×
فوائد المجاميع : سِفْر نفيس منتخب من مجاميع العلامة المعلمي - رحمه الله - يشتمل على فوائد نفيسة، وتقييدات محرّرة، واستدراكات دقيقة، وبحوث مبسوطة حينًا ومختصرة حينًا، وأشعارٍ ورُؤًى قيَّدها الشيخ في أوقات مختلفة.

 فوائد المجاميع

للشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني تحقيق علي بن محمد العمران و نبيل بن نصار السندي

(مقدمة 24/1)


بسم الله الرحمن الرحيم

(مقدمة 24/2)


 مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فهذا سِفْر نفيس منتخب من مجاميع الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله تعالى، يشتمل على فوائد نفيسة، وتقييدات محرّرة، واستدراكات دقيقة، وبحوث مبسوطة حينًا ومختصرة حينًا، وأشعارٍ ورُؤًى قيَّدها الشيخ في أوقات مختلفة، في أثناء تقلّبه في البلدان: اليمن، وعسير، وإندونيسيا، والهند، ومكة على مدى نحو 50 عامًا. استخرجنا هذه الفوائد من دفاتر الشيخ وكنّاشاته التي دوَّن فيها ما عنّ له من فوائد ونِكات، أو لخّصَ فيها فوائدَ الكتب التي كان يقرؤها على اختلاف فنونها ومعارفها. وواضح لمن نظر في تلك الدفاتر أن الشيخ رحمه الله كان حريصًا على التدوين والتقييد؛ سواء للفوائد التي يعثر عليها، أو للاستنباطات التي يكشفها، أو للتعقبات التي يراها على تلك الكتب. وقد بلغ عدد هذه الدفاتر والكناشات التي استخرجنا منها هذا المجموع ثمانية عشر دفترًا، تتفاوت أحجامها ما بين كبير وصغير، وأرقامها في مكتبة الحرم المكي الشريف كالتالي (4656، 4657، 4711، 4712، 4715، 4716، 4717، 4718، 4719، 4720، 4721، 4722، 4723، 4724، 4726، 4727، 4729، 4730). ثم وقفنا بعد ذلك على بعض الفوائد في المجموعين (4708 و 4786) وألحقناها بقسم المتفرقات.

(مقدمة 24/5)


وكل هذه الدفاتر بخط الشيخ المعروف، وتتفاوت خطوطها وترتيبها والعناية بها من دفتر إلى آخر، وذلك باختلاف الأحوال التي مر بها الشيخ أثناء تدوينه وتقلّبه في البلاد. ويتبين من النظر فيها وفي طريقة الشيخ في كتابة هذه الفوائد حرصُه البالغ على التقييد والكتابة في جميع أحواله، لا يمنعه من ذلك مانع ولا يشغله شاغل، بحيث لا يترك فائدة تعن له إلّا ويبادر إلى كتابتها وتدوينها. طريقة العمل في استخراج هذه الفوائد: 1 - بدأنا العمل بحصر هذه الدفاتر والمجاميع، ثم قمنا بتقسيم المعلومات بداخلها إلى قسمين رئيسين: الأول: ما كان من قبيل النقل المحض أو التلخيص أو الفهرسة للفوائد من مختلف الكتب والمؤلفات التي كان يقرؤها الشيخ. فعملنا فهرسًا خاصًّا بهذا النوع يتضمن موضوع الفائدة أو التلخيص أو غير ذلك. الثاني: ما كان فيه للشيخ تعليق أو استدراك أو تقييد أو جمع لمتفرّق، أو استنباط أو بيت شعر أو رؤيا منامية. فهذه الفوائد هي التي نُسخت، كلُّ مجموعٍ على حِدَة. وقد اشترك في نسخ هذه المجاميع والدفاتر مجموعةٌ من المشايخ الأفاضل وهم: عبد الرحمن قائد، وزائد النشيري، ويحيى كمندر، والدكتور جمال حديجان، ونبيل السِّندي. 2 - بعد أن اكتمل نسخ وفهرسة جميع الدفاتر على النوعين المذكورين عمدنا إلى تقسيم الفوائد المنسوخة من النوع الثاني من كل مجموع على الفنون المختلفة.

(مقدمة 24/6)


3 - ثم عمدنا إلى دمج هذه الفوائد المرتبة على الفنون لتنتظم جميع المجاميع. وقد قسمنا الفوائد على الفنون كالتالي: 1. الفوائد التفسيرية. 2. الفوائد العقدية. 3. الفوائد الحديثية. 4. الفوائد الفقهية. 5. الفوائد الأصولية. 6. الفوائد اللغوية. 7. الفوائد المتفرقة. 4 - رتّبنا الفوائد في كل فن ترتيبًا مناسبًا إن كان الأمر يحتمل الترتيب، فمثلًا رتبنا الفوائد التفسيرية على ترتيب السور القرآنية، والفوائد الحديثية رتبناها بحسب تعليقات الشيخ على الكتب، فبدأنا بتعليقاته على صحيح البخاري ثم صحيح مسلم، وهكذا، ثم تعليقاته على الشروح الحديثية، كفتح الباري ونيل الأوطار، ثم استنباطاته من الأحاديث، وأما الفوائد الفقهية فرتبناها على الأبواب الفقهية: الطهارة، الصلاة ... وهكذا. ولم نبالغ في الترتيب إلا بقدر ما تقتضيه طبيعة هذا المجموع. 5 - قابلنا نصوص الكتاب أكثر من مرة بعد نسخها الأوّليّ، وكان بعضها من الصعوبة والعسر بحيث يُقْضَى وقتٌ طويلٌ في تأمل الكلمة أو فكّ العبارة أو البحث عن بقية الكلام، فقد كان الشيخ يكتب بسرعة بالغة، بخط غير منقوط غالبًا، يكثر فيه الضرب والتحويل وتغيير العبارات،

(مقدمة 24/7)


إضافة إلى اضطراب الأوراق في كثير من المجاميع واختلاف ترتيبها وترقيمها على ذلك الاضطراب مما زاد في عسر مهمة ترتيبها. 6 - عملنا على توثيق النصوص ومقابلتها بأصولها المنقولة عنها، وضبط ما يحتاج إلى ضبط، وتخريج الأحاديث، والتعليق على بعض ما يحتاج إلى ذلك باختصار يناسب طبيعة الكتاب، ثم صنعنا فهرسًا موضوعيًّا لكل الفوائد على الفنون. 7 - أشرنا إلى مكان الفائدة في المجاميع المختلفة بذكر رقم المجموع آخر الفائدة أو آخرَمجموعة من الفوائد إن كانت متتابعة. ولم نُشر إلى رقم الصفحة لاضطراب الأوراق في كثير من المجاميع، واختلاف ترتيتبها وترقيمها. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. المحققان علي بن محمد العمران ونبيل بن نصار السِّندي

(مقدمة 24/8)


نماذج من النُّسخ الخطية

(مقدمة 24/9)


نموذج من مجموع رقم [4714]

(مقدمة 24/11)


نموذج من مجموع رقم [4717]

(مقدمة 24/12)


نموذج من مجموع رقم [4718]

(مقدمة 24/13)


نموذج من مجموع رقم [4720]

(مقدمة 24/14)


نموذج من مجموع رقم [4723]

(مقدمة 24/15)


نموذج من مجموع رقم [4724]

(مقدمة 24/16)


نموذج من مجموع رقم [4726]

(مقدمة 24/17)


نموذج من مجموع رقم [4727]

(مقدمة 24/18)


نموذج من مجموع رقم [4727]

(مقدمة 24/19)


نموذج من مجموع رقم [4729]

(مقدمة 24/20)


نموذج من مجموع رقم [4708]

(مقدمة 24/21)


نموذج من مجموع رقم [4708]

(مقدمة 24/22)


نموذج من مجموع رقم [4708]

(مقدمة 24/23)


نموذج من مجموع رقم [4786]

(مقدمة 24/24)


فوائد المجاميع للشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني تحقيق علي بن محمد العمران و نبيل بن نصار شيخ - رحمه الله -

(24/1)


بسم الله الرحمن الرحيم

(24/2)


الفوائد التفسيرية

(24/3)


 سورة الفاتحة (1) [البسملة آية من الفاتحة]

الحمد لله. كون البسملة آيةً من الفاتحة مما لا ينبغي أن يُشكَّ فيه، لِمَا ثبت في «الصحيح» (2) عن أبي سعيد [بن] المُعَلّى وعن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أخبر بأنها السبع المثاني. وما قيل بأن: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} رأس آية، ممتنع في أسلوب القرآن. ومما يدل على أنها آية من كلّ سورة كتابتها في المصحف. وما قيل من أنها كُتبت للفصل، مردودٌ باحتياط الصحابة مع علمهم بأنها إذا كُتبت ظنَّ الناسُ أنها آيةٌ من كل سورة. وتَكْرارها ليس بقرينة؛ فإننا نعلم أن الكتب التي تبدأ بالبسملة، يصدُقُ عليها أن البسملة جزءٌ منها، وفي القرآن: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 29 - 31]، فجُعِلت البسملة من الكتاب. ولعلَّ مقصودَ مَن قال مِن السلف: إنها آية أُنزلت للفصل، وإنها ليست جزءًا من كل سورة = أنها ليست جزءًا من السورة متصلًا بها مرتبطًا، وهذا لا ينفي أن تكون جزءًا مستقلًّا، والله أعلم (3). _________ (1) رتبت الفوائد على حسب ترتيب السور. (2) «صحيح البخاري» (4474) عن أبي سعيد، و (4704) عن أبي هريرة. (3) مجموع [4720].

(24/5)


 سورة البقرة

[قوله تعالى]: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)} (1). يمكن أن يقال: إنه لما قال: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ} أمكن أن يتوهَّم بعض الناس، ولاسيَّما من لم يعرف السبب، أن السعي ليس فيه ثواب لاقتصار الآية على نفي الجناح فيه، فدفع ذلك بقوله: {وَمَنْ تَطَوَّعَ ... } (2). * * * * قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)}. انظر هل في هذه الآية دليل على عدم جواز لعن المعيَّن؟ لأنه إن كان حيًّا فلعلّه يتوب, وإن كان ميتًا فلعله تاب, وقد استثنى الله تعالى التائب من لعنته ولعنة اللاعنين. والله أعلم. وقال تعالى بعد ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)}. _________ (1) ذكر الشيخ الآيات من الآية (148) هكذا: {ولكل وجهة هو موليها .... أينما تكونوا ... ومن حيث خرجت ... ومن تطوع ... }. (2) مجموع [4727].

(24/6)


فقيَّد لعنتَه لهم، ولعن الملائكة، ولعن الناس بما إذا ماتوا وهم كفَّار، كما دل استثناؤه في الأول على تقييد لعن الكاتمين بما إذا ماتوا وهم كاتمون. والله أعلم (1). * * * * قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}. في الآيات دليل على النهي عن تحريم ما أحلَّ الله تعالى، وعن اجتناب الأكل منه، وعلى انحصار المحرمات، وغير ذلك مما يظهر عند التدبَّر. والله أعلم. وقوله تعالى بعد ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ _________ (1) مجموع [4657].

(24/7)


اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)}. فيها التحذير من الرشوة، وفيها دليل على حُرْمة أخذ شيء مقابل بيان ما أنزل الله، سواء أكان ذلك في حكم أو فتوى أو غيرها. وفيها دليل على أن الله تعالى يُكلِّم المؤمنين المتقين يوم القيامة. هذا، وقد يُدَّعى أن قوله: «الذين» أراد به قومًا معهودين هم اليهود، والسياق يؤيده. كما قد يقال: إن قوله: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} بأن يكتموا حكمَ الله ليأخذوا في مقابل كتمانه ثمنًا، فتكون دلالة الآية خاصةً بالتحذيرِ من أخذِ الرشوة من المبطل ليحكم له بالباطل ويكتمَ الحق، وأخذِ الأجرة من السائل ليفتي بما يوافق هواه في الباطل ويكتمَ الحق, فليتدبر. والله أعلم (1). * * * * [قوله تعالى]: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)}. يريد ــ والله أعلم ــ: فما أصبرهم على الطريقة التي توجب لهم النار. فإن الإنسان إذا كان على خُطّة يرى أنها تؤدّيه إلى عذاب شديد، فإن نفسه تنازعه إلى تركها وتلحُّ عليه في ذلك، وهواه يمنعه من ذلك ويحملُه على الصبر. _________ (1) مجموع [4657].

(24/8)


كما حكى الله تعالى عن قومٍ قولَهم في رسولهم: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان: 42] (1). * * * * قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ... } [198 - 199]. أرى أنَّ المراد: ثمَّ بعد عامكم هذا أفيضوا من حيث أفاض الناس في هذا، والمراد بالناس رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ومَنْ حجَّ معه (2). * * * * قال الله تبارك وتعالى في سورة البقرة [آية: 213]: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: على الإيمان، فاختلفوا بأن كَفَر بعضُهم. أو على الكفر، ولا حاجة لتقدير شيء. وعلى كلٍّ، فالمراد به ــ والله أعلم ــ قبل بعثة نوح. {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} أي: لتلك الأمة المختلفة، أو المطبقة على الكفر. {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ} أي: جنسه، والمراد: الكُتُب، {لِيَحْكُمَ} أي: ليكون حاكمًا به بعد الأنبياء {بَيْنَ النَّاسِ} أي: الذين _________ (1) مجموع [4721]. (2) مجموع [4724].

(24/9)


سيدخلون في الدين {فِيمَا اخْتَلَفُوا} أي: سيختلفون {فِيهِ} أي: من أمر الدين، بأن يقول بعضهم: هو منه. ويقول غيره: ليس منه. {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} أي: في الدين المفهوم مما سبق. ولا مانع أن يكون الضمير للكتاب، كأنه سبحانه يقول: فاختلفوا في الكتاب نفسه، وما اختلف فيه ... إلخ. وهذا أولى عندي. {إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ} أي الكتاب {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} أي: حَمَل البغْيُ بعضَهم على تحريفه عن مواضعه، والعدول به عن مقاصده. {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} (1). * * * * قوله عزّ وجل: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [228]. أقول ــ والله أعلم ــ أنّ المراد: أحقّ بردِّهنّ منهنّ، فهذا يشعر بأنّ لهنّ حقًّا في ذلك بحيث يُنْدَب أن لا يراجع الزوج حتى ينظر رغبة الزوجة، ولكن الزوج أحقّ بحيث لو راجع بدون رضاها؛ رجع النكاح. والله أعلم (2). * * * * _________ (1) مجموع [4727]. (2) مجموع [4715].

(24/10)


[تعليق على آيات الصدقة (263 - 268)] [قوله تعالى]: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى}. فيه الإرشاد إلى العفو عن المستعطي إذا ألحَّ في المسألة وآذى المسؤول. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)} (1). المقصود من المَثَل ــ والله أعلم ــ: أنَّ مال المانِّ والمؤذي ومال المُرابي يَتْلَف بالإنفاق بدون عِوَض. {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)} (2). المقصود من المَثَل ــ والله أعلم ــ: أنَّ مال المتصدِّق لوجه الله تعالى ولا يُتبِع صدقتَه بمنٍّ ولا أذى = لا يَنفَدُ، بل يُعوِّضه الله عز وجل مضاعفًا، وهذه الآية مصداق الحديث: «ما نقصت صدقةٌ من مال» (3). وعلى هذا _________ (1) كتب المؤلف إلى قوله تعالى: {وَالْأَذَى} وأكملنا الآية ليعرف مقصود المؤلف. (2) كتب المؤلف إلى قوله تعالى: {أَمْوَالَهُمُ} وأكملنا الآية ليعرف المثل المضروب. (3) أخرجه مسلم (2588) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(24/11)


سمّيت الزكاةُ زكاةً. {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ... }. المقصود بالمَثَل ــ والله أعلم ــ بيان حال الذي يتصدّق لوجه الله تعالى فيستحق الثواب، ثم يفسده بالمنِّ والأذى، فالثواب هو الجنَّة، والمنُّ والأذى هو الإعصار. وقد يُستدل بقوله: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ} إلى أنَّ عمل الوالد الصالح ينفع ذُرّيته ــ والله أعلم ــ تدبَّرْ. {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ .. }. فيه إشارة إلى أنَّ المتصدِّق غير متبرّع، بل هو طالب عِوَض وأجر، وأنَّ المتصدَّق عليه آخذ بحقٍّ، أي إذا كان مستحقًّا للصدقة. والله أعلم. {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ... }. كأن في الآية احتباكٌ (1)؛ كأنه قال: الشيطان يوسوس لكم بعدم المغفرة من الله تعالى بأن يقنِّطكم، ويعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء؛ والله يعدكم _________ (1) كذا في الأصل، والوجه النصب. والاحتباك هو: أن يُحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني، ويحذف من الثاني ما أثبت نظيره في الأول.

(24/12)


مغفرة منه وفضلًا، ويأمركم بالعدل والإحسان (1). * * * * قوله عزّ وجل: { ... يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [273]. دلّ سياق الآية على أنّهم لا يسألون البتة، ومفهوم قوله: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} أنّهم يسألون، ولكنّهم لا يُلْحِفون. أجاب الزمخشري بأنّ النّفي هنا متوجّه إلى المقيَّد، كما في قول الشاعر (2): * على لاحبٍ لا يُهتدى بمناره * أي: ليس له منار فيهتدى به. وعندي في هذا الجواب والاستشهاد نظر، وهو قول الشاعر: «لا يهتدى بمناره»، وما شابهه في كلام الفصحاء إنّما يجيء إذا كان هناك ملازمة. من اللازم ... وهذا ... (3). _________ (1) مجموع [4724]. (2) سيأتي البيت كاملًا. (3) لم يكمل الشيخُ الكلام وترك نصف الصفحة بياضًا، ثم وجدنا في آخر ورقة في المجموع بقية الكلام المتعلق بالمسألة، من قوله: «ذو الرمة ... » ثم الاعتراض والجواب. وهما منقولان من تفسير الآلوسي «روح المعاني»: (3/ 47).

(24/13)


ذو الرمّة: لا تُشتكى رقصة (1) منها وقد رقصت ... بها المفاوزُ حتى ظهرُها حَدِبُ قول امرئ القيس (2): على لاحبٍ لا يُهتدَى بمناره ... إذا سافَهُ العَودُ الدِّيافيُّ جَرْجَرا الآخر في وصف مفازة (3): لا تُفزِعُ الأرنبَ أهوالُها ... ولا ترى الضبَّ بها يَنْجَحِرْ الأعشى (4): لم تَعطَّف على حُوارٍ ولم يَقْـ ... ـــطع عُبَيدٌ عروقَها مِن خُمال الأعشى (5): لا يغمزُ الساقَ من أَيْنٍ ومن وصبٍ ... ولا يَعَضُّ على شُرْسُوفه الصَّفَر واعترض بأنّ هذا إنّما يحسن إذا كان القيد لازمًا للمقيَّد أو كاللازم حتى يلزم من نفيه نفيُه بطريق برهاني، وههنا ليس كذلك؛ إذ الإلحاف ليس لازمًا للسؤال، ولا كلازمه. _________ (1) كذا في الأصل، ورواية الديوان (1/ 44) ومصادر أخرى كثيرة: «سقطة». (2) «ديوانه» (66 - ت أبو الفضل). (3) البيت لعمرو بن أحمر الباهلي. انظر: «ديوانه» (ص 67). (4) «ديوانه» (55 - شرح محمد محمد حسين). (5) هو أعشى باهلة. انظر: «الأصمعيات» (90).

(24/14)


وأجيب بأنّ هذا مسلَّم إن لم يكن في الكلام ما يقتضيه، وهو كذلك هنا؛ لأنّ التعفّف حتى يُظَنُّوا أغنياء يقتضي عدم السؤال رأسًا. وأيضًا {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} مؤيد لذلك. وقيل: المراد أنّهم لا يسألون، فإن سألوا عن ضرورة لم يلحّوا. ومن النّاس من يجعل المنصوب مفعولاً مطلقًا للنفي، أي: يتركون السؤال إلحافًا، أي مُلْحفين في الترك. وهو كما ترى (1). * * * * قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} [282]. يؤخذ منها وجوب الكتابة بدون أجرةٍ في بعض الأحوال. والله أعلم (2). _________ (1) مجموع [4719]. (2) مجموع [4657].

(24/15)


 سورة آل عمران

[معنى المحكمات والمتشابهات] الحمد لله. يظهر لي أن معنى قوله عز وجل: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [7] أي: يُحكِمُهنَّ بعض الخلق، من قولهم: تعلَّم فلان الطبَّ حتى أَحكمه، أي: أحكم علمه. بخلاف قوله: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] فمعناه: أن الله عز وجل أحكمها (1). قوله عز وجل: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أي ــ والله أعلم ــ: كل آية فيها متشابهة، أي متشابهة المعاني، كما تقول: فلان متناسب الخِلقة، أي أنّ أعضاءه متناسبة. وقال عزّ وجل حكايةً عن موسى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة: 70] (2). * * * * قوله عز وجل في سورة آل عمران: {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [93]. صحَّ عن ابن عباس أن إسرائيل نذر إن شفاه الله تعالى من عرق النَّسا أن _________ (1) مجموع [4727]. (2) مجموع [4719]. وللمؤلف بحث مفصَّل في معنى المحكم والمتشابه في «التنكيل - القائد إلى تصحيح العقائد».

(24/16)


لا يأكل لحمًا فيه عروق. وهذا النذر مشكل؛ إذ لا يظهر فيه وجه القربة، والله عز وجل يقول في اليهود (المائدة) (1): {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} [الأنعام: 140] (2). * * * * [تعليق على موضع من «روح المعاني»] آلوسي (ج 1 /ص 673) {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [135]. «وقد ذكر أنّ الحال بعد الفعل المنفي ــ وكذا جميع القيود ــ قد يكون راجعًا إلى النفي، قيدًا له دون المنفي، مثل: ما جئتك مشتغلاً بأمورك، بمعنى: تركت المجيء مشتغلاً بذلك. وقد يكون [راجعًا إلى ما دخله النفي مثل: ما جئتك راكبًا، ولهذا معنيان: أحدهما ــ وهو الأكثر ــ: أن يكون النفي] (3) راجعًا إلى القيد فقط، ويثبت أصل الفعل، فيكون المعنى: جئت غير راكب. وثانيهما: أن يقصد نفي الفعل والقيد معًا، بمعنى انتفاء كلٍّ من الأمرين. فالمعنى في المثال: لا مجيءَ ولا ركوب. _________ (1) كذا في الأصل والآية في سورة الأنعام. (2) مجموع [4726]. (3) سقط لانتقال النظر، والإكمال من «روح المعاني»: (4/ 62).

(24/17)


وقد يكون النفي متوجهًا للفعل فقط من غير اعتبار لنفي القيد وإثباته. قيل: وهذه الآية لا يصح فيها أن يكون {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} قيدًا للنفي، لعدم الفائدة؛ لأنّ ترك الإصرار موجب للأجر والجزاء، سواء كان مع العلم بالقبح أو مع الجهل، بل مع الجهل أولى. ولا يصحّ». [قال المعلمي]: «فيه نظر؛ لأنّه قد يقال: إذا تركوه عالمين بقبحه كان الظاهر من ذلك أنهم إنما تركوه خوفًا من الله عز وجل، فبذلك يستحقون الثواب. وإذا تركوا شيئًا لا يعلمون بقبحه فالظاهر أنهم إنما تركوه لعارض غير خشية الله، فلا يستحقّون ثوابًا. والله أعلم» (1). _________ (1) مجموع [4719].

(24/18)


 سورة النساء

[الكلام على آية التيمم] قال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [43]. الذي يظهر لي في معنى الآية: أن المراد بالصلاة حقيقتها الشرعية، ويؤيده سبب النزول. والمراد بـ {عَابِرِي سَبِيلٍ}: ظاهره، وهو المسافر. والإذن مطلق قُيِّد في آخر الآية بالتيمم، وإنما تُرِك تقييده أولاً لأنه أُريد أن يؤتى بحكم التيمم مضبوطًا في كلامٍ جامع، وهو ما في بقية الآية، فلو قُيّد به أولاً لزم أحد أمرين: إما إهماله في بقية الكلام، وإما التكرار، وكلاهما منافٍ لكمال البلاغة. أما التكرار فواضح، وأما الإهمال فللإخلال بضبط الكلام في التيمم في جملة واحدة كما مرَّ. ثم قال عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} فذكر عذرًا، ثم قال: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} فذكر عذرًا آخر، ثم قال: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} فذكر عذرًا ثالثًا، وهو عدم وجود الماء. وإنما قدم

(24/19)


عليه قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} لأنه في معنى العلة لعدم وجود الماء، أي: أنه علة للاحتياج إلى الماء المتوقف عليه اعتبار عدم وجوده. وهذا كقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] أمر الله عز وجل باستشهاد المرأتين، وعلَّل ذلك بقوله: {أَنْ تَضِلَّ ... } والعلة الحقيقية هي التذكير لا الضلال، ولكن لما كان الضلال علة للتذكير لأنه عليه يتوقف الاحتياج إليه= قدَّمه قبله وعطف عليه بالفاء. فإذًا كل من الثلاثة عذر مستقلّ: 1 ــ المرض 2 ــ السفر 3 ــ عدم وجود الماء. فإن قيل: فإن عدم وجود الماء شرط لكون السفر عذرًا. أقول: نعم، ولكن لمَّا كان الغالب في السفر عدم وجود الماء، أطلق، وبيَّنت السنة المراد (1). * * * * الحمد لله. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ ... } [77]. _________ (1) مجموع [4717].

(24/20)


الذي يظهر ــ ولا أراه يجوز غيره ــ أنَّ المراد مَنْ أسلَم مِمَّن حَوْل المدينة من الأعراب. وقول الله عز وجل بعد ذلك في آية (78): {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} صريحٌ في بطلان ما زعمه الكلبيُّ أن الآية السابقة نزلت في بعض أجلَّة الصحابة الذين أثنى الله عليهم في آيات لا تُحصى. وحَمْلُ آية (78) على قوم آخرين تفكيكٌ للنظم الشريف بلا داعٍ. فالحق أنَّ الضمائر فيها لِمَن تقدَّم، أي مَن حَول المدينة مِن الأعراب، وسيأتي ما يوجب القطعَ بذلك. والمراد بالحسنة والسيئة ما يوافق هواهم أو يخالفه من الأحكام، أي ــ والله أعلم ــ وإن يبلِّغهم الرسول ما يوافق هواهم يقولوا: هذا من عند الله، وإن يبلِّغهم ما يكرهونه كإيجاب القتال يقولوا: هذه مِن عندك، قال تعالى لرسوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي: وإنما أنا مبلّغ. وقوله تعالى في آية (79): {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} الظاهر أن الخطاب للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كقوله عقب ذلك: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا}. نعم، المقصود ــ والله أعلم ــ العموم مِن حيث المعنى، أي أنه إذا كان هو - صلى الله عليه وآله وسلم - هكذا فغيره كذلك من باب أولى. والمراد بالحَسَنة والسيئة: النعمة والمصيبة، وجيء بهذه الجملة بعدما

(24/21)


تقدم دفعًا لِما قد يتوهَّمه مَن لم يتدبَّر مِن عموم قوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} لجميع الحوادث المخالفة للهوى بحيث يدخل في ذلك جميع المصائب والمضار. فنبَّه تعالى على أن المراد بالحسنة والسيئة ــ فيما تقدم ــ الأحكامُ المبلَّغة، فكلّها من عند الله. فأمّا الحسنة والسيئة بمعنى النِّعم والمصائب فلا يُقال فيها: كلّها من عند الله، بل النِّعَم من عند الله، والمصائب من النفس، أي بسبب أعمالها. وقوله في آية (80): {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ظاهر في أن الكلام مع منافقي الأعراب. وقوله تعالى في آية (81): {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ... } واضح جدًّا فيما قلناه مِن أنَّ الكلام مع المنافقين، وكذا قوله تعالى في آية (83): {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} (1). * * * * قوله عز وجل في آخر سورة النساء: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) _________ (1) مجموع [4724].

(24/22)


بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)}. كان يظهر لي أن قوله: {فَبِظُلْمٍ} تأكيد لما تقدم على جهة الإجمال، جيء به لطول الفصل. ولكن ظهر لي الآن ما يمنع من ذلك، وهو: 1 - أن الأفعال المفصَّلة قبلُ، كلَّها أو جلَّها وقع منهم بعد التحريم. فكيف يُجعل جزاءً لها؟ 2 - أن الأعمال المذكورة فظيعةٌ، لا تناسب أن يُقْتَصر في بيان جزائها على التحريم. فإذًا يترجَّح ما قالوا: إن متعلّق {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} محذوف. لكنه يشكل قوله: {فَبِظُلْمٍ} حيث عَبّر بالفاء، وكان الظاهر بناءً على ما ذُكر التعبيرَ بالواو (1). _________ (1) مجموع [4726].

(24/23)


 سورة المائدة

مصحف (106). مائدة [3 - 5]. {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ .... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .... (3) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ .... (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}. يظهر أن المراد: ماذا أُحل لهم من اللحوم؟ والمراد بالطيبات المُذَكَّاة. والله أعلم (1). * * * * [ما يستفاد من آية الوضوء] قال الله تبارك وتعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ} [6]. فكأنَّ من معنى الآية: إذا قمتم إلى الصلاة فتوضأوا، وإن كنتم مُحْدِثين ولم تجدوا ماءً فتيمَّموا. فالشرط الآخر له منطوق ــ وهو ظاهرـ، وله مفهوم، وهو: إن لم تكونوا مُحْدِثين ووجدتم الماء فلا تيمَّموا، وإن كنتم مُحْدِثين ووجدتم الماء فلا تيمَّموا، وإن كنتم ... (2). _________ (1) مجموع [4726]. (2) بعده بياض في الأصل.

(24/24)


وجود الحَدَث ... وعدم الماء ... التيمُّم وجود الحَدَث ... ووجود الماء ... الوضوء عدم الحَدَث ... وعدم الماء ... يصلِّي بالوضوء الأول عدم الحَدَث ... ووجود الماء ... (1). * * * * قال تعالى في سورة المائدة: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [18]. في الآية دليل على أن الأب ينبغي له العفو عن أولاده، وكذا المحبّ مع حبيبه (2). * * * * قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [32]. ظاهر الآية، بل صريحها: أنّ الفساد في الأرض بدون قتل النفس مسوِّغ للقتل (3). * * * * _________ (1) بيَّض الشيخ في الأصل لوضوح حكمه. مجموع [4711]. (2) مجموع [4711]. (3) مجموع [4719].

(24/25)


[بحث حول «مِن» في قوله تعالى: {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ}] الحمد لله. * قوله عز وجل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)}. (مِنْ) في قوله: {مِنْهُمْ} يجوز أن تكون تبعيضية، إذا جُعِل النفي في قوله: {لَمْ يَنْتَهُوا} من باب سلب العموم، أي: لم يَعُمَّهم الانتهاء، فيصدق بما إذا انتهى بعضهم. وعليه، فلو قيل: ليمسنَّهم، لاقتضى أن العذاب يمسُّهم جميعًا إن لم ينتهوا جميعًا. أي: أن العذاب يعمُّهم إن لم يعمَّهم الانتهاء، وإن انتهى بعضهم. وهذا غير مراد، وإنما المراد أن العذاب يمسّ من لم ينته دون من انتهى. فوجب في أداء المعنى المراد أن يؤتى بما في النظم الكريم. أمَا إذا جُعِل النفي من باب عموم السلب، فلا يصح التبعيض، إذ يكون المعنى حينئذٍ: لئن لم ينته أحد منهم. وإذا لم ينته أحد منهم فكلهم كفار، فلا معنى لأن يُجعل الذين كفروا بعضًا منهم. فيجب على هذا جعل (مِنْ) بيانيَّة.

(24/26)


* قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ ... } [الفتح: 29]. قوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} المرادُ المعيَّة الكاملة، أي بالأبدان والإيمان وتوابعه، لا بالأبدان فقط، وإلاّ لدخل المشركون، ولا بالتظاهر بالإسلام، وإلا لدخل المنافقون، والسياق يأباه؛ لأنّ المنافقين لم يكونوا أشدَّاء على الكفار رحماء بالمؤمنين، بل وصفهم الله عز وجل في مواضع من كتابه بعكس ذلك، ولم يكونوا ممن يُرَوْن ركَّعًا سُجَّدًا، بل وصفهم الله تعالى بأنهم لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى يراؤون الناس، وأنهم لا يذكرون الله إلا قليلاً. وأوضح من هذا: أنهم لم يكونوا يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا، كما هو واضح. وحينئذٍ، فتلخيصُ المعنى: محمد رسول الله، والذين آمنوا معه مؤمنون يعملون الصالحات. فقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ ... } لا يصحّ أن تكون (مِنْ) فيه تبعيضية. فإن قيل: لم لا يُجعل معنى قوله: {وَالَّذِينَ} آمنوا {مَعَهُ}: مؤمنون يعملون الصالحات، أي في الجملة، أي يقع هذا منهم، بدون تعرُّضٍ لدوام

(24/27)


ذلك أو عدمه، فيدخل حينئذٍ مَن آمن وعمل الصالحات ثم ارتدّ على عقبه، ثم يُجعَل معنى قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ} أي ثبتوا على ذلك، فحينئذٍ يصحّ التبعيض؟ قلت: لا يخفى ما في هذا من التعجرف: 1 ــ لأنّ الله عز وجل وصف الذين معه بأنهم: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ... }، وأطلق الوصف، وعبَّر بالاسم الدالّ على الثبات والدوام في (أشداء) و (رحماء)، وجاء بقوله: (تراهم) مخاطبًا لكل من يمكن منه الرؤية، فيشمل كل زمان. 2 ــ قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}. فجاء بلفظ الماضي الذي يدل على وقوع ذلك فقط، فهو مناقض لغرض المعترض من الحمل على الثبات، وفيه حكمة بالغة سيأتي التنبيه عليها إن شاء الله تعالى. بل لو جُعِل الخطاب فيه لخاصّة المؤمنين لم يلزم جواز ذلك، كما لا يلزم من قوله عز وجل لرسوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وأمثالها من الآيات= جوازُ ذلك عليه - صلى الله عليه وآله وسلم -. بل إن خطابه عز وجل لرسوله بذلك وأمثاله هو من جملة العصمة. وهذه نكتة لطيفة ليس هذا محل إيضاحها. وأمّا ما جاء في الحديث أن ناسًا يُحال بينهم وبين حوضه - صلى الله عليه وآله وسلم -، فيقول: «أصيحابي أصيحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» (1) = فنقول: _________ (1) أخرجه البخاري (4625)، ومسلم (2304) من حديث أنس بن مالك.

(24/28)


إن المراد بهؤلاء أيضًا جماعة ممن كانوا أسلموا ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، وقد وعدهم الله عز وجل في كتابه بأنه سيدخل الإيمان في قلوبهم، كما تقتضيه كلمة {لمّا}، فيتمسك - صلى الله عليه وآله وسلم - بظاهر ذلك، فيقول: «أصيحابي»، فيُخبَر بأنهم أحدثوا بعده أشياء مَنعت دخول الإيمان في قلوبهم. بل، وقد يقال: إن من مات بعد أن أسلم وقبل أن يدخل الإيمان في قلبه = ممّن تناله الرحمة ما لم يُحدِث. ومع هذا كله، فليس في الحديث أن أولئك المردودين يخلَّدون في النار. وممّا يرد الاستدلال بالحديث قوله: «أصيحابي» ــ بالتصغير ــ، ممّا يدل أنهم ليسوا من أصحابه المرادين بالآية الكريمة. فإن قيل: فما النكتة في العدول عن أن يقال: (وعدهم الله)، إلى ما في النظم الكريم؟ قلت: قد علم الله عز وجل أنه سيكون في هذه الأمة من يطعن في أصحاب رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فربّما يقول قائل: إن قوله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ ... } إلخ يدلُّ على الثبات والدوام ــ كما تقدم ــ، ويزعم أن منهم من لم يثبت، فيستدل بذلك على أنه لم يدخل في قوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ}؛ لأن الله وصف الداخلين في ذلك بالثبات، وهذا لم يثبت. = فدحض الله عز وجل هذه الشبهة وأرغم أنف صاحبها بقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، فلم يشترط في الوعد دوامًا ولا ثباتًا، بل

(24/29)


وهبه (1) لكل من وقع منه إيمان وعملٌ للصالحات. وعُلِمَ بذلك ــ مع ما تقدم ــ أنّ كل من وقع منه إيمان وعمل صالح فهو ممّن علم الله عز وجل أنه ثابت على ذلك، حتى لو فُرض [أنه] وقع منه شيءٌ من المخالفات، فهو صادر عن تأويل أو سهوٍ أو خطأ، وتَعقُبُه التوبة النصوح. وبالإجمال، قد غفره الله عز وجل، فلا يخلّ بالثبات المفهوم ممّا تقدم. على أنه يمكن أن تكون (مِنْ) تبعيضيّة، ولا يَرِدُ شيء مما تقدم. وذلك بأن يقال: كونها تبعيضية لا يستلزم التبعيض، بل جيء بها لتحقيق انتفاء التبعيض، من باب نفي الشيء بإثباته، وهو باب معروف في العربية، منه ما يسمُّونه: تأكيد المدح بما يشبه الذم، كقوله: ولا عيب فيهم ... البيت (2). فإن ظاهره إثبات العيب، ولكنّ هذا الإثبات جُعِلَ وسيلة إلى تحقيق النفي. ومنه قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، على جَعْل الكاف أصليَّة. ظاهره إثبات المِثل، والمقصود تحقيق نفيه، كما هو موضَّح في محلِّه. _________ (1) غير محررة فلعلها ما أثبت، وتحتمل: «كفله»، وكان الشيخ كتب أولًا: «جعله»، ثم ضرب عليها. (2) هو للنابغة الذبياني في «ديوانه» (44) وتمامه: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهنَّ فلول من قراع الكتائب

(24/30)


ومنه التعليق بالمُحال، كقوله تعالى: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]. فظاهره إثبات دخولهم، والمقصود تأكيد نفيه وكقوله: ... (1). فيقال هنا: إنّ (مِنْ) إذا جُعِلت للتبعيض كان ظاهرها أن منهم من لم يؤمن ولم يعمل الصالحات، ولكنّ الثابت بالسياق انتفاء ذلك، فعُلم أن المراد بهذا الإثبات تحقيق النفي، وتبكيت مَن يزعم أنّ مِن أولئك مَن لا يدخل الجنة. ومثاله: أن يثبت عند السلطان اشتراك جماعة في الجهاد، فيريد الإنعام عليهم، فيقوم بعض بطانة السوء يطعن في بعضهم ليحرمهم الملك، فيقول الملك: سأُنْعِم على من جاهد منهم ــ وقد علم أن جميعهم جاهدوا ــ. وإنما ملخَّص المعنى: أنه لن يحرم منهم أحدًا، اللهم إلا إن كان فيهم من لم يجاهد، وقد عُلِم أنه ليس فيهم من لم يجاهد، فعُلِم أنه لن يحرم منهم أحدًا البتة. ومثل هذا يمكن أن يقال في الآية الأولى (2). والله أعلم (3). _________ (1) بياض في الأصل مقدار أربع كلمات. (2) أي في آية المائدة السابقة: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)}. (3) مجموع [4718].

(24/31)


 سورة الأنعام

قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [28]. قد يُستبعَد فيمن شاهد أمور الآخرة وقاسى العذاب، أن يكون بحيث لو رُدَّ إلى الدنيا لعاد لِمَا تحقّق عندَه أنه مُوجِب لذلك العذاب الذي شاهده وذاقه. وخطر لي جوابان: الأول: أنه لو أُعيد إلى الدنيا لكان كالمولود ابتداء، لا يذكر شيئًا مما عرفه وشاهده بعد الموت، ولكن الخبث الذي كان بنفسه في الحياة الأولى يبقى راسخًا فيها، فيسوقه ذلك لزامًا إلى مثل ما جرى له في الحياة الأولى. الجواب الثاني: أنه لا ينسى، ولكن ما استقرّ في نفسه من الخبث يجرّه إلى العود إلى الخبائث، ويغالط نفسه ويعلّلها تارة بأنه سيتوب، وتارة بأنه إن مات ثانية على الخبث سأل الإعادة مرّة أخرى، ونحو ذلك من المعاذير. وشاهد هذا ما تراه في المجرمين الذين استحكم الإجرام في أنفسهم، يُؤْخَذ أحدهم فيُسْجَن ويعذَّب حتى يجزم هو قبل غيره بأنه إذا خُلِّص من ذلك العذاب فلن يعود إلى الإجرام البتة. ثم تجده إذا خُلِّص لا يلبث أن يعود (1). * * * * _________ (1) مجموع [4730]. وسيأتي مزيد تفصيل في هذه المسألة في الفوائد العقدية (ص 97).

(24/32)


الحمد لله. قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ... } [68]. وقال في آية أخرى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140]. ففي المقارنة بين هاتين الآيتين دلالة على أن كل ما خوطب به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقد خوطب به أمّته. أي إلّا أن يقوم دليل في بعض المخاطبات يدل على الخصوص. والله أعلم. وفيها ــ أيضًا ــ دلالة على أن حكاية القرآن للأقوال قد تكون بالمعنى، وإن كان المحكيّ بالعربية (1). * * * * [المراد بالظلم في قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}] قال الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} الآيات إلى أن قال: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ _________ (1) مجموع [4730].

(24/33)


بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ .. } [74 - 83]. فبيّنٌ من السياق أن (1) المراد بالظلم ههنا الشرك؛ لأن الكلام مراجعة من إبراهيم ــ عليه الصلاة والسلام ــ لقومه المشركين، فقال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ [عَلَيْكُمْ] (2) سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. والفريقان: أحدهما: نفسه والذي آمن بالله تعالى ولم يشرك به شيئًا، والفريق الآخر: قومه الذين كانوا مشركين. فقوله ــ عليه الصلاة والسلام ــ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} يعني نفسَه ومن كان على طريقته. فإن قال قائل: فإن قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا} يفيد أنهم لم يكونوا مشركين. قلتُ: كلا، وإنما يفيد هنا أنهم اعترفوا بألوهية الله عز وجل كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]. قال البخاري في كتاب التوحيد (3): باب قول الله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ _________ (1) تكررت في الأصل. (2) سقطت في الأصل. (3) (9/ 152 - السلطانية).

(24/34)


أَنْدَادًا} [البقرة: 22]. وقال عكرمة: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ} و {مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25، الزمر: 38] فذلك إيمانهم وهم يعبدون غيره (1). * * * * وقوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [75]. قوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} يُضعف التأويل بأن قوله: «هذا ربّي» من باب الاستفهام الإنكاري أو نحوه. ثم قوله: {هَذَا رَبِّي} أراد ــ والله أعلم ــ بالرب هنا المعبود كأنه قال: أمَّا الأحجار هذه فلا تصلح للعبادة، فينبغي أن يُنظر (2) فيما هو أرقى منها، فلما رأى الكوكب قال: هذا. فلما أَفَلَ قال: وهذا أيضًا لا يصلح للعبادة لأنه إن عُبِد حين طلوعه فكيف بعد أفوله، ثم هكذا القمر والشمس. ولكن قوله بعد آيات (3): {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} [الأنبياء: 51] يحتمل أن يؤيّد التأويل. والله أعلم (4). _________ (1) مجموع [4711]. (2) يصلح أن يكون: «ننظر» (3) كذا في الأصل مع أن الآية من سورة الأنبياء. (4) مجموع [4716].

(24/35)


 سورة الأعراف

قوله تعالى في أواخر سورة الأعراف: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا .. } الآية [189]. قد يحتمل أن يقال: أراد بالنفس الجنسَ، أي الرجل. وقوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا} أي من جنسها. وبقيَّة الضمائر للرجل والمرأة المُطْلَقَين. والله أعلم (1).

  سورة الأنفال

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)}. أما الأولى فظاهر؛ لأن الله تبارك وتعالى إذا أراد عذاب أمَّةٍ أخرج عنها نبيَّها ومن معه ثم عذَّبها. وأما الثانية؛ فقد قيل وقيل. والأقرب ــ والله أعلم ــ أنها على سبيل الفرض، أي: وما كان الله معذِّبَهم لو كانوا يستغفرون. تأمل السياق (2). _________ (1) مجموع [4716]. (2) مجموع [4716].

(24/36)


 سورة التوبة

قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ ... } [68] يدلُّ على أن الوعد يستعمل في الشرِّ كما يستعمل في الخير، إلا أن يجاب بأنه في الآية من باب التَهَكُّم، كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] (1).

  سورة هود

قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [118 - 119]. الاستثناء متصل أم منقطع؟ والظاهر أنه منقطع، أي: لكن مَن رحم ربك هداهم لِمَا اختلف فيه من الحق بإذنه، بدليل الآية الأخرى. ويمكن أن تجعل «إلَّا» عاطفةً بمعنى الواو. والله أعلم. قوله تعالى: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} يمكن أن يقال: ولأجل أن يكونوا على حالٍ قابلٍ للاختلاف خلقهم. ويؤوّل بما أُوّل به حديث: «لو لم تُذنبوا ... » (2) إلخ (3). _________ (1) مجموع [4657]. (2) أخرجه مسلم (2749) من حديث أبي هريرة. (3) مجموع [4657].

(24/37)


 سورة الرعد

قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ} [33]. الباء في قوله: «بما» تحتمل وجهين: الأول: أن تكون للمصاحَبة. والمُنَبَّأُ به محذوف، على مثال قوله تعالى: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 143]. والمعنى: أتنبئون الله بهذا النبأ (أي: أنَّ له شركاء) مع علمٍ عندكم لم يعلمه الله تعالى موجودًا في الأرض عندكم ولا عند غيركم؟ أم مع قولٍ ظاهر، وهو ما سمعتموه من آبائكم؟ والثاني: أن تكون الباء لتَعْدية «نَبَّأ». وعليه، فَـ «ما» في قوله: «بما» ليست كناية عن الشركاء؛ لأنه إنما يقال: نَبَّأتُه بكذا وكذا من الأخبار؛ لأن (نبَّأ) بمعنى (أخبر)، فالمنبَّأ به إنما يكون نبأً، أي خبرًا، كقوله تعالى: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 36]، [{أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 45]] (1)، {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} [التوبة: 94]، {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} [التحريم: 3]. ولا تُعدَّى الباء إلى الذوات، إلا على ضربٍ من المجاز إذا دلَّت عليه القرينة. كما إذا استأذن رجل على أمير فذهب الحاجب فأخبر الأمير ثم _________ (1) الأصل: «فلما نبأهم بتأويله» سبق قلم.

(24/38)


يرجع إلى المستأذِن، فيقول له: قد أنبأتُ الأمير بك، يريد بوقوفك على الباب مستأذنًا. وعلى كلا القولين، فالشيء الذي دلَّت الآية أن الله تعالى لا يعلمه في الأرض ليس هو ذوات الشركاء، بل هو ــ على الأول ــ: العلمُ بكونه تعالى له شركاء. أي أنّ هذا العلم معدوم في الأرض. وعلى الثاني: كونه تعالى له شركاء، أي أن هذا الحكم المدَّعى ــ وهو أنه تعالى له شركاء ــ معدومٌ في الأرض. فعلى كلا القولين، لا دلالة في الآية أن الشركاء المذكورين (1) فيها هم في الأرض. فتدبَّر. أمَّا المختار، فهو القول الأول في هذه الآية؛ لمكان المعادلة بقوله: {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ}، فلا يستقيم أن يقال: أتُنبئون الله بوجود شركاء أم بظاهر من القول. وأما استقامة: أتنبئون الله بعلمٍ أم بظاهر من القول = فواضح. فالآية من قبيل قوله تعالى: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 143]، وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: 148]، وقوله تعالى: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4]. _________ (1) سقط الراء من الكلمة في الأصل.

(24/39)


وإنما عدل ــ والله أعلم ــ إلى الموصول فقال: {بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ}، ولم يقل: «بعلمٍ»، ليكون السؤال نفسُه مُغنِيًا في إبطال أحد الشِّقَّين عن الإتيان بجملةٍ أخرى لإبطاله. كأنه قال: أتنبئون الله بعلم؟ فالعلمُ لا يعلمه الله تعالى موجودًا في الأرض .... وأمّا آية يونس (1)، فالوجه الثاني هو الظاهر فيها؛ إذ لا معادلة فيها. فالمعنى: أتنبئون الله بأن لكم شفعاء عنده؟ وهو لا يعلم هذا الحكم موجودًا في السماوات ولا في الأرض. ويحتمل أن يكون هناك حذف، والمعنى: أتنبئون الله بوجود ما لا يعلمه في السماوات ولا في الأرض. أي: لا يعلم لكم شفعاء كائنين في السماوات ولا في الأرض. وهذا أقرب إلى الظاهر هنا. والله أعلم (2). _________ (1) هي قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)}. (2) مجموع [4729].

(24/40)


 سورة إبراهيم

قول الله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [31]. وقوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]. وقوله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ} [النور: 31]. جزم الفعل بشرطٍ مقدّر، والتقدير: إنْ تَقُل لهم ذلك يقيموا الصلاة. وكذا في الآخرَين. واستشكل بأنّه يقتضي الإخبار بترتّب إقامة الصلاة على مجرد القول، وهو خلاف المشاهَد. وكذا في الآخرَين. وأجاب الخُضري في «حواشي ابن عقيل» (1) بأنّ القول ليس شرطًا تامًّا للامتثال، بل لا بدّ معه من التوفيق. فلم يصنع شيئًا! والإشكال بحاله؛ لأنّه إذا لم يكن القول شرطًا تامًّا، فلِمَ جُعل وحده شرطًا؟ وعندي أجوبة: أحدها: أنّ المراد بالذين آمنوا والمؤمنين= مَن كَمُل إيمانه، أي: أنّ من كَمُل إيمانه لا يقع منه معصية للرسول، بل بمجرّد ما يقول له الرسول: افعل كذا، يبادر بفعله. فهذا وإن كان أولى من قول الخضري، إلاّ أنّ فيه نظرًا لعموم الآيات جميعَ (2) المؤمنين، ولأنّ كمال الإيمان لا يلزم أن يبلغ إلى درجة العصمة _________ (1) (3/ 63). (2) مفعول للمصدر «عموم».

(24/41)


في غير الأنبياء، ولاسيما عن الصغائر التي منها عدم غضِّ البصر. ثانيها: أنّ الجزاء في الآيات وإن كان ظاهره العموم، فيحتمل أنّ المراد الغالب. وفيه نظر ــ أيضًا ــ لأنّ فيه إخراجَ الكلام عن ظاهره، ولأنّه إن صحّ في الآية الأولى، لا أظنه يصح في الآيتين الأخريين. بل لو قيل: إنّ غالب المؤمنين يتساهلون في عدم غض النظر = لمَا كان بعيدًا. وجواب ثالث: وهو أنّ الكلام خرج مخرج تحريض المؤمنين وتحضيضهم على طاعة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -. كما إذا كان عندك رجل له ولدٌ مقصِّر في طاعته، فاحتاج الأب إلى شيء، فتقول له ــ بمسمعٍ من ولده ــ: «مُر ولدك يُطعْك»، تريد بذلك تحريض الولد على طاعة أبيه. كأنّك تقول له: إنّ طاعتك لأبيك بمثابة الأمر المقطوع بوقوعه، حتى لا يتوهم خلافه. هذا مع أنّك تعتقد في نفسك أنّ الولد قد يطيع، وقد لا يطيع. وهذا الجواب ــ فيما يظهر لي ــ بغاية الحُسن، ولله الحمد (1). _________ (1) مجموع [4719].

(24/42)


 سورة الحجر

[إشكال حول إعراب آية والجواب عنه] {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)}. جَزْم (يأكلوا) وما بعده على جواب (ذرهم) يقتضي أنه متسبِّب عنه، أي: إنْ تذرهم يأكلوا ... ومفهوم الشرط: إنْ لا تذرهم لا يأكلوا ولا يتمتّعوا ولا يُلههم الأمل. وظاهر هذا مشكل؛ إذ كيف يؤمر أن يذرهم مع تيقُّن أنه لو لم يذرهم لم يأكلوا ولم يتمتّعوا ولم يُلههم الأمل، ومعنى هذه الأفعال استمرارهم على الضلال؟ فحاصل المفهوم: إنْ لا تذرْهم لا يستمرّوا على الضلال. والجواب: أن هذا الإشكال إنما يَرِدُ إذا حملنا الترك المأمور به بـ {ذَرْهُمْ} على الترك من الدعاء، وليس كذلك، وإنما المراد الترك من الإهلاك. فالمعنى: لا تستعجل هلاكهم، فإنك إنْ لا تستعجل هلاكهم يستمرُّوا على لهوهم وغفلتهم. أي: وإن تستعجل هلاكهم فيهلكوا لا يكن ذلك؛ إذ بعد الهلاك لا أكل ولا تمتّع ولا إلهاء أمل. فإن قلت: فالآية مكية، وهي قبل شرع القتال وإمكانه، فكيف يؤمر بترك شيء هو غير متمكن منه؟ قلتُ: ليس المراد استعجال هلاكهم بأن يقاتلهم، وإنما المراد استعجال

(24/43)


هلاكهم بالدعاء عليهم واستحباب أن ينزل عليهم العذاب. ويبيّن هذا المعنى قولُه تعالى بعدُ: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)}. فالحاصل أن معنى {ذَرْهُمْ}: لا تستعجل لهم العذاب. والمراد بالعذاب: المستأصلُ كالصيحة ونحوها مما عُذِّبت به الأمم، كما يدل عليه ما تقدّم. فلا يلزم من النهي عن استعجاله النهي عن القتال. وبهذا تعلم أن الآية محكمة لم تُنسخ بآية السيف كما تُوُهِّم (1). _________ (1) مجموع [4711].

(24/44)


 سورة النحل

[تعليقات على عدة آيات] * قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [نحل: 12] (1). في قراءة من قرأ برفع «النجوم» و «مسخرات» سرٌّ لطيف، وهو أن النجوم ليست كلها مسخرة لنا معشر البشر؛ فإن منها ما لا نراه. والله أعلم. * قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [نحل: 20 و 21]. المتبادر أن قوله: أموات خبر ثان للذين يدعون، أي للمدعوين، أو خبر لمحذوف تقديره: «هم» يعود على المدعوين أيضًا. ولكن المعنى في بادئ النظر يأباه. ويمكن تصحيحه بحمل قوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ} على الملائكة. ومعنى كونهم أمواتًا غير أحياء كونهم على الصفة المخالفة للحياة الدائمة الخاصة بالله عز وجل. فتأمل. * [قوله تعالى]: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا _________ (1) التخريج من الشيخ، وكذا في المواضع الآتية من الفوائد المنقولة من مجموع [4716].

(24/45)


سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [نحل: 58 و 59]. هذه الآية صريحة في أنهم كانوا يئدون بناتهم حياء من الناس وخوفًا من العار. وهو المطابق للمنقول عن العرب [في] الجاهلية. فأما قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [أنعام: 151]، وقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [إسراء: 31] = فلا يلزم منه أن العرب كانوا يفعلون ذلك، وإنما هو نهي مطلق، ولذلك جاء بلفظ الأولاد الشامل للذكور. وهو مظنَّة لأن يفعله بعض الفقراء. وقد ثبت في الصحيح في أكبر الكبائر: «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك» (1). نعم، لا مانع من أن يكون بعض الفقراء من العرب فعل ذلك. * قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [نحل: 73]. {شَيْئًا} منصوب على المصدرية، أي شيء من الملك. والله أعلم. * قال تعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [نحل: 74]. هذه الآية دامغة لشبه المعارضين للنصوص بالرأي. _________ (1) أخرجه البخاري (4477)، ومسلم (86) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(24/46)


ونحوها قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} الآية [البقرة: 275]. وقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140]. * قال تعالى: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} [نحل: 86]. الشركاء هاهنا عقلاء وليسوا بالأصنام. * قال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}. فقوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ} الآية ردٌّ عليهم في قولهم: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} وقولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} حيث نسبوا الكذب إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. فقال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} أي: أولئك القائلون: إنما أنت مفتر. فكأنه قال تعالى: إنما يفتري الكذب هم، أي القائلون تلك المقالة، أي: لا أنت يا محمد.

(24/47)


وفيه وضع الموصول وهو قوله: {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ... } موضع المضمر، وهو (هم)، ونكتة ذلك: التقرير أو التوهّم أو الإيماء إلى وجه بناء الخبر؛ فإن عدم إيمانهم بآيات الله مناسب لنسبة الكذب إليهم، كما أن إيمان الرسول بها مناسب لنزاهته عن الكذب. وفي قوله: {إِنَّمَا يَفْتَرِي ... } قصرُ قلبٍ؛ فإنهم نسبوا الكذب إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقلب الله ذلك عليهم بأنْ نفاه عن رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأثبته لهم. وهو قصر إضافي، أي أن قصر الكذب عليهم إنما هو بالنسبة إلى الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فليس في الكلام تعرُّض لغير الفريقين ــ أعني الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - والذين نسبوا إليه الكذب ــ لا بنفي ولا إثبات. وبهذا تعلم أنه لا دلالة في الآية على أن الكذب لا يصدر إلا عن كافر. والله أعلم. وفي قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل: 102] دافع لشبهة من يزعم أن قوله تعالى: {قل يا عباد} يدل على أن الناس عباد للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - (1). * قوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} ظهر لي فيه ثلاثة أوجه: الأول: أن المراد الكذب على الله تعالى بقرينة السياق. _________ (1) مجموع [4716].

(24/48)


الثاني: أن المراد بالذين لا يؤمنون بآيات الله قوم مخصوصون من المشركين، وهم الذين رموا النبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بالكذب، كما دل عليه السياق، فقوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي ... } إلخ من باب الحصر الإضافي؛ لأنهم رموا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالكذب فأجاب الله تعالى عليهم بحصر الكذب فيهم، أي بالنسبة إلى رسوله، وهذا من باب حصر القلب، فهُم رموا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالكذب ويزعمون أنهم صادقون، فردَّ الله تعالى عليهم بما يقتضي أن نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - صادق وأنهم هم الكاذبون، وجعل المُظْهَر في مقام المُضْمَر في قوله: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} للتصريح بذمهم، والإشارةِ إلى العلة التي تقتضي افتراءَهم للكذب، فيكون في الكلام إيراد دليل على قلب قولهم. الثالث: أننا نسلِّم بقاء الآية على ظاهر العموم والإطلاق، ولكن هذا لا يقتضي أن كلَّ من افترى الكذب كافر، وإنما يقتضي أن افتراء الكذب هو من الأخلاق التي عُرِفَ بها الكفار، وهذا كما لو قيل لرجل: سمعنا أنك كنت تتخذ خِمارًا، فيجيب بقوله: إنما يتخذ الخمار النساء، أي أن الخِمار من الألبسة التي عرفت بها النساء، فكيف ألبسه وأنا رجل؟ ! ومُحال أن يقال: إن مَن لبس الخِمار صار امرأة. نعم، هذا القول يدل أن من لبس الخمار صار متشبهًا بالنساء. وكذا يقال في الآية: إن من كذب وهو من المسلمين متشبِّهٌ بالكفار. والبحث مفتقر إلى تحقيق، وإنما علقتُ هذا هنا تقييدًا حتى أنظر التفاسير إن شاء الله وأشرح ما يظهر لي. والله الموفق (1). _________ (1) مجموع [4657]. وهذه الفائدة علقها الشيخ مرتين في دفترين مختلفين فسقناهما معًا للفائدة التي تضمنها كل منهما.

(24/49)


* في مصحف الحكومة المصريّة قُبَيل سورة النحل أنها مكيّة إلا الآيات الثلاث الآخرة. وقد يَرِدُ عليه الآية (110) قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (1). * * * * [توجيه عدم ذكر ميراث الجد في القرآن] الحمد لله. قال الله عز وجل: {وَنَزَّلْنَا (2) عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [89] أي من الأحكام، فأين حكم ميراث الجد فيه؟ الجواب: أن حكم الجد في القرآن يحتمل وجوها: 1 ــ أن يكون قوله عز وجل: {وَلِأَبَوَيْهِ} أراد بالأب فيه كلَّ رجل يتصل به سلسلة النسب فيتناول الجدّ. 2 ــ أن يكون الجد داخلا في قوله عز وجل ... (3). _________ (1) مجموع [4716]. (2) في الأصل: {وأنزل} سبق قلم. (3) بعده بياض في الأصل. مجموع [4711].

(24/50)


 سورة الحج

[بحث حول اليوم الذي مقداره ألف سنة] قال الله عز وجل في سورة الحج: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)}. وفي آلم السجدة: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)}. وفي المعارج: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ} أي العذاب {بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) ... } يظهر لي أنه ليس المقصود من هذا اليوم يوم القيامة، وإنما المقصود تصويرُ حِلْم ربنا عز وجل وعدم استعجاله، وأنه ليس كالخلق في الاستعجال واستطالة الزمان، كما يقول الناس في الرجل البعيد الآمال، البطيء الأعمال، القليل الاستعجال: «يومه سنة». وعلى هذا، فلا منافاة بين قوله: {أَلْفَ سَنَةٍ} وقوله: {خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}؛ لأن المقصود تصوير عدم الاستعجال، لا حقيقة المقدار. ولَمّا كان الاستعجال في سورة المعارج من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كما يدل عليه

(24/51)


قوله: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)} ومن الكفار أيضًا، بدليل قوله: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)} = ناسب تأكيد تصوير الحِلْم، فقيل: {خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}. وفي الموضعين الآخرين، لم يكن الأمر كذلك، فاكتُفي بألف سنة. وعلى كل حال، فخصوص المقدار غير مراد. وقد يلوح للناظر أن المراد بيان مقدار ما تقطعه الملائكة في عروجهم في اليوم من أيامنا. ولكن عند التأمل يتبين ضعف هذا الوجه. والله أعلم. وقد ثبت في «الصحيح» (1) وصف يوم القيامة بأنه ألف سنة، وذلك لا ينافي ما قلناه. والله أعلم (2).

  سورة المؤمنون

المؤمنون: {وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)}. و {الَّذِينَ ظَلَمُوا}، أي: مِن أَهلِك. والله أعلم (3). _________ (1) الذي في «صحيح مسلم» (987) وغيره من حديث أبي هريرة وَصْف يوم القيامة بكونه «خمسين ألف سنة» في ثلاثة مواضع من الحديث. (2) مجموع [4727]. (3) مجموع [4727].

(24/52)


 سورة النور

الحمد لله. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}. إن قلنا بما عليه الشافعية وغيرهم أن الاستثناء الواقع بعد جُملٍ يعود إلى الجميع ما لم يمنع منه مانع، لزم هنا أن يعود إلى الجَلْد، ولا أعلم منه مانعًا. وإن قلنا برأي الحنفية وغيرهم أنه يعود إلى الأخيرة، فقد يقال: إن الأخيرة هنا هي قوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا}. فأما قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فإنما هي كالتذييل والتكميل والتعليل للتي قبلها؛ كأنه بيَّن علَّة عدم قبول شهادتهم، وهي (1) كونهم فاسقين. أو يقال: هي استثناء من قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} لكن الاستثناء منها دلَّ على الاستثناء من التي قبلها؛ لأن الاستثناء من الاتِّصاف بالعلة يدلُّ على الاستثناء من الحكم المبنيِّ عليها (2). * * * * _________ (1) في الأصل: هم، سبق قلم. (2) مجموع [4716].

(24/53)


قوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [27]. يظهر لي أنّ بين الاستئناس والسلام مغايرةً ما، وقد يتّحدان. فالاستئناس ــ وهو الاستئذان ــ مطلوب، مع قطع النظر عن كونه بالسلام أو بغيره. والسلام مطلوب، مع قطع النظر عن كونه استئذانًا أو غيره. وعلى هذا، فمن استأذن بالسلام، فقد جاء بالأمرين معًا، ومن استأذن بغير السلام لزمه السلام. وحينئذ لا وجه لقول من زعم أنّ السلام قبل الاستئذان؛ لأنّه إذا سلّم فقد استأذن. وكأنّه بناه على أنّ الاستئذان إنّما يكون بنحو: «أيدخل فلان؟». وليس بلازم، بل الاستئذان هو طلب الإذن بأي صورة كان، ولا يخفى أنّ هذا يحصل بالسلام مع معونة القرائن. فإن قلت: فَلِم لم يَقتصر في الآية على بيان الاستئذان، ويُوكل ذِكْرَ السلام إلى الأدلة العامة؟ قلتُ: هذا السؤال غير وارد؛ لأن تكرار الأوامر عند وجود مناسبة لا غرابة فيه. ومع ذلك، فكأنَّه إشارة إلى استحباب أن يكون الاستئذان بلفظ السلام؛ لأنّ المخاطب يقول: إذا شُرع لي الاستئذان، وشُرع لي السلام، فالأولى أن أؤديهما معًا. والله أعلم. ومعنى الاستئناس: طلب الإيناس، كالاستفهام: طلب الإفهام،

(24/54)


والاستخبار: طلب الإخبار، والاستعلام: طلب الإعلام. وفي حديث عمر في قصة إيلاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - (بخاري (1)، في باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها - كتاب النكاح -): «ثم قلت وأنا قائم أستأنس: يا رسول الله! لو رأيتني وكنا معشر قريش نغلب النساء» إلخ. والإيناس المطلوب: إمّا أن يكون من قولك: «آنسني»، أي جعلني آنس، ضد الوحشة. وإمّا من «آنسني»، أي آنَسَ صوتي، أي سمعه (2).

  سورة القصص

[بعض الأحكام من قصة موسى مع شعيب عليهما السلام] الاستدلال على جواز أخذ الأب شيئًا في مقابل إنكاح ابنته بقوله تعالى حكايةً عن نبيِّه شعيب في خطابه لنبي الله موسى عليه السلام: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}. ولا دليل في قوله: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ (3) عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} وقول موسى عليه السلام: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} على جواز العقد في الإجارة على إحدى مدتين؛ لأن العقد إنما هو مشروط على الثمان الحجج، ثم قال: {فَإِنْ _________ (1) (2468)، وهو في مسلم (1479). (2) مجموع [4719]. (3) في الأصل: «أكملتَ» سهو، وكذا في الموضع الثاني.

(24/55)


أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} أي زيادةَ فضلٍ غيرَ داخلٍ في شرط الإجارة، فقال موسى: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} أي قبلتُ الإجارة كما ذكرتَ على الثماني حجج بشروطه، ثم إن تيسر لي زيادة حجتين فهو خير، وإلا فلا عدوان علي، فلم يَعِدْه بزيادة الحجتين. والله أعلم (1).

  سورة العنكبوت

{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} [17]، يريدُ ــ والله أعلم ــ: إن معبوداتكم لا يوجد منها إلا تماثيلها هذه التي اتخذتموها، كقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} [النجم: 23]، أي لا يوجد منها إلا هذه الأسماء (2). * * * * قال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)}. يظهر أن قوله: {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} معناه: أنه يتّقي أذى الناس كما يتقي عذاب الله، أي أنهما سواء عنده، فهو يتذبذب، فتارة يميل _________ (1) مجموع [4657]. (2) مجموع [4721].

(24/56)


إلى اتقاء هذا، وتارة إلى اتقاء ذاك. أي تارة يُقدِم على معصية الله خوفَ أذى الناس، وتارة يكفّ عنها خوف عذاب الله. فإذا كان هذا هو المعنى، فسياق الآية يقتضي أن من ظهر للمؤمنين أن هذه حالُه كان عندهم على الاحتمال، لا يدرون أمؤمنٌ ضعيف أم منافق؟ فإن قيل: كيف يَحتمِل أنه مؤمن، والمؤمنُ لا يشك أن عذاب الله أشد من أذى الناس، فكيف يستويان عنده؟ قلت: قد يجاب بأن الاستواء إنما هو بمقتضى ظاهر الحال من اتقائه هذا تارة وذاك أخرى، فأما في نفس الأمر فيحتمل أن يكون موقنًا بأن عذاب الله أشد من أذى الناس، ولكنه ضَعُفَ عن تحمُّل الأذى، ورجا عفوَ الله. وقد قال الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]. وعلى هذا، فالآية تدل على أن تلك الحال مذمومة لا تنبغي للإنسان، وإن لم تكن قاطعة الدلالة على عدم إيمانه. ويستثنى من ذلك الإقدامُ على ما لا يترتب على فعله مفسدة من المعاصي عند تحقُّق الإكراه. وذلك كإظهار كلمة الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان. وقد يقال: إنما المعنى أنه يتّقي أذى الناس كما يتقي المؤمن عذاب الله. وأقول: هذا مع مخالفته للظاهر، يردُّه سياقُ الآية ولا حاجة إليه مع ما مرّ (1). _________ (1) مجموع [4721].

(24/57)


 سورة الأحزاب

[بحث في آية التطهير] الحمد لله. قد أطال السيد (1) في تخريج حديث التطهير وشرحه، وقطع بأن الآية ليست خاصة بأمهات المؤمنين. وأصاب بذلك؛ فإن اللفظ والمعنى في الآية يدفع ذلك. أما اللفظ فلتذكير الضمائر وقولِه: «أهلَ البيت» على الاختصاص. ولو كانت خاصة لهُنَّ لقال: إنما يريد الله ليذهب عنكنَّ الرجس ويطهركنَّ. وأما معنًى، فلأن أهل البيت له استعمالان، أحدهما: أن يُراد به بيت السُّكْنى كما هو الحقيقة، والآخر: بيت النسب على سبيل المجاز. والأصل أن المراد الحقيقة أي أهل بيت السكنى، فإنه يشاركهن في ذلك غيرهن. وإن قيل: إن المراد المجاز أي أهل بيت النسب، فإنهن لسن منه رأسًا باعتبار بيت النسب القريب كبني هاشم؛ إذ هو المفسَّر به أهل بيت نسبه - صلى الله عليه وسلم - في كثير من المواضع. وأيضًا فإن ذلك الحديث الصحيح ظاهر في عدم اختصاص الآية بهنَّ. وقد تردّد السيد بين أن يجزم بأن الآية خاصة في أهل الكساء، وأن يسلِّم بأنها مشتركة ثم مال إلى الثاني أو كاد. _________ (1) هو «السيد حسين العلوي الدمشقي الحنفي» كما جاء مصرَّحًا به في بعض الفوائد الأخرى.

(24/58)


قال في (ص 305 ج 2) بعد نقله كلامًا عن السيوطي: «والفرق بين ما ذكره السيوطي والآية بوجهين» فذكر الأول ثم قال: «الثاني: إن دخول الأزواج الطاهرات هنا تبعي» إلخ. وقد مرَّ أن لفظ أهل البيت يطلق حقيقةً في أهل بيت السكنى ومجازًا في أهل بيت النسب. والمراد بأهل بيت السكنى أهله الذين هم في حال الخطاب معدودون من سُكانه فيخرج الأُجراء و [ ... ] (1).

  سورةالصافات

قول الله تعالى في نوح عليه السلام: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77] دليل على بطلان زعم بعض أمم الأرض أنهم من ذرية غيره وأن الطوفان لم يعمّ المعمورة. والله أعلم (2).

  سورة ص

[بحث في معنى دعوة سليمان] في حديث «الصحيحين» (3) في أخذه - صلى الله عليه وآله وسلم - للعفريت الذي أراد أن _________ (1) هنا توقف قلم الشيخ. مجموع [4657]. وانظر الرسالة السابعة من رسائل المؤلف في التفسير (ص 226 وما بعدها). (2) مجموع [4657]. (3) البخاري (3423) من حديث أبي هريرة، ومسلم (542) من حديث أبي الدرداء.

(24/59)


يقطع عليه صلاته فأمكنه الله منه فأراد (1) أن يربطه، قال: «فذكرت دعوة أخي سليمان: رب هب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي» (2). قال في «حواشي المشكاة» (3) نقلًا عن «اللمعات»: «قال: المراد بدعوته: (رب هب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي)، ومن جملته تسخير الريح والجن والشياطين، وهو مخصوص بسليمان عليه السلام، فيلزم عدم إجابة دعائه، فتركه ليبقى دعاؤه محفوظًا في حقه، ونبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - كان له القدرة على ذلك على وجه (4) الأتم والأكمل، ولكن التصرف في الجن في الظاهر كان مخصوصًا بسليمان، فلم يظهره - صلى الله عليه وآله وسلم - لذلك (5)، فافهم. وقيل: يمكن أن يكون عموم دعاء سليمان عليه السلام مخصوصًا بغير سيد الأنبياء - صلى الله عليه وآله وسلم - بدليل إقداره على أخذه ليفعل فيه ما يشاء، ومع ذلك تركه على ظاهره رعاية لجانب سليمان». أقول: أما أنا فأرى هذا خبطًا، وأبدأ بتحقيق معنى دعوة سليمان عليه السلام، فإن أكثر الناس يغلطون فيها فينسبون إليه الشحَّ والبخلَ على عباد الله بمواهب الله. وهذا جهل منهم، وبيانه يستدعي تقديم ضرب مثل، فأقول: ملك يقسم دنانير، فجاءه رجل فقال له: أعطني نصيبًا من هذه الدنانير _________ (1) طمس على أول الكلمة، ولعله ما أثبت. (2) إشارة إلى آية (35) من سورة ص {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}. (3) (ص 91). و «حواشي المشكاة» لأحمد علي السهارنفوري (ت 1297). والنقل فيها عن «لمعات التنقيح»: (3/ 231) لعبد الحق الدهلوي (ت 1052). (4) كذا في الأصل تبعًا «للحواشي» و «اللمعات». (5) في «الحواشي» و «اللمعات»: «لأجل ذلك».

(24/60)


ثم لا تعط أحدًا مثل ما أعطيتني، وجاءه آخر فقال له: أعطني نصيبًا لا يصلح أن تعطيه أحدًا من بعدي، هل تستوي الكلمتان؟ كلا، فالأول طلب نصيبًا ما، ومع ذلك سأل الملك أن لا يعطي أحدًا بعده مثله. فظاهر أن مراده الفخر بأن الملك أعطاه أكثر من غيره، وهو لا يبالي مع ذلك أن يعطيه كثيرًا أو قليلاً، وإنما همه أن يكون أكثر من غيره. والثاني طلب نصيبًا جزيلًا بحيث لا يصلح لأحد بعده أن يُعطَى مثله، ومراده أن الملك عالم بما يصلح للناس من الأعطية فطلب أن يكون عطاؤه كثيرًا جدًّا بحيث لا يمكن أن يُعطي أحدًا بعده إلا أقل منه. فهَمُّ هذا إنما هو في كثرة العطاء، ومع ذلك لا يريد من الملك أن ينقص أحدًا من الناس عن مستحقه. وبيانه بوجه آخر: أنه لو فرض أن أعطيات الناس كانت من ألف فأقل، فإن الأول إذا أُعطي عشرةً وأُعطي غيرُه من تسعةٍ فأقل لكان قد حصل مطلوبه، وهو أن يكون أكثر من غيره، فيفتخر بذلك. والثاني بخلافه، فإنه يقول: إن الأعطية التي تنبغي للناس من ألف فنازلًا، فأطلب أن يُعطَوا ذلك، ثم أُعطَى أكثر من نصيب الأكثر منهم. والحاصل أن الأول أراد الافتخار، والثاني أراد الاستكثار. فسليمان عليه السلام هو من الباب الثاني، فلم يطلب من الله عزَّ وجلَّ أن لا يعطي المُلْك أحدًا من الناس أو نحو ذلك، بل عَلِمَ أن الله عزَّ وجلَّ عالم بمقادير العطايا التي سيعطيها من المُلك إلى يوم القيامة، وما ينبغي لكل أحد منه كما اقتضت حكمته وإرادته، فسأله أن يعطيه ملكًا عظيمًا كثيرًا بحيث لا ينبغي

(24/61)


مثله لأحدٍ من بعده، يريد بحيث يكون أكثرَ مِن أكثر ما علم الله عزَّ وجلَّ أنه سيعطاه مَلِكٌ إلى يوم القيامة. فلم يسأل من الله عزَّ وجلَّ أن لا يُعطي أحدًا بعده، وإنما سأله أن يعطيهم ما قد سبق في علمه أن يعطيهم مما علم أنه لا مزيد عليه، وسأله لنفسه أن يعطيه أكثر من أكثرهم، فتأمل هذا موفَّقًا. ثم اعلم أن دعوة سليمان بهذا المُلك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، إنما هو من حيث الإجمال، أي بحيث إذا قيس مُلكُ أكبر مَلِكٍ ممن يجيء بعده بملكه لكان ملكه أكثر، ولم يُرِد التفصيل، فلو سَخَّر الله الريح لغيره دون غيرها لما لزم من ذلك تبيُّن عدم الاستجابة له، ولا يتحقق ذلك إلَّا لو أعْطَى الله أحدًا مِن الخلق مثل ما أَعْطَى سليمان جميعًا، ولكن لما كان من غرائب مُلك سليمان التسليط على الجن، رأى النبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يدع تلك الواقعة التي كان أرادها من حبس ذلك، لا لأنها تستلزم تبيُّن عدم الإجابة، ولا لأنها تستلزم تبيُّن التخصيص، بل لأن التسليط على الجن من غرائب ما أوتيه سليمان، فظهور تسليط غيره عليهم مما يوهم الناس عدمَ استجابة دعوته، فَترَكَه - صلى الله عليه وآله وسلم - خشية الإيهام. أو يقال: إن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لمَّا علم أن الله استجاب دعوة سليمان فأعطاه ملكًا كبيرًا لا يمكن أن يعطي أحدًا مثله، رأى أن طريق الأدب مع ربه عزَّ وجلَّ ومع أخيه سليمان أن لا يتصرف فيما هو من غرائب ذلك المُلك؛ لأنه لما كان من غرائب ذلك المُلك كان كأنه من خصوصياته، وخصوصياتُه كالجزء المهم منه، فإذا أمكنت لغيره كان كأنه لم يُستجب له. والله أعلم. ومما يبين هذا أنه قد وقع إمساك بعض الجن لبعض أفراد الأمة، كما في حديث أبي هريرة في إمساكه للجنِّيِّ الذي جاء يحثو من صدقة الفطر

(24/62)


التي كانت لديه. وهو في «الصحيح» (1) (2).

  سورة الشورى

قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)}. اختُلِف في توجيه النصب في قوله: {وَيَعْلَمَ}. والصواب أنّ الواو للمعيَّة، و (يعلم) منصوب بـ (أن) مضمرة بعد الواو. والمراد بالإيباق ــ والله أعلم ــ الحبسُ كما فسره به جماعة. وليس المراد ــ والله أعلم ــ مطلق الحبس، فإنَّ ذلك قد مرَّ في قوله: {يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ}، بل الحبس في الشدَّة من قولهم: وَبَقَت الإبلُ في الطين، إذا وحلت فنَشِبَت. والمعنى: يحبسهنَّ في الموج المضطرب. وقوله تعالى: {وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} أي ــ والله أعلم ــ يُنْجِيهنَّ من الغرق. وقوله: {وَيَعْلَمَ} يقع ما ذكر من الحبس والعفو مع علم الذين يجادلون في الآيات ما لهم من محيص، أي من الغرق، كما في قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ}. _________ (1) البخاري (2311). (2) مجموع [4657].

(24/63)


أو يُقال ــ ولعلَّه الأَولى ــ: إن المجادلين في آيات الله جميعًا يعلمون حينئذٍ، أي حين وقوع السُّفن في الطوفان ما لهم من محيصٍ، أي أنهم هالكون ما دامُوا على جدالهم. نَزَّل علمَ مَن في السفن بِمَنْزِلة علم المجادلين جميعًا؛ لأنه ما مِن أحدٍ من المجادلين إلَّا وقد وقع له مثل هذه الواقعة أو بَلَغَتْه، وهي سبب للعلم بأنهم في جدالهم في آيات الله على غير هدى، لأن أهل السفن وقت الطوفان لا يدعون إلَّا الله تعالى كما قال تعالى: {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ}، وفي آية أخرى: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي: الدعاء (1). * * * * قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)}. ممّا يؤيِّد دلالتها على أن الخلافة شورى كونه جاء بذلك بعد الإيمان والصلاة، وقبل الزكاة. تأمَّل (2).

  سورة الواقعة

* [قوله تعالى]: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)}. الطلح معروف، وهو شجر شائك، والمنضود: المصفّف المرتّب. والطلح كغيره من الشجر، إذا كان منضودًا كان فيه جمال لا يخفى، _________ (1) مجموع [4724]. (2) مجموع [4718].

(24/64)


ولكن سائر الأشياء الأخروية ليست كأشباهها في الدنيا من كل وجه، بل ما كان في الدنيوية من نقص وعيب فهو منتفٍ عن الأخروية، وما كان في الدنيوية من كمال وجمال ونعيم ولذة فهو موجود في الأخروية على وجه أكمل وأتمّ. فالطلح الأخروي لا شوك له، ولا غير ذلك ممّا هو نقص. وللطلح الدنيوي ثمر معروف يأكله الناس إذا كان غضًّا. ولا مانع أن يكون للطلح الأخروي مثل ثمر الطلح الدنيوي في الشكل، مع انتفاء النقص. أعني أن يكون بين الثمرين من التشابه كما بين الشجرين. وسبب النزول يعيّن ما قلناه. فأمّا تفسيره بالموز، فلم يثبت به نقل لازم، ولا وجه له في العربية، ولا في السياق، وسبب النزول يردّه. والله أعلم. * [قوله تعالى]: {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)}. أي: فيقال له: سلام لك، أنت من أصحاب اليمين. وهكذا (1) كقوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] (2). _________ (1) كذا في الأصل، ولعله سبق قلم والصواب: «وهذا». (2) مجموع [4719].

(24/65)


 سورة الحديد

قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [25]. استُشكل التعبير بـ (أنزلنا)، فزعم بعض الناس أن المراد بالحديد القرآن، لأن فيه شدة على الكفار والفسَّاق. وزعم أن قوله تعالى في داود: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10] المراد بالحديد فيه الكتاب أيضًا. وربما تَوَلَّدُ شبهته هذه بما ورد في «الصحيح» (1) أن القرآن خفِّف على داود حتى كان يأمر بإسراج خيله ويشرع في القراءة فما تُسرج حتى يتمَّ القرآن. أو كما قال. ويذهب بعضهم في الآية الأولى إلى أن الإنزال على حقيقته، والحديد على حقيقته. وقد ذكر أهل الهيئة أن الأرض في بعض أدوار تكوُّنِها نزلت إليها المعادن من حديد وغيره ذائبةً على صفة المطر وتسرَّبت في شقوقها. والحقُّ أن الإنزال في هذه الآية مثله في قوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [الأعراف: 26]، وقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ} [الزمر: 6]. فالحديد واللباس والأنعام إنما تكوَّنت بأمر الله عز وجل. وأمر الله عز وجل ينزل من فوق سبع سماوات حقيقةً. _________ (1) البخاري (3417) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(24/66)


ويدفع شبهة من قال إن المراد بالحديد القرآن، أن القرآن قد ذُكر قبل هذه الآية. قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)}. وفي التعبير بالإنزال هنا إشارة إلى أن خلْق الله عز وجل الحديدَ من جنس إنزال القرآن، أي أنه أُريدَ به إقامة الدين، وسياق الآية يوضِّح ذلك، أي أنَّ مَنْ لم تُفِد فيه بَيّناتُ الرسل والكتاب، أفاد فيه الحديد، ولذلك قال عز وجل: { ... وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ}. وهذا ظاهر بحمد الله. فأما آية داود فالأمر فيها أظهر، لقوله عز وجل عقبها: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ}. وجاء في الأحاديث ما يؤيِّد ذلك، وهو معروف أيضًا من التاريخ. وقد يقال: إنه متواتر. وأشعار العرب في الجاهلية مستفيضة في نسبة الدروع إلى داود عليه السلام. وما صحَّ من تخفيف القرآن عليه، شيء آخر. والله أعلم (1). _________ (1) مجموع [4711].

(24/67)


 سورة الحشر

الفيء في سورة الحشر ظاهر السياق وعدم الوصل بين الجملتين أنّ قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآية مبيّن لما قبله، فالآيتان كلاهما (1) في الفيء. ولكن في حديث البخاري (2) عن عمر أنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يجعل الفيء في المصالح العامة بعد أن يأخذ منه نفقة سنته. فظاهره أنّه كان مختصًّا به. وعلى هذا، فالذي يظهر: العملُ بالحديث وحمل قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآية، أنّها في الغنائم، ويُترك ظاهر السياق؛ لأنّ ظاهر الحديث أظهر في الدلالة. نعم، إن صحّ ما ذكره الشافعي (3) ــ رحمه الله ــ أنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يعطي كلًّا من الأربعة الأصناف خُمسَ الخُمسِ من الفيء (4)، كان مبيّنًا للآية ولحديث عمر، وبه تتفق الأدلة. والله أعلم (5). * * * * _________ (1) كذا في الأصل، والوجه: «كلتاهما». (2) (3094). (3) في «الأم»: (5/ 341 - 342). (4) أخرجه أبو داود (2983)، والحاكم: (2/ 128)، والبيهقي: (6/ 343) من حديث علي وصححه الحاكم. (5) مجموع [4719].

