجوابهما: الأول: وقع في بعض روايات حديث رفاعة (4) الصحيحة: فقال النبي _________ (1) البخاري (772) ومسلم (396). (2) رقم (820). وأخرجه أيضًا أحمد في "المسند" (9529) والدارقطني (1/ 321) والحاكم في "المستدرك" (1/ 239) والبيهقي (2/ 37). (3) في "الضعفاء الكبير" (1/ 190). (4) أخرجه أبو داود (857) والنسائي (2/ 193) وأحمد (18997) وغيرهم.

(18/9)


- صلى الله عليه وآله وسلم -: "إنه لا تتمُّ صلاةٌ لأحدٍ من الناس حتى يتوضأ" وذكر الحديث، وفي آخره ــ في رواية (1) ــ: "فإذا فعل ذلك فقد تمَّتْ صلاته". وفي رواية (2): "لا تتمُّ صلاةُ أحدِكم حتى يفعلَ ذلك". وفي أخرى (3): "فإذا لم يفعلْ هكذا لم تَتِمَّ صلاتُه". وفي أخرى (4): "فإذا صنعتَ ذلك فقد قضيتَ صلاتك، وما انتقصتَ من ذلك فإنما تَنقُصُه من صلاتك". وفي رواية يحيى بن علي بن يحيى عن جده عن رفاعة بن رافع: "أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بينما هو جالس في المسجد يومًا ــ قال رفاعة: ونحن معه ــ إذ جاء رجلٌ كالبدوي، فصلَّى فأخفَّ صلاته"، ثم ساق الحديث، إلى أن قال: "فخاف الناس، وكَبُر عليهم أن يكون من أخفَّ صلاته لم يُصلِّ"، ثم ذكر الحديث، وقال في آخره: "فإذا فعلتَ ذلك فقد تمَّتْ صلاتك، وإن انتقصْتَ منه شيئًا انتقصْتَ من صلاتك". قال: "وكان هذا أهونَ عليهم من الأول: أنه مَن انتقصَ من ذلك شيئًا انتقص من صلاته، ولم تذهبْ كلها". رواه الترمذي (5)، وقال عقبه: حديث رفاعة حديث حسن. وقد روي عن رفاعة هذا الحديث من غير وجهٍ (6). _________ (1) هي رواية أبي داود (857). (2) عند أبي داود (858). (3) عند النسائي (2/ 226). (4) عند النسائي (2/ 193). (5) رقم (302). (6) انظر تعليق المحققين على "المسند" (18995).

(18/10)


وقال في "الفتح" (1): "وقع في حديث رفاعة بن رافع عند ابن أبي شيبة في هذه القصة: دخل رجلٌ، فصلَّى صلاةً خفيفةً، لم يتم ركوعها ولا سجودها". فقد يقال: إنما قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "لا تتمُّ صلاة لأحدٍ"، ولم يقل: "لا تصحُّ"، وقال له: "وإن انتقصتَ منه شيئًا انتقصتَ من صلاتك" أو نحوه؛ فهذا يدلُّ على أنَّ فيما أمره به أشياء تصحُّ الصلاة بدونها. وقد فهم الصحابة ذلك؛ كما صرَّح به في رواية يحيى بن علي بن يحيى. ويؤخذ من قوله: "فأخفَّ صلاته"، وقوله: "وكبُر عليهم أن يكون من أخفَّ صلاتَه لم يُصَلِّ" أنَّ تلك الأشياء هي ما كان من قبيل التخفيف؛ فيدخل فيها تخفيف القيام بتقصير القراءة، وتخفيف الركوع والسجود بعدم الاطمئنان. وفي رواية ابن أبي شيبة ما يظهر منه التخفيف في الركوع والسجود. الجواب: أما رواية يحيى بن علي فلا تقوم بما زاده فيها حجة؛ لجهالته، ولا يُلتفت إلى أنَّ ابن حبَّان ذكره في "الثقات" (2)؛ لأنَّ من أصل ابن حبَّان إيراد المجاهيل فيها. والترمذي إنما حسَّن الحديث من حيث هو، وأشار إلى ذلك بقوله: "وقد رُوي من غير وجهٍ"، ولا يلزم من هذا توثيق يحيى بن علي. والزيادة إنما تقبل من الثقة الضابط. وأما قوله: "إنه لا تتمُّ" وما يُشبِه ذلك، فإنه يقال لمن صلَّى من الظهر ثلاث ركعات، ثم قطع الصلاة عمدًا: إنه لم يُتِمَّ صلاته. ويقال لمن صلَّى _________ (1) (2/ 277). والحديث في "المصنف" (1/ 287). (2) (7/ 612).

(18/11)


وترك بعض المستحبَّات: لم يُتِمَّ صلاته. ويظهر لي أنَّ المعنى الأول هو المتبادر. وأما قوله: "وما انتقصتَ من ذلك فإنما تنقُصُه من صلاتك" فهي عند النسائي من رواية ابن عجلان عن علي بن يحيى، وابن عجلان يدلِّس؛ كما يأتي بيان ذلك في حديث الإنصات. فيُخشى أن يكون سمع الحديث بهذه الزيادة من يحيى بن علي، وقد مرَّ ما فيه. وعلى فرض ثبوت هذه الزيادة فالانتقاص مقابل لعدم الإتمام، وقد مرَّ ما فيه. وعلى فرض أنَّ قوله: "لا تتمُّ"، وقوله: "فإنما تنقصه من صلاتك" ــ على فرض ثبوتها ــ يُشِعر أو يدلُّ على أنه إذا ترك شيئًا مما أمره به لا تبطل صلاته، فيجب إلغاء هذا الإشعار؛ لأنه قد أمره ــ في جملة ما أمره به ــ بالفرائض القطعية إجماعًا، ومن انتقص شيئًا منها فصلاته باطلة قطعًا. ودعوى حمل هذا على ما كان من قبيل التخفيف مردودة فإنه ساق تحت قوله: "لا تتمُّ صلاة أحدٍ منكم حتى ... " جميع الأعمال، واسم الإشارة في قوله "وما انتقصت من ذلك" يعود إلى جميع الأعمال. وإذا قلنا: إنَّ الذي أساء فيه هذا الرجل هو عدم الاطمئنان في الركوع والسجود، بدليل رواية ابن أبي شيبة= وجب أن لا يدخل ذلك فيما يشعر به قوله: "لا يتم"، وقوله: "تنقصه من صلاتك"؛ لأنه قد قال له باتفاق الروايات كلها: "ارجعْ فصَلِّ فإنك لم تصلِّ". ونفيُ الشارع للصلاة صريح في نفي وجودها الشرعي، وهو إنما يكون بصحتها. والله أعلم.

(18/12)


[ص 15] السؤال الثاني: إذا كانت الصلاة الأولى التي صلاها هذا الرجل باطلة فلمَ لمْ يبيِّن له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في أثنائها؟ وكيف تركه يتعبد عبادة باطلةً؟ وهكذا يقال في الثانية والثالثة، بل أولى. أَوَ لا يكون إقرار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إياه على الاستمرار فيها دالًّا على صحتها؟ الجواب: هذا سؤال لا يخلو من صعوبة، وقد ذكر الحافظ في "الفتح" (1) أجوبة: منها: قول ابن دقيق العيد: "ليس التقرير بدليل على الجواز مطلقًا؛ بل لا بد من انتفاء الموانع، ولا شكَّ أنَّ في زيادة قبول المتعلِّم ما يُلقى إليه بعد تكرار فعله واستجماعِ نفسه وتوجُّهِ سؤاله مصلحةً مانعةً من وجوب المبادرة إلى التعليم؛ لاسيَّما مع عدم خوف الفوات؛ إما بناءً على ظاهر الحال، وإما بوحي خاص". أقول: أما دلالته على الجواز فلا مفرَّ منها؛ ولكن لا يلزم من الدلالة على الجواز الدلالةُ على الصحة، وشاهده ما في "الصحيحين" (2) عن ابن المنكدر قال: رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أنَّ ابن الصيَّاد الدجال، قلت: تحلف بالله؟! قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فلم ينكره النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. _________ (1) (2/ 281). وكلام ابن دقيق العيد في "الإحكام" (2/ 11). (2) البخاري (7355) ومسلم (2929).

(18/13)


وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه كان أولًا يشكُّ في ابن صيَّاد أهو الدجال أم لا (1). فأقول: إنَّ العبادة الباطلة إنما يكون التلبُّس بها معصيةً إذا علم المتلبِّس بها أنها باطلة، ولم يتحقَّق هذا في المسيء صلاته؛ فلذلك أقرَّه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على التلبُّس بها، ثم بيَّن له بطلانها. فالتقرير مجمل؛ لأنه يحتمل أن يكون لأنها صحيحة، ويحتمل أن يكون لما ذكرنا. وتأخير بيان مثل هذا جائز، والحجج عليه كثيرة، ولم يأت من نازع فيه بحجة. وهكذا قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "صلِّ فإنك لم تصلِّ" مجمل؛ لأنه لم يبيِّن فيه وجه البطلان، ثم بيَّنه أخيرًا. فإن قيل: فهلاَّ بيَّن له أوَّل مرَّة؟ قلت: في الأجوبة التي نقلها في "الفتح" (2): أجاب المازري بأنه أراد استدراجه بفعل ما يجهله مرَّات؛ لاحتمال أن يكون فعله ناسيًا أو غافلًا؛ فيتذكَّره فيفعله من غير تعليم، وليس ذلك من باب التقرير على الخطأ؛ بل من باب تحقُّق الخطأ. وقال النووي (3) نحوه، قال: وإنما لم يعلِّمه أولًا ليكون أبلغ في تعريفه وتعريف غيره بصفة الصلاة المُجزِئة. _________ (1) هنا في الهامش عبارة بخط دقيق أصابها طمس. (2) (2/ 281). (3) "شرح صحيح مسلم" (4/ 109).

(18/14)


وقال ابن الجوزي (1): يحتمل أن يكون ترديده لتفخيم الأمر وتعظيمه عليه، ورأى أنَّ الوقت لم يَفُتْه فرأى إيقاظ الفطنة للمتروك. وقال ابن دقيق العيد: .... (2). وقال التوربشتي: إنما سكت عن تعليمه أولًا لأنه لما رجع لم يستكشف الحال من مورد الوحي، وكأنه اغترَّ بما عنده من العلم، فسكت عن تعليمه؛ زجرًا له وتأديبًا وإرشادًا إلى استكشاف ما استبهم عليه، فلما طلب كشف الحال من مورده أرشد إليه. أقول: أما المرة الأولى فلِمَا قال المازري. وأما في الثانية والثالثة فلِمَا قاله النووي وابن الجوزي وابن دقيق العيد، ولما قاله التوربشتي معًا، والله أعلم. وقد خلط الشارح الكلام على مسألة ركنية الفاتحة بالكلام على وجوب الزيادة عليها مع الكلام على ركنيتها على المأموم، وسألخِّص هنا ما يتعلَّق بهذه المسألة خاصة: زعم أنَّ زيادة "فصاعدًا" في حديث عبادة ثابت، وأنه يقتضي ركنية الزيادة. ثم كرَّ على هذا الحديث بأنه متروك العمل باتفاق، وأن ترك العمل به دليل [على] نسخه، أو على خطأ وقع من بعض رواته، وكأنه يريد أنَّ ذلك دليل على نسخ ركنية الفاتحة. والجواب: أنَّ زيادة "فصاعدًا" غير ثابت، ولو ثبت لم يدلَّ على وجوب _________ (1) "كشف مشكل الصحيحين" (1/ 939). (2) هكذا بيَّض المؤلف لكلام ابن دقيق العيد. وقد نقله فيما مضى.

(18/15)


الزيادة، ولو دلَّ على وجوب الزيادة فقد قال بذلك بعضُ أهل العلم كما يأتي، نعم ذاك متروك باتفاق الحنفية والشافعية، ولكنَّ المتروك هو الزيادة فقط. فترك الأخذ بها إنما يدلُّ على الخطأ فيها خاصة، وإن دلَّ على نسخٍ فلها خاصة، ودلالته على الخطأ أولى؛ لأنَّ ثَمَّ دلائل أخرى على الخطأ؛ كما يأتي إن شاء الله تعالى. وقد ادعى الشارحُ أنَّ الزيادة نُسِخَت أولًا، وهذا اعتراف بأنَّ نسخ الزيادة لا يلزم منه نسخ المزيد عليه. ثم لو فُرِضَ سقوط الاحتجاج على وجوب الفاتحة بحديث عبادة فالأحاديث على وجوبها كثيرة، على أنَّ زَعْم الاتفاق على عدم وجوب الزيادة غير مسلَّم؛ فقد حكاه الحافظ في "الفتح" (1) عن بعض الصحابة وغيرهم، وهو رواية في مذهب أحمد؛ بل هو قول الحنفية، وإن لم يجعلوه فرضًا. _________ (1) (2/ 243).

(18/16)


[ص 16] واستدلَّ الشارحُ على نسخ ركنية الفاتحة بحديث المسيء صلاته، وقد مرَّ الكلام عليه، وبيَّنا أن تلك القصة كانت قبل بدر، وأحاديث إيجاب الفاتحة متأخرة عن هذا التاريخ، وأنَّ في بعض طرقه تعيين الفاتحة، فإن ثبَّتنا تلك الزيادة فذاك، وإن ادَّعينا النسخَ فأحاديث إيجاب الفاتحة هي الناسخة لتأخرها. ثم قال الشارح: (وأيضًا يدلُّ عليه ما رواه مسلمٌ (1) بسند صحيح عن أبي هريرة: "لا صلاة إلاَّ بقراءة"). أقول: هو مرفوع، وغاية ما فيه أنه مطلقٌ وأحاديث إيجاب الفاتحة تُقيِّده. فإن زعم زاعمٌ أنه إنما يقول بالتقييد في مثل هذا إذا كان متصلًا، فإن لم يكن متصلًا فالمتأخر ناسخٌ، فإن جُهل التاريخ فالترجيح. قلنا له: مذهب أبي هريرة تعيين الفاتحة، وذلك يدلُّ إنْ كان نسخٌ على أنَّ المطلق هو المنسوخ. ويؤكِّد هذا أننا لو قلنا: إنَّ المطلق هو الناسخ لزم من يحتجُّ بالإطلاق في حديث المسيء صلاته أنَّ الحكم كان على الإطلاق، ثم نُسخ بتعيين الفاتحة، ثم نسخ تعيين الفاتحة بالإطلاق. ومثل هذا إن وُجِد في الشريعة فنادر، والحمل على الغالب أولى. ثم قال: (وأيضًا روى مسلمٌ (2) عن أبي هريرة قال: "في كل صلاةٍ _________ (1) رقم (396/ 42). (2) رقم (396/ 44).

(18/17)


قراءةٌ، ومن قرأ بأم القرآن أجزأتْ عنه" لعلَّه أراد: أجزأت عن قراءة القرآن، وفتوى الراوي خلاف روايته دليلٌ على نسخ روايته). أقول: لفظ مسلم: "قال أبو هريرة: في كل صلاةٍ قراءة؛ فما أسْمَعَنا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أسمَعْناكم، وما أخفَى منا أخفيناه منكم، ومن قرأ بأم الكتاب فقد أجزأتْ عنه، ومن زاد فهو أفضل". وكأنَّ مراد الشارح أنَّ قوله: "في كل صلاة قراءة" يدلُّ على أنَّه يُجزئ ما يحصل به اسم القراءة؛ لأنَّ لفظ "قراءة" مطلقٌ، وأنَّ قوله: "ومن قرأ بأم الكتاب فقد أجزأتْ عنه" لا ينافي الإطلاق. وإنما المعنى: أنه يحصل بها ما يسمَّى "قراءة" كما يحصل بغيرها، وهذا قريب؛ ولكن قوله: "ومن زاد فهو أفضل" يُبطِل هذا الاحتمال، وإنما وِزانُه وِزانُ قولك لخادمك: اشترِ لنا فاكهة العنب وحده يكفي، وإن زدتَ فهو أحسن. فمدلول هذا الكلام: أنَّ العنب لا بد منه على كل حال، ويحسنُ زيادة فاكهة أخرى معه. وتحريره: أنَّ النكرة قد ترِدُ للإطلاق، وقد تردُ للإبهام. وقولك: "اشترِ لنا فاكهة" مبهم فسَّرته بآخر كلامك؛ فكذا لفظ "قراءة" في كلام أبي هريرة. ومع ذلك فمذهب أبي هريرة في تعيين الفاتحة مشهور، فإذا ورد عنه فتوى [ص 17] بصورة الإطلاق وجب تقييدها بما عُرِفَ من مذهبه. ثم ذكر الشارح قول ابن حجر: إنَّ أقوى أجوبة الشافعية عن حديث المسيء صلاته حملُه على العاجز عن تعلُّم الفاتحة؛ جمعًا بينه وبين حديث: "لا تُجزِئ صلاةٌ لا يَقرأ الرجل فيها بأمِّ القرآن" (1). _________ (1) أخرجه ابن خزيمة (490) وابن حبان (1789، 1794) وغيرهما من حديث أبي هريرة.

(18/18)


ثم اعترضه الشارح بأنه لا يتعيَّن ذلك، قال: (ويمكن أن يكون الأمر كما قلنا: إنَّ ركنية الفاتحة وضمِّ شيءٍ معها من القرآن كان في أول الأمر، وفيه حديث: "لا تجزيء صلاةٌ لا يَقرأ الرجل فيها بأم القرآن"، وغيره من الأحاديث التي تدلُّ بهذا المعنى. ثم لمَّا وقعت المنازعة مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والمخالجة في قراءته - صلى الله عليه وآله وسلم - أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بترك السورة والاكتفاء على الفاتحة. ثم لما نزلت: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ ... } إلخ [الأعراف: 204] أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بترك القراءة مطلقًا. وعلى هذا تتوافق جميع الأحاديث بدون تعارضٍ فيها، والتوافق هو المتعيِّن عند التعارض لو يمكن. ومن هذا الوقت نُسِخت فرضية الفاتحة لما نزل فيه: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20])، فأمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعده للمسيء: "واقرأ ما تيسَّر معك من القرآن"). [ص 18] أقول: أما حديث المسيء صلاته فقد مرَّ الكلام عليه بما يغني، والحمد لله. وأما ما أبداه الشارح من التوفيق فأقلُّ ما فيه أنه (لَخْبطة). فإنه زعم أنَّ ترتيب نزول الأحكام هكذا: أحاديث وجوب الفاتحة وشيءٍ معها، ثم أحاديث نهي المأموم عن الزيادة، ومنها حديث عمران (1) وأبي هريرة في المخالجة والمنازعة، ثم نزول آية الإنصات، ثم نهي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - المأموم عن القراءة مطلقًا، ثم نزول آية القراءة، ثم قصة المسيء صلاته. والترتيب الصحيح الثابت بالأدلة العلمية هكذا: آية القراءة؛ فإنها من سورة المزَّمل، وسورة المزَّمل مكية اتفاقًا. _________ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب "عبادة".

(18/19)


وفي "الإتقان" (1) عن جابر بن زيد: "أنَّ أول ما نزل (اقرأ)، ثم (ن والقلم)، ثم المزمل، ثم المُدثِّر، ثم الفاتحة"، ثم ذكر ثلاثًا وثلاثين سورة، ثم قال: "ثم الأعراف"، وذكر الباقي. وفي "الصحيحين" (2) عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "إني جاورتُ بحراءَ؛ فلما قضيتُ جِواري نزلتُ، فاستبطنتُ الوادي، فنظرت أمامي وخلفي، وعن يميني وشمالي، ثم نظرت إلى السماء؛ فإذا هو ــ يعني: جبريل ــ فأخذتْني رجفةٌ، فأتيت خديجة، فأمرتُهم فدثَّروني؛ فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1، 2] ". وهذا ظاهر أنَّ سورة المدثر نزلت في أوائل النبوَّة، وقد قال جابر بن زيد: "إنَّ سورة المزمِّل نزلت قبل سورة المدَّثر". وفي "صحيح مسلم" و"مسند أحمد" (3) وغيرهما عن عائشة: ذكرتْ سورة المزمِّل، ثم قالت: "فإنَّ الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة؛ فقام نبي الله وأصحابه حولًا، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرًا في السماء، حتى أنزل الله تعالى في آخر السورة التخفيف، وصار قيام الليل تطوُّعًا". وقد زعم بعضهم أنَّ آية القراءة وما بعدها مدنيٌّ؛ ذكره الحافظ في "الفتح" (4) في أول كتاب الصلاة، وردَّه، فإن شئت فارجع إليه. _________ (1) (1/ 168). (2) البخاري (4922، 4924) ومسلم (161/ 257). (3) "صحيح مسلم" (746) و"المسند" (24269). وانظر تعليق المحققين عليه. (4) (1/ 465).

(18/20)


ثم بعدها آية الإنصات؛ لأنها من سورة الأعراف، وهي متأخرة عن سورة المزمل بكثير، على ما تقدَّم عن جابر بن زيد. واحتمالُ أن يكون ترتيب نزول الآيتين على عكس ترتيب نزول السورتين فيه بُعدٌ. والذي لا نشكُّ فيه أنَّ آية الإنصات مكيَّة اتفاقًا، وسيأتي إيضاح ذلك في مسألة قراءة المأموم، إن شاء الله تعالى. ثم آية القنوت، وحديث المسيء صلاته. أما آية القنوت فلِما يأتي في الكلام على آية الإنصات. ولم يذكر الشارح آية القنوت، وإنما زدتها تتميمًا للفائدة. وأما قصة المسيء صلاته فإنها وقعت قبل بدر؛ كما مرَّ تحقيقه، ولم يتبيَّن لي أيُّ هذين كان قبلُ: آية القنوت أم قصة المسيء صلاته؟ فالله أعلم. ثم أحاديث إيجاب الفاتحة وبقية الأحاديث، ولم يقم عندي دليل على ترتيبها. ولعلَّ من أحاديث وجوب الفاتحة ما تقدَّم على قصة المسيء صلاته؛ بناءً على صحَّة [ص 19] زيادة الأمر بالفاتحة بعينها في حديث المسيء صلاته، ويمكن خلاف ذلك؛ على ما قدَّمناه في الكلام على حديث المسيء صلاته. والذي لا نشكُّ فيه أنَّ حديث أبي هريرة في وجوب الفاتحة متأخر؛ لأنَّ إسلامه كان سنة سبعٍ أيامَ خيبر، وقد صرَّح بالسماع. ولفظه عند البيهقي (1) من طريق إسحاق بن راهويه والحميدي عن ابن _________ (1) في "السنن الكبرى" (2/ 38).

(18/21)


عيينة بسنده عن أبي هريرة قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: "كل صلاةٍ لا يُقرأ فيها بأمِّ الكتاب فهي خِداجٌ، ثم هي خِداجٌ، ثم هي خِداجٌ". فقال: يا أبا هريرة! فإني أكون أحيانًا وراء الإمام؟ ، قال: يا فارسي! اقرأ بها في نفسك؛ فإني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: قال الله عزَّ وجلَّ: "قَسَمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل؛ فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي". وذكر الحديث، وهو في "صحيح مسلم" (1). وفي حديث أبي داود (2) وغيره من طريق جعفر بن ميمون عن أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "اخرُجْ، فنادِ في المدينة أنه لا صلاةَ إلاَّ بقرآنٍ، ولو بفاتحة الكتاب فما زاد". وفي روايةٍ لأبي داود (3): "أمرني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن أناديَ أنه لا صلاة إلاَّ بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد". وجعفر بن ميمون مختلفٌ فيه. وفي "الصحيحين" (4) وغيرهما عن عبادة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن". وفي روايةٍ لابن حبان (5) وغيره: "لا تُجزِئ صلاةٌ لا يُقرأ فيها بفاتحة _________ (1) رقم (395). (2) رقم (819). (3) رقم (820). (4) البخاري (756) ومسلم (394). (5) رقم (1789، 1794). وأخرجه ابن خزيمة (490) وغيره.

(18/22)


الكتاب". وفي روايةٍ لأبي داود والترمذي وأحمد وابن حبان في "صحيحه" (1)، عن عبادة قال: "كنا خلف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في صلاة الفجر؛ فقرأ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فثقلت عليه القراءة؛ فلما فرغ قال: "لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ ! " قلنا: نعم هَذًّا يا رسول الله، قال: "لا تفعلوا إلاَّ بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". وفي روايةٍ لأبي داود (2) وغيره: " ... هل تقرءون إذا جهرتُ بالقراءة؟ فقال بعضنا: إنا نصنع ذلك، قال: "فلا، وأنا أقول: مالي ينازعني القرآن، فلا تقرؤوا بشيءٍ من القرآن إذا جهرتُ إلاَّ بأم القرآن". وفي "سنن أبي داود" (3) وغيره: عن أبي هريرة قال: "صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صلاةً نظنُّ أنها الصبح؛ فلما قضاها قال: "هل قرأ منكم أحد؟ " فقال رجلٌ: نعم أنا يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "إني أقول مالي أُنازَع القرآن". وذكر البيهقي (4) عن سفيان: فنظرت في شيءٍ عندي؛ فإذا هو: "صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صلاة الصبح"؛ بلا شكٍّ. _________ (1) أبو داود (823) والترمذي (311) وأحمد (22745، 22746، 22750) وابن حبان (1785، 1792، 1848). (2) رقم (824) وأخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 164). (3) رقم (827). (4) "السنن الكبرى" (2/ 157).

(18/23)


[ص 20] والحفَّاظ يرون أنَّ حديث عبادة الذي في الصحيحين وغيرهما مختصر من حديثه الذي ذكر فيه القصة. وقد قيل: إنَّ حديث أبي هريرة في المنازعة هو في واقعة حديث عبادة بعينها؛ لاتفاقهما في أكثر الأمور. ويشهد لذلك مذهب أبي هريرة في وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في الجهرية وغيرها، وهذه القرائن كافية في إفادة الظنِّ عند أهل العلم، فلا التفاتَ إلى قول الشارح: "لا نسلِّم". فعلى ما تقدَّم يكون حديث عبادة متأخرًا عن حديث المسيء صلاته جزمًا؛ لأنَّ أبا هريرة شهد القصة. وفي الاتحاد نظر؛ كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ولكن سيأتي في المسألة الرابعة حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "صلَّينا مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فلما انصرف قال: "هل تقرءون إذا كنتم معي في الصلاة؟ "، قلنا: نعم، قال: "فلا تفعلوا إلاَّ بأم القرآن" (1). وإسلام عبد الله بن عمرو بن العاص متأخر، والظاهر أنَّ قصته هي قصة عبادة، وذلك كافٍ في الدلالة على تأخُّر حديث عبادة. وحديث عبادة وحديث أبي هريرة أشهر الأحاديث في وجوب الفاتحة. وبقيتْ أحاديث أخرى عن جماعة من الصحابة قد جمع أكثرها البخاري رحمه الله تعالى في "جزء القراءة". فقد ثبت أنَّ أحاديث وجوب الفاتحة متأخرة عن الآيات الثلاث: آية القراءة، وآية الإنصات، وآية القنوت، ومتأخرة عن حديث المسيء صلاته. _________ (1) "جزء القراءة" للبخاري (ص 174 - 176).

(18/24)


فلم يبق بيد الشارح ما يستدلُّ به على نسخ أحاديث فرضية الفاتحة، وقد تقدَّم الجواب عن حديث مسلم: "لا صلاة إلاَّ بقراءة"؛ فثبتت فرضية الفاتحة على الإطلاق. فأما أحاديث المخالجة والمنازعة وما ورد في نهي المأموم عن القراءة، فسنتكلَّم عليها في مسألة قراءة المأموم، إن شاء الله تعالى. ثم إنَّ الشارح لم تطب نفسه بما كانت سمحت به من الاعتراف بأنَّ حديث عبادة يدلُّ على الركنية، فقال: (يحتمل حديث: "لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب" معنى غير معنى الركنية؛ كما في حديث عائشة الذي رواه مسلم (1)، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: "لا صلاةَ بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثانِ". وفي "الشرح الكبير" (2): قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه لو صلَّى بحضرة الطعام فأكمل صلاته أنَّ صلاته تُجزِئه، كذلك إذا صلَّى حاقنًا). أقول: لفظ الحديث عند الترمذي (3): "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". ثم اعلم أنه لا يرتاب مسلمٌ أنَّ كلمة التوحيد (لا إله إلاَّ الله) صريحةٌ في نفي وجود إله غير الله تعالى، وقوله: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" مثلها؛ فهي صريحةٌ في نفي وجود صلاة لمن لم يقرأ الفاتحة. _________ (1) رقم (560). (2) للشمس المقدسي (3/ 595). وانظر "التمهيد" (22/ 206) و"الاستذكار" (6/ 206). (3) رقم (247).

(18/25)


ومن توهَّم أنَّ نفي وجود الصلاة بدون الفاتحة لا يصحُّ وإن قلنا بأنها ركنٌ، لأنها قد توجد في الخارج بدون الفاتحة وإن كانت باطلة= فقد غفل غفلةً شديدة؛ لأنَّ الصلاة في لسان الشارع إنما تصدُق على الصحيحة [ص 21]، وهذا إجماع. حتى قال الحنفية: إنَّ نهي الشارع عن صلاة مخصوصة يقتضي صحتها؛ لأنها لو كانت لا تصحُّ لما قدر المكلَّف على تحصيلها، فكيف ينهى عنها؟ فقيل لهم: إنما نهى الشارع عن الصورة الظاهرة من الصلاة الباطلة، وهو قادرٌ على تحصيلها. فردُّوه بأنَّ الصلاة في لسان الشارع محمولة على الصحيحة، هذه حقيقتها، فلا يجوز صرفها عنها بغير حجة. إذا تقرَّر هذا ثبت أنَّ وجود الصورة الباطلة لا يقدح في نفي وجود الصلاة، وهذا واضحٌ جدًّا. فحديث عبادة صريح في نفي وجود الصلاة بدون قراءة فاتحة الكتاب، وذلك صريح في أنها ركنٌ فيها، لا تصحُّ بدونها. وهكذا نقول في حديث: "لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان" بأنه صريح في أنَّ الصلاة لا تصحُّ في هذين الموضعين. وإنما لم يعملوا بهذا الحديث لقيام الإجماع القطعي عندهم على خلافه؛ فقالوا: إنَّ الإجماع يدلُّ على نسخ الحديث، أو على أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما تكلَّم به كانت هناك قرائن فهم منها السامعون صرف اللفظ عن حقيقته. ولا يرتاب ذو علم أنَّ الكلمة إذا صُرِفت عن حقيقتها لدليل ثم وقعت تلك الكلمة بعينها في كلام آخر لا يسوغ صرفها عن حقيقتها فيه لغير دليل،

(18/26)


ولو ساغ ذلك لسقطت ظواهر الكلام كلها؛ لأنه ما من كلمة إلاَّ وقد استعملت أو يجوز استعمالها في خلاف ظاهرها مع نصب القرينة على ذلك، ولا يقول بذلك مسلمٌ، بل ولا عاقلٌ. على أنَّ حديث: "لا صلاة بحضرة الطعام" قد ورد بلفظ: "لا يصلي أحدكم بحضرة الطعام" إلخ. كذا هو في "صحيح ابن حبان" (1)، ذكره الحافظ في "الفتح" (2) ثم قال: "أخرجه مسلمٌ من طريق حاتم بن إسماعيل وغيره عن يعقوب بن مجاهد عن القاسم. وابن حبان من طريق حسين بن علي وغيره عن يعقوب به. وأخرج له ابن حبان (3) أيضًا شاهدًا من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ". يعني بلفظ: "لا يصلي أحدكم". وقوله: "لا يصلي" إما نهي وإما نفي بمعنى النهي، فلا يكون صريحًا في البطلان، بل يدلُّ عند الحنفية على الصحة، ويحمل عليه لفظ: "لا صلاةَ بحضرة الطعام" جمعًا بين الروايات. بخلاف "لا صلاة بفاتحة الكتاب"، فإنه صريحٌ في النفي المقتضي للبطلان اتفاقًا. ولم يقم دليلٌ يُسوِّغ صرفَه عن ظاهره إلى معنى النهي، والله أعلم. وقد زعم بعضهم أنَّ نفي الشيء شاع استعماله في المجاز، وهو نفي الكمال؛ حتى صار هذا المجاز حقيقة عرفية، وهذا بهتان عظيم! وكيف يجعل الله تبارك وتعالى (لا إله إلاَّ الله) عنوان التوحيد إذا كان ظاهرها لا يفيد التوحيد _________ (1) رقم (2074). (2) (2/ 242). (3) رقم (2072). وفيه: "لا يُصلِّ" بصيغة النهي.

(18/27)


على زعم ذلك القائل؟ ونعوذ بالله من حبٍّ للمذهب يؤدِّي إلى مثل هذا. على أنَّ مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنَّ الحقيقة المستعملة أولى من المجاز المتعارف الأسبق منها، ذكروه في أصولهم (1). فإن قيل: إنَّ عموم الحديث مخصوص اتفاقًا، فإنَّ الأبكم ومن لا يُحسِن الفاتحة تصحُّ صلاتهما بدونها، وجمهور العلماء يقولون: إنَّ من أدرك الإمام راكعًا تصحُّ ركعته مع أنه لم يقرأ. وقال الشافعية: إنَّ ذلك قد يتفق في الصلاة كلها، وتصوير ذلك موجود في كتبهم. وكثير من العلماء أو أكثرهم يقولون: لا قراءة على المأموم في جهرية الإمام. وطائفة منهم قالوا: لا قراءة على المأموم مطلقًا. ودلالة العموم المخصوص على بقية أفراده ضعيفة [ص 22] حتى ردَّها بعض النظَّار. قلت: أما دعوى أنَّ المأموم لا قراءة عليه مطلقًا أو في ما جهر به الإمام فلا نسلِّمه، وسيأتي بيان هذه المسألة، إن شاء الله تعالى. وأما المسبوق فقد اختار الإمام البخاري رحمه الله تعالى، ونقله عن بعض الصحابة: أنه لا يدرك الركعة. وهو قول جماعة من أصحابنا الشافعية، وبه أعمل (2). ومع ذلك فالقائلون بسقوط القراءة عن المأموم مطلقًا أو في ما جهر به الإمام يرون أنَّ قراءة الإمام الفاتحةَ أجزأتْ عن ذلك المأموم، وعلى هذا فيصدق على صلاة هذا المأموم أنه قرأ فيها بفاتحة الكتاب؛ فلا يكون هذا _________ (1) نصَّ عليه ابن الهمام في "التحرير". انظر "تيسير التحرير" لأمير بادشاه (2/ 57). (2) للمؤلف رسالة في هذا الباب نُشِرت ضمن هذه المجموعة (1/ 101 - 133).

(18/28)


تخصيصًا للحديث، وإنما فيه لزوم تأويل "يقرأ" في الحديث بما يعمُّ قراءته بنفسه وما يقوم مقامها من قراءة إمامه، وهذا تأويل للفظ "يقرأ"، لا تخصيص للعموم. وأما الأبكم ومن لا يُحسِن الفاتحة فإنهما مُستثنيان بالعقل، لامتناع تكليف ما لا يُطاق، وقد قال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. وحقَّق صدر الشريعة من أئمة الحنفية أنَّ التخصيص بالعقل لا يُضعف دلالة العام. وعبارته في "التنقيح" و"توضيحه" (1): "لكن يجب هناك فرق؛ وهو أنَّ المخصوص بالعقل ينبغي أن يكون قطعيًّا؛ لأنه في حكم الاستثناء، لكنه حذف الاستثناء مُعْتَمِدًا على العقل، على أنه مفروغ عنه (2)، حتى لا نقول: إنَّ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] ونظائرَه دليلٌ فيه شبهة، وهذا فرق قد تفرَّدتُ به، وهو واجب الذكر؛ حتى لا يُتوهَّم أنَّ خطابات الشرع التي خصَّ منها الصبي والمجنون بالعقل دليل فيه شبهةٌ؛ كالخطابات الواردة بالفرائض، فإنه يكفر جاحدها مع كونها مخصوصة عقلًا، فإنَّ التخصيص بالعقل لا يورث شبهة، فإنَّ كل ما يوجب العقلُ تخصيصَه يخصُّ، وما لا فلا". فإن قلت: العقل إنما يدلُّ على أنَّ العاجز لا تلزمه الفاتحة، ولا يدلُّ على صحة صلاته، لأن كونه لا تلزمه الفاتحة يصدق بأحد حكمين: إما أن _________ (1) (1/ 44). (2) في الأصل: "مفرغ فيه". والتصويب من المصدر المذكور.

(18/29)


تصحَّ صلاته بدونها، وإما أن لا تلزمه الصلاة أصلًا. قلت: الاحتمال الثاني كان منتفيًا عند الصحابة الذين خُوطبوا بالحديث، وكذا عند غيرهم من الأمة؛ بما علموه من القاعدة الشرعية المقرَّرة للصلاة؛ وهي أنَّ من عجز عن شيءٍ من أركانها كان عليه أن يصلِّي، ويأتي بما قدر عليه. وإذا كان هذا مقرَّرًا عندهم فهو في قوَّة الاستثناء؛ لأنه دليل مقارن للنص، فهو كالعقل فيما ذكره صدر الشريعة. [ص 23] وقد حاول بعضهم (1) أن يجيب عن حديث أبي هريرة، فقال: إنَّ الخِداج معناها الناقصة، ويوضِّح ذلك تفسيره بقوله: "غير تمام"، وهذا يدلُّ أنها صحيحة. والجواب: أنَّ الخِداج عند أهل اللغة: إلقاء الناقة ولدها لغير تمام الأيام، وإن كان تامَّ الخلق. وقيل: إلقاؤها إياه ناقصًا قبل الوقت. وقيل: إلقاؤها إياه دمًا. وقيل: إلقاؤها إياه أملطَ، لم ينبتْ عليه شعر. قال الأزهري (2): ويقال إذا ألقتْه دمًا: قد خَدجتْ وهو خِداج. وعلى كل حال فالمعنى: إلقاؤها إياه ميتًا، ولم يصرِّحوا فيما رأيت بقولهم "ميتًا" لأنَّ الإلقاء يدلُّ عليه؛ فإنهم لا يقولون: ألقتْ ولدها إلاَّ إذا كان ميتًا. وفي "اللسان" (3): "أجهضت الناقةُ إجهاضًا وهي مُجهِضٌ: ألقت _________ (1) انظر "فتح الملهم" للشيخ شبير أحمد العثماني (3/ 252) ط. دار إحياء التراث العربي. (2) "تهذيب اللغة" (7/ 45). (3) "لسان العرب" (8/ 400، 401).

(18/30)


ولدها لغير تمام ... أبو زيد: إذا ألقت الناقة ولدها قبل أن يستبين خلقُه قيل: أجهضت. وقال الفرَّاء: خِدْجٌ، وخَدِيجٌ، وجِهْضٌ، وجَهِيضٌ: للمُجْهَض". وفيه (1): "أسقطت المرأة ولدها إسقاطًا، وهي مُسقِط: ألقتْه لغير تمام ... وأسقطت الناقةُ وغيرها: إذا ألقت ولدها". وفيه (2): "أَزلقَتِ الفرسُ والناقةُ: أسقطتْ، وهي مُزْلِق: ألقتْه لغير تمام". وفيه (3): "غَضَنتِ الناقةُ بولدها وغضَّنَتْ: ألقتْه لغير تمام، قبل أن ينبت الشعر عليه ويستبينَ خلقُه". وقولهم: "وإن كان تامَّ الخلق" لا ينافي الموت كما لا يخفى. فأما إذا كان حيًّا فإنما يقولون: ولدتْ، وضعتْ. وفي "جزء القراءة" للبخاري (4): "قال أبو عبيد: يقال: أخدجت الناقةُ: إذا أسقطتْ، والسقط ميت، لا ينتفع به". فحاصل الحديث: أنَّ الصلاة التي لا تقرأ فيها الفاتحة مثل السقط المُلقَى ميتًا، ولا يرتاب منصفٌ أنَّ حياة الصلاة هي صحتها. فأما على ما قاله الأزهري من أنَّ الخداج "إلقاؤها إياه دمًا" فدلالته على البطلان أصرح وأوضح. فأما قوله: "غير تمام" فهو مجملٌ؛ لأنه يقال لمن صلَّى من الظهر _________ (1) المصدر نفسه (9/ 188). (2) المصدر نفسه (12/ 10). (3) المصدر نفسه (17/ 190). (4) (ص 362). وانظر "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 66).

(18/31)


ثلاث ركعاتٍ ثم قطعَها: لم يتمَّ صلاته، ومنه حديث "الصحيحين" (1): "فما أدركتم فصلُّوا، وما فاتكم فأتمُّوا". ويقال لمن صلَّى وترك بعض السنن: لم يُتِمَّ صلاتَه. وعلى هذا فلا ينافي ما اقتضاه قوله: "فهي خداج" من معنى البطلان؛ بل يجب حمله على المعنى الموافق لذلك. وفي "جزء القراءة" (2) للبخاري: عن عائشة قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: "من صلَّى صلاةً لم يقرأ فيها بأمِّ القرآن فهي خداج، فهي خداج". وفيه (3): عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه: أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي مُخدِجة". ليس في روايتهما "غير تمام". وكذا في بعض روايات حديث أبي هريرة ليس فيها "غير تمام". فيحتمل ــ والله أعلم ــ أنَّ يكون أبو هريرة زادها مرَّةً تفسيرًا، وقد عُلِمَ مذهبه في وجوب الفاتحة، والله أعلم. وحديثه الآخر في قول الله تعالى: "قَسَمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي" صريح في الركنية؛ لأنه جعل الفاتحة هي الصلاة، وهو يقتضي أنَّ الفاتحة أعظم ما في الصلاة، ولهذا أكّد به أبو هريرة الحديث الأول، والله أعلم. ولعلَّ قائلًا يقول: لكن لفظ "صلاة" في كلام الشارع يُحمَل على الصحيحة. فأقول: أرأيتَ لو قال: "هذه صلاة باطلة" أتحتجُّ بذلك على صحتها؟ _________ (1) البخاري (636، 908) ومسلم (602) من حديث أبي هريرة. (2) (ص 173). (3) (ص 67، 68).

(18/32)


فإن قال: لا، بل أقول: إنَّ قوله: "باطلة" دليل على أنه استعمل لفظ "صلاة" مجازًا في الصورة الخارجة، بقرينة قوله: "باطلة". قلت: فكذلك تقول في الحديث، بقرينة قوله: "فهي خداج"، وقد مرَّ معناه، وأنه في قوَّة قوله: "فهي باطلة"، والله أعلم. [ص 24] ثم رأيت الطحاوي (1) احتجَّ على أنَّ قوله: "خداج" لا يدلُّ على البطلان؛ بما روي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: "الصلاة مثنى مثنى؛ تَشَهَّدُ في كل ركعتين، وتَخشَّعُ، وتَضرَّعُ، وتَمَسْكَنُ، وتُقْنِعُ بيديك، يقول: ترفعُهما إلى ربك، مستقبلًا ببطونهما وجهك، وتقول: يا ربِّ يا ربِّ، ومن لم يفعل ذلك فهو كذا وكذا". وفي رواية: "فهو خداج" (2). وهذا حديث مضطرب اضطرابًا شديدًا، قد بين الطحاوي بعض ذلك في "مشكل الآثار" (ج 2 ص 23) (3). ومع ذلك ففي سنده عبد الله بن نافع بن العمياء؛ قال ابن المديني: مجهول، وقال البخاري: لم يصحَّ حديثه. يعني هذا الحديث. ولو فرضنا أنَّ الحديث صحَّ، وأنَّ الأمة أجمعت على صحَّة صلاة من ترك جميع ما ذكر فيه؛ فذلك من قبيل صرف اللفظ عن ظاهره بدليل، ولا _________ (1) في "مشكل الآثار" (3/ 124) ط. مؤسسة الرسالة. (2) أخرجه أحمد (17525) والترمذي (385) من حديث الفضل بن عباس. وأخرجه أحمد (17523) وأبو داود (1296) وابن ماجه (1325) من حديث المطلب بن ربيعة. وفي إسنادهما عبد الله بن نافع بن العمياء، وهو مجهول. وانظر كلام الإمام البخاري عليه عند الترمذي. (3) (3/ 126 وما بعدها) ط. مؤسسة الرسالة.

(18/33)


يسوغ بذلك صرف ذلك اللفظ إذا وقع في كلام آخر عن ظاهره بغير دليل كما قدمناه. وذكر الطحاوي (1) حديث صلاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في مرض موته، وسنذكره إن شاء الله في حججهم في المسألة الرابعة. ثم قال الشارح: (ويدلُّ أيضًا على أنَّ الفاتحة ليست بركن ... )، وذكر حديث أبي بكرة أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو راكع؛ فركع قبل أن يصل إلى الصف؛ فقال له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "زادك الله حرصًا ولا تعد" (2). ثم قال الشارح: (وفيه دلالة على أنَّ من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة ... وبإدراك الركعة من إدراك الركوع ثبت أنَّ الفاتحة ليست بركن، ولو كانت ركنًا لفاتت الركعة بفوتها. وأيضًا ثبت أنَّ قراءة الإمام قراءة له؛ بعين هذا الدليل؛ لأنَّ القراءة فرض بالاتفاق، عند البعض الفاتحة، وعند البعض مطلقًا). أقول: فإذا كانت القراءة فرضًا بالاتفاق فكيف يدلُّ هذا الحديث على أنَّ الفاتحة ليست بركن، ولا يدلُّ على أنَّ القراءة ليست بركن، والمسبوق قد ترك القراءة كما ترك الفاتحة. فالصواب أن يقتصر في الاستدلال بهذا الحديث على ما ذكره ثانيًا بقوله: "وأيضًا ثبت ... " إلخ. _________ (1) في "مشكل الآثار" (1099). (2) أخرجه البخاري (783).

(18/34)


فإن قيل: لعلَّه ذكر الاستدلال الأول على سبيل الإلزام؛ أي: أنَّ المسبوق صحَّت ركعته ولم يقرأ الفاتحة، فيلزمكم معشرَ الشافعية أن تقولوا: إن الفاتحة ليست بركن؛ بدليل صحة ركعة المسبوق بدونها. وليس لكم أن تقولوا: يحمل الإمامُ الفاتحةَ عن المسبوق؛ لإنكم لا تقولون بأنَّ قراءة الإمام قراءة للمأموم. قلت: لو كان مراده هذا لما أردفه بالاستدلال الآخر؛ بل كان حق العبارة أن يقول: يلزمكم معشر الشافعية أحد أمرين: إما أنَّ الفاتحة ليست بركن، وإما أنَّ قراءة الإمام قراءة للمأموم. إذا تقرَّر هذا فمن قال من الشافعية: إنَّ من أدرك الركوع أدرك الركعة يختار الشق الثاني في هذه الصورة فقط، فيقول: قراءة الإمام قراءة للمأموم الذي لم يدركه إلاَّ في الركوع. فإن طُولِبَ بالفرق بين المسبوق وغيره فهذا من موضوع مسألة قراءة المأموم، وستأتي إن شاء الله تعالى. [ص 26] (1) وذكر الشارح في باب ما جاء في القراءة خلف الإمام حديث ابن أُكَيمة، ودلالته على النهي عن القراءة خلف الإمام. ثم قال: (فثبت بحديث أبي هريرة النهي عن قراءة الفاتحة خلف الإمام، وهو دليل على نسخ ركنيتها، وعلى هذا إجماع. قال ابن قدامة في "المغني" (2): وأيضًا فإنه إجماع، قال أحمد: ما سمعنا أحدًا من أهل الإسلام يقول: إنَّ الإمام إذا جهر بالقراءة لا تجزئ _________ (1) ملاحظة: ورقة (25) فارغة لم يكتب فيها الشيخ شيئًا. وفي رأس الورقة (26) عنوان هو: (ذكر الصلاة خلف الإمام). (2) (2/ 262) ط. هجر.

(18/35)


صلاة من خلفه إذا لم يقرأ. وقال: هذا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأصحابه، والتابعون، وهذا مالك في أهل الحجاز، وهذا الثوري في أهل العراق، وهذا الأوزاعي في أهل الشام، وهذا الليث في أهل مصر؛ ما قالوا لرجل صلّى وقرأ إمامه ولم يقرأ هو: صلاته باطلة. انتهى). أقول: سيأتي الكلام على حديث ابن أُكيمة في المسألة الرابعة إن شاء الله تعالى، وهناك يتضح لك أنه إن صحَّ فليس فيه النهي عن قراءة الفاتحة، وأنه لو دلَّ على ذلك لكان إما منسوخًا وإما مطَّرحًا؛ لمعارضته ما هو أرجح منه. وننبِّه هاهنا أنه لو صحَّ ودلَّ على نهي المأموم عن قراءة الفاتحة، ولم يكن منسوخًا ولا مطَّرحًا لما لزم من ذلك نسخ ركنية الفاتحة مطلقًا؛ بل تبقى على ركنيتها، ولكن يكفي المأمومَ فاتحةُ إمامه؛ كما يقول الحنفية في مطلق القراءة. وأما الإجماع المزعوم فسيأتي نقضه في المسألة الرابعة إن شاء الله تعالى، ولو ثبت لما لزم منه نسخ الركنية؛ بل غايته الدلالة على أنَّ فاتحة الإمام تكفي المأمومَ في الجهرية؛ كما يقوله الحنفية في القراءة أيضًا. ثم قال الشارح في ذلك الباب: (وإذا ثبت أنَّ صلاة من لم يقرأ خلف إمامه في الجهرية لم تبطل، فعُلِم به أنَّ الفاتحة ليست بركن؛ لأنها لو كانت ركنًا لبطل صلاة من لم يقرأ في الجهرية أيضًا؛ لأنَّ الجهرية والسريَّة سواء في حق الركن. وإذا لم تبق الفاتحة على ركنيتها فلا تجوز قراءتها خلف الإمام مطلقًا؛ لأن قراءتها خلف الإمام كانت مبنية على الركنية؛ كما هو مصرَّحٌ في حديث عبادة).

(18/36)


أقول: فيلزمك على هذا أنَّ مطلق القراءة ليست بركن؛ لأنَّ المأموم إذا لم يقرأ لم تبطل صلاته الخ. فإن قال: قراءة الإمام عندنا قراءة للمأموم. قلنا: وهكذا يقول من يزعم أنَّ المأموم لا يقرأ في الجهرية، يقول: قراءة الإمام في الجهرية قراءة للمأموم. وقولك: "لأنَّ الجهرية والسريَّة سواء في حقِّ الركن" دعوى لا يسلِّمونها لك. بل يقولون: دلَّ الدليل على أنَّ الفاتحة ركن، ودلَّ الدليل على أنه يكفي المأمومَ فاتحةُ إمامه إذا جهر لمصلحة الاستماع، فإذا أسرَّ الإمام زالت هذه المصلحة؛ فرجع إلى الأصل. ولا نطيل النزاع معه، فإننا سنثبت إن شاء الله تعالى أنَّ قراءة الفاتحة لا بد منها للمأموم وإن جهر إمامه.

(18/37)


[ص 28] المسألة الثانية هل تجب الفاتحة في كل ركعة؟ في حديث المسيء صلاته في "الصحيحين" (1) وغيرهما: "إذا قمت إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن ... "؛ فوصف له ركعة، ثم قال: "ثم اصنع ذلك في صلاتك كلها". وفي رواية لأحمد وابن حبان ــ كما في الفتح (2) ــ: "ثم افعل ذلك في كل ركعة". وقد تقدَّم في الكلام على هذا الحديث بيان زيادة الفاتحة في بعض الروايات الصحيحة، وأوضحنا أنه إما أن يكون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ذكر الفاتحة نصًّا؛ بدليل تلك الزيادة، وإما أن يكون لم يذكرها، وإنما ذكر الحمد والثناء والتمجيد وقراءة ما تيسَّر. ولكن الصحابي علم أنَّ ذلك نُسِخ أخيرًا بالفاتحة. وعلى كلا الأمرين يثبت الأمر بالفاتحة في كل ركعة؛ أما على الاحتمال الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأنَّ الفاتحة جُعلت بدلًا عن الحمد والثناء والتمجيد وقراءة ما تيسَّر. والمبدل منه ثابت في كل ركعة؛ فكذا البدل، ويؤكِّده ما تواتر عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من مواظبته على قراءة الفاتحة في كل ركعة، والله أعلم. _________ (1) سبق تخريجه. (2) (2/ 279). وانظر "المسند" (18995) و"صحيح ابن حبان" (1787).

(18/38)


[ص 29] المسألة الثالثة هل تجب الزيادة على الفاتحة؟ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال (1) في شرح الترمذي: (باب ما جاء أنه لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب)، ثم ذكر حديث: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، وزيادة: "فصاعدًا"، وأنها صحيحة؛ لأنَّ مسلمًا ذكرها في "صحيحه" (2)، وسكت عليها أبو داود (3). ثم قال: (ولم أقف على علَّة فيه؛ فهذا الحديث يدلُّ على أنَّ فاتحة الكتاب فصاعدًا ركن الصلاة، لاتجوز الصلاة بدونها، وما نُقل عن الإمام البخاري (4) رحمه الله بأنه ورد لدفع توهُّم قصر الحكم على الفاتحة ففيه أنه ليس في الحديث حكم إلاَّ أنَّ الفاتحة ركن. فيكون معنى الحديث على هذا: أنَّ الركنية ليست منحصرةً في الفاتحة؛ بل تتجاوز عنها إلى زائد عليها؛ فتكون الفاتحة مع زائد ركنًا لها. ولو قيل: إنَّ معناه أنَّ القراءة ليست مقصورة على الفاتحة؛ بل لابد من _________ (1) كتب بعده "مولانا المفتي" ثم ضرب عليها. (2) رقم (394/ 37). (3) رقم (822). (4) هذا ليس من كلام البخاري، بل هو عبارة الحافظ في "الفتح" (2/ 243). وسيأتي التنبيه عليه من المؤلف.

(18/39)


الفاتحة، ولو زاد عليها يجوز. قلنا: ليس الحكم ههنا بقراءة الفاتحة في الصلاة مطلقًا؛ بل الحكم أنَّ القراءة ركن الصلاة، لا تجوز الصلاة بدونها). أقول: زيادة "فصاعدًا" قال فيها إمام الفن محمد بن إسماعيل البخاري (1) رفع الله درجته: "وقال معمر عن الزهري: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب فصاعدًا"، وعامة الثقات لم يتابع معمرًا في قوله: "فصاعدًا"، مع أنه قد أثبت فاتحة الكتاب، وقوله: "فصاعدًا" غير معروف ما أردته [ما أريد به] حرفًا أو أكثر من ذلك؛ إلاَّ أن يكون كقوله: "لا تقطع اليد إلاَّ في ربع دينار فصاعدًا" (2)، فقد يُقطع اليد في دينار وفي أكثر من دينار. قال البخاري: "ويقال: إنَّ عبد الرحمن بن إسحاق تابع معمرًا، وإنَّ عبد الرحمن ربما روى عن الزهري، ثم أدخل بينه وبين الزهري غيره، ولا نعلم أنَّ هذا من صحيح حديثه أم لا". (جزء القراءة ص 1). وحاصله أنه أورد على هذه الزيادة أمورًا: الأول: أنَّ معمرًا تفرَّد بها، ولم يذكرها الأكثر، ومنهم من هو أجلُّ منه وأفقه، ومنهم من هو مثله. وأجاب عن متابعة عبد الرحمن بن إسحاق بما يعلم منه أنه يدلِّس؛ فلا يؤمن أن يكون بينه وبين الزهري ضعيف، لا يصلح للمتابعة. _________ (1) في "جزء القراءة خلف الإمام" (ص 46 - 51) كما سيأتي. ورواية معمر أخرجها مسلم في الموضع المذكور. (2) أخرجه بهذه الزيادة مسلم (1684) من حديث عائشة.

(18/40)


وقد ذكر البخاري عبد الرحمن في موضع آخر من هذا الجزء (1)، وأورد له عدَّة مخالفات، يخالف فيها الثقات. ويجاب عن هذا الأمر بما اشتهر من قبول زيادة الثقة، ويدفع هذا بأنَّ قبولها مطلقًا غير متفق عليه؛ ففي "فتح المغيث" (ص 88) (2): "وقيَّده ابن خزيمة باستواء الطرفين في الحفظ والاتقان، فلو كان الساكت عددًا أو واحدًا أحفظ منه، أو لم يكن هو حافظًا ولو كان صدوقًا فلا، وممن صرَّح بذلك ابن عبد البر؛ فقال في "التمهيد" (3): "إنما تُقبل إذا كان راويها أحفظ وأتقنَ ممن قصَّر أو مثله في الحفظ ... ". ومن قال بقبولها ولو كان المقصِّر أحفظ أو أكثر لا ينكر أن سكوت الأكثر أو الأحفظ عنها يوهِّنها، وهذا مما لا يخفى على ذي معرفةٍ. وعليه؛ فإذا انضمَّ إلى ذلك موهِّن آخر لم ينكر على المجتهد في هذا الفن الماهر فيه أن يردَّها بمجموع [ص 30] الأمرين، وإن كان كل منهما لا يكفي على انفراده. وقد ذكر البخاري رحمه الله موهِّنًا آخر لهذه الزيادة. وهو الأمر الثاني: أنَّ معناها مجمل، لا يُدرى أحرفٌ واحدٌ أم أكثر؛ يعني: والشارع شأنه البيان لا الإجمال. ولها موهِّنٌ ثالثٌ: أنَّ الحديث من رواية الزهري عن محمود بن الربيع _________ (1) (ص 285 وما بعدها). (2) (1/ 246، 247) ط. الهند. (3) (3/ 306).

(18/41)


عن عبادة، وقد ثبت هذا الحديث نفسه بهذا الإسناد نفسه (1) في قصَّة، ولفظه: صلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الصبح؛ فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: "أراكم تقرءون وراء إمامكم؟ " قال: قلنا: إي والله يا رسول الله، قال: "أما لا تفعلوا إلاَّ بأم القرآن؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". وقد جزم بعض الحفَّاظ (2) بأنه حديث واحدٌ جرَّده الراوي تارةً عن قصته، وذكره أخرى بقصته. ولا يخفى على من مارس صناعة الحديث، وعرف تصرُّف الرواة أنَّ هذا هو الظاهر. فقول الشارح فيما يأتي: "إنه لا دليل عليه" ليس مما يلتفت إليه. فإذا عرف هذا عرف أن زيادة "فصاعدًا" لا موقعَ لها في الحديث، بل هي مناقضة له، والله أعلم. ثم إنَّ الإمام البخاري رحمه الله تعالى لم يبتَّ الحكم في ردِّ هذه الزيادة؛ بل ذكر الأمر الثالث؛ وهو أنَّ هذه الزيادة إن صحَّت فلا تقتضي أنه لا صلاة لمن لم يزد على الفاتحة. كما أنَّ هذه اللفظة قد ثبتت في قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "لا تُقطع اليدُ إلاَّ في ربع دينار فصاعدًا"، ولم يفهم منه أحد أنها لا تقطع اليد فيما لم يزد على ربع دينار؛ بل فهموا منه أنها لا تقطع إلاَّ في ربع دينار أو فيما زاد على ربع دينارٍ. وأما ما نقله المفتي عن البخاري فتلك عبارة "فتح الباري"، وكأنها _________ (1) بل من طريق مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة، كما رواه أبو داود (823) والترمذي (311). (2) منهم الترمذي، قال عقب رواية مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة (311): "وروى هذا الحديث الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة ... ". وانظر "فتح الباري" (2/ 242، 243).

(18/42)


تفسير لتنظير البخاري الزيادة في حديث الفاتحة بها في حديث القطع. وهذا لفظ "الفتح" (1): "زاد معمر ... واستدل به على وجوب قدر زائد على الفاتحة، وتعقِّب بأنَّه ورد لدفع توهم قصر الحكم على الفاتحة. قال البخاري في "جزء القراءة" (2): هو نظير قوله: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا". واعتراض المفتي على تلك العبارة بأنها تقتضي أنَّ الركنية ليست قاصرة على الفاتحة يجيء مثله في حديث القطع، فيقال: إنَّ تلك الزيادة إذا قيل إنها لدفع توهُّم قصر الحكم على ربع دينار، اقتضى ذلك أنَّ نصاب السرقة ليس قاصرًا على ربع دينار. ولعلَّ المفتي يُقْدِم على الاعتراض على حديث القطع أيضًا، والله المستعان. وتحقيق الحق: أنه ليس المراد بالحكم في قولهم (دفع توهُّم قصر الحكم) هو النصاب والركنية؛ بل المراد ما يُقطع فيه، وما تصح به الصلاة. وهذا وإن لم يكن هو الحكم المنصوص إلاَّ أنَّ المنصوص يتضمَّنه. وفائدة هذه الزيادة في حديث القطع ظاهرة؛ لأنها لو لم تزد لكان ظاهر اللفظ أنَّ من سرق أكثر من ربع دينار لا يُقطع. وأما في حديث الفاتحة فقد يقال هكذا، وهو أنه لو لم يُؤتَ بها لأمكن أن يتوهَّم متوهِّمٌ أنَّ المراد من لم يقرأ بفاتحة الكتاب فقط؛ فيفهم منه أن من _________ (1) (2/ 243). (2) (ص 48).

(18/43)


لم يقتصر على فاتحة الكتاب فلا صلاة له. ولكن في هذا ضعف. والأولى أن يقال: الفائدة الإشارة إلى أنَّ الزيادة على الفاتحة مرغَّب فيها؛ كما تقول لعُمَّالك: "لا أجرة لمن لم يعمل إلى العصر فصاعدًا". تنبِّههم بقولك (فصاعدًا) على أنَّ الزيادة في العمل بعد العصر مرغوبٌ لك، وإن لم يكن شرطًا لاستحقاق الأجرة. ولو فرضنا صحة ما ذكره المفتي فذلك لا يفيده؛ لأننا نقول: إنَّ الخمس من الإبل نصابٌ، والست نصابٌ، وهكذا السبع والثمان والتسع؛ والواجب في كل ذلك شاةٌ فقط. من كان له خمسٌ وجبت عليه الشاة، ومن كان عنده تسع وجبت عليه الشاة، وهكذا ما بينهما، ومن كانت عنده تسع فالشاة عنها جميعًا، لا عن خمس منها فقط. فأنت ترى أنَّ كون التسع نصابًا تجب فيه الشاة لا يستلزم أن تكون الخمس ليست [ص 31] بنصاب تجب فيه الشاة. فهكذا نقول: إنَّ ربع دينار نصاب يجب في سرقته القطع، وإنَّ ثلث دينار ــ مثلًا ــ نصاب، يجب بسرقته القطع. وهكذا نقول: إنَّ قراءة الفاتحة ركن تتم به الصلاة، وإنَّ قراءة الفاتحة وسورة البقرة ــ مثلًا ــ ركن تتم به الصلاة. والسرُّ في هذا أننا نقول: القراءة مثل القيام؛ فكما أنه إذا قام مقدار دقيقة كان قيامه ركنًا، وإذا قام مقدار ساعةٍ كان قيامه ركنًا؛ فكذا القراءة. وكأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - ــ إن كان تكلَّم بهذه الكلمة ــ زادها دفعًا لما يُتوهَّم من تعيين الفاتحة أنها هي الركن، حتى لو زاد عليها شيئًا من القرآن لا يكون حكمه حكم الركن.

(18/44)


وثمرة كون القيام كله ركنًا وإن طال، وأنَّ ما قُرئ من القرآن بعد الفاتحة حكمه حكم الركن ــ على ما تقدَّم ــ هي زيادة الثواب؛ فإنَّ ثواب الفرض أعظم من ثواب النفل، والله أعلم. واعلم أنَّ ما فهمه الشارح وبعض من تقدَّمه من أنَّ زيادة "فصاعدًا" في حديث الفاتحة يقتضي وجوب الزيادة على الفاتحة= فَهْمٌ تأباه اللغة. قال إمامها أبو عمرو سيبويه في "كتابه" (1): "هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره في غير الأمر والنهي؛ وذلك قولك: أخذته بدرهمٍ فصاعدًا، أو أخذته بدرهمٍ فزائدًا، حذفوا الفعل لكثرة استعمالهم إياه، ولأنهم أمنوا أن يكون على الباء. لأنك لو قلت: "أخذته بدرهم فصاعدٍ" كان قبيحًا؛ لأنه صفة، ولا يكون في موضع الاسم؛ كأنه قال: أخذته بدرهمٍ، فزاد الثمن صاعدًا، أو فذهب الثمن صاعدًا. ولا يجوز أن تقول: "وصاعدٍ"؛ لأنك لا تريد أن تخبر أنَّ الدرهم مع صاعدٍ ثمنٌ لشيء؛ كقولك: بدرهمٍ وزيادة. ولكنك أخبرت بأدنى الثمن؛ فجعلته أولًا، ثم قرَّرت شيئًا بعد شيءٍ لأثمان شتى ... ". أقول: إيضاح عبارته: أنَّ قوله: "أخذته بدرهمٍ فصاعدًا" يقال على ما ذكر الرضي (2) في "ذي أجزاء أخذ بعضها بدرهمٍ، والبواقي بأكثر". فكأنَّ تقديره: أخذت هذا الزيت رطلًا بدرهمٍ فصاعدًا؛ تريد أنَّ بعض الأرطال بحساب الرطل بدرهمٍ فقط، وبعضها بحساب الرطل بدرهمٍ وزيادة. _________ (1) (1/ 146، 147) طبعة بولاق. وسيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان، لا أبو عمرو. (2) "شرح الرضي على الكافية" (1/ 683) ط. جامعة الإمام.

(18/45)


أقول: ويحتمل أن يقال المثال المذكور في شيءٍ واحدٍ، ولكن عند الشك أو التشكيك؛ كأنه يقول: أخذته بدرهمٍ فقط، أو بدرهمٍ وزيادة. فإذا قلت: بِعْهُ [ص 32] بدرهمٍ فصاعدًا، وهو شيءٌ واحدٌ، كان للتخيير؛ كأنك قلت: بعْهُ بدرهمٍ فقط، أو بدرهمٍ وزيادة. هذا أصل المعنى، وإن كان بين العبارتين فرق من وجهين: الأول: أنَّ قولك: "بِعْهُ بدرهمٍ فصاعدًا" لا يُشعِر باستواء الأمرين عندك، بل يرجع إلى القرائن، والقرينة في هذا المثال تقتضي رغبتك في الزيادة. وفي قولك لوكيلك: "اشتره بدرهمٍ فصاعدًا" تُشعِر برغبتك في عدم الزيادة. وقولك: "بِعْهُ بدرهمٍ فقط" أو "بدرهمٍ وزيادة"، "واشتره بدرهمٍ فقط" أو "بدرهمٍ وزيادة" يشعر باستواء الأمرين. الوجه الثاني: أنَّ قولهم: "فصاعدًا" يقتضي زيادة مترقِّية من قليل إلى كثير. وقولنا: "أو بدرهمٍ وزيادة" لا يشعر لفظ "زيادة" بالترقِّي، وإن كان صالحًا له. وفي "لسان العرب" (1): "وقولهم: صنع أو بلغ كذا وكذا فصاعدًا؛ أي: فما فوق ذلك، وفي الحديث: "لا صلاة ... " أي: فما زاد عليها؛ كقولهم: اشتريته فصاعدًا، قال سيبويه: ... ". _________ (1) (4/ 241) ط. بولاق.

(18/46)


وفي "القاموس" (1): "وبلغ كذا فصاعدًا؛ أي: فما فوق ذلك". وقد رُوي حديث القطع بلفظ: "فما فوق" (2) بدل "فصاعدًا"، وقد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26]. وليس المعنى بعوضة مع ما فوقها. وهكذا ما في "صحيح مسلم" (3) عن عائشة رضي الله عنها ترفعه: "ما من مسلمٍ يُشاك شوكةً فما فوقها إلاَّ كُتِبتْ له بها درجة، ومُحِيتْ عنه بها خطيئة". المعنى: يصيبه شوكة أو ما هو فوقها، وليس المعنى: تصيبه شوكة مع زيادة فوقها، أعني أنَّ الأجر المذكور متحقِّقٌ بإصابة الشوكة فقط، وليس المعنى: أنه لا يتحقَّق إلاَّ إذا انضمَّ إلى الشوكة زيادة. واعلم أنَّ قولهم: "فما فوقه" يجيء على وجهين: الأول: أن يكون المراد ما هو أعظم مما قبل الفاء، بدون أن يتضمَّن ما قبل الفاء؛ كما في الآية والحديث. والثاني: أن يكون المراد به ما هو أزيد مما قبل الفاء؛ أي: بحيث يتضمَّن ما قبل الفاء وزيادة؛ كما في حديث القطع؛ لأنَّ المراد بربع دينار فيه ما يساوي ربع دينار اتفاقًا. فكل مالٍ يكون فوق ما يساوي [ص 33] ربع دينار فهو عبارة عما يساوي ربع دينار مع زيادة. فأما قولهم: "فصاعدًا" فإنما تصلح في الوجه الثاني؛ كما يعرف من _________ (1) (1/ 307). (2) عند مسلم (1684/ 3). (3) رقم (2572).

(18/47)


موارد استعمالها. فإن زعم زاعمٌ أنها تستعمل على الوجه الأول أيضًا قلنا له: هب أنّ ذلك كذلك؛ إلاَّ أنها في حديث الفاتحة على الوجه الثاني؛ بدليل الأحاديث الكثيرة في تعين الفاتحة، والإجماعِ على ترك القول بأنَّ الواجب إما الفاتحة وإما سورة أكبر منها أو بعض سورة يكون أكبر منها، والله أعلم. ثم ذكر الشارح حديث أبي داود (1) عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد: "أُمِرْنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسَّر"، وذكر ما يطعن به على هذا الحديث من أنَّ قتادة مدلِّس، وقد عنعن، وأجاب عنه بأنَّ أبا مسلمة قد رواه عن أبي نضرة. وذكر ما يدفع به هذا الجواب؛ من أنَّ أبا مسلمة روى الحديث موقوفًا (2)، وأجاب عن هذا الدفع بما معناه: أنَّ رواية قتادة بيَّنت كون الحديث مرفوعًا، ورواية أبي مسلمة بيَّنت أنَّ أبا نضرة حدَّث بهذا الحديث؛ فكل من الروايتين تَجبُر ما في الأخرى من الخلل. وهذا جوابٌ عجيبٌ، وردُّه واضحٌ؛ وهو أنه إذا ثبتت رواية أبي مسلمة عن أبي نضرة فإنما يثبت بها أنَّ أبا نضرة روى هذا الحديث موقوفًا، ورواية قتادة لا يثبت بها شيءٌ؛ لأننا لا نأمن أن يكون قتادة سمع الحديث من رجل ضعيف، وهذا الضعيف سمع هذا الحديث من أبي نضرة موقوفًا، كما سمعه أبو مسلمة؛ ولكنه زاد الرفع من عنده كذبًا أو غلطًا. _________ (1) رقم (818). قال الحافظ في "الفتح" (2/ 243): سنده قوي. (2) انظر "العلل" للدارقطني (11/ 325).

(18/48)


وقد أجاب الشارح عن تدليس قتادة بأنَّ النووي (1) ذكر أنَّ ما كان في "الصحيحين" وشِبْههما من عنعنة المدلِّسين محمول على السماع. ويُرَدُّ بأنَّ مراد النووي بقوله: "وشبههما" الكتب التي اقتصر جامعوها على إيراد الصحيح فيها، وليس "سنن أبي داود" من ذلك. وهذا أمر معروفٌ بين أهل الفن، مبيَّنٌ في كتبهم. على أنَّ ابن دقيق العيد ناقش في حمل ما في "الصحيحين" من ذلك على السماع (2)، وكذلك الذهبي أشار إلى التوقُّف في ذلك؛ في ترجمة أبي الزبير من "الميزان" (3). وأوضح من هذا أنَّ إمام الفن محمد بن إسماعيل البخاري قد طعن في هذا الحديث بقوله: "ولم يذكر قتادة سماعًا من أبي نضرة في هذا". "جزء القراءة" (ص 11) (4). ثم ذكر الشارح حديث أبي داود (5) وغيره؛ عن أبي هريرة: أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمره فنادى: "أن لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب فما زاد". _________ (1) في "التقريب والتيسير". انظره مع شرحه "تدريب الراوي" (1/ 230). (2) انظر "النكت على كتاب ابن الصلاح" لابن حجر (2/ 635، 636). (3) (4/ 39) قال: "وفي صحيح مسلم عدة أحاديث مما لم يوضح فيها أبو الزبير السماع عن جابر، وهي من غير طريق الليث عنه، ففي القلب منها شيء". (4) (ص 241) ط. الهند 1430. (5) رقم (820). وأخرجه أيضًا أحمد (9529) والدارقطني (1/ 321) والحاكم في "المستدرك" (1/ 239). وتساهل الحاكم فصححه ووثَّق جعفر بن ميمون.

(18/49)


والجواب عنه: بأنَّ جعفرًا ضعَّفه المتقدمون من جهة حفظه (1)، وقال العقيلي في حديثه هذا: لا يتابع عليه (2). على أنَّ قوله: "فما زاد" في معنى قوله: "فصاعدًا"، وقد تقدَّم معناها، وأنها لا تدلُّ على وجوب الزيادة. ويشهد لذلك أنَّ مذهب أبي هريرة الذي كان يفتي به أنه لا يجب [ص 34] إلاَّ الفاتحة. ثم ذكر الشارح حديث ابن ماجه (3) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يرفعه: "لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة في فريضة أو غيرها". والجواب عنه: أنه من رواية أبي سفيان السعدي؛ مجمع على ضعفه، وعبارة الإمام أحمد: ليس بشيء، ولا يكتب حديثه (4). ووجوب سورة مع الفاتحة لم يُنقل عن أحد. وقوله: "في كل ركعة" تردُّه الأحاديث الصحيحة في اقتصار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على الفاتحة في الركعتين الأخريين. فإن قيل: هَبْ أن كلَّ حديث من هذه الأحاديث لا يتمُّ الاستدلال به على انفراده؛ أفلا يتمُّ الاستدلال بمجموعها؟ _________ (1) انظر "تهذيب التهذيب" (2/ 108، 109). (2) "الضعفاء الكبير" (1/ 190). (3) رقم (839). (4) انظر "تهذيب التهذيب" (5/ 12).

(18/50)


قلت: كلا؛ أما حديث ابن ماجه فلا يصلح متابعًا ولا شاهدًا. وأما زيادة "فصاعدًا" ورواية "فما زاد" فلا دلالة فيها على وجوب الزيادة حتى يستشهد بها لهذه المسألة. بل إذا تأملت ما قدَّمنا عرفت أنها تدلُّ على عدم الوجوب. فلم يبق إلاَّ حديث قتادة وحده، وهو لا يصلح حجَّةً، على أنه لو صحَّ لأمكن تأويله؛ بأنَّ المراد بقوله: "أمرنا" القدر المشترك بين الأمر الموجب، والأمر المرغَّب؛ بدليل ما ثبت من أدلة قصر الوجوب على الفاتحة. وهذا التأويل أولى عند أهل العلم من دعوى النسخ التي صار إليها الشارح، والله أعلم. ثم جاء الشارح بالفِتَكْرِيْن (1)؛ فقال: حديث عبادة متروك العمل باتفاق. يريد أنه قد ثبت فيه زيادة "فصاعدًا"، وهي تقتضي وجوب الزيادة على الفاتحة، ووجوب الزيادة متروك باتفاق؛ فلزم أن يكون الحديث كله متروكًا باتفاق، وهذا كما ترى. والطريق المستقيم المعروف بين أهل العلم أن يكون الاتفاق على ترك العمل بهذه الزيادة دليلًا على سقوطها فقط، كيف وقد انضمَّ إلى ذلك ما تقدَّم من توهينها. بل لو اتفق الرواة جميعًا على إثبات هذه الزيادة لما لزم من ترك العمل بها وحدها ترك العمل بالحديث كله، ولا مِن وهن الاحتجاج بها وهنُ _________ (1) أي الداهية أو الأمر العجب العظيم. وتُضبط هذه الكلمة بأوجه، انظر "القاموس" (2/ 107).

(18/51)


الاحتجاج بالحديث كله. [ص 35] ثم ذكر الشارح قولهم: (إنَّ اتفاق الأمة على ترك حديث دليل نسخه أو خطأ رواته). أقول: إنما يصلح هذا لدفع وجوب الزيادة على الفاتحة؛ لأنَّ الأمة اتفقت ــ فيما زعم الشارح ــ على عدم القول بها. فأما الفاتحة فجمهور الأمة قائلون بفرضيتها، وقال الحنفية بوجوبها؛ مع أنَّ دعوى الشارح اتفاق الأمة على عدم القول بما تضمَّنته تلك الأحاديث من الزيادة عجيب، فإنَّ مذهب أصحابه الحنفية أنفسهم أنَّ الزيادة على الفاتحة واجبة. فإن قال: ظاهر الحديث أنها فرض؛ قلت: الحديث عندكم خبر واحد لا يثبت به إلاَّ الوجوب، وإن كان نصًّا في الفرضية. وفي "الفتح" (1): "وصحَّ إيجاب ذلك عن بعض الصحابة ــ كما تقدَّم ــ وهو عثمان بن أبي العاص، وقال به بعض الحنفية، وابن كنانة من المالكية، وحكاه القاضي الفرَّاء الحنبلي في الشرح الصغير رواية عن أحمد". ثم إنَّ الشارح اختار أنَّ الزيادة نسخت أولًا، واحتجَّ بحديث "الصحيحين" (2)، عن أبي قتادة، وفيه: "أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب" الحديث. وعليه تعقبات: الأول: أنَّ الزيادة لم تثبت كما تقدَّم، وتوهين الرواية التي لم تثبت ثبوتًا _________ (1) (2/ 252). (2) البخاري (776) ومسلم (451).

(18/52)


واضحًا أو تأويلها أولى من دعوى النسخ. الثاني: أنها لو ثبتت فليس في الأحاديث التي ساقها الشارح لإثبات الزيادة تصريح بأنها في كل ركعة؛ بل ظاهرها أنها في جملة الصلاة، وفي مذهب الحنفية أنفسهم ما يوافق هذا. الثالث: أنَّ تلك الأحاديث قولية، وحديث أبي قتادة فعلي. ثم ذكر دليلًا آخر؛ وهو حديث عبادة (1): "صلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الصبح؛ فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: أراكم تقرءون وراء إمامكم؟ قال: قلنا: يا رسول الله إي والله، قال: أما لا تفعلوا إلاَّ بأم القرآن؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". وحديث مسلم (2) وغيره؛ عن عمران: "أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صلَّى الظهر؛ فجعل رجلٌ يقرأ خلفه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]؛ فلما انصرف قال: "أيكم قرأ، أو أيكم القارئ"، قال رجلٌ: أنا، قال: "قد ظننت أنَّ بعضكم خالجنيها". [ص 37] (3) أقول: أما حديث عبادة فلفظه في بعض الروايات (4): "لا _________ (1) سبق تخريجه (ص 42). (2) رقم (398). وأخرجه أيضًا أحمد (19815) وأبو داود (828) والنسائي (2/ 140) وغيرهم. (3) ملاحظة: ورقة (36) ضرب عليها الشيخ بعد أن نقَّح ما سوَّده فيها في الصفحة التالية. (4) عند الدارقطني (1/ 320) والبيهقي (2/ 165)، قال الدارقطني: هذا إسناد حسن، ورجاله ثقات كلهم.

(18/53)


يقرأنَّ أحدُكم إذا جهرتُ بالقراءة إلاَّ بأمِّ القرآن". وبقية الروايات بيَّنت أنَّ تلك الصلاة كانت جهرية، وأنَّ القراءة ثقلت على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. فالحديث حجَّة أنَّه - صلى الله عليه وآله وسلم - نهى المقتدين به أن يقرأوا إذا جهر إلاَّ بأم القرآن. ويظهر من ذلك أنَّ الزيادة على الفاتحة ليست بمرتبة الفاتحة، وهذا عندنا مبيَّنٌ؛ لما قدمناه أنَّ وجوب زيادةٍ على الفاتحة لم يثبت وجوبه أصلًا، وشاهدٌ لما قدمنا في حديث المسيء صلاته؛ من احتمال أنه كان الواجب أولًا الحمد والثناء والتمجيد، وقراءة شيءٍ من القرآن، ثم نسخ ذلك بالفاتحة؛ فكانت هي الواجبة وحدها. وأما الشارح فعنده أنَّ هذا ناسخ الأحاديث الآمرة بالزيادة على الفاتحة. وأنت خبيرٌ أنَّ دعوى النسخ مفتقر (1) إلى إثبات تأخُّر هذا الحديث عن تلك، وليس بيد الشارح دليل؛ إلاَّ أنه يقول: دلَّ هذا الحديث أنهم كانوا يقرءون غير الفاتحة، ولا يُظَنُّ بهم أن يقرءوا إلاَّ بإذن شرعي؛ فيظهر أنَّ الإذن هو تلك الأحاديث. ولقائل أن يقول: لا يتعيَّن هذا، لاحتمال أنهم كانوا يقرءون؛ لِما علموا من أنَّ الصلاة موضع القراءة وذكر الله تعالى في الجملة، أو قياسًا على الإمام، أو غير ذلك. ويدلُّ على هذا سؤاله - صلى الله عليه وآله وسلم - إياهم بقوله: "أراكم تقرءون وراء إمامكم"، قالوا: إي والله يا رسول الله، ولو كان قد أمرهم بالقراءة قبل ذلك صريحًا لما اقتضى الحال الاستفهام؛ بل كان حق الكلام أن يقول: كنت أمرتكم بقراءة _________ (1) كذا في الأصل بالتذكير، وقد ضرب المؤلف على هاء التأنيث في آخر الكلمة.

(18/54)


الفاتحة وما تيسَّر إذا كنتم تصلُّون معي؛ فلا تفعلوا إلاَّ بأم القرآن؛ كما قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها" الحديث (1). فالتعارض بين هذا الحديث وبين أحاديث الزيادة من باب العموم والخصوص، مع الجهل بالتاريخ. ومذهب الجمهور حمل العام على الخاص؛ تخصيصًا لا نسخًا. ومذهب الإمام أبي حنيفة وأكثر أصحابه رحمهم الله تعالى التوقُّف أو الترجيح. وعلى قول الجمهور فإنَّ الذي يصحُّ من أحاديث الزيادة إنما يفيد الندب، وهذا الحديث مخصِّصٌ لها، مخرج عنها المقتدي برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما يجهر به - صلى الله عليه وآله وسلم -، هذا ما يدلُّ عليه هذا الحديث. فأما دلالته على أنَّ غير النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مثله في ذلك فلا يصحُّ بالقياس؛ لأنَّ العلَّة هي ثقل القراءة، وهذا أمرٌ روحاني كان يدركه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولا ندرك نحن. [ص 38] (2) وأما على القول بالتوقُّف فيرجع إلى الأصل؛ وهو عدم الوجوب، وأما على القول بالترجيح فالأحاديث المبينة لعدم ندب الزيادة أرجح وأثبت، والله أعلم. _________ (1) أخرجه مسلم (1977) من حديث بريدة. (2) ملاحظة: ضرب الشيخ على أكثر ما في الورقة (38) ولم يبق فيها غير هذين السطرين.

(18/55)


[ص 39] وأما حديث عمران فليس فيه نهيٌ، وإنما فيه أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - قرأ بسبِّح اسم ربِّك الأعلى فأحسَّ بأنه يُخالَج فيها؛ فعرف أنَّ بعض المأمومين قرأها أيضًا، فسألهم لتظهر لهم هذه المعجزة. وهذه المخالجة أمر روحاني كان يحسُّ به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ ففي حديث عبادة نهاهم عن قراءة غير الفاتحة، لا للمخالجة فقط، بل لها ولإخلالها باستماع القراءة لغير موجب؛ لأنَّ الصلاة جهرية كما علمت. وفي حديث عمران لم ينههم؛ لأنَّ المخالجة وحدها ليست علَّة تامة، ولأنها إنما تحصل إذا قرأ المأموم عين السورة التي يقرؤها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهذا لا يتفق دائمًا. وقد ذكر البخاري في "جزء القراءة" (ص 9) (1) هذا الحديث من رواية شعبة عن قتادة، ثم قال: "قال شعبة: فقلت لقتادة: كأنه كرهه؛ فقال: لو كرهه لنهانا عنه". ومع هذا ففي بعض روايات حديث عمران ما يدلُّ أنَّ ذلك القارئ رفع صوته، وسيأتي بيان ذلك، إن شاء الله تعالى. وعليه فيصح قول البيهقي: "وكأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إن كره من القاريء خَلْفَه شيئًا كره الجهر بالقراءة" (سنن ج 2 ص 162). ثم قال الشارح: (وعُلم من هذا الحديث ــ يعني حديث عبادة ــ أنَّ آية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] نزلت بعد هذا؛ _________ (1) (ص 214) طبعة الهند.

(18/56)


لأنَّ فيها نهيًا عن القراءة مطلقًا إذا قُريءَ القرآن، وبعيدٌ عن الصحابة القراءة في الصلاة حال قراءته - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكذا إجازته - صلى الله عليه وآله وسلم - بقراءة أم القرآن خلفه مطلقًا بعد نزول الآية ... ). أقول: الآية مكية اتفاقًا، وحديث عبادة ونحوه وقع بالمدينة اتفاقًا، وسأعقد للآية فصلًا مستقلًّا إن شاء الله تعالى. وإنما أذكر هاهنا ما يردُّ على استدلال الشارح على تأخر نزول الآية. فأقول: قد كان الصحابة رضي الله عنهم يقرؤون خلف الإمام بعد وفاته - صلى الله عليه وآله وسلم -، وسنثبت ذلك فيما يأتي إن شاء الله تعالى. والظاهر البيِّن أنهم كانوا يقرؤون خلف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى أن توفَّاه الله - عز وجل -، ولا شكَّ أنَّ ذلك بعد نزول الآية؛ فكيف يستبعد هذا الأمر الذي قام الدليل على وقوعه؟ ثم من الجائز أن يكونوا فهموا أنَّ الآية خاصة بمن ليس في صلاة؛ بدليل قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78]؛ حيث سمَّى الصلاة قرآنًا. أو فهموا أنَّ المراد الإنصات عن الكلام الأجنبي لا عن القراءة نفسها؛ ظنًّا أنَّ المقصود من الإنصات فهم القرآن وتدبُّره. فإذا كان السامع نفسه يقرأ القرآن فقد حصل له تدبُّر ما يقرأه بنفسه مع زيادة التلاوة. أو فهموا أنَّ المراد بالإنصات ترك رفع الصوت؛ لقوله بعدها: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} الآية [الأعراف: 205]، كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، والاحتمالات كثيرة.

(18/57)


وأما استبعاد أنَّ يأمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بقراءة الفاتحة بعد نزول الآية فخيال عجيب، أَوَلا يكون - صلى الله عليه وآله وسلم - علمَ أنَّ هذه الآية مُخَصَّصة بقوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} وغيرها. [ص 40] مع قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]، والمراد بالسبع المثاني والقرآن العظيم: الفاتحة؛ كما في "الصحيح" (1). وقوله تعالى في الحديث القدسي المشهور: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ... " الحديث (2). فسَّر الصلاة فيه بالفاتحة. أو علمَ أنَّ المراد بالإنصات ترك رفع الصوت. فأما الفاتحة فالمأموم مأمور بقراءتها سرًّا؛ لقوله تعالى عقب آية الإنصات: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} الآية؛ كما يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. وفوق هذا كلِّه لا يمتنع أنَّ الله عزَّ وجلَّ أعلم رسوله بما يفيد تخصيص الآية، ولو لم يدلَّ على ذلك قرآن. والآية مخصصة اتفاقًا فدلالتها على بقية الأفراد ضعيفة؛ حتى قال بعضهم: إنَّ دلالة العام المخصوص على بقية أفراده لا يحتجُّ بها أصلًا، وقال الحنفية: إنَّها دلالة ضعيفة؛ بحيث يرجَّح خبر الواحد عليها. _________ (1) البخاري (4703) من حديث أبي سعيد بن المعلى، و (4704) من حديث أبي هريرة. (2) أخرجه مسلم (395) من حديث أبي هريرة.

(18/58)


وبالجملة فقضيَّة استدلال الشارح أنه إذا تعارض دليلان عام وخاص، ولم يعلم التاريخ يرجَّح العام مطلقًا. وهذا عكس قول أكثر أهل العلم، وخلاف قول الإمام أبي حنيفة وأصحابه، فالله المستعان.

(18/59)


[ص 41] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المسألة الرابعة قراءة المأموم الفاتحة يستدلُّ من أوجبها بقول الله عزَّ وجلَّ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ}، وبحديث المسيء صلاته، فإنَّ في رواية أبي هريرة: "ثم اقرأ بما تيسَّر معك من القرآن"، وفي بعض روايات حديث رفاعة: "ثم اقرأ بأم القرآن" (1). فإنَّ الحنفية احتجُّوا بما ذُكر على فرضية القراءة في الصلاة، وقد قدَّمنا أنَّ أحاديث فرضية الفاتحة إما متواترة وإما مشهورة؛ يلزمهم تقييد القرآن بها، ولو لم تكن متواترة ولا مشهورة لكانت كافية في تقييد القرآن بها عند الشافعية وغيرهم. وأما حديث المسيء صلاته فإذا ثبت فيه ذكر الفاتحة فذاك، وإلاَّ فقد قدَّمنا أنَّ ما فيه من قراءة ما تيسَّر نُسِخ بقراءة الفاتحة. ولما كانت قراءة ما تيسَّر في كلِّ ركعة فكذلك الفاتحة؛ لأنها بدلٌ من ذلك. والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - علَّم الرجل أركان الصلاة، ولم يبيِّن له أنه إذا كان مأمومًا لا يقرأ. وفيه في بعض الروايات: "إنها لا تتم صلاة رجلٍ حتى ... "، وعلى هذه الرواية يكون اللفظ عامًّا يتناول صلاة المأموم. _________ (1) سبق تخريج الحديثين.

(18/60)


ومما يستدلُّون به أحاديث فرضية الفاتحة، وقد تقدَّم بعضها، وهي عامة تتناول صلاة المأموم. ومما يستدلُّون به ما رواه البخاري في "جزء القراءة" والإمام أحمد وابن حبان في "صحيحه" (1) وغيرهم بسند صحيح، عن أبي قلابة عن محمد بن أبي عائشة عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: صلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فلما قضى صلاته قال: "أتقرؤون والإمام يقرأ؟ " قالوا: إنا لنفعل، قال: "فلا تفعلوا؛ إلاَّ أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه". الحديث على شرط مسلم، وفي "سنن البيهقي" (2) تصريح أبي قلابة بالسماع؛ فزالت تهمة تدليسه. ومن ذلك: ما أخرجه ابن حبان (3) وغيره بسند صحيح إلى أبي قلابة عن أنس بن مالك: أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما قضى صلاته أقبل عليهم بوجهه؛ فقال: أتقرؤون في صلاتكم والإمام يقرأ؟ فسكتوا؛ فقال لهم ثلاث مرَّات؛ فقال قائل أو قائلون: إنا لنفعل، قال: فلا تفعلوا [ص 42]، ليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه. قال ابن حبان في "صحيحه" (4): "سمعه ــ يعني أبا قلابة ــ من أنس، _________ (1) "جزء القراءة" (ص 191 - 193) و"المسند" (20765) و"صحيح ابن حبان" (عقب الحديث 1852). (2) (2/ 166). وليس فيه التصريح بالسماع، بل الرواية بالعنعنة. (3) في "صحيحه" (1844، 1852). وأخرجه أيضًا الدارقطني (1/ 340) والبيهقي (2/ 166). (4) عقب الحديث (1852).

(18/61)


وسمعه من ابن أبي عائشة؛ فالطريقان محفوظان". قلت: وجَزْم ابن حبان بأنَّ أبا قلابة سمعه من أنس ربما يرفع تهمة التدليس، وأما البيهقي (1) فزعم أنَّ المحفوظ رواية أبي قلابة عن محمد بن أبي عائشة. والراجح كلام ابن حبان، ولا يجوز الحكم على الثقة بالغلط إلاَّ بحجة بيِّنة. ومن ذلك: قال البخاري في "جزء القراءة" (2): "حدثنا شجاع بن الوليد قال: حدثنا النضر قال: حدثنا عكرمة قال: حدثني عمرو بن سعد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: تقرؤون خلفي؟ قالوا: نعم، إنا لنهذُّ هذًّا، قال: فلا تفعلوا إلاَّ بأم القرآن". النضر هو ابن محمد بن موسى الجُرَشي: ثقة. وعكرمة هو ابن عمَّار: ثقة إذا حدَّث عن غير يحيى بن أبي كثير، وإنما يخشى تدليسه، وقد صرَّح هنا بالسماع. وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه فيه كلام، والراجح توثيقه، وإن صحَّ ما قالوه: إنَّ حديثه عن أبيه عن جدِّه غالبه من صحيفة جدِّه عبد الله بن عمرو، فإنَّ صحيفة عبد الله بن عمرو كتبها بإذن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم بقيت محفوظة عند ذرِّيته؛ فهي حجَّة بلا شبهة. وقد عدَّ ابن حجر (3) عَمْرًا وأباه من المدلِّسين؛ لأنهما كانا يرويان من الصحيفة ولا يبيِّنان، ومثل هذا التدليس لا يضرُّ. فالحديث حسنٌ ولا يعلَّل هذا الحديث بالذي بعده؛ إذ لا يجوز تغليط الثقة إلاَّ بحجة بيِّنة. _________ (1) في "السنن الكبرى" (2/ 166). (2) (ص 174 - 176). (3) في "تعريف أهل التقديس" (ص 123، 120).

(18/62)


ومن ذلك: قال البخاري في "جزء القراءة" (1) أيضًا: حدثنا عتبة بن سعيد عن إسماعيل عن الأوزاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأصحابه: "تقرؤون القرآن إذا كنتم معي في الصلاة؟ " قالوا: نعم يا رسول الله نهذُّ هذًّا، قال: "فلا تفعلوا إلاَّ بأم القرآن". إسماعيل هو ابن عيَّاش؛ وثَّقه الأئمة فيما رواه عن ثقات الشاميين، وحديثه هذا عن الأوزاعي، وهو إمام أهل الشام؛ فالحديث حسن. ومنها: ما في "الجوهر النقي" (2) قال: "وقال عبد الحق: رواه الأوزاعي عن مكحول [عن رجاء بن حيوة] عن عبد الله بن عمرو قال: صلينا مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فلما انصرف قال: "هل تقرؤون إذا كنتم معي في الصلاة؟ "، قلنا: نعم، قال: "فلا تفعلوا إلاَّ بأم القرآن". وفي "التمهيد": خُولِفَ فيه ابن إسحاق؛ فرواه الأوزاعي عن مكحول عن رجاء بن حَيوَة عن عبد الله بن عمرو؛ فذكره. ومنها: قال الإمام أحمد (3): ثنا يزيد بن هارون أنا سليمان ــ يعني ــ التيمي قال: حُدِّثتُ عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "تقرؤون خلفي؟ " قالوا: نعم، قال: "فلا تفعلوا إلاَّ بأم الكتاب". _________ (1) (ص 189 - 190). (2) (2/ 164). وانظر "الأحكام الوسطى" لعبد الحق (1/ 377)، ومنه ما بين المعكوفتين. و"التمهيد" (11/ 46). والحديث أخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" (2099، 3559). وفي إسناده مسلمة بن علي، وهو متروك. (3) "المسند" (22625).

(18/63)


وشيخ التيمي مبهم، والاعتماد على ما تقدَّم. والله أعلم (1). ومن ذلك: قال البخاري في "جزء القراءة" (2): حدثنا يحيى بن صالح قال حدثنا فليح عن هلال عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: دعاني النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فقال: "إنما الصلاة لقراءة القرآن، ولذكر الله، ولحاجة المرء إلى ربِّه؛ فإذا كنت فيها فلْيَكُن ذلك شأنك". فليح هو ابن سليمان، اعتمد عليه الشيخان في "صحيحيهما"، وضعَّفه جماعة. والحديث في "صحيح مسلم" (3) من طريق يحيى بن أبي كثير عن هلال مطوَّلًا. وفيه بيان السبب، وهو: أنَّ معاوية بن الحكم صلَّى مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فعطس رجلٌ؛ فقال معاوية بن الحكم: يرحمه الله؛ فزجره الصحابة - رضي الله عنهم -[ص 43]، فسكت؛ فلمَّا سلَّم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - دعاه؛ فقال: "إنَّ هذه الصلاة لا يصلُح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن"، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. ففي الحديث أمره بالقراءة في الصلاة، مع أنه كان في تلك الصلاة مأمومًا. _________ (1) ملاحظة: من قوله: "ومنها ما في ... " إلى هنا ملحق في هامش (ص/44)، وأشار إلى ذلك اللحق هنا بقوله: (حاشية ص 44)، وأحال عليها هناك بقوله: (ينقل إلى ص 42). (2) (ص 194، 195). (3) رقم (537).

(18/64)


فهذه الأحاديث تنصُّ على أمر المأموم بالقراءة، وهي مؤكِّدة لعموم أحاديث إيجاب الفاتحة وغيرها مما تقدَّم. وهذه الأحاديث تعمُّ الصلاة السريَّة والجهريَّة. ولهم أدلَّةٌ تنصُّ على الجهرية؛ فمنها قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 204، 205]. وسيأتي إن شاء الله تعالى تفسير الآيات مفصَّلًا، وفيه ــ نقلًا ــ عن ابن جرير (1): "يقول تعالى ذكره: {وَاذْكُرْ} أيها المستمع المنصت للقرآن إذا قُرِئ في صلاة أو خطبة {رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ ... وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} يقول: ودعاءٌ باللسان لله في خفاء لا جهار، يقول: ليكن ذكر الله عند استماعك القرآن؛ في دعاء ــ إن دعوت ــ غير جهار؛ ولكن في خفاء من القول". وفي "روح المعاني" (2): "ويُشعر كلام ابن زيد أنَّ المراد بالجهر مقابل الذكر في النفس، والآية عنده خطاب للمأموم المأمور بالإنصات؛ أي: اذكر ربَّك أيها المنصت في نفسك، ولا تجهر بالذكر". أقول: وعلى هذا يكون المراد بالإنصات ترك الجهر. _________ (1) "تفسيره" (10/ 667، 668). (2) (9/ 154).

(18/65)


وسيأتي عن الواحدي (1) قوله: "والعرب تسمِّي تارك الجهر منصتًا، وإن كان يقرأ في نفسه؛ إذا لم يُسمع أحدًا". وفي "الصحيحين" (2) عن أبي هريرة قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا كبَّر في الصلاة سكت هُنيَّةً قبل أن يقرأ؛ فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، أرأيتَ سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: "أقول: اللهم باعدْ بيني وبين خطاياي" الحديث، وهذا لفظ مسلم. ففيه إطلاق السكوت على الحال التي يتكلَّم فيها سرًّا، وسيأتي إيضاح أنَّ الاستماع والإنصات إنما يكون لما يجهر به؛ فإذا كان المراد بقوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} أي في الصلاة ــ كما عليه أكثر المفسِّرين ــ فالمراد به الصلاة التي يجهر الإمام فيها بالقراءة قطعًا، وسيأتي إيضاح هذا كله إن شاء الله تعالى. والمقصود هنا أنَّه مع أمر المأموم أن يستمع وينصت لجهر إمامه بالقراءة أمره بأن يذكر الله تعالى في نفسه؛ تضرُّعًا وخيفة ودون الجهر، ويجب حمل هذا الذكر على قراءة الفاتحة؛ لأنَّ غيرها من الأذكار سواء أكان قرآنًا أو غيره لا ينبغي للمأموم [ص 44] حين يسمع جهر إمامه بالقراءة إجماعًا. فإن ثبت أنَّ الواجب أولًا في القيام كان الجهر والثناء والتمجيد وقراءة ما تيسَّر غير مقيَّد بالفاتحة، وأنَّ الفاتحة إنما وجبت بعد ذلك على احتمال _________ (1) (ص 86). وكلامه في "البسيط" (9/ 568). (2) البخاري (744) ومسلم (598).

(18/66)


تقدَّم في الكلام على حديث المسيء صلاته، وأنَّ الآية نزلت قبل إيجاب الفاتحة بمدَّة= فإنا نقول: الذكر المأمور به في الآية هو ذلك الواجب، ولما نسخ أحلَّت الفاتحة محلَّه. فلما كان مأمورًا به المأموم عند جهر إمامه بالقراءة، فكذلك يكون مأمورًا ببدله وهو الفاتحة. والله أعلم. ومن الأدلة التي تنصُّ على الجهرية: قال الإمام أحمد (1): ثنا يعقوب ثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني مكحول عن محمود بن الربيع الأنصاري عن عبادة بن الصامت قال: "صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الصبح، فثقلت عليه فيها القراءة؛ فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من صلاته أقبل علينا بوجهه فقال: "إني لأراكم تقرؤون خلف إمامكم إذا جهر"، قال: قلنا: أجلْ والله إذن يا رسول الله، إنه لهذًّا؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "لا تفعلوا إلاَّ بأمِّ القرآن؛ فإنه لا صلاة إلاَّ بها" (مسند ج 5 ص 322). وأخرجه الدارقطني (2) من طرق عن ابن إسحاق. وابن إسحاق ثقة، إنما يخشى تدليسه، وقد صرَّح بالسماع. ومكحول إمام؛ ولكن قال البخاري: إنه لم يذكر سماعًا، وهذا من البخاري ــ بناءً على رأيه ــ أنه يشترط للاتصال العلم باللقاء. وقد ردَّ مسلمٌ في مقدِّمة "صحيحه" (3) هذا القول، وحكى الإجماع على أنه يكفي إمكان اللقاء إذا لم يكن الراوي مدلسًا. _________ (1) "المسند" (22745). (2) (1/ 318 - 319) بأربعة طرق عن ابن إسحاق، قال عقب أولاها: هذا إسناد حسن. (3) (1/ 29 وما بعدها).

(18/67)


وإمكان لقاء مكحول لمحمود واضح؛ لأنَّ مكحولًا سكن الشام، ومحمود كان بإيلياء. وفي "تهذيب التهذيب" (1) عن مكحول: "عتقت بمصر فلم أدعْ فيها علمًا إلا احتويت عليه فيما أدري، ثم أتيت العراق والمدينة والشام؛ فذكر كذلك". وعنه قال: "طفت الأرض كلها في طلب العلم". وعن الزهري قال: "العلماء أربعة ــ فذكرهم؛ فقال: ــ ومكحول بالشام". وقد طُعِن في هذا الحديث بمطاعن واهية أشفُّها (2) أنَّ ابن حبَّان (3) قال: "إنَّ مكحولًا ربما دلَّس"، وتبعه الذهبي (4). فقال الحافظ ابن حجر في "طبقات المدلِّسين" (5): "مكحول الشامي الفقيه المشهور، تابعيٌ؛ يقال إنه لم يسمع من الصحابة إلاَّ عن نفر قليل، ووصفه بذلك ابن حبَّان، وأطلق الذهبي أنه كان يدلِّس، ولم أره للمتقدِّمين إلاَّ في قول ابن حبَّان". أقول: إنما أراد ابن حبَّان أنَّ مكحولًا روى عمن لم يلقه؛ فإنَّ علماء الفنِّ ذكروا ذلك في ترجمة مكحولٍ مفصَّلًا، واقتصر ابن حبان على قوله: "وربما دلَّس". وعند ابن حبان والذهبي أن الرواية عمَّن لم يلقه تسمَّى تدليسًا. _________ (1) (10/ 291). (2) ولعل المعنى: أحسنها وأقواها أو أوضحها، من الشفافية. (3) "الثقات" (5/ 447). (4) في "ميزان الاعتدال" (4/ 177). (5) "تعريف أهل التقديس" (ص 156).

(18/68)


وقد بيَّن الأئمة أسماء الذين روى عنهم مكحول ولم يسمع منهم، ولم يذكروا محمودًا؛ وهذا يدلُّك أنَّ مكحولًا إنما كان يروي عمن لم يلقه حيث يعلم الناس أنه لم يلقه، وليس هذا بالتدليس المتعارف (1)؛ إذ ليس فيه إيهام. والحديث صحَّحه ابن حبان والحاكم (2) وغيرهما، وتصحيح ابن حبان له مما يدلُّك على تأويل قوله في مكحول: "ربما دلَّس" بنحو ما قلنا، أو على أنه اطلع على سماع مكحول من محمود لهذا الحديث، والله أعلم. [ص 45] ومنها: ما رواه الدارقطني (3) وغيره بسند صحيح عن زيد بن واقد عن حرام بن حكيم ومكحول عن نافع بن محمود بن ربيعة (4) قال نافع: "أبطأ عبادة عن صلاة الصبح؛ فأقام أبو نعيم المؤذِّنُ الصلاة، وكان أبو نعيم أول من أذَّن في بيت المقدس، فصلى بالناس أبو نعيم، وأقبل عبادة وأنا معه، حتى صففنا خلف أبي نعيم، وأبو نعيم يجهر بالقراءة؛ فجعل عبادة يقرأ بأمِّ القرآن، فلما انصرف قلت لعبادة: قد صنعت شيئًا، فلا أدري أسنة هي أم سهو كانت منك؟ قال: وما ذاك؟ قال: سمعتك تقرأ بأم القرآن وأبو نعيم يجهر. قال: أجل، صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة؛ فالتبست عليه القراءة؛ فلما انصرف أقبل علينا بوجهه؛ فقال: "هل تقرؤون إذا جهرت بالقراءة؟ " فقال بعضنا: إنا لنصنع ذلك، قال: "فلا تفعلوا، _________ (1) بل هو الإرسال الخفي في اصطلاح المحدثين. (2) انظر "صحيح ابن حبان" (1785، 1792، 1848) و"المستدرك" (1/ 238). (3) (1/ 319، 320). (4) في "سنن الدارقطني": "الربيع"، وكلاهما صواب كما سيأتي التنبيه عليه. وانظر "التقريب".

(18/69)


وأنا أقول مالي أنازع القرآن؛ فلا تقرؤوا بشيءٍ من القرآن إذا جهرت إلاَّ بأمِّ القرآن". قال الدارقطني: هذا إسناد حسنٌ ورجاله ثقات كلهم، ثم رواه من طرقٍ أخرى ضعيفة. وقد تكلَّموا في هذا السند بأنَّ نافع بن محمود بن الربيع ــ ويقال: ابن ربيعة ــ مجهول الحال؛ لم يوثقه إلاَّ ابن حبان والدارقطني. وابن حبان يوثِّق كل من روى عن ثقةٍ فأكثر، وروى عنه ثقةٌ فأكثر، ولم يكن حديثه منكرًا؛ كما بيَّن ذلك في كتاب "الثقات" (1). والدارقطني نُقِلَ عنه في "فتح المغيث" (2) أنه قال: "من روى عنه ثقتان فقد ارتفعت جهالته، وثبتت عدالته". والجواب أنَّ الحنفية يوافقون الدارقطني في توثيق المستور؛ فالحديث إذن حجَّةٌ عليهم، وأما نحن فلم نحتجَّ به وحده؛ بل به مع ما انضمَّ إليه من الحجج المتقدِّمة، والله أعلم. وقال ابن حبان في "الثقات" (3): "نافع بن محمود بن ربيعة، من أهل إيلياء، يروي عن عبادة بن الصامت، روى عنه حرام بن حكيم ومكحول، مَتْنُ خَبَرِه في القراءة خلف الإمام يخالف متنَ خبرِ محمود بن الربيع عن _________ (1) (1/ 12، 13). والردّ عليه في مقدمة "لسان الميزان" (1/ 208 - 210). (2) (2/ 51) طبعة الهند. وفي "سنن الدارقطني" (3/ 174): "وارتفاع اسم الجهالة عنه أن يروي عنه رجلان فصاعدًا، فإذا كان هذه صفته ارتفع عنه اسم الجهالة". (3) (5/ 470).

(18/70)


عبادة، كأنهما حديثان أحدهما أتمُّ من الآخر، وعند مكحول الخبران جميعًا عن محمود بن الربيع ونافع بن محمود بن ربيعة، وعند الزهري الخبر عن محمود بن الربيع مختصرٌ غير مستقصى". ومن الغريب ما قاله البخاري في "جزء القراءة" (1): "والذي زاد مكحول وحرام بن معاوية ورجاء بن حيوة عن محمود بن الربيع عن عبادة فهو تبعٌ لما روى الزهري؛ لأنَّ الزهري قال: حدثنا محمود، وهؤلاء لم يذكروا سماعًا". وهذا من البخاري بناءً على رأيه في اشتراط العلم باللقاء؛ ولكن لم نقف على رواية حرام بن معاوية في هذا الحديث، وكأنه أراد حرام بن حكيم؛ فإنه يقال فيه حرام بن معاوية. فيدلُّ هذا على أنهما عند البخاري رجلٌ واحدٌ، وإن فصل لهما ترجمتين في "التاريخ" (2). وبهذا [ص 46] يندفع قول الخطيب ــ كما في "تهذيب التهذيب" (3) ــ: "وهم البخاري في فصله بين حرام بن حكيم وبين حرام بن معاوية؛ لأنه رجلٌ واحدٌ، اختلف على معاوية بن صالح في اسم أبيه". بقي أنَّ حرام بن حكيم لم يروِ عن محمود بن ربيعة، وإنما روى عن نافع بن محمود بن ربيعة؛ فهل يرى البخاري أنَّ نافع بن محمود بن ربيعة هو محمود بن الربيع؛ أخطأ بعض الرواة في اسمه؟ وقد يشهد لهذا أنَّ _________ (1) (ص 307). (2) "التاريخ الكبير" (3/ 101، 102). (3) (2/ 222). وقول الخطيب في "الموضح" (1/ 108). وانظر تعليق المعلمي على "التاريخ الكبير" (3/ 102، 103).

(18/71)


البخاري لم يذكر نافع بن محمود في "تاريخه". فإن صحَّ هذا فالحديث صحيح والله أعلم. وقد راجعت "تاريخ البخاري" فوجدته ذكر في ترجمة حرام بن حكيم أنه روى عن محمود بن ربيعة (1). ووقع في "جزء القراءة" (2): "حدثنا محمود حدثنا البخاري حدثنا صدقة بن خالد حدثنا زيد بن واقد عن حرام بن حكيم ومكحول عن ربيعة الأنصاري ... ". كذا قال (3)، وقد سقط من النسخة رجلٌ أو رجلان، بين البخاري وصدقة (4)؛ فإنَّ صدقة مات قبل أن يولد البخاري بأربع عشرة سنة. ولم أجد في "تاريخ البخاري" ترجمة لربيعة الأنصاري (5)، ولا لمحمود بن ربيعة، ولا لنافع بن محمود؛ إلاَّ أنه في ترجمة حرام بن حكيم ذكر أنه روى عن محمود بن ربيعة، فالله أعلم. وقد روى الدارقطني (6) الحديث من طريق الوليد بن مسلم حدثني غير _________ (1) (3/ 101). (2) (ص 185 - 187). (3) وفي بعض النسخ: "أبي ربيعة" مكان "ربيعة". (4) الساقط هو "هشام بن عمار" كما في النسخة الصحيحة من الكتاب ومطبوعة الهند. (5) قال المؤلف في مسوّدات هذا الكتاب: "وقوله [في "جزء القراءة"]: (عن ربيعة الأنصاري) الصواب: (عن نافع بن محمود بن ربيعة) كما في سنن الدارقطني وغيرها، وهذا من تحريف النساخ". (6) (1/ 319).

(18/72)


واحد منهم سعيد بن عبد العزيز عن مكحول عن محمود عن أبي نعيم أنه سمع عبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "هل تقرؤون في الصلاة معي؟ قلنا: نعم، قال: فلا تفعلوا إلاَّ بفاتحة الكتاب". ثم قال الدارقطني: "وقال ابن صاعد: قوله "عن أبي نعيم" إنما كان أبو نعيم المؤذن، وليس هو كما قال الوليد: عن أبي نعيم عن عبادة". أقول: محمود بن الربيع كنيته أبو نعيم، فالله أعلم. * * * *

(18/73)


حجج القائلين بأنَّ المأموم لا يقرأ فيما يجهر فيه إمامه قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]. قالوا: اتفق السلف على أنَّ هذه الآية نزلت في القراءة في الصلاة. ولما كان الاستماع والإنصات إنما يكون لما يسمع، علمنا أنها خاصة بما جهر فيه الإمام. وقد أخرج مسلم (1) حديث قتادة عن يونس بن جبير عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن أبي موسى مرفوعًا: "إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمَّكم أحدكم؛ فإذا كبر فكبروا" الحديث، عن جماعة. ثم رواه (2) من طريق جرير عن سليمان التيمي عن قتادة، ثم قال: "وفي حديث جرير عن سليمان عن قتادة من الزيادة: "وإذا قرأ فأنصتوا" ... ". وفي بعض النسخ (3) زيادة أدرجها أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان راوي "الصحيح" عن مسلم؛ لفظها: "قال أبو إسحاق: قال أبو بكر ابن أخت أبي النضر في هذا الحديث، فقال مسلم: تريد أحفظَ من سليمان؟ فقال له أبو بكر: فحديث أبي هريرة؟ فقال: هو صحيح؛ يعني: "وإذا قرأ فأنصتوا". فقال: هو عندي صحيح. فقال: لِمَ لمْ تضعه ههنا؟ قال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا؛ إنما وضعتُ ههنا ما أجمعوا عليه". _________ (1) رقم (404/ 62). (2) رقم (404/ 63). (3) انظر طبعة محمد فؤاد عبد الباقي (1/ 304).

