×
مجموع يضم بين دفتيه ثلاثة كتب من تأليف العلامة المعلمي اليماني - رحمه الله -، يربطها ببعضها رابط وثيق، ولكل منها دور في تكميل الآخر وتعزيزه، والثلاثة جميعًا تعتبر كالتوطئة للكتاب العظيم «التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل».

 طليعة التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، ويليه: تعزيز الطليعة، ويليه: شكر الترحيب

تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله تعالى (1312 - 1386) تحقيق عليّ بن محمد العمران

(مقدمة 9/1)


مقدمة التحقيق الحمد لله، والصلاة والسلام على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه. وبعد، فهذا مجموع يضم بين دفتيه ثلاثة كتب من تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن المعلمي رحمه الله، يربطها ببعضها رابط وثيق، ولكل منها دور في تكميل الآخر وتعزيزه، والثلاثة جميعًا تعتبر كالتوطئة للكتاب العظيم «التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل». * ملخّص قصة تأليفها ودافعه: ألف الشيخ محمد زاهد الكوثري (ت 1371 هـ) كتابًا عنونه بـ «تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب» انتقد فيه ما ساقه الحافظ الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) في ترجمة أبي حنيفة من كتابه «تاريخ بغداد» من المثالب عن السالفين. وطبع كتابه في مصر عام 1360 هـ. فلما اطلع عليه المؤلف بطلب من أحدهم ــ بعد أن اعتذر أول مرة من النظر فيه ــ رأى أنه بحاجة إلى جوابٍ مفصل عما وقع فيه الكوثري من الأخطاء العلمية والطعن في أئمة السنة ورواتها، فألف كتابًا ــ وهو في الهند ــ سماه «التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل» (1) وقسمه إلى أربعة أقسام: قسم القواعد، وقسم الرواة، وقسم الفقهيّات، وقسم العقائد. ولما كان كتاب «التنكيل» على وشك التمام رأى المؤلف أن يقتضب نموذجًا منه فيه أهم ما وقع فيه الكوثري من الأخطاء، وسماه «طليعة التنكيل _________ (1) وكان قد سماه بادئ الأمر «النقد البري».

(مقدمة 9/5)


بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل» طُبع بمصر سنة 1368 هـ. في نحو 100 ص من القطع المتوسط. بيّن فيه مغالطات الكوثري فيما يتعلّق برواة الحديث خاصةً، وجعلها أنواعًا هي: أ- الأوابد: تبديل الرواة. ذكر فيه اثني عشر مثالًا (ص 5 - 31) وذكر باقيها في «التنكيل». ب- العوامد: كلام لا علاقة له بالجرح يجعله جرحًا. ذكر فيه سبعة أمثلة. (ص 32 - 37). ج- العجائب: اهتبال التصحيف والغلط. ذكر فيه سبعة أمثلة. (ص 39 - 49). د- الغرائب: تحريف نصوص أئمة الجرح والتعديل. ذكر ستة أمثلة. (ص 50 - 54). هـ- الفواقر: تقطيع نصوص أئمة الجرح والتعديل. ذكر اثني عشر مثالًا. (ص 54 - 59). و- العواقر: جرحٌ لم يثبت يحكيه بصيغة الجزم. ذكر ستة أمثلة. (ص 59 - 66). ز- التجاهل والمجازفة: تجهيل الثقات، ذكر سبعة أمثلة (ص 66 - 77). ح- الأعاجيب: يطلق صيغ الجرح مفسَّرةً وغير مفسرةٍ بما لا يوجد في كلام الأئمة. ذكر ستة أمثلة (ص 77 - 87). وأحال على البقية في «التنكيل». فهذه ثمانية فروع، ثم ذكر عنواناتِ ستةِ فروعٍ أخرى استوفى ذِكرها في

(مقدمة 9/6)