(24/68)


[تفسير قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [7]] حديث ابن مسعود في لعن الواصلة وغيرها. وفيه أن الإيتاء في قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} عام لا خاص بالفيء، ويُبعده أن الإيتاء حقيقة في الإعطاء، وهو أنسب بالفيء ولاسيما مع دلالة السياق، وقولِه: {فَخُذُوهُ} (1)؛ إذ هو حقيقة في الأخذ المحسوس. ويجاب عنه بأن مقابلته بالنهي قرينة صارفةٌ عن الحقيقة مُعيِّنَةٌ أن يكون {آتَاكُمُ} بمعنى: أمركم، وخذوه بمعنى: فامتثلوا، وفيه نظر (2). عن عبد الله بن مسعود قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمِّصات، والمتفلِّجات للحُسْن المغيراتِ خلقَ الله». فجاءتْه امرأةٌ فقالت: إنه بلغني أنك لعنتَ كيتَ وكيت، فقال: ما لي لا ألعن مَن لعن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن هو في كتاب الله؟ فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدتُ فيه ما تقول! قال: لئن كنتِ قرأتيه لقد وجدتيه، أَمَا قرأتِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}؟ قالت: بلى. قال: فإنه قد نهى عنه. متفق عليه. اهـ. «مشكاة» في الترجّل (3). _________ (1) في الأصل: «فخذوا». (2) أشار المؤلف إلى أن بقية الكلام على الحديث ستأتي (ص 82) وهو ما أثبتناه هنا. (3) (2/ 505). والحديث أخرجه البخاري (4886).

(24/69)


وهو صريح في أن ابن مسعود يرى أن قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} عام في كلِّ شيء، مع أن السياق يقتضي أنه خاص بالفيء، ولاسيما والإيتاء والأخذ يناسبان ذلك، لأنَّ حقيقة الإيتاء: الإعطاء الحسِّي، والأخذِ: الأخذُ الحسِّي. ومما يدل على العموم مقابلة الإيتاء والأخذ بالنهي والانتهاء. فيقال: لو أراد الإيتاء والأخذ الحسِّيَّين لقابلهما بالمنع والامتناع بأن يقول: وما منعكموه فامتنعوا. وقد يقال: إن المراد: وما نهاكم عن أخذه بغير إذن أو عن سؤاله إياه. ولا يصح أن يقال: لعل ابن مسعود لا يرى العموم في الآية وإنما استدلاله بها على سبيل القياس، أي إذا ثبت وجوب طاعته في خصوص الفيء بأخذ ما آتى والانتهاء عما نهى عنه فيقاس على ذلك بقية الأشياء؛ وذلك أن هذا القياس ضعيف، ولا حاجة للتمسك به مع وجود نصوص القرآن الصريحة. والمقصود فهم الآية على حقيقتها، فأما الأمر باتباع الرسول وطاعته والانتهاء عما نهى عنه في كل شيء، فهو أمر ثابت مقرر، قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وقال عزَّ وجلَّ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، وقال جل ذكره: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] (1). _________ (1) مجموع [4657]. وانظر الرسالة السابعة من رسائل المؤلف في التفسير.

(24/70)


 سورة التغابن

[وجه تسمية يوم القيامة يوم التغابن] قوله: {يَوْمُ التَّغَابُنِ} [9]. كأنّه ــ والله أعلم ــ لأنّ القصاص يوم القيامة يكون بالحسنات، فالذي ظَلم في الدنيا درهمًا يؤخذ منه بدله يوم القيامة جانبٌ من حسناته. لو وَجَدَ سبيلًا إلى شرائه لاشتراه بما طلعت عليه الشمس. فأيُّ غبن أعظم من هذا؟ والله أعلم (1).

  سورة الملك

* [قوله تعالى]: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ... } [15]. المَنْكِب: مكان النكوب. وجوانب الأرض كلها مناكب، أي يُنكب إليها، أو ينكب منها. ومَنْكِب الإنسان إمّا مستعار من ذلك؛ شُبّه بموضعٍ عن يمين الطريق أو يسارها، ينكب إليه عنها، أو لأنه ينكب به لشيء عالٍ، كالمقعد (2)، ومضرِب السيف. ويجوز أن تكون مناكب الأرض مستعارة منه. والله أعلم. _________ (1) مجموع [4719]. (2) كذا في الأصل، ولعل المقصود: «المعقِد».

(24/71)


* [قوله تعالى]: {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدْعُونَ (1)} أي: تَدْعُون بوقوعه، كقوله: {الَّذِي كُنْتُمْ (2) بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات: 14]. تَدَّعون: إمّا بمعنى الأول إن ثبت لغةً. وإمّا من الدعوى، أي تدَّعون أنّه لا يقع، أي تزعمون. وضُمِّن معنى (تكذّبون)، فعدّي بالباء كما في السجدة: {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)}. والله أعلم (3).

  سورة المزمل

قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ونِصْفِهِ وثُلُثِهِ} (4) [20]. في مطابقة هذه القراءة لقراءة {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} إشكالٌ. أجيب عنه بأن التفاوت بحسب اختلاف الأوقات. وإشكال آخر، وهو أنه يلزم على قراءة الجرّ مخالفة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - للأمر المتقدم أول السورة. _________ (1) هذه قراءة يعقوب، وقرأ الباقون: {تَدَّعُونَ}. وفي الأصل: «ما كنتم» خطأ. (2) في الأصل: «ما كنتم» خطأ. (3) مجموع [4719]. (4) هي قراءة أبي جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب. «المبسوط» (ص 386).

(24/72)


قال الآلوسي (1): «وأجيب بالتزام أن الأمر وارد بالأقل، لكنهم زادوا [حذرًا من الوقوع في المخالفة، وكان يشقّ عليهم، وعلم الله سبحانه أنهم لو لم يأخذوا بالأشقّ وقعوا في المخالفة فنسخ سبحانه الأمر]، كذا قيل، فتأمّلْ، فالمقام بعدُ محتاج إليه». قلت: وجه التأمّل أن الأقل ــ على ما في أول السورة ــ هو أن ينقص قليلاً من النصف، وعلى قراءة الجرّ ــ آخر السورة ــ يكون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد صلى أدنى من الثلث، وهذا ــ فيما يظهر ــ أقل من نصفٍ ينقص منه قليل. وقد ظهر لي جواب، وهو أن (أدنى) في الآية وصفٌ لم يُرَدْ به التفضيل، وإنما معناه: دانيًا، أي: أنك تقوم وقتًا دانيًا من ثلثي الليل، كأن يكون نصفًا وثلثي سدس ــ مثلاً ــ، ودانيًا من نصفه، كأن يكون نصفًا وثلثَ سدس، ودانيًا من ثلثه، كأن يكون نصفًا إلاّ ثلثي سدس. فتأمّل. وهذا ــ والله أعلم ــ هو معنى الجواب الذي لم يرتضه الآلوسي؛ لأنه فَهِم منه معنًى آخر، والله أعلم (2). _________ (1) «روح المعاني»: (29/ 138) وما بين المعكوفين منه. (2) مجموع [4718].

(24/73)


 سورة المدثر

قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)}. التحقيق أنَّ حاصل معنى هذه الجملة: تنزّه عن الرذائل. وتوجيه ذلك: أنه استعيرت الطهارة لاجتناب الرذائل، استعير بجامع اجتناب ما يكره في كلٍّ، ثم اشتقَّ منه «طهِّر» على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية، والقرينةُ السياقُ، وذِكْر الثياب ترشيحٌ. ثمَّ إمَّا أن تكون الثياب على حقيقتها، وكأنه قيل: نزِّهْ ثيابك عن أن يُلابسها شيء من الرذائل، ولا شك أنه يلزم منه الأمر بتنزيه النفس؛ لأن الإنسان إذا فعلَ رذيلةً فقد ألبست الرذيلةُ ثيابَه؛ لأن ثيابَه ملابسةٌ لبدنه، وبدنه ملابس لنفسه، فيكون الأمر بتنزيه الثياب كناية عن الأمر بتنزيه النفس. وإمَّا أن تكون الثياب مجازًا مرسلاً عن النفس بعلاقة الظرفية، فكأنه قال: طهِّر نفسك (1). _________ (1) مجموع [4716].

(24/74)


 سورة القيامة

* قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)}. يظهر لي أنَّ (لا) نافية، كما هو المتبادر. والمعنى على الاستفهام الإنكاري التعجُّبيّ. كأنه يقول: مِن المنكر العجيب أن لا أقسم بيوم القيامة، ولا بالنفس اللوامة. وإنكارُ عدم القسم كناية عن إنكار عدم إيمان المشركين بيوم القيامة وبالنفس اللوامة. والمراد بالنفس اللوامة: النفوس يوم القيامة، كما جاء في الأثر أن الصالحة تلوم نفسها في عدم الاستكثار، والطالحة تلوم نفسها في الكفر والعصيان. وإنما منع عن القسم بهما عدم تصديق الكفار بهما؛ لأن أقسام القرآن كلها استدلالية، ولا يحسن الاستدلال بما يجحده الخصم. ومثال هذا أن ينازعك إنسان في مسألة يكون في القرآن دليل عليها، ولكن الخصم لا يخضع لدلالة القرآن فتقول: لا أحتجُّ بالقرآن؟ * قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)}. كأنّ فيها ــ والله أعلم ــ إشارة إلى ما عُرِف الآن من أنّ أسِرَّة البنان ــ أعني خطوطها ــ متمايزةٌ، لها في كل شخصٍ هيئة خاصة لا يشبهه فيها أحد من الناس، ولذلك يعتمدون الطبع بها بدلاً عن الإمضاء، ويتوصلون بها إلى معرفة أصحابها من اللصوص والمجرمين الذين لا تُعْلَم أشخاصهم ولكن يوجد أثر أصابعهم في موضع الجريمة.

(24/75)


أي: فإن الله قادر على أن يسوّي بنان الفاني، أي: يعيدها سويّةً كما كانت، بخطوطها الدقيقة الكثيرة الممتازة عن كل موجودٍ سواها. وهذا أعظم من جمع العظام. فالتسوية في الآية كَهِي في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى: 2] ونحوها، والله أعلم (1).

  سورة الليل

انظر ما العامل في (إذا) من نحو قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) ومن قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)} [التكوير]. فإن قولهم: إن العامل فيها القسم، يشكل عليه أنه يلزم منه كون الظرف قيدًا للقسم. أي: إنما يكون القسم بالليل حال عسعسته (2). _________ (1) مجموع [4718]. (2) مجموع [4657].

(24/76)


 سورة المسد

قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)} المشهور أنّ هذا دعاء، والظاهر أنه خبر، وأنّ قوله (تبّ) بمعنى: أهلك؛ لأنّ (تبّ) يجيء لازمًا ومتعديًّا بمعنى هلك، وأهلك. فالمعنى أنه هلك وأهلك غيره، أي زوجه؛ لأنه السبب في إصرارها على الشرك، وعداوتها لله تعالى ولرسوله. والله أعلم (1). * * * * قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)} {سَيَصْلَى} هو، أي: أبو لهب {نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}. {وَامْرَأَتُهُ} الواو للاستئناف أو الحال. {حمَّالةُ} بالضمّ خبر المتبدأ. {الْحَطَبِ} أي: الذي توقد به تلك النار عليه، فـ (ال) في {الْحَطَبِ} عهديةٌ، لتقدُّم ذِكْر الحطب بالكناية، لأنّ النار تحتاج إلى حطب؛ أو بدلٌ عن ضمير النار، أي: حمالة حطبها، أي حطب النار المذكورة. وقد مثَّلوا لتقدُّم الذِكْر بالكناية بآية: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36]؛ لتقدم قولها: {مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران: 35] وهو كناية عن الذَّكَر. _________ (1) مجموع [4718].

(24/77)


وعلى قراءة {حَمَّالَةَ} بالفتح، فقوله: {وَامْرَأَتُهُ} معطوف على الضمير في {سَيَصْلَى نَارًا} أي: سيصلاها هو وامرأته {حَمَّالَةَ} أي: حال كونها حمالة {الْحَطَبِ}، أي: الذي تُوقَد به تلك النار عليه وعليها. وعوقبت بحمل وقود النار لعذاب زوجها وإيّاها جزاءَ حملِها في الدنيا وقودَ الفتنة في هواه وهواها، وهو الأخبار على سبيل النميمة. أو لحملها الشوك ووضعه في طريق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إن صحّ. ولا يتجّه تفسير الحطب في الآية بالشوك، وإن صحَّ أنها كانت تحمله وتضعه: أوّلاً: لأنّ الحطب إنّما هو ما يجمع من العيدان لغرض الإيقاد، وليس منه ما جُمع من الشوك لقصد الإيذاء. وثانيًا: لأنّ فيه تفكيكًا للارتباط الذي بينتُه، وتضييعًا للَّطائف التي شرحتُ بعضها. {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)} حال من الضمير في {حَمَّالَةَ} أي ــ والله أعلم ــ أنّها تحمل الحطب الذي يوقد به على زوجها وعليها حال كونها تختنق به؛ لأنه يُعلَّق بحبل إلى رقبتها. والله أعلم (1). _________ (1) مجموع [4719].

(24/78)


 [حول إعجاز القرآن]

الحمد لله. سألني الأخ الفاضل الشيخ سعيد بن عبد الله بامردوف العمودي عما علم من عجز الناس عن الإتيان بمثل القرآن ولو بمقدار أقصر سورة منه؛ كيف نجمع بينه وبين ما علم من حكاية الله عز وجل في القرآن نفسه من كلام العباد، وفيه ما يزيد عن القدر المذكور؟ فأجبت بأجوبة ثم استصوبت منها ما يأتي: أما ما كان من ذلك عن العجم فلا إشكال فيه؛ إذ لا يخفى أن أصلَ كلامهم بالعجمية، والقرآن ترجمه بالعربية ترجمةً معنوية، كما يدل عليه ذِكْر المقالة الواحدة في موضعين أو أكثر بعبارات تتفق في المعنى فقط. والعلمُ بأن مَن نُسب إليه القول من الخلق أعجميّ قرينة على أن المراد أنه قال ما يتحصَّل منه المعنى. ولا ريب أنّ مبلِّغًا لو بلّغك عن رجلٍ أعجمي لا يحسن العربية، فقال: يقول كيتَ وكيتَ، وعبّر المبلِّغ بعبارةٍ عربيةٍ، لم تجهل أنتَ أنَّ مراده يقول ما هذا ترجمته، ولا ريب أيضًا أنه لا يمتنع أن تكون الترجمة مشتملة على لطائف بيانية ليست في الأصل بعد المحافظة على أصل المعنى. وأما ما كان من ذلك عن العرب فهو أيضًا من قبيل الترجمة أو الحكاية بالمعنى. والقرينة على أن المراد ذلك هي أن المخاطَبين الأوَّلين بالقرآن كانوا يعلمون يقينًا أن المنسوب إليه ذلك القول لا يحسن التعبير بمثل هذه العبارة.

(24/79)


ومثال ذلك: أن يكتب إليك رجلٌ بليغٌ كتابًا يبلّغك فيه عن رجلٍ عربيّ عاميّ بأنه يقول لك كيت وكيت، فيذكر كلامًا بليغًا تعلم أن ذلك العامّي لا يُحسن مثله، فإنك تعلم أن مراد الكاتب أنَّ العامِّي قال ما يتحصل منه المعنى، ويكون علمك بحاله قرينة واضحة لا يحقّ لك معها أن تزعم أنّ ظاهرَ نسبة الكاتب قولَ تلك العبارة إلى ذلك العامي= أنَّ العاميّ قالها بحروفها وأنّ الكاتب لم ينصب قرينةً تدل على خلاف ذلك. ولا ريب أن أحدًا لا يخرج على مثل هذا الكاتب ولا يتحجّر عليه ولا يعنِّفه في تعبيره بتلك العبارة البليغة، بل الأمر بالعكس وهو أن الكاتب لو حكى مقالةَ ذلك العاميّ بحروفها لعوتب على ذلك وقيل: هلَّا عبَّر عنها بعبارةٍ بليغةٍ من عنده؟ وكنتُ بعد أن ذكرتُ الضرب الأول توقفتُ في الثاني، فقال الأخ سعيد: فليكن حكاية بالمعنى كالترجمة فيما تقدَّم. قلت: إنَّا مطالبون بالقرينة، فقال: القرينة أن العرب الذين تحدَّاهم الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بالقرآن لم يتشبّثوا بهذا، فلولا أنهم علموا أنه من قبيل الحكاية بالمعنى لاحتجُّوا بذلك بأن يقولوا: إن القرآن نفسه قد تضمَّن كلام بعضنا، وجعل ذلك بعضًا منه أي القرآن، فكيف مع هذا نكون عاجزين عن الإتيان بمثل بعض القرآن؟ قلت: لا أرى هذا يصلح قرينةً؛ لأن من الناس مَن كان يسمع القرآن وفيه الحكاية عن بعض العرب بما لم يعلمه قط فضلًا عن أن يعلم أنه قال ذلك القول بلفظه أو معناه. ثم قلت: بل القرينة هي أن المخاطبين الأولين ... إلى آخر ما تقدم.

(24/80)


وأمَّا عدم تشبُّث المشركين بما ذكر فهو يصلح دليلًا لِمَن بعد ذلك القَرْن مِمَّن ليس عنده من البلاغة ما يميز به مثل ذلك التمييز. ومما هو صريح في أن إخبار القرآن عن الأقوال لا يلتزم فيه لفظ المحكيّ= قولُه تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ (1) عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140]، فإنَّ المراد الآية الأخرى، وهي قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا ... } (2) [الأنعام: 68]. _________ (1) في الأصل: «أنزل» سبق قلم. (2) مجموع [4724].

(24/81)


 الفوائد العقديّة

(24/83)


[شرح حديث: «خلق الله آدم على صورته»] حديث «خلق الله آدم على صورته» (1) يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أن الضمير يعود على آدم، أي أن الله تعالى خلقه على صورته التي بقي عليها إلى أن مات، أي من حيث الطول والجسامة ونحوه. فليس كذريته الذين يولد أحدهم صغيرًا ثم ينمو. وأما كونه خُلِقَ أولاً طينًا لازبًا, ثم صلصالاً، فهذا في غير الطول والجسامة. ولك أن تقول: إن المراد الخلق بعد نفخ الروح. فآدم عقب نفخ الروح فيه كان كاملاً، وأولاده عقب نفخ الروح أجنَّة. الوجه الثاني: أن الحديث مختصر من حديث طويل، كما في حديث «إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورته» (2). وحديث آخر: أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مرَّ برجل يضرب ولده أو غلامه فنهاه، قائلاً: «إن الله خلق آدم على صورته» (3). _________ (1) أخرجه البخاري (6227)، ومسلم (2612) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) هذه رواية مسلم السالفة. (3) لم أجده بهذا اللفظ، ولعلّ المؤلف عنى حديث أبي هريرة ولفظه: «إذا ضرب أحدكم فليتجنب الوجه، ولا يقل: قبّح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته» أخرجه أحمد (7420)، وابن حبان (5710)، وابن خزيمة في «التوحيد» (37).

(24/85)


فالضمير في الأول عائد على الوجه، وكأنَّ في الكلام حذفَ مضاف، أي: إن الله خلق وجه آدم على صورته. وفي الثاني: على الشخص المضروب، أي إن الله خلق آدم مثله. وقد قال قائل: إن كان المراد بذلك أنه ينبغي أن يكرم الوجه والشخص لأجل أن الله خلقه مشابهًا لخلق آدم، فكان الظاهر أن يقول: فإن الله خلق محمدًا لمزيد كرامته. فقلت: الضرب متعلق بالجسم، ولآدم مزية جسمية لا يشاركه فيها أحد، وهو أنَّ الله خلقه بيديه, وفي «الصحيح» أنّ أهل المحشر يعدونها من مزاياه عند طلبهم منه الشفاعة (1). فتبين أن ذكره هو الأنسب. الوجه الثالث: أن المراد خَلَقه على صفة تقابل صفة الله عز وجل. أي: فكما أن الله عز وجل عالم وقادر ومريد وسميع وبصير، فالإنسان عالم وقادر ومريد وسميع وبصير، وإن كان البون شاسعًا بين صفات الرب ــ جل وعلا ــ وصفات العبد، إلا أن الاشتراك في اللفظ يدل على مناسبة في المعنى (2). ويَرِدُ عليه أمور: _________ (1) أخرجه البخاري (3340)، ومسلم (194) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) وهذا الوجه هو الذي كان عليه السلف من القرون الثلاثة، فإنه لم يكن بينهم «نزاع في أن الضمير عائد إلى الله، فإنه مستفيض من طرق متعددة عن عدد من الصحابة، وسياق الأحاديث كلها يدل على ذلك». راجع «بيان تلبيس الجهمية» (6/ 373 وما بعدها) لشيخ الإسلام.

(24/86)


الأول: أنه لا يظهر عليه وجهٌ لتخصيص آدم بالذّكْر، فكلُّ إنسان كذلك. الثاني: أن المقابلة مع ما ذكر من البون الشاسع لا يظهر لها وجه. الثالث: أنه في حديثي الضرب لا معنى للمقابلة. والظاهر أن الحديث المطلق مقتطع من أحدهما. والله أعلم (1). * * * * [معنى حديث: «من رآني في النوم فقد رآني»] الحمد لله (2). ثبت في «الصحيح» (3) أن مَن رأى النبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - في النوم فقد رآه، ومع ذلك فالإجماع منعقد أنه لا يُعْمَل بتلك الرؤيا شرعًا، ولا تُعدُّ دليلًا شرعيًّا. وقد كان هذا يُشكل عَلَيَّ كثيرًا، ولم يقنعني ما رأيت من الأجوبة عنه، والآن فتح الله تعالى بالصواب الواضح، وهو أن من يراه - صلى الله عليه وآله وسلم - فقد رآه، وذلك بالنظر إلى ذات المرئيّ، فأما الأحوال والأقوال فإنها وإن كانت حقًّا بحسب حقيقتها، وأما بحسب صورتها المرئية فلا يلزم ذلك؛ لأنها قد تكون تحتاج إلى تأويل وتعبير، ويكون تأويلها وتعبيرها يخالف صورتها المرئية، فمَنْ رأى النبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يأمره بشيء فقد رأى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حقًّا، والكلام الصادر من _________ (1) مجموع [4656]. (2) أرَّخ المؤلف الفائدة بـ (يوم الخميس 9 جمادى الثانية 44) أي: 1344. (3) أخرجه البخاري (6993)، ومسلم (2266) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(24/87)


المرئي حق بحسب حقيقته، وأما بحسب صورته والتي هي الأمر فلا؛ لأنه قد يكون مؤوَّلاً معبرًا، فقد يكون المراد بالأمر النهي وهكذا، كما يعبر البكاء بالسرور، والضحك بالحزن، فاتضح الحق وزال الإشكال ولله الحمد. وإذا كانت رؤيا الأنبياء عليهم السلام تحتاج إلى تعبير وتأويل يخالف صورتها المرئية كما في رؤيا يوسف عليه السلام وبعض مرائي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، مع أن رؤيا الأنبياء حق قطعًا = فغيرهم من باب أولى، والله الموفق (1). الحمد لله. ومثل هذا سائر الطرق التي يُستدلّ بها على المغيبات كالرمل والتنجيم والجفر والفأل و ... (2) وتصرف الأرواح المربَّاة بالرياضة في حال اليقظة، وغير ذلك، فغالبه إشارات ورموز تحتاج إلى تأويل. ومن هذا ما يقع للمحدَّثين من هذه الأمة فغالبه من باب الإشارة والرموزِ والأمورِ الإجمالية؛ ولهذا كان إمام المحدَّثين عمر بن الخطاب قد يخطئ وينسى ويسهو ويتحيَّر في كثير من الأشياء، ولم يكن ظنه حجة، إلى غير ذلك. ومما يدل على ذلك رؤيته - صلى الله عليه وآله وسلم - ليلة الإسراء اللبن والعسل والخمر، فليست بلبن وعسلٍ وخمرٍ حقيقة، وإنما هي إشارة إلى أمور أخرى، فاللبن هو الفطرة كما ورد، وهكذا (3). * * * * _________ (1) للمؤلف بحث مطول عن الرؤيا والاحتجاج بها ضمن كتابه «تحقيق الكلام في المسائل الثلاث» (ص 328 وما بعدها). (2) كلمة مطموسة تفشى فوقها المداد فلم تظهر. ولعلها: «الطَّرْق أو الطيرة». (3) مجموع [4657]. وانظر رسالته في تأييد السوركتي.

(24/88)


[الرد على مَن أنكر الأسباب الظاهرة، وادّعى أن السماع محض خلق الله تعالى من غير أن يكون سببه وصول الهواء المتموِّج إلى الصماخ] قوله (1): «محض خلق الله تعالى». أما كون السماع بخلق الله تعالى فلا يشك فيه مسلم، وإنما الشأن في معرفة السبب الظاهر. قوله: «أو أنه يوجد كيفية بعد كيفية ... » إلخ هذا هو الأقرب، وذلك أن كلَّ ما جاور الهواء الأول من الأهوية تكيف بكيفيته ثم يتسلسل هكذا حتى يضعف. وفي ذهني أنه أورد على هذا: أنه يلزم عليه أن يتعدد السماع بتعدد الأهوية فيسمع الإنسان الصوت الواحد مرارًا. والجواب: أن الهواء الأول المتكيف بكيفية الصوت لا يلبث متكيفًا بها إلا ريثما يتكيف بها مجاوره، ثم تزول عنه، وهكذا الأهوية المجاورة له لا تلبث متكيفة بتلك الكيفية إلا ريثما يتكيف بكل منها ما جاوره، وهلم جرًّا، وحينئذ فلا يصل إلى الأذن متكيفًا بالكيفية إلا هواءٌ واحد، فأما ما يأتي بعده فإنه يكون قد انمحى تكيُّفُه قطعًا، فتأمل. فإن قيل: هذا بالنسبة إلى التعاقب، وبقي ما كان بالمعية، وذلك أنكم قلتم بأن المتكيِّف بتلك الكيفية ينتهي إلى أن يكون أهوية كثيرة، فالهواء _________ (1) المؤلف ينقل عبارات لأحد المصنفين ــ لم يسمه ولم أهتد إليه ــ ويردّ عليه ويناقشه، وانظر نحو ما ينقله المؤلف في «المواقف»: (2/ 5 - 17) للإيجي.

(24/89)


الداخل في إحدى الأذنين هو غير الداخل في الأذن الأخرى؛ بدليل أنه قد يدني الشخص أذنه من أذن الآخر ثم يكون صوت فيسمعانه معًا، والهواء الواحد لا يُتصور انقسامه، بل على هذا قد تزدحم في الأذن أهوية كثيرة من هذه الأهوية. فالجواب: أننا نسلم أن الهواء الداخل في إحدى الأذنين غير الداخل في الأخرى، وأنه قد يزدحم في الأذن هواء وأكثر، ولكنا نقول: إنها لما كانت متماثلة لم يقدح ذلك في السماع كما سيأتي. ولا يخفى أن كل نقطة من الصوت تحتاج إلى هواء مستقل، فالهواء الواحد لا يسع إلا بقدر حرف من الحروف الآتية مثلًا، وحينئذ فنحكم أن الناطق إذا نطق بحرف من الحروف الآتية كان المتكيِّف بها ذرة من الهواء، ثم إن تلك الذرة لا تلبث أن يتكيف بها ما جاورها من ذرات الهواء وتذهب الكيفية عنها، ثم إن تلك الذرات لا تلبث أيضًا أن يتكيف بها ما جاورها من الذرات الأخرى، وينمحي عنها وهلمّ جرًّا. ونعني بقولنا: ما جاورها، أي من الجهة البُعْدى عن المصوِّت، لا الجهة الدنيا، والسبب أن التكيف إنما هو بالدفع، ولذلك اختلف السمع بالقرب والبُعْد وشدة الصوت وضعفه، والدفع إنما هو إلى الخارج. بقي أن يقال: إنه إذا كانت إحدى الأذنين أقرب إلى المصوِّت من الأخرى يلزم سماع الصوت مرتين، وذلك أن الهواء يدخل الأذنين متعاقبًا لا دفعة. ويجاب بتسليم ذلك، ولكنه لسرعة اندفاع الهواء وقلة التفاوت لا يشعر

(24/90)


السامعُ بذلك، بل يظنه سماعًا واحدًا. وهذا كما إذا نظرت إلى كوكب من الكواكب مثلًا وأخذت بيدك عودًا وجعلته بين نظرك وبين الكوكب فإنه يمنع النظر، فإذا حَرَّكته بسرعة من اليمين على الشمال خُيِّل إليك أن رؤيتك للكوكب متصلة، وأن ذلك العود لم يقطعها، وما ذلك إلا لسرعة الحركة، فلا يصل المثال المأخوذ بالرؤية الأولى إلى الحس المشترك حتى يتبعه الآخر فيمتزج به، وعلى نحو هذا يقال في السمع، والله أعلم. قوله: «على أن الظاهر تكيف جميع الهواء ... » إلخ. استظهاره في محله على ما بينَّاه آنفًا. قوله: «ويلزم اجتماع مثلين ... » إلخ. أقول: إن أراد بالاجتماع الاجتماع على جهة الامتزاج، فغير مسلَّم؛ لأننا نقول: إن الهواء المتكيف بكيفية الصوت لا يقبل التكيف بكيفية صوت آخر حتى يتلاشى الأول. وإن أراد على جهة الازدحام فنعم، ولكن المسموع حينئذ هو القدر المشترك بين الصوتين، فإن كانا متماثلين كان السماع صحيحًا، كما إذا رمى جماعةٌ ببنادقهم دفعة واحدة، فإنه يسمع صوت بندق أندى من الصوت المعروف للبندق الواحد. وعلى نحو هذا يقول الشاعر (1): فقلتُ ادْعي وأدعوَ إنَّ أندى ... لصوتٍ أن ينادِيَ داعيان _________ (1) هو دِثار بن شيبان النمري. والبيت من قصيدة له في «الأغاني» (2/ 159)، وهو من شواهد «الكتاب» (3/ 45). ونسب فيه إلى الأعشى ولم يرد في ديوانه.

(24/91)


وإن كانا مختلفين كان السماع مشوشًا، فتأمل. قوله: «على أنه يسمع من بعد ... » إلخ ممنوع بدليل أنه إذا كان إنسان بعيدًا عنك يرمي ببندق إلى هدف، فإنك ترى وقع الرصاصة قبل سماع البندق، وإن كان بجنبك كان سماعك للصوت قبيل رؤيتك وقوع الرصاصة. قوله: «مع أن لعبة الصبيان ... » إلخ إن أراد بصوت الحصى أو الصوت الناشئ من قرع بعضها لبعض بدون مماسة لباطن اللعبة، فهذا ممنوع. وإن أراد به صوت الحَصَى في قرعه لباطن اللعبة أو في قرع بعضه لبعض مع اتصال المقروع بباطن اللعبة، فهذا مُسلَّم، ولكن لا نسلم أن السماع حينئذ من وراء حجاب، بل السماع هنا بواسطة انقراع الحجاب المتصل بالهواء، وذلك أن الإنسان إذا كان في مكان، وكان آخر في مكان مجاور له، فإنه لا يسمع أحدهما كلام الآخر ما لم يكن هناك نافذة بخلاف إذا قرع أحدهما الجدار المشترك بين المكانين ولو قرعًا خفيفًا، فإن الآخر يسمع ذلك القرع، وذلك أن الصوت يسري في الأجسام المتصلة فيتكيف به جزء بعد جزء، كما يتكيف الهواء. وهذا البحث يحتاج إلى تحقيق. بقي أن يقال: إن الإنسان إذا أطبق فمه وأمسكَ بمنخريه وسد أذنيه ثم صوت بأسنانه أو غيرها مما يمكن التصويت به داخل الفم فإنه يسمع. والجواب: أن هذا من سريان الصوت في أجزاء الجسد فيتصل بالمسامع.

(24/92)


قوله: «إنا نعرف جهة الصوت ونحزر بُعدَ مسافته ... » إلخ. الجواب: أن الأذن تميز بين الأهوية التي تقرعها قوة وضعفًا وكيفيّةً، وذلك أن للصوت الذي يكون من مصوت بعيد كيفيةً غير كيفية الذي يكون من قريب، ألا ترى أن بعض الناس يريد أن يغالط السامع القريب منه فيوهمه بأنه يصوِّت مِن بُعْد فيمكنه ذلك بأن يخرج صوته على كيفية غير الطبيعية. وهكذا كل مصوِّت من المصوِّتات لصوته العالي كيفية غير كيفية صوته الأدنى، ومن هنا استطاع السامع أن يعرف جهة الصوت ويحزر بُعد مسافته. أما معرفة جهته، فلأَنَّ الجهة إذا كانت مسامتة للأذن كان سماع الأذن للصوت على طبيعته مِن ذلك البُعد، فتعرف أن هذا الصوت من الجهة المسامتة لها. وإن كان من غير المسامتة، كان سماع الأذن له ضعيفًا نوعًا ما، مع أن كيفيته الدالة على المسافة بحالها، فتعرف الأذن أنه من جهة غير المسامتة، وتقدرها بقدرها. وأما معرفة المسافة، فلِمَا ذكرنا أن للصوت كيفياتٍ متعددةً بتعدد المسافات. وقد يستطيع الإنسان أن يتكلَّف إيقاع بعضها في موقع غيره كما مر، وهذا مثلما أنَّ لصوت كل إنسان من الناس كيفيةً يمتاز عن صوت غيره، والسمع يميز بين ذلك، وقد يتكلف بعض الناس تقليد صوت غيره فيتم له ذلك. قوله: «واستظهر بعضهم ... » إلخ. قد بينَّا أن الصوت يسري في الأجسام كما يسري في الأهوية، ولكن

(24/93)


شرط سريانه في الجسم وقوعه به أو بجسم يلاصقه، وأما الهواء فلا يشترط ذلك بل قد يكتسبه من الجسم كما قلناه سابقًا في الرجلين الكائنين في مكانين متجاورين فإنه إذا تكلم أحدهما لم يسمعه الآخر؛ وذلك لأن كلامه إنما تكيف به الهواء أولًا فلم يمكن أن يكتسبه الجدار منه، بخلاف ما إذا قرع أحدهما الجدار المشترك فإن الآخر يسمعه، وذلك أن الصوت تلقَّاه الجدار أولًا فسرى فيه حتى جاور الهواء الكائن في الجهة الأخرى، فسرى في الهواء لِلُطف الهواء بخلاف الأجسام. نعم، قد يمكن إذا كان الصوت شديدًا جدًّا أن يتلقاه الجسم عن الهواء، وذلك لشدة ضغط الهواء على الجسم حتى صار كأنه جسم آخر يضغط عليه. وحينئذ فالصدى هو عبارة عن هواء يتكيف بكيفية الهواء الذي ذهب حتى جاور الجبل، وذلك أن سلسلة ذرات الهواء إذا اتصلت بالجبل مثلًا دفعها الجبل إلى خلف، وبدفعه لها ينعكس التكيّف فتتكيف بتلك الذرات اللاتي دفعها الجبل الذراتُ التي وراءها، وهكذا حتى ترجع إلى المصوِّت. فإن قيل: فإن الصدى قد يكون أشد من الصوت الأصلي. فالجواب: أن شدة القَرْع قد تورث صوتًا آخر يلتبس بالصدى، وهذا كما يقع في القُبَب المحكمة البناء. قوله: «وهل لكل صوت صدى؟ خلاف». الظاهر ترجيح الإيجاب، والله أعلم بالصواب (1). _________ (1) أرّخ المؤلف تاريخ كتابتها بـ (7 شعبان سنة 1344 في بانور كارْوا).

(24/94)


وأما سماع الإنسان لكلام نفسه فإنه بواسطتين: الأولى: سريان الصوت في أعضاء رأسه حتى يقرع مسمعيه. والثانية: ما يلج أذنيه من الهواء الذي تكيف بكيفية الصوت من الخارج، ولذلك تجده يسمع كلام نفسه وإن سدَّ أذنيه (1). * * * * [الدليل على عدم نبوّة النساء] قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [يوسف: 109]. يُستدل به على عدم النبوة في النساء، كأمّ موسى ومريم. والله أعلم (2). * * * * ممّا يستدلّ به في كيفية البعث ما جاء أنّ هندًا لمّا لاكت قطعةً من كبد حمزة، فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، قال: «أكلتْ منها شيئًا؟» قيل: لا، قال: «ما كان الله ليدْخِل شيئًا من حمزة النار» (3). * * * * _________ (1) مجموع [4657]. (2) مجموع [4657]. (3) مجموع [4719]. والحديث أخرجه أحمد (4414) عن ابن مسعود رضي الله عنه.

(24/95)


 [معنى رفع السنن بسبب ارتكاب البدع]

الحمد لله. جاء في الحديث: «إنّه لا يبتدع الناس بدعة إلا رُفِعَ من السُّنَّة مثلها» (1). وفسّروه بأنّ حقيقة البدعة هي ترك السنة، فكل بدعة معناها ترك السنة. فمعنى الحديث: أنّه رُفِع من السُّنَّةِ تلك السُّنَّةُ المقابلة لها، أي للبدعة. وعندي أنّ هذا قصور؛ لأنّه يكون إخبارًا بما هو معلوم لكلِّ أحد؛ إذ لا ينكر أحد أنّ ارتكاب الشيء تركٌ لضدّه. نعم، يحتمل أنّه أخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، وذلك أنّ النّاس وإن كانوا يعلمون أنّ ارتكاب البدعة ترك للسنة، إلا أنهم بارتكابهم البدع نُزِّلوا منزلة من ينكر ذلك. بل إنّ من الناس من ينكر هذا بالفعل، وهم الذين يقولون: إنّ البدعة قد تكون حسنة. وعلى كل حال، فأحسن من هذا المعنى عندي أن يقال: إنّ المراد بالسنة التي تُرْفَع عند ارتكاب البدعة سنةٌ أُخرى غير المقابلة لها. وذلك أنّ الدين قد كمل، وقد بيّن الله عز وجل حكم جميع الحركات والسكنات في جميع الأمكنة والأزمنة. _________ (1) أخرجه أحمد (16970) وغيره من حديث غُضيف الثمالي. وفي سنده أبو بكر بن أبي مريم فيه ضعف، وجوَّد إسناده الحافظ في «الفتح»: (13/ 253 - 254).

(24/96)


فالإنسان بارتكابه البدعة يصرف طائفةً من وقته في فعلها، فيضيِّع السنّة التي كانت صاحبة ذلك الوقت. ومثَّلتُه بإناءٍ ملآنَ بالجواهر النفيسة، بحيث لا يمكن الزيادة فيه، فإذا جاء إنسان ليدسّ فيه حصى من زجاج أو نحوه، فإنّه يمكنه دسُّها، ولكنّه يخرج من الجواهر التي في الإناء بقدر المدسوس أو أكثر (1). * * * * [السرّ في خلود الكفّار في النار] الحمد لله. ظهر لي ــ والحمد لله ــ أنَّ من مات كافرًا فإنّه يستمر كافرًا أبدًا، بمعنى أنّه يبقى حتى في البرزخ والقيامة والنار جاحدًا لبعض الأشياء الذي يُعدّ جَحْدها كفرًا، ومصمِّمًا على الخلاف والمعصية لو وجد إليها سبيلاً، ولا يتوب أبدًا، وإن قال بلسانه فهو معتقد بقلبه خلاف ذلك. فلذلك ــ والله أعلم ــ يخلَّد في النار، وارتفع الإشكال، والحمد لله. ويظهر لك هذا مما حكاه الله عز وجل عن أهل النار من دعائهم، ولاسيّما إذا قرنته بما حكاه عن أهل الجنة. وقوله عز وجل: {وَلَوْ رُدُّوا (2) لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] ليس ذلك _________ (1) مجموع [4719]. (2) سقطت «ردوا» من الأصل سهوًا.

(24/97)


ــ والله أعلم ــ من باب الإخبار بالغيب فقط، بل المعنى ــ والله أعلم ــ أنهم (1) في نفوسهم مُزْمِعون على ذلك، أي أنهم عازمون في أنفسهم أن لو رُدّوا إلى الدنيا لاستمروا على كفرهم وعنادهم. والله أعلم (2). * * * * [رد على من استدل بحديث عِتْبان على مشروعية التبرك بالمواضع التي صلى فيها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -] حديث عتبان في سؤاله النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يصلي في موضع من بيته يتخذه مسجدًا، فأجابه إلى ذلك= يحتجُّ به مَن يرى مشروعية التبرُّك بالمواضع التي صلى فيها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وفي ذلك نظر؛ لأن صلاته - صلى الله عليه وآله وسلم - في بيت عِتْبان كانت عمدًا لذلك الموضع بذلك القصد، ولعله - صلى الله عليه وآله وسلم - دعا الله تبارك وتعالى عند صلاته أن يجعل في ذلك الموضع بركةً وخيرًا، فصارت لذلك الموضع مزيّة، بخلاف المواضع التي كانت صلاته فيها اتفاقًا بلا تحرٍّ ولا قصدِ أن تكون مصلًّى لمن بعده. والله أعلم (3). * * * * _________ (1) تكررت في الأصل. (2) مجموع [4719]. وقد تقدم للشيخ كلام في المسألة عند شرح قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}. انظر (ص 32). (3) مجموع [4730].

(24/98)


 [حكم الصلاة عند القبور]

الحمدُ لله. لم يكن اليهود والنصارى يصلُّون للقبور عبادةً لها، وإنما كانوا يصلّون عندها تعظيمًا لها، أي تبرُّكًا بها. فمجرَّد الصلاة عندها ــ بدون نيّة تبرُّك ــ تشبُّهٌ بهم. وبنيّة تبرُّك مماثَلَةٌ لهم. وبنيّة عبادة زيادةٌ عليهم (1). _________ (1) مجموع [4722].

(24/99)


 الفوائد الحديثية

(24/101)


[تعليق على أحاديث من صحيح البخاري (1)] * (1 ص 74) (2): إبراهيم عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنما بقاؤكم فيما سَلَفَ قبلَكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهلُ التوراة التوراةَ فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا، فأُعطُوا قيراطًا قيراطًا. ثم أوتي أهلُ الإنجيل الإنجيلَ فعملوا إلى صلاة العصر ثم عجزوا، فأعطوا قيراطًا قيراطًا. ثم أُوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأُعطِينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين: أَيْ ربَّنا أعطيتَ هؤلاء قيراطين قيراطين ... ». * ونحوه (ج 4 ص 203) (3). * (ج 2 ص 23) (4): أيوب عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استأجر أُجَرَاء فقال: من يعمل لي من غُدوةٍ إلى نصف النهار على قيراط؟ فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط؟ فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطَين؟ فأنتم هم. فغضبت اليهود والنصارى فقالوا: ما لنا أكثرُ عملًا وأقلُّ عطاءً؟ قال: هل نقصتكم من _________ (1) كثيرًا ما يكتب الشيخ في مسوداته «بخاري» و «سندي» و «فتح» ونحوها طلبًا للاختصار، وقد عدلنا ما أثبتناه منها. (2) برقم (557). (3) برقم (7533) من طريق يونس عن ابن شهاب به. (4) برقم (2268).

(24/103)


حقِّكم؟ قالوا: لا. قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء». * مالك (1) عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نحوه ... * أبو موسى (2) عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَثَلُ المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجلٍ استأجر قومًا يعملون له عملًا يومًا إلى الليل على أجرٍ معلوم، فعملوا له إلى نصف النهار فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجركَ الذي شرطت لنا وما عَمِلْنا باطل! فقال لهم: لا تفعلوا، أكمِلُوا بقيةَ عملِكم وخذوا أجركم كاملًا، فأَبَوا وتركوا. واستأجر أَجِيرين بعدهم فقال لهما: أكمِلا بقيةَ يومِكما هذا، ولكما الذي شرطتُ لهم من الأجر، فعملوا حتى إذا كان حينُ صلاة العصر قالا: لك ما عملنا باطلٌ، ولك الأجر الذي جعلتَ لنا فيه، فقال لهما: أكملا بقية عملكما، ما بقي من النهار شيء يسير، فأبيا. واستأجر قومًا أن يعملوا له بقية يومهم، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس، واستكملوا أجر الفريقين كليهما. فذلك مَثَلهم ومَثَلُ ما قَبِلوا من هذا النور». * (ص 171) (3): ليث عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنَّما أجلكم في أجل من خلا [من الأمم] (4) ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مَثَلُكم ... (نحو رواية أيوب)». _________ (1) رقم (2269). (2) رقم (2271)، وهو برقم (558) مختصرًا. (3) رقم (3459). (4) في الأصل: «قبلكم»، والمثبت من صحيح البخاري.

(24/104)


* (ج 4 ص 193) (1): شعيب عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نحو رواية إبراهيم (الأولى). فالظاهر ــ والله أعلم ــ أنهما مثلان، كل منهما مستقل كما بيّنه نافع في رواية الليث. وكذلك أَفرد الثاني في رواية أيوب، وكذا أفرده عبد الله بن دينار (2) عن ابن عمر، وكذا أفرده أبو موسى عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. فحاصل المثل الأول أن نسبة بقاء هذه الأمة إلى عمر الدنيا نسبةُ المدّة التي بين صلاة العصر والغروب إلى جميع النهار. وأما المثل الثاني فله مقصدان: أحدهما: أن أجورَ هذه الأمة مضاعفةٌ بالنسبة إلى أجور اليهود والنصارى. والآخر: أن من أدركته بعثة عيسى من اليهود ولم يؤمن به فقد بطل عمله الأول، ومن وُلد بعد ذلك ولم يتبع عيسى عليه السلام فلم يعمل شيئًا. ومن أدركته بعثة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - من النصارى ولم يتّبعه فقد بطل عمله الأول، ومن ولد بعد ذلك ولم يتّبع محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - فلم يعمل شيئًا. ولم يُرد ــ والله أعلم ــ بنصف النهار والعصر والمغرب تحديد المدة، _________ (1) رقم (7467). (2) وذلك في رواية مالك عنه التي ذكرها الشيخ، وأما في رواية سفيان بن عيينة عنه برقم (5021) ــ ولم يذكرها الشيخ ــ، فقد ذكر المَثَلين على التفصيل بنحو رواية الليث عن نافع.

(24/105)


وإنما أراد أن اليهود عملوا بعضَ النهار، والنصارى بعضَه، وعملنا باقيه. فذَكَر نصف النهار والعصر تمثيلًا لذلك البعض، لا تحديدًا. والله أعلم (1). * * * * حديث «الصحيحين» (2): «أسرعُكنَّ لحوقًا بي أطولُكُنَّ يدًا». قال الحافظ في «الفتح» (3): «وفيه جواز إطلاق اللفظ المشترك بين الحقيقة والمجاز بغير قرينة ــ وهو لفظ «أطولكنّ» ــ إذا لم يكن محذور. قال الزين بن المنيِّر: لمّا كان السؤال عن آجالٍ مقدّرة لا تُعْلَم إلا بالوحي، أجابهنّ بلفظ غير صريح، وأحالهنّ على ما لا يتبين إلا بأَخرة، وساغ ذلك لكونه ليس من الأحكام التكليفية. وفيه أن من حَمَل الكلام على ظاهره وحقيقته لم يُلَم، وإن كان مراد المتكلم مجازه؛ لأنّ نسوة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حملن «أطولكن يدًا» على الحقيقة فلم ينكر عليهن». (ج 3 /ص 185). أقول: يظهر لي أنّ «أطولكنّ يدًا» حقيقة عرفية في كثرة الصدقة. وههنا قرينتان تدلَّان على إرادة كثرة الصدقة: الأولى: تخصيصه اليد، ولو أراد الطول الحسّي لكان الظاهر أن يقول: «أطولكن»؛ إذ قد عُلم أن طول اليد لا يكون إلا مع طول القامة. _________ (1) مجموع [4711]. (2) البخاري (1420) ومسلم (2452) من حديث عائشة رضي الله عنها. (3) (3/ 288) ط. السلفية.

(24/106)


الثانية: أنّ سرعة اللحوق به فضيلة. وتعريف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - للفضيلة الجزائية الغالب أن يكون بفضيلة عملية. والطول الحسّي ليس بفضيلة عملية، وإنّما الفضيلة العملية كثرة الصدقة. والله أعلم (1). * * * * في «الجهاد»، في «من لم يخمس الأسلاب» (2) عن عبد الرحمن بن عوف: « ... ثم انصرفا إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأخبراه فقال: «أيكما قتله؟» قال كل واحد منهما: أنا قتلتُه! فقال: «هل مسحتما سيفيكما؟» قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: «كلاكما قتله، سَلَبُه لمعاذ بن عمرو بن الجموح» وكانا معاذ بن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح». اهـ. وهذه الرواية أبعد عن الخطأ لتعيين الذي أُعطي له السَّلَب، وحكايةِ لفظ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله: «سَلَبُه لمعاذ بن عمرو بن الجموح». والله أعلم. نعم، سيأتي في ذكر أهل بدر عن أنس، وفيه: «ابنا عفراء» (3). وقد جاء في ترجمة الرُّبَيِّع بنت معوِّذ ابن عَفْراء (4) أنها من المبايعات تحت الشجرة. وهذا قد يدل أنها ولدت قبل الهجرة بمدَّة فيما يظهر. والغالب أن أباها يكون يوم بدرٍ رجلًا، فكيف يستصغره عبد الرحمن بن عوف؟ _________ (1) وانظر كلام الشيخ على هذا الحديث في «إرشاد العامه» ضمن مجموع رسائل أصول الفقه (ص 235 وما بعدها). (2) رقم (3141). (3) رقم (3962، 3963، 4020). (4) علّق عليه الشيخ بقوله: «كذا في «التهذيب» أنها بنت معوذ بن عفراء، ولكن في «الإصابة» خلاف ذلك». وسيأتي تحقيق الشيخ في نسبها (ص 234).

(24/107)


وأيضًا ففي حديث عبد الرحمن بن عوف أن كلًّا من الغلامين سأله سرًّا عن الآخر، والغالب أنهما لو كانا أخوين لما أسرَّ أحدهما عن أخيه. * * * * «باب تزويج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خديجة» (1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: «استأذنَتْ هالة بنت خُوَيلد ــ أخت خديجة ــ على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فعرف استئذان خديجة، فارتاع لذلك فقال: اللهم هالة!». قوله: «ارتاع»، أقول: كأنّه - صلى الله عليه وآله وسلم - لمّا فجئه استئذانٌ كاستئذان خديجة ارتاع بادئ بدءٍ لعِلْمه بأنّ خديجة عليها السلام قد ماتت، فهل أحياها الله تعالى؟! ولكنّه لم يلبث أن عرف الحقيقة. والله أعلم. * * * * مِن أحاديث رفع اليدين في الدعاء حديث البخاري في غزوة أوطاس (2) عن أبي موسى وفيه: « ... فتوضأ ثم رفع يديه فقال: اللهم اغفر لعُبَيد أبي عامر». * * * * مما يصلح في باب الانتحار: حديث البخاري في المغازي (3) في سرية _________ (1) رقم (3821) من حديث عائشة رضي الله عنها. (2) رقم (4323) (3) (4340) من حديث علي رضي الله عنه.

(24/108)


عبد الله بن حذافة. وفيه: «لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة». * * * * حديث البخاري (تفسير الأحزاب) (1) وغيره عن عائشة، قالت: «كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأقول: هل تهب المرأةُ نفسَها» إلخ. في «حاشية السندي» (2): «قال الطِّيبي: أي أعيبُ عليهن؛ لأنّ من غار عاب. ويدلّ عليه (3) قولُها: أتهب المرأة ... إلخ. وهو هاهنا تقبيح وتنفير، لئلا تهب النساء أنفسهن له - صلى الله عليه وآله وسلم -، فتكثر النساء عنده. قال القرطبي: وسبب ذلك القول الغَيرة، وإلا فقد علمتْ ... إلخ». أقول: إنّ نصّ الحديث أنها كانت تغار عليهنّ، لا منهنّ. وغَيرة المرأة على المرأة هي: أن تراها واقعة في شيء ينافي العفَّةَ أو ينافي الحياء، فتكره لها ذلك. وغيرتها منها هي: أن تكره مشاركتها لها في زوجها (4). ولا شك أن فعل الواهبات أنفسهن لا يخلو من منافاة لكمال الحياء الطبعي ــ لا الديني ــ، فما المانع من أن عائشة رضي الله عنها كانت تغار _________ (1) رقم (4788). وأخرجه مسلم (1464) وغيره. (2) (3/ 175) ط. الحلبي. (3) الأصل: «عليها» والتصحيح من المصدر. (4) لكن يقدح في هذا التفريق حديث عائشة في البخاري (3816)، ومسلم (2435): «ما غِرْت على امرأةٍ للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما غِرْت على خديجة ... ».

(24/109)


عليهنّ حقيقةً، أي تكره لهن ذلك؟ ويحملها على تلك الكراهية كمال حيائها الطبعي، ولاسيما وهي يومئذ جارية صغيرة السنّ في عنفوان الحياء الطبعي. وقد حمل الحياء الطبعي أم سلمة ــ وهي يومئذ امرأة كبيرة ــ أن استحيت من سؤال المرأة للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هل تحتلم المرأة؟ حتى غطَّت وجهها وقالت ما قالت (1). في «البخاري» (2) باب عرض المرأة نفسها: عن ثابت قال: كنت عند أنس وعنده ابنة له، قال أنس: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - تعرض عليه نفسها، قالت: يا رسول الله ألك بي حاجة؟ فقالت بنت أنس: ما أقلَّ حياءَها! واسوءتاه! واسوءتاه! قال: هي خير منك، رغبتْ في النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فعرضت عليه نفسها. ثم قول عائشة في الحديث: «وأقول: هل تهب المرأة» الخ، يحتمل احتمالًا قويًّا أنها إنما كانت تقوله في نفسها، وإنما ذكرتْه هنا إيضاحًا لسبب غيرتها عليهن. وعلى هذا، فلا وجه لما قاله الطِّيبي، لما فيه من الخروج عن الظاهر، ونِسْبة أم المؤمنين أنها كانت تعيب ذلك الفعل، مع اعتقادها طبعًا وديانة أنه غير معيب. أمّا ما قاله القرطبي، فإن أراد بقوله: «وسبب ذلك القول الغَيرة» إلخ، _________ (1) أخرجه البخاري (130). وفيه أنها إنما استحيت من سؤال المراة: «هل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ » فغطَّت وجهها وسألت هي: «أو تحتلم المرأة؟ ». (2) رقم (5120).

(24/110)


الغيرةَ عليهن، كما هو صريح الحديث= فصحيح، وإلا ففيه ما تقدم. نعم، لا يُنكر أن عائشة رضي الله عنها كانت تغار على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من الواهبات، بل ومن المنكوحات، بل ومن خديجة رضي الله عنها وقد ماتت قبلها. ولكن لا مانع من جمعها بين الغَيرتين: الغيرة على الواهبات، والغيرة منهن. وعليه، فلا مقتضي لإخراج الحديث عن ظاهره. والله أعلم. * * * * تفسير سورة الجمعة (1) * سليمان بن بلال، عن ثور، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنّا جلوسًا عند النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فأنزلت عليه سورة الجمعة: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ}، قال: قلت: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثًا، وفينا سلمان الفارسي، وضع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يده على سلمان، ثم قال: «لو كان الإيمان عند الثُّريَّا لنالَه رجال ــ أو رجل ــ من هؤلاء». * ... عبد العزيز، أخبرني ثور، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لنالَه رجال من هؤلاء». كأنّه - صلى الله عليه وآله وسلم - استغنى بما هو ظاهر من القرآن، فقوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} هم، أي من الأمّيين. وإنّما قال ما قال في سلمان ليستدلّ على أنّ الإسلام ليس خاصًّا بالأميّين، كما قد يُتَوهَّم من الآية. والله أعلم (2). _________ (1) رقم (4897، 4898). (2) وانظر كلام المؤلف على هذه المسألة في ترجمة الشافعي في «التنكيل» (رقم 189).

(24/111)


 * باب تزويج الصغار من الكبار (تزويج عائشة) (1).

«فتح الباري» (11/ 32) (2): «وقال ابن بطَّال: يجوز تزويج الصغيرة بالكبير إجماعًا، ولو كانت في المهد، لكن لا يُمكَّن منها حتى تصلح للوطء. فرمز بهذا إلى أن لا فائدة للترجمة؛ لأنّه أمرٌ مجمع عليه. قال: ويؤخذ من الحديث أنّ الأب يزوج البكر الصغيرة بغير استئذانها. قلت: كأنّه أخذ ذلك من عدم ذكره , وليس بواضح الدلالة، بل يحتمل أن يكون ذلك قبل ورود الأمر باستئذان البكر، وهو الظاهر، فإنّ القصة وقعت بمكة قبل الهجرة». * (قال البخاري:) باب إنكاح الرجل ولده الصغار لقوله تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} فجعل عدتها ثلاثة أشهر قبل البلوغ (3). حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن هشام عن أبيه عن عائشة: «أنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تزوجها وهي بنت ستِّ سنين، وأدخلت عليه وهي بنتُ تسعٍ ومكثت عنده تسعًا». «فتح الباري» (9/ص 71) (4): « ... وهو استنباط حسن، لكن ليس في الآية تخصيص ذلك بالوالد ولا بالبكر. ويمكن أن يقال: الأصل في _________ (1) رقم (5081). ونص الحديث: عن عروة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب عائشة إلى أبي بكر، فقال له أبو بكر: إنما أنا أخوك، فقال: «أنت أخي في دين الله وكتابه، وهي لي حلال». (2) (9/ 124) ط. السلفية. (3) رقم (5133). (4) (9/ 190).

(24/112)


الأبضاع التحريم إلا ما دلّ عليه الدليل، وقد ورد حديث عائشة في تزويج أبي بكر لها وهي دون البلوغ، فبقي ما عداه على الأصل ... قال المهلب: أجمعوا أنّه يجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة البكر، ولو كانت لا يوطأ مثلها، إلاّ أنّ الطحاوي حكى عن ابن شبرمة منعه فيمن لا توطأ (1). وحكى ابن حزم (2) عن ابن شبرمة مطلقًا أنّ الأب لا يزوج بنته البكر الصغيرة حتى تبلغ وتأذن، وزعم أنّ تزويج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عائشة وهي بنت ست سنين كان من خصائصه». * عن أبي سلمة أن أبا هريرة حدَّثهم أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «لا تُنكح الأَيِّم حتى تُستأمر ولا تُنكح البكر حتى تُستأذَن» (3). «فتح الباري» (9/ص 72) (4): « ... ثمّ إنّ الترجمة معقودة لاشتراط رضا المزوَّجة بكرًا كانت أو ثيبًا، صغيرةً كانت أو كبيرة، وهو الذي يقتضيه ظاهر الحديث، لكن تُستثنى الصغيرة من حيث المعنى لأنها لا عبارة لها». «فتح الباري» (9/ص 73) (5): «قال (لعله ابن شعبان) (6): وفي هذا الحديث إشارة إلى أنّ البكر التي أُمِرَ باستئذانها هي البالغ، إذ لا معنى _________ (1) الذي في «مختصر اختلاف العلماء» (2/ 257) أن ابن شبرمة منع تزويج الصغار مطلقًا. (2) في «المحلى» (9/ 459). (3) رقم (5136). (4) (9/ 191 - 192). (5) (9/ 193). (6) من كلام الشيخ جعله بين هلالين.

(24/113)


لاستئذان من لا تدري ما الإذن، ومن يستوي سكوتها وسخطها» اهـ. يقول كاتبه: أمّا الآية ففي دلالتها على صحة زواج الصغار نظر؛ وذلك أنّ قوله: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} يصدق على اللائي لم يحضن لِعِلّة، مع أنهنَّ بالغات، وعلى اللائي لم يحضن لصغرهنّ، فليست خاصة بالصغار. فإن قيل: نعم، ولكنها تعمُّهنّ. قلت: العموم هنا مقيّد بكونهن أزواجًا؛ لأنّ المعنى: واللائي لم يحضن من نسائكم المطلقات، فلا تعمّ إلا اللائي لم يحضن وهنّ أزواج. فمعنى الآية: أن كل من لم تَحِضْ من أزواجكم عدتها ثلاثة أشهر. ولا يلزم من هذا أنّ كلّ مَنْ لم تحض يصحّ أن تكون زوجة، كما تقول: كل طويل من بني تميم شريف. فلا يلزم منه أنّ كل طويل من الناس يمكن أن يُجعل من بني تميم. فتأمّله، فإنّه دقيق! ثم لو فرض أنّ الآية تدل بعمومها على صحة زواج الصغار، فللمخالف أن يقول: هي مخصصة بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ولا تنكح البكر حتى تستأذن». إذ معناه: حتى يطلب منها الإذن فتأذن. والصغيرة إنّما يصدق عليها شرعًا أنها أذنت بعد بلوغها، فيلزم منه: لا تنكح الصغيرة حتى تبلغ، فتُستأذن فتأذن. وقد تقدم في الكلام «الفتح» أنّه لا معنى لاستئذان الصغيرة، وأنّه لا عبارة لها. ولكنهم حاولوا بذلك إخراجها من الحديث، وهو مردود لدخولها في عموم البكر. وعدمُ صحة استئذانها وإذنها في حال الصغر لا يكفي في إخراجها؛ لأنّ استئذانها وإذنها ممكن بعد أن تبلغ.

(24/114)


وفي كلام «الفتح» في باب تزويج الصغار من الكبار ما يتضمن الاعتراف بهذا، كما تقدم. فقد ثبت أن لا دلالة في الآية. وبقي زواجه - صلى الله عليه وآله وسلم - عائشةَ. فأمّا ما نُقِل عن ابن شبرمة أنّه من خصائصه - صلى الله عليه وآله وسلم -، فلم يذكروا دليله، فإن كان قاله بلا دليل، فهو مردود عليه لأنّ الخصوصية لا تثبت بمجرد الاحتمال، بل فعله - صلى الله عليه وآله وسلم - حجة ما لم يثبت الاختصاص. وإن كان قاله بدلالة قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ولا تنكح البكر حتى تستأذن» على ما قدّمنا، ففيه نظر؛ لما ذكره الحافظ من أنّ زواج عائشة كان قبل هذا الحديث. فإذا كان الحديث يدلّ على المنع فيحتمل أن يكون المنع إنّما لزم من حينئذ، ولم يكن المنع سابقًا. وحينئذٍ يكون زواج عائشة جاريًا على الحكم السابق، وهو عدم المنع، فلا خصوصية. وقد يؤيد هذا ما روي عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنّه قال في بعض بنات عمِّه العباس: «إن أدركَتْ وأنا حيّ تزوَّجتُها» أو كما قال (1). نعم، مقصود ابن شبرمة من ردّ الاستدلال بزواج عائشة حاصل على كلّ حال؛ لأنّه إن لم يكن على وجه الخصوصية فهو منسوخ. _________ (1) أخرجه أحمد (26870) وأبو يعلى (7075) وغيرهما من حديث ابن عباس بلفظ: «لئن بلغتْ بُنيَّة العباس هذه وأنا حيّ، لأتزوجنَّها». قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 276): «في إسنادهما الحسين بن عبد الله بن عباس، وهو متروك، وقد وثقه ابن معين في رواية».

(24/115)


ولا يقال: كان يجب لو كان منسوخًا أن يفارقها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عند ورود النسخ، لِما هو ظاهر من أنّ النسخ إنّما يتسلط على ما يتجدّد من الأعمال، لا على ما تقدّم قبله. ثم إنّه لم يرد النسخ حتى بلغت عائشة رضي الله عنها. ومع هذا، فيحتمل أن يكون معنى قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا تنكح البكر حتى تستأذن» أي لا يبتّ نكاحها، فأمّا أن يقع العقد من الوليِّ ويكون البتُّ موقوفًا على رضاها = فلا، كما يقوله بعض الفقهاء في البكر البالغة، بل وفي الثيب، وعلى قياس ما يقولونه في بيع الفضولي. فإن صحّ هذا الاحتمال فلا مانع من أن يكون عقدُ أبي بكر بعائشة من هذا القبيل، ثم حين بلغت تسع سنين، بلغت وأقرَّت العقد. وعليه فلا مخالفة، ولا نسخ، ولا خصوصية. لكن ظاهر قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ولا تنكح البكر» يأبى ما ذُكر. فتأمّل. وعلى كل حال، فليس بيد الجمهور دليل على صحة زواج الصغيرة إلا الإجماع. ولم يثبت في المسألة إجماع إذا عرَّفنا الإجماع بما كان يعرِّفه به الشافعي وأحمد. بل غايته أنّه قول لم يُعرف له مخالف قبل ابن شبرمة. والشافعي وأحمد لا يعتبران مثل هذا إجماعًا تردُّ به دلالة السنة. فمذهب ابن شبرمة قويٌّ، والله أعلم. * * * *

(24/116)


في البخاري، باب الدعاء للنساء اللاتي يهدين العروس، وللعروس. ثم ذكر الحديث (1). قال السِّنْدي (2): ليس في الحديث ما يدل على الدعاء لهنّ، وإنّما فيه الدعاء للعروس، وقد تكلّف بعضهم ... إلخ. أقول: أمّا الدعاء الذي في الحديث فهو من النساء للزواج؛ لأنهنَّ قلن: «على الخير والبركة، وعلى خير طائر». فقولهنَّ: «على ... » إلخ، متعلق بمحذوف تقديره: هذا الزواج على الخير ... إلخ. وهذا واضحٌ جدًّا. فالدعاء حينئذٍ (3) ينال الأمّ؛ لأنّه إذا كان زواج بنتها على الخير كان ذلك خيرًا لها. ومع هذا، فليس بظاهر المطابقة للترجمة. فالغالب أنّ البخاري أشار إلى شيء جاء في رواية أخرى فيه الدعاء للمُهديات. أو يكون وقع تحريف من النساخ؛ والأصل: «بابُ دعاء النساء اللاتي يهدين العروس للعروس». والله أعلم. * * * * _________ (1) رقم (5156) ونصه: عن عائشة رضي الله عنها تزوَّجني النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فأتتْني أُمِّي فأدخلتْني الدار فإذا نسوةٌ من الأنصار في البيت فقلْنَ: «على الخير والبركة، وعلى خير طائر». (2) في «الحاشية» (3/ 253). (3) اختصرها الشيخ إلى (ح) وقد وقع له هذا مرارًا.

(24/117)


كتاب النفقات، باب {عَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}، وهل على المرأة من شيء؟ {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} إلى قوله: {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76]. «حاشية السِّنْدي» (1): «قال الكرماني: شبّه منزلة المرأة من الوارث بمنزلة الأبكم ... » إلخ. يقول كاتبه: بل مراد البخاري ــ والله أعلم ــ الاستدلال بالآية على أنّ المرأة قد يجب عليها نفقة قريبها. وذلك من قوله تعالى: {كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ}، ويفسَّر المولى بالقريب، وهو يعم الرجل والمرأة. وإيضاحه: أنّ في الآية الإخبار أنّ هذا الرجل (كَلٌّ) أي: ثقل، أي تكون نفقته وكسوته وجميع ما يحتاجه (على مولاه) أي: قريبه. وهو صادق بالرجل والمرأة. فتأمّل. ثم أورد تحت الترجمة حديث هند (2) وقولها (3): فهل عليَّ جُناح أن آخذ من ماله ما يكفيني وبنيَّ؟ قال: «خذي بالمعروف». فأمرها أن تأخذ نفقة بنيها، فدلّ على أنّه يجب عليها القيام بمصلحتهم. ويوضّحه: أنّها لو استأذنته - صلى الله عليه وآله وسلم - أن تأخذ نفقة ضرَّة لها مثلاً، ممّن هو أجنبيّ عنها= لما أذن لها؛ لأنّه ليس عليها مراعاة مصلحة ضرَّتها مثلاً. فدلّ _________ (1) (3/ 289). (2) رقم (5370). (3) في الأصل: «قوله».

(24/118)


الحديث على أنّ عليها مراعاة مصلحة ولدها. فقد يؤخذ من ذلك أنّ عليها نفقتهم إذا لم يكن هناك من هو أولى منها. والله أعلم (1). * * * * الأدب ــ باب ما يجوز من الغضب (2) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: احتجر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حجيرة مخصفة أو حصيرًا، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يصلي فيها فتتبع إليه رجال وجاءوا يصلون بصلاته، ثم جاءوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عنهم فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم مغضبًا فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيُكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم؛ فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة». أقول: قد يؤخذ من هذه الرواية ونحوها أن خشيته - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يُكتب عليهم ليست لمداومتهم أو لحرصهم كما هو المشهور، وإنما هي لرفعهم أصواتهم وحصبهم الباب، وهذا هو المناسب كما لا يخفى. ولولا أن في بعض الروايات (3) زيادة: «ولو كتب عليكم ما قمتم به» _________ (1) ما تقدم من التعليقات من (ص 106) إلى هنا من مجموع [4719]. (2) رقم (6113). (3) برقم (7290).

(24/119)


لأمكن حمل قوله: «ظننت أنه سيكتب عليكم» [على أنه] يريد به إثم رفعهم أصواتهم وحصبهم الباب. والله أعلم. * * * * «كتاب الأدب» - بابٌ «لا يُلدغ المؤمن من جحر مرَّتين» [عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «لا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرَّتين» (1)]. زعم السِّنْدي (2) أن هذا في أمور الدين لا في أمور الدنيا لحديث: «المؤمن غرٌّ كريم» (3). وهذا كلام لا وجه له؛ فإن الغرَّ هو من ليس له تجربة، فكثيرًا ما يغترُّ. وهذا إنما يتحقَّق أول مرَّة. فأما إذا لدغ من جحر مرَّتين فإن العرب لا تسمِّيه غرًّا، ولا تقول: اغترَّ. بل هو أحمق، بل لو قيل: إن قوله: «لا يُلدغ ... » إلخ خاص بأمور الدنيا لكان أقرب؛ لأن أمور الدين يجب أن تُبنى على الحذر فلا يغتر المؤمن فيها أصلًا، كما لو حدّث رجل بحديث عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فإن الواجب أن لا يَغترَّ به بل يَبحث عن عدالته وضبطه من أول مرَّة. * * * * _________ (1) رقم (6133). (2) في «حاشيته» (4/ 70). (3) أخرجه أحمد (9118) وأبو داود (4790) والترمذي (1964) وغيرهم من حديث أبي هريرة. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

(24/120)


قصة سلمان وأبي الدرداء («صحيح البخاري» (1) ــ كتاب الأدب ــ باب صنع الطعام والتكلُّف للضيف). وفيه تخصيص لمفهوم قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى} (2). * * * * «صحيح البخاري» (3) في الاستئذان: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إذا سلَّم عليكم أهلُ الكتاب فقولوا: وعليكم». في «الهامش» (4): بإثبات الواو ويجوز حذفها كما قاله النووي (5)، قال: والإثبات أجود، ولا مفسدة فيه أي من جهة التشريك لأن السام الموت، وهو علينا وعليهم. انتهى. أقول: يعكّر عليه قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - لعائشة حين ردّ على اليهود بقوله «وعليكم»: «يُستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم فيَّ» (6). وقد بوّب عليه البخاري في كتاب الدعوات: باب قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: يستجاب لنا في اليهود، _________ (1) برقم (6139). (2) حيث نهى سلمان الفارسي أبا الدرداء عن الصلاة أول الليل ووسطه، وأمره بالنوم، فأقرَّه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على ذلك النهي. (3) رقم (6258). (4) «حاشية السِّندي» (4/ 91). (5) في «شرح صحيح مسلم» (14/ 145). (6) رقم (6401).

(24/121)


ولا يستجاب لهم فينا. فالظاهر أن الواو في قوله: «وعليكم» ليست عاطفة لقولهم: «السام عليك» حتى يكون معناها: السام عليّ وعليكم، فتكون للتشريك. وإنما هي عاطفة لقول محذوف، كأنه قال: قلتم: السام عليك (و) أقول: (عليكم) (1). ويؤيّده أنه ليس المراد بقولهم: «السام عليك» وقوله: «وعليكم» الإخبار حتى يقال: لا ضرر في التشريك، وإنما المراد الدعاء، وقد نُهينا عن الدعاء على النفس بالموت. فتأمل، والله أعلم. * * * * باب طول النجوى (2) حدثنا [محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عبد العزيز] عن أنس رضي الله عنه قال: «أقيمت الصلاة ورجل يناجي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فما زال يناجيه حتى نام أصحابه ثم قام فصلى». [قال المعلمي]: فيه دليل على أنه لا يضرُّ طول الفصل بين الإقامة والصلاة، ولا تلزم الإعادة. * * * * _________ (1) في الأصل: «وعليكم»، والسياق يقتضي ما أثبت. (2) رقم (6292).

(24/122)


باب الختان بعد الكبر وذكر فيه خصال الفطرة (1): [الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وقص الشارب، وتقليم الأظفار]. والظاهر أنها كلها واجبة، والظاهر أنه يتعيّن في الإبط النتف، وفي الشارب القص. فالله أعلم. وقد تقدّم «أَحفُوا الشَّوارب وأَعفُوا اللِّحى» (2)، فقد يقال: إن إحفاء الشوارب يحصل بالقص وغيره. لكن يقال: هذا مطلق فليُحمل على المقيّد، وقد جاء عن المغيرة: أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أخذ من شاربه على سواك، كأنه بسكّين أو غيره (3)، فإذا صح جاز مثل ذلك. وقد يقال: إنه قيد آخر، وإذا وجد قيدان تعين البقاء على الإطلاق، كما قالوه في تتريب النجاسة الكلبية، ولكن فيه نظر ذكره الحافظ في «التلخيص» (4)، وحاصله: أن المطلق يمكن حمله على المقيدين فيتعيّن في التتريب إحدى المقيّدين أي «الأولى» و «الأخرى»، فلا يجوز غير إحداهما. _________ (1) وذلك بإيراد حديث أبي هريرة برقم (6297) مرفوعًا بلفظ: «الفطرة خمس ... » إلخ. (2) برقم (5892) من حديث ابن عمر بلفظ: «خالفوا المشركين وفِّرُوا اللِّحَى وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ»، وبرقم (5893) بلفظ: «انْهَكوا الشوارب وأعفوا اللحى». (3) أخرجه أحمد (18212) وأبو داود (188) وغيرهما. وهو حديث صحيح. وفيه أن الأخذ كان بشَفْرة. (4) «التلخيص الحبير» (1/ 36).

(24/123)


وكذا يقال هنا يتعيّن في إحفاء الشوارب القصّ أو القطع الذي في حديث المغيرة. وإذا وجب الختان فمحل وجوبه بعد الكبر كما دل عليه حديث ابن عباس في الباب. وأما بقية الخصال فقد جاء فيها أن لا تؤخّر أكثر من أربعين يومًا، وهو في «صحيح مسلم» (1). وإحفاء الشارب يتعين فيه إلى الحد الذي يتيسر بالمقص أو بالقطع على ما في حديث المغيرة. فإذا ... (2). * * * * باب هل يصلّى على غير النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن ابن أبي أوفى قال: كان إذا أتى رجل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بصدقته قال: «اللهم صلِّ عليه»، فأتاه أبي بصدقته فقال: «اللهم صلِّ على آل أبي أوفى» (3). فيه دليل على دخول الشخص في آل المضاف إليه. * * * * _________ (1) (258) من حديث أنسٍ رضي الله عنه. (2) بياض في الأصل. (3) رقم (6359).

(24/124)


باب الدعاء إذا علا عقبة * عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في سفر فكنَّا إذا علونا كَبَّرنا، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أيها الناس ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تَدعُون أصمَّ ولا غائبًا ولكن تدعون سميعًا بصيرًا» ثم أتى عليٌّ ... (1). باب الدعاء إذا أراد سفرا أو رجع * عن عبد الله بن عمر ــ رضي الله عنهما ــ أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان إذا قَفَل من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شَرَف من الأرض ثلاثَ تكبيرات ثم يقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كل شيء قدير. آئبون تائبون عابدون، لربنا حامدون. صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده «(2). يُجمع بينه وبين قوله: «اربَعُوا على أنفسكم» بأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يجهر ليعلّمهم، أو أنه إنما نهاهم عن شدة الجهر، والله أعلم. أو أن الجهر خاص ببعض الأذكار التي كان يجهر بها. * * * * في حديث آخِرِ أهل الجنة دخولا أنه يقول عند وصوله إلى باب الجنة وطلبه دخولها: «يا ربِّ لا تجعلْني أشقى خلقك» (3). _________ (1) رقم (6384). (2) رقم (6385). (3) رقم (6573).

(24/125)


فيقال: كيف يقول هذا وهو حينئذ أسعد من أهل النار بكثير؟ والجواب بأن المراد بالخلق بعضهم، أي غير أهل النار، لا يخفى بُعده إلا أن يقال: يتعيّن القول به جمعًا بين الأدلة. وعليه، فلا حجّة فيه لمن يذهب إلى أن الخلق جميعًا ينتهي أمرهم إلى دخول الجنة. * * * * باب لا تحلفوا بآبائكم فكنا عند أبي موسى ... فقال: ... إني [أتيت] (1) رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في نفر من الأشعريين نستحمله فقال: «والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم» فأُتي رسولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بنهب إبل فسأل عنا فقال: «أين النفر الأشعريون؟» فأمر لنا بخمسِ ذَودٍ غُرِّ الذُّرَى، فلما انطلقنا قلنا: ما صنعنا؟ حلف أن لا يحملنا وما عنده ما يحملنا، ثم حَمَلنا، تَغَفَّلْنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يمينَه، والله لا نفلح أبدًا! فرجعنا إليه فقلنا له: إنا أتيناك لتحملنا فحلفت أن لا تحملنا وما عندك ما تحملنا، فقال: «[إنّي] لستُ أنا حملتكم ولكنَّ الله حملكم، والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحلَّلتُها» (2). قوله: «والله لا أحملكم وما عندي ما أحملكم»، الظاهر أن الواو عاطفة _________ (1) في الأصل: «كنت عند»، والمثبت من صحيح البخاري. (2) رقم (6649).

(24/126)


جملة على جملة. أراد - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يبين لهم أنه لم يمنعهم بخلًا، بل ليس عنده ما يحملهم عليه. واللفظ يحتمل أن تكون الواو حالية، أي: لا أحملكم في حال أن ليس عندي ما أحملكم عليه. فعلى الأول يكون حمله - صلى الله عليه وآله وسلم - لهم ثانيًا نقضًا لليمين بخلاف الثاني. ولم يترجَّح عند أبي موسى وأصحابه أحدُ الوجهين، فكان عندهم محتملًا أنه أراد الأول ولكنه نسي فحملهم، وأن يكون أراد الثاني. فرجوعهم هو للاحتمال الأول، وقولهم: «فحلفتَ أن لا تحملنا وما عندك ما تحملنا» بيان؛ لأن لفظه عندهم محتمل للثاني. وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لستُ أنا حملتكم، ولكن الله حملكم» إعلام لهم بأن حمله لهم ثانيًا خير، بيَّنه - صلى الله عليه وآله وسلم - ليبني عليه ما بعده، وإرشاد أنه ينبغي أن ينسب الخير إلى الله تعالى، وإن كان العبد هو المباشر له كما ينبغي أن يقال: أنقذني الله على يديك، وأغاثني الله تعالى على يديك، ونحو ذلك كما جاء في: «ما شاء الله ثم شئت»، و «لا بلاغ لي إلا بالله ثم بك». ولا وجه لما قد يُتوهَّم أن حَمْله لهم ثانيًا لا يُعدُّ نقضًا لليمين من حيث إنه إنما حلف أن لا يحملهم هو، ثم حملهم الله تعالى لا هو؛ فإنه توهّم باطل كما لا يخفى. ثم بين - صلى الله عليه وآله وسلم - لهم أنه وإن كان حلف أن لا يحملهم فليس حَمْله لهم محرّمًا عليه كما توهّموا؛ لأنه رأى أن حملهم خير من منعهم، كما بينه بقوله: «لستُ أنا حملتكم ولكن الله حملكم» كما مرّ، فرأى أن يحملهم ويكفّر عن

(24/127)


يمينه، وعبّر عن هذا بما هو أعمّ منه بيانًا للحكم وتعميمًا للفائدة. بقي مناسبة الحديث للترجمة، والظاهر أنها أخذًا من قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا أحلف على يمين ... إلا أتيت الذي هو خير وتحلّلتها»، فإنه إخبار أنه لا يحلف على يمين قط إلا تحلّلها إذا رأى غيرها خيرًا منها، فهو يستلزم أنه لا يحلف يمينًا قط إلا واجبة التحليل. واليمين التي هذا شأنها إنما هي ما كان بالله عزّ وجل، فلزم من ذلك أنه لا يحلف إلا بالله عز وجل، وهو المطلوب. وفي حواشي السِّنْدي (1) توجيه للمناسبة غير واضح، ويظهر لي أنه أراد ما ذكرته، والله أعلم. * * * * باب إذا حنث ناسيًا عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: «هزم المشركون يوم أُحُد هزيمةً تُعرف فيهم، فصرخ إبليس: أي عباد الله أخراكم! فرجعتْ أُولاهم فاجتلدت هي وأُخراهم، فنظر حذيفة بن اليمان فإذا هو بأبيه فقال أبي! أبي! قالت: فوالله ما انحجزوا حتى قتلوه، فقال حذيفة: غفر الله لكم»، قال عروة: «فوالله ما زالت في حذيفة منها بقية حتى لقي الله» (2). «حاشية السِّنْدي» (3): «(منها) أي من قِتْلة أبيه، وقوله: (بقية) أي من _________ (1) (4/ 151). (2) رقم (6668). (3) (4/ 154).

(24/128)


حزن وتحسّر، أي من قتل أبيه بذلك الوجه». أقول: ليس هذا بشيء، وإنما المراد بقوله: «منها» أي من تلك الفعلة الكريمة، وهي عفوه عنهم وقوله: غفر الله لكم. فقد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض عليه الدية فأبى أن يقبلها، وعفا عنها. وقوله: «بقية» أي بقية خيرٍ وفضلٍ وصلاح رزقه الله تعالى إياه جزاءً له على عفوه. والله أعلم. * * * * «لعن الله السارق يسرق البيضة، فتُقطع يده، ويسرق الحبل، فتُقطع يده» (1) يحتمل أن المراد الجنس، أي جنس البيضة وجنس الحبل. والله أعلم. وقد يقال: إنه على ظاهره، والبيضة قد يبلغ ثَمَنها ثلاثة دراهم في بعض البلدان وبعض الأوقات. وأما الحبل فظاهر. * * * * باب إذا أقرَّ بالحدِّ ولم يبين [هل للإمام أن يستر عليه؟] عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فجاءه رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حدًّا فأقمْه عليّ، ولم يسأله عنه، وحضرت الصلاة فصلى مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فلما قضى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الصلاة، قام إليه الرجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حدًّا فأقمْ فيَّ كتاب الله، قال: «أليس قد صلَّيتَ _________ (1) رقم (6783، 6799).

(24/129)


معنا؟» قال: نعم، قال: «فإنَّ الله قد غفر لك ذنبك» أو قال: «حدك» (1). فيه أن الصلاة تكفّر الذنوب مطلقًا وإن كانت كبائر. فإن قيل: إن هذا جاء تائبًا فلعل المغفرة إنما كانت للتوبة. قلتُ: يدفعه أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «أليس قد صليت معنا؟» فلما قال: نعم، قال: «فإن الله ... » الخ، فدل أن المغفرة كانت بسبب الصلاة فقط لترتيبها عليها بالفاء. نعم، يمكن أن يقال: إن الصلاة التي تكفر الكبائر هي التي تكون معه - صلى الله عليه وآله وسلم - بدليل قوله: «أ [ليس قد] صليت معنا؟» ولكنه قد يُدفع بأنه إنما يتم ذلك لو قال: أليس قد صليت معي، فأما قوله: «أليس قد صليت معنا؟» فالمراد به ــ والله أعلم ــ معنا معشر المسلمين. نعم، المفهوم منه أن الصلاة التي تكفّر الكبائر هي ما كانت جماعة لأنها هي التي تكون مع المسلمين، فلا تدخل الصلاة منفردًا، والله أعلم. فأما حديث: «الصلوات الخمس، [والجمعة إلى الجمعة] كفّارات لما بينهنَّ ما اجتنبت الكبائر» (2)، فإنما فيه أن أصل الصلوات الخمس لا يجب أن تكون مكفرة للكبائر، فلا يلزم أنها إذا كانت جماعةً كفَّرْتها، وهو الذي يدل عليه الحديث الأول. بقي أن يقال: لعلّه - صلى الله عليه وآله وسلم - اطلع على أن الذنب صغير، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر. _________ (1) رقم (6823). (2) أخرجه أحمد (8715) بهذا اللفظ، وهو في «صحيح مسلم» (233) بنحوه.

(24/130)


بل الظاهر أن الذي ارتكبه الرجل حدٌّ، ولا يوجب الحدَّ إلا الكبائر، واحتمال غلطه ضعيف، ولو فرض أن الله عز وجل أطلع رسولَه أن الذي ارتكبه الرجل ليس حدًّا، لبيَّنَ له ذلك، ولا يجوز أن يقرّه على ما يعلم أنه غلط. فأما احتمال أن يكون بيّن له، فلا شبهة في بطلانه. بقي أن يقال: يحتمل أن يكون هذا الرجل هو الذي جاء في الحديث الآخر أنه فعل ما دون المسّ. ويردّه أن ذاك بيّن وهذا لم يبيّن، وإنما قال: «حدًّا»، وقد قال الصحابي في هذا: «ولم يسأله عنه». * * * * باب كم التعزير والأدب عن أبي بردة (الأنصاري) رضي الله عنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «لا يُجلد فوق عشر جلدات إلا في حدٍّ من حدود الله» (1). أقول: وهذا يضعف قول من قال: إن زيادة الصحابة رضي الله عنهم حدَّ الشارب إلى ثمانين كان على وجه التعزير. فإن قيل: هذا من جملة حدود الله. قلتُ: هو من حدود الله بالنسبة إلى الأربعين التي حزروا أنها كانت مقررة في عهده - صلى الله عليه وآله وسلم - لا بالنسبة إلى الزائد. فتأمل. _________ (1) رقم (6848).