(18/74)


قالوا: وقد تُوبع سليمان؛ فرواه الدارقطني (1) من طريق سالم بن نوح ثنا عمر بن عامر وسعيد بن أبي عروبة عن قتادة فذكره، ومتنه: "إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به؛ فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا قرأ فأنصتوا". وأما حديث أبي هريرة فرواه أبو داود والنسائي وغيرهما. فروى أبو داود (2) الحديث من طريق مصعب بن محمد عن أبي صالح بدون هذه الزيادة، ثم قال (3): "حدثنا محمد بن آدم المصيصي ثنا أبو خالد عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "إنما جُعل الإمام ليُؤتمَّ به" بهذا الخبر، زاد: "وإذا قرأ فأنصتوا". قال أبو داود: وهذه الزيادة "وإذا قرأ فأنصتوا" ليست بمحفوظة، الوهم من أبي خالد". قالوا: قد تُوبِع أبو خالد؛ فرواه النسائي (4) عن محمد بن عبد الله المخرَّمي عن محمد بن سعد ــ هو الأنصاري الأشهلي ــ[ص 47] عن ابن عجلان به، والأشهلي ثقة. _________ (1) (1/ 330). قال الدارقطني: سالم بن نوح ليس بالقوي. (2) رقم (603). وأخرجه أيضًا أحمد (8502) بهذا الإسناد. ووقع في الأصل: "محمد بن مصعب" خطأ. (3) رقم (604). وأخرجه أيضًا أحمد (9438) والنسائي (2/ 141، 142) وابن ماجه (846) والدارقطني (1/ 327) وغيرهم من طريق أبي خالد به. (4) (2/ 142). وأخرجه أيضًا بهذا الطريق الدارقطني (1/ 328) والخطيب في "تاريخ بغداد" (5/ 320).

(18/75)


وذكروا متابعات أخرى ساقطة لا نعرِّج عليها (1). قالوا: وقد روى مالك (2) عن ابن شهاب عن ابن أُكيمة الليثي عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - انصرف من صلاةٍ جَهَر فيها بالقراءة؛ فقال: "هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا؟ " فقال رجل: نعم يا رسول الله، قال: "إني أقول مالي أُنازَع القرآن". قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما جهر فيه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالقراءة من الصلوات؛ حين سمعوا ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. ورواه أبو داود (3) عن جماعة منهم ابن السرح، قالوا: ثنا سفيان عن الزهري قال: سمعت ابن أُكيمة يحدِّث سعيد بن المسيِّب قال: سمعت أبا هريرة يقول: "صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صلاةً نظنُّ أنها الصبح ــ بمعناه إلى قوله ــ: مالي أنازع القرآن". قال أبو داود: قال مسدَّد في حديثه: قال معمر: "فانتهى الناس ... "، وقال ابن السرح في حديثه: قال معمر عن الزهري قال أبو هريرة: "فانتهى الناس ... ". _________ (1) منها متابعة محمد بن ميسَّر الصاغاني، أخرجها أحمد (8889) والدارقطني (1/ 330) والبيهقي في "القراءة خلف الإمام" (312). ومتابعة إسماعيل بن أبان الغنوي، أخرجها الدارقطني (1/ 329) والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 156). وكلاهما ضعيف. (2) في "الموطأ" (1/ 86). ومن طريقه أبو داود (826) والترمذي (312) والنسائي (2/ 140، 141). (3) رقم (827).

(18/76)


قالوا: وقد قال يحيى بن معين ــ وهو هو ــ: كفاك قول الزهري: سمعت ابن أُكيمة يحدِّث سعيد بن المسيِّب. وقال الدوري عن يحيى: عمارة بن أكيمة ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، مقبول، وقال يعقوب بن سفيان: هو من مشاهير التابعين بالمدينة (1). وقد عمل الراوي عنه ــ وهو الإمام الزهري ــ بحديثه؛ فإنَّ مذهب الزهري أن لا يقرأ المأموم فيما جهر به إمامه؛ سواءٌ أسمع القراءة أم لم يسمع. وهذا يدلُّ أنَّ ابن أكيمة عنده ثقة. قالوا: وقد أخرج الإمام أحمد وابن ماجه (2) وغيرهما بأسانيد صحيحة من طريق أبي إسحاق السَّبيعي عن الأرقم بن شُرحبيل عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: "لمَّا مرض رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مرضَه الذي مات فيه"، فذكر الحديث إلى أن قال: "فخرج أبو بكر فصلَّى بالناس، ووجد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من نفسه خِفَّةً؛ فخرج يُهادَى بين رجلين، ورِجْلاه تَخُطَّان في الأرض؛ فلمَّا رآه الناس سبَّحوا أبا بكر؛ فذهب يتأخَّر، فأومأ إليه أيْ مكانَك؛ فجاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى جلس، قال: وقام أبو بكر عن يمينه، وكان أبو بكر يأتمُّ بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، والناسُ يأتمُّون بأبي بكر، قال ابن عباس: وأخذ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من القراءة من حيث بلغ أبو بكر ... الحديث. قالوا: فهذا ظاهر أنَّ الصلاة كانت جهرية، وأنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بنى على قراءة أبي بكر، ولابد أن يكون أبو بكر قد قرأ الفاتحة أو بعضها. ففيه دلالة _________ (1) انظر "تهذيب التهذيب" (7/ 411). (2) "المسند" (3355) وابن ماجه (1235). وأخرجه أيضًا الطحاوي في "معاني الآثار" (1/ 405) والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 81).

(18/77)


واضحةٌ أنَّ قراءة الإمام في الجهرية كافية لمن يستخلفه؛ فأن تكفي قراءتُه المأمومين من باب أولى. قالوا: فهذه الأدلة تخصِّص أدلَّتكم العامة، وتعارض الخاصة، وعند المعارضة يترجَّح ما عليه جمهور الأمة. وقد قال الإمام أحمد (1): ما سمعنا أحدًا من أهل الإسلام يقول: إنَّ الإمام إذا جهر بالقراءة لا تجزئ صلاة من خلفه. وقال: هذا النبي، وأصحابه، والتابعون، وهذا مالك في أهل الحجاز، وهذا الثوري في أهل العراق، وهذا الأوزاعي في أهل الشام، وهذا الليث في أهل مصر ما قالوا لرجلٍ صلَّى وقرأ إمامه ولم يقرأ هو: صلاته باطلة. [ص 48] ولنشرع في الجواب، وتقدَّم الكلام على آية الإنصات، ونسأل الله تعالى التوفيق (2). [ص 49] فصل قال الله عز وجل: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ _________ (1) انظر "المغني" لابن قدامة (2/ 262). (2) لم يكتب الشيخ في هذه الصفحة غير هذا السطر.

(18/78)


يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 203 ــ 206]. قال الشارح: (قال ابن قدامة في "المغني" (1): قال أحمد: فالناس على أنَّ هذا في الصلاة. وعن سعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم ومحمد بن كعب والترمذي: أنها نزلت في شأن الصلاة. وقال زيد بن أسلم وأبو العالية: كانوا يقرؤون خلف الإمام فنزلت ... وقال أحمد في رواية أبي داود: أجمع الناس على أنَّ هذه الآية نزلت في الصلاة). أقول: روى ابن جرير في "تفسيره" (2) عن ابن عباس أنه كان يقول في هذه: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} هذا في المكتوبة، وأما ما كان من قصص أو قراءة بعد ذلك فإنما هي نافلة. إنَّ نبي الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قرأ في صلاة مكتوبة، وقرأ أصحابه وراءه فخلطوا عليه. قال: فنزل القرآن: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. فهذا في المكتوبة. وفي سنده ابن لهيعة معنعنًا. وأخرج (3) من طريق أشعث ــ هو ابن سوَّار ــ عن الزهري قال: نزلت هذه الآية في فتًى من الأنصار، كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كلما قرأ شيئًا قرأه، فنزلت: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}. أشعث بن سوَّار ضعيف. _________ (1) (2/ 261). (2) (10/ 664). (3) (10/ 659).

(18/79)


ولكن في "سنن البيهقي" (1) بسند جيِّد عن مجاهد قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقرأ في الصلاة؛ فسمع قراءة فتى من الأنصار؛ فنزلت: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}. وفي "أسباب النزول" (2) للسيوطي: "وقال سعيد بن منصور في "سننه": ثنا أبو معشر عن محمد بن كعب قال: كانوا يتلقَّفون من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ إذا قرأ شيئًا قرؤوا معه حتى نزلت هذه الآية التي في الأعراف: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}. أقول: أبو معشر ضعيف؛ إلاَّ أنه فيما يرويه عن محمد بن كعب من التفسير أحسن حالًا منه في غير ذلك. وقال السيوطي (3) عقب هذا الحديث: "قلت: ظاهر هذا أنَّ الآية مدنية". أقول: والمعروف بين علماء القرآن أنّها مكية. وقد ذكر في النوع الأول من "الإتقان" (4) نصوصَهم على أنَّ سورة الأعراف مكية، واستثنى بعضهم منها آياتٍ ليس هذه منها. [ص 50] وقد قال ابن جرير (5): حدثنا أبوكريب قال ثنا أبو بكر بن عيَّاش _________ (1) (2/ 155). (2) "لباب النقول" (ص 105، 106). وانظر "سنن سعيد بن منصور" (978 - تفسير). (3) في المصدر السابق. (4) (1/ 49، 86) ط. مجمع الملك فهد. (5) في "تفسيره" (10/ 658).

(18/80)


عن عاصم عن المسيّب بن رافع قال: كان عبد الله يقول: كنا يُسلِّم بعضُنا على بعض في الصلاة، سلامٌ على فلان، وسلامٌ على فلان، قال: فجاء القرآن: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ}. أقول: أبو بكر بن عيَّاش ثقة يغلط إذا حدَّث من حفظه؛ ولكن هذا من روايته عن عاصم بن بهدلة، شيخه في القراءة، وهذا مما يتعلَّق بها؛ فالظاهر أنَّه أتقنه، إلاَّ أنه منقطعٌ، المسيّب بن رافع لم يسمع من ابن مسعود، قاله أبو حاتم وغيره (1). ولكن ثبوت هذا الأثر عن المسيّب عمن أخبره عن عبد الله كافٍ في معارضة الآثار المتقدِّمة. وقد أخرج أحمد وأبوداود والنسائي وصحَّحه وابن حبان (2) وغيرهم من طريق عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: كنَّا نُسلِّم في الصلاة، ونأمر بحاجتنا؛ فقدِمتُ على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو يصلِّي، فسلَّمت عليه فلم يردَّ عليَّ السلام، فأخذَني ما قَدُمَ وما حَدُثَ، فلما قضى صلاته قال: "إنَّ الله يُحدِث مِن أمره ما شاء، وإنَّ الله قد أحدث أن لا تَكَلَّموا في الصلاة". وفي روايةٍ (3): "كنا نتكلَّم في الصلاة، ويُسلِّم بعضنا على بعض، ويُومئ أحدنا بالحاجة" الحديث. _________ (1) انظر "تهذيب التهذيب" (10/ 153). (2) "المسند" (3575) وأبو داود (924) والنسائي (3/ 19) وابن حبان (2243، 2244). وأخرجه أيضًا الطحاوي في "معاني الآثار" (1/ 455) والبيهقي (2/ 248، 356) وغيرهما. (3) عند أحمد (4145) والبيهقي (2/ 248).

(18/81)


وأصل الحديث في "الصحيحين" (1)، وسيأتي إن شاء الله تعالى. وفيه دلالة على صحة حديث المسيّب بن رافع، والله أعلم. وقال البخاري في "جزء القراءة" (2): حدثنا محمد بن مقاتل قال حدثنا النضر قال أنبأنا يونس عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لقوم كانوا يقرؤون القرآن فيجهرون: "خلَّطتم عليَّ القرآن". وكنا نسلِّم في الصلاة؛ فقيل لنا: "إنَّ في الصلاة لشُغلًا". وروى ابن جرير (3) أيضًا بسند صحيح إلى عبد الله بن عامر قال: ثني زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة عن هذه الآية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}، قال: نزلت في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في الصلاة. أقول: عبد الله بن عامر أظنه الأسلمي، ضعيف. وأخرج ابن جرير (4) وغيره عن أبي هريرة قال: كانوا يتكلَّمون في الصلاة؛ فلما نزلت هذه الآية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ}، والآية الأخرى _________ (1) البخاري (1199، 1216، 3875) ومسلم (538). (2) (ص 400 - 401). وأخرجه أيضًا أحمد (4309) والبزار (488 ــ زوائد) وأبو يعلى (5397) والدارقطني (1/ 341) وغيرهم. (3) "تفسيره" (10/ 660). وأخرجه أيضًا ابن أبي حاتم في "تفسيره" (5/ 1645) والدارقطني (1/ 326). (4) (10/ 659). وأخرجه أيضًا ابن المنذر في "الأوسط" (3/ 105) والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 155).

(18/82)


أُمِروا بالإنصات. وإبراهيم الهَجَري ضعيف. وأخرج ابن أبي حاتم (1) عن عبد الله بن مغفَّل نحوه. ذكره السيوطي في "أسباب النزول" (2). وأخرج ابن جرير (3) بسند صحيح عن قتادة: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} قال: كان الرجل يأتي وهم في الصلاة، فيسألهم: كم صلَّيتم؟ كم بقي؟ فأنزل الله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}. وأخرج (4) بسند رجاله ثقات عن قتادة أيضًا: قوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} قال: كانوا يتكلَّمون في صلاتهم بحوائجهم أولَ ما فُرضت عليهم؛ فأنزل الله ما تسمعون: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}. وأخرج البيهقي في "السنن" (5) عن عون بن موسى قال: سمعت معاوية بن قرَّة قال: أنزل الله هذه الآية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}، قال: كان الناس يتكلمون في الصلاة. _________ (1) في "تفسيره" (5/ 1646). (2) "لباب النقول" (ص 105). (3) (10/ 662). (4) (10/ 661). (5) (2/ 155).

(18/83)


قال البيهقي: ورواه سعيد بن منصور عن عون، وزاد فيه: "فأنزلها القصَّاص في القصص". أقول: وعون بن موسى ذكره ابن حبان في "الثقات" (1). [ص 51] ومجموع هذه الآثار أثبت من مجموع ما تقدَّم. بقي أن يقال: دلَّت هذه الآثار على أنَّ هذه الآية نزلت عند تحريم الكلام في الصلاة. وقد ثبت في "الصحيحين" (2) عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلَّم في الصلاة؛ يكلِّم أحدُنا صاحبَه وهو إلى جنبه في الصلاة؛ حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فأُمرنا بالسكوت، ونُهينا عن الكلام. هذا لفظ مسلم. لا مانع أن تنزل آيتان من سورتين في وقت واحد متفقتان في الدلالة على حكم، ولكن آية الإنصات مكية باتفاق، وآية القنوت مدنية باتفاق؛ فكيف تنزل آية الإنصات بالمنع من الكلام، ويبقى حلالًا بعد ذلك حتى تنزل آية القنوت؟ والجواب: أنَّ جماعة من أهل العلم تأولوا حديث زيد بن أرقم كما في "فتح الباري" (3)، ورجَّحوا أن تحريم الكلام كان بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين قبل نزول آية القنوت بزمان؛ لأنها مدنية. _________ (1) (7/ 280). (2) البخاري (1200، 4534) ومسلم (539). (3) (3/ 74).

(18/84)


وحجَّتهم حديث ابن مسعود في "الصحيحين" (1) وغيرهما قال: كنَّا نسلِّم على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيردُّ علينا؛ فلمَّا رجعنا من عند النجاشي سلَّمنا عليه فلم يردَّ علينا؛ فقلنا: يا رسول الله كنا نسلِّم عليك في الصلاة فتردَّ علينا؛ فقال: "إنَّ في الصلاة شغلًا". وقد تقدَّم في رواية النسائي (2) وغيره: "فلما قضى صلاته قال: إنَّ الله يُحدِث من أمره ما شاء، وإنَّ الله قد أحدث ألاَّ تكلَّموا في الصلاة". فعلى هذا لا إشكال. ولكن جمع ابنُ حجر بين الحديثين بأنَّ ابن مسعود توجَّه إلى الحبشة مرتين؛ رجع من الأولى قبل الهجرة، ثم توجَّه إلى الحبشة أيضًا، ثم رجع منها بعد الهجرة قبل بدر، فالرجوع الذي ذكره في حديثه هو هذا الثاني. وحديث زيد بن أرقم على ظاهره؛ فعلى هذا يبقى الإشكال بحاله. والجواب ما في "حواشي الشيخ زاده على البيضاوي" (3)، قال: "قال الإمام الواحدي في "الوسيط" (4): ولا تدلُّ الآية على ترك القراءة خلف الإمام؛ لأنَّ هذا الإنصات المأمور به نهي عن الكلام في الصلاة، لا عن القراءة أو عن ترك الجهر بالقراءة خلف الإمام. كما روي عن ابن عباس (5) أنه قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في الصلاة المكتوبة، وقرأ أصحابه وراءه رافعي _________ (1) البخاري (1199، 1216) ومسلم (538). (2) سبق تخريجه. (3) (2/ 393). (4) (2/ 440). وانظر "البسيط" (9/ 568). (5) أخرجه الطبري في "تفسيره" (10/ 664). وقد سبق ذكره.

(18/85)


أصواتهم؛ فنزلت هذه الآية. وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه. والعرب تسمِّي تارك الجهر "منصتًا"، وإن كان يقرأ في نفسه إذا لم يُسمِع أحدًا". (ملحق الجلد الأول ص 293). وعليه فآية الإنصات إنما منعت من رفع الصوت؛ سواء أكان بقراءة، أم بذكر، أم بدعاء، أم بكلام الناس بعضهم بعضًا. وآية القنوت منعت من كلام الناس بعضهم بعضًا مطلقًا ولم تتعرض للقراءة والذكر والدعاء. فالمراد بالإنصات في الآية الإسرار؛ بدليل قوله بعدُ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} الآية. قال ابن جرير (1): "يقول تعالى ذكره: واذكرْ أيها المستمع المنصت للقرآن ــ إذا قريء في صلاة أو خطبة ــ ربَّك في نفسك ... {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} يقول: ودعاء باللسان لله في خفاء لا جهار، يقول: ليكنْ ذكر الله عند استماعك القرآن في دعاء إن دعوت غير جهار؛ ولكن في خفاء من القول". وفي "روح المعاني" (2): "ويُشعر كلام ابن زيد أنَّ المراد بالجهر مقابل الذكر في النفس، والآية عنده خطاب للمأموم المأمور بالإنصات؛ أي: اذكر ربك أيها المنصت في نفسك، ولا تجهر بالذكر". أقول: وفي "الصحيحين" (3) عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - _________ (1) (10/ 667، 668). (2) (9/ 154). (3) البخاري (744) ومسلم (598).

(18/86)


إذا كبَّر في الصلاة سكت هُنَيَّةً قبل أن يقرأ؛ فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، أرأيتَ سكوتك بين التكبير والقراءة؛ ما تقول؟ قال: "أقول: اللهم باعِدْ بيني وبين خطاياي"؛ فذكر الحديث، وهذا لفظ مسلم. فأطلق على تلك الحال سكوتًا؛ مع العلم بأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يتكلَّم فيها ولكن سرًّا. [ص 52]، وإنما قال في الآية: {وَأَنْصِتُوا} ليدلَّ ــ والله أعلم ــ على أنه ينبغي المبالغة في الإسرار. وقال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} فأفرد بعد أن كان الكلام على الجمع ليدلَّ ــ والله أعلم ــ على أنه ينبغي المبالغة بالإسرار حتى يُسمِع الإنسان نفسه فحسب. ولو قال: "واذكروا ربكم في أنفسكم" لتوهَّم أنه لا بأ س بأن يرفع صوته قليلًا بحيث يُسمِع أصحابَه. وإنما جاز لهم بعد هذا أن يكلِّم أحدهم صاحبه إلى جنبه لأنَّ المقصود من كلام بعضهم بعضًا لا يحصل إلاَّ بهذا؛ بخلاف القراءة والذكر والدعاء. ومما يشهد لهذا المعنى أثر ابن عباس المتقدِّم (1): أنه كان يقول في هذه {وَاذْكُرْ رَبَّكَ} ... إلخ. وهذا هو السرُّ في ذكره الآية الثانية. فقوله فيه: "وقرأ أصحابه وراءه فخلَّطوا عليه" أراد قرؤوا رافعين أصواتهم؛ فتدبَّر! ومثله قول محمد بن كعب (2): "كانوا يتلقَّفون من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ إذا _________ (1) في "تفسير الطبري" (10/ 664). وقد سبق ذكره. (2) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (978 - تفسير). وسبق ذكره.

(18/87)


قرأ شيئًا قرؤوا معه". وعليه يحمل ما قاله ابن قدامة في "المغني" (1)؛ حيث قال: "وقال زيد بن أسلم وأبو العالية: كانوا يقرؤون خلف الإمام فنزلت". هذا إن صحَّ عنهما. وكذا ما تقدَّم عن ابن مسعود (2): "كنَّا يسلِّم بعضُنا على بعض في الصلاة" إلخ. فأما ما تقدَّم عن أبي هريرة (3) قال: "نزلت في رفع الأصوات، وهم خلف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في الصلاة"؛ فظاهر. وأما ما مرَّ عنه من قوله (4): كانوا يتكلَّمون في الصلاة؛ فلما نزلت هذه الآية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ}، والآية الأخرى أُمِروا بالإنصات؛ فمراده بالإنصات هو ما حملناه عليه في الآية. ويدلُّ على هذا قوله: "والآية الأخرى"، وقد علمت أنَّ الآية الأخرى قرينة ظاهرة على ذلك. ونحوه قول ابن مغفَّل (5). فأما قول قتادة (6): "كان الرجل يأتي وهم في الصلاة، فيسألهم: كم _________ (1) (2/ 261). (2) سبق تخريجه. (3) في "تفسير الطبري" (10/ 660) و"سنن الدارقطني" (1/ 326). (4) أي قول أبي هريرة في "تفسير الطبري" (10/ 659) والبيهقي (2/ 155). (5) في "تفسير ابن أبي حاتم" (5/ 1646). (6) في "تفسير الطبري" (10/ 662).

(18/88)


صليتم؟ كم بقي" إلخ. وقوله (1): "كانوا يتكلَّمون في صلاتهم بحوائجهم أولَ ما فُرِضت عليهم". وقول معاوية بن قرَّة (2): "كان الناس يتكلَّمون في الصلاة"= فالمراد بذلك كلِّه السؤال والكلام جهرًا، وهو الذي منعتهم منه هذه الآية، وبقي الكلام مسارَّةً مباحًا لهم حتى نزلت آية القنوت. ولذلك قال زيد (3): "فيكلِّم أحدُنا صاحبَه وهو إلى جنبه في الصلاة"؛ وهذا ظاهر في المسارَّة. فأما ما مرَّ عن مجاهد (4): كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقرأ في الصلاة، فسمع قراءة فتى من الأنصار؛ فنزلت: وذكر الآية= فإن صحَّ فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه [ص 53] وآله وسلَّم لما سمع ذلك الفتى يرفع صوته تلا الآية بعد السلام؛ تنبيهًا لذلك الفتى بأنَّ الآية منعت المأموم عن رفع الصوت؛ فسمعه بعض صغار الصحابة، فظنَّ أنَّ الآية إنما نزلت حينئذٍ. ولهذا نظائر في أسباب النزول. ومن يجيز تعدد نزول الآية الواحدة يجيء احتماله هنا، والله أعلم. وهكذا ما تقدَّم عن الزهري (5)؛ إن صحَّ. وقال البخاري في "جزء القراءة" (6): "وقال مجاهد: إذا لم يقرأ خلف _________ (1) في المصدر السابق (10/ 661). (2) في "السنن الكبرى" (2/ 155). (3) عند البخاري (1200) ومسلم (539). (4) في "السنن الكبرى" (2/ 155). (5) في "تفسير الطبري" (10/ 659، 662). (6) (ص 119).

(18/89)


الإمام أعاد الصلاة". وأخرج ابن جرير (1) عن يُسَير بن جابر قال: صلَّى ابن مسعود فسمع ناسًا يقرؤون مع الإمام؛ فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفقهوا؟ أما آن لكم أن تعقلوا؟ {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} كما أمركم الله. يحتمل أنه إنما أنكر عليهم رفع أصواتهم حتى سمعهم، والرفع مخالف للآية كما علمت. وأخرج (2) أيضًا من طرقٍ عن مجاهد وغيره في هذه الآية قالوا: في الصلاة. وهذا مجملٌ، ليس فيه مخالفة لما اخترناه، والله أعلم. على أنَّ مذهب مجاهد أنَّ من لم يقرأ خلف الإمام يعيد الصلاة؛ ذكره البخاري في "جزء القراءة" (3)؛ كما مرَّ. وأخرج (4) عن الزهري أنَّ المأمومين يقرؤون فيما أسرَّ به الإمام، ولا يقرؤون فيما جهر به سرًّا ولا علانيةً، وتلا الآية. وهذا مذهب الزهري، معروفٌ عنه، وقد وهم في حمل الآية عليه، والله المستعان. _________ (1) "تفسيره" (10/ 659). (2) (10/ 660، 661). (3) (ص 119). (4) أي ابن جرير في "تفسيره" (10/ 664).

(18/90)


ويحتجُّ من يرى أنَّ الإنصات في الآية السكوت للاستماع بأنه الحقيقة، وبحديث: "إنما جُعِلَ الإمام ليؤتمَّ به"، وفيه: "وإذا قرأ فأنصتوا". يقول: لا يحتمل تأويل قوله: "فأنصِتوا" بأنَّ المراد فأَسِرُّوا؛ لأنَّ حكم المأموم الإسرار مطلقًا؛ فكيف يقيِّده بقوله: "وإذا قرأ"؟ وإذا ثبت أنَّ المراد في الحديث حقيقة الإنصات دلَّ هذا على أنَّ الإنصات في الآية على حقيقته؛ لأنَّ الظاهر أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما قال ذلك إشارة إلى الآية. والجواب عن الأول: أننا قد قدَّمنا بيان القرائن والأدلة الصارفة عن الحقيقة. وعن الثاني: بأنَّ الحديث مختلف في صحَّته؛ كما يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. وعلى القول بصحَّته فإن قلنا: إنه إشارة إلى الآية فذلك قرينة على أنَّ المراد بالإنصات: الإسرار، وإنما قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: "وإذا قرأ" [ص 54] لأنه موضع الحاجة؛ لأنه لما قال لهم: "إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به؛ فإذا كبَّر فكبِّروا" احتمل أن يفهموا من ذلك: "وإذا جهر بالقراءة فاجهروا"؛ فاحتيج إلى إزالة هذا الوهم. فإن قيل: فإنَّ الإمام يجهر بالتكبيرات، فإذا أمكن أن يتوهَّموا الجهر بالقراءة أمكن أن يتوهَّموا الجهر بالتكبيرات. قلت: لكن احتمال الوهم في التكبيرات دون احتماله في القراءة؛ لأنه لا يخفى أن جهْرَ الإمام بالتكبيرات إنما هو للإعلام بالانتقالات؛ ولهذا يجهر الإمام بها دائمًا، والمأموم لا يحتاج إلى أن يُعلِم غيره.

(18/91)


فأما القراءة فليس المقصود بالجهر بها الإعلام، واحتمال أن يكون المقصود بالجهر بها إسماعَ المقتدين يدفعه أنَّ المنفرد يجهر أيضًا، وأنهم قد علموا أنَّ المؤتمَّ يقرأ أيضًا. ولا يدفع هذا الوهم أن الآية قد سبق نزولها بالأمر بالإنصات؛ لاحتمال أن يتوهَّموا أنَّ قوله: "إنما جعل الإمام ليؤتمَّ به" تخصيص للآية بالنسبة إلى القراءة. مع أنَّ مثل هذا وارد على المخالف؛ إذ يقال له: إذا كان الإنصات في الآية ينافي القراءة سرًّا فلماذا قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "وإذا قرأ فأنصتوا"؟ وهلاَّ اكتفى بالآية؟ وجوابه: بأنه زاده تنبيهًا على الدليل، وتأكيدًا له. وهكذا نقول مع زيادة دفع الإيهام. وكأني بك لا يطمئنُّ قلبك إلى هذا التأويل؛ ولكنك إذا تأملت ما تقدَّم، وعلمت أنَّ الآية مكية اتفاقًا، وأنَّ تحريم الكلام في الصلاة إنما كان بالمدينة علمت الاحتياج إلى التأويل. وقد فُتِحَ عليَّ بمعنًى آخر لعلَّه أقرب من الأول؛ وهو أن يقال: الإنصات على ظاهره، والآية إنما منعت من الكلام حال قراءة الإمام جهرًا، وبقي الكلام مباحًا في غير ذلك من الحالات، كحال قراءته سرًّا، وحال الركوع والسجود وغير ذلك؛ حتى حرم ذلك بالمدينة. وعلى هذا فيقال: الأمر بالإنصات يعمُّ الإنصات عن كلام الناس، وعن القراءة، وعن الذكر. ولكن دلَّ قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} إلخ على اختصاص النهي بكلام الناس، وأما ذكر الله تعالى بقرآن أو غيره فلم ينه عنه، ولكن أمر

(18/92)


بالإسرار به. فإن قلت: هذا أقرب لإبقائه اللفظ على حقيقته؛ ولكن بقي فيه شيءٌ من حيث المعنى، وهو أنَّ الاستماع والإنصات إنما فائدته تفهُّم ما يقرأه الإمام وتدبُّره، وهذه الفائدة تزول بالاشتغال بالذكر ولو سرًّا. قلت: أما زوالها ففيه نظر؛ فقد يقرأ الإنسان سرًّا وهو مع ذلك يفهم قراءة غيره في الجملة. نعم إذا لم يشتغل بالقراءة كان فهمه لكلام غيره أتمَّ. ولكن قد يقال: دلَّ قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} أنَّ تفهُّم قراءة الإمام إنما أمر به من يريد الاشتغال عنه بكلام الناس. فأما من يريد الاشتغال عنه بقراءة أو ذكر فلا؛ لأنه قد حصل له ما هو أتمُّ من الاستماع. ويؤكِّد هذا أن تفهُّم قراءة الإمام لم يقل أحدٌ بوجوبه، حتى لو اشتغل المأموم بالتفكر في شيء من أمر معاشه لم يقل أحدٌ بأنه آثم. ومع هذا فنحن نَقْصُر الذكر المأمور به على الذكر الواجب، وهو قراءة الفاتحة، وأنت خبير أن تحصيل الواجب أولى من تحصيل المستحب. هذا مع أن أدلة وجوب الفاتحة تساعد على التخصيص الذي ذكرنا، بل تعيِّنه. وسيأتي تقرير هذا إن شاء الله تعالى. هذا تحقيق الكلام في معنى الآية؛ مع التقيُّد بما نُقل عن السلف. فأما إذا صرفنا النظر عما نقل عنهم فسقوط الاحتجاج بها أوضح، ودونك البيان: قال في "الكشَّاف" (1): "وقيل معناه: وإذا تلا عليكم الرسول القرآن عند _________ (1) (2/ 111) ط. دار المعرفة.

(18/93)


نزوله فاستمعوا له". وكذا قال أبو السعود، ثم قال: "والآية إما من تمام القول المأمور به أو استئناف من جهته تعالى؛ فقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} على الأول عطف على {قل} ". (ج 1 ص 546) (1). [ص 55] وحاصل ذلك أنَّ الآية من جملة ما أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يقوله للكفار الذين يطلبون، الذين تقدَّم أنه إذا لم يأتهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بآية قالوا: {لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا}. فالخطاب بقوله: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} للكفَّار. وقد أوضح ذلك في "روح المعاني" (2) قال: "وقال بعضهم: إنَّ الخطاب فيها للكفَّار؛ وذلك أنَّ كون القرآن بصائر وهدى ورحمة لا يظهر إلاَّ بشرط مخصوص وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا قرأ عليهم القرآن عند نزوله استمعوا له وأنصتوا؛ ليقفوا على معانيه ومزاياه، فيعترفوا بإعجازه، ويستغنوا بذلك عن طلب سائر المعجزات. وأيَّد هذا بقوله سبحانه وتعالى في آخر الآية: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}؛ بناء على أن ذلك للترجي، وهو إنما يناسب حال الكفار، لا حال المؤمنين؛ الذين حصل لهم الرحمة جزمًا في قوله تعالى: {وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. وأجيب بأنَّ هذه الرحمة المرجُوَّة غير تلك الرحمة، ولئن سُلِّم كونها إياها فالإطماع من الكريم واجب، فلم يبق فرق". _________ (1) "إرشاد العقل السليم" (3/ 310) ط. دار الفكر. (2) (9/ 153).

(18/94)


وقال بعد ذلك بأسطر (1): "والجملة على ما يدل عليه كلامهم يحتمل أن تكون من القول المأمور به، ويحتمل أن تكون استئنافًا من جهته تعالى". أقول: أما "لعلَّ" فقد قال تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] فقيل: إنها للترجية؛ أي: اذهبا على رجائكما. وقيل: للتعليل. فهكذا يقال في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}؛ أي راجين أن تُرحَموا، أو لكي تُرحَموا. فإن قيل: وهل تُرْجَى الرحمة للكفار بمجرَّد استماعهم وإنصاتهم؟ قلت: يُرجى من استماعهم وإنصاتهم أن يؤمنوا؛ فإذا آمنوا رُحِموا. وفي الآية إشارة إلى قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصِّلت: 26]. ونظيرها في إحالتهم على القرآن إذا طلبوا آية معجزةً قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 50، 51]. وفي هذه الآية ذكر الرحمة، وقال أكثر المفسِّرين إنَّ المعنيَّ بقوله {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}: لقومٍ مُوطِّنين أنفسَهم على الإيمان إذا تبيَّن لهم الحق؛ بخلاف المعاندين. _________ (1) (9/ 154).

(18/95)


أقول: والظاهر أنَّ يقال في آية الأعراف مثل ذلك. ومن نظائر الآية قوله سبحانه: {وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [طه: 133]. [ص 56] وقوله تبارك اسمه: { ... فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ... لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء 5 ــ 10]. أقول: وتفسير الآية على هذا القول هكذا: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ} أي المشركين؛ وهذا متفق عليه، {بِآيَةٍ} بمعجزةٍ؛ كما رُوِيَ عن ابن عباس والجبَّائي وأبي مسلم؛ على ما في "روح المعاني" (1)، ويشهد له الآيات المتقدِّمة. وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37]. وقوله سبحانه: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]. وقوله عز وجل: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27]. وقوله تبارك وتعالى: {وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ _________ (1) (9/ 149).

(18/96)


إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [يونس: 20]. {قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا} اصطفيتها واخترتها واقترحتها على ربِّك. أخرج ابن جرير (1) عن ابن عباس: قوله: {لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا} يقول: لولا تقبلتها من الله. وعن قتادة: لولا تلقَّيتها من ربِّك. وقال آخرون: لولا اخترعتها؛ وأيَّدوه بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} [الأعراف: 203]، وهو مناسبٌ للأول؛ أي: ليس لي أن أقترح على ربِّي، وإنما عليَّ أن أتَّبع ما يوحيه إليَّ (2). ثم علم أنهم سيقولون: فهلَّا أنزلها ربُّك بدون طلبك؟ كما تقدَّم نحو ذلك في الآيات التي تلوناها. فأجيبوا عن ذلك بقوله تعالى: {هَذَا} أي القرآن، {بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي: كفى به آيةً لمن كان موطِّنًا نفسه على أن يتَّبع الحق إذا ظهر له. ثم علِمَ الله تعالى أنهم سيقولون: فما بالنا لم يحصل لنا ذلك؟ ولا نسلِّم أننا معاندون؛ فقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي: أنَّ السبب في كون ذلك لم يحصل لكم هو عنادكم؛ والدليل [ص 57] على عنادكم قولكم: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]. فاستمعوا له وأنصتوا، فلا تَلْغَوا، ولا تأمروا باللغو؛ فإن فعلتم _________ (1) في "تفسيره" (10/ 656). (2) في الأصل: "إليه".

(18/97)


ذلك رُجِيَ أن يحصل لكم البصائر والهدى والرحمة. واقتصر على الرحمة لدلالتها على الباقي، مع أنها المقصود الأعظم للإنسان. ولا مانع من تسليم ما تقدَّم عن "روح المعاني"؛ من أنَّ الإطماع من الكريم واجبٌ؛ فإنَّ الإطماع في الآية مشروط بالاستماع والإنصات. ولنا أنَّ نقول: لو استمعوا وأنصتوا لهداهم الله تعالى للإيمان؛ فتحصل لهم الرحمة قطعًا. قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 68، 69]. والكافر إذا استمع للقرآن وأنصت إليه، راغبًا في العلم به أهو حق أم لا، مصمِّمًا على أنه إذا عرف أنه الحق اتبعه، موطِّنًا نفسه على ذلك، منشرحًا صدره مطمئنًا قلبه، لا يجد في نفسه عداوةً لما يتبيَّن له أنه الحق= فهو مجاهدٌ في الله بلا ريب. وبهذا تنحلُّ المعضلة المشهورة في الكافر إذا اجتهد في طلب الحق، وبذل وُسعَه في ذلك، راغبًا في معرفته، مُحِبًّا له، عازمًا على اتباعه إذا ظهر له، ولكنه لم يظهر له حقِّيَّة الإسلام= أيكون ناجيًا لأنَّ الله تعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} أم لا؟ حُكي الإجماع على أنه لا ينجو، وخالف فيه بعض أهل العلم. وآية المجاهدة تدلُّ أنَّ مثل هذا لا يوجد؛ لأنه إذا كان بهذه الصفة هداه الله تعالى للإسلام، ولله الحمد. ويحتمل أن يكون قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} قيدًا لما قبله، أي

(18/98)


استمعوا للقرآن وأنصتوا له، راجين أن يهديكم الله تعالى للحق فيرحمكم، أي أنه لا يكفيكم الاستماع والإنصات بدون توطين النفوس على الرضا بالحق إذا تبيَّن، والله أعلم. ولما علم الله تعالى أن نبيَّه - صلى الله عليه وآله وسلم - قد يفهم مما تقدَّم، ومِن أمْرِ الله تعالى له في آيات كثيرة بالتبليغ أنَّ عليه أن يجهر بالقراءة دائمًا، ويؤكّد هذا عنده - صلى الله عليه وآله وسلم - شدَّةُ حرصه على إيمان قومه= لما علم الله تعالى ذلك [ص 58] نبَّه رسوله على أنه لا يلزمه ذلك؛ فقال سبحانه: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}، وقوله سبحانه: {وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ}؛ أي: ولا يحمِلْك حرصُك على إيمان قومك واشتغالك بدعوتهم على أن تغفل عن مناجاة ربك وذكره، وتلاوة كتابه، وإن لم يكن هناك من يسمع. ولا يحزنْك إعراضُ الكفار وإصرارهم على كفرهم واستكبارهم عن عبادة ربهم؛ فإنهم لا يضرُّون الله تعالى شيئًا. وقد وكَّل بعبادته من لا يعلم عددَهم غيرُه من جنوده: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206]. ولا يخفى أنه على هذا التفسير لا يكون في آية الإنصات ما يتعلَّق بقراءة المأموم في الصلاة، والله أعلم. قال الشارح: (ويشهد لهذا المعنى ــ يعني أنَّ الآية نزلت في الصلاة أو لعمومها شاملة للصلاة ــ ما رواه أحمد ومسلم (1) عن أبي موسى قال: علَّمنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "إذا قمتم إلى الصلاة فلْيؤمَّكم أحدُكم، وإذا قرأ الإمام _________ (1) "المسند" (19723) و"صحيح مسلم" (404).

(18/99)


فأنصتوا". وما رواه الخمسة (1) سوى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "إنما جُعِلَ الإمام ليؤتم به؛ فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا قرأ فأنصتوا"). أقول: إذا حُمِلت الآية على المعنى الثاني فلا حاجة للجواب عن هذا؛ لأنها في وادٍ والحديث في وادٍ، والاتفاق في بعض اللفظ لا يستلزم الاتفاق في المعنى. وإذا حملت على المعنى الأول تمسُّكًا بأقوال السلف، واعتصامًا بآثارهم فقد مرَّ الجواب. ولنبحث عن صحَّة هذا الحديث، ونسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق. أما حديث أبي موسى فمداره على قتادة، ورواه عنه أبو عوانة وهشام ومعمر وهمَّام والحجَّاج بن الحجَّاج وغيرهم بدون تلك الزيادة، ورواه عنه سليمان التيمي بها (2). فمال مسلمٌ (3) إلى إثباتها؛ فإنه ذكرها وقال لمن كلَّمه فيها: "تريد أحفظ من سليمان! ". وفي "الجوهر النقي" (4) عن "علل الخلاَّل": أنَّ الإمام أحمد قال: "من قال أخطأ التيمي فقد بَهَتَ التيمي". _________ (1) "المسند" (9438) وأبو داود (604) والنسائي (2/ 141، 142) وابن ماجه (846). (2) انظر "علل الدارقطني" (7/ 252 - 254). (3) عقب الحديث رقم (404). (4) (2/ 155).

(18/100)


وقال أبو داود في "السنن" (1): وقوله: "فأنصتوا" ليس بمحفوظ؛ لم يجئ بها إلاَّ سليمان التيمي في هذا الحديث. وقال الدارقطني (2): هذه اللفظة [ص 59] لم يتابَع سليمان التيمي فيها عن قتادة، وخالفه الحفَّاظ فلم يذكروها. قال: وإجماعهم على مخالفته يدلُّ على وهمه. وقال الحافظ أبوعلي النيسابوري (3): خالف جرير عن التيمي أصحابَ قتادة كلَّهم في هذا الحديث، والمحفوظ عن قتادة رواية هشام الدستوائي وهمَّام ... ورواه سالم بن نوح عن ابن أبي عروبة، وعمر بن عامر عن قتادة؛ فأخطأ فيه. ذكر هذا كلَّه البيهقي في "سننه" (4)، ثم ذكر رواية سالم بن نوح من طريق الدارقطني، وذكر قول الدارقطني: سالم بن نوح ليس بالقوي. اعترضه صاحب "الجوهر النقي" (5) فقال: "سالم هذا وإن قال الدارقطني: ليس بالقوي، فقد أخرج له مسلمٌ وابن خزيمة وابن حبان ... ". أقول: لم ينفرد الدراقطني بتوهين سالم؛ فقد قال الدوري عن ابن معين: ليس بشيءٍ، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتجُّ به، وقال النسائي: _________ (1) عقب الحديث رقم (973). (2) انظر "العلل" (7/ 252 - 254) و"سنن الدارقطني" (1/ 331). (3) كما نقل عنه البيهقي في "السنن" (2/ 156). (4) في الموضع المذكور. (5) (2/ 155).

(18/101)


ليس بالقوي، وقال ابن عدي: عنده غرائب وأفراد، وأحاديثه محتملة متقاربة (1). ومع هذا فسالمٌ يرويه عن ابن أبي عروبة وعمر بن عامر، فأما ابن أبي عروبة فإنه ثقة، ولكنه اختلط بأخرة، ولا يُدرى متى سمع منه سالم، إن كان سمع. ثم هو ــ أعني ابن أبي عروبة ــ مدلس، فلا يُؤمَن أن يكون سمع الحديث من قتادة بدون هذه الزيادة كما أخرجه مسلمٌ، ثم سمع التيمي يذكر الحديث بتلك الزيادة؛ فسمعه منه بها ودلَّسه. وعمر بن عامر مختلفٌ فيه؛ ضعَّفه النسائي وغيره، وقوَّاه آخرون (2). فانحصر الأمر في زيادة التيمي، وهي زيادة ثقة على جماعة، والمشهور قبولها. وخالف في ذلك قومٌ؛ منهم ابن خزيمة. وقال السخاوي في "فتح المغيث" (3) في فصل تعارض الوصل والإرسال: "فالحق حسب الاستقراء من صنيع متقدِّمي الفن ــ كابن مهديٍّ والقطَّان وأحمد والبخاري ــ عدمُ اطراد حكم كلِّي؛ بل ذلك دائرٌ مع الترجيح. فتارة يترجَّح الوصل، وتارة الإرسال، وتارة يترجَّح عدد الذوات على الصفات، وتارةً العكس. ومن تتبَّع أحكامهم الجزئية تبيَّن له ذلك ... مع أنَّ الشافعي يقول: العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد ... هذا حاصل ما أفاده شيخنا مع زيادة. _________ (1) يراجع "تهذيب التهذيب" (3/ 443). (2) انظر المصدر السابق (7/ 467). (3) (1/ 203، 204) ط. الهند.

(18/102)


وسبقَه لكون ذلك مقتضى كلام الأئمة: العلائيُّ، ومِن قبله ابن دقيق العيد وغيرهما". أقول: ومثل ذلك يقال في الزيادة والنقصان؛ فإنَّ الوصل زيادة، والإرسال نقصان. [ص 60] وهذا هو الذي يظهر من صنيع المتقدِّمين؛ أنَّ العبرة عندهم بالترجيح؛ فتارةً تترجَّح الزيادة، وإن كان الذين لم يذكروها أكثر، وتارةً بالعكس. وذلك منوطٌ بنظر المجتهد الماهر في الفنِّ؛ فقد يقوم لديه من القرائن ما يجهله من ليس في درجته؛ بل ربَّما صعب على المجتهد التعبير عن تلك القرائن؛ كما ذكروه في المعلَّل. إذا تقرَّر هذا فقد اختلف الحفَّاظ في هذه الزيادة؛ زيادة: "وإذا قرأ فأنصتوا". فالذي أختاره التوقُّف عن قبولها وردِّها، والله الموفق. ثم رأيت في "جزء القراءة" (1) للبخاري، في الكلام على هذه الزيادة: "ولم يذكر سليمان في هذه الزيادة سماعًا من قتادة، ولا قتادة من يونس بن جبير". يعني: وسليمان وقتادة يدلِّسان. أقول: ولكن سليمان صرَّح بالتحديث في رواية ابنه المعتمر عنه، عند أبي داود (2). فأما قتادة فلم أقف على تصريحه بالتحديث؛ فإن كان صرَّح في بعض الروايات الخالية عن هذه الزيادة لم يكف ذلك؛ لأنه يحتمل أن يسمع _________ (1) (ص 413). (2) رقم (973).

(18/103)


الراوي الحديث من الشيخ ثم يسمعه من آخر عنه. فلعلَّ قتادة سمع الحديث من أبي غلاب بدون الزيادة، وسمعه من آخر عنه بالزيادة؛ فرواه مرَّةً بهذه الزيادة عن أبي غلاب؛ يريد: حدثني رجل عن أبي غلاب؛ كما عُرِفَ في التدليس. فإن قيل: فإنَّ ذِكْر مسلم له في "صحيحه" (1)، وقد قالوا: إنَّ ما كان في "الصحيحين" من عنعة المدلِّسين محمول على السماع (2). قلت: قد ناقش في ذلك ابن دقيق العيد وغيره، ومن قال بذلك يخصُّه بغير المتابعات والشواهد. وبعدُ، فلا حاجة لتفصيل ذلك، بعد أن طعن إمام الفن البخاري في هذه الزيادة بتهمة التدليس، والله أعلم. وقد وقعت هذه الزيادة بعينها في حديث أبي هريرة كما ذكره الشارح؛ فرواه أبو داود (3) من طريق أبي خالد الأحمر عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة. قال أبو داود: "زاد "وإذا قرأ فأنصتوا"، قال أبو داود: وهذه الزيادة "إذا قرأ فأنصتوا" ليست بمحفوظة، الوهم عندنا من أبي خالد". أقول: أبو خالد قال فيه ابن معين: صدوق، وليس بحجَّة. وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة، وإنما أُتيَ من سوء حفظه؛ فيغلط ويخطئ، وهو _________ (1) رقم (404). وخبر "إنّ" مفهوم مما يأتي. (2) "تدريب الراوي" (1/ 230). (3) رقم (604).

(18/104)


في الأصل كما قال ابن معين: صدوق وليس بحجَّة. وقال أبو بكر البزَّار في كتاب "السنن": ليس ممن يلزم بزيادته حجة؛ لاتفاق أهل العلم بالنقل أنه لم يكن حافظًا، وأنه قد روى أحاديث عن الأعمش وغيره لم يتابع عليها (1). ولكن قد تابع أبا خالد محمدُ بن سعد الأنصاري الأشهلي عند النسائي (2)، والأشهلي ثقة. وتابعه أيضًا إسماعيل بن أبان ــ هو الغنوي ــ عند البيهقي (3). ولكن إسماعيل متفق على تركه؛ رماه ابن معين وابن حبان بوضع الحديث، وقال أحمد: روى أحاديث موضوعة، وقال أبو داود: كان كذَّابًا (4). وتابعه أبو سعد محمد بن ميسَّر الصاغاني عند الدارقطني (5)، وقال: ضعيف. فالعمدة على متابعة الأنصاري. وقد روى البيهقي (6) عن الحاكم عن الدوري قال: سمعت يحيى بن معين يقول في حديث ابن عجلان "إذا قرأ فأنصتوا": ليس بشيءٍ. وعن أحمد بن محمد بن الحارث عن أبي الشيخ عن ابن أبي حاتم _________ (1) "تهذيب التهذيب" (4/ 181، 182). (2) (2/ 142). (3) في "السنن الكبرى" (2/ 156). (4) "تهذيب التهذيب" (1/ 271). (5) في "السنن" (1/ 330). (6) في "السنن الكبرى" (2/ 156، 157).

(18/105)


قال: سمعت أبي، وذكر هذا الحديث؛ فقال أبي: ليست هذه الكلمة محفوظة؛ هي من تخاليط ابن عجلان (1). قلت: ابن عجلان ثقةٌ عندهم؛ ولكن حكى عنه القطَّان حكايةً (2) تدلُّ على سوء حفظه في الجملة، وعلى تدليس. وفي "الميزان" (3): قال الحاكم: أخرج له مسلمٌ في كتابه ثلاثة عشر حديثًا كلها شواهد، وقد تكلَّم المتأخرون من أئمتنا في سوء حفظه. وقال الذهبي (4): وقد روى عن أنس؛ فما أدري هل شافه أنسًا، أو دلَّس عنه. [ص 61] وذكره الحافظ ابن حجر في "طبقات المدلِّسين" (5) في الطبقة الثالثة في من أكثر من التدليس؛ فلم يحتجَّ الأئمة من أحاديثهم إلاَّ بما صرَّحوا فيه بالسماع. وقال: وصفه ابنُ حبان بالتدليس. وذكر البيهقي (6) أنَّ خارجة بن مصعب ويحيى بن العلاء الرازي تابعا ابن عجلان، وهذا لا يفيد؛ فإنهما هالكان. ولعلَّ ابن عجلان دلَّس الحديث عن أحدهما أو غيرهما. _________ (1) المصدر السابق. (2) انظر "تهذيب التهذيب" (9/ 342). (3) (3/ 644). (4) في "الميزان" (3/ 647). وقال في "السير" (6/ 318): "قيل إنه روى عن أنس بن مالك، وذلك ممكن إن صح". (5) (ص 149 - 150). (6) في "السنن الكبرى" (2/ 157).

(18/106)


فالراجح ردّ هذه الزيادة. فأما مسلمٌ ــ رحمه الله ــ فإنه وقع في بعض نُسَخ "صحيحه" زيادة زادها الراوي عنه أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان، بعد ذكر حديث التيمي (1). وحاصلها: أنَّ أبا بكر بن [أخت] أبي النضر تكلَّم في زيادة التيمي؛ فقال له مسلم: تريد أحفظ من سليمان؟ فسأله عن حديث أبي هريرة ــ يعني بزيادة ابن عجلان ــ فقال: هو عندي صحيح، فقال: لِمَ لَمْ تضعه ههنا؟ يعني في "الصحيح"؛ فقال: ليس كل شيءٍ عندي صحيح وضعتُه ههنا، إنما وضعت ما أجمعوا عليه. أقول: فهذه مذاكرة، والعالم لا يحتاط في المذاكرة احتياطه في التصنيف ونحوه، ومع ذلك فقوله: "إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه" مشكلٌ. وقد ذكر النووي في مقدمة "شرح مسلم" (2) أنَّ ابن الصلاح أجاب عنه بجوابين، ثم قال ابن الصلاح: "ومع هذا فقد اشتمل كتابه على أحاديث اختلفوا في إسنادها ومتنها لصحتها عنده، وفي ذلك ذهولٌ منه عن هذا الشرط أو سبب آخر، وقد استُدرِكت وعُلِّلت". أقول: وعبارة مسلم المذكورة تدلُّ أنَّ هذه الزيادة عنده أنزلُ درجةً من كل ما ذكره في "الصحيح"؛ حتى على سبيل المتابعة والشواهد، وهذا كما ترى. _________ (1) رقم (404/ 63). (2) (1/ 16). وانظر "صيانة صحيح مسلم" (ص 13).

(18/107)


وعلى كل حال فالراجح ردُّ هذه الزيادة، والله أعلم. ثم اعلم أنَّ حديث أبي هريرة في "الصحيح" (1) من طرقٍ بدون هذه الزيادة، وفي "الصحيح" أيضًا من حديث عائشة (2) وأنس (3) وجابر (4) نحو حديثه بدون هذه الزيادة، وفي حديث هؤلاء ما حاصله أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - اشتكى؛ فصلَّى جالسًا فصلُّوا خلفه، فأشار إليهم أن يقعدوا، فلمَّا سلَّم قال: فذكروا الحديث. وبيَّن أنس سبب الشكوى، وهو أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - سقط عن فرس؛ فجُحِشَ شِقُّه الأيمن. قال في "الفتح" (5): وأفاد ابن حبان أنَّ هذه القصة كانت في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة. وإذا صحَّ هذا فأبو هريرة لم يشهد القصة؛ لأنه إنما أسلم سنة سبع، وإنما سمعها من غيره من الصحابة المتقدمين؛ كما يقع مثل ذلك كثيرًا. ولم يصرِّح أبو هريرة بالسماع من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. إذا تقرَّر هذا فلو صحَّت تلك الزيادة وصحَّت دلالتها على نهي المأموم عن القراءة مطلقًا، أو في الجهرية فقط، لأمكن أن يقال: هي منسوخة _________ (1) البخاري (722، 734) ومسلم (414). (2) البخاري (688، 1113، 1236) ومسلم (412). (3) البخاري (689، 732 ومواضع أخرى) ومسلم (411). (4) مسلم (413). (5) (2/ 178). وانظر "صحيح ابن حبان" (5/ 492).

(18/108)


بأحاديث إيجاب الفاتحة [ص 62]؛ فإنَّ منها ما يُعلم أنه متأخر عن هذا التأريخ؛ كما تقدَّم في المسألة الأولى. وأما حديث أبي موسى فهو متأخر عن هذا التاريخ حتمًا؛ لأنه إنما قدم على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أيام خيبر، وقد صرَّح في حديثه بقوله (1): "إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - خطبنا؛ فبيَّن لنا سنَّتنا، وعلَّمنا صلاتنا؛ فقال ... " الحديث. فإن صحَّت تلك الزيادة فيه فالإنصات عند أهل اللغة قد يطلق على ترك الجهر؛ كما تقدَّم عن الواحدي مع شواهده. نعم، الظاهر أنَّه بهذا الإطلاق مجاز ولكن قد قدمنا بيان القرينة الدالة عليه في الآية، فلنا: أن نقول بأنه في الحديث ــ إن صحَّ ــ مجاز، جمعًا بينه وبين أدلَّة وجوب الفاتحة. ومثل هذا الجمع أولى من النسخ. ولنا أن نسلِّم أنه على حقيقته؛ وهي السكوت لأجل الاستماع، ثم نقول: السكوت الذي تضمنه الإنصات عبارة عن ترك الكلام. فقوله: "أنصتوا" في قوة قولنا: "اتركوا الكلام لكي تسمعوا". والكلام في هذا عام، قراءة الفاتحة فردٌ من أفراده، وحديث مكحول عن محمود ونافع عن عبادة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خاص، وقد عضدَه عمومات كثيرة وما قدمناه عن الصحابة رضي الله عنهم؛ فوجب العمل به. على أنه لو لم يصحَّ حديث مكحول لوجب أيضًا تخصيص الكلام الذي نُهِي عنه في قوله: {وَأَنْصِتُوا} بتلك العمومات الكثيرة؛ لأنَّ تخصيص عموم دليل أولى من تخصيص عموم دليلين، وتخصيص عموم _________ (1) "صحيح مسلم" (404).

(18/109)


دليلين أولى من تخصيص عموم ثلاثة أدلة، وهكذا. ولأنَّ الأمر بالفاتحة مشدَّدٌ فيه بأنه لا صلاة إلاَّ بها، ونحو ذلك، والأمر بالإنصات غير مشدَّدٍ فيه للاتفاق أنه لو لم ينصت لم تبطل صلاته. لا يقال: إنَّ لعموم الكلام المنهي عنه بالإنصات مرجحًا أيضًا؛ وهو أنه لم يخصَّص قبل هذا. فإننا نقول: بل قد خُصِّص بحديث "الصحيحين" (1): "من نابَه شيءٌ في صلاته فليسبِّح"، وأحاديث الفتح على الإمام. مع أنَّنا نختار ما اختاره البخاري وجماعة من الشافعية أنَّ المأموم إذا لم يقرأ الفاتحة لا يدرك الركعة وإن أدرك الإمام راكعًا (2). وعلى هذا فتكون أحاديث إيجاب الفاتحة غير مخصَّصة إلاَّ بما هو في قوة الاستثناء المتصل كما قدَّمنا ذلك، وذلك لا يضر. وهذا الكلام بعينه يجيء في تخصيص آية الإنصات؛ على تسليم أنَّ الإنصات فيها على حقيقته، وأنها في أمر المأمومين بالإنصات للإمام، والله أعلم. [ص 63] وأما حديث ابن شهاب عن ابن أكيمة الليثي عن أبي هريرة: أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - انصرف من صلاةٍ جهر فيها بالقرآن؛ فقال: هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا؟ فقال رجل: نعم، أنا يا رسول الله؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "إني _________ (1) البخاري (684، 1234) ومسلم (421) من حديث سهل بن سعد الساعدي. (2) للمؤلف في هذا الموضوع رسالة ضمن هذه المجموعة.

(18/110)


أقول مالي أُنازَع القرآن" (1). وبُيِّن في روايةٍ (2): أنَّ تلك الصلاة كانت الصبح. وفي بعض الروايات (3) زيادة: "فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ". وقد أخرج [ص 64] أبو داود (4) هذا الحديث عن القعنبي عن مالك عن ابن شهاب قال في آخره: "فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما جهر فيه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالقراءة من الصلوات؛ حين سمعوا ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ". ثم أخرجه (5) عن مسدَّد، وأحمد بن محمد المروزي، ومحمد بن أحمد بن أبي خلف، وعبد الله بن محمد الزهري، وابن السرح عن سفيان عن الزهري؛ فذكره بدون هذه الزيادة. ثم قال: قال مسدَّد في حديثه: قال معمر: "فانتهى الناس ... "، وقال ابن السرح في حديثه: قال معمر عن الزهري قال أبو هريرة: "فانتهى الناس". وقال عبد الله بن محمد الزهري من بينهم: قال سفيان: "وتكلَّم الزهري بكلمة لم أسمعها"؛ فقال معمر: "إنه قال: فانتهى الناس". _________ (1) سبق تخريجه. (2) هي رواية أبي داود (827). (3) في "الموطأ" (1/ 86) وغيره. (4) رقم (826). (5) أي أبو داود (827).

(18/111)


قال أبو داود: ورواه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري، وانتهى حديثه إلى قوله: "مالي أُنازع القرآن". ورواه الأوزاعي عن الزهري قال فيه: قال الزهري: "فاتعظ المسلمون بذلك؛ فلم يكونوا يقرؤون معه فيما يجهر به - صلى الله عليه وآله وسلم - ". قال أبو داود: سمعت محمد بن يحيى بن فارس قال: قوله: "فانتهى الناس" من كلام الزهري. وأخرجه البخاري في "جزء القراءة" (1) عن عبد الله بن محمد عن الليث عن يونس عن ابن شهاب، وفيه: "قال: فانتهى الناس ... ". قال البخاري (2): وقوله: "فانتهى الناس" من كلام الزهري، وقد بيَّنه لي الحسن بن صبَّاح قال: حدثنا مبشِّر عن الأوزاعي قال الزهري: فاتعظ المسلمون ... وقال مالك: قال ربيعة للزهري: "إذا حدثتَ فبيِّنْ كلامك من كلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ". ثم رواه (3) عن [أبي] الوليد عن الليث عن الزهري؛ فذكره بدون تلك الزيادة. أقول: يبقى النظر في ما قاله ابن السرح، والظاهر أنه سمع سفيان يقول ما ذكره عبد الله بن محمد الزهري. ففهم من ذلك أنَّ تلك الزيادة من تمام الحديث، وخشي إن قال كما قال مسدَّد، أن يكون ظاهر ذلك أنَّ هذه الزيادة _________ (1) (ص 227). (2) (ص 230). (3) (ص 231).

(18/112)


من قول معمر؛ فعبَّر عبارة صريحة بما فهمه، بناءً على جواز الرواية بالمعنى. وفي صحَّة هذا الحديث كلام؛ قال البيهقي (1): "راويه ابن أُكيمة الليثي، وهو رجلٌ مجهولٌ لم يحدِّث إلاَّ بهذا الحديث وحده، ولم يحدِّث عنه غير الزهري، ولم يكن عند الزهري من معرفته أكثر من أنْ رآه يحدِّث سعيد بن المسيِّب". ثم أسند (2) عن الحميدي شيخ البخاري [ص 65] قال: "هذا حديث رواه رجل مجهول، ولم يرو عنه غيره قطُّ". اعترضه صاحب "الجوهر" (3)؛ فقال: "أخرج حديثه ابن حبان في "صحيحه" (4)، وحسَّنه الترمذي (5)، وقال: اسمه عُمارة، ويقال: عمرو. وأخرجه أيضًا أبو داود (6)، ولم يتعرَّض له بشيءٍ، وذلك دليل على حسنه عنده؛ كما عُرِف. وفي "الكمال" لعبد الغني: روى عن ابن أُكيمة مالك ومحمد بن عمرو، وقال ابن سعد (7): توفي سنة إحدى ومئة، وهو ابن تسع وسبعين. _________ (1) "السنن الكبرى" (2/ 159). (2) المصدر نفسه. (3) "الجوهر النقي" (2/ 158). (4) رقم (1849). (5) عقب الحديث رقم (312). (6) رقم (826). (7) "الطبقات" (5/ 249).

(18/113)


وقال ابن أبي حاتم (1): سألت أبي عنه؛ فقال: صحيح الحديث، حديثه مقبول. وقال ابن حبان في "صحيحه" (2) اسمه عَمْرو، هو وأخوه عُمر ثقتان. وقال ابن معين (3): روى عنه محمد بن عمرو وغيره، وحسبك برواية ابنِ شهاب عنه. وفي "التمهيد" (4): كان يحدِّث في مجلس سعيد بن المسيِّب؛ وهو يصغي إلى حديثه، وبحديثه قال ابن شهاب (5)، وذلك دليل على جلالته عندهم وثقته" (6). قلت: وتتمة عبارة ابن سعد (7): روى عنه الزهري حديثًا واحدًا؛ ومنهم من لا يحتج بحديثه، ويقول: هو [شيخ] مجهول. وفي "التهذيب" (8): وقال أبو بكر البزَّار: ابن أكيمة ليس مشهورًا بالنقل، ولم يحدِّث عنه إلاَّ الزهري. _________ (1) "الجرح والتعديل" (6/ 362). (2) (5/ 159). (3) انظر "التمهيد" (11/ 22، 90). (4) (11/ 22، 23). (5) في الأصل تبعًا للجوهر النقي: "وتحديثه قال هو ابن شهاب" والتصويب من "التمهيد". (6) إلى هنا انتهى النقل من "الجوهر النقي". (7) في "الطبقات" (5/ 249). (8) "تهذيب التهذيب" (7/ 411).

(18/114)


وقد حقَّق في "تهذيب التهذيب" (1) أنَّ الذي روى عنه الزهري اسمه عمارة بن أكيمة، ولم يرو عنه غير الزهري، وأما الذي روى عنه مالك ومحمد بن عمرو؛ فذاك حفيده عَمْرو بن مسلم بن عمارة. أقول: والحق أنه وإن لم يرو عنه إلاَّ ابن شهاب؛ فإنَّ ذلك مع شهرة الرجل كافٍ في معرفته، رافع لجهالة عينه، وتبقى جهالة حاله. وقد قال ابن معين: كفاك بقول الزهري: سمعت ابنَ أُكيمة يحدِّث سعيدَ بن المسيِّب. وقال الدوري عن يحيى: ثقة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث مقبول؛ كذا في "تهذيب التهذيب" (2). وقال صاحب "الجوهر" (3): "صحيح" بدل: "صالح". وذكره ابن حبان في "الثقات" (4)، وأخرج له في "صحيحه" (5)، وإن خبط في اسمه ونسبه، وزعم أنَّ حفيده أخوه. وحسَّن الترمذيُّ حديثَه. ومنشأ ما قاله هؤلاء أمران: الأول: أنَّ الزهري سمعه يحدِّث سعيد بن المسيِّب؛ فاستدلَّ ابن معين _________ (1) في الموضع السابق. (2) (7/ 410، 411). (3) (2/ 158). وفي "الجرح والتعديل" (6/ 362) كما في "الجوهر النقي". (4) (5/ 242). (5) (5/ 159). قال: "اسم ابن أُكيمة: عمرو بن مسلم بن عمّار بن أُكيمة، وهما أخوان: عمرو بن مسلم وعمر بن مسلم". وهذا خطأ لم يوافقه عليه أحد.

(18/115)


بهذا على أنه كان مقبولًا عند ابن المسيِّب. فأما رواية الدوري فيردُّ عليها أنَّ ابن معين كان يظنُّ أنَّ هذا الرجل ــ أعني ابن أُكيمة ــ هو وحفيده واحد؛ ولذلك قال: "روى عنه محمد بن عمرو وغيره". ويحتمل أنه إنما عرف الثقة في الذي روى عنه محمد بن عمرو، وظنَّه شيخ الزهري. وهذا الاحتمال مانع من العمل بتوثيقه. الثاني: أنهم لم يستنكروا حديثه، وهذا الأمر هو حاصل عبارة أبي حاتم، وعمدة ابن حبَّان؛ فإنه يوثِّق المجهول الذي يروي عن ثقة، ويروي عنه ثقة؛ إذا كان حديثه غير منكر، ويُخرِّج له في "صحيحه". وأما الترمذي فإنه متساهلٌ في التحسين؛ حتى قال الذهبي في تصحيحه وتحسينه ما قال. [ص 66] فأما الأمر الأول فالمنصف يعلم أنَّ مثله لا يكفي في التوثيق؛ فقد يكون ابن المسيِّب يجهل حال هذا الرجل، ورأى أنَّ حديثه يمكن أن يكون صحيحًا بالتأويل الذي سنذكره إن شاء الله تعالى، ومنعه تواضعه وكرم أخلاقه أن يستقبل ابن أكيمة بما يكره مع احتمال صحَّة حديثه. وقد وقع لغير ابن أكيمة كما وقع له فلم يُعدَّ ذلك توثيقًا؛ فقد روى الزهري عن أبي الأحوص مولى بني ليث عن أبي أيوب وأبي ذر وغيرهما. وقال الزهري في بعض الروايات الصحيحة عنه: سمعت أبا الأحوص مولى بني ليث في مجلس ابن المسيِّب، ومع ذلك قال الدوري عن ابن معين: ليس بشيء. فقال ابن عبد البر (1): قد تناقض ابن معين، وذكر قوله في ابن أكيمة؛ _________ (1) كما في "تهذيب التهذيب" (12/ 5).

(18/116)


قال: فيلزمه مثل هذا في أبي الأحوص. أقول: ليس هذا اللزوم بأولى من عكسه؛ بل العكس أولى، وهو أنه يلزمه أن يقول في ابن أكيمة مثل قوله في أبي الأحوص، والله أعلم. وأما الأمر الثاني فالاستناد إليه في التوثيق ضعيف جدًا؛ فإنَّ الضعيف والكذَّاب قد يروي حديثًا ليس بمنكر. فإذا لم يروِ الرجل إلاَّ حديثًا واحدًا، وكان غير منكر؛ فأنَّى يُعلَمُ بذلك أنه ثقة؟ على أنَّ الأفهام تختلف في الحكم بالنُّكْرة، وقد لا يستنكر العالم الحديث؛ لأنه ينزِّله على معنى معروف، فيصحِّحه بناءً على ذلك؛ فيجيء من يتمسَّك بالحديث وينزِّله على معنى آخر. [ص 67] وإن حكمنا بتوثيق ابن أكيمة فقد علمتَ أنَّ زيادة "فانتهى الناس" إلخ مدرج من قول الزهري؛ فلا يبقى إلاَّ سؤال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أصحابه: "هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا؟ "، وقول أحدهم: نعم، أنا يا رسول الله، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "وأنا أقول مالي أنازع القرآن". فقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "هل قرأ ... " إلخ، صريح في أنهم لم يكونوا قبل ذلك مأمورين بالقراءة التي سألهم عنها؛ إذ لو كانوا مأمورين لما كان للسؤال وجهٌ؛ لأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - يعلم أنهم لا يذرون ما هو واجبٌ عليهم. ويؤيِّد هذا قوله: "أحدٌ"، فإنه ظاهرٌ أنهم لم يكونوا مأمورين؛ بل ظاهر أنهم كانوا منهيين عن القراءة التي سألهم عنها. ولهذا علم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنهم لا يقرؤون تلك القراءة، وإنما ظنَّ أنَّ بعضهم لم يبلغه النهي أو نسي. ويؤكِّد ذلك أنه لم يجبه إلاَّ رجلٌ واحدٌ، قال: نعم، أنا يا رسول الله.

(18/117)


ويزيده وضوحًا قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "وأنا أقول مالي أنازع القرآن"؛ فإنَّ هذا تعجُّبٌ؛ كما قاله أهل المعاني وغيرهم في قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20]. ولا يخفى أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يعلم أنَّ القراءة معه تقتضي المنازعة، فلو كان يعلم أنهم مأمورون بالقراءة لعلم أنهم قرأوا، وأن المنازعة حصلت بسبب قراءتهم؛ فكيف يتعجَّب. فقد بان أنَّ القراءة التي حصلت بها المنازعة وسألهم عنها قراءة لم يكونوا مأمورين بها قبل ذلك. وقد زعم الشارح أنَّ الاستفهام الأول للإنكار، وقد يقول هو أو غيره في الثاني ــ أعني قوله: {مَا لِيَ} ــ إنه للإنكار أيضًا. وهذا مدفوع؛ أما في الأول فلأنه إخراج للاستفهام عن حقيقته بدون حجة، ولأنه لو كان إنكاريًّا لما أجابه أحدهم بقوله: نعم، أنا يا رسول الله؛ لأنَّ الاستفهام الإنكاري لا يستدعي الجواب. وأما الثاني فلأنَّ قوله: "وأنا أقول" يدفع احتمال الإنكار؛ لأنَّ ظاهره: وأنا أقول حال المنازعة في نفسي، وذلك ظاهرٌ في التعجُّب. وهبْ أنَّ الاستفهامين للإنكار فلا بد من القول بأنهم لم يكونوا مأمورين بتلك القراءة؛ لأنَّ الاستفهام الإنكاري على ضربين. الأول: الإبطالي، وهو يقتضي أنَّ ما بعد أداة الاستفهام غير واقع، وأنَّ مدَّعيه كاذبٌ.

(18/118)


والضرب الثاني: التوبيخي؛ وهو يقتضي أنَّ ما بعد أداة الاستفهام واقعٌ، وأنَّ فاعله ملومٌ [ص 68]، قاله ابن هشام في "المغني" (1) وغيره. وهو معلومٌ من تتبُّع موارد الاستفهام الإنكاري في الكتاب والسنة وكلام العرب. والضرب الأول لا معنى لادعائه هنا؛ فلم يبقَ إلاَّ الضرب الثاني، ولا ريب أنهم لو كانوا مأمورين بتلك القراءة التي أوجبت المنازعة لما استحقُّوا أن يوبّخوا عليها. بل إذا طرأ النسخ حينئذٍ يقول لهم - صلى الله عليه وآله وسلم -: "كنت أمرتكم فلا تفعلوا" أو نحو ذلك؛ كقوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" (2). فتبيَّن أنه على تقدير الاستفهام إنكاريًّا يلزم من ذلك أنهم لم يكونوا مأمورين بتلك القراءة. إذا تقرَّر هذا فهناك احتمالان: أحدهما: أن يكون المراد بالقراءة في قوله: "هل قرأ" ما يصدق بالفاتحة، ويكونوا لم يؤمروا بقراءة الفاتحة معه إذا جهر أصلًا، أو يكونوا قد أُمِروا أولًا، ثم نُهوا عنها قبل هذه الواقعة. الثاني: أن يكون المراد بالقراءة غير الفاتحة. قد يرجَّح الاحتمال الأول بأنَّ ظاهر السؤال الإطلاق، ويرد بأنَّ الصرف عن مثل هذا الظاهر متعيِّنٌ إذا كانت هناك قرينةٌ. فإن قيل: وما القرينة؟ _________ (1) (1/ 11، 12). (2) أخرجه مسلم (1977) من حديث بريدة.

(18/119)


قلت: ما قدَّمناه من الأدلة على وجوب الفاتحة على المأموم وإن جهر إمامُه. فإذا كان الصحابة عالمين بأنَّ الفاتحة واجبة عليهم، وأنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يعلم أنهم لا يَدَعونها، ثم سمعوه يسألهم ذلك السؤال ويتعجَّب ذلك التعجُّب؛ فإنهم يفهمون أنه لا يريد الفاتحة، وإنما يريد قراءة لم يكونوا مأمورين بها. فإن قيل: قد يجوز أن يكون قد سبق قبل هذه الواقعة نصٌّ يخصِّص الأدلة العامة وينسخ الخاصة. قلت: مجرَّد احتمال؛ مع أنَّ من النصوص الخاصة قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} كما تقدَّم، والقرآن لا يُنسخ بخبر الواحد الصريح؛ فضلًا عن مجرَّد الاحتمال. لعلك لا تسلم دلالة الآية فلا حرج، ولكن عموم الأدلة العامة لا تستطيع إنكاره، وتخصيص تلك الأدلة المتضافرة بمجرَّد هذا الاحتمال لا يسوغ. فإن قلت: لكن هذا الاحتمال يؤيده إطلاق اللفظ. قلت: إنما يلزمنا التشدُّد في المحافظة على ظاهر اللفظ إذا كان من القواعد التشريعية العامة؛ كقوله: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، وقوله: "كل صلاة لا يُقرأ فيها بأمِّ القرآن فهي خداج"، ونحو ذلك. فأما ما كان محاورة مع المخاطبين مثل هذا السؤال فلا. وكلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كله حقٌ؛ ولكن النصوص التشريعية العامة يُحتاط لها ما لا يُحتاط للمحاورات الخاصة. [ص 69] فإنه - صلى الله عليه وآله وسلم - يعتمد في هذه على القرائن التي يعلمها المخاطب، وإن لم يكن في ظاهر اللفظ دلالةٌ عليها.

(18/120)


فإن قيل: الظنُّ بالراوي أنه لو كانت هناك قرينة لبيَّنها. قلت: والظنُّ به أنه لو لم تكن قرينة لما خالف ظاهر اللفظ. وقد ثبت في "صحيح مسلم" (1) وغيره عن أبي هريرة أنه كان يفتي بوجوب القراءة على المأموم وإن جهر الإمام، ومع ذلك فلعلَّه اتكل على الأدلة المتضافرة في وجوب الفاتحة فرأى أنها تغني عن القرينة. فإن قيل: الأصل عدم القرينة. قلت: والأصل عدم التخصيص والنسخ. هذا، وقد عُلم من القصة أنه لم يقرأ تلك القراءة في تلك الواقعة إلاَّ رجلٌ واحد؛ فما ظنك بالصحابة رضي الله عنهم بعد هذه الواقعة؛ أظنك تجزم بأنه لا يعود لتلك القراءة أحدٌ منهم، فاسمع الآن: ثبت عن جماعةٍ من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يقرؤون ويفتون بالقراءة بعد الإمام في الجهرية بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - (2). منهم: أبو هريرة راوي القصة، وأمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وراوي حديث: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" عبادة بن الصامت؛ شهد العقبتين وبدرًا والمشاهد، وهو أحد النقباء. وعن جماعة من الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ القراءة خلف الإمام مطلقًا. منهم: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأمّ المؤمنين عائشة، وسيِّد _________ (1) رقم (395) و (396). (2) سيأتي ذكر مصادر هذه الآثار مجتمعةً بعد صفحتين.

(18/121)


المسلمين أُبي بن كعب، وصاحب السرِّ حذيفة بن اليمان، وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وهشام بن عامر. وعن جماعةٍ منهم القراءة خلف الإمام في الظهر والعصر، ولم ينفوا ما سوى ذلك. منهم: عبد الله بن مغفَّل، وعبد لله بن الزبير، وعبد الله بن عَمْرو بن العاص. واختلفت الرواية عن الحبر عبد الله بن مسعود، والبحر عبد الله بن عباس، والقانت عبد الله بن عمر بن الخطاب، وجابر بن عبد الله، وأبي الدرداء. وجاء عن زيد بن ثابت وحده أنه قال: "لا قراءة مع الإمام في شيءٍ"، ولم يُنقل عنه خلاف ذلك، وقد يحتمل أنه أراد قراءة ما عدا الفاتحة. وقال القاسم بن محمد: كان ابن عمر لا يقرأ خلف الإمام؛ جهر أو لم يجهر. وكان رجال أئمة يقرؤون وراء الإمام. قلت: وقد روي عن ابن عمر القراءة؛ فهي ممن اختلفت عنه الرواية، وقد يحتمل أنه أراد: لا يقرأ زيادة على الفاتحة. وكذا يحتمل ما نقل عن ابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء. فأما ما صحَّ عن جابر من قوله: "من صلَّى ركعةً لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصلِّ، إلاَّ وراء الإمام"؛ فقد يجوز أن يكون أراد بالاستثناء المسبوق فقط. وهذا الحمل خلاف الظاهر؛ ولكن يجوز ارتكابه جمعًا بين ما ثبت عنهم وعن غيرهم، وتوفيقًا بين قولهم وبين ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.

(18/122)


وقال البخاري (1): "وقال ابن خُثيم: قلت لسعيد بن جبير: أَقْرأُ خلف الإمام؟ [ص 70]، قال: نعم، وإن كنت تسمع قراءته؛ فإنهم قد أحدثوا ما لم يكونوا يصنعونه، إنَّ السلف كان إذا أمَّ أحدهم الناس كبَّر ثم أنصت حتى يظنَّ أنَّ من خلفه قرأ بفاتحة الكتاب، ثم قرأ وأنصتوا". انظر أسانيد هذه الآثار في "جزء القراءة" للبخاري (2) و"سنن الدارقطني" (3) و"السنن الكبرى" للبيهقي (4). فقل لي الآن: أتراهم كانوا قد نُهوا عن قراءة الفاتحة خلف الإمام إذا جهر قبل واقعة حديث ابن أُكَيمة؛ فامتثلوا حتى لم يقرأ في تلك الصلاة إلاَّ رجل واحدٌ، ثم أكَّد النهي في ذلك الحديث، ثم خالفوه كما رأيت؟ فإن جوَّزتَ ذلك عليهم فبأيٍّ عقلٍ تمنع أن يسكت أحدهم عن بيان القرينة الصارفة، اتكالًا على ما تكاثر وتضافر من الأدلة على ما يخالف ذلك الظاهر الضعيف، وعلى ما عُرِفَ من مذهبه ومذهب غيره؟ ولعلَّه ذكر القرينة ولكن أهملها ابن أُكيمة ذلك الرجل الذي لم يحدِّث إلاَّ بهذا الحديث الواحد، ولم يُعرف من عدالته أكثر من كونه حدَّث في مجلس سعيد بن المسيِّب، وهذا إن دلَّ على عدالته بعد اللتيا والتي لا يدلُّ على ضبطه. _________ (1) في "جزء القراءة" (ص 428). (2) (ص 115 وما بعدها، وص 147 وما بعدها). (3) (1/ 317 وما بعدها). وانظر "مسائل الكوسج" (9/ 4637) و"مسائل حرب" (ص 131). (4) (2/ 167 وما بعدها). وانظر أيضًا "المصنّف" لابن أبي شيبة (1/ 373 وما بعدها) "والقراءة خلف الإمام" للبيهقي (ص 90 وما بعدها).

(18/123)


أبمثل هذا تُنْطَح جبال الأدلة، وتُرْجَم أركانُ الملَّة؟ هيهات، هيهات! ونقل الحازمي في "الاعتبار" (1) عن الحميدي كلامًا ذكر فيه أنَّ حديث ابن أكيمة عن أبي هريرة ــ يعني على فرض صحَّته ــ منسوخ بحديث عبادة؛ لأنَّ فتوى أبي هريرة بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بوجوب القراءة خلف الإمام ولو جهر دليلٌ على تقدُّم حديثه على حديث عبادة. أقول: ويؤيده عمل عبادة، وفتواه طبق حديثه، وكذا جمهور الصحابة رضي الله عنهم كما تقدَّم. وقد زعم الشارح أنه يبعد أن يكون حديث عبادة متأخرًا؛ لأنَّ فيه أنهم كانوا يقرؤون الفاتحة وغيرها هذًّا؛ فكيف يُظنُّ بهم أن يفعلوا ذلك بعد حديث ابن أكيمة. والجواب: بأنَّهم قد بَقُوا يقرؤون الفاتحة ويأمرون بها ولو في الجهرية بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومنهم أبو هريرة نفسه. فإذا وقع ذلك منهم بالفعل، وأنت تجوِّز أن يكون حديث ابن أكيمة متأخرًا مطلقًا لم يُنسخ؛ فكيف تستبعد أن يقع من بعضهم مثل ذلك؟ ومع هذا فالأولى ما قدَّمناه، ويظهر منه أنَّ حديث عبادة متقدِّم؛ فلما سمعوه انتهوا عن قراءة غير الفاتحة وحافظوا على الفاتحة؛ لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - في حديث عبادة: "لا تفعلوا ــ أي لا تقرؤوا فيما جهرت به ــ إلاَّ بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها"، ثم في واقعة حديث ابن أكيمة قرأوا كلهم الفاتحة، وزاد أحدهم فقرأ غيرها مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - السورةَ التي قرأها بعدها؛ _________ (1) (ص 73 - 75).

(18/124)


[ص 71] كأنَّ هذا الرجل لم يبلغه حديث عبادة أو غفل عنه؛ فأحسَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بأنه ينازع في السورة؛ فدلَّه ذلك على أنَّ رجلًا ممن بعده يقرأ معه السورة. كما وقع نظير ذلك في حديث عمران بن حصين في "صحيح مسلم" (1): صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صلاة الظهر أو العصر؛ فقال: "أيكم قرأ خلفي بسبِّح اسم ربِّك الأعلى؟ "؛ فقال رجلٌ: أنا، ولم أُرِدْ بها إلاَّ الخير، قال: "قد علمتُ أنَّ بعضكم خالجنيها". ولكنه - صلى الله عليه وآله وسلم - في واقعة حديث ابن أكيمة استبعد أن يقرأ معه أحدٌ السورة وهو يجهر بها بعد أن نهاهم عن ذلك في واقعة حديث عبادة؛ فلهذا تعجَّب من المنازعة. وإنما نصَّ في حديث عمران على عين السورة؛ لأنَّ الصلاة كانت سريَّة، والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قرأ بسبِّح اسم ربِّك الأعلى سرًّا، ولم يسمعوه، فلو اكتفى بقوله: "أيكم قرأ معي؟ " لم يعلموا المقصود؛ لأنَّ كلًا منهم قرأ بالفاتحة وغيرها؛ فاحتاج أن ينصَّ لهم على نفس السورة التي قرأها، واستدلَّ بالمخالجة على أنَّ بعضهم قرأها معه. وأما في واقعة ابن أكيمة فكانت الصلاة جهرية؛ قد علموا السورة التي قرأ بها نبي الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد الفاتحة، فاكتفى بقوله: "هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا"؟ فعلموا أنه لا يسألهم عن الفاتحة لما تقدَّم، وأنه إنما يسألهم عن قراءة السورة التي قرأ بها؛ فأجابه الذي قرأ: نعم، أنا يا رسول الله. وإنما قلت: إن ذلك القارئ قرأ السورة التي قرأها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عينها؛ لأمرين: _________ (1) رقم (398).

(18/125)


الأول: حديث عمران؛ فإنه يدلُّ أنَّ المنازعة لم تكن تحصل إلاَّ إذا قرأ المأموم السورة التي قرأها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد الفاتحة. إذ لو كانت تحصل بمطلق القراءة بعد الفاتحة، لما استدلَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالمخالجة إلاَّ على أنَّ بعض من خلفه قرأ سورة ما بعد الفاتحة؛ فلمَّا نصَّ على السورة علمنا أنَّ المنازعة إنما كانت تحصل إذا قرأ المأموم السورة التي قرأ بها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "خالجنيها" ظاهرٌ في ذلك. الثاني: قوله في حديث ابن أُكيمة: "قرأ معي"، فإنك إذا قلتَ: قرأت سورة كذا، وقرأ معي فلانٌ كان الظاهر أنه قرأ معك تلك السورة التي قرأتَها. وبما قدَّمناه تتفق الأدلة، ونَسْلَم من سوء الظن بالصحابة، ومن دعوى النسخ [ص 72] ونحوه؛ فإنَّ أحاديث الزيادة على الفاتحة لم تصحَّ كما تقدَّم، وإنما عُلمت الزيادة من فعله - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ إذ كان يقرأ الفاتحة، ويزيد عليها إمامًا أو منفردًا. فكأنَّ أصحابه رضي الله عنهم قاسوا المأموم على الإمام والمنفرد؛ فكانوا يقرؤون زيادة على الفاتحة خلفه - صلى الله عليه وآله وسلم -، فأقرَّهم على ذلك في السريِّة؛ كما في حديث عمران. فقد روى البخاري في "جزء القراءة" (1) حديث عمران، من طريق شعبة عن قتادة، وزاد: "قال شعبة: فقلت لقتادة: كأنه كرهه، فقال: لو كرهه لنهانا عنه". وسيأتي ما يؤيده إن شاء الله تعالى. وبيَّن لهم بطلان ذلك القياس فيما جهر به، وذلك في حديث عبادة. _________ (1) (ص 214).

(18/126)


ووجه ذلك ــ والله أعلم ــ أنه قياسٌ مع الفارق؛ فإنَّ قراءة المأموم مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما يجهر به تُخِلُّ باستماع قراءته - صلى الله عليه وآله وسلم -، وتوجب منازعته في قراءته؛ بخلاف قراءة الإمام والمنفرد؛ فافترقا. فأما في السريّة فإنه لا إخلال بالاستماع، ولا تحصل المنازعة إلاَّ نادرًا بدون تعمُّدٍ من المأموم لقراءة السورة التي يقرأ بها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ لأنه لا يسمع قراءة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى يمكن منه تعمُّد قراءة تلك السورة، فإن اتفق ذلك فبلا عمدٍ. ولهذا ــ والله أعلم ــ عبَّر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالمخالجة، وفي حديث عبادة بالمنازعة، والمخالجة أخفُّ من المنازعة. وإنما أخبرهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في حديث عمران ليعلموا تلك المعجزة. فعُلِمَ أنَّ قراءة الصحابة رضي الله عنهم زيادةً على الفاتحة في الجهرية خلف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كما في واقعة حديث عبادة إنما كان اجتهادًا منهم أخطأوا فيه. فنهيه - صلى الله عليه وآله وسلم - ليس بنسخ ولا تخصيص، وإنما هو بيان لخطأ القياس، وليس فيما ذكر سوء ظنٍّ بالصحابة؛ لأنهم كانوا يفعلون ذلك اجتهادًا، والمجتهد إذا أخطأ كان معذورًا مأجورًا. ثم لما نهاهم انتهوا عن قراءة غير الفاتحة مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما جهر به؛ حتى كانت واقعة ابن أكيمة؛ ففعل ذلك رجل منهم كأنه لم يبلغه حديث عبادة؛ فاجتهد كما اجتهدوا أولًا؛ فبيَّن له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الحكم. وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - في حديث عبادة: "إني أراكم تقرؤون" إن كانت الرواية بفتح همزة "أراكم" فمعناه: أعلمكم. أو بضمها؛ فمعناه: أظنكم. وكلاهما محتملٌ من حيث المعنى.

(18/127)


أما كونه - صلى الله عليه وآله وسلم - علم أنهم يقرؤون؛ فلأنه يعلم أنهم يعلمون أنَّ الفاتحة فرضٌ عليهم [ص 73]، وأنهم لا يذرونها. ودلَّته المنازعة على أنهم قرأوا معه غيرها، ولم يستبعد ذلك؛ لأنهم لم يكونوا قد نهوا عن ذلك. وعلم أنهم قاسوا المأموم في الجهرية على الإمام والمنفرد والمأموم في السرية. وما جاء في بعض الروايات من زيادة: "وأنا أقول مالي أنازع القرآن" في حديث عبادة محمول ــ إن صحَّ ــ على أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - استبعد أولًا أن يقرأوا معه غير الفاتحة، ولم يأمرهم بذلك، ثم تبيَّن له أنهم قاسوا كما ذكرنا. وأما كونه ظنَّ أنهم قرأوا معه ظنًّا فقط، فكأنَّ ثِقلَ القراءة لم يكن دليلًا كافيًا للعلم بقراءتهم معه غير الفاتحة؛ كأنه كان قد يحصل بسبب ذلك، وقد يحصل لسبب آخر. وعلى هذا فلا تكون الفاتحة داخلة في قوله: "إني أراكم تقرأون"، وإنما قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: "فلا تفعلوا إلاَّ بأمَّ القرآن؛ فإنه لا صلاة إلاَّ بها" فاستثناها احتياطًا لئلا يتوهموا دخولها في النهي، وقال: "فإنه لا صلاة إلا بها" تنبيهًا على الفرق بينها وبين غيرها. فأما حديث ابن أكيمة فليس فيه نهيٌ صريح يُتوهَّم دخول الفاتحة فيه حتى يُحتاج إلى الاستثناء. وقد علموا بحديث عبادة أنه لا يصحُّ قياسها على غيرها، وظهر من سكوتهم عن الجواب ــ إلاَّ ذلك الرجل الواحد ــ أنهم فهموا أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما سألهم عن قراءة غير الفاتحة معه؛ فعلم - صلى الله عليه وآله وسلم - أنهم إذا فهموا نهيًا يعلمون

(18/128)


أنه متوجِّهٌ إلى ذلك فقط، والله أعلم. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ حديث عبادة وحديث ابن أكيمة عن أبي هريرة كلاهما حكاية عن قصة واحدة؛ لأنَّ في كل منهما أنَّ الصلاة كانت صلاة الصبح، وأنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سألهم عن القراءة معه، وأنَّ بعضهم أجاب بنعم، وأنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "وأنا أقول مالي أنازع القرآن". وزاد عبادة قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "فلا تفعلوا إلاَّ بأمِّ القرآن؛ فإنه لا صلاة إلاَّ بها". وكأنَّ أبا هريرة كان بعيدًا فلم يسمع هذه الكلمة إلاَّ أنه قد علم بها؛ فساق الحديث سياقًا يفهم منه النهي عن غيرها دونها، بمعونة الأدلة الأخرى، وبما عُرِفَ من مذهبه. وهذا محتمل، ولكن يبعده اختلاف السؤال والجواب. فالذي يظهر أنهما واقعتان، وقد علمت أنَّ حديث ابن أكيمة موافقٌ لحديث عبادة وغيره من الأدلة الثابتة بلا نسخ ولا تخصيص ولا خروج عن الظاهر بغير حجة، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات. [ص 74] وأما حديث أبي إسحاق السبيعي (1) عن الأرقم بن شرحبيل عن ابن عباس في صلاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في مرض موته= فالسبيعي على جلالته مشهورٌ بالتدليس؛ وصفه بذلك شعبة وابن المديني وأبوجعفر الطبري وحسين الكرابيسي وابن حبان وغيرهم. قال ابن المديني في "العلل" (2): قال شعبة: سمعت أبا إسحاق يحدِّث عن الحارث بن الأزمع بحديث؛ _________ (1) سبق تخريجه (ص 77)، ومن هنا يبدأ الكلام عليه عند المؤلف. (2) انظر "تهذيب التهذيب" (8/ 66).

(18/129)


فقلت له: سمعت منه؟ فقال: حدثني به مجالد عن الشعبي عنه. ومما يبيِّن ضعف هذا الحديث ما في الصحيحين (1) وغيرهما عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: دخلت على عائشة، فقلت: ألا تحدِّثيني عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ قالت: بلى، ثَقُلَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فذكرت الحديثَ إلى أن قالت: ثم إن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وجد من نفسه خفَّةً، فخرج بين رجلين أحدهما العبَّاس لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلِّي بالناس. فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن لا يتأخر. قال: أَجْلِساني إلى جنبه؛ فأجلَساه إلى جنب أبي بكر، الحديث. قال عبيد الله: فدخلتُ على عبد الله بن عباس، فقلت له: ألا أَعرِض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ قال: هات؛ فعرضتُ عليه حديثها؛ فما أنكر منه شيئًا؛ غير أنه قال: أسمَّتْ لك الرجل الذي كان مع العبَّاس؟ قلت: لا، قال: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وصلاة الظهر سريَّةٌ فأنى يعلم كيف قرأ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ وفي "مسند أحمد" (ج 1 ص 234) (2): ثنا وكيع ثنا سفيان عن سلمة عن الحسن ــ يعني العُرَني ــ قال: قال ابن عباس: "ما ندري أكان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقرأ في الظهر والعصر؛ ولكنا نقرأ". وأخرج نحوه من طرق أخرى (3). _________ (1) البخاري (687) ومسلم (418). (2) رقم (2085). (3) برقم (2246، 2332).

(18/130)


وقد يحتمل أن تكون الواقعة المذكورة في حديث أبي إسحاق السبيعي غير الواقعة الثابتة في "الصحيحين"؛ ولكن حديثه لم يصحَّ حتى تتكلَّف له الاحتمالات. ومع هذا فليس في الحديث نفي الفاتحة، فقد يجوز أن تكون الصلاة جهرية، ويكون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما دخل في الصلاة قرأ الفاتحة في نفسه ولم يجهر بها؛ لأنَّ الإمام قبله قد جهر بها، ثم أخذ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في قراءة السورة من حيث وقف أبو بكر. ولم يذكر ابن عباس قراءة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الفاتحة؛ [ص 75] لأنه لم يسمعه يقرأها. ولا يستبعد هذا؛ فقد صحَّ عن ابن عباس أنه سئل: هل كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: لا، فقيل: فلعلَّه كان يقرأ في نفسه؟ فقال: خمشا؛ إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان عبدًا مأمورًا، بلَّغ ما أُمِر به، الحديث. "مسند أحمد" (ج 1 ص 249) (1). بقي ما نُقِلَ عن الإمام أحمد رحمه الله؛ فأما قوله: "ما سمعنا أحدًا من أهل الإسلام يقول: إنَّ الإمام إذا جهر بالقراءة لا تجزئ صلاة من خلفه"؛ يعني: إذا لم يقرأ. ثم قال: "هذا النبي وأصحابه والتابعون". فيقال له: يغفر الله لك أبا عبد الله؛ أما النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقد تقدَّمت نصوصه العامة والخاصة القاضية بأنَّ هذا الرجل لا صلاة له، ولا تجزئه صلاته، وأن صلاته كالخِدْج الذي تُلقِيه الناقة ميتًا مستقذرًا لا حياة له، ولا ينتفع به في شيء، إلى غير ذلك. _________ (1) رقم (2238).

(18/131)


وأما أصحابه والتابعون فقد رووا أحاديثه وأفتوا بها، ولا داعي لاتهامهم بأنهم حملوها على غير ما تقتضيه. فإن صحَّ عن بعضهم ما يخالفها فقد صحَّ عن جمهورهم ما يوافقها. وإذا كانت الأدلة تقتضي بطلان صلاة من لم يقرأ الفاتحة وإن جهر إمامه، وقد رواها الصحابة رضي الله عنهم، واحتجُّوا بها على وجوب الفاتحة في هذه الصورة وغيرها، وأمروا بقراءة الفاتحة في هذه الصورة وغيرها= فقد ظهر من ذلك أنهم كانوا يرون بطلان من لم يقرأ بها، وإن جهر إمامه، وهذا كافٍ في إثبات ذلك؛ فمن ادعى خلافه فعليه البيان. وفي حديث عبادة (1) أنه قرأ الفاتحة خلف الإمام في الجهرية، ثم احتجَّ بأنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمر بقراءتها خلف الإمام في الجهرية، وقال: لا صلاة إلاَّ بها. وحكى البخاري في "جزء القراءة" (2) عن علي ابن المديني أنه لم يُجِز إدراك الركعة بإدراك الركوع مع الإمام من الصحابة إلا من كان لا يرى القراءة خلف الإمام. فيؤخذ من هذا أنَّ الذين كانوا يرون قراءة الفاتحة خلف الإمام كانوا يرون أنها لا تجزئ الصلاة بدونها، وقد تقدَّم ذكر بعضهم. وقال البخاري في "جزء القراءة" (3): "وقال الحسن وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وما لا أُحصي من التابعين وأهل العلم: إنه يقرأ خلف _________ (1) سبق تخريجه. (2) (ص 269، 270). (3) (ص 117، 119).

(18/132)


الإمام وإن جهر. وكانت عائشة رضي الله عنها تأمر بالقراءة خلف الإمام ... وقال مجاهد: إذا لم يقرأ خلف الإمام أعاد الصلاة. وكذلك قال عبد الله بن الزبير". وذكر ممن كان يرى القراءة خلف الإمام وإن جهر من التابعين: القاسم بن محمد وأبا سلمة بن عبد الرحمن وحميد بن هلال وعطاء بن أبي رباح. وقد مرَّ قول البخاري: "ومن لا أحصي من التابعين وأهل العلم". وظاهر أنَّ من قال: يقرأ، يعترف بأنه داخل في النصوص العامة؛ وهي مقتضية للفرضية الموجبة أنَّ الصلاة لا تصحُّ إلاَّ بها. وإن صحَّ عن بعضهم الأمر بالقراءة مع التصريح بأنه لو لم يقرأ أجزأته صلاته= لم يكن ذلك مسوِّغًا للجزم بأنَّ القائلين بالقراءة كلهم يقولون بذلك؛ [ص 76] لأنَّ ذلك خلاف الظاهر. فأما مالك والأوزاعي وسفيان والليث فقد كان مع كل واحد منهم عدة من المجتهدين في بلده؛ فضلًا عن غيرها من أقطار المسلمين المتباعدة. فهل نقل عن كل عالم كان في ذلك العصر مثل ما نقل عن هؤلاء مما يخالف الأدلة العامة والخاصة التي تقدَّمت؟ وقد زاد ابن قدامة فادَّعى أنَّ ذلك إجماع. وقد قال الإمام أحمد نفسه: "ما يدَّعي فيه الرجلُ الإجماعَ فهو كذب، من ادَّعى الإجماع فهو كاذبٌ؛ لعلَّ الناس اختلفوا، ما يُدريه، ولم ينتهِ إليه؟ فلْيقل: لا نعلم الناس اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصمّ، ولكنه

(18/133)


يقول: لا نعلم الناسَ اختلفوا، ولم يبلغني ذلك". "إعلام الموقعين" (ج 1 ص 33) (1). وللشافعي رحمه الله تعالى كلام في معنى هذا، وفي إبطال ما يسمَّى الإجماع السكوتي، انظر "الأم" (ج 1 ص 134 ــ 135) (2). وقد تتبعت ما جاء من الكتاب والسنة وآثار الصحابة رضي الله عنهم في الإجماع، ثم تأملت ما نقل عن الإمامين الشافعي وأحمد؛ فتحرَّر لي من ذلك كله: أنَّ الإجماع إنما يتحقَّق في الفرائض القطعية كفرضية الصلوات الخمس ونحوها. وأما ما عدا ذلك فإنما يحصل العالم منه على عدم العلم بمخالف. وهذا في نصوص الصحابة ثم في نصوص الإمامين حجة اضطرارية؛ أي: أنه يكون حجة إذا لم يوجد من كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله حجة. فإن ثبت من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله حجة مخالفة له لم يلتفت إليه، ولكنه إذا وجدت من الكتاب والسنة نصوص كثيرة ظاهرة في معنى، متظافرة عليه، ثم لم نعلم أحدًا من السلف صرفها عن ذلك الظاهر= كان ذلك عاضدًا لتلك الظواهر؛ ربما يبلغه درجة القطع، حتى يكفر من يخالف ذلك، والله أعلم. * * * * _________ (1) (1/ 30) ط. محمد محيي الدين عبد الحميد. (2) ضمن "اختلاف الحديث" (10/ 109 - 113) ط. دار الوفاء.

(18/134)


ما يحتجُّ به من يقول بأنَّ المأموم لا يقرأ مطلقًا احتجُّوا بآية الإنصات، وبزيادة "وإذا قرأ فأنصتوا" [في حديث أبي موسى وحديث أبي هريرة]؛ بناءً على أنَّ الإنصات هو السكوت مطلقًا. وبحديث ابن أُكيمة؛ بناءً على أنَّ ما يشعر به من النهي يعمُّ الجهرية والسرية؛ لأنَّ النهي متوجِّهٌ إلى ما سألهم عنه. وإنما قال في السؤال: "هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا؟ ". فقوله "آنفًا" أي: وأنا إمام وهو مأموم؛ فيؤخذ من هذا نهي المأموم أن يقرأ مع إمامه. قالوا: ويؤيد هذا قوله: "وأنا أقول مالي أنازع القرآن؟ "؛ فإنَّ هذا في قوة تعليل النهي بالمنازعة، والمنازعة تحصل بالقراءة خلفه في السرية؛ بدليل حديث عمران. قالوا: وزيادة "فانتهى الناس ... إلخ" من كلام الزهري؛ كما قلتم. واحتجُّوا بحديث أبي إسحاق السبيعي عن الأرقم بن شرحبيل؛ وعسى أن يقولوا: فإن تلك الصلاة [ص 77] هي الظهر؛ كما في "الصحيحين". ولعلَّ أبا بكر كان يعلم أنَّ السنة أن يبني الإمام الثاني على قراءة الأول؛ فرفع صوته بالآية ليسمعه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فيبني على قراءته. ولعلَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - رفع صوته بالآية التي بعدها؛ ليعلم الناس السنة في ذلك، فسمعها ابن عباس أو بلغه ذلك. واحتجُّوا بالإجماع الذي ادعاه ابن قدامة. قالوا: لأنه يدلُّ على نسخ فرضية الفاتحة؛ لأنَّ في حديث عبادة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمرهم بقراءة الفاتحة خلفه إذا جهر؛ معلِّلًا ذلك بأنه لا صلاة إلاَّ بها. وقد دلَّ الإجماع على نسخ هذا الحكم؛ فدلَّ ذلك على زوال علَّته.

(18/135)


هذا توضيح استدلال الشارح بهذا الإجماع. واحتجُّوا بسقوط الفاتحة عن المسبوق، قالوا: فسقوطها عنه يدلُّ على أنها ليست فرضًا عليه أصلًا؛ إذ لو كانت فرضًا عليه لما تحمَّلها عنه كما لا يتحمَّل عنه غيرها. واحتجُّوا بما رواه الإمام أبو حنيفة (1) ــ رحمه الله تعالى ــ عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شدَّاد بن الهاد عن جابر بن عبد الله: أنَّ النبي صلى اله عليه وآله وسلَّم صلَّى ورجلٌ خلفه يقرأ؛ فجعل رجلٌ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ينهاه عن القراءة في الصلاة، فلمَّا انصرف أقبل عليه الرجل؛ قال: أتنهاني عن القراءة خلف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ ! فتنازعا، حتى ذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: "من صلَّى خلف إمام فإنَّ قراءة الإمام له قراءة". وفي رواية عن أبي حنيفة (2) رحمه الله: أنَّ رجلًا قرأ خلف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في الظهر أو العصر؛ فأومأ إليه رجلٌ فنهاه؛ فلما انصرف قال: أتنهاني؟ الحديث. قالوا: وقد تابع أبا حنيفة على وصله سفيان وشريك. نقل ابن الهمام (3) عن "مسند أحمد بن منيع": أخبرنا إسحاق الأزرق حدثنا سفيان وشريك عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شدَّاد عن _________ (1) أخرجه من طريقه الدارقطني (1/ 324، 325) والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 159). وسيأتي الكلام على هذا الحديث عند المؤلف. (2) أخرجها الدارقطني (1/ 325). (3) في "فتح القدير" (1/ 338). وسيأتي كلام المؤلف عليه، وأن كونه موصولًا بهذا الإسناد خطأ.

(18/136)


جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة". ثم قال: وحدثنا جرير عن موسى عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فذكره ولم يذكر جابرًا. قالوا: وقد روى الإمام أحمد في "مسنده" (1) عن أسود بن عامر، وروى عبد بن حميد في "مسنده" (2) عن أبي نعيم، وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (3) عن مالك بن إسماعيل= ثلاثتهم عن الحسن بن صالح [ص 78] عن أبي الزبير عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة". قالوا: وقد صحَّ من رواية مالك (4) عن وهب بن كيسان عن جابر أنه قال: "من صلَّى ركعةً لم يقرأ فيها بأمِّ القرآن فلم يصلِّ؛ إلاَّ وراء الإمام". قالوا: وقد رويَ هذا عن جابر مرفوعًا (5). قال البيهقي (6): وقد رفعه _________ (1) رقم (14643). (2) رقم (1050). (3) (1/ 377). والحسن بن صالح لم يسمعه من أبي الزبير، بينهما فيه جابر الجعفي، وهو ضعيف. انظر طرق الحديث والكلام عليها في تعليق "المسند" (14643). (4) في "الموطأ" (1/ 84). (5) أخرجه الطحاوي (1/ 228) والدارقطني (1/ 327) والبيهقي في "القراءة خلف الإمام" (349) من طريق يحيى بن سلام عن مالك. قال الدارقطني: يحيى بن سلام ضعيف، والصواب موقوف. (6) في "السنن الكبرى" (2/ 160).

(18/137)


يحيى بن سلام وغيره من الضعفاء عن مالك. قال صاحب "الجوهر النقي" (1): "ذكر البيهقي في "الخلافيات" أنه روي عن إسماعيل بن موسى السدِّي أيضًا عن مالك مرفوعًا، وإسماعيل صدوق، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال ابن عدي: احتمله الناس ورووا عنه، وإنما أنكروا عليه الغلو في التشيُّع". وقال ابن أبي شيبة في "المصنف" (2): ثنا وكيع عن الضحاك بن عثمان عن عبيد الله بن مِقْسم عن جابر قال: "لا يقرأ خلف الإمام". قال في "الجوهر النقي" (3): وهذا أيضًا سند صحيح متصل على شرط مسلم. قالوا: وهذا من قوله يشهد بصحة ما تقدَّم عنه عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. الجواب: أما آية الإنصات وزيادة "وإذا قرأ فأنصتوا"، فقد تقدَّم الكلام عليها. وقولهم إنَّ الإنصات عند أهل اللغة: السكوت مطلقًا غير صحيح، وإنما الإنصات: السكوت للاستماع. هذا هو المعروف في اللغة، ولهذا يقال: أنصَتَ له، وأنصَت إليه؛ كما يقال: استمع له واستمع إليه، ولا يقال: سكتَ له، ولا سكتَ إليه. _________ (1) (2/ 160). (2) (1/ 376). (3) (2/ 161).

(18/138)


[ص 79] ويقرب من قولهم: أصغى إليه؛ لأنهم قد قالوا: أنصت للَّهو: إذا مال. ومن تتبَّع موارد هذه اللفظة، وكان له دُربة بالعربية وذوق فيها، لم يشكَّ أنَّ الإنصات هو السكوت لأجل الاستماع. وأئمة اللغة منهم من أوضح ذلك، ومنهم من أطلق في بعض كلامه تفسير الإنصات بالسكوت، وبيَّن في موضع آخر من كلامه أنَّه السكوت للاستماع. وأهل اللغة كثيرًا ما يفعلون ذلك؛ يطلقون ما هو مقيد اعتمادًا على أنهم قد قيَّدوا في موضع آخر، أو اكتفاءً بأنَّ التقييد مشهور عند من يعرف اللغة، أو إشارةً إلى أنَّ الكلمة قد تُستعمل في ذلك المعنى بدون القيد مجازًا. ونحن لا ننكر أنَّ الإنصات قد يستعمل في مطلق السكوت مجازًا، ولكن الأصل الحقيقة. وقال البخاري في "جزء القراءة" (1): "وقال أبو مريم: سمعت ابن مسعود رضي الله عنه يقرأ خلف الإمام. وقال أبو وائل عن ابن مسعود: "أنصِتْ للإمام". قال ابن المبارك: دلَّ أنَّ هذا في الجهر". فأنت ترى ابن المبارك فهم من الإنصات أنه إنما يكون إذا جهر الإمام. وكلام السلف في ذلك كثير. وقد جاء الإنصات في موضعين من القرآن؛ الأول: الآية المتقدِّمة. الثاني: قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29]. _________ (1) (ص 116).

(18/139)


وواضح أنَّ معناه في آية الأحقاف متضمِّنٌ للاستماع، وأما في الآية المتقدِّمة فقد قدَّمنا أننا إذا تقيَّدنا بتفسير السلف كان معنى قوله {وَأَنْصِتُوا}: ودَعُوا الجهر بالكلام لكي تستمعوا. وإن نظرنا إلى ظاهر القرآن رجَّحنا ما قاله بعض الخلف؛ فيكون المعنى عليه: واسكُتوا مستمعين. فإن قيل: فلماذا قال: {وَأَنْصِتُوا} بعد أن قال: {فَاسْتَمِعُوا}؟ قلت: لأنَّ الاستماع لا يلزم منه إخفاء المستمع كلامه أو سكوته، وإن لزم من الكلام وقوع الخلل في الاستماع. وأنت ترى الناس عند حضورهم الخطب والقصص يتكلَّمون وهم يستمعون. وإذا حملنا الآية على المعنى الثاني فيكون لذكرِ {وَأَنْصِتُوا} بعد {فَاسْتَمِعُوا} نكتةٌ أخرى؛ وهي الإشارة إلى قولهم الذي حكاه الله تعالى عنهم بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]. فقوله: {فَاسْتَمِعُوا} في مقابل قولهم: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ}. وقوله: {وَأَنْصِتُوا} في مقابل قولهم: {وَالْغَوْا فِيهِ}. ولما كان معنى كلامهم: {وَالْغَوْا فِيهِ} لئلا تسمعوه ولا يسمعه غيركم= وجب أن يكون معنى: {وَأَنْصِتُوا}: واسكتوا لتسمعوه أنتم وغيركم. [ص 81] (1) ولو فُرِض أن معنى الإنصات هو السكوت مطلقًا، وأنَّ تلك _________ (1) ضرب المؤلف رحمه الله على صفحة (80) كلها.

(18/140)


الزيادة صحيحة، فيجب تخصيصها بحديث مكحول عن محمود ونافع عن عبادة، مع ما اعتضد به من النصوص العامة. وكذا آية الإنصات لو فرض أنَّ معناها أمر المأموم بالسكوت حين يقرأ إمامه، فإنَّ عمومها مخصَّصٌ اتفاقًا كما تقدَّم. فتُخصُّ منها قراءته سرًّا بدليل حديث عمران وشواهده. مع القياس أنَّ فائدة السكوت إنما هي الاستماع، ولا معنى لسكوت المأموم في السريَّة. وتُخصُّ منها الفاتحة مطلقًا لحديث مكحول، مع ما اعتضد به من النصوص العامة في إيجاب الفاتحة، وعموم قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، وقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وغيرها من الآيات، التي تقتضي أنه لا يحسب للمأموم ما يصنعه إمامه، والله أعلم. وأما حديث ابن أكيمة فقد مرَّ الكلام عليه، وقولهم إنه يعمُّ الجهرية والسريَّة خطأ؛ كما يأتي في المسألة الخامسة إن شاء الله تعالى. [ص 82] ومرَّ الكلام أيضًا على حديث السبيعي، وعلى الإجماع الذي ادَّعاه ابن قدامة. وأما استدلالهم بسقوط الفاتحة عن المسبوق، فالذي أختاره لنفسي ما اختاره جماعةٌ من أصحابنا الشافعية، واختاره الإمام البخاري، ونقله هو وشيخه علي ابن المديني عن بعض الصحابة. بل قال (1): إنَّ كل من قال من الصحابة بأنَّ المأموم يقرأ الفاتحة قائل بأنه لا يدرك الركعة بدون قراءة _________ (1) "جزء القراءة" (ص 269، 270).

(18/141)


الفاتحة، وقد تقدم أن القول بأن المأموم يقرأ الفاتحة هو قول جمهور الصحابة. ولم تقم حجة على إدراك الركعة بإدراك الركوع، فإنَّ أقوى ما بأيديهم حديث الحسن عن أبي بكرة في ركوعه دون الصف. وهذا لفظه عند البخاري في "صحيحه" (1): عن أبي بكرة أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو راكعٌ؛ فركع قبل أن يصل إلى الصف؛ فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فقال: "زادك الله حرصًا، ولا تَعُدْ". ورواه أبو داود (2) وغيره بمعناه، ووقع للحافظ ابن حجر سهو في "نصب الراية" (3)، تبع فيه الزيلعي؛ فلا يُغترُّ به. وليس في الحديث دلالة على إدراك الركعة؛ لأنه قد يكون الصحابي حَرَصَ على إدراك فضيلة الركوع مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. فإنَّ من أدرك الإمام في السجود مثلًا فسجد معه، كان له أجر ذلك وإن لم تحسب له الركعة، فكذا _________ (1) رقم (783). (2) رقم (683، 684). وأخرجه أيضًا أحمد (20405) والنسائي (2/ 118) والطحاوي في "معاني الآثار" (1/ 395) والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 106) وغيرهم. (3) يقصد "الدراية" (1/ 171) فقد طبع في الهند بهذا العنوان. وانظر "نصب الراية" للزيلعي (2/ 39). والسهو الذي أشار إليه المؤلف هو أن الزيلعي نقل هذا الحديث بسياق غريب طويل، وعزاه إلى البخاري في "الصحيح"، ولا وجود له فيه بهذا السياق. وتبعه الحافظ في "الدراية" في هذا الوهم، وهو مختصر "نصب الراية" مع زيادات.