التنكيل. فلما اطَّلع الكوثري على «الطليعة» كتب ردًّا عليها سماه «الترحيب بنقد التأنيب» بناه على أمرين: الأول: الطعن في قصد المؤلف، واتهامه بالطعن في أبي حنيفة، والتعليق على عبارات قاسية وردت في متن الكتاب وتعليقاته. الثاني: ناقش ما أورده الشيخ من أمثلة وحاول أن يتملّص من عُهدة التغيير والتبديل التي أثبتها المؤلف عليه. فما كان من المعلمي حين وقف على «الترحيب» إلا أن أردف «الطليعة» برسالتين يجيب فيهما عما أورده الكوثري، وهما: «تعزيز الطليعة» و «شكر الترحيب» ولم يطبعا في حياة المؤلف ولا بعده. أما الرسالة الأولى ــ تعزيز الطليعة ــ: فقد شرح المؤلف في أولها سبب تأليفها، وبين الظروف التي طبعت فيها «الطليعة» مما أدى إلى وقوع بعض الأخطاء المطبعية، وزيادات في المتن والتعليقات ليست منه وإنما ممن قام على طبع الرسالة ... وقسّم الرسالة إلى بابين: الباب الأول: مطالب متفرّقة. وفيه أربعة فصول: الأول: شرح فيه أمورًا تتعلق بكتاب «التنكيل» وخطورة ما فعله الكوثري على السنة. (ص 5 - 8) الثاني: تعليقه على محاولة الكوثري التبرؤ مما نسبه إليه. (ص 9 - 19)

(مقدمة 9/7)


الثالث: تكلم على مسألة الغلو في الأفاضل. (ص 20 - 32). الرابع: في تفريق الكوثري الأمة إلى حنفية وعامة المسلمين (ص 33). ثم خلص إلى تحرير قاعدة التهمة (ص 34 - 44). ثم دلف إلى عدة قواعد خلّط فيها الكوثري، ومع أنه لم يعنونها ــ سهوًا كما أظن ــ إلا أنها هي الباب الثاني من الكتاب، وما زال يشير إليها في مواضع عدة بالقواعد، ولذا فقد وضعت لها عنوانًا بين معكوفين هكذا: [الباب الثاني: في قواعد خلّط فيها الكوثري]، وذكر فيه أربع قواعد: 1 - رمي الراوي بالكذب في غير الحديث النبوي (45 - 50). 2 - التهمة بالكذب (ص 51 - 62). 3 - رواية المبتدع (ص 63 - 84). 4 - قدح الساخط ومدح المحب (ص 85 - 96). ويلاحظ هنا أن المؤلف قد ذكر جميع هذه القواعد في التنكيل، لكنه صرح بأنه أعادها هنا للحاجة إليها، قال (ص 33): «فالنظر في شأنهم يتوقف على تحرير قاعدة التهمة، وقد كنت بسطته في التنكيل ثم دعت الحاجة إلى تلخيصه هنا». وكذلك في (ص 38) وضرب عليها. أما الرسالة الثانية ــ شكر الترحيب ــ: فقد بدأها المؤلف بمقدمة شرح فيها سبب تأليف التنكيل، وأنه لخص نموذجًا منه وطبعه، ثم رأى رسالة الكوثري في الرد عليها، ثم شرح ما وقع من ملاحظات على طبعة الطليعة في ثلاث نقاط. وقد جعل الرسالة في بابين:

(مقدمة 9/8)


[الباب الأول] (1): النظر في خطبة الكتاب وما للكوثري فيها من الوهم (7 - 26). الباب الثاني: النظر في أجوبة الكوثري على ما أورده في الطليعة، وذكر ما وقع في كل فرع على حدة. (27 - 81). مقارنة بين «تعزيز الطليعة» و «شكر الترحيب»: كلتا الرسالتين ردٌّ على رسالة الكوثري «الترحيب بنقد التأنيب»، فموضوعهما إذًا واحد، وكلتاهما قد قسمهما المؤلف إلى مقدمة وبابين. أما المقدمة في كلتا الرسالتين فقريبة المادة، وإن كانت مقدمة «شكر الترحيب» أبسط في شرح ظروف وملابسات طباعة «الطليعة». أما من جهة الفرق بينهما؛ فإن «التعزيز» مناقشة كليّة لمقاصد الكوثري وأخطائه وما يترتب على القول بها من مخاطر على السنة. وذلك واضح من عنوانات فصول الباب الأول من الرسالة التي سقناها سابقًا (ص 7 - 8)، أما الباب الثاني فهو في ذكر قواعد خلّط فيها الكوثري فردّ على تخليطه، وحرر القول فيها وحققه، وذكر فيه أربع قواعد. أما «شكر الترحيب» فهو تتبع لكلام الكوثري وجواب عنه بحسب سياقه له في كتابه، فنظر المؤلف أولًا في خطبة كتابه، يسوق كلامَه ويعلّق عليه بقوله: «لا أوافق» ويشرح مقاصده، أو يوافقه عليه، ويشرح غرضه. هذا في الباب الأول، أما الثاني، فتتبّع المعلمي جواب الكوثري عن الأمثلة التي _________ (1) ذهل المؤلف عن وضع هذا العنوان فوضعته بين معكوفين، وانظر ما سلف (ص 8) في ذهوله عن وضع الباب الثاني في رسالة «التعزيز».