(24/131)


اللهم إلا أن يقال: لعله لم يبلغهم هذا الحديث (1). * * * * «صحيح البخاري» في كتاب الإكراه: «باب إذا أُكره حتى وهب عبدًا أو باعه لم يجز. وقال بعض الناس: فإنْ نذر المشتري فيه نذرًا فهو جائز بزعمه وكذلك إن دَبَّره». في الحاشية (2): «حاصل كلام الحنفية أن بيع المكرَه منعقد إلا أنه بيع فاسد لتعلُّق حقِّ العبد به، فيجب توقفه إلى إرضائه، إلا إذا تصرَّف فيه المشتري تصرُّفًا لا يقبل الفسخ، فحينئذ قد تعارض فيه حقّان كلٌّ منهما للعبد: حق المشتري وحق البائع، وحقُّ البائع يمكن استدراكه مع لزوم البيع بإلزام القيمة ... فالنزاع معهم في هذا الأصل ومقدماته أو تسليمه، فالفرق مقارب غير بعيد نظرًا إلى القواعد. والله تعالى أعلم». أقول: بل فيه نظر؛ لأن تصرف المشتري هو مبني على الحق الذي له، والحق الذي له غير معتبر، فكذلك ما بُني عليه. _________ (1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية لمّا ذكر هذا الحديث: «قد فسره طائفة من أهل العلم بأن المراد بحدود الله ما حُرّم لحقّ الله؛ فإنّ الحدود في لفظ الكتاب والسنة يراد بها الفصل بين الحلال والحرام، مثل: آخر الحلال وأول الحرام. فيقال في الأول: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا}، ويقال في الثاني: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}. وأما تسمية العقوبة المقدّرة: حدًّا فهو عُرف حادث. ومراد الحديث: أن من ضرب لحقِّ نفسه كضَرْب الرجل امرأته في النشوز لا يزيد على عشر جلدات» «مجموع الفتاوى»: (28/ 348). (2) «حاشية السِّنْدي» (4/ 201).

(24/132)


كتاب الاعتصام، باب قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً} عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يُجاء بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلَّغتَ؟ فيقول: نعم يا رب، فتُسأل أمَّتُه: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير، فيقال: مَنْ شهودك؟ فيقول: محمد وأمته، فيجاء بكم فتشهدون» ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قال: «عدلا» {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (1). قيل: ما فائدة شهادتنا، وإنما هي مبنية على إعلام الله تعالى لنا؟ فهلَّا اكتفى الله عز وجل بعلمه؟ وأجيب بأن الفائدة إظهار فضل هذه الأمة. وأقول: يحتمل أن يكون في الحديث دلالة أن الحاكم لا يحكم بعلمه، ولكنه إذا كان قبل المحاكمة، وقد حمّل شهادته شهودًا ثم قامت المحاكمة عنده فجاء المحمَّلون فشهدوا عنده فإنه يقبل تلك الشهادة. وتقام شهادتهم مقام شهادة الأصل، أي أن شهادة محمدٍ وأمته لنوحٍ تقام مقام شهادة الله عز وجل. فهي حجة وحدها. وأما شهادة المحمَّلين عن القاضي من الخلق، فإنما يقوم مقام شهادة مخلوق واحد. نعم، فلو كان ذلك القاضي هو خزيمة فهي وحدها حجّة، وإلا فلا. _________ (1) رقم (7349).

(24/133)


وكأنَّ مِن سرِّ هذا الحكم أن مقام القاضي وقت المحاكمة مقام المساواة، أي أنه يكون نظره إلى الخصمين نظرًا واحدًا لا يميل إلى أحدهما ولو بحقٍّ، حتى تقوم الحجة. ومنه أيضًا ــ والله أعلم ــ أن الحاكم لو أقام علمه مقام شهادته كان مظنّة التهمة. فأما إقامة علم القاضي مقام شاهدين فلا وجه له. نعم، ما وقع في المحاكمة من اعتراف ونحوه، فعلم القاضي كافٍ فيه. ومن الدليل على ذلك قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «واغدُ يا أُنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» (1). ولم يأمره أن يُشهد على اعترافها أحدًا مع أنه يمكن أن يقوم ورثتها يدّعون على أنيس أنه رجمها بغير حقٍّ. * * * * كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22]. « ... وقال مجاهد: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الحجر: 8]. بالرسالة والعذاب. {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 8]. المبلغين المؤدين من الرسل. {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. عندنا. {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} القرآن {وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33]. المؤمن يقول يوم القيامة: هذا الذي أعطيتني عملت بما فيه». _________ (1) رقم (2314، 2315) من حديث زيد بن خالد وأبي هريرة.

(24/134)


يقول كاتبه: كأنه يريد ــ والله أعلم ــ أن التقدير (و) الشخص (الذي جاء) أي يجيء يوم القيامة (بالصدق) وهو القرآن، (و) قد (صدق به) في الدنيا. وهذا تفسير واضح والحمد لله. * * * * كتاب التوحيد عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يرويه عن ربكم قال: «لكُلِّ عملٍ كفارةٌ، والصوم لي وأنا أجزي به ولخُلُوف فم الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك» (1). «حاشية السندي» (2): «نسبة الأطيبية إلى الله تعالى ــ مع أنه منزّه عنها ــ إنما هي على سبيل الغرض (الفرض) (3)، ومرّ الحديث في الصوم. اهـ شيخ الإسلام (4)». يريد أن ظاهر قوله: «أطيب عند الله» أن الله عز وجل يستطيبه أكثر مما يستطيب المسك. وأقول: هذا غير متعيّن، بل المتبادر أنه يُجاء به يوم القيامة وريحه أطيب من ريح المسك. * * * * _________ (1) رقم (7538). (2) (4/ 307) (3) هذا تصحيح من الشيخ للنص المطبوع. (4) لعله عنى العيني في «عمدة القاري»: (25/ 190) فقد ذكر ذلك.

(24/135)


كتاب التوحيد، باب ذكر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وروايته عن ربّه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما يرويه عن ربّه قال: «لا ينبغي لعبد أن يقول: إنه خير من يونس بن متَّى» ونسبه إلى أبيه (1). يقول كاتبه: هذه الرواية تدفع كثيرا من التأويلات في الحديث؛ لأن فيها أن هذا اللفظ من كلام الله تبارك وتعالى يقول: «لا ينبغي لعبد أن يقول: إنه خير من يونس بن متى». فبطل تأويل الحديث بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قاله تواضعًا، فضلًا عن كون هذا التأويل باطلًا بوجوه أُخَر: منها: أن الكذب لا يحلّ في التواضع، والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - معصوم عن الكذب. ومنها: أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - قد أخبر بفضائل لنفسه الشريفة، ولم يُعدَّ في ذلك مخِلًّا بالتواضع. ومنها: أن التواضع إنما يكون بالنسبة إلى نفسه لا بالنسبة إلى بقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والحديث عام. وبهذه الرواية أيضًا بطل التأويل بكونه عليه الصلاة والسلام قاله قبل أن يُعلمه الله تعالى، فضلًا عن كون هذا التأويل باطلًا بكونه عليه الصلاة والسلام معصومًا عن أن يقفو ما ليس له به علم. وإطلاق الحديث يدفع التقييدات التي تُدّعى، كأن يقال: إن المراد أن يقول مثلًا: أنا خير من يونس بن متى كخيريّة المؤمن على الفاسق، أو نحو ذلك مما يوهم نقصًا في يونس عليه السلام، فضلًا عن كون هذا الوجه غير _________ (1) رقم (7539).

(24/136)


معقول، فإن مجرّد إثبات الخيريّة يوهم نقصًا. فإن قيل: إنما فيه أنه لا ينبغي هذا القول لعبدٍ أن يقوله في حق نفسه، وليس فيه أنه [لا ينبغي] (1) أن يقول أحد في حقّ غيره، كأن يقول أحدنا: إبراهيم خير .... ويردّه أنه لو جاز مثل هذا لجاز ذاك، ولا فرق. فأما العُجْب فالأنبياء معصومون عنه، وقد جاء عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كثير من التحدّث بنعم الله عليهم، ومع هذا ففي الرواية الأخرى: «لا ينبغي لعبد أن يكون خيرًا من يونس بن متى» (2). بل إن هذه الرواية تنفي الأفضلية في نفسها فضلًا [عن] الإخبار بها المنهيّ عنه في قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا تفضِّلوا بين أنبياء الله» (3). والله أعلم. ويمكن الجواب عنها بأنها من تصرّف الرواة، أو محمولة على قيد مخصوص دلّت عليه سائر الأدلة. والمقام حرج والمَخْلص الوقف. والله أعلم (4). _________ (1) زيادة لابد منها ليستقيم الكلام. (2) «صحيح البخاري» (4804) ولفظه: «لا ينبغي لأحدٍ ... » من حديث عبد الله بن مسعود. (3) «صحيح البخاري» (3414) و «صحيح مسلم» (2373/ 159) من حديث أبي هريرة. (4) من (ص 119) إلى هنا من مجموع [4711].

(24/137)


[تعليق على أحاديث من «صحيح مسلم»] «صحيح مسلم» (1): عن قتادة قال: سمعت أبا السَّوَّار يحدِّث أنه سمع عمران بن حصين يحدث عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «الحياء لا يأتي إلا بخير». فقال بُشَير بن كعب: إنه مكتوب في الحكمة: أنَّ منه وقارًا ومنه سكينة، فقال عمران: أحدِّثك عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وتحدِّثني عن صُحُفك؟! وفي رواية (2): قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الحياء خيرٌ كلُّهُ»، أو قال: «الحياء كله خير»، فقال بُشَير بن كعب: إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة أنَّ منه سكينةً ووقارًا لله، ومنه ضعف. قال: فغضب عمران حتى احمرَّتا عيناه، وقال: ألا أُرَاني (3) أُحدِّثك عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وتعارض فيه؟ قال: فأعاد عمران الحديث، قال: فأعاد بُشير، فغضب عمران، قال: فما زِلْنا نقول فيه: إنه منَّا يا أبا نُجيد! إنه لا بأس به. يقول كاتبه ـــ وفقه الله ـــ: الحياء غريزة من الغرائز تحمل صاحبها على عدم إظهار ما يُعاب، لكنه تارة يوجد تامًّا وتارة يوجد ضربٌ منه. فالحياء الكامل (وهو المراد في الحديث) لا يأتي إلا بخير؛ لأن الحياء الكامل أن يستحيي المرء من ربه الذي خلقه ورزقه، ومن الناس أن يروا فيه عيبًا. _________ (1) برقم (37/ 60). وهو في البخاري (6117). (2) برقم (37/ 61). (3) في الأصل: «أرى»، والمثبت من «صحيح مسلم».

(24/138)


فربما لا يكون هناك معارضة كالاستحياء من الزناء. وربما تكون معارضة، فإذا وُجدت المعارضة فغريزة الحياء تحمل صاحبها على التخلِّص من العيب الأكبر، ولو بارتكاب الأصغر. مثلًا: نساء الأنصار اللاتي كنَّ يسألن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، تَعارضَ عندهنَّ ضربان من الحياء: الأول: الحياء من الله عز وجل ومن نبيِّه والناس أن يكنَّ جاهلاتٍ بأحكام الله؛ الذي هو مظنّة الوقوع في معصيته. والثاني: الحياء من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ومن حضره، أن يُظهرن ما يُعدُّ إظهاره عيبًا عند الناس. فحَمَلتهنّ غريزةُ الحياء على التخلص من العيب الأكبر، وهو الجهل ومظِنَّة الوقوع في المعصية، ولو بارتكاب العيب الأصغر. وكذلك ما رُوي عن المأمون ــ ما معناه ــ أنه أمر عَمًّا له شيخًا أن يتعلّم. فقال عمُّه: أليس قبيحًا بالشيخ أن يتعلَّم؟ فأجابه المأمون: إذا كان [ليس] (1) قبيحًا بالشيخ أن يكون جاهلا، فليس قبيحًا به أن يتعلَّم! أو كما قال (2). فهاهنا عيبان: أحدهما أكبر، وهو كون الشيخ جاهلًا، والآخر كون الشيخ يطلب العلم. فغريزة الحياء تحمل صاحبها على التخلُّص من الأكبر ولو بارتكاب الأصغر. وقد يمكن الجمعُ بين الأمرين، فهو حسن. _________ (1) زيادة يقتضيها السياق. (2) انظر القصة في «تاريخ دمشق»: (60/ 350)، و «أدب الدين والدنيا» للماوردي (ص 30).

(24/139)


ومثاله ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مِن أمره مَنْ أحدث وهو في المسجد أن يأخذ بأنفه ويخرج (1). فإن هاهنا عيبين أحدهما أكبر، وهو أن يصلي وهو محدث. والآخر أن يعرف الناس أنه لم يقدر يضبط نفسه عن الحدث. فغريزة الحياء تحمل صاحبها على التخلص من الأكبر، ولو بارتكاب الأصغر، ولكنه أرشده - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى التخلص منهما معًا بتلك الحيلة. وهذه الحيلة ليس فيها مَضرَّة على أحد، ولكنها من إيهام خلاف الواقع، وهو ضرب من الكذب، وإنما أُبيح للضرورة دفعًا لسفاهة السفهاء. ونظير ما ذكرنا أن الغريزة نفسها تحمل صاحبها على دفع الأكبر ولو بارتكاب الأصغر = غريزة البخل. فإن البخيل إذا علم أن حاكمًا سيحكم عليه بعشرة آلافٍ، وظنَّ أنه إن رشا الحاكم بألفين مثلًا لا يحكم عليه، فإن غريزة البخل نفسها تحمله على بذل الألفين. ومنه أمرُ عليٍّ للمقداد بسؤال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن المذي (2). وبما قرّرتُه ظهر لك واضحًا أن ما قاله - صلى الله عليه وآله وسلم - هو الواقع المعقول. وأما ما حكاه بُشير عن كتب الحكمة، فإن المراد به ضرب مما يسمَّى _________ (1) أخرجه أبو داود (1114)، وابن ماجه (1222)، وابن خزيمة (1019)، وابن حبّان (2238، 2239) وغيرهم من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مرفوعًا. وقد اختلف في وصل هذا الحديث وإرساله، قال أبو داود إثرَه: «رواه حماد بن سلمة، وأبو أسامة عن هشام عن أبيه عن النبى - صلى الله عليه وسلم - ... لم يذكرا عائشة». وقد رجَّح الترمذي الإرسال في «العلل الكبير» (1/ 306 ط. الأقصى). (2) أخرجه البخاري (132، 178، 269) ومسلم (303).

(24/140)


حياء، وإن كان مخالفًا لما تقتضيه غريزة الحياء، كاستحياء الجاهل عن تعلُّم ما يلزمه. فهذا يسمَّى حياءً لكن صاحبه إذا طاوعه فامتنع عن السؤال فإنه بذلك لم يستَحْيِ من الجهل الذي هو عيب ومظنة الوقوع في عيوب كثيرة. وبذلك يصدق عليه أنه ليس عنده غريزة الحياء الكامل؛ إذ لو كانت عنده لحملتْه على أن يراعيَ الحياء الأكبر، أعني التخلُّص من العيب الأكبر، وإن وقع في الأصغر. والله أعلم. * * * * (باب تحريم الكبر) عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا يدخل النارَ أحد في قلبه مثقال حبَّةِ خردلٍ من إيمان، ولا يدخل الجنةَ أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء» (1). ربما يُفهم منه أن المراد بالكبر هاهنا الكبر عن الإيمان. * * * * حديث مسلم (2) عن حكيم بن حزام أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: أرأيت أمورًا كنت أتحنَّث بها في الجاهلية، هل لي فيها من شيء؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أسلمتَ على ما أسلفتَ من خير». خلاصة ما قامت عليه الأدلة أن أعمال الخير مكتوبة للكافر، ولكنه إن _________ (1) رقم (91/ 148). (2) رقم (123/ 194).

(24/141)


علم الله عز وجل منه أنه يموت على كفره فإنه يجزيه بها في الدنيا موفَّاةً بلا بخس. فإذا جاء يوم القيامة لم يكن له حسنة. قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15 - 16]. وقد تقدّم صريحًا (ص 160) (1) في حديث مسلم عن أنس. وحينئذ يقال لهم: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20]. وإن علم الله عز وجل أنه يؤمن جزاه بها في الدنيا وفي الآخرة كما في حديث حكيم. فإن قيل: قد تكثر أعمال الخير من الكافر جدًّا ويقلُّ جزاؤه في الدنيا. قلتُ: إن الله عز وجل يحاسب الكافر بجميع النعم التي أنعمها عليه من الخلق والسمع والبصر والقوة وغير ذلك. فإذا نظر إلى هذا علم أن أقل نعمة من هذه النعم تفي بجميع الأعمال. فأما المؤمن فإن الله عز وجل فضلًا منه يُسامحه من هذا الحساب. وربما إذا كثرت أعمال الخير من الكافر يوفقّه الله تعالى للإيمان. _________ (1) من كنَّاشة الشيخ، ولفظ الحديث: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة؛ يُعطى بها في الدنيا ويُجزى بها في الآخرة. وأما الكافر فيُطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يُجزى بها». «صحيح مسلم» (2808/ 56).

(24/142)


فإن قيل: فقضية أبي طالب تدل أن الكافر قد يُجزى في الآخرة ببعض أعماله الخيرية. قلتُ: ليس في قصة أبي طالب أنه جُزي بعمله، وإنما قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ولولا أنا لكان في [الدَّرْك الأسفل من النار]» (1). فيحتمل أن يقال: لم يُخفَّف عنه مما يستحقه، فكل من كان مثله فإنما يستحقُّ مثل ذلك؛ لأنه لم يكن له أعمال سيئة غير التوقُّف عن التلفظ بالشهادة. وقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لولا أنا» أي كنتُ سببًا لمنعه عن ارتكاب الأعمال التي تقتضي زيادة العذاب. ويحتمل أن يقال: إنه خُفِّف عنه بشفاعة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهو المتبادر من قوله: «لولا أنا ... ». لكن يُعارض هذا قوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]، إلا أن تؤوَّل الآية في الشفاعة في الآخرة؛ وشفاعة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأبي طالب وقعت في الدنيا. أو يقال بتخصيص الآية، وفيه نظر. ويحتمل أن يقال: قد وقع التقييد في بعض الأدلة القاضية بأن الكافر يوفَّى جزاءه في الدنيا بمن يريد الحياة الدنيا وزينتها. فإذا حُمل المطلق على المقيَّد، احتمل أن مَن كان مِن الكفَّار يريد الآخرة كضُلَّال أهلِ الكتاب ربما يُجزى في الآخرة ببعض أعماله فيخفَّف عنه العذاب، فلعلَّ أبا طالبٍ كذلك. _________ (1) أخرجه البخاري (3883) ومسلم (209/ 357).

(24/143)


ويحتمل أن يقال: إن أبا طالب يجازى بأعماله الخيرية خصوصيةً للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فيكون ذلك مخصِّصًا لعموم الأدلة. وهذا أضعف الوجوه. بقيت قصَّة أبي لهب (1). وقصة أبي لهب رؤيا رآها بعض أهله، فإن صحَّت تعيَّن فيها أن يُقال: خصوصية للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. والله أعلم. [فائدة:] قول المفسرين والبيانيين وغيرهم: إن كلمة «يُطاع» في قوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} لا مفهوم له وليس بقَيدٍ = فيه نظر للحديث الصحيح أن إبراهيم عليه السلام يلقى أباه يوم القيامة ويشفع له (2). * * * * الحمد لله. في حديث الأشعث بن قيس عند مسلم (3): « ... كان بيني وبين رجلٍ أرض باليمن فخاصمتُه إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: فقال: «هل لك بيّنة؟» فقلتُ: لا، قال: «فيمينه»، قلتُ: إذن يحلف!». وفي رواية (4): «فقال: شاهداك أو يمينه». يحتج من لا يقول بحجِّية الشاهد الواحد مع اليمين بقوله: «شاهداك أو _________ (1) في «صحيح البخاري» (5101). (2) أخرجه البخاري (3350). (3) رقم (138/ 220). (4) رقم (138/ 221).

(24/144)


يمينه». ولا يخفى أن هذا اللفظ لم تتفق عليه الروايات، بل في بعضها إطلاق البيِّنة. ولا شك أن الواقعة واحدة، والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يتكلَّم بها جميعًا، وإنما تكلَّم بواحدة منها، أو بما في معنى واحدة منها. فلا يصحُّ الاحتجاج إلا بالمعنى المشترك بينها كلِّها. وقد قال لي قائل في مثل هذا: يُحمل المطلق على المقيد. فأجبته بأن حَمْل المطلق على المقيد إنما يكون في النصَّين الثابتين. وقد قدَّمتُ أن هذا ليس من ذلك، لظهور أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يتكلَّم بالجميع. فتأمل. ومثل هذا يقال في حديث صُلْح الحديبية، فإن في بعض الروايات لفظ «رجل» (1)، وفي بعضها: «من» (2)، ولا ندري أيُّ اللفظين وقع في العهد. وقد رجَّح الشافعي (3) دخول النساء بأن الله عز وجل أمر بإعطاء ما أنفقوا، ولو لم يدخلْن لما أمرلهم بشيءٍ. وفيه نظر من وجهين: الأول: أن عدم دخولهن في العهد لا يقتضي عدم ردِّهن بل يَبْقَين مسكوتًا عنهنَّ. والمسكوت عنه في المعاهدات إما أن يُلحق بما دخل قياسًا، وإما أن يتفاوض فيه المتعاهدان ليتَّفقا على حلٍّ مرضيٍّ. _________ (1) أخرجه البخاري (2731، 2732) من حديث المِسور بن مخرمة الطويل وفيه: «لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا». (2) أخرجه مسلم (1784/ 93) من حديث أنس بلفظ: «ومن جاءكم منا رددتموه». (3) في «الأم» (5/ 462 وما بعده) ط. دار الوفاء.

(24/145)


والقياس هنا غير واضح، كما يظهر للمتأمل. فلم يبق إلا المفاوضة، فأرشد الله عز وجل إلى إرجاع النفقة، فرضي الفريقان بذلك. والوجه الثاني: أن إعطاء النفقة للكفار جُعل في مقابله إعطاؤهم للمسلمين نفقة من يرتدُّ من نسائهم. مع أنه ليس في المعاهدة الأولى أن على الكفار إرجاع نساء المؤمنين ولا عدمه، بل هنَّ أيضًا مسكوت عنهن. فتبيَّن من هذا أنه اتفاق آخر. والله أعلم. * * * * باب الإسراء عن ابن عباس قال: سرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بين مكة والمدينة، فمررنا بواد فقال: «أيُّ واد هذا؟» فقالوا: وادي الأزرق، فقال: «كأني أنظر إلى موسى - صلى الله عليه وسلم - ــ فذكر من لونه وشعره شيئًا لم يحفظه داود (أحد الرواة) ــ واضعًا أصبعيه في أُذُنيه له جُؤَار إلى الله بالتلبية مارًّا بهذا الوادي» (1). يقول كاتبه: يؤخذ منه استحباب وضع السبابتين في الأذنين عند الأذان لزيادة رفع الصوت. فأما ما في «البخاري» أن ابن عمر كان لا يفعله، ويُذكر أن بلالًا كان يفعله (2)، فالظاهر ــ والله أعلم ــ أن ابن عمر لم يكن يقصد زيادة رفع الصوت كما كان يقصده بلال، أو كان صوته عاليًا بحيث لا يحتاج إلى ذلك، _________ (1) رقم (166/ 269) (2) علَّقه البخاري في كتاب الأذان، باب: هل يتتبع المؤذن فاه هاهنا وهاهنا؟

(24/146)


أو لم يبلغه هذا الحديث. والحاصل أن وضع الأصبعين في الأذنين ليس سنةً مقصودًا لذاته حتى يندب في كلِّ أذان. وإنما المقصود منه الإعانة على رفع الصوت، فإن أراد الإنسان زيادة رفع الصوت فعله. وقد ثبت أن رفع الصوت في الأذان سنة، وما يُستعان به على السنة يكون له حكمها. والله أعلم. ويؤخذ من الحديث أيضًا: استحباب رفع الصوت بالتلبية بأقصى ما يمكن. نعم، رفع الصوت بالأذان مطلوب ولكن لا إلى حدّ أن يشقَّ على صاحبه، فكذا في التلبية. والله أعلم. * * * * في «صحيح مسلم» (1) عن عائشة أن أسماء سألت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن غسل المحيض، فقال: «تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتَطهَّرُ فتحسن الطهورَ، ثم تصبُّ على رأسها فتَدلُكُه دلكًا شديدًا حتى تبلغ شؤون رأسها ... »، وسألته عن غسل الجنابة فقال: «تأخذ ماءً فتطهَّر فتُحسن الطهور ــ أو تُبلِغ الطهور ــ ثم تصب على رأسها فتدلُكُه حتى تبلغ شؤون رأسها ... ». وفيه أيضًا (2) عن أمِّ سلمة قالت: قلتُ: يا رسول الله إني امرأة أَشُدُّ ضَفْر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: «لا، إنما يكفيكِ أن تَحْثِي على رأسك ثلاث حَثَيات، ثم تُفيضين عليك الماء فتَطْهرين». _________ (1) رقم (332/ 61). (2) رقم (330/ 58).

(24/147)


وفيه (1) عن عائشة أنه بلغها أن عبد الله بن عَمْرو يأمر النساء إذا اغتسلْن أن ينقضن رؤوسهن، فقالت: «لقد كنتُ أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من إناء واحد، ولا أزيد على أن أُفرِغ على رأسي ثلاث إفراغات». قد يُتوهَّم بين الأحاديث معارضة. والظاهر أن وصول الماء إلى (2) بشرة الرأس لا بدَّ منه. وأما باطن الشعر فتكفي فيه ثلاث حثيات. وبهذا تتفق الأحاديث. وفي «مسلم» (3) أحاديث أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثًا». وفيه (4) عن جابر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا اغتسل من جنابة صبَّ على رأسه ثلاث حفناتٍ من ماء. فقال الحسن بن محمد: إن شعري كثير. قال جابر: فقلت له: يا ابنَ أخي كان شعر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أكثر من شعرك وأطيب. وفيه (5) عن عائشة: «كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا اغتسل من الجنابة ... ثم يتوضَّأ وضوءه للصلاة، ثمَّ يأخذ الماء فيُدخل أصابِعَه في أصول الشعر. حتَّى إذا رَأَى أن قد استبرأ، حَفَنَ على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض على سائر جسده، ثمَّ غسل رجليه». _________ (1) رقم (331/ 58). (2) في الأصل: «إلا» سبق قلم. (3) برقم (327) من حديث جبير بن مطعم، وأخرجه البخاري (254). (4) برقم (329). (5) برقم (316)، وأخرجه البخاري (254).

(24/148)


فتبيَّن بهذا أن الثلاث الحفنات إنما هي بعد إيصال الماء إلى بشرة الرأس، والثلاث الحفنات إنما هي لأجل بواطن الشعر. فاتفقت الأحاديث على أن وصول الماء إلى بشرة الرأس لا بد منه. وأما الشعر فيكفي له ثلاث حفنات مُطلقًا. والله أعلم. * * * * (باب ما يجمع صفة الصلاة) (1) عن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا سجد خَوَّى بيديه ــ يعني جَنّح ــ حتى يُرى وَضَحُ إبطيه من ورائه، وإذا قعد اطمأَنَّ على فخذه اليسرى». أقول: ظاهر هذا أنها تريد التورُّك، فيكون الحديث دليلًا عليه. * * * * باب سترة المصلِّي عن الحكم قال: سمعت أبا جحيفة قال: «خرج رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بالهاجرة إلى البطحاء فتوضأ فصلَّى الظهر ركعتين، والعصر ركعتين وبين يديه عَنَزة» (2). أقول: ظاهره أنه جَمَع تقديمًا (3). _________ (1) برقم (497/ 238). (2) برقم (503/ 252). (3) ما سبق من التعليقات من مجموع [4711].

(24/149)


باب ما يتعلَّق بالقراءات (1) عن [إبراهيم قال: أتى] علقمة الشام، فدخل مسجدًا فصلَّى فيه، ثم قام إلى حلقة فجلس فيها. قال: «فجاء رجل فعرفتُ فيه تَحَوُّشَ القوم وهيئتهم (يعني أبا الدرداء) ... ». قال المُحشِّي (2): «تحوش القوم وهيئتهم: أي اجتماعهم حوله وانقباضهم عنِّي». يقول كاتبه: بل التحوُّش هنا الاستحياء والانقباض. والمراد بالقوم الصحابة. يقول علقمة: عرفتُ في هذا الرجل استحياءَ الصحابة وانقباضهم وهيئتهم، فعرفت أنَّه صحابي. والله أعلم. * * * * في «صحيح مسلم» في حديث الركعتين بعد العصر (3): «إنه أتاني ناسٌ من عبد القيس بالإسلام من قومهم فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان». ففيه أن كراهة الصلاة بعد العصر كان قبل قدوم وفد عبد القيس. وفيه _________ (1) برقم (824/ 283). (2) ينقل المؤلف عن حاشية على صحيح مسلم، لعلها لأحد علماء الهند. وهذا التفسير الذي ذكره قاله القاضي عياض احتمالًا، وذكر قبله المعنى الذي ذكره المؤلف، وبه جزم النووي. (3) برقم (834/ 297)

(24/150)


حديث عَمْرو بن عَبَسة (1) وفيه ذِكر أوقات الكراهة. وكان قدومه على ما في «الإصابة» (2) بعد خيبر قبل الفتح. * * * * في حديث الزكاة (3): « ... ولا صاحبَ كنزٍ لا يفعل فيه حقَّه، إلا جاء كنزُه يوم القيامة شُجاعًا أقرع يتبعه فاتحًا فاه، فإذا أتاه فرَّ منه فيناديه: خذ كنزك الذي خبَأْته فأنا عنه غني ... ». ذكر في «حواشي صحيح مسلم» عن ابن المَلَك (4) أن فاعل «يناديه» ضمير يعود على الكنز؛ ومستنده عدم تقدُّم مرجع غيره، وما جاء في بعض الروايات أن الكنز يقول لصاحبه: «أنا مالك، أنا كنزك» (5). والصواب: أن الفاعل ضمير يعود إلى الله عز وجل وإن كان غير مذكور فهو معلوم من المقام كما في {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32]. ويبيِّن ذلك قوله: «فأنا عنه غني». وفي بعض الروايات: «يتبع صاحبه حيثما ذهب، وهو يفرُّ منه، ويقال: _________ (1) برقم (832) (2) (7/ 422) ط. دار هجر. (3) برقم (988/ 27) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (4) كذا، وهو معروف بابن ملك، عبد اللطيف بن عبد العزيز بن فِرِشتا الكرماني (ت 801)، له «مبارق الأزهار في شرح مشارق الأنوار». انظر «الفوائد البهية» (ص 107)، و «الأعلام»: (4/ 59). (5) أخرجه البخاري (1403، 4565) من حديث أبي هريرة.

(24/151)


هذا مالُك الذي كنتَ تبخَلُ به» (1). فالكنز نفسه يدعوه: «أنا كنزك أنا مالك»، والباري تعالى يناديه: «خذ كنزك الذي خبأته فأنا عنه غني». وأما قول: «هذا مالك الذي كنت تبخل به» فلعلّه معنى قوله: «خذ كنزك الذي خبَأْته»؛ رُوي بالمعنى. والله أعلم. * * * * الحمد لله. في حديث الصدقة (2): «لا يتصدَّق أحدٌ بتمرة من كسبٍ طيِّب إلا أخذها الله بيمينه فيربِّيها كما يُربِّي أحدُكم فلوَّه أو قَلُوصَه حتى تكون مثل الجبل أو أعظم». فسَّروا التربية بمطلق الزيادة، أي أن الله عز وجل يضاعفها أضعافًا كثيرة. وفي هذا نظر لضعف مطابقته للفظ التربية وللتمثيل بتربية أحدنا الفلوَّ. والصواب: أن الله عز وجل يأخذها ويضاعفها الأضعاف التي يريدها، ثمَّ كلَّما وقع في الكون خير مسبَّبٌ عنها ضمَّ مثلَ أجره إليها. فإذا تصدَّق أحدُنا بتمرة أخذها الله عز وجل وضاعفها، ثمَّ إذا اقتدى به آخر فتصدَّق، ضمَّ الله عز وجل مثلَ أجر هذا الآخر إلى تلك التمرة. وهكذا _________ (1) برقم (988/ 28). (2) «صحيح مسلم» برقم (1014/ 64) من حديث أبي هريرة. وهو في «صحيح البخاري» (1410، 7430).

(24/152)


في الصدقات المتسلسلة. وإذا استعان المتصدَّق عليه بالتمرة أو أحد المتصدَّق عليهم بالصدقات المتسلسلة عنها على فعل طاعة = ضمَّ الله عز وجل مثل أجره إلى تلك التمرة. وإذا استعان بها على زواج فكذلك. وكذا من يتولَّد من الناس ولتلك التمرة أو الصدقات المتسلسلة عنها علاقة في تولُّده، فكلَّما عمل خيرًا ضمَّ الله عز وجل مثل أجره إلى التمرة. وكذا كلُّ من يتولَّد من ذلك المولود إلى يوم القيامة. والله أعلم. * * * * في حديث مسلم (1): «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] , وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ثم ذكر الرجل يُطيل السفر أشعثَ أغبرَ يمدُّ يديه إلى السماء: يا ربِّ! يا ربِّ! ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟». أقول: في هذا الحديث دليل على أن المراد بالطيبات في الآيتين الحلال لا اللذائذ. والله أعلم. * * * * _________ (1) رقم (1015).

(24/153)


في حديث الصدقة (1): «[قال رجل: لأتصدَّقنَّ اللَّيلةَ بصدقة] فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية فأصبحوا يتحدَّثون: تُصدِّق الليلة على زانية! قال: اللهم لك الحمد على زانية ... ». قوله: «اللهم لك الحمد» أي على كلِّ حال، ثمَّ استأنف فقال: «على زانية» أي أَعلى زانية؟! من باب الاستفهام الإنكاري، أي أتصدَّقتُ على زانيةٍ؟ وهكذا في الموضعَين الآخرين. * * * * في «صحيح مسلم» (2) عن أبي أُمامة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «يا ابن آدم إنك أن تَبذُل الفضلَ خيرٌ لك، وأن تُمسِكَه شرٌّ لك، ولا تُلام على كفاف، وابدأ بمن تعول». وفيه (3): «أفضل الصدقة ــ أو خير الصدقة ــ عن ظهر غنًى». نقل المحشِّي عن ابن المَلَك (4) وغيره: أنه قد يُشكل هذا مع حديث: «أفضل الصدقة جُهد المقلِّ» (5)، وذكر الجواب عنه بما فيه نظر. _________ (1) برقم (1022). (2) برقم (1036). (3) برقم (1034) من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه. (4) انظر عن «المحشي، وابن الملك» ما تقدم (ص 150). (5) أخرجه أحمد (8702) وأبو داود (1677) وابن خزيمة (2444، 2451) وابن حبان (3346) والحاكم (1/ 414) من حديث أبي هريرة، وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم»، ولم يتعقَّبه الذهبي. وروي أيضًا من حديث عبد الله بن حبشي عند أحمد (15401)، وأبي داود (1449) وغيرهما بإسناد حسن.

(24/154)


وأقول: إنه لا منافاة؛ فإن المراد بالغنى الكفاف، بمعنى أنَّ أفضل الصدقة ما لم تخلَّ بالكفاف. أي ما تركتْ لصاحبها ما يكفيه. والمقصود أن المتصدِّق له حالان: الأولى: أن يتصدَّق وقد بقي له ما يكفيه. الثانية: أن يتصدَّق بقوته الذي هو محتاج إليه. فالأولى أفضل. وقوله في الحديث الآخر: «جهد المقل» لا ينافي هذا؛ لأن جهد المقلِّ المراد به أقصى ما قدر عليه حيث لم يبق له غير الكفاف. والحاصل أن للمتصدِّق في نفس الأمر ثلاثة أحوال: الأولى: أن يتصدَّق وقد بقي عنده أكثر مما يكفيه. الثانية: أن يتصدَّق وقد بقي عنده ما يكفيه فقط. الثالثة: أن يتصدَّق بقوته ويبقى محتاجًا. فقوله: «عن ظهر غنى» يشمل الحالين الأوليين. وإنما فَضَّلهما بالنسبة إلى الثالثة. وقوله: «جهد المقلِّ» فَضَّل فيه الثانية على الأولى. نعم، إنما يشكل ما جاء في فضل الإيثار لقوله عز وجل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. والجواب: أن جهد المقل أفضل من الإيثار غالبًا، ولكن قد يكون الإيثار أفضل في بعض المواطن كحال الصحابي وزوجته اللذَين آثرا ضيف

(24/155)


رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على أنفسهما وأطفالهما (1). فلمَّا كان الضيفُ ضيفَ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، والإيثار هنا لا يؤدِّي إلى هلاك الموثِر أوتضرُّره ضررًا شديدًا = كان محمودًا. فأما لو أن رجلًا ذا بيت آثر سائلًا من المتكفِّفين على الأبواب فهذا غير محمود؛ لأن هذا السائل إذا لم يصبْ شيئًا من هذا البيت فإنه سيصيب من غيره؛ فلا معنى لإيثاره، ولاسيَّما إذا أدَّى الإيثار إلى هلاك المؤثِر أو تضرُّره. والله أعلم. * * * * عند مسلم (2) في حديث ابن عبَّاس في شأن هلال رمضان أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إن الله مدَّه للرؤية». وفي رواية (3): «إن الله قد أمدَّه لرؤيته، فإن أُغمي عليكم فأكملوا العدة». وهذا الحديث أصرح من غيره في أن ابتداء الشهر لا يعتبر بمجرَّد مجاوزة الهلال الشمسَ، وكذا بمجرَّد إمكان الرؤية. وإنما يدخل بالرؤية نفسها أو إكمال ثلاثين. والله أعلم. * * * * _________ (1) أخرجه مسلم برقم (2054). (2) برقم (1088/ 29). (3) برقم (1088/ 30).

(24/156)


في «مسلم» (1) في باب النهي عن الوصال عن أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يصلِّي في رمضان فجئت فقمت إلى جنبه وجاء رجل آخر فقام أيضًا حتى كنا رهطًا، فلما حسَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنّا خلفه جعل يتجوَّز في الصلاة ثم دخل رحله فصلى صلاة لا يصلِّيها عندنا. قال: قلنا له حين أصبحنا: أفطِنْتَ لنا الليلة؟ قال: فقال: «نعم، فذلك الذي حملني على الذي صنعت» .... أقول: فيه صلاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - النافلة في المسجد لغير حاجة. فإن قيل: يحتمل أن يكون معتكفًا. قلتُ: المعتكف تكون حجرته في المسجد بمنزلـ[ـة] بيته، فيصلِّي النفل فيها، لا في باقي المسجد. وصلاته - صلى الله عليه وآله وسلم - في هذا الحديث كانت في غير المعتكَف لقوله: «ثم دخل رحله فصلَّى». فإن لم يكن معتكفًا فالمراد دخل بيته. وإن كان معتكِفًا فالمراد دخل معتكَفه؛ لأن المعتكِف لا يدخل بيته. وعلى التقديرين (2) فالصلاة كانت في المسجد في غير الحجرة المعتكَف [فيها]. فإن قيل: لعلَّه لبيان الجواز. قلتُ: الذي يُفعل لبيان الجواز إنما يكون في مظنَّة مشاهدة الناس، وظاهر السياق هنا يخالف ذلك. _________ (1) برقم (1104/ 59). (2) في الأصل: «التقدير» سبق قلم.

(24/157)


فإن قيل: لعلَّ هذا خاص بقيام رمضان. قلتُ: يردُّه سبب قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فإن صلاة المرء في بيته خيرٌ له إلا المكتوبة» (1)؛ فإن السبب في هذا الحديث قيام رمضان، ودخول السبب ضروري. فما بقي إلا أن يدَّعى أن المعتكِف يصلِّي أينما شاء في المسجد، ولو في غير حجرته أو يخصُّ تفضيل الصلاة في البيت على المسجد بما إذا كان هناك من يعلم به. فأما إذا أمكنه أن يصلِّي في المسجد في حين يظن أنه لا يعلم به أحد، فالصلاة في المسجد مساوية للصلاة في البيت أو أفضل، وتكون العلة حينئذ خشية العجب والرئاء وثناء الناس؛ فإن ثناء الناس ينقص من الأجر، وإن لم يكن هناك عجب ولا رئاء. أو يقال: هذا من فعله - صلى الله عليه وآله وسلم - فلا يُخصُّ به عموم قوله، فيكون في حقه - صلى الله عليه وآله وسلم - الصلاة في بيته وفي مسجده سواء. وأما غيره ففي البيت أفضل إلا المكتوبة كما دلَّ عليه عموم الحديث والله أعلم. ولعل هذا الأخير أقرب إلى القواعد. * * * * الحمد لله. في «صحيح مسلم» (2) عن ابن عبَّاس: «ما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - _________ (1) أخرجه البخاري (731، 6113، 7290) ومسلم (781/ 213). (2) (1132/ 131).

(24/158)


صام يومًا يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم (يوم عاشوراء) ولا شهرًا إلا هذا الشهر. يعني رمضان». في هذا دليل على تساوي ما عدا يوم عاشوراء من الأيام في مشروعية التطوّع بالصيام. فلا يُعْدَل عن هذه الكلية إلا بحجَّة صحيحة. والمقصود أنه لا يكفي في معارضة هذا ما جاء من الأحاديث الضعاف، وإن مُشي على رأي النووي ومن تابعه في جواز العمل بالضعيف بشرطه. والله أعلم. * * * * الحمد لله. في حديث تلبية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن عمر وابنه عبد الله كانا يزيدان فيها (1). فقد يُستدل به على جواز الزيادة على الأدعية المأثورة. والجواب: أن غاية ما فيه دلالته على أنهما كانا يريان جواز الزيادة في التلبية، وهو لا يدلُّ على أنهما يريان الجواز في غيرها من الأدعية والأذكار. وفي حديث جابر (2): أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كانوا يلبُّون بغير تلبيته، فلم ينكر عليهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولزم هو تلبيته. فيحتمل أن منهم من كان يلبِّي مثل تلبيته - صلى الله عليه وآله وسلم - ويزيد عليها ولم ينكر عليه - صلى الله عليه وآله وسلم -، فأخذ عمر وابنه بذلك. والمقصود أن جواز الزيادة هنا عُلِم من تقريره - صلى الله عليه وآله وسلم -، فلا يدل على جواز _________ (1) مسلم (1184). (2) أخرجه مسلم (1218/ 147).

(24/159)


الزيادة في جميع الأدعية والأذكار؛ لأن جواز الزيادة في موضع لا يدل على الجواز في آخر مع عدم العلم باتحاد السبب. ومع ذلك فإقراره - صلى الله عليه وآله وسلم - لهم إنما يدل على الجواز فقط، وإلا فالأفضل ما لزمه هو بأبي وأمّي. وأيضًا ففعل عمر وابنه، وإن كان مما يُستأنس به فليس بحجَّة إذا عارضه ما هو أقوى منه كما هو مقرَّر في محلِّه. والله أعلم. * * * * الحمد لله. في حديث جابر (1) في حجَّة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فرماها بسبع حصيات، يكبِّر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخَذْف». قال المحشِّي: «فقوله: «مثل» صفة بعد صفة لحصاة، فهو قاعد في محله، ليس بزائد كما ظنَّه النووي» (2). _________ (1) برقم (1218/ 147). (2) قال النووي في شرح مسلم: (8/ 191): «قوله: «فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها حصى الخذف» فهكذا هو في النسخ، وكذا نقله القاضي عياض عن معظم النسخ قال: وصوابه: «مثل حصى الخذف» قال: وكذلك رواه غير مسلم، وكذا رواه بعض رواة مسلم هذا كلام القاضي. قلت: والذي في النسخ من غير لفظة «مثل» هو الصواب بل لا يتجّه غيره ولا يتم الكلام إلّا كذلك، ويكون قوله: «حصى الخذف» متعلقًا بـ «حصيات» أي رماها بسبع حصيات حصى الخذف، يكبر مع كل حصاة فـ «حصى الخذف» متصل بـ «حصيات» واعترض بينهما «يكبر مع كل حصاة» وهذا هو الصواب. والله أعلم».

(24/160)


أقول: جعْله صفةً لحصاة، وإن صحَّ لفظًا، فلا يخفى بُعده أو بطلانه في المعنى. فالوجه أنه صفة لحصيات. * * * * الحمد لله. لم يُنقل كم حجَّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قبل أن يهاجر إلا أن حديث جبير بن مطعم (1) أنه رأى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم عرفة بعرفة (والسياق ظاهر في أنه قبل الهجرة) = يثبت به حجَّة واحدة. والله أعلم. * * * * الحمد لله. حديث مسلم (2) عن ابن مسعود قال: «ما رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صلى صلاة إلا لميقاتها، إلا صلاتين: صلاةَ المغرب والعشاء بجَمْعٍ، وصلَّى الفجر يومئذ قبل ميقاتها». وفي رواية: «قبل وقتها بغلس». قال المُحشِّي: «وهذا ينادي بأعلى صوته وبمنطوقه لا بمفهومه أن الوقت المعتاد في صلاة الصبح هو المضيئُ المعبَّر عنه بالإسفار ــ كما هو مذهبنا ــ دون التغليس». _________ (1) برقم (1220). (2) برقم (1289).

(24/161)


أقول: كأنّ الرجل لا يعرف المنطوق من المفهوم! ولا يخفى أنه (1) من طلوع الفجر الصادق إلى الإسفار. * * * * في حديث المدينة (2): «لا يصبر أحد على لَأْوائها [فيموت]، إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة [إذا كان مسلمًا]». أقول: أراد ــ والله أعلم ــ الشفاعة الخاصة، وهي ما تكون في مغفرة الذنوب. ولهذا قال: «شفيعًا أو شهيدًا»؛ لأن الصابر قد لا يكون له ذنوب تتوقَّف مغفرتها على الشفاعة لكثرة حسناته، فهذا يكون له شهيدًا. والله أعلم. * * * * في «مسلم» (3) عن معمر بن عبد الله: [إني] كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «الطعام بالطعام مثلًا بمثل» قال: وكان طعامنا يومئذ الشعير. هذا الحديث حجَّة في أن الأطعمة كلُّها ربوية، ولكن (4) يحتمل أن يُحمل على البرِّ والشعير فقط، بدلالة أنه لما فصَّل لم يَذكر غيرَهما، ويعتضد بقول الصحابي: وكان طعامنا يومئذ الشعير. _________ (1) في الأصل: «أن»، ولعل المثبت هو الصواب، ويكون الضمير راجعًا إلى الوقت المعتاد. (2) برقم (1374/ 477) من حديث أبي سعيد الخدري. (3) برقم (1592). (4) بعده كلمة رسمها يحتمل: «ألا»، والسياق مستقيم بدونها.

(24/162)


والظاهر بقاء الطعام على عمومه، والحديث حجَّة على من يخصُّ الربا بالست. وعن أبي سعيد (1) قال: أُتي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بتمر، فقال: «ما هذا التمرُ من تمرنا» فقال الرجل: يا رسول الله، بعنا تمرنا صاعين بصاع من هذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «هذا الرِّبا فردوه، ثم بِيعوا تمرَنا واشتروا لنا من هذا». وفيه (2) عن أبي هريرة وأبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بعث أخا بني عدي الأنصاري، فاستعمله على خيبر، فقدم بتمر جَنِيب، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أكُلُّ تمر خيبرَ هكذا؟» قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا تفعلوا، ولكن مثلًا بمثل، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا، وكذلك الميزان». قوله: «وكذلك الميزان» ظاهره جواز بيع التمر بالتمر وزنا بوزن. * * * * الجهاد ــ باب بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر (3) عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «يضحك الله إلى رجلين، يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة»، فقالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: «يقاتل هذا في سبيل الله عز وجل فيستشهد، ثم يتوب الله على القاتل فيُسلم، _________ (1) برقم (1594/ 97). (2) برقم (1593/ 94). (3) برقم (1890/ 128).

(24/163)


فيقاتل في سبيل الله عز وجل فيستشهد». في الحديث دليل قوي أن القاتل عمدًا لا يدخل الجنَّة إلا إن كان كافرًا ثمَّ أسلم. وما في الحديث من اشتراط استشهاد الثاني، تدل أحاديث جَبِّ الإسلام لما قبله على أنه شرطٌ لضحك الله عز وجل لا لأصل الدخول. والله أعلم. وحديث الذي قتل تسعة وتسعين ثم ذهب يسأل عن التوبة إلخ (1)، لعلَّه يحتمل ــ والله أعلم ــ أنه قتلهم وهو كافر ثمَّ جاء يسأل هل يتوب الله عليه إن أسلم، فلمَّا أخبره المسؤول أنه لا توبة له قتله وهو حينئذ باقٍ على كفره، ثم لمَّا أخبره الثاني أنَّ له توبةً أسلم. والله أعلم. * * * * باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام (2) «لا تبدءوا اليهود و [لا] النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطرُّوه إلى أَضْيَقه». أي ــ والله أعلم ــ اضطروه إلى حيث يواجهكم فيضطرُّ إلى أن يبدأكم بالسلام، فيظهر بذلك مقتضى كونه ذمِّيًّا، ولا تَدَعوه يمرُّ بعيدًا عنكم فلا يضطرُّ إلى بدئكم بالسلام. * * * * _________ (1) أخرجه البخاري (3470) ومسلم (2766) من حديث أبي سعيد الخدري. (2) برقم (2167).

(24/164)


في «صحيح مسلم» (1)، في فضائل سعد، وقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - له: «ارمِ فداك أبي وأمِّي». قال المحشِّي: «وفي هذه التفدية إشارة إلى أن أبويه ــ عليه الصلاة والسلام ــ معزَّزان عنده، فكيف يقال في حقِّهما ما يقال، عفا الله عنَّا وعمَّن قال». أقول: الذي آذى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما هو الذي يخوض في هذا البحث مع عدم الضرورة إليه. فأما من اضطُرَّ، فقال ما أدَّاه إليه الدليل، فهو معذور. ثمَّ إن قولهم: «فداك أبي وأمي» لا يُقصد بها حقيقتها، كيف وأبواه - صلى الله عليه وآله وسلم - كانا قد ماتا؟ وإنما المقصود بهذه العبارة إظهار محبة المفدَّى. فإن قلت: لعلَّ المراد فَدَياك في الآخرة، كان هذا عكس مراد المحشِّي. والتحقيق ما قلنا، على أنَّ أبوي الرجل عزيزان عنده ولو كانا ... (2). وفي «الصحيح» (3) زيارته - صلى الله عليه وآله وسلم - قبر أمِّه وما قال حينئذ. وفي «الصحيح» (4) أيضًا خبر إبراهيم - عليهم السلام - وشفاعته لأبيه يوم القيامة. وقد مرَّ في فضائل عمر تفديته النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بأبيه وأمّه (5) مع أنَّهما ماتا _________ (1) برقم (2411). (2) لم يكمل المؤلف العبارة اكتفاءً بمعرفة القارئ للمراد. (3) «صحيح مسلم» (976) من حديث أبي هريرة. (4) «صحيح البخاري» (3350) من حديث أبي هريرة. (5) الذي في «صحيح مسلم» (2395) أنه فدَّاه بأبيه فقط. وفي رواية البخاري (7023) تفديته بهما معًا بلفظ: «أعليك ــ بأبي أنت وأمي يا رسول الله ــ أغار؟».

(24/165)


مشركَين، ولم يُنكر عليه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ذلك، ولا فهم أحد من ذلك أنه احتقر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لكونه فداه بمشركَين، ولا أنه كان أبواه عزيزين عليه إلى الحدِّ الذي يأباه عليه الإيمان. وقد جاء مثله عن جماعة من الصحابة. والحاصل أن هذه الصيغة انسلخت من معناها كما انسلخ قوله: «تربت يداك» (1)، فلا دلالة فيها إلا على محبة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سعدًا وشكرِه له. والله أعلم. * * * * في فضائل خديجة (2) [عن هشام، عن أبيه، قال: سمعت عبد الله بن جعفر يقول]: سمعت عليًّا بالكوفة يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد». قال أبو كريب: وأشار وكيع إلى السماء والأرض. قال المحشِّي عن النووي (3): « ... وأن المراد به جميع نساء الأرض، أي كل مَن بين السماء والأرض مِن النساء. والأظهر أنَّ معناه أن كلَّ واحدة _________ (1) ورد ذلك في عدَّة أحاديث، أشهرها حديث أبي هريرة: «تُنكح المرأة لأربعٍ لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك». أخرجه البخاري (5090) ومسلم (1466). (2) برقم (2430). (3) «شرح النووي» (15/ 198).

(24/166)


منهما خير نساء الأرض. وأمَّا التفضيل بينهما فمسكوت عنه». أقول: بل الظاهر أنه فسَّر الضمير الأول بالسماء والثاني بالأرض. أي خير نساء السماء مريم وخير نساء الأرض خديجة. يعني أن مريم قد توفِّيت ورجعت روحها إلى الجنَّة، والجنَّة في السماء. وأما خديجة فكانت في قيد الحياة. وهذا التفسير من وكيع إنْ كان روايةً فذاك، وإلا فصحَّته تتوقَّف على أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال هذا في حياة خديجة رضي الله عنها. * * * * في قصَّة جُريج عند مسلم (1): «ولو دَعَتْ عليه أن يُفتَن لَفُتِن». * ففي هذا استجابة الدعاء بالفتنة وجوازه. والله أعلم. ولا بدَّ من تقييده، فلينظرْ. ولعله خاص بالمظلوم على ظالمه المتمادي في ظلمه. ومما يُضعف الإشكال أنه ليس المقصود ظاهر الأمر من إرادة أن يعصي الله تعالى، وإنما المقصود غاية ذلك من العقوبة. فكما يجوز الدعاء على الظالم أن يعذِّبه الله تعالى فقط، يجوز الدعاء بأن يجري له ما هو سبب العذاب ليعذَّب أو يعاقَب. وقد دلَّ القرآن بأن العقوبة على الذنب قد يكون بإيقاع المُذنب في ذنب آخر. فكأنَّ الداعي على الظالم إنما دعا عليه بشيء يجوز أن يكون عقوبة ظلمه. والله أعلم. ومنه دعوة سعد على أبي سعدة: «وعرِّضه للفتن» (2)، ودعوة موسى _________ (1) برقم (2550/ 7). (2) أخرجه البخاري (755) من حديث جابر بن سمرة.

(24/167)


وهارون - رضي الله عنه - على فرعون وقومه: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88]. ويقاربه الدعاء للمؤمن بالشهادة فإنها تتضمَّن قتل الكافر له. * وفي قصَّة جُريج إثبات الكرامات لغير الأنبياء؛ إذ الظاهر أنه لم يكن نبيًّا. وهي من باب استجابة الدعاء لأن فيها: «فقال: دعوني حتَّى أصلِّي، فصلَّى». * وفيها: «فأَقْبَلوا على جريجٍ يقبِّلونه ويتمسَّحون به» يُستدلُّ به على التبرُّك بغير الأنبياء. * وفي القصَّة ذكر الصبيِّ الذي تكلَّم في المهد لمَّا مرَّ عليه الجبَّار والأَمَة. ففيها أن العادة فد تنخرق للصبيِّ. والله أعلم. * * * * باب تفسير البرِّ والإثم عن نوَّاس بن سمعان (1)، قال: «أقمت مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بالمدينة سنةً، ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن شيء، قال: فسألته عن البر والإثم ... ». قد يُظنُّ أن قوله: «ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة» مقلوب، والصواب: ما يمنعني من المسألة إلا الهجرة، والسياق يدلُّ عليه. _________ (1) برقم (2553/ 15).

(24/168)


وليس كذلك؛ لأن النواس لم يهاجر، وإنما وفد إلى المدينة فمكث سنةً ورجع إلى باديته. ومعناه أنه لم يهاجر الهجرة التامّة لئلا تحرم عليه المسألة، بل اختار أن لا يهاجر حتَّى كلَّما عرض له شيء جاء فسأل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عنه. والله أعلم. * * * * باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها [عن جبير بن مطعم عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال]: «لا يدخل الجنَّة قاطع» (1). في «الحاشية» عن «المرقاة» (2): « ... أي للرحم أو للطريق، ويدلُّ على الأول إيراده في هذا الباب ... ». أقول: ليس هذا بدليل؛ فإن إيراده في هذا الباب من فعل المصنِّف، وهو يدلُّ أنه فهم ذلك، وفهمه ليس بحجَّة. والصواب أنَّ المراد قاطع الرحم بلا شبهة لِمَا جاء في الرواية الأخرى من التصريح به، ولأن لفظ قاطع إذا أُطلِق فُهم منه قاطع الرحم لا قاطع الطريق. وأيضًا فلفظ القطع في الشريعة جاء غالبًا لقطع الرحم؛ وأما قطع الطريق فجاء بلفظ المحاربة والفساد في الأرض، إلا ما جاء في القرآن في ذِكْر قوم لوط: {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} [العنكبوت: 29]. واختُلف في تأويله. _________ (1) برقم (2556). (2) «مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» (4/ 668).

(24/169)


والمقصود أن مجيء القطع لقطع الرحم أكثر وأشهر. وأيضًا فالوعيد بعدم دخول الجنة قد جاء في الأحاديث في قطع الرحم. والأمر أظهر من هذا. والله أعلم. * * * * باب النهي عن التحاسد (1) [عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال]: «لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانًا» زاد في رواية: «كما أمركم الله». فيه دليل لتعبير العلماء بقولهم: «خبر بمعنى الأمر» (2). والله أعلم. * * * * في حديث الهجرة أواخر «صحيح مسلم» (3) من قول سراقة: «فالله لكما أن أردَّ عنكما الطلب». قال المحشِّي: «معناه فالله ينفعكم بردِّي عنكما الطلب». هـ. أقول: هذا كما ترى. وإنما المعنى: فالله كفيل لكما بأن أردَّ عنكما الطلب. والله أعلم (4). _________ (1) الحديث برقم (2559/ 24). (2) يقصد الشيخ أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عنى بقوله: «كما أمركم الله» قولَه تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] مع أنه خبر في اللفظ. (3) برقم (2009/ 75) عقب الحديث (3014). (4) من (ص 150) إلى هنا من مجموع [4716].

(24/170)


[تعليق على أحاديث من سنن أبي داود] باب في نسخ المراجعة بعد التَّطليقات الثَّلاث * حدثنا بشر بن هلال، أن جعفر بن سليمان حدثهم، عن يزيد الرِّشْك، عن مُطرِّف بن عبد الله، أن عمران بن حصين سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها، ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال: «طلقتَ لغير سنة وراجعتَ لغير سنة، أشهِدْ على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعُدْ» (1). أقول: لم يستفصله عمران أطلَّق واحدة أو أكثر؟ فالظاهر أنه كان لا يرى فرقًا في ذلك، ويشبه أن يكون أبو داود أورده في هذا الباب لهذا المعنى لكن ... (2). * حدثنا أحمد بن محمد المروزي، حدثني على بن حسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: «{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} الآية [البقرة: 228]، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثًا، فنسخ ذلك فقال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]» (3). [قال الشيخ معلِّقًا على قوله: «وإن طلقهما ثلاثًا»]: أي ثلاث مرات كما يدل عليه جعلُه سببا لنزول الآية. والله أعلم (4). _________ (1) برقم (2186). (2) بياض في الأصل. (3) برقم (2195). (4) مجموع [4711].

(24/171)


[تعليق على حديث: «إن الله قد أعطى كلَّ ذي حق حقه»] حديث أبي داود وابن ماجه والترمذي (1): «إن الله قد أعطى كل ذي حقٍّ حقَّه فلا وصيةَ لوارثٍ» دليل واضح على أن الناسخ لآية الوصية هي آية المواريث المشار إليها بقوله: «إن الله قد آتى كل ذي حقٍّ حقَّه». والحديث إنما هو بيان لما دل عليه القرآن في هذا، فكأن قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إن الله قد آتى كل ذي حقٍّ حقَّه» من باب ذكر الملزوم على سبيل الاستدلال، ثم عقَّبه بقوله: «فلا وصية لوارث» بيانًا للازم، أي قد ثبت إيتاء الله كلَّ ذي حق حقه، فلَزِم منه أن لا وصية لوارث، وذلك أن الوصية للوارث إنما شُرعت أولًا لأجل أداء ما لَه من الحق، ثم علم الله تعالى أن ابن آدم لا يمكنه الوفاء بمقتضى الحق لعدم علمه، قال تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11]، ففرض المواريث بحكمه كما قال تعالى عقب ذلك: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 12]، أي حالَّة محل الوصية التي أُمرتم بها. والآية واضحة في نسخ آية الوصية، وبيَّنَها الحديث، فكأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: إن الوصية للوارث إنما شرعت لأداء ما له من الحق، ثم إن الله تعالى فرض لكل ذي حق حقَّه، فلم يبقَ للوصية معنى لأنها إنْ وقعت بمقدار ميراثه كانت تحصيل حاصل، وإن وقعت بأكثر كان فيها زيادة عن حقه الذي علمه الله له _________ (1) أبو داود (2870، 3565)، والترمذي (2120)، وابن ماجه (2713) من حديث أبي أمامة. وقد روي من حديث عمرو بن خارجة عند الترمذي (2121) وغيره، ومن حديث أنس عند ابن ماجه (2714) وغيره. والحديث «حسن صحيح» كما قال الترمذي عقب حديث أبي أمامة وحديث عمرو بن خارجة.

(24/172)


وفرضه مِن عنده، مع ما في ذلك من ظلم غيرِه بنقصان أنْصِبائهم، وإن وقعت بأقل كان فيها زيادةُ غيره وظلمُه. ولقائل أن يقول: إن الاستدلال بالحديث على بطلان الوصية لوارث مطلقًا فيه نظر؛ لأنه إنما ورد لبيان نسخ وجوب الوصية كما مرَّ تقريره، وذلك على أن المراد «فلا وصية لوارث» أي واجبة، فبقي الجواز. وأما ما مرَّ من قولنا: لأنها إن وقعت بمقدار ميراثه كانت تحصيل حاصل، فهذا مسلَّم، وأما قولنا: وإن وقعت بأكثر ... إلخ، فهذا منقوض بجواز الوصية للأجنبي فإنه يلزم منها إعطاء الأجنبي ما لا يستحقه، ونقصُ حقوق الورثة، ومع ذلك فهي صحيحة قطعًا. والجواب بالفرق بين إعطاء الأجنبي وبين تفضيل بعض الورثة على بعض، كما يدل عليه حديث الصحيحين (1) عن النعمان بن بشير أن أباه أتى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: إني نحلتُ ابني هذا غلامًا، فقال: «أكلَّ ولدك نحلتَ مثله؟ » قال: لا، قال: «فأرجعه». وفي رواية (2) أنه قال: «أيسرُّك أن يكونوا إليك في البرِّ سواء؟ » قال: بلى. قال: «فلا إذًا». وفي رواية (3) أنه قال: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشْهِد رسولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: إني أعطيتُ ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أُشهدك يا _________ (1) «صحيح البخاري» (2586) و «صحيح مسلم» (1623/ 9). (2) «صحيح مسلم» (1623/ 17). (3) «صحيح البخاري» (2587)، وبنحوه في «صحيح مسلم» (1623/ 13).

(24/173)


رسول الله، قال: «أعطيتَ سائر ولدك مثل هذا؟ » قال: لا، قال: «فاتقوا الله واعْدِلوا بين أولادكم»، قال: فرجع فرد عطيته. وفي رواية (1) أنه قال: «لا أَشهد على جور» هـ. هكذا في «المشكاة» (2). وفي «صحيح مسلم» (3) عن جابر نحوه، وفي آخره قال: «فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حق» هـ. والذي يظهر في الوصية للوارث أن مَن قال بحرمة تفضيل بعض الورثة على بعض في العطية يقول به في الوصية. ومَن اقتصر على مجرد الكراهة يلزمه الاقتصار عليها، اللهم إلا أن يقولوا: إن ما كان مكروهًا في صحته، يكون موقوفًا في مرضه؛ كما أن هبته للأجنبي في حال صحته صحيحة مطلقًا ولو في جميع ماله، وفي مرضه صحيحة في الثلث فقط، موقوفة في الباقي. فتأمل. فأما حديث: «لا وصية لوارث» فالظاهر حَمْله على نفي الوجوب كما مرّ. نعم، إن صحت رواية: «لا تجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة» (4)، كانت دليلًا خاصًّا على منع الوصية لوارث، وإن أمكن حمل نفي الجواز _________ (1) «صحيح البخاري» (2650) و «صحيح مسلم» (1623/ 14، 15). (2) (2/ 183). (3) «صحيح مسلم» (1624). (4) أخرجها الدارقطني: (4/ 152) ومن طريقه البيهقي في «الكبرى»: (6/ 263) من طريق عطاء عن عكرمة عن ابن عباس، وعطاء هو الخراساني فيه ضعف. ورواه أبو داود في «المراسيل» (349) عن عطاء عن ابن عباس بنحوه، وهو مرسل. وانظر «البدر المنير»: (7/ 269 - 272).

(24/174)


على الكراهة، لأننا نقول: الظاهر من نفي الجواز الحرمة، وهذا بالنسبة إلى حياة الموصي أي فلا يحل له أن يوصي لبعض الورثة إلا إذا استأذن بقيتهم. هكذا ظَهَر لي، ثم فهمت أنَّ «تجوز» ليس من الجواز بمعنى الإباحة ونحوه، بل من الجواز الذي هو النفاذ، أي لا تنفذ إلا إذا شاء الورثة. ثم إن في حديث النعمان بن بشير دليلًا على صحة الوصية للورثة لكلٍّ بمقدار ميراثه، ويكون فائدة الوصية القِسْمة. والله أعلم (1). _________ (1) مجموع [4657].

(24/175)


[تعليق على مواضع من «الموطأ»] [باب] العمل في غسل يوم الجمعة قال مالك (1) عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل». قال مالك: من اغتسل يوم الجمعة أولَ نهاره وهو يريد بذلك غسل الجمعة (2)، فإن ذلك الغسل لا يجزئ عنه حتى يغتسل لرواحه، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال في حديث ابن عمر: «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل». أقول: ويشهد له قصة عمر في إنكاره على عثمان؛ فإن فيها أن عثمان قال: انقلبت من السوق فسمعت النداء فما زدتُ على أن توضَّأت، فقال عمر: الوضوء أيضًا؟! وقد علمتَ أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يأمر بالغسل. ففهم عمر من جواب عثمان أنه لم يغتسل الغسل المأمور به؛ مع أنه إنما يُفهم أنه لم يغتسل قُبَيل مجيئه إلى المسجد، وليس فيه ما يُفهم أنه لم يغتسل أول النهار. والله أعلم. * * * * _________ (1) (1/ 102). (2) من: «أول نهاره» إلى هنا تكرَّر في الأصل سهوًا.

(24/176)


«الموطأ» [باب] الزكاة في الدين [قال مالك (1)]: «والدليل على الدين يغيب أعوامًا ثم يقتضى فلا يكون فيه إلا زكاة واحدة: أن العروض تكون للتجارة عند الرجل أعوامًا ثم يبيعها فليس عليه في أثمانها إلا زكاة واحدة، وذلك أنه ليس على صاحب الدين أو العروض أن يخرج زكاة ذلك الدين أو العروض من مال سواه وإنما يخرج زكاة كل شيء منه ولا يخرج الزكاة من شيء عن شيء غيره». أقول: قوله: «وذلك أنه ليس» إلخ، لا دلالة فيه؛ لأننا لا نقول يخرجها من مال سواه، بل يخرجها منه عند قبضه عن السنين كلِّها. * * * * صدقة الخُلَطاء قال مالك (2): ولا تجب الصدقة على الخليطين حتى يكون لكل واحد منهما ما تجب فيه الصدقة ... فإن كان لكل واحد منهما ما تجب فيه الصدقة جُمعا في الصدقة ووجبت الصدقة عليهما جميعا (أي بحساب المجموع، فلو كان لكل منهما أربعون فليس عليهما إلا شاة واحدة كما أوضحه بعد ذلك) (3) ... وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «ليس فيما دون خمس ذود صدقة». وقال عمر بن الخطاب: «في سائمة الغنم إذا بلغت أربعين شاةً شاةٌ». قال مالك: وهذا أحبّ ما سمعت إليَّ في ذلك. _________ (1) (1/ 254). (2) (1/ 263 - 264). (3) هذا من كلام الشيخ وضعه بين هلالين.

(24/177)


أقول: إن كان قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ليس فيما دون خمس ذودٍ صدقة» ملحوظًا في كلِّ واحد من الخليطين على حِدَة فليُلحظْ قوله: «وفي خمس وعشرين بنت مخاض» وما بعده كذلك، فلا يبقى حكم للخلطة كما هو مذهب أبي حنيفة. وإن كان قوله: «وفي خمس وعشرين بنت مخاض» وما بعده غير ملحوظ في حقّ كلِّ واحد من الخليطين على حدَة، بل يُنظر إلى المجموع، فليكنْ كذلك في قوله: «ليس فيما دون خمس ذود صدقة». فإذا كان لخليط ناقتان وللآخر ثلاث، فالمجموع خمس ذود ففيها الصدقة، وهذا هو الصواب. وهو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى. * * * * الحمد لله. أمَّا مسألة ضمِّ الماشية المستفادة بنحو ميراثٍ إلى ما قبلها من جنسها إذا كان نصابًا، ففيه نظر. وإنما قاسه مالك رحمه الله (1) على الورِق يزكِّيها رجل ثم يشتري بها من رجلٍ عرضًا قد وجبت فيه الزكاة فيزكِّيها البائع من النقد. وهذا القياس مختلٌّ؛ لأن المشتري (2) في المقيس عليه لم يزكِّ هذا الورِق الذي أخذه لوجوبها في عينه، بل لوجوبها في ذلك العرض بمرور الحول عليه. _________ (1) انظر «الموطأ» (1/ 261). (2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: البائع.

(24/178)


غاية الأمر أن وجوب إخراجها عن العرض مشروط ببيعه، فليس في هذا وجوب زكاتين في مال واحد باعتبار واحد، بخلاف مسألة ضمِّ الماشية، فإن البائع قد زكَّى المبيع بعينه من حيث وجوب الزكاة في عينه، فكيف يزكِّيه المشتري بعد يوم مثلًا من حيث وجوب الزكاة في عينه أيضًا. وقد قال (1): إن المستفاد من النقد بميراث أو نحوه لا يُضمُّ إلى مثله من النقد الأول في حوله، بل يُفرد لكلٍّ حولٌ. ولم يأت بفرق. وأما مسألة الزكاة في الدين الذي مرَّت عليه سنون، فقاسه على العرض الذي يبقى بعينه سنين فلا تجب فيه إلا زكاة واحدة عند بيعه. والظاهر أن هذا القياس صحيح إلا أنَّ من الناس من لا يسلِّم حكم الأصل، بل يقول: على العرض كلَّ عام زكاة. ولو قال قائل في مسألة الدين: إن كان حالًّا وقصَّر في طلبه سنين أو أجَّله بدون طلب من المدين لزمته الزكاة لكلِّ سنة، وإن كان حالًّا ولم يقصِّر في طلبه، أو مؤجَّلا بطلب المدين تأجيلَه فزكاة واحدة= لكان صوابًا إن شاء الله تعالى. بل لو قال قائل: لا زكاة في هذا الأخير مطلقًا= لم يظهر خطاؤه؛ لأن الزكاة إنما هي في مقابل كنز المال أو استثماره، والدائن في هذا الأخير لم يكنز ولم يستثمر بخلاف الأول، فإنه في معنى الكانز. _________ (1) انظر «الموطأ» (1/ 252، 266).

(24/179)


ونحو هذا يقال في مسألة العروض: إنَّ المالك إنْ حبس العرض رجاء صعود قيمته فزكاة واحدة. وكذا إن حبسه بعذرٍ كعدم وجود مشترٍ، أو عدم القدرة على تسليمه، أو نحو ذلك. وإلا، فعليه الزكاة لكلِّ سنة لأنه في معنى الكنز، ولعلَّ صاحبه إنما أراد الحيلة على الزكاة. * * * * ما جاء في الصداق والحِباء (1) مالك عن أبي حازم بن دينار عن سهل بن سعد الساعدي: أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك، فقامت قيامًا طويلًا، [فقام رجل] فقال: يا رسول الله زوِّجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «هل عندك من شيء تُصدقها إياه؟» فقال: ما عندي إلا إزاري [هذا]. فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنْ أعطيتَها إياه جلست لا إزار لك، فالتمسْ شيئًا»، فقال: ما أجد شيئًا! قال: «التمس ولو خاتمًا من حديد!»، فالتمس فلم يجد شيئا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «هل معك شيء من القرآن؟» فقال: نعم معي سورة كذا وسورة كذا لسُورٍ سمَّاها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «قد أنكحتكها بما معك من القرآن». أقول: «هل عندك من شيء تصدقها إياه؟» صريح في أنه طلب منه ما يكون صداقًا تامًّا، فقوله بعد ذلك: «التمس ولو خاتمًا من حديد» ظاهر في أنه يفي بالمطلوب، وهو الصداق التام. وكذلك قوله بعد ذلك: «هل معك شيء من القرآن؟» ظاهر في أنها تفي بالمطلوب، أي عند الضرورة. _________ (1) «الموطأ» (1/ 526).

(24/180)


ومثله أو أظهر منه قوله: «قد أنكحتكها بما معك من القرآن» فإنه بنفسه ثم بتعيُّن السياق صريح في أنه جعل ما معه من القرآن وافيًا بالمطلوب، وهو الصداق التام. نعم، قلنا في جعل تعليم القرآن صداقًا أنه للضرورة لأدلة أخرى تقتضي منع أخذ الأجرة على تعليم القرآن. فيُمكن أن يقال مثل هذا في خاتم الحديد أنه إنما اكتُفي به للضرورة. ولكن هذا يحتاج إلى دليل، فإذا انتهضت أدلَّة الحنفية أو المالكية في نفسها مع قطع النظر عن هذا الحديث، فالظاهر أنه بمجرَّده لا يردُّها ولكن يخصِّصها بحال الضرورة. والله أعلم (1). _________ (1) من (ص 176) إلى هنا من مجموع [4716].

(24/181)


[تعليقات على أحاديث من «مجمع الزوائد»] (1) * عن عمران بن الحصين أن أباه الحصين أتى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: أرأيت رجلًا كان يقري الضيف ويصل الرحم، مات قبلك وهو أبوك؟ فقال: «إنَّ أبي وأباك وأنت في النار». فمات حصين مشركًا. طب. رجال الصحيح (2). أقول: في الترمذي (3) وغيره ما يدلّ أن حصينًا أسلم وعلَّمه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - دعاءً: «اللهم ألهمني رُشْدِي وأَعِذْني من شرّ نفسي». فلعل المراد بقوله: «وأنت» أي أنت الآن ممن تستحق النار إذ كان حينئذ كافرًا، أو إن متَّ على حالك هذه. وأما قوله: «فمات حصين مشركًا» فمن كلام الراوي. * * * * _________ (1) انتقى الشيخ أحاديث كثيرة من «مجمع الزوائد» في المجموع [4656]، وذلك من ص (265) إلى (374). وعلَّق على بعضها وهو ما ذكرناه هنا. وقد جرى في النقل ــ غالبًا ــ على الاختصار واستخدام الرموز. وبيانها: (ع): مرفوعًا، (حم): أحمد، (طب): الطبراني في الكبير، (طس): الطبراني في الأوسط، (طص): الطبراني في الصغير، (طبسص): في الثلاثة كلِّها، (بز) البزار، (يع): أبو يعلى، (م): رجاله موثَّقون، (ص): رجاله رجال الصحيح، (ح): إسناده حسن، (ث): رجاله ثقات. (2) «مجمع الزوائد» (1/ 117). والحديث في «المعجم الكبير» (18/ 220). (3) برقم (3483) وقال: «هذا حديث [حسن] غريب». وأخرجه أحمد (19992) والبزار (3580) وغيرهما. والراجح أنه أسلم. انظر «الإنابة»: (1/ 167 - 168) لمغلطاي و «الإصابة»: (2/ 162).

(24/182)


* عبد الله بن عمرو (ع): «من مسَّ فرجه فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ». حم، وفيه بقية بن الوليد، وقد عنعنه، وهو مدلس. اهـ (1). أقول: في «النيل» (2) أنه حدث فقال: حدثني محمد بن الوليد الزبيدي، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (3). * * * * * الحارث بن سويد: «كان عبد الله يقول: «تجوَّزوا في الصلاة، فإن خلفكم الكبير والضعيف وذا الحاجة». وكنَّا نصلي مع إمامنا الفجر وعلينا ثيابنا، فيقرأ السورة من المئين، ثم ننطلق إلى عبد الله فنجده في الصلاة». طب، رجال الصحيح (4). أقول: يريد الحارث أن التجوُّز الذي كان يأمر به إنما هو بالنسبة إلى من يطيلها جدًّا؛ بدليل أنهم كانوا يصلون خلف من يقرأ بالسورة من المئين ثم ينطلقون إليه فيجدونه في الصلاة. وهذا إنما يدل على أنه كان يُسفر بالفجر، بمعنى أنه يطيل الصلاة حتى يسفر، لا أنه كان يؤخرها إلى الإسفار. ويوضحه ما سيأتي في باب (من أم الناس فليخفف) عن إبراهيم بن يزيد التيمي قال: «كان أبي قد ترك الصلاة _________ (1) «مجمع الزوائد»: (1/ 245). والحديث في «المسند» (7076). (2) «نيل الأوطار»: (1/ 251). (3) رواية الإمام أحمد فيها عنعنة بقيَّة على ما قاله الهيثمي. وقد صرَّح بالتحديث في رواية الدارقطني: (1/ 147) والبيهقي في «الكبرى»: (1/ 132). (4) «مجمع الزوائد»: (1/ 316). والحديث في «الكبير» (9282).

(24/183)


معنا، فقلت له: يا أبت مالك تركت الصلاة معنا؟ قال: إنكم تخففون. قلت: فأين قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إن فيكم الضعيف والكبير وذا الحاجة»؟ فقال: قد سمعت عبد الله بن مسعود يقول ذلك، وكان يمكث في الركوع والسجود ثلاثة أضعاف ما تصلون». طبس (م) (1). وهذا واضح جدًّا. وكأن الشيخ إنما ذكر حديث الحارث عقب حديث «أسفروا بالفجر» لينبِّه أن المراد إطالتها إلى أن يُسفر، لا تأخيرها إلى الإسفار. وإنما ذكر حديث «أسفروا بالفجر» في المواقيت لأنه مظنَّته فيما يفهمه غالبُ الناس، أو لأن إطالة الصلاة إلى أن يسفر دليل على أن الإسفار من وقتها؛ إذ لا يجوز إطالة الصلاة إلى أنه يخرج الوقت. والله أعلم. * * * * * [عن] أبي هريرة: أنهم كانوا يحملون اللبن إلى بناء المسجد، ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - معهم. قال: فاستقبلت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو عارض لبِنةً على بطنه، فظننت أنها شقَّت عليه، فقلت: ناوِلْنيها يا رسول الله، قال: «خذ غيرها يا أبا هريرة فإنه لا عيش إلا عيش الآخرة». حم (ص) (2). أقول: هذا بناءٌ غير الأول الذي كان أول الهجرة؛ لأن أبا هريرة إنما هاجر والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - محاصرٌ خيبر. * * * * _________ (1) «مجمع الزوائد» (2/ 73). والحديث في «الكبير» (10507)، و «الأوسط» (7915). (2) «مجمع الزوائد» (2/ 9). وانظر «المسند» (8951) وتعليق المحققين عليه.

(24/184)


* معاذ بن رِفاعة عن رجل من بني سَلِمة يقال له: سُلَيم أتى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: يا رسول الله إن معاذ بن جبل يأتينا بعد ما ننام ونكون في أعمالنا بالنهار، فينادي بالصلاة فنخرج إليه فيطوِّل علينا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يا معاذ بن جبل لا تكن فتّانًا، إما أن تصلي معي وإما أن تخفف على قومك»، ثم قال: «يا سليم ماذا معك من القرآن؟» قال: إني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وهل تصير (1) دندنتي ودندنة معاذ إلا أن نسأل الله الجنة ونعوذ به من النار؟» قال سليم: سترون غدًا إذا التقى القوم إن شاء الله، قال: والناس يتجهزون إلى أحد فخرج فكان في الشهداء. حم (ث) إلا أن معاذ بن رفاعة تابعي لم يُدرك أُحُد. طب بلفظ: عن معاذ بن رفاعة أن رجلًا من بني سلمة (2). * جابر: كان معاذ يتخلف عند رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فكان إذا جاء أَمَّ قومَه، وكان رجل من بني سَلِمة يقال له: سُلَيم يصلي مع معاذ، فاحتبس معاذ عنهم ليلةً، فصلَّى سُليم وحده وانصرف، فلما جاء معاذ أُخبر أن سليمًا صلى وحده، فأخبر معاذ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى سليم يسأله عن ذلك فقال: إني رجل أعمل نهاري حتى إذا أمسيت، أمسيت ناعسًا فيأتينا معاذ وقد أبطأ علينا، فلما احتبس عليَّ صليتُ وانقلبت إلى أهلي. فقال _________ (1) الأصل تبعًا للمجمع: «تعتبر» والمثبت من مسند أحمد. (2) «مجمع الزوائد» (باب من أمَّ الناس فليخفِّف) (2/ 71 - 72). والحديث في «المسند» (20699) و «المعجم الكبير» (6391).

(24/185)


رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كيف صنعت حين صليت؟ » قال: قرأت بفاتحة الكتاب وسورة ثم قعدت وتشهدت وسألت الجنة وتعوَّذت من النار وصلَّيت على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -[ثمَّ انصرفت]، ولست أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -[وقال: «هل أدندن أنا ومعاذ] إلا لندخل الجنة ونعاذ من النار! ». ثم أرسل إلى معاذ: «لا تكن فتانًا تفتن الناس! ارجع إليهم فصلِّ بهم قبل أن يناموا». ثم قال سليم: ستنظر يا معاذ غدًا إذا لقينا العدو كيف نكون أو أكون أنا وأنت. قال: فمرَّ سليم يومَ أُحُدٍ شاهرًا سيفه فقال: يا معاذ تقدم! فلم يتقدم معاذ وتقدَّم سليم فقاتل حتى قُتل، فكان إذا ذكر عند معاذ يقول: إن سليمًا صدق الله وكذب معاذ. بز (ص) خلا معاذ بن عبد الله بن حبيب وهو ثقة لا كلام فيه. ولجابر حديث في «الصحيح» غير هذا (1). * بريدة أن معاذ بن جبل صلَّى بأصحابه صلاة العشاء فقرأ فيها {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} فقام رجل من قبل أن يفرغ، فصلى وذهب، فقال له معاذ قولًا شديدًا، فأتى الرجلُ النبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فاعتذر إليه فقال: إني كنت أعمل في نخل وخِفتُ على الماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «صل بالشمس وضحاها، ونحوها من السور». حم (ص) (2). _________ (1) «مجمع الزوائد» (باب صفة الصلاة) (2/ 132 - 133). المطبوع من «مسند البزار» ليس فيه مسند جابر بن عبد الله، فانظر للحديث «كشف الأستار» (528). وأصل الحديث في «البخاري» (701، 705) و «مسلم» (465) بغير هذا اللفظ. (2) «مجمع الزوائد» (باب القراءة في العشاء الآخرة) (2/ 118 - 119). والحديث في «المسند» (23008).

(24/186)


* جابر بن عبد الله قال: مرَّ حزم بن أبي كعب بن أبي القين بمعاذ بن جبل وهو يصلي بقومه صلاة العتمة، فافتتح بسورة طويلة ومع حزم ناضح له، فتأخر فصلى فأحسن الصلاة ثم أتى ناضحه، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأخبره وقال: يا رسول الله إنه من صالح مَنْ هو منه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا تكونن فتَّانًا ــ قالها ثلاثًا ــ إنه يقوم وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة والمريض». بز (م). قلت: هو في الصحيح باختصار (1). أقول: في المتفق عليه أن السورة البقرة، ولم يُسمَّ الرجل. * جابر بن عبد الله قال: كان أُبَيٌّ يصلي بأهل قباء فاستفتح سورة طويلة، ودخل معه غلام من الأنصار ... (ذكر نحو قصة حزم مع معاذ). يع. وفيه عيسى جارية (2) ضعَّفه ابن معين وأبوداود، ووثَّقه أبو زرعة وابن حبَّان. اهـ (3). أقول: كأنَّ عيسى كان كثير الخطأ (4)، ومن ذلك هذا الحديث؛ فإنه بنفسه حديث جابر في قصة معاذ وحزم، فنقله إلى أبيِّ بن كعب، وكأنه وقع له الخطأ أن حزم هو حزم بن أبي كعب ــ كما مرّ ــ فاشتبه عليه بأبيِّ بن كعب _________ (1) «مجمع الزوائد» (باب من أمَّ الناس فليخفِّف) (2/ 72 - 73). وانظر «كشف الأستار» (483). (2) في الأصل: «حارثة» خطأ. وانظر أقوال النقاد فيه في «تهذيب التهذيب» (8/ 207). (3) «مجمع الزوائد» (2/ 72). والحديث في «مسند أبي يعلى» (1798). (4) وهو كذلك؛ فقد وصفه ابن معين وأبو داود بأنه يروي مناكير.