(18/142)


إدراك الركوع تحصل به الفضيلة قطعًا. والحرص على إدراك الفضيلة لا يُنكر؛ بل لعله هذا هو الذي يقتضيه حسن الظن بالصحابي مع قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "زادك الله حرصًا"؛ فإنه لو حرص على إدراك الركوع لأجل إدراك الركعة لكان في ذلك تهمة أنه إنما فعل ذلك لئلا تذهب أعماله بعد الركوع غير محسوبة له، ويلزمه بعد السلام ركعة تامة. نعم ذكر الحافظ في "الفتح" (1) أنَّ في رواية الطبراني من طريق يونس بن عبيد عن الحسن عن أبي بكرة: "فقال: أيكم صاحب هذا النفس؟ قال: خشيتُ أن تفوتني الركعة معك"؛ فيجب النظر في إسناده. على أنَّ الحسن ــ على جلالته وإمامته ــ كان يدلِّس تدليسًا صعبًا. قال البزَّار (2): كان يتأول فيقول: "حدَّثنا وخَطَبنا"؛ يعني: قومه الذين حُدِّثوا وخُطِبوا بالبصرة. وقال ابن حجر: في "طبقات المدلِّسين" (3): "كان مكثرًا من الحديث، وكان يرسل كثيرًا عن كل أحد، وصفه بتدليس الإسناد النسائي وغيره". وفي "تهذيب التهذيب" (4) في ترجمة الحسن: "وقال ابن حبان: ... وكان يدلِّس". _________ (1) (2/ 268). (2) انظر "تهذيب التهذيب" (2/ 269). (3) (ص 102). (4) (2/ 270).

(18/143)


وفيه (1): قال: "قال ابن عون: قلت له: عَمَّن تُحَدِّث هذه الأحاديث؟ قال: عنك، وعن ذا، وعن ذا". وفي ترجمته في "تهذيب التهذيب" (2) أيضًا: "ووقع في "سنن النسائي" من طريق أيوب عن الحسن عن أبي هريرة في المختلعات، قال الحسن: لم أسمع عن أبي هريرة غير هذا الحديث. أخرجه عن إسحاق بن راهويه عن المغيرة بن سلمة عن وهيب عن أيوب، وهذا إسناد لا مطعن في أحد من رواته". أقول: وقد روى عن أبي هريرة عدة أحاديث بالعنعنة، وهذا هو التدليس. وقال في "الفتح" (3) في الكلام على هذا الحديث: "وقد أعلَّه بعضهم بأنَّ الحسن عنعنه، وقيل: إنه لم يسمع من أبي بكرة، وإنما يروي عن الأحنف عنه. وردَّ هذا الإعلال برواية سعيد بن أبي عروبة عن الأعلم قال: حدثني الحسن أنَّ أبا بكرة حدَّثه، أخرجه أبو داود والنسائي". قلت: الذي في "سنن أبي داود" (4): "أنَّ أبا بكرة حدَّث" بدون هاء، وهذه صيغة تدليس، ومع هذا فسعيد بن أبي عروبة مدلس أيضًا. _________ (1) الموضع السابق. (2) (2/ 269، 270). وفي "سنن النسائي" (6/ 168، 169): "لم أسمعه من غير أبي هريرة. قال أبو عبد الرحمن: لم يسمع من أبي هريرة شيئًا". (3) (2/ 268). (4) رقم (683).

(18/144)


وفي "مسند أحمد" (1) أحاديث من طريق المبارك بن فضالة عن الحسن؛ مصرَّحٌ فيها بسماعه من أبي بكرة. والمبارك بن فضالة مختلف فيه، وأنكروا عليه رواياته عن الحسن ثنا عمران بن حصين، وثنا معقل. قلت: فهذا من ذاك. وذكر جماعة أنَّ المبارك كان يدلِّس. وقال أبو داود: كان شديد التدليس. وفي "المسند" (2): ثنا سفيان عن أبي موسى ــ ويقال له إسرائيل ــ قال: سمعت الحسن قال: سمعت أبا بكرة. وقال سفيان مرَّة: عن أبي بكرة؛ فذكر حديثًا. قلت: فكأنَّ سفيان شكَّ، والله أعلم. فإن قيل: فإنَّ البخاري قد أخرج هذا الحديث في "صحيحه" (3)، ومذهبه اشتراط ثبوت اللقاء؛ فلا يقبل إعلال الحديث بعدم اللقاء ولا بالتدليس؛ كما عرف. قلت: أما ثبوت اللقاء فلعلَّه اعتمد ما تقدَّم. وأما التدليس فقد تقدَّم الكلام في هذا. وعلى تسليمه فالبخاري لم يخرِّج تلك الزيادة التي نقلها ابن حجر عن الطبراني، ومن الجائز أن يكون الحسن سمع الحديث من أبي بكرة، بدون _________ (1) بأرقام (20391، 20429، 20448، 20516). (2) رقم (20392). (3) رقم (783).

(18/145)


تلك الزيادة، وسمعها من غيره عنه بتلك الزيادة؛ [ص 83] كما تقدَّم عن البخاري في حديث قتادة عن أبي غلاب (1). فإن قيل: هب الحسن دلَّسه فقد علم أنَّ الواسطة هو الأحنف، والأحنف ثقة. قلت: لم يعلم في هذا الحديث بعينه أنَّ الواسطة هو الأحنف، وإن كان الحسن قد حدَّث بأحاديث أخر عن الأحنف عن أبي بكرة. إذ لا يلزم من ذلك أنه لم يسمع غير الأحنف يحدِّث عن أبي بكرة. وقد قال أبو زرعة وأبو حاتم في قول الحسن "خطبنا ابن عباس بالبصرة": إنما أراد خطبَ أهل البصرة (2). وقال ابن المديني: رُوِي عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن: أنَّ سراقة حدثهم، وهذا إسناد ينبو عنه القلب؛ أن يكون الحسن سمع من سراقة؛ إلاَّ أن يكون معنى "حدَّثهم": حدَّث الناسَ، فهذا أشبه. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول وذكر حديثًا حدَّثه مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا ربيعة بن كلثوم قال: سمعت الحسن يقول: حدثنا أبو هريرة. قال أبي: لم يعمل ربيعة شيئًا، لم يسمع الحسن من أبي هريرة شيئًا". أقول: وربيعة ثقة؛ فالظاهر إن كان هذا الحديث غير حديث المختلعات الذي عند النسائي (3) أنَّ الحسن قال: حدثنا أبو هريرة؛ يريد حدَّث الناسَ أو _________ (1) انظر "جزء القراءة" (ص 413). (2) انظر "تهذيب التهذيب" (2/ 267). وفيه الأقوال الآتية. (3) (6/ 168).

(18/146)


نحو ذلك، كعادته. فإن قلت: فإنَّ الحافظ ابن حجر ذكر الحسن وابن أبي عروبة في الطبقة الثانية من طبقات المدلِّسين، وقد ترجم هذه الطبقة بقوله (1): "من احتمل الأئمة تدليسه وأخرجوا له في الصحيح، لإمامته وقلة تدليسه في جنب ما روى؛ كالثوري، أو كان لا يدلِّس إلاَّ عن ثقة؛ كابن عيينة". وعلى هذا فتُحتَمل عنعنة الحسن، وتُصحَّح، ويحتجُّ بها، ولا يلتفت إلى أنه كان يدلِّس، وكذا ابن أبي عروبة. قلت: هذا مشكلٌ جدًّا، لا يتمشَّى على [ص 84] القواعد. وقد نصَّ الشافعي في "الرسالة" على أنَّ التدليس يثبت بمرَّة، وعبارته (2): "ومن عرفناه دلَّس مرَّة فقد أبان لنا عورته في روايته، وليست تلك العورة بكذب فنردَّ بها حديثه، ولا النصيحة في الصدق؛ فنقبل منه ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق، فقلنا: لا نقبل من مدلِّسٍ حديثًا، حتى يقول فيه: حدثني أو سمعت". وجلالة الرجل وإمامته إذا عُرِف بالتدليس لا تنافي أن يدلِّس رجلًا يُحْسِن الظنَّ به، وغيرُه يعرف أنه مجروح، وتُقوِّي التهمة بالتدليس؛ لأنَّ مما يبعث عليه أن يكون الشيخ غير مرضي عند الناس. ولو كانت جلالة الرجل وإمامته توجب اغتفار تدليسه لأوجبت اغتفار إرساله، وليس هذا مذهب أهل الحديث. _________ (1) (ص 62). (2) "الرسالة" (ص 379).

(18/147)


وقد عدَّ ابن حجر سليمان التيمي في الطبقة الثانية (1)؛ مع أنَّ البخاري طعن في زيادته في حديث قتادة عن أبي غلاب؛ بقوله: "ولم يذكر سليمان في هذه الزيادة سماعًا من قتادة، ولا قتادة من يونس بن جبير". ذكره في "جزء القراءة" (2). وقال البزَّار (3) في سعيد بن أبي عروبة: "يحدِّث عن جماعة لم يسمع منهم؛ فإذا قال: "سمعت وحدثنا" كان مأمونًا على ما قال". مفهومه أنه ليس مأمونًا فيما عنعنه. وقال فيه ابن عدي (4): "كان ثبتًا عن كل من روى عنه؛ إلاَّ من دلَّس عنهم". فجعله غير ثبت إذا دلَّس. وقد تأوَّل السخاويُّ في "فتح المغيث" كلامَ شيخه ابن حجر؛ فإنه ذكر عباراتهم في اغتفار عنعنة المدلِّس إذا وقعت في "الصحيحين"، ثم قال (5): "وأحسن من هذا كلِّه قول القطب الحلبي في "القدح المعلَّى": أكثر العلماء أنَّ المعنعنات التي في "الصحيحين" منزَّلة منزلة السماع؛ يعني: إما لمجيئها من وجهٍ آخر بالتصريح، أو لكون المعنعن لا يدلِّس إلاَّ عن ثقةٍ أو عن بعض _________ (1) (ص 117). (2) (ص 413). (3) انظر "تهذيب التهذيب" (4/ 64). (4) المصدر نفسه (4/ 66). (5) (1/ 218، 219) ط. الهند.

(18/148)


شيوخه، أو لوقوعها من جهة بعض الحفَّاظ النقَّاد المحققين سماع المعنعن". ثم قال بعد ذلك: "وما أشار إليه شيخنا من إطلاق تخريج أصحاب الصحيح لطائفةٍ منهم حيث جعل منهم قِسمًا احتمل الأئمةُ تدليسَه، وخرَّجوا له في الصحيح لإمامته وقلة تدليسه كالثوري، يتنزَّل على هذا؛ لاسيَّما وقد جعل من هذا القسم: من كان لا يدلِّس إلاَّ عن ثقة كابن عيينة. وكلام الحاكم يساعده؛ فإنه قال: ومنهم جماعة من المحدثين المتقدِّمين والمتأخرين، مخرَّج حديثهم في الصحيح؛ لأنَّ المتبحِّر في هذا العلم يميِّز بين ما سمعوه وبين ما دلَّسوه". فكلام السخاوي ينبِّهك على أنَّ اغتفار عنعنة تلك الطبقة مخصوص بأحاديثهم التي في "الصحيحين". وكلام الحلبي والحاكم ظاهر في أنَّ الاغتفار إنما هو للظنِّ بأنَّ صاحب الصحيح اطَّلع على روايةٍ مصرَّحٍ فيها بالسماع. أو يكون المعنعن لا يدلِّس إلاَّ عن ثقة؛ يعني: ثقة متفق عليه كما صرَّحوا به، وقد ذكر ابن حبَّان أنَّ هذا خاص بابن عيينة. أو على أنه كان لا يدلِّس إلاَّ عن بعض شيوخه، أي ولم يكن يدلِّس عن شيخه هذا. أو لوقوعها من جهة بعض الحفاظ النقاد؛ أي الذين صرَّحوا بأنهم لا يروون عن ذلك المدلِّس إلاَّ ما اطلعوا على أنه سمعه. أقول: ومع هذا فقد ناقش ابن دقيق العيد وغيره في المسألة من أصلها كما ذكره السخاوي. وقد نُقِل عنه أنه قال (1): "هذه إحالة على جهالة، _________ (1) نقله الحافظ عن ابن دقيق العيد في "النكت على ابن الصلاح" (2/ 635).

(18/149)


وإثبات أمر بمجرَّد الاحتمال". أقول: وقد يجوز في بعض المواضع أنَّ صاحب الصحيح لم يطلع على أنَّ الشيخ كان يدلِّس. والحاصل: قد يقال (1) اختصاص اغتفار عنعنة الحسن وابن أبي عروبة وأهل تلك الطبقة بما وقع في "الصحيحين"؛ فلا يدخل في ذلك ما وقع من عنعنتهم في غيرهما؛ كالسنن والمسانيد ومعاجم الطبراني، والله أعلم. ولعلنا لو اطلعنا على إسناد الطبراني لهذا الحديث بتلك الزيادة لاستغنينا عن هذا التطويل (2). ثم رأيت في "جزء القراءة" (3) للبخاري: حدثنا محمد بن مرداس أبو عبد الله الأنصاري قال: حدثنا عبد الله بن عيسى أبو خلف الخزاز عن يونس عن الحسن عن أبي بكرة: أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صلَّى صلاة الصبح، فسمع نَفَسًا شديدًا أو بُهْرًا من خلفه، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الصلاة قال لأبي بكرة: أنت صاحب هذا النَّفَس؟ قال: نعم، جعلني الله فداءك، خشيتُ أن تفوتني ركعةٌ معك، فأسرعتُ المشي؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "زادك الله حرصًا ولا تَعُدْ، صلِّ ما أدركتَ واقضِ ما سبق". وأظنُّ الطبراني إنما رواه من هذه الطريق (4). _________ (1) تحتمل: يتبين. (2) لم يصل إلينا مسند أبي بكرة من "المعجم الكبير". (3) (ص 340). (4) هو كذلك، فقد عزاه إليه الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 76) وقال: "فيه عبد الله بن عيسى الخزاز وهو ضعيف". وهو كما نرى في هذا الإسناد.

(18/150)


ومحمد بن مرداس مجهول؛ قاله أبو حاتم، ولا يدفع ذلك ذِكْرُ ابن حبان إياه في "الثقات" كما عرف (1). وعبد الله بن عيسى (2)؛ قال أبو زرعة: منكر الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال ابن القطان: لا أعلم له موثقًا. ثم إن الحسن كان يروي بالمعاني؛ كما قاله هشيم عن ابن عون؛ فلا يبعد أن لا يكون تثبت عنده تلك الزيادة بذلك اللفظ، ولكنه فهم من القصة ذلك المعنى؛ كما فهمه منها كثيرون؛ فلما روى بالمعنى جاءت تلك العبارة، والله أعلم. وفي "المسند" (3): عن عبد العزيز بن أبي بكرة أن أبا بكرة جاء والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - راكعٌ، فسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم صوتَ نعلِ أبي بكرة، وهو يُحْضِر يريد أن يدرك الركعة؛ فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: من الساعي، قال أبو بكرة: أنا، قال: "زادك الله حرصًا ولا تَعُدْ". وفي سنده بشار الخيّاط (4) ضعَّفه ابن معين، على أنَّ ظاهره الإرسال، والله أعلم. هذا، ومن قال بأنَّ الركعة تدرك بإدراك الركوع، ويتحمَّل الإمام الفاتحة _________ (1) انظر "تهذيب التهذيب" (9/ 434) و"الثقات" (9/ 107). (2) "تهذيب التهذيب" (5/ 353). (3) رقم (20435). (4) هكذا في الطبعة القديمة من "المسند" و"تبصير المنتبه"، وفي الطبعة الجديدة من "المسند" و"تعجيل المنفعة": "الحنَّاط". ولم نجد أحدًا نصَّ على ضبطه.

(18/151)


عنه، لا يلزمه أنَّ الإمام يتحمَّل عن الموافق؛ للفرق الواضح. فإن له أن يقول: إنَّ الشارع لما أمر المسبوق أن يدخل في الصلاة فورًا، سواءٌ أكان الإمام راكعًا أم ساجدًا أم جالسًا أم غير ذلك، فقد ألزم هذا المسبوق إذا أدرك الإمام راكعًا أن يركع معه، ثم نظر فإذا هو قد أدرك معظم الركعة، وأدرك الأركان التي تتميَّز بها الصلاة تميُّزًا واضحًا؛ وهي الركوع والسجود، وعلم الشارع أنَّ تكليفه المسبوق بالموافقة، وتكليفه بقضاء تلك الركعة يشقُّ عليه، وهذه المشقة وإن كانت خفيفة إلاَّ أنه يحتمل تكرُّرها مرارًا كل يوم، فناسبَ أن يسقط عنه فاتحة تلك الركعة، وإن كانت ركنًا؛ كما أسقط القراءة عن الأبكم والأمي وإن كان منفردًا، وكما أسقط القيام عن المأمومين إذا كان الإمام لا يستطيع القيام، وكما أسقط القيام والركوع والسجود عن العاجز. ولم يَلزم المسبوقَ بدلُ الفاتحة؛ لأنه لا يمكن له بدلٌ إذا كان عليه الموافقة في الركوع فورًا؛ فكان مشغولًا بعد ذلك بأعمال أخرى. فإن قيل: فإنَّ من أدرك الإمام في الاعتدال لا تحسب له ركعة مع أنَّ المشقة عليه قريب من المشقة على من أدركه في الركوع. قلت: ولكنها أخفُّ بالنسبة، ومع ذلك فليس العلة هي المشقة وحدها؛ بل المشقة مع إدراك معظم الركعة، وإدراك الأركان التي تتميَّز بها الصلاة تميُّزًا واضحًا. وأما الموافق فلا مشقة عليه؛ فكيف يقاس على المسبوق؟ [ص 85] وأما حديث موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شدَّاد فقد أطلق الحفَّاظ المتقدِّمون أنه لم يجئ موصولًا بذكر جابر إلاَّ من رواية الإمام أبي حنيفة ــ رحمه الله تعالى ــ والحسن بن عمارة، ولم يناقش في ذلك أحد من الحفاظ الحنفية وغيرهم.

(18/152)


وقد رُوي الحديث من طريق سفيان وشريك في عدَّة كتب (1) بدون ذكر جابر. وقد كان "مسند أحمد بن منيع" مشهورًا متداولًا بينهم؛ فيبعد غاية البعد أن يكون فيه الحديث موصولًا عن سفيان وشريك، ولا ينبِّه عليه أحد من المتقدمين. فهذا يبيِّن أنَّ ما نقله ابن الهمام (2) عن "مسند أحمد بن منيع" خطأ في تلك النسخة، ولا يُعلم بخط من هي، وكيف حالها؟ والظاهر أنه وقع فيها سقط أو تحريف؛ فإنَّ إسحاق الأزرق ــ الذي وقع في النسخة الروايةُ عنه عن سفيان وشريك ــ يروي هذا الحديث بعينه عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى. قال الدارقطني (3): "حدثنا علي بن عبد الله بن مبشر ثنا محمد بن حرب الواسطي ثنا إسحاق الأزرق عن أبي حنيفة عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شدَّاد عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة". والإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى عَدْل رضًا مأمون، وأكبر من ذلك، ولكن أئمة الحديث من أصلهم إذا تعارض الوصل والإرسال الاجتهادُ _________ (1) انظر "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 376) و"معاني الآثار" للطحاوي (1/ 217) و"السنن الكبرى" للبيهقي (2/ 160). (2) في "فتح القدير" (1/ 338). وقد سبق نقل الحديث ضمن حجج القائلين بأن المأموم لا يقرأ مطلقًا. (3) في "السنن" (1/ 323).

(18/153)


بالترجيح؛ كما تقدَّم عن "فتح المغيث" (1). ومن المرجحات عندهم الكثرة. وقد رواه الدارقطني (2) من طريق ابن أخي ابن وهب ثنا عمي ثنا الليث بن سعد عن يعقوب عن النعمان عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شدَّاد عن أبي الوليد عن جابر؛ فذكره، في قصة ستأتي. ثم قال الدارقطني: "أبو الوليد هذا مجهول". والظاهر أنَّ "عن" في قوله "عن أبي الوليد" زائدة، والصواب عن عبد الله بن شدَّاد أبي الوليد؛ فإنَّ عبد الله بن شدَّاد كنيته أبو الوليد. أو أنَّ قوله "عن أبي الوليد" بدلٌ من قوله "عن عبد الله بن شدَّاد". ثم رأيت الطحاوي أخرج الحديث في "معاني الآثار" (3) عن أبي بكرة قال: ثنا أبو أحمد قال: ثنا إسرائيل عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شدَّاد عن رجل من أهل البصرة عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - نحوه. وجابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري لم يكن من أهل البصرة. ثم وجدت في "الإصابة" (4) ترجمةً لفظها: "جابر بن عبد الله الراسبي، قال صالح جزرة: نزل البصرة. وقال أبو عمر (5): روى عنه أبو شدَّاد. وروى _________ (1) (1/ 203). (2) (1/ 325). (3) (1/ 217). (4) (2/ 124) ط. التركي. (5) في "الاستيعاب" (1/ 221).

(18/154)


ابن منده من طريق عمر بن برقان (1) عن أبي شدّاد عن جابر بن عبد الله الراسبي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حديثًا قال: "من عفا عن قاتله دخل الجنة" (2). قال: هذا حديث غريب، إن كان محفوظًا. قال أبو نعيم: قوله "الراسبي" وهمٌ، وإنما هو الأنصاري". فأخشى أن يكون جابر بن عبد الله الذي وقع في سند الحديث من رواية الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى هو هذا البصري. وبهذا التقدير يتم قوله في رواية إسرائيل: "عن رجل من أهل البصرة". ويجوز أن تكون كنية هذا الرجل أبا الوليد؛ فتكون رواية الدارقطني على ظاهرها، وإن كان زيادة "عن جابر" يعكِّر على ذلك. وأخشى أن لفظ "أبي شدَّاد" الواقع في السند المذكور في ترجمة هذا الرجل صوابه "ابن شدَّاد". وفي "لسان الميزان" (3): "أبو شدَّاد عن مجاهد ... وأخرج أبو يعلى (4) من طريق عمر بن نبهان عن أبي شدَّاد عن جابر حديثًا؛ فما أدري هو هذا أم لا؟ ولم أقف على ترجمته عند الحاكم أبي أحمد". قلت: وعمر بن نبهان يروي عن الحسن البصري ونحوه؛ فلا يبعد أن يروي عن عبد الله بن شدَّاد. _________ (1) وفي بعض النسخ "نبهان". (2) أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (1794) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (1543). (3) (9/ 92). (4) هو الحديث المذكور، وسبق تخريجه.

(18/155)


وعبد الله بن شدَّاد غير معروف بالرواية عن جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، [ص 86] وحديث جابر في "مسند أحمد" في أربعٍ وخمسين ورقة (1) ليس فيه شيء من رواية ابن شدَّاد عنه. وجابر بن عبد الله الراسبي البصري لم تثبت له صحبة، وهو رجلٌ مجهول. ويحتمل أن يكون جابر الواقع في رواية الإمام أبي حنيفة هو الأنصاري على ما هو المتبادر، ويكون ابن شدَّاد لم يسمع هذا الحديث منه؛ بل سمعه عن رجل من أهل البصرة يقال له أبو الوليد عن جابر. ولعلَّ ابن أبي عائشة إنما اختار الإرسال غالبًا لأحد هذين الاحتمالين، أو لأنه كان يشكُّ. وقد روى ابن المبارك الحديث عن أبي حنيفة مرسلًا (2) كالجماعة؛ فهو المتيقِّن، ولا يصح الحكم بوصله لاضطراب ابن أبي عائشة فيه كما رأيت. فأما زيادة "في الظهر أو العصر" فما إخالها إلاَّ مدرجة، فقد أخرج الدارقطني (3) من طريق ابن أخي ابن وهب بسنده المتقدِّم، عن عبد الله بن شدَّاد بن الهاد عن جابر بن عبد الله أنَّ رجلًا قرأ خلف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "من قرأ منكم بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}؟ " فسكت القوم، فسألهم ثلاث مرات، كلَّ ذلك يسكتون، ثم _________ (1) (3/ 292 - 400) من الطبعة الميمنية سنة 1313. (2) كما في "السنن الكبرى" للبيهقي (2/ 160). (3) (1/ 325).

(18/156)


قال رجل: أنا، قال: "قد علمت أنَّ بعضكم خالجنيها". وقال (1) عبد الله بن شدَّاد عن أبي الوليد عن جابر بن عبد الله: أنَّ رجلًا قرأ خلف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الظهر والعصر، فأومأ إليه رجل فنهاه، فلما انصرف قال: أتنهاني أن أقرأ خلف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فتذاكرا ذلك حتى سمع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "من صلَّى خلف الإمام فإنَّ قراءته له قراءة". فالحديث الأول هو حديث عمران بن الحصين عينه، ولفظه عند مسلم (2) في روايةٍ: عن عمران بن حصين قال: صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صلاة الظهر أو العصر؛ فقال: "أيكم قرأ خلفي بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}؟ "، فقال رجل: أنا، ولم أُرِدْ بها إلاَّ الخير، قال: "قد علمتُ أنَّ بعضكم خالجنيها". وسقط ذكر الظهر أو العصر من حديث ابن شدَّاد الأول، وأدرج في الثاني. فكأنَّ الأصل ــ والله أعلم ــ أنَّ لفظ: "في الظهر والعصر" مدرج في الثاني، وأصل موضعه في الأول. ومما يدلُّ على هذا أنَّ محمد بن الحسن أخرج الحديث الثاني في "كتاب الآثار" (3)، وليس فيه لفظ: "في الظهر أو العصر". وكذلك رواه الحاكم والبيهقي (4) من طريق مكي بن إبراهيم عن أبي _________ (1) في "سنن الدارقطني" عقب الحديث السابق. (2) رقم (398). (3) رقم (86) ط. دار النوادر. (4) لم يخرجه الحاكم في "المستدرك"، وهو في "السنن الكبرى" (2/ 159) من طريقه.

(18/157)


حنيفة، وليس فيه ذكر الظهر أو العصر. وهكذا روي من طرق أخرى بدونها. وأما رواية الأسود بن عامر ومن معه عن الحسن بن صالح عن أبي الزبير (1)؛ فقد رواه يحيى بن أبي بكير وإسحاق بن منصور وغيرهما عن الحسن بن صالح عن جابر الجعفي وليث بن أبي سليم عن أبي الزبير (2)، وهذا هو الراجح. قال العراقي في خَفِيِّ الإرسال (3): فعدم السماع واللقاءِ ... يبدو به الإرسال ذو الخفاء كذا زيادة اسم راوٍ في السند ... إن كان حذفه بعَنْ فيه ورد ويؤكِّده أنَّ الحسن بن صالح لم يثبت له لقاء أبي الزبير، وإن كان أدركه. وأما قول مسلم [ص 87] رحمه الله: إنه يكفي في الحكم بالاتصال المعاصرة لغير المدلس؛ فذاك خاص بما إذا لم يرد الحديث من جهة أخرى بذكر واسطة كما هنا. ولعلَّ الحسن بن صالح علم أنَّ الأسود ومن وافقه يعلمون أنه لم يلق أبا الزبير؛ فلذلك أرسل الحديث عن أبي الزبير. _________ (1) سبق تخريجها من "مسند أحمد" (14643) و"مسند عبد بن حميد" (1050) و"مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 377). (2) أخرجه كذلك الطحاوي (1/ 217) والدارقطني (1/ 331) والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 160) وفي "القراءة خلف الإمام" (343، 345). (3) في "ألفيته" بشرحها "فتح المغيث" (4/ 69).

(18/158)


وجابر الجُعفي متروك، خصوصًا إذا قال "عن"؛ فإنه يدلِّس عن الوضَّاعين. وفي "تهذيب التهذيب" (1) عن مسعر قال: كنت عند جابر فجاءه رسول أبي حنيفة: ما تقول في كذا وكذا؟ قال: سمعت القاسم بن محمد وفلانًا وفلانًا، حتى عدَّ سبعةً؛ فلما مضى الرسول قال جابر: إن كانوا قالوا. وقال أبو يحيى الحِمَّاني عن أبي حنيفة: ما لقيتُ فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفي، ما أتيته بشيء من رأيي إلاَّ جاءني فيه بأثر (2). وأما ليث بن أبي سليم فصدوق، كثير الغلط، واختلط بأخرة. ولو ثبت الحديث عن أبي الزبير فأبو الزبير مشهور بالتدليس، وقد عنعن. وأجاب الشارح عن هذا بأنَّ أبا الزبير مكثر عن جابر؛ فتُحمل عنعنته عنه على السماع؛ كما قال الذهبي في "الميزان" (3) في ترجمة الأعمش، ولفظه: "قلت: هو مدلِّس، وربما دلَّس عن ضعيف، ولا يدري به؛ فمتى قال: "ثنا فلان" فلا كلام، ومتى قال: "عن" تطرَّق إليه احتمال التدليس؛ إلاَّ في شيوخ له أكثر عنهم؛ كإبراهيم وأبي وائل وأبي صالح السمَّان؛ فإنَّ روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال". قلت: فيما قاله الذهبي نظر، ومع ذلك فلا يصحُّ قياس أبي الزبير على _________ (1) (2/ 51). (2) "تهذيب التهذيب" (2/ 48). (3) (2/ 224).

(18/159)


ذلك؛ لأنه قد ثبت عنه التدليس عن جابر. قال ابن أبي مريم عن الليث بن سعد: قدمت مكة، فجئت أبا الزبير، فدفع إليَّ كتابين، فانقلبت بهما، ثم قلت في نفسي: لو عاودته فسألته هل سمع هذا كله من جابر؟ فقال: منه ما سمعت، ومنه ما حُدِّثت عنه، فقلت له: أعلِمْ لي على ما سمعت، فأعلَمَ لي على هذا الذي عندي (1). وأما ما رواه مالك (2) عن وهب بن كيسان عن جابر فهو صحيح من قوله، وما ذكره صاحب "الجوهر" (3) عن البيهقي في "الخلافيات" لا يصحُّ. فقد أخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4) من طريق يحيى بن سلام عن مالك، فرفعه. ثم قال: "حدثنا يونس قال أنا ابن وهب أنَّ مالكًا حدَّثه عن وهب بن كيسان عن جابر مثله، ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. حدثنا فهد قال: ثنا إسماعيل بن موسى ابن ابنة السدِّي قال: ثنا مالك، فذكر مثله يإسناده. قال: فقلت لمالك: أَرَفَعَه؟ فقال: خذوا برجله". ولو فُرِض أنَّ إسماعيل رفعه عن مالك، فإسماعيل وإن كان صدوقًا فليس مثله بالذي يقبل فيما يزيده على أصحاب مالك الحفّاظ، والله أعلم. _________ (1) انظر "تهذيب التهذيب" (9/ 442). (2) في "الموطأ" (1/ 84). (3) "الجوهر النقي" (2/ 160). (4) (1/ 218). قال ابن عبد البر في "التمهيد" (11/ 48): انفرد يحيى بن سلام برفعه عن مالك، ولم يتابع على ذلك، والصحيح فيه أنه من قول جابر.

(18/160)


[ص 88] وأما الأثر الآخر عن جابر (1)، ففي سنده الضحاك بن عثمان؛ وثَّقه الأكثر. وقال أبو زرعة: ليس بقوي، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتجُّ به، وهو صدوق. وقال ابن عبد البر: كان كثير الخطأ، ليس بحجَّة (2). وقد أخرج ابن ماجه والبيهقي (3) بسند صحيح عن يزيد الفقير ــ وهو ثقة، احتجَّ به الشيخان وغيرهما ــ عن جابر بن عبد الله قال: "كنا نقرأ في الظهر والعصر خلف الإمام في الركعتين الأُولَيين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب". وأخرجه البيهقي في موضع آخر (4) بسند صحيح أيضًا، ولفظه: "سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: يقرأ في الركعتين ــ يعني الأُولَيين ــ بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب، قال: وكنا نتحدَّث أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فما فوق ذاك، أو قال: ما أكثر من ذاك". قال صاحب "الجوهر النقي" (5): "مضطرب المتن". أقول: ليس هذا باضطراب؛ بل سمع يزيد من جابر هذا اللفظ مرة، واللفظ الآخر مرة أخرى، وليس بين اللفظين تناقض حتى يقال: مضطرب. _________ (1) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (1/ 376)، ولفظه: "لا يقرأ خلف الإمام". (2) انظر "تهذيب التهذيب" (4/ 447). (3) ابن ماجه (843) و"السنن الكبرى" (2/ 170). (4) (2/ 63). (5) (2/ 161).

(18/161)


وقد جمع البيهقي (1) بين ما رُوِيَ عن جابر بأنه كان يرى القراءة خلف الإمام فيما لا يجهر فيه، ولا يراها فيما يجهر فيه. أقول: وهذا محتمل، ويحتمل أن يكون هذا فيما دون الفاتحة؛ بدليل قوله: "وكنا نتحدَّث أنه لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب". فأما قوله في رواية وهب بن كيسان: "من صلَّى ركعةً لم يقرأ فيها بأم القرآن إلاَّ وراء الإمام فيمكن أن يحمل قوله: "إلاَّ وراء الإمام" على المسبوق، والله أعلم. وقد عُلِم بما مرَّ عن جابر ما يدلُّ على بطلان زيادة: "في الظهر أو العصر" في حديث ابن شدّاد؛ إن صحَّ كونه من رواية جابر المشهور. إذ كيف يكون هذا الحديث بتلك الزيادة عن جابر، ثم يقول: "كنا نقرأ في الظهر والعصر خلف الإمام" إلى آخره، ولا يبيِّن ما يخالفه؟ وبما ذُكِر يترجَّح ــ على فرض صحة تلك القصة ــ أنها كانت في صلاة جهرية، وعلم جابر بالقرائن أنَّ قوله: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" خاص بالجهرية. ثم يحمل ــ كما قاله البخاري وغيره ــ على ما عدا الفاتحة؛ للأدلة المتكاثرة على وجوب الفاتحة على المأموم، ومنها حديث مكحول عن محمود عن عبادة، وهو نصٌّ يُخصَّص به عموم هذا مع ما يعضد حديث عبادة من النصوص العامة والخاصة التي تقدَّم بعضها، والله أعلم. _________ (1) في "السنن الكبرى" (2/ 160).

(18/162)


هذا على فرض صحَّة الحديث، وقد علمت ما فيه. وفي "التعليق المغني على سنن الدارقطني" (1)، نقلًا عن "معرفة السنن" للبيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت سلمة بن محمد الفقيه [ص 89] يقول: سألت أبا موسى الرازي الحافظ عن حديث: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة"؛ فقال: لم يصحَّ عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيه شيءٌ؛ إنما اعتمد مشايخنا فيه على الروايات عن علي وابن مسعود وغيرهما من الصحابة. قال أبو عبد الله الحافظ: أعجبني هذا لما سمعته؛ فإنَّ أبا موسى أحفظ من رأينا من أصحاب الرأي على أديم الأرض. أقول: والثابت عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه الأمر بالقراءة خلف الإمام (2). وأما ابن مسعود فقال البخاري في "جزء القراءة" (3): "وقال لنا إسماعيل بن أبان: حدثنا شريك عن أشعث بن أبي الشعثاء عن أبي مريم: سمعت ابن مسعود رضي الله عنه يقرأ خلف الإمام". وأخرجه البيهقي (4) من طريق علي بن حُجر ثنا شريك عن أشعث بن سليم عن عبد الله بن زياد الأسدي قال: صلَّيت إلى جنب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه خلف الإمام؛ فسمعته يقرأ في الظهر والعصر. _________ (1) (1/ 326). وانظر "معرفة السنن والآثار" (3/ 79، 80). (2) انظر "السنن الكبرى" (2/ 168) و"القراءة خلف الإمام" للبيهقي (ص 92 - 93). (3) (ص 163، 164). (4) (2/ 169).

(18/163)


وفي "الجوهر النقي" (1): "وقال ابن أبي شيبة ثنا أبو الأحوص عن منصور عن أبي وائل قال: جاء رجلٌ إلى عبد الله فقال: أَقْرَأُ خلف الإمام؟ فقال: إنَّ في الصلاة شغلًا، وسيكفيك قراءة الإمام". وقدح صاحب "الجوهر" (2) في الأثر الأول بأنَّ في سنده شريكًا، وذكر كلام البيهقي فيه. أقول: شريك إمام. قال ابن معين: هو أحبُّ إليَّ من أبي الأحوص. وقال أيضًا: ولم يكن شريك عند يحيى ــ يعني القطان ــ بشيء، وهو ثقة ثقة. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن شريك وأبي الأحوص أيهما أحبُّ إليك؟ قال: شريك، وقد كان له أغاليط (3). وأبو الأحوص هو الواقع في سند الأثر الثاني. وقد أخطأ فيه، وخالفه الطَّوْدان سفيانُ وشعبةُ؛ رواه البيهقي (4) من طريقهما عن منصور عن أبي وائل أنَّ رجلًا سأل ابن مسعود عن القراءة خلف الإمام؛ فقال: أنصت للقرآن؛ فإنَّ في الصلاة شغلًا، وسيكفيك ذاك الإمام. قال البخاري في "جزء القراءة" (5): "وقال أبو وائل، عن ابن مسعود: أَنصِتْ للإمام. وقال ابن المبارك: دلَّ أنَّ هذا في الجهر، وإنما يُقرأ خلف _________ (1) (2/ 170). وانظر "المصنف" (1/ 376). (2) (2/ 170). (3) انظر "تهذيب التهذيب" (4/ 334، 335). (4) (2/ 160). (5) (ص 116، 117).

(18/164)


الإمام فيما سكت الإمام". أقول: ومع ذلك فليس نصًّا في ترك الفاتحة؛ فقد يجوز أن يكون أراد الإنصات عما عداها للعلم بوجوبها. وقال صاحب "الجوهر النقي" (1): قال البزَّار: ثنا محمد بن بشَّار وعمرو بن علي قالا: ثنا أبو أحمد أنا يونس بن أبي إسحاق عن أبيه عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: كانوا يقرؤون خلف النبي - عليه السلام -؛ فقال: "خلَّطتم عليَّ القرآن". أقول: قد تقدَّم في الكلام على آية الإنصات نقلُ هذا الحديث عن "جزء القراءة" (2) للبخاري، رواه عن محمد بن مقاتل قال: حدثنا النضر قال أنبأنا يونس بسنده هذا، ولفظه: قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -[ص 90] لقوم كانوا يقرؤون القرآن، فيجهرون به: "خلَّطتم عليَّ القرآن". وكنا نسلِّم في الصلاة، فقيل لنا: "إنَّ في الصلاة لشغلًا". _________ (1) (2/ 162). (2) (ص 400، 401).

(18/165)


[ص 91] المسألة الخامسة هل يزيد المأموم في الأُولَيين من الظهر والعصر على الفاتحة قد يستدلُّ على المنع بالأحاديث المتقدِّمة (1) في أوائل المسألة الرابعة. ولفظ الحديث الأول منها: صلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فلما قضى صلاته قال: "أتقرؤون والإمام يقرأ؟ " قالوا: إنا لنفعل، قال: "فلا تفعلوا إلاَّ أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه". وقال في الثاني نحوه. وفي الثالث: "تقرؤون خلفي؟ " قالوا: نعم، إنا لنهُذُّ هذًّا، قال: "فلا تفعلوا إلاَّ بأمِّ القرآن". وفي الرابع: "تقرؤون القرآن إذا كنتم معي في الصلاة؟ " قالوا: نعم يا رسول الله، إنا لنهذُّ هذًّا، قال: "فلا تفعلوا إلاَّ بأم القرآن". وفي الخامس: "هل تقرؤون إذا كنتم معي في الصلاة؟ " قلنا: نعم، قال: "فلا تفعلوا إلاَّ بأم القرآن". وفي السادس: "تقرؤون خلفي؟ " قالوا: نعم، قال: "فلا تفعلوا إلاَّ بأم الكتاب". ويجاب عن هذا بأنَّ في حديث عبادة: "إني لأراكم تقرؤون خلف إمامكم إذا جهر". وفي الرواية الأخرى: "هل تقرؤون إذا جهرت بالقراءة؟ " _________ (1) سبق ذكر هذه الأحاديث وتخريجها.

(18/166)


فقال بعضنا: إنا لنصنع ذلك، قال: "فلا تفعلوا، وأنا أقول: مالي أُنازَع القرآنَ، فلا تقرؤوا بشيءٍ من القرآن إذا جهرتُ؛ إلاَّ بأمِّ القرآن". فقيَّد النهي بما إذا جهر؛ فتُحْمَل عليه تلك الأحاديث المطلقة. فإن قيل: حديث عبادة وإن كان مقيَّدًا بما إذا جهر فهو من حيث المعنى يدلُّ أنَّ مثل ذلك ما إذا أسرَّ؛ لأنه علَّل بالمنازعة، واستثنى الفاتحة؛ معلِّلًا بأنها فرضٌ؛ كأنه يقول: تُغتفر المنازعة بالفاتحة لأنها فرض. وقد ثبت بحديث عمران أنَّ المنازعة تكون في السريِّة أيضًا، والزيادة في السرِّية ليست فرضًا على المأموم اتفاقًا؛ فيفهم من هذا المنعُ منها. قلت: لا نسلِّم أنَّ المنازعة تكون في السرية، وإنما تلك المخالجة، وهي أخفُّ من المنازعة. وحديث عمران دليل لنا. سلَّمنا أنهما واحد، ولكن لا نسلِّم أنَّ المنازعة كانت تحصل بمطلق القراءة خلفه - صلى الله عليه وآله وسلم -، وإنما كانت تحصل بقراءة نفس السورة التي يقرأها بعد الفاتحة. وحديث عمران واضحٌ في ذلك؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - استدلَّ بالمخالجة على أنَّ بعض المقتدين به قرأ بسورة سبِّح اسم ربِّك الأعلى. ولو كانت المخالجة تحصل بالقراءة مطلقًا لما دلته المخالجة إلاَّ على قراءة بعضهم فقط. ويوضِّح هذا قوله: "خالجنيها"؛ فإنه ظاهر في أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قرأها، وذلك الرجل يقرؤها معه؛ فتخالجاها. [ص 92] وهكذا قوله في حديث ابن أُكيمة: "هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا".

(18/167)


فقوله: "معي" يدلُّ أنَّ المراد: قرأ معي نفس السورة التي قرأتها. ألا ترى أنك لو قلت: قرأت سورة الكهف، وقرأ معي فلان؛ فَهِم السامع أنَّ فلانًا قرأ معك سورة الكهف عينها. وإنما لم يُسمَّ في حديث ابن أُكيمة السورة كما سمَّاها في حديث عمران لأنَّ قصة حديث ابن أكيمة في صلاة الصبح وهي جهرية؛ فقد سمعوا قراءة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وعلموا السورة التي قرأها. فاكتفى بقوله: "هل قرأ معي أحد منكم"؛ فعُلِمَ أنه أراد نفس السورة التي قرأها هو - صلى الله عليه وآله وسلم -، فأجابه الذي قرأها معه بقوله: نعم، أنا يا رسول الله. وأما في حديث عمران فكانت الصلاة سريَّة؛ فلو اقتصر على قوله: "من قرأ معي" لما علموا أيَّ سورة قرأ، وكلّ واحد منهم قد قرأ بسورة؛ فلهذا سمَّاها لهم، فتدبَّر. فإن قلت: فمقتضى هذا الكلام أن يُمنع المأموم في السريَّة من قراءة غير الفاتحة مطلقًا؛ لأنه لا يدري لعله يقرأ السورة التي يقرأها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. ولا يُمنَع في الجهرية إلَّا من قراءة السورة التي يقرؤها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وله أن يقرأ غيرها. قلت: إنما يأتي هذا إذا قلنا إنَّ المنازعة هي العلَّة، ولسنا نقول ذلك، وإنما العلَّة عندنا هي الإخلال باستماع القراءة لغير موجب. وإنما ذكر - صلى الله عليه وآله وسلم - المنازعة إعلامًا لهم بالدليل الذي استدلَّ به على أنَّ بعضهم قرأ معه. وفي ذلك معجزة يفيدهم الاطلاعُ عليها، فإنَّ المنازعة لا تحصل لغيره

(18/168)


- صلى الله عليه وآله وسلم -، فهي أمرٌ روحاني مختصٌّ به، بأبي هو وأمي. وذلك نظير إخباره إياهم بالمخالجة في حديث عمران. ولو كانت العلَّة هي المنازعة للزم أن لا يمنع المقتدي بغير النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من القراءة مطلقًا؛ لأنَّ المنازعة لا تحصل لغيره - صلى الله عليه وآله وسلم -، والحكم يدور مع علَّته، والله أعلم. ومن أدلتنا الحديث الصحيح (1) عن جابر: "قال: كنا نقرأ في الظهر والعصر خلف الإمام في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب". وقد تقدَّم وصحَّ عن أمير المؤمنين عليٍّ أنه كان يأمر بذلك. وصحَّ عن مجاهد قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقرأ خلف الإمام في صلاة الظهر من سورة مريم (2). وروى البيهقي (3) من طريق العوام بن حمزة (4) عن ثابت عن أنس قال (5): كان يأمرنا بالقراءة خلف الإمام. [ص 93] قال: وكنت أقوم إلى جنب أنس؛ فيقرأ بفاتحة الكتاب وسورةٍ من المفصَّل، ويُسْمِعنا قراءته لنأخذ عنه. _________ (1) سبق ذكره والكلام عليه. (2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 169). (3) (2/ 170). (4) عند البيهقي في هذا الإسناد: "العوام بن حوشب". ثم ذكر إسنادًا آخر وفيه: "العوام وهو ابن حمزة"، وقال: هذا أصح. (5) أي ثابت: كان أنس يأمرنا ... ، وكذا "قال" الآتي.

(18/169)


اعترضه التركماني (1) بأنَّ العوَّام بن حمزة قال فيه ابن الجوزي في كتاب "الضعفاء": قال يحيى: ليس حديثه بشيء، وقال أحمد: له أحاديث مناكير. قلت: في "فتح المغيث" (2): عن ابن القطان أنَّ ابن معين إذا قال في الراوي: "ليس بشيء" إنما يريد أنه لم يرو حديثًا كثيرًا. وفي "تهذيب التهذيب" (3) عن يحيى القطان: ما أَقْربَه من مسعود بن علي، ومسعود لم يكن به بأس. وعن أحمد: له ثلاثة أحاديث مناكير. وعن ابن معين: ليِّن. وقال إسحاق بن راهويه: بصري ثقة. وعن أبي زرعة: شيخ، قيل: فكيف ترى استقامة حديثه؟ قال: لا أعلم إلاَّ خيرًا. وقال الآجريُّ عن أبي داود: ما نعرف له حديثًا منكرًا، وقال مرَّةً: ثقة. وقال النسائي: لا بأس به. أقول: وقول أحمد "له ثلاثة أحاديث مناكير" كأنَّ الحمل فيها على من فوقه؛ بدليل قول أبي داود. فحديث الرجل لا ينزل عن درجة الحسن، والله أعلم. _________ (1) (2/ 172). (2) (2/ 123). (3) (8/ 163).

(18/170)


[ص 94] المسألة السادسة إذا كان المأموم أصمَّ أو بعيدًا عن الإمام لا يسمع قراءته؛ فهل يقرأ غير الفاتحة والإمام يجهر؟ ظواهر الأحاديث المتقدمة المنع من ذلك؛ هذا من حيث ألفاظها. وأما من حيث المعنى فالظاهر عدم المنع؛ لأنَّ علة المنع هي ــ كما تقدَّم ــ كون القراءة تُخِلُّ باستماع قراءة الإمام، وهذه العلة منتفية ههنا. ومن قال: العلة المنازعةُ فعدم المنع أظهر، لما قدَّمنا أنَّ المنازعة لا تحصل لغير النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وترجيح دلالة المعنى هنا من باب تخصيص الحكم لخصوص علته. والعلماء رحمهم الله تعالى يترددون في ذلك. وفي "سنن البيهقي" (1) بسند صحيح عن أبي شيبة المَهرْي قال: سأل رجلٌ معاذ بن جبل عن القراءة خلف الإمام، قال: إذا قرأ فاقرأ بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد، وإذا لم تسمع فاقرأ في نفسك، ولا تؤذي مَن عن يمينك ولا مَن عن شمالك. والذي أختاره لنفسي عدم القراءة بغير الفاتحة؛ لظواهر الأحاديث، ولأنه قد يُخِلُّ باستماع غيره من المقتدين الذين يسمعون، وهذا ظاهر في الأصم، وممكن في البعيد. _________ (1) (2/ 169).

(18/171)


ولأنه يُرجى أنه إذا أنصت تمام الإنصات سمع. ولسدِّ الذريعة. والله تبارك وتعالى أعلم.

(18/172)


ــ 1 ــ (1) [ص 9] ولو كان الذي قرأ رفع صوته حتى سمعه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما كان للاستفهام والتعجب وجه، والله أعلم. ثم قال الشارح: (وكذا القول بأنَّ حديث أبي هريرة مختصر من حديث عبادة، والواقعة واحدة= لا يصحُّ؛ لأنه قول بلا دليل). أقول: القائل ذلك رأى اتفاق الحديثين في أمور: منها: أنَّ الصلاة كانت الصبح. ومنها: في حديث عبادة ثقل القراءة والتباسها، وفي حديث ابن أكيمة المنازعة، والمعنى واحد؛ لأن المنازعة تُوجب الثقل والالتباس. مع أنَّ في رواية من روايات حديث عبادة: فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وأنا أقول: مالي أنازع القرآن، فلا يقرأنَّ أحد منكم شيئًا من القرآن إذا جهرتُ؛ إلاَّ بأم القرآن». أخرجه الدارقطني، وقال: هذا إسناد حسن، ورجاله ثقات كلهم. وهذا اللفظ ــ أعني قوله: «وأنا أقول: مالي أنازع القرآن» ــ هو عين اللفظ الواقع في حديث ابن أكيمة. ومنها: الاستفهام عن القراءة. ومنها: الجواب بالإثبات. _________ (1) من هنا إلى (ص 210) أوراق متفرقة كتبها المؤلف في الرد على شارح الترمذي ووضعها في أثناء الكتاب في مواضع، فأفردناها وألحقناها بآخره، ورقمنا كل مجموعة برقم مستقل، أما الأحاديث والآثار فقد سبق تخريجها، فلا نعيدها.

(18/173)


ومنها: في حديث عبادة: «فلا تفعلوا»، وحديث ابن أكيمة يُشعِر بذلك كما تقدَّم. وزاد عبادة استثناء الفاتحة، وليس ذلك في حديث ابن أكيمة، ولكن ذلك ينجبر بما عُرِف من مذهب أبي هريرة. على أنَّ حديث ابن أكيمة لم تدخل فيه الفاتحة أصلًا، كما يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. فرأى ذلك القائل أنَّ هذا الاتفاق يحصل به غلبة الظن بأنَّ الحديثين واقعة واحدة، هذا دليله. ومع ذلك ففي النفس شيءٌ من ذلك؛ لأنَّ في حديث عبادة في رواية: «إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم، قلنا: أجل والله يا رسول الله، إنا لنفعل هذًّا». وفي حديث ابن أكيمة: «هل قرأ معي أحد منكم آنفًا؟ فقال رجل: نعم، أنا يا رسول الله». فالاستفهام مختلف، والجواب مختلف، وسيتضح ذلك قريبًا إن شاء الله تعالى. ثم قال الشارح: (وحملُ حديث أبي هريرة على ما عدا الفاتحة تعسُّفٌ، بل علَّة الشارع فيه العموم؛ لأنَّ الشارع منع عن القراءة مطلقًا، وبيَّن علة النهي المنازعة، وقراءة الفاتحة وغيرها مشتركة في المنازعة سواء فيها، بدون فرق؛ فهذه العلة تجري في قراءة الفاتحة كما تجري في قراءة غيرها سواء بسواء). أقول: الحديث من رواية أبي هريرة، ومذهبه الذي كان يفتي به كما في «صحيح مسلم» وغيره وجوب القراءة على المأموم سواء أسرَّ الإمام أم جهر، ومذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنَّ فتوى الراوي على خلاف

(18/174)


روايته قادح في ما رواه. والشارح عافاه الله حنفي، وقد احتجَّ بمثل هذا كما يأتي. والشافعي والمحدثون وإن قالوا: العبرة بما روى دون ما رأى؛ فإنهم لا ينكرون أنَّ فتوى الراوي بخلاف ما روى تُورِث شبهة ما فيما روى، فإذا انضمَّ إلى ذلك وهنٌ في السند أو نحوه قويت الشبهة؛ فقد تبلغ إلى حدِّ يتعيَّن بسببه ردُّ الرواية أو تأويلها. وقد انضمَّ إلى فتوى أبي هريرة لِينُ ابن أكيمة. فقد قال الحميدي وغيره: مجهول، لم يروِ عنه إلاَّ ابن شهاب هذا الحديث وحده. والذين قوَّوه إنما استندوا إلى أنَّ الزهري سمعه يحدِّث سعيد بن المسيِّب؛ فاستدلُّوا بذلك [ص 10] على أنه كان مقبولًا عند سعيد. وهذا الاستدلال لا يكفي مثله في تثبيت حديث يلزم منه نسخ الأحاديث الصحيحة. وانضمَّ إلى ذلك أيضًا اتفاقُ هذا الحديث مع حديث عبادة في أكثر الأمور. فلو لم يكن إلاَّ هذا لكان كافيًا في وجوب حمل القراءة في حديث ابن أكيمة على غير الفاتحة، أو على الأقل في منع أن يقال لهذا الحمل تعسُّف، فكيف وعندنا برهان واضح على هذا الحمل، فدونكه: قد ثبت بالأوجه الثلاثة التي قدمناها في الكلام على قول الشارح أن الاستفهام للإنكار، والتمسنا منك التحفظ بها، وقلنا: إنه سيكون لها نبأ. إنَّ الاستفهام والجواب والتعجُّب في هذا الحديث يدلُّ على أنهم لم يكونوا قبله مأمورين بالقراءة التي سألهم عنها، بل إما أن يكونوا لم يؤمروا

(18/175)


بها قط، وإما أن يكونوا أُمروا بها اولًا ثم نُهوا عنها قبل هذا الحديث؛ فارجع إلى تلك الأوجه، وتدبَّرها جيدًا. ثم إنك تعلم أنَّ أحاديث وجوب الفاتحة عامة تتناول المأموم وإن جهر الإمام، وقد ثبت ذلك نصًّا بحديث عبادة وشواهده. فحديث ابن أكيمة لا يخلو أن يكون قبلها أو بعدها. فإن كان قبلها فهو منسوخ بها أو محمول عليها، وانقطع النزاع. وإن كان بعدها ــ كما اختاره الشارح ــ فالأوجه الثلاثة المتقدمة توجب أحد أمرين: إما أن يكون المراد بالقراءة التي سألهم عنها يصدق بالفاتحة، ويكون قد سبقه ناسخٌ لوجوبها؛ حتى صحَّ ذلك الاستفهام والجواب والتعجُّب. وإما ان يكون المراد قراءة غير الفاتحة؛ وكأنَّ ذلك الرجل لم يبلغه حديث عبادة في النهي عن قراءة غير أم القرآن وراء الإمام إذا جهر، وتكون القرينة علمهم أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يعلم أن الفاتحة واجبة عليهم، وأنهم لا يدعونها كلُّهم، فيعلمون أنه لا يقول لهم: هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا؛ ويريد ما يصدق بالفاتحة، وأنه لا يتعجَّب من المنازعة التي تحصل بقراءتهم الفاتحة إن كانت تحصل بها. فهذه قرينة واضحة؛ تدلُّهم أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما أراد قراءة غير الفاتحة؛ فتدبَّر هذا الكلام جيدًا. وإذ قد انحصر الواقع في هذين الاحتمالين فما بقي علينا إلاَّ أن ننظر أيهما أرجح، سائلين الله تعالى التوفيق. قد يرجح الأول بأنَّ فيه إبقاء لفظ «قرأ» على إطلاقه.

(18/176)


ويرجح الثاني بأنَّ الآثار عن الصحابة تدلُّ أنه لما وقع هذا السؤال لم يفهموا منه الإطلاق، وإنما ذلك لقيام القرينة. وبيان ذلك: أنَّ مذهب أبي هريرة نفسه ــ كما تقدَّم ــ وجوب القراءة خلف الإمام ولو جهر. ووافقه على ذلك جمهور الصحابة؛ منهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، [ص 11] وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وراوي حديث: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» عبادة بن الصامت، شهد العقبتين وبدرًا، وهو أحد النقباء. وجاء عن جماعة من الصحابة القراءة خلف الإمام مطلقًا؛ منهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأم المؤمينن عائشة، وسيِّد المسلمين أبي بن كعب، وصاحب السرِّ حذيفة بن اليمان، وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وهشام بن عامر. وجاء عن بعضهم القراءة خلف الإمام في الظهر والعصر، ولم ينفوا ما سوى ذلك؛ منهم: عبد الله بن مغفَّل، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص. واختلفت الرواية عن الحبر عبد الله بن مسعود، والبحر عبد الله بن عباس، والناسك عبد الله بن عمر، وجابر، وأبي الدرداء. وجاء عن زيد بن ثابت أنه قال: «لا قراءة مع الإمام في شيء»، ولم يُنقل عنه خلاف ذلك. وقال القاسم بن محمد: كان ابن عمر لا يقرأ خلف الإمام جهر أولم يجهر، وكان رجال أئمة يقرؤون وراء الإمام.

(18/177)


قلت: وقد روي عن ابن عمر خلاف هذا. وقال البخاري: وقال ابن خُثيم: قلت لسعيد بن جبير: أقرأُ خلف الإمام؟ قال: نعم وإن كنت تسمع قراءته؛ فإنهم قد أحدثوا مالم يكونوا يصنعونه، إنَّ السلف كان إذا أمَّ أحدهم الناس كبَّر ثم أنصت، حتى يظنَّ أنَّ من خلفه قرأ بفاتحة الكتاب، ثم قرأ وأنصتوا. انظر أسانيد هذه الآثار في «جزء القراءة» للبخاري، و «السنن الكبرى» للبيهقي. وفي حديث ابن أكيمة ما يُعلم منه أنه لم يقرأ في تلك الواقعة تلك القراءة التي سأل عنها إلاَّ رجلٌ واحدٌ من الصحابة؛ فما ظنك بهم بعد ذلك وقد سمعوا هذا الحديث؟ لا أراك ترتاب أن الظن بهم أن لا يعود أحد منهم لتلك القراءة التي سأل عنها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وقد جاء في آخر حديث ابن أكيمة في بعض الروايات زيادة: «فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه الإمام، وقرؤوا في أنفسهم سرًّا فيما لا يجهر فيه الإمام». وقد حقَّق الأئمة محمد بن يحيى والبخاري وغيرهما أنَّ هذا من كلام الزهري. وأنا أقول: هَبْهُ من كلام أبي هريرة فإنه يؤكِّد ذلك الظن. فكيف تجمع بين هذا وبين ما سمعته عن راوي هذا الحديث نفسِه وعن جمهور الصحابة؟ فهل هناك جامع غير أن يقال: إنَّ السؤال عن القراءة في حديث ابن أكيمة متوجِّهٌ إلى قراءة غير الفاتحة؟ وكانت عند الصحابة رضي الله عنهم عندما خاطبهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قرينة مبيِّنة لذلك. وأظهر القرائن هو ما تقدَّم،

(18/178)


وزيادة «فانتهى الناس ... » إلخ لو ثبتت تبع لذلك، والمعنى: فانتهى الناس عن القراءة بغير الفاتحة. وإذا ثبتت القرينة الصارفة عن الإطلاق سقط ما يرجح به الاحتمال الأول من إبقاء اللفظ على إطلاقه. [ص 16] فأما قول الشارح: (إنَّ علَّة النهي هي المنازعة؛ وهي تحصل بالفاتحة كما تحصل بغيرها) ففيه نظر. فالجواب: أنَّ المنازعة قد حصلت في حديث عمران، وإن سمَّاها «المخالجة»، وفي حديث عبادة لثقل القراءة والتباسها؛ وذلك نتيجة المنازعة. مع أنه قد جاء في روايةٍ في حديث عبادة: « ... فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وأنا أقول مالي أنازع القرآن، فلا يقرأنَّ أحد منكم شيئًا من القرآن إذا جهرتُ إلاَّ بأم القرآن». أخرجه الدارقطني، وقال: هذا إسناد حسن، ورجاله ثقات كلهم. والشارح يوافقنا أنهم في واقعتي عمران وعبادة كانوا يقرؤون الفاتحة؛ فهل كانت تحصل المنازعة بقراءتهم لها أم لا؟ أما حديث عمران فلا دليل فيه على ذلك، وإنما فيه حصول المخالجة بقراءة: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، ولا يلزم من حصول المنازعة بقراءة غير الفاتحة حصولها بقراءة الفاتحة؛ لأنَّ المنازعة أمرٌ روحاني لا يُدرك بالقياس. وأما حديث عبادة فقد يقال: إنَّ قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إني أراكم تقرؤون» مطلقٌ يتناول الفاتحة، ولذلك استثناها لما قال: «فلا تفعلوا إلاَّ بأم القرآن». وقد قال الراوي: إنَّ القراءة التبست على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ وذلك دليل المنازعة، وقد

(18/179)


أوضحت ذلك رواية الدارقطني السابقة. فلما كانت المنازعة حصلت بسبب القراءة التي سألهم عنها بقوله: «إني أراكم تقرؤون»، وهذه القراءة شاملة للفاتحة كما مرَّ، فقد يؤخذ منه أنَّ المنازعة كانت تحصل بسبب قراءة الفاتحة، وإنما استثناها من النهي لأنها كانت واجبة، وأداء الواجب مقدَّمٌ على ترك المنازعة. وقد نصَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - على هذه العلَّة بقوله: «فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها». هذا أقصى ما يحتجُّ به لحصول المنازعة بقراءة الفاتحة، وفيه بعد ذلك نظر يظهر بالتأمل. ولكننا نقول: هَب المنازعة كانت تحصل بقراءة الفاتحة؛ فإننا قد أثبتنا فيما تقدَّم أن السؤال في حديث ابن أكيمة إنما وقع عن قراءة غير الفاتحة. فإن ثبت أنه نهى فالنهي متوجِّهٌ إلى ذلك. وإذا نهى عن قراءة غير الفاتحة معلِّلًا بالمنازعة لم يكن لهم ولا لنا أن نقيس الفاتحة على غيرها بجامع المنازعة؛ لتقدُّم حديث عبادة بالنصِّ على أنَّ المنازعة إنما تمنع القراءة بغير الفاتحة. فأما الفاتحة فلا؛ لأنه لا قراءة لمن لم يقرأ بها؛ فأداؤها لا بد منه. وإن لزم منه المنازعة. فهذا نصٌّ مبطلٌ للقياس، مبيِّنٌ للفرق الواضح. بل لو لم يتقدَّم حديث عبادة لكفى في منع القياس ما علموه من فرضية الفاتحة دون غيرها، فهذا كافٍ لمنع القياس؛ لأنَّ منعه لهم من القراءة المندوبة لمفسدة المنازعة لا يلزم منه منعُه لهم من القراءة الواجبة؛ للفرق المعلوم بين الفرض والنفل، وهذا واضحٌ جدًّا، والله أعلم.

(18/180)


ــ 2 ــ [ص 7] وأما حديث: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» فالحفَّاظ مجمعون على ضعفه، وسيأتي توجيه ذلك إن شاء الله تعالى بما لا يمسُّ عظمة الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وقد تأوَّله البخاري رحمه الله تعالى على فرض صحَّته: بأنه عام مخصوص بحديث عبادة، فتخرج منه الفاتحة. أقول: وتخرج أيضًا الزيادة على الفاتحة في السرية بحديث عمران بن حصين الذي تقدَّم. وقد روى الإمام أبو حنيفة عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شدَّاد بن الهاد عن جابر بن عبد الله: أن رجلًا قرأ خلف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}؛ فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: من قرأ منكم بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}؛ فسكت القوم، فسألهم ثلاث مرات، كل ذلك يسكتون، ثم قال رجل: أنا، قال: قد علمتُ أنَّ بعضكم خالجنيها. وقال عبد الله بن شدَّاد عن أبي الوليد عن جابر بن عبد الله: أنَّ رجلًا قرأ خلف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الظهر والعصر فأومأ إليه رجلٌ فنهاه؛ فلما انصرف قال: أتنهاني أن أقرأ خلف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فتذاكرا ذلك حتى سمع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: من صلَّى خلف الإمام فإن قراءته له قراءة. هكذا في «سنن الدارقطني»: حدثنا أبو بكر النيسابوري عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ثنا عمِّي ثنا الليث بن سعد عن يعقوب عن النعمان، فذكره.

(18/181)


ثم قال الدارقطني: أبو الوليد هذا مجهول. أقول: كنية عبد الله بن شدَّاد أبو الوليد، فالله أعلم. وقد أخرج الطحاوي الحديث الثاني في «شرح معاني الآثار»، ولفظه: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن قال ثنا عمي عبد الله بن وهب قال أخبرني الليث عن يعقوب عن النعمان عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شدَّاد عن جابر بن عبد الله أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة». أخرجه من طريق الثوري، ولم يذكر جابر. وأخرجه من طريق إسرائيل عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شدَّاد عن رجل من أهل البصرة عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - نحوه. فالحديث الأول في قراءة سبح اسم ربك الأعلى هو حديث عمران بن الحصين بعينه. ولفظه عند مسلم: عن عمران بن حصين قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صلاة الظهر أو العصر؛ فقال: أيكم قرأ خلفي بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}؟ فقال رجل: أنا، ولم أُرِدْ بها إلاَّ الخير، قال: قد علمتُ أنَّ بعضكم خالجنيها. وقد روى محمد بن الحسن في «كتاب الآثار» الحديث الثاني عن أبي حنيفة رحمه الله، وليس فيه ذكر الظهر والعصر. وكذا رواه البيهقي وغيره من طريق مكي بن إبراهيم عن أبي حنيفة. والذي يغلب على الذهن أنَّ قوله «في الظهر والعصر» إنما هي

(18/182)


في الحديث الأول، كما ثبتت في حديث عمران؛ فحذْفها من الحديث الأول وإدراجها في الثاني سهو لعلَّه [ص 8] من ابن أخي ابن وهب، أو من أبي بكر النيسابوري، أو غيرهما، والله أعلم. فالحديث الأول يدلُّ على مثل ما دلَّ عليه حديث عمران من جواز قراءة المأموم غير الفاتحة في السرية. وأما الحديث الثاني فإن كان الأمر ما ظنناه من أنَّ ذكر «الظهر أو العصر» فيه مدرج، فقد تقدَّم الكلام عليه أنه عام وحديث عمران مع حديث جابر الأول خاص. وإلاَّ فالجمع بين الحديثين بأنَّ المأموم إذا لم يقرأ غير الفاتحة في السرية كَفتْه قراءة الإمام في حصول الثواب، وإن قرأ فلا حرج. ولهذا لم ينهَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الرجل عن القراءة، ولا ذكر له أنها تُخِلُّ بالصلاة، واقتصر على قوله: «قراءة الإمام له قراءة»، وهذا لا يُشعِر بالنهي عن القراءة، وإنما يشعر بأنه إذا لم يقرأ كَفتْه قراءة الإمام؛ أي: فيما سوى الفاتحة كما علمْت. والله أعلم. ثم حكى الشارح عن ابن قدامة في «الشرح الكبير» قوله: (وممن كان لا يرى القراءة خلف الإمام: علي وابن عباس وابن مسعود وأبو سعيد وزيد بن ثابت وعقبة بن عامر وجابر وابن عمر وحذيفة بن اليمان. وبه يقول الثوري وابن عيينة وأصحاب الرأي ومالك والزهري والأسود وإبراهيم وسعيد بن جبير). قلت: أكثر هؤلاء اختلفت الرواية عنهم؛ فروي عن بعضهم إيجاب الفاتحة على المأموم ولو في الجهرية. وعن بعضهم إيجابها في السرية فقط. وروي إيجابها ولو في الجهرية عن جماعة من الصحابة غير من ذكر.

(18/183)


قال البخاري في «جزء القراءة»: (وقال عمر بن الخطاب: اقرأْ خلف الإمام، قلت: وإن قرأتَ، قال: نعم وإن قرأتُ. وكذلك قال أبي بن كعب وحذيفة بن اليمان وعبادة رضي الله عنهم. ويُذكر عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمرو وأبي سعيد الخدري وعدَّة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وقال القاسم بن محمد: كان رجال أئمة يقرؤون خلف الإمام. وقال أبو مريم: سمعت ابن مسعود رضي الله عنه يقرأ خلف الإمام. وقال أبو وائل عن ابن مسعود: أنصِتْ للإمام. وقال ابن المبارك: دلَّ أنَّ هذا في الجهر، وإنما يقرأ خلف الإمام فيما سكت الإمام. وقال الحسن وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وما لا أحصي من التابعين وأهل العلم: إنه يقرأ خلف الإمام وإن جهر. وكانت عائشة رضي الله عنها تأمر بالقراءة خلف الإمام ... وقال مجاهد: إذا لم يقرأ خلف الإمام أعاد الصلاة. وكذلك قال عبد الله بن الزبير ... وقال ابن خُثَيم: قلت لسعيد بن جبير: أَقرأُ خلف الإمام؟ قال: نعم وإن كنت تسمع قراءته؛ فإنهم قد أحدثوا ما لم يكونوا يصنعونه، إنَّ السلف كان إذا أمَّ أحدهم الناس كبَّر، ثم أنصتَ حتى يظنَّ أنَّ من خلفه قرأ بفاتحة الكتاب، ثم قرأ وأنصتوا.

(18/184)


وقال أبو هريرة رضي الله عنه: كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا أراد أن يقرأ سكت سكتةً. وكان أبو سلمة بن عبد الرحمن وميمون بن مهران وغيرهم وسعيد بن جبير يرون القراءة عند سكوت الإمام إلى نون {نَعْبُدُ} ... وقال الحسن وسعيد بن جبير [ص 6] وحميد بن هلال: اقرأْ بالحمد يوم الجمعة. وكان سعيد بن المسيب، وعروة، والشعبي، وعبيد الله بن عبد الله، ونافع بن جبير، وأبوالمليح، والقاسم بن محمد، وأبو مجلز، ومكحول، ومالك، وابن عون، وسعيد بن أبي عروبة= يرون القراءة. وكان أنس وعبد الله بن يزيد الأنصاري يسبحان خلف الإمام). ثم أسند عن جابر: اقرأْ في الظهر والعصر خلف الإمام، وعن ابن عمر وقد سئل عن القراءة خلف الإمام؛ فقال: ما كانوا يرون بأسًا أن يقرأ بفاتحة الكتاب في نفسه. ثم أسند بعد ذلك كثيرًا من هذه الآثار، وأسند عن أمير المؤمنين علي: أنه كان يأمر ويحب أن يقرأ خلف الإمام في الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة سورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب. وأسند عن عبد الله بن مغفَّل أنه كان يفعل ذلك. ثم قال الشارح: (وقال ابن قدامة في «المغني»: وأيضًا فإنه إجماع؛ قال أحمد: ما سمعنا أحدًا من أهل الإسلام يقول: إنَّ الإمام إذا جهر بالقراءة لا

(18/185)


تُجزئ صلاةُ من خلفه إذا لم يقرأ. وقال: هذا النبي وأصحابه والتابعون، وهذا مالك في أهل الحجاز، وهذا الثوري في أهل العراق، وهذا الأوزاعي في أهل الشام، وهذا الليث في أهل مصر = ما قالوا لرجل صلَّى وقرأ إمامه ولم يقرأ هو: صلاته باطلة). أقول: يريد: وقرأ إمامه جهرًا، كما لا يخفى. وبعد أن تواترت السنة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الدالة على أنه لا تُجزئ صلاة من لم يقرأ بالفاتحة، ولم يثبت ما يُخرِج المأموم من هذا العموم؛ بل ثبت ما ينصُّ على أنه داخلٌ فيه، وثبت عن جماعة من الصحابة النصُّ على ذلك، وثبت مثل ذلك عن جماعة من أئمة التابعين، فلا معنى لكونهم لم ينصُّوا على أنَّ صلاة المأموم إذا لم يقرأها في الجهرية باطلة؛ لأنَّ ذلك من السنة المتوترة التي احتجُّوا بها. فمن زعم أنهم كلهم كانوا يقولون بوجوبها، ويقولون مع ذلك إذا تركها المأموم في الجهرية لا يعيد الصلاة= فعليه البيان، وإلاَّ فالظاهر بيد خصمه. نعم، لم يكونوا يشدِّدون على من رأوه لا يقرأ؛ لعلمهم أنَّ المسألة من مسائل الاجتهاد. وقد تقدَّم قول البخاري: «وقال مجاهد: إذا لم يقرأ خلف الإمام أعاد الصلاة»، وقال في موضع آخر: «وقال ابن عُليَّة عن ليث عن مجاهد: إذا نسي فاتحة الكتاب: لا تعدّ تلك الركعة». أقول: وأما مذهب أبي هريرة فمشهور. ثم إنَّ من أصل الإمام أحمد الثابت عنه: أنَّ الإجماع لا يمكن العلم به، وإنما للعالم أن يقول: لا أعلم مخالفًا، ومن أصله: أن هذا لا يكون حجة يُردُّ بها كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، والله تعالى أعلم.

(18/186)


[ص 5] ثم قال ابن قدامة: «ولأنها قراءة لا تجب على المسبوق؛ فلم تجب على غيره، كالسورة». أقول: إنما يصحُّ القياس لو ثبت أنَّ السقوط عن المسبوق لا علة له إلاَّ عدم الوجوب، وليس هذا بمسلَّم؛ بل العلَّة في سقوط الفاتحة عن المسبوق عند من يقول به هي التخفيف عنه، لئلاَّ تلزمه المشقة، مع أنه قد أدرك معظم الأركان. وعلى كل حال فهذا القياس معارض للنص؛ فهو فاسد الاعتبار. مع انَّ البخاري رحمه الله تعالى اختار أنَّ من أدرك الإمام راكعًا فركع معه لم تُحسَب له ركعة، ونقله عن جماعةٍ من الصحابة، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. قال الشارح: (ولأنَّ الفاتحة وسائر القرآن سواء في سائر الأحكام، فكذلك في الصلاة). أقول: يُطلَب جواب هذا القياس من الذي قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]، والمراد بالسبع المثاني والقرآن العظيم: الفاتحة كما في الصحيح. والقائل: «قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل»، ثم فسَّر الصلاة بالفاتحة. ومن القائل: «لا تُجزِي صلاةٌ لا يُقرأ فيها بأم القرآن». ثم قال الشارح: (وقال الإمام أحمد رحمه الله وغيره: إنه يُستحب أن يقرأ في سكتات الإمام وفيما لا يجهر فيه، وإنما ذهبوا إلى أن يقرأ فيما يجهر في سكتات الإمام، لئلا تلزم القراءة حين قراءة الإمام. وفي السر لم يطَّلِع المأموم على سكتات الإمام فيجب عليه أن لا يقرأ في السرِّ مطلقًا؛ لأنه

(18/187)


يمكن أن تقع قراءته في وقت قراءة الإمام، وقد نُهِي عنه). قلت: قد بيَّنا فيما تقدَّم أنه لم يثبت دليل على منع المأموم من القراءة إلاَّ حديث عبادة: أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «لا تقرؤوا بشيءٍ من القرآن إذا جهرتُ، إلاَّ بأم القرآن؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها». وأما ذهاب من ذهب إلى أنه يقرؤها في سكتات الإمام فذلك استحباب لاستماع قراءة الإمام مع التدبُّر التام ــ واستماع القرآن مع التدبُّر أمرٌ مستحبٌّ إجماعًا ولو في غير الصلاة ــ ولظنهم أنَّ في الآية أو بعض الأحاديث التي تقدّمت دلالة على إيجاب الإنصات. وقد بيَّنا أنه إن كان في الآية دلالة على وجوب الإنصات، فالمراد به أن يستمع جهرَ الإمام ولا يجهر، وقد عقَّبها ببيان ذلك، فأمرَ المأمورَ بالإنصات أن يذكر الله تعالى في نفسه دون الجهر. وكذلك تلك الزيادة: «وإذا قرأ فأنصتوا» إن صحَّت. ونحن نستحبُّ ذلك، ولكن إذا قصَّر الإمام في السكوت لم نترك الفريضة لأجل المستحب.

(18/188)


ــ 3 ــ [الأوراق بين: 86 ــ 87] [ص 1] بسم الله الرحمن الرحيم قد قدّمنا الكلام على ما أدرجه الشارح في الكلام على المسألة الأولى، من الكلام على المسألة الرابعة. وقد تكلَّم عليها ثانيًا في بابها الذي ترجم له الترمذي بقوله: (باب ما جاء في القراءة خلف الإمام) والباب الذي يليه، فسأقتصُّ أثره في هذين البابين، وأسأل الله تعالى التوفيق. قال عافاه الله: (قوله: «لا تفعلوا إلاَّ بأمِّ القرآن» فيه دلالةٌ على أنهم كانوا يقرؤون خلف الإمام غير أم القرآن ... ، فنسخ من هذا اليوم قراءة غير أم القرآن خلف الإمام؛ أعني: فرضية غير أم القرآن الذي كان قراءته فرضًا قبل هذا). أقول: قد تقدَّم أنَّ قراءة شيءٍ من القرآن مع الفاتحة لم يكن فرضًا قط. وتقدَّم أنَّ حديث عبادة إنما نُهي فيه (1) عن قراءة غير أم القرآن إذا جهر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وفي «سنن الدارقطني»: أخبرنا ابن صاعد ثنا عبيد الله بن سعد ثنا عمي ثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني مكحول بهذا، وقال فيه: «إني لأراكم تقرؤون خلف إمامكم إذا جهر؟» قلنا: أجل والله يا رسول الله، هذًّا، قال: «فلا تفعلوا إلاَّ بأمِّ القرآن؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها». _________ (1) في الأصل: «فيها».

(18/189)


وكذا في روايات أخرى التقييد بالجهر. وسنعقد لهذا الحديث فصلًا مستقلًّا، إن شاء الله تعالى. وزَعْم الشارح أنَّ هذا الحديث ناسخٌ، فيه كلامٌ سيأتي قريبًا، إن شاء الله تعالى. قال الشارح: (قوله: «فإنه لا صلاة ... » إلخ؛ فيه دلالة على أنَّ قراءة أم القرآن خلف الإمام إنما هو لكونها فرضًا ... ثم نُسِخت فرضيتها أيضًا في الصلاة فيما بعد؛ كما رواه ... عن أبي هريرة: «أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - انصرف من صلاةٍ جهرَ فيها بالقراءة؛ فقال: هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا؟ قال رجلٌ: نعم يا رسول الله، قال: إني أقول مالي أُنازَع القرآن». هذا لفظ النسائي). أقول: هذا حديث ابن أُكيمة، وقد تقدَّم الكلام عليه، وسأتتبَّعُ هنا كلام الشارح. قال: (الاستفهام فيه للإنكار). أقول: هذا إخراجٌ له عن حقيقته بلا دليل، وقد أجابه الرجل بقوله: نعم، أنا يا رسول الله. والاستفهام الإنكاري لا يستدعي الجواب. والمتقدِّمون إنما فهموا النهي من الحديث من وجوهٍ أخر. أحدها: أنَّ الاستفهام يدلُّ أنهم لم يكونوا مأمورين بالقراءة قبل ذلك؛ إذ لو كانوا مأمورين بها لكان - صلى الله عليه وآله وسلم - عالمًا بأنهم يقرؤون، فكيف يستفهمهم؟ وهذا الوجه يردُّ دعوى الشارح أنَّ هذا الاستفهام إنكاري؛ إذ كيف ينكر عليهم أمرًا عملوه طاعةً لله ورسوله، فلو أراد النسخ لقال: «كنتُ أمرتكم بالقراءة فلا تفعلوا» أو نحو ذلك.

(18/190)


الوجه الثاني: قوله: «هل قرأ معي أحدٌ منكم»، ولو كانوا مأمورين قبل ذلك بالقراءة لَعَلِم - صلى الله عليه وآله وسلم - أنهم قرأوا كلهم؛ فكيف يقول: «هل قرأ معي أحدٌ منكم؟ ». الوجه الثالث: قوله: «وأنا أقول مالي أنازع القرآن»؛ وهذا تعجُّبٌ؛ كما قاله أهل المعاني وغيرهم في قوله تعالى: {فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20]. وهذا يدلُّ أنهم لم يكونوا مأمورين من قبل؛ إذ لو كان - صلى الله عليه وآله وسلم - يعلم أنهم كانوا مأمورين بالقراءة لعلم بأنهم [ص 2] يقرؤون، ولو علم أنهم يقرؤون مع علمه أنّ القراءة توجب المنازعة لما كان هناك وجه للتعجُّب. فهذه الوجوه تدلُّ على أنهم لم يكونوا مأمورين بالقراءة قبل. فإما أن لا يكونوا أُمِروا قطُّ، وإما أن يكونوا أُمِروا أولًا ثم نُسِخ ذلك قبل هذه الواقعة. وعلى الثاني فيكون هذا الحديث دليلًا على سَبْقِ ناسخٍ، لا ناسخًا بنفسه كما زعمه الشارح. على أنه لو كان الاستفهام إنكاريًّا كما قاله الشارح لكان هذا المعنى بحاله؛ لأنَّ الاستفهام الإنكاري يُطلق في معنيين: الأول: الإنكار الإبطالي؛ وهو يقتضي أنَّ ما بعد أداة الاستفهام واقع، وأنّ مدَّعيه كاذب. الثاني: الإنكار التوبيخي؛ وهو يقتضي أنّ ما بعد أداة الاستفهام واقع، وأنَّ فاعله ملوم؛ قاله ابن هشام في «المغني» وغيره.

(18/191)


فلو كان الاستفهام في الحديث إنكاريًّا كما قاله الشارح لكان فيه توبيخ وملامة للقاريء. وكيف يجوز أن يوبِّخهم ويلومهم على القراءة التي أُعْلِموا قبل ذلك بوجوبها عليهم، ولم يُنهَوا عنها إلى وقت الاستفهام؟ فيجب إذنْ ما قدَّمناه؛ أنه إما أن لا يكونوا أُمِروا بالقراءة قطُّ، وإما أن يكونوا أُمِروا أولًا ثم نُسخ ذلك قبل هذه الواقعة، والله أعلم. الوجه الرابع: ما فيه من أنَّ قراءتهم معه - صلى الله عليه وآله وسلم - موجبة لأن ينازع القرآن، وإعلامه لهم بهذا ربّما يشعِر بالنهي. وفي هذا الأخير نظر، وإلاَّ لكان قوله في حديث عمران: «قد علمتُ أنَّ بعضكم خالجنيها» مُشعِرًا بالنهي أيضًا، والشارح لا يقول بذلك. وقد مرَّ قول قتادة: «لو كرهها لنهى عنها». وعندي أنَّ بينهما فرقًا سيأتي في المسألة الخامسة إن شاء الله تعالى. ثم قال الشارح: (وفيه النهي عن القراءة مطلقًا). أقول: سيأتي الكلام على هذا قريبًا إن شاء الله تعالى. قال: (وحديث أبي هريرة هذا لا بدَّ أن يكون بعد حديث عبادة؛ لأنه لو كان حديث أبي هريرة قبل حديث عبادة يلزم أنَّ الصحابة يقرؤون خلف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد نهيه عنها مطلقًا، وهو بعيد). أقول: ومتى ثبت أنَّ النهي في حديث ابن أُكيمة عن القراءة مطلقًا؟ قال: (والقول بأنَّ المنازعة إنما تكون مع جهر المؤتمّ لا مع إسراره [لا يصحُّ]؛ لما روى مسلمٌ عن عمران بن حصين ... ، والقراءة في الظهر تكون سرًّا باتفاق الأمة).

(18/192)


أقول: لا حاجة إلى هذا الاستدلال؛ فإنَّ القائلين بأنَّ المؤتمَّ يقرأ يقولون: يقرأ سرًّا مطلقًا. والقائل بأنَّ المنازعة إنما تكون إذا جهر المأموم يقول: قد يخالف المأموم السنة فيرفع صوته. وقد مرَّ في الكلام على آية الإنصات ما رُوِي عن مجاهد: «كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقرأ في الصلاة فسمع قراءة فتى من الأنصار ... ». وما رُوي عن ابن مسعود: قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لقوم كانوا يقرؤون القرآن فيجهرون: «خلَّطتم عليَّ القرآن». وفي «سنن البيهقي»: عن أبي هريرة أنَّ ابن حذافة صلَّى فجهر بالقراءة؛ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يا ابن حذافة! لا تُسمِعْني وأَسْمِع الله عز وجل». وفي بعض روايات حديث عمران في «صحيح مسلم» ما يُشعِر بأنَّ الرجل رفع صوته بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، قال عمران: إنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صلّى الظهر، فجعل رجلٌ يقرأ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} الحديث. ورأى القائل بأنَّ المنازعة لا تكون إلاَّ إذا جهر المأموم أنَّ المنازعة هي ما جرت به العادة، أنَّ الرجل إذا قرأ وكان رجلٌ آخر يقرأ بحيث يسمعه تختلط عليه القراءة. وفي هذا نظر. والذي يظهر أنَّ المخالجة والمنازعة والالتباس المذكورات في حديث عمران وابن أكيمة وعبادة أمرٌ روحاني كان يعرض للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا قرأ سورة غير الفاتحة، وقرأها معه أحدٌ ممن يصلِّي خلفه. وسيأتي إيضاح هذا قريبًا، إن شاء الله تعالى.

(18/193)


والدليل على أنَّ ذلك الأمر الروحاني كان يحصل ولو لم يرفع المأموم صوته قولُه - صلى الله عليه وآله وسلم - في حديث عبادة: «هل تقرؤون إذا جهرتُ بالقراءة؟ » وفي حديث ابن أُكيمة: «هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا؟ » ثم قوله: «وأنا أقول مالي أُنازَع القرآن» [ص 3] يريد ــ والله أعلم ــ: فأَنْصِتوا عما سوى الفاتحة، وقوله: «وإذا قرأ» أي: جهرًا؛ بحيث تسمعون صوته؛ بقرينة قوله: «فأنصتوا»، فإنَّ الإنصات عند أهل اللغة هو السكوت للاستماع، كما يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. وبهذا تتفق الأدلة، ولله الحمد. ما يحتجُّ به من قال: إنَّ المأموم لا يقرأ أصلًا احتجُّوا بآية الإنصات، وبزيادة: «وإذا قرأ فأنصتوا» في حديث أبي موسى وحديث أبي هريرة. [ص 2] ثم قال الشارح: (وكذا القول بأنَّ حديث أبي هريرة مختصر من حديث عبادة، والواقعة واحدة= لا يصحُّ؛ لأنه قول بلا دليل). أقول: دليله اتفاق الحديثين في أمور: الأول: في أنَّ الصلاة كانت الصبح. الثاني: في حديث عبادة: أنَّ القراءة ثقلت أو التبست على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وفي حديث أبي هريرة قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وأنا أقول مالي أنازع القرآن». والمعنى واحد؛ في أنَّها ثقلت أو التبست عليه، وأنه نوزع فيها.

(18/194)


الثالث والرابع: في حديث عبادة: «إني أراكم تقرءون وراء إمامكم؟ قال: قلنا: أجل والله يا رسول الله، إنا لنفعل هذًّا». وفي روايةٍ: «فلما انصرف أقبل علينا بوجهه؛ فقال: هل تقرءون إذا جهرت بالقراءة؛ فقال بعضنا: إنا نصنع ذلك». وفي روايةٍ عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «هل تقرءون في الصلاة معي؟ ، قلنا: نعم». وفي روايةٍ: «فلما انصرف قال: منكم من أحدٍ يقرأ شيئًا من القرآن إذا جهرت بالقراءة؟ قلنا: نعم». وفي حديث أبي هريرة: «هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا؟ ، قال رجلٌ: نعم، أنا يا رسول الله». وفي روايةٍ: «هل قرأ منكم أحدٌ؟ ؛ فقالوا: نعم يا رسول الله». فها أنت ترى أنَّ المعنى واحدٌ. هو أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سألهم فأجابوا أو بعضهم بنعم. الخامس: في حديث عبادة: «فثقلت عليه القراءة». وفي روايةٍ: «فالتبست عليه القراءة». وفي حديث عبادة: «وأنا أقول مالي أنازع القرآن». والمعنى واحدٌ؛ لأنه إذا نُوزِعَ القرآن ثقلت عليه القراءة والتبست. السادس: في حديث عبادة: «فلا تفعلوا»، وفي حديث أبي هريرة: «وأنا أقول مالي أنازع القرآن؟ »؛ والمعنى متقاربٌ؛ لما قدَّمنا أنَّ هذا التعجُّب

(18/195)


مشعرٌ بالنهي. ولم يختلف الحديثان إلاَّ في أمرٍ واحدٍ؛ وهو أنَّ في حديث عبادة استثناء الفاتحة، ولم يذكر هذا في حديث أبي هريرة. ولكن حديث أبي هريرة بيَّن أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما سألهم: هل قرأ أحد منهم معه السورة بعد الفاتحة؟ وهذا مما فتح الله به عليَّ، ولله الحمد. وهو واضحٌ جدًّا، وذلك أنَّ قراءة الفاتحة كانت مفروضة على المأمومين قبل ذلك، والشارح معترفٌ بهذا. فمن المحال أن يكون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يعلم أنَّ الفاتحة مفروضة عليهم، ومع ذلك يسألهم: هل قرأ أحدٌ منكم معي آنفًا؛ يريد هل قرأ الفاتحة أو غيرها. فتعيَّن أنَّ المراد: هل قرأ أحدٌ منكم معي ما قرأته بعد الفاتحة؛ لأنهم لم يكونوا مأمورين بقراءة غير الفاتحة، كما بيَّناه من قبل. فكان محتملًا فقط أنَّ بعضهم قرأ؛ فلهذا سألهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ذلك السؤال، فعلم الصحابة رضي الله عنهم أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكن ليسألهم هل قرؤوا قراءةً مطلقًا، كيف وهو - صلى الله عليه وآله وسلم - يعلم أنَّ الفاتحة فرضٌ عليهم، لا بد أن يقرؤوها. فعلموا أنه إنما يريد: هل قرأ أحدٌ منكم معي ما قرأته بعد الفاتحة؛ فقال رجلٌ: نعم أنا يا رسول الله؛ فقال: وأنا أقول: مالي أنازع القرآن؛ فأشعرَ هذا بالنهي عن أن يتحرَّى إنسانٌ فيقرأ مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ما يقرأه بعد الفاتحة.

(18/196)


فإنَّ قوله «معي» يشعر بأنَّ المراد: قرأ عين ما قرأته، ويؤيِّد ذلك ما تقدَّم في الكلام على حديث عمران. وإنما صرَّح في حديث عمران بقوله: «هل قرأ أحدٌ منكم بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}» لأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - قرأها سرًّا، لأن الصلاة كانت ظهرًا، فلو قال: هل [قرأ] أحدٌ منكم معي؟ لما عُلِم المقصود. وأما في حديث أبي هريرة فإنَّ قراءته - صلى الله عليه وآله وسلم - كانت جهرًا، فاكتفى بقوله: هل قرأ أحدٌ منكم معي؛ لأنهم يعلمون ما قرأ، بأبي هو أمي. ينجبر ذلك بما عُرِف من مذهبه، وفي «صحيح مسلم»: « ... فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام؟ قال: اقرأ بها في نفسك ... ». وفي روايةٍ للحميدي على شرط مسلمٍ: « ... قلت يا أبا هريرة: إني أسمع قراءة الإمام، فقال: يا فارسي، أو يا ابن الفارسي، اقرأ بها في نفسك». ومذهبه في ذلك مشهور. ومذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنَّ فتوى الراوي بخلاف ما روى يمنع الاستدلال بما روى. وأما الشافعي وأئمة الحديث فالعبرة عندهم بما روى، ولكنهم لا ينكرون أنَّ مخالفته لمرويِّه تُورِث فيه شبهةً. [الأوراق بين: 90 ــ 91] فإذا انضمَّ إلى رأيه دليل آخر لم يمتنعوا من ردِّ روايته حينئذٍ أو تأويلها. والقرائن التي قدَّمناها يحصل بها أو بدونها غلبة الظن باتحاد القصة، ومثل ذلك كافٍ في الدلالة عند أهل العلم.

(18/197)


وغاية الأمر أنَّ عبادة زاد زيادة سكت عنها أبو هريرة، ولكنه كان يفتي بمقتضاها. هذا مع أنَّ ابن أكيمة ليس بالمشهور. وقد قال فيه ابن سعد: «روى عنه الزهري حديثًا واحدًا، ومنهم من لا يحتجُّ بحديثه، ويقول هو مجهول». وقال أبو بكر البزَّار: «ابن أُكيمة ليس مشهورًا بالنقل، ولم يحدِّث عنه إلاَّ الزهري، وقال الحميدي: هو رجلٌ مجهول». وقدَّمنا أنَّ من قوَّاه استند إلى مستند ضعيف؛ وهو أنه حدَّث سعيد بن المسيِّب والزهري يسمع. فمثل هذا إذا روى حديثًا عن صحابي، وكان ذلك الحديث مخالفًا لمذهب ذلك الصحابي، وكان لمذهب ذلك الصحابي دليل ثابت لم يشكَّ متدبِّر في وجوب ردِّ تلك الرواية أو تاويلها، والتأويل هنا قريب. وكأنَّ أبا هريرة كان بعيدًا في تلك القصة؛ فسمع بعض كلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وخفي عليه آخره، فأخبره غيره من الصحابة بحاصله. ولذلك ــ والله أعلم ــ ترك رواية القصة فلم يروِها عنه أصحابه المشهورون، وعددهم لا يحصى، وروايتهم عنه مملوءة بها كتب الحديث. وحدَّث بها مرَّةً واحدةً سمعها منه هذا الرجل إن كان سمعها، وعسى أن يكون أبو هريرة لما ذكرها ذكر معها ما يدلُّ على استثناء الفاتحة، فلم يحفظه ابن أكيمة، والله أعلم.

(18/198)


فإن قيل: هب أنَّ القصة واحدة فإنَّ في حديث عبادة زيادة معارضة لما يفهم من حديث أبي هريرة من الإطلاق. قلت: غايته أنه يجب الترجيح بينهما، ولا ريب أنَّ حديث عبادة أرجح؛ لأنَّ سنده أثبت، ولأنَّ راويه ــ وهو عبادة ــ كان يعمل ويفتي على وفقه، وأبو هريرة كان يعمل ويفتي على خلاف إطلاق حديثه. وحديث عبادة موافق لقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} [الأعراف: 205]، على ما تقدَّم في الكلام على آية الإنصات. وموافق لحديث عمران بن الحصين. وموافق لعموم دلائل وجوب الفاتحة، وغير ذلك. وله شواهد من حديث أنس، وعبد الله بن عمرو، وغيرهما، سنذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى. فإن لم تقنعك الدلائل المتقدِّمة على اتحاد القصة أو ردِّ رواية ابن أكيمة فلا علينا أن نجاريك في ذلك؛ فنقول: هب أنَّ حديث ابن أكيمة ثابت، وأنهما واقعتان. فلا يخلو أن يكون حديث عبادة متقدِّمًا أو متأخرًا. فإن كان متقدِّمًا فهو مخصِّص لحديث أبي هريرة؛ على قول الشافعية والجمهور إن العام المتأخر لا ينسخ الخاص المتقدِّم؛ بل يُعمل بهما معًا، فيُحمَل الخاص على خصوصه، والعام على ما بقي. وإن كان حديث عبادة متأخرًا فهو ناسخٌ لحديث أبي هريرة عند

(18/199)


الحنفية، وناسخٌ أو مخصِّصٌ عند غيرهم. فإن قلت: أنا أختار أنه متقدِّمٌ، وأقول بمذهب الحنفية؛ أنَّ العام المتأخر ينسخ الخاص [ص 20] المتقدَّم. قلنا: فما دليلك على تقدُّم حديث عبادة؟ قال الشارح: (لأنه لو كان أبو هريرة قبل حديث عبادة يلزم أنَّ الصحابة يقرؤون خلف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد نهيه عنها، وهو بعيد). قلنا: فقد بقي أبو هريرة نفسه يفتي بالقراءة بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، هذا وهو راوي الحديث. وهكذا عبادة؛ بقي بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقرأ وراء الإمام في ما يجهر فيه الإمام، ويفتي بذلك. فما بالك بغيرهما؟ ولعلهم لم يفهموا مما رواه أبو هريرة نهيًا؛ لأنه ليس بصريح. ولعلَّ من قرأ منهم في حديث عبادة لم يكن سمع الحديث الذي رواه أبو هريرة، وقد بقي بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - طائفة من جلَّة الصحابة ــ منهم أمير المؤمنين عمر، وسيِّد المسلمين أبي بن كعب، وغيرهما ــ يقرؤون خلف أئمتهم ويفتون بذلك. وقد تقدَّم كلام البخاري رحمه الله تعالى، وسيأتي زيادة عليه إن شاء الله تعالى. وفي كتاب «الاعتبار» للحازمي فصل نقله عن الحميدي، أوضح فيه أنَّ حديث عبادة هو الناسخ لحديث أبي هريرة؛ فانظره فيه إن شئت. وأنت إذا تدبَّرت ما ذكرناه وآثرت الحق فلا أقلَّ من أن تتوقَّف عن الحكم لأحد الحديثين بالتقدُّم. وعلى هذا فمذهب الشافعي وجمهور العلماء رحمهم الله تعالى حمل

(18/200)


العام على الخاص؛ فيعمل بالخاص في خصوصه، وبالعام فيما سواه، ومذهب الحنفية التوقُّف، والعمل بالراجح. وقد قدَّمنا أنَّ حديث عبادة هو الراجح. هذا كلَّه مجاراة، والصواب ما قدَّمناه: أنَّ الحديثين عن قصة واحدة، والله أعلم. ثم قال الشارح: (وحملُ حديث أبي هريرة على ما عدا الفاتحة تعسُّف؛ بل علة الشارع فيه العموم؛ لأنَّ الشارع منع عن القراءة مطلقًا، وبيَّن علَّة النهي المنازعة. وقراءة الفاتحة وغيرها مشتركة في المنازعة؛ سواء فيها بدون فرق، فهذه العلَّة تجري في قراءة الفاتحة كما تجري في قراءة غيرها، سواء بسواء). أقول: إنما التعسُّف ما كان بغير حجَّة، وقد قدَّمنا الحجة في ذلك، ولو لم يكن على الحمل المذكور دليل إلاَّ ما عُرِف من فتوى أبي هريرة لكان كافيًا لمنع الشارح عن أن يقول: تعسف؛ لأنَّ مذهب إمامه أنَّ فتوى الراوي بخلاف مرويِّه تمنع الاحتجاج بمرويِّه. والشارح نفسه قد احتجَّ بمثل هذا؛ كما سيأتي نقله إن شاء الله تعالى. وأما قوله: (إنَّ الشارع بيَّن أنَّ العلَّة المنازعة، وهي موجودة في قراءة الفاتحة)؛ فهذه دعوى لا دليل عليها؛ لأنّ المنازعة على ما يقتضيه صنيع الشارح فيما مرَّ، وهو الذي يظهر لي أمرٌ روحاني كان يعرض للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عندما يقرأ المأمومون معه. ولسنا ندري هل كان يعرض له إذا قرأ المأمومون الفاتحة، أم كان لا يعرض له إلاَّ إذا قرأوا غيرها، أم كان لا يعرض له إلاَّ إذا قرأ أحد المأمومين

(18/201)


عين السورة التي يقرأها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد الفاتحة؛ كما يؤخذ من حديث عمران، على القول بأنَّ الذي قرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قرأها سرًّا. فمن أين له الجزم بأنَّ المنازعة تقع بقراءة الفاتحة كما تقع بغيرها؟ [ص 19] فإن قال: أخذته من إطلاق الحديث، فإنه سألهم: هل قرأ معي أحد منكم آنفًا؟ فقال رجل: نعم يا رسول الله، قال: إني أقول مالي أنازع القرآن. فالجواب: أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ليسألهم هذا السؤال (1). _________ (1) بعده بياض كبير في بقية الصفحة.

(18/202)


ــ 4 ــ [ص 12] مع أنَّ قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا» مخاطبة لهم في قضية عرضت، وليس من الكلام الذي يُقصد به تأسيس أصل شرعي، كقوله: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»، وقوله: «كل صلاة لا يُقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج»، ونحو ذلك. وكلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كله حقٌّ، ولكن الكلام الذي تؤسَّس به قاعدة شرعية يحتاط له مالا يحتاط لما كان من المخاطبات العارضة. فإنه قد يعتمد في هذه على قرائن يعلمها المخاطب، وإن لم يدلَّ عليها اللفظ. وقد علمت أنَّ ترك لفظ «قرأ» على إطلاقه يستدعي افتراض ناسخ ينسخ تلك القواعد الشرعية الكلية. ومثل هذا الافتراض لا يثبت بمجرد ذلك الظاهر الضعيف؛ فقد بان الصبح لذي عينين. فإن لم يُقنِعك ما ذكرنا فأقل ما يجب عليك أن تعلم أنك إذا لم تستبعد أن يكون حديث ابن أُكيمة ناسخًا لوجوب الفاتحة، وناهيًا عنها وراء الإمام، مع أنَّ جمهور الصحابة ــ ومنهم أبو هريرة راويه ــ لم يزالوا بعده يقرؤون الفاتحة وراء الإمام ويفتون بذلك= فليس لك أن تستبعد أن يبقى بعضهم بعده يقرؤون غير الفاتحة بعد الإمام، وإذا لم يكن لك أن تستبعد هذا لم يبق بيدك دليل على تأخر حديث ابن اكيمة عن حديث عبادة؛ لأنك إنما احتججت على تأخره بقولك: (لأنه لو كان حديث أبي هريرة قبل حديث عبادة يلزم أن الصحابة يقرؤون خلف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد نهيه عنها مطلقًا، وهو بعيد).

(18/203)


وإذا سقط دليلك على تأخره فقد احتجَّ الحميدي على تقدُّمه ــ كما نقله الحازمي في الاعتبار ــ بأنَّ مذهب راويه أبي هريرة يدلُّ على تقدُّمه، ويقوِّيه ما عرفت من موافقة جمهور الصحابة له. لعلك تقول: هذا هو الدليل الأول الذي لم أقنع به. فنقول: لا حرج، هَبْ أنه لم يقم دليل على تقدّمه ولا تأخره؛ فإنه يُرجع حينئذٍ إلى الترجيح. ولا شكَّ أنَّ حديث عبادة وشواهده أرجح مع ما يعضده من النصوص العامة الثابتة في الصحيحين أو أحدهما. فأما قول الشارح: (إنَّ علة النهي المنازعة، وهي تحصل بالفاتحة كما تحصل بغيرها)؛ فإن كان مقصوده تأكيد ما قاله من أنَّ لفظ «قرأ» مطلق، فالذي قدمناه من أنَّ المراد به قراءة غير الفاتحة أقوى وأوضح. مع أنَّ المنازعة كانت موجودة في حديث عبادة، وقد صرَّح فيه باستثناء الفاتحة. وإن كان مقصوده أنه إن سلَّم أن لفظ «قرأ» عنى به قراءة غير الفاتحة؛ فتلحق الفاتحة بالنهي قياسًا؛ لأنَّ علة النهي المنازعة، وهي موجودة في قراءة الفاتحة. فالجواب: لا نسلَّم أن المنازعة هي علة النهي. لِم لا تكون العلة هي الإخلال بالاستماع لغير موجب، وإنما ذكر المنازعة في الحديث لأنه استدلّ بها على أنَّ بعض من خلفه قرأ بغير الفاتحة. أو يكون كل من المنازعة والإخلال المذكور جزء علَّة، والعلَّة مجموعهما. ولو سلَّمنا أنَّ المنازعة هي العلَّة فنقول: قد أثبتنا أنَّ القراءة المنصوصة

(18/204)


هي قراءة غير الفاتحة، وقراءة غير الفاتحة غير واجبة؛ فينبغي أن يُلحظ هذا الوصف؛ فيقال: المنازعة لغير موجب. ولو سلَّمنا إلغاء هذا الوصف، وثبوت أنَّ العلَّة هي المنازعة مطلقًا فلا نسلِّم أنها كانت تحصل منازعة بسبب قراءة الفاتحة. ولا يلزم من حصول المنازعة بغير الفاتحة حصولها بالفاتحة؛ لأنَّ المنازعة أمرٌ روحاني لا يدرك بالقياس. ولو سلَّمنا حصول المنازعة بالفاتحة فغايته أن ينتظم القياس، ولكنه يكون فاسد الاعتبار؛ لمعارضته النص في حديث عبادة على وجوب الفاتحة، ولو أدَّت إلى المنازعة، والقياس لا ينسخ النص. ولو فرضنا أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نهى المقتدين به عن قراءة الفاتحة معللًا ذلك بالمنازعة فلا يلزم من ذلك عدم وجوب الفاتحة على المأموم مطلقًا؛ لاحتمال أنها سقطت عنهم دفعًا للمنازعة، كما يسقط القيام عن العاجز. وعلى هذا فلا يدلُّ ذلك إلا على سقوط الفاتحة عن المقتدي برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ لأنَّ المنازعة مخصوصة به - صلى الله عليه وآله وسلم -، فأما غيره فإنه لا يحسُّ بمنازعة، كما هو مشاهد. والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، والله أعلم. ثم قال الشارح: (وكذا القول بنسخ حديث أبي هريرة لا يصحُّ؛ لما بيَّنا أنَّ حديث أبي هريرة بعد حديث عبادة). أقول: قد تقدَّم أنَّ ما استُدِلَّ به على تأخر حديث أبي هريرة يدلُّ على وجوب حمله على ما دون الفاتحة؛ بل دلالته على هذا أوضح.

(18/205)


فإن أصرَّ على الاستدلال بذلك الدليل لزمه حملُ الحديث على ما دون الفاتحة، وإن ترك الاستدلال لزمه نسخ حديث أبي هريرة أو تأويله أو سقوطه لرجحان معارضه، (أشقرُ إن تقدّم تُنحَرْ، وإن تأخر تُعقَرْ). ثم قال: (وأما ما قيل إنَّ أبا هريرة أفتى بقراءة الفاتحة خلف الإمام ففيه أن لا حجة في قول أحد بمقابلة الحديث المرفوع، ولا يكون عمل الراوي خلاف روايته دليلًا على ضعفه ... ). أقول: لم يعارض ذلك القائل الحديث بقول الصحابي، وإنما استدلَّ بمذهب أبي هريرة على ضعف الحديث أو تأويله أو نسخه. ومثل هذا الاستدلال صحيح عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وأما الشافعي والمحدِّثون فالعبرة عندهم بما روى دون ما رأى، ولكنهم لا ينكرون أنَّ فتوى الراوي بخلاف روايته يورث الرواية وهنًا ما؛ فإذا انضمَّ إليه موهنٌ آخر قوي الوهَن، إلى أن تسقط الرواية أو تؤوَّل، وقد تقدَّم هذا المعنى. ثم قال: (فثبت بحديث أبي هريرة النهي عن قراءة الفاتحة خلف الإمام، وهو دليل على نسخ ركنيتها). أقول: قد علمت جوابه، وقد أسلفنا في أواخر الكلام على المسألة الأولى أنه لو فُرِض ثبوت نهي المأموم عن قراءة الفاتحة لما دلَّ ذلك على نسخ ركنيتها مطلقًا؛ كمطلق القراءة عند الحنفية. [ص 31] ثم قال: (وعلى هذا إجماع، قال ابن قدامة في المغني: وأيضًا فإنه إجماع، قال أحمد: ما سمعنا أحدًا من أهل الإسلام ... ).

(18/206)


أقول: قد تقدَّم نقل هذا الكلام وجوابه. ثم قال: (وإذا ثبت أنَّ صلاة من لم يقرأ خلف إمامه في الجهرية لم تبطل فعلم به أنَّ الفاتحة ليست بركن). وقد مرَّ جوابه في الكلام على المسألة الأولى. ثم ذكر زيادة: «وإذا قرأ فأنصتوا». وقد مرَّ بيانُ ضعفها من الطريقين، وأنها لو صحَّت في حديث أبي هريرة تكون منسوخة بحديث عبادة وغيره، وأما في حديث أبي موسى فعلى أصول الحنفية تسقط لمعارضتها لعموم الأحاديث الصحيحة في إيجاب الفاتحة، والتاريخ مجهول. وأما على أصول الشافعية وغيرهم فيكون الأمر بالإنصات محمولًا على الإنصات عن غير الفاتحة، وإنما يكون الإنصات إذا سمع قراءة الإمام كما قدمناه. والشافعية يقولون بهذا: إنَّ المأموم إذا كان يسمع صوت الإمام في الجهرية يقرأ الفاتحة فقط، ثم ينصت لقراءة الإمام. وبذلك يحصل الجمع بين هذه الزيادة إن صحَّت وبين سائر الأدلة، والله أعلم. ثم أعاد الاستدلال بآية الانصات، وحديث المسيء صلاته، وحديث أبي هريرة: «لا صلاة إلاَّ بقراءة» على نسخ ركنية الفاتحة. وقد مرَّ الكلام على ذلك كله. ثم ذكر حديث: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة».

(18/207)


ــ 5 ــ فاستمع الآن ما يلقى إليك: قد ثبت بالثلاثة الوجوه الأولى أن هذا الحديث يدل أنَّهم لم يكونوا قبله مأمورين بالقراءة؛ بل إما أن لا يكونوا أُمِروا بها قط، وإما أن يكونوا أُمروا بها أولًا، ثم نُهوا عنها قبل هذا الحديث. إذا تقرَّر هذا فقد علمت أنَّ أحاديث وجوب الفاتحة عامة تتناول المأموم وإن جهر الإمام. وقد نصَّ على وجوبها على المأموم وإن جهر الإمام في حديث عبادة. فحديث ابن أُكيمة لا يخلو أن يكون قبلها أو بعدها؛ فإن كان قبلها فهو منسوخٌ بها قطعًا، وإن كان بعدها فلا. فالثلاثة الوجوه المتقدمة توجب أحد أمرين: إما أن يكون المراد بالقراءة التي سألهم عنها ما يصدق على الفاتحة، ويكون قد سبقه ناسخٌ لوجوب الفاتحة. وإما أن يُحمل قوله: «هل قرأ معي أحد منكم» على قراءة غير الفاتحة، وتكون القرينة علمهم بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يعلم أنَّ الفاتحة كانت واجبةً عليهم، وأنهم لا يدعونها. فهذا يمنع أن يستفهمهم هل قرأ أحد منهم ويريد الفاتحة أو ما يصدق بها، ويمنع أن يتعجَّب من المنازعة التي تحصل بقراءتهم الفاتحة. وإذن يعلمون أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما عنى غير الفاتحة؛ فتدبَّر هذا الكلام جيدًا.

(18/208)


وإذ قد تعيَّن أحد هذين الاحتمالين فلْننظر أيهما أرجح، سائلين الله تعالى التوفيق. قد يقال: مما يرجِّح الأول أنَّ فيه إبقاء لفظ «قرأ» على إطلاقه. وفيه نظر من وجهين: الأول: أنَّ من كلامه - صلى الله عليه وآله وسلم - ما يُساق مساق التشريع العام؛ كقوله: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب». وقوله: «كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج»، ونحو ذلك. ومنه ما يكون محاورة لبعض أصحابه؛ كهذا الحديث. فما كان من قبيل الأول فهو الذي ينبغي أن يحافظ على إطلاقه وعمومه وغير ذلك. وما كان من الثاني فالمدار فيه على العلم بالقرائن التي كانت عند المخاطب. الوجه الثاني: أنَّ إبقاءه على إطلاقه يتوقَّف على افتراض تقدُّم ناسخ ينسخ تلك النصوص. ولا شك أنَّ صرفه عن إطلاقه أهون من ذلك الافتراض. ومما يرجِّح الثاني أنَّ أبا هريرة راوي الحديث ممن يفتي بوجوب الفاتحة خلف الإمام وإن جهر. وهذا يدلُّ أنه كان عنده حين سماعه قرينة صارفة عن الإطلاق. ووافقه جماعة من الصحابة؛ منهم أمير المؤمنين عمر، وأمير المؤمنين

(18/209)


علي في إحدى الروايتين عنه، وأم المؤمنين عائشة، وسيِّد المسلمين أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، والإمام الجليل عبد الله بن مسعود في إحدى الروايتين، وحبر الأمة عبد الله بن عباس، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن مغفَّل.