(مقدمة 9/9)


أوردها المؤلف في «التنكيل» فرعًا فرعًا وترجمة ترجمة، وبه ينتهي الكتاب. وعند النظر نجد أن الرسالتين يكمّل بعضهما الآخر،؛ إذ إن كل رسالة انتحت طريقةً في الرد، الأولى في التقعيد والتحرير، والأخرى في التتبُّع والاستدراك على الترتيب. وأما أيهما تقدمت على الأخرى في التأليف فمما لا يمكن الجزم به، ولم أقف على قرائن يستفاد منها لتحديد أيهما المتقدم، ولا يبعد أن يكون قد شرع فيهما معًا، وعليه فلا ضير إنْ قدّمنا إحداهما على الأخرى في الترتيب في هذا المجموع، ورأيت أن تتقدم رسالة «تعزيز الطليعة» على «شكر الترحيب» لكونها من حيث العنوان أقرب إلى نصرة «الطليعة» فناسب أن تليها في الترتيب. ويبدو أن المؤلف لم ينشط لطباعتهما في حياته خوفَ أن يصيبهما ما أصاب «الطليعة» من الأخطاء المطبعية أو التصرف بالتعليق ونحوه. وقد صرح بأن هذا سبب تأخره في طباعة التنكيل أيضًا (1). * * * * _________ (1) انظر «شكر الترحيب» (ص 6).

(مقدمة 9/10)


وصف نسخ الرسائل الثلاث * أولًا: نسخة الطليعة له نسختان، مبيّضة ومسوَّدة، أما المبيضة فهي من مخطوطات جامعة الملك عبد العزيز ــ قسم المجموعات الخاصة، ضمن مكتبة الشيخ محمد نصيف رقم (2813)، وهي بخط المؤلف وتقع في (76 ص) بترقيم المؤلف، في كل صفحة 15 سطرًا غالبًا. كتب على ورقة العنوان بخط المؤلف «طليعة التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل» لمؤلفه عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العُتمي اليماني عفا الله عنه. ثم كتب تحته بخط الشيخ محمد نصيف: «تأليف العلامة المفضال الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي اليماني المقيم بحيدراباد الدكن بالهند» ثم كتب: «أحسن الله إليه في ا (1)» وضرب عليها. وكتب بجواره ثم ضرب عليه: «أرسله مؤلفه الشيخ عبد الرحمن من حيدراباد الدكن ليُطبع، وأذن بالتعليق عليه. وكتبه محمد نصيف» (2). والنسخة كاملة مبيَّضة قليلة الضرب والتصويب، واضحة الخط على خلاف عامة رسائل المؤلف. _________ (1) كذا، وكأنه أراد أن يكتب «في الدارين». (2) وكان نصيف قد علَّق تعليقًا واحدًا على (ص 2) عند ذكر الكوثري معرّضًا ومعرِّفًا به، ثم ضرب على التعليق.