(24/187)


وبنى عليه ما بنى. وأما حديث معاذ بن رفاعة المار، فهو حديث جابر في قصَّة معاذ مع سُليم. فعند جابر حديثان في شأن معاذ: أولهما: قصَّته مع حزم حيث شرع معاذ بسورة البقرة، ففارقه حزم. وثانيهما: قصته مع سُليمٍ حيث أبطأ معاذ فصلَّى سليم قبل أن يجيء واشتكى إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن معاذًا يبطئ عليهم ومع ذلك يطوِّل. وأما حديث بريدة المارّ، [فالظاهر] أنها قصَّة أخرى، وكأنها بعد قصَّة حزم حيث ظنَّ معاذ أن التطويل الذي يشقُّ على الناس إنما هو في نحو قراءة سورة البقرة، فقرأ (اقتربت الساعة). والله أعلم (1). * * * * [باب في] الرجل يؤمُّ النساء * عن جابر بن عبد الله قال: جاء أُبيّ بن كعب إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال: يا رسول الله، إنه كان مني الليلة شيء، يعني في رمضان. [قال: وما ذاك] يا أُبَيّ؟ قال: نسوة في داري قُلْن: إنا لا نقرأ القرآن فنصلي بصلاتك؟ قال: فصليتُ بهن ثمانِ ركعات وأوترت. فكان شِبْه (2) الرِّضا، ولم يقل _________ (1) وانظر رسالة «إعادة الصلاة» (ص 177 - 178) ضمن مجموع رسائل الفقه؛ فقد جمع الشيخ فيه بين الأحاديث بوجه آخر يخالف ما هنا. (2) وقع في الأصل تبعًا لمجمع الزوائد: «فكانت سنة» تصحيف، والمثبت من مصادر الحديث الآتية.

(24/188)


شيئًا. يع طب (1) ببعضه (ح) (2). * جابر بن عبد الله عن أُبيّ بن كعب قال: جاء إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: يا رسول الله عملت الليلة عملاً! قال: «ما هو؟» قال: نسوة معي في الدار قلن: إنك تقرأ ولا نقرأ، فصلِّ بنا، فصليتُ ثمانيًا والوتر. قال: فسكت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. قال: فرأينا أن سكوته رضا. رواه عبد الله بن أحمد، وفي إسناده من لم يُسمَّ (3). [أقول:] وفيه حجة لصلاة التراويح جماعة، وبيان عددها. وفيه تسمية سنة التقرير: سنة الرضا، وأنها حجة. وفيه أيضًا دليل لحقيقة الوتر. * * * * * عمار: أتيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو يصلي، فسلَّمتُ عليه فلم يرد عليَّ. طب (ث). ولعمار عند النسائي: أنه سلم فردَّ عليه. فيكون هذا ناسخًا لذاك. اهـ (4). _________ (1) كذا في الأصل، وهو سبق قلم، والصواب «طس». (2) «مجمع الزوائد» (2/ 74). والحديث في «مسند أبي يعلى» (1801) و «المعجم الأوسط» (3731). وفي إسناده عيسى بن جارية، ليِّن الحديث. ومع ذلك فقد صححه ابن حبان (2549). (3) «مجمع الزوائد» (2/ 74). والحديث في «زوائد مسند أحمد» (21098). (4) «مجمع الزوائد» (2/ 81). الحديث ليس في المطبوع من «المعجم الكبير». وحديث ردِّ السلام أخرجه أحمد (18318) والنسائي (1188) وفي «الكبرى» (546). وهو حديث صحيح.

(24/189)


أقول: أو لعله ردَّ عليه بالإشارة، ولم يرد عليه بالكلام. فالنفي والإثبات غير واردين على محلٍّ واحد. ويؤيده الحديث الذي عقبه: * عبد الله: مررت برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -[وهو يصلِّي] (1) فسلمت عليه، فأشار إلي. طسص (ص). ولابن مسعود في «الصحيح» أنه سلم عليه فلم يردَّ عليه (2). * * * * [فوائد من حديث اتِّخاذ بعض الصحابة الخيطين لمعرفة طلوع الفجر] الأحاديث في أن بعض الصحابة كان يضع خيطين أبيض وأسود، فيأكل حتى يتبينا (3)، تدل على أمور: أحدها: على جواز اجتهاد الصحابة في حياة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وبحضرته. ثانيها: أن مثل ذلك الاجتهاد يُعذَر صاحبه وإن أخطأ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يأمرهم بالقضاء. وربما يدل على سقوط القضاء عمن أكل بعد طلوع الفجر ظانًّا بقاء الليل. _________ (1) زيادة من المعاجم الثلاثة. (2) «مجمع الزوائد» (2/ 81 - 82). والحديث في «المعجم الكبير» (9783) ــ ولم يذكره الهيثمي ــ، و «الأوسط» (5918) و «الصغير» (2/ 27). وأما حديثه الآخر فقد أخرجه البخاري (1199، 3875) ومسلم (538). (3) صحَّ ذلك من حديث عدي بن حاتم عند البخاري (1916) ومسلم (1090)، ومن حديث سهل بن سعد عندهما عَقِبَ الحديث السابق.

(24/190)


والاحتجاج على وجوب القضاء بوجوب الصيام من طلوع الفجر ــ كما صنع البيهقي (1) ــ لا وجه له؛ لأنه محمول على العلم، فلا يقاس عليه الجهل. على أن صحة صوم من أكل ناسيًا دليلٌ قوي في المسألة، والله أعلم. بل في آثار الصحابة أنهم كانوا يأمرون من يحول بينهم وبين مطلع الفجر (2). ولا وجه لذلك إلا أن يكونوا يرون أن يطعم الإنسان مع الشك في طلوع الفجر، وإن كان سعى بنفسه للاختفاء منه (3). * * * * [شرح حديث «الصوم لي وأنا أجزي به»] حديث: «الصوم لي وأنا أجزي به» (4) يُسأل عن معناه وحكمته. فأما حكمته: فقد ذُكرت في الحديث، وهو قوله: «يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي». وذلك أنه يجتمع في الصوم من ترك الشهوات ما لا يجتمع في غيره من العبادات. وأما المعنى: فظاهر حديثِ (5) أبي هريرة المتفق عليه ــ كما في _________ (1) في «السنن الكبير» (4/ 216). (2) روي ذلك عن أبي بكر رضي الله عنه. أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (9022). (3) مجموع [4726]. (4) أخرجه البخاري (7492) ومسلم (1151) من حديث أبي هريرة. (5) الأصل: «حد».

(24/191)


«المشكاة» ــ أن المعنى أن جزاءه لا يتقيّد بعشرة أمثاله إلى سبعمائة، بل هو موكول إلى فضل الله عز وجل. قال في «المشكاة» (1): وعنه (أبي هريرة) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كل عمل ابن آدم يُضاعَف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به». وقد يُدفع بأحاديث أن صيام ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر، وحديث صوم رمضان وستة أيام من شوال صوم الدهر؛ فإنه مبنيّ على أن الحسنة بعشر أمثالها. لكن يجاب بأن بناءه على الأقل لا يستلزم نفيَ الأكثر، يعني أن الباري سبحانه عز وجل قدّر جزاء الصدقة ــ مثلًا ــ بعشر أمثالها إلى سبعمائة، ووَكلَ الصيام إلى فضله، فكان معلومًا أنه لا يجوز أن يكون أقل من عشر، بل لا شك أنه أكثر. فبُني حديث صيام ثلاثة أيام على العشر لأنها محققة قطعًا، وأما ما زاد عنها، وإن كان محقّقًا أيضًا، لكنه دون تحقّق العشر. والله أعلم. وقال ابن عيينة (2): إن معنى الحديث أن الأعمال كلها يؤخذ منها جزاء المظالم يوم القيامة إلا الصوم فإنه لا يؤخذ منه، بل إذا فَنِيت أعمال الظالم في جزاء المظالم وبقيت عليه مظالم، فإن الله تبارك وتعالى يقضي الباقي من فضله ويترك له الصوم. _________ (1) «مشكاة المصابيح»: (1/ 442). (2) أخرجه عنه البيهقي في «الكبرى» (4/ 274، 305)، وفي «شعب الإيمان» (3309).

(24/192)


وهذا المعنى، وإن كان توافقه رواية البخاري (1) في التوحيد بلفظ: «يقول الله تعالى: ... الصوم لي وأنا أجزي به والأعمال كفارت» (2)، فإن بقية الروايات تدفعه. وأيضًا ففي حديث القصاص الذي في «صحيح مسلم» (3): «أَتدرون من المفلس؟» ذُكِرَ الصيام. ولفظه: «لكل عمل كفارة، والصوم لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» (4). * * * * [شرح حديث: «إن الله حرَّم عليكم عقوق الأمهات ... »] قال في «المشكاة» (5) في باب البر والصلة: «وعن المغيرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إن الله حرَّم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعَ وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» متفق عليه». وفي هذا الحديث دليل على حرمة السؤال للمال، وهو المعني بقوله: «هات». _________ (1) برقم (7538). (2) هكذا كتب الشيخ الحديث من حفظه أولًا، ثم كتب بعدُ: «ولفظه: لكل عمل كفارة، والصوم لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك». (3) برقم (2581). (4) مجموع [4711]. (5) «مشكاة المصابيح» (3/ 65). والحديث في البخاري (2408)، ومسلم (593/ 12).

(24/193)


وأما قوله: «وكثرة السؤال» فالمراد السؤال عن أحوال الناس، وهو ما يقابل الأخبار في «قيل وقال». وفيه دليل استعمال الشارع الكراهة في ما هو دون الحرمة، والمراد بكراهة الأمور الثلاثة ما لم يكن فيها ما يقتضي الوجوب أو الندب أو الحرمة، وإلا فبحسبه والله أعلم (1). * * * * [معنى حديث: «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن»] الحمد لله. قول ابن شهاب (2): «إن قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - كما في «الصحيحين» (3): «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق» فيه: أن العلّة هي نصرهم؛ لِمَا قيل: إن تعليق الحكم بالمشتق يؤذِن بعلّيّة ما منه الاشتقاق». وغرضه أنه لا يكون بغضهم علامةً للنفاق إلّا إذا كان من حيث النصر. والجواب: إن قولهم: تعليق الحكم بالمشتق إلخ، إنما هو فيما كان باقيًا على الوصف، وليس لفظ «أنصار» كذلك، فإنه قد غلب استعماله في مؤمني الأوس والخزرج. _________ (1) مجموع [4657]. (2) كذا رسمها، ولم يتحرر مَن المراد، ولعله «السيد العلوي» المردود عليه في مواضع من هذا المجموع. وانظر (ص 58). (3) «صحيح البخاري» (3783) ومسلم (75) من حديث البراء بن عازب.

(24/194)


فقولك: «أعطِ زيدًا الصالح» يفيد التعليل بخلاف قولك: «أعطِ زيدًا القاضي». ومع هذا فلو سلّم إيماء الحديث إلى العلة لكانت علَّةً لثبوت تلك المزيَّة لهم لا علّة للحب والبغض. وهذا واضح لا غبار عليه. نعم، مزيّة أمير المؤمنين عليهم أنه لا يصدق النفاق لمبغضهم إلا إذا أبغضهم جميعًا. فأقيم أمير المؤمنين مُقامَ مجموعهم (1). والله أعلم. لأن لفظ الأنصار قد صار كالعَلَم على مجموعهم فلا يُقال: إنه جمع محلّى بأل فيعم. والله أعلم (2). * * * * [الجمع بين أحاديث ذم المبادرة بالشهادة وأحاديث الحث على ذلك] في مسند أحمد (ج 1 ص 18) (3) من حديث عمر: «استوصوا بأصحابي خيرًا، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب، حتى إن الرجل ليبتدئ بالشهادة قبل أن يسألها». أقول: في هذا دلالة أنّ ذمّ الابتداء بالشهادة إنّما أُريد به شهادة الزور؛ لأنّه هنا جعلها غاية لفُشُوِّ الكذب. وإنّما كانت غاية لأن المتوقع من شاهد الزور أن لا يشهد حتى يسأله _________ (1) وذلك لِما أخرجه مسلم (78) عن علي ــ عليه السلام ــ أنه قال: «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - إليَّ أن لا يحبَّني إلا مؤمن ولا يبغضَني إلا منافق». (2) مجموع [4657]. (3) برقم (114) ط. الرسالة.

(24/195)


المدَّعي ويبذل له مالاً ونحوه، فيشهد طمعًا في المال. فإذا صار الناس بحيث يبادرون بشهادة الزور لغير غرض، فذلك نهاية فشوِّ الكذب. وعلى هذا، فلا معارضة بين أحاديث الابتداء بالشهادة قبل السؤال (1). والله أعلم (2). * * * * قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنما الولاء لمن أعتق» (3) لا يعارضه قوله: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» (4) أو كما قال؛ لأن الحديث الأول إنما هو في إثبات الولاء لا في إثبات الوراثة به. وحينئذ فكلٌّ من الحديثين على عمومه، والولاء ثابت للكافر لعموم الأول، ولا يرث به لعموم الثاني. ويؤيِّده القياس الجلي؛ لأن الولاء أضعف من النسب بدليل تقديم الوارث بالنَّسَب على المولى، فإذا منع الكفرُ الإرثَ بالنّسَب فلأَن يمنعه بالولاء أولى. والله أعلم (5). * * * * _________ (1) كحديث زيد بن خالد الجهني عند مسلم (1719) بلفظ: «ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها». (2) مجموع [4719]. (3) أخرجه البخاري في مواضع كثيرة أوَّلها برقم (456)؛ ومسلم (1504) من حديث أم المؤمنين عائشة ــ عليها السلام ــ. (4) أخرجه البخاري (4283) ومسلم (1614) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه. (5) مجموع [4716].

(24/196)


في حديث فاطمة بنت قيس (1): وأمرها أن تعتدَّ في بيت أم شريك ثم قال: «تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدِّي عند عبد الله بن أمِّ مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده». إن كان هذا بعد نزول الحجاب، ففيه دلالة على أن التشديد في الحجاب خاصٌّ بأمهات المؤمنين (2). * * * * عن حمزة بن عمر الأسلمي أنه قال: يا رسول الله، إني أجد بي قوة على الصيام في السفر، فهل عليَّ جُناح؟ قال: «هي رخصة من الله عز وجل، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحبّ أن يصوم فلا جناحَ عليه» رواه مسلم (3). يُسْتَدلُّ به على عدم وجوب القصر في السفر؛ لقوله: «فمن أحب» بالفاء الدالة على السببيَّة. فليتأمّل (4). * * * * يُستدلُّ بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إن كنت عبد الله فارفع إزارك» (5) على عدم دلالة _________ (1) أخرجه مسلم (1480/ 36) وغيره. (2) مجموع [4716]. (3) (1121/ 107). (4) مجموع [4657]. (5) أخرجه أحمد (6263، 6340) وغيره. وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (5/ 123): «أحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح».

(24/197)


نحو قوله: «من كان يؤمن بالله ... » إلخ (1) على كفر مَن لم يصنع المعلَّق. والله أعلم (2). * * * * الحمد لله. حديث البراء أن آخر سورة نزلت كاملة براءة، وآخر آية نزلت آية الكلالة آخرَ سورة النساء (3). أحسبه ــ والله أعلم ــ أراد آخر آية نزلت مفرَدة، فلا ينفي أن يكون نزل بعدها آيات أخرى، ولكن مثنى فصاعدًا. والله أعلم (4). * * * * الحمد لله. حديث الشافعي (5) عن عروة أنه قال: «إذا رأى أحدكم البرق أو الوَدْقَ _________ (1) ورد ذلك في عدة أحاديث أشهرها حديث أبي هريرة عند البخاري (6018) ومسلم (47) بلفظ: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ... » الحديث. (2) مجموع [4657]. (3) أخرجه البخاري (4364) ومسلم (1618). (4) مجموع [4716]. (5) في «الأم» (2/ 557 ط. دار الوفاء) من طريق: «من لا أتَّهم قال: حدثنا سليمان بن عبد الله عن عروة». وشيخ الشافعي هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، كما جاء مصرَّحًا في «مصنف عبد الرزاق» (4917). وهو متروك، إلا أنه تابعه ابن إسحاق عند أبي داود في «المراسيل» (525) بمعناه. وروي النهي عن الإشارة إلى السحاب أيضًا من مُرسل التابعي الثقة عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى حسين القرشي. أخرجه أبو داود في «المراسيل» (526).

(24/198)


فلا يشر إليه». لعل السلف ــ والله أعلم ــ كرهوا الإشارة إلى المطر فرارًا من التشبه بقوم هود إذ قالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] (1). * * * * قوله في دعاء الاستسقاء: «دائمًا إلى يوم الدين» (2). الظاهر أن المراد الدوام المنقطع بحسب الحاجة (3) (4). * * * * قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - في آلة الحرث (5): «ما دخل هذا بيت قوم إلا دخله الذلّ» لا _________ (1) مجموع [4657]. (2) جاء الدعاء في الاستسقاء بلفظ «دائمًا» عند الطبراني في «الأوسط» (7619) و «الدعاء» (2179) من حديث أنسٍ رضي الله عنه في دعاء طويل. ومن حديث ابن عمر مرفوعًا أخرجه البيهقي في «معرفة السنن والآثار»: (3/ 100). وأما اللفظ الذي ذكره المؤلف «دائمًا إلى يوم الدين» فذُكر في بعض كتب الشافعية المتأخرة. انظر «حاشية الجمل على شرح منهج الطلاب» (2/ 121)، و «شرح الغزي على التقريب»: (1/ 449 - مع حاشية البيجوري). (3) وهذا ما صرَّح به البيجوري في «حاشيته على شرح الغزي»: (1/ 450). (4) مجموع [4657]. (5) أخرجه البخاري (2321) بنحوه.

(24/199)


يقتضي ذمّها شرعًا، وإنّما هو مثل قوله في الولد: «مَجْبَنة مَبْخَلة» (1) (2). * * * * «المستدرك» (ج 2 ص 167 - 166): عن أبي موسى مرفوعًا: «تُستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو رضاها، وإن كرهت فلا كره عليها». وفي «تلخيصه» حديث آخر سقط من المستدرك، وهو: عن أبي هريرة مرفوعًا: «تُستأمر اليتيمة في نفسها، فإن أبت فلا جواز عليها». أقول: مفهوم قوله: «اليتيمة» أن ليس على الأب استئذان ابنته، ولكن قد وردت أحاديث بخلافه. فلتُنظر إن شاء الله تعالى (3). * * * * _________ (1) أخرجه أحمد (17562)، وابن ماجه (3666) والطبراني في «الكبير» (2587) من حديث يعلى العامري. وفيه إسناده سعيد بن أبي راشد، لم يوثِّقه غير ابن حبَّان. وله شاهد من حديث أبي سعيد عند أبي يعلى (1032) بإسناد ضعيف فيه عطية العوفي. وشاهد آخر من حديث الأشعث بن قيس عند الطبراني في «الكبير» (650) والبيهقي في «شعب الإيمان» (10551)، وإسناد كليهما ضعيف. وشاهد من حديث عمر بن عبد العزيز عن خولة بنت حكيم، أخرجه أحمد (27314) والترمذي (1910) وقال: لا نعرف لعمر بن عبد العزيز سماعًا من خولة. فالحديث حسن بشواهده. (2) مجموع [4719]. (3) مجموع [4720].

(24/200)


[تعليق على «مقدمة الفتح» حول رواية الحسن عن أبي بكرة] (ص 370) (1): حديث (69): الحسن عن أبي بكرة، وكذا في حديث (59) (2)، وحديث (12) (3). وقال في حديث (59): «والبخاري إنما اعتمد رواية أبي موسى عن الحسن أنه سمع أبا بكرة. وقد أخرجه مطولًا في كتاب الصلح (4)، وقال في آخره: قال لي علي بن عبد الله: إنما ثبت عندنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث». اهـ. يقول كاتبه: فعلى هذا فيسقط اعتراض الدارقطني في هذا الحديث فقط، ويبقى في بقية الأحاديث التي رواها البخاري من طريق الحسن عن أبي بكرة ولم يصرِّح الحسن بالسماع، مع أن الحسن كان يدلِّس (5). * * * * [تعليق على مواضع من «فتح الباري»] في «الفتح» (6)، في الطهارة، في «باب [البول] في الماء الدائم»: _________ (1) «هدى الساري» (ص 371) ط. السلفية. (2) (ص 367). (3) (ص 354). (4) برقم (2704). (5) مجموع [4711]. (6) (1/ 347 - 348).

(24/201)


«واستدل به (1) بعض الحنفية على تنجيس الماء المستعمل ... وهذا من أقوى الأدلة على أن المستعمل غير طهور ... ولا فرق في الماء الذي لا يجري في الحكم المذكور بين بول الآدمي وغيره خلافًا لبعض الحنابلة ولا بين أن يبول في الماء أو يبول في إناء ثم يصبه فيه خلافًا للظاهرية. وهذا كله محمول على الماء القليل عند أهل العلم على اختلافهم في حد القليل. وقد تقدم قول من لا يعتبر إلا التغير وعدمه، وهو قوي، لكن الفصل بالقلتين أقوى لصحة الحديث فيه. وقد اعترف الطحاوي من الحنفية بذلك، لكنه اعتذر عن القول به بأن القُلّة في العرف تطلق على الكبيرة والصغيرة كالجرة، ولم يثبت من الحديث تقديرهما فيكون مجملًا فلا يُعمل به، وقوّاه ابن دقيق العيد. لكن استدل له غيرهما؛ فقال أبو عبيد القاسم بن سلام: المراد القُلّة الكبيرة إذ لو أراد الصغيرة لم يحتج لذكر العدد؛ فإن الصغيرتين قدر واحدة كبيرة. ويرجع في الكبيرة إلى العُرْف عند أهل الحجاز. والظاهر أن الشارع - عليهم السلام - ترك تحديدهما على سبيل التوسعة، والعلم محيط بأنه ما خاطب الصحابة إلا بما يفهمون، فانتفى الإجمال. لكن لعدم التحديد وقع الخلف بين السلف في مقدارهما على تسعة أقوال حكاها ابن المنذر. ثم حدث بعد ذلك تحديدهما بالأرطال واختلف فيه أيضًا. ونقل عن مالك أنه حمل النهي على التنزيه فيما لا يتغير، وهو قول الباقين في الكثير. وقال القرطبي (2): يمكن حمله على التحريم مطلقًا على قاعدة سد الذريعة؛ لأنه يفضي إلى تنجيس الماء». _________ (1) أي بالنهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم. [المؤلف]. (2) في «المفهم»: (1/ 542).

(24/202)


يقول كاتبه ــ عفا الله عنه ــ: الظاهر ما قاله القرطبي؛ وبيانه: أن أحكام الشارع عامَّة، فلو أبيح البول في الماء الدائم لأبيح للناس جميعًا. ولو كان ذلك، لم يَقتصر على البول فيه إنسان واحد مرَّة واحدة، بل يكون معرَّضًا لأن يتوارد على البول فيه كلُّ واردٍ مرارًا (1) كثيرة. ولاسيَّما والناس يعتادون الاغتسال، وإذا نزل الإنسان في الماء عرض له البول عادة، بل كثيرًا ما يعرض البول للإنسان بمجرَّد رؤيته الماء. ونحن نرى الحكومات في البلاد المنظَّمة تشدِّد في النهي عن البول في الشوارع، وتعاقب من يبول، وإن كان واحدًا، مع العلم أنه ببوله لا يحصل المحذور الذي كان التشديد لأجله، وهو تقذُّر الشوارع. ثم إن تعيينهم العلَّة بأنَّها خوف التنجُّس= فيه نظر؛ فقد يقال: هي خوف التقذُّر. وتقذير الماء حرام؛ لأنه إن كان مِلْك المقذِّر ففيه إضاعة المال أو الإضرار بالنفس؛ كيف والفقهاء يحرِّمون تناولَ نحو المخاط. وإن كان ملكَ غيره، فتقذيره ظلم. وقد يقال: هي خوف الإضرار؛ فإن البول كثيرًا ما يحتوي على جراثيم ضارَّة. وإدخال الضرر في الماء حرام كما مرَّ في التقذير. وإذا كانت العلل الثلاث محتملة فتعيين بعضها يحتاج إلى دليل. فالذين رجَّحوا الأولى رأوا أنها أقرب إلى التفات الشارع إليها، بدليل قلَّة تفصيله للسُّمِّيَّات والمضرَّات والمستقذرات. _________ (1) في الأصل: «مرار» سهو.

(24/203)


وقد يُردُّ هذا بأن الأشياء التي جاءت الإشارة الشرعية إلى أنها سامَّة أو ضارَّة أو مستقذرة تفوق عدد النجاسات، وإنما لم يستوعبها الشارع لأن للناس إلى معرفتها سبيلًا من غير الشرع. أما السُّمِّيَّات والمضرَّات فبالتجارب وإخبار الأطباء. وأما المستقذرات فظاهر. وقد وجدناه نصَّ على كثير من السُّمِّيات والمضرَّات، وذلك فيما الحاجة دعت إليه؛ إما لعموم وجوده وجهل أصحابه بسُمِّيته أو مضرَّته كنهيه - صلى الله عليه وآله وسلم - عن النفخ في الشراب والطعام، وإما لتهاون الناس به لاعتيادهم له. بل يرى بعض العقلاء من المسلمين أن غالب الأشياء التي حرَّمها الشرع إنما حرَّمها لضرر فيها. إذا تقرَّر هذا، فالبول في الماء مما يعتاده الناس ويألفونه. وقد قدَّمنا ما يوضح ذلك. وكانوا يجهلون مضرَّته حينئذ أصلًا. ولو فُرض شعورهم بضرره في الجملة، فربما يرى أحدهم الماء الكثير فيرى أنَّ بوله مرَّة لا يضر بأحد، ولا يتنبَّه إلى أن جواز بول الواحد مرَّة واحدة يلزمه جواز بول جميع الناس دائمًا كما تقدَّم. ولا سيما إذا كانت العادة أن ذلك الماء لا يُشرب منه لظنِّهم أن الضرر إنما يصل إلى البدن بالأكل، ولا يشعرون بأن من الجراثيم ما يضرُّ بمجرَّد اتصاله بجرح أو بالأنف أو العين ونحو ذلك. وهكذا قُل في التقذير؛ فقد يرى أن بوله مرَّة واحدة لا يقذِّر. وبعض الناس ــ ولو علم الضرر والقذر ــ قد يتهاون بحقِّ غيره. فعلى هذا فينبغي التماس مرجِّح غير ما تقدَّم، وإلا فلا يحتج بالحديث في تنجُّس ولا عدمه. وربما يرجَّح الضرر بأنه أقرب إلى دخول أغلب أفراد

(24/204)


الماء الدائم في معنى الحديث، وذلك أقرب إلى إطلاقه؛ لأن الماء كثيرًا ما يبلغ في الكثرة إلى حدٍّ لا يتنجَّس معه، وربَّما يبلغ إلى حدٍّ لا يتقذَّر معه، فأما بلوغه إلى حدٍّ لا يحتمل إضرار البول فيه فأقلُّ من ذلك. ولكن ربما يدفع هذا بما قدَّمناه من احتمال أن يكون الشارع نظر إلى أن عدم النهي عن البول مطلقًا يؤدِّي إلى (1) أن يكثر البول من كثير من الناس بحيث يغيِّر الماء الكثيرَ فينجِّسه، إلا أن يقال: إن الماء قد يبلغ في الكثرة إلى حدٍّ لا يحتمل التغير بالبول فيه، وإن كثُر، ما دامت الكثرةُ إلى حدٍّ يُحتمل عادةً. فأما ما لا يحتمل عادةً فلا وجه لمراعاة الشارع إيَّاه. وعلى فرض تسليم أنَّ العلَّة هي التنجُّس، فإمَّا أن يدَّعى أن ظاهره أن البولة الواحدة تنجِّس الماء، وإمَّا أن يقال: ظاهره أن البول في الماء قد ينجِّسه فيصدق بذلك وبما إذا كثر بول الناس فيه. والنهي صالح للأمرين وربما يرجَّح الأول بقوله: «لا يبولَنَّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه» (2) بنصب (يغتسلَ). ولكن المعروف في الرواية الضم، ومنع بعضهم النصب عربيةً أيضًا؛ انظر «الفتح» (3). ويرجِّح الثاني إطلاق الماء، فلم يقيَّد بقلَّة ولا كثرة مع اتفاقهم على أنَّ الكثير لا ينجس إلا بالتغيُّر، وإن اختلفوا في حدِّ الكثير. وحَمْل الدليل على ما يسلم معه من التقييد والتخصيص أصلًا ــ أو من _________ (1) في الأصل: «إلا» سبق قلم. (2) «صحيح البخاري» (239)، وبنحو في «صحيح مسلم» (282) من حديث أبي هريرة. (3) (1/ 347).

(24/205)


كثرتهما ــ أولى من حمله على خلاف ذلك كما مرَّ. هذا بحثنا كلُّه في شأن البول، وبقي شأن اغتسال الجنب. فقد يقال: إنه لا يحتمل التعليل بالاستقذار والإضرار؛ إذ لا يناسب التعليلَ بأحدهما التقييدُ بالجنب؛ فإن الاغتسال في الماء ربما يقذِّره أو يبث فيه ضررًا مطلقًا، سواءٌ أكان المغتسل جنبًا أم لا. وهذا قوي. وقد سمعت من يعتذر عنه بأن الناس يستقذرون الماء الذي اغتسل فيه الجنب أشدَّ من استقذارهم الماء الذي اغتسل فيه غيره، وباحتمال أن يكون اغتسال الجنب أشدَّ ضررًا من اغتسال غيره؛ لاحتمال أن يكون في العرق والوسخ الذي ينفصل عن الجنب ضرر خاص، كما يرمز إليه إيجاب الغسل عليه، مع ما عُلم أن أحكام الشرع مبنيَّة على مصالح البشر. فلا شك أنَّ الغسل من الجنابة من حكمته جلبُ مصلحة للجنب أو إزالةُ ضررٍ عنه، ويحتمل أن يكون في انغماسه ــ أعنى الجنب في الماء ــ إضرار (1) بصحَّته؛ لأن الأجزاء التي تنفصل عنه تبقى مدَّة مجاورةً لبدنه مع انفتاح مسامِّه، بخلاف الجاري فإنه وإن انغمس فيه فإن الماء يتجدَّد. ولعلَّك ترى هذا تعسُّفًا أو قريبًا منه إلا أنه تؤيِّده الأدلة الظاهرة في جواز التطهُّر بالماء الذي اغتسل فيه الجنب. نعم، أدلَّة عدم تنجُّسه أكثر وأظهر من أدلَّة بقاء طهوريَّته (2). * * * * _________ (1) الأصل: «إضرارا» سبق قلم. (2) مجموع [4716].

(24/206)


باب [من قال]: لا يقطع الصلاة شيء (1) «وقد اختلف العلماء في العمل بهذه الأحاديث، فمال الطحاوي وغيره إلى أن حديث أبي ذر (2) وما وافقه منسوخ بحديث عائشة (3) وغيرها، وتُعقِّب بأن النسخ لا يُصار إليه إلا إذا عُلم التاريخ وتعذَّر الجمع، والتاريخ هنا لم يتحقق والجمع لم يتعذر. ومال الشافعي وغيره إلى تأويل القطع في حديث أبي ذر بأن المراد به نقص الخشوع لا الخروج من الصلاة، ويؤيد ذلك أن الصحابي راوي الحديث سأل عن الحكمة في التقييد بالأسود فأجيب بأنه شيطان. وقد علم أن الشيطان لو مر بين يدي المصلي لم تفسد صلاته كما سيأتي في «الصحيح» (4): «إذا ثوِّب بالصلاة أدبر الشيطان، فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه» الحديث، وسيأتي في باب العمل في الصلاة حديث: «إن الشيطان عرض لي فشد عليَّ» (5) الحديث. _________ (1) «فتح الباري» (1/ 589). (2) بلفظ: «إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود». أخرجه مسلم (510) وغيره. (3) وهو حديث الباب برقم (514) ولفظه: «عن عائشة: ذكر عندها ما يقطع الصلاة ــ الكلب والحمار والمرأة ــ فقالت: شبَّهتمونا بالحمر والكلاب! والله لقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة، فتبدو لي الحاجة فأكره أن أجلس فأوذي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنسلُّ من عند رجليه». (4) برقم (608). (5) برقم (1210) من حديث أبي هريرة.

(24/207)


وللنسائي (1) من حديث عائشة: «فأخذته فصرعته فخنقته». ولا يقال قد ذكر في هذا الحديث أنه جاء ليقطع صلاته؛ لأنا نقول: قد بيَّن في رواية مسلم (2) سبب القطع، وهو أنه جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهه، وأما مجرد المرور فقد حصل ولم تفسد به الصلاة. وقال بعضهم: حديث أبي ذر مقدم؛ لأن حديث عائشة على أصل الإباحة. انتهى. وهو مبني على أنهما متعارضان، ومع إمكان الجمع المذكور لا تعارض. وقال أحمد: يقطع الصلاة الكلب الأسود، وفي النفس من المرأة والحمار شيء. ووجَّهه ابنُ دقيق العيد وغيره بأنه لم يجد في الكلب الأسود ما يعارضه، ووجد في الحمار حديث ابن عباس (3) ... ووجد في المرأة حديث عائشة ... ». يقول كاتبه: أما النسخ فلا وجه له لإمكان الجمع كما سيأتي. وأما تأويل القطع بنقص الخشوع فضعفه بيِّن؛ أولا: لمخالفته الظاهر. وثانيًا: أنه لا اختصاص لنقص الخشوع بهذه الأشياء، بل ربما ينقص الخشوع بغيرها أكثر مما ينقص ببعضها. وثالثًا (4): تقييد الكلب بالأسود وتعليله بأنه شيطان. ورابعًا: قد ثبت أن السُّترة تمنع القطع مع أنها لا تمنع نقص الخشوع إذا _________ (1) في «السنن الكبرى» (11375). (2) برقم (542) من حديث أبي الدرداء. (3) أخرجه البخاري (493) ومسلم (504). (4) الأصل: «وثانيًا»، سبق قلم.

(24/208)


كانت حَرْبة مثلًا، فكيف إذا كانت خطًّا ــ لو صحَّ حديثه (1) ــ؟ وأما كون الشيطان لا يقطع الصلاة مطلقًا فلا دليل عليه؛ فإنه من الجائز أن يقول الشارع: يقطعها إذا مرَّ وكان يمكن المصلِّي منعُه بلا مشقَّة، ولا يقطعها فيما عدا ذلك. فالذي يجيء بعد التثويب بالصلاة لا يقدر المصلِّي على منعه، وكذا الذين يدخلون من الفُرَج كأنهم الخذف، فإنه تكثر المشقة في دوام إلصاق المصلِّي رجليه برجلَي رفيقه، مع احتمال أن يجاب عن هذا بأن سترة الإمام سترة من خلفه كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. وأما الشيطان الذي عرض للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فكان بغير تقصير من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الاحتراز، بل دفعه حتَّى ردَّه خاسئًا كما في الحديث. ومجيء الشيطان بالشهاب من النار يحتمل أنه أراد أن يخوِّف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - به لعلَّه يشتغل عن دفعه. والظاهر أن ذلك الشهاب تخييل، لا أنَّ هناك شهاب (2) حقيقة بحيث لو أصاب لأحرق. والله أعلم. وقد يقال: إن القاطع هو المرور، ولم يجئ في الحديث أن الشيطان مرَّ من جانب إلى آخر، وإنما فيه أنَّه وُجِد أمام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فردَّه خاسئًا. وأما حديث ابن عبَّاس في قصَّة الأتان فواقعة حال تحتمل عدَّة وجوه: _________ (1) أخرجه أحمد (7392)، وأبو داود (689)، وابن خزيمة (811)، وابن حبان (2361). وفيه أبو عمرو بن محمد بن حريث، وهو مجهول. وقد قال الإمام أحمد ــ كما في ترجمة أبي عمرو في «تهذيب التهذيب» (12/ 181) ــ: [حديث] الخطِّ ضعيف. (2) كذا في الأصل، والوجه النصب.

(24/209)


فيحتمل أنه تركها بين يدي بعض الصف بعيدًا عنهم بحيث يكون أبعد من سترتهم ــ أعني النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ــ أو سترته، على الخلاف في ذلك. ويحتمل ما مال إليه البخاري أنَّ سترة الإمام سترة من خلفه (1)، أو أنَّ الإمام نفسه سترة من خلفه. وليس فيها أنها مرَّت قاطعة أوسط الصف بحيث تعدُّ قاطعة للسترة، بل الحديث ظاهر في عدم ذلك. وأما المرأة فحديث عائشة، قد ذكر في «الفتح» بعد هذا احتمالات فيه، فقال (2): «وجه الدلالة من حديث عائشة الذي احتجَّ به ابن شهاب أن حديث «يقطع الصلاة المرأة» إلخ يشمل ما إذا كانت مارَّة أو قائمة أو قاعدة أو مضطجعة، فلما ثبت أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - صلَّى وهي مضطجعة أمامه دل ذلك على نسخ الحكم في المضطجع، وفي الباقي بالقياس عليه. وهذا يتوقف على إثبات المساواة بين الأمور المذكورة، وقد تقدم ما فيه (3). فلو ثبت أن حديثها متأخر عن حديث أبي ذر لم يدل إلا على نسخ الاضطجاع فقط. وقد _________ (1) وذلك حين بوَّب بذلك على حديث ابن عباس (493). (2) «الفتح» (1/ 590). (3) يعني قوله قبل ذلك [1/ 589]: «استدل به (يعني بقول عائشة: فتبدو لي الحاجة فأكره أن أجلس فأوذي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فأنسل من عند رجليه) على أن التشويش بالمرأة وهي قاعدة يحصل منه ما لا يحصل بها وهي راقدة، والظاهر أن ذلك من جهة الحركة والسكون، وعلى هذا فمرورها أشد. وفي النسائي ... : «فأكره أن أقوم فأمر بين يديه، فأنسل انسلالا». فالظاهر أن عائشة إنما أنكرت إطلاق كون المرأة تقطع الصلاة في جميع الحالات، لا المرور بخصوصه». [المؤلف]

(24/210)


نازع بعضهم في الاستدلال به مع ذلك من أوجه أخرى: أحدها: أن العلة في قطع الصلاة فيها (بها) (1) ما يحصل من التشويش، وقد قالت: إن البيوت يومئذ لم يكن فيها مصابيح، فانتفى المعلول بانتفاء العلة. ثانيها: أن المرأة في حديث أبي ذر مطلقة وفي حديث عائشة مقيدة بكونها زوجته، فقد يُحمل المطلق على المقيد، ويقال: بتقييد القطع بالأجنبية لخشية الافتتان بها بخلاف الزوجة فإنها حاصلة. ثالثها: أن حديث عائشة واقعةُ حالٍ يتطرق إليها الاحتمال، بخلاف حديث أبي ذر فإنه مسوق مساق التشريع العام، وقد أشار ابن بطال إلى أن ذلك كان من خصائصه - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ لأنه كان يقدر مِن مَلْك إربه على ما لا يقدر عليه غيره. وقد قال بعض الحنابلة: يعارض حديث أبي ذر وما وافقه أحاديث صحيحة غير صريحة وصريحة غير صحيحة، فلا يُترك العمل بحديث أبي ذر الصريح بالمحتمل، يعني حديث عائشة وما وافقه. والفرق بين المار وبين النائم في القبلة أن المرور حرام بخلاف الاستقرار نائمًا كان أم غيره، فهكذا المرأة يقطع مرورها دون لُبثها». يقول كاتبه: الذي يظهر لي أنَّ القاطع إنما هو مرور الشيطان؛ وعلى ذلك أدلَّة: 1. قد عُلِّل تخصيص الكلب بالأسود بأنه شيطان. وسواءٌ قلنا: إن المراد أنه شيطان حقيقةً أو غير ذلك= فالدلالة ظاهرة. ولعلَّ الأظهر أن بين الكلب الأسود وبين الشيطان مناسبة، ومروره بين يدي المصلِّي ظاهر في أن الشيطان معه وأنَّه هو الذي حمله على ذلك. _________ (1) كتبه الشيخ مستظهرًا الصواب، وهو كذلك في ط. السلفية.

(24/211)


2. قد صحَّ في الحمار أنه إذا صاح فإنه رأى شيطانًا (1)، فالكلام فيه كالكلام في الكلب. 3. المرأة قد جاء أنها تُقبل بصورة شيطان (2). فالكلام عليها كما مرَّ. نعم، كونها تقبل بصورة شيطان إنما هو بالنظر إلى الأجنبيَّة. وعلى هذا، فلا تدخل الزوجة؛ لأن الشيطان لا فائدة له من صحبتها للفتنة. وهذا هو بعض الاحتمالات في حديث عائشة. وعليه فقد يقاس عليها المحارم والصغار. فأما الصغار فإنه يساعده أحاديث أُخر. وأما المحارم ففيه نظر. وتُستثنى الزوجة الحائض، لأن للشيطان فائدةً بفتنة زوجها بها. والأقرب عدم استثناء الزوجة غير الحائض لأن العلة ليست خوف الفتنة، وإنما هي مرور الشيطان. فقد دلَّ حديثُ «إن المرأة تُقبل بصورة شيطان» على مناسبة بين المرأة والشيطان. فلا يدل الأمن من افتتان زوجها بها على مفارقة الشيطان لها؛ فإنَّ غرضه هنا المرور أمام المصلِّي ليقطع صلاته، وهذا حاصل وإن كانت زوجه طاهرًا. 4. جاء في تعليل الأمر بدفع المارِّ: «فإنه شيطان» (3). وفي رواية (4): _________ (1) أخرجه البخاري (3303) ومسلم (2729). (2) أخرجه مسلم (1403). (3) أخرجه البخاري (509) ومسلم (505) من حديث أبي سعيد الخدري. (4) أخرجه مسلم (506) من حديث ابن عمر.

(24/212)


«فإن معه القرين». فإن قيل: فقضية هذا أن الرجل يقطع الصلاة أيضًا. فالجواب: أن لفظ الحديث: «فإنْ أبى فلْيقاتله؛ فإنه شيطان» - «فإن معه القرين». فالمقصود ــ والله أعلم ــ الآبي، أي أنَّ إباءه إلا أن يمرَّ يجعل حكمه حكم الشيطان، ويدلُّ أن القرين معه، وأنه الحامل له على الإصرار على هذا الفعل المحرَّم، بخلاف من مرَّ بدون شعور منه أو من المصلِّي؛ فليس كذلك. والفرق بينه وبين المرأة أن مرورها يقطع مطلقًا، ومروره يقطع بشرط أن يُدفع فيأبى إلا أن يمرَّ. وقد يفرق بين الشيطان الملازم للإنسان غالبًا ــ وهو القرين ــ وغيره من الشياطين، فلا يقطع مرور الرجل إذ لم يقم الدليل إلا على أن معه القرين. وأما المرأة، فإنه يصحبها مع القرين غيرُه. والله أعلم (1). * * * * كتاب البيع، باب: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} (2) « ... وهذا (3) يؤيد ما تقدم من النقل عن أبي ذر الهروي أن أصل _________ (1) مجموع [4716]. (2) «فتح الباري» (4/ 300). (3) أي تكرار قوله تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}، وقول قتادة: «كان القوم يتَّجرون ... » إلخ في البابين: «باب التجارة في البزِّ وغيره» و «باب {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا}».

(24/213)


البخاري كان عند الفربري وكانت فيه إلحاقات في الهوامش وغيرها، وكان من ينسخ الكتاب يضع الملحق في الموضع الذي يظنه لائقًا به. فمِن ثَمَّ وقع الاختلاف في التقديم والتأخير، ويزاد هنا أن بعضهم احتاط فكتب الملحق في الموضعين فنشأ عنه التكرار» اهـ. أقول: أو وقع التكرار ممن نسخ مِن أحد الفروع، وقابل بفرعٍ آخر. والله أعلم (1). * * * * باب من جوّز طلاق الثلاث (2) « ... ويمكن أن يتمسك له بحديث «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» (3) ... وأخرج سعيد بن منصور (4) عن أنس «أن عمر كان إذا أتي برجل طلق امرأته ثلاثا أوجع ظهره» وسنده صحيح. ويحتمل أن يكون مراده بعدم الجواز من قال: لا يقع الطلاق إذا أوقعها مجموعة للنهي عنه، وهو قول للشيعة وبعض أهل الظاهر، وطرد بعضُهم ذلك في كل طلاق منهيّ كطلاق _________ (1) مجموع [4718]. (2) «فتح الباري» (9/ 362). (3) أخرجه أبو داود (2177، 2178)، وابن ماجه (2018) من حديث ابن عمر. والصواب فيه أنه مرسل. انظر: «علل ابن أبي حاتم» (1297)، و «العلل» للدارقطني (3123). (4) برقم (1073) ومن طريقه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 58).

(24/214)


الحائض، وهو شذوذ، وذهب كثير منهم إلى وقوعه مع منع جوازه، واحتج له بعضهم بحديث محمود بن لبيد قال: «أُخبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ » الحديث. أخرجه النسائي (1) ورجاله ثقات، لكن محمود بن لبيد ولد في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولم يثبت له منه سماع، وإن ذكره بعضهم في الصحابة فلأجل الرؤية، وقد ترجم له أحمد في «مسنده» (2) وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صرح فيه بالسماع، وقد قال النسائي بعد تخريجه: لا أعلم أحدًا رواه غير مخرمة بن بكير يعني ابن الأشج عن أبيه. اهـ. ورواية مخرمة عن أبيه عند مسلم في عدة أحاديث، وقد قيل: إنه لم يسمع من أبيه، وعلى تقدير صحة حديث محمود فليس فيه بيان أنه هل أمضى عليه الثلاث مع إنكاره عليه إيقاعَها مجموعة أو لا؟ فأقل أحواله أن يدل على تحريم ذلك وإن لزم. وقد تقدم في الكلام على حديث ابن عمر في طلاق الحائض أنه قال لمن طلق ثلاثًا مجموعة: «عصيت ربك، وبانت منك امرأتك». وله ألفاظ أخرى نحو هذه عند عبد الرزاق (3) وغيره. وأخرج أبو داود (4) بسند صحيح من طريق مجاهد قال: كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثًا، فسكت حتى ظننت أنه سيردُّها إليه فقال: «ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول: يا ابن عباس [يا ابن عباس]، إن الله قال: {وَمَنْ _________ (1) (3401)، وفي «الكبرى» (5564). (2) (39/ 30 - 44) وأخرج له (18) حديثا. (3) برقم (10964، 11344). وأخرجه ابن أبي شيبة (18091) ط. دار القبلة. (4) برقم (2197).

(24/215)


يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}، وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجًا، عصيتَ ربك وبانتْ منك امرأتك». وأخرج أبو داود له متابعات عن ابن عباس نحوه. ومن القائلين بالتحريم واللزوم من قال: إذا طلق ثلاثًا مجموعة وقعت واحدة، وهو قول محمد بن إسحاق صاحب المغازي، واحتج بما رواه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: طلق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا، فسأله النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كيف طلقتها؟ » قال: ثلاثًا في مجلس واحد، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنما تلك واحدة، فارتجعها إن شئت»، فارتجعها. وأخرجه أحمد وأبو يعلى (1) وصححه من طريق محمد بن إسحاق. وهذا الحديث نص في المسألة لا يقبل التأويل الذي في غيره من الروايات الآتي ذكرها. وقد أجابوا عنه بأربعة أشياء: أحدها: أن محمد بن إسحاق وشيخه مختلف فيهما، وأجيب بأنهم احتجوا في عدة من الأحكام بمثل هذا الإسناد كحديث أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ردّ على أبي العاص بن الربيع زينبَ ابنتَه بالنكاح الأول. وليس كل مختلف فيه مردودًا. الثاني: معارضته بفتوى ابن عباس بوقوع الثلاث كما تقدم من رواية مجاهد وغيره؛ فلا يُظنُّ بابن عباس أنه كان عنده هذا الحكم عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم يفتي بخلافه إلا بمرجِّح ظهر له، وراوي الخبر أَخبرُ مِن غيره بما روى. وأجيب أن الاعتبار برواية الراوي لا برأيه لما يطرق رأيه من احتمال النسيان وغير ذلك، _________ (1) «مسند أحمد» (2387) و «مسند أبي يعلى» (2500).

(24/216)


وأما كونه تمسك بمرجح فلم ينحصر في المرفوع لاحتمال التمسك بتخصيص أو تقييد أو تأويل، وليس قول مجتهد حجة على مجتهد آخر. الثالث: أن أبا داود رجح (1) أن ركانة إنما طلق امرأته البتة كما أخرجه هو من طريق آل بيت ركانة، وهو تعليل قوي (2) لجواز أن يكون بعض رواته حمل «البتة» على الثلاث، فقال: طلقها ثلاثًا، فبهذه النكتة يقف الاستدلال بحديث ابن عباس. الرابع: أنه مذهب شاذ فلا يعمل به، وأجيب بأنه نُقل عن علي وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف والزبير مثله، نقل ذلك ابن مغيث في «كتاب الوثائق» له وعزاه لمحمد بن وضَّاح، ونقل الغنوي ذلك عن جماعة من مشايخ قرطبة كمحمد بن بقي بن مخلد (3) ومحمد بن عبد السلام الخشني _________ (1) علق عليه الشيخ بقوله: «إنما رجّحه لأنه لم يصحّ مقابله عنده، وقد صحّ عند غيره». (2) علق عليه الشيخ بقوله: «إنما يكون قويًّا لو صحّ حديث آل بيت ركانة، ولا يصحّ، بل لو صحّ لكان حمله على حديث ابن إسحاق أولى؛ فإن التعبير عن الثلاث بالبتّة أسهل من عكسه. وأظهر من هذا أن لفظ الحديث: «ثلاثا في مجلس واحد»، فقوله «في مجلس واحد» صريح في رفع الاحتمال المذكور. حتى لو كان لفظه: «طلقها البتة في مجلس واحد» لكان ظاهرًا في أن المراد بالبتة الثلاث لا لفظ البتة. فتأمل. والله أعلم». (3) كذا في الأصل تبعًا للفتح. والصواب: «أحمد بن بقي بن مخلد» قاضي قرطبة (ت 324 هـ)، له ترجمة في «سير أعلام النبلاء»: (15/ 83). والتصويب مستفاد من رسالة «تسمية المفتين بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة» (ص 61) للدكتور سليمان العمير.

(24/217)


وغيرهما، ونقله ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس كعطاء وطاوس وعمرو بن دينار ... » (1). * * * * لحوم الحمر [الإنسية] (2) «وتقدَّم في المغازي في حديث ابن أَبِي أَوفى (3): فتحدَّثنا أنه إنّما نهى عنها لأنها لم تُخَمَّس، وقال بعضهم: نهى عنها لأنَّها كانت تأكل العَذِرَة. قلتُ: وقد أزال هذه الاحتمالات من كونها لم (4) تُخَمَّس أَو كانت جَلَّالَة أو كانت انْتُهبت، حديثُ أَنَس (5) المذكور قبل هذا حيث جاء فيه «فإنها رِجْس» وكذا الأَمر بغَسل الإناء في حديث سَلَمَة». أقول: غفل ــ رحمه الله ــ عمّا قدمه في باب التسمية على الذبيحة في الكلام على حديث رافع بن خديج (6): «كُنَّا مع النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بذي الحُلَيفة فأصاب النَّاسَ جوعٌ فأَصبنا إبلًا وغنمًا وكان النَّبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في أُخْرَيات النَّاس فَعَجِلُوا فَنَصَبُوا القدورَ فدفع النبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - إليهم فَأَمَرَ بالقدور فَأُكْفِئَتْ ثُمَّ قَسَمَ فَعَدَلَ ... ». _________ (1) مجموع [4711]. (2) «فتح الباري» (9/ 655 - 656). (3) برقم (4220). (4) في الأصل: «لا». (5) برقم (4197، 5528). (6) برقم (5498).

(24/218)


حكى الحافظ هناك (1) عن عياض قال: «كانوا انتهَوا إلى دار الإسلام والمحَلّ الذي لا يجوز فيه الأَكل من الغنيمة المشتَرَكة إلَّا بعد القسمة، وأَنَّ محل جواز ذلك قبل القسمة إنَّما هو ما داموا في دار الحرب، قال: ويحتمل أنَّ سبب ذلك كونهم انتَهَبُوا، ولم يأخذوا [باعتدال و] على قدر الحاجة. قال: وقد وقع في حديث آخر ما يدل لذلك، يشير إلى ما أخرجه أبو دَاود (2) من طريق عاصم بن كُلَيب عن أَبيه ــ وله صحبة ــ عن رَجُل من الْأَنصار قال: «أصاب النَّاسَ مجاعةٌ شديدة وجَهْد فأصابوا غنمًا فانتهبُوها، فإنَّ قُدُورنَا لتَغْلِي بها إذ جاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على فرسه فَأَكْفأ قدورنا بقوسه، ثمَّ جعل يُرَمِّل اللَّحم بالتراب، ثُمَّ قال: إنَّ النُّهْبَة ليست بِأَحلَّ من الَميتة» اهـ ... وأمَّا الثَّاني فَقَالَ النووي (3): المأْمور به من إراقة القدور إنَّما هو إتْلَاف المَرَق عقوبةً لهم، وأمَّا اللَّحم فلم يُتلِفُوه بل يُحمَل على أنه جُمع ورُدَّ إلى المَغنم، ولا يُظَنّ أنه أَمَرَ بإتلافه مع أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - نهى عن إضاعة المال ... فإن قيل: لم يُنقل أنهم حملوا اللَّحم إلى المغنم، قُلنا: ولم يُنقل أَنهم أَحرقوه أو أَتلفوه، فيجب تأويلُه على وفق القواعد اهـ. ويرُدُّ عليه حديث أبي داود فإنَّه جيِّد الإسناد، وتَرْك تسمية الصَّحَابي لا يَضُرّ، ورجال الإسناد على شرط مسلم ... ». أقول: رحم الله النووي، استبعد إتلاف اللحم لكونه مالًا مع اعترافه _________ (1) (9/ 626). (2) برقم (2705). (3) «شرح صحيح مسلم» (13/ 127).

(24/219)


بإتلاف المرق، وهو مال، ثم قال: «فإن قيل: لم يُنقل أنهم حملوا اللَّحم إلى المغنم، قيل: ولم يُنقل أَنهم أَحرقوه أو أَتلفوه». ولا يخفى ما في هذا من الركاكة؛ لأن الحديث نص في أنه كفأه إلى الأرض، ولم يُنقل ما صنع به بعد ذلك، فكان الظاهر أنه تُرك لتأكله الطير والسباع؛ لأن ذلك هو المعقول من حيث العادة، فلذلك تُرك نقله. ولا يلزم من الحكم بالإتلاف الحكمُ بإحراقه لأن تركه للسباع والطير يحصل به الإتلاف على الناس مع مصلحة إطعام الوحش والطير. وقد جاء أمره بإكفاء القدور التي فيها لحوم الحمر، ولم يجئ أنه أُحرق وأُتلف. وأما قوله: «فيجب تأْويله على وفق القواعد»، فإنه ليس هنا قاعدة شرعية يجب التأويل لأجلها، والقواعد المذهبية تابعة لا متبوعة. على أن حديث أبي داود قد نص على حرمة النهبة كحرمة الميتة. ثم قال الحافظ بعد كلام (1): «وقال الإسماعيليُّ: أَمْره - صلى الله عليه وآله وسلم - بإكفاء القدور يجوز أن يكون مِن أجل أَنَّ ذَبْح من لا يملك الشَّيء كُلَّه لا يكون مُذَكِّيًا، ويجوز أن يكون من أَجْل أنهم تَعَجَّلُوا ... ثم رَجَّح الثَّاني وزَيَّف الأَوَّل بأنه لو كان لذلك لم يَحِلَّ أَكل البعير النَّادّ .... وقد جَنَحَ البخاريّ إلى المعنى الأَوَّل وترجمَ عليه كما سيأْتي في أواخر أبواب الأضاحِيّ، ويمكن الجواب ... بأَن يكون الرَّامي رمى بحضرة النَّبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - والجماعة، فأقرُّوه، فَدَلَّ سكوتهم على رضاهم ... ». _________ (1) (9/ 626 - 627).

(24/220)


أقول: بل ترجم البخاري عليه في آخر هذا الكتاب ــ كتاب الذبائح ــ بقوله (ص 321) (1): «باب إذا أصاب قومٌ غنيمة [فذبح بعضهم غنمًا أو إبلًا بغير أمر أصحابهم لم تُؤكل لحديث رافعٍ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -]». ثمّ ترجم للجواب عن قضية البعير بما هو أحسن من جواب الحافظ فقال (ص 322) (2): «باب إذا ندَّ بعيرٌ لقوم فرماه بعضهم بسهم فقتله وأراد إصلاحهم فهو جائز». وقال الحافظ في «باب ذبيحة الأَمَة والمرأة» (3) في قصة حديث أن جاريةً لكعب بن مالك كانت ترعى غنمًا بسَلْعٍ فأُصيبت شاة منها، فأدركتها فذبحتْها بحجرٍ، فسئل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: «كلوها»: «وفيه جواز أكل ما ذبح بغير إذن مالكه ولو ضمن الذابح، وخالف في ذلك طاوس وعكرمة كما سيأتي في أواخر كتاب الذبائح، وهو قول إسحاق وأهل الظاهر، وإليه جنح البخاري [لأنه أورد في الباب المذكور حديث رافع بن خديج في الأمر بإكفاء القدور، وقد سبق ما فيه.] وعورض بحديث الباب، وبما أخرجه أحمد وأبو داود (4) بسند قوي من طريق عاصم بن كليب عن أبيه في قصة الشاة التي ذبحتها المرأة بغير إذن صاحبها فامتنع _________ (1) «فتح الباري» (9/ 672). (2) المصدر السابق. (3) (9/ 632). (4) «مسند أحمد» (22509) و «سنن أبي داود» (3332).

(24/221)


النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من أكلها لكنه قال: «أطعموها الأسارى»، فلو لم تكن ذكية ما أمر بإطعامها الأسارى». هـ. أقول: جواب البخاري عن قضية البعير النادِّ هو عينه جواب عن ذبيحة الجارية كما لا يخفى. وأما حديث أحمد (1) وأبي داود الذي فيه الأمر بإطعام الأسارى ففيه وجهان: الأول: أن يقال أن الأسارى كفار، وهم غير مخاطبين بالفروع في قول. والثاني: أن يفرق بين ما ذُبح بغير إذن أهله مع اعتقاد رضاهم، فهذا مكروه فقط. وما ذبح بغير إذنهم ولا اعتقاد رضاهم فهذا حرام. والله أعلم. نعم، في «صحيح مسلم» (2) في فضائل نبيّنا - صلى الله عليه وآله وسلم - قصة عن المقداد أنه كان يبيت عند النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هو ورجلان آخران، وفي القصة أنه أراد أن يذبح شاةً من شياه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما يظهر بغير إذن صريح منه، وأَخبر النبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بذلك، ولم يذكر أنه أنكر عليه ذلك العزم وبيّن له أن ذلك لا يجوز. فانظر القصّة وتأمّلْها. والله أعلم (3). * * * * _________ (1) مسند ج 5 ص 293. [المؤلف] (2) برقم (2055). (3) مجموع [4711].

(24/222)


[تعليق على كلام الحافظ في «التلخيص»] [قال الحافظ (1)]: «تنبيه: ادَّعى ابن بطال في «شرح البخاري» وتبعه القاضي عياض تفرُّد أبي هريرة بهذا، وليس بجيِّد. وقد قال به جماعة من السلف ومن أصحاب الشافعي. قال ابن أبي شيبة (2): حدثنا وكيع عن العمري عن نافع أن ابن عمر كان ربما بلغ بالوضوء إبطيه في الصيف. ورواه أبو عبيد (3) بإسناد أصح من هذا فقال: ثنا عبد الله بن صالح: ثنا الليث عن محمد بن عجلان عن نافع. وأعجب من هذا أن أبا هريرة رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في رواية مسلم (4). وصرح باستحبابه القاضي حسين وغيره .. ». [علَّق الشيخ على قوله: «في الصيف»]: «أقول: التقييد بالصيف يضعف الاستدلال بهذا الأثر لإشارته إلى أنه كان يفعله تبرُّدًا لا أنه يراه من السنَّة». [علَّق الشيخ على قوله: «رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -»]: «ليس الرفع بالصريح» (5). * * * * _________ (1) (1/ 100). (2) برقم (609) ط. دار القبلة. (3) «الطهور» (24). (4) انظر «صحيح مسلم» (246، 250). (5) مجموع [4711].

(24/223)


[تعليق على مواضع من «نيل الأوطار»] في «نيل الأوطار» (1)، في باب الجماعة: «واعلم أن الاستدلال بحديثي الأعمى وحديث أبي هريرة الذي في أول الباب على وجوب مطلق الجماعة فيه نظر؛ لأن الدليل أخص من الدعوى، إذ غاية ما في ذلك وجوب حضور جماعة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في مسجده لسامع النداء، ولو كان الواجب مطلق الجماعة لقال في المتخلفين: إنهم لا يحضرون جماعته ولا يجمعون في منازلهم، ولقال لعتبان بن مالك: انظر من يصلّي معك، ولجاز الترخيص للأعمى بشرط أن يصلي في منزله جماعة». اهـ. أقول: فإن قيل: إن عتبان والأعمى لا يمكن أن يجد كل منهما من يصلي معه؛ إذ كل إنسانٍ مدعوّ للجماعة يحضر المسجد. فالجواب: أن المفروض أن الواجب مطلق الجماعة، فإذًا يسوغ لغير عتبان أن يتخلَّف معه فيصلِّي جماعة، وكذا حال الأعمى، مع أن كلًّا منهما قد يجد غيره ممّن لا يلزمه حضور المسجد، من النساء والمعذورين (2). * * * * _________ (1) (3/ 154). (2) مجموع [4712].

(24/224)


«النيل» (1) ساعة الجمعة [ ... حديث أبي سعيد الذي أخرجه أحمد وابن خزيمة والحاكم بلفظ: سألت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عنها فقال:] «قد علمتها ثم أُنسيتها كما أُنسيت ليلةَ القدر». [ ... ويجاب عنه بأن نسيانه - صلى الله عليه وآله وسلم - لها لا يقدح في الأحاديث الصحيحة الواردة بتعيينها] لاحتمال أنه سُمع منه - صلى الله عليه وآله وسلم - التعيين قبل النسيان كما قال البيهقي ... إلخ. أقول: هذه غفلة؛ فإنه إذا نسيها - صلى الله عليه وآله وسلم - كما نسي ليلة القدر، وجب أن ينساها غيره ممن سمعها منه؛ لأن الحديث صريح في أن التنسية لمصلحة، ليس من النسيان العارض. فالوجه أن يقال: إنه علمها أولًا ثمَّ نسيها ثمَّ علمها ثانيًا، وبقي كذلك. فإمّا أن يكون عيَّنها لبعض أصحابه قبل أن ينساها، فلمَّا نسيها نسوها أيضًا، ثمَّ لمَّا علمها ثانيًا ذكروا ما حدَّثهم أولًا. وإمّا أن يكونوا نسوها ثمَّ لمَّا عَلِمها - صلى الله عليه وآله وسلم - ثانيًا أعلمهم. وإمَّا أن يكون إنما أعْلَمهم عندما عَلِمها ثانيًا. والله أعلم (2). * * * * _________ (1) (3/ 303 - 304). (2) مجموع [4712].

(24/225)


«إحكام الأحكام شرح العمدة» (1) حديث البراء: كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا قال: «سمع الله لمن حمده» لم يَحْنِ أحدٌ منا ظهره حتى يقع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ساجدًا ثم نقع سجودًا بعده. « ... والحديث يدل على تأخُّر الصحابة في الاقتداء عن فعل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى يتلبس بالركن الذي ينتقل إليه، لا حين يشرع في الهويِّ إليه ... ولفظ الحديث الآخر يدل على ذلك، أعني قوله: «فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا»؛ فانه يقتضي تقدم ما يسمى ركوعًا وسجودًا». أقول: قد كان ظهر لي قبل أن أرى هذا مثل ما ذكره، ولكن تبيَّن لي أن دلالة قوله: «وإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا» على ما ذكر فيها نظر؛ لأن لقائل أن يقول: إذا لاحظتم ذلك في قوله: «إذا ركع - إذا سجد» فلاحظوه في قوله: «فاركعوا - اسجدوا»؛ فالمأمور به هو أن لا يستوي المأموم راكعًا أو ساجدًا حتى يستوي الإمام كذلك. وليس فيه أن لا يهوي المأموم حتَّى يستوي الإمام راكعًا أو ساجدًا. فالعمدة في الاستدلال حديث البراء. والله أعلم (2). * * * * _________ (1) (1/ 206 - 207) ط. المنيرية. (2) مجموع [4716].

(24/226)


أحاديث زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن «تلخيص الحبير» مع تصرُّف وزيادة من «التهذيب» و «اللسان». 1. هارون بن أبي قزعة، عن رجل من آل حاطب، عن حاطب مرفوعًا: «من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن مات بأحد الحرمين يُبعث من الآمنين يوم القيامة» (1). وفي «اللسان» (2): «هارون بن أبي قَزَعة [المدني] عن رجل في زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. قال البخاري: لا يتابع عليه. عبد الملك بن إبراهيم الجُدِّي (3)، ثنا شعبة، عن سوار بن ميمون، عن هارون بن قزعة، عن رجل من آل الخطاب عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «من زارني متعمدًا كان في جواري يوم القيامة، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله يوم القيامة من الآمنين». والمحاملي (4) والساجي قالا: حدثنا محمد بن الوليد البسري، ثنا وكيع، ثنا ابن عون وخالد بن أبي خالد، عن الشعبي والأسود (؟) (5) بن ميمون، عن هارون بن أبي قزعة (؟) (6) رجل من آل حاطب، عن حاطب _________ (1) «التلخيص الحبير» (2/ 286). (2) (8/ 309). (3) ومن طريقه أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (3856). (4) ومن طريقه أخرجه الدارقطني (2694) والبيهقي في «شعب الإيمان» (3855). (5) وضع عليه الشيخ علامة الاستفهام لأنه في السند السابق: «سوار بن ميمون». (6) وضع عليه الشيخ علامة الاستفهام لأنه في السند السابق: «هارون بن قزعة».

(24/227)


قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: .... (كما في التلخيص) انتهى. قال الأزدي: هارون أبو قزعة يروي عن رجل من آل حاطب المراسيل. قلت: فتعين أنه الذي أراد الأزدي، وذكره العقيلي والساجي وابن الجارود في الضعفاء». أقول: فالرجل متفق على ضعفه، وقال البخاري في حديثه هذا: «لا يتابع عليه». ثمَّ [في] رواية شعبة ــ على ما في «اللسان» ــ: سوار بن ميمون. وفي رواية ابن عون: الأسود بن ميمون. وفي رواية شعبة: هارون بن قزعة. وفي رواية ابن عون: ابن أبي قزعة. وفي رواية شعبة: عن رجل من آل الخطاب عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وفي رواية ابن عون: من آل حاطب، عن حاطب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. ويَحتمِل أن تكون هذه الاختلافات من خطأ النسخة. وفي رواية شعبة: «من زارني متعمِّدًا كان في جواري يوم القيامة». وفي رواية ابن عون: «من زارني بعد موتي فكأنَّما زارني في حياتي». ومع ذلك فالرجل الذي من آل حاطب مجهول، وحاطب لا يُدرى أهو ابن أبي بلتعة الصحابي أم غيره؟ وفي قوله: «من زارني بعد موتي فكأنَّما زارني في حياتي (1)» نكارةٌ لمخالفته النصوص الصحيحة والإجماع. وللحديث طريق ثالث: _________ (1) في الأصل: «حياته»، سبق قلم.

(24/228)


قال الطيالسي (1): حدثنا سوار بن ميمون أبو الجراح العبدي، قال: حدثني رجل من آل عمر، عن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «من زار قبري ــ أو قال: من زارني ــ كنت له شفيعًا أو شهيدًا، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله من الآمنين يوم القيامة». وهذا يوافق رواية شعبة، ويخالفها في الوصل والإرسال. والشك الذي في رواية الطيالسي يُحمل على رواية شعبة، فيكون الراجح عن سوار: «من زارني» لا: «من زار قبري». ورواه البيهقي (2) من طريق الطيالسي ثم قال: «إسناده مجهول». وفي هذا كلِّه (3)، فالحديث ساقط لا يصلح للمتابعة. والله أعلم. 2. الدارقطني (4) من حديث حفص بن أبي داود، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عمر مرفوعًا: «من حجَّ فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي». والطبراني في «الأوسط» (5) من طريق الليث ابن بنت الليث بن أبي سليم، عن عائشة بنت يونس امرأة الليث، عن ليث. _________ (1) «مسند الطيالسي» (65). (2) في «الكبرى»: (5/ 245). وأخرجه أيضًا الطبراني في «الكبير» (13497)، و «الأوسط» (3376). (3) كذا في الأصل. (4) في «سننه» (2693). (5) برقم (287). وأخرجه أيضًا في «الكبير» (13496).

(24/229)


قال ابن حجر (1): وهذان الطريقان ضعيفان. أقول: حفص بن أبي داود، هو حفص القارئ (2). اتَّفقوا على تركه، وجاء عن الإمام أحمد فيه ثلاث عبارات؛ مرَّة: «صالح»، ومرَّة: «ما به بأس»، ومرَّة: «متروك الحديث». والجمع بينها: أنَّه في دينه صالح ما به بأس، وفي حديثه متروك، أي لغلبة خطائه وغفلته وغلطه. فإن شككت في هذا الجمع فأسقِط العبارات كلَّها لتعارضها. بل قال أبو حاتم الرازي: «لا يصدق». وقال ابن خراش: «كذَّاب». وقال الساجي عن أحمد بن محمد البغدادي عن ابن معين: «كان كذَّابًا». نعم، قال أبو عمرو الداني: قال وكيع: «كان ثقةً»، ولم يبيِّن سنده إلى وكيع. ولو صحَّ فهو محمول على أنه كان ثقةً في القراءة. أو يسقط ذلك لمعارضته الجرح المفسَّر من نحو خمسة عشر إمامًا. ومع هذا، فحديثه هذا أورده البخاري في ترجمته في الضعفاء إنكارًا له. ثمَّ شيخه ليث بن أبي سليم، وخلاصة ترجمته قول الحافظ في «التقريب»: «اختلط أخيرًا ولم يتميَّز حديثه فتُرك». ثم إن الرواة عن ليث كثيرون فانفراد حفصٍ مما يزيده وهنًا على وهن. _________ (1) «التلخيص الحبير» (2/ 286). (2) انظر لأقوال الأئمة فيه «تهذيب التهذيب».

(24/230)


وأما الليث ابن بنت الليث عن عائشة بنت يونس (1) امرأة الليث، فبغاية الجهالة. ولا حاجة لذكر مجاهد ــ رحمه الله ــ وتدليسه، فهو أجلُّ من أن يُذكر هنا. ومع ذلك ففي الحديث النكارةُ المتقدِّم ذكرها. فالحديث من الضعف بحيث لا يصلح للمتابعة. 3. ورواه العقيلي (2) من حديث ابن عبَّاس، وفي إسناده فضالة بن سعيد المأربي، وهو ضعيف. أقول: لفظه كما في «اللسان» (3): «حدثنا سعيد بن محمد الحضرمي، ثنا فضالة، حدثنا محمد بن يحيى، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ مرفوعًا: «من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي». ولا يُعرف إلا به. قال الذهبي: هذا موضوع على ابن جريج. اهـ. وفضالة، قال أبو نعيم: روى المناكير لا شيء». أقول: ومحمد بن يحيى المأربي (4)، قال ابن حزم: مجهول، ووثَّقه _________ (1) في الأصل: «مسلم»، سبق قلم، وقد سبق على الصواب. (2) في «الضعفاء»: (3/ 457). (3) (6/ 332). (4) انظر «تهذيب التهذيب» (9/ 521).

(24/231)


الدارقطني وابن حبَّان، إلا أنهما يوثِّقان المجهول بشروط عندهما، منها: أن لا يكون حديثه منكرًا. وقد قال ابن عديٍّ (1) في محمد بن يحيى هذا: «أحاديثه مظلمة منكرة». فلو سَلِم الحديث من فَضالة لم يسلم من محمد بن يحيى. وقد أَجَلَّ الله ابنَ جريج وعطاءً أن يُحتاج إلى ذكر تدليسهما هنا. فالحديث موضوع، أو بغاية الضعف، لا يصلح للمتابعة (2). * * * * [تعليق على «تهذيب التهذيب»] «د ت ق. عطية بن عروة، ويقال: ابن سعد، ويقال: ابن عمرو ... صحابي نزل الشام ... قلتُ (3): صحّح ابن حبّان أنه عطية بن عروة بن سعد، ووقع في «الكبير» (4) وفي «المستدرك» (5): عطية بن سعد، كأنه نسبه إلى جده ... ». قلتُ: فكان ينبغي أن ينبّه على ترجمته في (عطية بن سعد) و (عطية بن _________ (1) في «االكامل» (6/ 234). (2) مجموع [4716]. (3) القائل هو الحافظ ابن حجر. (4) (17/ 166) للطبراني. (5) (4/ 319).

(24/232)


عمرو)؛ لأن الناظر إذا رأى في كتاب (عطية بن سعد) وينظر في «التهذيب»، فإما أن يظنّه العوفي التابعي الضعيف، وإما أن يجهله، وكذا إذا نظر (عطية بن عمرو). والله أعلم (1). * * * * [فائدة حول «أىى» في «الكفاية» للخطيب] الحمد لله. وقد وقعت هذه الصيغة ــ أىى ــ في «كفاية الخطيب» في النسخة الموجودة في المطبعة، وهي منقولة كما يظهر في آخرها من نسخة كتبت سنة 848. وكاتب هذه النسخة التي في المطبعة يضبط الصيغة: «أنبأ» حتّى في المواضع التي يدل السياق أنها: أخبرنا. فمن ذلك في ص 131 في باب ما جاء في عبارة الرواية عمّا سمع من المحدّث. قال الخطيب: «ثم قول: أخبرنا، وهو كثير في الاستعمال حتى إن جماعة من أهل العلم لم يكونوا يخبرون عمّا سمعوه إلا بهذه العبارة منهم ... و ... اىى محمد بن أحمد ... سمعت نعيم بن حماد يقول: ما رأيت ابن المبارك يقول قط: حدثنا، كأنه يرى «أىى» أوسع ... » (2). _________ (1) مجموع [4711]. (2) مجموع [4711]. وللشيخ تحقيق في هذه الصيغة الواقعة في «السنن الكبرى» للبيهقي، انظر «مقدمات المعلمي» (ص 311).

(24/233)


[كشف خطأ في مطبوعة «تهذيب التهذيب»] «تهذيب التهذيب» (1): ترجمة (عمرو بن أبي سفيان بن أسيد): «وقد بين المصنف الاختلاف في تسميته على الزهري في ترجمته عن أبي هريرة في «الأطراف»، وحاصله أن البخاري وقع عنده من طريق شعيب ومعمر: «عمرو»، ومن طريق إبراهيم بن سعد: عن أبي (2) أسيد». أقول: ولعلّ الصواب بدل قوله «عن أبي»: «عمر بن». وانظر «البخاري» (3)، كتاب المغازي، عقب ذكر غزوة بدر (4). * * * * [كشف سقط في مطبوعة «الإصابة»] في «تهذيب التهذيب» (5): «الربيع بنت معوذ [ابن عفراء، وعفراء أم معوَّذ، وأبوه: الحارث بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار]». وفي «الإصابة» (طبع مصر، وطبع كلكته) (6): «الربيع بنت معوذ بن عقبة بن حزام بن جندب الأنصارية النجارية، من _________ (1) (8/ 41). (2) وضع المعلمي الخط فوق «عن أبي» في الموضعين. (3) برقم (3989) حيث وقع فيه: « ... إبراهيم [بن سعد]، عن ابن شهاب قال: أخبرني عمر بن أسيد بن جارية الثقفي». (4) مجموع [4719]. (5) (12/ 418). (6) (13/ 375) ط. دار هجر. وفيه: «ابن عفراء بن حرام» بدل: «بن عقبة بن حزام».

(24/234)


بني عدي بن النجار ... » (فذكر ترجمتها). ثم نظرت «ثقات ابن حبان» (1)، فنسبها كما في «التهذيب»، ثم راجعت «طبقات ابن سعد» (2) فإذا فيه: «الربيع بنت معوذ بن الحارث [بن رفاعة بن الحارث] بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار. وأمها: أم يزيد بنت قيس بن زعوراء بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار». فظهر من هذا أنّه وقع في «الإصابة» سقطٌ أَدمَجَ نسبَها في نسب أمّها. والله أعلم (3). * * * * [معنى إطلاق وصف «الخوارج» على بعض الرواة] الحمد لله. المحدثون قد يطلقون «الخوارج» على مطلق الخارجين على السلطان، وإن كانوا بريئين عن سائر أقوال الخوارج الشاذة. وقد يغفل بعض الأئمة عن هذا، فيقول في أحد هؤلاء: إنّه من الحرورية؛ يَبْنِيه على ما فهمه من قول غيره: «من الخوارج». انظر ترجمة عمران بن داور من «التهذيب» (4) (5). _________ (1) (3/ 132). (2) (8/ 447). (3) مجموع [4719]. (4) (8/ 130 - 132). (5) مجموع [4719].

(24/235)


[دفاعًا عن إمام المغازي ابن إسحاق] «الفهرست» (ص 136) أخبار ابن إسحاق « ... يحكى أن أمير المدينة رقي إليه أن محمدًا يغازل النساء ... ». قلتُ: لم أر هذه الحكاية لغير هذا الرجل. وهي معضَلَة بلا سند، فلا يُلتفت إليها. وعلى فرض أن لها أصلًا فقد يحتمل أن بعض أعداء ابن إسحاق وشى به كذبًا فعوقب بغير حقٍّ. وعلى فرض صحَّة ذلك، فالظاهر أن ذلك في الصِّغر وأوائل الشباب. ثمَّ ذكر إنكار هشام بن عروة على ابن إسحاق روايته عن فاطمة بنت المنذر زوج هشام. وقد أجاب أئمة الحديث عن ذلك. ثم قال النديم: «ويقال كان يُعمل له الأشعار ويؤتى بها ويُسأل أن يُدخلها في كتابه في السيرة [فيفعل]» إلخ. قلتُ: أمَّا هذا فمحتمل؛ وذلك أن ابن إسحاق كان يأخذ عن كلِّ أحد، فلعلَّ بعض الناس كان يصنع بعض الأشعار ثم يجيء إلى ابن إسحاق فيذكر له ذلك الشعر ويزعم أنه سمعه من الرواة. ولا يعلم ابن إسحاق كَذِب ذلك فيثبته في السيرة لاحتمال صحته عنده. وليس في هذا ما يبطل روايته إذا أسند عن الثقات وصرَّح بالسماع. والله أعلم. فأما نقله عن اليهود والنصارى وتسميته إيَّاهم أهلَ العلم الأوَّل، فلا عيب فيه (1). _________ (1) مجموع [4724].

(24/236)


[كلام على بعض الرواة] * [في «اللسان» (1)]: «زيد بن عبد الرحمن ... «أخوك البكري لا تأمنه». قال العقيلي: لا يُتابع عليه، ولا يعرف إلا به». أقول: أما المتن فقد روي من وجهٍ آخر. انظره في «مسند أحمد» (2) في حديث ... أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعثه بمالٍ لأبي سفيان بعد الفتح، فأراد عمرو بن أمية الضمري أن يصحبه، فاستأذن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في أن يستصحب عمرًا، فأذن له، وقال له: « .... أخوك البكري ولا تأمنه». * قيس بن الربيع: فيه كلام طويل (3)، حاصله: أنه صدوق سيء الحفظ، وكان له ابن سوء يدسُّ في كتبه ما ليس من حديثه. ومثل هذا يصلح للمتابعة، ولا سيما مع إمامة الراوي عنه وتيقّظه. * [في «التهذيب» (4)]: المسعودي. وقال ابن نمير: كان ثقة، واختلط بأخرة. سمع منه ابن مهدي ويزيد بن هارون أحاديث مختلطة. عبد الله بن أحمد عن أبيه: سماع وكيع من المسعودي قديم، وأبو نعيم أيضًا، وإنما اختلط المسعودي ببغداد، ومن سمع منه بالكوفة والبصرة فسماعه جيد. _________ (1) (3/ 558). (2) برقم (22492). وأخرجه أبو داود (4861). وهو ضعيف أيضًا، انظر تعليق المحققين على المسند. (3) انظر «التهذيب» (8/ 391 - 395). (4) (6/ 210 - 212).

(24/237)


قلت: ويزيد بن هارون بصري؛ ففي ترجمته (1): «وقال عمرو بن عون عن هشيم: ما بالبصريين مثل يزيد». * «لسان الميزان (2)»: شعبة بن زافر، أبو رافع الأصبهاني، قال أبو الشيخ في «الطبقات»: كان يرى الإرجاء. أقول: ذكر الذهبي في «الميزان» (3) في ترجمة [هشام بن حسَّان القردوسي] (4) أن هُدْبة بن خالد قال في شعبة بن الحجاج الإمام: إنه مرجئ! فلينظر، لعل هدبة إنما قال ذلك في شعبة هذا (5). * * * * [تعليق على كلام «السيد علوي» حول توثيق الوليد بن مسلم] «السيد علوي»: «الوليد بن مسلم ثقة غير مدافع، وقد صرَّح فيه بالتحديث، فانتفى توهم التدليس، وأيضًا فقد رواه عن الأوزاعي غيره كشعيب بن إسحاق، وأبي المغيرة، ومحمد بن مصعب، ويزيد بن يوسف، وقد زعم أيضًا أن تمَّامًا الرازي قال في الوليد بن مسلم: إنه منكر الحديث، وهذا خطأ فإن الذي قال فيه تمام ذلك هو الوليد بن سلمة لا الوليد بن مسلم». _________ (1) «التهذيب» (11/ 322). (2) (4/ 245). (3) (4/ 296). (4) بيَّض الشيخ للاسم فكأنه لم يستحضره. (5) مجموع [4727].

(24/238)


[قال الشيخ معلقًا على قوله: «وقد صرّح بالتحديث»]: «هذا خطأ، فإن الوليد إنما صرَّح بالتحديث عن شيخه، وهذا لا يدفع تدليس التسوية الذي عُرف به، بل لا يكفي في دفعها إلا التصريح بالتحديث في جميع السند». (ج 2/ص 87): «الثاني: أن الأئمة قد اتفقوا على توثيق الوليد بن مسلم، ولم ينكر عليه بعضهم إلا التدليس ... وقد روى الوليد هذا الحديث بصيغة التحديث، ورواه غيره عن الأوزاعي أيضًا فانتفى توهم التدليس ... » إلخ (ج 2/ص 89): «ألا ترى أن الوليد قال لهيثم: «أنبأنا الأوزاعي أنه يروي عن مثل هؤلاء» يعني أنهم مقبولون عنده، فلمّا شغب عليه الهيثم وضعَّفهم سكت عنه، والسكوت خير جواب؛ لأن الوليد بن مسلم يعلم التفاوت العظيم في العلم والمعرفة بين الإمام الأوزاعي والهيثم. فلا يُقدَّم قوله على قول الأوزاعي ولا جرحه لهؤلاء الرواة على اعتماد الأوزاعي بهم، وما كان ينبغي له أن يترك حافظ الشام للهيثم وأشباهه». اهـ. أقول: هذا غلط كما يُعلم بمراجعة المحاورة (1). (ص 88): «السابع أن الذي رأيناه في مقدمة «شرح صحيح مسلم» للإمام النووي _________ (1) إذ صواب العبارة: «أُنْبِلُ الأوزاعيَّ أن يروي ... ». انظر «سير أعلام النبلاء»: (9/ 215) و «ميزان الاعتدال»: (4/ 348) و «تهذيب التهذيب»: (11/ 135).

(24/239)


موافق لِمَا قاله غيره من الأئمة، فإنه قال بعد ذِكْر الخلاف في الجرح بتدليس التسوية: والصحيح ما قاله الجماهير من الطوائف ... » إلخ. أقول: ظاهر هذا السياق أن كلام النووي ينصبّ على تدليس التسوية، وهو غير ظاهر، فليراجع، ولاسيما وقد قال السيد بعد ذلك: وأما قول النووي في مقدمة شرح الصحيح في تدليس التسوية أن تحريمه ظاهر ... إلخ (1). _________ (1) مجموع [4657].