(18/210)


الرسالة السادسة والعشرون مسألة في إعادة الإمام الصلاةَ دون من صلَّى وراءه في الجماعة

(18/211)


[كتب أحد العلماء إلى الشيخ المعلمي ما يلي:] عمدتي المحقق الشيخ عبد الرحمن المعلمي حفظه الله وطوَّل عمره، آمين. «لو بان حدث الإمام بعد الصلاة وقد صلّى بجماعةٍ لزمتْه الإعادةُ دونهم». فلم أقف على دليل هذا القول أبدًا ــ وقد طالعتُ وراجعت في محله ــ سوى تعليلات، كقولهم: نظرًا لاعتقاد المأموم تصح صلاته دون صلاة إمامه، مع أن الإمام غير مستقل بصلاته، بل هو حامل لصلاته وصلاةِ مَن خلفه. وكان القياس صحة صلاة مَن خلفه بصحة صلاته وبطلانها ببطلانها. وأيضًا أن قولهم «لا عبرة في الخطأ البيّن خطؤه» يقتضي لزوم إعادة صلاة من خلف الإمام، حيث إنه تبيَّن لهم الخطأ البيِّن خطؤه. والله يا سيدي! ما عرفتُ توجيه هذه المسألة ولا وقفتُ لها بدليل من كتاب وسنة، اللهم إلّا أن يكون إجماعًا. وأما القياس فغير قائلٍ لصحتها، بل يقتضي بطلانها على ما ظهر للحقير فحقِّقوا لنا، لا زلتم أهلًا لذلك. وأما قولي «من كتاب وسنة» فعلى ما أوردت العلماء في كتبهم من النصوص، لا نفس الكتاب والسنة. [فأجاب الشيخ بما يلي:] الحمد لله. لا يخفى عليكم أن الأصل في جميع الأعمال عدم الوجوب، فلا يجب علينا شيء إلا بدليل. وقد أُوجبت علينا الصلاة، وعلَّمنا النبي صلى الله عليه

(18/213)


وآله وسلم كيفيتها، فكان الأصل أنها تصح على كل حالة، ولكن جاء الدليل باشتراط الطهارة من الحدثين والنجس ثوبًا وبدنًا ومكانًا، واشتراط ستر العورة واستقبال القبلة ونحوها، فعُلِم أنها لا تصحُّ صلاة بدون ذلك، وأنها لا تنعقد معها، وإذا عرضت في أثنائها أبطلتها، على ما فيها من تفصيل. وكان الأصل عدم شرع جماعة، فشُرِعت. وكان الأصل أن لا يتحمل الإمام عن المأموم شيئًا، وأن فائدة الصلاة إنما هي مجرد الربط، فورد أنه من أدرك الإمام راكعًا فركع معه أدرك الركعة، فعلمنا أنه تحمَّل عنه الفاتحة، وورد إلزام المأموم بقراءة الفاتحة فعلمنا أنه لا يحمل عنه إلّا في حق المسبوق. ثم الأصل أنها إذا انعقدت الصلاة لا يُبطلها إلا اختلال شرط في حقّ المصلي، فورد غيرها، كالكلام والأكل والعمل، وفيها تفصيل. وقام الدليل على أن التلبس بالعبادة الفاسدة باطل، فعلمنا أن ربط الصلاة بمن نعلم بطلانَ صلاته باطل، ولما لزم منه التلاعب لم تنعقد الصلاة، وأُلحِق به الكافر مطلقًا والمرأة وذو النجاسة الظاهرة لتقصير المقتدي، وحيث انتفى التلاعب والتقصير في حق المقتدي بالمحدث وذي النجاسة الخفية بقي على الأصل في عدم البطلان، فمن ادعى البطلان فعليه الدليل، إلّا أنه أُلحق بالبطلان الاقتداءُ بالكافر المخفي لكفره لغِلَظِ شأن الكفر، مع كونه لا يُتصور منه إمامةٌ أصلًا، بخلاف المحدِث فإنها تصح منه في حالة تيمُّمه، ولو نازعنا في بطلانها لمجرد التقصير لكان للنزاع حظٌّ من النظر، وبالأولى في حق الكافر المخفي لكفره. أما الإجماع فلا إجماع، فالمسألة خلافية. وأما الدليل فمثلنا يكتفي بكلام أهل الحواشي، وأهل الحواشي يكتفون

(18/214)


بكلام شرح «المنهاج» ونحوه، والشرَّاح يكتفون بكلام الشيخين، والشيخان يكتفيان بكلام الأصحاب، والأصحاب بكلام الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه، والعهدة عليه. ولكننا نقول: قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، فلا يلزم من بطلان صلاة الإمام بطلان صلاة المأموم إلّا حيث وقع من المأموم تقصير، كأن كان إمامُه امرأةً أو كافرًا معلنًا أو ذا نجاسة ظاهرة. نعم قال الإمام النووي في «منهاجه» (1): قلت الأصح المنصوص وقول الجمهور أن مُخفيَ الكفر هنا كمُعلِنه. قال الشيخ عميرة (2): «علل الشافعي رضي الله عنه مسألة الكافر بأنه لا يجوز أن يكون إمامًا، بخلاف الجنب كما في حالة تيممه». ويُستدلُّ أيضًا بما رواه أبو داود (3) عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل في صلاة الفجر، فأومأ بيده أن مكانَكم، ثم جاء ورأسُه يَقطُر، فصلَّى بهم. ورواه أيضًا من طريق أخرى (4) قال في أوله: «فكبَّر»، وقال في آخره: «فلما قضى الصلاة قال: إنما أنا بشر، إني كنت جنبًا». ورواه من طريق أخرى (5) مرسلًا، قال فيها: «فكبَّر ثم أومأ بيده ... إلخ». ثم حكى _________ (1) (1/ 234). (2) «حاشيته على شرح المحلّي» (1/ 232). (3) رقم (233). (4) رقم (234). (5) عقب الحديث (234).

(18/215)


عن مالك روايتين مُثبِتتين للتكبير (1). فربما يقوم بهذه الطرق دليل، وإن كانت الطرق الصحيحة تُثبت أنه انصرف قبلَ أن يكبر. ووجه الاستدلال أنه يؤخذ من تلك الطرق أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمرهم باستئناف النية والتحريم، بدليل أنه إنما أومأ عليهم إيماءً، وإذا صحَّ جزءٌ من الصلاة خلف الجنب صحت كلها، ولا مانع، وبالأولى الحدث الأصغر والنجاسة ونحوها. ومما يدلُّ له أيضًا قصة سيدنا عمر رضي الله عنه حين طُعِن فاستخلف وأمضى المسلمون صلاتهم، وفيهم أكابر الصحابة رضوان الله عليهم، ولم يبالوا بكون إمامهم قد بطلت صلاته. وأما قولكم: «لا عبرة بالخطأ البيِّن خطؤه»، فإنما هو: «لا عبرة بالظن البيِّن خطؤه». وهذا معتبر في العقود، كما عبَّروا عنه بقولهم: العبرة في العقود لما في نفس الأمر لا بما في ظن المكلّف. ومثاله: لو باع مال مورثه ظانًّا حياته، فبان أنه كان قد مات، فيصح. وأما في العبادات فقالوا: العبرة بما في نفس الأمر وبما في ظن المكلف معًا. فلو صلَّى خلف إنسان يظنُّه محدِثًا، فبان أنه كان متوضئًا، فصلاة المؤتمّ باطلة. وأما ما في نفس الأمر فيعتبر في العبادات إلّا حيثُ انتفى التقصير عن البحث، كما يظهر من كلامهم هنا. لكنهم في مسألة الكافر المخفي لكفره اعتبروه مع عدم التقصير. والله أعلم. نعم قولكم: «إن الإمام حامل لصلاته وصلاة مَن خلفه» ما معناه: فإن _________ (1) عقب الحديث (234).

(18/216)


المأمومين مكلفون بأداء جميع الأركان، كالنية والتحرم وقراءة الفاتحة، إلّا أن الإمام يتحمل الفاتحة عن المسبوق. وكذلك إذا بان حدثُ الإمام لم تجزِئ المسبوقَ تلك الركعةُ، لأن الإمام حينئذٍ لم يكن أهلًا للتحمل. ولا يُنكَر أن بين الإمام والمأموم رابطة قوية، بحيث يؤدي تمام صلاة الإمام إلى تمام صلاة المأموم ونقصها إلى نقصها، وكذا العكس، بدليل ما رواه النسائي (1) أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى صلاة الصبح، فقرأ الروم، فالتبس عليه، فلما صلّى قال: «ما بال أقوام يصلُّون معنا لا يُحسِنون الطهور، وإنما يُلبِّس علينا القرآنَ أولئك». وفي هذا الحديث بحث اجتنيناه من كلام مولانا الإمام (2) أيَّده الله. أما أنه يؤدي بطلانها إلى بطلانها فلا يطلق ذلك، لما مرَّ. والله أعلم. _________ (1) (2/ 156) من حديث شبيب أبي روح عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو حديث حسن. (2) هو الإدريسي.

(18/217)


الرسالة السابعة والعشرون صيام ستة أيام من شوال

(18/219)


[ص 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين حمدًا يُوافي نِعَمَه ويكافئ مزيدَه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه. أما بعد، فإنني سُئلتُ عن صيام ستة أيام من شوال، وذُكِر لي عن رجلٍ من ذوي الفضل والصلاح أنه يقول: إن صيامها بدعة، وإن حديثها موضوع، لأنه تفرد به سعد بن سعيد الأنصاري، وقد طعن فيه أئمة الحديث. فأقول: أما قوله: "إن صيامها بدعة" فيُبطله ما ستعلمه من صحةِ الحديث وعملِ بعض الصحابة والتابعين به، وإطباقِ المذاهب على استحباب صيامها. وأما قوله: "إن الحديث موضوع" فعجيب، فإن أئمة الحديث منهم من صرَّح بصحته، ومنهم مَن عمل به وأفتى واقتضى ذلك تصحيحَه له، ومنهم من رواه ووثَّق رواته، ومنهم من بلغه ذلك ولم يأتِ عنه إنكارٌ له، اللهم إلّا عبارة لمالك رحمه الله يُعلَم بتدبُّرها أنها لا تُخالف ذلك. ولم أر في كتب فقه الحديث نقلًا عن أحدٍ من أهل العلم أنه أنكر صحةَ الحديث فضلًا عن القول بأنه ضعيف، إلَّا أن يتردّد فيه بعضهم بالنظر إلى طُرقه. نعم قال التقي السبكي: "قد طعن في هذا الحديث مَن لا فهمَ له، مغترًّا بقول الترمذي: إنه حسن". ذكره في "سبل السلام" (1)، ثم قال: فوجهُ الاغترار أن الترمذي لم _________ (1) (2/ 167) ط. دار الفكر.

(18/221)


يصفه بالصحة بل بالحسن، وكأنه في نسخةٍ، والذي رأيناه في "سنن الترمذي": " ... حديث أبي أيوب حديث حسن صحيح" (1). أقول: وهكذا هو في النسخ المطبوعة على اختلاف طبعها: "حسن صحيح". والظاهر اتفاق النسخ على ذلك. وكأنَّ المغترَّ إنما بنى اغتراره على ما قيل: إن كلمة "حسن صحيح" دون كلمة "صحيح" فقط، والصواب أنها مثلها بل أعلى منها. وتقرير ذلك له موضع آخر. فأما القول بأنه موضوع فلا يُتصوَّر أن يصدر عن عارفٍ بالحديث، وأعجب من ذلك توجيه وضعه بأنه تفرد به سعد بن سعيد. وستعلم حالَ سعد وتعلم طرقَ الحديث. فأقول: قد رُوي هذا الحديث عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقفتُ على رواية عشرةٍ منهم، وهم: أبو أيوب الأنصاري، وثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأبو هريرة حافظ الأمة، وجابر بن عبد الله، والبراء بن عازب، وابن عمر، وابن عباس، وغنَّام والد عبد الرحمن بن غنّام، ورجل لم يُسمَّ، وأم المؤمنين عائشة. وأرتِّب الكلام على فصول: _________ (1) "سبل السلام" (ج 1 ص 236). [المؤلف].

(18/222)


الفصل الأول في حديث أبي أيوب قال الإمام مسلم بن الحجاج في "صحيحه" (1): حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وعلي بن حُجر جميعًا عن إسماعيل، قال ابن أيوب: حدثنا إسماعيل بن جعفر أخبرني سعد بن سعيد بن قيس عن عمر بن ثابت بن الحارث الخزرجي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه حدَّثه أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "من صام رمضان ثم أَتبعَه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر". وحدثنا ابن نمير حدثنا أبي حدثنا سعد بن سعيد أخو يحيى بن سعيد أخبرنا عمر بن ثابت أخبرنا أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول بمثله. وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن المبارك عن سعد بن سعيد قال: سمعت عمر بن ثابت قال: سمعتُ أبا أيوب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بمثله (2). أقول: أما عمر بن ثابت فتابعي، ولد في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهو ثقة باتفاقهم. والحديث متواتر إلى سعد، قال السبكي: "وقد اعتنى شيخنا أبو محمد الدمياطي بجمع طُرقه، فأسنده عن بضعة وعشرين رجلًا رووه عن _________ (1) رقم (1164). (2) "صحيح مسلم" طبعُ العامرة بإسلامبول تحت نظر نظارة المعارف (ج 3 ص 169). [المؤلف].

(18/223)


سعد بن سعيد، وأكثرهم حفَّاظ ثقات، منهم السفيانان" (1). [ص 2] وأما سعد بن سعيد فتابعي، احتج به أئمة عصره الذين عرفوه وصحبوه، منهم الإمام الجليل عبد الله بن المبارك، روى عنه هذا الحديث كما تقدم، وذهب إليه وأفتى به كما يأتي عن الترمذي. ومنهم الإمام الكبير أبو الجرح والتعديل المعروف بالتشدد في نقد الرجال إلى حدّ التعنت شعبة بن الحجاج، روى عنه مع ما عُرِف عنه أنه لا يروي إلّا عن ثقة، أي فإذا روى عن ضعيف بيَّن حاله. وبهذا يندفع تشكيك السخاوي (2). وقد سمع من سعد جماعةٌ من الأئمة، وأخذوا عنه هذا الحديث وغيره وحدَّثوا بذلك، ولم يطعن فيه أحدٌ منهم. وأما الذين لم يدركوه فقد وثَّقه منهم جماعة (3): منهم الإمام أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي، ذكره عباس الدوري فقال: كنا نعدُّه مثل أحمد ويحيى بن معين (4). ومنهم محمد بن عبد الله بن عمار الذي كان الإمام علي بن المديني يقدِّمه، وقال بعض الحفاظ: هو مثل علي ابن المديني (5). ومنهم محمد بن سعد صاحب "الطبقات"، وهو من الأئمة الثقات. وينبغي أن يُعدَّ منهم من صحَّح حديثه كمسلم والترمذي. _________ (1) "سبل السلام" (ج 1 ص 236). [المؤلف]. وهو في طبعة دار الفكر (2/ 167). (2) في "فتح المغيث" (ص 134) [المؤلف]. انظر طبعة الجامعة السلفية (2/ 42). (3) راجع "تهذيب التهذيب" (3/ 470، 471). (4) "تذكرة الحفاظ" (ج 2 ص 127). [المؤلف]. انظر الطبعة التي بتحقيق المؤلف (2/ 561). (5) راجع "تهذيب التهذيب" (ج 9 ص 265). [المؤلف]. والنص في (9/ 266).

(18/224)


وليَّنه منهم جماعة. قال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في كتاب "الجرح والتعديل" (1): "نا صالح بن أحمد قال قال أبي: سعد بن سعيد أخو يحيى بن سعيد ضعيف (2). ذكره أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال: سعد بن سعيد صالح (3). سمعتُ أبي يقول: سعد بن سعيد الأنصاري مؤدّي. قال أبو محمد: يعني أنه كان لا يحفظ، يؤدّي ما سمع" (4). وذكر في "التهذيب" (5) قول أحمد "ضعيف" ثم قال: "وكذا قال ابن معين في رواية، وقال في رواية أخرى: صالح. وقال النسائي: ليس بالقوي ... وقال ابن أبي حاتم: سمعتُ أبي يقول: سعد بن سعيد الأنصاري يؤدي، يعني أنه كان لا يحفظ ويؤدي ما سمع. وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة تقرب من الاستقامة، ولا أرى بحديثه بأسًا بمقدار ما يرويه. وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: كان يخطئ". زاد ابن حجر: "وزاد ــ يعني ابن حبان ــ لم يفحش خطاؤه، فلذلك _________ (1) (4/ 84). (2) في النسخة هنا زيادة "نا عبد الرحمن قال". وهي من زيادة الراوي عن المؤلف. عبد الرحمن هو المؤلف. [المعلمي]. (3) وضع المؤلف هنا وفي موضع الحاشية السابقة نفس الرقم للإشارة إلى أن التعليق في الموضعين واحد. (4) نسخة في دائرة المعارف مأخوذة بالتصوير الشمسي عن نسخة بإسلامبول. [المؤلف]. (5) (3/ 470). وانظر "الثقات" (4/ 298 و 6/ 379).

(18/225)


سلكناه مسلكَ العدول .... وقال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل": ذكر أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال: سعد بن سعيد الأنصاري مؤدي. قال أبو الحسن ابن القطان الفاسي: اختُلِف في ضبط هذه اللفظة، فمنهم من يُخفِّفها أي هالك، ومنهم من يشدِّدها أي حسن الأداء. وقال الترمذي: تكلموا فيه من قبل حفظه" (1). أقول: أما قول أحمد "ضعيف" فيحتمل أنه أراد الضعف النسبي، أي بالنسبة إلى أخيه يحيى، فإن يحيى أوثق وأثبت. وقد قال السخاوي: "ومما يُنبَّه عليه أنه ينبغي أن تُتأمَّل أقوال المزكّين ومخارجها، فقد يقولون: فلان ثقة أو ضعيف، ولا يريدون أنه ممن يُحتجُّ بحديثه ولا ممن يُردُّ، وإنما ذلك بالنسبة لمن قُرِن معه". ثم ذكر شاهدًا لذلك (2). وعلى هذا يُحمل قول ابن معين مرةً "ضعيف" بدليل قوله مرةً "صالح"، والحمل هنا أظهر، فقد قال السخاوي بعد ما تقدم (3): "وعلى هذا يُحمَل أكثرُ ما ورد من اختلاف كلام أئمة الجرح والتعديل ممن وثَّق رجلًا في وقتٍ وجرحه في آخر". وأما قول أبي حاتم "مؤدي" فقد فسَّرها ابنُه كما سمعتَ بما يفيد التوثيق مع تليينٍ يسير لا يضرُّ. وتفسيرُ ابنه لها بذلك صريح في أنه سمعها من أبيه بهمزة مفتوحة ودالٍ مشدَّدة. وبذلك يُرَدُّ على ما قاله الذهبي في "الميزان"، _________ (1) "تهذيب التهذيب" (ج 3 ص 470 - 471). [المؤلف]. (2) "فتح المغيث" (ص 163). [المؤلف]. انظر طبعة الجامعة السلفية (2/ 127، 128). (3) المصدر السابق.

(18/226)


قال: "قال أبو حاتم: سعد بن سعيد مود، قال شيخنا ابن دقيق العيد: اختُلِف في ضبط مود، فمنهم من خفَّفها أي هالك، ومنهم من شدَّدها أي حسن الأداء" (1). [ص 3] وقد علمتَ أن أبا حاتم إنما قالها مشدَّدة، بدليل تفسير ابنه الذي سمعها منه وحكاها عنه. فأما ما زاده ابن حجر على أصل "التهذيب" بقوله: "وقال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل": ذكر أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال: سعد بن سعيد الأنصاري مؤدي"= فليس هذا في "الجرح والتعديل"، ولا نقله عنه أحدٌ ممن تقدم ابنَ حجر، مع نقْلهم عنه غير هذه العبارة كما تقدم. فقد راجعوا هذه الترجمة فيه، فكيف يُهملون (2) عبارة مهمة كهذه لو كانت فيه؟ وإنما نقلوا هم "مؤدي" أو "يؤدي" على أنها من قول أبي حاتم، كما تقدم عن "الميزان" وأصل "التهذيب". فكأنه كان في نسخة ابن حجر من "الجرح والتعديل" سقطٌ، كأنه كان فيها: "ذكره أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين أنه قال: سعد بن سعيد (سقط) الأنصاري مؤدي". فسقط بعد "سعيد" العبارة الآتية: "صالح. سمعتُ أبي يقول: سعد بن سعيد". والعبارة مظِنَّة السقط بانتقال النظر من "سعد بن سعيد" إلى مثلها. ويؤيد ذلك أن كلمة "صالح" هي من رواية أبي حاتم عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين، فلو كان عند إسحاق عن ابن معين كلمة أخرى مخالفة لها لكان الظاهر أن يقرنهما فيقول: قال يحيى مرةً "صالح" ومرةً "مؤدي"، أو على الأقل يقرنهما أبو حاتم. فإن قلت: لو كان في نسخة ابن حجر العسقلاني سقطٌ كما ذكرتَ _________ (1) "الميزان" طبع مصر (ج 1 ص 372). [المؤلف]. انظر طبعة البجاوي (2/ 120). (2) في الأصل "يعملون" سهوًا.

(18/227)


لاعترض على العبارة التي في أصل "التهذيب"، بأن يقول: لم أرها في كتاب ابن أبي حاتم. قلت: اكتفى بالإشارة إلى ذلك لاحتمال السقط (1)، واحتمال أن تكون العبارة التي في أصل "التهذيب" منقولةً عن كتاب آخر غير "الجرح والتعديل". فتدبَّرْ. على أننا لو فرضنا أن العبارة التي ذكرها ابن حجر هي ثابتة في "الجرح والتعديل" وسقطت من نسختنا، فإننا نقول: اختيار أبي حاتم تلك الكلمة الغريبة "مود" إنما يكون حينئذٍ اتباعًا لابن معين. وقد عرفت أن أبا حاتم قالها بالهمزة المفتوحة وتشديد الدال، فيظهر بذلك أنه سمعها من إسحاق بن منصور كذلك، وأن إسحاق سمعها من ابن معين كذلك. وهذا هو المتعيِّن على فرض صحتها عن ابن معين، فإنه قد قال مرةً "صالح"، وبين هذه الكلمة وبين "مُوْدي" ــ بسكون الواو أي هالكٌ بمرَّةٍ ــ بونٌ بعيد، ولم يُنقَل عن أحدٍ أنه قال في سعد مثلَ ذلك ولا قريبًا منه. فتدَّبْر، وقد مرَّت عبارة "الجرح والتعديل". وأما الترمذي فإنما قال (2): "وقد تكلَّم بعضُ أهل الحديث في سعد بن سعيد من قِبَلِ حفظه" كما يأتي. وبين العبارتين فرقٌ، مع أنه صحَّح الحديث وثبَّته، فدلَّ ذلك أنه لا يرى في كلام من تكلَّم ما يقدح في ثقة الرجل. هذا، وفي "سبل السلام" عن ابن دِحْية: "وقال أبو حاتم: لا يجوز _________ (1) الكلام الذي بعده في ركن صفحة أخرى. (2) عقب الحديث رقم (759).

(18/228)


الاشتغال بحديث سعد بن سعيد" (1). أقول: ابن دِحْية اسمه عمر بن الحسن، له ترجمة في "الميزان" و"لسانه" (2). قال الذهبي: "متَّهم في نقله. وجرحَه الحافظ الضياء. وقال ابن واصل: كان ابن دحية مع فرط معرفته بالحديث وحفظه الكثير له متَّهمًا بالمجازفة في النقل". ثم ذكر قصةً تدلُّ على ذلك. والكلام فيه كثير (3). وأما قول النسائي "ليس بالقوي" فهذه الكلمة أرفع من كلمة "ضعيف" كما لا يخفى، وقد نصُّوا عليه (4). وقد يقال: إن كلمة "ضعيف" ونحوها جرح غير مفسَّر، والمرجَّح عندهم أنه لا يُقبَل إذا عارضه توثيق كما هنا. والحقُّ أنه مفسَّر، ومعنى هذه الكلمة ونحوها عند الإطلاق ضعفُ الحفظ والضبط، وقد بيَّن ذلك هنا قولُ أبي حاتم بتفسير ابنه وقول الترمذي وقول ابن حبان وقول ابن عدي. وهؤلاء المليِّنون لسعدٍ كلُّهم لم يصحبوه ولا أدركوه، وإنما وُلِدوا بعد وفاتِه بمدة، فغايةُ ما عندهم أنهم تتبعوا رواياته واعتبروها بروايات الثقات الأثبات، فظهر لهم أن في رواياته خطأ، وقد اختلف اجتهادهم كما رأيتَ. وخالفهم معاصروهم من الموثِّقين، وتأيَّد قولُ الموثِّقين بما قدَّمنا عن أئمة عصره الذين صحبوه وعرفوه وأخذوا عنه. _________ (1) "سبل السلام" (ج 1 ص 136). [المؤلف]. وطبعة دار الفكر (2/ 167). (2) "الميزان" (3/ 186 - 189) و"لسان الميزان" (6/ 80 - 88) ط. أبي غدة. (3) راجع "لسان الميزان" (ج 4 ص 292 - 298). [المؤلف]. (4) انظر "الجرح والتعديل" (2/ 37) و"الكفاية" (ص 23) و"علوم الحديث" (ص 113) و"الميزان" (1/ 4).

(18/229)


الفصل الثاني في حكم الحديث قد صحَّحه مسلم والترمذي وغيرهما، ومقتضى النظر أن يقال: إذا ثبت رجحانُ التوثيق فلا كلامَ في صحته، وإذا بقي التردُّد لموضع التليين فصنيعُ أئمة الحديث يقتضي أنه بعد النظر في جميع ما قيل في سعد ينبغي أن يُنظَر في الحديث، فإذا كان له متابعات وشواهد صحَّ، وإلَّا بانَ [أنه] انفرد به، فإن قامت قرينة على خطائه ضُعِّف الحديث، وإن قامت قرينة على صحته صحّ، وإلّا حُكِم بحسنه، وقد يتوقف فيه بعضهم. فعلى فرض أن سعدًا تفرد بهذا الحديث فلم تقُمْ قرينة على خطائه فيه، وقد أيَّده أهل العلم بوجوهٍ سوى المتابعات. ساقه الترمذي ثم قال (1): "قال أبو عيسى: حديث أبي أيوب حديث حسن صحيح. قد استحبَّ قوم صيامَ ستة أيام من شوال بهذا الحديث. قال ابن المبارك: هو حسن، هو مثل صيام ثلاثة أيام من كل شهر. قال ابن المبارك: ويُروى في بعض الحديث: "ويُلْحق هذا الصيام برمضان". واختار ابن المبارك أن تكون ستة أيام من أول الشهر. وقد رُوي عن ابن المبارك أنه قال: إن صام ستة أيام من شوال متفرقًا فهو جائز. قال: وقد روى عبد العزيز بن محمد عن صفوان بن سُليم وسعد بن سعيد عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هذا. وروى شعبة عن ورقاء بن عمر عن سعد بن سعيد هذا. وقد تكلم بعض أهل _________ (1) عقب الحديث رقم (759).

(18/230)


الحديث في سعد بن سعيد [من] قِبَلِ حفظه" (1). فأيَّد صحةَ الحديث باحتجاج قوم من أهل العلم به، وخاصة ابن المبارك، فإنه ــ مع علمه وفقهه وتثبُّتِه ونقده وجلالته وإمامته ــ ممن صحب سعدًا وخَبَرَه، وسمع منه هذا الحديث وغيره كما مرَّ. ثم أيَّده بمتابعة صفوان، وستأتي. [ص 4] وأيَّده برواية شعبة عن ورقاء عن سعد له، مع أن شعبة على جلالته وشدة نقده ومعرفته قد روى عن سعد نفسه، ثم روى هذا الحديث عن رجلٍ عنه. ورواية شعبة هذه في "مسند أحمد"، قال: "ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة قال: سمعتُ ورقاء يحدِّث عن سعد بن سعيد ... " (2). وذكر الطحاوي رواية شعبة هذه ثم قال: "فكان هذا الحديث مما لم يكن بالقوي في قلوبنا من سعد بن سعيد مثله في الرواية عند أهل الحديث ومن رغبتهم عنه، حتى وجدناه قد أخذه عنه من قد ذكرنا أخْذَه إياه عنه من أهل الجلالة في الرواية والتثبت" (3). ثم قال: "وممن حدَّث به عنه أيضًا: قرة بن عبد الرحمن، وعسى أن يكون سنّه كسنّه ... وممن حدَّث به عنه سفيان بن عيينة". _________ (1) "سنن الترمذي" طبع مصر سنة 1292 (ج 1 ص 146). [المؤلف]. وانظر (3/ 132 - 133) بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. (2) "مسند أحمد" (ج 5 ص 419). [المؤلف]. رقم (23556) ط. الرسالة. وبهذا الطريق أخرجه النسائي في "الكبرى" (2877) والطحاوي في "مشكل الآثار" (2340) والطبراني في "الكبير" (3903). (3) "مشكل الآثار" (ج 3 ص 117). [المؤلف]. وانظر (6/ 121) ط. الرسالة.

(18/231)


ثم ذكر رواية حفص بن غياث، ثم ذكر المتابعات والشواهد، وستأتي. وقال السبكي: "وقد اعتنى شيخنا أبو محمد الدمياطي بجمع طرقه، فأسنده عن بضعة وعشرين رجلًا رووه عن سعد بن سعيد، وأكثرهم حفَّاظ ثقات، منهم السفيانان" (1). أقول: وموضع التأييد في رواية الحفّاظ الأثبات أنهم من أئمة النقد والمعرفة بالرجال والحديث وعلله، وقد كان من عادة كثير منهم الامتناع عن أن يحدِّث بالحديث إذا خاف أن يكون خطأً، يَعرف ذلك مَن مارسَ كتب الرجال. فاتفاقُهم على رواية هذا الحديث عن هذا الرجل وسكوتُهم عن بيان الطعن فيه أو الشك ــ بل مع تصريح بعضهم بالاحتجاج به ــ يدلُّ دلالةً واضحةً أنهم لم يشكُّوا في الحديث ولم يستنكروه، فاتفاقُهم على ذلك فيه تأييد واضح. _________ (1) "سبل السلام" (ج 1 ص 236). [المؤلف]. وطبعة دار الفكر (2/ 167).

(18/232)


الفصل الثالث في المتابعات قد ذكر الترمذي كما تقدم عنه متابعة صفوان بن سليم، وأخرجه أبو داود في "سننه": "حدثنا النُّفيلي نا عبد العزيز بن محمد عن صفوان بن سليم وسعد بن سعيد عن عمر بن ثابت ... " (1). وقال السبكي: "وتابعَ سعدًا على روايته أخواه يحيى وعبد ربه وصفوان بن سليم وغيرهم" (2). وذكر الطحاوي هؤلاء وزاد: زيد بن أسلم ومحمد بن عمرو بن علقمة. قال: "ووجدنا هذا الحديث أيضًا قد حدَّث به عن عمرو بن ثابت صفوانُ بن سليم وزيد بن أسلم، كما حدثنا يوسف بن يزيد قال: ثنا سعيد بن منصور قال: ثنا عبد العزيز بن محمد قال: أخبرني صفوان بن سليم وزيد بن أسلم عن عمرو بن ثابت ... " (3). كذا يقع في كتابه "عمرو" (4)، وإنما هو "عمر". وفي "التهذيب" أنه وقع كذلك في بعض الطرق عند النسائي، قال: "ونبَّه على أنه خطأ، قال: _________ (1) "سنن أبي داود" طبعة المطبع الفاروقي بدهلي الهند سنة 1272. [المؤلف]. رقم (2433). (2) "سبل السلام" (ج 1 ص 236). [المؤلف]. وطبعة دار الفكر (2/ 167). (3) "مشكل الآثار" (ج 3 ص 118). [المؤلف]. وطبعة الرسالة (6/ 122). (4) في طبعة الرسالة "عمر" على الصواب هنا وفي جميع المواضع الآتية.

(18/233)


والصواب عمر بن ثابت" (1). قال (2): "وكما حدثنا أحمد بن عبد الله البرقي ثنا الحميدي قال ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن صفوان بن سليم وسعد بن سعيد عن عمرو بن ثابت ... ". وقال الدارمي: "حدثنا نعيم بن حماد ثنا عبد العزيز بن محمد ثنا صفوان وسعد بن سعيد عن عمرو بن ثابت ... " فذكره (3). قال الطحاوي (4): "ووجدنا ممن رواه عن عمرو بن ثابت: يحيى بن سعيد الأنصاري، كما حدثنا أحمد بن شعيب ــ هو الإمام النسائي ــ قال: ثنا هشام بن عمار عن صدقة ثنا عُتبة (5) حدثني عبد الملك بن أبي بكر حدثني يحيى بن سعيد عن عمرو بن ثابت قال: غزونا يعني مع أبي أيوب الأنصاري، فصام رمضان وصمنا، فلما أفطرنا قام في الناس فقال: إني _________ (1) "تهذيب التهذيب" (ج 8 ص 10). [المؤلف]. وانظر "السنن الكبرى" رقم (2875) حيث نبَّه على ذلك النسائي. ونبَّه عليه أيضًا الدارقطني في "العلل" (6/ 109). (2) أي الطحاوي في "مشكل الآثار" رقم (2344). وهو في "مسند الحميدي" برقم (381). (3) "مسند الدارمي" طبع دمشق (ج 2 ص 21). [المؤلف]. رقم (1761) طبعة عبد الله هاشم اليماني، وفيها "عمر" على الصواب. (4) "مشكل الآثار" (6/ 123، 124) والحديث في "السنن الكبرى" للنسائي (2879) بهذا الإسناد. (5) في الأصل "عبيد" تحريف. والتصويب من "مشكل الآثار" طبعة الرسالة. وهو عتبة بن أبي حكيم. قال النسائي في "الكبرى" (2879): عتبة بن أبي حكيم هذا ليس بالقوي.

(18/234)


سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: من صام رمضان ... ". قال (1): "ووجدنا ممن رواه أيضًا عن عمرو هذا عبد الله (كذا) (2) بن سعيد الأنصاري، كما حدثنا أحمد بن شعيب قال: ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ قال ثنا شعبة بن الحجاج عن عبد ربه بن سعيد عن عمرو بن ثابت عن أبي أيوب الأنصاري ــ ولم يرفعه ــ أنه قال: من صام ... ". وذكر الطحاوي (3) قبل ذلك متابعة محمد بن عمرو من طريقين: الأولى ابن خزيمة عن [ص 5] حجاج بن المنهال، والثانية إبراهيم بن مرزوق عن حبَّان بن هلال، كلاهما عن أبي سلمة حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن عمرو بن ثابت قال: ولم يذكر سعدًا. وذكر في موضع آخر (4) أن محمد بن عمرو رواه مرةً عن سعد بن سعيد عن عمر بن ثابت. فأما صفوان وزيد بن أسلم فتابعيان ثقتان مأمونان، والثناء عليهما كثير، _________ (1) "مشكل الآثار" (6/ 124). والحديث في "السنن الكبرى" للنسائي (2878) بهذا الإسناد. (2) من المؤلف، إشارة إلى أنه خطأ في طبعة دائرة المعارف من "مشكل الآثار"، والصواب "عبد ربه" كما سيأتي في الإسناد. وهو على الصواب في طبعة الرسالة. (3) "مشكل الآثار" رقم (2338، 2339). اختصر المؤلف الطريقين، وسعد غير مذكور في الطريق الثاني فقط، أما الطريق الأول فحجاج بن المنهال ذكر سعدًا، وهو كذلك من طريقه عند الطبراني في "الكبير" (3904). (4) "مشكل الآثار" (6/ 121) إشارةً إلى طريق الحجاج بن المنهال السابق.

(18/235)


وهما أكبر سنًّا وأقدم وفاةً من سعد، ولم يذكروا لهما سماعًا، فلا يقال: لعلهما إنما سمعا هذا الحديث منه. هذا، مع أن صفوان لم يوصف بتدليس البتَّةَ، وزيد كذلك، إلّا أن ابن حجر ذكر قصة قال: إنها تُشعر بأنه دلَّس حديثًا (1). وليس ذلك بالبيِّن. والرواية إلى الراوي عنهما ــ وهو عبد العزيز بن محمد الدراوردي ــ بغاية الصحة. وأما عبد العزيز فقد روى عنه شعبة والثوري وابن مهدي والشافعي. وروى ابن أبي حاتم (2) بأسانيده الصحيحة عن مصعب الزبيري قال: مالك بن أنس يوثِّق الدراوردي. وعن يحيى بن معين أنه قال: الدراوردي أثبت من فليح وابن أبي الزناد وأبي أويس. وعنه أيضًا: عبد العزيز الدراوردي صالح ليس به بأس. وعن أحمد بن حنبل أنه سئل عن عبد العزيز الدراوردي فقال: معروف بالطلب، وإذا حدَّث من كتابه فهو صحيح، وإذا حدَّث من كتب الناس وَهِم، كان يقرأ من كتب الناس فيخطئ، وربما قلب [حديث] عبد الله بن عمر العمري يرويه عن عبيد الله بن عمر. قال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن عبد العزيز بن محمد ويوسف بن الماجشون فقال: عبد العزيز محدث، ويوسف شيخ. سمعتُ أبا زرعة يقول: عبد العزيز الدراوردي سيئ الحفظ، فربما حدَّث من حفظه الشيء فيخطئ. _________ (1) "تعريف أهل التقديس" (ص 81) تحقيق المباركي. (2) في "الجرح والتعديل" (5/ 395، 396).

(18/236)


ونحو هذا في "التهذيب" (1)، وزاد عن ابن معين: ثقة حجة. وعن النسائي ليس بالقوي، وفي موضع آخر: ليس به بأس، وحديثه عن عبيد الله بن عمر منكر. وعن ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث يغلط. وذكر أن ابن حبان ذكره في "الثقات" (2) وقال: كان يخطئ. وقال العجلي: هذا ثقة. وقال الساجي: كان من أهل الصدق والأمانة، إلَّا أنه كثير الوهم. انتهى. وذكروا أنه كان يلحن. وذكره الحافظ في "مقدمة الفتح" (3)، وذكر أن ابن المديني وثقه، وأن أبا حاتم قال: لا يُحتج به. وقال الذهبي في "الميزان" (4): قال أحمد بن حنبل: "إذا حدَّث من حفظه يهم ليس بشيء، وإذا حدَّث من كتابه فنعم، وإذا حدَّث جاء ببواطيل". وقال: وأما ابن المديني فقال: ثقة ثبت. هذا، واحتجَّ به مسلم في "صحيحه"، وأخرج له البخاري في "صحيحه" مقرونًا بغيره ومفردًا بصيغة التعليق في المتابعات، واحتج به الباقون. كذا في "مقدمة الفتح". أقول: أما العدالة والصدق والأمانة فثابتة لهذا الرجل اتفاقًا. وأما الحفظ والضبط فما رواه من كتابه فلا شكَّ فيه، وما قرأه من كتاب غيره يُخشَى فيه التصحيف والتحريف، كان يقرأ "عبد الله" "عبيد الله" وشِبْه ذلك. _________ (1) "تهذيب التهذيب" (6/ 354، 355). (2) (7/ 116). (3) "هدى الساري" (ص 420). (4) (2/ 633، 634).

(18/237)


وربما حدَّث من حفظه الشيء فيُخطئ، كما قال أبو زرعة. وعلى هذا يُحمل كلام من أطلق، كابن سعد والنسائي وغيرهما. وأما ما في "الميزان" عن أحمد فلا أدري أيصحُّ أم لا، لأن صاحب "التهذيب" لم يذكرها، إنما ذكر ما أسنده ابن أبي حاتم، فالله أعلم. وبالجملة فإطلاق إمام الجرح والتعديل يحيى بن معين أنه ثقة حجة، وإطلاق ابن المديني حافظ عصره أنه ثقة ثبت= يدلُّ على أحد أمرين: إما أن عبد العزيز كان لا يكاد يُحدِّث من حفظه، وإما أنه كان إذا حدَّث من حفظه لا يكثر وهمه، وإنما كان ربما وهم. وعبارة أبي زرعة صريحة في الأول، فإنه قال: "فربما حدَّث من حفظه"، فدلَّ أن ذلك قليل، والغالب أنه لا يحدِّث إلَّا من كتاب. [ص 6] وإذا ثبت أنه كان لا يحدِّث من حفظه إلا قليلًا فالغالب أنه حدَّث بهذا الحديث من كتاب، فإن كان من كتابه فلا كلام، وإن كان من كتاب غيره فكذلك، لأنه ليس مظنَّة التصحيف والتحريف. ويؤكِّد هذا أن الذين رووه عنه أئمة حفَّاظ متثبتون (1): منهم: ابن المبارك (2)، على ما يظهر من عبارة الترمذي وقد مرَّت. وابن _________ (1) ممن رواه عنه ولم يذكره المؤلف: أحمد بن عبدة عند ابن خزيمة (2114)، وإسحاق بن إبراهيم (ابن راهويه) عند ابن حبان (3634)، وخلاد بن أسلم عند النسائي في "الكبرى" (2876)، ومحمد بن عباد عند الهيثم بن كليب الشاشي في "مسنده" (1143)، ويحيى الحماني وضرار بن صُرَد عند الطبراني في "الكبير" (3911). (2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (3/ 97) ومسلم (2/ 822) رقم (1164) من طريق ابن المبارك عن سعد بن سعيد به. وليس عن عبد العزيز.

(18/238)


المبارك ابن المبارك. ومنهم: النفيلي عند أبي داود (1) كما مرَّ، واسمه عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل، كان يُقرَن بأحمد، وكان أحمد يعظِّمه. وقال أبو داود: ما رأيت أحفظ منه (2). ومنهم: الحميدي عند الطحاوي (3) كما مرَّ، واسمه عبد الله بن الزبير بن عيسى. قال أحمد: الحميدي عندنا إمام. وقال يعقوب بن سفيان: ما لقيتُ أنصحَ للإسلام وأهله منه (4). ومنهم: نعيم بن حماد عند الدارمي (5) كما مرَّ. ونعيم إمام في السنة، ثقة له أوهام (6). وهذا من صحيح حديثه. هؤلاء كلهم رووه عن عبد العزيز عن صفوان وسعد. ورواه سعيد بن منصور (7) عن عبد العزيز عن صفوان وزيد بن أسلم. وسعيد إمام، كان أحمد يُحسِن الثناء عليه ويُفخّم أمره. وقال أبو حاتم: ثقة، من المتقنين الأثبات (8). _________ (1) رقم (2433). (2) انظر "تهذيب التهذيب" (6/ 17). (3) في "مشكل الآثار" (2344). وهو في "مسند الحميدي" (381). (4) انظر "تهذيب التهذيب" (5/ 215). (5) في "سننه" (1761). (6) انظر "تهذيب التهذيب" (10/ 458 وما بعدها). (7) كما في "مشكل الآثار" (2343). (8) انظر "تهذيب التهذيب" (4/ 89).

(18/239)


وبالجملة فصاحبا الصحيح البخاري ومسلم قد عرفا حال عبد العزيز، وعرفا ما قيل فيه، فاتفقا على الإخراج له في الصحيح. أما مسلم فيحتج به مطلقًا، وأما البخاري فيقرِنه بغيره، ويُفرِده في المتابعات والشواهد، وحديثه هذا متابعة. وأما متابعة يحيى بن سعيد الأنصاري (1) لأخيه سعد فقد يقال: لعله إنما سمعه من سعد فدلَّسَه (2)، وفيه نظر لوجهين: الأول: أن يحيى لم يشتهر بالتدليس، وإن كان قد نُسِب إليه. الثاني: أن في روايته زيادةً على الرواية المتواترة عن أخيه، كما يُعلم بمقابلتهما. وأما متابعة عبد ربه بن سعيد (3) لأخيه فهي بغاية الصحة، لأنها من رواية شعبة عن عبد ربه، وعبد ربه مع ثقته لم يُنسَب إلى تدليس البتَّةَ، وليس فيها إلّا أنه لم يصرِّح بالرفع إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهذا لا يضرُّ هنا، لأنّ مثل هذا لا يمكن أن يقوله أبو أيوب رضي الله عنه برأيه، فهو مرفوع حكمًا. نعم رواه الطحاوي (4) من طريق ابن لهيعة عن عبد ربه عن أخيه سعد بسنده، ورفعه. _________ (1) أخرجها الحميدي في "مسنده" (382) والنسائي في "الكبرى" (2879) والطحاوي في "مشكل الآثار" (2346) والطبراني في "الكبير" (3914، 3915). (2) مما يدلُّ على أن يحيى سمعه من أخيه سعد: أن الطبراني أخرجه في "الكبير" (3912) و"الأوسط" (4976) من طريق حفص بن غياث عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعد بن سعيد به. (3) أخرجها النسائي في "الكبرى" (2878) والطحاوي في "مشكل الآثار" (2347). (4) في "مشكل الآثار" (2337).

(18/240)


وابن لهيعة ضعيف لا يعتمد عليه. وأما متابعة محمد بن عمرو (1) ففيها نظر، فإن محمدًا قد لُيِّن. والراوي عنه حماد بن سلمة، وقد قيل: إن حفظه ضعُفَ بأَخَرةٍ. ومع ذلك فقد روى محمد الحديث مرةً عن سعد (2). والله أعلم. تتمة: يتلخص مما تقدم ثبوت صحة الحديث كما حكم به الإمام مسلم بن الحجاج والترمذي وغيرهما. _________ (1) أخرجها الطحاوي في "مشكل الآثار" (2339). (2) كما في "المعجم الكبير" للطبراني (3904) و"مشكل الآثار" (2338) و"مسند الهيثم بن كليب الشاشي" (1142، 1145).

(18/241)


الفصل الرابع حديث ثوبان قال الدارمي: حدثنا يحيى بن حسّان ثنا يحيى بن حمزة ثنا يحيى بن الحارث الذِّماري عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "صيام شهرٍ بعشرة أشهرٍ، وستةُ أيام بعدهن بشهرين، فذلك تمام سنة" يعني شهر رمضان وستة أيام بعده (1). ثوبان صحابي جليل. وأبو أسماء الرحبي اسمه عمرو بن مرثد، قال العجلي: شامي تابعي ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات" (2). وأخرج له مسلم وابن خزيمة وابن حبان في صحاحهم، ولم يقدح فيه أحد (3). ويحيى بن الحارث الذِّماري تابعي أيضًا، روى عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، وقرأ عليه القرآن. ووثقه ابن معين ودُحيم. وقال أبو داود: كان ثقةً عالمًا بالقراءة. وأخرج له ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، ولم يقدح فيه أحد (4). _________ (1) "مسند الدارمي" (ج 2 ص 21). [المؤلف]. برقم (1762). وأخرجه أيضًا من طريق يحيى بن حمزة: البزار في "مسنده" (4178) والنسائي في "الكبرى" (2873) وابن خزيمة (2115) والطحاوي في "مشكل الآثار" (2348) والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 293) والخطيب في "تاريخ بغداد" (2/ 362). (2) (5/ 179). (3) انظر "تهذيب التهذيب" (8/ 99). (4) المصدر السابق (11/ 193، 194).

(18/242)


[ص 7] ويحيى بن حمزة وثقه ابن معين ودحيم والعجلي وأبو داود والنسائي ويعقوب بن شيبة، ولم يقدح في روايته أحدٌ، وإنما نُسِب إلى القدر (1)، ولا يقدح ذلك في روايته، فقد نُسِب إلى القدر جماعة من أئمة السلف وأركان السنة المجمع عليهم، كقتادة وحسان بن عطية وسعيد بن أبي عروبة وعبد الوارث وغيرهم. وقد تابعه جماعة كما يأتي. ويحيى بن حسّان هو التنِّيسي، من رجال الصحيحين، وثَّقه أحمد والعجلي والنسائي ومطيَّن وابن يونس وغيرهم (2). ويروي الإمام الشافعي عن الثقة عن الليث بن سعد، فقال الربيع بن سليمان صاحب الشافعي: يعني الشافعي بالثقة يحيى بن حسَّان (3). المتابعات: تابع يحيى بن حمزة جماعةٌ رووه عن يحيى بن الحارث: منهم: محمد بن شعيب بن شابور، قال الطحاوي: حدثنا أحمد بن شعيب قال: أخبرني محمود بن خالد قال: ثنا محمد بن شعيب بن شابور قال: أنا يحيى بن الحارث حدثنا أبو أسماء الرحبي عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: "جعل الله الحسنة بعشرٍ، فشهرٌ بعشرة أشهر، وستة أيام بعد الفطر تمام السنة" (4). _________ (1) انظر "تهذيب التهذيب" (11/ 200، 201). (2) المصدر السابق (11/ 197). (3) انظر "فتح المغيث" (2/ 37) و"تدريب الراوي" (1/ 312). (4) "مشكل الآثار" (ج 3 ص 119). [المؤلف]. انظر طبعة الرسالة برقم (2349). والحديث في "السنن الكبرى" للنسائي (2874).

(18/243)


أحمد بن شعيب هو الإمام النسائي صاحب "السنن". ومحمود بن خالد ثقةٌ رِضًا متفق على توثيقه (1). ومحمد بن شعيب بن شابور روى عنه ابن المبارك ووثَّقه، وكذا وثَّقه غيره، إلّا أن ابن معين قال: كان مرجئًا، وليس به في الحديث بأس (2). أقول: الإرجاء الذي يُنسَب إلى علماء السلف خفيف لا يقدح في الرواية، كما هو مقرر في موضعه. ومنهم: إسماعيل بن عياش، قال الإمام أحمد: ثنا الحكم بن نافع ثنا ابن عياش عن يحيى بن الحارث الذماري عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "من صام رمضان فشهر بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بعد الفطر فذلك تمام صيام السنة" (3). الحكم بن نافع هو من رجال الصحيحين متفق على توثيقه، إلَّا أنه قيل: إنه روى كتاب شعيب بن أبي حمزة بالإجازة، وذلك إن صحَّ لا يضرّ، ولهذا اتفق الأئمة على تصحيح حديثه عن شعيب وغيره (4). وإسماعيل بن عياش ثقة جليل يُحتج به إذا حدَّث عن أهل الشام، وذلك أنها بلده، حفظ حديث أهلها وأتقنه، فأما إذا روى عن غيرهم ففيه _________ (1) انظر "تهذيب التهذيب" (10/ 61). (2) المصدر السابق (9/ 223). (3) "مسند أحمد" (ج 5 ص 280). [المؤلف]. رقم (22412). وأخرجه أيضًا الطبراني في "مسند الشاميين" (903) من طريق إسماعيل بن عياش به. (4) انظر "تهذيب التهذيب" (2/ 441، 442).

(18/244)


لين، لأنه لم يُتقِنه، فكان يهم فيه (1). وحديثُه هذا شامي، لأن يحيى بن الحارث شامي. ومنهم: صدقة بن خالد، قال ابن ماجه: ثنا هشام بن عمّار ثنا بقية ثنا صدقة بن خالد ثنا يحيى بن الحارث الذماري قال: سمعت أبا أسماء الرحبي عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "من صام ستة أيام بعد الفطر كان تمام السنة، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] " (2). هشام بن عمار من شيوخ البخاري، وثَّقه ابن معين وغيره. وغمزَه أبو داود وغيره بأنه لما كبر كان يُلقَّن فيتلقن (3). وبقية هو ابن الوليد، من رجال مسلم، وفيه كلام طويل. والمحققون [على] أنه ثقة في نفسه لكنه يدلِّس عن الضعفاء، فإذا صرَّح بالسماع فهو حجة (4). وقد صرَّح هنا بالسماع. أما صدقة بن خالد فمن رجال البخاري، وثَّقه أحمد وابن معين وجماعة، ولم يُقدح فيه بشيء (5). [ص 8] ومنهم: الوليد بن مسلم، قال ابن حبّان في "صحيحه": أخبرنا _________ (1) المصدر السابق (1/ 321 وما بعدها). (2) "سنن ابن ماجه" طبع مصر (ج 1 ص 269). [المؤلف]. رقم (1715). (3) انظر "تهذيب التهذيب" (11/ 52 وما بعدها). (4) انظر المصدر السابق (1/ 474 وما بعدها). (5) المصدر السابق (4/ 414، 415).

(18/245)


الحسين بن إدريس الأنصاري ثنا هشام بن عمَّار حدثنا الوليد بن مسلم ثنا يحيى بن الحارث الذِّماري عن أبي أسماء الرحَبي عن ثوبان عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "من صام رمضان وستًّا من شوال فقد صام السنة" (1). الحسين بن إدريس له ترجمة في "تذكرة الحفاظ" (2)، روى له ابن حبان في "صحيحه" كما رأيت، وذكره في "الثقات" وقال: كان ركنًا من أركان السنة في بلده (3). ووثَّقه الدارقطني. وقال ابن ماكولا: كان من الحفَّاظ المكثرين (4). وهشام بن عمار تقدم. والوليد بن مسلم إمام يدلِّس (5)، وقد صرَّح بالسماع. فهؤلاء خمسة رووه عن يحيى بن الحارث الذماري: يحيى بن حمزة ومحمد بن شعيب بن شابور، وإسماعيل بن عياش، وصدقة بن خالد، والوليد بن مسلم. ولعلَّك لو فتَّشتَ وجدتَ غيرهم (6). _________ (1) "موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان" (نسخة قلمية بالمكتبة الآصفية، ص 170). [المؤلف]. وهو في المطبوعة برقم (928)، وفي "صحيح ابن حبان" بترتيب ابن بلبان برقم (3635). (2) (2/ 238). [المؤلف]. وهو في الطبعة التي بتحقيق المعلمي (2/ 695). (3) "الثقات" (نسخة قلمية للمكتبة الآصفية). [المؤلف]. وهو في المطبوعة (8/ 193). (4) راجع "لسان الميزان" (ج 2 ص 272). [المؤلف]. وطبعة أبي غدة (3/ 147، 148). (5) انظر "تعريف أهل التقديس" (ص 170). (6) منهم ثور بن يزيد، أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (1451) من طريقه.

(18/246)


وتابع يحيى بن حسَّان عبدُ الله بن يوسف عند البيهقي (1)، رواه بسند صحيح عن عبد الله بن يوسف عن يحيى بن حمزة بسنده. وعبد الله بن يوسف من شيوخ البخاري، متفق على أنه ثقة ثبت (2). وممن تابع الدارميَّ ــ وإن كان غنيًّا عن المتابعة ــ: سليمان بن شعيب الكيساني، قال الطحاوي: حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني قال: ثنا يحيى بن حسَّان ... (3). سليمان بن شعيب ذكره ابن السمعاني وقال: مولده بمصر سنة 184، وتوفي في صفر سنة 273، وكان ثقة (4). ومنهم: سعد بن عبد الله بن عبد الحكم والحسين بن نصر بن المعارك المصري، أخرجه عنهما إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في "صحيحه" (5) كلاهما عن يحيى بن حسَّان. فأما سعد فقال ابن أبي حاتم: سمعتُ منه بمكة وبمصر، وهو _________ (1) "سنن البيهقي" (ج 4 ص 293). [المؤلف]. وأخرجه البزار في "مسنده" (4178) من طريق يحيى بن حسان وعبد الله بن يوسف كلاهما عن يحيى به. (2) هو التنِّيسي، انظر "تهذيب التهذيب" (6/ 86 - 88). (3) "مشكل الآثار" (ج 3 ص 119). [المؤلف]. في طبعة الرسالة برقم (2348). (4) "الأنساب" (الورقة 493 الوجه الأول). [المؤلف]. هو في طبعة الهند (11/ 195). (5) رقم (2115): وفيه "سعيد بن عبد الله" وهو تصحيف. وفيه: " ... بن المبارك"، وهو أيضًا تحريف. وفي الأصل: "نصير" بدل "نصر" تصحيف. وفيما يلي مصادر ترجمتهما.

(18/247)


صدوق ... سئل أبي عنه فقال: صدوق (1). وأما الحسين فقال ابن أبي حاتم: سمعتُ منه، ومحلُّه الصدق (2). وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: حدثنا عنه ابن خزيمة، وزعم أنه كان صدوقًا (3). حكم الحديث: حديث ثوبان صححه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما، وصحته واضحة جليَّة، والحمد لله. _________ (1) كتاب ابن أبي حاتم (نسخة محفوظة بدائرة المعارف، تقدمت الإشارة إليها). [المؤلف]. وهو في المطبوعة (4/ 92). (2) كتاب ابن أبي حاتم (نسخة ... ). [المؤلف]. وهو في المطبوعة (3/ 66). (3) "الثقات" (نسخة قلمية). [المؤلف]. وهو في المطبوعة (8/ 192). وله ترجمة في "تاريخ بغداد" (8/ 143).

(18/248)


الفصل الخامس حديث أبي هريرة قال البزّار: حدثنا حفص بن عمر الشيباني ثنا أبو عامر ثنا زهير عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "من صام رمضان وأتبعَه بستٍّ من شوال فكأنما صام الدهر". هكذا رواه أبو عامر، ورواه عمرو بن أبي سلمة عن زهير عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة، ثناه محمد بن مسكين ثنا عمرو به. قال البزار: ولم أسمعه عن أبي عامر إلا من عمر بن حفص، ورأيته في كتاب أحمد بن ثابت مكتوبًا فقال: لم يقرأه علينا أبو عامر (1). أقول: كذا وقع في النسخة أولًا "حفص بن عمر" وثانيًا "عمر بن حفص"، وكأن الثاني هو الصواب (2). وفي "التهذيب" (7/ 434): عمر بن حفص بن صبيح، ويقال بزيادة "عمر" بين حفص وصبيح، أبو الحسن الشيباني اليماني البصري ... ذكره ابن حبان في "الثقات" (3). مات في حدود سنة خمسين ومائتين، واحتج به ابن خزيمة في "صحيحه". وأبو عامر هو عبد الملك بن عمرو العقدي البصري، ثقة جليل باتفاقهم (4). وكتابة أحمد بن ثابت الحديثَ في كتابه على أنه من حديث _________ (1) "زوائد مسند البزار" (نسخة قلمية بالمكتبة الآصفية ص 130). [المؤلف]. انظر المطبوعة (1/ 405)، و"كشف الأستار" (1060) و"مسند البزار" (8334). (2) هو على الصواب في "كشف الأستار" و"مسند البزار". (3) (8/ 447). (4) انظر "تهذيب التهذيب" (6/ 409، 410).

(18/249)


أبي عامر متابعة قوية. وقول أحمد بن ثابت "إن أبا عامر لم يقرأه عليهم" كأنه لأنه لم يتيسَّر لهم سؤاله أن يقرأه عليهم، وقد يحتمل أنه توقف عنه، إما لأنه بلغه أن غيره روى عن زهير بخلاف روايته، وإما لأنه لم يجد لزهير متابعًا. وعلى كل حال فقد ثبت أن الحديث من حديث أبي عامر عن زهير. وزهير هو ابن محمد التميمي (1)، قال أحمد مرةً: ثقة، ومرةً: لا بأس به، ومرةً: مستقيم الحديث، ومرةً: مقاربه. ثم صحح رواية أبي عامر العقدي وأشباهه عنه، وضعَّف رواية عمرو بن [أبي] سلمة وأهل الشام عنه. قال الأثرم عن أحمد [ص 9] في رواية الشاميين عن زهير: يروون عنه مناكير، ثم قال: أما رواية أصحابنا عنه فمستقيمة، عبد الرحمن بن مهدي وأبي عامر. وأما أحاديث أبي حفص (هو عمرو بن أبي سلمة) ذاك التنيسي عنه فتلك بواطيل ــ موضوعة أو نحو ذلك ــ، أما بواطيل فقد قاله. وقال البخاري: قال أحمد: كأن زهيرًا الذي روى عنه أهل الشام زهير آخر. قال البخاري: ما روى عنه أهل الشام فإنه مناكير، وما روى عنه أهل البصرة فإنه صحيح. وعمرو بن أبي سلمة ثقة يخطئ، ولاسيما فيما رواه عن زهير. قال أحمد: روى عن زهير أحاديث بواطيل كأنه سمعها من صدقة بن عبد الله، فغلِط فقلَبَها عن زهير (2). فقد بان أن ما رواه أبو عامر عن زهير صحيح، فقد صحَّ الحديث عن العلاء عن أبيه. والعلاء وأبوه تابعيان ثقتان، أما أبوه فلم يقدح فيه أحد، وأما _________ (1) "تهذيب التهذيب" (3/ 348 - 350). (2) انظر المصدر السابق (8/ 43، 44).

(18/250)


هو فقال أحمد: ثقة لم أسمع أحدًا ذكره بسوءٍ. وليَّنه ابن معين وغيره. وقال الترمذي: هو ثقة عند أهل الحديث (1). والحاصل أن حديثه إذا لم تقم قرينة على خطائه إما صحيح وإما حسن. وقد قال المنذري في هذا الحديث: "رواه البزار، وإحدى طرقه عنده صحيحة" (3/ 96) (2). كأنه يعني هذه الطريق. وأما الطريق الأخرى فالراوي عن عمرو بن أبي سلمة ــ وهو محمد بن مسكين ــ ثقة اتفاقًا (3). وعمرو بن أبي سلمة، قد علمت الكلام في روايته عن زهير. على أنه لا مانع أن يكون لزهير طريقان: عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة، وعن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة. وسهيل وأبوه ثقتان، وفي سهيل كلام لا يُسقِطه، وقد احتج به مسلم في "صحيحه"، وعاب النسائي على البخاري عدم الاحتجاج به (4). وفي "التلخيص" (5): وأخرجه أبو نعيم من طريق المثنى بن الصباح ــ أحد الضعفاء ــ عن المحرر بن أبي هريرة عن أبيه. ورواه الطبراني في "الأوسط" من أوجه أخرى ضعيفة (6). _________ (1) "تهذيب التهذيب" (6/ 301 و 8/ 186، 187). (2) "الترغيب والترهيب" رقم (1459). ط. مكتبة المعارف. (3) انظر "تهذيب التهذيب" (9/ 439، 440). (4) راجع "تهذيب التهذيب" (4/ 263، 264). (5) "التلخيص الحبير" (2/ 227). (6) أخرجه من حديث جابر (3192، 8979) وسيأتي الكلام عليه، ومن حديث ابن عباس وجابر (4642) ومن حديث ابن عمر (8622).

(18/251)


أقول: المثنى بن الصباح كان من العبَّاد، وقد وثَّقه ابن معين مرةً والصحيح أنه ضعيف (1)، ولكن لا تخلو روايته عن تقويةٍ لحديث البزار، وكذلك الوجوه الأخرى التي ذكرها الحافظ. فحديث أبي هريرة هذا إن لم يرتقِ إلى درجة الصحيح فلا ينزل عن درجة الحسن. والله أعلم. _________ (1) انظر "تهذيب التهذيب" (10/ 35 - 37).

(18/252)


[ص 10] الفصل السادس في حديث جابر أما حديث جابر فقال الإمام أحمد: ثنا عبد الله بن يزيد ثنا سعيد يعني ابن أبي أيوب حدثني عمرو بن جابر الحضرمي قال: سمعتُ جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: "من صام رمضان وستًّا من شوال فكأنما صام السنة كلَّها". ثم أعاده في موضع آخر: ثنا أبو عبد الرحمن ثنا سعيد ... ثم أعاده في موضع ثالث: ثنا أبو عبد الرحمن ثنا سعيد بن أبي أيوب ... (1). وعبد الله بن يزيد هو أبو عبد الرحمن المقرئ، ثقة باتفاقهم (2)، _________ (1) "مسند أحمد" (ج 3 ص 308 و 324 و 344). [المؤلف]. بأرقام (14302، 14477، 14710). وفي الموضع الأول ذكر له إسنادًا آخر فقال: "حدثناه الحسن أخبرنا ابن لهيعة حدثنا عمرو بن جابر الحضرمي ... فذكر معناه" برقم (14303). وقد أخرجه عبد بن حميد في "مسنده" (1116) والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 292) من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ بهذا الإسناد. وأخرجه البيهقي (4/ 292) من طريق ابن وهب عن سعيد بن أبي أيوب به. وأخرجه البزار كما في "كشف الأستار" (1062) والطبراني في "الأوسط" (3192، 8979) والبيهقي (4/ 292) من طريق بكر بن مضر عن عمرو بن جابر به. وأخرجه البيهقي (4/ 292) من طريق ابن وهب عن ابن لهيعة عن عمرو بن جابر به. وسيأتي ما في "مشكل الآثار" من هذه الطرق. (2) انظر "تهذيب التهذيب" (6/ 83، 84).

(18/253)


وكذلك سعيد بن أبي أيوب (1). وقال الطحاوي (2): حدثنا الربيع المرادي قال ثنا عبد الله بن وهب قال: أخبرني ابن لهيعة وبكر بن مضر وسعيد بن أبي أيوب عن عمرو بن جابر ... ، فذكره. ثم قال (3): حدثنا سليمان بن شعيب قال: ثنا يحيى بن حسان قال: ثنا ابن لهيعة وبكر بن مضر كلاهما عن عمرو بن جابر .... ، فذكره (4). الربيع وبكر بن مضر ثقتان باتفاقهم (5). وعبد الله بن وهب إمام. وسليمان بن شعيب ويحيى بن حسان تقدَّما. فالحديث ثابت بلا شك عن عمرو بن جابر. وعمرو بن جابر مختلف فيه، ذكروا أنه كان يقول: إن عليًّا رضي الله عنه في السحاب. فجرحَه جماعة مطلقًا، ووثَّقه آخرون في الحديث. ذكره البرقي فيمن ضُعِّف بسبب التشيع وهو ثقة. وذكره يعقوب بن سفيان في جملة الثقات. وصحح الترمذي حديثه. وقال أحمد: بلغني أن عمرو بن جابر كان يكذب، قال: وروى عن جابر أحاديث مناكير. كذا في _________ (1) "تهذيب التهذيب" (4/ 7، 8). (2) في "مشكل الآثار" (2350). (3) برقم (2351). (4) "مشكل الآثار" (ج 3 ص 120). [المؤلف]. وهو في طبعة الرسالة (6/ 126). (5) انظر "تهذيب التهذيب" (3/ 245، 246 و 1/ 487، 488).

(18/254)


"التهذيب" (1). أقول: الظاهر أن قول أحمد "وبلغني ... " إنما بلغه ذلك من وجه لا يصح، ولذلك أخرج حديثه في "مسنده" كما رأيت. أو لعله أراد بالكذب ما حُكِي أنه كانت تمرُّ السحابة فيقول: هذا عليٌّ قد مرَّ في هذه السحابة. فقد جاء عن الشعبي وغيره في الحارث الأعور: كان كذابًا. ثم أثنى عليه الشعبي وغيره، ووثقه أحمد بن صالح المصري، فقيل له: فقد قال الشعبي: إنه كان يكذب، قال: لم يكن يكذب في الحديث، إنما كان كذبه في رأيه. يعني إفراطه في التشيع. "التهذيب" (2/ 145 - [147]). ولهذا نظائر. وأما المناكير فلعل النكارة فيها خفيفة، أو لعلها من الراوي عنه. وقد أخرج ابن أبي حاتم (2) عن الأثرم صاحب أحمد قال: ذُكِر لأبي عبد الله أحمد بن حنبل عمرو بن جابر الحضرمي، فقال: "يروي أحاديث مناكير ابنُ لهيعة عنه". وابن لهيعة ضعيف عندهم ومدلِّس. قال ابن أبي حاتم: سألتُ أبي عن عمرو بن جابر فقال: عنده نحوه عشرين حديثًا، هو صالح الحديث. وفي ترجمته من "الميزان" (3) حديثه عن جابر مرفوعًا: "الفارّ من الطاعون [كالفارّ يوم الزحف، ومن صبرَ فيه كان له كأجرِ شهيد] ". وفي أحاديث الطاعون المتفق على صحتها ما يشهد لهذا المعنى. وعادة صاحب "الميزان" أن يذكر في ترجمة الرجل أنكرَ ما روى. فإذا كان _________ (1) (8/ 11). (2) في "الجرح والتعديل" (6/ 224). (3) (3/ 250). وما بين المعكوفتين منه، وقد ترك المؤلف هنا بياضًا.

(18/255)


هذا أنكر ما روى هذا الرجل فلا وجهَ للطعن فيه بأنه يروي مناكير. وأما قول الأزدي: "كذاب"، فالأزدي نفسه واهٍ لا يُعتمد عليه. وهو محمد بن الحسين الأزدي، له ترجمة في "لسان الميزان" (5/ 139) (1)، فراجعها إن شئت. وأما قول عمرو بن جابر في علي رضي الله عنه: "إنه في السحاب" فأمرٌ توهَّمه، ولم يُنقَل عنه غيرُه مما فيه غلوٌّ مفرط أو طعنٌ في الصحابة رضي الله عنهم. ومما يؤيد ما ذكرته في كلام الإمام أحمد أنه رحمه الله روى حديث عمرو هذا وكرَّره في "المسند" مرارًا كما رأيتَ، ثم احتج به مع غيره فيما حكى أصحابه عنه أنه قال في صيام ستة أيام من شوال: "رُوي هذا عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بثلاثة أوجه". ذكره ابن قدامة في "المغني" (3/ 95) (2). ومراده بالثلاثة: حديث أبي أيوب وحديث ثوبان وحديث جابر، فإنها هي التي خرَّجها في "مسنده". وبالجملة فحديثه هذا يصلح شاهدًا على الأقل. _________ (1) (7/ 90، 91) ط. أبي غدة. (2) (4/ 439) ط. التركي.

(18/256)


الفصل السابع في بقية الأحاديث • [ص 11] حديث البراء، لفظه كما في "كنز العمال" (ج 4 ص 320) (1): "من صام رمضان وستة أيام من شوَّال كان كصيام السنة كلها، الحسنة بعشر أمثالها". ونسبه إلى ابن النجار و"مشيخة ابن البنّاء"، ونسبه ابن حجر في "التلخيص" (2) وغيره إلى الدارقطني. • وحديث ابن عمر، لفظه كما في "الترغيب والترهيب" (3) للمنذري: "من صام رمضان وأتبعَه ستًّا من شوال خرج من ذنوبه كيومِ ولدتْه أمُّه". ونسبه إلى "المعجم الأوسط" للطبراني (4). • وحديث ابن عباس، لم أقف على لفظه، ونسبوه إلى "المعجم الأوسط" للطبراني (5) أيضًا. _________ (1) (8/ 570) ط. مؤسسة الرسالة. (2) (2/ 327). قال الدارقطني في "العلل" (6/ 108): "رواه إسحاق بن أبي فروة عن يحيى بن سعيد عن عدي بن ثابت عن البراء، ووهم فيه وهمًا قبيحًا، والصواب حديث أبي أيوب". (3) رقم (1460). (4) برقم (8622). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 184): فيه مسلمة بن علي الخشني وهو ضعيف. (5) برقم (4642) من طريق يحيى بن سعيد المازني عن عمرو بن دينار عن مجاهد عن ابن عباس وجابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صام رمضان وأتبعه ستًّا من شوال صام السنة كلها". قال الطبراني: لم يروِ هذا الحديث عن عمرو بن دينار إلا يحيى بن سعيد المازني، تفرد به بكار بن الوليد الضبي. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 184): فيه يحيى بن سعيد المازني وهو متروك.

(18/257)


• وحديث غنّام أشار إليه ابن أبي حاتم في كتابه "الجرح والتعديل"، ولفظه في ترجمة غنّام: "غنّام والد عبد الرحمن بن غنّام، روى عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: "من صام ستة أيام من شوَّال ... ". روى حاتم بن إسماعيل عن إسماعيل المؤذن عن عبد الرحمن بن غنام عن أبيه" (1). ولغنّام ترجمة في "الإصابة" (2)، وقال: ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه في الصحابة ... ، رواه حاتم بن إسماعيل عن إسماعيل المؤذن مولى عبد الرحمن بن غنام عن عبد الرحمن بن غنام عن أبيه. ثم قال الحافظ: "قلت: ووصله ابن مندة من رواية حاتم، ولفظه: "من صام رمضان وأتبعه ستًّا من شوّال فكأنما صام السنة". وأخرجه أبو نعيم (3) بنحوه. ووقع عند البغوي: غنام الأنصاري، سكن المدينة وروى عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حديثًا ... ". وذكره في "الإصابة" في موضع آخر (4): "وعِنان رجل من الصحابة، له حديث واحد. كذا ذكره علي بن سعيد العسكري، وساق من طريق إسماعيل المؤذن عن عبد الرحمن بن عنان عن أبيه رفعه: "من صام ستًّا بعد يوم الفطر فكأنما صام الدهر" كذا قال، وهو تصحيف، وإنما هو غنَّام بالغين المعجمة _________ (1) "الجرح والتعديل" مطبوع (ج 3 قسم 2 ص 58). [المؤلف]. (2) (8/ 485، 486). (3) في "معرفة الصحابة" (5681). (4) (8/ 462).

(18/258)


وتشديد النون وآخره ميم، وسيأتي على الصواب في مكانه". وذكره الذهبي في "التجريد" (1) وقال: "إسناد حديثه غريب". أقول: أما حاتم بن إسماعيل فثقة مشهور من رجال الصحيحين (2). وأما إسماعيل المؤذن فلا أدري من هو. وعبد الرحمن بن غنام لم أجد له ترجمة فيما وقفت عليه من الكتب (3). والله أعلم. • وأما عائشة أم المؤمنين فكأن حديثها في "جزء الدمياطي"، فإن السبكي قال: "وقد اعتنى [شيخنا أبو محمد الدمياطي بجمع طرقه، فأسنده عن بضعة وعشرين رجلًا رووه عن سعد بن سعيد، وأكثرهم حفّاظ ثقات ... ورواه أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ثوبان وأبو هريرة وجابر وابن عباس والبراء بن عازب وعائشة] (4). _________ (1) (2/ 3). (2) انظر "تهذيب التهذيب" (2/ 128). (3) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 184): عبد الرحمن بن غنام لم أعرفه. (4) ما بين المعكوفتين بيَّض له المؤلف. وأضفناه نقلًا عن "سبل السلام" (2/ 167). وقال ابن الملقن في "البدر المنير" (5/ 752 طبعة دار الهجرة): "وقد روى هذا الحديث عن سعد بن سعيد تسعة وعشرون رجلًا أكثرهم ثقات حفَّاظ أثبات، وقد ذكرتُ كل ذلك عنهم موضّحًا في "تخريجي لأحاديث المهذّب"، مع الجواب عمن طعن في سعد بن سعيد، وأنه لم ينفرد به وتوبع عليه. وذكرتُ له ثمان شواهد، وأجبتُ عن كلام ابن دحية الحافظ فإنه طعن فيه. فراجعْ ذلك جميعه منه، فإنه من المهمات التي يُرحل إليها".

(18/259)


وفي "فتح الملهم شرح صحيح مسلم" (3/ 187) (1): قال الشيخ الجزري: حديث أبي أيوب هذا لا يُشَكّ في صحته .... ورواه أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو هريرة وجابر وثوبان والبراء بن عازب وابن عباس وعائشة. ورأيت في "الجامع الصغير" (2) حديث: "من صام رمضان وستًّا من شوال والأربعاء والخميس دخل الجنة". مح (3) عن رجل. و"مح" علامة لـ"مسند أحمد"، ورأيتُ في "المسند" (4) من حديث عريفٍ من عُرفاء قريش عن أبيه: "من صام رمضان وشوالًا والأربعاء والخميس دخل الجنة". وهناك أحاديث أخرى في صوم شوال إجمالًا، وفيما ذُكِر كفاية. والله الموفق. _________ (1) (5/ 327) طبعة دار القلم. وقد نقل الكلام المذكور عن "مرقاة المفاتيح" للقاري (2/ 542). والجزري هو شمس الدين محمد بن محمد الشهير بابن الجزري (ت 833) شيخ الإقراء في زمانه. وهو ممن شرح "مصابيح السنة" للبغوي في ثلاثة مجلدات، وسماه "تصحيح المصابيح" (أو) "التوضيح في شرح المصابيح". انظر: "كشف الظنون" (2/ 1699). وبلغني أن منه نسخة في إحدى المكتبات الشخصية بالهند. (2) (6/ 161 بشرحه "فيض القدير"). (3) كذا في الأصل. وفي "الجامع الصغير": "حم". وهو المعروف، وقد صرَّح السيوطي بذلك في أول "الجامع" (1/ 25). (4) رقم (15434). وأخرجه أيضًا عبد الله بن أحمد في "زوائد المسند" (16714) والبيهقي في "شعب الإيمان" (3870). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 190): "فيه من لم يسمَّ، وبقية رجاله ثقات".

(18/260)


[ص 12] الفصل الثامن في الآثار بحسْبِك من آثار الصحابة رضي الله عنهم رواية هذه السنة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقد تقدم في رواية يحيى بن سعيد الأنصاري أن أبا أيوب رضي الله عنه قام في الناس عقبَ الفطر، فخطَبهم بهذا الحديث يُرغِّبهم في الصوم. وأما التابعون فبحسْبِك من آثارهم رواية السنة كما سمعتَ. وروى الترمذي عن الحسن البصري "كان إذا ذُكِر عنده صيام ستة أيام من شوال فيقول: والله لقد رضي الله بصيام هذا الشهر عن السنة كلها" (1/ 141) (1). وهذا الأثر يدلُّ على استفاضة هذه السنة في زمن الحسن، وأنه لا يرى بها بأسًا، وإنما بيَّن أنها ليست بفرض، فإن قوله: "لقد رضي الله ... " معناه: رضي الله بها أداءً للفرض. ولا يصح أن يُحمل كلامه على معنى أن الله رضي بها فلم يشرع غيرها، لأن هناك أيامًا غير رمضان مشروعٌ صومُها قطعًا، كالاثنين والخميس ويوم عرفة وثلاثة أيام من كل شهر وغيرها. فإن قيل: يحتمل أنه أراد إنكار الحديث أن صومها مع رمضان يَعدِل صومَ السنة، فيكون قوله: "لقد رضي الله ... " مراد به أن الله تعالى رضي برمضان وحده، فجعل صيامه يَعدِل صيامَ السنة. قلت: هذا باطل، فأيُّ حجة على أن صيام رمضان وحده يعدِل صيامَ _________ (1) (3/ 133) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة في "المصنف" (3/ 97).

(18/261)


السنة؟ بل الأدلة القطعية في أن الحسنة بعشْرِ أمثالها تُنافي ذلك، وتشهد لحديث الستّ. وما ورد من أن المضاعفة قد تزيد على العشر إلى سبعمئة أو أكثر فذلك غير موعود به وعدًا باتًّا، بل موكولٌ إلى فضل الله عز وجل، بخلاف العشر فإن الوعد بها مبتوت. على أنه لو كان على ذلك حجة لما كان ذلك صريحًا في منافاة حديث الست، ولاسيما رواية "فكأنما صام الدهر". وقال ابن قدامة في "المغني": "وجملة ذلك أن صوم الستّ مستحب عند كثير من أهل العلم، روي ذلك عن كعب الأحبار والشعبي وميمون بن مهران ... ". (3/ 95) (1). _________ (1) (4/ 438) ط. التركي.

(18/262)


الفصل التاسع في مذاهب الفقهاء أما الشافعي وأحمد وداود الظاهري وأصحابهم ــ وفيهم مجتهدون كابن جرير وابن خزيمة وابن حبان وابن المنذر وغيرهم ــ فلا خلاف في استحبابها عندهم. وأما أبو حنيفة فقد ذُكِرت عنه رواية بكراهيتها، والصحيح عند أصحابه استحبابها، وذكر ابن عابدين منهم عدة نصوص من كتبهم على استحبابها ثم قال: "وتمام ذلك في رسالة "تحرير الأقوال في صوم الست من شوال" للعلامة قاسم، وقد ردَّ فيها على ما في "منظومة التباني" وشرحها من عَزْوه الكراهة مطلقًا إلى أبي حنيفة وأنه الأصح، بأنه على غير رواية الأصول، وأنه صحح ما لم يسبقه أحدٌ إلى تصحيحه، وأنه صحَّح الضعيفَ وعَمَدَ إلى تعطيل ما فيه الثواب الجزيل بدعوى كاذبة بلا دليل، ثم ساق كثيرًا من نصوص كتب المذهب" (2/ 136) (1). وأما مالك بن أنس فقد قال يحيى بن يحيى الأندلسي (2): "سمعتُ مالكًا يقول في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان: إني لم ير (كذا) (3) أحدًا من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحدٍ من السلف، _________ (1) "حاشية ابن عابدين" (2/ 435) ط. دار الفكر. (2) في "الموطأ" بروايته (1/ 311). (3) من المؤلف للإشارة إلى ما في النسخة التي رجع إليها. وفي طبعة محمد فؤاد عبد الباقي: "إنه لم ير" على الصواب.

(18/263)


وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يُلْحِقَ برمضان ما ليس منه أهلُ الجهالة والجفاء، لو رأوا في ذلك خفَّةً على أهل العلم (1) ورأوهم يعملون ذلك". أقول: قوله: "في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان" ظاهره أن المراد عقب الفطر، بأن يصام ثاني شوال إلى سابعه، ويشهد له قوله بعد ذلك: "وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء"، فإن توهُّمَ العامة أن حكمها حكم رمضان في الفرضية إنما يقرب إذا صِيْمتْ عقبَ الفطر. وعلى هذا حمل كثير من المالكية كلام مالك، قال القاضي عياض المالكي: "ويحتمل أنه إنما كره وصلَ صومها بيوم الفطر، وأما لو صامها في أثناء الشهر فلا، وهو ظاهر كلامه في قوله: صام ستة أيام بعد يوم الفطر" (3/ 279) (2). وسيأتي نحوه عن الباجي وغيره. وقوله إنه لم ير أحدًا من أهل العلم والفقه يصومها، ولا بلغه عن أحد من السلف= نفيٌ غير حاصر، لاحتمال أن جماعة منهم كانوا يصومونها ويُخفون ذلك، كما هو المشروع في صيام التطوع. [ص 13] ثم إن كان الكلام في صومها عقب الفطر، فليس فيه نفْي صومهم إياها في أثناء الشهر. وإن كان على إطلاقه فلعلَّ جماعة كانوا _________ (1) في طبعة محمد فؤاد عبد الباقي: "رخصة عند أهل العلم". (2) لعل المؤلف أحال هنا إلى طبعةٍ من "شرح الزرقاني على الموطأ". والنصّ في طبعة دار الفكر منه (2/ 203). وأصله في "إكمال المعلم" (4/ 140).

(18/264)


يصومونها ولم يبلغ مالكًا، ولاسيما من غير أهل المدينة. ومن كان لا يصومها: فقد كان جماعة منهم يسردون الصوم، وجماعة يصومون كلَّ اثنين وخميس، وجماعة يصومون ثلاثة أيام من كل شهر، وبعضهم يصومون من ذي الحجة والمحرم وغيرهما ما يزيد على ستة أيام. فأما الذين يسردون فقد دخل صوم الستّ في صيامهم. وأما الذين يصومون كل اثنين وخميس فلعلهم كانوا لا يرون اشتراطَ تتابعها، بل يكفي أن تكون من شوّال، ورأوا أنه يحصل لهم بصيام الاثنين والخميس صيام الستّ وزيادة. وأما الذين يصومون ثلاثة أيام من كل شهر، أو يصومون في ذي الحجة والمحرم وغيرهما ما يزيد على ستة أيام= فلعلهم حملوا الحديثَ على أن أصل المطلوب صيام ستة أيام من بقية السنة، وأنه لا اختصاص للأجر بكونها مُتْبَعةً برمضان من شوال، على ما يأتي تقريره في الفصل العاشر إن شاء الله تعالى. على أن في كلام مالك نفسه الاعتذارَ عنهم بأنهم إنما كانوا يتركون صومها ويكرهونه خوفَ البدعة، بأن يُلحِق بعض أهل الجهالة والجفاء برمضان ما ليس منه، فيظنون أن صومها فرضٌ كرمضان. وقد كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ربما يترك العمل الذي هو في نفسه مستحب إعلامًا للناس أنه ليس بفرضٍ ولا قريبًا منه، بأن يكون استحبابه بغاية التأكيد، وربما يفعل الشيء الذي في نفسه مكروه إعلامًا للناس أنه ليس بحرامٍ ولا شديد الكراهة. واقتدى به أصحابه، فكان أبو بكر وعمر وابن عباس لا

(18/265)


يُضحُّون (1)، لأنهم كانوا يرون الأضحية مندوبة، ويخافون أن يعتقد الناس وجوبها أو تأكُّدها، ويواظبون عليها ويشقُّ ذلك عليهم. ويشهد لذلك قوله: "ويخافون بدعته"، إذ لو كانوا يرون أن صيامها ليس بسنةٍ أصلًا لكان صيامها عندهم بدعةً البتّةَ، وحقُّ التعبير عنه أن يقال: "ويرونه بدعة". فلما قال: "ويخافون ... " عُلِم أنهم لا يرون صيامها بدعةً، ولكن يخشَون أن ينجرَّ الأمرُ إلى البدعة، وهي اعتقاد أن حكمها حكم رمضان في الفرضية. فتدبَّرْ. وبعدُ، فتَرْكُ أكثر الناس العملَ بالشيء ــ ولو لم يظهر لهم عذرٌ ــ لا يدلّ على أنه ليس بسنة. هذا التكبير عند الخفض والرفع في الصلاة تركه الناس في عهد عثمان، حتى أحياه علي بالكوفة، فقال أبو موسى: "ذكَّرَنا عليٌّ صلاةً كنَّا نصلِّيها مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، إما نسيناها وإما تركناها عمدًا" (2). وقال عمران بن حصين: "ذكَّرَنا هذا الرجل صلاةً كنّا نصلِّيها مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، كان يكبِّر كلما رفع وكلما وضع" (3). (راجع البخاري مع شرحه "فتح الباري" (4) كتاب الصلاة، باب إتمام التكبير في الركوع). وأحياه أبو هريرة بمكة، فأنكره عكرمة حتى قال لمولاه ابن عباس: إنه أحمق، فقال ابن _________ (1) انظر "مصنّف عبد الرزاق" (4/ 381، 382) و"السنن الكبرى" للبيهقي (9/ 265). (2) أخرجه أحمد في "المسند" (19494) والطحاوي في "معاني الآثار" (1/ 221) وغيرهما. (3) أخرجه البخاري (784). (4) (2/ 269، 270) ط. السلفية.

(18/266)


عباس: "ثَكِلَتْك أمُّك! تلك صلاة أبي القاسم - صلى الله عليه وآله وسلم - " (1). (أيضًا باب التكبير إذا قام من السجود). ومالك رحمه الله له أصلان يبالغ فيهما: الأول: شدة التحرُّز من البدعِ حتى ربما يقع في ترك السنة، ومن الحرامِ حتى ربما يقع في تحريم الحلال، وهذا هو الأصل المعروف بسدّ الذرائع. الثاني: الاحتجاج بعمل أهل المدينة حتى يقع في مخالفة بعض السنن الثابتة، وربما يحتج بعمل أهل المدينة ويكون عمل كثير من أهل المدينة على خلاف ما قال. وقد نازعه في هذين الأصلين من هو أجلُّ أصحابه ومن أشدِّهم ــ أو هو أشدُّهم ــ حبًّا له ومعرفةً بقدره، وهو الشافعي. وعلى كل حال فإن أصحاب مالك قد كَفَونا، فقرَّروا استحباب صيام الستّ في الجملة، وذكروا قيودًا أخذوها من كلام مالك، فقالوا: إنما يُكره صومها لمن يجتمع فيه خمسةُ أمور: الأول: أن يكون مقتدى به. الثاني: أن يُظهِر صومها. الثالث: أن يصومها متصلةً برمضان. الرابع: أن يتابعها. الخامس: أن يعتقد سنية اتصالها ــ أي في حقّه ــ مع اجتماع الأربعة الأولى. _________ (1) أخرجه البخاري (788). وانظر "الفتح" (2/ 272).

(18/267)


قالوا: فإذا انتفى واحدٌ فأكثر من هذه الخمسة لم يُكْرَه صومُها، أي بل يُستحبُّ كما يأتي. فأما المحدّثون منهم فمنهم من قال: لعله لم يبلغ مالكًا الحديثُ، قاله الحافظ أبو عمر ابن عبد البر (1) وغيره. ومنهم من قال: لعله لم يبلغه من وجهٍ يصحُّ، وقد بلغ غيرَه. ومنهم مَن قال: لعله إنما بلغه عن سعد بن سعيد، فلم يعتمد عليه، وإن كان لم يتكلم هو في سعد بن سعيد ولا أحدٌ من أهل عصره كما مرَّ. وذكر المازري المالكي في "شرح صحيح مسلم" (2) [ص 14] كلامَ مالك، ثم قال: "قال شيوخنا: ولعل مالكًا إنما كره صومها لهذا، وأما صومها على ما أراده الشرع فجائز. وقال آخرون: لعله لم يبلغه الحديث أو لم يثبت عنده، وإنما وجد العمل بخلافه". نقله عنه الأُبِّي (3). وقال الباجي في "شرح الموطأ": "وإنما كره ذلك مالك لما خاف من إلحاق عوامّ الناس ذلك برمضان، وأن لا يميِّزوا بينها وبينه حتى يعتقدوا جميع ذلك فرضًا". ثم ذكر رواية سعد بن سعيد ثم قال: "وسعد بن سعيد هذا ممن لا يحتمل الانفراد بمثل هذا، فلما ورد الحديث على مثل هذا، ووجد مالك علماء المدينة منكرين العمل بهذا احتاط. فتركه لئلا يكون _________ (1) انظر "الاستذكار" (3/ 380) ط. دار الكتب العلمية. و"إكمال المعلم" (4/ 139، 140)، و"شرح الزرقاني على الموطأ" (2/ 203). (2) لم أجد كلامه في "المعلم بفوائد مسلم" المطبوع. ولكن القاضي عياض نقله في "إكمال المعلم" (4/ 139، 140). (3) "شرح مسلم" للأبّي المالكي (ج 3 ص 279). [المؤلف].

(18/268)


سببًا لما قاله. قال مطرف: إنما كره مالك صيامها لئلا يُلحِق أهل الجهل ذلك برمضان، وأما من رغب في ذلك لما جاء فيه فلم يَنْهَه، والله أعلم وأحكم. وقد قال الشيخ أبو إسحاق: أفضل صيام التطوع ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام ستة أيام متوالية بعد الفطر، ذلك كصيام الدهر" (1). _________ (1) "المنتقى شرح الموطأ" للباجي المالكي (ج 2 ص 76). [المؤلف]. وانظر "المفهم" للقرطبي (3/ 237، 238).

(18/269)


الفصل العاشر في معنى الحديث قوله: "فكأنما صام السنة" قد فُسِّر في حديث ثوبان، وحاصله أن الله عزَّ وجلَّ قال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [سورة الأنعام: 160]، فعُلِم منه أن من صام شهر رمضان عشرةَ أمثالِه فكأنه صام عشرةَ أشهر بغير تضعيف، فيبقى من السنة شهران، فإذا صام ستة أيام من شوال كانت بعشرة أمثالها، وذلك ستون يومًا، فذلك تمام السنة .. وأما قوله: "فكأنما صام الدهر" فالمراد بالدهر هنا عمره من حين تكليفه إلى وفاته، وذلك يحصل له بأن يصوم في كل سنةٍ من عمره رمضانَ وستة أيام. بقي أن يقال: فلو صام ستة أيام من غير شوال من الشهور أو فرَّقها، لحصل له أيضًا ستون بمقتضى الآية، فلماذا قُيِّدت في الحديث بقوله: "وأتبعَه بستٍّ من شوال"؟ وقد أُجيب عن هذا بما حاصله: أن الحسنات وإن كانت سواءً في أن كلًّا منها بعشر أمثالها، فإنها تتفاوت في القدر، فاليوم من رمضان وإن كان كاليوم من جمادى في تعشير الجزاء، لكن اليوم من رمضان حسنة عظيمة، فهو بعشرة أمثاله كلها عظيمة، واليوم من جمادى حسنة دون تلك، فعشرةُ أمثالها كلها دون تلك. فمعنى الحديث أن الله عز وجل تفضَّل على عباده فجعل صوم ستٍّ من

(18/270)


شوال بحسب ما ورد في السنُّة يُساوي ستًّا من رمضان في الفضل لا في الفرض، أي أن الثواب كالثواب في القدر. وعلى هذا فصيام ستة أيامٍ غيرِها لا يحصل بها المقصود، بل لو صام ستين غيرَ مشتملةٍ على المنصوصة لم يحصل له مثلُ ثواب من صام الستَّ المنصوصة. وبناءً على هذا المعنى استُشْكِل الحديث، قال الطحاوي: "فقال قائل: وكيف يجوز لكم أن تقبلوا مثلَ هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مما فيه أن صوم غير رمضان يَعدِلُ صومَ رمضان ... " (3/ 120) (1). ثم أجاب عن ذلك بما حاصله: أن فضل الله عز وجل واسعٌ، لا حَجْرَ عليه. أقول: وقد يقال في حكمة ذلك: إن الصيام زكاة البدن، وقد تكون الزكاة العُشر كما في زكاة الزروع والثمار، فكأنه في علم الله عز وجل أن الحكمة تقتضي أن يُفْرَض على المكلف صيامُ عُشرِ عمرِه. [ص 15] ولما كان المشروع في الصيام التتابع، فلو وجبتْ لوجب وصلُها برمضان، ولكن عارض ذلك من الرحمة والحكمة ما اقتضى التخفيف، فخفَّف سبحانه ستة أيام فلم يفرضها، بل ندبَ الناسَ إلى صيامها. ولكن لما اقتضت الحكمة إيجابَ فِطر العيد أوجبَ فِطْرَه، وندبَهم إلى صيامها عقبَه، واقتضى فضلُه وكرمه أن لا يخفِّف من ثوابها، بل من صامها يكون له مثلُ أجرها لو كانت مفروضةً. ونظير ذلك ما ورد أن فضل الفرض يَعدِل سبعين من فضل النفل، وقد _________ (1) (6/ 126) ط. الرسالة. وانظر "المفهم" للقرطبي (3/ 236، 237).

(18/271)


ورد أن صلاةً بسواكٍ تعدِل سبعين صلاةً بغير سواك (1). وسِرُّه: أنه كان حقُّ السِّواك الوجوب، كما صحَّ عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: "لولا أن أشُقَّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" (2) أي أمرَ إيجاب، فخفَّف الله عز وجل على الأمة، فلم يُوجب السِّواك ولكنه أبقى أجره على حاله لو كان واجبًا. وقريبٌ منه شأن العيد، وقد كتبتُ فيه مقالةً (3) حاصلُها: أن العيد يوم زينة كما سُمِّي في كتاب الله عز وجل (4)، والزينة يَلْحقُها اللهو، وقد عُرِف من الشريعة أنها رخَّصت في اللهو ــ كضرب الدفّ والغناء الذي لا رِيبةَ فيه وغير ذلك ــ في النكاح والختان والقدوم من الغزْو. والسرُّ في ذلك: أن هذه المواضع يحصل لأصحابها فرح طبيعي، فاقتضت الحكمة أن يُرخَّصَ لهم فيما يقتضيه فرحُهم. ولما كان يوم العيد يومَ زينة ولهوٍ اقتضت الحكمة أن يُختار له يوم يحدث فيه بطبيعة الحال فرحٌ عام، وهذا متحقق في عيد الفطر، فإنه يحدث فيه بطبيعة الحال فرحٌ عام، لخروج الناس من حبْس الصوم. ثم نظرتُ في عيد الأضحى، فلم أره يتحقق فيه ذلك إلا للحجّاج، لخروجهم من ضيق الإحرام. ثم ذكرتُ ما صحَّ أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما خطب الناس فقال: "إن الله قد فرضَ عليكم الحج فحُجُّوا". قال رجل: أكلَّ عامٍ يا رسولَ الله؟ فسكتَ، ثم عاد فعادَ الرجل، حتى كانت الثالثة قال: "لا، ولو _________ (1) أخرجه أحمد (26340) وابن خزيمة (137) والحاكم في "المستدرك" (1/ 145، 146) والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 38) من حديث عائشة. وإسناده ضعيف. (2) أخرجه البخاري (887) ومسلم (252) من حديث أبي هريرة. (3) بعنوان "فلسفة الأعياد في الإسلام" ضمن هذه المجموعة. (4) في سورة طه: 59 {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ}.

(18/272)


قلتُ نعم لوجبتْ" (1). فظهر لي أن الحكمة كانت تقتضي وجوبَ الحج على كل مسلمٍ كلَّ سنة، وأيَّد ذلك إيجاب الاجتماع على أهل المحلة في الجماعة كل يوم خمس مرات، وعلى أهل البلدة في الجمعة، فكان يناسب ذلك إيجابَ اجتماع جميع المسلمين ولو مرةً في السنة وذلك الحج، ولكن عارضَ ذلك ما فيه من المشقَّة وضياع كثير من المصالح، فخفَّف الله عزَّ وجلَّ عنهم وجعل الفرض على كلٍّ منهم مرةً في العمر، لأنه يحصل بذلك اجتماعُ جمعٍ كبير مشتمل على جماعةٍ من كلِّ جهة. واقتضى فضلُه وكرمه أن لا يمنع غيرَ الحجاج مما كانوا يستحقون الترخيصَ فيه ــ لو وجبَ عليهم الحجُّ فحجُّوا ــ من الزينة واللهو. ويظهر من قضية السواك والحج أنه لِتعارُضِ الحكمة في اقتضاء الوجوب وعدمه جعل الله تبارك وتعالى الخِيرَةَ لرسولِه: إن شاء اختار الوجوب فيكون ذلك واجبًا بإيجاب الله تعالى، وإن شاء خفَّف. فاختار - صلى الله عليه وآله وسلم - التخفيف، ولذلك علَّق - صلى الله عليه وآله وسلم - الوجوبَ فيهما على مجرد أمره وقوله، فتدبَّرْ. وتمام هذا في مقالة العيد. وقد يظهر من هذا أن أجر حجّ التطوع مثل أجر حج الفريضة، ولا حَجْرَ على فضل الله عزَّ وجلَّ. ويدلُّ عليه إطلاق الأحاديث في فضل الحج، بخلاف الصلاة والصيام، فإن فيها أحاديث في فضل الفرض وأحاديث في فضل النفل، والله أعلم. _________ (1) أخرجه مسلم (1337) من حديث أبي هريرة.

(18/273)


الرسالة الثامنة والعشرون جواب الاستفتاء عن حقيقة الربا

(18/275)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى. قبل سنين نشر بعض الفضلاء في حيدراباد الدكن ــ إحدى مدن الهند ــ رسالة بعنوان "الاستفتاء في حقيقة الربا" أجلبَ فيها بخيله ورَجِلِه لتحليل ربا القرض. وأُرسِلتْ من طرف الصدارة العالية (مشيخة الإسلام) في حيدراباد إلى علماء الآفاق ليُبدوا رأيهم فيها، وأنا مطلع على المقصود من تأليفها ونشرها، ولا حاجة الآن إلى ذِكر ذلك. وراجعتُ حينئذٍ مؤلفَها في بعض المباحث، وأردت أن أجمع جوابًا عنها. ثم وردتْ بعض الأجوبة من علماء الآفاق، وأجود ما اطلعت عليها جواب العلامة الجليل مولانا أشرف علي التهانوي (1)، فاستغنيتُ بذلك. ثم تنبَّهت بعد ذلك لدقائق في أحكام الربا وحِكَمه، حتى وقفتُ أخيرًا على كلام للشاطبي في "موافقاته"، فاتَّجهتْ همتي إلى تقييد ما ظهر لي. وأسأل الله تبارك وتعالى التوفيق والهداية إلى سواء السبيل بمنّه وكرمه. * * * * _________ (1) بعنوان "كشف الدجى عن وجه الربا"، وقد حرَّره الشيخ ظفر أحمد التهانوي تحت إشرافه، وفرغ منه في 24 من ذي الحجة سنة 1347. وهو ضمن مجموعة فتاواه "إمداد الفتاوى" (3/ 179 - 301) ط. كراتشي.

(18/277)


[ص 7] [ ... ] (1) يكون له حكمة واحدة [ ... ] في إدراك الحكم، فقد يدرك أحدهم حكمة، وتخفى على غيره [وقد يدرك] الرجلان الحكمة، ولكن أحدهما أتم إدراكًا لها من الآخر، وذلك لكثرة ما يتفرغ [للبحث عنها]. ومثال ذلك أن من مفاسد الزنا الجهل بالأنساب، فالمفاسـ[ـد ] بالأنساب كثيرة، والناس متفاوتون في إدراكها، وعسى أن يكون منها ما [ما يظهر للناس، و] للزنا مفاسد أخرى قد تخفى على بعض الناس أو جميعهم، فالعدوى بـ[الأمراض الخبيثة لم تكن معلومة في الماضي،] وإنما علمت أخيرًا. ومن الأحكام ما لا يدرك الناس له حكمة أصلًا. وللبحث عن الحكم بواعث: الأول: وهو أعظمها، بحث العلماء لأجل قياس ما لا نصَّ فيه على ما فيه نص، فإذا [وجد الحكمة] في شيء، ثم وجد تلك الحكمة بتمامها في شيء آخر غيرِ منصوصٍ حَكَم بتحريمه، وهكـ[ـذا]. الثاني: البحث ليتأكد الإيمان، وهذا محمود إذا كان الباحث راسخًا في الـ[ـعلم، فإنه إن] ظهرت له الحكمة زادته طمأنينة، وإن لم تظهر له أحال _________ (1) الورقتان الأوليان من الأصل ذهبت أطرافهما، فسقطت كثير من الكلمات والجمل، وقد وضعنا المعكوفتين للإشارة إلى هذه المواضع واقترحنا أحيانًا بعض الكلمات التي تُكمل النقص.

(18/278)


ذلك على قصور فهـ[ـمه، وأحال الحكمة] إلى علم الشارع سبحانه وتعالى، وأنه من المعلوم المحقق أنه عز [وجل ... ] الحكم ما لا تصل إليه أفهام الناس. الثالث: البحث ليزداد علمه، وهذا كالثاني، أو هو هو. الرابع: البحث لترغيب الناس في الطاعات، وتحذيرهم من المعاصي [فإذا علموا] مصالح المأمور به، ومفاسد المنهي عنه، كان ذلك أدعى لانقياد [هم، فإن معرفة] الباعث من الحكماء الربانيين الذين يدركون حكمة الله تعالى في [الأمر والنهي] ينبغي أن يكون الإظهار. فإنه إذا قال الواعظ: إن حكمة تحريم [الزنا الوقاية] من العدوى بالأمراض الخبيثة، أوشك أن يقول [ ] وقد شهد لها الطبيب [ ... ]. [ص 8] [ ... ] إجلاله، فيعذبهم [ ... ] الجهل بالأنساب [ ... ] على أن لا يحملن [ ... ] أولاد [ ... ] بعلة التناسل يؤدي إلى ضعف [ ... ]. ومن مفاسده [ ... ] إما أن لا يتزوج [البتةَ] وإما أن يترك زوجته، ويذهب للزنا، وبذلك يفسد ما بين الزوجين [ ... ] محل الوفاق، ويوشك أن يدع الرجل امرأته وأطفاله وأباه وأمه، [ويوشك أن

(18/279)


يدفع] ماله لإحدى البغايا، وعسى أن تقلده امرأته وبنوه وجيرانه. ويسترسل [بحيث] يحيط بجميع صور الزنا. ويختم بنحو ما بدأ به، فيذكر أنها قد بقيت حِكَم [، وأن هناك] حِكَمًا لا يعلمها، وأنّ المقصد الأعظم هو ابتلاء الله عز وجل لعباده ليظهر ما ينطوي [عليه القلب] من الإجلال والمحبة له، والخوف منه، أو عدم ذلك. [وينبغي أن تعرف] الحكمة للرد على الطاعنين في الإسلام، كالطاعنين بتحريم لحم الخنزير، وإباحة الطلاق [والزواج] من أربع أزواج، وشرع الرق، ونحو ذلك. [ ... ] شرط أن يقرر المجيب أولًا أنه قد ثبت عندنا بالقواطع وجود الخالق عز وجل بصفاته [ ... ] ونبوة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، أن كل ما جاء به عن ربه فهو حقٌّ قطعًا، وأنه جاء بهذا الحكم [ ... ] عن الله قطعًا، والله تعالى أحكم الحاكمين، المحيط بكل شيء علمًا. فحرمة لحم الخنزير ثابت عن الله تعالى [، وحكمةُ] ذلك ابتلاء عبيده، فإذا لم يعرف البشر حكمة أخرى، فأين يكون علمهم من علم الخالق عز وجل. [ ... ] للطاعن أن يناظر علماء الإسلام في هذه المقدمات. [ ... ] التي بعدها إلى آخرها، فإنهم مستعدون لإثباتها بالقواطع، فإذا أثبتوها [ ... ] أصله. [ ... ] لا يعلم مضرة في أكل لحم الخنزير، وإن لم تُقنِعه براهينهم على تلك المقدمات [ ... ] أن يظهر أن في أكله مضرة أو

(18/280)


مضار. [ ... ] يذكر ما استطاع ذكره من المفاسد في أكل لحم الخنزير. [ ... ] مضرة أوأكثر، فقد لا تقنع الطاعن، فيبقى مصرًّا على زعمه أنه قد طعن في الإسلام. [ ... ] طلع على الطعن، والجواب من عوام المسلمين وغيرهم، قد لا يقنعه الجواب، فيقع [ ... ] طعن متوجه، وأنه يدل على بطلان الإسلام. فليتنبه لهذا. [ص 5] الثمن (1) مكافئًا للمبيع، وخيرًا له منه، وإن المشتري كا [ ... ]. وعلى هذا فإذا تحقق الرضا حكم بأن العوضين متكا [فئان ... ]. الثانية: أن ننظر إلى ما يقتضيه الحال و [ ... ] بيد الرجل سلعة باعها بدون قيمة المثل لجهله بها مثلًا [ ... ] حكم بأن العوضين غير متكافئين. الثالثة: أن ننظر إلى ما هو أدق من هذا، فنقول: إذا كان لرجل أرض فزرعها [ ... ] ثمرتها، فقد يقال: ينبغي أن يحسب قيمة البِذْر وأجرة العمل، ويحطّ من ذلك ما استفاده منها في أثناء _________ (1) يبدو أن هنا خرمًا بقدر ورقة أو ورقتين.

(18/281)


السنة، فما [بقي] فهو قيمة الثمرة، فليس له أن يبيعها بأكثر من ذلك، فإن اشتراها تاجر منه، وجلبها إلى بلد آخر، وأراد أن يبيعها، فإن كان اشتراها بالقيمة، فله أن يضم إليها مقدار أجرته في الابتياع والحمل والنقل [ ... ] أكثر من ذلك. وإن كان اشتراها بأنقص من القيمة [ ... ] صاحب الزرع تبرع منه له، فلا يلزمه أن لا يحسبه. ويمكن أن يقال: من تبرع [ ... ] فعليه أن يتبرع به. وإن كان اشتراها بأكثر من القيمة فتلك زيادة ظلم بها [ ... ] غير من ظلمه. فقد يظهر للناظر أن الطريق الثالث هي العدل المحض، وأن الثانية بعيدة عن العدل، وإن [ ... ]. ولكن الثالثة يكثر فيها الخفاء وعدم الانضباط، وإناطة الحكم بها تؤدي إلى ضيق المعاملة [ ... ] إلى رغبة النا [س عن الزراعة] والصناعة والتجارة، ويؤدي ذلك إلى تأخر الحضارة، بل ربما أدَّى إلى خراب الدنيا. وهكذا الثانية، وإمكان الظهور والانضباط عليها يكون في شيء دون آخر. فلهذا كان الحكمة حق الحكمة أن يناط الحكم بالتراضي، على أن في نوط الحكم به مصالح أخرى، منها: [ ... ] وتربية العقول. ولكن دلالة الرضا على المكافأة تختلف باختلاف العقول والأفهام،

(18/282)


وذلك اختلاف لا ينفـ[ـي ... ] فنِيطَ الحكم بالبلوغ والعقل. ومن العلماء من يضمُّ إلى ذلك أن لا يكون [المشتري] مضطرًّا إلى العوض كمن اشتد به الجوع، فاشترى رغيفًا بدينار، والحال أن [ ... ] في تلك البقعة دانق مثلًا. ومنهم من يستثني الغبن الفاحش فيرد به، ومنهم [ ... ] المسترسل، وهو من يحسن الظن بصاحبه، فيرى أنه لن يحاول أن يغبنه، وقـ[ـد قيل:] "غَبْنُ المسترسل ربًا". [ص 6] [ ... ] عشرة دراهم من مال المشتري [ ... ]. وباعتبار الثانية [ ... ] هم من مال بالباطل. وباعتبار الطريقة الأولى لم يأكل [ ... ] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ [بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً] عَنْ تَرَاضٍ}. فأفهمت الآية أن [ ... ]. الإجارة: يأتي فيها نحو ما تقدم في البيع. ولننظر الآن في الربا، ونُقدِّم أشهر ما يطلق عليه ربا، وهو الزيادة المشروطة في القرض، [ ... ] عشرة دراهم بشرط أن يقضي أحد عشر.

(18/283)


فهذا الدرهم ظلم وباطل، ولا مُلْجِئ ههنا إلى اعتبار [ ... ] إنما اعتبر في البيع للخفاء، وعدم الانضباط في الطريقين الأخريين، وما ينشأ عنهما من المفسدة [ ... ] غير موجود في القرض. [ ... ] يحاول بها إثبات أن الربا ليس بظلم. [ ... ] رضا، ويقول بعضهم: أرأيت لو وهب الرجل ماله لآخر، فأخذه، أيكون الأخذ ظلمًا؟ [والجـ]ـواب: أن الرضا هنا ليس كالرضا في الهبة، [ألا] ترى أن الرجل لا يأخذ بالربا إلا مضطرًّا، ولو وجد من يعطيه بغير ربًا لما أخذ من المُرِبي، ولو خيَّره [المـ]ـقرض بين أن يعطي ربًا أو لا يعطي، لاختار عدم الإعطاء. فإن قيل: ولكن الرضا هنا كالرضا في البيع سواء، فإن البائع في المثال المتقدم لو خيَّر المشتري بين أن يعطي عشرة أو عشرين، لاختار العشرة، ولو خيّره المشتري بين أخذ عشرين أو ثلاثين، لاختار الثلاثين. والجواب: أننا قد قررنا الفرق آنفًا، وهو أنه كان مقتضى العدل في البيع اعتبار الطريقة الثالثة، فإن لم تكن فالثانية، ولكن لخفائهما وعدمِ انضباطهما وما ينبني عليهما من المفاسد نِيطَ الحكم بالرضا. وهذا المعنى منتفٍ في القرض. فإن قيل: فإنه يوجد في القرض ما يُشبِه هذا المعنى، وهو أن المنع من الربا يؤدي إلى امتناع الناس عن الإقراض. قلنا: فقد مضت قرون زاهرة على المسلمين لم يمتنعوا فيها عن القرض بدون رِبا.

(18/284)


ولماذا يُؤثِر الرجل الممنوع من الربا كنزَ دراهمِه على دفعها لأخيه، ينتفع بها ويردها في وقتها، مع وثوق لدافع بالقضاء، كأن استوثق برهنٍ أو ضامنٍ، أو وثقَ بوفاء أخيه. مع ما يحصل في ذلك للمقرض من الأجر والشكر وغير ذلك من المنافع، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. على أن خشية امتناع الناس عن القرض لا يوازي خشية تقاعدهم عن الزراعة والصناعة والتجارة، وما يلزم من خفاء المناط، وعدم انضباطه في البيع من كثرة التشاجر والتنازع، وتحيُّر الحكام، وغير ذلك. [ص 9] الشبهة الثانية: أن هناك فائدتين [تحصلان للمستقرض من القرض ... ] أو نحو ذلك [ ] بذلك القرض [ ... ]. الجواب عن الفائدة الأولى: أن ما حصل للمقرض من [النفع ] المال الذي استقرضه. [وحينئذ] فالقضاء ... ] ولو فرض أنه صبر على الجوع والعري حتى وجد مالًا، [فإن ]. وجواب آخر: وهو أن دفع حاجة المضطر مما يوجبه الإسلام، وسائر الشرائع تقتضيه [ ... ] إذا كان دفع حاجته لا يوجب نقصانًا ما على الدافع، وههنا كذلك، فإن الدافع إن كان يريد خَزْنَ ماله لو لم يقرض فهو عند المستقرض كأنه في خزانة، بل إن القرض أنفع للمستقرض كما سيأتي، وإن كان يريد أن يتجر فيه، فلا يدري أيربح فيه في مثل مدة القرض،

(18/285)


أم يخسر؟ بل لعله يتلف المال في يده وضمانه. وإن كان يريد أن يصرفه في حوائجه فواضح أن إقراضه أنفع له؛ لأنه يبقى محفوظًا. والجواب عن الفائدة الثانية: أنها خاصة بما إذا استقرض ليتجر. ثم نقول: من المحتمل أن يربح أو أن يخسر، فإن رَبِح فهذا الربح في مقابل تعبه، وفي مقابل مخاطرته بأخذ ذلك المال، والتصرف فيه في ضمانه مع احتمال أن يتلف عليه، فيضيع تعبه، ويخيب أمله، ويضطر مع ذلك إلى أن يبيع حلي زوجته أو عقاره أو بيته ليوفي دينه. وإن خسر فالأمر أوضح. الشبهة الثالثة: أن هناك مضرّتينِ يتحملهما المقرض بسبب القرض: الأولى: مخاطرته بإخراج ماله عن يده، وربما يتلف المال عند المستقرض، ويفلس ويموت، فيضيع المال. الثانية: أن المقرض لو لم يُقرِض ذلك المال فربما اتَّجر فيه لنفسه وربح. الجواب عن الأولى: أنه يمكن التخلص منها بأخذ رهنٍ، أو ضمانة، فإن أخذ ذلك زالت المخاطرة، وإن لم يأخذه وكان يمكنه ذلك فهو المقصِّر. وإن لم يكن يمكنه فإن كان يعلم أن للمستقرض أموالًا يمكن الأداء منها فلا مخاطرة، وإلا فهذه المخاطرة في مقابل مخاطرة المستقرض التي تقدمت. وإذا وازنّا بينهما نجد مخاطرة المستقرض أشدَّ، لأنه مخاطر بضرورياته، كالعقار والبيت ونحوه، ومخاطرة المقرض قاصرة على المال

(18/286)


الذي أقرضه، والغالب أنه يكون فاضلًا عن ضرورياته. والجواب عن الثانية: أنه لا يخلو أن يكون المقرض يريد أن يتجر بذلك المال لو لم يقرضه، أو يريد أن يخزنه، فإن كان يريد أن يخزنه فلم يفته بالقرض ربحٌ أصلًا. وإن كان يريد أن يتجر فيه فإنه يكون بالاتجار مخاطرًا بين أن يربح، وبين أن يضيع تعبه، ويخيب أمله، ويخسر من رأس المال، أو يتلف المال أصلًا. [ ... المقرض] من التعب، ومن المخاطرة، مع فوائد أخرى حصلت له كما سيأتي. فليكن هذا [ ... ]. [ص 10] [ ... ] [من المستقرض وغيره]. 4 - ما ينشأ عن ذلك من الجاه والقبول. 5 - ما يترتب عن ذلك من منافع لا تحصى. 6 - ربما يحتاج في مستقبله إلى الاستقراض [ ... ]. 7 - المال معرض للتلف، فإن بقي عنده وتلف لم يضمنه له أحد [ ... المستقرض كان مضمونًا في ذمته]. 8 - [ ... ] تحت يد المقرض لوقع فيه يصرفه [ ] كان محفوظًا عن ذلك.