(مقدمة 9/11)


وكان ينبغي أن تكون الطبعة الأولى للكتاب موافقة تمامًا لما في هذه النسخة؛ إذ عنها صدرت، لكن الذي قام على طبع الكتاب غيَّر في عبارات عدة غالبًا في التهجّم على الكوثري، مما اضطر المؤلف رحمه الله لحذفها في الطبعة الثانية، والاعتذار عنها في تعزيز الطليعة، وفي شكر الترحيب، وفي التنكيل. ومع ذلك فلم يستطع المؤلف تعديل كلِّ العبارات المغيَّرة، خاصة كلمة «الأستاذ» التي التزمها المؤلف في أغلب صفحات الكتاب، وحُذفت من الطبعة الأولى، فأعدناها في طبعتنا هذه لتطابق ما كتبه المؤلف أول مرة. كما أمر المؤلف أيضًا في «التنكيل» وفي «شكر الترحيب» بإصلاح أو تغيير بعض العبارات، كما أثبتّ ذلك في مواضعه من «الطليعة» انظر (ص 7، 8، 9، 78، 79). والظاهر أن هذه النسخة المبيّضة بقيت بعد طبعها عند الشيخ محمد نصيف ولم تعد إلى مؤلفها، وإلا لوجدت ضمن كتبه التي خلّفها في غرفته في مكتبة الحرم المكي الشريف، كما هو واضح. وأما المسوَّدة، فهي محفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم (4250) وتقع في (32 ص) بخط مؤلفها، وكتب عنوانها في أول الرسالة كما هو مثبت على المبيّضة، والنسخة ناقصة قرابة النصف. * ثانيًا: نسخة تعزيز الطليعة تحتفظ مكتبة الحرم المكي الشريف بالنسخة الوحيدة منها برقم (4697)، وتقع في (43 ص) بخط المؤلف.

(مقدمة 9/12)


وعلى ورقة العنوان بخط مؤلفها عنوان الكتاب: «تعزيز الطليعة لراجي عفو ربه الكريم عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني غفر الله له». والنسخة شبه تامة وإن كان قد اعتورها النقص من آخرها، وتبدأ الصفحات الثلاث الأولى بخط جميل معتنى به ثم تعود سيرتها الأولى في الضرب والتخريج والإضافة والتحويلات، بما صعب معه جدًّا تخليص الكتاب، لولا أن عدة من مباحثه قد أعادها المؤلف في «التنكيل» أو لخّصها من «التنكيل» هنا، كما أنه قد يستخدم قلم الرصاص أحيانًا كما في (ص 11) فلا يظهر في التصوير مما دعا إلى مراجعة الأصل الخطي مرارًا، وقد أكثر المؤلف فيها من التحويل من صفحة إلى صفحة، فيكتب ربع الصفحة 25 مثلًا ويحيل إلى باقي الكلام إلى ص 21، وفي أثناء ص 21 يحيل إلى ص 35 ثم يعود إلى ص 25، هكذا. فنرجو أن نكون قد تتبعنا هذه المواضع وأثبتناها في أماكنها على ما أراد المؤلف، على أنه قد استخدم القلم الأحمر في تمييز هذه الإشارات وإن لم تظهر في مصوَّرته الورقية. وكان المؤلف قد أحال على كتابه هذا في رسالة «الاستبصار» (ص 42 هامش 1) في بعض الإلحاقات ثم ضرب عليه وأحال على «التنكيل». * ثالثًا: نسخة شكر الترحيب له نسختان، مبيَّضة ومسوَّدة، أما المبيضة فهي من محفوظات مكتبة الحرم المكي الشريف برقم (4699) وتقع في (53 ص) مكتوبة بخط المؤلف، وهي أقرب إلى المسوَّدة من حيث كثرة الضرب والتخريج. تبدأ الورقة الأولى بمقدمة الكتاب وكتب فوقها «شكر الترحيب شرح مقاصد لبعض كتب التراجم»! وهذا العنوان يبدو أنه للمفهرس أو لأحد

(مقدمة 9/13)


المطالعين، والذي يظهر أن العنوان كان في ورقة مستقلة فمُزِع أو تلف، فاستدركه المفهرس لكنه أضاف من عند نفسه باقي العنوان، فأخطأ. أما المسوَّدة فتقع في (18 ص) أولها غير موجود، تبدأ بقوله: «فيتألمون من الخطيب ... »، ومن ميزاتها أن فيها كلامًا مهمًّا في بيان الباعث على تأليف التنكيل والطليعة، وفيها أيضًا التصريح بتسمية الرسالة إذ قال: «ثم وقفت الآن على رسالة للأستاذ ... ردًّا على الطليعة سماها «الترحيب بنقد التأنيب» فبدا لي أن أقدِّم شكرًا لهذا الترحيب». وأتوجّه بالشكر إلى أخويّ الكريمين: الشيخ أسامة الحازمي إذ تولّى نسخ «تعزيز الطليعة»، والشيخ عبد الرحمن قائد إذ نسخ «شكر الترحيب» فجزاهما الله خيرًا. والحمد لله رب العالمين. وكتب علي بن محمد العمران في 15/ 1/ 1433 هـ