(24/240)


الفوائد الفقهية

(24/241)


[شرح آية الوضوء] (1) {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} مُحْدِثين كنتم أو غير مُحدثين {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ] وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} أي ــ والله أعلم ــ سواءٌ أكنتم محدثين أم لا {أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ} أصحَّاء حاضرين ولكن محدثين {جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}. فالحاصل أن الله تعالى أمر بالوضوء عند القيام إلى الصلاة مطلقًا، ثم رخَّص للمريض أن يتيمَّم مطلقًا أيضًا، ورخَّص للمسافر أن يتيمَّم مطلقًا بشرط عدم الماء، ورخَّص للصحيح الحاضر المحدث بشرط عدم الماء. وفُهمَ من هذا الأخير أن الصحيح الحاضر غير المحدث العادم للماء يتيمَّم من باب أَوْلى، فبقي الصحيح الحاضر غير المحدث إذا وجد الماء، فيجب عليه الوضوء. فإن قيل: فلو قيل في غير القرآن: «أو مرضى أو لم تجدوا ماء فتيمموا» يوفي بهذا المعنى الذي زعمته مع إيجازه ووضوحه، فلماذا عدل عنه إلى الإطناب مع ما فيه من الغموض؟ (2). * * * * _________ (1) وقد سبق في قسم الفوائد التفسيرية كلام للشيخ على الآية والاستنباط منها. (2) هنا توقّف قلم الشيخ. مجموع [4724].

(24/243)


[هيئات الصلاة والأصل في وضعها] أعمال الصلاة أو أكثرها مستعمل بين الأمم تحيَّةً وتعظيمًا. أما السجود والركوع والقيام فظاهر. وهكذا التطبيق المنسوخ مستعمل عند أهل الهند تعظيمًا؛ يُطبِّق أحدهم كفَّيه مشيرًا بهما إلى من يعظِّمه، وأغلب ما يُستعمل عند الاسترحام. ورفع اليدين مستعمل عند .... (1)؛ يرفع أحدُهم يديه إذا دخل على مخدومه أو أراد الخروج من عنده، إلّا أنه يرفعهما مادًّا لهما إلى قدَّام منحنيًا. والجلوس مفترشًا هو قريب من جلوس الإنسان بين يدي مَنْ يحترمه كالتلميذ بين يدي شيخه. ووضع اليد على اليد أيضًا معروف يستعمله الناس أمام من يحترمونه. وقبض الأصابع غير المسبِّحة يحتمل أن يكون له حظٌّ من هذا. والظاهر أن الأصل في هذه الأعمال مِنْ وَضْع الباري عز وجل ليُعبد بها، ثمَّ تناهبها الملوك والرؤساء وغيَّروا فيها وبدَّلوا. ويحتمل أن يكون بعضها اخترعه الناس لتعظيم رؤسائهم، ثم أمر الله عز وجل أن يُعبد به؛ لأن التعظيم لا يستحقّه سواه (2). _________ (1) بياض في الأصل مقدار كلمة. (2) مجموع [4711].

(24/244)


[مشروعية جهر الإمام بآمين] النِّيموي (1) (ص 94): «لا تبادروا الإمام، إذا كبَّر فكبِّروا، وإذا قال: ولا الضالين، فقولوا: آمين، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد». رواه مسلم (2). قال النيموي: «يُستفاد منه أن الإمام لا يجهر بآمين؛ لأن تأمين الإمام لو كان مشروعًا بالجهر لما علَّق النبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - تأمينهم بقوله: ولا الضالين. بل السياق يقتضي أنه لم يقل إلا هكذا: وإذا قال آمين فقولوا آمين». اهـ. أقول: إنما لم يقل: «وإذا قال آمين فقولوا آمين»؛ لأن السنة موافقة الإمام، بأن يقولها معه لا بعده. وهذا المعنى إنما يؤديه قوله: «وإذا قال ولا الضالين فقولوا آمين». وأما قوله في الحديث: «إذا كبر فكبروا» فالمشروع أن يكون تكبير المأموم بعد تكبير الإمام، وهكذا الركوع، وقول سمع الله لمن حمده (3). * * * * _________ (1) هو ظهير أحسن النيموي الحنفي (ت 1325 هـ). والنقل من كتابه «آثار السنن مع التعليق الحسن». (2) (415) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) مجموع [4726].

(24/245)


[مناقشة الشافعية في قولهم بركنيَّة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في التشهد] الحمد لله. احتجَّ الشافعية على أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في التشهُّد ركن بحديث فَضالة بن عُبيد قال: «بينما رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قاعد إذ دخل رجل فصلَّى فقال: اللَّهم اغفر لي وارحمني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «عجلتَ أيها المصلِّي! إذا صلَّيتَ فقعدت فاحْمد الله بما هو أهله وصلِّ عليَّ ثم ادْعُه». قال: ثم صلَّى رجل آخر بعد ذلك فحمد الله وصلَّى على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال له النبى - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أيها المصلِّي ادعُ تُجَبْ» (1). ورُدَّ بأنه دليل عليكم؛ إذ لو كانت ركنًا لأَمَره بالإعادة كما أمر المسيء صلاته. فأما كونه لم يأمر الذي تكلَّم في صلاته جاهلًا، فلأن مثل ذلك الكلام يُعذر به الناسي والجاهل بخلاف ترك الركن فإنه لا يُعذر ناسيه ولا جاهله؛ وهذا مذهبكم. ومع هذا فلا ندري هل كان دعاء الرجل ودعاؤه (2) بعد الفراغ من الصلاة أم فيها، فإن كان الأول فلا علاقة له بالمسألة، إلا أن الأشبه الثاني. واحتجُّوا بحديث الحاكم على شرط مسلم عن ابن مسعود قال: «أقبل _________ (1) أخرجه أحمد (23937)، والترمذي (3476، 3477) ــ واللفظ لأُولى روايتيه ــ، والنسائي (1284)، وابن خزيمة (709)، وابن حبَّان (1960). وقال الترمذي: «هذا حديث حسن». وقال في الرواية الثانية: «حسن صحيح». (2) كذا في الأصل.

(24/246)


رجل حتى جلس بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ونحن عنده فقال: يا رسول الله أما السَّلام عليك فقد عرفناه، فكيف نصلِّي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا ــ صلى الله عليك ــ؟ قال: فصَمَت حتى أحببْنا أن الرجل لم يسأله، ثم قال: إذا صليتم عليَّ فقولوا ... ». وحملوا قوله «في صلاتنا» على ذات الركوع والسجود، وهو محتمل كما أنه يحتمل أن يكون المراد: في صلاتنا عليك؛ كأنه قال: كيف نقول في صلاتنا عليك؟ وربَّما يؤيِّده جوابه - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله: «إذا صليتم عليَّ فقولوا»، ولم يقل: إذا صلَّيتم عليَّ في صلاتكم ... وعلى كلِّ حال، فلا دلالة فيه على الوجوب فضلًا عن الركنيّة؛ فإن قوله: «إذا صلَّيتم عليَّ» معناه: إذا أردتم الصلاة عليَّ، فقوله: «فقولوا» أمر إرشاد وتعليم لتعليقه على إرادتهم. وأيضًا فكونه تعليمًا لسائل التعليم ظاهر في كونه إرشادًا فقط. واستدلُّوا أيضًا بالآية، والأمر للوجوب. وأجيب بتسليم الوجوب، ولكن لا تتعيَّن الصلاة. كما أن الله عز وجل أمرنا بالاستغفار، ولم يقل أحدٌ: إنه ركن من أركان الصلاة. ويظهر لي وجهٌ آخر وهو أن قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] معناه: ادعوا له، وفي التشهُّد الدعاء له: «السلام عليك أيُّها النبي ورحمة الله وبركاته». وإن ادُّعي أن قوله: {صلُّوا} أراد به: انطقوا بلفظ الصلاة.

(24/247)


قلنا: أفلا يحتمل أن يكون المراد الصلاةَ أو ما يرادفها، وهو الرحمة؛ فإنَّ في الصلاة الإبراهيمية: «كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد [مجيد] ... كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد». وهو مأخوذ من قوله تعالى حاكيًا عن الملائكة في خطابهم لآل إبراهيم: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ (1) ... حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73]. فأنت ترى كيف أبْدَلَ الرحمةَ بلفظ الصلاة، وهو يدلُّ على ترادفهما. ثم إن العبارة التي في التشهُّد: «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» مطابقة للآيتين. أما آية: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، فلأنّ قولنا: «السلام عليك» يقابل قوله: {وَسَلِّمُوا}. وقولنا: «ورحمة الله» يقابل قوله: {صَلُّوا} كما مرَّ. وأما آية: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} فظاهر. والله أعلم (2). * * * * _________ (1) في الأصل: «إنك» سبق قلم. (2) مجموع [4716].

(24/248)


[بحث في فرضية التشهُّد الأول، وما الذي شُرِع له سجود السهو؟] الحمد لله. الحق ــ إن شاء الله ــ أن التشهُّد الأول فرض، بمعنى أن تركَه عمدًا مبطلٌ للصلاة، وتركَه سهوًا موجبٌ سجودَ السهو. والدليل على فرضيته هو الدليل على فرضيَّة التشهد الثاني. وأما كون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تَرَكَه مرَّة وسجد للسهو، فذلك لا ينفي فرضيته بالمعنى الذي قلنا، كما أن كونه سلَّم مرَّة قبل التمام ثم رجع فأتمَّ وسجد للسهو لا ينفي كون السلام قبل التمام مُبطل (1) لو وقع عمدًا، وهكذا زيادة ركعة. بل فعله - صلى الله عليه وآله وسلم - ذلك دليل على الفرضيَّة إذ لم يثبت أنه سجد للسهو إلا لفعلِ ما يبطل عمدُه. وقد قال إسحاق بن راهويه في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في التشهُّد الثاني: إنها فرض بهذا المعنى، أي أنَّ تركها عمدًا مبطل للصلاة بخلاف تركها سهوًا. وقول أصحابنا: إنه سنَّة، دعوى لا دليل عليها، بل قد أبطلناها. ونزيد فنقول: إن كانت سنَّة فلماذا سجد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لِتَرْكها؟ وما الفرق بينها وبين دعاء الافتتاح والتعوُّذ والتكبيرات وأذكار الركوع والاعتدال والسجود والجلوس بين السجدتين؟ ولم يأتوا بفرق إلا أنه نُقل عن الغزالي أن التشهد الأول من الشعائر _________ (1) كذا في الأصل، والوجه: «مبطلًا».

(24/249)


الظاهرة المخصوصة بالصلاة وليس ما تقدَّم مثل ذلك. فيقال له: إنْ أردتَ بالشعائر الظاهرة ما لها صورة فهذا خاص بالجلوس لا بالتشهُّد، فلو جلس (1) ولم يتشهَّد لا يسجد للسهو، وأنتم لا تقولون به. وأيضًا فإنّ جلسة الاستراحة كذلك، وأيضًا فـ «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد» كذلك لأنه يُجهر بها. وإن أردتَ غير ذلك، فما هو؟ فإن قلتَ: «الظاهرة» لغو، والمقصود الشعائر الخاصة بالصلاة، فـ «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد» كذلك، وجلسة الاستراحة كذلك. وإن أردتَ أن الخاص بالصلاة هو لفظ التشهُّد، فإن «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد» مثل [ذلك]؛ لأن كلًّا منهما ذِكرٌ لم يُشْرَع إلا في الصلاة، ومع ذلك لو قاله إنسان في غير الصلاة لم يُمنع. وقول غيره: الفرق بين التشهُّد وبين غيره ممّا مرَّ أنه بعضٌ، فلذلك ألحقت به الأبعاض في السجود للسهو عند تركها. فيقال له: وما البعض؟ قالوا: السنن التي تُجْبَر بسجود السهو. فيقال لهم: هذا دور! إذا سألناكم الدليل على أن هذه الأشياء تُجبر بسجود السهو، قلتم: لأنها أبعاض، فإذا سألناكم الدليل على أنها أبعاض دون غيرها، قلتم: لأنها تُجبر بسجود السهو. والحاصل أنهم لم يأتوا بشيء! فأما القنوت في الصبح فهو غير مشروع أصلًا، كما بيَّن أهل العلم أدلَّة ذلك. _________ (1) في الأصل: «فإذا لو جلس».

(24/250)


وأما الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في التشهُّد الأول، فالصواب ــ إن شاء الله تعالى ــ أنها غير مشروعة أصلًا لما جاء في حديث ابن مسعود، و [ ... ] (1). وهم إنما يثبتونها بالقياس، ولا قياس مع النصِّ، على أن القياس في العبادات ضعيف جدًّا. ثم إن الحديث الذي يستدلون به على الأمر بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في التشهُّد الأخير= يدلُّ أنها إنما شُرعت لتكون مقدِّمة للدعاء، ولا دعاء في التشهُّد الأول. وأيضًا فذلك الحديث يدل على عدم ركنيَّتها في التشهُّد الثاني؛ فإن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يأمر المصلِّي الذي لم يأت بها بالإعادة. فإن قلتم: كان جاهلًا. قلنا: الجاهل لا يُعذر في ترك ركن من الأركان. فإن قلتم: لعلَّه كان في نفل. قلنا: كان الظاهر أن يبيِّن له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ركنيَّتها حتَّى لا يتركها مرَّة أخرى في الفرض أو في نفل فيأتيَ بصلاة غير صحيحة، وهي حرام، ولو نفلًا. على أن ذلك الرجل يحتمل أنه ترك أصل التشهُّد؛ فإن قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إذا قعدت فاحمد الله بما هو أهله، وصلِّ عليَّ ثم ادعه»، فأول التشهد: «التحيَّات لله والصلوات والطيبات»، وهذا حَمدُ الله (2). ثم: «السلام عليك أيُّها النبي ورحمة الله وبركاته»، وهذه صلاة عليه - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ لأن الرحمة هي الصلاة كما ترجمها هو - صلى الله عليه وآله وسلم - بذلك فقال: «اللهم صلِّ _________ (1) بياض في الأصل بمقدار أكثر من سطرين. (2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: «حمدٌ لله».

(24/251)


على محمد، وعلى آل محمد، كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك ... »، أراد - صلى الله عليه وآله وسلم - قولَ الملائكة لأهل بيت إبراهيم [في] قوله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ (1) ... حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73]. ثم: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين»، وهذا الدعاء. وغاية ما في الأمر أن يثبت به أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بلفظ الصلاة مأمور به في التشهُّد الثاني. وهذا ــ مع عدم بيانه - صلى الله عليه وآله وسلم - الركنية ــ يصدق بالفرضية على ما قال إسحاق. فوُجد فرق بين التشهُّد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فلا يجوز مع ذلك قياسها عليه لإثبات مشروعيتها في الجلوس الأول. ثمَّ إنهم أثبتوها في القنوت بغير نصٍّ من الإمام، بل قياسًا على ثبوتها في التشهُّد، وهذا قياس على مقيس، وهو ضعيف جدًّا. على أنه لا مشابهة بين القنوت والتشهُّد، هذا فضلًا عن كون القنوت لم يثبت من أصله. نعم، احتجُّوا بما رواه النسائي (2) عن الحسن بن علي في قنوت الوتر، _________ (1) في الأصل: إنك، سبق قلم. (2) (1746)، وفي الكبرى (1447 و 8047). قال النووي في «الخلاصة»: (1/ 458): إسناده صحيح أو حسن. وحسَّنه ابنُ الملقن في «تحفة المحتاج»: (1/ 410). وضعَّفه الحافظ ابن حجر بالانقطاع، وبالاختلاف في إسناده. انظر «التلخيص»: (1/ 264 - 265).

(24/252)


وفيه: «وصلَّى الله على النبي». فعلى العين والرأس ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولكن هذا الحديث فيه اضطراب معروف. وهبْه صحَّ، فإن أصل القنوت في الصبح لم يصحَّ. وهبه صحَّ، فمن أين زدتم الصلاة على الآل؟ قالوا: قياسًا على الصلاة عليه - صلى الله عليه وآله وسلم -. قلنا: قياس مسلسل، ومع ذلك لِمَ لم تفعلوه في التشهُّد الأول؟ قالوا: التشهُّد الأول مبني عل التخفيف. قلنا: والاعتدال عندكم ركن قصير يبطل تطويله. قالوا: قياسًا على التشهُّد الثاني. قلنا لهم: تارة تقيسونه على الأول وتارة على الثاني؟ ! فاختاروا أحدهما! إما أن تقيسوه على الثاني وتقولوا: هو ركن، فلا تجبروه بسجود السهو، أو على الأول فلا تزيدوا فيه الصلاة على الآل. ثم بالغوا فقالوا: «وصحبه» مع أن الصلاة على الصحب ليست مشروعة في الأول ولا في الثاني! قالوا: قياسًا على الآل. قلنا: ما جعل هذا القياس المسلسل أولى من القياس المباشر؟ أعني إثباتها في الثاني. ثم إن هذه الزيادات التي جلبتموها جعلتموها كلها تُجبَر بسجود السهو، مع أن سجود السهو إذا وقع لغير سببٍ مبطلٌ، فكيف تجرؤون على شرع المبطل لمثل تلك التمحُّلات؟

(24/253)


والحاصل أن القنوت من أصله لم يثبت، فكفى الله المؤمنين شرَّ القتال. وسجود السهو ليس له إلا سبب واحد، وهو فعل ما يُبطل عَمْده ولا يُبطل سهوه، ولو احتمالًا، أعني بأن لم يتيقَّن فعل المبطل ولكنه شكَّ في فعله. ثمَّ قالوا: إذا قرأ الفاتحة أو السورة أو التشهد أو الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في غير محلها، سجد للسهو على تفريعٍ في ذلك. ولا دليل لهم على هذا. قالوا: لأنه يدل على عدم الاعتناء بالصلاة بحيث شبَّه ترك التشهد الأول. قلنا: أما التشهُّد الأول فقد ثبت أن تركه عمدًا مبطل، ونَقْل تلك الأشياء غير مبطل. ثم لِمَ لم تقولوا في أذكار الركوع والاعتدال والسجود والجلوس بين السجدتين مثل ذلك؟ والظاهر أنَّ أول من طرق ذلك إنما قاسها على السلام قبل التمام؛ فإنه ركن وقع في غير محلِّه، فقاس عليه الفاتحة والتشهُّد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. ولكن المتأخرين لم يوجِّهوه بذلك، لعلمهم أن السلام قبل التمام إنما سُجد له لكون فِعْله عمدًا مبطلًا، لا لإيقاعه في غير محلِّه، فوجهوه بما وجهَّوا، وألحقوا بعض ما يناسب توجيههم، ولم يجرؤوا على إلحاق الجميع خوف الشناعة. فالحق ــ إن شاء الله تعالى ــ في سجود السهو أنه إنما شُرع لترك التشهُّد الأول، وللسلام قبل التمام، وللزيادة، أو الشك فيها. ومن يقول بالقياس فيُلحق بها كلَّ شيء أبطل عمدُه لا سَهْوُه، سواء أكان فعلًا أم تركًا.

(24/254)


وإذًا فلا معنى للسجود لعمد تلك الأشياء؛ إذ قد تبيَّن أن عمدها مُبطل، فأما الشكُّ فإنه لا يتصوَّر عمده. ثمَّ الحق في سجود السهو أنَّه فرض لأنه تداركٌ لفعل مبطل، إلا أن البطلان سقط لأجل السهو. والظاهر ــ والله أعلم ــ أن تارك الشيء منها جهلًا لا يُؤمر بسجود السهو لحديث الرجل الذي علَّمه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الصلاة عليه؛ فإننا نختار أن الصلاة عليه - صلى الله عليه وآله وسلم - في التشهد الثاني فرض لا ركن، وهذا هو مذهب إسحاق. وأيضًا في حديث معاوية بن الحكم أنه تكلَّم في الصلاة، ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالسجود للسهو مع أنَّ عمد الكلام مبطلٌ. قالوا: إنما لم يأمره لأنه كان مأمومًا، والمأموم يتحمَّل عنه إمامه. قلنا: وما دليلُ أنَّ المأموم يتحمَّل عنه إمامه؟ لم نجد لهم دليلًا في ذلك (1). * * * * [فائدة حول التشهد وعطف اسم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على لفظ الجلالة] جاء في بعض روايات التشهد: «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله». وفي بعضها: «وأن محمدًا عبده ورسوله». وفي أخرى: «وأشهد أن محمدًا رسول الله». _________ (1) مجموع [4716].

(24/255)


فقال بعضهم: يُفهم منه جواز: «وأن محمدًا رسول الله» بناءً على أن كلمة «أشهد» أُسقطت في روايةٍ، وكلمة «عبده» أُسقطت في أخرى، فيجوز حذفهما معًا. وهو عندي خطأ، فإسقاط كلّ منهما وحدها لا يدلّ على جواز إسقاطهما معًا. ثم من الحكمة في ذلك ــ والله أعلم ــ أنه إذا أسقط كلمة «أشهد» صار قوله: «وأن محمدًا» إلخ داخلًا تحت «أشهد» الأولى، فوجب حينئذ أن يُؤتى بكلمة: «عبده» حفظًا لمقام الربوبية ودفعًا لما يُوهمه إدخال الجملتين تحت «أشهد» واحدة من التسوية. وأما إذا جاء بـ «أشهد» أخرى فهذا الإيهام مندفع، فجاز حينئذ إسقاط كلمة «عبده». ومما يرشد إلى هذا إنكاره - صلى الله عليه وآله وسلم - على من قال: «ومن يعصهما فقد غوى» (1) وعلى قائل: «ما شاء الله وشئت» (2) (3). * * * * _________ (1) أخرجه مسلم (870) من حديث عديّ بن حاتم. (2) أخرجه أحمد (1839)، والنسائي في «الكبرى» (10759)، وابن ماجه (2117)، والبخاري في «الأدب المفرد» (783)، والبيهقي: (3/ 217) وغيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وفي سنده الأجلح الكندي مختلف فيه، وله شواهد يتقوَّى بها. (3) مجموع [4711].

(24/256)


[جمع الصلوات في الحضر] الحمد لله. في «الصحيح» (1) عن ابن عباس وأبي هريرة: «أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جمع بأصحابه في المدينة بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء لغير عذر ولا سفر». وفي رواية: «ولا مطر». فأخذ بهذا بعض التابعين وغيرهم. وتأوَّله الجمهور؛ فمنهم من تأوَّله بأنه كان لعذر. ورُدَّ بأن الصحابي قد قال: «بغير عُذرٍ»، وفعله ابن عبَّاس لغير عذر. ثم ما هو العذر؟ فقيل: مرض، ورُدَّ بما تقدَّم، وبأن ابن عبَّاسٍ فعله وهو يخطب في الجامع، وبأن المرض تُحِيل العادة أن يعمَّ، ولو كان خاصًّا بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكن عذرًا في حقِّ غيره. وقيل: مطر، ورُدَّ بما تقدَّم من إطلاق الصحابي أنه لغير عذر، وأن ابن عبَّاس فعله وهو يخطب في الجامع، وبأنه ثبت في بعض الروايات: «ولا مطر». وأيضًا فابن عبَّاس جمع تأخيرًا، وجمع المطر في الحديث من مذهب الشافعي خاصٌّ بالتقديم، وهو الذي يقتضيه النظر. على أن الجمع للمطر لم تقم عليه حجَّة، وإنما يحتجُّون عليه بهذا الحديث، وهو كما ترى. وقيل ــ وهو أقرب ما قيل ــ: لعلَّه جمعٌ صوري، ورُدَّ بأن ابن عبَّاس لمَّا سُئل عن سبب ذلك قال: «أراد أن لا يُحرج أمَّته». _________ (1) أخرجه البخاري (543) عن ابن عباس، ومسلم (705) من حديثهما.

(24/257)


والجمع الصوري أحرج من التوقيت. وهذا الرد محتمل ولكن ظهر لي ردٌّ أوضح منه وأبْيَن، وهو أن الصحابي أطلق الجمع، والمفهوم عند الإطلاق: الجمع الحقيقي. ولو أراد الجمع الصوري لقال: أخَّر الصلاة إلى آخر وقتها. وأيضًا ــ وهو أظهر ــ أنه قال: «جمع ... من غير عذر ولا سفر» فظهر من فحواه أنه أراد الجمع الذي يكون للسفر، وهو الحقيقي. كما لو قال قائل: قصَّر فلان الصلاة، لاحتمل إرادة القصر المعروف في السفر ــ وهو أن يصلِّي الرباعية ثنتين ــ، وإرادةَ القصر المقابل للتطويل. فإذا قال: قصَّر فلانٌ الصلاةَ من غير سفر= تعيَّن الأول، وهو صلاة الرباعية اثنتين. وقيل: إن هذا الحديث منسوخ بأحاديث التوقيت، وفيها النص على تحديد وقت الظهر ووقت العصر ووقت المغرب ووقت العشاء. وهذا جيِّد لو ثبت تأخُّر أحاديث التوقيت عن هذا الفعل، ولا يثبت. ثم في هذا الحديث أن ابن عبَّاس حضره، وهو إنما حضر المدينة أخيرًا. وكذا أبو هريرة. والظاهر أن أحاديث التوقيت متقدِّمة. ثمَّ فِعل ابن عبَّاس له واحتجاجه بهذا الحديث وتصديق أبي هريرة له يُبعد النسخ. فأقوى ما بيد الجمهور أن عمل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الغالبَ التوقيتُ، وعمل الأئمة مستمرٌّ عليه. ولكن غايته أن يكون الجمع مكروهًا فقط. وفَعَله - صلى الله عليه وآله وسلم - لبيان الجواز، وتَرَكه الأئمةُ لكونه مكروهًا، فلا يلزم من هذا عدم الجواز. والله أعلم (1). _________ (1) مجموع [4716].

(24/258)


[مسألة قضاء الصلوات المتروكة عمدًا] احتجاج من يرى قضاء الصلاة المتروكة عمدًا بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فدَين الله أحق أن يُقضى» (1) = فيه نظر؛ لأن لفظ الدَّيْن موضوع لما في الذمَّة مما يلزم أداؤه، فالحجُّ كان دَينًا في ذمّة أبي الخثعمية يلزمه أداؤه بحيث لو تُكلِّف حمله إلى مكة لصحَّ حجُّه اتفاقًا. وإنما خفي عليها هل يصحُّ أن تحجَّ هي عنه؟ فبيَّن لها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - المثل (2) أن ذلك في معنى الدين؛ لأنه شيء ثبت في الذمة يلزم أداؤه. فإذا كان الشيء الثابت في الذمَّة كذلك للبشر ينبغي للوارث أداؤه ــ ويراه صحيحًاـ (3)، فأولى منه الثابت لله عز وجل كذلك. وبهذا يتبيَّن أنه يلزم القائلين بقضاء الصلاة المتروكة عمدًا أن يجيزوا للوارث قضاء الصلاة عن مورّثه؛ لأنها عندهم دين، ودين الله أحق بالقضاء. فإذ لم يقولوا بهذا، تبيَّن أنها ليست بدَين، فكيف يصحُّ قضاؤها؟ وقولهم: إن الحديث متروك الظاهر بالنسبة إلى الصلاة= كلام غير مقبول، بل نقول: هو على ظاهره، والصلاة لا تكون دَينًا، وإنما منزلتها في وقتها الأدائي (4). _________ (1) أخرجه البخاري (1953)، ومسلم (1148) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (2) غير محررة في الأصل ولعلها ما أثبت. (3) كلمتان غير محررتين ولعلها ما أثبت. (4) بعده كلامٌ ضرب عليه المؤلف، ونصُّه: «منزلةُ الحجِّ في أشهره، فمن ترك الحجَّ حتى انقضت أيامه، لا يستطيع أن يؤدِّيه في المحرَّم مثلا. ولا يقال: إنه يُقضى حينئذ لأنه وإن كان دينًا إلا أنه دين موقَّت، بمنزلة الإيمان في العمر، فمن لم يؤ [من] ... ». مجموع [4716].

(24/259)


[المسافر إذا نوى إقامة أربعة أيام فأكثر، هل يتم؟] الحمد لله. احتجاج المالكية والشافعية وغيرهم على أن المسافر إذا نوى إقامة أربعة أيام أتمَّ بما رُوي من إذن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - للمهاجر أن يقيم بمكة ثلاثًا فقط. وَجْهُه كما قيل: إنه دلّ على أن المسافر إذا أقام ثلاثًا لم يرتفع عنه اسم السفر؛ بخلاف ما إذا زاد. فيُردُّ عليهم بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مكث خمسة عشر يومًا أو أكثر يقصر. وقولهم: إنه كان يتوقَّع السفر، بحيث لم ينو إقامة أربعة أيام سواء= يردُّه أن ارتفاع السفر ليس من شرطه النية، بل إذا حصلت الإقامة بالفعل، ارتفع. وهذا محل نظر، والله أعلم (1). * * * * وجوه الأفضلية في قيام الليل يحصل أصل السُّنَّة بالصلاة أوله وأوسطه وآخره، والأفضل بعد نصف الليل. يحصل أصل السُّنَّة بأي مقدار كان من الليل يكون فيه صلاة، _________ (1) مجموع [4717].

(24/260)


والأفضل قيام داود من نصف الليل إلى أن يبقى سدسه، وذلك سدساه الرابع والخامس، والمراد بالليل الليل الشرعي. يحصل أصل السُّنَّة بالصلاة قبل النوم أو بعده، والأفضل قيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه (أي السدسان الرابع والخامس كما مرَّ) وينام سدسه، وقد صحَّ هذا مِن فِعْل النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة في «الصحيح» (1). يحصل أصل السُّنَّة بأي عدد كان، والأفضل أن لا يزيد على إحدى عشرة، ولا ينقص عن سبع كما صَّح مِنْ فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - . يحصل أصل السُّنَّة بأن تكون الصلاة مثنى مثنى، وبغير ذلك كأربع وغيرها، والأفضل ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - سائله بقوله: «صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل» (2). وقد صحّ مِنْ فعله - صلى الله عليه وسلم - غير ذلك، ولكن الفعل إذا عارض القول فالمتعين على الأمة العمل بالقول. يحصل أصل السُّنَّة بأن يكرر المصلِّي سورة واحدة مثلاً، والأفضل خلاف ذلك. يحصل أصل السُّنَّة بالصلاة في المسجد، والبيت أفضل. يحصل أصل السُّنَّة بالصلاة في جماعة، والمنفرد أفضل (3). _________ (1) البخاري (1133). (2) أخرجه البخاري (472)، ومسلم (749) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (3) مجموع [4711]. وانظر مكمّلات قيام الليل التي ذكرها الشيخ في رسالة «قيام رمضان» ضمن مجموع رسائل الفقه (ص 381 وما بعدها).

(24/261)


[بحث في التراويح والوتر] الحمد لله. ما زلتُ أتعجَّب من قول أصحابنا: إن الثلاثة وعشرين (1) ركعةً التي تُصلَّى في رمضان، منها عشرون ركعة تراويح وثلاث وتر؛ كيف لَم يقولوا: إن اثنتي عشرة تراويح، وإحدى عشرة وتر؟ حتَّى يكون الوتر تامًّا على مذهبهم، وهو أفضل من التراويح. ثمَّ تبيَّن لي أنهم تواتر عندهم عن الصحابة في زمن عمر ثم بعدُ أنهم كانوا لا يعدُّون الوتر إلا الثلاث الأخيرة، ولكن فِعْل الصحابة مبنيٌّ على ما يخالف رأيَ أصحابنا؛ وذلك أنهم كانوا يرون أن الوتر يفصل بينه بتسليم سواءٌ أكان واحدةً مستقلَّة، أو ثلاث (2) مجموعة، أو خمس أو سبع أو تسع، ولكن اختاروا الثلاث لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيتَ الصبح فصلِّ ركعةً» أو كما قال؛ كأنهم كانوا يرون أن المراد وصلها بالركعتين اللتين قبلها. وفي هذا نظر، بل لأنهم ــ والله أعلم ــ لمَّا كانوا يصلُّون إحدى عشرة ركعة كانوا يوترون بركعة، فلمَّا ثَنَّوا الركعات، أرادوا أن يثنُّوا الوتر، ولكن تثنيته يخرجه عن الوتريَّة، فزادوه ركعة ــ والله أعلم ــ، ووصلوها لأنهم لو فصلوها لم تكن الثلاث وترًا شرعيًّا. والله أعلم (3). * * * * _________ (1) كذا في الأصل، والوجه فيه: «والعشرين». (2) كذا في الأصل، والوجه فيه والمعطوفات بعده النصب. (3) مجموع [4716].

(24/262)


[تعليق على كلام الشافعي في استحبابه الانفراد في قيام رمضان] «مختصر المزني» (ج 1 ص 107) (1). قال الشافعي: «فأما قيام شهر رمضان فصلاة المنفرد أحبُّ إليَّ منه». هذا نصٌّ ظاهر في استحباب عدم الجماعة، وفي حواشي الأم (ج 1 ص 125) أنَّ ابن سُريج يؤوِّله بأن مراد الإمام أن الصلاة التي تُشرع انفرادًا، وهي الوتر وركعتا الفجر، ثمَّ نقل عن البويطي ما يردُّ هذا التأويل. ولا يخفى أنه ليس بتأويل بل تحريف. ونصُّ البويطي الذي نقله البلقيني؛ قال البلقيني: «وفي مختصر البويطي في ترجمة طهارة الأرض: والوتر سنة، وركعتا الفجر سنة، والعيدان سنة، والكسوف والاستسقاء سنة مؤكَّدة. وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يصلِّي ركعتين قبل الظهر وركعتين بعد الظهر وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد الفجر قبل أن يصلِّي الصبح. والكسوف والعيدان والاستسقاء أوكد، وقيام رمضان في معناها في التوكيد» (2). * * * * [بعض ما وقع من المخالفات في المساجد] 1 - النقش في بناء جدار المسجد. 2 - فرشه بالفرش الملوَّنة. 3 - تعليق الأوراق المكتوبة بقبلته. _________ (1) «الحاوي شرح مختصر المزني» للماوردي (2/ 291) ط. دار الكتب العلمية. (2) مجموع [4716].

(24/263)


4 - وضع المصاحف لسورة الكهف وغيرها فيه. 5 - وضع المصاحف بالقبلة. 6 - وضع النعال أمام المصلّين وعن أيمانهم. 7 - إحراق البخور فيه. 8 - المحراب. 9 - وضع المراوح الملوَّنة فيه. 10 - كون المصاحف الموضوعة بالقبلة ملوَّنة الدفَّات. 11 - مجيء الخطيب قبل وقت الخطبة. 12 - الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الخطبة بما يخالف المأثور. 13 - التزام «بارك الله لي ولكم ... » آخر الخطبة الأولى. 14 - التزام دعاء معين بين الخطبتين. 15 - وجود من يتكلم في وقت الخطبة بالذكر. 16 - التزام تحميدٍ معين في الخطبة الثانية. 17 - التزام الدعاء للصحابة رضي الله عنهم. 18 - تمطيط التكبير في الصلاة. وكذلك السلام. 19 - عدم التراصّ في الصف. 20 - التزام «سبحان ربي الأعلى» عند قراءته {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}. 21 - التزام الدعاء عقب ختم الإمام سورة الغاشية. 22 - رفع الصبيان أصواتهم بـ «ربنا ولك الحمد».

(24/264)


23 - التزام المكث بعد الصلاة. 24 - التزام الدعاء بعد الصلاة مشتركَا، بحيث يدوم رفع المأمومين أيديهم ما دام الإمام رافعًا يديه. 25 - جعل الإمام يساره إلى المصلين (1). * * * * [حكمة النهي عن تخصيص يوم الجمعة بالصوم] الحمد لله. ثبت في «الصحيح» (2) عن أبي هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا يصوم أحدكم يومَ الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده». ولمسلم (3) عنه: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا تختصّوا ليلةَ الجمعة بقيامٍ مِن بين الليالي، ولا تختصّوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صومٍ يصومه أحدكم». وفي «حواشي المشكاة» (4) عن «اللمعات»: «قد ذكروا للنهي عن تخصيص يوم الجمعة بصوم وجوهًا: الأول: أنه نهى عن صومه لئلّا يحصل به ضعفٌ يمنعه عن إقامة وظائف _________ (1) مجموع [4726]. (2) البخاري (1985)، ومسلم (1144) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) (1144/ 148). (4) (ص 179).

(24/265)


الجمعة وأورادها. والثاني: خوف المبالغة في تعظيمه، فيفتتن كما افتتن اليهود بالسبت والنصارى بالأحد. والثالث: أن سبب النهي خوف اعتقاد وجوبه. والرابع: أن يوم الجمعة يوم عيد فلا يصام فيه، وقد ورد: «يوم الجمعة يوم عيدكم فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم» (1). وهذا الوجه أحسن الوجوه لأنه منطوق الحديث». اهـ اللمعات مختصر. يقول كاتبه: كلٌّ من هذه الوجوه فيه نظر: أما الأول: فلأنه إنما يحتمل لو كان النهي عن صوم يوم الجمعة وقيام ليلتها مطلقًا، وليس الأمر كذلك. وإنما النهي عن التخصيص؛ فلو صام يوم الخميس جاز أن يصوم يوم الجمعة، وكذا يجوز أن يصوم يوم الجمعة إذا كان يريد أن يصوم يوم السبت، كما هو منطوق الحديث، وخوف الضعف حاصل فيه. وأما الثاني، فلأن مجرد التخصيص بالصيام والقيام لا يؤدي إلى الفتنة. ونحن مأمورون بتخصيص يوم عاشوراء بالصيام، وبتخصيص شهر رمضان _________ (1) أخرجه أحمد (8025) وابن خزيمة (2161) والحاكم في «مستدركه» (1/ 437) من طريق أبي بشر، عن عامر بن لدين الأشعري، عن أبي هريرة مرفوعًا. قال الحاكم: «صحيح الإسناد ولم يُخرجاه، إلا أن أبا بشر هذا لم أقف على اسمه»، وتعقّبه الذهبي بقوله: «قلتُ: هو مجهول، وشاهده في الصحيحين». يعني ما ورد في الصحيحين من النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصيام.

(24/266)


بالصيام، وغير ممنوعين عن تخصيصه بالقيام بدليل زيادة الترغيب فيه. وأما الثالث، [فـ]ـإنه كان يكفي في دفع ظن الوجوب أن ينصّ نصًّا قاطعًا على عدم وجوبه. وقد رُغِّبنا في صيام يوم عاشوراء، ولم يُخش من ذلك أن يُظَنَّ الوجوب، ورُغِّبنا في صيام أيام مخصوصة كالاثنين والخميس وثلاث من كلّ شهر وستٍّ من شوال وغير ذلك، ورغبنا في قيام رمضان أكثر من قيام غيره، وذلك يدل على عدم المنع من تخصيصه، ولم يُخش في شيء من ذلك ظن الوجوب. وأما الرابع، فالحديث الذي ذكره لا أظنّه يصح، فلا حجّة فيه. والمعنى ضعيف لِما أوردناه على الوجه الأول بأن المنهي عنه إنما هو التخصيص، وصومُ يوم قبله أو بعده لا يخرجه عن كونه عيدًا، كما أن صوم يوم الأضحى ويوم الفطر حرامٌ مطلقًا لا تخصيصهما فقط. وأيضا فالعيدية، وإن كان فيها مناسبة لعدم الصيام، فلا مناسبة فيها لعدم القيام، بدليل أننا لم نُنه عن تخصيص ليلة الأضحى وليلة الفطر بالقيام. وإذا تقرّر هذا فالصحيح ــ والله أعلم ــ أن حكمة النهي إنما هي لأن تخصيص يوم من الأيام بالعبادة إنما يجوز إذا كان قد خصّه الشارع بذلك وإلا كان تخصيصه بدعةً، كما تقرّر في مباحث البدع، فخشي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يقع الناس في هذه البدعة في صيام يوم الجمعة أو قيام ليلته استنادًا منهم إلى أنه يوم فاضل، فنهاهم عن ذلك تنبيهًا منه ــ والله أعلم ــ إلى أنَّ مجرّدَ كون الوقت فاضلًا لا يقتضي كون العبادة فيه فاضلةً مطلقًا. وإنما العبادة الفاضلة

(24/267)


فيه ما نصّ عليها الشارع بخصوصها، كالصيام في عاشوراء وغيره مما تقدّم، وكالقيام في رمضان. فإن قيل: فعلى هذا لا يمتنع صوم يوم الجمعة وحده إذا وافق يوم نذرٍ مثلًا أو نحو ذلك، فيما إذا لم يكن تخصيصه بالصيام تحرّيًا لفضله، وإنما وقع اتّفاقًا. فالجواب: أن هذا محتمِل إلا أن الأظهر أنه يمتنع أيضًا سدًّا للذريعة؛ لأن الجهّال إذا رأوا عالمًا خصَّ يوم الجمعة بصيام توهّموا أنه إنما خصّه لفضله، فيتتابعون في تخصيصه، بخلاف ما إذا رأوا عالمًا خصّ يوم الثلاثاء مثلًا، فإنه ليس ليوم الثلاثاء فضيلة تُوقع في أنفسهم أنه إنما خصّه لأجلها. فأما صيام يوم الخميس وحده، فإنما لم يُمنع لأنه مرغَّب فيه شرعًا. والحاصل أن يوم الجمعة يوم فاضل في الشرع، ولكن لا بالنسبة إلى صيامه وقيام ليلته، بل بالنسبة إلى غير ذلك من العبادات المشروعة فيه. فنهى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن تخصيصه بالصيام والقيام؛ لأن تخصيصه إن كان عن اعتقاد أفضليّتهما فيه فهو خطأ، وإن كان اتفاقًا خشي أن تتوهّم العامة أفضليّتهما فيه. والله أعلم. وبهذا يُعلم أن ما يفعله كثير من الناس من تخصيص يوم الجمعة بالصدقة بدعة؛ لأنه لم يثبت ذلك. وأيضا فإن تخصيصه بالصدقة مناقض للمصلحة الشرعية؛ لأن حاجة الفقراء لا تختص بوقت دون وقت، فلتكن الصدقة كذلك. وأيضًا إذا علم الفقراء من رجلٍ أنه يخصِّص يوم الجمعة أدّى ذلك إلى

(24/268)


مفاسد. منها: أن بعضهم قد يجهل ذلك، أو يكون له مانع عن الحضور فيفوز بالصدقة المبادرون. ومنها: أن بعضهم قد يكون محلّه بعيدًا فيحمله الحرص على تحصيل الصدقة على أن يترك التهيّؤ للجمعة، بل قد يترك الجمعة! فإن قيل: فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يخصِّص شهر رمضان بزيادة العطاء. فالجواب أن ما ثبت عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - فهو مشروع قطعًا، ولا منافاة فيه للمصلحة المذكورة؛ لأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكن يخص رمضان بالصدقة، بل كان يخصُّه بكثرتها، فكان في سائر السنة كلَّ ما رأى محتاجًا للصدقة أعطاه. ثمّ يُكثر البذل في رمضان لإغناء الفقراء عن التكسّب أو كثرة الدوران فيه ليتفرّغوا للعبادة. وشهر رمضان شهرٌ لا يؤدِّي إلى ما تقدّم من المفاسد. والحاصل أن السعادة في الاتِّباع والشقاوة في الابتداع. وفقنا الله تعالى لرضاه بفضله وكرمه (1). * * * * _________ (1) مجموع [4711].

(24/269)


[هل يكتفى في النسك بالنية دون النطق به؟] البيهقي (1) في «باب من قال لا يسمِّي في إهلاله حجًّا ولا عمرة»: « ... وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنا يحيى بن أبي طالب، أنا عبد الوهاب بن عطاء، أبنا ابن جريج، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن نافع: أن ابن عمر سمع رجلاً يقول: لبيك بحجة (2)، فضرب في صدره وقال: أَتُعْلِم الله ما في نفسك؟». وفي الباب أحاديث أخرى في أن الصحابة رضي الله عنهم اكتفوا بالنية ولم ينطقوا بالتعيين. أقول: فأما نطقه - صلى الله عليه وآله وسلم -، فهو لإعلام الناس بنيته؛ لما يتوقف على معرفتهم إياها من الأحكام. وأما ما جاء من أن الصحابة كانوا يصرخون بالحج صراخًا، وفي رواية: بالحج والعمرة (3) (4). * * * * _________ (1) (5/ 40). (2) أشار الشيخ إلى أنه في نسخة: «بحج» (3) أخرجه مسلم (1247) من حديث أبي سعيد. والمعنى يرفعون أصواتهم بالتلبية. (4) إلى هنا انتهى كلام الشيخ. مجموع [4726].

(24/270)


[بحث في ما يستثنى من قاعدة: «الأجر على قدر النصب»] الحمد لله. مما يستثنى من قاعدة الأجر على قدر النصب قتلُ الوزغ؛ لما رواه مسلم (1) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «من قتل وزغًا في أول ضربة كُتبتْ له مائةُ حسنةٍ، وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك». وكأنَّ ذلك ــ والله أعلم ــ لأن القاتل بأول ضربة أحْسَنَ القِتْلة بخلاف غيره، وقد ثبت الأمر بإحسان القِتْلة بعموم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]. ويفسره حديث مسلم (2) عن شدَّاد بن أوس عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إن الله تبارك وتعالى كتب الإحسان على كلّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحَة ... » الحديث. وفيه دليل على عموم الصيغة في مثل الإحسان في الآية. والقِتْلةُ والذِّبْحةُ في الحديث عامة، كما أن «قَتَلَ» كذلك لأنه فعل في سياق النفي (3)، وحَذْف المعمول مؤذن بالعموم، أي لأن حذفه بغير دليل إنما يكون لعمومه كما هو مقرر في علم النحو. والله أعلم. كاتبه (4). * * * * _________ (1) (2240). (2) (1955). (3) كذا في الأصل ولعل صوابه: «في سياق الشرط». (4) مجموع [4657].

(24/271)


[فائدة في ذوي القربى] مما يحتج به على عدم دخول أولاد ذوات القربى في ذوي القربى: أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يقسم لأولاد الهاشميات في خمس الخمس. وفي ترجمة عثمان رضي الله عنه من «التهذيب» أن جدّته - أمَّ أمه- أم حكيم بنت عبد المطلب (1). * * * * [بعض صور النذر، وهل هي طاعة؟] كثيرًا ما يُظنُّ أن من الطاعة: نذر الطاعة في حقّ من يريد فعلها ولكنه يخشى أن لا تُطاوعه نفسه على فعلها، فيقصد بالنذر الاستظهار على نفسه؛ لأنها أن تخضع لفعل المنذور لكونه واجبًا يخشى من تركه العذاب= أقرب من أن تخضع لفعل المندوب. وعندي في هذا نظر؛ لأن العذاب ليس لترك ذلك الواجب بعينه، وإنما هو لزيادة السيئات على الحسنات. فمن كان عليه ذنب ولكن له حسنات عظيمة تزيد عن مقدار الذنب فإنه لا يعذّب، والله أعلم. وعلى هذا، فإنَّ ترك المندوب يُخشى منه العذاب، لا من حيث تركُه بخصوصه، بل من حيث إنَّ تركه موجب لقلّة الحسنات، وقلَّةُ الحسنات يُخشى أن يلزم منها زيادة السيئات، وزيادة السيئات موجبة للعذاب، والعياذ بالله. _________ (1) مجموع [4711]. يعني فلم يقسم لعثمان بن عفان من خمس الخمس مع أن جدته لأمه هاشمية.

(24/272)


فإن قيل: هذا صحيح، ولكن ترك الواجب أظهر في خشية العذاب من ترك المندوب؛ فإنَّ ترك الواجب ارتكاب سيئة وترك حسنات كثيرة، بخلاف ترك المندوب فإنما فيه تركُ حسناتٍ دون حسناتِ [الواجب] (1). قلت: هذا يَرِد لو قلنا: إنه ينبغي أن تمتنع النفس من ترك المندوب من حيث هو مندوب كما تمتنع من ترك الواجب الأصلي. فأما ما أوجبه المرء بالنذر فلا، ونضرب لذلك مثلًا يتضح منه المراد. فنقول: النفس أقرب إجابة إلى فعل صلاة الظهر منها إلى فعل أربع ركعات قبلها، ولها في هذا عذر؛ لأنه لو فُرِض أن لها قبل ذلك مائة حسنة، ومائة سيئة، فإن ترك الظهر يستلزم زيادة السيئات فيجب العذاب، بخلاف ترك سنة الظهر. ولو فُرِض أن لها سبعمائة سيئة وعشر حسنات، فإنّ فِعْل الظهر يخلصها من العذاب؛ لأن أجر الفرض سبعمائة حسنة على ما قيل بخلاف فعل سنة الظهر فقط. ولكن نفس المؤمن لا تكون إلا خائفة أبدًا، فهي دائما تعتقد أن سيئاتها أكثر من حسناتها، فلا تكِلُّ ولا تملُّ من السعي في تكثير عدد الحسنات. مثال آخر: إذا أردتَ أن تنذر عمل حسنة فإننا نفرض عند النذر أنَّ لك مائة حسنة ومائة سيئة، فأنت إذا عملت تلك الحسنة زادت حسناتك فتسلم من العذاب، وإن لم تفعلها بقي الحال على ما كان عليه. وإذا نذرت فعملتَها زادت حسناتك، وإن لم تفعلها زادت سيئاتك. فينبغي لك أن تقول: يا نفسُ طاوعيني على عملها ابتداءً؛ فإن الثواب _________ (1) في الأصل: «المندوب»، ولعله سبق قلم.

(24/273)


الذي تطمعين فيه بعد النذر هو الذي تطمعين فيه الآن؛ لأن النذر لا يزيد في الأجر، والله أعلم. والفرض الذي يزيد أجره هو ما فرضه الله ابتداءً. و ... (1). * * * * [طهارة جرَّة الأنعام] الحمد لله. ما يدلُّ على طهارة الجِرَّة (2)، كراهية لحم الجلّالة دون غيرها، ولو كانت الجِرَّة نجسة لكانت الإبل والبقر والغنم كلُّها جلَّالة. والله أعلم (3). * * * * [تعليق على «مختصر المزني»] المزني (ج 2 ص 157) (4). «قال الشافعي: أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن ابن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - نهى عن بيع اللحم بالحيوان. وعن ابن عباس أن جزورًا نُحِرت على عهد أبي بكر رضي الله عنه فجاء رجل بعَنَاق فقال: أعطوني جزءًا بهذه العناق، فقال أبو بكر: لا يصلح هذا. _________ (1) هنا وقف قلم المؤلف، وترك مقدار ربع الصفحة بياضًا. مجموع [4711]. (2) الجِرَّة: ما يُخرجه البعير من بطنه ليَمضُغَه ثم يبلعه. (3) مجموع [4716]. (4) «الحاوي شرح مختصر المزني» (5/ 157).

(24/274)


وكان القاسم بن محمد، وابن [ص 158] المسيب، وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن يحرمون بيع اللحم بالحيوان عاجلًا وآجلًا يعظمون ذلك ولا يرخِّصون فيه. قال: وبهذا نأخذ، كان اللحم مختلفًا أو غير مختلف، ولا نعلم أحدًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خالف في ذلك أبا بكر. وإرسال ابن المسيب عندنا حسن. قال المزني: إذا لم يثبت الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فالقياس عندي أنه جائز، وذلك أنه كان فصيل بجزور قائمين جائزًا، ولا يجوزان مذبوحين لأنهما طعامان لا يحل إلا مثلًا بمثل، فهذا لحم وهذا حيوان وهما مختلفان، فلا بأس به في القياس إن كان فيه قول متقدِّم ممن يكون بقوله اختلاف، إلا أن يكون الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ثابتًا فيكون ما قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -». أقول في هذا الباب فوائد: 1. قول الشافعي: «وإرسال ابن المسيب عندنا حسن» فيه بحث مشهور، وقد اشتهر أن الحسن إذا جاء في كلام المتقدمين لا يُراد به الحسن في اصطلاح المتأخرين، بل يُراد به الحسن اللغوي، فيكون المراد هنا أن إرسال ابن المسيب قويٌّ بالنسبة إلى إرسال غيره. وهذا لا يستلزم الاحتجاج به. وإنما احتجَّ به هنا لما عضده من قول الصدِّيق وغيره، وكونه لم يعلم مخالفًا لذلك. ويحتمل أن يكون الشافعي أراد بقوله: «وإرسال ابن المسيب عندنا حسن» = إرساله هذا الذي ذكره في الباب، أي أنه حسن لاعتضاده بما ذكر. والأول أولى.

(24/275)


2. أن الشافعي وصاحبه المزني يجيزان ورود الشرع بخلاف القياس، ويوجبان اتِّباع الدليل الشرعي في ذلك، وإن لم يخلُ من ضعفٍ. 3. أن الشافعي يحتجُّ بقول بعض الصحابة لم يعلم له مخالفًا. ولكن هذا حيث لم يقم دليل على خلافه، كما حقَّقناه في غير هذا الموضع. وهل يستجيز مخالفته للقياس؟ محل نظر. وليس في هذا الباب دلالة على عدم المخالفة لأنه قد يقال: إنه إنما لم يخالفه لاعتضاده بمرسل ابن المسيب، فالله أعلم. 4. أن المزني لا يستجيز مخالفة قول من سبق، ولو كان بيده قياس إلّا إذا ثبت خلافٌ عنهم. 5. [ ... ] (1). * * * * الحمد لله. بيع الفضة بالفضة، والذهب بالذهب، والمقتات بالمقتات على الوجه المحرَّم، وحكمة تحريمه (2). أما بيع أحدها بشيء من صنفه متفاضلًا حالًّا، فمِنْ حكمة النهي عنه ــ والله أعلم ــ التضييق على المحتكرين؛ لأن من الناس من يحتكر الذهب مثلًا، فإذا اجتمع اثنان محتكران للذهب وعند أحدهما ذهب جيِّد وعند _________ (1) كذا، وترك المؤلف باقي الورقة بياضًا. مجموع [4716]. (2) وللمؤلف رسالة في الربا وأنواعه ضمن «مجموع رسائل الفقه»، المجلد الثالث.

(24/276)


الآخر ذهب رديء، وهما يريدان التبايع، إما لمصلحة الاحتكار، لأن كلًّا منهما يقول: إذا احتكرت فينبغي أن يكون عندي من النوعين، وإما لغير ذلك، لكن مع مراعاة كلٍّ منهما للاحتكار، لأن أحدهما يقول: إذا لزم لي أن أشتري شيئًا من الذهب وأعطي في قيمته ذهبًا، فلا ينبغي أن أشتريه إلا من رجل آخر محتكر للذهب مثلي؛ لأنه أيضًا يراعي الاحتكار، فلا يخرج الذهب إلا عند غلاء سعره، وبذلك يتمُّ مقصودي في حكر الذهب حتَّى يغلى سعره. والآخر يقول: إذا بدت لي مصلحة في أن أبيع شيئًا من الذهب، فلا ينبغي لي [أن] أبيعه إلا بذهب حتَّى لا أضيِّع شيئًا من المقدار الذي أريد احتكاره. فضيَّق الشرع عليهم فألزمهم أن لا يبيعوا الذهب بالذهب حالًّا إلا مثلًا بمثل؛ لأن الغالب أن لا تدعو حاجة لاشتراء الذهب بالذهب إلا لمزيَّة لأحدهما على الآخر. وصاحب الذهب الممتاز لا يرضى أن يخسر تلك المزيَّة، فيضطرَّ أحدُهما إلى بيع ذهبه بفضَّة أو غيرِها ثمَّ يشتري بذلك ذلك الذهب الذي رغب فيه، فينفكُّ الاحتكار أو يبقيان مضيَّقًا عليهما. وإنما لم يُمنع بيع الذهب بالذهب مطلقًا لأن في ذلك تضييقًا شديدًا على الناس. وقد يكون البائع أو المشتري غيرَ قاصد للاحتكار، وإنما دعتْه ضرورة أخرى. والعادة أن صاحب الذهب الممتاز لا يرضى بخسارة تلك المزيَّة إلّا لضرورة دعته، فالتضييق عليه مع اضطراره منافٍ للحكمة، فكانت الحكمة أن يُحدَّ لذلك حدٌّ بحيث لا يباع الذهب بالذهب إلا من ضرورة، وهذا الحدُّ هو إيجاب المماثلة.

(24/277)


وأما بيع الذهب بالذهب متماثلًا نسيئة، فلأنه في معنى بيع الذهب بالذهب متفاضلًا نقدًا لأن الأجل في معنى الفضل. فقد تكون قطعة من الذهب تزن أوقية وقيمتها خمسون درهمًا، وقطعة من ذهب آخر تزن أوقيةً أيضا (1) وقيمتها أربعون درهمًا، ولكن صاحب القطعة الممتازة يرضى ببيعها بالقطعة الأخرى إلى سنة، لِمَا يستفيده من الأجل. وبذلك لا يتحقق أنه كان مضطرًّا إلى البيع. وفيه أيضًا الدخول في ربا القِران؛ إذ قد يكون إنسان محتاجًا إلى النقد ويعلم أنَّ عند صاحبه ذهبًا، فيقول: لو أَتَيته أستقرضه لم يقرضني، ولو شرطت له أن أزيده في القضاء كان ذلك ربا، فالحيلة أن أشتري منه مائة دينار من ذهبه بمائة دينار من ذهب أجود مع أنَّ الوزن واحد، وأؤجِّله إلى الأجل الذي أحتاج أن أقترض إليه. وهو طبعًا يرضى لزيادة الذهب الذي بعتُه منه في الجودة. والحاصل أن مقصود هذا الرجل الاقتراض، وإنما جعل الصورة بيعًا ليسلم من الربا في زعمه. فهذا في المعنى اقترض من صاحبه مائة دينار وشَرَط له أن يقضيه مائة دينار أجود منها، وهذا هو الربا. وأما بيع الذهب بالفضة متفاضلًا حالًّا فكأنه أجيز ــ والله أعلم ــ لأن الضرورة كثيرًا ما تدعو من عنده فضَّة أن يستبدلها بذهب وبالعكس، فتقلُّ تهمة قصد الاحتكار، بخلاف من كان عنده ذهب ويريد استبداله بذهبٍ، أو _________ (1) في الأصل: «أيضا تزن أوقيةً أيضًا».

(24/278)


فضةٌ ويريد استبدالها بفضَّة؛ فإن الضرورة في ذلك تقلُّ فتَقْوى تهمة قصد الاحتكار. وأما بيع الذهب بالفضَّة نسيئةً فهو مظنَّة الربا؛ إذ قد يكون إنسان محتاجًا إلى مائة دينار مثلًا، ويريد أن يتحصَّل عليها من صاحبه، ولكنه يعلم أنه إن قال له: أقرِضْني، لم يُقرضه لأنه يطلب الربح. ولو شرط له أن يزيده في القضاء كان ذلك ربا، فيحتال بأن يشتري منه مائة دينار بألف وخمسمائة درهم إلى أجل مع أن صرف الدينار حينئذ ثلاثة عشر درهمًا مثلًا، وإنما زاده ليرضى بذلك. فالحاصل أن مقصوده الاقتراض، وإنما جعل الصورة بيعًا ليسلم من الربا في زعمه. فهذا في المعنى من اقترض من صاحبه مائة دينار وشَرَط له أن يقضيه مائة دينار ومائتي درهم، وهذا هو الربا. فالمقصود أنَّ الذهب والفضة متقاربان؛ لأنه تجمعهما النقديَّة، فإذا اقترض الإنسانُ أحدَهما على أن يردَّ الآخر، فكأنه اقترض أحدَهما على أن يردّ من جنسه مع زيادة. وإذا جعل بدل صورة القرض صورة البيع، فالمعنى باق. ومثل الذهب والفضة: البرُّ والتمر، وبقيَّة المقتاتات، وما لا بدَّ لها منه كالملح. أما في معنى الاحتكار، فلأن احتكار كلٍّ منها شديد الإضرار بالناس. أما احتكار القوت وما لا بدَّ منه فظاهر. وأمَّا احتكار النقد فلأنَّه الوسيلة إلى نيل الأقوات وغيرها. ويتبيَّن هذا بما إذا فرضنا أن النقد ارتفع من السوق

(24/279)


جملةً فإن الحركة تتوقَّف. فالذي عنده ثياب ويريد القوت، لا يتيسَّر له ذلك؛ لأن بائع الأطعمة قد لا يرغب في الثياب التي عنده، وإنما يريد نوعا آخر، أو لا يرغب في الثياب جملةً، وإنما يريد شيئًا من الآلات، أو يريد أن يستخدم من يعمل له، أو غير ذلك. وصاحب الثياب قد يجد آخر يرغب فيها ولكن يبذل له شيئًا من الجوهر مثلًا، أو غير ذلك مما لا يرغب فيه صاحب الطعام أيضًا. ويموت صاحب الثياب جوعًا. بخلاف ما إذا كان النقد دائرًا في السوق؛ فإن صاحب الثياب يبيع به، لعلمه بأن صاحب الطعام طبعًا يقبله لأنه جامع الأغراض. وأمَّا في معنى الربا، فلأن الأقوات جرت العادةُ باقتراضها، كما جرى العادة باقتراض النقد. والبرّ مع الذرة مثلًا كالذهب مع الفضَّة، يجمعهما القوتيَّة كما جمعت ذينك النقدية. فإذا اقترض الإنسانُ أحدَهما على أن يردَّ الآخر فكأنه اقترض صنفًا واحدًا على أن يردَّه بزيادة. وإذا جعل بدل صورة القرض صورة البيع فالمعنى باق. فأما الثياب مثلًا، فحاجة الناس إليها دون حاجتهم إلى القوت، ولم تجرِ العادة باحتكارها جريانَها باحتكار القوت والنقد، ولا جرت العادة باقتراضها جريانَها فيهما (1). * * * * _________ (1) مجموع [4716].

(24/280)


[مناظرة فقهية في بعض صور الرِّبا] [قلتُ: هل يجوز إذا] (1) باع رجلٌ سلعة بخمس رُبّيات إلى شهر، وعند تمام الشهر اتفقا على مدِّ الأجل شهرًا آخر، في مقابل زيادة ربّيّة، فيكون الدين ستة ربّيات. قال: لا. قلت: فلو قبض البائع الخمس ربّيات ثم أرجعها للمشتري قرضًا بشرط زيادة ربّية؟ فمال إلى جوازه. فقلت: ما الفرق بين المسألتين؟ قال: قد فرق بينهما الشرع، فمنع بيع الربّيّات بالربّيات إلا مع المماثلة والحلول، وأجاز القرض مع عدم الحلول، اتفاقًا. فقلت: هذا خارج عن موضوعنا، لأنه فرق بين البيع والقرض، وأنا إنما حكيت الفرق بين المنفعة المشروطة في مقابل مدّ الأجل في الثمن، والمنفعة المشروطة في مقابل ابتداء أجلٍ في القرض. فلم يفهم. فقلت: أنا أوضّح لك هذا: لو باعه عبدًا بثلاثة أثواب إلى شهر، وعند تمامه مدّ في الأجل بشرط زيادة ثوب، فتكون أربعة أثواب؟ قال: لا يجوز؛ لأنه ربا في البيع. قلت: فلو أقرضه ثلاثة أثواب على أن يرجع له أربعة؟ فمال إلى جوازه. _________ (1) كتب الشيخ أولا: «قلت: هل يجوز أن يُباع» ثم ضرب عليه كلَّه وكتب: «باع رجل ... » إلخ. وقد أثبتُّ نحوًا من العبارة المضروب عليها ليتَّم المعنى.

(24/281)


قلت: فهل فرّق الشارع بينهما كما ذكرت أولاً؟ قال: أما في هذا، فلا. قلت: فتبيَّن لك أن جوابك الأول خارج عن الموضوع؟ قال: نعم، ولكن عندي جواب آخر. قلت: ما هو؟ قال: الأول ربا بيع، وليس هذا ربا بيع. قلت: هذا مسلَّم أن الثاني ليس بربا بيع، ولكنه نظيره، فهل من فرقٍ معنوي بينهما؟ وفوق هذا، فإن الحرمة في المقيس أولى من المقيس عليه عندنا معشر الشافعية، وعندكم معشر الحنفية. وذلك أن (1). * * * * [تعليق على «كتاب الأم» حول اشتراط منفعة الرهن] [من الأم ج 3] (2): «باب ما يفسد الرهن من الشرط: فإن شرط المرتهن على الراهن أن له سُكْنى الدار، أو خدمة العبد، أو منفعة الرهن، أو شيئًا من منفعة الرهن ما كانت، أو من أي الرهن كانت دارًا أو حيوانًا أو غيره= فالشرط باطل. _________ (1) هنا توقف قلم الشيخ، وبعده بياض قدر ثلث الصفحة. مجموع [4726]. (2) (4/ 322 - 323).

(24/282)


وإن كان أسلفه ألفًا على أن يرهنه بها رهنًا، وشرط المرتهن لنفسه منفعة الرهن= فالشرط باطل؛ لأن ذلك زيادة في السلف. وإن كان باعه بيعًا بألف، وشرط البائع للمشتري أن يرهنه بألفه رهنًا، وأن للمرتهن منفعة الرهن= فالشرط فاسد؛ لأنّ لزيادةِ منفعة الرهن حصةً من الثمن غير معروفة». أقول: إنما علَّل هذا بما ذكر؛ لأن الزيادة هنا ليست في مقابل المهلة، وإنما هي من جملة الثمن، كأن البائع يقول: إنّ سلعتي تُقَوَّم بأكثر من ألف، ولكني أبيعك إياها بألف ومنفعة المرهون. تأمل. ثم ذكر بعد فروعًا علَّلها بغير الزيادة في السلف؛ لأنها ليست منها كما يُعلم بالتأمل (1). * * * * [أنواع الرخص في العبادات] الحمد لله. حديث: «إنّ الله يحبُّ أن تُؤتى رُخَصُه كما يحبّ أن تؤتى عزائمُه» (2). يظهر لي أن الرخص على ضربين: _________ (1) مجموع [4726]. (2) أخرجه ابن حبان (354)، والبزار (990)، والطبراني في «الكبير» (11880) وغيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وسنده قوي. وأخرجه أحمد (5866)، وابن خزيمة (950)، وابن حبان (3568) وغيرهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وإسناده قوي أيضًا، وله شواهد أخرى.

(24/283)


ضرب يَرِد بصورة التخيير، ولا يعارضه شيء، سواء أجاء ما يؤيد التخيير أم لا. فهذا ــ والله أعلم ــ ليس مرادًا بالحديث، ومنه كفارة اليمين. الثاني: ما ورد بصيغة الأمر ولم يعارضه شيء، فهذا هو المراد بالحديث. ويبقى التردّد فيما ورد بصيغة نفي الحرج، أو نفي الجُناح ونحوهما. فالظاهر في هذا أنّه من القسم الأول، إلاّ أن يجيء ما يدخله في القسم الثاني لورود أمر آخر به، أو مواظبة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عليه، ومنه القَصْر في السفر. وكان الظاهر في الصوم في السفر أنه من القسم الثاني؛ لأن ظاهر القرآن في معنى الأمر، بل آكد منه، إذ جعل محلّ الصيام هو أيام أُخَر. ولكن السنة خصّصت ظاهر القرآن بما إذا وُجِدت المشقة (1). * * * * [مسألة الطلاق الثلاث، والتحليل] (2) الحمد لله. أمّا السبيل الذي أشار إليه السائل (3)، فإنّ من أهل العلم [مَن] ذهب (4) إلى أنّ مثل هذا الطلاق المسؤول عنه لا يقع به إلا واحدة. وهذا مذهب الزيدية، يروونه عن أسلافهم من أئمة أهل البيت كابرًا عن كابر، ووافقهم _________ (1) مجموع [4719]. (2) للمؤلف رسالة بعنوان «القول المشروع في الطلاق المجموع» مطبوعة ضمن هذه الموسوعة. (3) لم نقف على كلام هذا السائل الذي كتب المؤلف هذا التقييد ــ فيما يظهر ــ إجابة لسؤاله. (4) غير محررة، وكان قد كتبها: «يذهب» ثم أصلحها كما هو مثبت.

(24/284)


عليهم المتأخرون من محدّثي أهل اليمن، كالشوكاني وغيره، وحكاه في «نيل الأوطار» (1) عن جماعة من الصحابة والتابعين وهلمّ جرًّا. واختاره ابن تيمية وابن القيم، وهما من المنتسبين إلى مذهب إمام السنة الإمام أحمد بن حنبل. ودليلهم حديث ابن عباس الثابت في «صحيح مسلم» (2) وغيره. ولكن أئمة المذاهب الأربعة على أنّه يقع ثلاثًا. وقد أجاب الشافعي ــ رحمه الله تعالى ــ عن هذا الحديث في كتاب «اختلاف الحديث» المطبوع بهامش «الأم». انظر: ج 7 ص 310 إلى ص 315 (3). وكلامه ــ رحمه الله تعالى ــ يدلّ على تردّد، فإنّه ذكر هذا الحديث، ثم ذكر أنّ ظاهر القرآن خلافه، ثم عارضه بحديث عائشة قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقالت: إنّي كنت عند رفاعة فطلقني فبتَّ طلاقي ... ، فتبسّم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وقال: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذوق عسيلتك ... » (4). _________ (1) (6/ 260). (2) (1472) ونصه: قال ابن عباس: «كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم». (3) (10/ 256 - 260) ط. دار الوفاء. (4) أخرجه البخاري (2639)، ومسلم (1433).

(24/285)


قال الشافعي: «فإن قيل: فقد يحتمل أن يكون رفاعة بتّ طلاقها في مرّات. قلت: ظاهره في مرة واحدة ... ». أقول: لكن قد ثبت في «صحيح مسلم» (1) وغيره أن طلاق رفاعة كان في مرات، فسقط الاستدلال بحديث رفاعة. قال الشافعي: «فلما كان حديث عائشة في رفاعة موافقًا ظاهرَ القرآن، وكان ثابتًا، كان أولى الحديثين أن يؤخذ به، والله أعلم، وإن كان ليس بالبين فيه جدًّا (2)». قال الشافعي: «ولو كان الحديث الآخر له مخالفًا كان الحديث الآخر يكون ناسخًا، والله أعلم، وإن كان ذلك ليس بالبين فيه جدًّا». اهـ. ففي كلامه ــ رحمه الله ــ من التردّد ما لا يخفى، مع أنّه كان بيده ظاهر حديث امرأة رفاعة، فكيف لو بلغه ما ثبت في مسلم وغيره أنّ طلاق رفاعة كان في مرّات؟ والكلام في المسألة طويل، والذي يترجّح لنا ــ وهو ظاهر جدًّا من كلام الشافعي رحمه الله ــ أنها من المسائل الاجتهادية التي لا يُشنَّع على أحد من المختلفين فيها، ولا مقلِّديه. وقد نصّ جماعة من الأئمة، منهم السبكي رحمه الله، أنّه يجوز للمسلم تقليد غير الأئمة الأربعة في حقِّ نفسه. _________ (1) (1433/ 112). (2) الخط من وضع المؤلف.

(24/286)


* وأمّا التحليل، فإنّ مذهب الشافعي ــ رحمه الله تعالى ــ جوازه إذا لم يُشْتَرط في صلب العقد. وكثيرٌ من الأئمة يحرّمه، ودليلهم الحديث الصحيح أنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ » قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «هو المحلل»، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لعن الله المحلِّل والمحلَّل له» (1). والحديث عامٌّ، فقَصْرُه على ما إذا كان بالشرط في صُلب العقد مفتقر إلى دليل، ولم يذكروا دليلاً ظاهرًا في ذلك. وظاهر الحديث يأباه جدًّا، فإنّه علَّق الحكم بالمحلّل، وقد تقرَّر في أصول الفقه وعلم البيان أنّ تعليق الحكم بالمشتق يؤذن بعِلِّيّة ما منه الاشتقاق، فتكون العلة هنا هي التحليل من حيث هو تحليل. فأمّا شرط الطلاق في صلب العقد فإنّه حرام، سواء أكان نيّته التحليل أو غيره، كما لو كانت بكرًا. وقد روى الحاكم في «المستدرك» (2) ــ وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقرّه الذهبي ــ عن نافع قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن _________ (1) أخرجه ابن ماجه (1936)، والحاكم: (2/ 198)، والبيهقي: (7/ 208) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. والحديث حسَّنه عبد الحق الإشبيلي، وصححه شيخ الإسلام وابن القطّان وقوَّاه الزيلعي. انظر «نصب الراية»: (3/ 239 - 240)، و «التلخيص»: (3/ 195). (2) (2/ 199). وأخرجه البيهقي: (7/ 208)، وأبو نعيم في «الحلية»: (7/ 96).

(24/287)


رجل طلّق امرأته ثلاثًا، فتزوجها أخ له عن غير مؤامرة ليحلّها لأخيه، هل تحل للأوّل؟ قال: لا، إلا بنكاح رغبة؛ كنّا نعدّ هذا سفاحًا على عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - (1). * * * * الحمد لله. [حرمة ابنة الرجل من السِّفاح عليه] الحمد لله. ندين الله تعالى بحرمة المخلوقة من ماء الرجل عليه، وكذا على أبيه وبنيه وإخوته وغير ذلك. والحاصلُ أنها بنتُه فيما يتعلق بحرمة النكاح. وهي بنته حقيقة. وفي حديث جريج أنه قال لولد الزنا: من أبوك؟ قال: أبي راعي الغنم (2). وفي حديث عبد الله بن حذافة: من أبي يا رسول الله؟ (3). وفي حديث ابن وليدةِ زمعة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال لسودة: «احتجبي منه، فإنه ليس لك بأخ» (4). _________ (1) مجموع [4719]. (2) أخرجه البخاري (1206)، ومسلم (2550). (3) أخرجه البخاري (92)، ومسلم (2359). (4) أخرجه البخاري (2053)، ومسلم (1457).

(24/288)


فنفى أُخوَّته لها، ونفى محرميَّته لها، مع الحكم بأنه ابن أبيها. فتبين أن إلحاق النسب شرعًا لا يقتضي قطع النظر عن النسب الحقيقي. فكذا نقول: إن نفي بعض مقتضيات البُنُوَّة كالإرث بين الزاني ومن خُلِق من مائه، لا يقتضي نفي سائرها كالمحرمية. والله أعلم (1). * * * * مسألة المحرمات من الحيوانات ظهر لي ـــ والله أعلم ــ أن الحيوانات كلَّها كانت حلالًا في أول الإسلام، عدا ما نُصَّ عليه في قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} الآية [الأنعام: 145]. ثم دام الحال على هذا إلى أن نزل قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ... } الآية [173] من سورة البقرة مؤكدًا لذلك. ثم نزلت قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ... } [4] من سورة المائدة. والمائدة من آخر ما نزل، فتكون ــ والله أعلم ــ ناسخةً للآيتين السابقتين، بأن حَرَّمت جميعَ الخبائث زيادة على المنصوصات. _________ (1) مجموع [4729].

(24/289)


والوصف بالطيبات والخبائث مُجمل، يعلمه الله عز وجل، وأَعْلَمَه رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -. وهو - صلى الله عليه وآله وسلم - بَيَّن ذلك بما ورد في السنة. فكلّ ما صح في السنة تحريمُه والنهيُ عنه فهو من الخبائث المنصوص على تحريمها بالآية الناسخة للآيتين السابقتين. فلم يقع النسخ للقرآن إلا بالقرآن، ولم يقع إهمالٌ لما ثبت بالسنة، ولم يقع تحكُّم في تعيين الطيبات من الخبائث، بل وُكِل ذلك إلى بيان المعصوم - صلى الله عليه وآله وسلم -. على أنه لا مانع مع هذا من الاستدلال بالآية على حرمة ما استخبثته النفوس، فيكون - صلى الله عليه وآله وسلم - نصّ على حُرْمة ما قد يخفى خبثُه، وَوَكَل الباقي إلى نظر الأمة. والله أعلم (1). * * * * [جواز الشهادة على سماع الصوت] مِن الحجة على جواز الشهادة على سماع الصوت حديثُ: «إن بلالاً يؤذّن بليل» (2) إلخ. فإنه لو لم يكن صوت كلٍّ منهما ممتازًا عن صوت الآخر، أو لم يكن _________ (1) مجموع [4656]. (2) أخرجه البخاري (617)، ومسلم (1092) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(24/290)


العمل بمعرفة الصوت جائزًا= لأشكل؛ أنّ مِن الناس من يكون نائمًا أو غافلًا، فينتبه فيسمع الأذان الثاني فيظنه الأول، فيأكل ويشرب مريدًا للصيام. أو يسمع الأول فيظنه الثاني، فيمتنع عن الأكل والشرب والوتر، وربّما صلى الصبح. هذا، مع أن تسمية المؤذِّنَين في الحديث تُشْعِر بالأمر باعتماد معرفة صوتيهما، وإلاّ يكفي أن يقول: إن الأذان الأول يقع بليلٍ، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا الأذان الثاني. ويكون هذا اللفظ أولى، لكثرة فائدته. والله أعلم (1). * * * * [كراهية ذكر الله حال الحدث] في حديث أبي الجُهَيم بن الحارث بن الصِّمَّة الثابت في «الصحيحين» (2) دليل على أنّ ذِكْر الله تعالى حال الحَدَث مكروه أو خلاف السنة. وما ثبت ممّا يُخالف ذلك فهو لبيان الجواز. نعم، قد يقال: يحتمل في حديث أبي الجُهَيم أنّه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان جنبًا، فيكون صريحًا في الحَدَث الأكبر، ويبقى النظر في الأصغر. فليُنظر. _________ (1) مجموع [4718]. (2) البخاري (337)، ومسلم (369)، ونصّه: قال ابن عباس: أقبلت أنا وعبد الرحمن بن يسار ... على أبي الجهيم .. فقال أبو الجُهَيم: «أقبل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل فلقيه رجلٌ فسلّم عليه، فلم يردّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه حتى أقبل على الجدار فمسح وجهه ويديه ثم ردّ عليه السلام».

(24/291)


- ودليلٌ على أنّ تأخير ردّ السلام لمثل ذلك جائز أو مندوب. - ودليلٌ على أنّ التيمّم في الحضر لنحو ردّ السلام جائز (1). * * * * [مشروعية الوضوء للجنب إذا أراد ذكر الله] الحمد لله. قد ثبت مشروعية الوضوء للجنب إذا أراد أن يأكل أو ينام. وفي حديث أبي الجُهَيم في «الصحيحين» (2) حجة على مشروعية الوضوء للجنب إذا أراد ذكر الله عز وجل؛ لأنّه سلّم على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فلم يردّ عليه حتى تيمّم. فإن قيل: ليس في الحديث أنّه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان جنبًا. قلت: ولا فيه أنّه لم يكن جنبًا. والظاهر أنّه كان جنبًا؛ لحديث ابن عباس عند مسلم (3)، فإنّه يدلّ أنّه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنكر مشروعية الوضوء للأكل، مع أنّ الأكل يلتزم فيه الذكر أوَّلَه وآخرَه. فإن قيل: لعله إنّما أنكر الوجوب. قلت: الظاهر من الحديث إنكار المشروعية، فراجعه. فإن قيل: فإن ظاهره يفيد إنكار الوضوء لغير الصلاة. وقد ثبت مشروعية _________ (1) مجموع [4719]. (2) السالف قريبًا. (3) برقم (374/ 118) ولفظه: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من الخلاء فأتي بطعام، فذكروا له الوضوء، فقال: أريد أن أصلي فأتوضَّأ؟!».

(24/292)


الوضوء لغير الصلاة في حقِّ الجُنُب، فوجب حمل حديث ابن عباس على إنكار الوجوب. قلت: ثبوت مشروعية الوضوء لغير الصلاة في حق الجنب لا يستلزم ثبوت المشروعية مطلقًا في حق غير الجنب. وهو - صلى الله عليه وآله وسلم - في قصة ابن عباس لم يكن جنبًا، وإنّما جاء من الكنيف. فإنكاره مشروعية الوضوء في حقه حينئذ لغير الصلاة لا ينافي مشروعية الوضوء في حق الجنب لغير الصلاة. فتأمّل. والله أعلم (1). * * * * [تعليق على كلام الشوكاني حول الزيادة على العدد الوارد في الأذكار] «نيل الأوطار» (ج 2/ 203): «قال العراقي في شرح الترمذي: كان بعض مشايخنا يقول: إن هذه الأعداد الواردة عقب الصلاة أو غيرها من الأذكار الواردة في الصباح والمساء, وغير ذلك، إذا ورد لها عدد مخصوص مع ثواب مخصوص، فزاد الآتي بها في أعدادها عمدًا= لا يحصل له ذلك الثواب الوارد على الإتيان بالعدد الناقص، فلعل لتلك الأعداد حكمة وخاصية تفوت بمجاوزة تلك الأعداد وتعديها، ولذلك نهى عن الاعتداء في الدعاء ... وفيما قاله نظر ... [وقد ورد في الأحاديث الصحيحة ما يدلّ على ذلك]: «ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك» ... «لم يأت _________ (1) مجموع [4719].

(24/293)


أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه». وقد يقال ... ». [وقال] الشوكاني: «وهذا مسلَّم في التعبُّد بالألفاظ؛ لأن العدول إلى لفظ آخر لا يتحقق معه الامتثال, وأما الزيادة في العدد فالامتثال متحقق ... وكون الزيادة عليه مغيرة له غير معقول. وقيل: إن نوى عند الانتهاء إليه امتثال الأمر الوارد ثم أتى بالزيادة، فقد حصل الامتثال، وإن زاد بغير نية لم يعدّ ممتثلًا». [علَّق الشيخ على قوله: «غير معقول» بقوله]: «أقول: بل هو معقول كالزيادة على ركعات الصلاة» (1). * * * * [عدم جواز الاقتصار على لفظ الجلالة في الذكر] الاقتصار على ذكر الجلالة أو كلمة «هو» ليس بذكر؛ أوّلًا: لأنه لم يرد، ومن الحكمة في ذلك ــ والله أعلم ــ أنه لا يُفْهِم معنى؛ إذ يحتمل أن يقدَّر التعظيم وأن يقدَّر الكفر ــ والعياذ بالله ــ ولا عبرة بالنية هنا؛ لأن مجرد نية الذِّكْر لا يُعدُّ ذكرًا، فلو نوى بقلبه «الله أكبر» مثلًا لم يُعدَّ ذاكرًا، فكذا إذا قال: «الله» ونوى: «أكبر». ومما يُستدل به هنا أنه لو قال: «زوجتي» ونوى (2) «طالق»، أو «عبدي» _________ (1) مجموع [4717]. (2) في الأصل: «نو»، والصواب ما أثبت.

(24/294)


ونوى «حُرّ»، أو «أرضي» ونوى «وقف»، أو نحو ذلك= لم يقع شيء من ذلك، فكذا هنا بجامع أن الشارع اعتبر التلفّظ في الجميع، ولم يعتبر مجرّد النية، والله أعلم. نعم، قد ورد من الذكر الذي دخله الحذف ما جرى الحذف في مثله لغةً مثل: «هو حسبي» بعد قوله: «أشكو إلى الله» ــ مثلًا ــ. وليس هو مثل الذي قبله؛ لأن هذا يفهم السامع المراد منه بخلاف ذاك. والله أعلم. ولهذا يقع في مثل هذا الطلاق والعتاق والصدقة، كما إذا قيل له: من العتيق؟ فقال: فلان. والله أعلم (1). _________ (1) مجموع [4711].

(24/295)


 الفوائد الأصولية

(24/297)


حديث يتعلَّق بالعمل بالمفهوم عن عبد الله بن أبي أوفى قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن نبيذ الجرّ الأخضر. قلت: أنشرب في الأبيض؟ قال: لا. رواه البخاري (1). «مشكاة» (2) ــ آخر باب النقيع والأنبذة. * * * * [المراد بالواجب في كلام الشارع] يستدل بقوله: «فقد أوجب الله له النار، وحرَّم عليه الجنة» (3) على أن الوجوب حقيقة شرعية في الفرض لمقابلته بالتحريم. وبهذا تتبيّن فرضية غسل الجمعة. * * * * [مما يستدل به على أن دلالة الاقتران معتبرة] مما يستدل به على اعتبار دلالة الاقتران حديث: «عُدلت شهادة الزور بالإشراك بالله» (4)، وحديث: «أعوذ بالله من الكفر والدَّين»، فقال رجل: _________ (1) (5596). (2) (2/ 476). (3) أخرجه مسلم (137) من حديث أبي أمامة وأوله: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب ... ». (4) بقية الحديث: ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} أخرجه أحمد (18898)، وأبو داود (3599)، والترمذي (2300)، وابن ماجه (2372) وغيرهم من حديث خُريم بن فاتك رضي الله عنه بإسناد ضعيف. ورُوي موقوفًا على ابن مسعود في «مصنف عبد الرزاق»: (8/ 327) و «مصنف ابن أبي شيبة»: (7/ 256).

(24/299)


يا رسول الله أيعدل الكفر بالدَّين؟ قال: «نعم» (1). * * * * [اعتراض على قاعدة «لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة»] حديث البخاري (2) عن سهل بن سعد قال: أنزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187]. ولم ينزل: {مِنَ الْفَجْرِ} فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى تتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعدُ: {مِنَ الْفَجْرِ} فعلموا أنما يعني الليل والنهار. اهـ انظر هذا مع قولهم: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة (3) (4). * * * * [نسخ المتواتر بخبر الواحد] فائدة: في تحوّل أهل القبلة إلى الكعبة دليل على أن خبر الواحد كافٍ في نسخ المتواتر. _________ (1) أخرجه أحمد (11333)، والنسائي (5473)، والحاكم: (1/ 532) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال الحاكم: صحيح الإسناد. وصححه ابن حبان (1025). (2) (1917). (3) وقد نظر الشيخ في الآية وحقَّق القول فيها في «إرشاد العامِه» ضمن مجموع رسائل أصول الفقه (ص 231 وما بعدها). (4) ما سبق من الفوائد من مجموع [4657].