(18/287)


9 - كثيرًا ما يحتاج صاحب المال [ ... ] [من سرقة أو نهب] أو غير ذلك، وإذا أودعه كان أمانة عند الوديع لا يضمنه إذا تلف [ ... ] كان مضمونًا على المستقرض. 10 - إذا كان المال طعامًا فإنه يكثر أن يكون عتيقًا لو بقي بعينه لفسد أو تلف، وإذا أقرضه فإن لم يرد له المستقرض أجود منه فلا بد أن يرد مثله حين أخذه. وهناك أمور أخرى تدرك بالتأمل، وفيما ذكر كفاية. والله أعلم. * * * *

(18/288)


مفاسد الربا تمهيد المقصود من شرع الأحكام تطبيق العدل، ولكن الجزئيات لا تحصى ولا تتناهى، والحكمة المقتضية للحكم تختلف في الجزئيات، فتخفى في بعضها، وتظهر في أخر، [وتشتدُّ في بعضها، وتخِفُّ في أخر،] ولا ينضبط مقدارها. مثال ذلك: الزنا، فإنه جرم يوجب العقوبة، ولكنه يكون تارة جرمًا شديدًا جدًّا، وتارة يكون أخفَّ. فرجل شائب ضعيف الشهوة غني عَمَدَ إلى امرأة قبيحة لا يحبها، فسعى بعدها حتى زنى بها. وآخر شابٌّ قوي الشهوة فقير، لا يجد من يُزوِّجه، عشق امرأة جميلة، فكان يتجنب لقاءها، فاتفق أن صادفها في مكان خالٍ، فلم يصبر أن وقع عليها. فبين الجرمين بون بعيد، وبينهما درجات لا تحصى، وهكذا يزداد الاختلاف إذا نظرنا إلى ما ينشأ عن الزنا من إفساد المرأة، وإسقاط شرفها، وإلحاق العار بأهلها، وتضييع الولد، وما يخشى من انتشار الزنا في الناس، وغير ذلك. فلو كُلِّف عاقل سَنَّ عقوبةٍ للزنا كان أمامه أربع طرق: الأولى: أن يفصِّل القانون تفصيلًا بعدد ما يمكن من اختلاف الجزئيات.

(18/289)


الثانية: أن يكِلَ الأمر إلى الحكام، ليقرر كل حاكم في الجزئية التي تعرض عليه ما يراه مناسبًا لها. الثالثة: أن يقرِّر عقوبة تنطبق على أخفِّ الجزئيات جرمًا، أو أشدِّها، أو أوسطها، يطلقها في جميع الجزئيات. الرابعة: أن يقرِّر عقوبة تنطبق على الغالب من الجزئيات [ ... ]. [ص 11] فأما الأولى: فليست بممكنة: أولًا: لكثرة الاختلاف بحيث يصعب [حصره]. ثانيًا: لأن من الأحوال التي يختلف مقدار الجرم باختلافها [ ] ومقدار ما ينشأ عن الزنا من المضار [والمفاسد ... ] الأنبياء في الناس حتى يكونوا هم الحكام، ويوحي إليهم في كل [جزئية ... ]. وإما أن يوحي إلى رسوله كتابًا يحصي فيه وقائع الزنا إلى يوم القيامة باسم [الرجل ... ] بحيث لا تشتبه واقعة بأخرى. فأما الأول: فكان ممكنًا، ولكنه ينافي ما [ ] والاختبار، وغير ذلك، ولاسيما إذا علمنا أنه يقتضي أن يكون الناس كلهم أنبياء، لأنه [ ... ] لأجل عقوبة الزنا، لزم اختياره لجميع الأحكام حتى التي يكون فيها كل إنسان حاكم نفسه [ ... ].

(18/290)


وأما الثاني: فلأنه منافٍ للحكمة من وجوه، أقربها إلى الفهم اقتضاؤه أن يكون في عقوبة الزنا وحدها قرآن يبلغ آلافًا وملايينَ وأكثر من ذلك من المجلدات، فكيف يسهل نقله وحفظه وكشفه؟ وهكذا في كل حكم من الأحكام غير عقوبة الزنا. وأما الطريقة الثانية ففيها: أولًا: أنها لا تُغنِي، لخفاء بعض الصفات التي توجب اختلاف الجرم، كما تقدم. وثانيًا: أنه فتحٌ لباب الظلم، وتلاعب الحكام، فهذا يداهن، وهذا يرتشي، وهذا تؤثر عليه الشفاعات، وهذا يخاف، وهذا يتهم، مع ما يلزمه من كثرة العمل الذي يكلف به الحاكم، فيستدعي ذلك كثرة الحكام، ولا سيما إذا علمنا أنه لو اختير ذلك في عقوبة الزنا انبغى أن يختار في غيرها من الأحكام، ومع ذلك فيصعب الفصل في القضايا ويتأخر، ويتعسَّر ويتعذَّر، وفي ذلك عين الفساد العام. وأما الثالثة: فتعيين أخفِّ العقوبات لا يؤدي إلى المقصود من الزجر والتأديب، وتعيين أشدِّها قد يصادف أن يكون استحقاقه نادرًا، فيكون الغالب وقوع العقوبات على من لا يستحقُّها، وتعيين أوسطها قد يكون غلطًا، إذا فرض أن الغالب هو استحقاق الأشدِّ، أو استحقاق الأخفِّ. وأما الرابعة: فهي العدل الممكن، ولكن يبقى معرفة الغالب، فإن العاقل قد يتردد فيه، وقد يغلط، وقد يخالفه غيره. ويبقى أيضًا تعيين العقوبة، ويبقى أيضًا أن تطبيق العقوبة على من كان من غير الغالب فيه إضرار به بغير استحقاق.

(18/291)


ولكنه إذا كان الشارع هو الله عز وجل تزول هذه النقائص كما ستراه. [ص 12] [ ... ] للرجل والمرأة، ومنع المرأة من الخروج، وذلك [كما قال تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ] فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي [الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ] أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ [تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا] إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء 15 - 16]. واقعة [ ... ] السيد الإمام محمد بن علي بن إدريس رحمه الله أن يتلو كل يوم جزءًا من القرآن بتدبُّرٍ وتفكر، وكان [ ... ] يشكل، فكان فيما تلاه يومًا هذه الآيات، ثم دعاني، فذكر لي تردده في معنى [قوله تعالى: ] {وَاللَّذَانِ} وأنه تأمل فيها، ثم راجع التفاسير ولم يطمئن قلبه إلى قول مما قالوه، لأن منهم من قال: المراد بهما الرجل والمرأة، قال: وهذا فيه بُعد، لأن المرأة قد سبق حكمها في قوله: {وَاللَّاتِي} وفيه مع ذلك التغليب، وهو خلاف الأصل. ومنهم من قال: المراد بهما الفاعل والمفعول في اللواطة. قال: وهذا أبعد؛ لأن اللواطة جرمٌ عظيمٌ، ولم يرد بعد ذلك من الشرع ما يقوى أن يكون ناسخًا لذلك. وفيه مع ذلك أن تكون الآيات لم تتعرض لحكم الرجل الزاني.

(18/292)


فبحثتُ معه رحمه الله بحثًا سأورده بنحو معناه، ولعل فيما أحكيه ههنا زيادة أو نقصًا. قلت: أفلا يحتمل أن تكون هذه الآية في حكم الرجال الزناة خاصة، كما أن الأولى في حكم النساء خاصة؟ فقال السيد: لو أريد هذا لقيل: "والذين يأتونها .. "، فما وجه العدول عن ذلك إلى التثنية؟ فقلت: قد يقال: إنها باعتبار أن الرجال الزناة على نوعين: محصن وغير محصن، فثنِّي باعتبار النوعين. فقال: وما الدليل على جواز مثل هذا؟ فذكرتُ قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ}، وقول الشاعر (1): عَيُّوا بأمرِهِمُ كما ... عَيَّتْ بِبَيضَتِها الحمامهْ جَعلتْ لها عودَين من ... نَشَمٍ وآخرَ من ثُمامهْ فقد فُسِّر الشعر بأن المعنى: أن فيهم حليمًا وسفيهًا، فسفيههم يُفسِد على حليمهم، كالحمامة إذا نسجت بيتها من عيدانٍ فيها القوي كالنشم، والضعيف كالثمامة. قالوا: والتقدير: جعلت لها عودين: عودًا من نشم، وآخر من ثمامة. ومن المعلوم أن التثنية في المثل والممثَّل به إنما هي باعتبار النوعين، _________ (1) هو عبيد بن الأبرص، والبيتان في "ديوانه" (ص 138) و"الحيوان" (3/ 189) و"عيون الأخبار" (2/ 85) و"لسان العرب" (حيا، عيا) وغيرها.

(18/293)


فلم يرد أن فيهم رجلًا واحدًا حليمًا، ورجلًا واحدًا سفيهًا، ولا أن الحمامة جعلت عودًا واحدًا من نشم، وآخر واحدًا من ثمامة. فقال: هذا قريب، ولكن هل قال به أحد من المفسرين في هذه الآية؟ قلت: لا أدري. فراجعنا التفاسير فإذا في بعضها: عن مجاهد قال: هما الرجلان الزانيان (1). فقال السيد رحمه الله: قد راجعت أنا هذا التفسير اليوم، ومررت على [هذا] القول، ولكني لم ألتفت إليه، ولم يَعْلَقْ بذهني. [أقول: ] ثم وقفتُ بعد ذلك على ما يؤيد ما ظهر لي، كقول الجبَّائي وغيره في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ [دَعَوَا اللَّهَ}]. [ص 13] ولكنه ترجح عندي في الآية ما قدمته، وهو [ ... ] للرجل والمرأة، وأما إمساك المرأة في البيت، فليس [ ] أن تجمع على المرأة عقوبتان. فتدبر. ثم نزلت قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}]، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر [بالبكر جَلْدُ مائةٍ وتغريبُ عام]، والثيب بالثيب جَلْدُ مائة والرجم" رواه مسلم (2). _________ (1) انظر "تفسير الطبري" (6/ 499، 500) وابن المنذر (1472) وابن أبي حاتم (3/ 895). (2) رقم (1690) عن عبادة بن الصامت.

(18/294)


جعل حد البكر خفيفًا؛ لأن الغالب أن يكون شابًّا شديد الشهوة، وحد [الثيب شديدًا]؛ لأن الغالب أن يكون متزوجًا أو شيخًا، ولم يعلّق الحكم بكونه ذا زوجة لحِكَمٍ: منها: [أن لا] يودي حبُّ الزنا بالرجل إلى أن يفارق زوجته ليزني، وتخفّ عقوبته، وفي ذلك ما فيه من الفساد. فإن قيل: إن الرجم أشدُّ العقوبات، وليس بأوسطها. قلت: قد يقال: هو وسط في مقابل هذا الجرم الشنيع، كما قال بعض القدماء في بعض العقوبات: إن القتل لا يكفي عقوبةً لهذا الجرم، ولكن هو أقصى ما يمكن! وفوق ذلك فإن الرب عز وجل يتمِّم العدل بقضائه وقدره، فيستر هذا، ويفضح هذا، ويزيد هذا تتمةَ ما يستحقُّه من العقوبة، ويعوِّض هذا فيما إذا كان الذي ناله من العقوبة أشدَّ مما يستوجبه جرمه، وهكذا .. وههنا حقائق ودقائق، ليس هذا موضع بسط ما ندركه فيها. بقي أنه قد صح أن الله تعالى أنزل آية في الرجم، ثم نُسِخت تلاوتها (1)، وهي: {الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ... }. فهل كان نزولها عند نزول آية الجلد، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "خذوا عني ... "، ويكون الشيخ والشيخة كناية عن الثيبين؟ أو كانت نزلتْ قبل نزول آية الرجم، وبعد نزول آية الإيذاء، فبينتْ سبيلًا _________ (1) أخرجه مسلم (1691) عن عمر بن الخطاب.

(18/295)


للشيخ والشيخة، وترك التخفيف على الشبّان إلى أن نزلت آية الجلد، فنسخت آية الشيخ والشيخة وآية الإيذاء معًا بفرض الجلد على البكر، والرجم على الثيب؟ أو كان نزولها قبل آية الإيذاء أو معها، فكان الرجم على الشيخ والشيخة، والإيذاء خاصًّا بالشبان؟ الأشبه بسنة الله تعالى في تدريج الأحكام أن تكون نزلت بينهما، فشُرع أولًا الإيذاء فقط، لقرب العهد بالجاهلية، ثم شُرع رجم الشيخ والشيخة، وأُبقي حكم الشبان على الإيذاء، ثم تُرك اعتبار الشيخوخة والشباب، وأُبدل باعتبار الإحصان وعدمه، لأن المتزوج من الشبان في معنى الشيخ، وشُدِّد في الحد، والله أعلم. وهذه المسألة تحتاج إلى بسطٍ أزيدَ من هذا، وفيما ذُكر كفاية، والمقصود أن الحكمة تقتضي أن يكون بناء الحكم على الغالب فقط. أسباب التملك [ ... ] أسباب التملك، فالغالب أن الابن يكون أحقَّ بمال أبيه [ ... ] يكون مستحقًّا في نفس الأمر لما وهب له، ولكن قد يتفق أن يكون [ ... ] أسباب حتى جمع أموالًا كثيرة، ويكون له ابن سفيه عاقٌّ [ ... ] ونحو ذلك مما يضر الناس، ثم يموت الأب، فيرثه [ ... ] يهب ماله لشخص سفيه [ ... ] يرى أن استحقاق الابن أو الموهوب له لذلك المال فيه ما فيه، ومع ذلك فلو كان الربا مباحًا ... [ ... ] الرجل يعطي المقلِّين من أهل

(18/296)


الجدّ والعمل ماله بالربا، فيسعى كل منهم ويتعنَّى، وينتفع الناس بسعيه. فقد يربح ما يفي بالربا، ولا يزيد له إلّا شيء تافه، أو لا يزيد له شيء أصلًا، أو يربح ما ليس يفي بالربا، أو لا يربح شيئًا، فيضيع تعبه، ويَخِيب أمله، ويَغْرَم الربا من ماله، وربما ينقص عليه من رأس المال، أو يتلف عليه رأس المال كله، فيغرم رأسَ المال والربا، يبيع حلي أهله أو عقاره أو بيته، فإن لم يكن عنده شيء أُهِين وسُجن. ثم إن أُطلِق بقي كل يوم مروعًا، كلما كدَّ واجتهد فحصل له دريهمات قام الطلب يتقاضاه، ويُهِينه ويتوعده. وهكذا يبقى المال الذي وصل إلى ذلك السفيه، وفيه ما فيه، يبقى سالمًا له، وهو يربح فيه كل شهر أموالًا يمتصُّها من دماء أهل الكد والعمل، ويترفَّه بها، ويُسرِف فيها بدون أن يكون منه حركة تنفع الناس، بل حركاته تضرهم، وتُفسِد أخلاقهم، وتُخرب بيوتهم. والغالب أن الذين يتكسبون بالمراباة هم هؤلاء الذين يريدون أن يعيشوا في راحة ورفاهية، يمتصُّون دماء العمال بدون تعب ولا عناء، وتبقى رؤوس أموالهم محفوظة، بل يربحون فيها أرباحًا أوثق من أرباح التجارة. ثم يوشك أن تعم البلوى، فكل من وقع بيده مال، قال: مالي وللمخاطرة برأس المال مع التعب والعناء بزراعة أو صناعة أو تجارة؟ هذا باب الربا يبقى فيه رأس المال محفوظًا غالبًا، ويحصل فيه ربح محقق، ولا تعب ولا عناء. فيطبقون على ذلك، فلا يلبث أن تنحصر الأموال في أيدي السفهاء الذين لا شغل لهم إلَّا اللهو واللعب، ويصير أهل الجدّ والعمل عبيدًا لهم.

(18/297)


فمنعُ الربا يضطرُّ كلَّ فرد من الأفراد إلى أن يكون عضوًا عاملًا نشيطًا، ينفع الناس وينتفع، ويفتح باب الغنى لأهل الكد والعناء، ويستخرج الأموال من أيدي من لا يستحقها. يقول الشرع لمن حصل في يده مال: كن رجلًا، فاعملْ وجِدَّ واجتهدْ، واطلب الربح، فإن أبيتَ فاكنِزْه وكلْ منه، وأدِّ كل سنة ضريبةً عليه (الزكاة) حتى يفنى. [وإن] أردتَ مع ذلك صنعَ الخير في الجملة، فأقرِض الناس قرضًا حسنًا. [ص 15/ 1] إن قال قائل: قد بان الفرق بين البيع والربا، واتضح وجه إحلال البيع وتحريم الربا، لكن في الجملة، فأما التفصيل فبقي شيء، وهو أن الفقهاء يحللون بيع السلعة نَساءً بأكثر من ثمنها [ويحللون] السلم فيها إلى أجل يدفع أقلَّ من ثمنها عند العقد، وعند الأجل. فيجوِّزون بيع عشرة آصُعٍ طعامًا بخمسة عشر درهمًا نَساءً، وإن كان قيمتها نقدًا عشرة [ويجوزون] أن يسلم الرجل عشرة دراهم في خمسة عشر صاعًا إلى الحصاد مثلًا، مع أن السعر حين العقد عشرة آصع [بعشرة] دراهم،، وقد يكون عند الحصاد اثنا عشر صاعًا بعشرة دراهم. فما الفرق بين هاتين المسألتين، وبين إقراض عشرة آصع بشرط رد خمسة عشر، وإقراض عشرة دراهم بشرط رد خمسة عشر درهمًا. فعن ذلك أجوبة: الأول: أن الناس كما يحتاجون إلى شرع البيع نقدًا وشرع القرض، فكذلك إلى شرع البيع نَساءً وإلى السلم؛ لأن الإنسان كثيرًا ما يحتاج إلى

(18/298)


الطعام، وليس عنده ثمنه، ولا يجد من يُقرِضه، فيحتاج إلى اشترائه بنسيئة، وقد يحتاج إلى طعام مخصوص فلا يجده في السوق، فيحتاج أن يُسلِم فيه، ليذهب المُسلَم إليه، فيفتش عنه طمعًا في الربح، وقد يخشى أن يسبقه الناس إلى الطعام عند حصاده، ولاسيما التجار، فيبادر بالإسلام فيه، ليأمن أن يسبقه غيره، ويحتاج صاحب الأرض إلى دراهم فلا يجد من يُقرِضه، فيطلب من يُسلِم إليه في طعام إلى الحصاد. فلو حُرِّم أن يباع الطعام وغيره من السلع نَسيئةً إلَّا بمثل ثمنه نقدًا، لامتنع الباعة من ذلك؛ لأن أحدهم يقول للطالب: هذه الآصُع العشرة التي تطلبها بعشرة دراهم نَساءً، يرغب فيها غيرك بعشرة دراهم نقدًا، فأي الأمرين أنفع إليَّ: أبيعها نقدًا بعشرة دراهم، ثم أشتري بالدراهم سلعة أخرى طعامًا أو غيره، ثم أبيع بربح، وهكذا .. فقد لا يجيء الحصاد إلا وقد ربحت في العشرة عشرة ربحًا حلالًا، أم أبيعك إياها بعشرة دراهم إلى الحصاد؟ ويقول صاحب الدراهم لصاحب الأرض: أيهما خير لي، أشتري بالعشرة الدراهم عشرة آصُعٍ نقدًا ثم أبيعها، ثم أشتري وأبيع، فقد لا يجيء الحصاد إلا وقد ربحت في العشرة عشرة ربحًا حلالًا، وحينئذٍ أشتري منك أو من غيرك بعشرة دراهم خمسة عشر صاعًا، أو أقل من ذلك وأكثر من عشرة، أم أُسلِمها إليك في عشرة آصُعٍ إلى الحصاد؟ أقول: فلو مُنِع من الزيادة أدى ذلك إلى انقطاع بيع النَساء والسلم، وفي ذلك من الضيق ما فيه، ولعلَّ الناس يضطرون حينئذٍ إلى ارتكاب ما حرمه الشرع، وارتكابُ حرامٍ واحدٍ يُجرِّئ على ارتكاب غيره، وفي ذلك من الفساد ما فيه.

(18/299)


فأما القرض فإن المنع فيه من الزيادة لا يؤدي إلى انقطاعه؛ لأن الناس حريصون على كنز ما تغلب الحاجة إلى إقراضه، وهو النقد والطعام. والقرض مع التوثق أنفع لهم من الكنز، هذا مع ما يتبع [القرض] من الفوائد التي تقدم ذكرها. الجواب الثاني: أن الربح الذي يُرجى للمقرض لو لم يقرض، وللبائع بنسيئةٍ لو باع بنقد، وللمُسلِم لو لم يُسلِم، إنما يُرجى لهم إذا اتَّجروا وباعوا واشتروا، فإذا أقرض ذاك، وباع [هذا] بنسيئة، وأسلم هذا، فمن يعلم أنهم لو لم يفعلوا ذلك [ ... ] يتَّجرون ويبيعون ويشترون، أم يكنزون. [ص 15/ 2] ذلك غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل، وأقرب ما يتصور أن يُناط به الحكم نيتهم، ولكن النية أمر خفي أيضًا؛ لأنه لا يُعلم إلا من جهتهم، ولا ينبغي تصديقهم؛ لأنهم يتّهمون، فقد يكون نية أحدهم الكنز، ولكن إذا علم أنه لا يحكم له بالزيادة إلا [ ... ن] يريد أن يتجر ويبيع ويشتري، حملَه حبُّ الربح على دعوى ذلك. فاقتـ[ـضى ذلك أن] يناط الحكم بضابط ظاهر يطلع عليه العاقدان والشهود والحكام وغيرهم، فكان أقرب ما يفي بهـ[ـذا ... ] اعتبار العوض، فإذا كان العوض من جنس المدفوع أو ما يقرب منه كان شرط الزيادة ربا؛ لأن تحري المعطي أن يكون العوض كذلك قرينة على أنه ينوي كنز هذا الجنس. وإن كان العوض مباينًا للمدفوع كان الربح حلالًا؛ لانتفاء الضابط القائم مقام نية الكنز.

(18/300)


هذا إذا سارت المعاملة سيرًا طبيعيًّا، فأما إذا كانت لو جرت على طبيعتها لكانت من الأول، ولكن احتال العاقدان أو أحدهما حتى صوراها بصورة الثاني ــ كما يأتي في العِينة ــ فإنه يجب أن تردَّ إلى سواء الطريق، فيحكم فيها بحكم الأول. وهكذا ينبغي في عكس ذلك إذا كانت هناك تهمة، كأن يَعْمِد وصيٌّ إلى سلعة من مال يتيمه فيبيعها، ثم يقرض ولده ثمنها إلى أجل، فينبغي أن يغرم ما نقص من ثمن السلعة لو باعها إلى مثل أجل القرض. فأما حيث لا تهمةَ فلا، كأن يلتمس زيد من عمرو قرضًا، فيقول له: ارجع إليّ بعد ساعة، ثم يبيع سلعة من رجل ثالث بدراهم نقدًا، ويُسلِم الدراهم إلى زيد قرضًا حسنًا. فإن سمِّيتْ هذه حيلةً فهي حيلة يقصد بها فعل الخير والمعروف، فلا ينبغي إبطالها. فإن قلت: فإذا أقرض تاجرٌ رجلًا دراهم، وشرط عليه زيادة، والمقرض يدعي أنه كان يريد أن يتجر بدراهمه، واعترف المستقرض بذلك. قلت: لا التفاتَ إلى اعتراف المستقرض؛ لأنه نفسه متهمٌ بأنه يُمهِّد باعترافه هذا لأن يقترض من صاحبه ثانيًا وثالثًا وهكذا، ويخاف إن لم يعترف له تلك المرة أن لا يقرضه مرة أخرى، وقد حرم الشارع الأخذ بالربا، كما حرم الإعطاء به، مع أن النية غيب لا يدركها المستقرض تحقيقًا، وإنما يمكن الاستدلال عليها بقرائن، وقد تكون تلك القرائن مصطنعة، والقرينة الواضحة نادرة.

(18/301)


وفوق ذلك فالشارع قد عدل كما اقتضته الحكمة عن النية، وناط الحكم بصفة العوض كما علمت، فصار هو المعتبر كما تقرر في الأصول. فالقصر في السفر الطويل حكمته المشقة، ولكن لعدم انضباطها نِيط الحكم بالسفر الطويل، فاستمر الحكم حتى في حق من سافر سفرَ رفاهيةٍ لا مشقةَ فيه. وبهذا عُلم الجواب عما قد يتوهم أن المقرض بشرط زيادة إذا كان يعلم من نفسه أنه كان يريد أن يتجر بالدراهم، فربما يحل له أخذ الزيادة فيما بينه وبين الله، وإن لم يحل له في الحكم الظاهر. فإن قيل: إذا صار المدار على صفة العوض، فلماذا تُبطِلون الحيل، كالعِينة وغيرها؟ فالجواب: أننا لم نُبطِلها لدلالتها على نية الكنز، وإنما أبطلناها لأنها فرار من حكم الشرع، واحتيال عليه، وعدول بالمعاملة عن مجراها الطبيعي بتكلف صورة مصطنعة، كل ذلك لهوى النفس، ولو أبيحت لتحرَّاها كل من يريد الربا، فيبقى الحكم الشرعي معطَّلًا عن غايته، معزولًا عن فائدته. فأما النية وحدها فلم نعتدَّ بها، فإننا نقول فيمن كان عنده سلعة يريد أن يبيعها بعشرة نقدًا، ويكتنز العشرة: إنه لو وجد راغبًا في تلك السعلة بخمسة عشر نساءً، فباعها منه، لم يكن ذلك ربًا ولا حرامًا. ونقول فيمن كانت عنده عشرة دراهم يريد اكتنازها، ثم جاءه راغب في السلم، فأسلمها إليه في [ ... ] عن السعر الموجود حال العقد وعند الأجل، لم يكن ذلك ربًا ولا حرامًا.

(18/302)


[ص 15/ 3] وهذا كما تقرر في الشريعة أن قصر الصلاة لا يحل لمجرد المشقة بدون سفر. فتدبر! فإن قيل: المقصود هو العدل، وهذا الحكم لا يفي به، فإن من كانت نيته التجارة، ولكنه آثر القرض لحاجة المستقرض حالًا هو في نفس الأمر مستحقّ للتعويض عما فاته من الربح، ومن كانت نيته الكنز ولكنه باع نساءً، أو أسلم طمعًا في الربح من هذه الجهة، لم يكن مستحقًّا للتعويض. قلت: أما المقرِض؛ فإن لم يشترط زيادة فلا إشكال، فإنه قد رضي عوضًا عن ربحه الذي كان يرجوه بما حصل له من فوائد القرض التي تقدمت، ومنها الأجر، وصنع المعروف إلى المستقرض. وإن اشترط الزيادة فإن كان قد علم بالحكم فحرمانه من الزيادة عقوبة له على مخالفة الشريعة، مع أنها لم تَحْتِمْ عليه أن يقرض، وإن كان لم يعلم فسيأتي جوابه. وأما البائع نسيئةً، والمعطي سلمًا؛ فإن ما يناله من ربح يكون عوضًا عما يفوته من الربح في القرض، كما أن المقرض بزيادة جاهلًا بالحكم يحرم من الزيادة حكمًا، ويكون ذلك في مقابل ما يربحه إذا باع نَساءً أو أسلم، ولم يكن يريد التجارة. فإن قلت: قد يكون الإنسان يُقرِض وهو يريد التجارة، ولا يُنسِئ ولا يُسلِم، وقد يكون يُنسِئ ويُسلِم مع أنه كان ينوي الكنز، ولا يُقرِض أبدًا، وقد يُقرِض مشرقيًّا، ويُنسِئ مغربيًّا، فكيف هذا؟ قلت: قد قرَّرنا سابقًا أن القوانين لابد أن تُناط بأمر ظاهر منضبط، ثم لا يضرها تخلُّفُ الحكمة في بعض الصور النادرة.

(18/303)


وهذا أمر معقول معمول به عند العقلاء، فالحكومات تعلن في أوقات الخوف منع الخروج ليلًا، ويعترف العقلاء بأن ذلك وفق المصلحة، ولا يمنعهم من ذلك احتمال أن يكون رجل قد ترك أطفاله جياعًا، وذهب يلتمس لهم طعامًا، فلم يظفر بالطعام حتى جنَّ عليه الليل وهو في بيت بعض معارفه، فيمنعه حكم الحكومة من الرجوع إلى بيته، وفي ذلك هلاك أطفاله. وقد يعم المنع الرجال والنساء، وتكون امرأة مرضع قد خرجت فجنَّ عليها الليل في بيت بعض معارفها، فيمنعها الحكم من الرجوع إلى بيتها، فيموت طفلها جوعًا. وتعلن الحكومات في أوقات الخوف: أن من رآه الشرطة في الطرق ليلًا ينذرونه، فإن ارتابوا به ضربوه بالرصاص، فقد يصادف أن يكون رجل ضعيف مسالم، لكنه أصمُّ، ولم يعلم بالإعلان، فخرج يلتمس قوتًا لنفسه أو لأطفاله، فصاح عليه الشرطة، فلم يسمع لصممه. وأمثال هذا كثير. بل في القوانين الفطرية ما هو بهذا المعنى، فالمطر ضروري لحياة العالم، وقد يهدم بيت العجوز، ويفسد بضاعة التاجر، ويقتل طفل المسافر، وأشباه ذلك. لكننا قد قدَّمنا أن القوانين الشرعية يَجْبُر واضعها سبحانه وتعالى ما قد ينشأ عنها من خلل، فيقضي ويقدر ما يتم به العدل، وهو سبحانه المحيط بكل شيء علمًا وقدرةً، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس 82 - 83].

(18/304)


[ص 15/ 4] الدين الممطول به والمال المغصوب قد يقال: الحجج المتقدمة إنما تُبطِل الربا إذا كان في مقابل أجل قد رضي به الطالب، فأما الدين الممطول به والمال المغصوب فلا يظهر فيه ذلك، فإن التاجر إذا أقرض رجلًا دراهم أو طعامًا على شرط أن لا يؤخِّره عن شهر مثلًا، فأخَّره سنةً مثلًا، ففي ذلك ضرر شديد يلحقُ التاجرَ بدون رضاه ولا رضا الشرع، أفليس من العدل أن يفرض على الماطل ربح المال مدةَ المَطْل عقوبةً له، وجبرًا لما فات التاجرَ من الربح لو كان عنده؟ ومثل هذا يقال فيمن باع أو أسلم إلى أجل، فمطلَه صاحبه بعد الأجل، وهكذا يقال في الغاصب، وقد قال الشافعي (1): إن على من غصب دابةً أو دارًا فعليه أجرتها مدة الغصب، وإن لم يستعملها. الجواب: أما المعسر في الدين فقد فرض الله تعالى إنظاره لعذره، فلا إشكال. وأما الموسر فإنما لم تضمنه الشريعة ربحًا؛ لأن الربح لا ينضبط، فلو فرضنا أن الدين دفع إلى صاحبه، فمن يعلم أكان يتَّجر فيه أم لا؟ وإن اتَّجر أفيربح أم يخسر أم يتلَفُ المال؟ وإن ربح فما مقدار الربح؟ وما مقدار التعب؟ وقد حصل له فوائد من بقاء الدين في ذمة المدين تُعلم مما قدمناه في فوائد المقرض. فلما كان هذا لا ينضبط عدلت الشريعة عنه إلى شرع عقوبة الماطل بالحبس والتعزير، وترك الاستقصاء إلى عالم السر وأخفى، فهو سبحانه _________ (1) انظر "الأم" (4/ 523).

(18/305)


يعوِّض الممطولَ عما علم أنه فاته، ويعاقب الماطلَ عما علم أنه فوَّته. والطاغوت الذي يقضي بالربح إنما يضبطه بما جرى به العرف في الربا، والربا في الشريعة باطلٌ، فلا يصح أن يُضْبط به. وفي القوانين الطاغوتية كثير من الأحكام التي يَعْدِلون فيها عن تعويض من حصل عليه النقص إلى عقوبة الظالم، فلا وجه لأن يستبعدوا على رب العالمين أن يقضي بشيء من هذا الضرب، فيما نعلم أنه لا يمكن وضع قانون مطابق للعدل يمكن أن يعرفه الناس، ويستطيعون تطبيقه. [ص 15/ 5] ومع هذا فقد أمر الله تعالى بالتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ذلك نَصْب الحكام، وإقامة الأحكام، فإن كان في بلد المتداينين حكومة تقيم الحق، فالممطول متمكن من الشكوى إلى الحاكم وقتَ حلول الدين، فإن أخَّر مع قدرته فهو المقصِّر. ولو شُرِع تضمينُ الماطل بربح مالًا يوشك أن يتراخى الممطول عن المطالبة أو عن الجدِّ فيها، ليأخذ الربا، فصار كأنه أقرض بشرط الربا، ويوشك أن يقول الرجل لمن يُداينُه: اكتب الدين إلى أجل ثلاثة أيام فقط، ومع ذلك لك أن تؤخره شهرين أو ثلاثة مثلًا، ولكن بربا، فإن أعطيتني الربا فذاك، وإلا ادعيتُ عليك عند الحاكم: أنك مَطلتَني، فيحكم عليك بالربا. وأما القرض فالأمر فيه أظهر، فإن أكثر العلماء يقولون: إنه لا يؤجل، فعلى هذا ربما أقرض الرجل صاحبه، وصاحبه يؤمِّل أن لا يطالبه إلا بعد شهرين مثلًا، فتربص المقرض حتى أنفق المستقرض المال ثم طلبه، فلا يتمكن المستقرض من قضائه حينئذٍ، فيقول: قد مطلني، فأنا أطلب منه الربا.

(18/306)


وأما إذا لم يكن في البلد حكومةٌ قائمة بالحق، فأهلها كلهم مقصِّرون، ومن دخل عليه ضرر بسبب تقصيره ينبغي أن لا يُجعل له مخرجٌ منه، بل يُشدَّد عليه حملًا له على الرجوع عن التقصير والقيام بالواجب. والله أعلم. وعلى هذا القياس يكون الكلام في الغصب، إلا أن هناك مسائل يختلف فيها العلماء، منها: أن يتَّجر الغاصب بالمغصوب فيربح، فمذهب بعض العلماء ــ كالإمام أحمد ــ أن الربح لصاحب المال لا للغاصب، ومذهب بعضهم ــ كالإمام أبي حنيفة ــ أنه للغاصب، ولكن لا يحل له، بل يجب عليه التصدق به. وهناك أقوال أُخر، لسنا بصدد استيفائها، ولا الترجيح بينها، وإنما يلزمنا ههنا الفرق بين الغصب والدين، فنقول: الفرق عندهم أن الغاصب في هذه المسألة اتجر بعين المال المغصوبة، وربح فيها، وأما المدين فالدين في ذمته، وليس هو عينًا معينة، ومع ذلك فيقولون جميعًا: إذا لم يتجر في العين المغصوبة لا يلزم ربح، وإنما يقول بعضهم ــ كالشافعي ــ بوجوب الأجرة على غاصب الدار والدابة ونحوها، وإن لم يستعملها؛ لأن النقص الذي دخل على المالك بالغصب يمكن ضبطه بأجرة المثل، فليس كالربح الذي لا ينضبط كما مر. والله أعلم. * * * *

(18/307)


الربا مع الحربي أجاز أبو حنيفة رحمه الله أن يُربي المسلم المستأمن في دار الحرب مع من فيها من حربي، أو مسلمٍ أسلم فيها ولم يهاجر، وعلَّله أصحابه بأن مال أهل دار الحرب مباح، وإنما يحرم على المستأمن أن يغدر بهم، وأخذ أموالهم برضاهم ليس بغدر. وخالفه الجمهور حتى صاحبه أبو يوسف، ومن حجتهم أن تحريم الربا مطلق في الأدلة الشرعية، وقد دلت الأدلة أن فيه حقًّا لله تعالى، ولذلك لا يُحِلُّه رضا مُعطيه في دار الإسلام اتفاقًا. وقد سمَّى الله الربا ظلمًا، وظلم الحربي لا يجوز ولو برضاه، كما لو رضي حربي بأن يقتله المستأمن. وقد احتُجَّ لأبي حنيفة رحمه الله بما رُوي أن العباس عم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يُربِي مع المشركين قبل فتح مكة (1)، وكان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يعلم بذلك ولم ينهه. وفي هذه الحجة نظر؛ لأن ما حُكِي أن إسلام العباس رضي الله عنه قديم (2) لم يثبت، ولوجوهٍ أُخر لا حاجة بنا الآن إلى بسطها. والله أعلم. * * * * _________ (1) يدل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أول ربًا أضعُ ربانا رِبا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كلُّه". أخرجه مسلم (1218) من حديث جابر بن عبد الله. (2) ذكره الحافظ في "الإصابة" (5/ 578) بصيغة التمريض.

(18/308)


[ص 15/ 6] المضاربة سَنَّت الشريعة طريقًا لذوي الأموال من العجزة والكُسالى يمكنهم أن يربحوا فيها، ولكن بدون ضرر على غيرهم، وهي المضاربة، وهي أن يدفع الرجل إلى آخر دراهم يتَّجر فيها، على أنه إن ربح كان الربح بينهما، ولكنه إن لم يربح شيئًا لم يلزمه شيء، بل إن تَلِفَ بعض رأس المال أو كله لم يلزم العاملَ شيء، بل يكفيه ضياع تعبه، وخيبة أمله. وهذه الطريق فتحت بابًا لخروج الدراهم من يد الغني لتلعب دورها في المعاملات، فينتفع بها الناس كما تقدم. ولا يخشى أن تؤدي إلى الكسل والانهماك في التنعُّم؛ لأن فيها خطر ضياع رأس المال، فصاحب المال لا يختارها إلا وهو عاجزٌ على الحقيقة غالبًا، وليس فيها ظلمٌ ولا هضمٌ. وفوائد المقرض التي تقدمت لا تحصل للمعطي مالَه مضاربةً، وكذلك المضارُّ التي تكون في الربا لا تكون في المضاربة، فيكون في المضاربة رجاء الربح من المالك والعامل، والمخاطرة من كل منهما، المالك يخاطر بماله، والعامل يخاطر بعمله. وهذا هو العدل القويم، والقسطاس المستقيم، والحمد لله رب العالمين. * * * *

(18/309)


وجوه الربا لا فرق بين أن يُقرِض بشرط الزيادة دفعةً واحدةً، أو يُقرِض بشرط زيادة مقررة في كل شهر مثلًا، أو يقرض بلا شرط زيادة، ثم يطالب بالقضاء، فيستمهل المستقرض فيمهله بشرط زيادة، أو يكون له عند رجل دين من غير القرض، كثمن وأجرة ونحو ذلك، فإذا حلَّ الأجل أمهله إلى أجل آخر بشرط زيادة. هذا كله داخل في آية الربا كما سيأتي تحقيقه، والمعنى فيه واحد. وهناك صور أخرى تحتاج إلى إيضاح: منها: العِينة، وهي أن يحتاج الرجل إلى القرض فلا يجد من يُقرِضه قرضًا حسنًا، فيتواطأ مع إنسان على أن يشتري المحتاج من صاحب المال سلعة بمائة درهم إلى أجل، ثم يبيعها المحتاج لصاحب المال بتسعين نقدًا مثلًا. وتأويل ذلك أنه أخذ تسعين درهمًا على أن يرد مائة، وهذا هو عين الربا. وقد اشتهر عن الشافعية تصحيح هذه المعاملة، فأما الإمام الشافعي رحمه الله تعالى فإنما يوجد في نصوصه تصحيح البيعين حيث لم يعلم نية السوء، ذكر في باب بيع الآجال من "الأم" (1) أثر عائشة: "أن امرأة سألتها عن بيعٍ باعته من زيد بن أرقم بكذا وكذا إلى العطاء، ثم اشترته منه بأقل من _________ (1) (4/ 160).

(18/310)


ذلك نقدًا، فقالت عائشة: بئسَ ما اشتريتِ، وبئسَ ما ابتعتِ، أخبري زيد بن أرقم [ص 16] أن الله عز وجل قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلا أن يتوب". ثم ساق الكلام عليه، وفيه أن القياس يوافق فعلَ زيد، ثم قال: "فإن قال قائل: فمن أين القياس مع قول زيد؟ قلت: أرأيتَ البيعة الأولى أليس قد ثبت بها عليه الثمن تامًّا؟ فإن قال: بلى. قيل: أفرأيت البيعة الثانية أهي الأولى؟ فإن قال: لا. قيل: أفحرامٌ عليه أن يبيع ماله بنقدٍ، وإن كان اشتراه إلى أجل؟ فإن قال: لا، إذا باعه من غيره. قيل: فمن حرَّمه منه؟ فإن قال: كأنها رجعت إليه السلعة، أو اشترى شيئًا دينًا بأقلَّ منه نقدًا. قيل: إذا قلتَ: "كأنَّ" لما ليس هو بكائن لم ينبغِ لأحد أن يقبله منك، أرأيت لو كانت المسألة بحالها، فكان باعها بمئة دينارٍ دينًا واشتراها بمئة أو بمئتين نقدًا؟ فإن قال: جائز. قيل: فلا بد أن تكون أخطأت "كأن" ثَمَّ أو ههنا؛ لأنه لا يجوز له أن يشتري مئة دينار دينًا بمئتي دينار نقدًا.

(18/311)


فإن قلت: إنما اشتريت منه السلعة. قيل: فهكذا كان ينبغي أن تقول أولًا، ولا تقول: "كأن" لما ليس هو بكائن. أرأيت البيعة الآخرة بالنقد لو انتقضت أليس تُردُّ السلعة، ويكون الدين ثابتًا كما هو، فتعلم أن هذه بيعة غير تلك البيعة؟ فإن قلت: إنما اتهمته. قلنا: هو أقل تهمة على ماله منك، فلا تركن عليه إن كان خطأً، ثم تحرِّم عليه ما أحلَّ الله له؛ لأن الله عز وجل أحلَّ البيع وحرَّم الربا، وهذا بيع وليس بربا". "الأم" (ج 3 ص 68 - 69) (1). أقول: السياق صريح في أن كلام الشافعي رحمه الله خاص بما إذا لم تقع بينهما مواطأة، ولا قامت دلالة ظاهرة على قصد الاحتيال، وصورة ذلك مثلًا أن يَعْمِد رجل فيشتري ثوبًا بعشرة دراهم إلى أجل، ثم يتفرقان، ثم يعود المشتري إلى البائع، فيعرض عليه الثوب بتسعة دراهم نقدًا، فيشتريه منه. فالشافعي رحمه الله تعالى يقول: لا وجه لاتهام المشتري الأول بأنه إنما اشترى توصلًا إلى الأخذ بالربا، وهناك ما يُبعِد اتهامه، وهو أن المعروف من حال الإنسان أنه لا يرضى بضياع ماله، وإذا اتهمنا هذا الرجل بالنية المذكورة كنا قد اتهمناه بأنه أراد من أول الأمر ضياع درهم من ماله، فالأولى أن يحمل على أنه اشترى الثوب رغبةً فيه، ثم عرضتْ له حاجة، أو اطلع على غبن، فعاد فباعه. _________ (1) (4/ 160 ــ 161) ط. دار الوفاء.

(18/312)


وقوله: "فلا تركن عليه" صوابه: "فلا تَزْكَنْ عليه"، من الزكن، وهو الظن، أي: لا تتهمه إن كان زكنك خطأً لا دليل لك عليه. ويعلم مما تقدم أنه لو علم تواطؤهما على التوصل إلى الربا، أو اعترفا بأن نيتهما ذلك، صحَّ الحكم بحرمته. وكذلك إذا كانت النية التوصل، ولم يظهر لنا ذلك، فإن الحرمة ثابتة على الناوي. ويبقى النظر في صورة البيع الأولى وصورته الثانية، الحكم ببطلانهما أو أحدهما، ففي "فتح الباري": "والتحقيق أنه لا يلزم من الإثم في العقد بطلانه في ظاهر الحكم، فالشافعية يُجوِّزون العقود على ظاهرها، ويقولون مع ذلك: إن من عمل الحيل بالمكر والخديعة يأثم في الباطن" (ج 12 ص 274) (1). ذكر ذلك بعد أن نقل عن "إعلام الموقعين" (2) كلامًا فيه تنزيه الشافعي عما ينسبه إليه أصحابه، وفيها: "وكذا في مسألة العينة، إنما جوز أن يبيع [ص 17] السلعة ممن يشتريها، جريًا منه على أن ظاهر عقود المسلمين سلامتها من المكر والخديعة، ولم يجوِّز قطُّ أن المتعاقدين يتواطآن على ألف بألف ومئتين، ثم يحضران سلعة تحلل الربا، ولاسيما إن لم يقصد البائع بيعها، ولا المشتري شراءها". وقال في "الفتح" أيضًا: "نص الشافعي على كراهة تعاطي الحيل في _________ (1) (12/ 337) ط. السلفية. (2) (3/ 293).

(18/313)


تفويت الحقوق، وقال بعض أصحابه: هي كراهة تنزيه، وقال كثير من محققيهم كالغزالي: هي كراهة تحريم، ويأثم بقصده، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "وإنما لكل امرئ ما نوى"، فمن نوى بعقد البيع الربا وقع في الربا، ولا يخلِّصه من الإثم صورة البيع، ومن نوى بعقد النكاح التحليل كان محلّلًا، ودخل في الوعيد على ذلك باللعن، ولا يخلِّصه من ذلك صورة النكاح، وكل شيء قُصِد به تحريمُ ما أحلَّ الله أو تحليلُ ما حرَّم الله كان إثمًا، ولا فرق في حصول الإثم في التحيُّل على الفعل الحرام بين الفعل الموضوع له والفعل الموضوع لغيره إذا جعل ذريعة له". "فتح الباري" (ج 12 ص 267) (1). أقول: إذا ثبتت الحرمة أوشك أن يثبت البطلان، وقد قال الشافعية بحرمة الصلاة في وقت الكراهة وبطلانها، واستثنوا ما له سبب متقدم، أو مقارن كتحية المسجد، ثم قالوا: لكن لو دخل المسجد لأجل الصلاة في وقت الكراهة حرمت عليه الصلاة، ولم تصح؛ لأنه معاند للشرع، وهكذا قالوا في من قرأ في الصلاة آية السجدة ليسجد أنه إذا سجد بطلت صلاته. فعلى هذا يلزمهم إبطال العِينة إذا كان المقصود من صورة البيع فيها هو أخذ ألفٍ بألفٍ ومئتين. ودلائل البطلان كثيرة، ولكن المقصود ههنا إثبات الحرمة، والشافعية يوافقون عليها كما مر. ومن تدبر المعنى علم أنها أشدُّ من حرمة الربا الصريح، قال البخاري _________ (1) (12/ 328) ط. السلفية.

(18/314)


في كتاب الحيل من صحيحه (1): "باب ما يُنهى عنه من الخداع في البيوع (2)، وقال أيوب: يخادعون الله كأنما يخادعون آدميًّا، لو أَتَوا الأمرَ عيانًا كان أهون عليَّ". قال في "الفتح": "قال الكرماني: قوله: "عيانًا" أي لو أعلنوا بأخذ الزائد على الثمن معاينة بلا تدليس لكان أسهل؛ لأنه ما جعل الدين آلة للخداع. انتهى. ومن ثَمَّ كان سالكُ المكر والخديعة حتى يفعل المعصية أبغضَ عند الناس ممن يتظاهر بها، وفي قلوبهم أوضعَ، وهم عنه أشدُّ نفرةً". "فتح الباري" (ج 12 ص 273) (3). أقول: والباعث على هذه المعاملة قد يكون كفرًا، وقد يكون محاربةً لله عز وجل فوق محاربته بأصل الربا، وقد يكون جهلًا، ولا يَغُرنَّك ما جازف به بعضهم فقال: "إن هذه المعاملة محمودة؛ لأنها فرار من الربا الذي حرَّمه الله إلى البيع الذي أحلَّه"، فإنها مغالطةٌ محضةٌ؛ لأن صورة البيع التي يأتي بها المتعاينان غير مقصودة لهما قصدًا صحيحًا، وإنما هو قصد محرم، وهو المخادعة لله عز وجل، والاحتيال عليه، والعناد لشرعه. هذا، وقد حرَّم الله تعالى أكل أموال الناس بالباطل إلا أن تكون تجارةً عن تراضٍ، وليس هذه بتجارةٍ، فإن الآخذ لم يشترِ السلعة ليبيعها بربحٍ كما هو دأب التاجر، وقد تقدم بيان المعنى الذي أُحِلَّ لأجله التغابن في التجارة، وليس موجودًا ههنا. _________ (1) (12/ 336) مع الفتح. (2) في الأصل: "العيوب"، والتصويب من البخاري. (3) (12/ 336) ط. السلفية.

(18/315)


للعينة صور، وقد عدّ الحنفية منها أن تطلب من رجل أن يُقرِضك، فيقول لك: بل أبيعك هذه السلعة بنسيئة، وخذها أنت وبعها في السوق بنقد، فيأخذها ويبيعها في السوق. ونقلوا عن أبي يوسف أنه قال: "لا يُكره هذا البيع؛ لأنه فعله كثير من الصحابة، وحمدوا على ذلك، ولم يعدُّوه من الربا، حتى لو باع كاغذةً بألف يجوز، ولا يكره" (1). [ص 18] أقول: لا بد من تفصيل؛ فإذا كان ثمن السلعة التي أعطاه عشرة دراهم نقدًا، واثني عشر درهمًا نسيئةً، فإن أعطاه إياها بعشرةٍ نسيئةً فهذا هو الذي يمكن أن يكون محمودًا؛ لأنه كأنه أقرضه. وإن أعطاه إياها باثني عشر ففيه نظر، وقد يقال: إذا كان محققًا أنه لو لم يعطه تلك السلعة باثني عشر درهمًا إلى أجل لطلبها منه آخر بذلك الثمن إلى مثل ذلك الأجل، فلا يظهر إثم المعطي، ولكن يبقى النظر في الآخذ، فقد يقال: إنه إنما اشتراها بنية أن يأخذ عشرة نقدًا، وتكون في ذمته اثنا عشر، فإن أثِمَ الآخذ رجع الإثم على المعطي أيضًا إذا علم بنية الآخذ، وأما إذا أعطاه إياها بثلاثة عشر مثلًا فالحرمة ظاهرة. هذا، وما حكاه أبو يوسف عن الصحابة لم يُنقَل متصلًا، إلا ما رُوي عن زيد بن أرقم على ما فيه، والقصة نفسها تدل أنه لم يقصد العِينة، وقد ذكرها الباجي في "شرح الموطأ" (2)، وفيها: "قالت: فإني بعتُه عبدًا إلى العطاء _________ (1) انظر "حاشية ابن عابدين" (5/ 325، 326). (2) "المنتقى" (4/ 166).

(18/316)


بثمان مئة درهم، فاحتاج فاشتريته قبل محل الأجل بست مئة درهم". هذا مع أن هذه المرأة هي أم ولد زيد، كما في القصة، ولم يُذكَر أنه كان قد أعتقها، وإذا لم يكن قد أعتقها فهي باقية حينئذٍ في ملكه، والعلماء مصرِّحون على أنه لا ربا بين السيد وبين مملوكه. وذكر البيهقي وغيره أثرًا عن ابن عمر (1)، وفي سنده مقال، وفيه مع ذلك ما يصرح بأن البيع لم يكن بنية العينة. وقد قال محمد بن الحسن: "هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال ذميم، اخترعه أَكَلَةُ الربا ... " انظر "الدر المختار" (2) أواخر الكفالة. [ملحق ص 18] بقي أن بعض المحتالين على الربا يشتري مقدارًا وافرًا من بضاعة رائجة، وإذا طُلب منه بيعه نقدًا بقيمة مثله نقدًا أو إلى أجل قريب بقيمة مثله إلى ذلك الأجل، امتنع، وإنما يرصُده للمحتاجين إلى القرض، يجيء أحدهم فيسأله القرض، فيقول: ليس عندي دراهم ــ وكثيرًا ما يكون كاذبًا ــ ولكن أبيعك هذه السلعة بعشرةٍ نسيئةً إلى شهرين مثلًا، فيقول الطالب: وماذا أصنع بها ولا حاجة لي فيها؟ فيقول: تخرج بها فتبيعها بدراهم نقدًا، فتنتفع بها، فيقول الطالب: قيمة مثلها نقدًا في السوق ثمانية، فكيف أشتريها منك بعشرة، وأحملها وأتعب فيها حتى أجد من يشتريها مني بثمانية؟ فيقول: ليس عندي إلا ذلك، فإن أحببتَ فخذْ، وإلا فاذهبْ. وإذا اشتهر بهذا فربما يجيئه طالب القرض، فيشتري منه على ذلك _________ (1) "السنن الكبرى" (5/ 317). (2) "الدر المختار" مع حاشية ابن عابدين (5/ 326).

(18/317)


الوجه، ولا يذكر قرضًا. ولما كنتُ قاضيًا بجيزانَ سمعت برجلٍ حضرمي هذه حِرفتُه، فرأيت أن أعزِّره وأمنعه من هذه المعاملة، وأردَّه في ما بقي له من الديون إلى رأس ماله، ثم عرضتُ ذلك على شيخنا الإمام محمد بن علي بن إدريس رحمه الله، فأقرَّني على ذلك. ثم سُئلت مرارًا عن بيع النَّساء بزيادة في الثمن فأجبت أن التاجر الذي يبيع بنقد إذا طُلِبت منه سلعة بنسيئة فلا أراه حرامًا، ومثله غير التاجر إذا كانت عنده سلعة فطُلِبت منه بنسيئة فباعها بثمن لو طلبت منه بنقد لباعها بأقلَّ منه، وأما من إذا طلبت منه السلعة بنقد أو بنسيئة إلى أجل قريب بقيمة مثلها لم يبع، وإنما يرصدها للنسيئة؛ لتحصل له زيادة لها قدر، فلا أراه إلا حرامًا، ولاسيما إذا علم أو ظن أن المشتري إنما يريد القرض، ولما لم يجد من يُقرِضه قرضًا حسنًا، واستشنع الربا الظاهر أو لم يجد من يعطيه بربا، اضطر أن يشتري سلعة بعشرة إلى شهرين مثلًا، ويتعب بحملها، وطلب من يشتريها منه بثمانية نقدًا ليأخذ الثمانية فيسدّ بها حاجته. هذا والغالب أن الذين يأخذون من مثل ذلك الحضرمي هم الفقراء والذين عرفوا بالمطل، فإنهم يمطلونه؛ لأنهم يرون أنه ظالم لهم ولغيرهم، ولكنه لا يبالي؛ لأنه قد اعتاد الإلحاح في التقاضي، والتشديد فيه، وقد مرَّ الفرق بين العينة وبين بيع النَّساء الذي لا حيلة فيه. والله أعلم. الصورة الثانية: الانتفاع بالرهن: اتفق العلماء على تحريمه؛ لأنه ربا، وإنما أجاز بعضهم في رهن الدابة أن ينفق عليها المرتهن ويركبها أو يحلبها بقدر ما أنفق عليها متحرِّيًا العدل

(18/318)


في ذلك، وكذلك الأمة ينفق عليها، ويسترضعها بقدر نفقتها. وقد احتال الناس على هذا النوع من الربا بصورة بيع كثرت أسماؤه لخبث مسماه، فيقال: بيع العهدة، وبيع الوفاء، وبيع الأمانة، وبيع الإطاعة، وبيع الطاعة، والبيع الجائز، وبيع المعاملة، والبيع المعاد، والرهن المعاد، وغير ذلك. وحاصله أن يحتاج رجل إلى القرض، فيلتمس من يُقرِضه على أن يرهنه أرضه رهنًا شرعيًّا، فلا يجد مسلمًا يقبل ذلك، فيقول له إنسان: أنا أعطيك واسترهِنْ أرضك على شرط أن تكون منافعها لي ما دام الدين عندك، فقيل لهم: هذا ربا، فأوحى إليهم الشيطان أن يجعلوا صورة العقد بيعًا. ثم تارةً يقع العقد مع الشرط، كقوله: بعتك هذه الأرض بألف، على أنه ليس لك أن تخرجها من ملكك، وأنه متى جئتُ أنا أو ورثتي أو ورثتهم أو من يرثهم وهكذا بمثل الثمن رجعت الأرض إلى ملكنا. ويستغنى عن تفصيل الشروط بقولهم: بيع وفاء، أو بيع عهدة، أو غير ذلك من الأسماء الخاصة بهذه المعاملة الخبيثة. وتارةً يتقدم الشرط على العقد، كأن يقول مريد الأخذ: اشهدوا أن البيع الذي سيقع بيننا بيع عهدة مثلًا. وتارةً يتأخر، وربما جعلوا الشرط بلفظ النذر، كأن يقول مريد الأخذ: لله عليّ إذا اشتريتُ هذه الأرض من فلان أن أُقِيلَه إذا طلب الإقالة هو أو ورثته وإن سفلوا، وقد تقع صورة النذر بعد العقد.

(18/319)


[ص 19] وهذه الحيلة إنما حدثت في القرون المتأخرة، وأنكرها العلماء، وقد اطلعتُ على كلام المتأخرين من الفقهاء فيها. فأما الشافعية فقالوا: إذا وقعت المواطأة والشرط، ثم وقع العقد بصفة البيع، ولا ذكر للشرط في عقده، فالشرط السابق لغوٌ، والبيع صحيح نافذ. وإن كان الشرط بعد انعقاد العقد ولزومه فالبيع صحيح نافذ، والشرط وعدٌ، للمشتري أن يفي به وأن لا يفي. ولو كان الشرط بصيغة نذر من المشتري لزمه الوفاء به، وإن وقع الشرط في صلب العقد بطل البيع، ومن الشرط أن يقال: بيع عهدة، أو بيع وفاء، أو نحوه. ولكن بعض فقهاء حضرموت أفتوا بصحة البيع والشرط. قال في "القلائد" (1): "بيع العهدة المعروف بجهة حضرموت وغيرها، وهو أن يتفق المتبايعان أن البائع متى أراد رجوع المبيع إليه أتى بمثل الثمن المعقود به، وفَسَخ البيع، أو يُفسَخ عليه، رضي المشتري أم لا. وكذا إن اتفقا أنه إن أراد فكَّ البعض فله ذلك، كما صرَّح به بعض الفقهاء، وهو فاسد إن وقع الشرط في نفس العقد أو بعده في زمن الخيار، وسيأتي في الخيار أن مذهب أحمد وغيره جواز شرطه لأحد العاقدين مطلقًا، وأنه يتأبد له وهو مقتضٍ لصحة ما فعلاه هنا، ولزومِه عندهم، فإن وقع قبل العقد بالمواطأة ثم عقدا مُضمِرَين ذلك فهو وعد لايلزم على مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، ولكن رأى جماعة من أهل العلم تنفيذه بناء على وجوب الوفاء بالوعد، كما هو مذهب مالك رحمه الله تعالى وغيره، وأقاموا ذلك مقام الحقوق اللازمة _________ (1) "قلائد الخرائد" لباقشير الحضرمي (1/ 317).

(18/320)


حتى ينوب الحاكم في الفسخ أو قبوله حيث غاب المشتري أو امتنع". ثم قال بعد ذلك بكلام: "وذهب قوم إلى صحة بيع وشرط، وهو مذهب أحمد إذا كان شرطًا واحدًا، ويلزم". أقول: الحاصل أنه أسند جواز البيع مع الشرط المذكور في صلب العقد إلى أمرين: الأول: قوله: "إن مذهب أحمد وغيره جواز شرطه لأحد العاقدين مطلقًا، وأنه يتأبد له". وقال في الخيار: "وجوزه أحمد وإسحاق مطلقًا، ويتأبد". الثاني: قوله: "وذهب جماعة إلى صحة بيع وشرط، وهو مذهب أحمد إذا كان شرطًا واحدًا". وأسند وجوب الشرط ولزومه إذا كان قبل العقد إلى مذهب مالك في وجوب الوفاء بالوعد. فأما الأول: فكأنه مستند إلى ما في "فتح الباري" (1): "فإن شرطا أو أحدهما الخيار مطلقًا، فقال الأوزاعي وابن أبي ليلى: هو شرط باطل، والبيع جائز. وقال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي: يبطل البيع أيضًا. وقال أحمد وإسحاق: للذي شرط الخيار أبدًا". فأما الإمام أحمد: فإن صح هذا عنه فكأنه رواية ضعيفة عند أصحابه، فإن في "زاد المستقنع" من كتبهم في خيار الشرط: "أن يشترطاه في العقد مدة معلومة، ولو طويلة". _________ (1) (4/ 328).

(18/321)


قال في شرحه "الروض المربع": "ولا يصح اشتراطه بعد لزوم العقد، ولا إلى أجل مجهول، ولا في عقد حيلة ليربح في قرض فيحرم، ولا يصح البيع" (ص 190) (1). [ص 20] أقول: والمدة الطويلة إذا مات الشارط قبلها انقطع خياره عندهم، ففي "زاد المستقنع": "ومن مات منهما بطل خياره". قال الشارح: "فلا يورث إن لم يكن طالب به قبل موته" (ص 191) (2). أقول: ومطالبته به قبل موته تكون فسخًا، فينفسخ العقد من حينئذٍ، ولو طالب به عقب العقد بساعة انفسخ العقد من حينئذٍ، ولو لم يدفع الثمن، وهذا مخالف لمقصود بيع العهدة. وفوق هذا فالمقصود ببيع العهدة هو الحيلة، فيكون البيع والشرط باطلًا عند الحنابلة مطلقًا كما علمت. والفرق بين شرط الخيار لغير حيلة وشرطه لحيلةٍ: أن الأول يكون مقصود البائع عند البيع إخراج المبيع من ملكه بتاتًا، ولكنه يخاف أن يبدو له فيندم بعد ذلك، فلأجل هذا شرط الخيار. والثاني لا يقصد البائع إخراج المبيع عن ملكه، وإنما حاجته إلى الدراهم ألجأته إلى أن يضع أرضه تحت يد معامله إلى أن يتيسر له قضاء تلك الدراهم، ولهذا يرضى صاحب الأرض بدراهم أقلَّ من ثمن المثل، وتجدهم في حضرموت يصرحون بأنه رهن، فيقول البائع: رهنت أرضي عند _________ (1) (4/ 421) بحاشية ابن قاسم. (2) (4/ 432، 433).

(18/322)


فلان، ويقول المشتري: هذه الأرض مرهونة عندي، وتجد ذلك في وصاياهم وغيرها، وإنما يطلقون عليه بيعًا حال العقد، كما يعلمهم كتَّاب العقود الذين عرفوا طرفًا من الفقه، أو تعلموا كيف يكتبون وثيقة في هذا الباب. وعلى هذا فإذا كان في مذهب أحمد رواية بصحة الخيار المطلق، فلا تفيد أهل العهدة؛ لأن مقصودهم الحيلة على الربا، ولغير ذلك. والله أعلم. وفي "الشرح" في أحكام الشروط: "وكذا شرط رهن فاسد، كخمر، ومجهولٍ، وخيارٍ أو أجل مجهولين، ونحو ذلك، فيصح البيع، ويفسد الشرط" (ص 188) (1). والمراد أنه يصح ما لم يكن العقد حيلة، كما تقدم. والله أعلم. وأما قول إسحاق فلم أقف على تفصيل مذهبه، وعسى أن يكون كمذهب أحمد، وما لم يعلم قوله مفصّلًا مفسّرًا لا يمكن تقليده. وأما الثاني: وهو قوله: "وذهب قوم إلى صحة بيع وشرط، وهو مذهب أحمد إذا كان الشرط واحدًا"، فليس على إطلاقه، ففي مذهب أحمد تفصيل؛ فمن الشروط في مذهبه ما يصح مطلقًا، وهو ما وافق مقتضى العقد، كاشتراط حلول الثمن، أو كان من مصلحة العقد، كاشتراط تأجيل الثمن، أو فيه منفعة معلومة للبائع، كركوبه الدابة إلى موضعٍ معين، أو للمشتري كأن يشتري حطبًا، ويشترط على البائع أن يحمله إلى موضع معلوم. _________ (1) "الروض المربع" (4/ 404) بحاشية ابن قاسم.

(18/323)


فهذا النوع الثالث ــ أعني الذي فيه منفعة معلومة للبائع أو للمشتري ــ يصح عندهم إذا كان شرطًا واحدًا، ويبطل البيع إذا كان شرطين. وفسروا الشرطين باشتراط منفعتين، قال في "الروض المربع": "كحمل حطبٍ وتكسيره، وخياطة ثوب وتفصيله" (1). ومن الشروط في مذهبه ما هو فاسد، وهو ما ينافي مقتضى العقد، فتارة يبطل الشرط ويصح العقد، كاشتراط المشتري أنه إذا لم ينفق المبيع رده، أو أن لا يبيع المبيع ولا يهبه ولا يعتقه، وتارةً يبطل العقد أيضًا، كاشتراط عقد آخر، كأن يقول: بعتك بشرط أن تقرضني، وتارة لا ينعقد البيع من أصله، كقول الراهن: إن جئتك بحقك، وإلا فالرهن لك، وكذا كل بيعٍ عُلِّق على شرط مستقبل، [ص 21] وتمام التفصيل في كتبهم. والحاصل: أن الشرط الذي يجوز عندهم إذا كان واحدًا، ويبطل البيع إذا كان شرطين= هو ما كان في مصلحة البيع، وفيه منفعة معلومة لأحد العاقدين. ومثَّلوه بأن يشتري حطبًا، ويشترط على البائع حمله إلى موضعٍ معلومٍ أو تكسيره، أو يشتري ثوبًا، ويشترط على البائع تفصيله أو خياطته، فيصح. ولو اشترط مشتري الحطب حمله وتكسيره، أو اشترط مشتري الثوب تفصيله وخياطته، كان قد جمع شرطين، فيبطل البيع. والشرط الذي تضمنه بيع العهدة ليس من مقتضى البيع، ولا من مصلحته، بل هو من المنافي، وفي المنافي عندهم تارةً يلغو الشرط ويصح البيع، ومن أمثلته عندهم الخيار المجهول كما تقدم، ومثله فيما يظهر الخيار إلى مدة معينة مع شرط أن المشتري إذا مات يقوم ورثته مقامه. _________ (1) (4/ 399).

(18/324)


ووجه ذلك أن الخيار من أصله منافٍ للبيع، وإنما أجيز لدليل خاص، وذلك الدليل الخاص لا يتناول أن يكون الخيار لورثته من بعده، فهذا يقتضي بطلان الشرط وصحة البيع، ولكن الشرط الذي تضمنه بيع العهدة ليس خيارًا، وإنما المقصود به الحيلة على الربا، وهو باطل عندهم كما تقدم. وتحقيقه أن خيار الشرط موضوع لمن يكون قصده حال البيع أن يخرج السلعة من ملكه بتاتًا، ولكنه يخاف أن يبدو له فيندم، وبيع العهدة ليس من هذا قطعًا، وإنما المقصود منه أن تكون السلعة رهنًا بيد من يُسمى مشتريًا، ليفكَّه من يُسمى بائعًا هو أو ورثته متى أرادوا. هذه حقيقته، ولهذا يطلقون عليه لفظ "الرهن"، فيقول الرجل: أريد أن أرهن أرضي، ويقول الآخر: يريد فلان أن يرهن عندي (1) أرضه، ويقولان بعد العقد: رهنت أرضي عند فلان، وهذه الأرض عندي رهن، كما تقدم. وعلى كل حال فقد تبين بطلان بيع العهدة في مذهب أحمد وحرمته، وأنه ربا. والله أعلم. وأما السند الثالث: وهو الإلزام بالمواطأة قبل العقد، بناءً على وجوب الوفاء بالوعد في مذهب مالك، وفسره في "القلائد" (2) بعد ذلك بقوله: "مذهبنا أيضًا أن الوفاء بالوعد مكرمة متأكدة، وأن الإخلاف به مع القدرة وعدم الضرر مكروه جدًّا، وعند قوم يجب الوفاء، وقالت المالكية: يجب إن ارتبط بسبب، كقوله: أعطِني كذا، أو احلِفْ لا تسبَّني وأنا أعطيك كذا. وبيع _________ (1) في الأصل: "عني". (2) (1/ 320).

(18/325)


العهدة عندنا من هذا ... واختار جمع كثير من أصحابنا المتأخرين والذين قبلهم ما ذكرناه من المواطأة قبل، وإلزام الوعد بمقتضى مذهب من أوجبه للضرورة في الحاجة إلى الثمن، مع قلة الراغب في المبيع إلا بغبن كثير، فقصدوا التخلص منه بشرط أن له أن يفكَّه عند قدرته، ومشوا على ذلك حتى ألزمت به الحكام، ورتبوا عليه الأحكام". أقول: مالك وأصحابه رحمهم الله بريئون من هذه المعاملة، ومن المواعيد عندهم ما يأمرون بالوفاء بها، ولكن يقولون: ليس للحكام الإلزام بها قضاءً، ومنها ما إذا كان تمهيدًا لعقد ينزل عندهم منزلة الشرط في ذلك العقد، فيبطل العقد ويحرم. ومنها: غير ذلك. بل النذر عندهم لا يلزم به إلا ما لا يصح وقوعه إلا قربة. وفي "الشرح الكبير" مع المتن: " (وإنما يلزم به) أي النذر (ما ندب) ". قال الدسوقي في حواشيه: "يعني مما لا يصح أن يقع إلا قربةً، وأما ما يصح وقوعه تارة قربةً، وتارة غيرها فلا يلزم بالنذر، وإن كان مندوبًا، كالنكاح والهبة [هـ بن] ". (ج 2 ص 144). وأما ما ذكره صاحب "القلائد" عنهم فمحله فيما ارتبط بسبب فيه كلفة على الموعود؛ لأنه صار في معنى الإجارة أو الجعالة. وقوله: "أعطني كذا، وأنا أُعطيك كذا" في معنى البيع، فإن وقع الوعد في بيع الوفاء قبل العقد فهي مواطأة مفسدة، كما سيأتي عن المالكية، وإن وقع في صلب العقد فأولى، وإن وقع بعد لزوم العقد فقد صرحوا بأنه وعد لا يلزم الوفاء به، كما سيأتي.

(18/326)


[ص 22] ومالك رحمه الله تعالى يحتاط في محاربة الربا أشد الاحتياط، حتى حرَّم الإقراض طمعًا في الزيادة، إذا عُرف من عادة المستقرض الزيادة في القضاء، وحرَّم قبول الزيادة إذا كانت عن وعد أو عادة. فكان على أنصار بيع العهدة أن يراجعوا كتب المالكية، أو يستفتوا أحد علمائهم، ولا يُقدِموا على التحليل والتحريم بناءً على نقول مجملة. والله المستعان. هذا وقد نصَّ المالكية على حرمة بيع العهدة، أو بيع الوفاء، ووجوب إبطاله وحرمة انتفاع المشتري بالمبيع إذا كان الشرط في صلب العقد، أو تواطآ عليه قبل العقد، وأنه إذا لم يكن هناك شرط ولا مواطأة أصلًا فالبيع صحيح، ولو تبرع المشتري بعد لزوم البيع بنحو قوله: "متى رددتَ إليّ الثمن دفعتُ لك المبيع" كان وعدًا يستحبُّ الوفاء به، ولا يلزم. وهذه عبارة الدسوقي في حواشي "الشرح الكبير" للمالكية: "وبيع الثُّنيا هو المعروف بمصر ببيع المعاد، بأن يشترط البائع على المشتري أنه متى أتى له بالثمن رد المبيع، فإن وقع ذلك الشرط حين العقد، أو تواطآ عليه قبله كان البيع فاسدًا ولو أسقط الشرط، لتردد الثمن بين السلفية والثمنية ... وأما إذا تبرع المشتري للبائع بذلك بعد البيع بأن قال له بعد التزام البيع: متى رددتَ إليّ الثمن دفعتُ لك المبيع، كان البيع صحيحًا، ولا يلزم المشتريَ الوفاءُ بذلك الوعد، بل يستحبُّ فقط". (ج 3 ص 62). وفي المتن والشرح: " (ورُدَّ) المبيع بيعًا فاسدًا لربه إن لم يفت وجوبًا، ويحرم انتفاع المشتري به ما دام قائمًا". وحكى المحشي عن الشيخ أحمد الزرقاني أن المشتري بهذا البيع يرد

(18/327)


الغلة مع المبيع، ولا حق له فيها. وحكى عن (ح) ورجحه أن المشتري إذا قبض المبيع برضا البائع يفوز بغلته ما دام عنده، بناءً على أن حكم البيع الفاسد في المذهب هكذا، فهو حرام يجب نقضه، ويحرم على المشتري الانتفاع به، ولكن مع ذلك كله يفوز بغلته؛ لأنه في ضمانه، والخراج بالضمان. قال: "وإن لم يقبضه (المشتري) بل بقي عند البائع، فالغلة له لا للمشتري، ولو كان المشتري أبقاه عند البائع بأجرة، كما يقع بمصر؛ لأنه فاسد، ولم يقبضه". أقول: حكم البيع الفاسد عندهم هكذا، أنه يحرم ويجب رده، ويحرم على المشتري الانتفاع به، ومع ذلك فغلَّته للمشتري إذا قبضه برضا البائع؛ لأن الخراج بالضمان، وإنما الشأن في هذا البيع: أبيعٌ فاسد هو، فيكون حكمه كما قال (ح)، أم غير ذلك؟ والذي يظهر أن الزرقاني جعله رهنًا، والحق معه، لأنَّ الشرط المذكور سلخ هذا العقد عن حقيقة البيع، وجعله من حقيقة الرهن بشرط انتفاع المرتهن به. [ملحق ص 22] والبيع الذي سماه سلف المالكية بيع الثُّنيا، وذكروا أنه فاسد، إنما هو نحو أن يشرط بائع الجارية مثلًا على المشتري أنك إن بعتها فهي لي بالثمن الذي تبيعها به، كما في "الموطأ" (1). وقد حكى الباجي في "المنتقى" عن سحنون أنه علَّل عدم جوازه "بأنه _________ (1) (2/ 616).

(18/328)


سلفٌ يجرُّ منفعة، وذلك أنه يسلفه الثمن؛ لينتفع هو باستغلال المبيع". "المنتقى على الموطأ" (ج 4 ص 210) (1). أقول: وقضية تعليل سحنون أن لا تكون الغلة للمشتري؛ لأنها منفعة جرَّها القرض، والمالكية يشددون في ذلك جدًّا، كما تراه في باب القرض من "الشرح الكبير" وغيره من كتبهم. هذا مع أن الصورة المتقدمة لم يتمحض العقد فيها لأن يكون في المعنى سلفًا ورهنًا؛ لأنه لم يشترط ردّه عليه مطلقًا، ولا اشترط أن يتأبد حق الاسترداد حتى بعد موتهما، ولا اشترط أن يرده له بمثل الثمن الذي دفعه، بل اشترط أن المشتري إذا أراد بيعه فالبائع أحق به بالثمن الذي يريد المشتري أن يبيع به. فإذا كان هذا عند سحنون سلفًا جرّ منفعةً، فما بالك ببيع الوفاء؟ وفيه اشتراط الرد مطلقًا مؤبدًا بمثل الثمن المدفوع، فقد انسلخ هذا العقد عن حقيقة البيع في المعنى إلى حقيقة السلف والرهن على شرط أن ينتفع المرتهن بالمرهون. وبالجملة فمن تدبَّر مذهب مالك رحمه الله ورأى إمعانه في سدِّ الذرائع، ولا سيما ذرائع الربا، والتفاته إلى المعاني، واهتمامه بإبطال الحيل، وذهابه إلى وجوب معاقبة الخارج عن طريق الشرع بنقيض قصده، لا يسعُه إلا الجزم بما قاله الزرقاني. فمن مذهب مالك رحمه الله أن المطلقة في مرض الموت ترث، ولو لم _________ (1) (6/ 129) ط. دار الكتب العلمية.

(18/329)


يمت الزوج حتى انقضت عدتها، وتزوجت بعدة أزواج، وقال: إن الرجل إذا تزوج امرأة في عدتها فرق بينهما، ثم لا يحلُّ به نكاحها أبدًا عقوبةً له على استعجاله. أقول: وإذ قد عُلِم أن المقصود في بيع الوفاء إنما هو أن يقضي البائع حاجته بالثمن، وأن ينتفع المشتري بالمبيع حتى يرجع له الثمن، وتلك حقيقة الربا، كما أفاده ما مرَّ عن سحنون، فلا خفاء أنه إذا قضى للمشتري بالغلة حصل مقصود المرابين، وأدى ذلك إلى انهماكهم في هذه المعاملة الخبيثة، ولاسيما في هذه الأزمان التي لم يعد يكفي لزجر الناس أن يقال لهم: هذا العقد حرام، وعدم إبطاله حرام، وانتفاع المشتري بالمبيع حرام، فإنهم يقولون: حرام في حرام في حرام، ولكن الحكام لا يتمكنون من منعنا من مقصودنا، بل يحكمون لنا بالغلات، فأهلًا وسهلًا بالحرام إذا كان يقضي به الحكام. هذا، وفي مذهب مالك كثير من جواز عقوبة الحاكم للمعتدين، حتى جوز إتلاف المال المغشوش، ونحو ذلك. بقي أن يقال: فما يصنع الزرقاني بقاعدة الخراج بالضمان؟ أقول: أما إن كان يرى أن هذا العقد يكون سلفًا ورهنًا ــ كما يأتي عن الحنفية، وهو المعنى المعقول المعروف بين الناس كما سيأتي ــ فلا إشكال؛ لأن الرهن غير مضمون. وإن كان يرى أن المبيع يكون في ضمان المشتري، فلعله يقول: إن قاعدة الخراج بالضمان قد عارضتها قاعدة سدّ الذرائع، وقاعدة العقوبة بنقيض القصد.

(18/330)


فإن قيل: ولماذا تختص العقوبة بالمشتري مع أنهما جميعًا شريكان في الإثم؟ قلت: يمكن أن يقال: إن الغالب على البائع أن يكون محتاجًا. على أنه إذا جعل رهنًا ــ كما هو معنى هذه المعاملة في الحقيقة ــ فليس هناك عقوبة، بل هناك صورة عقوبة عليهما معًا، فعقوبة المشتري حرمانه من الغلة، وعقوبة البائع حرمانه من أن يكون المبيع في ضمان المشتري. ونكون بهذا الحكم قد رجعناهما إلى ما شرعه الله لهما مما أرادا أن يفرا منه. والله المستعان. وفي حاشية الدسوقي في النذر بعد قول المتن والشرح: "" (وإنما يلزم به) أي النذر (ما ندب) " ما لفظه: "يعني مما لا يصح أن يقع إلا قربةً، وأما ما يصح وقوعه تارةً قربة، وتارةً غيرها، فلا يلزم بالنذر، وإن كان مندوبًا، كالنكاح والهبة" (ج 2 ص 144). هذا، وما تقدم عنهم من أن التبرع بالوعد بعد العقد لا يضر، ويستحب الوفاء به، شرطه عندهم أن يكون تبرعًا محضًا. قال الباجي: "مسألة: وأما إن تطوع المبتاع بعد كمال العقد، وملكه للمبيع، فقال أصبغ: إذا سلما من مداهنة أو مواعدة فذلك جائز". "المنتقى" (ج 4 ص 211) (1). فأما إذا كان للمشتري عادة أن من باع له مثل هذا البيع يعده بالإقالة، فإن مالكًا نصَّ في ما يشبه هذا بأن العادة بمنزلة الشرط في صلب العقد. انظر _________ (1) (6/ 131) ط. دار الكتب العلمية.

(18/331)


"المنتقى" (ج 5 ص 96 - 97). وقاعدة "الخراج بالضمان" أصلها حديث صحَّحه جماعة، وضعَّفه البخاري وأبو داود؛ لأن في سنده مسلم بن خالد الزنجي، وهو ضعيف، ومع ذلك ففيه أن مورده في الرد بالعيب أن رجلًا اشترى غلامًا، ثم بعد مدة اطلع فيه على عيب، فقضى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بردّه، فقال المقضيُّ عليه: قد استعمله. فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "الخراج بالضمان" (1). وقد تقرر في الأصول أن المحلى بـ "ال" لا يعم إلا إذا لم يتحقق عهد، والعهد ههنا متحقق، وعليه فالمراد: الخراج الذي تطالب به بالضمان الذي كان على المشتري. نعم يقاس على هذا ما في معناه. والمشتري بالبيع الفاسد ليس في معناه؛ لأن الأول نشأ ضمانه عن وضع يده بحق مأذون فيه شرعًا، وليس الأمر في البيع الفاسد كذلك؛ لأن العقد فيه حرام، وتأخير بعضه حرام، وانتفاع المشتري فيه حرام. والله أعلم. وأما غير مالك ممن قال بوجوب الوفاء بالوعد، فلا يجوز التمسك بقولهم حتى يعلم تفصيل مذهبهم، وسيأتي شيء من ذلك عن بعض متأخري الحنفية. _________ (1) أخرجه أبو داود (3510) والترمذي (1286) وابن ماجه (2243) من حديث عائشة رضي الله عنها. قال أبو داود: هذا إسناد ليس بذاك، ونقل الترمذي عن البخاري تضعيفه. وصححه ابن حبان (1125، 1126 ــ موارد) والحاكم في "المستدرك" (2/ 15)، ووافقه الذهبي.

(18/332)


وأما قول صاحب القلائد: "للضرورة في الحاجة إلى الثمن .. "، فسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى. [ص 23] رأي الحنفية في كتب الحنفية خبط شديد في هذه المعاملة، ويسمونها بيع الوفاء، فأكثرهم على أنه قرض ورهن، فالذي سُمّي ثمنًا قرض، والذي سُمّي مبيعًا رهن، وليس لمن يسمى مشتريًا شيء من المنافع والفوائد، وإنما هو رهن بكل معنى الرهن. قال صاحب "جواهر الفتاوى" منهم: "وهو الصحيح". وفي " [حاشية] الدر المختار" (1): "قال السيد الإمام: قلت للإمام الحسن الماتريدي: قد فشا هذا البيع بين الناس، وفيه مفسدة عظيمة، وفتواك أنه رهن، وأنا أيضًا على ذلك، فالصواب أن نجمع الأئمة ونتفق على هذا وتُظهِره بين الناس، فقال: المعتبر اليوم فتوانا، وقد ظهر ذلك بين الناس، فمن خالفنا فليُبرِز نفسه، وليُقِمْ دليله" اهـ. قلت (2): وبه صُدِّر في "جامع الفصولين"، فقال رامزًا لفتاوى النسفي: البيع الذي تعارفه أهل زماننا احتيالًا للربا، وسموه بيع الوفاء، هو رهن في الحقيقة ... لا فرق عندنا بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام" (ج 4 ص 274) (3). _________ (1) "حاشية ابن عابدين" (5/ 276). (2) القائل هو ابن عابدين. (3) "حاشية ابن عابدين" (5/ 276) ط. دار الفكر.

(18/333)


وقال جماعة منهم: هو بيع فاسد، وللبيع الفاسد عندهم أحكام؛ منها: أنه حرام، فيجب على كل منهما فسخه، فإن لم يبادرا إلى ذلك أجبرهما القاضي، ومع ذلك يقولون: إذا قبض المشتري المبيع برضا البائع ملكه ملكًا خبيثًا حرامًا، فلا يحل له أكله ولا لبسه، ولا وطؤها إذا كانت أمة، وله أن يبيعه، أو يهبه، أو يعتقه، أو يَقِفَه، وغير ذلك من التصرفات، فإن تلف المبيع أو تعذر رده (وتفصيل ذلك في كتبهم) ضمنه المشتري للبائع بقيمته يوم قبضه، وإذا لم يتلف ولم يتعذر رده وجب رده للبائع مع زوائده المنفصلة كالولد، ومثله الثمرة ونحوها. فإن أتلف المشتري المبيع ضمنه، وردَّ الزوائد المنفصلة، وإن أتلفها ضمنها. وبقية التفصيل في كتبهم. وفي كتبهم أقوال أخر، في بعضها: أنه بيع باتٌّ، ولا رجوع للمشتري، وفي بعضها: أنه يصح، ويملك المشتري الانتفاع بالمبيع، ولا يملك التصرف في رقبته، بل متى طلب المشتري الفسخ فسخ، ثم قيل: إنه ينقطع ذلك بالموت، وقيل: لا ينقطع. ولكن هذه الأقوال صُرِّح في بعضها بأنها خاصة بما إذا كان عقد البيع سالمًا عن الشرط، وإنما تواطآ على ذلك، أو وقع الوعد بعد العقد. وبالجملة فالخبط شديد، وتحرير المسألة على أصول مذهبهم: أن الشرط إذا وقع في صلب العقد، ومنه أن يقال: بيع وفاء أو عهدة، وقد علما معناه، ففيه احتمالان: الأول: أن ينظر إلى المعنى، فيجعل رهنًا، وهذا هو الذي عليه أكثرهم، وبه يصدرون في كتبهم، قال في "البزازية": "ذكر صاحب المنظومة في

(18/334)


فتاواه أنه رهن في الحقيقة، لا يملكه المشتري، ولا ينتفع به إلا بإذن البائع، ويضمن ما أكل من نزله، وأتلف من شجره، ويسقط الدين بهلاكه، ولا يضمن ما زاد كالأمانة، ويسترد عند قضاء الدين؛ لأن الاعتبار بأغراض المتعاقدين، فإن البائع يقول: رهنتُ ملكي، والمشتري يقول: ارتهنتُ ملكه ... ". هامش "الهندية" (ج 4 ص 443) (1). الاحتمال الثاني: أن ينظر إلى لفظ "ب ي ع" فيقال: هو بيع بشرط، ومن المقرر في مذهبهم أن البيع إذا وقع بشرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه، ولم يجْرِ العرف العام به، ولا ورد الشرع بجوازه، فالبيع فاسد. ومثَّلوا له بشرط المشتري للثوب أن يفصله البائع أو يخيطه، وشرط بائع العبد أن يبقى على خدمته شهرًا، أو أن لا يخرجه المشتري عن ملكه، ونحو ذلك. أقول: والاحتمال الأول هو الظاهر، فإن سلفهم قالوا: إذا وقع البيع بشرط، وظاهر ذلك أن يكون البيع موجودًا حقيقةً، لفظًا ومعنًى، وإنما وقع شرط لا يلائمه، ولكنه لا يُبطِل حقيقته، ويُدخِله في حقيقة أخرى، وأمثلتهم تبين ذلك. وبيع الوفاء ليس من هذا، فإنه وإن وجد فيه البيع لفظًا، فليس بموجود حقيقةً ولا معنًى؛ لأن الشرط الذي فيه قد أخرج البيع عن حقيقته، وألحقه بحقيقة الرهن مع شرط انتفاع المرتهن به. [ص 24] وأما إذا كانا تواطآ على هذا [المعنى] ثم تبايعا ولم يذكرا في العقد شرطًا، فملخص مذ [هبهم] في المواطأة المتقدمة للعقد أنه إذا اتفق _________ (1) (4/ 405) طبعة دار الفكر.

(18/335)


المتعاقدان أنهما بنيا العقد على ما تواطآ عليه كان ذلك في حكم وقوع الشرط في صلب العقد، وإن اتفقا على أنهما أعرضا عما كانا قد تواطآ عليه قبل أن يعقدا، وعقدا بعد الإعراض فلا أثر للمواطأة، وإن قالا: لم تحضرنا نيةٌ حالَ العقد، لا على بنائه على المواطأة، ولا على عدم ذلك، ففيه خلاف. فنُقِل عن الإمام: أنه لا أثر للمواطأة. وقال صاحباه: بل لها أثرها حتى يتحقق الإعراض عنها، وكذا إذا اختلفا، فقال أحدهما: أعرضنا عن المواطأة، ولا بينة، أو قال: لم تحضرني نية. وخالفه الآخر فيهما. فعلى المنقول عن الإمام أن القول قول مدعي الإعراض أو الذهول. وقال صاحباه: قد ثبتت المواطأة، فلا يزول حكمها إلا ببيان واضح، والمرجح عند الحنفية هنا هو قول الصاحبين. وإذا لم تكن هناك مواطأة ولا شرط في صلب العقد، ولكن كانت نيتهما حالَ العقد أنه على ذلك الشرط، أفتى بعض الحنفية بأنه لا التفات إلى النية إذ لا مواطأة ولا شرط، وخالفه آخرون. وإذا لم يكن شيء مما ذكر، ولكن وقع الشرط بعد العقد، ففي هذه أيضًا خلاف، فعن الإمام: أنه يلتحق بالعقد، كأنه وقع في صلبه، وعن الصاحبين: لا يلتحق. وقول الصاحبين هو الأصح عندهم. أقول: والمعقول أن شرط العهدة والوفاء حيث حكم بأنه مؤثر في العقد، كان حكمه كما لو وقع في صلب العقد، وقد تقدم حكمه. وإن حكم بأنه غير مؤثر في العقد، فالشرط لاغٍ لا حكم له البتةَ. ولكن قال بعضهم: إن ذكر البيع بلا شرط ثم ذكر الشرط على وجه المواعدة جاز البيع، ولزم الوفاء، وقد يلزم الوعد فيجعل هنا لازمًا لحاجة الناس إليه.

(18/336)


أقول: أما الحاجة فسيأتي البحث عنها، وأما لزوم الوعد فيحتاج إلى معرفة ضابط الوعد الذي يلزم عندهم، حتى ينظر: أيدخل هذا فيه أم لا؟ قال في " [حاشية] الدر المختار": "قال في "البزازية" في أول كتاب الكفالة: إذا كفل معلّقًا، بأن قال: إن لم يؤدِّ فلان فأنا أدفعه إليك ونحوه، يكون كفالة لما علم أن المواعيد باكتساء صور التعليق تكون لازمة، فإن قوله: "أنا أحج" لا يلزم به شيء، ولو علَّق وقال: إن دخلت الدار فأنا أحج، يلزم الحج" (ج 4 ص 275) (1). أقول: ظاهر استدلاله بمسألة الحج أن قوله: "المواعيد باكتساء صور التعليق تكون لازمة" ليست قاعدة مقررة في المذهب، وإنما أراد أن يستنبطها من هذه المسألة. إذا اتضح هذا ففي "البزازية" من كتبهم في باب النذر: "إن عُوفيتُ صمتُ كذا، لم يجب ما لم يقل: لله عليّ. وفي الاستحسان يجب، وإن لم يكن تعليقًا لا يجب قياسًا واستحسانًا، كما إذا قال: أنا أحج فلا شيء، ولو قال: إن فعلت كذا فأنا أحج، ففعل يجب عليه الحج. وإن سلم ولدي أصوم ما عشت، فهذا وعد". هامش "الهندية" (ج 4 ص 314) (2). ونقله في "الدر المختار" في باب النذر أيضًا (ج 3 ص 76) (3). [ص 25] وتحقيق المقام عندهم لا يكون إلا بالنذر والدالّ عليه، كما نقله _________ (1) حاشية ابن عابدين (5/ 277) ط. دار الفكر. (2) (4/ 272) ط. دار الفكر. (3) حاشية ابن عابدين (3/ 740) ط. دار الفكر.

(18/337)


في "الدر" (1) عن "شرح الدرر" أن المدار عندهم على دلالة الصيغة على النذر، فإذا لم تكن دالة عليه فلا لزوم، وإن دلت عليه دلالة ظاهرة لزم، وإن احتملت فالقياس لا يلزم، وفي الاستحسان يلزم. فقوله: "إن عوفيتُ صمتُ" يحتمل أن يكون إخبارًا منه بأن سيصوم إذا عوفي، فيكون وعدًا لا يجب الوفاء به. ويحتمل أن يكون إنشاء على سبيل النذر، فيجب الوفاء به، فقالوا: القياس لا يلزمه، كأنه لأن الأصل براءة الذمة، وألزموه استحسانًا لقوة الاحتمال. وقوله: "إن سلم ولدي أصوم ما عشتُ، فهذا وعد" لأنه رفع الفعل، وهو قوله: "أصوم" فكان ظاهرًا في الإخبار، فهو وعد لا يلزم، ومثله لو لم يكن تعليق، كأن قال: سأصوم يومًا. فأما قوله: "كما إذا قال: أنا أحج، فلا شيء، ولو قال: إن فعلت كذا فأنا أحج، ففعل يجب عليه الحج". فواضح أن قوله ابتداء: أنا أحج، إخبارٌ محضٌ، فهو وعدٌ لا محالةَ، وقوله: إن فعلت كذا فأنا أحج، ظاهرٌ في النذر. فليس المدار على صورة التعليق، وإنما المدار على ظهور الصيغة في النذر فيلزم، أو احتمالها له احتمالًا مساويًا، فلا يلزم قياسًا، ويلزم استحسانًا. إذا تقرر هذا فاعلم أن الصيغة التي يطلقها المشتري بعد العقد لا تلزم على مذهبهم أصلًا؛ لأنها إن كانت ظاهرةً في الوعد فقد علمت أن ذلك لا يلزم في مذهبهم، وإن وجدت صورة التعليق، وإن كانت محتملة أو ظاهرة _________ (1) حاشية ابن عابدين (3/ 740).

(18/338)


في النذر أو نذرًا صريحًا، فلا تلزم على مذهبهم أيضًا؛ لأن من أصلهم أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان عبادة مقصودةً من جنسه فرض بأصل الشرع. وفي "الدر" عن "البدائع": "ومن شروطه أن يكون قربةً مقصودةً، فلا يصح النذر بعيادة المريض، وتشييع الجنازة، والوضوء، والاغتسال، ودخول المسجد، ومس المصحف، والأذان، وبناء الرباطات والمساجد". "الدر المختار" (ج 3 ص 73) (1). وفي "تنوير الأبصار" (2): "ولم يلزم ما ليس من جنسه فرض، كعيادة مريض، وتشييع جنازة، ودخول مسجد". إذا علمت هذا فكلا الشرطين منتفٍ في رد المبيع بيعًا صحيحًا [باتًّا] على المشتري؛ إذ ليس قربةً مقصودةً، والدين جنسه قرض. وفوق هذا فهو ذريعة إلى الربا كما لا يخفى، فقد يطمع الرجل في أن يرتهن أموال الناس وينتفع بها، فيجري عادته على أن كل من أجري معه صورة بيع بلا مواطأة ولا شرط، والثمن أقل من ثمن المثل، ينذر له بأن يقبله إذا طلب صاحب المال على أن يجري مع هذا الرجل صورة بيع بلا مواطأة ولا شرطٍ ثقةً بأنه سينذر له، علمًا بأنه لا يسعه إلا النذر؛ لأنه إن لم ينذر تسامع الناس بذلك فامتنعوا من معاملته، فتفوته منافع كثيرة. فعلى هذا يكون هذا النذر وصلةً إلى الربا، ويصير الشرط واقعًا في العرف والعادة، فهو في معنى الواقع في صلب العقد. _________ (1) "حاشية ابن عابدين" (3/ 735). (2) (3/ 736) مع "الدر المختار" وحاشيته.

(18/339)


وأما مسألة الكفالة: إن صحت فوجهها أن العبارة المذكورة صارت بسبب التعليق محتملةً احتمالًا قويًّا للالتزام، والالتزام الذي يكون معناه كفالة يلزم كلزوم الكفالة، وأما التزام الإقالة فإنما يكون من جهة النذر، وقد علمتَ ما فيه. والله أعلم. [ص 26] وقد توسع بعض الحنفية فأطلق أن الواقع بعد العقد يكون حكمه حكم الوعد، وإن كان خارجًا مخرج الشرط. وفي كلام بعضهم ما قد يفهم منه أن المواطأة قبل العقد تعطي هذا الحكم، وقد يؤخذ من إطلاق بعضهم أنه يحكم بمثل ذلك ولو كان الشرط في صلب العقد. وعلى كل حال فقد صرح بعضهم أن تجويز بيع الوفاء ممن جوزه في أي صورة كانت إنما هو استحسان من المتأخرين. قال في "البزازية" في أثناء [البحث] في هذا البيع: "ولهذا لم يصح بيع الوفاء في المنقول، وصح في العقار باستحسان بعض المتأخرين". "هامش الهندية" (ج 4 ص 447) (1). أقول: واستحسان بعض المتأخرين إنما هو مبني على زعم أن الحاجة داعية إليه، وأوضح ذلك في "البزازية" نقلًا عن الفخر الزاهد قال: "وجعلناه كذلك لحاجة الناس إليه فرارًا من الربا، فبلْخ اعتادوا الدين والإجارة، وهي لا تصح في الكَرْم، وبخارى الإجارة الطويلة، ولا يمكن تلك في الأشجار، فاضطروا إلى بيعها وفاءً، وما ضاق على الناس اتسع حكمه". "هامش _________ (1) (4/ 490) ط. بولاق.

(18/340)


الهندية" (ج 4 ص 446) (1). أقول: فقد آل خلاف هؤلاء المتأخرين من الحنفية إلى ما آل إليه خلاف المتأخرين من الحضارمة الشافعية، وهو دعوى احتياج الناس واضطرارهم إلى هذه المعاملة الربوية، فلنبحث عن هذه الضرورة، وعن حكمها. فصل أما الضرورة التي تحلُّ معها المحرَّمات، فليس منها عين ولا أثر، وإنما هوَّل بها هؤلاء القوم تهويلًا، فإن الرجل الذي يرضى أن يأخذ العقار بهذه المعاملة بألف مثلًا، فيكون على خطر أن يستردَّها بائعها بعد قليل، مع تعريضه نفسه للإثم، لا يُعقل أن يمتنع من شرائها بأكثر من ألفٍ شراءً باتًّا يعلم معه أن الأرض تصير ملكه وملك ورثته قطعًا، وأنه مع ذلك لم يرتكب حرامًا ولا شبهةً. وما هوَّل به صاحب "القلائد" من أن المالك لا يجد راغبًا في الأرض إلا بغبنٍ كثيرٍ، فيه أمور: الأول: أن الضرورة المعتبرة شرعًا ــ كالضرورة إلى القوت ــ مفقودةٌ في البلاد التي يتعاملون فيها بهذه المعاملة أو نادرةٌ، والنادر لا يكون مسوغًا لحكم عام. الأمر الثاني: أن هذا الذي ادَّعاه من قلة الرغبة غير معروف في العادة، فإن عادة الناس في كل أرض هي الحرص على شراء العقار بثمن المثل وأزيد. _________ (1) (4/ 408).

(18/341)


نعم إن ثمن المثل يزيد وينقص، فقوله: "بغبن كثير" إن أراد بالنسبة إلى ثمن المثل في الزمان والمكان فمردود، فإن وقع فنادرًا، والنادر لا يكون مسوِّغًا لحكم عامّ، وإن أراد بالنسبة إلى ما يطلب البائع من الثمن، فلا التفات إلى ذلك. الأمر الثالث: أنه على فرض أن ما قلنا: إنه نادر هو واقع بكثرة، فمن أين لكم أن من اضطر إلى القوت ولم يقرضه أحد، وعنده قطعة أرض ثمنها ألف، فعرضَها فلم يرغب فيها أحد إلا بخمسمائة، أنه يكون مضطرًّا تحلُّ له المحرمات، ولا يبيع أرضه بخمسمائة؟ وأين في الشريعة هذا؟ الأمر الرابع: أنه لو فرضنا أن هناك حجةً شرعية على هذا، لما كان ذلك مسوِّغًا لأن تجعلوا هذا حكمًا عامًّا للمضطر إلى القوت وغيره، ولمن لا يجد راغبًا إلا بغبن فاحش، ومن يجد راغبًا بثمن المثل وأكثر منه، بل يُناط الحكم بتحقق هذا المعنى، أعني الاضطرار مع عدم وجود راغب [ص 27] إلا بغبن فاحش، فيرخص لمن كان كذلك فقط. الأمر الخامس: أن الرخصة ــ على فرض جواز القول بها ــ إنما تتصور في حق المالك، فما بالكم رخَّصتم للمشترين، ونفَّذ حُكَّامكم لهم هذه المعاملة؟ فإن قالوا: لو لم تُنفِّذ لهم الحكام ذلك امتنعوا عن المعاملة به، فيتضرر المضطرون. قلت: فقد كان عليكم أن تعلنوا بحرمة ذلك، وإثم الآخذ به، وإنكم مع ذلك لا تُبطِلون المعاملة إذا تحقق اضطرار البائع.

(18/342)


فإن قالوا: إذا أعلنَّا بحرمته خشينا أن يمتنع الناس عنه، فيتضرر المضطرون. قلت: يمكنكم دفعه بكثرة الترغيب في إقراض المضطر مع التوثق منه برهن، فإن الناس إذا كان عندهم من الإيمان ما يَكُفُّهم عن الحرام الذي لا يعارضهم فيه الحكام، فمثل هذا الإيمان يكفي للرغبة في إقراض المضطر مع التوثق منه برهن إذا بالغ المشهورون بالعلم والصلاح في الترغيب فيه. وقد قال صاحب "القلائد" (1) ما لفظه: "فلو شرط (يعني المشتري بالعهدة) أنه لا يفكُّ إلا بعد سنتين، أو أقل أو أكثر ... وقد عمل به بعض وكلاء شيخنا إمام الوجود عبد الله بن عبد الرحمن بافَضْل في شراء عُهدةٍ له، وهو عالم بذلك، فقرره، وأنا ممن شهد ذلك". هكذا هكذا وإلا فلا لا (2) إذا كان ربُّ الدارِ بالدفِّ ضاربًا ... فحُقَّ لأهل الدارِ كلِّهم الرقصُ (3) وأما ما قاله الفخر الزاهد الحنفي: "إن أهل بلخ اعتادوا الدَّين والإجارة، وهي لا تصح في الكَرْم، وأهل بخارى اعتادوا الإجارة الطويلة، ولا تصحُّ في الأشجار، فاضطروا إلى بيعها وفاء". ففيه أن هذا لا يكفي لتحقيق الضرورة، فإن من اعتاد أن يعامل معاملة، _________ (1) "قلائد الخرائد" (1/ 317 - 318). (2) شطر بيت للمتنبي في "ديوانه" (3/ 254)، وصدره: ذِي المعالي فلْيَعْلُوَنْ مَن تَعالَى (3) البيت لسبط ابن التعاويذي في "ديوانه" (ص 247).

(18/343)


ثم لم تمكنه تلك المعاملة في بعض الأشياء لا يُعدُّ مضطرًّا. ولو فُرِض تحقق الضرورة، فكان ينبغي تجويز الإجارة التي اضطروا إليها، وفوق ذلك فهذه الضرورة ليست بعامة، فما بالكم عمَّمتم جواز بيع الوفاء في جميع الأشخاص وجميع البلدان. وبعد، فلو جاز الربا لمثل هذه المعاذير، لزم مثله في سائر أحكام الشريعة. فقال قائل: لا بدَّ من تجويز الربا في القرض والدين؛ لاحتياج الناس إلى الاستقراض والمهلة في الدين، ولا يجدون من يُقرِضهم أو يُمهِلهم بدون فائدة. وقال قائل: لا بدَّ للحكومات الإسلامية من تجويز البِغاء الرسمي؛ لأن الناس لا ينتهون عن الزنا، فإذا لم يكن هناك بغاء رسمي اضطروا إلى إفساد البيوت، والزنا بالمبتليات بالأمراض الخبيثة، وكذا الحمل من الزنا، وضياع الأطفال، أو قتلهم، ومفاسدُ ذلك أعظم جدًّا من مفاسد البغاء الرسمي. وقال ثالث: بجواز ترك الصيام؛ لأنه يؤدي إلى خلل في الأعمال التجارية والصناعية والحكومية، والخلل في هذه الأعمال في هذا العصر مفسدة عظيمة. وقال آخر: وعلى هذا القياس يجوز ترك الجُمَع والجماعات، وتأخير الصلوات عن أوقاتها. وقال آخر: فالحج أولى من ذلك. وعلى هذا المنوال ...

(18/344)


الحاجة يقولون: إننا وإن عبَّرنا بالضرورة، فلسنا نريد الضرورة المتعارفة، وإنما أردنا الحاجة. وقد عُهِد من الشريعة استثناءُ صورٍ من التحريم مع وجود علة التحريم فيها، ولكن لأن الحاجة تدعو إليها، وقد مثَّل العلماء لذلك بالقرض في الأموال الربوية، فإنه في المعنى بيع الربوي بمثله نسيئةً، وكذلك السلم مع أنه بيع مجهول، وكذلك الحوالة مع أنها بيع دينٍ بدين، في أمور أخرى كالعرايا وغيرها، ولم يُشترط في شيء من ذلك تحقق ضرورة ولا حاجة، بل أطلق صحتها ولو كانت لغير حاجة، وعروض الحاجة إلى بيع العهدة لا تقلُّ عن الحاجة لبعض هذه المعاملات، إن لم تزد على بعضها. [ص 28] الجواب نقول نحن: أيَّ حاجة تريدون؟ يقولون هم: حاجة صاحب الأرض إلى النقد لقُوته وقوتِ أهله، أو ليتزوَّج، أو يزوِّج أحد بنيه، أو ليسافر سفرًا احتاج إليه، أو ليعمر بيته إذا انهدم، أو لغير ذلك. نحن: وهل كان هذا الاحتياج يَعرِض لمُلَّاك العقارات في العهد النبوي وما بعده إلى أن اخترع هذا البيع؟ هم: نعم! نحن: فما بال الشريعة لم تعلن بجواز بيع الوفاء لمُلَّاك العقارات؛ لسدّ هذه الحاجة، وهكذا الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون ومن بعدهم،

(18/345)


حتى نشأ القول به أخيرًا؟ هم: كان مستغنًى عنه بإمكان الاستقراض، وبعد تلك القرون قَلّت رغبة الناس عن (1) الإقراض. نحن: وإمكان البيع الشرعي! هم: إمكان البيع الباتّ لمن يؤثره على الاستقراض، والاستقراض لمن لا يريد البيع الباتّ، إذا كان يرى البيع ضارًّا به. نحن: وهل كان المستقرض يستقرض ويؤدي؟ هم: نعم. نحن: فكيف كان يصنع إذا لم يمكنه الأداء إلا ببيع أرضه؟ هم: (يتحيرون). نحن: أليس كان يضطر إلى بيعها، وإذا لم يبعها باعها القاضي جبرًا، كما قررته الشريعة، وأثبته العلماء في كتبهم في بيع الرهن، وبيع أموال المفلس، وعقدوا لكل من ذلك بابًا؟ هم: بلى، ولكن كان يقلُّ وقوع مثل هذا؛ لرغبة الناس في الإنظار. نحن: إنما كانوا يرغبون في الإنظار الذي أمرهم الله تعالى به، لقوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]. ومالك العقار ليس بمُعْسِر، وقد باع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أموال معاذ، ومعاذ معاذ. هم: لم يكن يقع ذلك كثيرًا، وكان الراهن أو المفلس إذا ضايقه غرماؤه _________ (1) كذا في الأصل، والصواب: "في".

(18/346)


ليبيع أرضه وجد في المسلمين من يُقرِضه ما يؤدي به دينه، ويُنظِره. نحن: ولم يزل الناس إلى الآن يُقرِضون ويُنظِرون، وإنما قلَّ ذلك لأمور: أولها: قلة الأمانة في المستقرض، فغالب الناس الآن إذا ظفر أحدهم بمن يُقرِضه عدَّ ذلك القرض غنيمة، فبدلَ أن يهتمَّ بقضائه يهتمُّ بمماطلته، وقد كان يقع مثل هذا قديمًا، ولذلك قيل في المثل القديم: "الأخذ سُرَّيْطَى والقضاء ضُرَّيْطَى" (1). ولكن وقوعه الآن ــ ولاسيما في المسلمين ــ أكثر، بل لا تكاد تجد ذلك إلا في المسلمين. الثاني: أن الشريعة سدَّتْ أبوابَ الربا؛ لتيسير القرض، فكثير من الناس يكون لديه مال زائد عن حاجته في الحال، ولا يريد أن يتجر فيه، فإذا سُدَّت عليه أبوابُ الربا، لم يبق أمامه إلا أن يَكْنِزه أو يُقرِضه، والإقراض خير له وأنفع، كما قدَّمنا في فوائد المقرض. فلما فتح قِصارُ النظر من الفقهاء أبواب الربا بالحيل والمعاذير، ومن جملة ذلك هذا البيع الذي نحن بصدده، عزَّتْ رغبةُ الناس في الإقراض، فكان ــ سابقًا ــ مَن بيده مالٌ لا يريد أن يتجر فيه محصورًا بين أن يكنزه أو يُقرِضه قرضًا شرعيًّا، وقد قدمنا الفوائد التي تحمله على ترجيح الإقراض. _________ (1) انظر "لسان العرب" و"تاج العروس" (سرط)، وفي ضبطه أوجه. والمعنى: يأخذ الدَّين ويبتلعه، فإذا طولب للقضاء أو تقاضاه صاحبه أضرطَ به، أي عمل بفيه مثل الضراط.

(18/347)


فلما فُتِح لهم باب الربا وجدوا طريقًا ثالثًا هو أنفع لهم في دنياهم من الإقراض الشرعي. [ص 29] الثالث: أن المسلمين فتحت لهم أبواب كثيرة للإنفاق، وأكثرها مما شرعه المنسوبون إلى العلم والصلاح، وأفهموا العامة بأنه من الدين والإيمان، ولم يزالوا يُربُّون ذلك في أذهان العامة حتى رسخ في أذهانهم أنه أهم من أركان الإسلام، وذلك كالموالد والحضرات وزيارات الأولياء وأحوالهم، وعمارة قبورهم، والنذور لها، والولائم التي يقيمها أهل الميت ثالثَ موتِه، ولتمام الأربعين، وبعضهم يكررها كل عام، والإنفاق على من ينتسب إلى الصلاح والتصوف، وإن كان قويًّا قادرًا على الاكتساب، ومُسرِفًا مبذِّرًا، يجمع حوله جماعةً من البطَّالين، ويعيشون معه عِيْشَةَ المترفهين، ونفقتهم على العمَّال الضعفاء. ولو أنك أحصيتَ نفقةَ المسلم المتوسط في الهند لعشر سنوات مثلًا، لوجدتَ نصفَها أو أكثرَ صُرِفَتْ في هذه المصارف. ويضاف إلى هذا تبذير المسلمين في غير هذه الأمور، كولائم النكاح، والتوسع في المأكل والملبس فوق الحاجة، وغير ذلك. فأصبح الطبقة الوسطى من المسلمين إذا استقرض أحدهم لا يكاد يستطيع الوفاء؛ لأن ما اكتسبه يَصرِفه في هذه (الفرائض المحتمة)، والأغنياء يعرفون ذلك، فيمتنعون من إقراض هؤلاء. الرابع: أن أولئك العلماء الذين أجازوا بيع العهدة هم أنفسهم يبخلون بأموالهم أن يُقرِضوها بغير نفع مادي، فإذا رآهم العامة قالوا: نحن أولى بذلك منهم.

(18/348)


وقد سمعتَ ما ذكره صاحب "القلائد" عن شيخه إمام الوجود، قد بَخِلَ إمام الوجود أن يُقرِض ذلك المحتاج قرضًا حسنًا، ويستوثق منه برهن أرضه رهنًا شرعيًّا، بل أخذها بالعهدة؛ ليفوز إمام الوجود بغلَّتها، ولم يكتفِ بذلك حتى شرط على الراهن أن لا يَفُكَّ الأرض حتى يحوزَ إمام الوجود غلَّتَها، لا أدري سنةً أو أكثر! فقل لي بربك، إذا كان هذا حال إمام الوجود، فكيف يرغب العامة الذين علموا هذا منه أن يعملوا خيرًا من عمله؟ فأما السبب الأول: فهو تقصيرٌ من المستقرضين يستطيعون تركه، وإذا اعتاد الرجل صفة قبيحة مذمومة شرعًا وعقلًا، فأثمرت له ضررًا ما، فليس من المشروع ولا المعقول أن تُبدَّل الشريعة وتُغيَّر لدفع الضرر عن هذا الرجل، فيحمله ذلك على الاستمرار على تلك العادة، ويحمل غيره على اعتيادها أيضًا. بل المشروع والمعقول أن العلماء إذا لم يبالغوا في التشديد عليه، فلا أقلَّ من أن يُقِرُّوا الشريعة على ما وردت، ويقولوا لهذا الرجل: أنت جلبتَ الضرر على نفسك بما اعتدته من تلك العادة الخبيثة. ومن المُشاهَد المعروف في كل بلاد: أن الرجل إذا عُرِف بالأمانة، وأداء ديون الناس، والحرص على ذلك، لم يكد يستقرض قرضًا حسنًا إلا ناله، وفي المثل العامي: "من أخذ وأدَّى شارك الناسَ في أموالهم". وأما الأسباب الأخرى: فهي كلها تقصير من العلماء وغيرهم، يستطيع العلماء السعي في إزالتها، فليس من المشروع ولا المعقول أن يُقِرُّوها على ما هي عليه، ويَدَعُوها تنمو وتفحش، ثم يَعْمِدوا إلى الشريعة فيبدِّلوها

(18/349)


ويغيِّروها؛ ليدفعوا ما ينشأ عنها من الضرر. [ص 30] على أن تجويز بيع الوفاء هو نفسه من جملة التقصير كما مر، فهو إن دفعَ الضررَ من وجهٍ، شدَّده من وجهٍ آخر. وأما المعاملات التي ذكروا أن علة التحريم موجودة فيها، وإنما أحلَّها الشارع للحاجة، فقد أجاب عنها صاحب "إعلام الموقعين"، وعروض الحاجة فيها ليس ناشئًا عن تقصير. وفوق هذا، فالمفاسد التي تترتب على تلك المعاملات خفيفة بالنسبة إلى المفسدة التي تترتب على منعها لو منعت، وليس الأمر ههنا كذلك، فإن المفاسد التي تترتب على بيع الوفاء شديدة، وقد تقدم بعضها، وأشدُّها أنه ربا في القرض. وقد شدَّد الشارع فيه أعظم التشديد، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} إلى قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 275 - 279]. وفي الحديث: "الربا ثلاثة وسبعون بابًا، أيسرُها مثلُ أن ينكح الرجلُ أمَّه". صححه الحاكم وغيره (1)، وفي معناه أحاديث. _________ (1) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/ 37) والبيهقي في "الشعب" (5519) من حديث ابن مسعود. وصححه الحاكم، وقال البيهقي: إسناده صحيح والمتن منكر بهذا الإسناد، ولا أعلمه إلَّا وهمًا، وكأنه دخل لبعض رواة الإسناد في إسناده.