(مقدمة 9/14)


صور المخطوطات

(مقدمة 9/15)


الورقة الأولى من "الطليعة"

(مقدمة 9/17)


ورقة العنوان من "الطليعة"

(مقدمة 9/18)


الورقة الأولى من "تعزيز الطليعة"

(مقدمة 9/19)


الورقة قبل الآخيرة من "تعزيز الطليعة"

(مقدمة 9/20)


الورقة الأولى من "شكر الترحيب"

(مقدمة 9/21)


طَلِيعةُ التَّنْكِيلِ بِما في تَأنِيبِ الكَوْثَرِيِّ مِنَ الأباطِيلِ تأليف العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي اليماني رحمه الله تعالى 1312 - 1386 تحقيق عليّ بن محمد العمران

(9/1)


[ص 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد ألّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. أما بعد، فإني وقفت على كتاب "تأنيب الخطيب" للأستاذ العلامة محمد زاهد الكوثري، الذي تعقَّب فيه ما ذكره الحافظ المحدث (1) الخطيب البغدادي في ترجمة الإمام أبي حنيفة من "تاريخ بغداد" (2) من الروايات عن الماضين في الغَضِّ من أبي حنيفة. فرأيتُ الأستاذ تعدَّى ما يوافقه عليه أهلُ العلم من توقير أبي حنيفة وحُسْن الذبّ عنه إلى ما لا يرضاه عالم متثبِّت من المغالطات المضادّة للأمانة العلمية، ومن التخليط في القواعد، والطعن في أئمة السنة ونَقَلَتها، حتى تناول بعضَ أفاضل الصحابة والتابعين، والأئمة الثلاثة مالكًا والشافعي وأحمد وأضرابهم، وكبار أئمة الحديث وثقات نَقَلَته، والردّ لأحاديث صحيحة ثابتة، والعيب للعقيدة السلفية، وأساء في ذلك جدًّا حتى إلى الإمام أبي حنيفة نفسه، فإنه من [ص 3] يزعم أنه لا يتأتَّى الدفاع عن أبي حنيفة إلا بمثل ذلك الصنيع فساء ما يُثْني عليه (3). _________ (1) "الحافظ المحدث" من (ط 2). (2) (13/ 323 - 454). (3) كذا الأصل، وفي الطبعة الأولى: "بمثل الطعن في هؤلاء الأكابر، فقد فضح وأساء إلى من يريد الذب عنه بسوء صنيعه".

(9/3)


فدعاني ذلك إلى تعقُّب (1) الأستاذ فيما تعدَّى فيه، فجمعتُ في ذلك كتابًا أسميته "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل"، ورتبته على أربعة أقسام: القسم الأول: في تحرير القواعد التي خَلَّط فيها الأستاذ. الثاني: في تراجم الأئمة والرواة الذين طعن فيهم الأستاذ، وهم ثلاثمائة ونيّف، فيهم أنس بن مالك رضي الله عنه، وهشام بن عروة بن الزبير بن العوام، والأئمة الثلاثة، وفيهم الخطيب. وأدرجتُ في ذلك تراجم أفراد مطعون فيهم حاول توثيقهم، ورتبت التراجم على حروف المعجم. الثالث: في الفقهيَّات، وهي مسائل انتُقِدت على أبي حنيفة وأصحابه، حاول الأستاذ الانتصار لمذهبه. الرابع: في الاعتقاديات، ذكرتُ فيه الحُجّةَ الواضحةَ لصحة عقيدة أئمة الحديث إجمالًا. وعدة مسائل تعرَّض لها الأستاذ. ولم أقتصر على مقصود التعقّب، بل حَرَصت على أن يكون الكتاب جامعًا لفوائد عزيزة في علوم السنة، مما يعين على التبحُّر والتحقيق فيها. وحَرَصت على توخِّي الحق والعدل، واجتناب ما كرهته للأستاذ، خلا أن إفراطه في إساءة القول في الأئمة جَرَّأني على أن أصرِّح ببعض ما يقتضيه صنيعه. وأسأل الله تعالى التوفيق لي وله. _________ (1) (ط): "تعقيب".