(24/300)


[الاستدلال بتروك النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -] من الاستدلال بترك النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: حديث عائشة في الصحيح: «قد كانت إحدانا تحيض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم لا تؤمر بقضاء» (1). وفي رواية: «كان يصيبنا ذلك (الحيض) فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة». * * * * [تعليق على كتاب الموافقات] المسألة الرابعة عشرة (2) «الأمر بالشيء على القصد الأول ليس أمرًا بالتوابع ... والدليل على ذلك ما تقدم من أن الأمر بالمطلقات لا يستلزم الأمر بالمقيدات ... » [ثم نقل الشيخ فقرات ببعض الاختصار إلى قوله:] «والأحاديث في هذا والأخبار كثيرة جميعها تدل على أن التزام الخصوصات في الأوامر المطلقة مفتقر إلى دليل، وإلّا كان قولًا بالرأي واستنانًا بغير مشروع، وهذه الفائدة انبنت على هذه المسألة مع مسألة أن الأمر بالمطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد» اهـ. أقول: أنكر الإمام الشافعي ــ رحمه الله تعالى ــ في «الأم» (3) كراهة _________ (1) أخرجه مسلم (335). والرواية الأخرى عند مسلم أيضًا. (2) موافقات ج 3 ص 121. [المؤلف]. (3) (3/ 622).

(24/301)


الإمام مالك ـــ رحمه الله ـــ الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عند الذبح، وعلَّل ذلك بأن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مطلوبة مطلقًا. وإنكاره في محلِّه إن كان مالك ــ رحمه الله ــ كرهها مُطلقًا. فأما إذا كان إنما كرهها إذا التُزمت أو اعتقد الذابح أنها مطلوبة على الخصوص حينئذ، أو خشي أن يظنَّ من بحضرته ذلك = فلا معنى للإنكار، والكراهة ظاهرة. والشافعيُّ ــ رحمه الله تعالى ــ لا يخالف في هذا ــ إن شاء الله تعالى ــ بل إن في كلامه إشارةً إليه. * * * * [مما يقدح في حجيَّة عمل أهل المدينة] الحمد لله. مما يقدح في الاحتجاج بعمل أهل المدينة: ما جاء في التكبير في الصلاة في كلِّ خفض ورفع؛ فإن الأحاديث تدل أن هذه السنة كان قد غفل عنها الأمراء حتى استنكرها عكرمة كما في حديث البخاري (1)، وأبو سلمة كما في حديث مسلم (2)، ففيه: «فقلنا: يا أبا هريرة ما هذا التكبير؟ قال: إنها لَصلاة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -». _________ (1) (787). (2) (392).

(24/302)


وفي «مسلم» (1) أيضًا عن مطرِّف أنه صلَّى وعمران بن حصين خلف عليٍّ عليه السلام، فكان إذا سجد كبَّر وإذا رفع رأسه كبَّر وإذا رفع من الركعتين كبَّر، فقال عمران: لقد صلَّى بنا هذا صلاة محمدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم -، أو قال: قد ذكَّرني هذا صلاة محمَّدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم -. وكذلك ما جاء في السلام من الصلاة مرَّتين؛ أنَّ ابن عمر (2) سمع أميرًا يفعله، فقال: أنَّى عَلِقها؟! ولقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يفعله. أو كما قال (3). * * * * [الفرق بين مفهوم الصفة ومفهوم اللقب] الحمد لله. ذكر بعضُهم أنّ احتجاج أصحابنا بحديث «وجعلت تُربتها طهورًا» (4) على اختصاص التيمم بالتراب دون سائر أجزاء الأرض، من باب الاحتجاج بمفهوم اللقب. وهذا وهم، بل هو من مفهوم الصفة؛ فإن لفظ (تربة) هاهنا قَيْد للأرض المذكورة، بخلاف نحو: «عَلَى زيد زكاة»، فإن لفظ «زيد» ليس قيدًا لشيء. _________ (1) (33). وهو في البخاري أيضًا (786). (2) كذا في الأصل، والقول إنما رُوي عن ابن مسعود كما في «صحيح مسلم» (581) وغيره. (3) ما سبق من فوائد من مجموع [4711]. (4) أخرجه مسلم (522) من حديث حذيفة رضي الله عنه.

(24/303)


ويوضح لك هذا: أنّ الحجة على عدم حُجيّة اللقب إنّما هي، أنّه أي الّلقب إنما يُذْكَر ليصحّ الكلام، إذ لو حُذِفَ لَمَا أمكن تصحيح الكلام المقصود، بخلاف مفهوم الصّفة، فإنّه ظاهر أنّه يصح الكلام بدونه، فإذا حذف «زيد» من قولك: «على زيد زكاة»، لم يصح الكلام بخلاف حذف «سائمة» من قوله: «في سائمة الغنم زكاة». ولذلك شرطوا في حُجيّة مفهوم الصّفة، أن لا يظهر لذكره فائدة غير نفي حكم غيره. ولا شكّ أنّه لو أراد حذف لفظ (تربة) من قوله: «وجعلت تربتها طهورًا» لصحَّ الكلام بقوله: وجعلت طهورًا. فانظر أي فائدة لذكر لفظ (تربة)؟ وهل هو إلاّ عبث بحت إن لم يكن لبيان أنّ التربة هي المختصة (1). * * * * [مسألة الصلاة في الدار المغصوبة] الحمد لله. أهم ما استدلَّ به الأصوليون على صحة الصلاة في الدار المغصوبة أمران: الإجماع والنظر. فأما النظر فمثَّلوه بالعبد إذا أمره سيِّدُه بالخياطة ونهاه عن دخول الدار، _________ (1) مجموع [4715].

(24/304)


فدخل الدار وخاط فيها. قالوا: فإنه لا خلاف أن العبد قد فعل ما أمره به سيِّده من الخياطة، وإن كان قد عصاه في دخول الدار. وأقول: إن هذا الإلزام مغالطة لوضوح الفرق؛ فإن المأمور به في المثال ــ وهي الخياطة ــ ليست كالمأمور به في صورة المسألة، وهي الصلاة. وذلك أننا نعلم أن السيد إنما أمر عبدَه بالخياطة لتحصيل مطلوبه، وهو خياطة الثوب، وقد حصل تامًّا بلا نقص حتى لو لم يقصد العبد امتثال أمره، وإنما قصد التمرُّن على الخياطة مثلًا، أو مباهاة خائطٍ آخر أو غير ذلك. وليس الصلاة كذلك؛ فإن حصول صورة أفعالها لا يستلزم حصولها، فلو صلَّى الرجل بنيَّة حكاية مُصلٍّ آخر على سبيل السخرية منه، أو يقصد الحركات الرياضية = لم يُعد مصلِّيًا. والحاصل أن الخياطة مصلحة محسوسة محدودة. والمفروض في المثال أنها وقعت تامَّةً كاملة من كلِّ وجه. وأما الصلاة فإنما هي عبادة، الغالب فيها أمر معنوي، وهو الطاعة، ولا يُحكم بتمامها إلا إذا وُجد هذا المعنى أيضًا. ووجود هذا المعنى هو المنازَع فيه. وأما الإجماع فقالوا: إن الغصب لم يزل معروفًا في الأمَّة، ولم يُنقل عن أحد من السلف أنه كان يأمر الغاصبين بقضاء الصلوات التي صلَّوها في الأمكنة المغصوبة. وأجيب عنه بأن الإمام أحمد بن حنبل يرى بطلان الصلاة ويمتنع أن يجهل هذا الإجماع.

(24/305)


ورُدَّ بأنه لا يرى الحجَّة إلا إجماعَ الصحابة، ولا يحتجُّ بالإجماع ما لم يثبت بالنقل الثابت عن كلِّ فرد من المعتبرين في الإجماع. وأقول: ما حكوه عنه من مذهبه في الإجماع هو جواب عن الإجماع، أعني أن مِنْ شَرْط الإجماع النقلَ عن جميع المعتبرين، ولم يوجد. بل شَرَط جماعة ــ منهم الغزالي ــ أن يكون النقل متواترًا عن كلِّ واحد. وأما قولهم: لو كان خلافٌ لنُقل، فكلام ضعيف لا يخفى ضعفه على أحد، ثمَّ لعله نُقل ثم اندرس. وألزم الغزاليُّ الإمامَ أحمدَ (مستصفى ج 1 ص 79) أن لا تحلَّ امرأة لزوجها وفي ذمَّته دانق ظلم، ولا يصح بيعه ولا صلاته ولا تصرُّفاته، ولا يحصل التحليل بوطءِ مَن هذا حاله؛ لأنه عصى بترك ردِّ المظلمة، ولم يتركها إلا بتزويجه وبيعه وصلاته وتصرفاته، فيؤدّي إلى تحريم أكثر النساء وفوات أكثر الأملاك، وهو خرق للإجماع قطعًا وذلك لا سبيل إليه. أقول: قوله: ولم يتركها إلا بتزويجه ... إلخ، لا يخفى ما فيه؛ فإن الاشتغال بالتزوُّج والبيع والصلاة والتصرُّفات غير داخل في ترك رد الدانق بحيث يُسمَّى تركًا، بخلاف أفعال الصلاة؛ فإنها من استعمال الدار المغصوبة بحيث تسمَّى استعمالًا. فلصاحب الدار أن يقول للغاصب: لماذا تصلِّي في بيتي؟ ولا يأتي نظير هذا في ظلم الدانق. نعم، له (1) أن يقول له: لماذا تصلِّي قبل أن تردَّ إليَّ دانقي، ولكن ليس هذا نظير ذاك (2). _________ (1) في الأصل: «نعم، له أن له». (2) مجموع [4716].

(24/306)


[سبب موافقة الشافعي زيدَ بن ثابت في الفرائض] «الجوهر النقي» (1) في أول كتاب الفرائض، عند ذِكْر موافقة الشافعي زيدَ بن ثابت: « ... وإن كان لم يقلِّد زيدًا ــ كما هو المشهور عندهم ــ ففيه أيضًا نظر من وجهين: ... الثاني: أنه لم يخالف ولا في مسألة واحدة، ويبعد اتِّفاق رأيين في كتاب من العلم من أوَّله إلى آخره». أقول: لا يشك من نظر في الخلاف أن ذلك [غير] (2) بعيد بالنسبة إلى كتاب الفرائض لقلة مسائله الخلافية. فأما في كتاب الصلاة مثلًا، فلا شكَّ أن الاتفاق فيه بغير تقليد محال. وموافقة الشافعي زيدًا ليس تقليدًا محضًا، وإنما رأى أنَّ قول زيد يصلح أن يرجَّح به لشهادة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - له. على أن ظاهر كلامه في «الأم» أنه لا فرق عنده بين زيد وغيره من الصحابة. وإنما يختار ما يرجِّحه الدليل. والله المستعان (3). * * * * _________ (1) بهامش «السنن الكبرى» للبيهقي (6/ 211). (2) زيادة يستقيم بها السياق. (3) مجموع [4716].

(24/307)


دليل أن لا مفهوم للعدد حديث البخاري (1) وغيره: «أيما امرأة مات لها ثلاثة من الولد كنَّ لها حجابًا من النار»، فقالت امرأة: واثنان؟ قال: «واثنان». وفي «الفتح» (2): «قال ابن التين ــ تبعًا لعياض ــ: هذا يدلّ على أن مفهوم العدد ليس بحجة؛ لأن الصحابيّة من أهل اللسان ولم تعتبره، إذ لو اعتبرتْه لانتفى الحكم عندها عمَّا عدا الثلاثة، لكنها جوَّزت ذلك، فسألته» اهـ. وخالفه الحافظ، فعكس، ثم قال: «والتحقيق أن دلالة مفهوم العدد ليست يقينيّة، وإنّما هي محتملة، ومِن ثَمَّ وقع السؤال عن ذلك» اهـ. وقد وقع مثل هذا السؤال من عدة من الصحابة، بيّنه الحافظ في هذا الباب. ووقع مثله أيضًا في باب ثناء الناس على الميّت. وفي «الفتح» (3) هناك: «قوله: «فقلنا: وثلاثة؟» فيه اعتبار مفهوم الموافقة؛ لأنه سأل عن الثلاثة، ولم يسأل عمّا فوق الأربعة كالخمسة مثلاً، وفيه أن مفهوم العدد ليس دليلًا قطعيًّا، بل هو في مقام الاحتمال» اهـ. أقول: يؤخذ من كلامه أن مفهوم الموافقة قطعيّ، وفيه ما فيه، فلعله يريد _________ (1) (1249). (2) (3/ 122). (3) (3/ 230).

(24/308)


أن مفهوم العدد ليس في الدلالة كمفهوم الموافقة، بل هو أضعف منه، والله أعلم. والحقُّ فيه ما قال ابن التين وعياض، كما هو ظاهر، والله أعلم (1). * * * * الحمد لله. تعارض القول والفعل * إن كان القول خاصًّا به - صلى الله عليه وآله وسلم -، فهو ضربان: أـ للقول مفهوم أتى بخلافه. وفيه ثلاث صور: 1. مع (2) الفعل دليلٌ خاص بتأسِّينا به فيه. فالمتأخِّر ناسخ في حقه وحقنا. فإن لم يُعلم فالترجيح، فإن تعذَّر فالوقف. 2. كذلك، إلَّا أنه ليس مع الفعل دليل خاص بالتأسِّي، وإنما هناك الدليل العام. فالمتأخر ناسخ في حقِّه، فإن لم يُعلم فالوقف. وأمّا في حقنا فالعمل بالمفهوم لأنه مخصِّص لعموم دليل التأسِّي تقدَّم أو تأخَّر. 3. كالأولى إلا أن مع الفعل دليلاً على اختصاصه به. فالمتأخر ناسخ في حقه - صلى الله عليه وآله وسلم - وحقنا، فإنْ لم يعلم فالترجيح بين دلالة المفهوم ودليل الاختصاص. _________ (1) مجموع [4718]. (2) الأصل: «ومع».

(24/309)


ب ــ القول خاص به ولا مفهوم له. وفيه ثلاث صور أيضًا: 1 ــ مع الفعل دليل خاص بالتأسِّي، فالمتأخر ناسخ في حقه - صلى الله عليه وآله وسلم -، فإن لم يُعلم فالوقف. وأمَّا في حقنا فيتعيَّن التأسِّي بالفعل مطلقًا لأنه إن كان السابق فهو مخصِّص لعموم دليل التأسِّي بمضمون القول، وإن كان المتأخر فهو ناسخ في حقّنا. 2 ــ ليس مع الفعل دليل خاصّ بالتأسِّي وإنما هناك الدليل العام، فالمتأخر ناسخ في حقه وحقنا؛ لأن عموم التأسي متناولٌ للأمرين، فليس أحدهما أَوْلى به من الآخر، فإن لم يعلم المتأخر ترجَّح في حقنا التأسي بالقول لما يُتصوَّر في الفعل من الاحتمالات. 3 ــ مع الفعل دليل على اختصاصه به - صلى الله عليه وآله وسلم -. أما في حقه فالنسخ أو الوقف، وأمَّا في حقنا فلا تعارض؛ لأن دليل التأسي العام يتناول تأسينا به في مضمون القول ودليل الاختصاص في الفعل يؤيد ذلك. * وإن كان القول خاصًّا بنا فهو ضربان أيضًا: أـ أن يكون له مفهوم أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - خلافنا. وفيه ثلاثة أوجه: 1 ــ مع الفعل دليل خاص بالتأسِّي، فلا تعارضَ في حقه - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأما في حقنا فالمتأخر ناسخ، فإن لم يُعلم ترجّح القول. 2 ــ لم يدل على التأسي إلا الدليل العام، فلا تعارض في حقه أيضًا، وأما في حقنا فالقول، ويكون مخصِّصًا لعموم دليل التأسي العام.

(24/310)


3 ــ مع الفعل دليل على اختصاصه به، فلا تعارض. ب ــ لا مفهوم له. وفيه ثلاثة أوجه أيضًا: 1 ــ مع القول دليل خاص بالتأسي. لا تعارض في حقه، وأما في حقنا فالمتأخر ناسخ، فإن لم يُعلم تَرجَّح القول. 2 ــ ليس إلّا الدليل العام. لا تعارض في حقه أيضًا، وأمَّا في حقنا فالقول، وهو مخصص لعموم دليل التأسي. 3 ــ مع الفعل دليل على اختصاصه به، فلا تعارض. * وإن كان القول يعمّه - صلى الله عليه وآله وسلم - نصًّا ففيه ثلاث صور: 1. مع الفعل دليل خاص للتأسِّي. فالثاني ناسخ، فإن لم يعلم ترجَّح القول. 2. ليس إلا الدليل العام للتأسي، ففي حقه النسخ أو الوقف، وفي حقنا القول، ويكون هو ناسخًا لعموم دليل التأسي العام. 3. معه دليل على الاختصاص، ففي حقه النسخ أو الوقف، ولا تعارض في حقنا. * وإن كان القول يعمّه ظاهرًا فقط، ففيه ثلاث صور: مع الفعل دليل خاص للتأسي. فأما في حقه فالفعل دالٌّ على الاختصاص أو النسخ، وأما في حقنا فالمتأخر ناسخ، فإن لم يعلم ترجَّح القول.

(24/311)


ليس إلا الدليل العام للتأسي. ففي حقه الفعل تخصيص أو نسخ. وفي حقنا يترجح القول. معه دليل على الاختصاص، ففي حقه الفعل تخصيص أو نسخ، وفي حقنا لا معارضة (1). * * * * [بحث في الوصف المناسب المؤثِّر في الحكم] الحمد لله. كلام أهل الأصول في فصل بيان أقسام المناسب من حيث اعتبار الشرع له وعدمه = مضطرب. وظاهر صنيع الآمدي (2) أن أصل الكلام في استخراج علَّة الحكم المنصوص بالمناسبة، فإن كان الوصف المناسب منصوصًا على كونه علَّةً أو مُجْمَعًا على ذلك فهو المؤثر. وإلَّا فإن لم يكن هناك إلّا بناء الحكم على وَفْقِهِ في تلك الصورة، فإن اعتبر الشرع ذلك الوصفَ في ذلك الحكم في صورة أخرى = فهو الملائم. وإن لم يوجد له اعتبار إلا في الصورة المطلوب تعليلها، فهو المناسب الغريب. قول «جمع الجوامع» (3): «ثم المناسب إن اعتبر الشرعُ بنصٍ أو إجماع _________ (1) مجموع [4724]. (2) في «الإحكام»: (3/ 242 - 244). (3) (2/ 282 - مع حاشية البناني).

(24/312)


عين الوصف في عين الحكم = فالمؤثر ... » إلخ. أقول: اضطرب كلامهم في هذا الفصل كما أشار إليه الإسنوي في «شرح المنهاج» (1). فظاهر ما في «جمع الجوامع» مع شرحه أن المؤثِّر هو ما كان فيه الوصف مناسبًا منصوصًا على أنه علة أو مُجْمَعًا على أنه علة. وهذا موافق لنصِّ ابن الحاجب، وهو على ما نقله الإسنوي (2): «الوصف المناسب الذي اعتبره الشارع، إن كان اعتباره بتنصيص الشارع على كونه علةً أو بقيام الإجماع عليه، فهو المؤثر». قال الإسنوي: «وأما الآمدي ... وتفسيره للمؤثر موافق لتفسير ابن الحاجب». أقول: وكلام الآمدي ظاهر في ذلك، فليكن هذا هو المعتمد في تفسير المؤثر. وأما الملائم، فظاهر عبارة «الجمع» أنَّ المدار على النظر بين الفرع المراد إلحاقُه قياسًا وبين الأصل. وعليه فالملائم أقسام: الأول: أن يكون الوصف في الفرع عينه في الأصل، والحكم من جنسه. _________ (1) «نهاية السول»: (4/ 102 - 103 مع حاشية محمد بخيت المطيعي). (2) (4/ 103).

(24/313)


الثاني: أن يكون الوصف في الفرع من جنس الوصف في الأصل، والحكم بعينه. الثالث: أن يكون الوصف في الفرع من جنس الوصف في الأصل، والحكم من جنس الحكم أيضًا. ولم يصرِّح صاحب الجمع إلا بهذا الأخير وطوى غيره، فزاد الشارح الأوَّلين مع المغايرة كما يأتي. ولو بنى على ظاهر طريقة «الجمع» لوجب أن يُزَاد رابعًا، وهو: أن يكون الوصف في الفرع عين الوصف في الأصل والحكمُ في الفرع عين الحكم في الأصل أيضًا؛ كقياس النبيذ على الخمر بفرض أن كون السُّكْر علَّةً لا نصَّ عليه ولا إجماع. ولكن يظهر أن الشارح نظر إلى تفسير البيضاوي والآمدي وغيرهما، وإن كان في عبارته اشتباه. أما تفسير البيضاوي والآمدي وما يظهر من المَحَلِّي، فهو أن المقصود هو النظر في علة الأصل الثابت فيه الحكم بنصٍ أو إجماع، هل شهد لها نصٌّ أو إجماع في صورة أخرى؟ الإحكام للآمدي (ج 4 ص 3): «القسمة الثالثة: القياس ينقسم إلى مؤثر وملائم. أما المؤثر فإنه يطلق باعتبارين: الأول ما كانت العلة الجامعة فيه منصوصة بالصريح أو الإيماء أو مجمعًا عليها. والثاني ما أَثَّر عين الوصف الجامع في عين الحكم، أو عينه في جنس الحكم، أو جنسه في عين الحكم. وأما الملائم: فما أَثَّر جنسه في جنس الحكم كما سبق تحقيقه.

(24/314)


ومن الناس من جعل المؤثر من هذه الأقسام ما أَثَّر عينُه في عين الحكم لا غير، والملائم ما بعده من الأقسام». وقال في (ج 3 ص 406): «القسم الأول: أن يكون الشارع قد اعتبر خصوص الوصف في خصوص الحكم، وعموم الوصف في عموم الحكم في أصل آخر، وذلك كما في إلحاق القتل بالمثقَّل بالمحدد لجامع القتل العمد العدوان، فإنه قد ظهر تأثير عين القتل العمد العدوان في عين الحكم وهو وجوب القتل في المحدَّد، وظهر تأثير جنس القتل من حيث هو جناية على المحلّ المعصوم بالقَوَد في جنس القتل من حيث هو قصاص في الأيدي، وهذا القسم هو المعبَّر عنه بالملائم، وهو متفق عليه بين القياسين، ومختلف فيما عداه». الحمد لله. إذا وجدت مناسبة في شيء لِحُكمٍ، فلا يخلو أن يكون الشرع جاء بإثبات ذلك الحكم في ذلك الشيء، كالحُرْمة في الخمر أو لا. فالأول: لا كلام فيه هاهنا. وأما الثاني: فلا يخلو أن يكون جاء الشرع بخلافها أو لا. الأول: المُلْغَى. وأما الثاني: فلا يخلو أن لا يجيء الشرع بخلافها ولا وفاقها، أو جاء بوفاقها في صورة أخرى. الأول: المصالح المرسلة.

(24/315)


وأما الثاني: فلا يخلو أن يكون فيها عين الوصف الموجود في صورة البحث وثبت بنص أو إجماع كونه علَّة لعين الحكم المراد إثباته في صورة البحث أو لا. الأول: المؤثِّر، ومثاله قياس النبيذ على الخمر في الحُرْمة لثبوت النص والإجماع على أن الإسكار في الخمر علة للحرمة. وأما الثاني: ففيه أربع صور: الأولى: أن يكون الوصف في الفرع والأصل واحدًا والحكم فيهما كذلك. كقياس النبيذ على الخمر على فرض أنه لم يقم نص ولا إجماع على أن العلة هي الإسكار. الثانية: أن يكون الوصف فيهما واحدًا، والحكمان مختلفان ولكنهما يدخلان تحت جنس قريب، كقياس تولِّي الولي نكاحَ الصغير على تولِّيه ماله. الثالثة: أن يكون الحكم فيهما واحدًا، والوصفان مختلفان ولكنهما يدخلان تحت جنس قريب. كقياس المجنون على الصبي في تولّي الأب ماله. الرابعة: أن يختلف الوصفان ولكنهما داخلان تحت جنس، ويختلف الحكمان ولكنهما داخلان تحت جنس. كقياس المجنون في تولّي الأب نكاحه، على الصبي في تولّي الأب ماله. وفي كل واحدة من هذه الصور: إما أن لا يوجد أصل آخر يشهد لذلك

(24/316)


الوصف بالاعتبار، أو يوجد. الأول: هو الغريب. والثاني: الملائم، وتخرج من النظر بين الأصلين أربعُ صور كالأربع المتقدمة في النظر بين الأصل والفرع. الأولى: عينٌ في عين، كالملح في شهاوته لاعتبار الطعم في البر. الثانية: عينٌ في جنس، كما إذا علّلنا الرِّبا في البُرِّ بالقوت مع الادِّخار، واستشهدنا بتحريم الاحتكار في الأقوات التي تُدَّخر. فإن الوصف في الأصلين هو القوت مع الادّخار، والحُكْمان مختلفان، ولكنهما يجتمعان في جنس وهو التشديد. الثالثة: جنس في عين (1). * * * * [استدلال على أن صيغة «افعل» للوجوب] الحمد لله. مما يدلُّ على أن لفظ «افعل» للوجوب: الحديثُ الصحيح في غزوة الفتح أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال لأصحابه: «إنكم قد دنوتم من عدوِّكم والفطر أقوى بكم». قال الصحابي: فكانت رخصة. _________ (1) هذا آخر ما كتبه الشيخ في المجموع [4724]. قلت: الرابعة: جنس في جنس. انظر «التقرير والتحرير»: (3/ 206).

(24/317)


ثم قال - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد ذلك: «إنكم مصبِّحوا عدوِّكم فأَفْطروا». قال الصحابي: فكانت عزمةً. يُراجع لفظ الحديث (1). * * * * [تعليق الشيخ على حكاية من «الموافقات»] الموافقات (ج 3 ص 91): [«وقد حكى إمام الحرمين عن ابن سريج أنه ناظر أبا بكر بن داود الأصبهاني في القول بالظاهر، فقال له ابن سريج: أنت تلتزم الظواهر، وقد قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] فما تقول فيمن يعمل مثقال ذرتين؟ فقال مجيبًا: الذرتان ذرة وذرة. فقال ابن سريج: فلو عمل مثقال ذرَّةٍ ونصفٍ؟ فتبلَّد وانقطع».] لا أرى الحكاية صحيحة؛ لأن ابن داود وأباه لا يريدان بالظاهر مثل هذا، كما دلَّت القواطع العقلية والنقلية والإجماع على عدم إرادته (2). _________ (1) الحديث في «صحيح مسلم» (1120) وقد راجعنا اللفظ وأصلحناه، فقد كتب الشيخ في الموضعين: «إنكم ملاقو عدوكم ... ». (2) الفائدتان الأخيرتان من مجموع [4729].

(24/318)


 الفوائد اللغوية

(24/319)


الحمد لله. أصلُ اللُّغةِ الإشارةُ اختلف الباحثون في أصل اللغة، وظهر لي في ذلك شيء هو في نظري أصحُّ ما يُقال في هذا الباب، ولعلّي أكون أوَّلَ مَنْ تنبَّه له. المعذرةُ أيها القارئ! فلعلّي أكون مخطئًا في اعتقادي هذا. وقد كان يجب عليَّ أن أستوعب ما قيل في هذا الموضوع قبل أن أُبدي ما عندي، ولكن لم يتيسَّر لي ذلك في الحال، وعلمت أنَّ للمخلّفاتِ ــ كما قيل ــ آفاتٍ. وقبل بيان ما ظهر لي، أذكرُ ما وقفتُ عليه من آراء الناس في هذا الباب. الرأي الأول: أنَّ اللغة من وضع الخالق عز وجل. ثم اختلف أصحاب هذا الرأي. فقال بعضهم: علَّمها الله عز وجل آدمَ محتجِّين بقوله عز وجل: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]، مع ما في الحديث الصحيح أنَّ الناس يوم القيامة يأتون يقولون لآدم: «وعلَّمك أسماء كلّ شيء» (1)، ثمَّ علَّمها آدمُ بنيه فتوارثوها. وقال آخرون: بل بالوحي إلى الأنبياء. وقال غيرهم: بل بالإلهام. الرأي الثاني: أنَّ الواضع لها هم البشر، ثم اختلف هؤلاء. فقال فريق منهم: إنَّ بين الألفاظ والمعاني مناسَباتٍ طَبْعيَّة تفطَّن لها الواضع. ومنهم مَنْ فسَّر هذا بأن المراد بالمناسبة أنَّ للحروف صفاتٍ _________ (1) البخاري (4476) من حديث أنس رضي الله عنه.

(24/321)


محسوسةً من الجهر والشدة وغيرهما، وكذا للفتح والكسر والضم والسكون، وللمسميات صفاتٌ مشابهة لذلك، فرُوعِيَتِ المناسبة بذلك، وقد ذكر ابن جني في «خصائصه» (1) أمثلة لذلك. وقال فريق آخر: بل بمجرَّد الاصطلاح بمعونة الإشارة، كأن يحضر الشيءُ أمام المُصطَلِحِين فيتَّفِقُون على لفظٍ يضعونه له. وقال آخرون: بل الأصل في هذا حكاية أصوات الحيوانات وغيرها، وقد حكاه ابنُ جنِّي في «الخصائص» (2) وحسَّنه، ولفظُه: «وذهب بعضُهم إلى أنَّ أصل اللغات كلِّها إنما هو من الأصوات المسموعات كدوِيِّ الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيج الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبْي، ونحو ذلك، ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد. وهذا عندي وَجْهٌ صالح ومذهبٌ مُتَقَبَّلٌ». خصائص (ج 1 ص 44). الرأي الثالث: الوَقْف. أمَّا أنا فإني أرى أنَّ أصل اللغة الإشارةُ على تصرُّفٍ في معنى الإشارة لما ستراه إن شاء الله تعالى. ثم أقول: إمّا أن يكون الخالق عز وجل وضعها موافقةً لذلك مراعاةً للحكمة وليَسهل تعلُّمُها على الناس، ويكون أظهر في الدلالة على المعاني، كما يدلك على ذلك كثرة استعمال العرب كلمة (البَوْس) بمعنى التقبيل، حتى لا تكاد العامة تعرف له لفظًا غير (البَوْس) مع _________ (1) وذلك في باب: «في إمساس الألفاظ أشباه المعاني»: (1/ 152 - 168) ت. محمد علي النجار. (2) (1/ 46 - 47).

(24/322)


أنه من غير لغة العرب، إلَّا أنه ظاهر الموافقة للإشارة بخلاف (التقبيل) ونحوه، كما ستراه إن شاء الله تعالى. وإمَّا أن يكون الخلق هم الذين ولَّدوها من الإشارة. ولا أجزم بأحدهما، ولكنّي سأبني كلامي على الثاني. الدليل الإجمالي أصحُّ أساسٍ نبني عليه البحث في هذا الموضوع أن نعتبر حال الإنسان قبل اللغة بحال الأبكم، وكلّنا يعلم أنَّ الأبكم يعتمد في تفهيم ما يريده على أمورٍ منها: الإشارة ببعض أعضائه الظاهرة، ومنها أصوات طبعية تدل على أغراض معروفة، كالأنين على الألم. وهذا القسم يظهر أنه كان كثيرًا في الإنسان لأننا نرى العجماوات تستفيد من أصواتها الطبعية كثيرًا في تفهيمها، ولا شك أن الإنسان قبل اللغة كان أرقى منها. ومنها حكاية أصوات الأشياء التي يريد [أن] يخبر عنها سواءً من أصوات الإنسان نفسه كالأنين والحنين والنخير والشخير أو أصوات الحيوانات أو غيرها. ومنها حكاية المعاني بأصوات تناسبها، وهذا هو الذي دندن عليه ابن جنّي. أنا أرى أنَّ الأقسام الثلاثة يصحّ أن تكون كلها من باب الإشارة، فالأول إشارة مرئية، والآخران إشارة مسموعة، وإن كان معنى الإشارة في أصل اللغة لا يتحمَّل هذا فلنحمِّلْه إيَّاه على سبيل الاصطلاح. ويرجّح هذا أنَّ الإشارة بالأعضاء أوسع تصرُّفًا من الأصوات الطبعية والحكاية كما لا يخفى.

(24/323)


وقريب من الأبكم: الناطق الذي يحاول تفهيم مَنْ لا يعرف لسانه. بل إن الناطق الذي يريد تفهيم مَنْ يعرف لسانه كثيرًا ما يستغني بالإشارة والأصوات الطبعية والحكاية. وإذن فقد كان الناس قبل الكلام يتفاهمون بذلك. والمنطق يدلّ أنّ أقرب ما يمكن أن تَولَّد منه أداة الشيء هو أداة أخرى لذلك الشيء كانت قبلها. وإذن فاللغة مولَّدة من الإشارة والحكاية. التحليل الإشارة بالأعضاء هي عبارة عن تحريك بعض الأعضاء حركةً مخصوصةً، وقد يكون غير الأعضاء كعُودٍ باليد، ولكن مبنى الإشارة على الأعضاء كما لا يخفى. من الأعضاء: أعضاء الفم من الشفتين واللسان وغيرها. الإشارة بأعضاء الفم قد تكون بالتحريك الظاهر كإبراز اللسان، وقد تكون بتحريك لا يظهر للبصر، وإنّما يُستدلّ عليه بصوتٍ كدلالة «هع» على تحريك بعض أعضاء الحلق حركةً مخصوصةً للدلالة على القيء. قد يقال: الأَولى أن يُجعل نفس الصوت ــ «هع» مثلاً ــ هو الدالّ على المعنى ــ وهو القيء هنا ــ مع قطع النظر عن تحريك أجزاء الحلق، فيكون هذا من الحكاية لا من الإشارة العضوية. وهذا ــ وإن صحّ في المثال ــ لا يصحّ في نحو (بَلَع) كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.

(24/324)


قدَّمنا الإشارة العضوية التي يمكن توليد الكلام منها هي ما كان بأعضاء الفم، والظاهر أن أول ما ولد من الكلام هو ما جرت العادة بأن يشار إليه بشيء من أعضاء الفم. ثم إن الواضعين ألحقوا بذلك ما جرت العادة أن يشار إليه بغير ذلك بأن كلّفوا أنفسهم أولاً الاقتصار في الإشارات على أعضاء الفم ثم فعلوا بها كما فعلوا بالأولى. الكلمات المولدة من الإشارة العضوية والأصوات الطبعية والحكاية هي أصول المواد، وكذا أصول الصِيَغ فيما يظهر، ثم جُعِلت تلك الأصول أمهات، وولدت منها كلمات أخرى بمقتضى المناسبة، وقد تكون المناسبة إشارية وقد تكون غيرها، وقد تكون مركبة. طريق البحث في هذا الموضوع أن ... (1). * من لطائف الإشارة كلمة: «حِرْح» فإنها إشارة إلى شيء فيه دفع وبلع. ثمَّ أسقطوا منه ما يدل على البلع على عادتهم في إضمار ذلك والتحاشي من التصريح به (2). * * * * _________ (1) بياض في الأصل. (2) مجموع [4716].

(24/325)


اشتقاق الكلمات ذكروا أنّ اشتقاق الكلمات بحسب الأصل قد يكون من طبائع الحروف، كالشدة والجهر وضديهما. ومثَّل له ابن جني في «الخصائص» بما مثّل. وذكروا أنّه قد يكون من أصوات الحيوانات ونحوها، ومثّلوه بنحو الصّرير، والأزيز. وقال قائل: كيف يحتاج الإنسان إلى أن يَستمدَّ كلامه من أصوات الحيوانات ونحوها، في حين أنّ الحيوانات لا تستمدُّ كلامها الذي تتفاهم به إلا من أصواتها أنفسها، مع أنّ الإنسان أشرف من الحيوان؟! وأقول أنا: إنّ كثيرًا من الكلام ــ ولاسيّما ألفاظ الأصوات الإنسانية ــ مشتق من الأصوات نفسها، كالنخير، والشخير، والتنحنح، والنفخ، والقهقهة، والأنين، والحنين، والرنين. ولكن بعض ذلك مما يُفهم بسهولة، وبعضه يحتاج إلى إمعان نظر واستقراء لأنواع الصوت، كالضحك والبكاء. وأقول أيضًا: إنّ كثيرًا من الكلام مأخوذ من الإشارة، وهذا باب واسع جدًّا؛ فإن الإنسان الذي لا يعلم الكلام كالأبكم يستطيع أن يُفهِم صاحبه كثيرًا من أغراضه بمجرد الإشارة. ولكن الإشارة قد تكون باليدين، وبغيرهما من الأعضاء. واستمدادُ الكلام منها إنّما يمكن من الإشارة بأعضاء الفم، كاللسان والشفتين، فإنّها هي التي يكون بها الكلام.

(24/326)


ومن أمثلة هذا: اسم الإشارة وهو (ذا). فالإنسان إذا أشار إلى حاضر يُبرز عضوًا منه موجِّهًا إلى ذلك الشيء، وقد يصوِّت معه بصوت خالٍ عن معنى ليوجِّه نظر السامع إلى الإشارة فالمشارِ إليه. ومن جملة الأعضاء التي تُبرَز للإشارة: اللسان، وهو الذي يمكن منه استمداد اللفظ. فرأى الواضعُ أنّه ينبغي وضع كلمة الإشارة استمدادًا من إخراج اللسان والنطقِ ببعض الحروف التي يتيسّر النطق بها حينئذ. فوجد ثلاثة أحرف: الذال، والثاء، والظاء. والثاء خفيّة، والظاء لا تخلو من خفاء، فتعيَّن الذال. وزاد معها الألف ليَبِين الصوتُ، ثم تصرّف فيها في أسماء الإشارة، والموصول، وبعض الظروف كإذ، وإذا، ومُذ، ومنذ؛ لوجوهٍ يطول بيانها، والأصل فيها ما تقدم. ومن ذلك: أنّ إشارة الإنسان إلى نفسه تكون بعطف عضوٍ منه إلى جسمه، فتعيَّن هاهنا اللسان. وأنت إذا عطفت لسانك إليك محرِّكًا له كما يفعل المشير، ثم التمست حرفًا تنطق به حينئذٍ، تعيَّنَ النون. فجُعلت النون أصلاً لضمير المتكلم، وتُصرِّف فيها في غيره. ومن ذلك: أنّ إشارة الإنسان إلى الوقت الحاضر تكون بتحريك يديه حركة معترضة، ثم الإشارة إلى نفسه، يريد وقتنا الحاضر، مع تصويتٍ يصحب الإشارة.

(24/327)


فرأوا أنّ الصوت الذي يؤدّي معنى الصوت (1) ويمثِّل الإشارة، هو المَدَّة، والذي يؤدي معنى الإشارة إلى النفس هو النون كما مرّ، فقالوا: «ءان»، ثم تصرّفوا في ءان، ومن جملة تصرّفهم فيه (2): قلبُهم لبعضه ليدلّ على تغيير في معناه، فقالوا: «أنَى» لساعةٍ غير معيَّنة. ثم تصرفوا في هذه أيضًا، فقالوا: أنَى الشيءُ يأني، أي: حضر إناهُ، أي وقته. ومن ذلك: «أنَى الطعام» أي بلغ وقته، أي المطلوب منه، وهو النضج. ثم قالوا للوعاء: «إناء»؛ لأن الطعام إذا بلغ إناه جُعِل فيه. وقال تعالى: {حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44] أي بلغ وقته المطلوب منه، وهو شدة الحرارة. وقالوا: «أنيت الشيءَ» أي أخَّرته إلى إناه، أي إلى وقته المناسب، ومنه «الأناة» و «التأنِّي»، [و] هو تأخير الشيء إلى إناه، أي إلى وقته المناسب. ومن هنا كان التأني ممدوحًا مطلقًا. ولو كان معناه: تأخير الشيء عن إناه، أي عن وقته، كما زعم الراغب (3) = لكان مذمومًا أو على الأقلّ لا يدلّ على مدح ولا ذمّ. وقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأشج عبد القيس: «إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة» (4). _________ (1) كذا في الأصل. (2) في الأصل: فيهم، سبق قلم. (3) «المفردات» (ص 96). (4) أخرجه مسلم (17/ 25).

(24/328)


ومن ذلك: الابتسام. لمَّا كان آلته الشفتان، وغايته أن تبدو معه الأسنان العليا؛ جعلوا له حرفين شفويّة، وهما: الباء والميم، وحرفًا من الثنايا العليا، وهو السين. وقريب من الابتسام: البَوس. وإن لم يكن بعربي (1). * * * * [بحث في أصل صيغ الفعل واشتقاقها منه، وإتيان بعضها مكان بعض] الحمد لله. «أمالي ابن الشجري» المجلس (38). «قال أبو الفتح عثمان بن جني: قال لي أبوعلي: سألت يومًا أبا بكر ــ يعني ابن السراج ــ عن الأفعال يقع بعضها موقع بعض، فقال: كان ينبغي للأفعال كلها أن تكون مثالاً واحدًا لأنها لمعنى واحد، ولكن خولف بين صيغها لاختلاف أحوال الزمان، فإذا اقترن بالفعل ما يدل عليه من لفظ أو حال جاز وقوع بعضها في موقع بعض. قال أبو الفتح: وهذا كلامٌ من أبي بكر بحال شديد (2)». أقول: وقد سبق لي جواب لعله أوضح من هذا وأقعد. وذلك أني سُئلت عن فعلَي التعجب: لِمَ جُعلا فعلين ماضيين أبدًا، مع أنّ التعجب قد يكون ماضيًا وحالاً وآتيًا؟ _________ (1) مجموع [4719]. (2) علَّق عليه الشيخ بقوله: «كذا، وذكره في موضع آخر: عالٍ سديد».

(24/329)


فأجبتُ بأن الفعل بحسب الأصل صيغة واحدة تدل على وقوع ذلك الفعل، فكأنه في الأصل اختير أن يكون من الضرب: «ضَرَبَ»، بدليل خِفَّتها وعدم الزيادة فيها. ثم رأوا أنّ مجرّد الإخبار بالوقوع لا يكفي؛ لأنّ الوقوع قد يكون في الحال، وقد يكون قبل ساعة فأكثر، إلى ما لا نهاية له، وقد يكون بعد ساعة إلى ما لا نهاية له. ولمّا كان لا يمكن تعدّد الصيغ بتعدد الأزمنة، فلا أقل من اعتبار الجهات، وهي المضي والحال والاستقبال. فنظروا أيّها أَلْيَق بالأصل، فإذا هو الماضي، لأنّه الأصل والغالب فيما يحتاج فيه إلى الإخبار بالوقوع، فجعلوا له الصيغة الأصلية، وهي «ضَرَبَ» مثلًا. ثم رأوا أن يغيّروا الصيغة تغييرًا ما، ويجعلوها للذي يلي الماضي وهو الحال، فزادوا الهمزة التي هي الأصل في الزيادات، فجعلوها للأصل في الإخبار بالوقوع، وهو التكلُّم؛ لأنّ الغالب أنّ الإنسان إنما يخبر عن شيء وقع منه. ثم جعلوا أُختيها: الواو والياء لبقية وجوه الإخبار، إذا الإخبار إما أن يكون عن المتكلم، أو عن مخاطب، أو غائب. ولكنهم قلبوا الواو تاء، لأن التاء أليق بالخطاب؛ لأن الناطق بها كالمشير إلى ما أمامه، ولذلك جعلوا التاء ضمير الخطاب.

(24/330)


وقلبُ الواو تاءً في أوائل الكلمات معروف عندهم، مثل: تترى، وتراث، وتقوى، وتُجاه، وتَبال، وتُكَلة، وتُهَمة. ثم رأوا الاحتياج إلى زيادة صيغةٍ رابعة لأجل المتكلم ومعه غيره، فاختاروا النون، لأنها أشبه الحروف بحروف العلة، كما هو مبيّن في محلِّه. وأمّا المستقبل، فرأوا أن لا يجعلوا له صيغة مستقلة، بل يكتفون بالصيغة التي جعلوها للحال، ويكتفون بدلالة القرائن على أنه لم يُرَد بها الحال وإنما أريد بها الاستقبال. وجعلوا حرفًا خاصًّا لهذا المعنى، حتى يُفْزَع إليه إذا لم يوجد في الكلام قرينة أخرى، وهو (السين)، ثم زادوا مع (السين) حرفين فقالوا: (سوف)، لتكون (السين) وحدها دالةً على المستقبل القريب، و (سوف) دالةً على البعيد. وأما الأمر، فهو مشتق من المضارع، كما عليه الكوفيون، وهو الصحيح. ثم إنهم كثيرًا ما يجدون القرائن مُغْنِية عن الصيغة، فيرجعون إلى الأصل، وهو صيغة (ضَرَب) مثلًا. ومن هنا كان الغالب مع أدوات الشرط مجيء صيغة الماضي؛ وذلك لأن أدوات الشرط تدل على أن الفعل مستقبل، فاستغنوا بها عن الصيغة ورجعوا إلى الأصل. ومن هنا تعلم أن المستقبل إذا جاء بلفظ الماضي لا يجب أن يكون ذلك لنكتة معنوية، وإن كان كثيرًا ما يَرِد كذلك، إلا أنه ليس بلازم.

(24/331)


وهذا في كلِّ شيء يجيء على أصله. قد يكون لمجيئه على أصله نكتة معنوية أو أكثر، ولكن ليس ذلك بلازم، فقد يجيء على الأصل لغير نكتة، بل لمجرد أنه الأصل. فأمّا مجيء المعنى الماضي بصيغة المضارع فلا بدّ له من نكتة. هذا معنى ما أجبت به قبل اطلاعي على ما قاله ابن السراج، وهو بحمد الله تعالى من التحقيق بحيث ترى، بخلاف كلام ابن السراج ففيه إجمال لا يخفى. فأمّا خصوص صيغتَي التعجب، فإنها خُصَّت بصيغة الماضي لما تقدم أنه الأصل، مع أن الغالب في التعجب الواقع أنه إنما يكون من شيء واقع فأما ما لم يقع، فإن التعجب منه إنما يقع عند وقوعه. فإن تُجُوِّز في المجيء بالصيغة للدلالة على تعجبٍ سيقع، فذلك عزيز، فليُجَأْ معه بقرينة دالة على المطلوب. والتزامُ ذلك أخف وأيسر من تعديد صيغ التعجب. والله أعلم (1). * * * * _________ (1) مجموع [4719].

(24/332)


[المناسبة بين رسم كلمتَي الصدق والكذب وبين معانيهما] الحمد لله. الصدق والكذب إن الصدق والكذب ليترائَيان للأبصار ضئيلين جدًّا بالنسبة إلى مقدارهما الحقيقي، فإذا أُنعِم النظر فيهما أَخذَا في الاتِّساع إلى أن يَلْتَهِما جميع الأخلاق. وقد دعاني هذا من حالهما إلى أن أكتب شيئًا في شأنهما، ما بين رسمهما وتسميتهما من المناسبة الغريبة. [الصدق:] الصاد: حرفٌ مهموس رخو مُستَعْلٍ. فكأنه أشيرَ به إلى أن الصدق أول ما يُفاه به، يهمس به صاحبُه خوفًا، ويكون معناه كالكلام المهموس، أي خفيًّا غير ظاهر، ويكون ضعيفًا لكراهية الناس له وميلهم إلى الكذب. وهو مع ذلك مستعلٍ في جوهره، ولكن أُشيرَ بجعل حركته كسرةً إلى أنه سافل في صورة حاله. والدال والقاف مجهوران شديدان مُقَلْقلان. وكل ذلك إشارة إلى أن الصدق في أوسط أحواله وآخرها يشتهر ويقوى ويظهر. وزادَ القافُ بكونه مستعليًا، وهو بحسب الصورة قابل للفتح والرفع

(24/333)


والخفض. ففيه إشارة إلى أن الصدق في آخره هو مستعلٍ في حقيقته، وقد يكون مستعليًا في الصورة، وربما خُفِض. الكذب: الكاف: مهموس شديد منخفض، كأن ذلك إشارة إلى (1) أن الكذب في أوله يهمس به صاحبُه خوفًا من التكذيب، أو لأن ضميره يلومه إن كان بقي فيه شيء من الحياة. وقد قيل: إن الكاف مجهور. ويظهر من ذلك نكتة أخرى، وهي أن الكاذب يموِّه كذبه بحيث يشبه المجهور. والشّدّة فيه إشارةٌ إلى أن الكذب في أوله شديد التأثير. والانخفاض إشارةٌ إلى انخفاضه في ذاته، ولكنه حُرِّك بالفتح إشارةً إلى أن صاحبه يصوّره بصورة الظاهر المستعلي، وإن كان في نفسه بخلاف ذلك. الذال: مجهورٌ رخوٌ منخفض. فكأن ذلك إشارة إلى أن الكذب في أوسط أحواله يشتهر، ويضعف ويكون سافلاً حقيقة وكذا صورةً؛ لتحريكه بالكسرة. وقد قيل: إن الذال مهموس. وتظهر من ذلك نكتة أخرى، وهي أن صاحبه يجهد حينئذ في أن يغفل عنه الناس وينسوه. الباء: مجهور شديد مُقَلْقَل منخفض. _________ (1) تكررت «إلى» في الأصل.

(24/334)


الجهر إشارة إلى ظهوره واشتهاره، والشدة إشارة إلى أنه كثيرًا ما يشتد الكذب ويقوى بوجود أناسٍ يتعصبون له بجهلٍ أو هوى. وهذا مُشاهَد بكثرة. والانخفاض: إلى أنه منخفض في ذاته، مُهْمَلٌ في صورته؛ فقد يُعْلِيهِ التعصُّب، وقد يخفضه الإنصاف (1). * * * * [تعليقات على مواضع من «مختصر المعاني شرح تلخيص المفتاح» و «حاشيته» للبنَّاني] الحمد لله. * قول «المختصر» (2): «وتقديم الحمد باعتبار أنه أهم [نظرًا إلى كون المقام مقام الحمد]» إلخ. اعتُرض عليه بأن النكتة إنما تذكر للمُزال عن محله الأصلي لا القارِّ فيه. وحكى المحشِّي جوابين غير واضحين. والجواب الصحيح أنه إنما يعتبر الأصل حيث لا مقتضى لخلافه، فإذا ورد شيء على أصله ولا مقتضى لخلافه لم يُسأل عنه. وأما إذا وجد ما يقتضي خلافه فإنه يُسأل، لأن كونه أصلاً مُعارَض بما هو أرجح منه، وهو ذلك المقتضي. _________ (1) مجموع [4729]. (2) «مختصر المعاني ــ مع حاشيته التجريد» لمصطفى بن محمد البنَّاني: (1/ 25 - 26).

(24/335)


مثاله في النحو: أن يسأل سائل عن «ذو» بمعنى صاحب، لماذا أُعربَ مع كونه على حرفين؟ فلا يكفي في الجواب أن يقال: الأصل في الاسم الإعراب فلا يُسأل عنه؛ لأنه يقال: هذا إنما هو فيما ليس فيه مقتضٍ لخلافه، وهو هاهنا معارَض بما هو أرجح منه، وهو أن ما كان من الاسم على حرفين ما فيهما حرف علَّة واجبُ البناء. فيتعين في الجواب أن يُقال: إن لفظ «ذو» ليس على حرفين، بل هو على ثلاثة؛ لأن أصله «ذوي»، وقاعدة بناء الاسم إذا كان على حرفين إنما هي فيما كان على حرفين من أصل الوضع، وليس «ذو» كذلك. إذا تقرر ذلك، فكون تقديم الحمد هو الأصل لكونه مبتدأً قد عارضه ما هو أرجح منه، وهو أن تقديم لفظ الجلالة أحق لأنه الأهم، فلا يكفي في الجواب أن يقال: «هو الأصل»، لأن الأصل قد عارضه ما هو أرجح منه. وعليه فلابد من نكتة أخرى للعدول عمّا كان هو الظاهر في البلاغة، وهو تقديم الأهم. والله أعلم. * * * * * قول المختصر (1): «والتعليل بأن البلاغة إنما هي باعتبار المطابقة لمقتضى الحال، وهي لا تتحقق للمفرد= وهمٌ ... » إلخ. أقول: وتعليل السعد بأنه «لم يُسمع: كلمة بليغة» تقصير لأنه قد يقال: ولماذا لم يستعمل العرب ذلك؟ فكان الأولى أن يعلل بأن البلاغة مُشتقة من البلاغ، ففي «القاموس وشرحه»: بَلُغ الرجل بلاغةً إذا كان يبلغ بعبارته كُنْهَ _________ (1) «مختصر المعاني ــ مع التجريد»: (1/ 59 - 60).

(24/336)


مراده ... إلخ، وهذا إنما يناسب المتكلم لكونه هو الذي يبلغ، فيقال: بليغ فعيل بمعنى فاعل؛ والكلامَ لأنه به يبلغ صاحبه مراده، فيكون فعيل بمعنى مُفعَل أي مبلَغ. وأما المفرد، فلا مناسبة لذلك فيه، فلذلك لم تطلق العرب: «كلمة بليغة». ولعل المعلل الأول قصد هذا ولكن قصرت عبارته عنه. والله أعلم. * * * * * البنَّاني ([ج 1] ص 91) (1): «مع أنه لا يحسن في نظر العقل طلب التصويت عند سماع صوت المحبوب» إلخ. فيه نظر، أولاً: أن هذا إذا كان هو أيضًا بذلك المرأى والمسمع، كالحمامة، ولا دليل عليه، بل ربما كان بينه وبين ذلك المحلّ مراحل. وقد يكون إنما قال ذلك للحمامة غبطةً لها. ومع ذلك، فليس المراد من كونها بمسمع منها كونها تسمع صوتها بالفعل. بل المراد أنها بحيث لو تكلمت لسمعتها. ويظهر لي معنى آخر غير ما تقدم، وهو أنه أراد تنبيه الحمامة على جمال المحبوبة، يُقال لها: ينبغي لكِ إذا كنتِ بحيث ترينها وتسمعين كلامها أن تنشطي وتفرحي وتطربي. _________ (1) تعليقًا على الشاهد التالي: حمامةَ جرعا حومةِ الجندل اسْجَعي ... فأنتِ بمرأى من سُعادَ ومسمع

(24/337)


ومعنى آخر: وهو أنه سمع الحمامة تسجع، فأمرُه لها بمعنى: دومي على السجع غير ملومة، فإنك بحيث ترين المحبوبة وتسمعين كلامها، فلا غرو إذا طربْتِ وطرَّبتِ! فيحق لمن كان بذلك المحلّ أن يطرَبَ ويُطرِّبَ. * * * * * «(وبينهما) أي بين الطرفين (مراتب كثيرة) متفاوتة، بعضها أعلى من بعض بحسب تفاوت المقامات ورعاية الاعتبارات، والبُعد من أسباب الإخلال بالفصاحة. هـ مختصر. قوله: «متفاوتة» لمَّا كان يُشكل التفاوت بأنه إن حصلت المطابقة حصلت البلاغة، وإن انتفت انتفت البلاغة = بيّنه بقوله: «بحسب تفاوت المقامات» أي كما في مقام يقتضي تأكيدًا شديدًا، ومقام يقتضي مطلق التأكيد، «ورعاية الاعتبارات» كما لو روعي اعتبار واحد، وروعي أكثر، «والبعد من أسباب ... » إلخ كما لو انتفى الثقل بالكلية في موضع وبقي منه شيء يسير لا يخرجه عن الفصاحة في موضع آخر. اهـ «سم» ببعض تغيير. ولا تغفل عمَّا قدمناه من أنه لا يشترط في أصل البلاغة المطابقة لجميع مقتضيات الحال، بل المطابقة في الجملة». هـ (1). أقول: قوله: «كما في مقام يقتضي تأكيدًا شديدًا ومقام يقتضي مطلق التأكيد»، يعني فالإتيان بالتأكيد الشديد في الأول وبالتأكيد غير الشديد في الثاني أبلغ من العكس، فإن مَن جاء بالتأكيد الشديد في المقام الذي يقتضي _________ (1) «التجريد» للبنَّاني: (1/ 112 - 113).

(24/338)


التوكيد الشديد قد وَفَى بتمام المقصود، ومَن جاء بالتأكيد الخفيف في المقام الذي يقتضي التأكيد الشديد قد جاء بأصل المقصود، وهو مطلق التأكيد، ولكنه أخطأ في نوعه. وهكذا مَن جاء بالتأكيد الخفيف في المقام الذي فيه التأكيد الخفيف فقد جاء بتمام المقصود، ومَن جاء بالتأكيد الشديد في المقام الذي يقتضي التأكيد الخفيف قد جاء بأصل المقصود وهو مطلق التوكيد، ولكنه أخطأ في نوعه، وبما ذكر تبين اقتضاء ما ذكر لتفاوت البلاغة. ومن اختلاف المقامات أيضًا أن يكون مقام يقتضي نكتةً مخالفة للأصل، أي زائدة على أصل المراد، ومقام آخر لا يقتضيها، أو مقام يقتضي واحدة فقط، ومقام يقتضي اثنتين، وهكذا. فالكلام الوارد في المقام المقتضي للنكتة الزائدة على أصل المراد مطابقًا لها= أبلغ من الكلام الوارد في المقام الذي لا يقتضي ذلك، والكلام الوارد في المقام الذي يقتضي نِكاتًا متعددة مطابقًا أبلغ من الكلام الوارد في المقام الذي يقتضي أقل منها. والله أعلم. ويدل على ما ذكرنا ما نقله عن الفَنَري (1) في الكلام على قوله: «عطف على قوله: هو» قال: «فإن قلت: لا يمكن إنكار تفاوت الآيات في البلاغة، قلت: التفاوت الحاصل فيها بالنظر إلى أن الأحوال المقتضية للاعتبارات في بعضها أكثر، فالمقتضيات المرعية فيها أوفر من المقتضيات المرعية في الأخرى، وذلك لا يقدح في أن يكون كل منها في الطرف الأعلى، أي في مرتبة من البلاغة لا بلاغة فوقها بالنسبة لتلك الآية لوجوب اشتمال كل آية على جميع مقتضيات الأحوال التي في نفس الأمر بناء على إحاطة علم الله _________ (1) «التجريد»: (1/ 110).

(24/339)


تعالى بجميعها فتأمل». هـ ثم نقل بعد ذلك بأسطر (1) كلامًا لابن قاسم قال في آخره: «على أنه يمكن أن يُدَّعى تفاوت نفس البلاغة القرآنية بغير النظر إلى ما ذكر، بأن يكون أحد الكلامين أبعد عن أسباب الإخلال بالفصاحة، كأن لا يكون في أحدهما شائبة ثقل ويكون في الآخر شائبة ثقل لا تخلُّ بالفصاحة، نحو {فَسَبِّحْهُ} [ق: 40]. ولا شك أن انقطاع الشائبة بالكلية أدخل في الفصاحة وموجب للأعلوية في البلاغة». هـ أقول: ومع ذلك، فتلك الآية المحتوية على اللفظ الذي فيه شائبة ثقل= هي في أعلى طبقات الفصاحة في بابها، أي أنه لا يمكن أن يؤدَّى ذلك المعنى بلفظ أفصح من ذلك اللفظ فتأمل. والله أعلم. ونقل (2) عن يس الكلام على قوله: «وارتفاع شأن الكلام [في الحُسن والقبول بمطابقته للاعتبار المناسب وانحطاطه] (3)» كلامًا فيه: «وبحمل الكلام على الكلام الفصيح لا البليغ يندفع ما أورد على كل من المقدمتين في قول المصنف: وارتفاع ... إلخ. أما الأولى فلأن ارتفاع شأن الكلام في الحسن والقبول إنما هو بزيادة المطابقة للاعتبار المناسب وكمالها لا بنفس المطابقة، والثابت بنفس المطابقة إنما هو أصل الحسن .... » إلخ. _________ (1) (1/ 111). (2) (1/ 105). (3) في الأصل: « ... إلخ». وأكملنا الكلام ليتضح المعنى.

(24/340)


ثم قال (1): «وحاصل جواب المحشي الحفيد أنَّ كمال المطابقةِ مطابقةٌ، فصح أن يقال: الارتفاع بالمطابقة، أي بجنس المطابقة، فالإضافة للجنس كما أن أصل الحُسْن أيضًا بذلك الجنس. وكذلك إضافة عدم للجنس، والمعنى الانحطاط بجنس عدم المطابقة الصادقة بالمراد، وهو عدم كمال المطابقة. اهـ. ويمكن الجواب أيضًا بأن الإضافة للكمال أي الارتفاع بالمطابقة الكاملة والانحطاط بعدم تلك المطابقة الكاملة». اهـ (2). * * * * [بحث في المجاز العقلي] الحمد لله. مدار المجاز على التأول، وهو إرادة المتكلم أن يُفهم عنه أنه أَسنَد الفعل أو معناه إلى غير ما هو له عنده، ولخفاء الإرادة وجب أن تكون هناك قرينةٌ تدل عليها. فمتى وُجدت قرينة كذلك حُكِم بمجازية الإسناد، ومتى لم توجد فإن عُلم أو ظُنَّ عدمها حُكِمَ بحقيقيَّته؛ إذ عدمها يدل على عدم الإرادة. وإن شُكَّ، فقضية قولهم: «الأصل في الكلام الحقيقة» أن يحمل عليها، لكن نُقِلَ عن السيد (3) أنه يتعين التوقف. والله أعلم. هـ ك (4). _________ (1) (1/ 105 - 106). (2) مجموع [4657]. (3) كما في «التجريد» للبنَّاني: (1/ 181). (4) مجموع [4657].

(24/341)


[حول المثنَّى بالتغليب] من الشواهد على ما ظهر لي في قوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} [النساء: 16]. قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اتقوا اللعانين» (1)، وقول الشاعر (2): أيَّ يوميَّ من الموت أَفِرْ ... يومَ لم يُقدر أم يوم قُدِرْ وقول الآخر (3): لولا الثريدان لمُتْنا بالضُّمُرْ ... ثريدُ ليلٍ، وثريدٌ بالنُّهُرْ وقول الآخر (4): عيُّوا بأمرهمُ كما ... عيت ببيضتها الحمامه جعلت لها عودين من ... نشم وآخر من ثمامه وقوله عزَّ وجلَّ: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن: 19] على وجه. وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وقاضيان في النار» (5). _________ (1) أخرجه مسلم (269) من حديث أبي هريرة. (2) أنشده ابن الأعرابي في «نوادره» للحارث بن المنذر الجرمي. ويُنسب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه كما في «حماسة البحتري» (37) وغيره. قال البغدادي في شرح أبيات مغني اللبيب (5/ 134): «الظاهر أنه رضي الله عنه كان يتمثل به، فإن رواته قد أجمعوا على أنه للحارث المذكور». (الإصلاحي). (3) البيت في «تهذيب اللغة»: (6/ 148)، و «المخصص»: (2/ 392)، و «الصحاح»: (2/ 840). (4) هو عَبِيد بن الأبرص كما في «ديوانه» (126). وانظر «أدب الكاتب» (ص 68)، و «المعاني الكبير»: (1/ 359)، و «مجمع الأمثال»: (1/ 255). (5) مجموع [4657]. والحديث أخرجه الترمذي (1322) والطبراني في «الكبير» (1154، 1156، 13801) والحاكم في «المستدرك» (4/ 90) وصححه على شرط مسلم. وأخرجه أبو داود (3573) وابن ماجه (2315) بلفظ: «القضاة ثلاثة. اثنان في النار وواحد في الجنة».

(24/342)


[تنبيهات على أبياتٍ لامرئ القيس] * قوله (1): أرى أم عمرو دمعُها قد تحدَّرا ... بكاءً على عمرٍو وما كان أصبرا جعل بعض شراح الشواهد (2) «أرى» بَصَرية، وهو مردود بأن البيت لامرئ القيس من قصيدة قالها بعد مجاوزته الدرب هو وصاحبه عمرو بن قميئة يقول فيها: بكى صاحبي لمَّا رأى الدربَ دونه ... وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا فقلت له: لا تبك عينُك إنما ... نحاول ملكًا أو نموتَ فنعذرا وأم عمرو حينئذ في وطنها ترعى إبلها بدليل بكائها على عمرو، وإنما تبكي عليه إذا كان فارقها، فأما إذا كانت معه فلماذا تبكي؟ مع أنه لا يعقل أن امرئ القيس وصاحبه في ذهابهما إلى قيصر يحملان معهما تلك العجوز. إذا تقرر لك هذا علمت أن الرؤية البَصَرية في تلك الحال محال. وامرؤ القيس لا يدعي علم الغيب، فـ «أرى» قلبية قطعًا. أفدته بزنجبار. هـ ك (3). _________ (1) أي امرئ القيس في ديوانه (744). (2) هو بدر الدين العيني في «المقاصد النحوية»: (3/ 670 بهامش «خزانة الأدب»). (3) أي: انتهى للكاتب. مجموع [4657].

(24/343)


* قوله (1): والله لا يذهب شيخي باطلاً ... حتى أُبير مالكًا وكاهلا القاتلين المَلِك الحُلاحِلا ... خير مُعِدٍّ حسبًا ونائلا كان يجري على ألسنتنا ضبط مَعَدّ بفتحتين فتشديد على أنه معد بن عدنان، و «حسبا ونائلا» تمييز، ثم تنَّبهت لأن الشعر لامرئ القيس بن حجر الكندي، والمراد بالمَلِك الحُلاحِل أبوه، وكندة يمانية لا من معد بن عدنان، ولا أعرف مَعَدًّا من آباء اليمن، فعلمت أنه مُعِدٍّ بضمَّةٍ فكسرةٍ فتشديد، اسم فاعل من الإعداد، وأصله: (مُعْدِد) فأدغم الدال في الدال فالتقى ساكنان فكُسِرَ أولها، وهو العين فصار مُعِدٍّ بوزن مُحِبٍّ، وهو اسم فاعل، وفاعله فيه، و «حسبًا ونائلًا» مفعوله، والمراد: خير مَلِكٍ مُعِدٍّ حسبًا ونائلًا، أو نحو ذلك. ثم ذكرت هذا لبعض الفضلاء بأن سألته عن الأبيات فأملاها «خير مَعَدّ» بفتحتين فَشَدّ، فذكرت له الاعتراض وما ظهر لي فوافقني على ذلك، ثم قال: ويمكن أن يكون (خيرَ) بالنصب نعتًا لـ (مالكًا وكاهلا) وهما من معدّ بن عدنان. فقلت له: هذا بعيد، أولًا لأن الرواية أن هذا الشطر: (خير معد حسبًا ونائلا) بعد قوله: (القاتلين الملك الحُلاحِلا)، وهذا يدل أنه من تمام وصف الملك الحلاحل، ويبعد الرجوع به إلى ما قبله. _________ (1) ديوانه (554). والبيتان بهذا السياق والترتيب من رواية الأصمعي، واللفظة التي علق عليها المؤلف «خير معد» هي في غير رواية الأصمعي: «خير شيخ» وهي تؤيد ما ذهب إليه من المعنى.

(24/344)


وثانيًا: أن مدح الموتور لواتره بالشرف خلاف الظاهر. وثالثًا: أن مالكًا وكاهلا لم يكونوا بهذه المنزلة، أي بحيث يُمدحون بكونهم خير معد بن عدنان حسبًا ونائلا. ورابعًا: أن امرئ القيس قد ذكرهم في شعره بخلاف المدح. والله أعلم (1). * * * * [تعليقات على مواضع من «شرح الشافية»] * [«شرح الشافية»] (ص 66) (2): «مَفْعَلَة، للمكان الذي يكثر فيه الشيء كمسبعة ليس بقياس». وبهذا يعترض على من قال: «مَكْرَثَة». * (ص 65) في الهامش: «مُلمول» (3). انظر ما وزنه. فإن كان فُعلول فلا وجه لزيادته. (ص 65) هامش (4). هذا سهو من المصحح، لأن الكلام فيما جاء على _________ (1) مجموع [4657]. (2) «شرح الشافية» (1/ 188 باختصار). ط محمد محيي الدين ورفاقه. (3) راجع «شرح الشافية» (1/ 187) حيث ذكر الرضي أربعة أحرف جاءت على مُفعول: المغفور والمغثور، والمغرور، والمغلوق، وكأن مصحح الطبعة التي كانت عند الشيخ زاد عليها «ملمول» في الهامش. ولم يرتض الشيخ ذلك. (4) بعد أن كتب الشيخ ما سبق، ذهب ينقل كلامًا آخر من «شرح الشافية»، ثمَّ رجع بعد ذلك إلى المسألة نفسها ليحقِّق القول فيها.

(24/345)


مُفْعول، و «مُلْمُول» ليس كذلك، وإنما وزنه فُعلول. * (ص 148) (1) قوله: «وأما ظروف ... » إلخ. أقول: لا مانع أن يكون جمعَ «ظرف» الاسم من الظرافة، كما أن «عدل» مصدر «عَدَل» يطلقُ صفةً، ويجمع فيقال: «عُدُول» لكن عدل سُمعَ صفةً، ولم يُسمع ظرف (2). * * * * الحمد لله. دلائل كون الكلمة أعجمية نُقِلْ (3) خروج عن الأوزان (4) كل خما ... سي عن الذّلْق أعني (مر بنفل) خلا كذا الرباعيُّ إلا أن يكون به ... سين كما عسجدٍ فاسمع لما نُقِلا وكُلُّ ما كِلْمةٍ للجيم حاوية ... مع قاف او صاد او كاف كما وصلا أو صدرها النون جاء الراء عاقبه ... أو عجزها الزاي بعد الدال متصلا (5) * * * * _________ (1) (2/ 138). (2) مجموع [4657]. (3) علَّق عليه الشيخ بقوله: «عن الأئمة». (4) علَّق عليه الشيخ بقوله: «العربية». (5) مجموع [4657].

(24/346)


[تعليق على كلام الجوهري في معنى «التدافن»] «مختار» (د ف ن) (1): «والتدافن التكاتم، يقال (2): لو تكاشفتم ما تدافنتم» أي لو انكشف عيب بعضكم لبعضٍ». اهـ. أقول: أي لو انكشف عيب بعضكم لبعض ما تكاتمتم، أي ما كَتَم بعضُكم عيبَ بعض. وكان يسبق إلى الفَهم أن المراد ما تدافنتم في القبور، يعني لو انكشف عيب بعضكم لبعض لما قَبَر بعضكم بعضًا، ووجهه واضح. والله أعلم (3). * * * * [أنواع اسم الجنس والفرق بينها وبين الجمع واسم الجمع] الحمد لله. ما صَدَق على واحدٍ لا بعينه فاسم جنس آحادي كـ «أسد». وما صدق على القليل والكثير كـ «ماء» و «ضرْب» فاسم جنس إفرادي. وما لم يصدق إلا على ثلاثة فأكثر: فإن كان له مفردٌ فُرِّق بينه وبينه بالتاء أو ياء النسب، وغُلِّب في ضميره التذكير، فاسم جنس جمعي. _________ (1) وانظر «الصحاح»: (5/ 2113). (2) في «الصحاح»: «يقال في الحديث». وإنما هو أثر من قول الحسن البصري، أخرجه أبو بكر الدينوري في «المجالسة وجواهر العلم» (616). (3) مجموع [4657].

(24/347)


وإن لم يكن له مفرد من لفظه، أو كان له مفرد من لفظه ولكنه خارج عن أوزان الجموع، أو غير خارج عنها ولكنه أجري عليه أحكام المفرد كتصغيره والنسب إلى لفظه= فاسم جمع، ومنه: (رهط) (1) و (صحب) (2). و (رِكاب) جُعل اسمَ جمعٍ لركوبة لأنهم نسبوا إلى لفظه. وما لم يصدق إلا على ثلاثة فأكثر، وكان له مفرد من لفظه لم يفرَّق بينه وبينه بغير (3) ياء النسب، ولم يغلب تذكير ضميره، وهو غير خارج عن أوزان الجموع ولا أُجريت عليه أحكام المفرد= فجمعٌ (4). * * * * [مجيء «إذا» للماضي في القرآن] من مجيء (إذا) للماضي قوله تعالى في سورة يوسف: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [110] (5). * * * * _________ (1) كتب الشيخ فوقه بخط صغير: «1». وهو ــ والله أعلم ــ إشارة إلى النوع الأول من اسم جمع، وهو ما ليس له مفرد من لفظه. (2) كتب الشيخ فوقه: «2» إشارة إلى النوع الثاني، وهو ما كان له مفرد من لفظه ولكنه خارج عن أوزان الجموع. (3) كذا في الأصل. والمعنى إنما يستقيم بحذف «غير» ووصل الباء بـ «ياء النسب». (4) مجموع [4657]. (5) مجموع [4657].

(24/348)


[أمثلة لـ «فعيل» التي تأتي بمعنى «مُفعِل»] قد يجيء فعيل بمعنى مُفعِل كالحكيم والأليم، وكذا السميع في قوله (1): * أَمِن ريحانة الداعي السميع * والأنيق في قوله (2): * أنيقٌ لِعَين الناظر المتنعِّم * (3) * * * * [أمثلة لما شذَّ عن القاعدة في صياغة «أفعل» التفضيل وصيغة التعجب] الحمد لله. الشواذ: ما أضوأَه. ما أظلمه. ما أجنَّه. فهو أهيَب. أخوف. أطعم بمعنى أكثر إطعامًا. ما أكرمه لي (4) (5). _________ (1) صدر بيت لعمرو بن معدي كرب، وعجزه: * يؤرِّقني وأصحابي هجوع * وريحانة أخته. انظر «الكامل»: (1/ 261)، و «الأصمعيات» (ص 172)، و «سمط اللآلي»: (1/ 40، 63). (2) عجز بيت لزهير بن أبي سلمى في معلّقته «ديوانه ــ شرح ثعلب» (20). وصدره: * وفيهن ملهًى لِلَّطيف ومنظرٌ * والرواية في الديوان: «الناظر المتوسِّم». (3) مجموع [4657]. (4) شذَّ (ما أضوأه) و (ما أظلمه) و (أطعم) و (ما أكرمه لي) لأن أفعل التفضيل وصيغة التعجب (ما أفعله) لا يُصاغان من الرباعي. وشذَّ (أهيب) و (أخوف) و (ما أجنَّه) لأن التفضيل أو التعجب فيها واقع على المفعول والقياس أن يكون على الفاعل. (5) مجموع [4657].

(24/349)


[حول توالي الإضافات] الحمد لله. مما يدل على أن توالي الإضافات مناف للبلاغة قوله عز وجل: {ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} [الكهف: 25]. فأما قوله تعالى: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} [غافر: 31]، فإن «قوم نوح» كالكلمة الواحدة، والألفاظ ثلاثية ساكنة الأوسط، مع كونه في «الدأب» قد يُقلب ألِفًا، وهو في الأخيرين حرف علَة. والله أعلم (1). * * * * [بحث في اشتقاق «أَحبَّ»] الحمد لله. «أَحبَّ»: والأصل فيه أن المحبوب يَحِبُّ المُحِبَّ بمعنى يصيب حبَّةَ قلبِه، كما يقال: فَأَدْته وكَبَدْته ورَأَيْته. ويشهد له قول الأعشى (2): فأصبتُ حبَّةَ قلبِهـ[ـا] وطِحالَها يريد أنها جعلته يحبها ويهواها، فكأنها استولت على حَبَّة قلبه. ثمَّ أدخلوا على «حبّ» همزةَ التعدية فقالوا: أحبَّ فلانٌ فلانة، أي جعلها تَحِبُّه أي تصيب حبَّة قلبه. _________ (1) مجموع [4711]. (2) «ديوانه» (ص 150) وصدره: * فرميتُ غفلةَ عينه عن شاته *

(24/350)


ثمَّ استعملوا حبَّ بمعنى أحبَّ؛ كأنهم أرادوا التفاؤل، ولهذا غلَّبوا استعمال هذه اللغة في اسم المفعول فقالوا للمعشوق: محبوب، مع أن المحبوب بمقتضى الاشتقاق هو العاشق، حتى إنهم لم يستعملوا اسم المفعول من أحبَّ إلا نادرًا. في قول عنترة (1): ولقد نَزَلتِ فلا تَظُنّي غَيرَهُ ... منّي بمنزلة المُحَبِّ المُكرَم وإنما استعمله عنترة هنا لأنه أنسب بغرضه؛ فإن غرضه أن يؤكِّد لها أنه يحبُّها. فلو قال: بمنزلة المحبوب لدلَّ على شدَّة توجِّهه إلى حبِّها له فأوهم أنه إنما يحبُّها لتحبَّه. وهذا منافٍ لغرضه، فإن غرضه أن يؤكد لها أنه يحبُّها على كلِّ حال. وإنما لم يستعملوا حبَّ بمعنى عشق إلا نادرًا لأن العمدة فيه الدلالة على وقوع الفعل من الفاعل، فلم يقْوَ داعي التفاؤل كما قوِيَ في لفظ محبوب؛ لأن العمدة فيه الدلالة على المفعول. ولهذا لم يُسمع «حابٌّ» اسم فاعل لأن كون وقوع الفعل من الفاعل هو العمدة= أقوى فيه من الفعل. فإن قلت: لعله لا يوجد في كلامهم حبَّ بمعناه الأصلي، وهو إصابة حَبَّة القلب، فما وجه ذلك؟ قلتُ: كأنهم استغنَوا عنه بـ «شغف»، فإنه بمعناه أو قريب منه. والله أعلم (2). _________ (1) ضمن معلقته، انظر «شرح ابن الأنباري» (ص 301). (2) مجموع [4716].

(24/351)


[تعليقات على مواضع من «المثل السائر»] * «المثل السائر» (ص 189) (1). (عالم وعليم) نقل عن الجمهور أنّ (عليمًا) أبلغ، وزعم أن الذي يظهر له عكس ذلك، ووجّهه بما هو وجه عكسه، قال: «وسبق أنّ (عالمًا) اسم فاعل من «عَلِم» وهو متعدٍّ، وأن (عليمًا) اسم فاعل من «عَلُم» إلا أنه أشبه وزن الفعل القاصر، نحو: شَرُف فهو شريف ... ، فلما أشبهه (عليم) انحط عن رتبة (عالم) الذي هو متعدٍّ ... ، ولربما كان ما ذهبوا إليه لأمر خفي عنِّي ولم أطلع عليه». أقول: بل اطلعتَ عليه، ولكن أسأت فهمَه، فإنه يقال: عَلِم زيد بمجيء الحجام فهو عالم به. ويقال: عَلُمَ زيد، أي صار من المتمكنين في العلم الثابتين فيه بحيث يستحق أن تُشتق له صفة ثابتة منه. ولفظ (عليم) لمَّا أشبه (شريف) ونحوه، صار كأنه مشتق من (عَلُمَ) المجعول لازمًا، وهو أبلغ من المتعدّي، كما مرّ، فتأمّل. * (ص 183) (2): «{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ ... } [مريم: 22 - 23]. وفي هذه الآية دليل على أن حملها به ووضعها [إيَّاه] كانا _________ (1) (1/ 285) ط. دار الرفاعي بالرياض. (2) (1/ 261).

(24/352)


متقاربين؛ لأنه عطف الحمل والانتباذ ... والمخاض الذي هو الطلق بالفاء، وهي للفور. ولو كانت كغيرها من النساء لعطف بـ (ثم) التي هي للتراخي والمهلة. ألا ترى أنه قد جاء في الأخرى: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: 17 - 20] ... ». أقول: قد ذكر النحاة أن المراد بالفوريّة: الفوريّة بحسب العرف، ومثّلوه بـ «تزوّج زيدٌ فَوُلِدَ له». والصواب عندي ــ والله أعلم ــ أنه في مثل هذا قد يُراعى تارةً الصورة، وتارة العرف. فإذا روعيت الصورة عطف بـ (ثم)، وإلَّا فالفاء. وبهذا يندفع الإشكال الذي أورده في (ص 184) (1)، وعيَّ بجوابه. وهو في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 12 - 14] مع قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} [الحج: 5] (2). * * * * _________ (1) (1/ 262). (2) مجموع [4718].

(24/353)


[فائدة في نسبة المطر إلى «النوء»] الظاهر ــ والله أعلم ــ أنّ اسم «النوء» من النوء الذي هو النهوض، وذلك أنّ المنزلة الساقطة في الفجر هي نفسها الناهضة بعد العصر في ذلك اليوم، وبعد العصر هو وقت نزول المطر غالبًا في بلاد العرب. فلمّا رأوا أنّ نزول المطر غالبًا يكون عند طلوع هذه الكواكب سمَّوها «أنواء». وإنّما اعتبروا سقوط الفجر لأنّ الساقط بالفجر يُرى بالنظر حين سقوطه، ولا يُرى في ذلك اليوم عند طلوعه؛ لأنّه يطلع نهارًا كما تقدّم. نَعم، إنّه يُرى بعد المغرب، ولكن في مكان لا ينضبط وهو أثناء السماء، والانضباط إنّما يكون بالطلوع والغروب. وبما تقدم يُجاب عمّا قد يُسأل عنه، من كونهم لماذا لم ينسبوا المطر إلى طالع الفجر الذي هو رقيب الغارب، وهو رقيبه دائمًا، مع أنّ تسبُّب الطالع في المطر أقرب إلى الوهم من تسبب الغارب؟ ونحن قدّمنا ــ بحمد الله تعالى ــ أنّهم لاحظوا هذا، أعني أنّ تسبّب الطالع أقرب، ولكنّهم لاحظوا أنّه ينبغي ذلك في الذي يكون طالعًا في الساعة التي يغلب نزول المطر فيها، وهي بعد العصر في بلادهم. والله أعلم (1). * * * * _________ (1) مجموع [4719].

(24/354)


[بحث في معنى «أرأيتك»] قولهم: «أرأيتك» أنها بمعنى أخبرني، فيه نظر. والظاهر أنها على أصلها، بمعنى: أعرفت كذا وكذا؟ والمقصود بها حمل المخاطَب على استحضار ذلك الشيء. وقد تستعمل في هذا المعنى مع الكاف وبدونه. فمن الأول: قوله تعالى ــ حكاية عن إبليس ــ: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء: 62]. أراد ــ والله أعلم ــ: أعرفته؟ وهو يعلم أن الله عز وجل يعرفه، وإنّما أراد بذلك شِبه ما تريده من صاحب زيد (1) إذا قلت له: «أرأيتك زيدًا؟ لأقتلنَّه!»؛ تريد من استفهامه التوسل إلى إحضاره في ذهنه أوّلاً حتى تحكم عليه. ومنه قوله تعالى: {أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 40]. المعنى ــ والله أعلم ــ: أعرفتم فرض مجيء عذاب الله أو الساعة؟ أراد: أحضروا هذا الفرض في أذهانكم. ثم قال: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} أي: حينئذ. ففي الآية حذف وتقدير لا يخفى. ومن الثاني: قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19]، {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة: 58]، {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63]، {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ} [الواقعة: 68]، {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ} [الواقعة: 71]. كأنّه قال: أحضروا هذا الشيء في أذهانكم، كما تقدم. _________ (1) الكلمتان مطموستان في الأصل، واستظهرتهما هكذا.

(24/355)


ومنه قوله: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} [الأنعام: 46]، {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ} [يونس: 50]. والتقدير فيها كالتقدير في قوله: {أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} [الأنعام: 47]. وبعد هذا رأيت الراغب في «المفردات» (1) قال في هذا التركيب: «كل ذلك فيه معنى التنبيه». وهذا إجمال لما فصلناه. والحمد لله. وانظر ما قال البيانيون في باب المسند إليه، في نِكات المجيء به اسمَ إشارة، ومثّلوه بقول ابن الرومي: هذا أبو الصقر ... البيت (2). * * * * [بحث في الحرف الزائد] الحمد لله. تعريف بعضهم الزائدَ بأنّه ما كان دخوله وخروجه سواء، غير صحيح؛ لما تقرّر أنّ الزائد ــ ولاسيّما في القرآن ــ لا بدّ له من فائدة. وإطلاق بعضهم في الفائدة: أنها التوكيد، لا يصحّ أيضًا؛ لأنّ التوكيد على قسمين: الأوّل: ما كان موضوعًا للتوكيد من أصل الوضع، كاللام الداخلة في جواب (إنّ) و (لو) وغيرهما. فهذا أصليٌّ، وإن صحّ المعنى مع خروجه ولم يفد إلا التوكيد. ولم يقل أحد بزيادتها؛ لأنها دخلت لتُفيد معناها الذي _________ (1) (ص 374). (2) مجموع [4719]. والبيت لابن الرومي في «ديوانه»: (6/ 2399)، وتمامه: هذا أبو الصقرِ فردٌ في مكارمهِ ... من نسلِ شيبانَ بين الطلحِ والسلمِ

(24/356)


وضعت له. الثاني: ما لم يوضع للتوكيد، وإنّما وضع لمعنى آخر، وجاء زائدًا في كلام موافق لمعناه الموضوع له، مثل زيادة (إنْ) النافية بعد (ما) النافية، وزيادة (لا) النافية في معطوف على منفي، فإن الدليل يدلّ على زيادتها، أي أنها لم تدخل لتفيد معناها الأصلي وهو النفي المستقل، ولكن بين معناها الأصلي والمعنى الذي دخلت فيه مناسبة ــ وهو النفي ــ، فكان معقولاً أنها أكدت النفي. فهذا يصح أن يقال فيه: إنّه مزيد للتوكيد. ولكن ليس كل الزوائد هكذا، بل قد يجيء الزائد في كلام منافٍ لمعناه الأصلي، مثل قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ} [الحديد: 29]. فقوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ} المعنى على الإثبات، و (لا) نافية، فكيف يقال: إنها للتوكيد؟ ! وعليه، فلا بدّ من البحث عن فائدة أخرى غير التوكيد، فيقال في هذه الآية: لعلها زيدت إشارة إلى أنهم ليسوا أهلاً لأن يعلموا، أو إلى أنهم سيعاندون ولا يسلِّمون، فيكونون بمنزلة من لم يعلم، أو نحو ذلك. فإن قلت: فما الفرق حينئذ بين الزائد وبين الحروف الموضوعة لمعاني تكميلية، كـ (لام) التوكيد ونُونَيه؟ فإن كلًّا من القسمين يصح أصل المعنى بدونه، ولا يتمّ المعنى بدونه. قلت: الفرق أنّ تلك وضعت للتوكيد من أصلها، فإذا دخلت لتفيدَه، فكيف يقال: إنّها زائدة؟ ! وأمّا نحو (إنْ) و (لا) النافيتين، فإنّما وُضعتا للنفي المستقل، فإذا جاءتا

(24/357)


لغيره تعيّن القول بزيادتها. فإن قلت: فلماذا لا يقال: إنهما موضوعتان لكل من الأمرين؟ أي للنفي المستقل، أو لتوكيد النفي، أو للإشارة إليه، أو نحو ذلك؛ إمّا على الاشتراك، وإمّا على المواطأة، وإمّا على التشكيك. فإن كان لا بدّ من القول بكونها موضوعة للنفي الأصلي فقط، فغاية ما فيها أنها استُعملت في غير ما وضعت له لعلاقة، فهي مجاز، والمجاز لا يقال بزيادته. قلت: أمّا كونها موضوعة للأمرين، فيردّه أنّ الأصل عدم الاشتراك، وأنّ المتبادر منها إنّما هو ذلك المعنى مستقلّاً. وأمّا كونها مجازًا، فهو ظاهر لا يُدفع، ولا أرى مَخْلَصًا إلا أن يقال: إنّ كونها مجازًا على ذلك الوجه لا ينافي القول بزيادتها على المعنى الذي قال المحققون، ولا يلزم من القول بزيادتها القول بزيادة كل مجاز، كما لا يخفى، والله أعلم (1). * * * * _________ (1) مجموع [4719].