(18/350)


ففي ما مرَّ: تخبُّط الشيطان، والخلود في النار، والمَحْق، والكفر، والإثم، وعدم الإيمان، ومحاربة الله ورسوله، ومثل أن ينكح الرجل أمه، وأشدّ من ذلك. والمفسدة التي تقابل هذا كلَّه إنما هي أن يحتاج صاحب الأرض إلى بيعها بتاتًا! على أن الشرع لم يَعُدَّ هذه مفسدةً، فلم تصرح الشريعة بكراهية ذلك، وبينت أن من اضطر إلى القوت وقدرَ أن يُحصِّله ببيع أرضه، أو يأكل الميتة، وجب عليه بيع أرضه، ولا تحل له الميتة. ومن كان له أرض يحصل بقيمتها ما يكفي لوجوب الحج، ولم يجد نفقة الحج إلا ببيعها، وجب عليه بيعُها. ومن حلَّ له دين، وكان للمدين أرض، وجب بيع الأرض، ولا يجب على الدائن الإنظار، وأمثال ذلك. وفي تجويز هذا البيع مفاسد أخرى، منها: أن صاحب الأرض قد يحتاج إلى نفقة غير ضرورية، وإنما هي تبذير وإسراف، فتطيب نفسه أن يبيعها هذا البيع طمعًا في أن يستطيع فكَّها عن قرب، ثم لعله تحصل له أموال فيُؤثِر إنفاقَها في الفضول، ويَدَعُ الأرض قائلًا: أنا أستطيع فكَّها متى أردتُ، وقد يبقى هكذا إلى أن يموت، فيصير البيع باتًّا على رأي، أو يبقى حق الفكِّ لورثته، ولعلهم يكونون أعجزَ منه. وإذا لم يجوّز هذا البيع، فإن هذا الرجل يضنُّ بأرضه أن يبيعها بيعًا باتًّا،

(18/351)


ويؤثر على ذلك أن يَكُفَّ عن فضول الإنفاق، وهذا خير له من الجهتين. ومنها: أنها لا تثبت الشفعة في هذا البيع على رأي، فيكون فيه حيلة لإبطال أحكام الله تعالى. وبالجملة فالحق على أهل العلم أن يحافظوا على الشريعة، ويردُّوا الناس إليها، لا أن يتركوا الناس يخرجون منها، ويساعدوهم على ذلك، بل ويحملوهم عليه، ثم إذا نشأ عن ذلك ضررٌ جعلوا التبعةَ على الشريعة، والغرامةَ عليها، فعادوا يُمزِّقونها، فيمزِّق الله تعالى دينَهم ودنياهم. نُرقِّع دنيانا بتمزيقِ ديننا ... فلا دينُنا يبقَى ولا ما نُرقِّعُ (1) [ص 31] فصل وهناك حيل أخرى على ربا القرض، والحق إبطالها كلها، فإذا أراد المسلمون أن يرجع لهم عزُّ دينهم ودنياهم فليأخذوا أنفسهم بجادَّة الشريعة، دون بُنيَّات الطريق. وفي الحديث: "إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذنابَ البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم". رواه أبو داود والإمام أحمد وغيرهما (2). _________ (1) البيت لإبراهيم بن أدهم في "عيون الأخبار" (2/ 330) و"العقد الفريد" (3/ 176)، ولبعض المجَّان في "الحيوان" (6/ 506)، وبلا نِسبة في "البيان والتبيين" (1/ 260) و"العقد الفريد" (6/ 268). (2) أخرجه أبو داود (3462) والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 316) من طريق عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا. وعطاء يَهِم كثيرًا ويرسل ويدلس. وأخرجه أبو يعلى (5659) والطبراني في "الكبير" (13585) والبيهقي في "الشعب" (10871) من طريقين عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر. وعطاء لم يسمع من ابن عمر. وأخرجه أحمد في مسنده (5007، 5562) من طريق أبي جناب عن شهر بن حوشب عن ابن عمر. وإسناده ضعيف لضعف أبي جناب وشهر بن حوشب.

(18/352)


ربا البيع تواترت الأحاديث بالنهي عن بيع الذهب بالذهب، إلا مثلًا بمثل، سواءً بسواء، يدًا بيد، وهكذا الفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، وأن من زاد أو ازداد فقد أربى. وصح من عدة أحاديث جواز بيع الذهب بالفضة متفاضلًا نقدًا. وقال الدارقطني: ثنا محمد بن أحمد بن الحسن نا عبد الله بن أحمد نا هدبة بن خالد نا همام بن يحيى عن قتادة عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن أبي الأشعث الصنعاني. (قال قتادة:) وحدثنا صالح أبو الخليل عن مسلم (بن يسار) المكي عن أبي الأشعث أنه شهد خطبةَ عبادة بن الصامت قال: سمعته يقول: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يُباع الذهب بالذهب، إلا وزنًا بوزن، والورق بالورق إلا وزنًا بوزنٍ، تِبْره وعينه، وذكر الشعير بالشعير، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والملح بالملح، ولا بأس بالشعير بالبر يدًا بيد، والشعير أكثرهما يدًا بيد، فمن زاد أو ازداد فقد أربى". قال عبد الله: فحدثتُ بهذا الحديث أبي فاستحسنه. "سنن الدارقطني" (ص 296) (1). _________ (1) (3/ 18).

(18/353)


أقول: محمد بن أحمد بن الحسن هو الدينوري، وعبد الله بن أحمد هو ابن الإمام أحمد بن حنبل، وبقية السند على شرط الشيخين، وقتادة يدلِّس؛ إلا أنه صرَّح بالسماع من أبي الخليل. وقد أخرج أبو داود هذا الحديث من طريق همام عن قتادة عن أبي الخليل به. ولفظ أبي داود: "الذهب بالذهب: تِبْرها وعينها، والفضة بالفضة: تِبْرها وعينها، والبر بالبر مُدْيٌ بمُدْيٍ، والتمر بالتمر مُدْيٌ بمُدْيٍ، والملح بالملح مُدْيٌ بمُدْي، من زاد أو ازداد فقد أربى، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضةُ أكثرُهما يدًا بيد، وأما نسيئةً فلا، ولا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يدًا بيد، وأما نسيئة فلا". قال أبو داود: روى هذا الحديث سعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي عن قتادة عن مسلم بن يسار بإسناده. "سنن أبي داود" (ج 2 ص 120) (1). وأخرجه النسائي (2) من هذه الطريق بنحوه إلى قوله: "فقد أربى"، ولم يذكر ما بعده. وأخرجه (3) من طريق ابن أبي عروبة عن قتادة عن مسلم بن يسار [عن أبي الأشعث الصنعاني] (4) عن عُبادة أنه قام خطيبًا فقال: "أيها الناس، إنكم قد أحدثتم بيوعًا لا أدري ما هي، ألا إن الذهب بالذهب ... ولا بأسَ ــ يعني ــ _________ (1) رقم (3349). (2) (7/ 277). (3) سنن النسائي (7/ 276). (4) سقط من الأصل، والاستدراك من النسائي.

(18/354)


ببيع الفضة بالذهب يدًا بيد والفضة أكثرهما، ولا تَصلُح النسيئةُ، ألا إن البر بالبر، والشعير بالشعير مُدْيًا بمُدْيٍ، ولا بأس ببيع الشعير بالحنطة يدًا بيد، والشعير أكثرهما، ولا يصلح نسيئةً، ألا وإن التمر بالتمر مُدْيًا بمُدْيٍ، حتى ذكر الملح مدًّا بمد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى". وأخرجه أيضًا هو والإمام أحمد بسند على شرط الشيخين عن سلمة بن علقمة عن ابن سيرين قال: حدثني مسلم بن يسار وعبدالله بن عبيد قالا: جمع المنزل بين عبادة بن الصامت ومعاوية، حدثهم عبادة قال: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن بيع الذهب بالذهب، والورق بالورق، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر ــ قال أحدهما: والملح بالملح، ولم يقله الآخر ــ إلا مثلًا بمثل، يدًا بيد، وأمرنا أن نبيع الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، يدًا بيد، كيف شئنا. قال أحدهما: من زاد أو ازداد فقد أربى". "سنن النسائي" (ج 2 ص 221 - 222) (1)، "المسند" (ج 5 ص 320) (2). أقول: عبد الله بن عتيك، ويقال: ابن عبيد، وابن عتيق، ويدعى ابن هرمز، ذكره في "تهذيب التهذيب" (3)، فقال: "روى عن معاوية وعبادة بن الصامت، وعنه محمد بن سيرين، ذكره ابن حبان في الثقات" (4). _________ (1) انظر: سنن النسائي (7/ 274). (2) انظر: المسند (22729). (3) (5/ 312). (4) "الثقات" (5/ 36).

(18/355)


وأخرج الإمام الشافعي عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن مسلم بن يسار ورجل آخر، ولفظه: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورِقَ بالورِقِ، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، [ص 32] عينًا بعين، يدًا بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، والتمر بالملح، والملح بالتمر، يدًا بيد، كيف شئتم، ونقص أحدهما الملح أو التمر". "الأم" (ج 3 ص 12) (1)، و"مسند الشافعي" بهامش "الأم" (ج 6 ص 155) (2)، وزاد فيه: "قال أبو العباس الأصم: في كتابي: أيوب عن ابن سيرين، ثم ضرب عليه، يُنظر في كتاب الشيخ، يعني الربيع". أقول: وأخرجه البيهقي في "السنن" من طريق أبي العباس الأصم عن الربيع عن الشافعي، وفيه: "عن أيوب بن أبي تميمة عن محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار ورجل"، وزاد بعد "ولا الشعير بالشعير": "ولا التمر بالتمر"، وزاد في آخره: "وزاد أحدهما: من زاد أو ازداد فقد أربى". "سنن البيهقي" (ج 5 ص 276). والحديث في "سنن الشافعي" رواية الطحاوي عن المزني (ص 43 - 44) (3) كما ذكره البيهقي. أقول: سياق رواية سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين يدل على حفظه، فإنه سمى الرجل الآخر: عبد الله بن عتيك، وذكر القصة، وهو قوله: _________ (1) (4/ 31، 32) ط. دار الوفاء. (2) (ص 147) ط. دار الكتب العلمية. (3) رقم (221) ط. دار القبلة.

(18/356)


جمعَ المنزلُ ... إلخ، وضبط ما نقصه أحدهما، وهو: "والملح بالملح". وسياق رواية الثقفي عن أيوب عن ابن سيرين يدل على عدم الإتقان، فإنه لم يُسمِّ الرجلَ ولا ذكر القصةَ ولا ضبطَ الناقصَ، بل قال: "ونقص أحدهما التمرَ أو الملح". وهذا يوقع الشك في زيادته التي زادها، وهي قوله: "والتمر بالملح، والملح بالتمر، يدًا بيد، كيف شئتم". وعبد الوهاب ثقة جليل، ولكن ذكروا أن في حفظه شيئًا. وأما مسلم بن يسار فذكروا أنه لم يسمع من عبادة، ولكنه سمع من أبي الأشعث، وقد جاء في "صحيح مسلم" (1) وغيره عن أيوب عن أبي قِلابةَ قال: كنتُ بالشام في حلقةٍ فيها مسلم بن يسار، فجاء أبو الأشعث، قال: قالوا: أبو الأشعث أبو الأشعث، فجلس، فقلت له: حدِّثْ أخانا (يعني مسلم بن يسار) حديثَ عبادة بن الصامت، قال: نعم. غزونا غزاةً ... فبلغ عبادةَ بن الصامت فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواءً بسواء، عينًا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى". فقد تبين أن عبادة سمعه من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وإن قصَّر به ابن أبي عروبة على ما وقع في "سنن النسائي"، وأن أبا الأشعث سمعه من عبادة، وذلك متفق عليه، وأن أبا قلابة سمعه من أبي الأشعث، ودلت رواية الدارقطني أنه سمعه أيضًا من أبي أسماء الرحبي عن أبي الأشعث، فكأن أبا قلابة سمعه من أبي الأشعث مجملًا، وسمعه من أبي أسماء عن أبي الأشعث مفسرًا، ومسلم بن _________ (1) رقم (1587).

(18/357)


يسار سمعه من أبي الأشعث، وقتادة سمعه من صالح أبي الخليل عن أبي الأشعث عن مسلم، وقتادة قد سمعه من مسلم ومن أبي الأشعث، ولكنه يدلِّس، فكأنه في رواية ابن أبي عروبة وهشام دلَّس، فرواه عن مسلم، وأسقط رجلين. وقد اعتضدت هذه الرواية الصحيحة المفسرة برواية عبد الله بن عتيك. فأما ما أخرجه البيهقي من طريق إبراهيم بن أبي الليث عن الأشجعي عن سفيان عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث، وفيه: "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوها يدًا بيد كيف شئتم لا بأس به، الذهب بالفضة يدًا بيد كيف شئتم، والبر بالشعير يدًا بيد كيف شئتم، والملح بالتمر (وفي نسخة بالبر) يدًا بيد كيف شئتم". وقال البيهقي: "وهذه رواية صحيحة مفسرة" "سنن البيهقي" (ج 5 ص 282) = فهي صحيحة من الأشجعي إلى من فوق فقط، فإن إبراهيم بن أبي الليث متروك، يُرمَى بالكذب. انظر ترجمته في "لسان الميزان" (1). وأخرج البيهقي (2) من طريق عبد الله (بن محمد بن سعيد) بن أبي مريم عن الفريابي عن سفيان بنحوه. وعبد الله هذا واهٍ، قال ابن عدي: حدث عن الفريابي بالبواطيل، ثم قال: إما أن يكون مغفلًا أو متعمدًا، فإني رأيت له مناكير. (لسان الميزان) (3). _________ (1) (1/ 337). (2) في "السنن الكبرى" (5/ 277). (3) (4/ 562). وانظر "الكامل" (4/ 255).

(18/358)


والحديث في "صحيح مسلم" (1) من رواية جماعة عن وكيع عن سفيان بسنده، ولفظه: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، سواءً بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصنافُ فبِيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد" (ج 5 ص 44). وأخرجه الإمام أحمد عن وكيع، وفيه: "فإذا اختلف فيه الأوصاف" بدل "فإذا اختلفت هذه الأصناف" "المسند" (ج 5 ص 320) (2). [ص 33] وأخرجه مسلم (3) وغيره من طريق أيوب عن أبي قلابة سمع أبا الأشعث سمع عُبادةَ: "سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواءً بسواء، عينًا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى". (ج 5 ص 43). والأوصاف في رواية أحمد عن وكيع معناها الأصناف، كما في رواية غيره عن وكيع، وهكذا الألوان في حديث أبي هريرة عند مسلم (4) وغيره: "التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى إلا ما اختلفت ألوانه". ومما يدل على ذلك ــ مع الإجماع ــ حديث "الصحيحين" (5) وغيرهما _________ (1) رقم (1587/ 81). (2) كذا في الطبعة القديمة، وفي المحققة رقم (22727): "فإذا اختلفت فيه الأصناف". (3) رقم (1587/ 80). (4) رقم (1588). (5) أخرجه البخاري (2201، 2202) ومسلم (1593) عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري.

(18/359)


في النهي عن بيع الجَمْعِ بالجنيب متفاضلًا، مع أنهما لونان من التمر، وأوصافهما مختلفة، وأدلة أخرى. إذا تقرر هذا فقد قال بعض المتأخرين: إن ظاهر حديث عبادة عند مسلم الذي ساق فيه الستَّة مساقًا واحدًا، ثم قال: "فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد" ظاهره أنه لا يحلُّ نسيئةً حتى الملح بالفضة، إلا إن ثبت الإجماع على خلافه. أقول: ما أجملتْه هذه الروايةُ قد فسَّرته الروايات المفصّلة، فجعلت الذهب والفضة بابًا، والبر والشعير بابًا آخر. فعُلِم منها جوازُ بيع الذهب بالفضة متفاضلًا نقدًا، ومنعُه نسيئةً، والبر بالشعير كذلك، وسكتت عن بيع البر بالذهب مَثَلًا، فكان على الجواز إلا أن يقوم دليل على منعه. ثم إن رواية الشافعي جعلت التمر والملح بابًا ثالثًا، ووافقتْها على ذلك روايتان لا تصلحان للمتابعة، والروايات الأخرى توافق رواية الشافعي في ظهور أن التمر والملح ليسا من باب البر والشعير، ولكن لا يظهر منها أنهما باب واحد، أو كل منهما باب على حدة. ولم أظفر بما يبين الحكم في ذلك من السنة، إلا أن إطلاق الأحاديث أنه ربا مع حديث "الصحيحين" (1) وغيرهما: "لا ربا [إلا] في النسيئة" قد يهدينا إلى الحق. _________ (1) أخرجه البخاري (2178، 2179) ومسلم (1596) عن أسامة بن زيد.

(18/360)


[ص 35] فصل قد قدمنا الفرق بين القرض بربا وبين بيع السلعة بثمن إلى أجل أزيد من ثمنها نقدًا، والسلم في سلعة إلى أجل بأقل من ثمنها نقدًا. وحاصله موضحًا: أنه إنما يُعقل أن يكون لمن دفع ماله حالاًّ ليعوض عنه مؤجلًا استحقاقٌ للربح، إذا علم أنه فاته بسبب الإعطاء إلى أجلٍ ربحٌ آخر، وإنما يتصور هذا إذا كان لو لم يعط ذلك المال إلى أجل لتصرَّفَ فيه بالبيع والشراء الذي هو مظنة الربح. وهذا أمر غيبيٌّ، وأقرب ما يتعرف به هو النظر إلى نية المعطي على فرض أنه لو لم يطلب منه المال إلى أجل؛ أكان ينوي أن يحتفظ به، أم كان ينوي أن يتصرف فيه بالبيع والشراء. ولكن النية أمر خفي بالنظر إلى الآخذ والشهود والحكَّام، وقد تخفى على المعطي نفسه، وعلى فرض ادعائه نية التصرف لا ينبغي تصديقنا له، وإلا لأوشك أن يدَّعي كلُّ معطٍ مثل ذلك. فاقتضت الحكمة أن يُناط الحكم بالنظر إلى النسبة بين العوضين، فمن أقرض دراهم فقد أراد أن تعود دراهمه أو مثلها له. ففي ذلك دلالة أنه يريد الاحتفاظ بالدراهم، فلو لم يُقرِضها لكنَزَها، فظهر بذلك أنه لم يفته بسبب الإعطاء ربح، فلا حقَّ له في الجبران. ومن باع ثوبًا بدراهم، ففي ذلك دلالة أنه لم يكن يريد الاحتفاظ بالثوب. فمن المظنون أنه لو لم يبعه بنسيئةٍ لباعه بنقدٍ، ثم يمكن أن يشتري بالنقد سلعةً أخرى ويبيعها، وهكذا، وذلك مظنة الربح، فاستحقَّ الجبران.

(18/361)


ومثله من أسلم دراهمَ في ثوب؛ ففي ذلك دلالة أنه لم يكن يريد الاحتفاظ بالدراهم، فمن المحتمل أنه لو لم يُسلِمها لاشترى بها سلعةً نقدًا، ثم باعها، وهكذا، وذلك مظنة الربح، فاستحق الجبران. والربح الفائت لا ينضبط، فلا ينضبط جبرانه، ولكنه هنا ضبط بما تراضيا عليه. وهذا بحمد الله مستقيم واضح، ولكن احتجنا الآن إلى النظر في النسبة بين العوضين، فإن النسبة بين الدراهم والدراهم المماثلة، وبين الدراهم والثوب المباينة، وبينهما نِسَبٌ مختلفة، فما الذي يلحق منها بذاك، وما الذي يلحق بهذا؟ قد يقال: لعل الفاصل هو معنى القرض، فكل ما كان من البيوع في معنى القرض بربا، فحكمه حكمه. وهذا حق فيما أرى، ولكن قد يقع الاشتباه فيه أيضًا، فإسلامُ دينارٍ في خاتم ذهب قد يتراءى أنه ليس في معنى القرض، بل هو في معنى إسلام دينار في ثوب. فإن قلت: بل في معنى القرض باشتراط منفعة، كما لو ذهب رجل بدينار يبحث عن صائغ؛ ليدفعه إليه ليكسره ويصوغه خاتمًا، ويدفع إليه أجرته، فلقيه رجل فأخبره، فقال: أنا محتاج إلى دينار، فأقرِضْني دينارك أَصرِفه في حاجتي، وعندما يحصل بيدي دينار أذهب به، فأبحثُ عن صائغ، وأعطيه فيكسره، ويصوغه خاتمًا على الصفة التي تريد، وأدفع أنا أجرته، وآتيك بالخاتم، والأجل شهران.

(18/362)


فلمخالِفك أن يقول: قد يجيء مثل هذا في السلم في الثوب، يذهب رجل بدينارٍ يلتمس ثوبًا، فيلقاه آخر، فيستقرض منه الدينارَ على أنه عندما يحصل بعده دينارٌ، يذهب فيشتري به ثوبًا على الصفة، فإن لم يحصل إلَّا بأزيد من دينار دفع المستقرض الزيادةَ من عنده، ثم يأتي بالثوب إلى المقرض، والأجل شهران. فإن قلت: بينهما فرقٌ من جهتين: الأول: أن خاتم الذهب يمكن أن يكون عين الدينار القضاء، ولا بد أن تكون الأجرة زائدة على مقدار الدينار، وأما الثوب [ص 36] فلا يمكن أن يكون من عين الدينار، ويمكن أن يُشترى بأقل من دينار. الثاني: أن خاتم الذهب يمكن تحصيله بغير توسط بيع، بأن يصنعه ويدفع الأجرة، والثوب لا يحصل إلا بتوسط بيع. فلمخالفك أن يقول: دعْ خاتمَ الذهب، وافرض المبيع حليةَ فضة، فقد دلت الأحاديث على أن الذهب بالفضة نسيئةً من الربا، وحلية الفضة لا تكون من عين الدينار، وقد تحصل بأقل من دينار، فأي فرقٍ بينها وبين الثوب؟ فإن قلت: الفرق بينهما قرب النسبة بين الذهب والفضة. قلت: فقد رجع الأمر إلى النسبة، وهي محتاجة إلى التحقيق كما قدمنا. يمكن أن يقال: إذا كان العوضان بحيث يغني أحدهما غناء الآخر في الجملة، ولو بتوسُّطِ صنعةٍ، فهما في حكم المتماثلين، فكلٌّ من الدينار وسبيكة الذهب وحليته يغني غناء الآخر بتوسط صنعة، وكلٌّ منها مع واحد

(18/363)


من الدراهم وسبيكة الفضة وحليتها يُغني غناء الآخر في الجملة، ولو بتوسط صنعة. فالدنانير وحلية الذهب يغني كلٌّ منهما غناء الآخر في الجملة بتوسط صنعة، بأن تُصاغ الدنانير حليةً، أو تُضرب الحليةُ دنانيرَ، وسبيكة الذهب وحلية الفضة يغني كل منهما غناء الآخر، بأن تُصاغ السبيكة حلية، أو تُضرب دنانير، وتضرب حلية الفضة دراهم، وقِسْ على ذلك. والذي يظهر من مذاهب العلماء أنهم لم ينظروا إلى الحلية، ولكن منهم من نظر إلى الثمنية، فجعلها العلة في تحريم بيع الذهب بالفضة نساءً. فإما أن يكون بنى على ما كان في صدر الإسلام من تبايع الأعراض بالذهب والفضة، وإن كانا غير مضروبين. وإما أن يكون بنى على أن السبيكة والحلية يمكن تحويلهما إلى النقد بالصنعة، ولاسيما والمشروع في الإسلام أن تكون دار الضرب مفتوحةً للناس كلهم، من أراد أن يضرب ذهبه أو فضته نقدًا دفعها إلى دار الضرب، وأعطاهم أجرة تعبهم، فضربوا له. وهكذا كان في القرون الأولى. وإنما تحجرت الحكومات دور الضرب ظلمًا؛ لتشتري وزن الدينارين من الذهب الخالص بدينار مغشوش، ثم تغش الذهب، وتضربه ثلاثة دنانير، أو نحو ذلك، ومثله في الفضة. ونشأ من ذلك من الظلم والفساد ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وقد وقعت أزمات مالية شديدة في بعض الأمم، كألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا، هذا أساسها، وربما اشتدت الأزمة منها حتى تهدِّد العالم أجمع. هل نظر القائل: إن العلة في بيع الذهب بالفضة هي الثمنية ــ وهو مالك

(18/364)


والشافعي رحمهما الله تعالى ــ إلى المعنى الذي قررناه أولًا، أعني أن كلاًّ منهما يغني غناء الآخر في الجملة، فصار بيع أحدهما بالآخر نساءً في معنى الذهب بالذهب نساءً، والفضة بالفضة نساءً، وذلك في معنى القرض، فتحقق فيه الربا؟ أما الشافعي فلم ينظر إلى هذا حتمًا، فإنه أجاز بيع الشيء بآخر من جنسه نساءً في غير الذهب والفضة والمطعومات، وذلك كالحديد بالحديد، والنحاس بالنحاس، وغير ذلك، فإذا لم يعتد بالمماثلة، فكيف يعتد بالمقارنة؟ أعني أن يغني أحدهم غناء الآخر. وجعل العلة في الأربعة الباقية هي الطعم، ووسَّعه حتى منع بيع البر بالسقمونيا. ولا يخفى أن النسبة بينهما التباين، فإن البرّ قوتٌ، والسقمونيا مُسهِّل. [ص 37] وأما مالك فقد ظن بعض المحققين من أصحابه أنه نظر إلى المعنى الذي قررناه؛ لأنه يحرِّم البيع نساءً في ما إذا اتفق العوضان في الجنس، ولو في الثياب والآنية وغيرها. وأكد ذلك أنه يشترط مع الاتفاق في الجنس الاتفاق في المنفعة المقصودة، فأجاز بيع البعير النجيب بالبعير من حاشية الإبل، وهذا يدل أنه نظر إلى المعنى الذي قدمناه. وجعل العلة في الأربعة الباقية هي القوت مع الادّخار، وفسر بعض أصحابه ذلك بأن البر والتمر لما اتفقا في المنفعة المقصودة، وهي القوت مع الادخار، صارا كالجنس الواحد، فأما البر والشعير فإنه جعلهما جنسًا واحدًا حتى لا يجوز تبايعهما نقدًا إلا مثلًا بمثل.

(18/365)


ومع هذا ففي كونه نظَرَ إلى المعنى الذي قدمناه نظرٌ لوجهين: الأول: أنه يمنع بيع (1) البر بالملح نساءً، وهكذا البر بشيءٍ آخر مما يكون فيه إصلاحٌ للطعام، كالأُدم والأَبزار، كالفلفل والكمُّون، مع أن الملح لا يغني غناء البر، والفلفل لا يغني غناء البر. الثاني: أنه يجيز بيع الشيء بما يغني غناءه نساءً في غير الذهب والفضة والأقوات المدَّخَرة ومُصلِحاتها. وقد استشكل المحقق الشاطبي المالكي ذلك، فقال بعد أن ذكر ربا القرآن: "وإذا كان كذلك، وكان المنع فيه إنما هو من أجل كونه زيادةً على غير عوض، ألحقت السنةُ به كلَّ ما فيه زيادة بذلك المعنى". ثم ذكر حديث عبادة، ثم قال: "ثم زاد على ذلك بيع النَّساء إذا اختلفت الأصناف، وعدَّه من الربا ... وذلك لأن بيع هذا الجنس بمثله في الجنس من باب بدل الشيء بنفسه لتقارب المنافع فيما يراد منها، فالزيادة على ذلك من باب إعطاء عوض على غير شيء، وهو ممنوع ... ويبقى النظر لِمَ جاز مثل هذا في غير النقدين والمطعومات ولم يجز فيهما؟ محل نظر يخفى وجهه على المجتهدين، وهذا من أخفى الأمور التي لم يتضح معناها إلى اليوم ... ". "الموافقات" (ج 4 ص 22 - 23). وقوله: "بيع هذا الجنس بمثله في الجنس" يريد به نحو بيع الفضة بالذهب، والبر بالتمر، كما يرشد إليه السياق. فأما إذا اتحد الجنس، فإن أبا حنيفة رحمه الله يحرم النَّساء في ذلك مطلقًا، وهكذا مالك، إلا أنه يشترط _________ (1) في الأصل: "بين" سهوًا.

(18/366)


مع الاتفاق في الجنس الاتفاقَ في المنافع المقصودة. أقول: قد ظهر لي أن مالكًا رحمه الله تعالى إنما منعه عن طرد الحكم في كل شيئين تقاربت النسبة بينهما، بحيث يغني كل منهما غناء الآخر في الجملة، أنه رأى أن معنى الربا ليس بالقوي، فإن من باع ذهبًا بفضة إلى أجل، قد تبين أنه لم يكن يريد الاحتفاظ بالذهب عينه، غاية الأمر أنه كان ينوي الاحتفاظ بأحدهما، لا بعينه. وإذا كان الأمر كذلك فقد قام احتمال أنه لو لم يعطِ الذهب بفضة إلى أجل يمكن أن يعطيه بفضةٍ نقدًا، ثم يعطي الفضة بذهبٍ نقدًا، وهكذا، وذلك مظنة الربح. ثم يحتمل أحد أمور ثلاثة: الأول: أن يكون رأى التعليلَ بالربا مع ضعفه يقوى في الذهب والفضة وفي الأقوات بعضها ببعض؛ لغلبة التعامل بالقرض في هذه الأشياء، وقوة احتمال أن التبايع بها نَساءً إنما جُعِل حيلةً على الربا، بخلاف ما يقارب من الثياب والأدوية والآنية، فلم تجر العادة بتقارُضِها، ولا بالربا فيها، فلهذا لم يطرد الحكم. [ص 38] الثاني: أن يكون رأى أن الربا لا يصلح للعلية أصلًا، وإنما العلة الاحتكار على ما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى، ورأى أن الاحتكار إنما يشتد ضرره في النقدين والأقوات ومُصلحاتِها. الثالث: أن يكون رأى أن العلة هو مجموع الأمرين، لأن معنى الربا وحده ليس بالقوي كما تقدم، ومعنى الاحتكار لا يخلو عن ضعف كما

(18/367)


ستعلمه في تفصيله إن شاء الله تعالى. وعلى كل من الثلاثة فإنما اشترط الادّخار؛ لأن ما لا يُدَّخر لا تَقوى التهمةُ بإرادة الاحتفاظ به ولا باحتكاره. والبر والملح وإن لم يتقاربا بحيث يغني كل منهما غناء الآخر في الجملة، لكنهما مما جرت العادة بالتقارض فيه كثيرًا، فقوي معنى الحيلة على الربا، وأما بالنظر إلى الاحتكار، فلا يشترط فيه التقارب كما سيأتي. وبعد، فالراجح أنه رأى العلة في النهي عن بيع الفضة بالذهب نساءً هو الربا فقط؛ لأمور: الأول: أنه روى حديث عمر بلفظ: "الذهب بالورق ربًا إلا هاءَ وهاءَ، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء". رواه مالك (1) عن ابن شهاب عن مالك بن أوس، فذكر قصة، ثم ذكر قول عمر: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فذكره. وفي "فتح الباري": "قال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك فيه، وحمله عنه الحفاظ، حتى رواه يحيى بن أبي كثير عن الأوزاعي عن مالك، وتابعه (يعني تابع مالكًا في روايته عن الزهري هكذا) معمر والليث وغيرهما، وكذلك رواه الحفاظ عن ابن عيينة (عن الزهري)، وشذ أبو نعيم عنه (أي عن ابن عيينة) فقال: "الذهب بالذهب"، وكذلك رواه ابن إسحاق عن الزهري". "الفتح" (ج 4 ص 259) (2). _________ (1) في "الموطأ" (2/ 636، 637). (2) (4/ 378) ط. السلفية. وانظر "التمهيد" (6/ 282 ــ 284).

(18/368)


أقول: وابن إسحاق ليس بحجة فيما خالف فيه، على أن القصة تشهد أن الرواية كما ذكره مالك ومن معه. وحاصلها: أن عمر إنما ذكر هذا الحديث إنكارًا على من أراد صرفَ ذهبٍ بورق، والورق مؤجل، فقال: "واللَّهِ لا تفارقه حتى تأخذ منه" فذكر الحديث. فلو كان لفظ الحديث: "الذهب بالذهب ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ... " لما كان فيه شاهد ظاهر للإنكار. والحديث في "الصحيحين" (1)، ولم أجد حديثًا صحيحًا مصرحًا بأن البر بالشعير أو التمرِ إلى أجل ربًا. الثاني: أن معنى الربا ظاهرٌ جدًّا في الدنانير بالدراهم نساءً، وما نسبة الدراهم إلى الدينار إلا كنسبة القطع الصغار المضروبة من الذهب إلى القطعة الكبيرة، كما لو ضُربت قِطَعٌ صغار من الذهب كل منها ثمن دينار، فالثمان منها دينار، فكما يكون اشتراء عشر منها بدينار ــ والقطع مؤجلة ــ ربًا ظاهرًا، فهكذا لو كان صرف الدينار ثماني رُبيّات، فاشترى عشر رُبيّات بدينار، والربّيات مؤجلة، وما لم يكن مضروبًا تبع للمضروب؛ لأنه يمكن ضربه، كما تقدم. فأما الأقوات بعضها ببعض، فهي على الاحتمالات الثلاثة. والله أعلم. [ص 39] ولنعقد لأحكام هذه الستة بابين: _________ (1) البخاري (2174) ومسلم (1586).

(18/369)


الباب الأول في تبايعها مع النسيئة وفيه فصلان: الفصل الأول: فيما اتحد فيه جنس العوضين وفيه فرعان: الفرع الأول: فيما تظهر فيه زيادة ما في العوض المؤجل لا يقابلها شيءٌ في المعجل، وله صور: 1 - زيادة المؤجل في القدر مع تساويهما في الصفات، كدرهم بدرهمين، وكل منهما مثله. 2 - زيادته في الوصف، كصاع تمر بصاع تمرٍ أجود منه. والربا في هاتين الصورتين متحقق، والمعنى معنى القرض بشرط الزيادة أو الجودة. 3 - أن يكون في كل من العوضين زيادة من جهة، وزيادة المؤجل أرغب، كثلاثة آصُعٍ من تمر رديءٍ نقدًا بصاعَيْ تمرٍ جيد إلى أجل، وقيمة الصاع الرديء درهم، والجيد درهمان. والربا في هذه متحقق؛ لتحقق الزيادة في المنسأ. 4 - أن يستويا في القدر، ويكون المعجل أجود، ولكن المؤجل عزيز الوجود، كصاع تمر جيد نقدًا بصاع تمر رديء إلا أنه عزيز الوجود.

(18/370)


فالظاهر هنا أن لصاحب الجيد غرضًا في ذلك الرديء، لو وجده لاشترى الصاع منه بصاعٍ جيد نقدًا أو بأكثر لرغبته فيه. فعزة الوجود زيادة في المؤجل، فيكون ربًا. 5 - الدينار وسبيكة الذهب وحليته، كل منها بالآخر، وهكذا كل منها بمثله بوصف آخر، كدينار عتيق بدينار جديد، وسبيكة مربعة بسبيكة مستطيلة، وخاتم ذهب بخاتم ذهب أضيق منه، مع اتحاد القدر وزنًا، والاتفاق في الجودة أو الرداءة. هذا كله ربًا؛ لأن صاحب المعجل رغب أن يكون ذهبه على صورة المؤجل، ولو أراد أن يصوره بتلك الصورة لاحتاج إلى البحث عن صائغ أو ضارب، ودفع ذهبه إليه ليصوره بالصورة التي يريدها، ويدفع أجرته، فآثر أن يبيعه بذهب على الصورة التي يريد؛ ليربح السلامة من التعب والأجرة. فبهذا الاعتبار كانت الصفة المرغوبة له في الذهب المؤجل زيادة فيه، وقد يتضح هذا: كسبيكة نقدًا بدينار أو حلية إلى أجل. وقد يحتاج إلى تأمل، كدينار أو حلية نقدًا بسبيكة إلى أجل. وقد أوضحنا. ومثل ذلك الدراهم وسبيكة الفضة وحليتها، وهكذا كل من البر والشعير مع دقيقه، ونحو خبزه؛ لأن الحب والدقيق ونحو الخبز على وزان الدينار والسبيكة والحلية، وإن لم يمكن في العادة ردُّ الدقيق ونحو الخبز حبًّا. وهكذا التمر المنزوع النوى مع التمر الذي لم يُنْزَع نواه، فكأن بائع ما لم يُنزع نواه بما نُزع نواه يريد نزعَ نوى تمره، وفي ذلك مشقة، فباعه؛ ليحصل له منزوع النوى، ويربح السلامة من المشقة، وكان بائع ما نُزِع نواه

(18/371)


بغيره يريد ردَّ نوى تمرِه إليه، وفي ذلك مشقة، فباعه؛ ليحصل له ما لم يُنزع نواه، ويربح السلامة من المشقة. وقس على ذلك. [ص 40] الفرع الثاني: ما لم تظهر فيه زيادة ما في المؤجل، وله صور: 1 - أن يستويا من كل وجه، كبيع درهم بدرهم مثله، ودينار بدينار مثله، وصاع بر بصاع بر مثله. فلا يظهر في هذه ربًا، بل المعنى معنى القرض الصحيح، فتحريم مثل ذلك إذا وقع بلفظ البيع يحتاج إلى علة أخرى غير الربا. 2 - أن يكون في المعجل زيادة لا يقابلها شيء في المؤجل، ويمكن تصحيح المعاملة بصيغة أخرى، كدرهمين نقدًا بدرهم مثل أحدهما نسيئةً. فلا يظهر في هذه ربًا، بل المعنى معنى الهبة الصحيحة والقرض الصحيح، كأن صاحب الدرهمين وهب لصاحبه درهمًا، وأقرضه درهمًا، فتحريم مثل ذلك إذا وقع بلفظ البيع يحتاج إلى علة أخرى غير الربا. ومثل هذا بيع دينار جديد نظيف نقدًا بدينار متَّسخٍ إلى أجل، وليس لصاحب الجديد غرضٌ في المتسخ، كأن ذهب إنسان بدينار جديد ليصرفه أو يكسره، فرآه آخر، فقال له: دع هذا الدينار الجديد النظيف لي، وأنا أعطيك دينارًا متسخًا غدًا، أو بعد غدٍ، فتبايعا. فقد كان يمكنُ صاحبَ الجديد أن يقول لصاحبه: خذ هذا الدينار قرضًا إلى غدٍ، أو بعد غدٍ، وإذا قضيتَني دينارًا متسخًا فأنا أقبله منك. 3 - كالثانية إلا إنه لا يمكن تصحيح المعاملة بصيغة أخرى، كأن يكون لك خاتم فضة، ولصاحب لك خاتم فضة دونه، فجاءك يومًا وليس

(18/372)


معه خاتمه، ثم ألحَّ عليك أن تبيعه خاتمك بخاتمه، على أن تدفع إليه خاتمك، ثم يجيئك بخاتمه بعد أسبوع مثلًا. 4 - أن يكون في كل من العوضين زيادةٌ تكافئ ما في الأخرى في القيمة، كصاعين من تمر رديء نقدًا بصاع من تمر جيد إلى شهر، وقيمة الرديء نقدًا في السوق صاع بدرهم، وقيمة الجيد في السوق إلى شهر صاع بدرهمين. فهاتان الصورتان لا يظهر فيهما الربا، فلا بد للتحريم من علة أخرى. ويظهر لي أن العلة في الأُولَيينِ هي تشبيه المعاملة المشروعة بالمعاملة الممنوعة. ففي الأولى: عدل العاقدان عن صيغة القرض المرغَّبِ فيه شرعًا، المحمودِ عقلًا وعرفًا، إلى صيغة البيع الذي عُرِف ذمه في الشريعة، أعني الذهب بالذهب نسيئةً ونحوه. وفي الثانية: عدلا عن الهبة والقرض المشروعين المحمودين المرغَّب فيهما، إلى صيغة بيع الذهب بالذهب نسيئةً ونحوه. ويظهر له أن العلة في الأُخريَينِ هي الاحتكار، على ما يأتي إيضاحه في تعليل منع بيع واحد من الستة بأكثر منه من جنسه نقدًا. والله أعلم. * * * *

(18/373)


[ص 41] الفصل الثاني: في بيع واحد من الستة بآخر منها نسيئةً قد علمت مما تقدم أن الربا الحقيقي هو ربا القرض، وأن الربا في باب البيع إنما ورد لأنه في معنى القرض بربًا، كما تقدم في الأمثلة، كبيع صاع تمر نقدًا بصاعَي تمرٍ إلى أجل، وغير ذلك من الصور. والمعروف في القرض إنما هو إعطاء الشيء ليردَّ له ما هو من جنسه، إما مثل ما دفعه تمامًا، وهو القرض الشرعي، وإما مع زيادة في القضاء، وهو الربا. فأما مبادلة الشيء بما يخالفه، كالثوب بالدينار، فليس هذا من موضوع القرض، بل هو بيع. ولكننا قد قدمنا أن الذهب بالفضة نسيئةً يقوى فيه معنى الربا جدًّا، وفسرنا ذلك بما يكفي. فأما الأربعة الأخرى بعضها ببعض، فقد قدمنا احتمال أن تكون العلة هي الربا، واحتمال أن تكون هي الاحتكار، وأن تكون مجموع الأمرين، وبينّا قوة احتمال الربا فيها؛ لكثرة تقارض الناس إياها. وأما الاحتكار فستعلم بيانه قريبًا إن شاء الله تعالى. * * * *

(18/374)


الباب الثاني في تبايعها نقدًا الذي حرَّمه الشارع من ذلك هو الذهب بالذهب مع رجحان أحدهما وزنًا، وهكذا الفضة بالفضة. وكذلك حرَّم البر بالبر مع زيادة أحدهما في الكيل، وهكذا الشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح. وصح من عدة طرق عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال بعد بيان هذا الحكم: "فمن زاد أو استزاد ــ وفي رواية: أو ازداد ــ فقد أربى" (1). وفي رواية: "فهو ربا" (2). زاد في رواية: "الآخذ والمعطي فيه سواء" (3). وأخبر بشراء التمر بالتمر متفاضلًا فقال: "أُوَّه عينُ الربا" (4). وفي رواية: "أُوَّهْ أُوَّهْ، عينُ الربا، عينُ الربا" (5). وفي رواية: "هذا الربا، فردوه" (6). _________ (1) أخرجها مسلم (1584/ 82، 1587، 1588، 1596). (2) أخرجها مسلم (1588/ 84). (3) أخرجها مسلم (1584/ 82). (4) أخرجها مسلم (1594/ 96). وفي ضبط "أوه" وجوه. (5) أخرجها البخاري (2312). (6) أخرجها مسلم (1594/ 97).

(18/375)


وأرشد إلى المَخلَص من ذلك بقوله: "بِعِ الجَمْع بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جنيبًا" (1). والجَمْع تمرٌ رديءٌ، والجنيب تمرٌ جيدٌ، كانوا يبتاعون الصاع من الثاني بالصاعين من الأول، ونحوه. ولا يرضى صاحب الجنيب أن يبيع صاعًا بصاع. وجاء في حديث عبادة: "فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد" (2). وفُسِّر في الروايات المفصّلة ببيع الذهب بالفضة والفضةُ أكثرهما، وبيعِ البر بالشعير والشعيرُ أكثرهما، وقد تقدم ذكر الروايات. والمقصود ههنا إنما هو النظر في العلة. أما الفقهاء فإنهم يذكرون الحكم في باب الربا، اتبعوا السنة في إطلاق هذه الكلمة، ولكن ثبت في "الصحيحين" (3) وغيرهما عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: "لا ربا إلا في النسيئة". [ص 42] وجمع أهل العلم بين هذا الحديث وبين الأحاديث المتقدمة بطرق: _________ (1) أخرجه البخاري (2201، 2202) ومسلم (1593) عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري. (2) أخرجه مسلم (1587/ 81). (3) البخاري (2179) ومسلم (1596) من حديث أسامة بن زيد.

(18/376)


أصحها: أن الربا في هذا الحديث أريد به الربا الحقيقي، فهو لا يكون إلا في النسيئة، وأما إطلاق الربا فيما مُنِع من النقد فهو مجاز. فإما أن يكون أصل الربا في اللغة: الزيادة مطلقًا، ونقله الشارع إلى الزيادة المخصوصة في النسيئة، ثم أطلق الربا في الزيادة في النقد على أصل اللغة، وإما غير ذلك. والذي تبين لي أن الربا في عرف اللغة خاص بالنسيئة، وقد دلّ القرآن وحديثُ: "لا ربا إلا في النسيئة" على أنه في الشرع كذلك، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. وإطلاق الربا في البيع المحرم نقدًا إنما هو من باب التشبيه، والجامع بينهما أن كلاًّ منهما زيادة محرمة. فإن قيل: لكن قوله: "عين الربا، عين الربا" (1) ينافي المجاز، كما يقوله النحاة في التوكيد. قلت: أما التكرار فهو من باب التوكيد اللفظي، وقد صرَّح النحاة بأنه يجيء لغير نفي التجوز، كأن يخشى المتكلم أن لا يكون بعض المخاطبين سمع الأول كما ينبغي، فيكرر ليتحقق السماع، كما تقول: رأيت أسدًا يرمي، رأيت أسدًا يرمي. وأما قوله: "عين الربا" إذا قيل: إنه بمنزلة "الربا عينه"، وقد قال النحاة: إن التوكيد بالنفس والعين لدفع احتمال التجوُّز، فمحلُّ ذلك حيث لم تقم قرينة على المجاز، فأما إذا قامت كأن يقال: أبو يوسف أبو حنيفة عينُه، فإنما يكون للمبالغة، والحديث من هذا. والله أعلم. _________ (1) تقدم تخريجه.

(18/377)


ومما يوضح هذا أن القرآن أومأ إلى أن المعنى في تحريم الربا أنه ظلم كما تقدم، وبيع دينار من ذهب جيدٍ صرفُه عشرون درهمًا بدينارين من ذهب رديء صرفُ الواحدِ منهما عشرة دراهم، لا يظهر فيه ظلم، وهو حرام نقدًا. وبيع الدينار الجيد بأحد الدينارين الرديئين أقرب إلى أن يكون ظلمًا، وهو حلالٌ نقدًا. فلو كان المعنى في التحريم هو الربا، لكان الظاهر أن يكون الحكم بعكس ما تقدم، فيحل بيع دينار جيد صرفه عشرون درهمًا بدينارين رديئين، صرفُ كلٍّ منهما عشرة دراهم، ويحرم بيع الدينار الجيد بأحدهما وحده. هذا، والذي ظهر لي أن العلة فيما حُرِّم متفاضلًا نقدًا: هي تشبيه المعاملة المشروعة بالممنوعة، أو الاحتكار. فالأولى خاصة بما يمكن تصحيح المعاملة بصيغة أخرى، وذلك كبيع درهمين بدرهم مثل أحدهما. فالمقصود المعقول من هذا هو أن يهب صاحب الدرهمين لصاحبه درهمًا، فكان يمكنه أن يهب له درهمًا، فلما عَدلا عن هذه الصورة المحمودة المرغَّب فيها إلى صورة بيع الفضة بالفضة متفاضلًا، استحقَّا التأديبَ بتحريمِ ما اعتمده وإبطالِه. وأما الاحتكار فهو العلة فيما عدا ذلك. * * * *

(18/378)


[ص 43] فصل في الاحتكار وإيضاح علاقته بهذا الحكم قال الله عز وجل: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]. وحبس الذهب والفضة، واحتكار الأقوات، وتبايع كل من الستة بجنسه، كالذهب بالذهب، والبر بالبر، يؤدي إلى أن يكون دُولةً بين الأغنياء والمحتكرين، فضيَّق الله تعالى عليهم؛ لئلّا يكون دُولةً بينهم، وستعلم وجه التضييق إن شاء الله. الذهب والفضة وقد تقدم في الكلام على زكاة الذهب والفضة بيان بعض المفاسد التي تترتب على حبسهما وكنزهما، أو نقول: احتكارهما، وقد قال الله عز وجل: [{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]] (1). وقد تواتر عن أبي ذر الغفاري أحد أجلَّة الصحابة رضي الله عنهم أنه كان يرى أن هذه الآية على ظاهرها، وأن حكمها باقٍ إلى يوم القيامة (2)، وخالفه جمهور هذه الأمة. فأما على قوله: فحَظْرُ الشريعة لحبسهما وتشديدها فيه واضح. _________ (1) بيض المؤلف للآية، ولم يكتبها. (2) انظر "صحيح البخاري" (1406، 1407، 4660) وصحيح مسلم (992). وراجع "فتح الباري" (3/ 273).

(18/379)


وأما على قول الجمهور، فإن كراهية الشريعة لحبسهما يظهر من أحكام أخرى. منها: فرض الزكاة عليهما، ولو كانا حُلِيًّا، على خلافٍ في الحُلِيّ، والراجح الوجوب. ومنها: تحريم الذهب على الرجال البتةَ، وتحريم الفضة عليهم إلا نحو الخاتم. ومنها: تحريم الأكل والشرب في أوانيهما، وألحق به العلماء بحقٍّ سائرَ الاستعمالات، وكذا اتخاذ الأواني منهما وإن لم تستعمل. ومنها: ما نحن بصدده؛ من تحريم بيع الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل. ولتوضيح فائدة هذا فنقول: الحكومات في عصرنا تكتنز الذهب، وتحتاج إلى ضرب الدراهم، فتضطر إلى شراء سبائك الفضة، فلو كانت مسلمة لمنعها الإسلام من شراء الفضة بدراهم إلا سواء بسواء في الوزن، ولمَا رضيت بذلك؛ لأن فيه خسارةً عليها، فتضطر إلى شراء سبائك الفضة بالدنانير، فيحصل المقصود. والأغنياء كثيرًا ما يكنزون الدنانير، ثم يحتاجون إلى حلي فضة، فتارةً يريدون شراء سبائك فضة، ليعطوها الصاغةَ فيصوغوها، ولا تطيب أنفسهم أن يشتروا السبائك بوزنها دراهم، فيضطرون إلى شرائها بدنانير، فيحصل المقصود. وتارةً يريدون شراء المصوغ المصنوع من الفضة، والغالب أنه لا يتأتى

(18/380)


شراؤه بوزنه دراهم، إما لأن قيمة ذلك المصوغ أقل من قيمة وزنه دراهم، وإما عكسه. فعلى الأول لا يرضى المشتري، وعلى الثاني لا يرضى البائع، فيضطرون إلى الشراء بالدنانير، فيحصل المقصود. وقِسْ على هذا سبائك الذهب وحُلِيَّه في اضطرار المشتري إلى إخراج الدراهم. وبهذا الحكم أيضًا يقل رغبةُ الصاغة في الصياغة، ولا سيما في الفضة التي هي أكثر وجودًا وأرخص، والصاغة أشدُّ بها تلاعبًا، فالصائغ يقول: أي فائدة لي أن أشتري سبائك الفضة بوزنها دراهم، ثم أصوغها وأتعب فيها، ثم أبيعها بوزنها دراهم، والذهب عزيز الوجود، لا أدري أأظفرُ براغبٍ في الشراء يكون عنده دنانير، أم لا؟ وأي فائدة لي في أن أكسر الدراهم، ثم أصوغها حُلِيًّا، ثم أبيعه بوزنه دراهم. وبهذا يقل استعمال الحلي؛ لأن كثرة استعماله أغلب ما تجيء من عرض الصاغة الحُلِيَّ والأواني ونحوها، فيراها المُثْرون ونساؤهم فيرغبون فيها. وقلما تجد الرجل يشتري السبائك، ويسلمها إلى الصائغ يصوغها له ويعطيه أجرته، أو يعطي الصائغ دراهم أو دنانير ليكسرها ويصوغها، ويأخذ أجرته. مع أن هذا الحكم يُضيِّق عليهم في هذا أيضًا، وقد جاء النهي عن كسر الدراهم والدنانير (1). _________ (1) أخرجه أحمد (15457) وأبو داود (3449) وابن ماجه (2263) من حديث علقمة بن عبد الله عن أبيه قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تُكْسَر سكَّةُ المسلمين الجائزةُ بينهم إلّا من بأس". وإسناده ضعيف لضعف محمد بن فضاء أحد رجال الإسناد، وأبوه مجهول.

(18/381)


وبما قررناه يظهر لك خطأ من جوَّز شراء حلي الفضة بدراهم أو سبيكةٍ أكثر من وزنه، قائلًا: إن الزيادة في مقابل الصنعة. ولم يتنبه لما في المنع من ذلك كما هو ظاهر الشريعة من الحكمة البالغة. والله أعلم. وأما علاقة الاحتكار بالنسيئة: فإنه لو أُبيح في النسيئة ما لم يُبَحْ نقدًا، لتعمَّد الناس إنساءَ أحدِ العوضين مدةً قليلةً، وما يصح نقدًا مع زيادة وصفية في أحد العوضين، كحلية ذهب بسبيكة ذهب كوزنها، يحتال له بتأجيل الحلية مدةً طويلةً، ليكون الأجل مقابلَ الصنعة، فهذا مع تحقق الربا فيه تحقق فيه الاحتكار أيضًا. [ص 44] بقية الأصناف احتكار الأقوات معروف، وقد وردت أحاديث في تحريمه، منها ما رواه مسلم في صحيحه وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يحتكِرُ إلّا خاطئ" (ج 5 ص 56) (1). وهذه الأربعة الأصناف يكثر احتكارها، ويكون فيها الجيد والرديء. فقد يكون رجلان محتكرانِ للحنطة مثلًا، وحنطة أحدهما جيدة، وحنطة الآخر رديئة، فيحتاج صاحب الجيدة إلى رديئة لقوت أهله وخَدمه، أو يحتاج صاحب الرديئة إلى جيدة لنفسه، فلو مكّنا من أن يبيعا بالتفاضل لتبايعا الصاع بالصاع مثلًا، وكلاهما مطمئن أن هذا التبايُعَ لا يفضّ _________ (1) رقم (1605).

(18/382)


الاحتكار، لأنهما جميعًا محتكرانِ، فإذا قيل لهما: لا يحلُّ بيع البر بالبر إلّا مثلًا بمثل، قال صاحب الجيد: وكيف أشتري صاعًا قيمتُه درهمٌ بصاعٍ قيمته درهمانِ؟ فيقال له: أخرِجْ بُرَّك إلى السوق، فبِعْه بدراهم، ثم اشترِ بها كما تُريد. ويقول صاحب الرديئة: إن صاحبي لا يرضى أن يبيعني صاعًا قيمته درهمانِ بصاعٍ قيمتُه درهم. فيقال له: فأخرِجْ بُرَّك إلى السوق فبِعْه، ثم اشترِ كما تريد. فإذا خرج البر إلى السوق انفصم قيدُ الاحتكار. قلت: إنما يقوى مظنة الاحتكار للذهب إذا بيع بذهب أو فضة، وإنما يقوى مظنته للقوت إذا بيع بقوت، أو ما هو كالقوت. فأما إذا بِيع القوتُ بالذهب أو الفضة، فإن مظنة الاحتكار تضعُفُ جدًّا. والغالب فيمن يشتري القوت بذهب أو فضة إلى أجل أن يكون ليس بيده ذهب ولا فضة، بدليل رضاه بزيادة الثمن. والغالب على من استسلم ذهبًا أو فضة في قوتٍ إلى أجل أن لا يكون عنده قوت في الحال. قلت: إذا فرضنا أن البلدة تقتات البر، فشراؤه بالشعير نقدًا بنقد ينقض الاحتكار حتمًا. وأما إذا كان البر مؤجلًا فلم ينتقض الاحتكار. وإذا فرضنا أنها تقتات الشعير، فشراؤه بالبر نقدًا بنقد ينقض الاحتكار، وأما إذا كان البر مؤجلًا فلا. فإن قيل: فعلى هذا ينبغي إذا كانت البلدة تقتات البر أن يحلَّ بُرٌّ معجَّلًا بشعيرٍ مؤجَّلًا، وإذا كانت تقتات الشعير أن يحِلَّ شعيرٌ معجلًا ببرٍّ مؤجلًا.

(18/383)


قلت: إنما أُحِلَّ ذلك ــ والله أعلم ــ لأنه قلَّما يكون التاجر محتكرًا للبرّ والشعير معًا، بل إما أن يحتكر البرّ، وإما أن يحتكر الشعير. وعلى هذا فإذا تبايعا نقدًا، فقد انفضَّ احتكارُهما معًا؛ لأن محتكر البر يحتكره على الناس جميعًا حتى على محتكر الشعير، ومحتكر الشعير يحتكره على الناس جميعًا حتى على محتكر البر. فإن قيل: ولماذا ضيق في النسيئة؟ قلت: لأن البيع بالنسيئة لا ينقض احتكارهما معًا، وإنما ينقض احتكار صاحب العوض المعجل، ويبقى احتكار الآخر على حاله. * * * *

(18/384)


[ص 45] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فصل اعلم أن الرجل قد يكون محتكرًا لواحدٍ من الستة فقط، وقد يكون محتكرًا للذهب والفضة معًا، وقد يكون محتكرًا للأربعة الباقية، أو ثلاثة منها، أو اثنين، ويبعد أن يجمع بين احتكار الذهب أو الفضة أو كليهما، وبين احتكار الأربعة الأخرى أو بعضِها. فإذا كان أحد العوضين ذهبًا أو فضة، والأخر واحدًا من الأربعة، فليس في هذا ما يدل على الاحتكار أصلًا، فإن اتفق الاحتكار فقد انتقض بهذا العقد، والمقصود من التضييق هو نقض الاحتكار، وقد انتقض. وأما بيع الذهب بالفضة، وواحدٍ من الأربعة الباقية بآخرَ منها، فإن كان يدًا بيدٍ فالظاهر عدم الاحتكار؛ لأننا إذا فرضنا أن أحدهما محتكر للذهب، والآخر محتكر للفضة، فقد انتقض احتكارهما. وإن فرضنا أن كلًّا منهما محتكر للذهب والفضة معًا، فمحتكر الذهب والفضة معًا يبعد أن يبيع ذهبًا بفضة أو فضةً بذهب، إلا إذا حصل له ربح وافر، هذا شأن المحتكر، والربح الوافر لا يحصل عادةً في التبايع يدًا بيد. وقِسْ عليه أحد الأربعة الباقية بآخرَ منها يدًا بيد. وإن كان نسيئةً فاحتمال الاحتكار أقوى؛ لأن النسيئة يَصحبُها عادةً الربحُ الوافر، فمحتكر الذهب والفضة يرضى أن يدفع دينارًا صَرْفُه في السوق خمسة عشر درهمًا بعشرين درهمًا إلى أجل، أو يدفع عشرة دراهم بدينارٍ إلى أجل، وقد يرضى أن يأخذ دينارًا نقدًا ليدفع عشرين درهمًا بعد مدةٍ، أو

(18/385)


يأخذ عشرة دراهم ليدفع دينارًا بعد مدة؛ لأنه يعدُّ الأجلَ ربحًا؛ لرجائه أنه إذا أخذ الدينار ليدفع عشرين درهمًا بعد ستة أشهر، يجد من يأخذ منه الدينار بعشرين درهمًا إلى أربعة أشهر، وإذا أخذ عشرة دراهم بدينار إلى ستة أشهر يجد من يأخذها منه بدينار إلى أربعة أشهر. وقِسْ على ذلك أحد الأربعة بآخر منها. فإن اتفق أن يكون متبايعا الذهب بالفضة وأحدُهما مؤجل، غير محتكرينِ للذهب والفضة، ولا قصد أحدهما ربحًا من جهة الزيادة، ولا من جهة الأجل، فهذه جزئيات خاصة، لا تمنع عموم الحكم كما قررناه في أول الرسالة، ومثَّلناه بحدِّ الزنا. [ص 46] وأما بيع أحد الستة بجنسه فاحتمال الاحتكار أقوى، فالمتبايعان ذهبًا بذهبٍ قد ظهر حرصُ كلٍّ منهما على جنس الذهب، إذ لم يدفع ذهبه إلا بذهبٍ مثله. لكنه إذا كان يدًا بيد، فإن كانا متماثلين من كل وجه، كدينار بدينار مثله، فهذا ليس من مقاصد العقلاء، وإنما أباحه الشارع؛ لأنه لا ضرر فيه، ولو منعه لم يلزم من ذلك تضييق عليهما، ولا على أحدهما. فإن قيل: قد يتفق القصد والتضييق، كأن يقول رجل: امرأتي طالق إن لم أُخرِج هذا الدينار من ملكي اليوم، فله غرض في إخراجه من ملكه، ، فإذا أُبيح له أن يبدله بدينار آخر حصل غرضُه، ولو مُنِع منه لاضطر أن يصرفه، أو يشتري به عرضًا، أو يهبه مثلًا، فإذا كان محتكرًا كان في المنع تضييقٌ عليه. قلت: هذه الصورة ومثلُها من النادر الذي لا ينتقض به الحكم العام، كما قررناه في أول الرسالة.

(18/386)


وإن لم يكونا متماثلين من كل وجه، فإما أن يستويا قدرًا: وزنًا في الذهب والفضة، وكيلًا في الباقي، وإما أن يختلفا. فإذا استويا قدرًا، فالغالب أن يكون أحدهما أفضل وصفًا: جودةً أو صنعةً، فَرِضا صاحبِ الأفضل بالخسران يدل أنه ليس بمحتكر، إذ من شأن المحتكر الحرصُ على الربحِ وتجنُّبِ الخسارة. فإن كان في كلٍّ منهما فضلٌ ليس في الآخر، كدينار بخاتم ذهب، في الدينار فضيلة الضرب، وفي الخاتم فضيلة الصنعة، فإن لم تتعادل الفضيلتان، كأن كان قيمة الخاتم لو بيع بدراهم عشرين درهمًا، وصَرْفُ الدينار سبعة عشر درهمًا، أو عكس ذلك، فكالذي قبله. أما تعادلُهما فنادر، ولا يكاد ينضبط، فلهذا ــ والله أعلم ــ أُلحِق بما قبله. وأما إذا كان أحد العوضين مؤجلًا، فإن كان ذلك العقد لو وقع يدًا بيد لما صح، فبالأولى أن لا يصح إذا كان نسيئةً، ولو أجيز بعض ذلك نسيئةً لاحتال كلُّ متعاقدينِ يريدانِ أن يتعاقدا بما لا يحل نقدًا، فأخَّرا أحدَ العوضين يومًا أو يومين، حيلةً لتصحيحِ العقد. وإن كان ذلك العقد لو وقع يدًا بيدٍ لجاز، فقد قدَّمنا أن الجواز هناك إنما هو لرضا أحدهما بالخسارة، وذلك دليل أنه ليس بمحتكر، فإذا كان نَساءً فيمكن أن يكون محتكرًا، ولكنه جبر النقصان بالأجل، كخاتم ذهبٍ وزنُه دينار، وقيمته في السوق عشرون درهمًا، بِيعَ بدينارٍ مثلِه في الوزن، ولكن صَرْف الدينار في السوق خمسة عشر درهمًا، وأجَّلا الدينار إلى شهرين مثلًا، فكأن صاحب الدينار جبر الخسارةَ بالأجل.

(18/387)


وقلَّما يتفق أن يكون الأفضل هو المؤجل، فإن اتفق فنادر، يتبع الغالب. وبالجملة، فالمقصود من هذا الحكم إنما هو التضييق على حابس الذهب والفضة، ومحتكري الأقوات، فضُيِّق عليهم أن لا يتبايعوا الشيء بجنسه إلا مثلًا بمثل، يدًا بيد، ولا الشيء منها بما يقاربه إلا يدًا بيد. فالتبايع بالنسيئة يقل احتياج الناس إليه، بدليل أن وقوعه أقل من وقوع التبايع يدًا بيد، فاقتضى التضييقُ منعَه البتَّةَ؛ لأن الحاجة إليه قليلة. وأما التبايع يدًا بيد، فاكتفى باشتراط المثلية في القدر إذا اتحد الجنس، وفي ذلك تضييقٌ لا يبلغ أن يضيّق على من اشتدت حاجته، ولم يشترط المثلية فيما اختلف جنسه؛ لشدة الضيق في ذلك أشدّ مما تقتضيه الحكمة. والله أعلم. [ص 48] واعلم أن تشبيه المعاملة المشروعة بالمعاملة الممنوعة كما يدخل في النسيئة تدخل في النقد أيضًا، فمن باع درهمين بدرهم مثل أحدهما، أو دينارين بدينار كذلك، أو صاعَيْ برٍّ بصاعِ برٍّ كذلك، لم يحلَّ، إذ كان المشروع أن يهب صاحب الزائد للآخر درهمًا أو دينارًا أو صاعًا، وتصح الهبة. فأما إذا [كان] (1) الدرهم أجود من أحدهما، فأراد صاحب الزائد أن يهبَ للآخر درهمًا، ويبيعه الآخر بدرهمين، فلا يحل؛ لأن الهبة ههنا حيلةٌ لاستحلال البيع المحرم، وقِسْ على ذلك. والله أعلم. _________ (1) ليست في الأصل.

(18/388)


فصل واعلم أن الربا والاحتكار أخوان، يتعاونان على الظلم والعدوان، فكلاهما يريد أن يربح ربحًا وافرًا بدون كثرة تعب في تقليب التجارة، وجلب البضائع من البلدان البعيدة، وغير ذلك مما ينفع الناس. فالمُرْبِي يريد أن يعطي ماله للمحتاجين دَينًا، ثم يستريح هو، ويترك الكدَّ والتعبَ والعناءَ عليهم، ويأخذ هو ثمرةَ كدِّهم وتعبِهم، فإن لم يُثمِر كدُّهم وتعبُهم أخذ صُلْبَ أموالهم، فإن لم يكن لهم شيء ضايقهم حتى يتمنوا الموت. والمحتكر يريد أن يستولي على النقد والقوت، ثم يستريح وينام، ويدع الناس في الضرّ والشدّة، حتى يُربِحوه الربحَ الذي يريد. والمُربِي يَعمِدُ إلى حبس الذهب والفضة، ولا يَصرِفُهما إلا في الربا، ويحتكر القوت مثلًا، ويتربص به حتى يُبذَل له فيه القدر الذي يريده من الربا. وحابس الذهب والفضة يخاف أن يتَّجر تجارةً شرعية، فيتعب ويتعنَّى، وربما خسر، ويخاف أن يُضارب مضاربةً شرعية، فربما خسر، ويكره أن يُبقِيهما في يده أبدًا؛ لئلا يُفنِيهما بالإنفاق في حاجته، وفي الزكاة إن كان مسلمًا، فيعمِدُ إلى الربا؛ لأنه ربح وافرٌ مضمونٌ بدون تعبٍ ولا عناء. ومحتكر البرِّ مثلًا ربما لم يرتفع السعر إلى القدر الذي كان يتوقعه، وسوَّسَ البرُّ الذي بيده، فيكره أن يُبقِيه فيتلَف، أو يبيعه بسعر وقته فيخيب أملُه، أو يبيعه بدراهم نسيئةً، فيحتاج إلى تعبٍ بأن يطالب أولا بالدراهم، ثم

(18/389)


يأخذها ويشتري البر حينئذٍ، ويحتكره مره أخرى، ولعل المشتري يَمْطُله بالدراهم وقتَ رخصِ البر، فأوثقُ الطرق عنده هو أن يعطيه بالربا، فيُقرِضه إلى وقت الحصاد بشرطِ زيادة، ليأخذه حينئذٍ، فيحتكره مرةً أخرى، وإن مَطَلَه المشتري وقتَ الحصاد فرح بذلك، لأن [في ذلك] مصلحةً [له]. فلا يُنكَر أن تُطلِق الشريعةُ على ما حُرِّم من البيوع لأجل الاحتكار أنه ربًا، وهكذا إطلاقُها الربا فيما حُرِّم لتشبيه المعاملة بالربا. والله أعلم. * * * *

(18/390)


[ص 49] خاتمة حيث قلنا: إن العلة هي الاحتكار، فمرادنا أنه هو المعنى الذي شُرِعَ هذا الحكم للتضييق على أهله. وأما العلة الفقهية: فهي ضابطة، وهي كون العوضين مما يضرُّ احتكاره بالناس ضررًا شديدًا متقاربينِ في المنفعة المقصودة مع النسيئة، أو متفقين في الجنس مع الفضل في القدر. فأنت ترى أن هذه العلة تعمُّ كل ما حُرِّم في مبايعات هذه الستة. وأما الربا فهو خاص بالنسيئة، كما نصَّ عليه الشارع، ودخوله فيما إذا بيع أحدهما بجنسه نسيئةً مع فضلٍ في المؤجَّل بالقدر أو الوصف واضح. وأما فيما عدا ذلك ففيه نظر، إلا أنه قوي في الذهب والفضة كما تقدم. وأما تشبيه المعاملة المشروعة بالمعاملة الممنوعة فهو خاص بما حُرِّم من المبايعات في هذه الستة، وهو في المعنى معاملة أخرى جائزة. وهذه لا يُحتاج إليها مع الاحتكار إلا من جهة تقليل الصور النادرة التي تتخلف فيها الحكمة المقصودة، ومن جهة الفرق بين القرض والهبة وبين البيع في بعض الصور. وبمقتضى ما وصفناه ــ من أن العلة منعُ كلٍّ من الستة بجنسه متفاضلًا نقدًا، ومنع الذهب بالفضة نسيئةً، وأحد الأربعة الباقية بآخر منها نسيئة هي الاحتكار ــ قال مالك رحمه الله. فلم يَعْدُ الحكمُ في منعِ التفاضل نقدًا، ومنعِ النسيئة مع اختلاف الجنس، إلا إلى الأقوات ومُصلِحاتها.

(18/391)


كأنه رأى أن الاحتكار إنما يشتدُّ ضررُه فيها على ما هو معروف في مذهبه في تحريم الاحتكار، ولما كان مذهبه ظاهرَ المناسبة، ولا يصادم نصّا ظاهرًا، رأيتُ الاقتصار عليه. وبمقتضى ما ذكرناه من أن العلة في بيع كل من الستة بجنسه نسيئةً هي الربا، قال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله، فعدَّيا الحكمَ إلى جميع الأشياء، فمنعا بيعَ الثوب بجنسه، وغير ذلك، إلا أن مالكًا رحمه الله تعالى يقول: إذا اختلفت المنفعة المقصودة جاز وإن اتحد الجنس، كالبعير النجيب بالبعير من حاشية الإبل. وحجته أن اختلاف المنفعة المقصودة يصيِّر الجنسَ جنسين. وقيَّد ذلك بعض أصحابه بما إذا كان الأفضل هو المعجّل، وخالفه غيره. وأرى أن مذهب أبي حنيفة رحمه الله أضبط وأولى. ومن قال بقول مالك فينبغي له أن يُقيِّد بالقيد المذكور؛ لظهور الربا في بيع البعير من حاشية الإبل مُسلَمًا في الحال ببعيرٍ نجيبٍ إلى أجل. والمسألة تستدعي بسطًا لا أرى هذا محلَّه. والله أعلم. ولما كان مذهب أبي حنيفة في هذا ثم مذهب مالك هو الراجح رأيتُ الاقتصار عليه، وليكن هذا آخرَ القسم الأول.

(18/392)


القسم الثاني في البحث مع صاحب الاستفتاء خلاصة الاستفتاء لخَّص صاحب الاستفتاء رسالته في أربعة مقاصد: الأول: أن الربا المنهي عنه في القرآن مجمل عند الحنفية وغيرهم، حتى يصحّ أن يقال: اتفقت عليه الأمة. الثاني: أن السنة فسَّرته بحديث عبادة وغيره: «الحنطة بالحنطة ... » (1)، وبالآثار في ربا الجاهلية، وهو الزيادة عند حلول أجل الدين في مقابل مدِّ الأجل. والقرض ليس بدين، لأنه لا يكون إلى أجل عند الفقهاء، فعلى هذا لا يكون الربا إلا في البيع. الثالث: أن النفع المشروط في القرض ليس بربا منصوص. الرابع: أن النفع المشروط في البيع لا يصح قياسه على الربا المنصوص ولو صحَّ فالأحكام القياسية قابلة للتغيُّر بتغير الزمان، فلا محيصَ من تحليله في هذا الزمان، كما قالوا بجواز الاستئجار على تعليم القرآن والأذان والإمامة وغيرها، مع أن حرمة الاستئجار في بعض ذلك ثابت بالنص. * * * * _________ (1) أخرجه مسلم (1588) من حديث أبي هريرة، ونحوه (1587) من حديث عبادة.

(18/393)


[ق 6] الكلام على المقصد الأول للمستفتي ثلاثُ حِجاجٍ على أن لفظ «الربا» في القرآن مجمل: الأولى: الإجماع، ونَقَل عدة عبارات من كتب الحنفية وغيرهم. الثانية: أن الكتاب والسنة والإجماع وردت بجواز بعض الزيادات، كالربح في البيع، والزيادة تفضُّلًا عند القضاء. الثالثة: ما رُوي عن عمر أنه قال: «كان من آخر ما أنزل الله تعالى على رسوله آية الربا، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يفسِّرها لنا، فدعُوا الربا والريبة» (1). والجواب عن الأولى بمنع الإجماع، كيف وقد نقل صاحب الاستفتاء نفسه عن «مقدِّمات ابن رشد المالكي» (بحوالة ج 3 ص 41) ما لفظه: «وقد اختُلف في لفظ الربا الوارد في القرآن، هل هو من الألفاظ العامة يُفهم المراد بها وتُحمل على عمومها حتى يأتي ما يخصُّها، أو من الألفاظ المجملة؟ ... ». ونقل أيضًا عن كتاب «أحكام القرآن» (2) لابن العربي المالكي: «اختلفوا هل هي عامة في تحريم كل ربا، أو مجملة لا بيانَ لها إلا من غيرها؟ والصحيح أنها عامَّة ... ». _________ (1) أخرجه أحمد (246، 350) وابن ماجه (2276) وغيرهما. وسيأتي الكلام عليه عند المؤلف. (2) (1/ 241).

(18/394)


ونقل أيضًا عن الطحاوي ما يُعلَم منه أنها عنده ليست بمجملة، وسيأتي ذلك إن شاء الله. وقال [إلكيا الهراسي] (1) الشافعي في كتابه «أحكام القرآن»: [ونُقل عن الشافعي أن لفظ الربا لمَّا كان غير معلوم، أورث احتمالًا في البيع، والصحيح أن الربا غير مجمل، ولا البيع كما ذكرناه]. وهَبْ أنه لم يُنقل عن أحدٍ القولُ بأنها غير مجملة، فهذا لا يمنع أن يذهب ذاهب إلى عدم إجمالها ما دام لم يَخرِقْ إجماعَهم في حكم ينبني عليها. وإنما يكون ذلك من باب إحداث دليل أو تأويل، وقد نصَّ علماء الأصول أنه لا يكون خرقًا للإجماع. فإن قيل: فإنه ينبني على كونها غيرَ مجملة تحريمُ الزيادة المشترطة في القرض، وهي المسألة المستفتى عنها. قلتُ: هم مجمعون على تحريم ذلك، ونصوص العلماء على الإجماع في ذلك لا تُحصى. وممن صرَّح به: الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (2)، والباجي المالكي في «شرح الموطأ» (3)، وشرَّاح «المنهاج» (4) في فقه الشافعية، وغيرهم من الحنفية والحنابلة، وغيرهم (5). _________ (1) بيَّض في الأصل لاسم المؤلِّف ولكلامه المقتبس من كتابه، فأثبتناه من «أحكام القرآن» (1/ 233) لإلْكيا الهراسي. (2) (4/ 313). (3) «المنتقى» (/). (4) انظر «نهاية المحتاج» (3/ 424). (5) انظر «عمدة القاري» للعيني (12/ 45، 135)، و «المغني» لابن قدامة (6/ 436)، و «المحلَّى» لابن حزم (8/ 77، 467 - 468).

(18/395)


وهبْ أنه يمتنع مخالفة الذاهبين إلى الإجمال، أفليس يمتنع مخالفة الإجماع على تحريم الزيادة المشروطة في القرض؟ وقد علمتَ أن الإجماع على الإجمال موهوم، والإجماعَ على التحريم معلومٌ، ومخالفةَ القول بالإجمال من باب إحداث دليل أو تاويل، ومخالفةَ القول بالتحريم خرقٌ لإجماعٍ في حكم شرعي عملي بإحداث حكم آخر. [ق 7] والجواب عن الحجة الثانية أن القائل بالإجمال يقول: إن لفظ «الربا» نُقِل إلى معنى شرعي. ومَن يقول ببقائه على أصل اللغة يقول: هو عام مخصوص، فكل زيادة صحَّ دليلٌ بجوازها خُصَّت من عموم الربا. وقد تقرر في الأصول أن التخصيص أولى من النقل، والعمومات المخصوصة كثيرة في الشريعة حتى قيل: ما من عام إلا وقد خُصَّ، فلو كان كل عام قد خُصَّ يُحمل على الإجمال والنقل، لوجب أن يقال ذلك في جميع الألفاظ العامة المخصوصة، وهذا باطل حتمًا. والجواب عن الحجة الثالثة أن هذا الأثر أخرجه ابن ماجه (1) وغيره من طريق سعيد بن أبي عَروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عمر. وسعيد وقتادة مدلِّسان، وابن المسيب عن عمر منقطع. ولو صحَّ لم يكن نصًّا في الإجمال، بل يُحمل على أن هناك أمورًا ليست من أفراد الربا لفظًا، ولكنها تُشبِهه من حيث المعنى، وقد تقدم في القسم الأول ما يتضح به ذلك. وكثيرًا ما يرِد في القرآن نصوص على أمور معروفة، فيُلْحِق بها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ما ليس منها نصًّا، ولكنه في معناها. نَصَّ القرآن على حُرمة الأمِّ _________ (1) رقم (2276) وقد سبق تخريجه.

(18/396)


والأخت من الرضاعة، فألحق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - غيرهما بقوله: «يَحرُم من الرضاعة ما يَحْرُم من النسب» (1). ونصَّ القرآن على حُرمة الجمع بين الأختين، فألحق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الجمعَ بين المرأة وعمَّتها أو خالتها (2)، وأمثال ذلك كثير. فرأى عمر أن هناك أشياءَ فيها شَبَهٌ من الربا في المعنى، توفي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قبل أن يبيِّن أنها تُلحق بالربا أو لا تُلحق. وقوله في آخر الأثر: «فدَعُوا الربا والريبة» صريح في هذا، فتدبَّر. وهبْ أنه أراد الإجمال، فهو قول صحابي، وهبْ أن قول الصحابي حجة، فقد جاء عن عمر وجماعة من الصحابة تحريم الزيادة في القرض كما سيأتي. ولا يُعلم لهم مخالف من الصحابة، بل ولا من غيرهم. فأيُّ القولين أحق بأن يكون حجَّةً؟ والله المستعان. [ق 8] وقد سلك الجصَّاص في كتاب «أحكام القرآن» في الاحتجاج للإجمال مسلكًا أدقَّ مما تقدَّم، فقال: «والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجلٍ بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به. ولم يكونوا يعرفون البيع بالنقد إذا كان متفاضلًا من جنس واحد. هذا كان المتعارف المشهور بينهم، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39]، _________ (1) أخرجه البخاري (2645) ومسلم (1447) من حديث ابن عباس. (2) أخرجه البخاري (5109) ومسلم (1408) من حديث أبي هريرة. وفي الباب أحاديث أخرى.

(18/397)


فأخبر أن تلك الزيادة المشروطة إنما كانت ربا في المال العين، لأنه لا عوضَ لها من جهة المقرض. وقال تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130]، فأبطل الله تعالى الربا الذي كانوا يتعاملون به، وأبطل ضروبًا من البياعات سمَّاها ربًا، فانتظم قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] تحريمَ جميعها لشمول الاسم عليها من طريق الشرع». (ج 1 ص 465). وحاصله: أن العرب لم تكن تعرف للربا معنى إلا القرض إلى أجل بشرط زيادة. وقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بياعات أخرى أنها ربا، فعُلِم أن الربا في عُرف الشرع أعم منه في عُرف أهل اللغة، فثبت النقل والإجمال. والجواب: أن هذا الاستدلال لا يتم إلا بمقدمتين: الأولى: أن لفظ الربا لغةً أو عُرفًا سابقًا نزولَ القرآن لا يعم البياعات التي نصَّت السنة أنها ربا. الثاني (1): أن تكون السنة نصَّت على ما يعلم منه أن تلك البياعات يتناولها لفظ الربا في القرآن بعموم لفظه. فأما المقدمة الأولى، فقد ادَّعى الجصَّاص ــ كما تقدم ونقله صاحب الاستفتاء ــ أن الربا الذي كان متعارفًا بين العرب «إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجلٍ بزيادة على مقدار ما استقرض». وقال الفخر الرازي في «تفسيره» (2) كما نقله صاحب الاستفتاء أيضًا: _________ (1) كذا في الأصل بالتذكير. (2) (7/ 62) ط. دار الفكر.

(18/398)


«أما ربا النسيئة فهو الأمر الذي كان مشهورًا متعارفًا في الجاهلية. وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كلَّ شهر قدرًا معيَّنًا، ويكون رأس المال باقيًا، ثم إذا حلَّ الدين طالبوا المديون برأس المال، فإن تعذَّر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل. فهذا هو الربا الذي [كانوا] يتعاملون به». وقال ابن العربي في «أحكام القرآن» (1) كما نقله صاحب الاستفتاء أيضًا: [ق 9] «وكان الربا عندهم معروفًا، يبايع الرجلُ الرجلَ إلى أجل، فإذا حلَّ الأجل قال: أتقضي أم تُربي؟ يعني أم تزيدني على ما لي عليك، وأصبِرُ أجلًا آخر». وقال الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2) كما نقله صاحب الاستفتاء أيضًا: «إن ذلك الربا ــ يعني في حديث «الربا في النسيئة» ــ إنما عنى به ربا القرآن الذي كان أصله في النسيئة، وذلك أن الرجل كان يكون له على صاحبه الدينُ فيقول له: أجِّلْني منه إلى كذا وكذا (على كذا وكذا) (3) درهمًا أزيدها في دينك». وقد رد المستفتي كلَّ ما قيل في ربا الجاهلية فقال: «لم يتبيَّن إلى الآن بسند مرفوع ربا الجاهلية في أي شيء كان؟ فهو مجهول». أقول: سواءٌ علينا أَعَرفنا ربا الجاهلية أم لم نعرفه، ينبغي لنا تحقيق الربا في اللغة، فإنه على فرض معرفة ربا الجاهلية لا يخرج عن كونه هو الربا _________ (1) (1/ 241). (2) (4/ 65). (3) ما بين القوسين من المؤلف، وعند الطحاوي: «بكذا وكذا».

(18/399)


اللغوي بجميع أنواعه أو ببعض أنواعه. فإن كان بجميع أنواعه فلا كلام، وإن كان ببعض أنواعه ــ ولفظ الربا في القرآن يعمُّها وغيرَها ــ فلا وجه لتخصيصه بالنوع الذي كان المشركون يستعملونه، لما تقرَّر في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ونظير هذا لفظ «الخنزير» حُرِّم لحمه في القرآن، فلو وُجد بأمريكا ضربٌ من الخنازير مخالف في الصورة لِما كان موجودًا منها في أرض العرب لكان مما يشمله عموم القرآن اتفاقًا. وهكذا ما ورد من الأحكام الشرعية في «الإبل» يعمُّ إبلَ إفريقية التي يكون للبعير منها سنامان وإن لم يكن ذلك في أرض العرب. وأمثلة هذا أكثر من أن تحصى. الربا في اللغة أكثر أهل اللغة ومَن حكى عنها (1) من المفسرين والفقهاء وغيرهم يقولون: الربا: الزيادة. وقيَّده الراغب فقال (2): «الزيادة على رأس المال، لكن خُصَّ في الشريعة بالزيادة على وجهٍ دون وجه». وزاد الثعلبي قيدًا فقال ــ كما نقله النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» (3) ــ: «الربا زيادة على أصل المال من غير بيع». والظاهر أن هذا تفسير لغوي، ولكن النووي نقل عن الواحدي قال (4): «الربا في اللغة الزيادة ... قال: والربا في الشرع اسم للزيادة على أصل المال من غير بيع». _________ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب «عنهم». (2) «مفردات ألفاظ القرآن» (ص 340). (3) (2/ 1/117). (4) المصدر نفسه (2/ 1/118).

(18/400)


وفي «اللسان» (1): «رَبا الشيءُ يَرْبو رُبُوًّا ورِباءً: زاد ونما. وأربيتُه: نمَّيته. وفي التنزيل العزيز: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]، ومنه أُخِذ الربا الحرام. قال الله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39]. قال أبو إسحاق (2): يعني به دفع الإنسان الشيء ليُعَوَّض به ما هو أكثر منه، وذلك في أكثر التفسير ليس بحرام، ولكن لا ثواب لمن زاد على ما أخذ. قال: والربا رِبَوان: فالحرام كلُّ قرضٍ يؤخذ به أكثرُ منه أو تُجَرُّ به منفعة، فحرام. والذي ليس بحرام أن يهبه الإنسان يستدعي به ما هو أكثر، أو يُهدِي الهديَّة ليُهدَى له ما هو أكثر منها. قال الفرَّاء (3): ... فمن قرأ: {لِتَرْبُوْ} فالفعل للقوم الذين خوطبوا ... ومن قرأها: {لِيَرْبُوَ} فمعناه: ليربو ما أعطيتم من شيء لتأخذوا أكثر منه، فذلك رُبُوّه». أقول: والعرب لا يزالون إلى الآن يُطلقون الربا على الزيادة المشروطة في القرض. ولو سألت أحدهم عن الربا لفسَّره لك بذلك، ولو سألته عن هذه المعاملة ما اسمها؟ لقال لك: هذا الربا. غير أن أهل مصر ونحوها لما حاولوا استحلال الربا سمَّوه بغير اسمه فقالوا: «الفائض»، وربما يسمِّيه بعضهم «فائدة»، ومع ذلك لو سألت عامَّتهم عن الربا لفسَّروه لك هذا التفسير المعروف عند غيرهم من العرب. فإن قلت: العوام من العرب قد تغيَّرت لغتهم. _________ (1) (19/ 17) ط. بولاق. (2) هو الزجاج، وكلامه في «معاني القرآن» له (4/ 187). (3) انظر «معاني القرآن» له (2/ 325).

(18/401)


قلت: إنما تغيَّرت بتحريف بعض الكلمات أو دخول كلمات أعجمية. فأما الكلمات العربية التي لا يزالون يتكلمون بها فلا تكاد كلمة منها قد عمَّ استعمالها في غير وضعها الأصلي. وعلى طريق الاستصحاب المقلوب المعروف في الأصول نقول: الظاهر أن المعنى التي يستعمل فيه العرب الآن كلمةَ الربا هو المعنى التي كان أجدادهم يستعملونها فيه قبل الإسلام. [ق 10] ومما يؤيد ذلك أن ألفاظ المعاملات الأخرى كالبيع والإجارة والهبة وغيرها لا يزال العرب يستعملونها في معانيها العربية الصحيحة. ثم تدبرنا القرآن فوجدنا فيه الدلالة على أن الربا المذكور فيه هو زيادة يستزيدها الإنسان من صاحبه على رأس المال الذي دفعه إليه من غير بيع ولا أخذ عوضٍ يدًا بيدٍ. فإن قلنا: إن الربا في اللغة موافق لذلك على ما يظهر من بعض الأقوال السابقة فلا كلام، وإن قلنا: إن الربا في اللغة أعم من ذلك كأن يكون هو الزيادة مطلقًا فالدلائل القرآنية تكون مخصصة لعموم لفظ الربا، ولا يلزم من ذلك نقلٌ ولا إجمال، وإلا لزم أن يكون كل عام مخصوصٍ منقولًا [أو] مجملًا، وقد تقدم بطلانه. ولو ثبت النقل لم يلزمه الإجمال، بل يقال: الربا في القرآن مبين فيه، وهو زيادة يستزيدها الإنسان ... إلخ. بيان ذلك: قال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

(18/402)


(274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 274 - 280]. فقوله: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} ظاهر في أن الربا معاملة غير البيع. وقوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} ظاهر في أن الربا زيادة صورية في المال، كما أن الصدقة نقص صوري في المال. وقوله: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} ظاهر في أن تلك الزيادة تتأخر عن عقد المعاملة، ويبقى المُرْبي يطالب بها مُعامِلَه. وقوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} صريح في أن تلك الزيادة هي زيادة على رأس المال يستزيدها المُرْبي من معامِله، وأن من شأن تلك المعاملة أن يتأخر رأس المال عند المطلوب، ويبقى المعطي يطالب به وبالزيادة. [ق 11] وإذ قد تقرَّر أن في القرآن الدلالة على أن الربا هو زيادة يستزيدها الإنسان من صاحبه على رأس المال الذي دفعه إليه من غير بيع ولا عوضٍ

(18/403)


يدًا بيد، فلننظر فيما دلت السنة على أنه ربا. فأشهر ذلك حديث «الصحيحين» (1) عن عمر مرفوعًا: «الورِقُ بالذهب ربا إلا هاءَ وهاءَ، والبر بالبر ربا إلا هاءَ وهاءَ، والشعير بالشعير ربا إلا هاءَ وهاءَ، والتمر بالتمر ربا إلا هاءَ وهاءَ». («صحيح مسلم» ج 5 ص 43). وحديثهما (2) عن عُبادة: «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح إلا سواء بسواء، عينًا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى». («صحيح مسلم» ج 5 ص 43). ونحوه حديث أبي سعيد الخدري (3)، وفي آخره: «مثلًا بمثلٍ، يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذُ والمعطي فيه سواء». («صحيح مسلم» ج 5 ص 44). ونحوه حديث أبي هريرة (4)، وفيه: «مثلًا بمثل يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى» (أيضًا). وحديث البراء بن عازب وزيد بن أرقم (5) في بيع الورق بالذهب نسيئةً، وفيه مرفوعًا: «ما كان يدًا بيد فلا بأس، وما كان نسيئة فهو ربًا» _________ (1) البخاري (2134) ومسلم (1586). (2) أخرجه مسلم (1587)، ولم أجده عند البخاري. (3) أخرجه البخاري (1176) ومسلم (1584). (4) أخرجه مسلم (1588). (5) أخرجه البخاري (3939، 3940) ومسلم (1589).

(18/404)


(«صحيح مسلم» [ج 5 ص] 45). وحديث أبي سعيد (1): «جاء بلال بتمر بَرْنيّ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من أين هذا؟ » فقال بلال: تمر كان عندنا رديء فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عند ذلك: «أُوَّهْ، عينُ الربا ... » («صحيح مسلم» ج 5 ص 48). فالجصاص يقول (2): دلت هذه الأحاديث أن الربا يكون في البيع، ولم تكن العرب تعرف ذلك. وفيها أن بيع واحدٍ من الستة بجنسه متفاضلًا نقدًا ربا، ولم تكن العرب تعرف ذلك. فدلّ هذا أن لفظ الربا قد نقل عن معناه اللغوي إلى معنى شرعي، فيكون في القرآن مجملًا تبيِّنه السنة. والجواب أنه كما أن هذا ليس من الربا اللغوي فليس من الربا في القرآن، لِما قدَّمنا أن سياق القرآن يدل أن الربا الذي ذكره غير البيع، وأنه إنما يكون في النسيئة وإذا كان الأمر هكذا فلا يمكن أن تكون هذه الأحاديث بيانًا للربا الذي في القرآن، بل الصواب ما نحا إليه الطحاوي وغيره، وحاصله ــ مع إيضاح وتكميل ــ أن ما حرَّمه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من البيوع وسماه ربا، منه ما هو في معنى الربا كبيع الشيء بأزيدَ منه من جنسه نسيئةً، إذ لا فرق بينه وبين الربا المذكور في القرآن إلا لفظ البيع؛ ومجرد اختلاف اللفظ لا يغيِّر الحكم، وإلا لفسدت السماوات والأرض. وكذا بيع الذهب بالفضة [نسيئة] على ما ظهر لي. _________ (1) أخرجه البخاري (2312) ومسلم (1594). (2) في «أحكام القرآن» (1/ 464، 465) بمعناه. وقد سبق النص فيما مضى.

(18/405)


ومنها ما أراد بتسميته ربا أنه كالربا على ما تقدم إيضاحه في القسم الأول. * * * *

(18/406)


[ق 12] الزيادة المشروطة في القرض ربا منصوص في الكتاب والسنة قد علمتَ دلالة القرآن على تفسير الربا الذي فيه، وأنه على طِبق اللغة، حتى على القول بأن الربا لغةً هو مطلق الزيادة؛ إذ غاية ما هناك أن القرآن حفَّه بقرائن تخص الربا المحرم من مطلق «الربا» بمعنى مطلق الزيادة، وذلك لا يخرجه عن الحقيقة اللغوية. وعلى كل حال فقد تبيَّن بالقرآن نفسه معنى الربا فيه، وذلك المعنى يصدق بالزيادة المشروطة في القرض كما لا يخفى. وعلى هذا فهي ربًا بنص القرآن. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 37 - 39]. اختلف الناس في تفسير الربا في هذه الآية، فجاء عن ابن عباس وجماعة من التابعين وغيرهم تفسيره بالهدية طمعًا في عوضٍ أكثرَ منها (1)، وعن جماعة تفسيره بإعطاء الرجل قريبَه لغير وجه الله (2)، وعن الحسن _________ (1) انظر «تفسير الطبري» (18/ 503 - 505). (2) المصدر نفسه (18/ 506).

(18/407)


والسدي ــ واختاره الجبائي كما في «روح المعاني» (1) ــ أنه الزيادة المعروفة في المعاملة التي حرَّمها الشارع. ومن حجة القولين الأولين أن السياق في الإنفاق، فكأنه قسَّم الإنفاق بغير عوض إلى قسمين: قسمٍ يُراد به وجه الله، وقسمٍ بخلافه. وسمَّى الثاني (ربا) تشنيعًا له، وسمَّى الأول (زكاة) ترغيبًا فيه. وحجة أخرى، وهو أنه قال: {فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ}. ولو كان المراد الربا الحرام لكان المناسب فيما يظهر أن يصرِّح بما فيه زجر ووعيد. ومن حجة القول الثالث: أن المتبادر من الربا هو الربا الحرام، سواءٌ أقلنا إنه حقيقة لغوية أم لا. ويكفي في تبادره أن هذا اللفظ إنما ذكر في القرآن في الربا الحرام، فالأولى إلحاقه في هذا الموضع بسائر المواضع. وجوابهم عن الحجة الأولى بأن آيات البقرة في الربا الحرام قطعًا، والسياق سياق الإنفاق. وقد تقدمت الآيات وقد تقدم وجه ذلك، وذكرنا نحوه عن الراغب. ومثل ذلك قوله عزَّ وجلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} [آل عمران: 130 - 134]. _________ (1) (21/ 45). وانظر «تفسير القرطبي» (14/ 37).

(18/408)


وعن الثانية بأن الآية من سورة الروم وهي مكية، وتحريم الربا والتشديد فيه إنما كان بالمدينة، فسبيل الربا سبيل الخمر في وقوع تحريمه على التدريج، فاقتُصِر أولًا على قوله: {فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ}، ثم نزلت عقب غزوة أحد قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}، ثم كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يبين بعض ما يتعلق بالربا على حسب ما يقتضيه الحال. ثم نزلت آيات البقرة. وفي «البخاري» (1) وغيره عن ابن عباس أنها آخر آية أُنزلت. وروي كما في «الفتح» (2) أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يَعِشْ بعدها إلا إحدى وعشرين، وقيل: تسع ليال، وقيل: سبعًا. وفي «البخاري» (3) وغيره من حديث عائشة: «لمَّا نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على الناس، ثم حرَّم التجارة في الخمر». وثَمَّ ما يدل على أن تحريم التجارة في الخمر قد كان قبل ذلك، فكأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما أعاده عند نزول آية الربا تنبيهًا على المشابهة بينهما. والله أعلم. على أنه إن كان الربا في اللغة يشمل الزيادة [ق 13] الملتمسة بالهدية، فالأولى أن يقال: إن الربا في آية الروم يعمُّ النوعين. وارجعْ إلى ما تقدَّم في عبارة «اللسان». _________ (1) رقم (4544). (2) (8/ 205). (3) رقم (4540).

(18/409)


أما ظهور الآية في الزيادة المشروطة في القرض فهذا بيانه: قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} ظاهر في أن رأس المال فيه الربا من حين إيتائه، أي إعطائه، فلا يكون الربا هنا هو أن يكون للرجل على آخر دينٌ من وجه حق إلى أجل، فإذا حال الأجل مدَّ له فيه على أن يزيده على رأس المال. فإنه على هذا لم يكن رأسُ المال ربًا حين إعطائه، فتدبر. وقوله تعالى: {لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} ظاهر في أن المال المعطى نفسه يبقى في مال الآخذ، وهذا لا يصدق على إهداء ثوب على طمع أن يكافأ عليه بأكثر من ثمنه. فأما دينار بدينارين إلى أجل، فالدينار المأخوذ كأنه باقٍ في مال الآخر يربو فيه حتى يصير دينارين. وقال الله عز وجل: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 160 - 161]. وفي التوراة الموجودة بأيدي اليهود والنصارى الآن: «لا تُقرِضْ أخاك بربا ربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء ما مما يُقرَض بربا. للأجنبي تُقرِض [بربا] (1)، ولكن لأخيك لا تُقرِض بربا» (سفر التثنية، الإصحاح 23، الفقرة 19 (2) - 20). وفيها مواضع أخرى مصرحة بأن الربا في القرض، وأن اليهود عصوا وأخذوه من إخوتهم وغيرهم. انظر «دائرة المعارف» للبستاني (3) تحت _________ (1) زيادة من «العهد القديم». (2) في الأصل: «16 - » سبق قلم. (3) (8/ 513).

(18/410)


كلمة «ربا». وهذا وإن لم يكن حجة لعدم الوثوق بالتوراة التي بأيديهم، ففيه تقوية لِمَا تقدَّم. نبَّهني عليه الفاضل نور محمد أبو الفداء الفاروقي رحمه الله. وأما السنة، فأولًا: الأحاديث المطلقة في ذم الربا. وثانيًا: الأحاديث التي فيها «الذهب بالذهب» «الدينار بالدينار» ونحوها بدون ذكر بيع. ومنها حديث أبي هريرة (1) مرفوعًا: «الذهب بالذهب وزنًا بوزن مثلًا بمثل، والفضة بالفضة وزنًا بوزن مثلًا بمثل، فمن زاد أو استزاد فقد أربى» (صحيح مسلم ج 5 ص 45). وحديثه (2) مرفوعًا: «الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما». وشرَّاح الحديث يحملون ذلك على البيع، ولا أرى له وجهًا صحيحًا، ولاسيما في الحديث الثاني، فإن قرض الدينار ليُقضى بدينار لا فضل بينهما أمر معروف مألوف، بخلاف بيع دينار بدينار لا فضل بينهما، فتدبَّر. ثم رأيت الباجي قد نبَّه في «شرح الموطأ» على ما ظهر لي، قال: «وقوله: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، يقتضي ثلاثة أشياء: المبايعة والمبادلة والقضاء ... فأما القضاء فقد يكون قضاءً عن سلف وقضاءً عن غير سلف ... » (المنتقى ج 4 ص 260). ويمكن أن يُعترض على هذا بأن المستقرض إذا زاد عند الأداء عن طيب نفس لم يكن ذلك ربًا، بل هو مستحب لحديث: «خياركم أحسنكم _________ (1) سبق تخريجه. (2) أخرجه مسلم (1588/ 85).

(18/411)


قضاءً» (1) وغيره. والجواب: أن قوله «فمن زاد» عام، والمستقرض الزائد عند الأداء عن طيب نفس خاص، فيُحمل العام على الخاص، ويبقى العام حجةً في الباقي. وسيأتي الفرق بين هذه الزيادة حيث جازت وبين الزيادة في بيع الفضة بالفضة يدًا بيد حيث مُنِعت، وإن طابت النفس، فانتظر (2). [ملحق 1] ومن السنة أيضًا أحاديثُ النهي عن بيع الذهب بالذهب إلَّا مثلًا بمثلٍ يدًا بيدٍ، وأنه من زاد أو ازداد فقد أربى، وهكذا الفضة والبُرّ والشعير والتمر والزبيب والملح. وهذا الدليل خاص بقرضها أو قرض ما في معناها بشرطِ زيادة، فإن قلنا بقول الحنفية: إن البيع لغةً وشرعًا هو تمليك المالِ بمالٍ بإيجابٍ وقبول عن تراضٍ منهما ــ كما حدَّه الجصَّاص في «أحكام القرآن» (3) ــ كانت دلالة هذه الأحاديث على أن القرض بشرطِ زيادةٍ ربًا بعموم اللفظ، وإذا قلنا: إن البيع لغةً وشرعًا أخصُّ مما قالوه، وإنه لا يتناول القرضَ ولو بشرطِ زيادة= كانت دلالة الأحاديث على ما ذكر من جهة المعنى، أعني أنها قياس من أعلى الأقيسة على ما يأتي تحريره إن شاء الله. ووجه الدلالة أن القرض المطلق أي بلا شرط زيادةٍ إنما سلَخَه الشارع عن البيع؛ لأنه كما نقله صاحب الاستفتاء عن «إعلام الموقعين» (4): «من _________ (1) أخرجه البخاري (2393) ومسلم (1601) من حديث أبي هريرة. (2) كتب المؤلف بعدها: (ملحق طويل ص 333). وهو الكلام الآتي من مكان آخر. (3) (1/ 469). (4) (3/ 111).

(18/412)


جنس التبرع بالمنافع كالعارية ... لا من باب المعاوضات، فإن باب المعاوضات أن يُعطِي كلٌّ منهما أصلَ المال على وجهٍ لا يعود إليه، وباب القرض من جنس العارية والمِنْحة وإفقارِ الظَّهر، مما يُعطَى فيه أصل المال لينتفع بما يستخلف منه، ثم يعيده إليه بعينه إن أمكن، وإلّا فنظيره». ونقل المستفتي عباراتٍ عن كتب الحنفية في التفرقة بين البيع والقرض، حاصلُها: أن البيع مبادلةُ مالٍ بمالٍ بالتراضي ليس فيها معنى التبرع، وقال بعضهم: لا على وجه التبرع. والبيع مبادلة شيء مرغوب فيه بشيء مرغوبٍ فيه. وأما القرض فإعارةٌ، حتى يصح بلفظ «أعرتُكَ»، وتبرُّعٌ حكمًا، وإن كان مبادلةً صورةً، وهو اصطناع معروفٍ وصلة. ثم منهم من قال: هو تبرعٌ ابتداءً مبادلةٌ انتهاءً. ومنهم من قال: تبرعٌ ابتداءً وانتهاءً؛ لأن بدله كأنه عين المقبوض، ولولا ذلك لكان ربًا. وزاد صاحب الاستفتاء قوله: «والحق أن المبادلة في البيع ركنٌ، وفي القرضِ ليس بركنٍ، نعم يستلزمه، وفرقٌ ما بين الالتزام واللزوم؛ لأن مقصود المشتري هو المبيع، ومقصود البائع هو الثمن، وغرضُ كلٍّ منهما إخراجُ ما في ملكه وتحصيلُ عوضه، والأحكام تترتب على الالتزام لا على اللزوم». أقول: إذا أُعطي الرجل باسم القرض خمسة آصُعٍ تمرًا رديئًا، وشرط أن يردَّ له خمسة آصُعٍ تمرًا جيدًا مثلًا، كانت هذه مبادلة مالٍ بمالٍ بالتراضي لا على وجه التبرع، لأن حقيقة التبرع هو إعطاء الشيء مجَّانًا بلا عوضٍ. [ص 2] فإن قلت: إن الهبة تبرع، ومع ذلك فقد قال الحنفية بأن الهبة المطلقة يكون لصاحبها الرجوعُ فيها إلّا في صور، منها: أن يعطيه الموهوب

(18/413)


له عِوضَها. قلت: قد صرَّحوا بأنه ليس بعوض حقيقةً، وإنما هو هبة مبتدأة، ويدلك على أن الهبة مع ذلك لم تصِرْ معاوضة سقوط حق الرجوع بنحو تصرف الموهوب له في الهبة. وفي «تنوير الأبصار مع شرحه الدر المختار» (1) في ذكر عوض الهبة المطلقة: «(ويُشترط فيه شرائط الهبة) كقبضٍ وإفراز وعدم شيوع ولو العوض مجانسًا أو يسيرًا». قال في حاشية «قرة عيون الأخيار» (2): «وذلك لأن العوض ليس ببدلٍ حقيقةً، إذ لو كان كذلك لما جاز بالأقل للربا، يحقِّق ذلك أن الموهوب له مالك للهبة، والإنسان لا يُعطي بدلَ ملكه لغيره، وإنما عوضه ليسقط حقُّه في الرجوع. وأيضًا فإنه لما كان العوض تمليكًا جديدًا، وفيه معنى الهبة المبتدأ، ولذا شرط فيه شرائطها، فيجوز بأقل من الموهوب ولو من جنسه، لا فرقَ بين الأموال الربوية وغيرها، ولو كان عوضًا من كلِّ وجه لامتنع في الأموال الربوية إلَّا مثلًا بمثلٍ يدًا بيدٍ عند اتحاد الجنس» (قرة عيون الأخيار ج 2 ص 438). فإن قلت: فقد قالوا في الهبة بشرط العوض: إنها تبرعٌ ابتداءً. قلت: خالف في ذلك زفر منهم والشافعية وغيرهم، فقالوا: إنها بيعٌ مطلقًا. واعترف قاضيخان في «فتاويه» (3) بأن القياس أنها بيع، والقول بأنها _________ (1) (8/ 472، 473) بحاشية «قرة عيون الأخيار». (2) (8/ 473) ط. دار الفكر ببيروت. (3) (3/ 279).

(18/414)


تبرعٌ ابتداءً استحسان فقط. أقول: والاستحسان مختلفٌ في حجيته، وقد فُسِّر في الأصول عدةَ تفاسير يقوى على بعضها ويضعف أو يبطُل على بعضها. وكأنه ههنا هو ما يقع في نفس العالم من استشعارِ فرقٍ بين قولِ القائل: بعتُك هذا الثوبَ بعشرة دراهم، وقولِه: وهبتُك هذا الثوبَ على أن تعطيني عشرةَ دراهم. وفيه أن هذا الاستشعار إنما هو من تخييلات الألفاظ، وأما المعنى فهو على البيع كما اعترضوا به، وفوق ذلك فالاستحسان مخالف للقياس، وما عُدِلَ به عن سَننِ القياس لا يُقاس عليه كما تقرر في الأصول، فلا يصح قياسُ القرض على الهبة. على أن هناك فرقًا، وهو أن لفظ الهبة صريحٌ في التبرع، وليس لفظ القرض كذلك، وإنما نزل القرض المطلق منزلةَ التبرع لأنه في المعنى كالعارية، فأما القرض بشرطِ زيادةٍ فقد تضافر فيه اللفظ والمعنى على عدم التبرع. ومع هذا فالذي ظهر لي من كتب الحنفية أنه لو قال: وهبتُ لك هذا الدرهم على أن تعطيني هذا الخاتم الفضّي ــ ووزنه أكثر من درهم أو أقل ــ لم يصحَّ ذلك؛ لأن هذه المعاملة وإن كانت عندهم تبرعًا ابتداءً فهي بيع انتهاءً. وأما ما في «القرة» (1) عند الكلام على العوض المشروط: «في الشُّرنبلالية عن البرجندي أنه يصح العوض وهو أقلُّ منها وهو من جنسها، ولا ربا فيه». _________ (1) (8/ 487).

(18/415)


فأرى أن قوله: «ولا ربا فيه» جملة حالية، والمعنى: وهو من جنسها بشرط أن يكون الجنس لا ربا فيه. أو ربما يكون هذا النقل في غير محلِّه، وتكون هذه المسألة في العوض الذي لم يُشرط على ما تقدم. ومما يدل على بطلان الهبة بشرط عوضٍ أقلَّ وأكثرَ من جنسِها والجنس ربوي: إرشاده [ص 3]- صلى الله عليه وسلم - من أراد أن يُعطي آصُعًا من تمرٍ رديء بصاعٍ من تمرٍ جيد، إلى أن يبيع تمرَه بالدراهم ثم يشتري بالدراهم تمرًا جيدًا. والحديث في «الصحيحين» وغيرهما (1). ولو كانت الهبة بشرط العوض مُسقِطة للربا لأرشده إليها؛ لأنها أيسرُ من أن يذهبَ فيلتمس من يشتري منه تمرَه بدراهم، ثم يذهب بدراهمه فيشتري بها تمرًا جيدًا. هذا، وفي المثال السابق مبادلة مرغوب بمرغوب؛ لأن الطالب راغبٌ في التمر الحاضر لحاجته، والمعطي راغب في التمر المؤجّل لجودته. وكذلك ما ذكروه من خصائص القرض لا يُوجَد شيء منها في المثال السابق، فليس بإعارة؛ لأن الإعارة كما في كتب الحنفية (2) «تمليك المنافع مجَّانًا»، قالوا: «وشرطها قابلية المستعار للانتفاع، وخلوُّها عن شرط العوض لأنها تصير إجارة». والإجارة من المعاوضات اتفاقًا، وصرَّح الحنفية بأنها بيعٌ للمنفعة، وأن الأجرة ثمنٌ للمنفعة، وأجازها بعضهم بلفظ البيع ومنعه آخرون [ص 4] بحجة أنه لا يصح بيع المجهول. _________ (1) أخرجه البخاري (2201، 2202) ومسلم (1593) عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة. (2) انظر «الدر المختار» (8/ 382، 383) بحاشيته «قرة عيون الأخيار».

(18/416)


ويُرَدُّ بأن عدم الصحة في بيع الأعيان لا يستلزم عدمَها في بيع المنافع، وليس في المثال المذكور تبرعٌ حكمًا، وإنما التبرع الحكمي إذا كان القرض في معنى الإعارة، بأن لم يشترط المقرِض إلَّا ردَّ مثلِ ما أعطى؛ لأنه حينئذٍ أباح للمستقرض أن ينتفع بالمال كما يُبيح المعير، ولم يشترط عليه إلّا ردَّ مثل ما أعطاه، كما لا يشترط المعير إلَّا ردَّ ما أعطى. غايته أنه لما تعذَّر أن ينتفع بالقرض مع بقاء العين اعتبر في الردّ مثلها، فأما في المثال المذكور فقد اشترط ردّ غير المثل، فبطلَ الشبَهُ بالعارية، ولا ضرورة إلى ذلك كالضرورة التي تدعو إلى جواز ردّ المثل، فقد بطل الشبهُ بالعارية وانتفى التبرع الحكمي، ورجعت المعاملة إلى المعاوضة والبيع. وليس في المثال المذكور اصطناعُ معروفٍ ولا صلة، لأن المعروف والصلة ما كان تفضلاً بدون طلب عوضٍ من المعطي، وليس فيه تبرع أصلاً لا ابتداءً ولا انتهاءً، أما في الابتداء فلأنه ابتدأه بشرط أن يردّ أفضل مما أخذ، فأمِنَ التبرع، وقد أجبنا عن شبهة الهبة، وأما في الانتهاء فلأنه لا يمكن في المثال أن يقال: البدلُ كأنه عين المقبوض. وقول المستفتي: «والحق أن المبادلة ... إلخ» مسلَّم في العوض الشرعي، وهو ما لم يشترط فيه الزيادة. والوجه في ذلك أن الشارع لما اعتبر المدفوعَ قضاءً كأنه عين القرض انصرفت المعاملة إلى المنفعة وإباحة المنفعة به، إذ لم يشترط المُقرِض في مقابلها شيئًا، وردُّ المثل ليس عوضًا عن المنفعة، وإنما هو بمنزلة ردّ المأخوذ على وزان العارية.

(18/417)


وقوله: «لأن مقصود المشتري هو البيع، ومقصود البائع الثمن» صحيح، وهذا المعنى موجود في المثال المذكور، أعني إقراضَ آصُعٍ من تمرٍ رديء بشرطِ ردِّ قدرها من تمرٍ جيد، فالآخذ مقصوده التمر الحاضر لسدِّ حاجته، والمعطي مقصوده التمر المؤجَّل لجودته. وقوله: «وغرض كلٍّ منهما إخراج ما في ملكِه وتحصيل عوضه»، فيه أن المقصود الحقيقي في البيع هو تحصيل العوض، وأما إخراج ما في الملك فهو تبع له. فمن اشترى ثوبًا بدينار فمقصوده تحصيل الثوب، وإنما أعطى الدينارَ لأنه لا يحصل له الثوبُ إلَّا به. ومقصود البائع تحصيل الدينار، وإنما أعطى الثوبَ لأنه لا يحصل له الدينار إلَّا به، وهذا واضح. وهذا المعنى موجود في المثال السابق. وقوله: «والأحكام تُبنَى على الالتزام لا على اللزوم» بعد تسليمه موجود في المثال السابق؛ لأن المعطي التزمَ إعطاءَ التمر الرديء بشرط أن يردّ له بقدره جيدًا، والآخذ قد التزم أن يردَّ تمرًا جيدًا مؤجَّلًا، ليأخذ بقدرِه تمرًا رديئًا حاضرًا. وقد كنت راجعتُ صاحبَ الاستفتاء، فذكرتُ له ما يأتي أو نحوه أن القرض الشرعي إنما لم يكن بيعًا لأن المقرِض لا يشترط إلَّا ردَّ المثل، فاعتبره الشارع عاريةً، واعتبر بدلَه كأنه عين المقبوض. فأما إذا اشترط أجودَ أو أزيدَ فقد بطلَ هذا المعنى، وصارت المعاملة بيعًا. ولا أذكر أنه أجابني، ولكنه قال في الاستفتاء: «وقد سلَّم بعض الأعيان [لعلّ غيري أيضًا راجعه] لما شافهتُهم في هذه المسألة أن القرض المطلق

(18/418)


ليس ببيعٍ، لكن إذا زيد فيه شرطُ النفع يصير بيعًا؛ لأنه حينئذٍ يفوت فيه كونه تبرعًا وصدقةً، فإذًا يكون بيعًا، وإذا صار بيعًا يجري فيه جميع أحكام بيع الأموال الربوية، فيكون الفضل». [ص 5] ثم قال: «وفيه أولًا أنّا لا نسلِّم أن يصدق عليه أنه معاوضة ابتداءً وانتهاءً؛ لأنه لا عوضَ له في الحال، كما مرَّ عن ملك العلماء». أقول: هذا باطلٌ قطعًا، وإلّا كان كل بيع إلى أجلٍ كذلك، وحينئذٍ يلزمك أن تجوِّز ربا النسيئة في بيع درهم بدرهمين إلى أجل. وقد أطلق الحنفية أن الإجارة تصحّ بلفظ الإعارة، وتكون إجارةً بمالَها وعليها. قال: «وقد أخرج ملكُ العلماء الهبةَ بالعوض عن البيع بدليل أنها ليست بمعاوضة في الابتداء ... ». أقول: قد قدمنا إبطالَ هذا. قال: «بدليل أن الملك فيها يقف على القبض ... ». أقول: هذا الدليل دعوى مجردة، وزفر منكم والشافعية وغيرهم لا يقولون به. ومن قال: إنها تكون هبةً ابتداءً فأراه إنما قصد الاحتياط، كما يدلّ عليه ما صرَّحوا ببنائه على هذا القول، من اشتراط التقابض في العوضين، وعدم ثبوت الملك قبل القبض ونحو ذلك. وصاحب الاستفتاء يحاول من تشبيه القرض بشرط الزيادة بالهبة أن يحلِّل ما حرَّم الله تعالى من الربا. فأما ما قاله صاحب «قرة عيون الأخيار» (1) في أثناء الكلام على الهبة _________ (1) (8/ 487).

(18/419)


بشرط العوض: «إن في الشُّرنبلالية عن البرجندي أنه يصح العوض، وهو أقلُّ منها وهو من جنسها، ولا ربا فيه»، فلعل قوله: «ولا ربا فيه» جملة حالية، والمعنى: وهو من جنسها الذي لا ربا فيه، أي بخلاف ما إذا كان من جنسها وهو ربوي، فلا يصحّ؛ لأنها بيعٌ في الجملة ويمكن أن يكون محلُّ هذه المسألة في الهبة المطلقة، فإنهم ذكروا أن عوضها يصح وإن كان أقل، فقال بعد قول المتن: «ويشترط فيه شرائط الهبة ... »: «ولو العوض مجانسًا أو يسيرًا». قال صاحب «قرة عيون الأخبار» (1) هناك: «أي من جنس الهبة ويسيرًا». قال: «وثانيًا: أن ملك العلماء قد ذكر: أما ركن البيع فهو مبادلة شيء مرغوب بشيء مرغوب، وفي القرض الطلبُ والرغبةُ في الطرفين مفقودٌ البتَّةَ، فلا يمكن أن يوجد البيع عند فواتِ ركنه. على أن في القرض يُعطِي المقرِض ولا يريد أن لا يعود إليه ما أعطى، بخلاف البيع؛ لأن كلًّا منهما يريد وينوي أن لا يعود إليه ما خرج عن يده». أقول: قد مرَّ بيان الرغبة من الجانبين في المثال السابق، على أن القرض الشرعي فيه رغبة من الجانبين، فإن المقرِض يُقرِض التماسَ الأجر والمعروف، ولو رُدَّ عليه نفس ما أعطاه لفاته بعضُ ذلك كما يأتي قريبًا، فأما رغبة المستقرض فواضحة، ولولا رغبته ما استقرض. وقوله: «على أن في القرض ... إلخ»، قد مَرَّ قريبًا أن المقرِض قرضًا شرعيًّا يريد وينوي أن لا يعود إليه ما خرج عن يده؛ لأن في ذلك فوات ما _________ (1) (8/ 473).

(18/420)


قصده من المعروف والصلة وانتفاع المستقرض، وما يتبع ذلك من الأجر والثواب. فأما إذا اشترط الزيادة فالأمر أوضح، فالذي يعطي تمرًا رديئًا ليردَّ إليه بقدره جيدًا لا يخفى أنه لا يريد أن يعود إليه رديئه ويفوتَه الجيّد. ثم قال: «وثالثًا: أن القرض وإن اشترط فيه الزيادة فلا يصير بيعًا أيضًا لأمورٍ: الأول أن هذا الشرط خلاف مقتضى العقد، لأن مبنى القرض على التبرع، وإذا اشترط فيه الزيادة فات عنه كونه تبرعًا، ومن الأصول أن الشرط إذا كان خلافَ مقتضى العقد يُفسِده، ولكن القرض من العقود التي لا تفسد بالشروط الفاسدة، بل الشرط يصير مُلغًى والعقد صحيحًا، فإذا بقي القرض على صحته لم يصِرْ بيعًا ... ». ثم نقل من كتب الحنفية ما يُصرِّح بذلك. فأقول: فإذا كان القرض إذا اشتُرِطتْ فيه الزيادة فاتَ كونه تبرعًا كما اعترفتَ به هنا، فما بالك أتعبتَ نفسَك وأتعبتَ أهلَ العلم وشَغلتَ الحَفَظةَ بما تقدمَ من إنكار ذلك والشغب فيه؟ بقي أنه لا يصير بيعًا ومعاوضةً بمجرد الشرط، بل يُلغَى الشرطُ، فيبقى القرض قرضًا شرعيًّا، وتبرعًا لا بيعًا، فهذه مسألة أخرى، فإنما ادَّعينا أن القرض مع شرطِ ردّ الأجود أو الأزيد بيع، وعَنَينا بذلك كما هو واضح ما دامَ الشرط قائمًا، وهو الأمر الذي تحاوله في رسالتك هذه، فإنك تحاول تصحيح الشرط ولزوم المشروط كما لا يخفى. فهذا الأمر الذي تُحاوِله بيعٌ لا محالةَ، لفواتِ كونِه تبرعًا، كما اعترفتَ به آنفًا، فتجري عليه أحكام البيوع حتمًا. فإذا أعطاه خمسة آصُعٍ بشرط أن يردَّ ستةً كان فيه الربا من ثلاثة أوجه: ربا القرض وربا الفضل وربا النسيئة، ويكون داخلاً في الأحاديث المتواترة في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبرّ بالبرّ والشعير بالشعير والتمر بالتمر والزبيب بالزبيب، ويدخل

(18/421)


تحت قولِ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فمن زاد أو استزاد فقد أربَى» (1) حتمًا. أما المسألة الأخرى ــ أعني أن مثل هذا الشرط لا يُفسِد المعاملةَ، ولكنه يُلْغَى الشرط ــ فقد اختلف فيها العلماء، فالشافعية وغيرهم يقولون: تبطُل هذه المعاملة أصلًا، والحنفية يقولون: بل يُلغى الشرط فيبقى العقد صحيحًا، ولكلٍّ وِجهةٌ هو مُولِّيها. ثم قال: «والأمر الثاني: أن الفقهاء يُصرِّحون أن النفع المشروط في القرض شبيه بالربا، فلو يستحيل القرض بشرط النفع إلى البيع لصار هذا النفع ربًا حقيقةً، لا شبيهًا به». أقول: إنما نقلتَ هذا القول عن ملك العلماء وعن ابن رشد، وقد دفعنا ذلك فيما تقدم، وبيَّنّا أنه ربًا حقيقةً. وقد نقلتَ أنت في استفتائك عمن هو أعلم من هذين بكتاب الله وسنة رسوله وفقهِ الأئمة وأسرارِ الشريعة ما يخالف ذلك، نقلتَ عن الجصَّاص الحنفي وغيره من الحنفية وغيرهم أنه ربًا حقيقي، بل ونقلتَ عن ابن القيم والشاه ولي الله أنه هو الربا الحقيقي. ثم اعترفتَ آنفًا بقولك: «وإذا اشترط فيه الزيادة فات عنه كونُه تبرعًا». وبيَّنّا أنه إذا فات عنه كونُه تبرعًا صارَ معاوضةً بالضرورة. والمعاوضةُ المحتملة هنا إما البيع وإما الإجارة وإما الهبة بشرط العوض، وقد حقّقنا أن الهبة بشرط العوض بيع، والإجارة لا وجهَ لها؛ لأنها إنما تكون على المنافع مع بقاء العين، والشارع إنما نزَّلَ القرضَ منزلةَ إباحةِ المنافع، ولم يلتفت إلى تلف العين، تسهيلاً للتبرع والمعروف والصلة، وليس مع الشرط تبرعٌ ولا معروفٌ _________ (1) سبق تخريجه.

(18/422)


ولا صلة. وإذا زال سبب التنزيل والتسهيل رجعت المعاملةُ إلى أصلها، فلا يصحُّ اعتبارُ المعاملة المذكورة إجارةً، إذ من شرط الإجارة بقاء العين، فلم يبقَ إلَّا البيعُ. ثم قال: «والأمر الثالث: لو صار القرض بشرط النفع بيعًا لكان بيعَ الصرف، وبيعُ الصرف إذا لم يكن فيه تقابض البدلين في المجلس أو يكون فيه شرط الزيادة يَفسُد، ويتعيَّن النقد في الصرف ــ وإذا فسدَ بيعُ الصرف فلا تكون هذه (1) الدراهم والدنانير ملكًا للمستقرض، فلا يكون الربح والمنفعة الحاصلة منه طيبًا، مع أن الفقهاء صرَّحوا بأنه طيب». ثم نقل الطيب عن بعض فتاوى الحنفية. أقول: قد بينّا أنه إذا أُلغي الشرط كما يقول الحنفية لا يكون بيعًا، فالحنفية يقولون: إن الشرط يُفسِد البيع ولا يُفسِد القرض، ولكنه يُلغي الشرط، فالشرط في الصرف ورد على بيعٍ [فأفسده، والشرطُ] في القرض ورد على قرضٍ فلم يُفسِده، ولكنه يلغُو الشرط، وإنما يتم [ ........ ] (2) فحينئذٍ يقال: لو كان بيعًا لكان إذا ورد [ ...... ] وذلك لأن العوض ليس ببدلٍ حقيقةً، إذ لو كان كذلك لما جاز بالأقل. يحقِّق ذلك أن الموهوب له مالك للهبة، والإنسان لا يُعطي بدلَ ملكِه لغيره، وإنما عوَّضه ليسقط حقُّه في الرجوع ... ». وفي موضع آخر من «الدر» (3): «ومراده العوض الغير المشروط، وأما _________ (1) في الأصل: «فلا يكون هذا». (2) يوجد خرم في الأصل في مكان النقط. (3) «الدر المختار» مع تكملة حاشية ابن عابدين (8/ 477).

(18/423)


المشروط فمبادلة كما سيجيء». وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم - مرشدًا لمن يريد شراء التمر الجيد بالرديء متفاضلاً: «بِعِ الجمعَ بالدراهم، ثم ابتَعْ بالدراهم جنيبًا» (1). فلو كانت الهبة بشرط العوض تُسقِط الربا لأرشده إليها، لأنها أسهلُ من أن يذهب فيبيع ثمره، ثم يرجع فيشتري بالدراهم تمرًا جيدًا. ووراءَ هذا فقد أثبتنا أن الهبة بشرط العوض بيعٌ البتَّة، والله أعلم. [ص 7] ونحن لم نقل: إن القرض الشرعي بيع، وإنما قلنا: إن القرض بشرطِ الزيادة بيع، فتدبَّرْ. قال: «والأمر الرابع: أن القرض إذا اشترط فيه النفع يكون مكروهًا عند الفقهاء، قال محمد رحمة الله عليه في كتاب الصرف: إن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يكره كلَّ قرضٍ جرَّ منفعةً. قال الكرخي: هذا إذا كانت المنفعة مشروطةً في العقد، بأن أقرضَ غلَّةً ليردَّ عليه صحاحًا، أو ما أشبه ذلك، فإن لم تكن المنفعة مشروطة في العقد، فأعطاه المستقرض أجودَ مما عليه، فلا بأسَ. (عالمكيري) (2). وأخرج الزيلعي (3) عن عطاء: كانوا يكرهون كلَّ قرضٍ جرَّ منفعةً. فلو ينقلب القرض من شرط النفع إلى البيع لكان نفعه حرامًا لكونه ربًا، لا مكروهًا؛ لأن المكروه غير الحرام، ودليلهما (4) متغايران. قال العيني (5): _________ (1) سبق تخريجه. (2) «الفتاوى الهندية» (3/ 202). (3) «نصب الراية» (4/ 60). (4) كذا في الأصل نقلًا عن «الاستفتاء». (5) «عمدة القاري» (11/ 200) نقلاً عن الماوردي من كلامه.

(18/424)


أجمع المسلمون على تحريم الربا وأنه من الكبائر ... ». أقول: تاب الله عليك أيها الصديق! لقد وقعتَ في تمويهٍ يُشبه ما قال ديك الجن (1): ونلْ من عظيم الوزرِ كلَّ عظيمةٍ ... إذا ذكرتْ خافَ الحفيظانِ نارَها إنك لتعلم أن عامة المسلمين الآن وطلبة العلم وأكثر العلماء ولاسيما من غير الحنفية يفهمون إذا قيل: هذا مكروه وليس بحرام، أن المعنى: يُلام فاعلُه ولا يُفسَّق، ولا إثمَ عليه، ولا يعلمون ما تعلمه أنت أن السلف يُطلقون المكروه على الحرام بناءً على أصل اللغة، كما قال الله عزَّ وجلّ بعد أن نهى عن أن يُجعَل معه إله آخر، وأن يعبدوا غيرَه، ونَهْر الوالدين، والتبذير، وقتل الأولاد، والزنا، وقتل النفس التي حرَّم الله، وأكل مال اليتيم، وقَفْوِ ما ليس له به علم، والمشي في الأرض مرحًا، قال سبحانه بعد ذكر ذلك: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [اقرأ سورة الإسراء: 22 ــ 38]. وذكر أصحابكم في كتب الأصول عن محمد بن الحسن أنه قال: «كل مكروه حرام» (2)، وأنه ذكر في «المبسوط» أن أبا يوسف قال لأبي حنيفة: إذا قلتَ في شيء: أكرهُه، فما رأيك فيه؟ قال: التحريم. نعم، للحنفية اصطلاح لا يكاد يعرفه غيرهم، وهو أن الحرام ما ثبت تحريمه بدليل قطعي، _________ (1) «ديوانه» (ص 108). (2) انظر «تيسير التحرير» (2/ 134).

(18/425)


والمكروه ما ثبت تحريمه بدليل ظني (1)، وقد يُستعمل فيما لا يأثم فاعلُه ولكنه غير محمود، وإذا بينوا قالوا: كراهة تحريم أو كراهة تنزيه. وقد أشرتَ إلى هذا بقولك: «ودليلهما متغايران»، ولكن هذه الإشارة لا تكفي لدفع الإيهام، بل الذي يظهر من صوغ العبارة تعمُّد هذا الإيهام، والله المستعان. والمقصود مع صرف النظر عن هذا الإيهام أن صاحب الاستفتاء يرى أن ما نقله عن الإمام وصاحبه يُشعِر بأن القرض الذي يجرُّ منفعةً ليس قطعيَّ التحريم عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، ولو كان عندهما ربًا لنصَّا على أنه قطعيُّ التحريم. فنقول بعد العلم بأن هذا لا يَنفي أصلَ التحريم بل يُثبِته: الجواب من وجوه: [ ....... ] كثيرًا ما يطلقون الكراهية في التحريم القطعي، وفي كتب الحنفية أمثلة من ذلك [ ..... ] كتبهم بأن اشتراط الزيادة في القرض حرام، واصطلاحهم أنهم [ص 8] يَعنُون قطعيَّ التحريم، حتى صرَّح محدِّث الحنفية البدر العيني في «شرح البخاري» (2) بقوله: «أجمع المسلمون نقلاً عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن اشتراط الزيادة في السلف ربًا». وقد نقله صاحب الاستفتاء في صفحة 17، واعترضه، وسنبيِّن بطلانَ اعتراضه. وصرَّح كبْشُ الحنفية الجصَّاص في «أحكام القرآن» (3) أن الربا في _________ (1) في الأصل: «قطعي»، وهو سبق قلم. (2) «عمدة القاري» (12/ 45، 135). (3) (1/ 465، 467).

(18/426)


قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} يتناول اشتراط الزيادة في السلف. وقد نقله صاحب الاستفتاء أيضًا. وصرَّح حكيم الحنفية الشاه ولي الله الدهلوي (1) بأن ذلك هو الربا الحقيقي، وما عداه فهو ربا غير حقيقي. ونقله صاحب الاستفتاء أيضًا. وكلام هؤلاء ظاهر في أن الكراهية في كلام محمد أراد بها التحريم القطعي. الوجه الثاني: أنه من المحتمل أن يكون الذي لم يثبت عندهما أنه حرام قطعي، وإنما ثبت أنه حرام ظني، هو اشتراط المنفعة، والمتبادر إلى الذهن من لفظ المنفعة هو ما ليس بزيادة في العين ولا في الصفة، وإنما هو نحو أن يشترط عليه أن يحمل معه متاعًا إلى بيته. وإذا سلَّمنا أن المنفعة أعمُّ من ذلك فلعلهما إنما عبَّرا بالكراهية التي هي لغةً أعمُّ من التحريم القطعي والظني، قابلة لعموم كلمة المنفعة. الوجه الثالث: لو سلَّمنا أن أبا حنيفة ومحمدًا رحمهما الله إنما ثبت عندهما حرمة اشتراط الزيادة في القرض بدليل ظني، فهذا لا يدل على أنه ليس عليه دليلٌ قطعي اطلع عليه غيرهما. وكأنهما لم يستيقنا الإجماعَ على تحريمه، وتحقَّق بعدهما الإجماع، كما نقله جماعةٌ لا يُحْصَون من علماء المذاهب، كما تقدم بعض ذلك، ونصُّ العيني قريب. وسيأتي بحث الإجماع إن شاء الله تعالى. الوجه الرابع: أنه على فرض أنه لم يثبت عندهما دليلٌ قطعي على _________ (1) «حجة الله البالغة» (2/ 106).

(18/427)


التحريم، فذلك لا ينافي أنه عندهما ربًا، فإنه ليس لهما ولا لغيرهما اصطلاح أنه لا يُطلَق الربا إلَّا فيما ثبت بدليل قطعي أنه ربا. ثم قال: «قال ابن الهمام (1): وأحسنُ ما هنا عن الصحابة والسلف ما رواه ابن أبي شيبة في «مصنِّفه» (2): حدثنا [أبو] (3) خالد الأحمر عن حجاج عن عطاء قال: كانوا يكرهون كلَّ قرضٍ جرَّ منفعةً. أي الصحابة يكرهون النفع المستحصَل من القرض، فهذا دليل على أن الصحابة أيضًا يفرّقون بين النفع المستحصل من القرض وبين الربا، حيث يجعلون الأول مكروهًا والثاني حرامًا». أقول: قد قدمنا أن الكراهة في اللغة أعمُّ من اصطلاحكم، وقد أطلقها القرآن كما سمعتَ في مقابل الشرك وغيره من الكبائر، وعطاء لم يحكِ عن الصحابة أنهم قالوا: نكره، وإنما قال: «كانوا يكرهون» واصطلاحكم الذي لم يلتزمْه أئمتُكم إنما نشأ بعد عطاءٍ بزمانٍ. ويأتي ههنا ما قدمناه في الوجه الثاني قريبًا، ويشهد لذلك ما تقدم عن عمر، وفيه: «فدَعُوا الربَا والريبةَ». على أنه قد جاء عن الصحابة أن ذلك ربًا وأنه خبيث، كما نقلتَه أنتَ. وسيأتي إن شاء الله تعالى. [ص 9] ثم قال: «ومن ادعى أن القرض مطلقًا بيعٌ أو بشرط النفع، فلابدَّ عليه من البيان، ودعوى البداهة في موضع الخلاف غير مسموع». _________ (1) «فتح القدير» (7/ 251). (2) رقم (21077). (3) ما بين المعكوفتين من المؤلف، وهو كذلك في «المصنّف». وسقط من «فتح القدير».

(18/428)


أقول: أما على ما قاله الجصَّاص في «أحكام القرآن» (1): إن البيع «تمليكُ المال بمالٍ بإيجابٍ وقبولٍ عن تراضٍ منهما» فلا يخفى دخول القرض مطلقًا، ولكن العلماء أخرجوا القرض بأن الشارع لم ينظر إلى تَلَف العين، بل نزَّل ما يردُّه المستقرض منزلة العين المأخوذة، فكأنها قائمة لم تتلَفْ، وإنما انتفع المستقرض بها ثم ردَّها كالعارية سواء. وقد أكثر صاحب الاستفتاء من النقل عنهم، ولخَّصنا ذلك فيما تقدم، وبينَّا أن إعراضَ الشارع عما هو واقع من تلَف العين المعطاةِ وكونَ المردود غيرَها بدلاً عنها= إنما كان تسهيلاً للمعروف والصلة وفعل الخير. فإذا انتفى المعروف والصلة وفعل الخير، وحلَّ محلَّها ما يناقضُها، وهو اغتنام المقرِض ضرورةَ المستقرض، فيذبحه كما تقول العامة، وقد أشار القرآن إلى ذلك، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}. فسَّرها ابن جرير بقوله (2): «ولا يقتلْ بعضكم بعضًا وأنتم أهل ملَّةٍ واحدة ودعوةٍ واحدةٍ ودينٍ واحد، فجعل جلَّ ثناؤه أهلَ الإسلام كلَّهم بعضهم من بعض، وجعل القاتل منهم قتيلاً في قتله إياه منهم بمنزلة من قتلَ نفسَه». ثم روى معنى ذلك عن السُّدّي وعطاء. أقول: فإذا انتفى السبب الذي لأجله نزَّل الشارعُ الواقعَ بمنزلة غيرِ الواقع، وحلَّ محلَّه ما يناقضُه، فكيف يبقى أثره؟ وإذا لم يبقَ أثرُه لم يكن لنا _________ (1) (1/ 469). (2) تفسيره (6/ 637). ط. دار هجر.

(18/429)


بُدٌّ من النظر إلى الواقع. وبعبارةٍ أوضحَ إن الشارع في القرض الشرعي نزَّل الواقع منزلةَ غير الواقع لسببٍ، فكيف يصحُّ أن يُقاس عليه ما انتفى فيه ذلك السبب ووُجِد ما يُناقضُه؟ وقد زاد الحنفية على تعريف الجصَّاص ونقَصوا، ولخَّصنا ذلك فيما تقدم، وبينّا أن القرض بشرط الزيادة خارجٌ عن تعريفاتهم للقرض، داخلٌ في تعريفاتهم للبيع. وأما على المختار عندنا من أن القرض ولو بشرطِ زيادةٍ لا يَشملُه لفظ البيع لغةً ولا شرعًا، فقد قدَّمنا أنه على هذا القول يكون القرض بشرطِ زيادة في معنى البيع بلا فرقٍ، فيستحقُّ جميعَ أحكامه، فيدخل في عموم الأحاديث في النهي عن بيع الذهب بالذهب وما معه من جهة المعنى، ويكون هذا أعلى القياسات، ومحلُّ إيضاح ذلك بحثُ القياس إن شاء الله تعالى. ثم قال: «وقد ظنَّ بعضهم أن بيع خمس رَبَابيّ (1) بستّ رَبَابِيّ يكون ربًا بالاتفاق، لكن إذا أقرض خمسَ رَبَابيّ بشرط أن يردَّ عليه ستَّ رَبابيّ كيف لا يكون هذا ربًا، مع أنه لا فرقَ بينهما إلا في اللفظ. ويُزَال بأنه لا مجالَ للقياس فيما وردَ به النصُّ، لأن الشارع عليه السلام جعلَ الأول بيعًا وربًا لا الثاني. قال ابن قيم الجوزية (2): «وكذلك صورة القرض وبيع الدرهم [بالدرهم إلى أجل، صورتهما واحدة، وهذا قربة صحيحة، وهذا] معصية _________ (1) جمع رُبِّيّة عملة بلاد الهند. (2) «إعلام الموقعين» (3/ 122).

(18/430)


باطلة بالقصد». أقول: ظاهر قوله: «لا مجالَ ... لا الثاني» أن النصَّ وردَ بأن القرض بشرط الزيادة ليس بربًا، وهذه دعوى باطلة، أما على تعريف الحنفية للبيع والقرض فقد علمتَ أن القرض بشرط الزيادة بيعٌ، فدخل في النصوص الواردة في ربا النسيئة كما سلف. وأما على ما نختاره فإنه يدخل في تلك النصوص من جهة المعنى كما قدَّمنا، وليس هناك نصٌّ يخالف هذا، بل قد سبق من النصوص ما يوافقه ويزيد عليه. ولكنه عاد فكتب بالهامش ما لفظه: «مثاله كمن باع خمسَ ربابي بخمس ربابي نسيئةً، لا يجوز، بخلاف من أقرضَ خمسَ ربابي ليعيدها بعد أيام، فالأول فيه بيع وفيه ربا، وهو حرام ومعصية، والثاني ليس ببيع، وليس فيه ربا، بل هو قربة وصدقة». فحاصلُ كلامه أن الشرع وردَ بالفرق بين بيع الدراهم بمثلها نسيئةً فحرَّمه، وبين إقراضها ليردّ مثلها فأحلَّه، فكما لم يحرم القرض في هذا مع أنه لو كان بيعًا لحرم، فكذلك فيما إذا أقرض بشرط الزيادة. ويُجاب عن هذا بأن القرض بشرط الزيادة إما بيعٌ حقيقةً على تعريف الحنفية للبيع، وإما في معناه على ما اخترناه، بخلاف القرض الشرعي فليس بيعًا ولا في معنى البيع على ما قدَّمناه. نعم، يؤخذ من مثاله دليلٌ آخر هذه صورته: «بيع الدراهم بمثلها إلى أجلٍ وإقراضُها ليُردَّ مثلُها هما سواء، فإن كان الأول بيعًا فالثاني بيع أو في معنى البيع، وإن كان الثاني قرضًا فالأول قرض أو في معنى القرض، ومع

(18/431)


ذلك فرَّق الشارع بينهما مراعاةً للَّفظ، فدلَّ ذلك على أن للَّفظ أثرًا في الفرق، وإذا ثبت أن للَّفظ أثرًا في الفرق بطلَ قولكم: إنه لا فرقَ بين بيع الدراهم بأكثر منها إلى أجلٍ، وبين إقراضها ليردّ أكثر منها، بل يكون الثاني بيعًا أو في معنى البيع، فيجب أن يكون حكمه حكم البيع». والجواب أن بين بيع الدراهم بمثلها إلى أجلٍ وبين إقراضِها ليردّ مثلها فروقًا: الأول: أن الشارع استحبَّ القرض وندبَ إليه، ورغَّب فيه، ووعدَ بالثواب عليه، ولم يأتِ مثلُ ذلك في البيع. وهذه المعاملة يصحُّ اعتبارها قرضًا ويصحُّ اعتبارها بيعًا، فإذا عدلَ المتعاقدان عن الصيغة المستحبة المرغَّب فيها إلى الصيغة التي ليست كذلك، استحقَّا أن يُشدَّد عليهما. الفرق الثاني: أنه قد تقدم أن الشارع سلخَ القرضَ عن البيع بتنزيله منزلةَ العارية، وكأن المردود هو عين المأخوذ، وإنما فعل ذلك تسهيلاً للمعروف والصلة، [ ......... ] فقد خالفَا ذلك التنزيل، فلا يستحقانِ التسهيل. [ص 11] الفرق الثالث: أن البيع موضوع للمغابنة، فصيغتُه تُشعِر بذلك. والقرض موضوع للمعروف والصلة، وصيغتُه تُشعِر بذلك. والشارع إنما نزَّل القرضَ منزلةَ العارية تسهيلاً للمعروف والصلة، فإذا عَدلَ المتعاقدان إلى الصيغة التي تُشعِر بخلافِ ذلك لم يستحقَّا هذا التسهيلَ. الفرق الرابع: أن هذه المعاملة قد لا تكون معروفًا وصلةً في الواقع، كأن يريد المعطي سفرًا أو يخاف سرقةً أو غصبًا، أو أن لا يصبر عن إنفاق الدراهم إذا بقيت تحتَ يده، ويخاف إذا أودعَها أن يتلَف فلا يكون على

(18/432)


المودع ضمان، أو يخاف الزكاةَ، والوديعةُ لا تُسقِط الزكاة بخلاف الإقراض. هذه بعض تلك [الفروق]. والشارع إنما سلخَ القرضَ عن البيع بالتنزيل المعلوم تسهيلاً للمعروف والإحسان، والقصدُ أمرٌ خفيٌّ وغير منضبط، أما خفاؤه فواضح، وأما عدم انضباطه فعند اجتماع القصدينِ ــ وهو قصدُ المعروف وقصد غيره من الفوائد ــ فإنه لا ينضبط الغالب منهما حتى يُناطَ به الحكمُ. وقد تقرر في الأصول أن السبب الحقيقي إذا كان خفيًّا أو غير منضبطٍ يُعدَلُ عنه إلى ضابطٍ يشتمل عليه غالبًا. فالشارع جعلَ الضابطَ هنا هو الصيغة، فإن اختار المتعاقدانِ صيغةَ القرض كان ذلك ضابطَ إرادة المعروف والإحسان، لأنه الظاهر، والصيغة تُشعِر به. وإن عدلَا إلى صيغة البيع كان ذلك ضابطَ إرادةِ فائدةٍ غير المعروف والإحسان، لأن الصيغة تُشعِر بذلك. ولعلَّ هذا هو الذي عبَّر عنه ابن القيم بالقصد، فإن عبارته التي نقلها عنه صاحب الاستفتاء هي في مبحث طويل نفيس، حقَّق فيها وجوبَ مراعاة القصود في العقود إذا ظهرت وانضبطتْ، وأن لا يُوقَفَ مع الألفاظ والصيغ، ومما قال في هذا البحث (1): «وهكذا [الحيل الربوية، فإن الربا لم يكن] حرامًا لصورته ولفظه، وإنما كان حرامًا لحقيقته التي امتاز بها عن حقيقة البيع، [فتلك الحقيقة] حيث وُجِدتْ وُجد التحريم، في أيّ صورة رُكِّبت، وبأيّ لفظٍ عُبِّر عنها، فليس [الشأن في الأسماء وصور العقود، وإنما الشأن في] حقائقها ومقاصدها وما عُقِدتْ له». [ص 12] وكرَّرَ هذا المعنى مرارًا. _________ (1) «إعلام الموقعين» (3/ 126).

(18/433)


ولنقتصر على هذه الفروق. بقي علينا أن نبيِّن أنه لا يوجد منها فرق واحد ولا ما يُشبهه ما بين بيع الدراهم بأزيدَ منها إلى أجلٍ وبين إقراضها بشرطِ ردِّ أزيدَ منها. أما الفرق الأول: فإن الشارع إنما استحبّ القرض ورغَّب فيه لما فيه من الإحسان والمعروف، وهذه المعاملة نقيض الإحسان والمعروف، فالمتعاقدانِ إنما عبَّرا عن المعاملة التي يبغضها الله تعالى بلفظٍ وُضِع لما يحبه، ولا يخفى أن ذلك مما يوجب التشديد لا التسهيل. وأما الثاني فالبيع هنا حرام بغير تنزيل، فإذا عدلَا عن صيغته إلى صيغة القرض لم يكونا مخالفينِ لتنزيلٍ بُنيت عليه حرمةُ البيع حتى يستحقّا التحليل. وأما الثالث فلفظ القرض وإن أشعرَ بالمعروف والصلة، فالشرط ينفي ذلك ويحقّق أن المقصود المغابنة. وأما الرابع فالقصد هنا ليس خفيًّا أو غير منضبط؛ لأن الشرط يوضح أن مقصود المعطي ذبحُ المعطَى. وقد نقل صاحب الاستفتاء من كتاب «المعرفة» للبيهقي كلامًا للشافعي يدلُّ على أن القرض بشرط الزيادة عنده بيع باطل، وهذا لفظه: «قال الشافعي: وكان من ربا الجاهلية أن يكون للرجل على الرجلِ الدينُ، فيحلّ الدين، فيقول له صاحب الدين: أتَقضِي أم تُربي؟ فإن أخَّره زاد عليه وأخَّره ... قال الشافعي: فلما رُدَّ الناسُ إلى رؤوس أموالهم كان ذلك فسخًا للبيع الذي وقع على الربا» (1). _________ (1) «معرفة السنن والآثار» (8/ 29).

(18/434)


فسمَّى الشافعي اتفاقَهما على الإمهال بشرط الزيادة في الدين بيعًا، والإمهال عنده قرضٌ أو كالقرض، لجمعه بينهما في عدم لزوم الأجل، فإنه يرى أنه لو أقرضه إلى أجلٍ لا يلزم المقرِضَ الوفاءُ بالأجل، بل له المطالبة قبله، وكذلك لو حلَّ الدينُ فجدَّد الدائن أجلاً آخر لا يلزمه الوفاء به. قال في كتاب «اختلاف العراقيين»: «قال الشافعي رحمه الله تعالى: وإذا كان للرجل على الرجل مالٌ حالٌّ من سلفٍ أو من بيع أو أيّ وجهٍ كان، فأَنظَره صاحب المال بالمال إلى مدةٍ من المدد، كان له أن يرجع في النظرة متى شاء ... ». «الأم» (ج 7 ص 92) (1). وقد توهَّم صاحب الاستفتاء أن قول الشافعي: «كان ذلك فسخًا للبيع» يريد به العقد الأول، في نحو أن يبيع الرجل ثوبًا بعشرة دراهم إلى أجل، ثم عند حلول الأجل يتفقان على الإمهال والزيادة في الدين. فتوهَّم أن مراد الشافعي بقوله: «كان ذلك فسخًا للبيع» هو بيع الثوب، وراح يُدندِن على هذا، وهذه عبارته: «والحجة القوية على أن المراد في كلام الذين ذكروا في تفسير ربا الجاهلية لفظ الدين مطلقًا هو الثمن المؤجل: هي أن شُرَّاح قولهم قد فسَّروه به. قال البيهقي: قال الشافعي: وكان من ربا الجاهلية .... ، ظهر من كلام الشافعي أمرانِ: الأول أن ربا الجاهلية كان في البيع. والثاني أن المراد برأس المال الذي ورد في القرآن هو المال الذي جُعِل في ابتداء البيع، وكذلك المراد من حقٍّ إلى أجلٍ هو الثمن المؤجل». أقول: أما الأمر الأول فكأن صاحب الاستفتاء لم يتدبر، فإن الشافعي _________ (1) (8/ 230) ط. دار الوفاء.

(18/435)


إنما قال: «كان من ربا الجاهلية»، ولم يقل: «[كان ربا الجاهلية]». فأفهمَ كلامُه أن هذا نوعٌ من رباهم، وهناك نوعٌ آخر أو أنواع. وأما الثاني فأنت خبيرٌ أن ردّ الناس إلى الثمن الذي جُعل في ابتداء البيع ليس فيه فسخٌ لبيع الثوب، ولا وقع بيع الثوب على ربا، بل كان ذلك فسخًا للبيع الذي وقع على الربا، فتدبَّرْ وتعجَّبْ، والله المستعان. * * * *

(18/436)


[ق 14] شبهة ودفعها أخرج ابن جرير (1) وغيره من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال في الربا الذي نهى الله عنه: كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدَّينُ، فيقول: لك كذا وكذا وتؤخِّر عني، فيؤخر عنه». قال يحيى القطان: لم يسمع ابن أبي نجيح التفسير من مجاهد، وذكره النسائي فيمن كان يدلِّس (2). وأخرج (3) من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة: «أن ربا أهل الجاهلية: يبيع الرجل البيعَ إلى أجل مسمًّى، فإذا حلَّ الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاد وأخَّر عنه». سعيد بن أبي عروبة مدلِّس. ونقل صاحب الاستفتاء عن «الدر المنثور» (4) أن فيه عن سعيد بن جبير ما في معنى هذا. ولا أدري ما صحته؟ _________ (1) «تفسيره» (5/ 38). وأخرجه أيضًا ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 548) والبيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 275). (2) انظر «تهذيب التهذيب» (6/ 54، 55). (3) «تفسير الطبري» (5/ 38). (4) (3/ 367). وأخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 544 وما بعدها).

(18/437)


وفي «الموطأ» (1) عن زيد بن أسلم أنه قال: «كان الربا في الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل الحقُّ إلى أجل، فإذا حلَّ الأجل قال: أتقضي أم تُربي؟ فإن قضى أخذ، وإلَّا زاده في حقِّه وأخرَّ عنه في الأجل» (هامش «المنتقى» ج 5 ص 65). هذا المقطوع صحيح لا مطعن فيه. فيقال: هذه المقاطيع حصرتْ ربا الجاهلية في هذا، وذلك يدل على أمرين: الأول: أن الربا المنصوص في القرآن خاص بذلك عند هؤلاء التابعين. الثاني: أن الزيادة المشروطة في القرض ليست بربا عندهم، لأن أهل الجاهلية كانوا فيما يظهر يُقرِضون ويشترطون الزيادة، إذ لا مانع لهم من ذلك. والحاجة تدعو إليه كما تدعو إلى الزيادة على الدين. الجواب من المحتمل أن يكون هؤلاء التابعون لم يريدوا الحصر، وإنما أرادوا بيان الربا الذي يبلغ أضعافًا مضاعفة. وعلى فرض أنهم كانوا يرون الحصر، فالأمر الأول مبني على الثاني، فإذا لم يثبت أن هؤلاء التابعين علموا بأن أهل الجاهلية كانوا يقرضون بشرط الزيادة، جاز أن يكونوا ظنوا أن أهل الجاهلية لم يكونوا يفعلون ذلك. وإذا لم يفعلوا ذلك فالربا الذي كانوا يفعلونه إنما كان سببًا لنزول الآيات. والآيات عامة، والعبرة بعموم اللفظ لا _________ (1) (2/ 672).

(18/438)


بخصوص السبب. فأما آية الروم فإن مجاهدًا وقتادة وسعيد بن جبير يفسرونها بالهدية التماسَ الزيادة، كما في «تفسير ابن جرير» (1). ولعل زيد بن أسلم يقول ذلك. وأما الثاني فإنما يلزم أن لا تكون الزيادة المشروطة في القرض عند أولئك التابعين ربا لو ثبت عنهم أنهم أرادوا الحصر وأنهم علموا بأن أهل الجاهلية كانوا يقرضون بشرط الزيادة، ولا سبيل إلى ثبوت ذلك. وقد نقل صاحب «الاستفتاء» في (ص 41) عن الشافعي قوله (2): «كان من ربا الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل الدينُ فيحلّ الدين فيقول له صاحب الدين: أتقضي أم تُربي؟ ... » فقوله: «وكان من ربا الجاهلية» صريح في أنه لا يرى الحصر. هذا، ولا مانع من كون أهل الجاهلية كانوا يتكرَّمون عن اشتراط الزيادة في القرض. والسبب في ذلك [ق 15] أن القرض عندهم معروف ومكرمة وإحسان، فكأنهم كانوا يرون من العار أن يشترطوا الزيادة. ومما يشهد لهذا ما قاله أهل اللغة وغيرهم في تفسير العِيْنة، وهو أن يحتاج إنسان إلى دراهم مثلًا ولا يجد من يُقرِضه قرضًا حسنًا، فيتواطأ مع رجل فيشتري منه سلعةً بمئة إلى أجل مثلًا ثم يردُّه له بتسعين نقدًا. فظاهر تفسير أهل اللغة لها بذلك يدل أن أهل الجاهلية كانوا يتعاملون بها. فلو لم _________ (1) (18/ 503 - 505). (2) نقله البيهقي في «معرفة السنن والآثار» (8/ 29).

(18/439)


يكونوا يأنفون من شرط الزيادة في القرض ما احتاجوا إلى هذه الحيلة. وقد ورد ذكر العينة في حديثٍ عن ابن عمر مرفوعًا، ولفظه: «إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد= سلَّط الله عليكم ذلًّا لا يَنزِعه حتى ترجعوا إلى دينكم» قال في «بلوغ المرام» (1): رواه أبو داود (2) من رواية نافع عنه، وفي إسناده مقال. ولأحمد (3) نحوه من رواية عطاء، ورجاله ثقات. وصححه ابن القطان. وفيه دليل على أن العِينة كانت معروفة حينئذٍ، وأنه لم يكن الصحابة يتعاملون بها حينئذٍ، فيُعلَم من هذا أن أهل الجاهلية كانوا يتعاملون بها. نعم أخرج ابن جرير (4) في تفسير قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} من طريق أسباط عن السدّي قال: «نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب ورجلٍ من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية سلفًا في الربا إلى أناسٍ من ثقيف ... ». وأخرج (5) عنه أيضًا في قوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} قال: _________ (1) (3/ 41 مع «سبل السلام»). (2) رقم (3462). وفي إسناده إسحاق أبو عبد الرحمن، قال أبو حاتم: شيخ ليس بالمشهور لا يُشتغل به. وقال أبو أحمد الحاكم: مجهول. وقال ابن حبان: كان يخطئ. وفي إسناده أيضًا عطاء الخراساني، يهم كثيرًا ويرسل ويدلس. (3) في «المسند» (4825). وعطاء هو ابن أبي رباح، لم يسمع من ابن عمر. وفي إسناده أيضًا أبو بكر بن عياش، لما كبر ساء حفظه. (4) في «تفسيره» (5/ 49). (5) المصدر نفسه (5/ 54).

(18/440)


الذي أسلفتم، وسقطَ الربا. والسَلف هو القرض كما لا يخفى، فهذا يدلُّ أن أهل الجاهلية قد كانوا يُقرِضون بالربا، ومثل ذلك يؤخذ من تفسير الحسن والسدي للربا في آية الروم بأنه الربا المحرم كما تقدم، وهي ظاهرة في القرض بشرط الزيادة، كما أوضحناه فيما مرَّ. فكأن غالب أهل الجاهلية كانوا يتكرمون عن اشتراط الزيادة في القرض، وكان بعضهم يفعله صراحًا أو يحتال عليه بالعينة. ولم يطلع مجاهد وقتادة وزيد بن أسلم وسعيد بن جبير ــ إن كانوا أرادوا الحصر ــ على أنه قد كان من أهل الجاهلية من يفعل ذلك، فلهذا اقتصروا على الزيادة على الدين، وفسَّروا الربا في آية الروم بالهدية التماسَ الزيادة. واطلع الحسن والسدّي على ما لم يطلع عليه أولئك. ومن حفظ حجةٌ على من لم يحفظ، والله أعلم. على أنه من المحتمل أن يكون زيد بن أسلم لاحظ في تفسير ربا الجاهلية قول الله عزَّ وجلَّ: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}، فبيَّن كيف كانوا يصنعون حتى يصير الربا أضعافًا مضاعفة (1)، فتدبَّرْ. * * * * _________ (1) انظر «تفسير الطبري» (6/ 50، 51).

(18/441)


شبهة أخرى ورفعها ذكر صاحب الاستفتاء الأحاديث التي فيها: «فمن زاد أو ازداد فقد أربى»، وفي بعضها: «الآخذ والمعطي فيه سواء» (1). وذكر أثرًا عن أبي بكر أنه باع من أبي رافع ورِقًا بدراهم، فوُزِنتْ فرجحت الدراهم، فقال أبو رافع: هو لك، أنا أُحِلُّه لك، فقال أبو بكر: إن أحللتَه فإن الله لم يُحِلَّه لي (2). ثم ذكر حديث استسلاف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بَكْرًا وقضائه رباعيًّا، وقوله: «خياركم أحسنكم قضاءً» (3). وأحاديث أخرى في الزيادة في القضاء، وأثرًا عن ابن عمر أخرجه مالك في «الموطأ» (4). ثم قال صاحب الاستفتاء ما حاصله: فقد ثبت أن الزيادة في الربا ــ يعني في نحو بيع الورق بورق ــ حرام، وإن لم تُشْرَط وطابت بها النفس، فلو كان الزيادة في القرض ربًا لحرمت أيضًا وإن لم تشرط وطابت بها النفس. فلما دلَّت الأحاديث على جوازها إذا لم تشرط وطابت بها النفس علمنا أنها ليست بربًا وإن شُرِطت. _________ (1) سبق تخريجها. (2) أخرجه عبد الرزاق في «مصنّفه» (14569) وعبد بن حميد في «مسنده» (6). وعزاه الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 115) إلى أبي يعلى والبزار. وفي إسناده محمد بن السائب الكلبي. (3) تقدم. (4) (2/ 681). وفيه: «استسلف عبد الله بن عمر من رجلٍ دراهم، ثم قضاه دراهم خيرًا منها، فقال الرجل: يا أبا عبد الرحمن! هذه خير من دراهمي التي أسلفتك، فقال عبد الله بن عمر: قد علمتُ، ولكن نفسي بذلك طيبة».

(18/442)


والجواب أن هذا قياس في مقابل النصّ، فهو فاسد الاعتبار. على أن بين الموضعين فرقًا سنوضِّحه في فصل القياس إن شاء الله تعالى. على أننا نشير إليه هنا فنقول: قد أومأ القرآن إلى أن العلة في حرمة الربا الذي نصّ عليه هو ظلم المربي لغريمه، قال عزَّ وجلَّ: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}. فإذا لم يكن هناك شرط، وأبى المستقرض إلا أن يزيد فزاد، فليس بمظلوم. وأما بيع الورق بالورق نقدًا فالزيادة فيه ليست بظلم، ولهذا حلَّت الزيادة من جهة الجودة والصنعة، فجاز أن يُباع صاع تمرٍ قيمتُه درهم بصاع تمر قيمته عشر دراهم، وأن يباع بالدينار خاتمٌ وزنُه دينار وفيه صنعة تُقوَّم بدنانير. وإنما مُنِعت الزيادة في القدر لعلة أخرى، كما تقدم في القسم الأول، وتلك العلة لا توجد في الزيادة في قضاء القرض، والأحكام تدور مع عللها. هذا، وقد قال صاحب الاستفتاء في حاشية (ص 23) رقم (2): «لا شك أن الربا كان شائعًا في العرب، لكن الكلام في تعيينه، ولم يظهر عن الآثار المنقولة عن التابعين أنه كان البيع أو الدين». ثم قال في الحاشية رقم (4) من الصفحة نفسها: «لا إنكار أن ربا الجاهلية كان في الديون، كما يدل عليه بعض روايات التابعين، لكن المراد من الديون في كلامهم ديون البيع إذا ابتاعوا نسيئةً، فما ثبت في وقتهم من الثمن المؤجل هو الدَّين ... ». أقول: سيأتي البحث في ما ادعاه من اختصاص الدين بدين البيع، والمقصود هنا أنه قد سلَّم أنّ الزيادة على دين البيع ربًا من ربا الجاهلية. وقد

(18/443)


قال في (صفحة 18): «ذهب الجمهور إلى جواز ما كان بدون شرط في العقد لما دلَّت عليه الأحاديث الصحيحة والحسان المحتج بها بإعطاء الزيادة في ديون البيع والقرض». ثم ذكر حديث الصحيحين (1) وغيرهما في قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - جابرًا ما تأخر في ذمته من قيمة الجمل، وزيادته قيراطًا، وفي رواية: «فأرجح في الميزان». فنقول: قد سلّمتَ أن الزيادة في دين البيع ربًا من ربا الجاهلية، ثم أثبتَّ بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - زاد في دين البيع، وليس بيدك جواب إلّا أن الزيادة كانت بغير شرط، وكانت بطيب نفس، فإذْ لم يلزم من جواز ذلك هنا أن لا يكون ربًا إذا شُرِطت، لم يلزم من جوازها بطيب نفس وبغير شرط في القرض أن لا يكون فيه ربًا إذا شُرِطتْ (2). فإن قال: إنما تكون الزيادة في قضاء دين البيع ربًا إذا كانت في مقابل أجلٍ جديد كما وردت به الآثار، والأحاديث في الزيادة في القضاء عند حلول الأجل الأول. فعلى هذا فأنا ألتزم أن الزيادة عقب الأجل الجديد ربًا مطلقًا. فالجواب أن قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خيركم أحسنكم قضاءً» مطلق لم يقيده بالأجل الأول، ولا نعلم أحدًا من أهل العلم فرَّق هذه التفرقة. ولا يظهر وجهٌ للفرق، بل الظاهر أنها إذا حَسُنَت الزيادة عقب الأجل الأول فلَأن تحسُنَ عقب الثاني أولى، لأنها إنما حسنت لأجل الشكر كما يُومئ إليه _________ (1) البخاري (2309، 2097) ومسلم (715/ 111) من حديث جابر. (2) كتب المؤلف بعدها: «ملحق»، ووجدتُه في آخر الدفتر (ص 42).

(18/444)


حديث عبد الله بن أبي ربيعة عند البيهقي (1) وغيره مرفوعًا، وفيه: «إنما جزاء السلف الحمد والوفاء». ويصرِّح به أثر ابن عمر عند مالك (2) وغيره، وفيه: «إن أعطاك أفضلَ مما أسلفتَه طيبةً به نفسُه فذلك شكرٌ شكَرَه لك». ولا ريب أن شكر الأجل الثاني آكدُ من شكر الأجل الأول، ولاسيما في دين البيع، إذ لعل البائع قد زاد في الثمن لأجل النسيئة. وقد يتخيل التفريق بما يؤدّي سرْدُه وردُّه إلى تعمق وتدقيق لا أرى تحته طائلًا، ولعلنا نتعرض له في بحث القياس إن شاء الله تعالى. نعم، قد يقال: إن صاحب الاستفتاء وإن اعتراف في عبارته التي تقدمت بأن ربا الجاهلية معروف، فقد أنكره في موضع آخر، وأشار إلى ردّ أثر زيد بن أسلم (3) ومن معه بأنها ليست مرفوعة، يعني أنها مقاطيع فلا تكون حجة. ويؤخذ من كلامه دفعٌ آخر، وهو اختيار أن الربا مجمل، وإذا كان مجملًا لم يلزم أن يكون ربا الجاهلية داخلًا فيه. وتفصيل الجواب يطول، فلنقتصر على أن نقول: فليسقط أثر زيد بن أسلم وما في معناه، ولا يضرنا ذلك شيئًا، بل نربح سقوطَ الشبهة الأولى من أصلها. والله أعلم. * * * * _________ (1) «السنن الكبرى» (5/ 355). وأخرجه أيضًا أحمد في «مسنده» (16410) والنسائي (7/ 314) وابن ماجه (2424)، وإسناده صحيح. (2) «الموطأ» (2/ 682). (3) الذي في «الموطأ» (2/ 672). وقد سبق ذكره.

(18/445)


[ق 16] معارضة وجوابها قال صاحب الاستفتاء: «ما ظُنَّ أن نفع القرض ربًا حقيقة، وداخل في نص القرآن، وهو أمر بديهي لا يحتاج إلى البيان= مدفوع بأنه لو كان أمرًا بديهيًّا لا يمكن أن يخفى على الأئمة والفقهاء دخولُ هذا النفع في نص القرآن، ولم يحتاجوا إلى الاستدلال عليه بالحديث الضعيف تارةً، وبالقياس على ربا البيع تارةً، وبالقياس على ربا الجاهلية مرةً، وبالآثار حينًا. وكذلك ما يختارون في حدّه ومسائلِه يعارض هذه الدعوى، فهذا كله دليل على أنه ليس بمندرج في نص القرآن عندهم. ويؤيده أيضًا عدمُ ورود النقل عن واحدٍ من الأئمة بأن هذا النفع هو ربًا منصوص». أقول: أما كون الزيادة المشروطة في القرض ربًا حقيقةً وداخلًا في نصّ القرآن فقد سبق بيانه. وأما كون ذلك أمرًا بديهيًّا فلعمري إنه عند عوام المسلمين وطلبة العلم وأكثر أهل العلم لكذلك، ومن تشكك منهم قبل صاحب الاستفتاء وأضرابه من أهل العصر فلم يتشكك في أنه ربًا حقيقة داخل في نص القرآن معنًى، وإنما تشكك في دخوله في نصّ القرآن لفظًا. وإنما حمله على هذا التشكيك ما قاله زيد بن أسلم ورُوي عن غيره في ربا الجاهلية، وقد تقدم توجيهه. فزعم الكاساني (1) أنه مقيسٌ على ربا البيع، كأنه لم يقرأ القرآن فيعلم أن الربا الذي فيه غير البيع. وزعم ابن رشد (2) أنه مقيسٌ على ربا الدين الذي فسَّره زيد بن أسلم وغيره، ولو أمعن النظر لتبيَّن _________ (1) في «بدائع الصنائع» (7/ 395). (2) في «المقدمات الممهدات» (3/ 149).

(18/446)


له أنه لا حاجة إلى القياس مع عموم القرآن للنوعين، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، مع اختصاص آية الروم بالنفع المشروط في القرض، على ما تقدم بيانه. فأما احتجاج كثير منهم بحديث «كل قرضٍ جرَّ نفعًا فهو ربًا» (1) مع ضعفه فلعله يراه صحيحًا أو مقطوعًا بصحته، لتلقِّي الأمة له بالقبول بالنظر إلى المنفعة المشروطة، ومخالفةُ جماعة منهم لعمومه في غير المشروطة لا تقدح في ذلك، فإن أكثر العمومات القرآنية والسنّية مخصوصة، ولم يمنع ذلك صحتها وحجيتها. وقد سلك بعض متأخري الحنفية مسلكًا رديئًا في التفصِّي من الأدلة التي تخالفهم من الكتاب والسنة، وذلك أن أحدهم يذكر الدليل ثم يبيِّن صورةً قد خُصَّت من عمومه ويقول: هذا متروك الظاهر إجماعًا، ويرى أنه بذلك قد اسقط الاستدلال بذلك الدليل البتة. وكثيرًا ما يسلكه صاحب الاستفتاء وأستاذه في «شرح سنن الترمذي»، ولعله يُنشَر فيقف العلماء على ما فيه من العجائب، والله المستعان. [ق 17] وبالجملة فليس احتجاجهم بهذا الحديث بدون احتجاجهم على نسخ آية الوصية بحديث «لا وصية لوارث» (2) مع ضعفه، وتركوا الاحتجاج _________ (1) أخرجه الحارث بن أبي أسامة في «مسنده» كما في «بغية الباحث» (436) من حديث علي مرفوعًا، وفي إسناده سوّار بن مصعب متروك الحديث. ورُوي موقوفًا عن فضالة بن عبيد في «السنن الكبرى» للبيهقي (5/ 350). (2) أخرجه أحمد في «مسنده» (22294) وأبو داود (2870، 3565) والترمذي (2120) وابن ماجه (2713) من حديث أبي أمامة الباهلي. قال الترمذي: «وفي الباب عن عمرو بن خارجة وأنس، وهو حديث حسن صحيح».

(18/447)


بآية المواريث مع وضوح دلالتها على نسخ آية الوصية بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ}، فأشعرَ بأن هذه وصية من الله تحلُّ محلَّ ما كنتم أُمِرتم به من الوصية. ثم قال: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 11]، فبيَّن أن ما كانوا أُمِروا به من الوصية لا يتم به العدل لجهلهم، فأقام مقامَ ذلك وصيةً منه بعلمه وحكمته، وقال بعد ذلك: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 12]، فشرط في وصيتهم أن لا يضارّ وصية منه، وقد بيَّن وصيته قبل ذلك بالمواريث. وفي الآيات دلائل أخرى على هذا المعنى. فغفل أكثرهم عنها، واقتصروا في الاحتجاج على نسخ الآية بحديث «لا وصية لوارث»، مؤيدين له بالإجماع، مع أن في الإجماع هنا نظرًا، فإن الهدوية من أئمة أهل البيت الزيدية باليمن يجيزون الوصية للوارث. بخلاف القرض المشروط فيه الزيادة، فلا مخالف في حرمته أصلًا، والعوام يعلمون حرمته، بخلاف منع الوصية لوارث فلا يعلمونها. وحديث الوصية لوارث مخصوص بما إذا لم يُجِزْ بقيةُ الورثة. وأما احتجاجهم بالآثار فإنما هو من باب الاحتجاج بالإجماع، كأنهم يقولون: قد قال هؤلاء كذا ولا مخالفَ لهم. وقوله: «ويؤيده أيضًا عدم ورود النقل عن واحدٍ من الأئمة بأن هذا النفع هو ربًا منصوص».

(18/448)


أقول: قد ثبت عن جماعة من الصحابة والتابعين وتابعيهم وبعض الأئمة الأربعة وغيرهم أنه ربًا، ولم يُنقَل خلافُ ذلك عن أحد. ونُقِل عن جماعة من الصحابة والتابعين وتابعيهم وبقية الأئمة الأربعة وغيرهم أنه حرام، ولم ينقل عن أحد منهم أنه قال: ليس بربًا. وصحَّ عن جماعة من كبار العلماء بعدهم أنه ربًا منصوص، وزعم بعضهم أنه مقيسٌ، فلما تدبَّرنا الكتاب والسنة علمنا أنه منصوص، وليس في ذلك ردٌّ على من أطلق أنه ربًا أو أنه حرام، لأنهم لم يقولوا: منصوص، ولا قالوا: غير منصوص. وإنما فيه ردٌّ على من زعم أنه مقيس، ولا ضيرَ في ذلك. على أنه الأمة لو اجتمعت على أنه حرام ولكن لم يجدوا له دليلًا من الكتاب والسنة، فقام عالم متأخر فاهتدى إلى دليل بيِّنٍ من الكتاب والسنة= لما كان ذلك مِن خرق الإجماع؛ لِما نُصَّ عليه في الأصول أنه لا مانع من إحداثِ دليل أو تعليل. وإنما الخرق المحظور هو مخالفة الأمةِ أجمعَ في حكم من الأحكام، [ق 18] كما اتفقت الأمة علماؤها وعامتها على أن الزيادة المشروطة في القرض حرام، وقال جماعة من الصحابة وغيرهم ــ والعامة معهم إلى اليوم ــ: هو ربا، وقال جماعة ــ والعامةُ معهم إلى اليوم ــ: هو من الربا المنصوص في كتاب الله عز وجل؛ فقام صاحب الاستفتاء يقول: كلّا، بل هو مكروه ويجوز للحاجة إليه= فهذا هو خرق الإجماع، بل إنكارُ ما عُلِم من الدين بالضرورة، والله المستعان.

(18/449)


أدلة تقتضي التحريم وليس فيها لفظ الربا قال الله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 29 - 30]. أخرج ابن جرير (1) بسند حسن عن ابن عباس في الرجل يشتري من الرجل الثوبَ فيقول: إن رضيتُه أخذتُه وإن رددتُه رددتُ معه درهمًا، قال: هو الذي قال الله: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}. أقول: هذا من قول ابن عباس ظاهر في أن المراد بالباطل ما كان بغير عوضٍ ولا طيبِ نفس. وأخرج (2) عن السدّي قال: نهى عن أكلهم أموالهم بينهم بالباطل وبالربا وبالقمار والبخس والظلم، إلّا أن تكون تجارة ليربح في الدرهم ألفًا إن استطاع. وهذا لا يخالف الأول، وإنما ذكر الربا والقمار لأن من شأنهما ذلك، أي أخْذ مال الغير بغير عوض ولا طيب نفس. وعلى هذا القول فالاستثناء متصل كما هو الأصل، فإن التاجر يَغْبِن الناس فيربح منهم زيادة عن ثمن المثل، وتلك الزيادة في الحقيقة ليس لها _________ (1) «تفسيره» (6/ 627). (2) (6/ 626).

(18/450)


عوض ولا طيب، لأن المغبون لو علم بثمن المثل لما زاد عليه، وإنما أحلَّها الله عز وجل لمصلحة غالبة، كما سبق في القسم الأول. [ق 19] فأما ما أعطى بطيب نفس ــ كالصدقة والهبة والهدية والضيافة وغير ذلك ــ فإن له عوضًا من أجر أو حمد أو مكافأة أو نحو ذلك، وهكذا الزكوات والنفقات والديات الواجبة لها عوض كما مرَّ في القسم الأول. وفسَّر جماعة «الباطل» بالحرام، فاحتاجوا إلى أن يقولوا: إن الاستثناء منقطع. ولا يخفى بُعْدُه. وفي قوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} كالإشارة إلى أن أخذ المال بغير حق ــ ولا سيما إذا كان باضطراره إلى إعطائه ــ كقتلِه، والناس يقولون: «ذبحَ فلانٌ فلانًا» إذ اغتنم حاجتَه فأقرضه عشرين صاعًا بشرط أن يردَّ ثلاثين مثلًا. ومن السنة الحديث المشهور بل المتواتر الذي خطب به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بمنًى في حجة الوداع، وفيه (1): «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» الحديث. وفي بعض طرقه (2): «ألا لا يحلُّ مال امرئ مسلم إلّا بطِيْبٍ من نفسه». وقد عدَّ الفقهاء هذا من القواعد القطعية، حتى ردّ بعضهم أحاديثَ صحاحًا ظنَّ _________ (1) أخرجه البخاري (67 ومواضع أخرى) ومسلم (1679) من حديث أبي بكرة. وفي الباب عن جماعة من الصحابة. (2) أخرجه أحمد في «مسنده» (20695) والدارقطني (3/ 26) من حديث عمّ أبي حرة الرقاشي. وفي الباب عن عمرو بن يثربي عند أحمد (15488) والبيهقي (6/ 97)، وعن ابن عباس عند البيهقي (6/ 97)، وعن عمرو بن الأحوص عند الترمذي (3087).

(18/451)


مخالفتها لهذه القاعدة، منها حديث غرز الخشبة (1)، وحديث الأكل من الحوائط (2)، وأحاديث وجوب الضيافة (3) وغيرها. إذا تقرر هذا فالزيادة المشروطة في القرض يأخذها المُقرِض باطلًا كما تقدم في القسم الأول، ولا يعطيها المستقرض بطيب من نفسه كما هو معلوم، فهي حرام بنصّ القرآن والسنة المقطوع بها. وحديث «الصحيحين» (4) وغيرهما عن عائشة وغيرها أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - خطب الناس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد، فما بالُ رجالٍ يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله تعالى. ما كان من شرطٍ ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وإن كان مئة شرطٍ. قضاء الله أحقّ، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق». الإجماع نقل صاحب الاستفتاء عن «شرح البخاري» (5) للبدر العيني الحنفي _________ (1) أخرجه البخاري (2463) ومسلم (1609) من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «لا يمنع أحدكم جارَه أن يَغرِز خشبةً في جداره». (2) أخرجه الترمذي (1287) من حديث ابن عمر مرفوعًا: «من دخل حائطًا فليأكل ولا يتخذْ خُبْنَةً». وقال: حديث ابن عمر حديث غريب لا نعرفه من هذا الوجه إلا من حديث يحيى بن سليم. وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، وعبَّاد بن شرحبيل، ورافع بن عمرو، وعمير مولى آبي اللحم، وأبي هريرة. (3) ورد فيه عدة أحاديث، انظر «السنن الكبرى» للبيهقي (9/ 197). (4) البخاري (2560) ومسلم (1504/ 8). (5) «عمدة القاري» (12/ 45، 135). وسبق ذكره.

(18/452)


عبارةً، وفيها: «قد أجمع المسلمون نقلًا عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن اشتراط الزيادة في السلف ربًا». ثم اعترضه بأن العيني اعترف في «شرح الهداية» (1) ــ وهو متأخر عن «شرح البخاري» ــ بأنه لم يثبت في هذا الباب النهيُ عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. أقول: لا منافاة بين كلامه في الموضعين، وإنما أراد أنه لم يثبت حديثُ: «كل قرض جرَّ منفعةً فهو ربا»، وعدم ثبوته بل وعدم ثبوت النقل من وجهٍ تقوم به الحجة على حدته لا يُنافي ثبوت الإجماع. وهذا كما قالوا في المتواتر: إنه لا يُشترط في المخبرين به العدالة ولا الإسلام. وقد نقل الإجماع جماعة لا يُحْصَون من جميع المذاهب الإسلامية، فنقله الجصاص (2) وأثبت أن لفظ الربا في القرآن ينتظم الربا بالزيادة المشروطة في القرض وبغيرها، كما تقدم عنه. ونقله أيضًا الباجي في «شرح الموطأ» (3)، ونقله الشافعية والحنابلة في كتبهم، واتفقت المذاهب الأربعة والزيدية والإمامية والخوارج وسائر المسلمين عليه، ولا يُعلَم أحد ممن يتسمى بالإسلام خالفَ فيه. [ق 20] بعض الآثار عن الصحابة والتابعين أخرج البخاري في «صحيحه» (4) في مناقب عبد الله بن سلام أنه قال لأبي بردة بن أبي موسى: إنك بأرضٍ الربا فيها فاشٍ، إذا كان لك على رجل _________ (1) «البناية» (7/ 631 - 632) ط. دار الفكر. (2) في «أحكام القرآن» (1/ 467). (3) «المنتقى» (5/ 65، 97). (4) رقم (3814). والقَتُّ: علف الدوابّ.

(18/453)


حقٌّ، فأهدى إليك حِمْلَ تِبْنٍ أو حملَ شعيرٍ أو حملَ قَتٍّ، فلا تأخذه فإنه ربًا». رواه من طريق شعبة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه، وقبل هذا اللفظ قصة. وأخرج البخاري (1) في كتاب الاعتصام القصةَ عن أبي كريب عن أبي أسامة عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده، فذكر القصة ولم يذكر قوله في الربا. قال ابن حجر في «الفتح»: «زاد في مناقب عبد الله بن سلام ذكر الربا .... ووقعت هذه الزيادة في رواية أبي أسامة أيضًا، كما أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن أبي كريب شيخ البخاري فيه، لكن باختصار فكأن البخاري حذفها». «الفتح» (ج 13 ص 242) (2). ورواه البيهقي من طريق أحمد بن عبد الحميد الحارثي عن أبي أسامة، وفيه: «إنك في أرضٍ الربا فيها فاشٍ، وإن من أبواب الربا أن أحدكم يُقرِض القرضَ إلى أجل، فإذا بلغ أتاه به وبسَلَّةٍ فيها هدية، فاتّقِ تلك السَّلّة وما فيها». «سنن البيهقي» (ج 5 ص 349). أقول: سعيد بن أبي بردة ثقة اتفاقًا، لم يتكلم فيه أحد، وقد قال الإمام أحمد: بخٍ ثبت في الحديث (3). وأما بُريد فإنه وإن وثَّقه جماعة فقد تكلم فيه آخرون. قال الإمام أحمد: _________ (1) رقم (7342). (2) (13/ 311) ط. السلفية. (3) انظر «تهذيب التهذيب» (4/ 8).

(18/454)


يروي مناكير، وطلحة بن يحيى أحبُّ إليَّ منه. وقال أبو حاتم: ليس بالمتين. وقال النسائي في «الضعفاء»: ليس بذاك القوي. وقال ابن حبان: يخطئ. وقال ابن عدي: «سمعتُ ابن حماد يقول: بريد بن عبد الله ليس بذاك القوي. أظنه ذكره (عن) البخاري» (1). أقول: وكأن البخاري رحمه الله إنما حذف ذكر الربا من أثر بُريد لمخالفته في سياقه من هو أثبتُ منه وهو سعيد، وليس هذا ببعيد من معرفة البخاري وبُعْدِ نظره. وقد ذكر صاحب الاستفتاء هذا الأثر وخلَّط في بعض الأسماء، ثم أجاب عنه بوجوه: الأول: أنه موقوف ليس في حكم المرفوع. الثاني: أنه متروك العمل باتفاق الأمة. الثالث: أنه يعارضه الأحاديث الصحيحة. الرابع: أن في شرح «كشف الأسرار» (2) للبزدوي في تفسير بيان القاطع التي تلحق (كذا) المجمل: «احتراز عما ليس بقاطعٍ ثبوتًا أو دلالةً، حتى لا تصير (كذا) المجمل مفسرًا بخبر الواحد ... ». يعني: فلا يصلح هذا الأثر لبيان الربا المذكور في القرآن. _________ (1) المصدر نفسه (1/ 431، 432). وزيادة «عن» من المؤلف، وهي كذلك في «الكامل» لابن عدي (2/ 62). (2) (1/ 50).

(18/455)


فأما الأول فمسلَّم، ولكنه قول صحابي قد وافقه غيرُه من الصحابة، ولا يُعلَم لهم مخالف. ومثل ذلك تقوم به الحجة، وهو عند قوم إجماع. وأما الثاني فمقصوده أن الأمة اتفقت على جواز قبول الهدية بعد القضاء. وعن هذا جوابان: الأول: أن هذا خاص برواية بُريد، وهي مرجوحة كما علمت. وأما رواية سعيد فهي ظاهرة في الهدية قبل القضاء، وهي حرام باتفاق الأمة، وإنما أجازها بعض العلماء إذا تبيَّن أنها بريئة عن الربا، كما إذا كانت بين رجلين صداقة، وجرت عادة أحدهما بالإهداء إلى الآخر، ثم اتفق أنه استقرض منه قرضًا، ثم قبل القضاء أهدى إليه كما كان يُهدي إليه سابقًا. والأثر ظاهر فيما عدا هذه الصورة بدليل قوله: «إنك بأرضٍ الربا فيه فاشٍ». الجواب الثاني: أن من أحلَّ الهدية عند القضاء أو بعده إنما ذهب [ق 21] إلى أن التهمة منتفية، وعلى هذا فإذا جرت عادة المستقرض بالإهداء إلى من يُقرضه كانت التهمة باقيةً، ولاسيما إذا كان متَّهمًا، وكأنه إنما يُهدِي إليه تمهيدًا لأن يستقرض منه مرةً أخرى. وقد قال مالك (1) رحمه الله: «لا بأس بأن يَقْبِضَ من أسلف شيئًا من الذهب أو الورِق أو الطعام أو الحيوان ممن أسلفَه ذلك أفضلَ مما أسلفه، إذا لم يكن ذلك على شرطٍ منهما أو وَأْيٍ (2) أو عادةٍ، فإن كان ذلك على شرط أو وأي أو عادة فذلك مكروه، ولا خير فيه ... فإن كان ذلك على طيب _________ (1) في «الموطأ» (2/ 681). (2) الوأي: المواعدة.

(18/456)


نفس من المستسلف ولم يكن ذلك على شرط ولا وأيٍ ولا عادةٍ كان ذلك حلالًا لا بأس به». قال الباجي في «شرحه»: «فأما الشرط فلا خلاف في منعه، وأما العادة فقد منع من ذلك مالك أيضًا. وأما أبو حنيفة والشافعي فيكرهانه، ولا يريانه حرامًا. والدليل على صحة ما ذهب إليه مالك ... ». «المنتقى» (ج 5 ص 97). وفي «مصنَّف ابن أبي شيبة» (1) عن ابن المسيب والحسن أنهما كانا لا يريان بأسًا بقضاء الدراهم البيض من الدراهم السود ما لم يكن شرطًا. وعن إبراهيم أنه لم يكن يرى بذلك بأسًا ما لم يكن شرطًا أو نيةً. وعن الشعبي: قيل له: الرجل يستقرض، فإذا خرج عطاؤه أعطى خيرًا منها، قال: لا بأس ما لم يشترط أو يُعطيه التماسَ ذلك. وعن الحكم وحماد قالا: إن لم يكن نوى فلا بأس. وعن الشعبي: قيل له: يُقرِض (2) الرجل القرض وينوي أن يُقضى أجودَ منه، قال: ذلك أخبث. أقول: فإذا جرت العادة بالزيادة أو الهدية، أوشك أن تصحبها النية. وهذا مَحملُ رواية بُريد لو صحت، بدليل قوله: «إنك في أرضٍ الربا فيها فاش»، وإذا فشا الربا في البلد أوشك أن تجري فيها العادة بذلك والنية، وإذا ثبتت العادة جاءت مفاسد الربا التي تقدمت في القسم الأول. وأما الثالث فيعني صاحب الاستفتاء بالأحاديث الصحيحة الأحاديثَ الواردة في حسن القضاء. والجواب أنها إنما تعارض رواية بريد، وأما رواية _________ (1) (7/ 26، 177، 178). (2) في الأصل: «يقضي». والتصويب من «المصنف».

(18/457)


سعيد فسالمةٌ. على أننا نقول: يمكن الجمع بين الأحاديث وبين رواية بريد بما تقدم عن السلف، أنه إنما تحلُّ الزيادة والهدية إذا لم تجرِ بها عادة، ولم يكن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ملتزمًا للزيادة، وفي حديث قضاء البعير ما يصرِّح بذلك، فإنه أمرهم بأن يقضوا الرجل بَكْرَه، فطلبوا فلم يجدوا إلا رباعيًّا، فذكروا للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ذلك، فأمرهم بإعطائه. فظهر من ذلك أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يأمرهم بالزيادة أولًا، وإنما أمرهم بقضائه، فلو وجدوا بَكْرَه لقضوه إياه، ولو علموا من عادة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قضاءَ الأفضل لما راجعوه. وأما الوجه الرابع ففيه أمران: الأول: أنه مبني على أن ربا القرآن مجمل، وقد تقدم ردُّه. الثاني: أن المفسَّر عند الحنفية هو ما أوضح المراد به بحيث لا يبقى احتمال تأويل ولا تخصيص، فقول شارح «الكشف» أن المجمل لا يصير مفسرًا بخبر الواحد، إنما عنَى: لا يصير مفسرًا بهذا المعنى، كما يُعلم من مراجعته ومراجعة غيره من أصول الحنفية، وهم متفقون على أن خبر الواحد كافٍ لبيان المجمل بحيث تقوم به الحجة، وإن لم يصِرْ مفسرًا بالمعنى المذكور، بل قالوا كما في «تحرير ابن الهمام»: «إذا بُيِّن المجمل القطعي الثبوت بخبر واحدٍ نُسِب إليه، فيصير ثابتًا به، فيكون قطعيًّا». ثم قال: «ومنعه صاحب التحقيق وهو حقٌّ». انظر «التحرير والتقرير» (ج 3 ص 40). وبهذا المعنى أجاب بعضهم عما أُورِد عليهم في قولهم: إن القعدة الأخيرة فرض في الصلاة، مع أنهم لم يحتجوا عليها إلا بخبر واحد، وخبر الواحد لا يفيد الفرضية على أصلهم. ولقولهم بقطعية المعنى الذي بيَّنه خبر الواحد المبيِّن لمجمل قطعي وجهٌ يؤخذ مما قررتُه في رسالة «العمل

(18/458)


بالضعيف»، فلا أطيل به هاهنا. والمقصود أن صاحب الاستفتاء أوهَمَ أو توهَّم أن قول شارح «الكشف» يدل أن خبر الواحد لا يصلح بيانًا للمجمل القطعي. وهذا خطأ قطعًا. ومن عرف اصطلاحهم وتدبَّر كتبهم علم أنه إنما يريد أن خبر الواحد لا يصير به المعنى بحيث لا يحتمل تأويلًا ولا تخصيصًا، وهذا هو معنى المفسّر عندهم، فأما صيرورته مبينًا بحيث تقوم الحجة بذلك المعنى فأمرٌ ثابت عندهم اتفاقًا. والله أعلم. [ق 22] وروى البيهقي وغيره من طريق كلثوم بن الأقمر عن زر بن حُبيش قال: قلت لأبيّ بن كعب: يا أبا المنذر! إني أريد الجهاد فآتي العراقَ فأُقرِض، قال: «إنك بأرضٍ الربا فيها كثير فاش. فإذا أقرضتَ رجلًا فأهدى إليك هدية، فخذْ قرضَك واردُدْ إليه هديته». «سنن البيهقي (ج 5 ص 349). وهو في «مصنف ابن أبي شيبة» (1) بلفظ: «إذا أقرضتَ قرضًا فجاء (2) صاحب القرض يحمله ومعه هدية، فخُذْ منه قرضك (3) ورُدَّ عليه هديتَه». قال صاحب الاستفتاء: كلثوم بن الأقمر مجهول. قلت: ذكره ابن حبان في «الثقات» (4) وقال: روى عن جماعة من الصحابة، روى عنه أهل الكوفة، وهو أخو علي بن الأقمر». _________ (1) (6/ 176). (2) في الأصل: «جاء»، والتصويب من «المصنف». (3) في الأصل: «قرضه». والتصويب من «المصنف». (4) (5/ 336).

(18/459)


وما تضمنه هذا الأمر من ردّ الهدية التي يُهديها المستقرض عند القضاء قد عرفت وجهه مما تقدم، وهو أنه علل ذلك بقوله: «إنك بأرضٍ الربا فيها كثير فاشٍ» أي: فالعادة والنية والتهمة أوجبت ذلك. وبهذا خرج عما دلَّت عليه الأحاديث في حسن القضاء كما سبق، والله أعلم. وقال صاحب الاستفتاء في موضع آخر: أثر عبد الله بن سلام مضطرب ومعلول. كذا قال، وهذه قاعدة أخرى له ولأستاذه في «شرح الترمذي»، يعمد إلى الأحاديث التي تخالفه وتكون بغاية الصحة، فيذكر اختلافًا لفظيًّا أو قريبًا منه أو معنويًّا والترجيح ممكن، فيزعم ذلك اضطرابًا قادحًا. وليس هذا سبيل أهل العلم، وكأنه أراد بالاضطراب هنا ما قدَّمناه من مخالفة رواية بُريد لرواية سعيد، وبالعلة مخالفة رواية بُريد لأحاديث حسن القضاء. وقد مرَّ الجواب عنها، والله أعلم. وأخرج البيهقي من طريق ابن سيرين أن أبي بن كعب أهدى إلى عمر بن الخطاب من ثمرة أرضه فردَّها، فقال أُبي: لِمَ رددتَ عليَّ هديتي وقد علمتَ أني من أطيب أهل المدينة ثمرةً؟ خذ عني ما تردّ عليّ هديتي. وكان عمر رضي الله عنه أسلفَه عشرةَ آلاف درهم. قال البيهقي: هذا منقطع. «سنن البيهقي» (ج 5 ص 349). وانقطاعه أن ابن سيرين لم يدرك عمر. وقد أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنَّفه» (1) من طريق أخرى عن ابن سيرين، وزاد فيه زيادة حسنة، ولكنه _________ (1) (6/ 177).

(18/460)


انقلب متنه، ولفظه: أن أبيًّا كان له على عمر دينٌ، فأهدى إليه هديةً فردَّها، فقال عمر: إنما الربا على من أراد أن يُربي وينسأ. أقول: وهو مع انقطاعه شاهد قوي لما مضى. وأخرج أيضًا من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال في رجل كان له على رجلٍ عشرون درهمًا، فجعل يُهدي إليه، وجعل كلَّما أهدى إليه هدية باعها، حتى بلغ ثمنُها ثلاثةَ عشر درهمًا، فقال ابن عباس: لا تأخذ منه إلّا سبعةَ دراهم. «سنن البيهقي» (ج 5 ص 349 - 350). [ق 23] ردَّه صاحب الاستفتاء بأن أبا صالح لم يسمع من ابن عباس. أقول: لم يتبيَّن لي مَن أبو صالح هذا، فإن هناك جماعة ممن يُكنى أبا صالح ويروي عن ابن عباس، ولا أدري من أين جزمَ صاحب الاستفتاء بأنه أبو صالح باذام مولى أم هانئ؟ فإنه هو الذي قال ابن حبان (1): إنه لم يسمع من ابن عباس. وأخرج البيهقي بسندٍ على شرطِ مسلم عن سالم بن أبي الجعد ــ وهو من رجال «الصحيحين» ــ قال: كان لنا جارٌ سمَّاك عليه لرجلٍ خمسون درهمًا، فكان يُهدِي إليه السمك، فأتى ابن عباس فسأله عن ذلك، فقال: قاصّه بما أهدى إليك. (ج 5 ص 350). وقال ابن أبي شيبة (2): ثنا إسماعيل بن إبراهيم [عن أيوب] عن عكرمة _________ (1) في «المجروحين» (1/ 185). (2) «المصنف» (6/ 174). وما بين المعكوفتين منه. وقد أشار المؤلف إلى السقوط في النسخة التي نقل منها.

(18/461)


قال ابن عباس: «إذا أُقرِضْتَ قرضًا فلا تُهدِينَّ هديةَ كُراعٍ ولا هدية دابة». كذا في النسخة، وقد سقط بين إسماعيل وعكرمة رجلٌ. وقال أيضًا (1): ثنا خالد بن حيان عن جعفر بن برقان عن حبيب بن أبي مرزوق قال: سئل ابن عباس عن رجل استقرض طعامًا عتيقًا، فقضى مكانه حديثًا، قال: «إن لم يكن بينهما شرطٌ فلا بأسَ به». حبيب لم يدرك ابن عباس. وأخرج البيهقي وغيره بسند صحيح عن ابن سيرين عن عبد الله ــ يعني ابن مسعود ــ أنه سئل عن رجل استقرض من رجل دراهم، ثم إن المستقرض أفْقَر المقرِضَ ظهرَ دابته، فقال عبد الله: «ما أصاب من ظهر دابته فهو ربا». «سنن البيهقي» (ج 5 ص 350). وأعاده بنحوه (ص 351) ثم قال: ابن سيرين عن عبد الله منقطع. وقال ابن أبي شيبة (2): ثنا إسماعيل بن علية عن التيمي عن أبي عثمان أن ابن مسعود كان يكره إذا أقرض دراهم أن يأخذ خيرًا منها. أقول: هذا سند صحيح على شرط الشيخين. وأخرج ابن أبي شيبة (3) من طريق زيد بن أبي أنيسة أن عليًّا سئل عن الرجل يُقرِض القرض ويُهدى إليه، قال: ذلك الربا العجلان. _________ (1) «المصنف» (7/ 274). (2) المصدر نفسه (7/ 176). (3) «المصنف» (6/ 177).

(18/462)


زيد لم يدرك عليًّا عليه السلام. وقال أيضًا (1): ثنا إسماعيل بن إبراهيم ــ وهو ابن عُلية ــ عن يحيى بن يزيد الهُنَائي سألتُ أنس بن مالك عن الرجل يُهدِي له غريمُه، فقال: إن كان يُهدِي له قبلَ ذلك [فلا بأس]، وإن لم يكن يُهدي له قبلَ ذلك فلا يصلح. وأخرجه البيهقي مطولًا مرفوعًا، ثم قال: ورواه شعبة ومحمد بن دينار فوقفاه. «السنن» (ج 5 ص 350). وفي «الموطأ» (2): مالك عن نافع أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: مَن أسلف سلفًا فلا يشترطْ إلّا قضاءَه. وقد أخرجه محمد بن الحسن في «موطئه» (3) ثم قال: وبهذا نأخذ، لا ينبغي له أن يشترط أفضل منه، ولا يشترط عليه أحسن منه، فإن الشرط في هذا لا ينبغي. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. أقول: وهذا موقوف في أعلى درجات الصحة. وفيه (4): مالك أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود كان يقول: «من أسلف سلفًا فلا يشترِط أفضلَ منه، وإن كانت قبضة من علَفٍ فهو ربا». وفيه (5): مالك أنه بلغه أن رجلًا أتى عبد الله بن عمر فقال: يا أبا _________ (1) المصدر نفسه (6/ 175). وما بين المعكوفتين منه. (2) (2/ 682). (3) رقم (828). (4) «الموطأ» (2/ 682). (5) المصدر نفسه (2/ 681، 682).

(18/463)


عبد الرحمن! إني أسلفتُ رجلًا سلفًا واشترطتُ عليه أفضلَ مما أسلفتُه، فقال عبد الله بن عمر: «فذلك الربا ... السلف على ثلاثة وجوه: سلفٌ تُسْلِفه تريد به وجهَ الله فلك وجهُ الله، وسلفٌ تُسِلفه تريد به وجهَ صاحبك فلك وجهُ صاحبك، وسلفٌ تُسلِفه لتأخذ خبيثًا بطيب فذلك الربا». وأخرج البيهقي عن فضالة بن عبيد أنه قال: «كلُّ قرض جرَّ منفعةً فهو وجه [من] وجوه الربا». «السنن» (ج 5 ص 350). قال ابن حجر في «بلوغ المرام» (1): سنده ضعيف. وروى الحارث بن أبي أسامة (2) عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كل قرض جرَّ منفعةً فهو ربًا». قال في «بلوغ المرام» (3): إسناده ساقط. [ق 24] وقال ابن أبي شيبة (4): ثنا حفص عن أشعث عن الحكم عن إبراهيم قال: «كل قرضٍ جرَّ منفعة فهو ربًا». وقد أخرجه محمد بن الحسن في «الآثار» (5) عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم بلفظ: «كل قرض جرَّ منفعةً فلا خير فيه». قال محمد: وهو قول أبي حنيفة. _________ (1) (3/ 53 مع «سبل السلام»). (2) كما في «بغية الباحث» (436). (3) (3/ 53 مع «السبل»). (4) «المصنف» (6/ 180). (5) برقم (760) ط. دار النوادر.

(18/464)


وقال ابن أبي شيبة (1): ثنا وكيع ثنا سفيان عن مغيرة عن إبراهيم أنه كره كل قرض جرَّ منفعةً. وأخرج محمد في «الآثار» (2) عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم في الرجل يُقرِض الرجلَ الدراهمَ على أن يوفيه خيرًا منها، قال: فإني أكرهه. قال محمد: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة. وعن أبي حنيفة (3) عن حماد عن إبراهيم في رجلٍ أقرض رجلًا ورقًا فجاءه بأفضلَ منها، قال: الورِق بالورِق، أكره له الفضل حتى يأتي بمثلها. قال محمد: ولسنا نأخذ بهذا، لا بأس ما لم يكن بشرط اشترط عليه، فإذا كان اشترط عليه فلا خير فيه، وهو قول أبي حنيفة. وقال ابن أبي شيبة (4): ثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال: إذا كان للرجل على الرجل الدينُ فأهدى له ليؤخر عنه، فليحسُبْه من دَينه. ثنا جرير (5) عن منصور ومغيرة عن إبراهيم قال: إذا كان ذلك قد جرى بينهما قبل الدين يدعوه ويدعوه الآخر ويكافئه، فلا بأسَ بذلك، ولا يحسُبه من دينه. _________ (1) «المصنف» (6/ 181). (2) (759) بلفظ: «يوفيه بالرَّي، قال: أكرهه». (3) (758). (4) «المصنّف» (6/ 176). (5) المصدر نفسه (6/ 176).

(18/465)


وقال أيضًا (1): ثنا [ابن] إدريس عن هشام عن الحسن ومحمد أنهما كانا يكرهان كل قرض جرَّ منفعةً. وقال أيضًا (2): ثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غَنية عن أبيه عن الحكم قال: كان يُكْرَه أن يأكل الرجل من بيت الرجل وله عليه دين، إلّا أن يحسُبه من دَينه. ثنا وكيع (3) عن شعبة عن أبي إسحاق عن ابن عمر قال: يُقاصُّه. وأخرج (4) عن الشعبي أنه قال: إن كان لك على الرجل الدينُ فلا تُضيِّفْه. وعن الحسن (5) أنه سئل عن السَّفْتَجة فقال: إنما يُفعَل ذلك من أجل اللصوص، لا خير في قرضٍ جرَّ منفعةً. [ق 25] فهذه نصوص الصحابة والتابعين ما بين صحيحٍ وما يقرب منه كلها متفقة على المنع من الزيادة المشروطة وتحريمها، وبعضها مصرحة بأن ذلك هو الربا، وبعضها تُلحِق بذلك الهدية التي يُهديها المستقرض قبل الأداء طمعًا في أن يُمهِله المقرِض (6)، فلا يعجل عليه في المطالبة. _________ (1) «المصنف» (6/ 180). وما بين المعكوفتين منه. (2) المصدر نفسه (6/ 178). (3) المصدر نفسه (6/ 177). (4) المصدر نفسه (6/ 178). (5) المصدر نفسه (6/ 280). (6) في الأصل: «المستقرض» سهوًا.

(18/466)


وبعضها ألحق بذلك الهدية عند الوفاء إذا كان بأرضٍ [يكون] الربا فيها فاشيًا، وبينّا أن الوجه في ذلك هو اتهام المستقرض بأنه إنما أهدى تلك المرة ترغيبًا للمقرِض في أن يُقرِضه مرةً أخرى، وهذه التهمة إنما تقوى عند فُشوِّ الربا. وبعضها بيَّن أن في معنى الزيادة كل منفعة لها قدْرٌ، كركوب الدابة ونحوه. وبعضها أطلق أن كل قرض جرَّ منفعةً فهو ربا. وهو محمول على ما عدا ما صحت به السنة من الأمر بحسن القضاء، فإمَّا أن يقال: هو عام مخصوص، وإما أن يقال: إنه لا يتناول حسنَ القضاء، لأن قوله «جرَّ» يُشعِر بأنه اجتلبها قسْرًا، فإنَّ الجرّ يَقْسِر المجرور على المجيء، والقرض إنما يَقْسِر المنفعة على المجيء إذا كانت مشروطة أو في قوة المشروطة. فأما الشكر الذي يتبرع به المستقرض فلم يَقْسِره القرض، لأن المقرض لم يطلبه. وكون القرض باعثًا عليه في الجملة لا يكفي لأن يقال: إنه جرَّه مع مراعاة حقيقة المعنى، لأن القرض لم يستقلَّ بالبعث، بل لم يلحظ فيه ذلك. وإنما الباعث الحقيقي هو إرادة المستقرض الشكرَ وهو غير مُلْجَأٍ إليه ولا مُطالَب به. وصاحب الاستفتاء يحاول دفع هذه الآثار لمجرد ما في بعضها من مخالفةٍ ما لأحاديث حسن القضاء، وهذا الدفع خارج عن سبيل العلم والعلماء. قال: «على أن الفقهاء لم يتمسَّكوا بهذا الحديث والأثر من لدن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى زماننا هذا، ولم يُفتوا بحرمة أمثال هذه المنافع مطلقًا، بل اتفقوا على أنه لا يكون ربًا إلا أن تكون مشروطةً في العقد، وهذا خلاف ما دلت عليه هذه الآثار والأحاديث الواردة في هذا الباب على ما فيها، لأنها

(18/467)


تدلُّ على حرمة كل منفعةٍ سواء شُرِطت أو لم تُشترط، مع أنها بدون الشرط جائزة بالاتفاق». أقول: فسبيل العلم والعلماء هو العمل بالأحاديث والآثار فيما اتفقت عليه، وإخراجُ ما قام الدليل على إخراجه، وهو حسن القضاء. هذا على فرض أن الأحاديث والآثار كلها عامة، وليس الأمر كذلك كما سلف. فأما أن تُردَّ الأحاديث والآثار مع قيام الإجماع على موافقتها في بعض الصور، وعدمِ وجود ما يخالفها في ذلك= فليس هذا من العلم في شيء. ويلزمه أن كلَّ دليل عام أو مطلق قد قام دليلٌ على تخصيصه أو تقييده (1) يسقط الاستدلال به جملةً، فلا يحتج به فيما عدا الخاص والمقيد وإن وافقه الإجماع! وهذا ضلال في ضلال. [ق 26] ومما يُضحك ويُبكي أن صاحب الاستفتاء لم يدفع ما حكى أكثره من الأحاديث والآثار والإجماع بشيء، فلم يستطع أن يحكي حديثًا ــ ولو موضوعًا ــ ولا أثرًا عن صحابي أو تابعي أو فقيه يدلُّ على أن الزيادة المشروطة وما في معناها ليست بربًا، وإنما بيده أحاديثُ حسن القضاء وقياسٌ ساقط، وقد رأيتُ أن أعجِّل الجواب عن ذلك ههنا. * * * * _________ (1) في الأصل: «إطلاقه» سبق قلم.

(18/468)


أحاديث حُسن القضاء ذكر صاحب الاستفتاء حديث «الصحيحين» (1) وغيرهما عن جابر، فذكر منه لفظ مسلم: «قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لبلالٍ: «أعْطِه أُوقية من ذهبٍ وزِدْه» فأعطاني أوقيةً من ذهبٍ وزادني قيراطًا». ولفظ البخاري: «فوزن لي بلالٌ فأرجَحَ في الميزان». والجواب عنه أن في هذا الحديث عينه عند مسلم: «قلت: فإن لرجلٍ عليَّ أوقيةَ ذهبٍ فهو لك بها، قال: قد أخذتُه به، فتبلَّغْ عليه إلى المدينة. قال: فلما قدمتُ المدينة قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ... » إلخ. «صحيح مسلم» (ج 5 ص 52). وفيه عند البخاري قبل اللفظ الذي ذكره: «فاشتراه مني بأوقيةٍ ... فأمر بلالًا أن يزِنَ لي أوقيةً، فوزن لي بلالٌ فأرجح في الميزان». «صحيح البخاري» (ج 3 ص 62). والمقصود أن جابرًا باع جملَه من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بأوقية وهما في السفر، فلما قدم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - المدينة قضاه وزاده. فالزيادة هنا تفضُّلٌ محض، ولا تحتمل أن تكون زيادة مشروطة في القرض. وذكر حديث أبي رافع (2): «استسلف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بَكْرًا، فجاءته إبلٌ من الصدقة، قال أبو رافع: فأمرني أن أقضي الرجلَ بَكْرَه، فقلت: لا أجد إلا _________ (1) البخاري (2097) ومسلم (ج 3/ 1222). (2) أخرجه مسلم (1600). وسيذكر المؤلف لفظه.

(18/469)


جملًا خيارًا رباعيًّا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أعْطِه إياه، فإن خير الناس أحسنهم قضاءً». أقول: لفظ مسلم: «عن أبي رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - استسلف من رجلٍ بَكْرًا، فقدمتْ عليه إبلٌ من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجلَ بَكْرَه، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خيرًا رَباعيًّا، فقال: «أعطِه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاءً». «صحيح مسلم» (ج 5 ص 54). فقوله: «فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بَكْرَه» ظاهر في أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أمره أولًا أن يقضي الرجلَ بَكْرًا مثلَ بكْرِه، وهذا صريح في أن الزيادة لم تكن مشروطة، إذ لو كانت مشروطة لما أخلفَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - شرطه. وقوله: «أعطِه إياه» تفضُّلٌ محض. وقوله: «خيار الناس أحسنهم قضاء» لا يتناول ما إذا كانت الزيادة مشروطة، لأنها متى كانت مشروطة ــ والفرض أن الشرط لازم كما يحاوله صاحب الاستفتاء ــ كانت لازمة، ومن أدى ما يلزمه لا يناسب أن يقال: إنه من خيار الناس [ق 27] وإنه من أحسنهم قضاءً، لأن الشرير والمسيء إذا أُلزِما بشيء أدَّياه، ألا ترى أن من غُبِن في ثوب فاشتراه بضِعْفِ قيمته ثم أدّى الثمن الذي اشترى به= لا يناسب أن يقال: إنه من خيار الناس ولا من أحسنهم قضاءً. فثبت أن قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خيار الناس أحسنهم قضاء» خاصٌّ بالزيادة التي هي تفضُّل محض، كما وقع في القصة أنه استسلف من رجلٍ بكرًا على أن يقضيه مثله كما هو شأن السلف، فقضاه خيرًا من بَكْرِه تفضلًا.

(18/470)


وذكر حديث «الصحيحين» (1) عن أبي هريرة أن رجلًا تقاضى رسولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ... فقال: «دَعُوه فإن لصاحب الحق مقالًا، واشتَرُوا له بعيرًا، فأعطُوه إياه»، قالوا: لا نجد إلّا أفضل من سنِّه، قال: «اشتروه فأعطُوه إياه، فإن خيركم أحسنكم قضاءً». أقول: في رواية عند البخاري: «كان لرجلٍ على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سنٌّ من الإبل، فجاءه يتقاضاه، فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أعطُوه» فطلبوا سنَّه فلم يجدوا له إلّا سنًّا فوقها، فقال: «أعطُوه ... » «صحيح البخاري» (ج 3 ص 117) (2). فقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - أولًا: «أعطُوه» ظاهر في أن المراد: أعطُوه مثلَ سنِّه، كما هو شأن السلف عند الإطلاق. وهذا ظاهر في أن الزيادة لم تكن مشروطة، فهي تفضُّلٌ محض. وقوله: «خيركم أحسنكم قضاء» قد تقدم الكلام عليه. وفي رواية لمسلم (3): «جاء رجل يتقاضى رسولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بعيرًا، فقال: «أعطُوه سنًّا فوقَ سنِّه ... » وهي مختصرة. وذكر حديث البزار (4) عن أبي هريرة: «أتى النبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - رجلٌ يتقاضاه قد _________ (1) البخاري (2390) ومسلم (1601). (2) رقم (2305). (3) رقم (1601/ 122). (4) كما في «كشف الأستار» (1306). قال البزار: لا نعلم رواه عن حبيب هكذا إلا حمزة، ولا عنه إلا ابن المبارك. وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 141): «فيه أبو صالح الفراء، ولم أعرفه. وبقية رجاله رجال الصحيح.

(18/471)


استسلفَ منه شطْرَ وَسْقٍ، فأعطاه وسَقًا، فقال: نصفُ وَسْقٍ لك، ونصف وسَقٍ من عندي. ثم جاء صاحب الوسق يتقاضاه، فأعطاه وسقينِ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وسْقٌ [لك] ووسْقٌ من عندي». أقول: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «نصف وسقٍ لك ونصف وسقٍ من عندي» ظاهر في أن هذه الزيادة تفضُّلٌ محض، ولو كانت مشروطة شرطًا لازمًا كما يحاوله صاحب الاستفتاء لكان الوسق كلُّه حقًّا للمُسْلِف بمقتضى الشرط، فلا يكون له النصف فقط ويكون النصف الآخر من عنده - صلى الله عليه وآله وسلم -. وذكر حديث البزار (1) أيضًا عن ابن عباس: «استسلف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من رجلٍ من الأنصار أربعين صاعًا ... فأعطاه أربعين فضلًا وأربعين سَلَفه، فأعطاه ثمانين». أقول: قوله: «فأعطاه أربعين فضلًا» ظاهر في أنه تفضُّلٌ محض، ولم تكن مشروطة. وذكر حديث البيهقي عن أبي هريرة قال: «أتى رجلٌ رسولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يسأله، فاستسلف له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - شطْرَ وسْقٍ، فأعطاه إياه، فجاء الرجل يتقاضاه، فأعطاه وسقًا وقال: «نِصفٌ لك قضاءٌ، ونصفٌ لك نائلٌ من عندي» «سنن البيهقي» (ج 5 ص 351). [ق 28] أقول: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «نائلٌ من عندي» نصٌّ على أنه تفضُّلٌ محض. _________ (1) كما في «كشف الأستار» (1307). قال البزار: لا نعلمه بإسناد متصل إلا بهذا، ولم نسمعه إلا من أحمد [بن خزيمة] وكان ثقة. وقال الهيثمي (4/ 141): رجاله رجال الصحيح خلا شيخ البزار، وهو ثقة.

(18/472)


تمسَّك صاحب الاستفتاء بهذه الأحاديث من وجهين: الأول: أنه قال في حاشية (ص 20): «ثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الزيادة في القرض، وليس فيه أنه كان مع شرطٍ أو بدون شرط، فمن ادعى الحرمة بالشرط لابدّ عليه من بيان، لأن الأحاديث في هذا الباب مطلقة، ولا يجوز تقييدها بدون مخصص». الثاني: قال: «وأما كونه ربًا عند الشرط فهو لا يصح أيضًا، لما رُوي (1) من أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه راطلَ أبا رافع فرجحت الدراهم، فقال أبو رافع: هو لك، أنا أُحِلُّه لك، فقال أبو بكر: إن أحللتَه فإن الله لم يُحِلَّه لي، سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «الزائد والمزاد في النار» أو هكذا. لأن فيه دلالةً على أن الزيادة بغير شرطٍ أيضًا حرام، أعني أن الزيادة التي هي الربا شرعًا حرام، شُرِطت أو لم تُشترط، فلو كانت الزيادة في القرض ربًا لكانت حرامًا بدون شرطٍ أيضًا، مع أن الزيادة في القرض بدون الشرط مباحٌ باتفاق الأمة، فثبت أنها ليست بربًا». أقول: أما الوجه الأول فقد علمتَ جوابه بإيضاح أن الأحاديث إنما وردت بالزيادة على وجه التفضُّلِ والنائل المحض. ولو كانت مطلقة لكان على صاحب الاستفتاء أن يحكم بردِّها بناءً على قاعدته أنها متروكة العمل باتفاق الأمة, وأما أهل العلم والإيمان فيقولون: لو كانت عامة أو مطلقة وجب تخصيصها أو تقييدها بنصوص الكتاب والسنة وآثار الصحابة والإجماع، وقد كفانا الله تعالى هذا بوضوح أنها واردة في التفضل المحض _________ (1) سبق تخريجه.

(18/473)


كما علمتَ. وأما الوجه الثاني فهو قياس ساقط، والحكم مسلَّم، وهو حرمة الزيادة في الفضة بالفضة يدًا بيدٍ، وإن لم يثبت أثر أبي بكر رضي الله عنه. وقد قدَّمنا أن الفضة بالفضة يدًا بيدٍ ليس بربًا حقيقي بدلالة القرآن، وبدلالة حديث «الصحيحين» (1): «لا ربا إلَّا في النسيئة» وغير ذلك، وإنما العلة فيه الاحتكار في بعضٍ، وتشبيه المعاملة المشروعة بالمعاملة الممنوعة في بعضٍ، كما تقدم إيضاحه في القسم الأول. والاحتكار والتشبيه لا ينتفي بالرضا وطيب النفس، كما انتفى الربا في حسن القضاء؛ لأن المعنى في تحريم الربا هو الظلم كما أومأ إليه القرآن، وليس في حسن القضاء ظلم، فإن المستقرض إنما يزيد بطيبٍ من نفسه شكرًا لإحسان المقرض أو تفضُّلًا مؤتنفًا، وليس في ذلك ظلم ولا فيه شيء من مفاسد الربا. ثم لو فرضنا استقامة القياس فهو ساقط الاعتبار، لمخالفته النصوصَ التي بيناها فيما تقدم، والإجماعَ الذي اعترف به صاحب الاستفتاء نفسه. [ق 29] والمقصود أن صاحب الاستفتاء مع ذكره لأكثر الآثار عن الصحابة والتابعين، واعترافه باتفاق الفقهاء «من لدن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى يومنا هذا» = لم يستطع أن يعارضها بأثر عن صحابي أو تابعي أو فقيه. والله المستعان. _________ (1) البخاري (2178، 2179) ومسلم (1596) عن أسامة بن زيد. وقد سبق.

(18/474)


القياس قد أغنانا الله تبارك وتعالى عن القياس في هذه المسألة ــ أعني مسألة حرمة الزيادة المشروطة في القرض ــ بالنصوص الواضحة من الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين وإجماع الأمة، مع أننا قد بينا في القسم الأول مطابقة ذلك للعقل الصحيح والمصالح الحقيقية. ولكن صاحب الاستفتاء تعرَّض للقياس الذي استند إليه بعض الفقهاء ممن لم يكلِّف نفسَه تدبُّرَ الكتاب والسنة، ثم ردَّه صاحب الاستفتاء زاعمًا أنه بذلك قد أثبت أنه لا يوجد دليلٌ صحيح على حرمة الزيادة المشروطة في القرض وأنها ربًا. فرأيتُ أن أتعرض لذلك عملًا بالمثل المشهور في اليمن: «اتبع الكذابَ إلى باب بيته». ذكر عن الكاساني (1) أن الزيادة في القرض تكون ربًا قياسًا على بيع الشيء بجنسه متفاضلًا. وعن ابن رشد (2) أنها ربًا قياسًا على ربا الجاهلية، وهو أن يكون للرجل على آخر دينٌ إلى أجل، فإذا حلَّ الأجل قال: إمّا أن تقضي وإمّا أن تُربي، فيمدُّه في الأجل ويزيد على الدين. ودفع صاحب الاستفتاء القياس الأول بأن بينهما فرقًا، وهو أن البيع _________ (1) «بدائع الصنائع» (7/ 395). (2) «المقدمات الممهدات» (3/ 149).

(18/475)


مبادلة، وليس القرض مبادلة على ما تقدم. [ق 30] ودفع الثاني بأن بينهما فرقًا، «لأن الزيادة في الجاهلية كانت بعد حلول الأجل لا في ابتداء العقد، والكلام في الزيادة التي تكون من أول العقد، وليس هذا من ذاك». أقول: أما ما أبداه من الفرق في القياس الأول فهو حقٌّ، ولكنه عليه لا له، وبيان ذلك أنه إذا حرمت الزيادة وكانت ربًا في المبادلة ــ مع أن من شأنها في الجملة جواز المغابنة ــ فلأن يكون كذلك في القرض من باب أولى، لأن الشارع نزَّله منزلة العارية، فكما أن المستعير ينتفع بالعين المستعارة ويردُّها نفسَها، فكذلك نزل القرض، كأن المستقرِض ينتفع بعين الدينار المستَقْرَض ثم يردُّه نفسه، فمنعُ الزيادة في ردّ العين أولى من منعها في ردّ الغير، إذ من شأن الشيء أن يزيد على غيره وينقص عنه، وليس من شأنه أن يزيد على نفسه. وجواب آخر، وهو أن القرض إنما يخرج من المبادلة ما لم يشترط زيادةً قدْرًا أو وصفًا، لأن المقرض إذا اشترط ذلك فقد ثبَّت أن الذي يطلبه مغايرٌ للذي يدفعه، وهذا مخالفٌ للتنزيل الشرعي الذي مبناه تنزيل العين المقْرَضة منزلة العين المعارة التي تبقى بعينها، حتى يردَّها الآخذ بعد انتفاعه بها. ويبقى النظر في هذه المخالفة هل تعتبر لازمة للعقد فيخرج بها عن القرض وتبطل المعاملة، أو تعتبر خارجةً عن العقد فتبطل هي دونه؟ ذهب الحنفية إلى الثاني، وغيرهم إلى الأول. ولا خفاء في أن الشرط إذا أُلغي بقي العقد سالمًا من المبادلة، وإنما الكلام فيما إذا لم يُلْغَ الشرط، ولا ريب أن

(18/476)


العقد حينئذٍ مبادلة حتمًا، وقد قدَّمنا إيضاح ذلك، وهو بحمد الله واضح. فنقول لصاحب الاستفتاء: إن أردتَ بقولك: «إن القرض ليس فيه مبادلة أصلًا عند الشارع» القرضَ الشرعي فمسلَّم، ولهذا جاز إقراض الذهب والفضة مع منع بيع الذهب بالذهب نسيئةً، والفضة بالفضة نسيئةً ونحو ذلك. وإن أردتَ القرض مع شرط الزيادة في القدر والوصف، فإن كان مع الحكم بإلغاء الشرط وإبطاله فمسلَّم أيضًا، وإن كان مع اعتباره كما تحاوله فباطلٌ قطعًا. [ق 31] وأما ما أبداه من الفرق في القياس الثاني فليس بصحيح، لأن اتفاقهما عند حلول الأجل على أجل جديد بشرط الزيادة عقدٌ آخر، وعليه فهذه الزيادة في ابتداء عقد أيضًا، وهذا العقد الثاني قرض في المعنى بل هو هو. وقد صرَّح بعض الفقهاء بذلك، قال الدسوقي المالكي في «حاشيته على الشرح الكبير» (1) عند قوله: «وحرم في القرض جرُّ منفعةٍ» ما لفظه: «ومن ذلك فرع مالك، وهو أن يقول شخص لربّ الدين: أخِّر المدينَ وأنا أعطيك ما تحتاجه، لأن التأخير سلف». بل أقول: إن هذا الفرق على صاحب الاستفتاء لا له، وبيان ذلك: أن المدين إذا لم يؤدِّ الدينَ عند حلول الأجل كان ماطلًا، وهو بذلك يُلحِق بالدائن ضررًا لم يرضَ به الدائن ولم يوقع نفسه فيه، فإذا حرمت الزيادة وكانت ربًا في هذا فأولى أن تكون كذلك في القرض المبتدأ، لأن المستقرض لم يقع منه حينئذٍ مَطْلٌ، والدائن يلحق بنفسه ضرر التأجيل باختياره. والمفاسد التي _________ (1) (3/ 225).

(18/477)


قدَّمناها في القسم الأول تتحقق في اشتراط الزيادة في القرض المبتدأ أشدَّ من تحقُّقها في اشتراطها عند تأجيل الدين أجلًا جديدًا. فاشتراط الرجل الزيادة في القرض المبتدأ يدلُّ دلالة قوية على أنه كسلان، يريد أن يربح من كدِّ العمال وعنائهم بدون أن يتعب، بخلاف اشتراطها بعد حلول الدين لأجلٍ جديد، فقد يكون الدائن رجلًا نشيطًا عاملًا يألَفُ الكدَّ والتعب والسعي في طلب الربح مما ينفع الناس، ولكنه آثر المدين أولًا، فأقرضَه أو أنسأه، فلما حلَّ الأجلُ وجد المدين مصممًا على تأخير الدين، فلو دفعه إليه حينئذٍ لتَعِبَ فيه ونَصِبَ وربحَ، فلما لم يمكنْه ذلك اضطُرَّ إلى اشتراط الزيادة. وقد بقي كلامٌ يمكن أن يقال في الإيراد والردّ، وذلك يستدعي تطويلًا وتدقيقًا لا حاجة بنا إليه والحمد لله. [ق 32] ثم قال: «ولو سُلِّم صحة القياس ففيه أن الأحكام القياسية تقبل التغير بتغيُّر الأزمان، كما هو ثابت في موضعه، ومن كان له وقوف على حال هذا الزمان وخبرة بأهله فلا محيصَ له بدون أن يفتي بجوازه، كما في الاستئجار على تعليم القرآن والأذان والإمامة وغيرها، مع أن حرمة الاستئجار في البعض منصوص، ولكن بحسب حاجة الناس أفتى الفقهاء الكرام بجوازه. فعلى هذا النفعُ المشروط في القرض أولى بأن يُفتَى بجوازه، لأنه ليس منصوصًا عليه بالحرمة، [إذ] الناس ناس والزمان زمان (1). _________ (1) شطر بيت ضمن كلام مسلمة بن محمد بن هشام في «الأغاني» (4/ 321)، وضمن رسالة البديع الهمذاني في «يتيمة الدهر» (4/ 270) و «التذكرة الحمدونية» (6/ 433).

(18/478)


والاستدلال عليه بالتعامل والتوارث عن السلف، ففيه أن التعامل مبنيٌّ على القياس، لا على غيره من الأدلة، ومن ادعى فعليه البيان، والله أعلم بالصواب». الجواب: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5]. قد علمتَ مما تقدم أن الزيادة المشروطة في القرض ربًا بنصّ القرآن والسنة، وقولِ جماعةٍ من الصحابة والتابعين لم يُنقل عن أحدٍ منهم خلافُه، واتفاقِ الأمة. فقوله: «والاستدلال عليه بالتعامل ... » يريد بالإجماع، وإن تحاشَى هذه الكلمة ترويجًا لغرضه، وقوله: «مبني على القياس لا على غيره» قد علمتَ كذبه. فأما حديث تغيُّر الأحكام فدونك تحقيقه. قال الله تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وفي [الصحيحين] (1) عن عائشة [قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه] فهو ردٌّ». [وفي روايةٍ لمسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ»]. وفي «صحيح مسلم» (2) وغيره من طرق كثيرة عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه [قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا خطب احمرَّت عيناه ... ويقول: «أما بعدُ، فإن خير _________ (1) البخاري (2697) ومسلم (1718). وترك المؤلف البياض لما بين المعكوفتين. (2) رقم (867). وأخرجه أيضًا النسائي (3/ 188، 189) وابن ماجه (45) والدارمي (212).

(18/479)


الحديث كتاب الله، وخير الهدي هديُ محمد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة»]. وله شواهد ثابتة من حديث ابن مسعود (1) والعرباض بن سارية (2) وكلام عمر (3) ومعاذ (4) وغيرهم، قد ذكرناها في رسالة [ ... ] (5). وتواترت البراهين والأدلة وأجمعت الأمة على أن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - خاتم الأنبياء، وكتابه آخر الكتب، وشريعته آخر الشرائع، وأنه لم يبقَ لأحدٍ سبيلٌ إلى أن يقول في الدين إلا من طريق الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وأن من قال في دين الله تعالى بغير ذلك [ق 33] فهو مفترٍ على الله تعالى كاذبٌ كافر. قال الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116 - 117]. وقال سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [خاتمة سورة العنكبوت]. _________ (1) أخرجه البخاري (7277) موقوفًا. (2) أخرجه أحمد (17142، 17144، 17145) وأبو داود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجه (42، 43، 44) من طرق. وصححه الترمذي وغيره. (3) أخرجه ابن وضاح في «البدع والنهي عنها» (56) واللالكائي في «السنة» (100). (4) أخرجه أبو داود (4611) والدارمي (205) وابن وضاح في «البدع» (63) والطبراني في «الكبير» (20/ 114) وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1871). (5) لعلها رسالة «العبادة» (ص 219 - 220)، وسيأتي ذكرها في الصفحة التالية.