(24/358)


[تعليق الشيخ على مواضع من «المُزْهِر»] المزهر (ج 2/ص 251) (1): «وقال ابن دريد في أواخر «الجمهرة» (2): «باب ما أجروه على الغلط فجاءوا به في أشعارهم»: قال الشاعر: وكلُّ صَمُوتٍ نثلةٍ تُبَّعيَّةٍ ... ونسجُ سُلَيمٍ كلَّ قضاء ذائل أراد: سليمان. وذائل: أي ذات ذيل. وقال آخر: من نسج داود أبي سلَّام يريد سليمان. وقال آخر: جدلاء محكمة من نسج سلَّام يريد سليمان». اهـ. قال: «وقال آخر: وسائلة بثعلبة بن سير يريد ثعلبة بن سيّار. وقال آخر: والشيخ عثمان أبو عفانا يريد عثمان بن عفَّان. _________ (1) (2/ 500 ــ 503) ط. البجاوي ورفاقه. (2) (3/ 1327) ط. دار العلم للملايين.

(24/359)


وقال آخر: فإن تنسنا الأيام والعصر تعلمي ... بني قارب أنا غضاب لمعبد أراد عبد الله لتصريحه به في بيت آخر من القصيدة. وقال آخر: هوى بين أطراف الأسنة هَوْبَر يريد ابن هوبَر. وقال آخر: صبحن من كاظمة الحصن (1) الخرب ... يحمِلْن عباس بن عبد المطلب يريد: عبد الله بن عباس ... ». (ص 252): «وقال آخر: فهل لكمو فيها إليَّ فإنني ... طبيب بما أعيا النِّطَاسيَّ حِذْيَمَا يريد ابن حِذْيم». أقول: وقال آخر: من نسج داود أبي سلْم فهذه ثلاثة تصرفات في اسم واحد، على أن مَن قال: نسج سلم، ونسج سلّام، فيه شيء آخر، وهو أن المعروف في الدروع نسج داود، فإثبات هذين _________ (1) علَّق الشيخ بقوله: «في الأصل: الحصين».

(24/360)


النسجَ لسليمان لعلَّه على توهّم أن سليمان كان يصنعها أيضًا؛ لأن الابن يتبع أباه في الصنعة غالبًا. * * * * «المزهر» ([2] /189) (1) عن «الخصائص» (2): وأنشد رجل من أهل المدينة أبا عمرو بن العلاء قول ابن قيس: إن الحوادث بالمدينة قد ... أوجعنني وقَرَعْنَ مروتيَه فانتهره أبو عمرو وقال: ما لنا ولهذا الشعر الرخو؟ إن هذه الهاء لم تدخل في شيء من الكلام إلا أَرْخَتْه. فقال له المديني: قاتلك الله! ما أجهلك بكلام العرب! قال الله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28 - 29]. وقال: {يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 25 - 26]. فانكسر أبو عمرو انكسارًا شديدًا». هـ. أقول: في ذوقي الفرق بين ما إذا كان قبلَ قبلِ الياء ألِفٌ، وما لم يكن. ففي الأول تكون الكلمة جيدةً لا رخاوة فيها، وهو الذي في القرآن، وفي الشعر المستجاد بخلاف غيره كما في البيت، وفي الأبيات التي أولها: * يا جواري الحيّ عُدنَنِيَه * _________ (1) (2/ 374). (2) (3/ 293).

(24/361)


فإنه يحسّ لها رخاوة ولين ظاهر، كما قال أبو عمرو. والله أعلم. * * * * ([2] /168) (1) [نقلًا عن] «الجمهرة»: «زعم قوم من أهل اللغة أن اللات التي كانت تُعبد في الجاهلية صخرةٌ كان عندها رجل يَلُتُّ السَّوِيق للحاج، فلما مات عُبدت، ولا أدري ما صحة ذلك؛ ولو كان كذلك، لقالوا: «اللاتّ يا هذا» (2)، وقد قُرئ: {اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19] بالتخفيف والتشديد. والله أعلم، ولم يجئ في الشعر إلا بالتخفيف. قال زيد بن عمرو بن نُفيل: تركتُ اللات والعزى جميعًا ... كذلك يفعل الجلد الصَّبُور وقد سَمَّوا في الجاهلية: زيد اللات، بالتخفيف لا غير. فإن حملت هذه الكلمة على الاشتقاق لم أحبَّ أن أتكلم فيها». انتهى. أقول: أما قوله: «ولم يجئ في الشعر إلا بالتخفيف» فلا حجَّة فيه؛ لأن في المشدَّد اجتماعَ ساكنين، ولا يجيء ذلك في الشعر. نعم، يمكن في المتقارب، ولكن بشرط أن يكون قبلهما متحركان كما تقدّم (3) في قوله: _________ (1) «المزهر» (2/ 327 - 328). وانظر «الجمهرة»: (1/ 80). (2) في «الجمهرة»: «اللات بتثقيل التاء لأنها تاءان». (3) أي في «المزهر»: (2/ 107) باختلاف يسير. والبيت بلا نسبة في «الكامل» (1/ 39) و «اللسان»: (7/ 73).

(24/362)


فقالوا القصاص، وكان التَّقا ... صُّ فرضًا وحقًّا على المسلمينا ولا يجيء هذا في اللات لأن قبل الساكنين متحركًا واحدًا. فإن قيل: يمكن أن يجيء إذا نزعت «ال» فبقي «لات»، وكان قبلها كلمة محرّكة الآخر. قلتُ: يَقِلُّ (1) مجيء اللات بنزع الألف واللام كقوله (2): فإني وتركي حبَّ [كأسٍ لـ]ـكالذي ... تبرأ من لات وكان يدنِّيها وكذلك نُقِل في الشعر حذف الساكن الأول، كقوله (3): نعم، على اجتماع الساكنين في غير المتقارب، ولكن في الضرب بحيث إذا كان ثانيهما مُدغمًا، كما في «اللات»، لم يظهر التشديد، بل يُحذف الحرف الأخير فتصير الكلمة مخفَّفة، فلا يتبيَّن التشديد (4). * * * * _________ (1) يحتمل الرسم: «نُقِلَ». (2) القائل عمرو بن الجعيد كما في «كتاب الأصنام» (ص 16). (3) بيَّض الشيخ للشاهد، فلم يذكره. (4) مجموع [4720].

(24/363)


[تعليقات على مواضع من «أمالي القالي»] * ([ج 2] ص 130 - 131)، في قصيدة المُهلهِل: «أليلتَنا بذي حُسُمٍ أنيري»: كواكبُها زواحفُ لاغباتٌ ... كأنَّ سماءها بيدي مدير قال في تفسيره: « ... يريد أن سماءها أثقل من أن يُديرها مدير، فهو إذا تكلَّف إدارتها لم يقدر عليها». أقول: هذا كما ترى! والعجبُ من البكريّ إذ لم يتنبّه له في «تنبيهه»! والأقربُ أنه أراد: كأن السماء بيدي مديرٍ يديرها إلى جهة الشرق، فكلما قطعت الكواكب جزءًا من السماء إلى جهة الغرب أظهر المدير مقابله من السماء بإدارته. وإذا كان الحال هكذا لم تغب الكواكب أبدًا. وهو مقصوده. والله أعلم. * * * * * ([ج 2] ص 154): «كان المُجشَّر في الشرف من العطاء، وكان دميمًا [فقال له عبيد الله ذات يوم: كم عيالك؟ فقال: ثمانُ بنات، فقال: وأين هنَّ منك؟ فقال: أنا أحسن منهنَّ] وهنَّ أكمل مني ... ». صوابه: وهن آكل منّي. وقد ذكر غيرُه القصة بما يوضِّح صحة هذه الكلمة، وهو أن الرجل كان دميمًا كثير الأكل (1). _________ (1) راجع «المستجاد من فعلات الأجواد» (ص 235)، و «الإمتاع والمؤانسة» (2/ 81) وتصحَّف فيه «المجشّر» إلى «المحسِّن».

(24/364)


* ([ج 2] ص 157) في كلمةٍ لعامر بن الظَّرِب: «إن الخير أَلوفٌ عروف». صوابه: «عزوف» (1). * * * * * ([2] ص 180) قال: «وأنشدنا أيضًا أبو العباس: وجاءت للقتال بنو هُلَيكٍ ... فسِحِّي يا سماءُ بغير قَطْر قال أبو العباس: هؤلاء قوم استعظم الشاعر مجيئهم للقتال، وصَغُر شأنهم عنده، فقال: فسحّي يا سماء بغير قطر. يعني بدمٍ لا بقطر» اهـ. يقول كاتبه: أو يكون ضَرَبَهُ مثلًا، يريد أن السماء لا يمكن أن تسحَّ بغير قطر، فكذلك هؤلاء القوم لا نَجْدة لهم، فبماذا يقاتلون؟ ! (2). * * * * * [«ذيل الأمالي والنوادر»] (ص 68): حكاية عن بعض الفصحاء أنه قال: «وهل لي به طُوقة». يريد: طاقة. _________ (1) انظر: «البيان» (1/ 401)، و «المعمرين» (47). وفي «عيون الأخبار»: (1/ 266) و «المجالسة وجواهر العلم: (6/ 28) جمع بينهما: «عَروف عَزوف». (2) البيت لأبي جندب الهذلي. وتفسيره في «شرح أشعار الهذليين»: (1/ 370): «أي أمطري بغير مطر، يهزأ بهم. يقول: لكم وعيد وقول، وليس لكم فعل، مثل السماء لها رعد وبرق بلا مطر». ونقل البكري نحوه عن يعقوب في «سِمط اللآلي» (799). ونحوه في «المعاني الكبير» لابن قتيبة (1/ 595). وروى السكري: «بنو هلال». قال البكري: ولا يعرف في العرب «بنو هليك». (الإصلاحي).

(24/365)


قال المحشّي: «في هامش الأصل أنه بضمِّ الطاء وسكون الواو، ولم نجده فيما بيدنا من كتب اللغة». يقول كاتبه: أحسبه من التفخيم، ولا تكون الواو محقَّقة، بل مهوَّاة. كما يقول بعضهم في «لَوْح»: لُوح. بضمّ اللام وتهوية الواو. * [«ذيل الأمالي والنوادر»] (ص 200): «حدثنا أبو بكر بن دريد عن أبي حاتم قال: لما قتل عبدُ الله بن علي بني أميَّة بنهر أبي فُطرُس بعث إليَّ ... » (1). يقول كاتبه: سقط هنا آخر السند بين أبي حاتم وصاحب القصة؛ فإن قصة نهر أبي فطرس كانت سنة 132، كما في «تاريخ الطبري» (2). وأبو حاتم وُلِد بعد ذلك بنحو ثلاثين سنة، لأن وفاته ــ كما في «بغية الوعاة» (3) ــ كانت سنة مائتين وخمسين، أو وخمس وخمسين، أو وأربع وخمسين، أو وثمانية وأربعين (4). * * * * _________ (1) القصة المذكورة للأوزاعي. راجع «سير أعلام النبلاء»: (7/ 128) و «تاريخ الإسلام» (4/ 127) ط. دار الغرب. (2) (4/ 355). (3) (1/ 606). (4) مجموع [4723].

(24/366)


[تعليق على «التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه» للبكري] * ص 85: الكلامُ على بيت الفرزدق: يُفلِّقْنَ هامًا لم تنله سيوفُنا ... بأسيافنا هام الملوك القَماقم (1) أنكر البكري على القالي قوله: «إن الهام مؤنثة، لم يؤثر عن العرب فيها تذكير». واحتج البكري بأن القالي نفسه يروي للنابغة (2): بضربٍ يُزيل الهام عن سَكناته ... وطعنٍ كإيزاغ المخاضِ الضوارب ويروي لعنترة (3): والهامُ يَنْدُر في الصعيد كأنما ... تلقى السيوفُ به رُؤوس الحنظل ويروي لطُفيل (4): بضربٍ يزيل الهام عن سكناته ... ويَنقَع من هام الرجال بمَشْرَب أقول: أما البيت الأول فقد يقال: إن الهام فيه عبارة عن جمع هامة، وهي الطائر الذي كانت العرب تزعم أنه يخرج من رأس المقتول. _________ (1) لم يرد البيت في «ديوان الفرزدق». (2) «ديوانه» (ص 46). (3) «ديوانه» (ص 257). (4) «ديوانه» (ص 33).

(24/367)


وكلامُ القالي في الهام التي هي الرؤوس نفسها. وكذا الهام الأول في بيت طفيل، وهو محل الحجة. وأما بيت عنترة، ففي الحاشية عن الديوان أن البيت: والهامُ تندر ... بها ... * * * * * ص 86: أنكر البكري على القالي روايته: ليست إذا سَمِنَت بجابِئةٍ ... عنها العيونُ كريهةَ المسِّ (1) وزعم أن الرواية: «ليست إذا رُمِقَتْ ... » قال: «وكيف تَجبَأ العيون عن الناعمة السمينة؟ ! » وفي الحاشية نقلاً عن هامش الأصل كلام يردّ به على البكري. نعم، عبارة البكري ظاهرها خطأ، ولكن روايته هي الصواب. وكأنه لحظ هذا فقال: «وبعد البيت: وكأنما كُسِيَتْ قلائِدُها ... وحشيَّة نظرتْ إلى الإنس» ووجهُ الخطأ في رواية القالي (2): أن مفهوم قوله: _________ (1) في الأصل: «اللمس»، والمثبت ما في مصدر النقل. (2) رواية القالي جيدة، وإنما المقصود أنها ليست مفرطة في السمن، كما قال الميمني في «السمط». (الاصلاحي).

(24/368)


«ليست إذا سمنت بجابئةٍ .... » أنها إذا لم تسمن تجبأ عنها العين، فكأنها لا تُسْتَحسن إلا للسِّمَن فقط. وهذا عيب لا يناسب البيت بعده؛ فإن المناسب أن يجعلها مستحسنة على كل حال، سمِنَتْ أم لم تسمن. * * * * * «تنبيه» (ص 112): نبَّه على وهم أبي عليّ في إدخاله في أبيات عروة بن الورد بيتًا لخصمه قيس بن زهير. وقد وقع البكري في هذا السياق في مثل هذا الوهم، فنسب إلى قيس قوله: «أتهزأ مِنِّي أن سمنتَ وقد ترى ... بجسمي مسَّ الحق والحقُّ جاهد» وقد نبّه في الحاشية أن صاحبي الحماسة، والأغاني، نسبا البيت لعروة. وهو الذي يُعيِّنه المعنى؛ فإن معناه: أتهزأُ منّي أن سمنتَ. أي لأنك سمنتَ، وقد ترى بجسمي مسَّ الحق، أي النَّحافة وعدم السِّمَن؛ لأن الحق يحملني على الجود بمالي، فلا يبقى لي مالٌ، فيقلُّ لذلك طعامي، فيضعف (1) جسمي فينحف. يريد: أتهزأُ مني لأنك سمينٌ وأني غير سمين؟ ! وقد قدَّم البكري أن قيسًا كان أكولًا مِبطانًا، فكان عروة يعرض له بذلك في أشعاره. _________ (1) كتب الشيخ فوقه: «فيُجهد».

(24/369)


وقد ضُبط في المطبوع قوله: «سمنتُ» بضم التاء، وهو قضية نسبة البيت إلى قيس، مع كونه هو المعيب بالسِّمَن. ولكن آخر البيت ينقض ذلك؛ فأوّله اعتراف بالسِّمَن وآخره نفيٌ له. فإن قيل: يحتمل أن لا يكون أول البيت اعترافًا، وإنما معناه: إنك تهزأ مني زاعمًا أني سمين. قلتُ: هذا معنىً لا تحتمله العبارة. وأيضًا: فمقابلة البيت بأبيات عروة يشهد بأنه له لاتحاد المعنى (1). * * * * [تعليق على «الطارقية» لابن خالويه] آخر صفحة (10) من إعراب القرآن (2). قوله: «أُمَّهَتِي خِنْدِف والْياسُ أبي». هذا البيت منسوب إلى قصي بن كلاب الجدِّ الرابع للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقبله: إنِّي لدى الحرب رَخِيُّ اللَّبب ... عند تناديهم بهَالٍ وهَب وقافية هذا الرَّجز بائية؛ بالباء الموحَّدة. وأما قوله: «حيدةُ ... » إلخ البيتين، فالقافية يائيَّة؛ بالياء المثنَّاة من تحت. _________ (1) مجموع [4723]. (2) «الطارقية» (إعراب ثلاثين سورة من المُفَصَّل) لابن خالويه (ص 17 - ط. عالم الكتب).

(24/370)


فهو من رجز آخر، ويشهد لذلك أن قُصيًّا قبل حاتم الطائي بأكثر من مائة سنة. ثم رأيت البغدادي في «الخزانة» (ج 3/ ص 304) (1) ذكر قوله: * وحاتم الطائي وهَّاب المئي * وقال: «هذا البيت من رجز أورده أبو زيد في «نوادره» في موضعين: الموضع الأول قال: هو لامرأة من بني عامر. والموضع الثاني قال: هو لامرأة من بني عقيل تفخر بأخوالها من اليمن وهو: حيدة خالي ولقيطٌ وعلي ... وحاتم الطائي وهاب المئي ولم يكن كخالك العبد الدعي ... يأكل أزمان الهزال والسني هنات عيرٍ ميت غير ذكي». ثم قال (ص 306) (2): «تتمَّة: زعم العيني أن البيت الشاهد من هذا الرجز: إن لدى الحرب رخيُّ اللبب ... وهذا لا أصل له ... » فذكر نحو ما ذكرناه. وفي روايته: «وعلي» بدل: «وعديّ». وفيه: «حيدة» كما وقع هنا، وهو الصواب؛ فإن الوزن يستقيم به ولا يستقيم بـ «حيدرة» (3). * * * * _________ (1) من طبعة بولاق. (2) في الأصل: (307) سبق قلم. (3) مجموع [4724].

(24/371)


[بحث في أدوات الاستفهام] الحمد لله. إذا تردَّد الإنسانُ في شيء من الأشياء وطلب من غيره التعيين ببعض أدوات الاستفهام، فهذا الطلب هو الاستفهام. فإن كان التردّد بين وقوعٍ وعدمه، فهذا موضع (هل)، تقول: هل جاء زيدٌ؟ إذا كنت متردّدًا بين وقوع المجيء وعدمه. وإن كان بين شيئين أو أكثر لا تدري أيُّهما المتعيّن، فهذا موضع بقية الأدوات غير الهمزة. مثال ذلك: أن تكون عالمًا بوقوع مُسنَدٍ معيَّنٍ كالمجيء مثلاً، ولكن تردَّدتَ في تعيين المسند إليه بين زيد وعمرو، أو بين زيدٍ وعمرو وخالد، فتقول مثلاً: مَنْ قام من هذين الرجلَين زيدٍ وعمرو؟ أو مِن هؤلاء الثلاثة زيدٍ وعمرو وخالد؟ أو تكون عالمًا بمسندٍ إليه معين كزيدٍ مثلاً، ولكن تردَّدْتَ في عين المسند إليه، أهو القتال أم الفرار أم الاستسلام ــ مثلاً ــ فتقول: ما فعلَ زيدٌ من هذه الثلاثة الأمور؟ و (متى) للأزمنة و (أين وأيَّان) للأمكنة، و (كيف) للهيئات، و (كم) للمقادير، و (أيّ) تجيء لذلك كلّه بحسب ما تضاف إليه. فأمّا الهمزة فقد تجيء كـ (هل)، فتقول: أجاء زيدٌ؟ وتجيء كبقية الأدوات، فتقول: أزيدٌ جاء أم عمروٌ أم خالدٌ؟، وتقول: أقاتلَ زيدٌ أم فَرَّ أم استسلم؟

(24/372)


وإذا وقعت (أم) بعد الهمزة، فإن كانت الهمزة هي التي كـ (هل) فـ (أم) منقطعة، أي أنها داخلةٌ على استفهام آخر تقديرًا. وإن كانت الهمزة هي التي كبقية الأدوات فتُسمَّى (أم) متصلةً أي لأنها مع ما قبلها استفهامٌ واحد. والله أعلم. * الاستفهام ضربان: الأول: ما يطلب به تعيين وقوعِ أو عدمِ وقوعِ حكمٍ معيَّن، فيُجاب بنَعَم أو لا. الثاني: ما يُطلب به تعيين الحكم الواقع من حكمين فأكثر، أو تعيين الواقع عليه الحكمُ من اثنين أو أكثر، أو تعيين مقداره، أو تعيين ما يتعلق بالحكم من زمانٍ أو مكان أو هيئة. فالضرب الأول يستعمل فيه من الأدوات (هل) والهمزة. والثاني يُستعمل فيه الهمزة وبقية الأدوات بحسب مناسباتها، فـ (مَنْ) لذوات العقلاء، و (ما) لذوات غيرهم وللمعاني، وربما تجيء إحداهما في موضع الأخرى. و(متى) للزمان، و (أين) و (أيّان) للمكان. و (كيف) للهيئة. وتُستعمل (أيّ) في هذه كلِّها بشرط إضافتها لما يناسب، كقولك: أي رجلٍ، وأي دابةٍ، وأي فعلٍ، وأي زمانٍ، وأي مكانٍ، وأي هيئة (1). _________ (1) مجموع [4724].

(24/373)


[تعليق على موضع من «عروس الأفراح»] في «عروس الأفراح» (ص 36) من مجموعة شروح التلخيص: « ... كقول تلك المرأة بالحديبية: أيها المائح (1) دلْوي دونكا ... إنِّي رأيت الناس يحمدونكا وهذا البيت ذكره ابن إسحاق في «السيرة» (2)، وظاهر كلامه أنه من شعر هذه المرأة. لكن قال ابن الشجري في «أماليه» (3) أنه لرؤبة، وأنه في مالٍ لا في ماءٍ. فذِكْر الدلْو حينئذ استعارة، وعلى هذا فيُحمل كلام ابن إسحاق على أن المرأة في الحديبية أنشدتْه من كلام غيرها». اهـ. قلتُ: هذا كلام من يجوِّز أنَّ رؤبة كان شاعرًا قبل وقعة الحديبية، فيكون له صحبة أو إدراك، ولم يذكر أحدٌ ذلك. وأرَّخوا وفاته سنة 145. وإنما ذكروا أباه في المخضرمين. فإن قيل: يحتمل أن يكون رؤبة آخر. قلتُ: إذا أُطلق رؤبة ــ ولاسيَّما في الرجز ــ لم يُعنَ به إلا رؤبة بن العجَّاج المشهور. _________ (1) في المطبوع: «المادح»، وكتبه المؤلف على الصواب. (2) انظر «سيرة ابن هشام»: (2/ 311). (3) (3/ 140 - تحقيق الطناحي). وذكر الطناحي في تعليقه أن ابن الشجري تابع القاضي الجرجاني في «الوساطة». وخطَّأ البغداديُّ هذه النسبة في «الخزانة»: (6/ 207). والبيتان لراجز جاهلي من بني أُسيِّد بن عمرو بن تميم. انظر «إصلاح ما غلط فيه النمري» للغندجاني (ص 77 - 78). (الإصلاحي).

(24/374)


وبالجملة، فلا شكَّ أن البهاء غفل، رحمنا الله وإياه (1). * * * * [بحث في منع «أبي هريرة» ونحوه من الصرف] الحمد لله. فائدة قالوا: إنّ «هريرة» و «بكرة» و «حمزة» مِنْ «أبي هريرة» و «أبي بكرة» و «أبي حمزة» ــ كنية لأنس بن مالك (2) ــ تُمنعُ عن الصرف للتأنيث في المضاف إليه، والعَلَميَّة في مجموع المضاف والمضاف إليه. وحاصله: أنه يكفي للمنع من الصرف علَّةٌ وجزءُ علَّة. فيقع السؤال عن «أم هانئ» و «أم محمد» ونحوهما. فيقال: هاهنا في المضاف إليه علة تامة وهي العَلَمية، وجزء علة وهي التأنيث، فهل يُمْنع؟ بل هو أولى؛ لأن العلة التامة التي في المضاف إليه، كهانئ ومحمد ــ وهي _________ (1) مجموع [4724]. (2) ليس «هريرة» و «بكرة» و «حمزة» في الأصل أعلاماً في هذه الكنى، وإنما «هريرة» تصغير هرة ــ واحدة الهِرر ــ؛ لأن الصحابيّ ربّاها، أو غير ذلك. و «بكرة» هي بكرة البئر؛ لأن أبا بكرة تدلى بها من الطائف. و «حمزة» اسم بقلةٍ معروفة، وقال أنس: «كناني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - باسم بقلةٍ كنتُ أجتنيها». [المعلمي]. وحديث أنس الذي ذكره الشيخ أخرجه أحمد (12286) والترمذي (3830) وقال: «هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث جابر الجعفي عن أبي نصر ... ». وجابر الجعفي وأبو نصر (خيثمة البصري) كلاهما ضعيف.

(24/375)


العلمية ــ تأكدت هنا بكونها موجودة في مجموع المضاف والمضاف إليه؛ فهانئ ومحمد عَلَمان، وأم هانئ وأم محمد عَلَمان، بخلاف أبي هريرة ونحوه؛ فإن التأنيث الذي في «هريرة» ليس موجودًا في «أبي هريرة». وانظر قول الشاعر (1): * ألا يا أمَّ فارعَ لا تلومي * فأمّا صرفُ مثل هذا فكثير في الشعر القديم، كقوله (2): * يُبْلِغْنَ أمَّ قاسمٍ وقاسما * وقول امرئ القيس: أجدك ..... ولا أمّ هاشمٍ (3) ... قريبٌ ولا البسباسة ابنةُ يشكرا وقول الآخر: .... (4) _________ (1) عجزه: على شيء رفعتُ به سماعي. وهو أحد بيتين أنشدهما أبو زيد في «نوادره» (ص 206، 260) لجاهليّ من بني نهشل. وأراد الشاعر: «أم فارعة»، فحذف الهاء استخفافًا. وانظر: «الخزانة» (9/ 266). (الإصلاحي). (2) هو هدبة بن خشرم العذري. انظر: «الشعر والشعراء»: (2/ 691)، و «الأغاني» (21/ 281). (3) كذا في الأصل. ورواية الديوان (68): «له الويلُ إن أمسى ولا أم هاشم». (4) ضرب الشيخ على البيت في الأصل، وهو: يا أمَّ عمروٍ جزاك الله مكرمةً ... ردّي عليَّ فؤادي حيثما كانا وهو لجرير في «ديوانه»: (1/ 161) بنحوه.

(24/376)


والجاري على الألسنة في «أم هانئ» ونحوها: الصرف. ويمكن أن يقال: لم يُمنع في «أبي هريرة» ونحوه إلا بعلَّتين تامَّتين فيه، مع قطع النظر عن مجموع الكنية. كأنه قُدِّر أن «هريرة» بنتٌ له، فيكون فيه العَلَمية التامة والتأنيث. ونحو هذا قُل في غيره. وأمّا «أم هانئ» فلا يأتي فيها هذا التقدير. وكذا ما قاله الخبيصي في «معدي كرب» و «بعلبك»: إن من اختار الإضافة وقدَّر «كرب» و «بك» اسمين للكُرْبة والبقعة مَنَع. يحتمل أن يكون مرادُه بتقدير «كرب» اسمًا للكربة: أي عَلَم جنسٍ لها، كـ «برة» للمبرَّة. وبتقدير «بك» اسمًا للبقعة: أي علمًا لها. فعلى هذا يكون في «كرب» و «بك» عند الإضافة وتقديرهما اسمين للكربة والبقعة = علتان تامَّتان هما: التأنيث والعلمية، بدون النظر إلى مجموع المركَّب. والله أعلم (1). _________ (1) مجموع [4729].

(24/377)


فوائد متفرقة

(24/379)


فروق ملخصة من "كتاب الروح" (1) لابن القيم 1 - خشوع الإيمان هو خشوع القلب لله بالتعظيم والإجلال مع شهود نِعَم الله ومساوي النفس. أما خشوع النفاق فيبدو على الجوارح تكلُّفًا، والقلب غير خاشع. 2 - شَرَف النفس: صيانتها عن الرذائل والمطامع. التِّيه: نتيجة إعجابه بنفسه وازدرائه بغيره. 3 - الحميَّة: فطام النفس عن رضاع اللؤم. الجفاء: غلظة في النفس، وقساوة في القلب، وكثافة في الطبع. 4 - التواضع: انكسار القلب لله، وخفض جناح الذلِّ والرحمةِ لعباده. المهانة: الدناءة والخسّة وابتذال النفس في نيل حظوظها. 5 - القوة في أمر الله: تعظيمه وتعظيم أوامره وحقوقِه حتى يقيمها لله. العلو في الأرض: تعظيم النفس وطلب تفرُّدها بالرياسة. 6 - الجود: وضع العطاء مواضعه. السَرَف: وضعه حيثما اتفق. 7 - المهابة: أثر من آثار امتلاء القلب بعظمة الله. الكِبْر: أثر من آثار العُجْب والبغي. _________ (1) (2/ 655 - 723 - ط. عالم الفوائد).

(24/381)


8 - الصيانة: اجتناب المعاصي ومظانِّها خوفًا من الله. التكبّر والعلو: اجتناب ما يُعَدُّ نقصًا في العرف ليتمّ له الرياسة والفخر. 9 - الشجاعة: ثبات القلب الناشئُ عن الصبر وحسن الظن. الجراءة: قلة المبالاة وعدم النظر في العاقبة. 10 - الحزم: جمع الهمّ والإرادة والعقل، والاستعداد التام، ومعرفة خير الخيرَين وشر الشرَّين. الجبن: فَشَل الهمِّ والإرادة والعقل. 11 - الاقتصاد: خُلُق ناشئ من العدل والحكمة. الشحّ: خلق متولِّد من سوء الظن وضعف النفس. 12 - الاحتراز: الاستعداد لكلّ ما يمكن أن يقع. سوء الظن: اتِّهام الناس الذي يؤدي إلى الإضرار بهم بغيبةٍ وغيرها. 13 - الفراسة: لا تكون إلا مع نور القلب وطهارته. الظن: يكون مع النور والظلمة، والطهارة والنجاسة. 14 - النصيحة: يكون القصد منها تحذير المسلم من مُبتدع أو فتّان أو غاشٍ أو مفسد. الغيبة: يكون القصد منها مجرَّد الطعن في الغير وتنقيصه. 15 - الرشوة: ما قُصِدَ به إحقاق باطلٍ أو إبطال حقٍّ أو دفع مضرّة.

(24/382)


والهدية بخلاف ذلك؛ فإنْ قُصِدَ بها المحبّة في الله فهدية شريفة، وإن قُصِدَ بها المحبة في غير الله فبحَسَبِها، وإن قُصد بها المكافأة فهي معاوضة ومتاجرة. 16 - الصبر: حبس النفس عن الجزع والهلع والتشكّي، فيحبس النفس عن التسخُّط، واللسانَ عن الشكوى عما لا ينبغي فعله. أو هو ثبات القلب على الأحكام القدرية والشرعية. القسوة: يُبس في القلب يمنعه من الانفعال، وغلظةٌ تمنعه عن التأثر. القلوب ثلاثة: قاسٍ، ومائع، ورقيق. فالأول: لا ينفعل بمنزلة الحجر، والثاني: بمنزلة الماء، والثالث: كما في بعض الآثار: "القلوب آنية الله في أرضه، فأحبّها إليه أرقّها وأصلبها وأصفاها". قال: فهذا القلب الزجاجي. 17 - العفو: إسقاط الحق فضلًا وكرمًا مع القدرة وأمن العاقبة. الذل: ترك الحق عجزًا أو لخوف العاقبة. 18 - سلامة القلب: عدم إرادة الشر مع معرفته. البَلَه والغفلة: جهلٌ وقلة معرفة. 19 - الثقة: سكون يستند إلى أدلة قوية توازيها قوةً وضعفًا. الغِرَّة: سكون لغير دليل أو أشد ممّا يقتضيه الدليل. 20 - الرجاء: الأمل الذي يصحبه بذل الجهد في السعي.

(24/383)


التمنِّي: الأمل مع تعطيل الأسباب و (هاهنا كلام نفيس) (1). 21 - التحدث بنعمة الله: ما قُصد به الثناء عليه سبحانه عزَّ وجلَّ. الفخر: ما قُصد به الاستطالة على الغير. 22 - فرح القلب: ما يكون بالله ومعرفته ومحبته. فرح النفس: ما يكون بغيره. 23 - الجزع: ضعف في النفس وخوف في القلب، يمدّه شدّة الطمع والحرص، ويتولد من ضعف الإيمان بالقدر. رقة القلب: ... (2). أقول: لم يوضّح الفرق، والذي يظهر أن الفرق الصحيح إنما هو اتباع رضوان الله. ورضوان الله هو في الرقّة والرحمة دائمًا، إلا أن تؤدي إلى ترك ما أمر به أو فعل ما نهى عنه. 24 - الموجدة: الإحساس بالمؤلم والعلم به وتحرّك النفس في دفعه. الحقد: إضمار الشر وتوقعه كل وقت ... إلخ. أقول: الموجدة ما يمكن أن يزيله العتاب والاعتذار والصلح. والحقد بخلاف ذلك ولاسيّما إذا كان مع إظهار عدم التأثر. وأشدّ منه إذا كان بعد إظهار العفو والرضا. وأشد منه إذا كان أشد مما تقتضيه الإساءة بحيث يحمل صاحبه على عقوبةٍ أعظمَ من الفعل. _________ (1) انظر "الروح": (2/ 686 - 693). (2) كَتَب الشيخ في الأصل كلامًا ثم ضرب عليه.

(24/384)


25 - المنافسة: المباراة في الكمال بحيث تحب لنفسك بلوغ رُتبة أخيك بدون أن يحملك ذلك على حبك نقصانه، بل يجب أن تحب له زيادة الرقي في الكمال إلى ما لا نهاية له، وتحب لنفسك كذلك. حبّ الرياسة: ما قُصد به المال والجاه والشهرة والعلو. الدعوة إلى الله: ما قُصد به إقامة أوامر الله عزَّ وجلَّ. 26 - الحب في الله: ما كان مداره على طاعة الله. الحب مع الله: ما كان مداره على حظّ النفس. 27 - التوكُّل: عمل القلب وعبوديته اعتمادًا على الله وثقةً به مع القيام بالأسباب المأمور بها والاجتهاد في تحصيلها. والعجز: ترك الأمرين أو أحدهما. (ههنا كلام نفيس) (1). 28 - الاحتياط: الاستقصاء في متابعة السنة بلا غلو ولا تقصير. الوسوسة: ما يحمل على مخالفة السنة كغَسل الأعضاء في الوضوء فوق ثلاثٍ، وغسل الأعضاء أو الثياب مما لا تتيقن نجاسته. 29 - إلهام المَلَك: ما يوافق الشرع (2)، يثمر إقبالًا على الله تعالى وانشراحًا في الصدر وسكينة وطمأنينةً. ووسوسة الشيطان بخلاف ذلك. _________ (1) انظر "الروح": (2/ 711 - 713). (2) في الأصل: "للشرع".

(24/385)


30 - الاقتصاد: التوسط. والتقصير: التفريط. والمجاوزة: الإفراط. 31 - النصيحة: ما كان مع اللطف والرفق. وحَمَلَ عليه الشفقةُ، فيعامله معاملة الطبيب العالم المُشفق للمريض المُدنَف، فهو يحتمل سوء خلقه وشراسته، ويتلطّف في وصول الدواء إليه بكل ممكن. التأنيب: ما كان بخلاف ذلك، بل قُصِدَ به التعيير والإهانة. وعلامة هذا أنه لو رأى من يحبّه على مثل ذلك العمل لم ينهه بل يلتمس له المعاذير. الناصح لا يُعادي من لم يقبل منه ولا يذكر عيبه للناس، بل فوق ذلك هو يدعو له. 32 - المبادرة: انتهاز الفرصة حال إمكانها. العجلة: الهجوم على الشيء بدون ترقّب فرصة. 33 - الإخبار بالحال: ما قُصد به قصدٌ صحيح كالإعلام بسبب أذاته (1) أو الاعتذار أو التحذير من الوقوع في مثل ذلك. والشكوى بخلاف ذلك. أقول: وكذا (2) الاستعانة المشروعة كالشكوى إلى الطبيب. _________ (1) كذا في الأصل تبعًا للمطبوعة. وفي "الروح": "إزالته". (2) أي من الإخبار بالحال الذي قُصد به قصد صحيح.

(24/386)


[بعده نقلٌ طويل يبدأ من ذكر الفرق بين توحيد المرسلين وتوحيد المعطلين إلى آخر كتاب الروح (1)] (2). * * * * [الفرق بين العشق والرقَّة والفسق] الفرقُ بين العشق، والرِّقَّة، والفسق: أن الأول: التعلّق بشخصٍ معيَّن. والثاني: الميلُ إلى الجمال أينما كان، مع غلبة العِفَّة. والثالث: الميلُ إلى الجمال حيث كان، بلا عفَّة. فالمجنون وجميل: عاشقان. وابن أبي ربيعة والحارث بن خالد: رقيقان. ولا أحبُّ أن أسمّي أحدًا فاسقاً (3). والغالب على الأدباء مدحُ العشق وتفضيلُه، وعندي أن الرِّقَّة أدلُّ على سلاسة الطبع ولطف الحِسّ وصفاء النفس. إلا أن العشق يمتاز بالثباتِ وإمكان المحافظة معه على الدين والشرف. والله أعلم (4). _________ (1) (2/ 726 إلى آخره). (2) مجموع [4656]. (3) كان الشيخ قد كتب: "وأبو نواس". ثم ضرب عليه وكتب العبارة المثبتة. وهذا من ورعه رحمه الله. (4) مجموع [4729].

(24/387)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [اليُمْن والشؤم] اعلم أن اليُمْن والشؤم عند الناس معنيان يكونان في الأشياء، ينشأ عن الأول كثرة الخير، وعن الثاني كثرة الشر. فإذا كان رجلٌ قليلَ المال سيئ الحال نكد العيش فولد له ولدٌ فتوفَّر ماله وحسُنت حاله وصفا عيشه، قال الناس: إن ذلك الولد ميمون. فإذا كبر الولد وكان أبوه يُرسله في حوائجه فينجح في الغالب تأكَّد يمنه. وهكذا كلَّما ازداد نجاحه فيما يحاوله أو يوكل إليه. وعكس هذا يقال في الشؤم. والناس لا يقصرون هذا على الأناسي، بل يقولون مثله في سائر الحيوانات، بل والجمادات. فترى منهم من يتيمَّن أو يتشائم بالخاتم والعصا والنعل. وإذا سئلوا عن سبب اليُمن والشؤم فأكثرهم يحيله على النجوم. وقد أبطل أهل العلم ذلك. ومنهم مَن يحيله على قدر الله عزَّ وجلَّ. ومنهم من يجحده البتة، ويفسِّر كلَّ ما يراه الناس يُمنًا أو شؤمًا بالأسباب العادية تارةً، وبالاتفاق والمصادفة أخرى. والحق إثبات اليُمْن والشؤم في الأناسي، وأنه بقدر الله عزَّ وجلَّ لحِكَمٍ، منها ما يظهر لنا ومنها ما يخفى. ولكنه سبحانه وتعالى إذا قدَّر شيئًا هيَّأ أسبابه على ما جرت به سنته. فلذلك يمكن تأويل أكثر ما تراه يُمْنًا أو شؤمًا بحسب الأسباب العادية، إلا أن العاقل المنصف إذا نظر في أسباب الأسباب وأسبابها بان له الحق. وقد عُرف مذهب أهل السنة في تقدير السعادة

(24/388)


والشقاء والرزق والعمر وغير ذلك، فكذلك نقول في اليُمْن والشؤم. هذا، واليُمن والشؤم عند الناس إنما هو بحسب الخير والشر في الدنيا. والحق أنهما بحسب الخير والشر في الدين. فإذا انضاف إلى الخير في الدين الخيرُ في الدنيا، وإلى الشر في الدين الشرُّ في الدنيا فتلك الغاية. هذا، واليُمْن والشؤم بالنظر إلى الدنيا لا يمكن الحكم بأحدهما على الشخص جزمًا، لأن التقدير غيب، وليس بيدنا إلا تكرُّر الخير والشر، وليس ذلك بواضحٍ لاحتمال أسباب أخرى، ولاحتمال الاختصاص. فقد تكون المرأة بحيث تُظن أنها مشؤومة على أبيها، فإذا تزوَّجت تحسَّنت حال زوجها فتظن أنها ميمونة عليه. بل قد تتغيَّر الحال في شيء واحد. فقد يتزوَّج الرجل المرأة فتَحسُن حاله مدَّةً، ثم تتغيَّر أو تسوءُ حاله مدَّةً، ثم تحسن. وذلك أنه قد يكون تقدير اليُمْن إنما هو في حال دون أخرى، وكذلك الشؤم. فالذي ينبغي البناء عليه هو الصفات الظاهرة والمقاصد الدينية. فإذا كانت امرأة جميلة صحيحة ديِّنة أديبة حسنة التدبير، ولكن اشتهر أنه بعد ولادتها افتقر أبوها ولازَمَه المرض، وأن رجلًا تزوَّجها فأصابه مثل ذلك ثم فارقها فحسنت حاله= فلا ينبغي للمؤمن إذا تزوَّجها بعدُ ثم سمع بحال أبيها وزوجها الأوَّل أن يطلِّقها. بل إذا امتنع من تطليقها طاعةً لله لأن أبغض الحلال إلى الله الطلاق، وتوكُّلًا على الله عزَّ وجلَّ، ورحمةً لها خشيةَ أن لا يتزوَّجها بعدَه أحدٌ= فلسنا نشك أنها تكون ميمونة عليه في دينه، وكذا في دنياه إن شاء الله. وهكذا من سمع بقصة أبيها وزوجها السابق قبل أن يتزوَّجها فاستخار

(24/389)


الله عزَّ وجلَّ وعَزَم على نكاحها لصفات الخير التي فيها، ولظنّه أن الناس يرغبون عنها لقصَّة أبيها وزوجها السابق وتوكُّلًا على الله تبارك وتعالى. وإنما يتفق استمرار الشؤم إذا كانت في المرأة بعض أوصاف النقص وأهمُّها ضعف الدين، وتزوَّجها رجل لجمالها أو ليعتزَّ في الدنيا بمصاهرة أهلها أو نحو ذلك، ثم آخر كذلك وهكذا. والحاصل أنه لا يستقر شؤم المرأة على زوجها إلا إذا لم يُراعِ في نكاحها ما يقتضيه الدين والأخلاق الظاهرة كالعقل والأدب وحسن التدبير. فإن كان قد كُتب عليها الشؤم البتة، فإنه لا يكون في التقدير أن يتزوَّجها أحد إلا على هذا الوجه. والله أعلم. [ل 35] وكذلك الدار لا مانع أن يُقدَّر لها اليُمْن والشؤم. وقد تكون بُنيت في أرض كانت مسجدًا أو وقفًا، أو أُخذت غصْبًا، أو كان البناء بآلةٍ كذلك، إلى غير هذا. والذي ينبغي اعتماده في هذا هو النظر في الصفات الظاهرة والدينية. فمن الصفات الظاهرة: النظر في موقع الدار ومحلتها وصفة بنائها بحسب ما يعرفه أهل الخبرة من الموافقة للصحة والمخالفة لها. ومن الدينية: النظر بحسب ما يتيسَّر في أصل بنائها، أَعَلى وجهِ الحلال أم على خلافه؟ وفي نزولها أعلى وجه الطاعة أم على وجه المعصية أم على الإباحة؟ ويختلف ذلك من وجوه، فإن كانت ملكَه، فمن جهة حلٍّ أم حُرمة أو شبهة؟ وإلا، فنزوله إياها على حلٍّ أو حُرمةٍ أو شُبهةٍ؟ وكذلك غرضه من نزولها، فقد يكون فيه القرب من المسجد أو من

(24/390)


بيتِ أمِّه ليخدمها، أو من بيت فسقٍ ليتيسَّر عليه، أو الاطلاع على العورات، أو الفخر والمباهاة، أو استأجرها بأجرة زائدة على ما يليق به فيحتاج إلى التقصير في الواجبات، وغير ذلك. وعلى نحو هذا يقال في الفرس. وبالجملة فمن راعى بحسب ما يتيسَّر الصفاتِ الطبيعيةَ والأحكام والآداب الدينية، ومن جملتها الاستخارة والتعُّوذ والتسمية وذكر الله عز وجل والتوكل عليه وغير ذلك= فإنه لا يناله أثر الشؤم البتة. ومن قصَّر في ذلك فإلى مشيئة الله عزَّ وجلَّ، فإن أصابه شر فبتقصيره، وشؤمُ التقصير محقَّق. فمن الجهل أن يغفل عن هذا الشؤم المحقَّق ويحيل ما يصيبه إلى شؤم محتمل، مع أن الشؤم المحتمل لا يصيبه إلا إذا قصَّر (1). _________ (1) مجموع [4786].

(24/391)


[في معنى حديث: "لا يسترقون ولا يتطيَّرون ولا يكتوون" (1) وحكم التداوي] أقول: الذي دل هذا الحديث على أن تركه مطلوب من الأسباب ثلاثة: الأول: ما في تعاطيه مشقَّة شديدة وفائدة محتملة فقط، وهو الكي. الثاني: ما فيه احتمال مفاسد وفائدته محتملة فقط، وهو الاسترقاء، أي: أن تسأل آخر أن يرقيك. ومن مفاسده: أن الرقية قد يكون شركًا ونحوه، وأنه إذا رقاك بدعاء فأنت تقدر على أن تدعو لنفسك، ولعل دعاءك لنفسك أقرب إلى الإجابة من دعائه لأنك مضطرّ يتأتى منك حسن الخشوع وصدق الالتجاء. فإن قلت: أنا مذنب خطَّاء لا يُستاجب دعائي. فهذا أوَّلًا: ضرب من اليأس من رحمة الله. وثانيًا: كالتكذيب لقوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وقوله: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]. وثالثًا: ضربٌ من عدم الرضا باختياره. ورابعًا: يكاد يكون ذريعة من ذرائع الشرك؛ فإن المشركين إنما أشركوا لزعمهم أنهم لحقارتهم وجهلهم ومعاصيهم ليسوا بأهلٍ أن يتقبل الله عزَّ وجلَّ عبادتهم له أو يجيب دعاءهم إيَّاه فاتخذوا من دونه آلهة شفعاء. فإن كان الاسترقاء بدون أجرة أو نحوها فهو سؤال من مخلوق لنفع _________ (1) أخرجه البخاري (5705) ومسلم (218) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.

(24/392)


دنيوي، فهو قريب من سؤال المال، وهو حرام شرعًا لغير المضطر. الثالث: الطيرة، وهي وَهْم مجرَّد مع ما فيها من خطر الشرك. فالذي يدل هذا الحديث أن تركه مطلوب شرعًا هو هذه الثلاثة وما في معناها. والتداوي ليس في معناها إذ ليس فيه مشقة كمشقة الكي، ولا مفاسد كمفاسد الرقية، ولا هو وَهْم قد يكون شركًا كالتطيُّر. وقد تداوى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأمر بالتداوي، ونهى عن تلك الثلاثة. فلو لم نفهم فرقًا بينه وبينها لسقط القياس للنص، فكيف والفرق مثل الصبح ظاهر. فإن قيل: إن آخر الحديث: "وعلى ربِّهم يتوكَّلون". قلت: حقيقة التوكل كما يدل عليه الكتاب والسنة وسِيَر الأنبياء عليهم السلام هو: الثقة بالله تبارك وتعالى والاعتماد عليه دون الأسباب. فالمؤمن يتعاطى ما شرعه الله تعالى من الأسباب الواجبة والمندوبة وما يقرب منها مما هو سبب ظاهر ولم يحرِّمه الشارع ولا كرهه، بل ندب إليه في الجملة كالتداوي وطلب الحلال وغيره، ولكنه إنما يتعاطاها امتثالًا لشرع الله عزَّ وجلَّ ولسنَّته التي أجرى هذا العالَم عليها. وهو مع ذلك عالم أن حصول المطلوب إنما هو بمشيئة الله عز وجل وفضله. وهو مع ذلك عالم بأن الله تبارك وتعالى هو الذي جعل الأسباب والذي يسَّرها له، إلى غير ذلك. ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكن يقصِّر في تعاطي الأسباب حتى ظاهر في بعض حروبه بين درعين، ولكنه مع ذلك غير واثق إلا بربه عزَّ وجلَّ {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126].

(24/393)


أَوَلا ترى أنه لما وقع من بعض المسلمين يوم حُنين ما يشعر باعتمادٍ على الأسباب إذ أعجبتهم كثرتهم، وقال بعضهم: "لن نغلب اليوم عن قلة"= ابتلاهم الله عزَّ وجلَّ بما أزال ذلك الأثر من قلوبهم. فلما زال وخَلُص الاعتماد على الله عزَّ وجلَّ نصرهم. فالمحذور المنافي للتوكل إنما هو الاعتماد على الأسباب، فأما تعاطيها فمطلوب والله أعلم.

(24/394)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المعاريض في الأثر: "إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب" (1) قال ابن الأثير في "النهاية": "المعاريض جمع معراض، وهو خلاف التصريح من القول. يقال: إنما عرفت ذلك في مِعراض كلامه ومِعْرض كلامه". قال عبد الرحمن: المعاريض هنا كل كلام فيه إيهام مقصود لمعنى لا يحب المتكلم التصريح به؛ إما لكونه كذبًا، وإما لغير ذلك. وهو على أضرب: أبعدها عن الكذب ما يكون الكلام بحيث إذا تأمله السامع عرف أن المعنى الموهم غيرُ مرادٍ. وإنما يتم الإيهام بمعونة تقصير السامع واستعجاله في فهم الكلام؛ إما لأن تلك عادته، وإما لأنه في حال ضيق وانقباض، وإما لأن في الكلام ما يزعجه، وإما لغير ذلك. فمن ذلك ما يُروى أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جاءه رجل فقال: "أُبدع بي" أي هلكت راحلتي "فاحملني" أي أعطني راحلةً أركبها، فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: "لأحملنك على ولد ناقةٍ" فقال الرجل: وما أصنع بولد ناقةٍ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "وهل تلد الإبلَ إلا النوقُ؟ " (2). _________ (1) صحَّ موقوفًا على عمران بن الحصين. أخرجه ابن أبي شيبة (26499) والبخاري في "الأدب المفرد" (857). وقد روي مرفوعًا ولا يصح. انظر "الضعيفة" (1094). (2) أخرجه أحمد (13817) والبخاري في "الأدب المفرد" (268) وأبو داود (4998) والترمذي (1991) من حديث أنس بن مالك، وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب".

(24/395)


فـ"ولد الناقة" حقيقة لغوية في الكبير والصغير من الإبل، ولكنه صار حقيقة عرفية في الصغير، إلا أن قوله: "لأحملنك على" قرينة تعيِّن الكبير لأنه هو الذي يُحمل عليه. ولكن الرجل كان في ضيق وانقباض لهلاك راحلته وحاجته إلى أخرى، فاستعجل ولم يتأمَّل. ومنه ما يُروى أن امرأةً مرَّت تسأل عن زوجها، فقال لها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "هو ذاك في عينيه بياض" فأسرعت حتى أدركت زوجها وطفقت تنظر في عينيه وأخبرته بما قال لها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال الرجل: "صدق، وسوادٌ" (1). فالمعروف في العادة أن البياض الأصلي في العين، وهو المحدق بالسواد لا يُخبر عنه بأن يقال: في عينَي فلانٍ بياض؛ إذ لا تخلوا عينا أحدٍ من الناس عنه. فالإخبار به إخبار بما لا يخفى على أحدٍ، فلا تظهر له فائدة. فهذا هو الذي حمل المرأة على حمل البياض على البياض الذي يَحْدُث في بعض العيون لرَمَدٍ أو بثرة أو نحوها فيعيب العين وينقص ضوءها، ولكن مثل هذا البياض إنما يحدث في العين تدريجًا وبعد مقدمات في مدة شهرٍ أو أكثر. وزوج المرأة كان عندها صباح ذلك اليوم وقبله، وليس بعينيه بأس، فهذه قرينة واضحة تردُّ ما توهَّمته المرأة. ومنه ما يُروى أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - قال لعجوز: "لا تدخل الجنَّة عجوز" فانزعجت، فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: "ألم تسمعي قول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ _________ (1) روي من مُرسل زيد بن أسلم. انظر "تخريج أحاديث الإحياء" للعراقي (ص 1019).

(24/396)


أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37)} [الواقعة: 35 - 37] " (1). فالمرأة قد كانت قرأت الآية وفهمتها، وبايعت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على التوحيد وغيره على أن لها الجنَّة، وعرفت ذلك يقينًا، ولكنَّها لمَّا سمعت ما يُوهم أنها لا تدخل الجنَّة انزعجت فغفلت عن ذلك كلِّه. هذا، ومن الحكمة في هذه الأمثلة ونحوها مع ما فيها من حُسن الخُلق وملاطفة الأمة= تعليمُهم وإرشادهم إلى التؤَدة وتدبُّر الكلام، وترك الاستعجال المُوقِع في الغلط. ومن هذا الضرب ــ فيما يظهر ــ قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - لأزواجه: "أسرعكن لحوقًا بي أطولكن يدًا" (2) لأن طول اليد وإن كان حقيقة لغوية في الطول الحسّي لهذه الجارحة، إلا أن هناك ثلاث قرائن تصرف عنه: الأولى: أن طول اليد الحقيقي ملازم عادة لطول القامة، وكنَّ يعرفن أن أعضاءهن متناسبةٌ، وعليه فلو أراد الحقيقة لقال: "أطولكن" واقتصر عليه؛ لأن زيادة "يدًا" عبثٌ. الثانية: أن سرعة اللحاق به فضيلة ثوابية، ومن عادة الشريعة ترتيب الفضائل الثوابية على الفضائل العملية، لا على الصور الخَلْقية. الثالثة: أن إخبار الشارع عن الغيوب المستقبلة يغلب فيه عدم التصريح. _________ (1) أخرجه الترمذي في "الشمائل" (240) وغيره من مرسل الحسن البصري. ويشهد له مرسل مجاهد عند الطبري في "تفسيره" (16/ 429) وغيره، ومرسل سعيد بن المسيب بإسناد صحيح عند هنَّاد في "الزهد" (24). (2) أخرجه البخاري (1420) ومسلم (2452) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(24/397)


وقد بان ذلك في هذا الخبر، فإنه لو أراد التصريح لعيَّن المرادة بالإشارة إليها أو الاسم الخاص بها؛ وطول اليد الحسِّي تصريح. الضرب الثاني: ما يحتمل المعنيين على السواء. ومنه قول أمير المؤمنين علي رضوان الله عليه: "خير هذه الأمة بعد نبيِّها: أبو بكر ثم عمر، ولو شئتُ لسمَّيتُ الثالث" (1). فيحتمل أنه أراد نفسه ولكنه كره التصريح بذلك لما في ظاهره من تزكية النفس، ويحتمل أنه أراد عثمان رضي الله عنه ولكنه كره التصريح بذلك لأن مخالفيه من بني أميَّة وأهل الشام كانوا يزعمون أنهم يطالبون بدم عثمان، ويدَّعون أن عليًّا سامح في قتله وآوى قَتَلتَه. وكان جماعة ممن نقم على عثمان بعض الأمور انضمُّوا إلى أنصار علي. فتصريح علي بفضل عثمان في تلك الحال يقوِّي فتنة أهل الشام وينفِّر من انضمَّ إلى علي من الناقمين على عثمان. الضرب الثالث: ما يكون الظاهر منه خلاف الواقع، إلا أن هناك قرائن فيها خفاءٌ ما، لو تأملها المخاطَب لعاد الكلام عنده محتملًا. فمنه فيما يظهر كلمات إبراهيم خليل الله عليه السلام. أما قوله لمَّا سئل عن زوجته: "هي أختي" وأراد أخته في الدين، فإنه إنما قال ذلك لقوم يعلمون أن من عادة ملكهم إذا سمع بامرأة جميلة لها زوج بدأ بقتل الزوج. ومن عادة الإنسان إذا وقع في شدة لا يمكنه التخلص منها إلا بالتورية ورَّى. بل كثير من الناس لا يتردَّد في مثل ذلك في الكذب الصريح. فهذه قرينة لو _________ (1) أخرجه أحمد في "مسنده" (879، 880) وفي "فضائل الصحابة" (429، 446، 548) بأسانيد صحيحة.

(24/398)


تأمَّلها القوم لعلموا أنه لا يألو جهدًا في دفع الشرِّ عن نفسه، وذلك مظنة التورية، مع أن الأخوة يكثر استعمالها في غير الحقيقة الأصلية، ولهذا يكثر من الناس أن لا يكتفوا من الرجل بقوله لآخر: هذا أخي، حتى يستفسروه. وأما نظره في النجوم وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، فإنما فعل ذلك بعد أن سبق منه أن قال لهم: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء: 57]، فقد سبق منه أن بيَّن لهم أنه يريد التخلُّف ليكيد أصنامهم. ولا يخفى أنه لو أعاد لهم هذا القول عند خروجهم وسؤاله أن يخرج معهم لما تركوه. فلو تأمَّلوا ذلك لعلموا أنه لا يتحاشى مغالطتهم بالتورية ونحوها. ومَن عَلِم من حال صاحبه أن لا يتحاشى عن التورية لم يكتفِ منه بظاهر قولٍ، بل يصير الظاهر حينئذ غير ظاهر. والإيهام في القصة هو إيهامه أنه استدلَّ بأحوال النجوم على أنه سيسقم عن قريب. وكأن نظرته في النجوم كانت نظرةً خفيفةً، كما يشير إليه قوله تعالى: {نَظْرَةً} بالتنكير، أي يسيرة. والنظرة اليسيرة قد تقع ممن يتذكر شيئًا أو يتدبَّره، فليست بظاهرة في نظر الاستدلال بأحوال النجوم، بل هي محتملة. وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} أي في المستقبل، وقد فهم المخاطبون ذلك ولكنهم لِتوهُّمِهم أن النظرة في النجوم كانت نظرةَ استدلال بأحوالها توهَّموا أن المراد: في المستقبل العاجل. وقوَّى ذلك عندهم أن كلامه عليه السلام كان في معرض اعتذار عن الخروج معهم، والسقم المستقبل الذي يصلح أن يكون عذرًا هو الذي في المستقبل القريب. وأما قوله عليه السلام: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]،

(24/399)


فليس الإيهام ــ والله أعلم ــ في نسبة الفعل إلى كبير الأصنام، فإن مثل ذلك لا يوجب إيهامًا؛ للعلم بأن الصنم جماد لا يتأتى منه الفعل عادةً. وهذه قرينة واضحة على أنه لم يُرِدْ نسبة الفعل إلى الصنم على الحقيقة. ولكن الإيهام فيما أرى ــ والله أعلم ــ في كلمة "بل"، فإنها تقتضي بظاهرها النفي عن نفسه، كأنه قال: "ما أنا فعلته، بل فعله كبيرهم هذا". ولعل المعنى المراد أن التقدير: " [لا] أقول: أنا فعلت (بل) أقول: (فعله كبيرهم) ". فـ (بل) للإضراب عن القول المقدَّر. هذا، وقد ذكر المفسرون أنه عليه السلام حطَّم أصنامهم كلها عدا الصنم الكبير، ثم علَّق الفأس بعنق الكبير أو يده. ومقصوده عليه السلام بذلك أن يقيم الحجَّة عليهم من وجهين: الأول: أن الأصنام لا تفعل ولا تنطق, فلا تنفع ولا تضر، فلا معنى لعبادتها. الثاني: أنها لو كانت تعقل وتفعل لاحتمل أن الكبير يغضب من عبادة الصغار معه. وفي ذلك إشارة إلى أن رب العالمين سبحانه يغضب من عبادة شيء دونه. هذا، وقد بيَّنتُ في موضع آخر أنه يظهر أن هذه الثلاث الكلمات كانت من الخليل عليه السلام قبل النبوة (1). ومما يدل على ذلك ما وقع في _________ (1) انظر "التنكيل" (2/ 392 وما بعدها) و"إرشاد العامه إلى معرفة الكذب وأحكامه" (ص 246 وما بعدها) ضمن مجموع رسائل أصول الفقه.

(24/400)


القصة: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60]. وبقية الكلام في موضعه. فأما حكم المعاريض، فما كان من الضرب الأول فلا كلام فيه لظهور بُعده عن الكذب بمراحل، وكذلك الثاني. وإنما الكلام في الثالث. فإن صحَّ ما قدمته أن كلمات الخليل كانت قبل النبوة، فالظاهر أن هذا الضرب إذا كان لدفع شرٍّ أو للتوصل إلى حقٍّ، ولا تترتَّب عليه مفسدة= فهو جائز، ولكنه لا يخلو عن كراهية، فيتنزَّه الأنبياء بعد النبوة عنه. ويؤيد ذلك أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سمَّى هذه كذبات، فقال: "لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله" (1). ويعتذر الخليل عليه السلام يوم القيامة عن الشفاعة بقوله: "إني كذبت ثلاث كذبات" (2) كما يعتذر آدم بأكله من الشجرة، وموسى بقتله النفس. فإذا كان لدفع ضرر خفيف، ولم تترتَّب عليه مفسدة اشتدَّت الكراهة، وتزداد شدَّة إذا لم يكن لدفع ضرر بل لتحصيل نفع أو عبثًا. ويتحقق التحريم إذا أمكن أن تترتَّب عليه مفسدة. هذا، وأما الكلام الذي ظاهره البيِّن كذبٌ وليس عند السامع قرينة تصرفه عن ذلك الظاهر فهو كذب، وإن تأوَّله المتكلم في نفسه؛ لأن المعتدَّ به في اللغة والعرف والشرع [ل 33] هو الظاهر، ولأن فائدة الكلام هي _________ (1) كذا، ولفظ الحديث: "ثنتين منهن في ذات الله". أخرجه البخاري (3358) ومسلم (2371) من حديث أبي هريرة. (2) أخرجه البخاري (4712) ومسلم (194) من حديث أبي هريرة.

(24/401)


الإفهام، وإنما يفهم المخاطَب الظاهر سواءٌ أقصده المتكلم أم قصد غيره. حتى لو فهم مخاطب خلاف الظاهر بغير قرينة لكان ملومًا لأنه خالف الدليل بغير دليل وردَّ الحجَّة بلا حجَّة. ولأن الكذب إنما قَبُح وحَرُم لما يترتَّب عليه من المفاسد، والمفاسدُ التي تترتب على الكذب الصريح يجيء مثلها في الخبر الذي ظاهره البيِّن كذب وقصد به المتكلم معنى صادقًا لا قرينة عليه. فمن المفاسد: استعمال الكلام في عكس الحكمة التي كان لأجلها، وهي تعاون الناس على معرفة ما يحتاجون إلى معرفته؛ فإن المعرفة إنما تحصل للمخاطب بإفهامك إياه الواقع، فإذا أفهمته خلاف الواقع فقد أوقعته في الباطل. ومنها: ما يترتَّب عليه من المفاسد كأن يُقتل زيد ولا يُعلم قاتله، فيخبر رجلان أو ثلاثة ابنَه بأن بكرًا هو الذي قتل أباك، فيذهب ابنه فيقتل بكرًا ويكون خبرهم كذبًا. فالمفسدة واحدةٌ سواءٌ أرادوا من خبرهم ظاهرَه أم تأوَّلوا، كأن كانت أمُّ زيد في قرية أخرى مريضة فأخبره بكر بذلك ونصحه أن يزورها فخرج ليزورها فقُتل في الطريق، فتأولوا أن بكرًا لمَّا أشار على زيد بما كان سببَ قتلِه كأنه هو الذي قتله، ولكن لم يكن هناك قرينة صارفة يَعرف بها ابنُ زيد مقصودَهم. ومنها: أن من عُرف بالكذب لم يعتدَّ الناس بخبره، فكأنه خرج من سلسلة التعاون الإنساني على المعرفة. فظَلَم الناس بأنه ينتفع بهم ولا ينفعهم، بل عُرف بالإضرار بهم، وظَلَم نفسَه بسقوط الاعتداد به. ومثله في ذلك من عُرف بكثرة الأخبار التي ظاهرها البيِّن كذب، فإنه لا يُؤمن في كل

(24/402)


خبر يُخبر به أن يكون تأوَّل في نفسه خلافَ ظاهره. بل إذا كثر ذلك منه لم يصدِّقه الناس فيما يزعمه بعد الإخبار من أنه قصد بها معنًى صادقًا خلاف ظاهرها، بل يعدُّون اعتذاره كذبًا آخر يريد به التخلص من كذبه السابق. واعلم أن كل ما ثبت في كتاب الله عزَّ وجلَّ أو السنة الصحيحة مما يقول أهل العلم أو بعضهم: إن المراد به خلاف ظاهره= له أوجه: الأول: نحو قوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77] مما للكلمة في ذاتها ظاهر إذا أطلقت، ولكنها وقعت في كلامٍ الظاهرُ منها فيه خلاف الظاهر إذا أطلقت. فهذا ليس مما نحن فيه لأننا إنما نريد بالظاهر: الظاهر من الكلام مع اعتبار القرائن. الثاني: ما يصح ردُّه إلى الضربين الأوَّلين من المعاريض، وهذا مقبول. الثالث: ما لا يصح ردُّه إلا إلى الثالث أو إلى ما بعده، وهذا لا يوجد في الكتاب والسنة الصحيحة. ومن زعم أن شيئًا منهما منه، فإما أن يكون مخطئًا في زعمه منه، والحق أنه ممَّا تقدم؛ وإما أن يكون مخطئًا في تأويله، وتأويله مردود عليه. وتفصيل ذلك ودفعُ ما يخالفه يحتاج إلى تطويل ليس هذا محلُّه. وكثير من الأمثلة يُتوهم فيه أنه من الضرب الثالث أو مما بعده، وردُّه إلى الأول أو الثاني يحتاج إلى فضل عناية وشفوف نظر. فمن ذلك: أن العموم والإطلاق ونحوهما من الظواهر ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يجوز إخراجها عن الظاهر إلا بدليل مقارن، لأنه لا يجوز أن يريد الشارع بالنص خلافَ ظاهره ثم لا يقيم على ذلك حجَّة مقترنة

(24/403)


به، أي لأن ذلك عندهم كذب. وذهب آخرون إلى جواز تأخير البيان عن الخطاب، ولكن لا يتأخر عن وقت الحاجة. وذكروا أنه واقع في الشرع. فإذا قلنا بالمذهب الثاني احتجنا إلى رد ما كان ذلك سبيله إلى الضرب الأول أو الثاني من أضرب المعاريض. وظهر لي أنه يمكن ردُّه إلى الثاني، وبيَّنتُ وجه ذلك لبعض طلبة العلم، ووجدتهم اقتنعوا به. وأما الاعتقاديات، فقد تكلَّمتُ عليها في موضع آخر (1) (2). _________ (1) انظر "القائد إلى تصحيح العقائد- التنكيل". (2) مجموع [4786].

(24/404)


التعليم والحكمة (1) العلم والحكمة أخوان لا يختلفان، لكن معارف الناس وطباعهم وأهواءهم تختلف، فيؤدّي ذلك إلى اختلاف التعليم والحكمة. مثال ذلك: أنّ النّصوص الشرعية منها ما يورث سعة الرجاء في رحمة الله تعالى ومغفرته، ومنها ما يورث شدة الخوف منه عزَّ وجلَّ وخشيته، ولا ريب أنَّها كلها حقّ. وأن معرفة الأمر على حقيقته هو حقيقة العلم، وأن الإنسان لو أحاط بذلك وأعطى كلًّا من الجانبين حقّه لكان قائمًا بين الرجاء والخوف، وذلك هو مقتضى الحكمة. لكن الإنسان قد يعلم شيئًا مما يورث الرجاء، ويجهل ما يقابله أو يغفل عنه، ويكون طبعه وهواه الميل إلى الرجاء، فيميل إليه حتى يتعدّى الحد، فيُخشى عليه أن يقع في الأمن من مكر الله عز وجل. وقد يعلم شيئًا مما يورث الخوف والخشية، ويجهل ما يقابله أو يغفل عنه، ويكون طبعه يميل إلى ضعف الرجاء، فيميل إليه حتى يتعدّى الحدّ، فيُخشى عليه أن يقع في اليأس والقنوط من رحمة الله عزَّ وجلَّ. وكلا الأمرين ــ أعني الأمن من مكر الله عز وجل، واليأس من رحمته ــ _________ (1) هذا المبحث كان في صدر رسالةٍ عزم الشيخ على تأليفها تعقُّبًا على الشيخ محمد حامد الفقي في بعض تعليقاته على رسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية، أثنى على الشيخ الفقي فيها لكنه بيَّن أنه لم يوفَّق في التعليق لا من جهة بيان ما في نفس الأمر، ولا من جهة الحكمة والنصيحة. ولكن لم نقف إلا على صدر هذه الرسالة، فأثبتنا منها هذا المبحث هنا لأهميته.

(24/405)


مهلكٌ. وقد يؤديان إلى نتيجة واحدة، وهي الاسترسال في الفجور. أما الأمن فواضح. وأما اليأس، فيقول اليائس: أما الآخرة فلا حظّ لي فيها إلّا النّار، فلماذا أجمع على نفسي مع ذلك تعذيبها في الدنيا بتحمُّل مشاقِّ الطاعات واتقاء الشهوات؟ فإن لم يؤديا إلى هذا، فلابدّ أن يؤديا إلى الجهل بالله عزَّ وجلَّ. أما الأمن فجهلٌ بحكم الله عزَّ وجلَّ وعدله، وأما اليأس فجهلٌ برحمة الله عزَّ وجلَّ وفضله. فإذا عمد العالِم إلى أُناس مائلين إلى ما يقرب من الأمن فتلا عليهم النصوص المورثة للرجاء، أو إلى أُناسٍ مائلين إلى ما يقرب من اليأس فتلا عليهم النصوص المورثة للخوف والخشية= فالنصوص حقّ ومعرفتُها عِلم، ولكن التعليم مخالف للحكمة كما لا يخفى، لأن من شأنه أن يزيد الأولين قربًا من الأمن من مكر الله عزَّ وجلَّ، ويزيد الآخرين قربًا من اليأس من رحمته. فمن لم يُراعِ في التعليم إلا بيانَ العلم أوشك أن يقع في مثل هذا مما هو مخالف للحكمة، بل ولحقيقة العلم؛ فإن حقيقة العلم هنا إنما هي ما يُوقِف الإنسان بين الرجاء والخوف. فمن هنا اقتضت الحكمة أن يُراعَى في التعليم حال المخاطبين، وبذلك نزل القرآن. فمن الآيات ما روعي فيها الجانبان كقوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49 - 50].

(24/406)


ومنه ما كان ينزل بحسب أحوال الناس، إذا مالوا إلى شدة الرجاء نزلت آية مخوّفة، وإذا مالوا إلى شدة الخوف نزلت آية مبشّرة. وعلى حسب هذا كان تعليم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وجرى عليه حكماء العلماء. فقد ورد حديث في أنّ امرأة دخلت النار في جزاء هرَّة (1)، وجاء حديث في أن بغيًّا من بغايا بني إسرائيل غُفِرَ لها في كلب سقته (2). فكان الزهريّ إذا روى أحد هذين الحديثين روى الآخر معه (3). وكان أمير المؤمنين علي عليه السلام في محاربته لأهل الشام والخوارج يُظهِر مساوئهم، فلما سمع بعضَ أصحابه يظن كفرَهم نفى عنهم الكفر والنفاق، وقال: "إخواننا بغوا علينا" (4). ولما خرجت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى البصرة، كان علي وأصحابه يسكتون عن الثناء عليها، فلما خشي عمار ــ وكان من أصحاب _________ (1) أخرجه البخاري (2365)، ومسلم (2242) من حديث ابن عمر. وأخرجه مسلم (2243) من حديث أبي هريرة أيضًا. (2) أخرجه البخاري (3321) ومسلم (2245) من حديث أبي هريرة. (3) الحديثان اللذان رواهما الزهري معًا هما حديث "دخلت امرأة النار في هرَّة" وحديث الرجل الذي أمر نبيه أن يحرقوه إذا مات ويذروه في الريح. ثم قال الزهري: "ذلك أن لا يتَّكل رجلٌ، ولا ييأس رجل". أخرجه أحمد (7647 - 7648) ومسلم (2756). (4) أخرجه ابن أبي شيبة (38938) من قول علي في الخوارج بإسناد صحيح. وأخرجه (38759) من قوله في أهل الجمل بإسناد مُرسل.

(24/407)


علي ــ أن يكون في ظاهر حاله أو كلامه ما يوهم انتقاص عائشة قال: "والله إنّا لنعلم أنّها لزوجة نبيّكم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها"، ومع هذا ضرَّتْه هذه الكلمة؛ فإن أهل البصرة أجابوا بقولهم: "فنحن مع الذي شهدتَ له بالجنة يا عمّار" (1). وأمثلة هذه القاعدة لا تحصى، وسيأتي بعضها. _________ (1) قول عمّار أخرجه البخاري (3772)، وأما إجابة أهل البصرة فأخرجه الطبري في "تاريخه" (3/ 27) بإسناد واه.

(24/408)


[قانون لتعليم علم النحو] علم النحو لا شكَّ مفتاح لكلِّ علْم، ومَن عرفه كان لها (1) سِلْم، وهو مصباح الفهْم، وحجاب عن الوهْم، وهيهات أن يهتدي إلى [إتقانه] (2) مَن لم يعرفه إلا بعسر وشدَّة. ولما كان هذا العلم صعبَ التعلُّم في ابتدائه لأنه كما كان آلةً لغيره فهو كذلك آلةٌ لفهم عباراته وإدراك إشاراته، فربما حاول تعلُّمَه المتعلم مع عدم بصيرة المعلم فيستصعبه، وقد يتركه ولاسيما إن كان المعلّم مهذارًا يلقي إلى المتعلم فوق ما يحمله ذهنه= فأحببت أن أضع قانونًا لطيفًا ليُقتدى به في التعليم. وأرجو أن يتلقَّى بالقبول والتسليم. فأقول: أولًا يلزم المعلِّم أن يعرِّف المتعلم مباديَه حتى يتصوَّرها فيفهم حينئذ ما سيُلقى إليه ويكون على بصيرة في التعلُّم، فيفهِّمَه حدَّه وفائدته ونحوها. ثم يشرع فيه فيبدأ أولًا بأن يعرّفه ما الاسم، وما الفعل، وما الحرف، وأن الكلام ينحصر فيها، ويقرِّبَ له حقيقة كلٍّ منها وبعض علاماته التي يسهل عليه تناولها بعبارة سهلة بتلطُّف وتعطف. وليعرِّفْه بلسان عامته، وأن هذه العلامة هي التي تبدل بلسان العامة كذا، مثل "قد" أبدلت [ ... ] (3)، والسين _________ (1) كذا في الأصل، ولعل الضمير يرجع إلى العلوم. (2) تمزق في طرف الورقة أتى على الكلمة، ولعلها ما قدَّرناها. (3) طمس في الأصل.

(24/409)


[ ... ]. ثم الفرق بين الأفعال الثلاثة، ثم يبيِّن له الفرق بين الفعل والفاعل والمفعول، وأن الفعل يحتاج إلى فاعل وبعضه يحتاج إلى مفعول. ثم أن الإعراب يكون بالحركات الثلاث والسكون. وقد تُوقف الكلمة على السكون لا على أنه إعراب، وأنها قد تجيء أشياء [أُخَر] تنوب عن الحركات. ثم يشرع في الفاعل، فإنه أقرب مأخذًا من غيره، فيمثِّل له بالأسماء المفردة المعربة، ثم المفعول كذلك، ثم نائب الفاعل فيعرفه أيضًا [بعبارة] (1) سهلة. ثم يشرع في المقصور والمنقوص، ثم في الأفعال الخمسة والأسماء الستة، ثم في التثنية، ثم في الجَمْعين (2)، ثم في المبتدأ وخبره، ثم في حروف الجر، ثم حروف النصب، ثم حروف الجزم، ثم في النواسخ. ولا يبهته بجميع شروط الناسخ ونحوه، بل بالتدريج لئلَّا يسأم. ولا يغضبُ عليه بل يلين له ويخفف عليه. ولا يذكر له خلافًا ونحوه، فإنه لا يليق به. ثم يبيّن له المعرفة من النكرة، ثم غير المنصرف، ثم المفاعيل والحال والتمييز وغيرها من الأبواب. ولا يُطِلْ عليه في التفصيل، فقد قيل: كثرة التفصيل تمنع التحصيل. وهو مع ذلك يعاوده مذاكرة الأبواب الأُوَل، وإلَّا ضيَّعَها كمن يصبُّ _________ (1) رسم في الأصل [برا] ولعل المثبت هو المقصود. (2) أي جمع المذكر السالم وجمع المؤنث السالم.

(24/410)


ماء في إناءٍ ضيِّق الفم، فإنه إن صبَّ وعاجل انسدَّ الفم بالماء وخرج الماء، وإن صبَّه في إناء مكسور فإنه كلَّما صبَّ خرج الماء، فلا يحصل على شيء. ومثل المحارب إذا أراد أن يُدوِّخ أرضًا فإنه يبتدئ من أولها فكلَّما دخل قرية شيَّدها وحصَّنها ويعاودها في الانتباه حتَّى يأتي على آخر البلد وقد صارت في قبضته، وإلا ذهب عمله سُدًى. يُرجع (1) المسائل العويصة التي فيها الحذف والتقدير والمتشابه لوقتها. وكل مسألة تتوقف على درايةِ غيرها فليتركْها إلى انقضاء ذلك الغير. وبالجملة فالكون مبني على التدريج. والله أعلم (2). _________ (1) كذا، ولعل الأنسب: "يُرْجِي". (2) مجموع [4708].

(24/411)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [مقدمة في فن المنطق] المقدمة: المنطق آلة قانونية تعصم مراعاتُها الذهنَ عن الخطأ في الفكر. ومنه بديهي ومنه نظري. والفكر هو ترتيب أمور معلومة للتأدِّي إلى مجهول، وذلك الترتيب قد يخطئ. والعلم هو الحضور الذهني مطلقًا، فإن قارنه حكم فالتصديق، وإلا فالتصور. وكلٌّ منهما إما بديهي وإما نظري. وموضوع المنطلق هو المعلومات التصورية والتصديقية. والموصل إلى التصور: قول شارح. والموصل إلى التصديق: حجَّة. المقالة الأولى: دلالة اللفظ على المعنى بتوسط الوضع له: مطابقة، كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق. وبتوسطه لما دخل فيه ذلك المعنى: تضمُّن، كدلالته على الحيوان، وعلى الناطق فقط. وبتوسطه لما خرج عنه: التزامٌ، كدلالته على قابل العلم وصنعة الكتابة.

(24/412)


وشرط الثالثة كون الخارج بحال يلزم من تصوّر المسمَّى في الذهن تصوُّره، لا كونه بحال يلزم من تحقُّق المسمى في الخارج تحقُّقُه فيه. والمطابقة لا تستلزم التضمُّن كما في البسائط. واستلزامها ــ وكذا التضمُّن ــ الالتزامَ غير متيقَّن. وأما التضمن والالتزام فإنه معًا يستلزمان الوضع المستلزم للمطابقة، فهما يستلزمانها قطعًا. والدالُّ مطابقةً إن قُصد بجزئه الدلالةُ على جزء معناه فهو المركب كـ"رامي الحجارة"، وإلا فهو المفرد. فلابد في المركب أن يكون لِلَّفظِ جزءٌ (1) له دلالة على معنى (2) هو جزء المعنى المقصود (3) من اللفظ دلالةً مقصودةً (4). فكل من همزة الاستفهام ولفظ "زيد" ولفظ "عبد الله" ولفظ "الحيوان الناطق" اسمًا لإنسان= كل منها مفرد. والمفرد إن لم يصلح لأن يُخبر به وحده، فهو الأداة كـ "في" و"لا". وإن صلح لذلك، فإن دل بهيئته على زمان معين من الأزمنة الثلاثة فهو الكلمة (5)، وإن لم يدل فهو الاسم. _________ (1) يخرج عنه البسائط، كهمزة الاستفهام. [المؤلف]. (2) يخرج نحو "زيد". [المؤلف]. (3) يخرج نحو "عبد الله" فإن كلا لفظيه لا يدلُّ على جزء معناه المقصود. [المؤلف]. (4) يخرج نحو ما إذا سمِّي إنسان بـ "الحيوان الناطق" فدلالة كل من لفظيه على جزء معناه المقصود من اللفظ غير مقصودة. [المؤلف]. (5) كذا، على اصطلاح أهل المنطق الأرسطي.

(24/413)


والاسم إما أن يكون معناه واحدًا أو كثيرًا. فإن كان الأول؛ فإنْ تشخَّصَ ذلك المعنى سمِّي "علمًا"، وإلا فـ"متواطئًا" إن استوت أفراده الذهنية والخارجية فيه، كالإنسان والشمس، و"مشكِّكًا" إن كان حصوله في البعض أولى وأقدم وأشدَّ من الآخر، كالوجود بالنسبة إلى الواجب والممكن. وإن كان الثاني، فإن كان وضعه لتلك المعاني على السوية فهو "المُشترَك"، كالعين. وإن لم يكن كذلك بل وُضع لأحدهما أوَّلًا ثم نُقل إلى الثاني، وحينئذ (1) إن تُرك موضوعه الأوَّل يسمَّى لفظًا منقولًا عُرفيًّا إن كان الناقل هو العرف العام كـ"الدابَّة"؛ وشرعيًّا إن كان الناقل هو الشرع كـ"الصلاة" و"الصوم"؛ واصطلاحيًّا إن كان هو العرف الخاص كاصطلاح النحاة والنظَّار. وإن لم [يُترك] موضوعه الأول يُسمَّى بالنسبة إلى المنقول عنه: حقيقةً، وبالنسبة إلى المنقول إليه مجازًا، كالأسد بالنسبة إلى الحيوان المفترس وإلى الرجل الشجاع. وكل لفظ فهو بالنسبة إلى لفظ آخر: مرادف له إن توافقا في المعنى، وإلَّا فمُبايِن. وأما المركب فهو إما تام ــ وهو الذي يصح السكوت عليه ــ، أو غير تام. والتام إن احتمل الصدق والكذب فهو الخبر والقضية، وإن لم يحتمل _________ (1) كتبها المؤلف "ح" اختصارًا.

(24/414)


فهو الإنشاء. فإن دل على طلب الفعل دلالة أولية، أي وضعية، فهو مع الاستعلاء: أمرٌ، ومع الخضوع: سؤالٌ ودعاءٌ، ومع التساوي: إلتماسٌ. وإن لم يدل، فهو بنيَّته يندرج فيه التمنّي والترجِّي والتعجب والقسم والنداء. وأما غير التام فهو إما تقييدي كالحيوان الناطق، وإما غير تقييدي كالمركب من اسم وأداة، أو كلمة وأداة. وقد يقال: الإنشاء إذا دلَّ على طلب الفعل دلالةً وضعية، فإما أن يكون المقصود حصولَ شيء في الذهن من حيث هو حصول شيء فيه فهو الاستفهام. وإما أن يكون المقصود حصول شيء في الخارج أو عدم حصوله فيه؛ فالأول مع الاستعلاء: أمر، والثاني مع الاستعلاء: نهيٌ، وكلاهما مع المساواة: التماس، ومع الخضوع: سؤال. الفصل الثاني (1) _________ (1) هنا توقف قلم الشيخ. مجموع [4708].