(18/480)


وقال تبارك وتعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]. وقد ذكرتُ الآيات والأحاديث وأقوال العلماء في هذا المعنى في رسالة «العبادة». وتغيُّر الأحكام جرى على ألسنة بعض العلماء يريدون به شيئًا محدودًا، فأراد دعاةُ الضلالة في عصرنا أن يوسِّعوا دائرتَه بحيث يزلزلون به قواعد الشريعة من أساسها. إن مَن يقول بتغير بعض الأحكام يوجِّه ذلك بأن الحكم إذا ثبت ترتُّبه على علة معروفة، فقد تكون العلة موجودة في أمر من الأمور في العهد النبوي، فيُثبِت الشارع له ذلك الحكم، ثم قد يتفق زوال تلك العلة عن ذلك الأمر بعد العهد النبوي، فينبغي حينئذٍ أن ينتفي عنه ذلك الحكم. وقد يكون الأمر سالمًا من تلك العلة في العهد النبوي، فيُثبِت له الشارع حكمًا آخر، ثم قد تحدثُ له العلة بعد العهد النبوي فينبغي حينئذٍ أن يثبت له الحكم المناسب لها. ومما قد يُمثَّل به لذلك حدُّ الخمر، المقصود منه الزجر، ولم يزد في العهد النبوي على أربعين جلدة لعدم المقتضى للزيادة، فلما تهاون الناس بعده بالأربعين اتفق الصحابة على زيادة أربعين أخرى ليحصل المقصود، وهو الزجر. وبيع أمهات الأولاد، لم يُمنع في العهد النبوي لغلبة الحاجة إلى المال،

(18/481)


فلما غلب الاستغناء بعده ذهب أكثر الصحابة إلى منعه. والطلقات المجموعة كانت تُعدّ في العهد النبوي طلقةً، لأنها لم تكن تقع إلّا نادرًا، فلم يكن هناك مقتضٍ للزجر عن الجمع والردْع عنه، فلما كثر جمعُ الطلقات في عهد عمر احتيج إلى زجرهم وردْعهم، فقال عمر (1): إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه ووافقه الصحابة أو أكثرهم. وقالت عائشة (2): [لو أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ما أحدث النساءُ لمنعهنَّ المسجدَ كما مُنِعتْ نساءُ بني إسرائيل]. وقال بعض العلماء (3) في بعض أنواع المؤلفة قلوبهم: إنما كانوا يُعطَون لضعف المسلمين، وقد قوي المسلمون فلا يُعطَون. [ق 34] وفي هذه الأمثلة خلاف، وفي كونها من تغيير الأحكام بحثٌ ليس هذا موضعه. والأصل الذي ينبغي اعتماده أنه إذا ثبت بحجة شرعية أن هذا الحكم إنما بُني على هذه العلة فقط، وثبت أنها كانت موجودة في هذا الأمر في العهد النبوي، وأنها انتفتْ عنه بعد ذلك= كان هناك مجالٌ للنظر: أيبقى _________ (1) أخرجه مسلم (1472) من حديث ابن عباس. (2) أخرجه البخاري (869) ومسلم (445) واللفظ له. وما بين المعكوفتين بيَّض له المؤلف. (3) انظر «تفسير ابن أبي حاتم» (6/ 1822، 1823) و «مصنف ابن أبي شيبة» (3/ 223).

(18/482)


الحكم على ما هو عليه كما بقي الرملُ في الطواف، أم ينبغي تغييره؟ وإذا ثبت بحجة شرعية أن هذه العلة مقتضية لهذا الحكم، وأنها كانت منتفيةً عن هذا الأمر في العهد النبوي، وأنها حدثت له بعد ذلك، وأنه لم يقم به ما يعارضها= ساغَ تغيُّر الحكم. فكلُّ ما ثبت عن الصحابة فإننا نعتقد أنهم قد راعَوا فيه هذا المعنى، فإن ثبت إجماعُهم على شيء فإننا نعتقد أن هذا المعنى كان ثابتًا في نفس الأمر، وإن اختلفوا فإننا نعتقد أن من قال بالتغيُّر كان يرى هذا المعنى ثابتًا، وقد يكون مخطئًا. وأما ما جاء عمن بعدهم فإن كان مجتهدًا فالظنُّ به أنه كان يرى هذا المعنى ثابتًا، ولعله أخطأ في ذلك، وإن كان غير مجتهد فأمره إلى الله، ولا يجوز تقليده. وليس من هذا اختيارُ الفقيه المقلّد قولًا يخالف مذهب إمامه، ولكنه ثابت عن إمام آخر، وإنما هذا بناء منهم على أن المقلّد مخيَّر، يجوز له الخروج عن مذهب إمامه في بعض الفروع، ولاسيما إذا رأى الحاجة داعيةً إليه. فهذه الاختيارات لا يصح إيرادها في أمثلة تغيُّر الأحكام الشرعية، ومن هذا ما ذكره صاحب الاستفتاء من تجويز متأخري الحنفية الاستئجارَ على تعليم القرآن والأذان والإمامة وغيرها، فإنهم إنما اختاروا في ذلك مذهب الشافعي وغيره أنه يجوز ذلك مطلقًا، فلما رأوا الحاجةَ داعيةً إلى ذلك رأوا المصلحة تقليدَ من قال بذلك. ولمتأخري الشافعية اختيارات من هذا القبيل لا حاجة إلى ذكرها. * * * *

(18/483)


[ق 35] أحوال هذا العصر الأحوال المتعلقة بالربا ثلاث درجات: الأولى: ما لا تتيسَّر معرفته إلّا للماهرين في علم الاقتصاد. الثانية: ما يشاركهم في معرفته أصحاب المعاملات التجارية الواسعة. الثالثة: ما يتيسَّر معرفتُه لغير الفريقين أيضًا ممن لم يتعلم علم الاقتصاد ولا له معاملة تجارية واسعة. والأخ الفاضل صاحب الاستفتاء من الفريق الثالث كما أعرفه، فلم يتعلم علم الاقتصاد، ولا اعتنى به، ولا هو تاجر، فالأحوال التي يعرفها لا تزيد عما أعرفه أنا وأمثالي. فإن كان يريد أن تلك الأحوال هي وحدها كافية لتغيير الحكم، فقد أخطأ خطأً بيِّنًا كما ستراه. وإن كان يريد أن الأحوال التي تقتضي تغييرَ الحكم هي التي يعرفها الفريقان الأولان، فهو مقلد في هذا لدعاة التجديد بل دعاة التقليد الأعمى لأوربا، وهؤلاء الدعاة كما يدعون إلى تغيير حكم الربا يدعون إلى تغيير أكثر الأحكام الشرعية. * * * *

(18/484)


الأحوال التي نعرفها حاجة الطبقة الوسطى إلى القرض، وأعني بالطبقة الوسطى كل من له مورِدٌ لا يفضُلُ عن كفايته. قد يكون للرجل مرتَّبٌ شهري يقوم بكفايته، ولكنه أراد التزوج أو السفر أو نحو ذلك مما لا غنى به عنه، فاحتاج إلى استقراض ما يكفيه لذلك، على أن يقضيه بعد ذلك مما يقتصده من مرتَّبه. وقد يكون للرجل حرفة، ولكنه ليس عنده رأس مالٍ، فاحتاج إلى استقراض ما يجعله رأسَ مالٍ ليحترف ويكتسب ويقضي. أو له حرفة تُدِرُّ عليه ما يكفيه، ولكنه أراد التزوج أو نحوه، فاحتاج إلى اقتراض ما يكفي لذلك على أن يقضيه بعد ذلك مما يقتصده من كسبه. فهؤلاء يحتاجون إلى أخذ القرض، ولا يجدون من يُقرِضهم إلّا بربًا، أفلا يجوز لهم الأخذ بالربا؟ الجواب أنني قد سَبَرْتُ كثيرًا من أحوالِ هؤلاء، فوجدتُ أكثرهم يبذِّرون في ما يَرِد لهم من المال، ثم يستقرضون ويبذِّرون فيما يأخذونه قرضًا، ثم يماطلون في القضاء. فالمصلحة في حق هؤلاء أن لا يرخَّصَ لهم في القرض أصلًا، لا بربًا ولا بدون ربًا، ليضطرَّهم ذلك إلى إصلاح أنفسهم. [ق 36] والترخيص في القرض بربًا هو الذي أفسدَ هؤلاء، فإن المسلم التقي يمتنع عن إقراضهم لما يعلمه من تبذيرهم، ولاستحيائه عن التوثق برهنٍ أو ضامنٍ، ولخوفه أن يحتاج في التقاضي إلى المخاصمة والمحاكمة.

(18/485)


وأما المُربِي فإن طمعه في الربا قد سلبه هذه الصفات، فهو يحب أن يكون المسلمون كلهم مبذِّرين، ليحتاجوا إلى الأخذ منه بالربا، ولا يستحيي عن التوثُّق، ولا يبالي بالمخاصمة والمحاكمة، لأنه قد اعتادها واستفاد في مقابلها الربا. فالترخيص في الربا هو الداء العضال. وقد رأيتُ حال المسلمين في الهند أكثرهم مبذِّرون، وأغنياؤهم يمتنعون عن الإقراض للأسباب السابقة، ويهودُ الهند (طائفة من الوثنيين يقال لواحدهم مارْوارِيْ) يُقرِضون بالربا ويتوثقون، فأصبحت أراضي المسلمين وبيوتهم وحُلِيُّهم تنتقل إلى المارواريين بسرعة مخيفةٍ. فقِصار النظر من المسلمين يرون الضرورة داعيةً إلى الترخيص لأغنياء المسلمين في الإقراض بالربا، حتى إذا انتقلت الأملاك من يد مسلمٍ فإلى يد مسلمٍ آخر. ولعل هذا مما حملَ صاحبَ الاستفتاء على ما قاله. [ق 37] نتائج هذا العلاج: 1 - تبديل الشريعة. 2 - التعرض لغضب الله ومحاربته. 3 - أن يسلِّط على المسلمين ذُلًّا لا ينزعه عنهم حتى يرجعوا إلى دينهم، كما جاء في الحديث (1). _________ (1) أخرجه أحمد (4825، 5007، 5562) وأبو داود (3462) والبيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 316) وغيرهم من حديث ابن عمر، وفي أسانيده ضعف.

(18/486)


4 - إقرار الطبقة المتوسطة على تبذيرهم في المحرمات والملاهي والمعيشة والرسوم (1) الفارغة. 5 - إقرارهم على الكسل والتواني عن طلب الحلال. 6 - إقرارهم على عدم الأمانة وإخلاف الوعد والمماطلة بالديون. 7 - إقرار أغنيائهم على عدم المعونة لمحتاجيهم بالقرض الحسن. 8 - لا يزال كثير من المسلمين يتورعون عن الاستقراض بالربا، وهذا العلاج يُبيحه لهم، فيحملهم على الإمعان فيه. 9 - لا يزال كثير من أغنياء المسلمين يتورعون عن الإقراض بالربا، ويقع منهم غيرَ قليل الإقراضُ بدون ربا. وهذا العلاج يبيح لهم الربا، فيوشك أن لا يُقرِضوا إلا به. 10 - كما أن الكفار هزموا المسلمين في ميدان التجارة لرضا الكافر بالربح اليسير، في حين أن المسلم لا يُرضيه إلا الربح الكثير، فسيهزمونهم في ميدان الربا، وبذلك يرتفع ما في هذا العلاج من تلك الفائدة المتخيلة. 11 - لا يزال كثير من الطبقة الوسطى يتورعون عن معاملة الكفار خوفًا من أن تنتقل بيوتهم وعقاراتهم إلى الكفار، ولهذا ينكَفُّ كثير منهم عن التبذير، فإذا أُبيح للمسلمين المراباة ارتفع هذا القدر، وأوشك أن يصبح خمسة وتسعون في المئة من المسلمين عالةً لا يملكون شيئًا. 12 - إذا أُحِلَّ الربا، وكانت نتيجته ما توقَّعه واضعُ ذلك العلاج أن تنتقل _________ (1) أي العادات والتقاليد.

(18/487)


أموال المسلمين إلى المسلمين، فيوشك أن يصبح خمسة وتسعون (1) في المئة فقراءَ لا يملكون شيئًا، وخمسةٌ في المئة أغنياءَ، وهؤلاء الخمسة إن سَلِموا من المرض الحقيقي ــ وهو التبذير والكسل ــ لم يَسلَم منه ورثتُهم، بل يوشك أن يقتصر ورثتُهم على المراباة، ويَدَعُوا الزراعة والصناعة والتجارة، ويوشك أن يشتطُّوا في الربا فلا يُقرِضوا إلّا بربًا باهظ، ووراء ذلك الهلاك المبير. [ق 38] النظر الشرعي: المرض الحقيقي هو التبذير والكسل، والتبذير أخبثهما، ونتيجتهما الفقر، ثم ينشأ عن الفقر أمراض أخرى: كعدم الأمانة، وإخلاف الوعد، والمماطلة بالديون. ثم ينشأ عن هذه الأمراض مرض آخر، وهو امتناع الأغنياء عن إقراضِ المحتاجين قرضًا شرعيًّا أو مضاربتِهم مضاربةً شرعية. ثم ينشأ عن ذلك فقر جماعة المسلمين وتقاطعهم ثم هلاكهم. والذي يرخِّص في الربا إنما نظر إلى أمر واحدٍ، وهو فقر جماعة المسلمين، وعلاجه هذا لا يُغني في ذلك أيضًا، وفوقَ هذا ففقر جماعة المسلمين إنما نشأ عن التبذير والكسل وتوابعهما، فالتَّبِعةُ عليهم. ولا يُعقَل أن يكون التقصير منهم والغرامة على الشريعة، مع أن تحريم الربا من شأنه إلى حدٍّ ما أن يخفِّف وطأةَ المرض كما تقدم. تحليل المرض: أنا الآن مقيم بحيدراباد دكن الرياسةِ (2) الإسلامية العظمى في الهند، _________ (1) في الأصل: «وتسعين» سهوًا. (2) الرياسة في الأردية بمعنى الدولة والإمارة.

(18/488)


فأبدأ بتحليل مرض المسلمين فيها. أما التبذير فنصفه في الرسوم، وثُلثه في الملاهي، وسدسه في المعيشة. أما الرسوم فإنه إذا وُلِد الولد فهناك دعوة العقيقة، ثم على رأس السنة دعوة (سَالْ كِرَهْ) (1)، وهكذا على رأس كل سنة، ثم دعوة كبيرة بعنوان (بسم الله)، أي أن الولد شرع في قراءة القرآن، وكثيرًا ما تكون قراءة الولد بسم الله في تلك الدعوة هي أول قراءته وآخرها! وكثيرًا ما يكون أهلُه غير عازمين على إقرائه القرآن، ولكن دعوة بسم الله لازمة. ثم إذا قرأ فأول ما يقرأ جزء عمَّ، ثم يُشرع في إقرائه من أول القرآن، وهناك دعوة أخرى. ثم إذا ختم القرآن دعوة. وأولَ ما يستطيع الصوم يُصوِّمونه يومًا ويجعلونه دعوة كبيرة، ولعل ذلك اليوم يكون أولَ صيامه وآخره! ثم إذا بلغت البنتُ دعوةٌ، ثم عند الزواج دعوات، ثم ثالثَ موتِه دعوةٌ، ثم على تمام العشر دعوة، ثم على تمام الأربعين دعوة، ثم على وفاء السَنة من موته دعوة، ثم تتكرر كلَّ سنة. دع الدعوات التي يقيمها عند إرادة سفر قريبه أو صديقه، أو عند عودِه من السفر، أو عند فوزه في الامتحان، أو حصوله على خدمة في الحكومة، أو ترقيته في الخدمة، أو شفائه من مرض أو غير ذلك. وهناك دعوات المولد، والمعراج، ونصف شعبان، وآخر أربعاء من صفر، ودعوات في رمضان، وأيام وفيات الخلفاء والأئمة والأولياء وهي كثيرة، والأسفار التي ينشئونها لزيارة الأولياء، إلى غير ذلك. والغريب أن هذه الدعوات والاحتفالات أكثرها عندهم هي أركان _________ (1) أي عيد ميلاد الطفل.

(18/489)


الدين، فتجد الرجل تاركًا للصلاة والزكاة والصيام والحج مرتكبًا للمحرمات، ولكنه يحافظ على هذه الدعوات! [ق 39] الملاهي: السينما والفونوغراف (الحاكي) وقليل غيرهما. أما السينما، فههنا مواضع كثيرة لها، وقد يمضي للرجل أسبوع كامل أو أكثر وهو كلَّ ليلة في سينما، وقد يجمع في يوم واحد بين روايتين، وفيها مع الخسارة المالية مفاسد أخرى: كإفساد الأخلاق، وتعليم السرقة، والإضرار بالصحة، وتضييع الأوقات، فقد تستغرق الرواية الواحدة ثلاث ساعات، وقد تبقى إلى ساعة أو ساعتين بعد نصف الليل، فيصبح الرجل كسلان لا ينشط للعمل النافع. وفوق ذلك كله فبعض الروايات يُشرع فيها قبل العصر وعند الغروب وبعضها يُشرع فيه قبل المغرب ويمتدُّ إلى العشاء، وبعضها يُشرع فيه قبل العشاء ويمتدُّ إلى ثلث الليل، فربما فوَّتَ الناظرون الصلاةَ رأسًا، وربَّما فوَّتوا الجماعةَ، ولكن هذا يهون إذا علمنا أن غالب المسلمين هنا لا يصلُّون أصلًا! وأما الفونوغراف فالرجل يحتاج إلى شرائه، ثم تستمر الحاجة إلى شراء الإبَر والأسطوانات، وإلى إصلاحه إذا تغيَّر. وأما ما عدا هذين فهو قليل ههنا، وإنما يُبتلَى به الأغنياء في الغالب. المعيشة: أما الإسراف في المعيشة فهو هنا خفيف في الطبقة الوسطى، وعامة إسرافهم هو في الدعوات والرسوم والملاهي، فإن وقع من بعضهم فهو في لباس النساء، وكثير منهم يعتاد المسكرات الرخيصة، ولكن الإسراف

(18/490)


مستحوِذٌ على الأمراء، ولاسيما في عمارة البيوت والسيارات والأثاث ولباس النساء. ومنهم من يتعاطى المسكرات، ويميل مع الرقاصات، ويُكثِر السفر إلى أوربا، فينفق في سفره وإقامته هناك نفقاتٍ باهظة. وتجد فيهم من يتراوح دخْلُه الشهري بين مئة جنيه إلى ألف جنيه، وهو مع ذلك يُدان بالربا والعياذ بالله. [ق 40] العلاج أما الرسوم فعلاجها بيد العلماء والمرشدين (مشايخ الطرق)، فلو أن صاحب الاستفتاء دعاهم إلى النظر فيها واجتهد في ذلك لكان خيرًا له وللمسلمين. فعلى العلماء والمرشدين أن ينظروا في تلك الرسوم، فسيجدون بعضها لا حاجة إليه أصلًا، وبعضها لا بأس به لولا ضرره الشديد، وبعضها له فائدة ولكن ضرره أكبر من نفعه، وبعضها ضروري ــ كوليمة العرس ــ ولكن بلا إسراف، فالذي يستقرض ليوسِّع الوليمة مسرف، والذي يصرف مالًا كبيرًا في الوليمة وهو غني ــ والمصالح الإسلامية العامة محتاجة إلى المال ــ مسرف. فيقرر العلماء والمرشدون وقفَ النوع الأول أصلًا، وكذلك الثاني بالنظر إلى الأحوال الحاضرة، ويقررون تخفيفَ الإنفاق في الثالث جدًّا، بحيث يقتصر على دعوة أفراد معدودين وعلى سَقْيهم الشاهي وحده. وتخفيف الرابع بحيث لا يحتاج الداعي إلى القرض، ولا تتجاوز نفقة الوليمة دَخْلَ شهرٍ من دخْله، ولا تُجاوز مئةَ رُبِّية مثلًا. فأما الأمراء والأغنياء الكبار فلْيُترك الاختيار لهم، ويُكتفَى بوعظهم ونُصْحهم ليخفِّفوا الوليمة ما أمكن.

(18/491)


وإذا قرر العلماء والمرشدون هذا أو نحوه عاهدوا الله تعالى على تنفيذه، فيلتزمونه هم في ذات أنفسهم، ويُلزِمون به من يسمع قولهم، ولا يجيبون دعوةَ من خالف ذلك، ويُلزِمون من يسمع لهم أن يحذو حذوهم في ذلك، ويعلنون للناس أن من خالف ما قرروه فهو بالنظر إلى أحوال العصر عاصٍ آثمٌ مخالف لله ورسوله وأوليائه، وأن رضا الله ورسوله وأوليائه في الاقتصاد في هذا العصر. ويمكنهم إذا نصحوا لله ولدينه وللمسلمين أن يقوموا بأكثر من هذا. [ق 41] وأما الملاهي فأمُّها ههنا السينما، فعلى العلماء والمرشدين أن يدعوا أعيان الأمة، ويقرروا مطالبةَ الحكومة: بمنع الأطفال الذين دون البلوغ من دخول السينما البتَّةَ، كما قررتْه دولةُ هولندا في جاوه فيما بلغني. وبتحديد أوقات السينما، فلا تُفتح نهارًا، ولا تُفتح إلا بعد المغرب، وتقتصر على دَورٍ واحد. وبأن تقيم مراقبةً أخلاقية صارمة تحظُر عرضَ كل فلم مُضرٍّ بالأخلاق، وتُشرِف على دَخْل السينما فتحدِّد قيمة البطاقات بقدرٍ يتناسب مع غرامتها. وغير ذلك. ثم يبالغون في الوعظ والنصح، وبيان مضارّ السينما ومفاسد إنفاق المال لمشاهدتها، وغير ذلك. وفي وُسْعِهم إذا وفَّقهم الله تعالى أن يعملوا أكثر من هذا.

(18/492)


الرسالة التاسعة والعشرون كشف الخفاء عن حكم بيع الوفاء

(18/493)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي بسط الأرض للأنام، وقدَّر فيها أقواتَها على ما اقتضته حكمتُه من النظام، وتولَّى قِسمتَها وقسمةَ ما فيها بينهم بشريعته، فقال سبحانه: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7 - 9]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد، فقد سألني بعض الإخوان عن حكم البيع الذي يقال له بيع الوفاء وبيع العهدة إلى غير ذلك من الأسماء، وهو شائع في بلاد حضرموت وكثير من البلدان. فراجعتُ بعض ما تيسَّر لي من كتب علماء حضرموت، فرأيت في "بغية المسترشدين" عن فتاوى الحفيد عبد الله بن الحسين بافقيه: "بيع العهدة [المعروف صحيح جائز، وتثبت به الحجة شرعًا وعرفًا على قول القائلين به، وقد جرى عليه العمل في غالب جهات المسلمين من زمن قديم، وحكمت بمقتضاه الحكام، وأقره مَن يقول به من علماء الإسلام، مع أنه ليس من مذهب الشافعي، وإنما اختاره مَن اختاره ولفّقه من مذاهب للضرورة الماسة إليه، ومع ذلك فالاختلاف في صحته من أصله في التفريع عليه لا يخفى على من له إلمام بالفقه] (1) " (ص 133). فأحببتُ أن أعرف حقيقة التلفيق المذكور، فوجدتُ في "ترشيح _________ (1) وضع المؤلف هنا نقطًا، وقد أكملت العبارة من المصدر المذكور.

(18/495)


المستفيدين": "تنبيه: اعلم ... على الراجح " (ص 230). ثم ذكر اختلاف الحنفية، وسيأتي. وفي "القلائد" لباقشير: "مسألة: بيع العهدة ... ممن شهد بذلك". ثم قال: "مسألة: ومن أثبت ... الشافعي ... "، ثم قال: "تنبيه ... المنصوص". ثم أفاض في توابعه من الأحكام بانيًا على مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، وعلى أن هذه المعاملة إقالة ولكنها لازمة. فتلخَّص لي مما تقدم أمور: الأول: أن هذه المعاملة إذا كانت على ما ذكروه ــ مِن تقدُّم المواطأة، ووقوع العقد باتًّا ــ حكمها في مذهب الشافعي ما قدَّمتُ من نفاذ العقد وبتاته، ويكون رضا المشتري قبل العقد بما تواطأ عليه وعدًا منه يُستحب له الوفاء به ولا يجب. الأمر الثاني: أن العمدة في إلزام المشتري بالوفاء هو تقليد الإمام مالك. الثالث: أنه يمكن الاعتماد في ذلك على مذهب أحمد في جواز البيع بشرط. الرابع: إمكان الاعتماد على مذهبه في جواز تأبيد الخيار. الخامس: إمكان الاعتماد على مذهب أبي حنيفة. السادس: العذر عن الخروج عن المذهب بالضرورة. السابع: اعتماد المتأخرين على عمل من قبلهم من العلماء وكفى.

(18/496)


فأحِبُّ أن أنظر في هذه الأمور واحدًا واحدًا. فأما الأمر الأول فحقٌّ لا غبار عليه، إلّا أنه يستحب عدم التواطؤ خروجًا من خلاف من يجعل المشروط بالمواطأة كالمشروط بالعقد، فيبطل به العقد ويحرم. وسيأتي إيضاحه إن شاء الله. وأما الأمر الثاني فقد راجعتُ ما تيسَّر لي من كتب المالكية، فوجدتُ في "الموطأ" (1) عن عبيد الله بن [عبد الله بن] عتبة بن مسعود أن عبد الله بن مسعود ابتاع جاريةً [من امرأته زينب الثقفية، واشترطت عليه أنك إن بعتَها فهي لي بالثمن الذي تبيعها به. فسأل عبد الله بن مسعود عن ذلك عمرَ بن الخطاب، فقال عمر بن الخطاب: لا تقربْها وفيها شرط] لأحد. وعن ابن عمر أنه كان يقول: " [لا يطأ الرجل وليدةً إلا وليدةً إن شاء باعها، وإن شاء وهبها، وإن شاء أمسكها، وإن شاء صنع بها] ما شاء". قال الباجي في "المنتقى" (2): "ظاهر قوله ["وشرطتْ عليه أنك إن بعتها فهي لي بالثمن" يقتضي أن ذلك كان في نفس العقد على وجه الشرط، ولم يكن على وجه التطوع منه بعد كمال العقد، وهذا يسميه العلماء الثنيا، ويسمون البيع المنعقد بهذا الشرط بيع الثُّنيا، وهو بيع فاسد] مع النقد". وقال بعد ذلك (3): "وقول عمر "لا تقربها [وفيها شرط لأحد"، قال أبو مصعب في "المبسوط": معنى ذلك لا تَبْتَعْها وفيها شرط لأحد، ومعنى _________ (1) (2/ 616). ومنه زيادة ما بين المعكوفتين. (2) (6/ 129) ط. دار الكتب العلمية. ومنه زيادة ما بين المعكوفتين. (3) (6/ 131).

(18/497)


ذلك: لا تشترها بهذا الشرط، وهذا يقتضي منعه من هذا الابتياع لفساده] ". وفي "حواشي الدسوقي على الشرح الكبير": "وبيع الثُّنيا [هو المعروف بمصر ببيع المعاد، بأن يشترط البائع على المشتري أنه متى أتى له بالثمن ردّ المبيع، فإن وقع ذلك الشرط حين العقد أو تواطآ عليه قبله كان البيع فاسدًا ولو أسقط الشرط، لِتردد الثمنِ بين السلفية والثمنية، وأما إذا تبرع المشتري للبائع بذلك بعد البيع بأن قال له بعد التزام البيع: متى رددتَ إليَّ الثمن دفعتُ لك المبيع، كان البيع صحيحًا، ولا يلزم المشتريَ الوفاء بذلك الوعد، بل يستحبُّ] (1) فقط" (ج 3 ص 62). _________ (1) ما بين المعكوفتين من المصدر، وقد ترك المؤلف هنا بياضًا.

(18/498)


الرسالة الثلاثون النظر في ورقة إقرار

(18/499)


الحمد لله. الذي يظهر من هذه الورقة عند التأمل أنها إقرار بالاشتراك، وأما ما وقع فيها من بعض الألفاظ التي يفهم منها مناقضة الإقرار فليست بصريحةٍ في ذلك. بل إذا نُظِر إلى ما قبلها وما بعدها وإلى تسامح العوامّ في ألفاظهم، وإلى كيفية الاشتراك بين المقر وإخوته على ما تدل عليه هذه الورقة= لم تكن تلك الألفاظ ظاهرةً فيما يناقض الإقرار، بل هي محمولة على ما يوافقه، وعلى ذلك تتفق جميع ألفاظ المقرّ في هذه الورقة، ولا يكون فيها شيء مُلغًى. فقوله: «يقبضون ما هو لي في أرض الهند وغيره» ليس فيه بيان ما هو له، فيُحمل ذلك على نصيبه من جميع الأموال التي اعترف بعد أنها مشتركة. وقوله: «وخطوط قوابل البيوت في صندوقي» ليس فيه ما يدل على أن البيوت ملكه خاصة. وقوله «صندوقي» وإن كان ظاهرًا يفيد أن الصندوق له ملكًا، فالاعتراف بالاشتراك يدل أنه إنما أضافه إليه لاختصاصه به، كما يقول الولد في بيت أبيه، والخادم في بيت سيده، والموظف في دور الحكومة: «كرسيِّي» للكرسي المخصص لجلوسه، وإن لم يكن ملكه، نعم إن هذا مجاز، ولكن الحمل على المجاز الذي تعينه القرائن أولى من حمل الكلام على التناقض وإلغاء بعضِه. وهكذا قوله بعد ذلك «فهو في داري». وقد قال الله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ... وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]. فأضاف البيوت إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وقد قال تعالى قبل ذلك في خطاب

(18/501)


أمهات المؤمنين: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]. فأما قول «المنهاج» (1): «فلو قال: داري أو ثوبي أو دَيني الذي على زيد لعمرو، فهو لغو»، فوجهه فيما يظهر أن قوله «لعمرو» لا يتعين للإقرار، بل يحتمل الهبة، أو أنه أراد أنه صديقي فمالي كأنه ماله، أو نحو ذلك. وليس تأويل قوله «داري» بأولى من تأويل قوله «لعمرو»، فلهذا حكم بأن العبارة المذكورة لغو، فأما إذا قال مثلًا: «ثوبي هذا عارية، استعرتُه من مالكه زيد» أو نحو ذلك، فإلغاء الإقرار بعيد عن القواعد. وفي «التحفة» (2): «أو الدين الذي لي على زيد لعمرو= لم يصح إلّا إن قال: واسمي في الكتاب عارية». ومما يؤيد ذلك القاعدةُ المعروفة أنه لا يجوز إلغاء كلام المكلف ما أمكن. وفي «التحفة» عقب عبارة «المنهاج» السابقة ما لفظه: «لأن الإضافة إليه تقتضي الملك له، فتنافي إقراره به لغيره، فحمل على الوعد بالهبة». فيؤخذ من هذا أنه إذا تعذر أو بعُدَ تأويل لفظ الإقرار مع قرب تأويل الإضافة المتقدمة وجب الحكم بصحة الإقرار. ومن تأمل الورقة المتكلم عليها وجد دلالتها على الإقرار واضحة جدًّا. ثم على فرض أن دلالة الإضافة على الملك أقوى أو أنها تلغي الإقرار مطلقًا، فيختص هذا بالصندوق والدار والكساء المضافات في هذه الورقة، _________ (1) (2/ 181 - 182) ط. دار البشائر. (2) (5/ 371 - مع حواشي الشرواني والعبادي).

(18/502)


ويبقى الإقرار فيما عدا ذلك صريحًا. ومن ذلك قوله: «وخطوط قوابل البيوت في صندوقي وأشياء من ذهب وفضة وسلاح وو عن الدار ... وما هو باسمي من خطوط أملاك ومشاري ورهائن عقارات ... سنغافوره». وفي «التحفة» (1): «ولو قال: الدين الذي كتبته أو باسمي على زيد لعمرو، صحَّ، إذ لا منافاة». وقول كاتب الورقة: «وكسائي الذي على بدني ومطروح» يجيء فيه ما مرَّ في «صندوقي وداري». وقوله بعد ذلك كله: «فهو تركة بين إخوتي وبين ورثتي بالسوية فقط، ما شيء لي زائد عليهم» ظاهر فيما قدمته، فلا وجه لإلغائه. وقوله: «تركة بين إخوتي وبين ورثتي» يريد أن أصله تركة تركها مورثُه ومورثُ إخوته، وبقيت مشتركة بينهم يعملون ضربًا على الاشتراك، كما يدلُّ عليه السياق، وينفي أن يكون المراد تركة لي، أي أتركها أنا، كيف وهو يقول بعد ذلك: «ماشيء لي زائد عليهم»؟ ثم قال: «وما كان معهم من أملاك وغير، وجميع ما يسمى مال، وما يطلق عليه اسم المال= فهو بيني وبينهم بالسوية» صريح جدًّا في أنهم على الاشتراك، وهو وإن كان ظاهره دعوى إلَّا أنه يقرِّر الإقرار السابق ويوضحه. ويؤكد ذلك قوله بعد هذا: «والذي مع والدتهم من أسيار ذهب وفضة ... فهو لها ... ويكون بطيب نفس من الإخوان محمد وسعيد». فلو كان إنما أراد بهذه الورقة التبرع على أخويه، فأيّ وجه لأن يشترط طيب _________ (1) (5/ 371).

(18/503)


أنفسهم فيما أقرّ به لزوجته أو وهبه لها أو أوصى لها به. فأما قوله: «وأيضًا ما كان متروكه معي في حضرموت جاء في مال بالإرث من والدتي فاطمة ... فهو بيني وبين إخواني تركة». فهو اعتراف صريح. وفي «التحفة» (1): «وقول «الأنوار» لا أثر للإرادة هنا يشكل بقوله أيضًا في الدار التي ورثتُها من أبي لفلان: إنه إقرار إن أراده، إذ لا فرق بين اشتريت مثلًا وورثتها. ويوجه ذلك بأن إرادته الإقرارَ بذلك تبيِّن أن مراده الشراء والإرث في الظاهر». قال السيد عمر في حواشيه على «التحفة» (2): «قوله الشراء والإرث في الظاهر إلخ، إنما يحتاج إليه عند فرض أنه حال الإقرار بالإرث والشراء، بحيث لم يمض زمنٌ يمكن فيه النقل، وإلا فالشراء والإرث الماضيان لا ينافيان الإقرار حالًا». والإرث المذكور في عبارة المقرّ ماضٍ كما هو واضح، وقول المقر في آخر العبارة الماضية: «بيني وبين إخواني تركة» يُوضح ما قدمته أن مراده بتركة في قوله السابق «تركة بين إخواني وبين ورثتي» التركة الأصلية، أي الذي تركه مورثه ومورث إخوته، وبقي بينهم مشتركًا يعملون فيه بالسوية، وكل ما استحدثوه ضموه إلى ذلك. فإن قيل: وكيف يكون ما ورثه من أمه من جملة التركة التي يشاركه فيها إخوته من أبيه؟ _________ (1) (5/ 370 - 371). (2) المصدر السابق.

(18/504)


قلت: يحتمل أنه ملكهم مما ورثه من أمه مقدار حصصهم من التركة المشتركة، فانضم ما ورثه من أمه إلى التركة الأصلية المشتركة، فصار معدودًا منها. وهذا ظاهر، فيجب تصحيح العبارة على احتمال هذا الوجه. والله أعلم.

(18/505)


الرسالة الحادية والثلاثون قضية في سكوت المدعى عليه عن الإقرار والإنكار

(18/507)


الحمد لله. مسألة: رجلان ادُّعي عليهما قتلُ آخر عمدًا وعدوانًا دعوى صحيحة، فأجابا أنهما هجما عليه لقصد ضربه لا قتله، وأخذا يضربانه، فاستلَّ سكينًا من حزام أحدهما، فأمسكا يده، وتجاذبا السكين، فوقعتْ به طعنة في جانب ظهره الأيسر. وكلٌّ منهما قال: لا أدري ممن الطعنة، ثم قال أحدهما: أنا القاتل، ثم روجع الآخر على أن يقر أو ينكر، فأصرَّ على قوله: لا أدري ممن. قد تتبعت مظانَّ المسألة مما وجدته من كتب المذهب، فلم أظفر بها صريحةً، إلّا أنهم قسموا حالة المدعى عليه بعد الدعوى إلى قسمين: إقرار وإنكار. أما الإقرار فله باب مخصوص، وأما الإنكار فهو نقض إلزام الدعوى. وألحقوا به وبالنكول إصرار المدَّعى عليه على السكوت عن جواب الدعوى. والظاهر من عباراتهم أنه ليس مرادهم السكوت المطلق، وهو مقابل النطق، بل السكوت عن جواب الدعوى المفهوم من إطلاقه، أي الجواب بشرط صحته، حتى يدخل ما لو نطق بما لا يصح جوابًا، كقوله: يثبت ما يقول ونحوه، فلا يكتفى به، بل يلزمه أن يبيِّن إما بالإقرار بما ألزمته به الدعوى، وإما بالإنكار لذلك، أو التفصيل، وهو راجع إليهما. فإن بيَّن فالأمر واضح، وإلّا نُزِّل منزلةَ المنكر الناكل، وشرط كون الدعوى ملزمةً من فروعه أن ينسب القتل مثلًا إلى المدعى عليه نفسه، أو إلى مَن يلزمه بقتله شيء، وليس اللزوم. فلو قال: قتله أخوه، ولم يزد على ذلك ما يلزم، لم يسمع. قال في «عماد الرضا» (1): «حُكي أن رجلين تقدما إلى قاضٍ، فقال _________ (1) النقل من كلام المناوي في شرحه على «عماد الرضا» (1/ 350).

(18/509)


أحدهما: إن أخا هذا قتل أخي، فقال القاضي: ما تقول؟ فقال: إن أخا هذا قتله غيري. وهو جواب صحيح عن فساد الدعوى، وكان من صحتها أن أخاه قتلَ أخيِ وأنا وارثُه وهذا من عاقلته، لتتوجَّه له المطالبة». ومن المعلوم أن القصد من طلب الجواب من المدَّعى عليه الإقرار بما أُلزِم به أو إنكاره أو التفصيل، وهو راجع إليهما كما مرَّ. فلفظ «لا أدري» جوابًا عن الدعوى عليه أنه قتل مثلًا لا يكفي، لأنه لم يقرّ بما ألزمته الدعوى وهو القتل، ولا أنكر. وقد شرطوا في اليمين مطابقتها للإجابة، وقالوا في اليمين: لابدَّ أن يحلف بها في كلِّ يمين على فعله إثباتًا أو نفيًا، وكذا على إثبات فعلِ غيره وأما نفي فعل غيره فعلى نفي العلم. فلو اعتبرنا «لا أدري أني قتلتُه أو لا» جوابًا لزم أن نقول: يحلف طبقَه، وحلفه كذلك لا يُعتبر لأنه على نفي العلم في فعل نفسه، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم، لأن الإجابة بغير الإقرار إن لم تكن بيِّنة فهي تقتضي اليمين. وأما كون لفظة «لا أدري» في فعل نفسه يُعتبر إقرارًا فغير ظاهر، لأن مبنى الإقرار على اليقين، ولا نظير لها في باب الإقرار تقاس عليه، لكنها قد تؤدّي إلى ما هو في حكم الإقرار، بأن يصرّ المدعى عليه، فيحكم القاضي بأنه كالمنكر الناكل، ويحلف المدعي اليمين المردودة. وهل يسمع من قائلها الإنكار بعدُ أو لا؟ (1). _________ (1) هنا انتهى الموجود من المسألة.

(18/510)


الرسالة الثانية والثلاثون الفسخ بالإعسار

(18/511)


الحمد لله. الفسخ بالإعسار ثابت في المذهب، وإذا بحثنا عن علته ظهر لنا أن النكاح عقدٌ بمقابلٍ كالبيع، فهو إباحة الانتفاع بالبضع إلى مقابل الصداق والإنفاق. ولا يَرِد علينا أنه تجب النفقة في غير حال الانتفاع، كما إذا كان عنينًا أو غائبًا. فإننا نقول: إن المنفعة تلِفَتْ تحت يدِه، فهي من ضمانه. لا يقال: إنها تحتَ يدِ مالكها. فإننا نقول: إنها وإن كانت تحت يده صورةً فهو باذلٌ لها وممنوعٌ من التصرف فيها، فهي من ضمان الزوج قطعًا، بخلاف ما إذا أبى صاحبها من التمكين. والمذهب أن المشتري إذا أعسر بالثمن، أو كان ماله غائبًا بمسافة قصرٍ، فللبائع الفسخ، لخبر «الصحيحين» (1): «إذا أفلسَ الرجلُ ووجدَ البائعُ سِلْعته بعينها، فهو أحقُّ بها من الغُرماء». وقِيسَ عليه سائر المعاوضات كالإجارة، وعلى الفلس الإعسارُ. فكذا يكون النكاح، بل هو أولى، لتجدُّد الضرر كلَّ يوم واعتضادِه بالضرر الآخر. وإذا بحثنا عن علة الفسخ بالإعسار ظهر لنا أنها تعذُّر تسليم العوض، والعلة موجودة فيما إذا غاب غيبةً منقطعةً، أو امتنع ولم يُقدَر على ضبطه. فإن قيل: ثَمَّ فارقٌ، وهو أنه يمكن في منقطع الغيبة أن يرجع، وفي الممتنع أن يمتثل. قلنا: وكذا المعسر يمكن أن يتصدق عليه، بل هو أولى، لأن إمكان _________ (1) أخرجه البخاري (2402) ومسلم (1559) من حديث أبي هريرة، واللفظ لمسلم.

(18/513)


يساره أقرب من إمكان رجوع منقطع الغيبة وامتثال الممتنع، مع أنهم قد صرَّحوا في البيع بالفسخ إذا كان مالُه بمسافة قصرٍ. وأنت خبيرٌ أن النكاح أولى، لتجدُّد الضرر واعتضادِه بالضرر الأكبر، ولكن لفسخ النكاح من الأهمية ما ليس لفسخ البيع، فلا يجوز ما دام الضرر خفيفًا، كما في غيبة المال بمسافة القصر. ولا يمنع الفسخَ غِنَى الزوجةِ أو وجودُ مَن يُنفق عليها، كما لا يمنع ذلك في البائع والمؤجر.

(18/514)


الرسالة الثالثة والثلاثون مسألتان في الضمان والالتزام

(18/515)


شهد الشريف أحمد زين حوذ أن أحضر حسين امعيسى فلم يُقبل، لكونه كان وكيلًا في الدعوى، مع أن حرفته التوكل. وفي فتاوى السيد محمد بن عبد الرحمن بن سليمان ما لفظه: وفي «فرائد الفوائد» لسيدي عبد الرحمن بن سليمان رحمهما الله تعالى: أفتى الفقيه أحمد السانه أن من حرفته التوكل في منازعة الخصوم إنما يقدح ذلك في شهادته، ولا تُقبل شهادة من وكلاء القاضي. انتهى، والله سبحانه وتعالى أعلم. نعم، ثم ظهر لنا من حكم القاضي عافاه الله أنه بناه على أن العقد كفالة ببدن، والصارف للفهم أولًا عن ذلك أن حسين امعيسى معترف لدينا بأنه ملتزم بالمال، ووردت شهادة بأن أبا سودان كان يعزم إليه قبل الحضور عند القاضي ويطلب منه المال فيلتزم له بذلك، وصادقها حسين امعيسى. وفهمنا من كلام القاضي عبد الله عافاه الله أنه بنى ذلك على أن لفظ الالتزام كفالة، وأنه مخصوص بكفالة البدن. فلما خاطبناه أجاب بأنه حصل الإبراء، وتجوَّز به عن تسليم المكفول به إلى الحبس. وليس الأمر كما ظنَّ، بل يكفي في الضمان لفظٌ يُشعِر بالالتزام، كان بالمال ضمين أو زعيم أو كفيل. وعبارة «الروض» مع شرحه (1): «(الركن الخامس) للضمان الشامل للكفالة ([صيغة] الالتزام) لتدل على الرضى، والمراد بها ما يُشعِر بالالتزام، فيشمل اللفظَ والكتابة وإشارةَ الأخرس، (كضمنتُ مالَك على فلان أو تكفَّلتُ ببدنه أو أنا بإحضار بدنه أو بالمال) أو _________ (1) (2/ 244).

(18/517)


بإحضاره كما عبَّر به الأصل (أو بإحضار الشخص كفيل أو زعيم أو ضامن أو حميل أو قبيل) أو صبير أو ضمين أو كافل، وكلها صرائح». وفي «الشرح» (1) أولَ الباب: ويُسمَّى الملتزم لذلك ضامنًا وضمينًا وحميلًا وزعيمًا وكافلًا وكفيلًا وصبيرًا وقبيلًا. قال الماوردي: غير أن العرف جارٍ بأن الضمين يُستعمل في الأموال، والحميل في الديات، والزعيم في الأموال العظام، والكفيل في النفس، والصبير في الجميع. وكالضمين فيما قاله الضامن، وكالكفيل الكافل، وكالصبير القبيل. قال ابن حبان في «صحيحه» (2): والزعيم لغة أهل المدينة، والحميل لغة أهل مصر، والكفيل لغة أهل العراق. ا? . وأما ما ذكره الماوردي أن العرف استعمال الكفيل على الملتزم بالنفس فالعرف الآن في اليمن استعماله في الدية أيضًا. ولو فرضنا أن العقد كفالة بالبدن، فتجديده للالتزام بالمال بعد ذلك ــ كما شهدت به الشهادة واعترف به حسين امعيسى ــ يُعدُّ ضمانًا مستقلًّا. ولا ضيرَ في أن يكون الشخص كفيلًا بالبدن بصيغةٍ وضمينًا بالمال بأخرى. وأما قولهم ــ واللفظ لشيخ الإسلام في «منهجه» (3) ــ: (ولا يُطالَب كفيلٌ بمال، ولو شرط أنه يغرمه لم يصح)، فذلك في ما إذا كان عقدًا واحدًا، بأن كفلَ ببدنه فقط، أو كفل بشرط أنه يغرم، أما إذا كان بالتزامٍ آخر فلا ريبَ _________ (1) (2/ 235). (2) (10/ 480). (3) «فتح الوهاب شرح منهج الطلاب» (3/ 385 - 386 مع حاشية الجمل).

(18/518)


أنه يلزم. فالحاصل: قد ثبت لدينا التزامُ حسين امعيسى بالذي وضحه ضمانه، ولم يثبت الإبراء، فيلزمه الوفاء بضمانه، وبذلك حكمتُ بعد العرض على سيّدنا ومولانا إمام الحق أيَّده الله تعالى. وحرِّر في ربيع الثاني سنة 1337.

(18/519)


[قضية أخرى في الضمان] حضر لدينا عبد الرحمن باسودان وادَّعى على الحاضر معه حسين عيسى العيسى بأنه ضمن له على السيد علي المداح ... ريال، وقد تسلَّم منها ... ريال وبقي ... ريال، يطلب ضبطه بتسليمها. أجاب المدعى عليه بأن هذه الدعوى قد أُقيمت لدى القاضي عبد الله العمودي وحكم فيها، وأبرز الحكمَ، ولفظه: بالمجلس الشرعي حضر السيد علي بن محمد الصعدي الحوثي الأصل، وحضر بحضوره الغرماء له: الشيخ أحمد عيسى هرملي، وحمد علي حسين، وعبد الرحمن باسودان، وسالم باعيسى. وصار الخطاب لهم في شأن كفالة حسين امعيسى على السيد علي لهم، إما بإطلاق السيد علي على كفالة السيد علي من حسين امعيسى، أو بقائه في الحبس وخروج حسين امعيسى عن الكفالة. فاختاروا بقاء السيد علي في الحبس. فأرجعنا السيد علي في الحبس، وبرئ حسين امعيسى من كفالته على السيد علي لرِضا الغرماء ببقائه في الحبس، فيتفرغ عن حسين امعيسى كلٌّ من حمدي علي حسين وغيره من الغرماء، لأن المكفول به قد سلمه الغرماء له من محل اللزوم ... إلخ. فوجدنا القاضي أولًا خيَّر الغرماء بين التزام الغريم أو التزام الضمين، ولا ريب أن هذا منه إفهام لهم بأنه لا يمكِّنهم الشرعُ من مطالبتهما معًا، ثم لما اختاروا بقاء الغريم في الحبس حكم للضمين بالبراءة من الضمان، وبنى ذلك على اختيارهم بقاءَ الغريم في الحبس. فظاهر ما ذكر أن القاضي توهَّم أنه ليس للمضمون له مطالبة الغريم والزعيم معًا، بل إذا اختار مطالبة الغريم برئ الضمين، لأنه كالنفي لضمانه، لظنِّه أن فائدة الضمان هي سقوط الطلب

(18/520)


عن الغريم. وهذا باطل، بل لصاحب الحق مطالبة لهما اجتماعًا وانفرادًا وتوزيعًا، كما حرِّر ذلك في «مختصر أبي شجاع» فما فوقه. ولذلك راجعنا القاضي، فأجاب علينا أنه وقع الإبراء من الغرماء والمدعي معهم، وأن هذه المسألة نظيرة العفو عن القصاص الممثَّل بها للقاعدة المشهورة: «ما لا يقبل التبعيض فاختيار بعضه كاختيار كلّه ... » إلخ. ففهمنا من فحوى هذا أن الإبراء صدر من بعض الغرماء دون هذا المطلب، وإنما حكم عليه تبعًا لهم، وذلك واضح البطلان. فراجعناه مرةً أخرى، وسألناه هل نطق هذا المطالب حينئذٍ بالإبراء، فإن نطق فبأيّ صيغ الإبراء؟ عملًا منا بما قاله في «شرح الروض» (1) بعد قول المتن: «وإن قال وهو في محل ولايته: حكمتُ بطلاق نساء القرية، قُبل بلا حجة»: لقدرته على الإنشاء حينئذٍ، بخلاف ما لو قاله على سبيل الإخبار، فلا يقبل قوله. كذا صرَّح به البغوي، وهو مقتضى كلام الأصل. وينبغي أن يكون محله ما لو أسنده إلى ما قبل ولايته، قاله الأذرعي. وما قالوه من قبولِ قوله ظاهر في القاضي المجتهد مطلقًا أو في مذهب إمامه، أما غيرهما ففي قبول قوله وقفةٌ. وقد استخرت الله وأفتيتُ في من سُئل من قضاة العصر عن مستند قضائه: أنه يلزمه بيانه، لأنه قد يظن ما ليس بمستندٍ مستندًا كما هو كثير أو غالب. وفي حاشيته على قول الأذرعي: قال الخادم: هذا إذا لم يسأل، فإن سأله _________ (1) (4/ 292).

(18/521)


المحكوم عليه عن السبب فجزم صاحب «الحاوي» وتبعه الروياني بأنه يلزمه بيانه. إلى أن قال: وخرج من هذا تخصيص قول الأصحاب إن الحاكم لا يسأل أيَّ سؤال اعتراض، أما سؤال في مطلب الدفع عن نفسه فيتعين على الحاكم الإبداء بسجن المحكوم عليه تخلُّصًا. هذا في القاضي أثناء ولايته، فأما بعد عزله فأولى وأحرى. فأجاب علينا بأن المطالب عند حضوره لديه تكلم كما تكلم الغرماء، ولزمه ما لزمهم، ولم يعين الصيغة، فارتبنا في شهادته هذه، حيث إن كلامه في ورقة الحكم صريح في أنه جعل اختيارهم حبس الغريم إبراءً للزعيم. وبعد أن راجعناه أفهم تنظيره بمسألة القصاص من القاعدة المذكورة آنفًا أنه لم تقع البراءة إلّا من بعض الغرماء، فألزمَ الحكمَ الجميعَ. وجوابه الأخير علينا يوافق ذلك، حيث قال: إن هذا المطالب تكلَّم كما تكلَّم الغرماء ولزمه ما لزمهم. والقاضي ــ عافاه الله ــ غير بعيد عن الوهم، مع أنه الآن متهم، لأنه قد يدفع بهذه الشهادة عن نفسه عارَ الغلط الواضح، وقد قال في «الروضة» (1) في باب ما يُردّ به الشهادة: «السبب الخامس: أن يدفع بالشهادة عن نفسه عار الكذب، فإذا شهد فاسق وردَّ القاضي شهادته ثم تاب بشرط التوبة، فشهادته المستأنفة مقبولة بعد ذلك. ولو أعاد تلك الشهادة التي رُدّت لم تُقبل». _________ (1) روضة الطالبين (8/ 216) ط. دار عالم الكتب.

(18/522)


وأما كونه قاضيًا معزولًا يشهد بقضية وقعت لديه فليس هذا قادحًا في الشهادة، إلا إذا شهد بأنه حكم، أما إذا شهد بنحو إقرار وقع في مجلسه فإنها تُقبل. قال في «الروضة» (1): إذا قال القاضي بعد الانعزال: كنتُ حكمتُ لفلانٍ بكذا، لم يُقَبل إلا ببينة. وهل تُقبل شهادته بذلك مع آخر؟ وجهان: قال الإصطخري: نعم. والصحيح باتفاق الأصحاب المنعُ، لأنه شهد على فعلِ نفسه». إلى أن قال: «ولو شهد المعزول أنه ملك فلان، وأن فلانًا أقرَّه في مجلس حكمي بهذا، قُبِلَت». ولما لم يفسّر لنا هذا الإبراء الذي يذكره ولم يبيّن لنا صيغته، واشتدّت الريبة وتضافرت أسباب التُّهم، بحثنا عن حكم ذلك ونحوه، فعثرنا في «عماد الرضا» لشيخ الإسلام زكريا رحمه الله على ما لفظه (2): «فائدة، هل يجوز للشاهد أن يشهد باستحقاق زيد على عمرو درهمًا إذا عَرَف سببه، كأنْ أقرَّ له به، فشهد أن له عليه درهمًا؟ قال ابن الرفعة: قال ابن أبي الدم: فيه وجهان، أشهرهما: لا تُسمع شهادته وإن وافقه في مذهبه؛ لأن الشاهد قد يظن ما ليس بسبب سببًا، ولأنه ليس له أن يرتِّب الأحكام على أسبابها، بل وظيفته نقْلُ ما سمعه من إقرار أو عقد أو غيره، أو ما شاهده من الأفعال. ثم الحاكم ينظر فيه، فإن رآه سببًا رتَّب عليه مقتضاه. وهذا ظاهر نصّ «الأم» و «المختصر». وقال صاحب «الشامل» وغيره: بعد اطلاعه على النصّ تُسمَع شهادتُه، وهو مقتضى كلام «الروضة» كأصلها». _________ (1) (8/ 111). (2) (1/ 214 - 215) مع شرح المناوي.

(18/523)


قال المناوي في شرحه بعد الوجه الأول: وبذلك أفتى ابن الصلاح، واعتمده ابن الرفعة فقال: الذي أراه أنها لا تُسمَع، وعليه بيان السبب كيفما كان، سدًّا لباب الاحتمال ونفيًا للريب، كما في النفي المحصور المضاف إلى زمن مخصوص محصور، بعد أن فصَّل عن قضية كلام الماوردي تفصيلًا حسنًا، وهو أنه إن كان السبب مجمعًا عليه جاز له أن يشهد بالاستحقاق، وإلّا فلا. وقال الشارح بعد الوجه الثاني: قال الأذرعي في «التوسط»: وهو أي سماعها ظاهر المذهب المنصوص، لكن المختار ما ذكره أبو عمرو من المنع، ولا شك أنه الأحوط وإن كان ظاهر المذهب خلافه. ثم نقل عن صاحب «الغنية» وتلميذه الزركشي أن الأول هو القياس والراجح دليلًا والمختار، والأول هو المذهب المنقول. وإذ قد صحَّ أن الأول هو منصوص «الأم» و «المختصر» فهو الأولى بأن يكون المذهب، وقد يُفصَّل بأن يقال: إن حدثتْ في القضية تُهَمٌ قوية فالأول، وإلّا فالثاني. وقضيتنا الحادثة قد سبق بيان التهم التي فيها، فتعيَّن الإبراء. والقاضي ــ عافاه الله ــ ممن يدّعي الاجتهاد ويَهِم كثيرًا، وهذه الشهادة والحكم ببقاء الضمان وعدم صحة ... نعم لو فرضنا صدور الإبراء فهو بصريح ورقة الحكم، وإنما صدر بعد التخيير الذي يُفهِم الغرماء أنه ليس لهم مطالبة كلٍّ من الغريم والزعيم، بل يختارون أحدهما ويُبرِئون الآخر، وإلا لم يتوصَّلوا إلى الضبط بمالهم، فحينئذٍ يكون إبراؤهم مبنيًّا على ظنّهم أنه ليس لهم مطالبة الغريم إلّا بعد إبراء الزعيم.

(18/524)


وقد تعالى الخلاف الجاري في مسألة ما إذا أبرأ المطالبُ الغريمَ ظانًّا أن حقه قد انتقل إلى ذمة الزعيم يجرى في هذه، والذي رجحه ابن قاسم أن الإبراء لا يصح، فكذا في هذه. فإن قيل: الفرق ظاهر، فإن الإبراء في تلك عن حق مظنونٍ سقوطُه بالضمان هناك، ولا كذلك هنا، فإن المطالب لا يجهل أن ذمة الضامن متعلقة بدينه. قلنا: بل هو مظنون سقوطه باختيار بقاء الغريم، ولكن لا ينافي هذا إلا إذا كان الإبراء بعد اختيار بقاء الغريم في السجن.

(18/525)


الرسالة الرابعة والثلاثون مسألة الوقف في مرض الموت

(18/527)


[في «تحفة المحتاج» (1): (فرع) يقع لكثيرين أنهم يقفون أموالهم في صحتهم على ذكور أولادهم قاصدين بذلك] حرمان (2) إناثهم، وقد تكرر من غير واحدٍ الإفتاء ببطلان الوقف حينئذٍ، وفيه نظر ظاهر، بل الوجه الصحة ... إلخ. وفي الحاشية (3): «قوله (في صحتهم) أي أما في حال المرض فلا يصح إلا بإجازة الإناث، لأن التبرع في مرض الموت على بعض الورثة يتوقف على رضا الباقين. قوله: (وقد تكرر من غير واحد) عبارة «النهاية»: والأوجه الصحة، وإن نُقِل عن بعضهم القولُ ببطلانه». وفي القليوبي (4) عند قول المتن (ولوارث): «تنبيه، شملت الوصية للوارث ما لو كانت بعين ولو مثلية، ولو قدر حصته، لكن مع تمييز حصة كلٍّ منهم، وكالوصية في اعتبار الإجازة إبراؤه والهبة له والوقف عليه. نعم لو وقف عليه ما يخرج من الثلث على قدر نصيبه لم يحتج إلى إجازة، وليس له إبطاله، كما لو كان له دار قدر ثلث ماله، فوقف ثلثيها على ابنه وثلثها على ابنته، ولا وارث غيرهما ... » إلخ. وفي حاشية الشيخ عميرة (5): «(فرع) لو وقف ما يخرج من ثلثه على ورثته بقدر أنصبائهم في مرض الموت صحَّ، من غير احتياج إلى الإجازة. _________ (1) (6/ 247). (2) لم نجد ما قبله في المسودات. وما بين المعكوفتين من المصدر المذكور. (3) «حاشية الشرواني» في الموضع السابق. (4) «شرح المحلي على منهاج الطالبين مع حاشيتي القليوبي وعميرة» (3/ 159 - 160). (5) المصدر السابق (3/ 159).

(18/529)


ذكره الزركشي ... » إلخ. وفي حاشية عميرة (1) في الوقف عند قول المتن: (شرطنا القبول أم لا): «(فرع) وقف على ابنه دارًا هي قدر ثلث ماله، وكان ذلك في مرض موته، فهو وصية، ولا ترتد بردِّ الولد، ويحتاج إلى إجازة. كذا في الزركشي نقلًا عن الشيخين». وفي حاشية الشرقاوي على «شرح التحرير» (2) عند قول المتن في الوصايا: (ولوارث إن أجاز باقي الورثة المطلقين التصرف، حتى لو أوصى لكلٍّ من بنيه بعين بقدر نصيبه صحت). وفي الشرح: بشرط الإجازة لاختلاف الأغراض في الأعيان ومنافعها. قال الشرقاوي: قوله «إن أجاز» كالوصية للوارث إبراؤه من الدين وهبته والوقف عليه. نعم لو وقف عليهم ما يخرج من الثلث على قدر نصيبهم نفذ من غير إجازة، فليس لهم نقضه، ولابدّ لصحة الإجازة من معرفة قدر المجاز فيه أو عينه. أفاده محمد رملي. وفي «التحرير» (3) في باب الوقف: التبرع وصية وهبة وعتق وإباحة ووقف ... إلخ. فكل هذه النقول قاضية بما أجيب به، ولم تكن إطالة النقل عبثًا، إلّا لما رأيته في «حاشية القليوبي (4) على المحلي» في باب الوقف عند قول المتن: _________ (1) المصدر السابق (3/ 102). (2) (2/ 77). (3) (2/ 173). (4) (3/ 101).

(18/530)


(وأن الوقف على معين يشترط قبوله، ولو ردّ بطل حقه) ما نصُّه: قوله «يشترط فيه قبوله» هو المعتمد، ومنه ولد الواقف، كوقفتُ على ولدي فلان. نعم، لو وقف في مرض موته على ورثته الحائزين ثلث ماله بعدد حصصهم، أو على أحد ورثته عينًا قدر ثلث ماله نفذَ قهرًا عليهم، ولا يرتدُّ بردّهم فيهما، فإن زاد على الثلث توقف على إجازتهم كالوصية. فأما الصورة الأولى فهي موافقة للنقول السابقة، وأما الثانية فمشكل، وقد نقلها عنه الشرقاوي في «حواشي التحرير» (1)، فقال عند قول المتن في الحَجْر (وحجر مرض في الثلثين مع غير الورثة إذا تصرّف فيهما بلا عوض، وفي كل المال مع الورثة): قوله «وفي كل المال» أي كلّ جزء منه ولو دون الثلث مع الوارث، وهذا في غير الوقف، أما هو كأن وقفَ شيئًا يخرج من الثلث على بعض الورثة، فلا يحتاج إلى إجازة بقيتهم، بخلاف الوصية. والفرق أن الملك في الأول لله تعالى، وفي الثانية للموصى له. وكالوصية الإبراء، فيتوقف على إجازة بقية الورثة. أفاده القليوبي. وذكر البرماوي على الغزّي أن الوقف كغيره، فراجع ذلك. أقول: ما ذكره القليوبي رحمه الله ونقله الشرقاوي مشكل، على أنه ليس في حاشيته على المحلي إلّا ما نقلتُه، اللهم إلَّا أن يكون في موضع آخر. وسواء كان المفرق هو الناقل أو المنقول عنه فالفرق غير معتبر، لأننا نقول أولًا: إن في ملك الموقوف خلافًا، الثالث في المذهب أنه للموقف عليه، وهو مذهب الإمام أحمد كما صرحوا به. سلَّمنا أن الملك لله تعالى كما هو _________ (1) (2/ 185).

(18/531)


الأظهر، فذلك الملك ليس إلا في الرقبة، وأما المنافع فهي للموقوف عليه قطعًا، والمنافع هي المقصودة، فإنما تُقصَد العين لأجل منافعها. على أن في «التحفة» (1) عقب قول المتن (ولوارث) في الوصايا: أنه لو علَّق عتق عبده بخدمة بعض أولاده فإنه يحتاج للإجازة، لأن المنفعة المصروفة للمخدوم من جملة التركة. فعبارة القليوبي تفيد أن الوقف مطلقًا بنصّه من الثلث، لأنه تبرع لغير الوارث وإن كان عليه نظر إلى أن الأظهر أن الملك في الرقبة لله تعالى، لكن ضعف ذلك ظاهر، إذ شرط العين الموقوفة دوام الانتفاع ولو بالنسبة، ولا تقصد العين إلا للمنفعة، فأيّ فائدة في رقبتها مسلوبة المنفعة؟ ثم رأيت في حاشية الشيخ عميرة (2) عند ذكر الوصية بالمنافع أبدًا على قول المتن (وأنه يبقى ملك الرقبة للوارث) ما لفظه: قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ما زلتُ أستشكل ملك الرقبة دون المنفعة، وأقول: ما الذي يستفيده ويحصل له من ملكها؟ حتى رأيتُ قائلًا في النوم يقول: لو ظهر في الأرض معدن ملكه مالك الرقبة دون المنفعة. وفي «المنهاج» (3) في الوصية بالمنافع: وإن أبّد فالأصح أنه يصحّ بيعه للموصى له دون غيره، وأنه تعتبر قيمة العبد كلها من الثلث إن أوصى بمنفعته أبدًا. _________ (1) «تحفة المحتاج» (7/ 15). (2) (3/ 172). (3) مع شرحه «تحفة المحتاج» (7/ 66 - 68).

(18/532)


وفي «التحفة» (1) وغيرها التعليل بأن الموصي حالَ بين الوارث وبين المنفعة، ويتعذر تقويم المنفعة للجهالة. قال في «التحفة»: «فيتعيَّن تقويم الرقبة مع منفعتها، فإن احتملها الثلث لزمت الوصية في الجميع، وإلا ففيما يحتمله، فلو ساوى العبد بمنافعه مئةً وبدونها عشرةً، اعتبرت المئة كلها من الثلث، فإن وفى بها فواضح، وإلّا كأن لم يفِ إلا بنصفها صار نصف المنفعة للوارث، والذي يتجه في كيفية استيفائها أنهما يتهايآنها» (2). فالمنفعة هي المقصودة، وأما العين فليست إلّا آلةً لها ووسيلةً إليها، فهاهم أقاموا المنفعة مقامها مع الرقبة، حتى قوَّموها بقيمة الرقبة والمنفعة، ولم ينظروا إلى الرقبة إذ لا فائدة فيها. فلتُعتبر في الوقف المنفعة لا الرقبة. وإذا رأيت مسألة «التحفة» في تعليق عتق العبد بخدمة بعض الأولاد، وأن ذلك يحتاج إلى الإجازة= علمتَ أن هذا أولى وأحرى. والمقصود من الوقف ليس هو حبس الرقبة عن أن يتصرف فيها، وإنما المقصود هو الصدقة الجارية كما توضِّحه نصوصهم، وبه فسَّروا الحديث، ولا يخفى أن الصدقة الجارية إنما تحصل بالمنفعة، وحبس العين وسيلة لها. ولو سلَّمنا صحة الفرق فكيف نصنع بما تقتضيه النقول السابقة، ولاسيَّما ما ذكره الشيخ عميرة عن الزركشي عن الشيخين بقوله «فرع». وقد أطنبنا في الكلام لاقتضاء المقام، فإن مثل ذلك الإمام يتمسك بعبارته الخاص والعام، وهذا معروض على نظر سادتنا العلماء الأعلام، وعليهم الاهتمام وتوضيح المقام، والسلام. _________ (1) مع شرحه «تحفة المحتاج» (7/ 68). (2) التهايؤ: قسمة المنافع على التعاقب بصفة وقتية.

(18/533)


الرسالة الخامسة والثلاثون الفوضى الدينية وتعدُّد الزوجات

(18/535)


كثر هذه الأيام تحكُّكُ المتفرنجين بالمسائل الدينية وتوثُّبُهم عليها، والذي يسوء الحق إنما هو أن يتصدى الإنسان للتحكُّم في فنٍّ هو فيه أمّي أو تلميذ صغير. إن العاقل الذي لا حظَّ له من الطب إلا مطالعة بعض الكتب، لَيحجزه عقلُه عن التطبب، وهكذا عامةُ الفنون يمتنع العاقل أن يتحكم في فنٍّ منها ليس فنَّه. ولكن الدين شذَّ عن هذه الكلية، فلا تكاد تجد أحدًا يعترف أو يعرف أنه ليس ممن يحقُّ لهم الكلامُ فيه. يقولون: إنها حرية الفكر! حبَّذا حرية الفكر، ولكن أَمِن حرية الفكر أن يصمد الإنسان لقضيةٍ لم يُتقِن أصولَها، ولا أسبابها وعللها، ولا غوامضها ودقائقَها، فيعبّر فيها على ما خيلت؟ إن حقًّا على العاقل إذا أحبَّ أن يكون حرَّ الفكر أن يختار له موضوعًا ينفذ فكرُه إلى أعماقه، ويتغلغل في دقائقه. افرِضْ أنك طبيب، وأنه اعترضك بدويٌّ يناقشك في أصول الطب، أو أنك عارف بعلم الفلك الحديث، وعرضَ لك عاميٌّ ينازعك فيه، وكلاهما ــ البدوي والعامي ــ لا يُصغِي إليك حتى توضح له الحجج، أو لا يستطيع في حاله الراهنة أن يفهمها، لأنه لم يتعلم مقدمات ذلك الفن، ولكنه مع ذلك يجزم بما ظهر له، ويرميك بالجهل والغفلة، فهل تعدُّه حرَّ الفكر؟ لقد بلغ بالناس حبُّ الاشتهار بحرية الفكر إلى أن أغفلوا النظر في صواب الفكر وخطائه، وأصبحت حرية الفكر مرادفةً للخروج عما كان عليه الآباء والأجداد. ولقد يعلم أحدهم أن ما كان عليه آباؤه وأجداده هو الصواب، ولكن شغفه بأن يقال حرَّ الفكر يضطرُّه إلى مخالفته. فهل يستحق مثل هذا أن يقال له حرَّ الفكر؟

(18/537)


وكثير منهم يدع تقليد أسلافه ويقلِّد بعض الملحدين، فهل خرج هذا من الرقِّ إلى الحرّية؟ كلَّا، بل خرج من رقٍّ إلى رقٍّ. حرُّ الفكر هو الذي يُطلِق فكره حيث يستطيع الانطلاق ويكفُّه حيث يحبّ الانكفاف. حرُّ الفكر هو الذي يحرِصُ على الحق أينما كان، فإذا ظهر أن الحق هو ما كان عليه أسلافه لزِمَه، ولم يُبالِ بأن يقال: جامد مقلِّد. حرُّ الفكر هو الذي يحرِص على الثبات على المبدأ الذي كان عليه أسلافه، حتى تقهره الحجة الواضحة. أمامنا من تلك المسائل مسألة تعدد الزوجات، مسألة معلومة من دين الإسلام بالضرورة، بل ومن الفطرة ومن المصلحة، ثم لا يزال بين حينٍ وآخر يخوض فيها عاشق من عشاق الشهرة بحرية الفكر، وهو عبد من عبيد الإفرنجيّات، اللاتي تُؤثِر إحداهن أن يبقى بَعلُها مضطرًّا إلى مخادنة العواهر، حتى يضطر إلى السماح لها بمخادنة الفجار، وترى أنه لو أبيح له تعدد الزوجات قد يستغني عن الزنا، فلا يبقى مانعٌ يمنعه من مراقبتها ومنعها عن الفجور بمقتضى الغيرة الطبيعية. كما أن رجال الإفرنج بعد أن ألِفوا الزنا يُعادون تعددَ الزوجات، لعلمهم أن القانون إذا أباح التعدُّدَ قلَّ أنصار الزنا وكثُر خصومُه، وضعفت الشبهات التي بُني عليها إباحتُه وإباحةُ مقدماته من الرقص والخلوة والاختلاط المريب. ولقد يكتب الكاتب خلاف تعدد الزوجات، لعداوته للدين أو لعداوته للأمة، فهو لا يحب لها شرفَ الأخلاق، أو ليرخّص بذلك المتبرِّجات من النساء ليكون له نصيبٌ من قلوبهن ثم مِن ...

(18/538)


وأخفُّهم ذنبًا مَن يكون قليل المعرفة بالدين، قاصر النظر في مصالح العباد، ضعيف الباه، فينظر هذا إلى ما في تعدد الزوجات من النقائص، ولا يلتفت إلى ما في منعه من المفاسد. تعدد الزوجات في الدين: جواز التعدد معلوم من دين الإسلام بالضرورة، ولكن أثار بعض المتأخرين شبهة، وهي أن الله عزَّ وجلَّ قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]، وقال في موضع آخر: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129]. فالآية الأولى ألزمت المسلم إذا خاف عدمَ العدل أن يقتصر على واحدةٍ. وعُلِم بالآية الثانية أن كلَّ مسلم مصدِّقٍ بخبر الله عزَّ وجلَّ يعلم أنه لا يستطيع العدل، فأنَّى يتصور أن لا يخاف عدم العدل؟ والجواب عن ذلك أنه لو فرِض صحةُ دلالة الآيتين على المنع لم يجز العمل بهذه الدلالة، لِما تواتر قطعًا أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كانوا يجمعون مثنى وثلاث ورباع بعد نزول الآية، مع علمه - صلى الله عليه وآله وسلم - وإقراره، ثم لم يزل العمل على ذلك إلى الآن، وأطبقت عليه الأمة، ولم يخالف في ذلك أحدٌ البتةَ. وهذا المعنى حجة قطعية لا يخدِش فيه ظاهرُ القرآن. مع أن الصواب أن ظاهر القرآن لا يدل على المنع، بل يدلُّ على الجواز، ودونك البيان: قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ

(18/539)


النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]. في «الصحيحين» (1) وغيرهما عن أم المؤمنين عائشة ما حاصله: أن المراد باليتامى في الآية اليتامى من النساء، تكون اليتيمة في حجْرِ الرجل ولها مال، فيتزوجها لأجل مالها، وليس لها من قلبه شيء، فلا يُقسِط لها، فنُهوا عن ذلك، وتقدير الآية هكذا: «وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى من النساء اللاتي في حجوركم إذا نكحتموهن، فلا تنكحوهن، وانكحوا ما طاب لكم من النساء ... ». والمراد بالطيب أن تكون المرأة محبوبة له لنفسها لا لمالها، فإنه إذا تزوج مَن يحبّها كان أحرى أن يُقسِط لها. وقوله: (تعدلوا) فعل، والفعل في قوة النكرة كما نصُّوا عليه، فقولك: «لم يعدلْ زيد» في قوة قولك: «لم يقع من زيدٍ عدلٌ»، والنكرة في سياق النفي تعمُّ كما نصُّوا عليه. إذا قلتَ: «ما جاءني اليومَ رجلٌ» كان في قوة قولك: «ما جاءني اليومَ زيد ولا عمرو ولا خالد ولا بكرٌ ... » حتى يستوعب جميع أفراد الرجال. فقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} في قوة قولك: «فإن خفتم أن لا يقع منكم ما يصحّ أن يقال له عدلٌ». ولو كان بيد الرجل تمرتان لا فضلَ لإحداهما على الأخرى، فقال لزوجتيه: لتأخذْ كلٌّ منكما واحدةً= لكان هذا عدلًا، فخوف الرجل أن لا يقع منه بين زوجتيه أو زوجاته شيءٌ يُسمَّى عدلًا مما لا يكاد يتحقق. ومما يؤيد أن المراد هذا المعنى ما تقرر في المعاني أن وضع «إن» _________ (1) البخاري (4573، 4574) ومسلم (3018).

(18/540)


الشرطية لفرض الممتنع وما قرب منه. ويؤيده أيضًا أنه لو كان المراد: «وإن خفتم أن لا يقع منكم العدل الكامل» لما بقي لقوله: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} معنًى، لأن العدل الكامل ممتنع كما دلَّ عليه قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا ... } الآية، فإن المراد بالعدل فيها العدل الكامل، وهاك تقرير ذلك: قال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا .... (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 128 - 129]. قوله: {تَعْدِلُوا} فعل في سياق النفي، فهو من هذه الجهة يصدُق بالخفيف والشديد، ولكن هنا أدلة أن المراد: عدلًا كاملًا. الدليل الأول: الحسّ والمشاهدة، فإننا نعلم أن الرجل يستطيع أن يعدِل أنواعًا من العدل بين ألف زوجة، فضلًا عن ثنتين أو ثلاث أو أربع، وذلك كأن يقسم بينهن تمرًا أو نحوه مرةً واحدةً أو مرتين أو مرارًا. وقد تقرر في الأصول أن النصّ الشرعي إذا كان بظاهره مخالفًا للواقع وجبَ تقدير ما يجعله مطابقًا له. الدليل الثاني: الأوامر [القاضية] (1) بالعدل بين الزوجات، ومنها قوله في هذه الآية نفسها: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} _________ (1) هنا كلمة مطموسة ولعلها ما أثبتناه.

(18/541)


ولو كان العدل بينهن ممتنعًا قليلُه وكثيره لما كان لتلك الأوامر فائدة. الدليل الثالث: قوله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} فإن قوله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ} يدل أن النشوز والإعراض محتملٌ فقط، لأنه فُرِض الخوف منه فرضًا. و «امرأة» في الآية عام، لأنها نكرة في سياق الشرط، يتناول من كان لها ضرة ومَن لا ضرة لها. وتعقيب هذه الآية بقوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا} الآية يدل على تناول «امرأة» لمن كان لها ضرة أو ضرائر، ويدل على ذلك سبب النزول، فقد جاء أنه قصة أم المؤمنين سودة (1). ولو كان العدل ممتنعًا البتة لكان النشوز والإعراض متحققًا، وقد عُلِم من أول الآية أنه محتمل فقط. فإن قيل: فقد اعترفت أن العدل الكامل ممتنع، وحينئذٍ فلابد أن يقع نشوزٌ ما أو إعراضٌ ما، فكيف يكون هذا محتملًا فقط؟ قلت: قد يكون النشوز والإعراض خفيًّا بحيث لا يظهر للمرأة، وعليه فيمكن أن لا تخاف نشوزًا ولا إعراضًا. الدليل الرابع: قوله في الآية السابقة: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا}، والعدل فيها عام كما تقدم، وقد فُرِض امتناع الخوف من عدمه فرضَ المحتمل البعيد، وذلك ينفي أن يكون متحققًا حتمًا. فهذه أربعة أدلة تُقابل الأربع الزوجات، وثَمَّ أدلة أخرى لا حاجة إلى ذكرها. _________ (1) أخرجه أبو داود (2135) والحاكم في «المستدرك» (2/ 186) والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 74، 75) من حديث عائشة.

(18/542)


فإن لم تطمئن نفسك إلى عموم العدل في الآية الأولى، وزعمتَ أن المراد العدل المعروف لا العدل الكامل ولا نوع من العدل، فلنا أن نسلِّم لك ذلك ثم نقول: قوله: {فَانْكِحُوا} صيغة أمر، وليس للوجوب قطعًا، فيُحمَل على الاستحباب؛ لأنه أقرب المحتملات إلى الحقيقة المتعذرة، وهي الوجوب. وإذا ثبت هذا ثبت مثلُه في قوله: {فَوَاحِدَةً}، أي فانكحوا واحدةً. فتوضيح الآية هكذا: المستحب لكم أن تنكحوا اليتامى اللاتي في حجوركم إلّا أن تخافوا أن لا تُقسِطوا إليهن، فالمستحب لكم أن تنكحوا غيرهن من النساء مثنى وثلاث ورباع، إلَّا أن تخافوا أن لا تعدلوا بين الزوجات العدلَ المعروف، فالمستحبّ لكم أن تنكحوا واحدةً فقط. فغاية ما في الآية أنه عند الخوف لا يستحب نكاحُ أكثر من واحدة، وعدم الاستحباب لا يستلزم عدم الإباحة. فأما غير الإسلام من الأديان فحسبُك أن إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام كان له عدة زوجات، كما تعترف به التوراة. والله أعلم. تعدد الزوجات والفطرة: 1 - المقصود الأصلي من الزواج هو التناسل، والمرأة لا تستطيع أن تَحْبَل إلا مرة واحدة في السنة تقريبًا، والرجل يستطيع أن يُحبِل في ليلة واحدة عدة نساء. وقد نُقل عن عمر بن عبيد الله بن معمر أنه جامع في ليلةٍ سبعَ عشرة مرةً، وحُكي أن إفرنجيًّا وحبشيًّا تباريا، فلم يستطيع الإفرنجي إلّا ثلاث مرات بعد الجهد، وأتمَّ الحبشي ثلاثين مرة. 2 - مصلحة الطفل تقتضي أن لا ترضعه إلَّا أمُّه، وإذا جومعت أو حملت

(18/543)


قبلَ الرضاع أضرَّ ذلك بالطفل، ولاسيما إذا حملت. وأما الرجل فلا شأن له بذلك، أي أن جِماعه لامرأة في حالِ أن امرأة أخرى تُرضِع ولده لا يضرُّ بالطفل. روى أبو داود (1) بسند صحيح عن الربيع بن أبي مسلمة عن مولاته عن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «لا تقتلوا أولادكم سرًّا، فإن الغَيْلَ يُدرِك الفارسَ فيُدَعْثِره». وهذا الحديث إذا صحَّ فلابدَّ أن يكون متأخرًا عن قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - في الغِيْلة: «لو كان ذلك ضارًّا ضرَّ فارسَ والرومَ»، وقوله: «لقد هممتُ أن أنهى عن الغِيْلة، فنظرتُ في الروم وفارس، فإذا هم يُغِيلون أولادهم، فلا يضرُّ أولادهم ذلك شيئًا» رواهما مسلم (2). والدليل على تأخر حديث النهي أن قوله في الحديث الثالث: «لقد هممتُ أن أنهى» صريح في أنه لم يتقدم منه نهيٌ، والحديث الأول نهيٌ صريح. ودليل آخر، وهو أن الحديثين الأخيرين كانا عن اجتهادٍ وظنٍّ كما هو واضح، وحديث النهي جزمٌ بالضرر ولو بعد حينٍ، وظاهرٌ أن مثله لا يقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلا عن وحي. فإذا التزم الرجل والمرأة ترك الغيلة كان حاصل ذلك أن الرجل يجامع مرةً للغرض الأصلي وهو النسل، ثم يبقى نحو ثلاث سنين معطلًا إذا لم _________ (1) رقم (3881). (2) رقم (1442، 1443).

(18/544)


يكن له زوجة أخرى. 3 - كثيرًا ما تَعرِض للنساء الأمراضُ التي تمنع الحمل أو تُورِث الإسقاط، وقلّما يعرِض للرجل العقمُ. والمرأة بعد الخمسين من عمرها تيأس من الحمل، بخلاف الرجل فإنه تبقى له قوة التوليد إلى آخر عمره. وعلى هذا فإما أن يبقى الرجل مع هذه المدة معطَّلًا عن التوليد بتعطُّلها، وإما أن يطلِّقها عندما يشعر بذلك منها، وإما أن يتزوج غيرها، فأيُّ هذه أولى؟ 4 - ومن مقاصد النكاح التعفُّف، والمرأة تحيض وتمرض وتحبل وتلد وترضع، ويرغب عنها الزوج، فماذا يصلح .... ـلم في هذه الأحوال: أيطلِّقها ليتزوج غيرها، أم يزني، أم يتزوج عليها؟ أيُّ هذه [أولى]؟ أما المرأة إذا عرض لزوجها ما جعله قاصرًا عن إعفافها فلا مَخلَصَ لها إلّا بسؤال الطلاق، إذ لا مخلصَ غيره إلّا الزنا أو ما قد يتخيله بعض السفهاء من إباحة أن تجمع بين زوجين، فتختلط الأنساب، وتذهب الشفقة والرحمة، ويضيع الأطفال، إلى غير ذلك من المفاسد العظيمة. تعدد الزوجات والمصالح: 1 - من مقاصد النكاح الارتباط بين العائلتين، وقد يحتاج الرجل إلى الارتباط بعائلتين فأكثر، ولا يتم له ذلك إلّا بأن يتزوج امرأةً من هذه العائلة وامرأةً من الأخرى. 2 - ومن مقاصد النكاح قيام الرجل بنفقة المرأة، ولا تطيب نفسُ الإنسان غالبًا بأن يقوم بنفقة امرأةٍ لا علاقة له بها. 3 - ومن مقاصده قيام الرجل بحماية المرأة، وقلما يهتم الرجل بحماية غير زوجته أو ذات رحمه.

(18/545)


4 - ومنها قيام المرأة بتدبير منزل الرجل، وإذا كان الرجل غنيًّا كثير المال لم تكفِ المرأة الواحدة لتدبير منزله، فيضطر على اتخاذ الخدم، والخدم لا يهتمون بمصالحه كما تهتم زوجته. مفاسد تعدد الزوجات: أعظم مفاسده أنه معيبٌ عند الإفرنج، وقد كاد ينعقد الإجماع أن من تظاهر من المسلمين بموافقة الإفرنج في قضيةٍ منحه المتعلمون ذلك الوسام المحبوب وسامَ حرية الفكر، وهو في الحقيقة إما منافق ساقط الهمة ضعيف الإرادة خسيس النفس، وإما رِقُّ الفكر في أسفل درجات الرق. لأنه إذا كان يعلم الحقيقة، ولكنه تظاهر بمخالفتها ليقال حرّ الفكر، ورجَّح هذا الغرض الأدنى على الحق الديني الفطري المصلحي، الذي يحقّ أن يفتخر أسلافه وقومه بموافقته= فهو من الضرب الأول. وإن كان يجهل الحق، واغترَّ بعظمة الإفرنج الصورية، وتوهَّم أن ما عابوه يكون معيبًا في نفس الأمر= فهو من الضرب الثاني. 1 - تضرُّر المرأة بمشاركة غيرها لها في نفس زوجها وماله. 2 - ما يُخشى من تعادي المرأتين الذي ربما جرَّ إلى تعادي عائلتيهما. 3 - إذا ولد للرجل أولاد من هذه وأولاد من هذه اختصموا بعد موته، ومزَّقوا تركته، [بخلاف ما إذا كانوا] (1) كلهم أبناء امرأة واحدة، ربما اتفقوا وأبقَوا التركة محفوظة مشتركة. _________ (1) مطموس في الأصل.

(18/546)


4 - إذا كان للرجل عدة زوجات احتاج إلى نفقة كثيرة، وهذا مخلٌّ بالاقتصاد. 5 - ربما تتبَّع الغني النساء الحسان فيُحرَم منهن من يهواهن ويهوينه، وإذا مُنع من التعدد لم يتمكن من ذلك إلَّا في امرأة واحدة. 6 - إذا كان للرجل زوجة واحدة حَرَصَتْ على حفظ ماله، لعلمها أنه آئلٌ إلى أولادها، وإذا كان له زوجتان أو أكثر أخذت كلُّ واحدة تُبذِّر في المال، لعلمها أنه آئلٌ إلى أولاد عدوّتها. 7 - إذا كان للرجل زوجتان فأكثر احتاج إلى معاشرتهن كلهن، فيضرُّ ذلك بصحته. 8 - إذا كان للرجل زوجة واحدة تأكَّدت المودَّة بينهما، لعلْمِ كلٍّ منهما أنه لصاحبه وصاحبه له، وأما إذا كان له زوجتان فأكثر فإن المودة تضعف. هذه هي المفاسد التي أتصورها. وأنت إذا قابلتَ بينها وبين فوائد التعدد وجدتَ هذه لا تخدِش في الثلاثة الأوجه الأولى من الأوجه الفطرية، وربما تعارض الرابع، وقد سبق جواب ذلك. ولكنها تُعارض الأوجه المصلحية، والترجيح يختلف باختلاف الأشخاص، فكم من شخص غني مُغرم بالنساء إذا كان عنده زوجة واحدة لا يستغني بها، فإذا مُنِع من التزوج عليها فإما أن يطلِّقها ويتزوج غيرها، وإما أن يقع في الزنا، فإن طلَّقها وتزوَّج غيرها وقعت مفاسد أشدُّ من المفسدة الأولى والثانية والرابعة، وحصلت المفاسد الثالثة والخامسة.

(18/547)


فأما السادسة والثامنة فإنهما حاصلتان قبل الطلاق، لأن المرأة تكون دائمًا على خطر أن يطلِّقها وينكح غيرها. وقد لاحظت بعض القوانين هذا المعنى وحده فحظرت الطلاق، فترتَّب على ذلك مفاسد أعظم، منها: وقوع الرجل في الزنا واستحكام العداوة بينه وبين المرأة، لأنها (غلّ قمل)، فيظلمها ويضطهدها إلى أن يحتاج إلى الوقوع في الزنا أيضًا. ولذلك أصبحت النساء يطالبن بشرْع الطلاق، بل ربما سعت المرأة في قتل زوجها أو سعى في قتلها، ليتمكن كلٌّ منهما من الزواج، وكلٌّ منهما قبل الموت على خطر أن يموت فيذهب الآخر فيتزوج، ولعل بُغْضها يمنع الرجل أن يتزوج بعد موت زوجته. فنشأت عن ذلك مفاسد شديدة. ولتخفيف تلك المفاسد شرع وثنيُّوا الهند أن الزوج إذا مات فعند ما تُحرق جثته يُؤتى بامرأته، فتُحرق معه حتى تموت. وأما إن عدل الزوج عن الطلاق ووقع في الزنا فإنها تحصل مفاسد أشد من المفاسد الثمان: أما الأولى فإن المرأة تشعر بأن عددًا غير محصور من البغايا يشاركنها في نفس زوجها وماله بغير حق شرعي. وأما الثانية فإن الرجل يصير عدوًّا لزوجته، فيجرُّ ذلك إلى تعادي عائلتيهما. وأما الثالثة فإن الرجل يمزِّق تركته قبل موته في الفجور. وأما الرابعة فإن ما يحتاجه الرجل لاسترضاء البغايا أكثر مما يحتاجه لنفقة زوجة شرعية.

(18/548)


وأما الخامسة فإن الغني الزاني يتتبع [النساء الجميلات] (1) فيُفسِدهن وإن كن مزوَّجات. وأما السادسة فإن المرأة تعلم أن زوجها يبذِّر ماله في [الفجور] (2)، فتشرع هي تبذِّر أيضًا، لأنها ترى الحفظ متعذرًا. وأما السابعة فالضرر الذي يلحق صحةَ الرجل إذا اعتاد الفجور أشد مما يلحقه في تعدد الزوجات. وأما الثامنة فأنَّى تبقى مودةٌ من المرأة لزوجها الذي يدعها ويذهب إلى الفجور. ووراء ذلك مفاسد أخبث وأخبث من فساد الأخلاق وخراب الدين وغير ذلك. _________ (1) مطموس في الأصل. (2) الكلمة مطموسة.

(18/549)


الرسالة السادسة والثلاثون مسألة في رجل حنفي تزوَّج صغيرة بولاية أمها

(18/551)


الحمد لله. مولانا السيد محمد مخدوم الحسيني مفتي المدرسة النظامية، وفَّقه الله وإياي لما فيه رضاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصل السؤال الذي ذكرتم فيه: «ما قولكم في رجلٍ حنفي تزوج صغيرةً بولاية أمها ... إلخ». فأقول: معلوم لديكم أن من مذهب الشافعي رحمه الله تعالى أن الزواج لا يصح إلّا بولي صحيح الولاية، وأن الأم لا تلي عقدَ ابنتها، وأن الحرة الصغيرة لا يزوِّجها إلا أبوها أو أبوه عند فقده. وهذا مشهور من مذهبه مستغنٍ عن النقل، ولكن لا بأس بنقل بعض كلامه. جاء في كتاب «اختلاف العراقيين» للشافعي ما لفظه: «قال الشافعي رحمه الله: ولا يجوز نكاح الصغار من الرجال ولا من النساء إلّا أن يزوِّجهن الآباء، والأجداد إذا لم يكن لهنّ آباء فإنهم آباء. وإذا زوَّجهن أحدٌ سواهم فالنكاح مفسوخ. ولا يتوارثان فيه وإن كبرا. فإن دخل عليها فأصابها فلها المهر، ويُفرَّق بينهما. ولو طلَّقها قبلَ أن يُفسَخ النكاح لم يقع طلاقه ولا ظهاره ولا إيلاؤه، لأنها لم تكن زوجةً قطُّ» («الأم» ج 7 ص 147) (1). وقولكم: «فبلغتْ وولدتْ ولدًا» قد عُلِم جوابُه، وهو أنها لم تكن زوجةً قطُّ، فلا أثر لبلوغها ولا لتمكينها ولا لولادتها. _________ (1) (8/ 364) ط. دار الوفاء.

(18/553)


وقولكم: «فالآن تريد أمها وخالتها أن تفسخا نكاحها من زوجها» فجوابه أنكم قد عرفتم من كلام الشافعي أن هذا النكاح مفسوخ من أصله، أي باطل، لأنها لم تكن زوجة، ولو صحَّ النكاح لما كان للأم والخالة في مذهب الشافعي فسخُه، بل إن كان حقٌّ فهو للبنت نفسها أو لمن كانت له ولاية صحيحة عليها، فيما إذا كان المتزوج غير كُفءٍ بشرطه. وأما قولكم: «والزوج الحنفي يقول: إن النكاح صحَّ ولزم في مذهب الأحناف»، فجوابه أنه إن كان قد قضى قاضٍ معتبر بصحة هذا النكاح فقد صح ولزم، لما تقرر في الأصول أن الاجتهاد لا يُنقَض بالاجتهاد، وأن حكم الحاكم يقطع الخلاف، واستثنوا صورًا ليس هذا منها فيما ظهر. وإن لم يكن قضاء فلا يخلو العالم الشافعي أن يكون قاضيًا أو مفتيًا، فأما القاضي فإنه يقضي بمذهبه، ولا يلتفت إلى مذهب الخصوم كما لا يخفى عليكم. وأما المفتي الشافعي إذا سُئل عن هذه المسألة فجوابه أنه إذا كان المتزوج والأم والبنت كلهم حنفيون، وكان عمل الزوج والأم بمقتضى مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى= فقد صح النكاح لأجل التقليد. ثم إذا أريد إبطالُ النكاح بعد ذلك تقليدًا للشافعي، فإن كان قد قضى قاضٍ بصحة النكاح فلا يجوز الإبطال، وإلا فإن كان المريد لذلك الأم وحدها فلا أثر لها، وإن اتفق المتزوج والبنت معًا على تقليد الشافعي لإبطال النكاح ففي المسألة خلاف، والراجح عند المتأخرين جواز مثل ذلك بشرط عدم التقليد. قال في «التحفة»: «ولا ينافي ذلك قول ابن الحاجب كالآمدي: «من عمل في مسألة بقول إمام لا يجوز له العمل فيها بقول غيره اتفاقًا»، لتعين حمله على ما إذا بقى من آثار العمل الأول ما يلزم عليه مع

(18/554)


الثاني تركّبُ حقيقةٍ لا يقول بها كلُّ من الإمامين ... ثم رأيت السبكي في الصلاة من «فتاويه» ذكر نحو ذلك مع زيادة بسط فيه، وتبعه عليه جمعٌ فقالوا: إنما يمتنع تقليد الغير بعد العمل في تلك الحادثة نفسها لا مثلها، أي خلافًا للجلال المحلي، كأن أفتى ببينونة زوجته في نحو تعليق، فنكح أختها، ثم أفتى بأن لا بينونة، فأراد أن يرجع للأولى ويُعرِض عن الثانية من غير إبانتها». («التحفة» بهامش حواشي الشرواني ج 1 ص 48 - 49). ومراده بقوله: «من غير إبانتها» أي من غير قطع زوجيتها، يريد أنه رجع للأولى وأعرض عن الثانية، مع عزمه أن يرجع لها عندما يريد، فإنه في هذه الصورة قد اعتقد أن كلتا الأختين زوجة له في وقتٍ واحد. وهذا مبيَّن في «النهاية» وحواشيها و «فتاوى الرملي» و «حواشي التحفة»، فلا نطيل بالنقل. والحاصل أن المتزوج والبنت في مسألتنا إذا اتفقا على تقليد الشافعي لإبطال النكاح صحَّ، إذ لا تلفيق ههنا. فإما إذا انفرد أحدهما بإرادة التقليد ليبطل النكاح، فإن كانت الزوجة هي المريدة فليس لها ذلك، قياسًا على قولهم: «لو زوجه الحاكم مجهولة النسب ثم استلحقها أبوه ... وإن لم تكن بينة، وصدقته الزوجة فقط= لم ينفسخ النكاح لحقّ الزوج ... ». («النهاية» ج 5 ص 207). ويجري هذا التفصيل كله فيما إذا كان الزوج أو الأم أو أحدهما شافعيين والبنت حنفية تبعًا لأبيها، واتفق الزوج والأم عند العقد على تقليد أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وكذا إذا كانت البنت شافعية تبعًا لأبيها، ولكن أفتى مفتٍ معتبر بجواز تزويجها تقليدًا لأبي حنيفة رحمه الله لمصلحة محققة لها، وتصير البنت حنيئذٍ حنفيةً في هذه المسألة، فيطلب الحكم من

(18/555)


مذهب أبي حنيفة رحمه الله. وهذا مأخوذ من فتوى جماعة من متأخري الشافعية بجواز إنكاح غير الأب والجد الصغيرةَ، وخالفهم آخرون فقالوا: لا يجوز التقليد في ذلك، وإذا جوزنا التقليد فلابدّ من مراعاة مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى. ومن ذلك أن لا يكون المتزوج غير كفءٍ، وإلا لم يصحّ (1). _________ (1) إلى هنا انتهى الأصل.

(18/556)


الرسالة السابعة والثلاثون مسألة في صبيين مسلمين أخذهما رئيس الكنيسة فنشآ على دينه وبلغا عليه وتزوجا ثم أسلما

(18/557)


الحمد لله. مسألة (1) صبي وصبية من أولاد المسلمين الصومال، أخذهما رئيس الكنيسة بِعَدَن وربَّاهما، فنشآ على دينه وبلغا عليه، فعقد لهما عقد النكاح كما يعقده بين أهل ملته، واستمرا كذلك حتى وُلِد لهما أولاد. ثم إن المرأة أسلمت فتبعها الرجل قبل انقضاء العدة، فما حكم ذلك؟ الجواب إن لهذين الصبيين خمس حالات: الأولى: حالة صغرهما قبل دخولهما الكنيسة. الثانية: حالة دخولهما والتلبس بالنصرانية. الثالثة: حالة بلوغهما على ذلك. الرابعة: حالة عقد الزواج بينهما. الخامسة: حالة عودهما إلى الإسلام. فأما حالة صغرهما فإن حكمهما يُعلم من قول «المنهاج» مع شرحه (2): «(فإذا كان أحد أبويه مسلمًا وقت العلوق فهو) أي الصبي أي الصغير الشامل للأنثى والخنثى (مسلم) بإجماع، وتغليبًا للإسلام، ولا يضر ما يطرأ بعد _________ (1) كتب الشيخ جواب هذه المسألة مرتين، والأولى كأنها مسوّدة، فقد شطب على كثير منها، وهي ناقصة، والثانية كاملة تحتوي على تفصيل أكثر، مع ذكر النصوص من كتب الفقه، وهي هذه. (2) «مغني المحتاج» (2/ 423).

(18/559)


العلوق منهما ــ أي من الأبوين ــ من ردّة». وهذان الصبيان لم يزل آباؤهما مسلمين حال العلوق وبعده، فهما أولى بما ذُكر في الصورة الأولى فضلًا عن الثانية، فحكمهما أنهما مسلمان إجماعًا. وأما حالة دخولهما الكنيسة وتلبسهما بالنصرانية فإن حكمهما يعلم من قول «المنهاج» وشرحه (1): «(ولا تصحُّ ردّةُ صبي) ولو مميزًا (و) لا ردّة (مجنون) لعدم تكليفهما، فلا اعتداد بقولهما واعتقادهما». ومنه علم أن تلبس الصبيين بالنصرانية حالَ صغرهما لغو، لا ينافي دوام الحكم بإسلامهما. وأما حالة بلوغهما ودوامهما على التلبس بالنصرانية فإن حكمهما يعلم من قول «المنهاج» وشرحه (2): «(فإن بلغ) الصغير المسلم بالتبعية لأحد أبويه (ووصف كفرًا) بأن أعرب به عن نفسه كما في «المحرر» (فمرتد) لأنه مسلم ظاهرًا وباطنًا». ومنه يُعلَم أن دوام هذين الصبيين على النصرانية بعد بلوغهما ردّة، فهما في تلك الحالة مرتدَّان. والردة على ثلاث صور: أحدها: قطع البالغ العاقل للإسلام بعد أن تلبس به مباشرة في حال كماله. _________ (1) «مغني المحتاج» (4/ 137). (2) المصدر نفسه (2/ 423).

(18/560)


الثانية: قطع البالغ العاقل إسلامه اللازم له بالتبعية، كمسألتنا. الثالثة: ذكرها شيخ الإسلام بقوله (1): «(أو) أصوله (مرتدون فمرتد) تبعًا، لا مسلم ولا كافر أصلي، فلا يسترقّ ولا يُقتل حتى يبلغ ويستتاب، فإن لم يتب قُتل». ولم يفرق أصحابنا بين هذه الأقسام في شيء من الأحكام، وقد صرَّحوا في الصورة الثالثة بما ترى، فلم يجعلوه كافرًا أصليًّا، مع أنه خُلِق من الكفر ووُلِد فيه ونشأ عليه، فأولى منه الصورة الثانية التي عليها واقعة الحال. ولا فرق بين أن يكون الصبي في دار الإسلام وأن يكون في غيرها كما هو ظاهر. وقد يصر على ذلك. غاية الأمر أن الذي في دار الإسلام تحت سطوتنا، بحيث يمكننا تنفيذ الأحكام عليه، والذي في غيرها لا يمكننا ذلك، وهذا لا يُسقط الأحكام، بل إن تمكنَّا في الدنيا أجريناها، وإن لم نتمكن فيوم الفصل أمامنا. والحاصل أن حكم هذين الصوماليين في الحالة الثالثة أنهما مرتدان، تجري عليهما أحكام الردة المعروفة. وأما الحالة الرابعة ــ وهي حالة عقد النكاح بينهما ــ فإن حكمها يُعلم من قول «المنهاج» وشروحه (2): «ولا تحل مرتدة لأحدٍ، لا من المسلمين لأنها كافرة لا تقر، ولا من الكفار لبقاء عُلقة الإسلام فيها، ولا لمرتد مثلها، لأنهما لا دوام لهما». _________ (1) «فتح الوهاب شرح منهج الطلاب» لزكريا الأنصاري (5/ 126 مع حاشية الجمل). (2) انظر «تحفة المحتاج» (7/ 327)، و «مغني المحتاج» (3/ 190).

(18/561)


وقال محمد رملي (1) عند ذكر ولاية الكافر: «وأما المرتد فلا يلي بحالٍ، ولا يزوِّج أمته، ولا يتزوج». وبه يعلم أن عقد النكاح المعقود بين الصوماليين في حالة الردة باطل، ولا أثر لكونهما حالَ العقد كانا مرتدين معًا كما مر. وقد ذكر في «المنهج» (2) الزوجين المسلمين ارتدَّا معًا .... وإنما كان هذا العقد باطلًا للمانع القائم بين الزوجين، حتى لو كان العاقد إمام المسلمين أو قاضيهم. وليس بطلانه لوقوعه على يد رئيس الكنيسة، فإن عقود رئيس الكنيسة بين أهل ملته الأصليين صحيحة، كعقود سائر أهل الديانات الأخرى، كما أجمع عليه المسلمون أو كادوا. وقد ذكر في «المنهج» وشرحه (3): « ... أسلم على كتابية تَحِلُّ دام نكاحه، أو غيرها وتخلفت أو أسلمت وتخلف، فإن كان ذلك قبل الدخول وما في معناه فكردَّةٍ. ثم قال: «(أو أسلما معًا) قبل الدخول أو بعده (دام) نكاحهما لخبر صحيح فيه، ولتساويهما في الإسلام المناسب للتقرير، بخلاف ما لو ارتدَّا معًا كما مر (والمعية) في الإسلام (بآخر لفظ) لأن به يحصل الإسلام لا بأوله ولا بأثنائه، وسواء فيما ذكر أكان الإسلام [استقلالًا أم تبعيَّةً]. وقوله: «وسواء فيما ذكر ... إلخ» يوهم ما ذكرناه أنه لا فرق بين أقسام _________ (1) «نهاية المحتاج» (6/ 240). (2) (4/ 199 مع الشرح والحاشية). (3) (4/ 199 - 200).

(18/562)


الردة. وأما الحالة الخامسة ــ وهي حالة توبتهما فعلينا أن نُعلِمهما بأن عقد النكاح الذي عُقد بينهما في حالة الردة لم يكن صحيحًا، ونجهد أن نعقد بينهما عقدًا صحيحًا، لأنه أولى من التفرقة، ولاسيما لمكان الأولاد، مع وجوب التأليف، ولاسيما حيث لم يزالا في دارٍ غير دار الإسلام. ويجوز العقد بينهما بلا عدّة. وإن قيل بأن الوطء في حال الردة وطء شبهة، لأنه هو صاحب العدة، ولا مانع. هذا ما تيسَّر كتابته مع القصور وعدم الكتب في الحال، وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

(18/563)


الرسالة الثامنة والثلاثون بحث في قصة بني هشام بن المغيرة واستئذانهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يزوِّجوا عليًّا رضي الله عنه

(18/565)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليتَ على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. أما بعد، فهذا بحث فيما جاء من قصة بني هشام بن المغيرة واستئذانهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يزوِّجوا عليًّا عليه السلام. فاعلم أن الحديث ثبت في "الصحيحين" (1) من رواية علي بن الحسين بن علي عليهم السلام عن المسور بن مخرمة، ومن رواية ابن أبي مليكة عن المسور أيضًا. وأخرج الإمام أحمد في "المسند" (4/ 323) (2) والحاكم في "المستدرك" (3/ 154) طرفًا من الحديث من طريق عبيد الله بن أبي رافع كاتب علي عليه السلام عن المسور. وقال الحاكم: صحيح، وأقره الذهبي. وفي "المسند" (4/ 332) (3) و"المستدرك" (3/ 154) طرفٌ منه أيضًا من طريق جعفر بن محمد عن ابن أبي رافع عن المسور. _________ (1) البخاري (3729) ومسلم (2449/ 96). (2) رقم (18907). (3) رقم (18930).

(18/567)


وأخرجه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 5) (1): حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال أنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير أن عليًّا ذكر ابنة أبي جهل، فبلغ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنها فاطمة بَضْعة مني، يُؤذيني ما آذاها ويُنصِبني ما أنصبَها". وأخرج الترمذي (2) الحديث من حديث المسور، ثم أخرجه من حديث ابن الزبير، رواه عن أحمد بن منيع عن إسماعيل بن عُلية ــ وهو شيخ الإمام أحمد ــ فذكره، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، هكذا قال أيوب: "عن ابن أبي مليكة عن ابن الزبير"، وقال غير واحد: "عن ابن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة". ويحتمل أن يكون ابن أبي مليكة روى عنهما جميعًا. وذكر الحافظ في "الفتح" (3) أنه رواه عن ابن أبي مليكة عن المسور: عمرو بن دينار والليث بن سعد وغيرهما، ورواه أيوب عن ابن أبي مليكة عن ابن الزبير. وقال الحافظ في النكاح (4): "والذي يظهر ترجيح رواية الليث ... ". وقال في المناقب (5): "رجح الدارقطني وغيره طريق المسور ... نعم يحتمل أن يكون ابن الزبير سمع هذه القطعة فقط، أو سمعها من المسور فأرسلها". _________ (1) في الأصل: (5/ 232). والتصويب بالرجوع إلى "المسند". وهو فيه برقم (16123). (2) رقم (3869). (3) (7/ 105). (4) "الفتح" (9/ 327). (5) (7/ 105).

(18/568)


أقول: الجاري على الأصول وفي النظر صحة الطريقين، فإن ابن أبي مليكة ثقة جليل، لم يُغمَزْ بما يدل على وهن ما في حفظه وضبطه. وأيوب جبل من الجبال. سأله شعبة عن حديث فقال: أشكُّ فيه، فقال له: شكُّك أحبُّ إليَّ من يقين غيرك (1). وإسماعيل بن عُلية كذلك، قال أحمد: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة. وقال زياد بن أيوب: كان يقال: ابن عُلية يعدُّ الحروف. وقال أبو داود: ما أحدٌ من المحدثين إلَّا قد أخطأ إلا إسماعيل بن عُلية وبشر بن المفضل (2). ويؤيد صحةَ الطريقين أن حديث ابن الزبير مختصر، ولفظه غير لفظ حديث مخرمة. وأخرج الحاكم في "المستدرك" (3/ 159) القصة بسند صحيح "عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي حنظلة رجلٍ من أهل مكة أن عليًّا ... ". قال الذهبي: مرسل. وأخرجه أيضًا (3/ 158) بسند صحيح "عن الشعبي عن سُويد بن غَفلة قال: خطب عليٌّ ... ". قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وقال الذهبي: مرسل قوي. وسويد أسلم في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وجاء عنه أنه رأى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأنه صلَّى وراءه مرارًا. ولكن قال المزي وغيره: لم يصحّ ذلك (3). _________ (1) انظر "تهذيب التهذيب" (1/ 398). (2) المصدر السابق (1/ 276). (3) انظر "تهذيب التهذيب" (4/ 278).

(18/569)


وفي "روح المعاني" (5/ 308) (1) أن الزبير بن بكار أخرج في "الموفقيات" عن ابن عباس قال: قال لي عمر رضي الله عنه، فذكر إشارة عمر إلى القصة وموافقة ابن عباس عليها. وأخرج الطبراني في "المعجم الصغير" (ص 166) (2) من طريق عبيد الله بن تمام عن خالد الحذّاء عن عكرمة عن ابن عباس، فذكر القصة. وعبيد الله بن تمام ضعيف. وفي ترجمته من "لسان الميزان" (3) الإشارة إلى هذه الرواية. وههنا مباحث (4): الأول: أنهم ذكروا أن المسور وُلِد بعد الهجرة بسنتين، وقُدِم به المدينة في ذي الحجة سنة ثمانٍ وهو غلام أيْفعُ ابن ست سنين، حكاه في "الإصابة" (5) عن يحيى بن بكير، وفي "التهذيب" (6) عن عمرو بن علي _________ (1) (16/ 270) ط. المنيرية. وانظر "الدر المنثور" (10/ 248). (2) (2/ 16) ط. المكتبة السلفية بالمدينة المنورة. (3) (5/ 320). (4) كتب المؤلف في آخر الصفحة: "الأول: الطعن في المسور وابن الزبير، الثاني: صغر سنهما، الثالث: التفرد، الرابع: استبعاد ذلك، لما عُرِف من فضل علي وإجلاله للنبي (ص) وإكرامه لفاطمة، وبغضه لأبي جهل وحزبه". والموجود منها المبحث الثاني فقط، ويُنظر للبقية "فتح الباري" (7/ 85، 105، 9/ 327 - 329). (5) (10/ 177). وانظر "معجم الصحابة" للبغوي (5/ 354) و"المعجم الكبير" للطبراني (20/ 6). (6) "تهذيب التهذيب" (10/ 151).

(18/570)


وهو الفلاس. وقال ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (1): " ... المؤرخين لم يختلفوا أن مولده كان بعد الهجرة، وقصة خطبة علي كانت بعد مولد المسور بنحوٍ من ست سنين أو سبع سنين". ومن كان في هذا السن فالغالب أنه لا يضبط. والجواب أولًا: أن ما ادَّعَوا إطباقَ المؤرخين عليه لم نجد نقلَه بطريق صحيح متصل بالمسور نفسه، أو بمن يعرف شأنه من معاصريه. ويحيى بن بكير وعمرو بن علي بين مولدهما وبين وفاة المسور نحو مئة سنة، ولم يبيِّنا مستندهما. وقد عُرِف تسامحُ المؤرخين وتهاونُ السلف في ضبط الولادة، وحسبك أن المؤرخين لم يضبطوا مولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا تاريخ وفاته على التحقيق، بل قال أكثرهم 12 ربيع الأول، وتبيَّن أنه خطأ. هذا، وقد ثبت في "الصحيحين" (2) و"مسند أحمد" (3) عنه في هذه القصة نفسها عن المسور قال: "فسمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب الناس في ذلك على منبره هذا، وأنا يومئذٍ محتلم". رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 326) (4) عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن الوليد بن كثير عن محمد بن عمرو بن حلحلة عن ابن شهاب عن علي بن الحسين عن المسور. ومن طريق الإمام أحمد _________ (1) (10/ 151). (2) البخاري (3110) ومسلم (2449/ 95). (3) رقم (18913). (4) رقم (18913).

(18/571)


أخرجه مسلم في "صحيحه" (1)، وكذلك أخرجه البخاري في "صحيحه" (2) عن سعيد بن محمد الجرمي عن يعقوب. ووقع عند بعض رواة البخاري "وأنا يومئذٍ المحتلم" (3). أخرج البخاري (4) الحديث ــ وفيه الكلمة المذكورة ــ في أبواب فرض الخمس عقب كتاب الجهاد: باب ما ذكر من دِرْع النبي - صلى الله عليه وسلم -. ونقل الحافظ في "الفتح" (5) عن ابن سيد الناس أنه خطأ، لِما حكاه المؤرخون في عمر المِسور، وأن الصواب "كالمحتلم"، وأنه كذلك وقع في "مستخرج" الإسماعيلي من طريق يحيى بن معين عن يعقوب. أقول: حكاية المؤرخين قد تقدم حالُها. ورواية الإمام أحمد بالمتابعة وتخريج صاحبي "الصحيح" أرجح، وعلى فرض أن الصواب "كالمحتلم" فهذا لا يقال لابن سبع أو نحوها، بل يكون فوق العشر. فالرد على المؤرخين بحاله. ولعل المسور وُلِد قبل الهجرة بسنتين"، فأخطأ سلف المؤرخين فقال: "بعد الهجرة بسنتين"، وتبعه غيره. وتخريج الإمام أحمد الحديث في "مسنده" والشيخين في "صحيحيهما" بدون إنكار لهذه الكلمة "وأنا محتلم" يدلُّ دلالةً ظاهرةً على أن ما حكاه المؤرخون لا يُعرف له أساس ثابت. ويؤيِّد ذلك إضراب البخاري في _________ (1) رقم (2449/ 95). (2) رقم (3110). (3) انظر "الفتح" (9/ 327). (4) رقم (3110). (5) (9/ 327).

(18/572)


"تواريخه" عن حكاية كلامهم في ذلك. وفيما ذكرناه ما يُغني عن بيان أن ابن السبع أو الثمان قد يضبط كما هو معروف في الصحابة وغيرهم. وأما قول ابن حجر (1) إن القصة كانت بعد مولد المسور بست سنين أو سبع سنين، فبيانه أن القصة كانت بعد فتح مكة يقينًا؛ لأن آل أبي جهل إنما أسلموا يوم الفتح، فهي بين مرجع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى المدينة وبين وفاته، وكان مرجعه إلى المدينة في أواخر سنة ثمان. والذي يتجه أن تكون القصة تأخرت، فإنه يبعد أن يكون عقبَ إسلام القوم، وعليه فإنها تكون قُربَ وفاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. والمسور ــ لو صحَّ كلام المؤرخين ــ ابن ثمان سنين أو فوقها، إذا جوَّزنا أن يكون وُلِد بعد سنة الهجرة بسنة وشيء، فقالوا "بسنتين" بجبر الكسر كما هو معروف من عادتهم. وفي "الفتح" (2) في كتاب النكاح في باب ذبّ الرجل عن ابنته ما يلاقي هذا. والله الموفق. _________ (1) في "تهذيب التهذيب" (10/ 151). (2) (9/ 327).

(18/573)


مجموع رسائل أصول الفقه للشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي تحقيق محمد عزير شمس

(مقدمة 19/1)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(مقدمة 19/2)