(24/415)


[تأمّلات في بعض المقادير الشرعية] شيء ... نصف شيء ... لا شيء 1 - مهر مطلقة بعد الدخول ... مهر مطلقة قبله ... مهر مفسوخة بعيبها قبله 2 - حدُّ الحر البالغ العاقل ... حد العبد البالغ العاقل ... حدُّ الصبي والمجنون 3 - ديَّة الحر المسلم ... ديَّة الحرَّة المسلمة ... دية الحربي 4 - كلٌّ من العصبة الذكور إذا انفرد ... إن كان معه مثله ... إذا تعلق به مانع 5 - العُشْر في النصاب السقي بلا كلفة ... نصف العشر في سقي بكلفة ... ما لم يبلغ نصابًا 6 - عِدَّة الحرة المدخول بها ... عِدَّة الأَمة المدخول بها ... عدة كل منهما قبل الدخول 7 - أجر المتنفل قائمًا ... أجر المتنفل قاعدًا مع القدرة ... أجر المرائي ونحوه 8 - عقول العلماء ... عقول المتعلمين ... عقول غيرهم قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: ... 9 - "كن عالمًا ... أو متعلِّمًا ... ولا تكن الثالث فتهلك" (1) 10 - نفقة الموسر للمطيعة ... نفقة المعسر لها ... نفقة الناشزة (2) _________ (1) لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما صحَّ نحوه عن بعض السلف. انظر "جامع بيان العلم وفضله" (1/ 140 - 148)، و"المقاصد الحسنة" (ص 68). (2) مجموع [4708].

(24/416)


[دفع طعن السيد العلوي في شيخ الإسلام والاعتذار عنه في ردّه لبعض الأحاديث التي يراها غيره أنها صحيحة] (416) (1) عن ابن تيمية: "وإنما يصح الاعتذار عنه بذلك لو كان يقول فيما لم يعلمه ولم يستحضره: "لم أطلع عليه ولا علم لي به" أو نحو ذلك. كلَّا إنه لا يرضى لنفسه بذلك ولا يجد من الورع ما يحمله على التحرِّي، بل يدَّعي اتفاق أهل العلم على وضع أحاديث صحيحة مروية في السنن وكتب الحديث ... " إلخ أقول: ابن تيمية إمام من أئمة المسلمين، وعلمه بالكتاب والسنة أعرف مِن أن يُعرَّف. وكل ما انتُقد عليه، له فيه أعذار مقبولة؛ الأول أن تلك الأحاديث التي يردّها قد يكون اطّلع فيها على علل قادحة، ورأى أن الكلام فيها يطول أو يوهم فاكتفى بردّها (2)، ومن العلل أن يكون في رواتها بعض أهل الأهواء وهي موافِقَة لأهوائهم، فهم متَّهمون فيها وإن كانوا في أنفسهم ثقات، ولو لم يكن إلا التدليس وإن لم يُعرفوا به، وقد قال السيد نفسه في موضع من كتابه في (ص 428): "وقد ألغى الشرع شهادة المتَّهمين" على أن هذا ليس على إطلاقه، بل لا بد معه من قرائن يعرفها أهلها. وقد اعترف السيد في موضع آخر من كتابه أن علم العلل خاص. وقال العلماء: إنه يكاد _________ (1) نقلٌ لكلام السيد علوي من كتاب له (ص 416 ج 2). (2) علق عليه الشيخ بقوله: "بل قال الإمام النووي في تقريبه ما لفظه ممزوجًا بشرحه (1/ 295) للسيوطي: والعلة [عبارة عن سبب غامض خفي قادح في الحديث مع أن الظاهر السلامة منه] ".

(24/417)


يكون ذوقيًّا لا تؤدِّيه العبارة، وإنما يحصل بكثرة الممارسة والمزاولة، وابن تيمية معروف بذلك، ولا بِدْعَ أن تقوم لديه علل (1). * * * * [حول شدّة التعصّب المذهبي لدى الحنفية] حكى الحنفية عن داود الظاهري أنه كان يناظرهم ببغداد في بيع أمِّ الولد، فيقول: أجمعْنا على أنها قبل الحمل يجوز بيعها، فنحن على ذلك حتى يثبت ما يمنعه. حتى جاء بعض أكابرهم (2) فقال له: لمَّا كانت حاملًا كنَّا مجمعين على منع بيعها، فنحن على ذلك حتى يثبت ما يجيزه. هذا معنى ما نقلوه وتبجَّحوا به، وأساءوا الكلام في داود رحمه الله. ولا يخفى ما في جواب صاحبهم من الضعف، فإن لداود أن يقول: إنما وافقناكم على منع بيعها حين حملها لمعنًى عارض قد زال قطعًا بالاتفاق، فلا يلزمنا استصحابُ حكمٍ مبنيٍّ على سبب قد زال قطعًا، بخلاف الاستصحاب الذي احتجَّ به داود؛ فإنه مبنيٌّ على سبب لم يثبت زواله أعني الرقِّيَّة. بل أنتم معترفون ببقاء السبب في الجملة. _________ (1) مجموع [4657]. (2) هو أحمد بن الحسين أبو سعيد البردعي (ت 317). ترجمته ومناظرته مع داود في "الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية": (1/ 163 - 166). وانظر "فتح القدير" لابن الهمام (5/ 33).

(24/418)


ويمكن أن يورد الاستدلال بطريق أخرى فيقال في أمِّ الولد التي قد مات سيِّدها: أجمَعْنا أنها كانت أمَةً مملوكة، فنحن على ذلك حتَّى يثبت خلافه. وأيضًا: بعد الولادة وقبل موت السيِّد كنا مجمعين على أن أحكامها غيرَ البيع ونحوه أحكامُ الأَمَة، فنحن على ذلك بعد موت السيد حتى يثبت خلافه. إلى غير ذلك من الوجوه. والحنفية ـــ غفر الله لنا ولهم ـــ يشنِّعون على كل من ضعَّف قولًا من أقوال أبي حنيفة رحمه الله. ولا تكاد تجد عالمًا من علمائهم إلا وهو يطعن في غيره من الأئمة لا بتضعيف الأقوال فقط ــ فإن تضعيف قول العالم لا يلزم منه الطعن عليه ولا إساءة الأدب في حقّه ولا انتهاك حُرْمته، وهؤلاء الأئمة أنفسهم وأبو حنيفة نفسه قد ضعَّفوا أقوالًا من أقوال أئمة الصحابة والتابعين، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم ــ بل بالطعن والتجهيل والتحقير كما صنع الجصَّاص في "أحكام القرآن" (1) عند قول الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] مع أن من ذبَّ عن أنفه خُنزُوانة _________ (1) (2/ 116 - 120) وذلك عندما نقل وعلَّق على مناظرة ذكرها الشافعي في "الأم": (6/ 398 - 406) جرت بينه وبين بعضهم في مسألة: هل الوطء زنًا يحرِّم كما يحرّم النكاح؟ وممَّا طعن به الجصَّاص على الشافعي قولُه في تعليقه على المناظرة: "فقد بان أن ما قاله الشافعي ... كلام فارغ لا معنى تحته! ".

(24/419)


التعصُّب ولو قليلًا يعلم أن الجصاص ـــ غفر الله لنا وله ـــ هو المخطئ في تفسير الآية. ولكنه مضطر إلى ذلك الخطأ؛ لأنه لو اعترف بأن النكاح في الآية هو العقد كما هو اصطلاح القرآن المطَّرد، واللائق بالقرآن كما قاله الرضي. والغالب في لغة العرب إذا أرادوا أن يعبِّروا عن المعاني المُستحيَى من ذكرها عبَّروا عنها بألفاظ موضوعة في الأصل لمعنى آخر. وعكس هذا قليل في كلامهم، وإنما يُستعمل في مقام الشتم أو الهزل، كقولهم للقوم إذا نعسوا: تنايكوا، إنما يصلح في مقام الهزل كأن يكون جماعة سامرًا أو سَفْرًا (1) فينعس كثير منهم، فيقول من لم ينعس تلك الكلمة على سبيل العيب لهم لفِعْلهم ما يخالف مقتضى الهمَّة والعزم والجدِّ في الأمر. فلو اعترف الجصَّاص بذلك لزمه أن لا يقول بحديث العسيلة (2) لأن أصله (الواهي) أن الزيادة على القرآن نسخ، وليس هذا مذهبه، فرأى أنَّ جرَّ الآية إلى جانبه ــ ولو كانت في نفسها بعيدة عنه ــ يدفع عنه هذا الإلزام، وينفعه في إثبات مذهبه أن الوطء زنًا يحرِّم. ولا يخفى أن إساءة الأدب من جانب تستدعي الإساءة من الجانب الآخر، وهكذا: _________ (1) الأصل "سفر". (2) المتفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة امرأة رفاعة. "صحيح البخاري" (2639) و"صحيح مسلم" (1432).

(24/420)


إذا شُقَّ بردٌ شق بالبرد مثلُه ... دوالَيك حتَّى كلُّنا غير لابس (1) فحبَّذا لو تمسَّك أهل العلم بالإنصاف وعرفوا للعلماء مقاديرهم، وذبَّ كل مقلِّدٍ عن إمامه بما يدفع عنه الباطل لا بما يدفع عنه الحق أو المحتمِل. على أن خطأ المجتهد ليس ذنبًا في حقِّه، فنسبته إليه لا تُشعر بإرادة الناسب نقيصته، وإلا كان أبو حنيفة ــ رحمه الله ــ وغيره من الأئمة منتقصين لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وجميع الصحابة والتابعين فمَن بعدهم، فإنه ما من أحد من الصحابة والتابعين إلا وقد خُولف في حكم من الأحكام، ومخالفتُه تخطئة له، بل وكثيرًا ما يُنسب إليهم الخطأ صريحًا. ونحن نقطع ـــ أو نكاد ـــ أنه ليس أحد من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من أهل العلم متطابق (2) مع أبي حنيفة في كلِّ قليل ودقيق حتَّى يُتصوَّر أن أبا حنيفة ــ رحمه الله ــ لم يخطِّئه. وقال صاحب "الجوهر النقي" (3) في كتاب الفرائض عند ذكر موافقة الشافعي زيد بن ثابت أنه يبعد أن يتطابق مجتهدان في [كتابٍ من العلم من أوله إلى آخره] (4). * * * * _________ (1) البيت لسُحَيم عبد بني الحسحاس في "ديوانه" (ص 16). (2) كذا في الأصل، والوجه النصب. (3) (6/ 210 - 211). (4) مجموع [4711].

(24/421)


[زعم الصوفية أن العبادة لا تنبغي لقصد الجنة] ما زعمه بعض المتصوِّفة من أن العبادة لقصد الجنَّة ناقصة وصاحبها عبد سوء= يُردُّ بأن الله عز وجل غنيٌّ عن العبد وعن خدمته، ولا تعود عليه ــ عز وجل ــ من الخدمة فائدة. وإنما أمرَنا بما أمر لننال ثواب ذلك. فلو عبدناه لئلا ننالَ ذلك لكُنَّا كأنَّنا نعتقد أن عبادتنا تفيده عز وجل، أو نعتقد أنه أمرَنا بعبادته عَبَثًا، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. وأيضا فهو الذي حثَّنا على طلب الثواب والمسابقة إليه وسؤاله منه، فترْكُنا لذلك معصية ظاهرة. وأيضًا ... (1). * * * * [سبب منع أبي بكر النفقة عن مسطح] فائدة المناسب لمقام الصدِّيق أنَّ منعه عن مسطح النفقة لم يكن غضبًا لنفسه وابنته، وإنما هو غضب لله تعالى؛ لأن قوله بالإفك معصية. ويؤيِّده أن ظاهر القصَّة أنه إنما منعه النفقة بعد براءة عائشة. والله أعلم (2). * * * * _________ (1) هنا وقف قلم الشيخ. مجموع [4711]. (2) مجموع [4716].

(24/422)


[مناظرة مع الشيخ الخضر الشنقيطي] الحمد لله. لما وصل الشيخ الخضر الشنقيطي حيدرآباد، كنتُ فيمن زاره، فجرى ذكر العلم والعلماء، فتكلَّم الشيخ الخضر بكلام في معنى فقْدِ العلماء الحقيقيِّين، وتلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] احتجاجًا على أن من لا يخشى الله تعالى فليس بعالم. فقال بعض الفضلاء ما معناه: ليس في الآية دليل على هذا، لأنها قصرت الخشية على العلماء، ولا يلزم من ذلك قصر العلماء على أهل الخشية. فسكت الشيخ عن الجواب (1). * * * * [خطَّة الشيخ لترتيب أحاديث المسند] (2) * الحمد لله. أحاديث المسند على ضربين: مفردة، وجامعة. ويعني بالمفردة: ما هو في حكم خاص. وبالجامعة: ما اشتملت على عدة أحكام. فأما المفردة؛ فنضع كلًّا منها في بابه. فإن كان يصلح لبابين، كقوله في أفضل الأعمال: "الصلاة لوقتها" عَدَدْناه في الجامعة. وأما الجامعة؛ فإن كان الجمع من جهة الراوي، قسمناها على أبوابها؛ _________ (1) مجموع [4716]. (2) هذه خطة يبدو أن الشيخ وضعها تمهيدًا لترتيب مسند الإمام أحمد على الأبواب الفقهية، ولم نقف فيما بقي من آثار الشيخ على أثر لهذا الترتيب.

(24/423)


إلاّ إن كان نحو قول الصحابي: "نهينا عن كذا، وعن كذا، وعن كذا"، فهذا النوع والذي يكون الجمع فيه في قصة واحدة، أو في كلام واحد من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نضعه في القسم الجامع. ثم إن كانت أفراد ذلك الحديث الجامع قد رُوي كلٌّ منها على حدة؛ أثبتنا الأفراد في أبوابها، ولم نثبت الجامع؛ بل رمزنا إليه بجزئه وصفحته عند كل من المفردات، كما في المكررات؛ وإلاّ فإننا نثبت الحديث الجامع في القسم الجامع، ثم نطبعه ــ إن شاء الله ــ مقدَّمًا، ثم نطبع قسم الأفراد. فإذا جئنا على باب له حظ في حديث جامع قلنا: "انظر جامع ص ... ". * الحمد لله. باب الآداب ينبغي تقسيمه؛ فما ظهر لنا أنه طِبِّيّ جعلناه في "باب الطب"، وما كان في الأطعمة والأشربة ألحقناه ببابها، وما كان في اللِّباس ألحقناه ببابه، وهكذا إن شاء الله. ما كان من باب التفسير يظهر منه حكم؛ نجعله من الجامعة. الحمد لله. ابتداء مراعاة زوائد المسند من (ص 118). فما كان "عبد الله حدثني أبي" لم نبال بانقطاع سنده. فما كان من الزوائد حافظنا على رواة السند إن شاء الله تعالى. باب (144 - عدد 8). "ق": إشارة إلى ــ قرأت على أبي ــ (1). _________ (1) مجموع [4717].

(24/424)


[منهج وضعه الشيخ لتأليف كتاب في التفسير] بسم الله الرحمن الرحيم - القراءات: (عن تفسير الآلوسي). أقتصرُ على ما كان له علاقة بالمعنى، فلا أتعرّض للخلاف في الهمزة ونحوه. - اللغة والتصريف والاشتقاق: (عن الراغب، وابن الأثير، واللسان، والقاموس مع شرحه، ونحوها، مع التفاسير). وأقتصر على ماله [علاقة] بالمعنى. - النحو: (أعاريب القرآن للسّمين، وغيره، مع التفاسير). أقتصر على ما فيه غموض. - البلاغة: (الكشاف، وغيره، مع مراجعة كتب البلاغة). - أسباب النزول: (السيوطي، وغيره، والتفاسير). - المعنى: وفيه الناسخ والمنسوخ، وذكر الأحاديث المبيّنة للآية، وما جاء من القصص ممّا كان إسناده قويًّا، مع بيان ذلك بالأسانيد. أقتصر على نقل الأقوال التي لها محلّ من النظر (1). * * * * _________ (1) مجموع [4718].

(24/425)


[سرّ صيغة الجمع في السلام وجواب التشميت] في الحديث أن العاطس إذا حمد الله، يقال له: "يرحمك الله"، فيجيب: "يهديكم الله ويصلح بالكم" (1). وفي حديث تعليم السلام؛ أن يقول: "السلام عليكم"، فيجاب: "وعليكم السلام" (2). فما سرّ الإفراد في "يرحمك الله"، والجمع في البواقي؟ مع أن المترحِّم والمسلِّم والمسلَّم عليه قد يكون واحدًا؟ قد كان ظهر لي أن السرّ في جمع "يهديكم الله" الإشارةُ إلى أنه ينبغي أن يَترحمّ على العاطس كلُّ من سمعه، ثم رأيت أن هذا لا يكفي، لأنه على ذلك ينبغي إذا كان المترحِّم واحدًا أن يقال: "يهديك". وكذا في السلام. ثم تبيَّن لي سحر ليلة الجمعة 29 رمضان سنة 1356 أن السرّ هو أن الترحُّم يقع من الإنس وحاضري الملائكة ومؤمني الجنّ، فلذلك ينبغي أن يجاب بالجمع "يهديكم الله ويصلح بالكم"، وإن كان الإنسان المترحِّم واحدًا؛ لأن معه مَنْ ذُكِر. فأمّا العاطس، فلا يمكن أن (3) يقال: إذا عطس، عطس معه الحاضرون من الملائكة ومؤمني الجن. _________ (1) "صحيح البخاري" (6224) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) أخرجه أحمد (12612)، وابن حبان (845) من حديث أنسٍ رضي الله عنه. (3) في الأصل: "أنه" ولعله سبق قلم.

(24/426)


وأمّا السلام، فإن القادم يسلّم على الجالس ومَن معه من الملائكة ومؤمني الجنّ؛ فلذلك ورد بلفظ الجمع. وكذا جوابه؛ لأن سلامه يكون عنه وعمّن معه من الملائكة ومؤمني الجنّ، فيكون الجواب بالجمع. ثمّ السلامُ معناه الدعاء بالسلامة، ويلزمه الوعد بسلامة المسلَّم عليه من المسلِّم. فعلى هذا، إذا سلمتَ على أحدٍ أو رددتَ عليه السلام [ثم آذيته] (1)، فقد أخلفت وعدك. وكأنه إلى هذا يشير حديث الأمر بالسلام عند القيام، وفيه: "فليست الأُولى بأَولى من الثانية" (2). أي ــ والله أعلم ــ: فإن الإيذاء كما يمكن في الحضور يمكن في الغَيبة، بل لعله في الغَيبة أكثر. وكأنّ حديث: "أولا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم" (3) يشير إلى هذا؛ فإن المحبة إنما تتمّ بوعد كل إنسانٍ من المسلمين _________ (1) زيادة لابدّ منها. (2) أخرجه أحمد (7852، 9664)، والبخاري في "الأدب المفرد" (986)، وأبو داود (5208)، والترمذي (2706) وحسَّنه، وابن حبان (493 - 496) من حديث أبي هريرة ولفظه: "إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليُسلِّم، فإذا أراد أن يقوم فليُسلِّم فليست الأولى بأحق من الآخرة". (3) "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة (54).

(24/427)


صاحبه أن لا يؤذيه، ثم وفائِه بالوعد، فلا يؤذيه ولا يغتابه ولا ينمّ عليه، ولا إليه. والله أعلم (1). * * * * [كشف تحريف لأحد الجهلة في نسخة من "حلية الأولياء"] [حلية الأولياء: حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي بن أحمد بن مخلد، ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، ثنا عبادة بن زياد، ثنا يحيى بن العلاء، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: يا محمد اعرض علي الإسلام، فقال: "تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله"، قال: تسألني عليه أجرا؟ قال: "لا، إلا المودة في القربى" قال: قرباي أو قرباك؟ قال: "قرباي". قال: هات أبايعك، فعلى من لا يحبك ولا يحب قرباك لعنة الله، قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: "آمين". هذا حديث صحيح (2) من حديث جعفر بن محمد، لم نكتبه إلا من حديث يحيى بن العلاء.] قوله: "صحيح"، راجعت الأصل المنقول منه هذه النسخة، فإذا هذه الكلمة مكتوبة على حكٍّ، فظهر أنه في الكتابة الأولى كُتبت مكانها كلمةٌ أخرى ثمَّ حُكَّت وكُتبت هذه الكلمة: "صحيح". وعند مقابلة الكلمة الموجودة بخط كاتب الأصل يتبيَّن أنَّها بغير خطِّه. _________ (1) مجموع [4718]. (2) هكذا في النسخة التي يتكلَّم عليها الشيخ، وفي المطبوع على الصواب: "هذا حديث غريب".

(24/428)


ولا شكَّ أنَّ كلمة "صحيح" غير صحيحة هنا؛ فإنَّ في السند يحيى بن العلاء، وهو البجلي، متَّفق على ضعفه. بل قال الإمام أحمد فيه: كذَّاب يضع الحديث. انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" و"الميزان". وفيه أيضًا عبادة بن زياد، وهو عبَّاد (ويقال: عبادة كما في "التهذيب") بن زياد بن موسى الأسدي الساجي، وفيه نظر. وقد قال ابن عديٍّ فيه: هو من أهل الكوفة الغالين في التشيُّع، له أحاديث منكرة في الفضائل. وفي السند أيضًا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، وفيه مقال. فإن قيل: يحتمل أنه صحَّ عند المصنف من طريق أخرى. قلت: هذا باطل لقوله في آخره: "لم نكتبه إلا من حديث يحيى بن العلاء". فالحاصل أن كلمة "صحيح" لا محلَّ لها؛ والصواب: "غريب". وكاتب الأمِّ، وإن كان زيديًّا، إلا أنه عالم جليل ليس محلًّا للتهمة. وقد بينَّا فيما تقدَّم براءته، فتعيَّن أن يكون الحكُّ والتغيير من فعل بعض الجهلة من الزيدية؛ لمَّا رأى في الحديث فضلًا لأهل بيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ظنَّ أن الحديث لا بد وأن يكون صحيحًا أو نحو ذلك. والله أعلم (1). * * * * _________ (1) مجموع [4718].

(24/429)


[بحث في معنى الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وآله] {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. الصلاة في الأصل: الدعاء. ولكنها أُطلقت حقيقةً شرعيةً في ذات الركوع والسجود. وأطلقت أيضًا حقيقة شرعية ــ وإن كانت أقل من الأولى ــ في ذكر صيغة دعاء تتضمن لفظ الصلاة أو الرحمة. فقوله في الآية: {يُصَلُّونَ} من هذا الثالث، وهو ذكر صيغة تتضمن لفظ الصلاة أو الرحمة؛ احتمالان. ولكنّها من الله عز وجل على سبيل الثناء، ومن الخلق على سبيل الدعاء. على أنّه لا مانع من إطلاق أنها من الله عز وجل على سبيل الدعاء من نفسه لنفسه تعالى. والله أعلم. وقال السّنْدي في حاشيته (1): "قوله "كما صليت" قد اعترض بأنّ الصلاة المطلوبة له - صلى الله عليه وآله وسلم - ينبغي أن تكون على حسب منصبه وجاهه عند الله تعالى. ومنصبه أعلى، فكيف (تطلب) (2) له الصلاة المشبهة بصلاة إبراهيم، _________ (1) (3/ 178). (2) هذه الزيادة زادها الشيخ بين القوسين ليستقيم الكلام.

(24/430)


مع أنّ صلاة إبراهيم على حسب منصبه صلوات الله وسلامه عليهما؟ وأجيب: بأنّ وجه الشبه هاهنا هو كون صلاة كلٍّ أفضل من صلاة من تقدم ... وقد يُجاب بأن التشبيه في اشتراك الآل معه في الصلاة. أي: صلِّ صلاة مشتركة بينه وبين أهل بيته كما صليت على إبراهيم كذلك. فكأنّه - صلى الله عليه وآله وسلم - نظر إلى أنّ صلاة الله تعالى [عليه] دائمًا لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} بصيغة المضارع. وقد تقرّر أنّها تفيد الدوام والاستمرار، فالأفيد أنّ المؤمنين يطلبون اشتراك أهل بيته معه في الصلاة، فعلَّمهم هذه الكيفية، ليفيد دعاؤهم فائدة جديدة، وإلا فيصير دعاؤهم كتحصيل الحاصل. والله تعالى أعلم" اهـ سندي. وأقول: إنّ هذا الرجل ــ أعني السندي ــ ذو ذكاء مفرط كما يظهر من حواشيه، ولكن هذا المقام مزلَّة أقدام، ومضلَّة أفهام. فأقول: أوّلاً: إنّني لا أقول بتفضيل أحد من الأنبياء على نبينا صلى الله عليهم جميعًا وآلهم وسلم. ولكن قد أثبتنا في بحث مستقل (1) أنّنا منهيُّون عن التخيير بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذا الاستشكال ناشئ عنه كما لا يخفى. والتخيير المنهي عنه هو أن نقول أو نكتب، فأمّا أن يعتقد أحدنا شيئًا من _________ (1) تقدم في الفوائد الحديثية (ص 136) بحث في هذا المعنى في التعليق على حديث: "لا ينبغي لعبدٍ أن يقول: إنه خير من يونس بن متَّى" وإن أراد مبحثًا مستقلًا فلم نقف عليه.

(24/431)


ذلك بمقتضى ما ثبت له من الأدلة، فلا منع منه. ولكنّنا مع هذا لا نخلي الآية والصلاة من البحث. فأقول: إنَّ نصَّ الآية: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}. و (يصلون) بصيغة المضارع، وصيغةُ المضارع من حيث هي لا تفيد دوامًا ولا استمرارًا، كما عليه المحققون، وأدلته غنية عن البيان. ولكن قد تفيد ذلك بمعونة القرائن. والقرائن هاهنا إنّما تفيد نحو ما يفيده قولك: إنّ زيدًا يزورنا. أي أنّ ذلك في حكم العادة له، بحيث لا يقطعها مدة طويلة تُعَدّ في العرف قطعًا للعادة. ومنه قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ليس المعنى أنّهم لا يفترون عن الإنفاق طرفة عين، كما لا يخفى، وإنّما المعنى أنّ الإنفاق عادة لهم. ثم قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. وقد تقرّر أنّ صلاتنا عليه هي الدعاء له بالصلاة، ولا يلزم من ذلك تحصيل حاصل؛ لِما تقدم أنّ أوّل الآية لا يدل على استمرار الصلاة منه عز وجل بحيث تستحيل الزيادة. وأمّا الصلاة الإبراهيمية الواردة في الحديث ففيها مباحث: الأول: أنّ فيها ذكر الآل، وليس في الآية، فدلّ أنّ ذكر الآل عَلِمه - صلى الله عليه وآله وسلم - من دليلٍ آخر. الثاني: قوله "كما صليت"؛ الكاف إمّا تعليلية، وإمّا تشبيهية.

(24/432)


فإن كانت تعليلية، فلا محلّ للاستشكال، وكأنّنا نقول: اللهم إنّك قد صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، ولأجل ذلك نطلب منك أن تصلِّي على محمد وعلى آل محمد، لأنّ كلًّا منهما نبيّك وخليلك. والكاف كثيرًا ما تجيء للتعليل، ولاسيَّما مع (ما) كما حقّقه ابن هشام في "المغني" (1)، فراجعْه إن أردت. ومنه في القرآن قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ (2) كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]. ومثال هذا قولك للملك: كما ولَّيتَ فلانًا فولِّني، وكما أنعمت عليه فأَنعِمْ عليّ؛ فإن علّة التولية والإنعام، وهي الاستحقاق الموجود فيه، موجود فيَّ أيضًا. وإن كانت تشبيهية، وهو المشهور، فيحتمل أن يكون المراد التشبيه في مُطلق الصلاة، لا في صفتها ومقدارها، مثل قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} [المزمل: 15]. وقوله عز وجل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163]. وفائدة هذا التشبيه ذكر نظير يعتبر به. ومنه قولك للمَلِك: أنفِق الأموال كما كان أبوك يُنفقها. وتقول للحاكم: لا ترتشِ كما كان فلان يرتش. _________ (1) (1/ 192). (2) في الأصل: (وأهوائهم) سهو.

(24/433)


قال سعيد بن المسيب لغلامه: لا تكذب عليَّ كما يكذب عكرمة على ابن عباس (1). ويحتمل أن يكون التشبيه في المقدار. ولا يلزم منه أفضلية ولا مساواة. فلو أنّ ملكًا أمرك أن تسأله حاجة، فقلتَ له: أعطني كما أعطيت فلانًا؛ لم يلزم من هذا أنّك تعتقد مساواته لك، وإنّما أردت بيان المقدار. على أنّه لو فرض إشعار ذلك بالمساواة، فلا بدع؛ فقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: "نحن أحقُّ بالشكّ من إبراهيم" (2). وقال له رجل: يا خير البرية. فقال: "ذاك إبراهيم" (3). إلى غير ذلك مما بينّاه في مبحث التفضيل بين الأنبياء عليهم وآلهم الصلاة والسلام (4). وأبلغ من هذا: تأدب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حين أراد أن يربط الشيطان الذي تفلَّت عليه في الصلاة حتى يراه الناس، ثم ذكر دعوة أخيه سليمان: رب {هَبْ لِي (5) مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35]، فترك ذلك تأدبًا مع سليمان ــ عليه السلام ــ، مع أنّ ربط الشيطان إنّما هو شيء يسير من ملك سليمان، لا يلزم منه مخالفة لدعوته، كما هو ظاهر، ولكنّه - صلى الله عليه وآله وسلم - رأى أنّ مثل هذا ربما يكون فيه إيهام لذلك (6). _________ (1) انظر "العلل": (2/ 71) للإمام أحمد، و"الثقات": (5/ 230) لابن حبان. (2) أخرجه البخاري (4537)، ومسلم (151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) أخرجه مسلم (2369) من حديث أنسٍ رضي الله عنه. (4) انظر التعليق على (ص 402). (5) في الأصل: "آتني"، سهو. (6) وانظر في الكلام على هذه الآية ما سبق في الفوائد التفسيرية (ص 59 - 62).

(24/434)


وقد بينّا في مبحث التفضيل بين الأنبياء أنّه يجب على الأمة التأدب بأدبه - صلى الله عليه وآله وسلم - في حقّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فإذا تأدب - صلى الله عليه وآله وسلم - في حق أحد من الأنبياء لزم الأمة أن لا تخل بذلك التأدّب. كما لو أنّ عالمًا تأدب مع عالم آخر، فلم يقل: إنّه أعلم منه= لزم أولاده وتلامذته أن يتأدبوا مع ذلك العالم، فلا يقولوا: إنّ أباهم أو شيخهم أعلم منه؛ لأنَّ فعلهم منسوب إليه. فأمّا ما ذكره السنْدي: أنّ وجه الشبه هو كون صلاة كلٍّ أفضلَ من صلاة من تقدم؛ فلا يخفى تكلُّفه وخروجه عن الظاهر. والناس لا يفهمون من قولك للملك: (أعطني كما أعطيت فلانًا) إلا أحد الأوجه التي قدّمناها. فأمّا أن يُفهم منه أنّك أردت التشبيه بعطاء ذلك الرجل من حيث أن عطيَّته كانت أكثر ممن تقدمه، فيلزم من ذلك أن يكون مطلوبك أكثر من عطية ذلك الرجل= فلا. وإذا أردت منهم أن يفهموا هذا فقد كلّفتهم الغلط في الفهم! وهذا من الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - محال. فلا يكون من الله عز وجل أن يكلم العباد بكلامٍ مكلِّفًا لهم أن يفهموه على خلاف ظاهره. وهكذا كلام الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -. وأمّا ما وقع في الكتاب والسنة من المجاز ونحوه فإنّه تُنصب معه قرينة تدلّ على المراد دلالةً بيِّنة. وإذا قالوا فيه: خلاف الظاهر؛ فإنّما المراد أنّه خلاف الظاهر لولا تلك القرينة. فأمّا ما ذكره السنْدي من عنديَّاته بقوله: "وقد يجاب بأن التشبيه باشتراك الآل"؛ فكلامٌ يُستحيى من ذكره!

(24/435)


أوّلاً: لِما بيّنا في معنى الآية أنها لا تفيد دوام الصلاة من الله عز وجل واستمرارها، بحيث تستحيل الزيادة. وثانيًا: لأنَّ الله عز وجل أمرنا فيها أن نصلِّي عليه - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولم يذكر آله. وثالثًا: لو كان الأمر كما ذكر لكان ينبغي أن يُقال: اللهم صل على آل محمد كما صليت على آل إبراهيم. وتُترك الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ لأنّها كتحصيل الحاصل على زعمه مع ما فيها من الإيهام. ورابعًا: أنّ الآل من أول الداخلين في قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43]. و {يُصَلِّي} صيغة مضارع، وحينئذ فتكون الصلاة عليهم أيضًا في زعم السنْدي تحصيلَ حاصلٍ، أو "كتحصيل الحاصل" كما عبّر هو، أعني بكاف المغالطة! والحاصل أنّ هذا القول من السنْدي ــ رحمه الله ــ غفلة محضة. والله أعلم (1). * * * * [تعليق الشيخ على كلام الفراهي في كتابه "الرأي الصحيح في مَن هو الذبيح"] استدلّ العلَّامة الفراهي في كتابه "الرأي الصحيح في مَن هو الذبيح" (2) على أن الذبيح إسماعيلُ بما في التوراة الموجودة أن الذبح كان عند تَلِّ "مورة"، وفي موضع آخر ما يدل أن "مورة" في أرض المديانيين. وفي _________ (1) مجموع [4719]. (2) (ص 60).

(24/436)


"التكوين" إصحاح 37 جملة 25 وما بعدها: "ثم جلسوا ليأكلوا طعامًا، وإذا قافلة إسماعيليين .... فقال يهوذا: تعالوا: فنبيعه إلى الإسماعيليين ... واجتاز رجال مديانيون تجار، فسحبوا يوسف وأصعدوه من البئر، وباعوا يوسف للإسماعيليين" اهـ. ففهم الفراهي أن ضمير "سحبوا" لإخوة يوسف، والمديانيون هم الإسماعيليون، ولكن في هذا نظر ظاهر؛ إذ لو كان المراد بالمديانيين نفس الإسماعيليين لقيل: "واجتاز المديانيون" أو نحو ذلك لتقدُّمِ ذكرهم. وأوضح من هذا أن في هذا السياق: "ورجع راوبين إلى البئر، وإذا يوسف ليس في البئر، فمزّق ثيابه ثم رجع إلى إخوته وقال: الولد ليس موجودًا". وراوبين أحد الإخوة. فظهر مما ذُكر أن الإخوة عَزَموا على أن يُصعدوا يوسف ويبيعوه في الإسماعيليين، ولكن سبقهم المديانيون، فأصعدوا يوسف وباعوه في الإسماعيليين. ثمَّ رأيت عجبًا، وهو أن بعد ذلك في السياق: "وأما المديانيون فباعوه في مصر لفوطيفار خصيّ فرعون رئيس الشُرَط". فهذا يؤيد ما قال الفراهي. وعلى كل حال، فالكلام غير منتظم. وفي أول الإصحاح 39: "وأما يوسف فأُنزل إلى مصر، واشتراه فوطيفار خصيّ فرعون رئيس الشُرَط رجل مصري من يد الإسماعيليين الذين أنزلوه إلى هناك".

(24/437)


وفي إصحاح 45: "فقال: أنا يوسف أخوكم الذي بعتموه إلى مصر والآن لا تتأسفوا ولا تغتاظوا لأنكم بعتموني إلى هنا" (1). * * * * [تقييد وفاة يحيى الهمداني] توفي يحيى بن يحيى الهمداني صباح يوم الأحد لخمس خلون من ذي القعدة سنة 1369 هـ، الموافق عشرين أكست سنة 1950 م (2). * * * * [معاناة الشيخ مع بعض المصححين بدائرة المعارف] * في حديث أبي بصرة الغفاري: "فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسُّفْرة، قال: اقتربْ". رسم في نسخة "دعى"، فقلتُ: أَصلحْه بالألف، فقال: الألف غلط. فبينت له أن القاعدة في مثله: إذا كان أصل الألف واوًا أن تكتب ألفًا، وإن كان أصله ياءً كتب ياءً. وأصله هنا واو (3)، لقولهم: يدعو، ودعوة، وغير ذلك. فقال: قد تُقلب الواو ياءً مثل (رضي). فقلت: نعم، وأزيدك أنه يجيء مثل ذلك في كلمتنا (دعا) إذا بنيت _________ (1) مجموع [4720]. (2) مجموع [4721]. (3) في الأصل: "واوًا"

(24/438)


للمجهول، مثل: (دعي)، ولكن هذا خارج عن البحث. فالقاعدة تقول: إن الثلاثي الذي آخره لين، إن كانت ألفه منقلبة ... إلخ. فاستحمق وكتبها بالألف، لا موافقةً ولكن حسمًا للنزاع. * باب الركنين اللذين يليان الحجر: عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: "ألم تَري أن قومك ... ". قلت: "تري" فأنكر، وقال: إنما هو "ترى"، وأخذ يستدل لذلك، مع اعترافه أنه خطابٌ لأنثى. فذكرت له قوله تعالى: {فإما تَرَينَّ}، فأخذ يفرِّق بينهما. * باب الدليل على أنه (الرَّمَل) بقي هيئة: أن عمر ... وقال: "مالنا وللرَّمَل؟ إنما راءينا به المشركين، وقد أهلكهم الله". قال: إنما هو "رأينا" بوزن فعلنا؛ لأنه معدَّى بالباء ... إلخ. حتى أطلعتُه على "النهاية" وفيها وزنه بكلمة: فاعلْنا. * باب الرجل يحرم بالحج عن نفسه تطوعًا ولم يكن حج حجة الإسلام. سقط في نسخةٍ قوله: عن (1) نفسه. فزعم أن سقوطه هو الصواب! (2). * * * * _________ (1) في الأصل: "في"، سبق قلم. (2) مجموع [4726].

(24/439)


* "غير أن لا تطوفي بالبيت حتَّى تطهرين" (1). ["لا"]: قال هي ناهية ولذلك حُذف النون! ["تطهرين"]: قال هذا الصواب لأن "حتَّى" وإن كانت تنصب، فلا يُحذف معها النون بخلاف "لن" في نحو: "لن تطهري"، فإنها تنصب وتحذف النون! ولمَّا رأى في "الصحيح" بحذف النون، قال: لعلَّه معطوف على "تطوفي"! * 743 - "ونحن نغسل ابنته". وقع في نسخة: "نغتسل". وصوبه الأخ! 744 - ما قوله "أشعرنها أَتُؤْزَرُ به"؟ وقع في النسخ: "اتَّزِرْن به". وصوَّبه. 443 - "كان ابن سيرين يأمر بالمرأة أن تُشعَرَ لفافةً ولا تُؤزَر". وقع في موضع في بعض النسخ: "يأمر المرأة". وصوَّبه. باب المُرْتَثِّ: "وكان اسمُ الأكوعِ سنان". وقع في نسخة: "سنانًا". وغلَّطه الأخ، محتجًّا بأن سنان علم! 768 - "بجوانب السرير الأربعة". أنكرها، وذكر أن هذا لا يصح، وأنه يجب أن يقال: بجوانب الأربعة للسرير. كذا قال! _________ (1) في المطبوع (5/ 3) على الصواب بحذف النون من "تطهرين".

(24/440)


773 - "مر عليه بجنازة وهي (1) يُسرع بها، وهي تُمْخَض مَخْض الزِّق". وقع في نسخة: تَمَخُّضَ الزق. وصوَّبها الأخ وغلَّط الأخرى، قائلاً: إن تمخض، إنما يكون مصدره: التمخُّض. كذا قال! ص 812 - "قرأ بأم القرآن حتى أسمع من خلفه". وقع في بعض النسخ: "حتى سمع". وقال الأخ: إنها الصواب؛ لأن قوله: "قرأ" فعل ماض، و"سمع" ماض فيتفقان، بخلاف "أسمع" فإنه مضارع! 832 - "فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عنها من حضره من جيرانها". وقع في نسخة: "حضرها"، فقال: إنها الصواب، وإن الأخرى غلط! 838 - "العلاء [هذا هو] ابن زيد. ويقال: ابن زيدل، يحدِّث عن أنس بن مالك بمناكير". في نسخة: "العلاء بن زيد. ويقال: ابن زيد". فصوَّبها وغلَّط الأولى! 454 - في حديث عائشة: " ... فقلت: أَرغم الله أنفَك، لَم تفعل ما أمرك به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم تترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العناء". وقع في نسخة: "يترك" بالمثناة من تحت. وصوَّبها حتى قال: النسخ الأخرى غلط، ولا معنى لما فيها! _________ (1) في الأصل: "وهو"، سبق قلم.

(24/441)


ولم أستطع إقناعه إلا بإراءته الصحيحين، وكلام شراحهما في الحديث. * "فإذا وجب فلا تبكيَنَّ باكية". وقع في نسخة: "يبكين" بالمثناة من تحت. فصوَّبها، قال: لأنه للجمع. فبينت له خطأ ذلك، فقال: لعله للواحدة، ولكن للغائبة، وإذا كان للغائبة فيقال بالياء لا بالتاء. فراجعته في ذلك، وكان فضلٌ حاضرًا. * في باب تحريم أواني الذهب: "فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم". وفي رواية أخرى: "فإنما يجرجر في بطنه نارًا من جهنم". فاستشكل الأخ قوله: "نارًا". وقال: إنما هو "نارٌ" بالضم، بدليل ما تقدم في الرواية الأولى ففهمته .......... (1) (2). * * * * [وصف نسخة من "سنن البيهقي" بخط مؤلفه] فهرست الكتبخانه الخديوية سنة 1310. (ج 1 / ص 351 - 354). تجد عنوان "سنن البيهقي". مجلد من نسخة أخرى يشمل على عدة أجزاء، أولها الجزء التاسع والثمانون بعد المائة من تجزئة المؤلف. وأول ما فيه: "باب لا يقضي القاضي وهو غضبان". _________ (1) كلمة غير محررة رسمها: "والعياذ". (2) مجموع [4727].

(24/442)


وينتهي المجلد المذكور إلى آخر الكتاب. وهو بخط المؤلف. مكتوب عليه في مواضع عديدة بخط بعض أفاضل العلماء ما يفيد سماعه على مؤلفه في سنين مختلفة، بعضها في سنة 442، وبعضها في سنة 445، وسنة 447، وغير ذلك. أوراقه 392. نس. ج 1 ن خ 267 ن ع 589 (1). * * * * [وصف نسخة خطية من "الرد على المنطقيين" (2)] الحمد لله. تصفَّحت النسخة المحفوظة بالمكتبة الآصفية من كتاب "الرد على المنطقيين" فوجدتها نسخة صحيحة، قرئ فيها على المؤلف، وكتب عليها بخطه بعض تصحيحات. والكتاب في نفسه كتاب ممتع، كسائر مؤلفات ابن تيمية الجامعة بين المعقول والمنقول. وهو مرتب على مقامات وفصول. وبهامش النسخة عناوين للمباحث الفرعية. فالكتاب حري بالطبع، والنسخة صالحة لأن يكون الطبع عنها. _________ (1) مجموع [4718]. (2) طبع الكتاب سنة 1368 هـ بتحقيق الشيخ عبد الصمد شرف الدين عن الدار القيمة.

(24/443)


ولأركان المجلس حسن النظر وفقهم الله تعالى. 3 شعبان 1347 كتبه: عبد الرحمن بن يحيى اليماني (1). * * * * [تحضيض الشيخ أركان دائرة المعارف أن يعلِّموا أبناءهم العربية] ومما ينبغي توجيه النظر إليه أن يلتزم حضرات الأركان وغيرهم من العارفين باللسان العربي أن يلقِّنوا أولادهم وإخوانهم في بيوتهم العربية، ويحرصوا على جعل محاورتهم بها. ومن كان له ولد أو أخ وأخذ حظًّا من ذلك، فليُحضره إلى النَّدِيِّ في بعض جلساته إن شاء الله تعالى، ليُلقي فيه خطابًا بالعربية، فيكون ذلك أدعى للرغبة والنشاط. وكذا أساتذة المدارس، إذا كان في المدرسة تلميذ قد تمرن على المحاورة والخطابة= يُحضَر إلى النَّدِيِّ في بعض جلساته، ويلقي خطابه. وحبذا لو تيسَّر أن يُنعم على ذلك التلميذ بكتاب أو قلم أو نحوه (2). * * * * _________ (1) مجموع [4727]. (2) مجموع [4727].

(24/444)


[قواعد في صيغ الجمع باللغة الأوردية] الجمع 1 ــ إذا كان الجمع منادى جُمِع بالواو مطلقًا. 2 ــ وإلَّا فإن كان معه أحد هذه الحروف: (ميں، سى، كو، تك، تلك، پر، نى، والا، كا، كي، كے) جُمِع بالواو والنون. 3 ــ وإلَّا فالمذكر إذا كان آخره ألف أو هاء (هـ) جُمِع بإبدال الألف أو الهاء بياء مُهوَّاة. 4 ــ وإلَّا فلا يُجمع، وإنما يُدَلّ على الجمع بالفعل. 5 ــ والمؤنث: إن كان آخره ياءً جُمِع بزيادة ألف ونون. 6 ــ وإلَّا فبزيادة ياء ونون (1). * * * * [تعليقات على مواضع من "ألف باء" للبلوي] * [حول الصلاة الإبراهيمية] " ألف باء " (ج 2 / ص 453) "وكذلك امتثل - صلى الله عليه وآله وسلم - أمرَ ربه في الصلاة عليه، وذكر الآل كما ذكر "البيت" في الآية، وقال: "إنك حميد مجيد" كما في الآية، مع ما في هاتين اللفظتين من خفيّ الإلطاف في السؤال. وسؤال (؟) (2) الأدب مع أبيه _________ (1) مجموع [4729]. (2) إشارة من الشيخ إلى استشكال كلمة "وسؤال". ولعل صواب تلك الكلمة: "وسلوك".

(24/445)


إبراهيم، لم يطلب زيادة عليه تصريحًا، لكن أومأ إليه بذكر هاتين اللفظتين؛ لأن المجد في اللغة الزيادة والكثرة، تقول العرب: في كلِّ شجرة نار واستمجد المرخ والعفار". أقول: لا أرى هذا جيّدًا؛ فإن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أكرم من أن يدع أمرًا تأدُّبًا ثم يرجع فيه. وما أشبه هذا بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: "ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين" (1). نعم، قد يقال: ليس طلب الزيادة بمخلٍّ بالأدب في نفس الأمر بالنسبة إلى مقام الأنبياء عليهم السلام، فقد نزَّههم الله عز وجل عن الحسد، فلا يتأذّى أحدهم بطلب غيره زيادةً عليه، ولاسيّما بعد الموت والخروج من الدنيا، فإن نفوس أفراد المؤمنين تتطهَّر من مثل هذا، فضلاً عن الأنبياء عليهم السلام، ولا سيّما خليل الرحمن مع ولده محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -. ولكن خشي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - من التصريح بطلب الزيادة أن يفهم بعضُ الناس من ذلك نقصًا في رتبة إبراهيم عليه الصلاة والسلام. فَترَكَ التصريح بذلك، وأشار إليه، على ما هو المشروع للإنسان من علوّ الهمة، وأن يوسع رغبته في فضل الله تعالى بقدر الإمكان. وقد قيل: القناعةُ من الله حرمان. _________ (1) أخرجه أبو داود (2683، 4359)، والنسائي (4067)، والحاكم (3/ 45) من حديث سعد بن أبي وقاص. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، لكن في إسناده أحمد بن المفضل القرشي، لم يخرج له مسلم، وهو صدوق في حفظه شيء، وصححه ابن الملقن، وقال الحافظ ابن حجر: "إسناده صالح". انظر "البدر المنير": (7/ 449 - 450).

(24/446)


ومع هذا، فالبحث مبنيٌّ على أن التشبيه في قوله: "كما صليت على إبراهيم" يتناول القدر والصفة. وقد بينت في بحث آخر (1) أن المراد ــ والله أعلم ــ التشبيه في مجرد الصلاة، كما تقول للمَلِك: أعطني كما أعطيت فلانًا. تريد: ليكن منك عطاءٌ لي كما كان منك عطاءٌ لفلان. لا تريد: ليكن منك عطاءٌ لي كالعطاء الذي كان منك لفلان. يعني في قدره وصفته. فتأمَّل. * [طَعم ماء زمزم] "ألف باء" (ج 2 /ص 462 - 463) "وأما طعم الماء (زمزم) ساعةَ يخرج من البئر، فيخيَّل إليك أنه ماءٌ شِيبَ بلبنٍ حار رطبٍ، لبنٍ ليس فيه مرارة. فإذا بَرَد ربَّما وجدت فيه قليل مرارة". يقول كاتبه: كذا وجدتُه أنا. كنتُ إذا شربتُ من زمزم عند البئر أجد له طعم اللبن، وإذا شربت منه خارجًا عن ذلك المكان لا أجد ذلك، بل أجد فيه ملوحةً ما. وكان خطر لي أن المدار على المكان، وأتأوَّل ذلك على أن السرَّ في عدم نقل الماء عن محلّه. وأقول: لعلَّ البركة مثل ذلك، أي أنها مختصة بمن شربه عند البئر كما فعل - صلى الله عليه وآله وسلم -، فإذا نُقِل قلَّتْ بركته. ثم رأيتُ ما ذكره صاحب _________ (1) انظر (ص 401 - 407) في التعليق على كلام السندي.

(24/447)


"ألف باء". فالله أعلم. * [معنى حديث "صوموا الشهر وسِرَّه"] (ج 2 ص 474): "وتسمِّي العرب الهلال شهرًا، قال الشاعر: ابدأْنَ من نجدٍ على ثقةٍ ... والشهر مثل قلامةِ الظفر ذكر هذا الخطابي (1) ــ رحمه الله ــ في تفسير قوله عليه الصلاة والسلام: "صوموا الشهر وسِرَّه" (2)، أي: مستهلَّ الشهر. وقال: العرب تسمِّي الهلال شهرًا". اهـ. أقول: فيه بُعد. وقد حمل ابن حزمٍ الشهر على رمضان. يعني وعطفُ سِرِّه عليه مِن عطف الخاص على العام. وفي هذا ضعف؛ فإن عطف الخاص على العام إنما يحسن لنكتة. وحَمَله غيرُه على شعبان، وهو أقرب؛ لأنه جاء في حديث آخر الإرشاد إلى صوم سَرر شعبان. ونكتةُ العطف فيه: أن السَّرر ــ على رأي الأكثر ــ هو الأخير، وقد جاء النهي عن صوم آخر شعبان مطلقًا. فكأنَّ حديث "صوموا الشهر وسره" كان بعد النهي المتقدم. _________ (1) في "معالم السنن": (2/ 747 بحاشية سنن أبي داود). (2) أخرجه أبو داود (2329)، والطبراني في "الكبير" (19/ 384)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 210) من حديث معاوية وفي إسناده المغيرة بن فروة فيه جهالة. انظر "ضعيف أبي داود ـ الأم" للألباني (2/ 258).

(24/448)


فلو قال: "صوموا الشهر" وسكت، لَجمعَ العلماء بين الحديثين بالعموم والخصوص، وأبقوا النهي المتقدم على حكمه؛ فزاد قوله: "وسره" نصًّا على نسخ النهي المتقدم. أو يقال ــ وهو أولى ــ: قد كان سبق النهي عن صوم يوم الشك، وكان يحتمل أن يفهم بعض الناس من النهي الإطلاقَ ويخصِّص به عموم "صوموا الشهر"، فزاد قوله "وسِرَّه" لينبِّه على أن النهي عن صوم يوم الشك مقيَّدٌ بما إذا لم يوافق صيامًا آخر كان يصومه الرجل، كما إذا كان يصوم شعبان كلَّه. والله أعلم. هذا كلُّه بناءً على صحة الحديث، وفيه مقال. والله أعلم. * [شرح بيت لبشَّار بن برد] " ألف باء " (ج 2 / ص 567): "بشار: وإذا قلتُ لها جودي لنا ... خرجَتْ بالصمت عن لا ونعمْ قال مروان بن أبي حفصة: قلت لبشار ــ وقد أنشدني هذا الشعر ــ: هلَّا قلت: * خرست بالصمت عن لا ونعم * فقال: لو كنتُ في عقلك لقُلْتهُ، أتطيَّر على من أحبُّ بالخَرسَ؟ ! ". يقول كاتبه: وفي قوله: "خرجت" لطيفة أخرى أدقُّ من التي ذكرها. وهي أن في قوله "خرجت" إشارة إلى غرابةٍ في ما ذكره. وذلك أن

(24/449)


الجواب بِـ (لا) والجواب بِـ (نعم) ضدان، ومن شأن الضدين أن لا يجتمعا، ويمكن ارتفاعهما، ولكنهما كثيرًا ما يشتبهان بالنقيضين اللذين لا يجتمعان ولا يرتفعان. وهذا من ذاك؛ فإن المتبادر إلى الأذهان أن المسؤول إما أن يمنع وإمّا أن يسمح. وعلى هذا جرت عادة الشعراء في بيان حال من يسألونه، إما أن يقولوا "سَمحَ " وإما أن يقولوا " مَنَع "، سواء كان ذلك في العطاء أو الوصل. وكونُ المسؤول يسكت حالٌ بعيدةٌ عن الأذهان ــ كأنه ــ لأن الغالب عدمُها. فلو قال: "خرست بالصمت عن لا ونعم" ربّما لا تُفهم تلك الغريبة. فلما قال: "خرجت" كانت ظاهرة، كأنه يقول: خرجت من مضيقٍ يُظَنُّ أنه لا يمكن الخروج منه. فتأمّل. ويزيدُ ما ذكرتُ غرابةً أن "لا" و"نعم" كناية عن المنع والمنح، وأصلُ المنع والمنح نقيضان ــ إذا عددنا السكوت منعًا ــ فحينئذ لا يمكن خروج المسؤول عن "لا" و"نعم" بمعنى المنع والمنح؛ لأنه إما أن يسمح وذلك قول "نعم"، وإما أن يمنع صراحة أو باعتلالٍ وسكوت أو غيره، وذلك قول "لا". فجَعَل بشار "لا" كناية عن الإنكار، و"نعم" عن الوعد بالجُود. وهذان يمكن ارتفاعهما. ولكن لما كانت العادة جَعْلَ "لا" و"نعم" كناية عن المنع والمنح ــ مع عدِّ السكوت منعًا كما تقدم ــ نشأت الغرابة. والله أعلم (1). _________ (1) مجموع [4729].

(24/450)


[تعليق على مواضع من "طبقات ابن سعد"] * ([ج 4] ص 95) "أخبرنا عفان بن مسلم: ثنا حماد بن سلمة: أخبرنا علي بن زيد، قلتُ لسعيد بن المسيب: يزعم قومك أن ما منعك من الحج أنك جعلتَ لله عليك إذا رأيت الكعبة أن تدعو الله على ابن مروان. قال: ما فعلتُ، وما أصلي صلاة إلا دعوتُ الله عليهم، وإني قد حججت واعتمرت بضعًا وعشرين سنة، وإنما كتبت عليَّ حجة واحدة وعمرة، وإني أرى ناسًا من قومك يستدينون فيحجون ويعتمرون، ثم يموتون ولا يُقضى عنهم، ولجمعةٌ أحب إلي من حج أو عمرة تطوعًا. فأخبرت بذلك الحسن فقال: ما قال شيئًا! لو كان كما قال ما حج أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا اعتمروا". أقول: لم يُرِد سعيد ــ والله أعلم ــ أن الجمعة أفضل من الحج والعمرة تطوُّعًا مطلقًا، بل من الحجِّ والعمرة اللَّذين يُستدان لهما، كما يدلُّ عليه السياق. كاتبه. * ([ج 8] ص 25) " ... عن أسماء بنت عميس قالت: أنا غسلت أم كلثوم بنت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -[وصفية بنت عبد المطلب]، وجعلت عليها نعشا، أمرت بجرائد رطبة فواريتها". إن صحَّ هذا، دلَّ على أن النعش الذي جعلتْه أسماء لفاطمة ــ عليها السلام ــ كان ممَّا أقرَّه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في حياته (1). _________ (1) مجموع [4730].

(24/451)


[نظم في زكاة الحيوان] (1) في الهاءِ (2) من إبِلٍ والميم (3) من غَنَمٍ (4) ... شاةٌ (5) وثنتان (6) في عَشْرٍ (7) وفي أَكقِ (8) ثم الثَّلاث (9) لِهِيٍّ (10) مَعْ أَرٍ (11) جُعِلتْ ... وأربعٌ (12) يَكُ (13) ثم التَّاءُ (14) فاعتنقِ _________ (1) الهوامش على النظم من وضع المؤلف، وذكر فيها الأعداد التي نظمها بحساب الجمَّل. (2) (5). (3) (40). (4) ضأن أو معزى. (5) جذعة ضأن لها سنة، أو ثنية معز لها سنتان. (6) شاتان. (7) من الإبل. (8) (121) من الغنم. (9) (3) شِيَاه. (10) (15) من الإبل. (11) (201) من الغنم. (12) شياه. (13) (30) من الإبل (14) (400) من الغنم.

(24/452)


وبعد ذا غَنَمٌ في كلِّ مَا مائةٍ ... شاةٌ فَحقِّقهُ يا مَنْ رَامَ واعْتَلقِ والإبْل في هَكٍّ (1) بِنْتُ المخاضِ فَوَلْ (2) ... بنتُ اللَّبونِ (3) وفي وَمْ (4) فَرْدةُ الحِقَقِ (5) وأَسُّ (6) قُل جَذعةً (7) بِنْتا اللَّبون لِوَعْ (8) ... وحِقَّتانِ لأَصٍّ (9) فادْرِ وانْتَشقِ ثلاثُ بنتِ لبونٍ في كَقَا (10) فَخُذَنْ ... فردًا (11) لميمٍ (12) فنونٍ (13) واحدُ الحِقَقِ (14) _________ (1) (25). (2) (36). (3) لها سنتان. (4) (46). (5) حِقّةٌ لها ثلاث سنين. (6) (61). (7) لها أربع سنين. (8) (76). (9) (91). (10) (121). (11) بنت لبونٍ. (12) لكلِّ (40). (13) لكل (50). المؤلف (14) حِقَّة.

(24/453)


واللَّامُ (1) مِن بقَرٍ فيها التَّبيعُ وفي ... ميمٍ (2) مُسِنَّتُها وهكذا فَثِقِ تمت عبد الرحمن المعلمي _________ (1) (30). (2) (40).

(24/454)


[نظم في أصوات الحيوانات] قد صهل الخيل وحمحم الفرسْ ... ونهق العَير ويشحَج عدس لنا نُبابُ الجديِ والشاة الثُّغا ... وجرجرَ البعيرُ جَمَلٌ رَغَا وخار عِجلٌ والنياق تهدِرُ ... ونهمَ الفيلُ وليث يزأرُ ضبْحٌ لثعلبٍ عُواءُ الذِّئبِ ... قبْعٌ لخنزيرٍ نباحُ الكلب كشكشة الأفعى فحيحُ الحيةِ ... نقيق ضفدع ضُغاء الهرَّة وبَغَمَ الظبيُ وحَفَّ الجُعَل ... وللظليم فالزَّميرَ جعلوا والفهد صاءَ وابن آوى وَعْوَعَا ... وصرصر البازي وديكٌ صَقَعا ونعب الغراب لمَّا نعقا ... وفي العصافير يقال زَقْزقا ونمنم الفار حمام قد هدر ... ونقَضَ العقابُ قُبَّرٌ صَفَر مغرِّدًا وناغمًا وصادحًا ... وساجعًا وقد يقال: نائحًا والنسر خرَّ والدجاج نقَقَا ... ونبَّ تيس ... (1) دَفَقا وخرَمَ الماء وهبَّت الرياحْ ... وزخر البحر وقعقع السلاحْ (2) _________ (1) كلمتان لم أتبيَّنهما. (2) بعده بيت لم يظهر لانثناء في الورقة. مجموع [4708].

(24/455)


[من قريض الشيخ] للحقير: زارت وقد جنَّ الظلام وغابت الـ ... ـواشون فابتسمت ليَ الأفراحُ سَفَرت فلم تأْلُ الفَرَاش تهافتا ... يحسبن أن جَبِينَها مصباح فَشَكت إليَّ فقلت صبرًا إنها ... لَقلوبُ من يهواك والأرواح * * * * للحقير: حِرْتُ في حبِّك (1) يا نور عيني ... رُبَّمَا يَصْلُدُ فكر الحكيم أنعيمٌ كامن في عذاب ... أم عذابٌ كامن في نعيم إنَّه جرَّعَنِي كلَّ ذلّ ... وهوان وبلاءٍ عظيم * * * * للحقير: خيرُ بني زمانِنا ... وإنْ بدى مُشاهدا سرابُ قاعٍ كلَّما ... نَحَوْتَه تَباعَدا (2) * * * * يا راميًا بالبندقيْـ ... ـيَة وهو بالألحاظ أرمى _________ (1) الرسم يحتمل: "حسنك". (2) المقطوعات الثلاث من مجموع [4657].

(24/456)


تُنمي يداه وإنما ... ما يُرمَ بالعينين أصمى * * * * ألا قاتل الله المروءة إنها ... لأجنى على نفس الطريق من الدهر إذا طمحت عيناه قالت له اتئد ... فأنت الفتى يخشى القبيح من الذِكر (1) * * * * "أسرار البلاغة" (ص 109). [قال] ابن نُباتة: قد سَمِعْنا بالعِزِّ من آلِ ساسا ... نَ ويُونانَ في العُصور الخوالِي والملوكِ الأُلَى إذا ضاع ذِكْرٌ ... وُجِدُوا في سوائر الأمثالِ مَكْرُماتٌ إذا البليغُ تعاطَى ... وَصْفَها لم يجدْهُ في الأقوال وإذا نحن لم نُضِفْه إلى مد ... حِكَ كانت نهايةً في الكمال إن جمعنَاهُمَا أضرَّ بها الجمـ ... ـعُ وضاعت فيه ضَياعَ المُحال فهو كالشمس بُعْدُها يملأ البَدْ ... ر وفي قُرْبها مُحاقُ الهلال [قال الشيخ]: قد كنت قلت في هذا المعنى قبل أن أقف على هذه الأبيات: إذا عالم منكم دنا بان نقصُه ... كذلك نقص البدر إن قارب الشمسا (2) * * * * _________ (1) المقطوعتان من مجموع [4729]. (2) مجموع [4716].

(24/457)


الحمد لله. في الله ثم المجد يقدس هاشم ... أسباب حتفهم تُقًى ومكارم ........... (1) بهم شرف لهم ... في الدين والدنيا وفخر دائم جادوا إلى بذل النفوس فكلهم ... كعب بن مامة والمبخَّل حاتم وحموا إلى أن غالبوا عن جارهم ... طغيان أخضر موجه متلاطم ... (2) أحمد والرزايا مألف ... لكم فهل هي شيعة بهواكم ماذا يقول لكم وأنتم معدن ... للصبر والتأساء من عزَّاكم (3) * * * * إذا أَلِف المرء المشقة جاهلًا ... سواها فزالت عنه حنَّ كعادته ولكن سريعًا ما يقر قراره ... كذاك بكاء الطفل عند ولادته * * * * ولو نطق المولود قال مبادرًا ... إذا سِيلَ ما يُبكيه ساعة يوضع وُكِلتُ إليكم بعد أن كان خالقي ... كفيلي ومهما تحفظوا فمضيَّع (4) * * * * وضَعَ الإبهام بين الإصبعين ... مُعْرِضًا لمَّا رأى حِدّة عيني لم يُفدْ ذاك فأبدى ذهبًا ... ففهمت النكتتين الحُلوتَيْن * * * * _________ (1) كلمتان مطموستان. (2) كلمة مطموسة. (3) مجموع [4716]. (4) المقطوعتان من مجموع [4718].

(24/458)


رشأٌ أمعنتُ لا عَنْ غرضٍ ... نظرًا فيه بنادي البَيعتينِ لم يُعِرني نظرةً لكنه ... وضع الإبهام بين الأصبعين نكتةٌ واضحةٌ لو أنها ... صادفت عندي فهمًا غير ذين ثم أبدى عابثًا كيسًا له ... فيه كُثْرٌ من بُنيّاتِ اللُّجينِ فبدت لي عندها تهمته (1) ... وفهمت النكتتين الحلوتَيْنِ فرماني ظَرفُه بل خوفُه ... في الذي خاف ولكن لا لِشَيْنِ (2) * * * * لكاتبه: أفحمني من لم يكن عارفًا ... لو لم يكن من ساحلي غارفًا كالشمس منها نور بدر الدُّجى ... وربَّما يُلفى لها كاسفًا * * * * قالوا على البعداء أكثر جوده ... فأجبتهم لا غرو فيه ولا عجب فالشمس تحبو البدر بالأنوار إذ ... ينأى وينقص كلما منها اقترب * * * * كم من عداء في التدا ... ني كان ودًّا في التنائي كالشمس فصل القيظ تكـ ... ــــره وهي تُعشق في الشتاء (3) * * * * _________ (1) غير محررة في الأصل. (2) المقطوعتان من مجموع [4719]. (3) المقطوعات الثلاثة من مجموع [4719].

(24/459)


في 4/ 4 / 1372 هـ. كيف يرجو الكريمُ إنصاف دنيا ... هُ وميزانُ عدلِها الميزانُ عدلُه أنّ فيه يرتفعُ الدّو ... نُ وينحطُّ ما لَه الرجحانُ (1) * * * * [وصف الباخرة] (2) طوينا العُباب على باخره ... تبيت لقاموسه ماخره بناء على الموج ما إنْ له ... أساسٌ سوى اللجّة الزاخره إذا ما تأملتها من قريبٍ ... تخال بها بلدة عامره وتحسبها جبل النار إن ... تعالت ................ الثائره ................ إن بدت ... بعيدًا كمدخنة زاهره تباري وما إن تبالي الرِّياح ... أعادلة هي أم جائره وليست تُرى لسكون الرّياح ... على الماء راكدة حائره يهيج الخضمّ ويرتج وَهْي ... به جدّ هازئة ساخره لها النار قوتٌ متى لم تجِدْهْ ... رأيت قواها له خائره يصرّفها رجلٌ واحدٌ ... فتنقاد خاضعةً صاغره يراعي النجومَ لها، والنُّجوم ... لديه ــ لعمرك ــ في دائره (3) * * * * _________ (1) مجموع [4721]. (2) ما تركناه نقاطًا فلم نتبينه في الأصل. (3) مجموع [4726].

(24/460)


لكاتبه: هو كالجوِّ فكن راجِيَه ... خائفًا حال احتدادٍ وسكونْ فلقد يضحك عن صاعقةٍ ... ولقد يعبس عن غيثٍ هَتُون (1) * * * * للحقير وأنا في قضاء الحُجَرية لمَّا بنى مفتي القضاء أمين وقف الشيخ عمر الطيار دارَه في مركز القضاء المذكور، فلما أتمَّ طبقتها الثانية أوكر (2) على عادة الناس اليوم في الولائم من الذبح وتفريق اللحم ثم اجتماع الناس للسمر في بيت المولم. فحضرنا فحصل ازدحام مفرط، فارتجلتُ ولم أفُهْ بها، قلتُ: بنى المفتي أمين الوقف دارًا ... تفوق متانة القصر المشيد وأوكر داعيًا للناس ليلًا ... إليها ذي القرابة والبعيد وكنا في الذين دُعُوا فجِئْنا ... وأظْفرنا محلًّا للقعود تزاحمْنا كما رُصِفت ورُصَّت ... نُزحزح كالوحوش لدى الورود فلو من تحتنا الأخشاب زالت ... ثبتنا في الهواء بلا عمود عسى الرحمن يمنحنا اكتفاءً ... بها الإعفاء عن ضمِّ اللحود (3) * * * * _________ (1) مجموع [4729]. (2) أوكر: عَمِلَ وكيرةً، والوكيرة: طعام يعمل لفراغ البنيان ــ كما في القاموس ــ. (3) مجموع [4708].

(24/461)


جمعَ الشملُ بعد طول الشَّتات ... وصفا وِرْدُنا برغم الوُشاة هجرونا حتى إذا ما يئسنا ... أسعفونا بنظرةٍ والتفات وجفاء الهوى عسيرٌ وأيسر ... لسواه من سائر الحادثات زارني من أحب بعد ازورارٍ ... فاستحالتْ بقربه حالاتي ودنَا مُسعِدًا وباتَ نديمي ... فلنعم البياتُ كان بَياتي ولقد صُلْت بالعتاب عليه ... وتتبعتُ سائر التبِعات فأتاني بحجة تدفع اللو ... مَ، وعذرٍ مَحا جميع التِّرات * * * * رويدًا أمينَ الله فالحبُّ ذمَّة ... لمن حبَّ من محبوبه بأمان فلا تَجزِينْ أُمنيَّتي بمنيَّتي ... وبعض منايا العاشقين أماني فإنك إن تفعلْ تكنْ تلك بدعةً ... عليكَ إثْمُها ما أقبلَ الملَوان وحسبُك فتكًا بي عيونُك إنها ... ستكفيك بي عن حدِّ كلِّ يماني أعوذ بحسن الوجه منك من الردى ... فحسبيَ ما من مقلتيك أعاني سمعنا بموتٍ في الهوى غايةً، وما ... سمعنا بضربٍ في الهوى وطعانِ فإن كنتَ مِن شُحٍّ بوَصْليَ باخلًا ... فدعْ ليَ روحي واتركنَّ وشاني * * * * ألا فَصَمتْ أواخيَها نوارُ ... وشَّط عن المشوق بها المزارُ وأَنْجَدَ أهلُها فهُمُ بنجدٍ ... وأهلي في تهامة قد أغاروا وعهدي بالنوار وقد أطلَّتْ ... تشيِّعُني إذا ارتفع النهارُ

(24/462)


وأدْمُعُها على الخدَّين تجري ... ودمعي في الخدود له انهمار لها من نرجِسٍ طَلٌّ لورد ... ولي عَنَم يُطِلُّ له بُهار على أنَّا اعتنقنا فافترقنا ... وفي الأحشاء نارٌ واسْتِعار فأضحى الحَبْل مجذومًا وعهدي ... بها والحبل مفتولٌ مُغارُ وكم من ليلة بتنا جميعًا (1) * * * * ألا إن بحري أجل البحار ... فلا أرتضي درًّا الَّا الدراري ومن كان جار إمام الهدى ... وجلوته للمزايا الكبارِ إمامَ الهدى يا زكيَّ الخلال ... ذكي الفروع زكي النِّجار عُبيدُك ذا قاصرٌ همَّه ... على الكتْب لا فضَّةٍ أو نُضارِ فإن تأذنوا فكدا شأنكم ... فما زال فضلكمُ في انهمار * * * * غَزالٌ تُزفُّ إلى خُنفساء ... رأتْ وجه آخرَ يحكي القمرْ فباتتْ وباتَ جميعُ النساء ... إلى وجهه شاخصاتِ البصرْ تَعَضُّ على كفِّها حسرةً ... تلوم الزمان وتشكو القدرْ * * * * شيئان أشهى من نكاح الخرَّد ... وألذُّ من شرب القَرَاح الأسود وأجلُّ من رُتب الملوك عليهمُ ... وَشْيُ الحرير مطرَّزًا بالعسجد _________ (1) هنا توقف قلم الشيخ.

(24/463)


سُود الدفاتر أن أكون نديمَها ... أبَدَ الزمان وبردُ ظلِّ المسجد * * * * سأجعل فضل مالي في كتابي ... وأرضى بالرثاثة في ثيابي [وأعرف] (1) أن درسًا في كتاب ... ألذُّ من المطاعم والشراب ومِن لُبْس الحريرِ ووَشْيِ خَزٍّ ... وأحسنُ من ملامسة الكِعاب (2) _________ (1) خرم في الورقة، ولعله نحو ما قدَّرناه. (2) المقطوعات السبع الأخيرة من مجموع [4708].

(24/464)


[رؤى رآها الشيخ] * الحمد لله. يوم ... (1) صباحًا بعد أن صلَّيت الصبح في جماعة ــ والحمد لله ــ وقرأ الإمام سورة غافر، وبعد تمام الصلاة رجعتُ إلى محلّي فنمتُ فرأيت كأنني ذاهبٌ أتمشَّى على جبلٍ فأشرفت على رأسه، فإذا بديكٍ وقع هناك ولونه جميل إلى الغاية، لعلّه أجمل من الطاووس، فأعجبني لونه جدًّا، وصاح، فقلت: هذا المكان يصلح للتفرُّج، ثمَّ إذا بديكة أخرى مثل الأول تقع وتطير ثم رأيت الجوَّ كلَّه ممتلئًا طيرًا في مثل ذلك الجمال. ثم انتبهت لنفسي وإذا أنا على شرف الجبل، فانبطحت لأَثبُتَ كيلا أسقط، وإذا أنا أحسّ نفسي أنجرُّ بغير اختياري، فتمسَّكت بيدي فإذا بالصخرة التي أنا عليها انقلعتْ، ففرحتُ لأنه وقع في نفسي أنها إذا سقطت وأنا عليها لا يلحقني ضررٌ، فسقطت ولم أجد مشقَّة لسَقْطتها، بل أحسست كأنها إنما سقطت مقدار ذراعين أو ثلاثة. ثم إذا أنا بالأرض وإذا فيها بساتين وقصور عالية، فمشيتُ فوصلت إلى وادٍ ضيِّق يجري فيه ماء قليل، فأردتُ أن أمشي فيه، فرأيتُ رجلاً يغتسل في الجهة التي أريد أن أذهب منها والماء متغيِّر فيها فعدلت عن ذلك أتطلب طريقًا أخرى، وإذا أنا برجلٍ كان يَقْصُر ثيابه (2) فجرتْ بيني _________ (1) لم يستحضر الشيخ التاريخ فترك له بياضًا بمقدار أربع كلمات. (2) أي يحوِّرها ويبيِّضها بالغسل. ومنه يقال لمن يمتهن هذا العمل: "قصَّار" ولصناعته "القِصَارة".

(24/465)


وبينه محاورة سأقصّها بالمعنى. فقلت له: أيّ وادٍ هذا؟ قال لي: وادي الشيخ، وأحسبني قلت له: في أي بلد؟ قال: في عُتْمة (وطني). قلت: في أي مخلافٍ؟ قال: في السُّمَل (1)، أظنه ثم قال لي: ما اسمك؟ قلت: عبد الرحمن بن يحيى. قال: من أين أنت؟ قلت: من رازح (مخلافنا) من بني المعلّمي (قبيلتنا). قال لي: وأين جنَّتك؟ فوقع في نفسي أنِّي في الآخرة، فقلت له: لم أَمُتْ بعد، ولم أزل من أهل الدنيا وإنما جئتكم زائرًا. فلما قلت هذا كأنه غضب مني وتغيَّرتْ صورته وعظُمَ وصار ينظر إليَّ بحَنَقٍ، فأحسستُ في جسمي بقشعريرة ومبادئ غشيٍ. ثم إذا أنا بمثل الإنسان طائرًا، وقع في نفسي أنها امرأة، فقالت لي كلامًا لا أحفظه إلا أنه وقع في نفسي أنها تَعرِض عليَّ أن أمسك بيدها لتخلِّصني فمددتُ يدي لأقبض على يدها، فأولاً لم أقدر على القبض لأني كنت كلَّما قبضت لم يقع في يدي شيء ثم انقبضت لي اليد، وأخذ ذلك الشخص يَسبَح في الهواء وأنا أمشي قابضًا بيدها ثم ترددتُ في نفسي: لا أدري، أهذه تريد بي خيرًا أم شرًا؟ فرأيت أن أتعوّذ بشيء من ذكر الله تعالى حتى إذا كانت تريد شرًّا يخلِّصني الله تعالى منها، فتعوَّذت بشيء غالبُ ظني أنه آية الكرسي ولم أكن أقدر على النطق إنما أديرها _________ (1) بمهملة مضمومة وفتح الميم وآخره لام. مخلاف من ناحية "عُتمة". انظر: "مجموع بلدان اليمن وقبائلها": (2/ 432، 576).

(24/466)


على قلبي وأحرك لساني بدون أن تنفتح شفتاي فأنطق، فلم أر تلك الطائرة تغيرت لذلك بل استمرت على حالها ثم استيقظت. أسأل الله التوفيق، لا حول ولا قوة إلا به، وصلى الله وسلم على خاتم أنبيائه محمد وآله. * * * * * الحمد لله. وفي يوم الثلاثاء 9 ذي الحجة سنة 1349 نهارًا رأيت رؤيا لا أذكر منها إلا أن شخصًا وقع في نفسي أنه نبي، ثم رأيت الأرض تَخْضَرُّ حيث مرَّ، فقلت: هو الخضر. فسألته فيما يتعلق بالمذاهب والآراء في الدين وأيَّها أتَّبع؟ فأمرني أن لا أتَّبعَ منها واحدًا بعينه بل أنظر لنفسي، وكلّمني بكلامٍ في هذا المعنى نسيته. والله أعلم. * وفي ليلة الخميس 11 ذي الحجة رأيت رؤيا طويلة كأني كنت أصحب رجلاً من أمراء بعض الملوك، فجئت إليه بمكتوبٍ وهو مع الملك ووزيره، فأخذ الوزير منِّي المكتوب فخفت أن يكون فيه سِرٌّ، فلم يكن ثَمَّ .... (1) معهم، فلم نشعر إلا برمية بمسدّس أصابت ثياب صاحبي الأمير، ولم يُدرَ مَن الرامي، وأنا توهمت أنه الوزير وكأنني ساررتُ الأمير بذلك. _________ (1) كلمتان لم تتبيّنا.

(24/467)


فاتفق أننا وصلنا إلى جُند في الطريق ففتّشوا الوزير فإذا معه مسدس وفيه فَشْكة (1) قريبة العهد بالضرب، فنسبوا إليه تلك الرمية، فأُمسك فاعترف، ثم جاء الملك فدنا من الوزير يوبخه، فأخذ بلحية الملك قائلًا له ما معناه: لابد من عزلك، فإنه لم يتملَّك علينا أحدٌ قبلك غير واحد. فتبيَّن أن هناك مؤامرة على خلع الملك، ولكن كأنّ صاحبي الأمير لم يكن موافقًا على ذلك فأرادوا قتله أَوَّلًا، أو كان الوزير أراد بتلك الرمية إصابة الملك، الله أعلم. ثم ساروا قليلاً وأنا معهم فعلموا أن هناك قومًا راصدين لهم كأنهم من الثائرين، فقدّمني أصحابي أمامهم، وإذا ناسٌ مجتمعون فأتيتهم وإذا هم يشكون من الملك، وإذا أمامهم شخص كأنه مجروح يقولون إنه امرأةٌ كأنه جرحها زوجها، فاستخبروها وأنا حاضر وأخذتْ تشكو زوجها وأنه ...... (2)، وإذا ليس هناك جرح يُعتدَّ به ولكن كأنهم جعلوها حيلة ليستوقفوا الملك إذا جاء فيغدروا به، فرأى الملك وصاحبي الأمير من بعيد وفهموا فغيَّروا صورتهم، وجعل الملك بفِيهِ مزمارًا يزمر به، وأخذ صاحبي ما يناسب ذلك، ليوهما أنهما من الزمّارين الذين يتكسّبون فمرَّا ومررت معهما. ولكن بعد المرور شعر ذلك القوم بالحيلة فأتبعونا ونحن نسرع، ثم لم أشعر إلا بأحد الرَّجُلَين ــ الغالب _________ (1) فَشْكة: كلمة معرَّبة عن التركية بمعنى خرطوشة ولفيفة بارود. انظر: "تكملة المعاجم العربية" لدوزي: (2/ 76). (2) هكذا في الأصل.

(24/468)


على ظَني أنه صاحبي الأمير ــ قد وجد فرسًا فركبه وركضه فارًّا، والآخر لا أدري وجد مركوبًا أم كيف ذلك إلا أنه فرَّ، وبقيت أنا وآخر معي وقع في ذهني أنه الشيخ سعيد بن علي بن مصلح الرِّيمي، ففرَرْنا فأتينا على طرف جبل كأنه لا طريق فيه فرجعنا إلى جهة أخرى رأينا فيها طريقًا، فوقعنا في أيدي القوم فكأنهم قاتلونا فأخرجوا عَيْنَ رفيقي وفصلوها ثم رموا بها إليه، وأزال ما كان مع الشحمة من جلدة ونحوها ثم أعادها في محلّها، يقول لهم: إنها رجعت كما كانت! ثم فررنا منهم، فأخذت أدعو الله عز وجل أن يعيد لرفيقي عينه صحيحةً، ولما رأيناهم يتبعوننا اخترت أن نعدل عن الطريق حتى يمرّوا فيها فمرَّ أكثرهم ولكن رفيقي لم يستتر تمامًا بل نزل في بركة ماء، ففطن لنا رجل فمرَّ إلينا فأخذت عودًا وغرزْته في بطنه فسقط للموت، ثم فررت مع صاحبي فأتينا على نهرٍ وناس يُخرجون منه شجرًا، فسألْنا، فقيل لنا: كلُّ مَنْ وصل هنا يكون أسيرًا لا يستطيعون الخروج من هنا، ولكن الملك (يعنون ملك تلك الجهة) قال للأسراء يخرجون شجرًا من النهر: هناك شجرة مجهولة عند الأسراء، فمن اتَّفق أنه أخرجها أُمر بإطلاقه، فقلت أنا وصاحبي ونحن أسيران: فلنجرِّبْ حظّنا، فأوَّل ما نزلت أخرجت شيئًا من الشجر، فلما صعدتُ بها ألقيتها وإذا ببنت الملك مارَّة، فلما ألقيت الشجر التي صعدت بها من النهر رمت هي بشجرة كانت معها طرحتْها بسرعة فوق الشجرة التي صعدت بها قائلة: نعم، ها هي الشجرة المطلوبة قد أصعدها هذا الرجل، تعنيني، فعرفت أن تلك الشجرة هي التي كانت

(24/469)


معها، فطرحتْها على شجري وأنها أرادت خلاصي لإيهام أني أنا أصعدتها. ثم قالت لي: بيَّض الله وجهك، فقلت وأنا أجهش للبكاء: بيَّض الله وجه من فعل المعروف. وكأن الحاضرين فهموا الإشارة وفرحوا (1) بذلك. والحاصل قد خلصت، ولكن بقي صاحبي، فبينما أنا أتأمل كيف أستعين بالبنت على خلاصه، استيقظتُ. أما غرض البنت من خلاصي فمعلوم، كأن أباها كان قد شرط مَن وفّق لإخراج تلك الشجرة أن يزوّجه إيّاها، وكانت هي تعرف الشجرة، فأخذتها معها، وكانت تتردد إلى النهر، حتى إذا رأت من أولئك الذين يخرجون الشجر مَن ترضاه طرحت الشجرة على شجره. ولكن استيقظت قبل تمام الرواية، بل لم أزل على النهر والبنت أمامي والشجر قدامي وأنا أفكِّر في نجاة صاحبي. أسأل الله تبارك وتعالى نجاتي ونجاته، ومكافأة تلك الفتاة بما تحب وترضى (2). * بسم الله. ليلة الأحد، 4 صفر، سنة 1358. رأيتُ وأنا نائم كأنني نائم فجاء بعض أهلي يجر الفراش من تحتي _________ (1) غير واضحة في الأصل، فلعلها ما أثبت. (2) الرؤى الثلاثة من مجموع [4716].

(24/470)


يوقظني للصلاة، فكأنني استيقظت ونظرت فإذا قد بقي ساعة أو أقل من طلوع الشمس. وهو يقول لي: قم صلِّ! قم صلِّ، وإلا اخرُجْ من عندنا ــ أو قال: اذهب، أو انتقل، أو ارتحل، أو كلمة نحوها ــ وإلا فلماذا ترفع يديك في الصلاة؟ ! وكأنني شكرته على ذلك وقمتُ وذهبت لأصلي في المسجد وعمدت لأتوضأ، فكأن هناك بِرْكةً وموضئًا فيه درج إلى أسفل وفي بعض الدرج حنفيَّات يمنة ويسرة. فكأنني جلستُ أتوضَّأ من حنفية منها، ومقابلي بعض معارفي (1) يتوضَّأ. ثم كأنني ذهبت للصلاة في المسجد فوجدت نفسي في بيت كأنه بيت رجل من أصحاب "ج"، وكأن "ج" معي، وكأنني جالس وهو يعرض عليَّ قصيدة (لم أذكر بعد اليقظة شيئًا منها، ولا بحرها، ولا رويَّها). وكأنني أستعجله لإدراك صلاة الصبح، وهو يسرد القصيدة، وإذا هي (2) طويلة مكتوبة في وجه الورقة وظهرها، وكأنه فرغ منها، وقمنا للصلاة في ذاك البيت لضيق الوقت، وكأنني أبسط ثوبًا لنصلِّي عليه. والبيت ضيِّق، فيه دواليب، وليس فرش ولا هيئة حسنة. ثم كأنني أحس في نفسي أنني لا أزال راقدًا، وأن ما جرى أوَّلًا كان حُلمًا. وكأنني أقاتل نفسي لأستيقظ، وأنا لا أستطيع. فكأن شخصًا (لم أره إلا أنني ظننت حينئذ أنه الذي حاول إيقاظي أوَّلًا) يجرُّ اللِّحاف من فوقي. وفي هذا الوقت استيقظت حقيقةً، فقمت وأنا أتوهَّم أنه قد قرب طلوع _________ (1) كتب فوقه: "خصم د * م * ل". (2) في الأصل: "هي في".

(24/471)


الشمس لأني أعتاد قبل ذلك أن أرى في نحو ذلك الوقت ما يوقظني، ولكني نظرت فإذا الليل باقٍ، ثم نظرتُ الساعة فإذا هي 40 دقيقة بعد 12 ساعة (1). _________ (1) مجموع [4730].

(24/472)