(9/4)


[ص 4] والكتاب على وشك التمام (1)، وهذه "طليعة" له أُعَجّلها للقراء، شرحتُ فيها أمثلة من مغالطات الأستاذ ومجازفاته، وذلك أنواع: - أ - فمن أوابد الأستاذ: تبديل الرواة. يتكلَّم الأستاذ في الأسانيد التي يسوقها الخطيب طاعنًا في رجالها واحدًا واحدًا، فربما مرَّ به الرجل الثقة الذي لا يجد فيه طعنًا مقبولًا، فيفتِّش الأستاذ عن رجل آخر يوافق ذاك الثقة في الاسم واسم الأب ويكون مقدوحًا فيه، فإذا ظفر به زعم أنه هو الذي في السند (2). فمن أمثلة ذلك: 1، 2 - صالح بن أحمد، ومحمد بن أيوب. قال الخطيب في "التاريخ" (13/ 394 (3) [412 - 413]): "أخبرنا محمد بن عيسى بن عبد العزيز البزاز بهمذان حدثنا صالح بن أحمد _________ (1) تمّ الكتاب بحمد الله تعالى، وطبع بعد وفاة الشيخ رحمه الله أواخر سنة 1386 بتصحيح الشيخ الألباني وعلى نفقة الشيخ محمد نصيف جزاهما الله خيرًا، وتغمدهما برحمته. (2) وقع له هذا في "تأنيبه" في اثني عشر موضعًا أو أكثر كلها تروّج رأيه، ولم يقع له فيما يخالف رأيه موضع واحد. وهكذا في الضروب الأخرى، فمن السخرية بعقول الناس أن يقال: أخطأ ووهِم! [المؤلف]. (3) كذا الأصل، وكذا في "التأنيب". وهو مخالف لرقم النسخة المتداولة اليوم من "التاريخ" الطبعة الأولى سنة 1349 بمصر، وانظر التعليق على "التنكيل" (1/ 149). أقول: من أجل ذلك أضفتُ رقم الصفحة من الطبعة المتداولة اليوم بين معكوفين [] بعد رقم الصفحة التي أحال إليها المؤلف والكوثري. ثم رجعت للطبعة الجديدة التي حققها د. بشَّار عوّاد للتثبّت، وقيّدت ما وجدته من فروق أو فوائد فيها.

(9/5)


التميمي الحافظ حدثنا القاسم بن أبي صالح حدثنا محمد بن أيوب أخبرنا إبراهيم بن بشَّار قال: سمعت سفيان بن عيينة ... ". تكلَّم الأستاذ في هذه الرواية (ص 97) من "التأنيب" فقال: "في سنده صالح بن أحمد التميمي، وهو ابن أبي مُقاتل القيراطي، هرويّ الأصل، ذكر الخطيب عن ابن حبان أنه كان يسرق الحديث ... ، والقاسم بن أبي صالح الحذَّاء ذهبت كتبه [ص 5] بعد الفتنة، فكان يقرأ من كتب الناس، وكُفّ بصره، [كما] (1) قاله العراقي، ونقله ابن حجر في "لسان الميزان". ومحمد بن أيوب بن هشام الرازي كذَّبه أبو حاتم ... ، ولا أدري كيف يسوق الخطيب مثل ذلك الخبر بمثل ذلك السند المذكور؟ ولعل الله سبحانه طمس بصيرته، ليفضحه فيما يدَّعي أنه المحفوظ عند النقلة، بخذلانه المكشوف في كل خطوة". أقول: أما صالح فصالح بن أحمد الواقع في السَّنَد موصوف في السَّند نفسه بأنه: (1) تميمي. (2) حافظ. (3) يظهر أنه هَمَذاني لأن شيخه والراوي عنه همذانيان. (4) يروي عن القاسم بن أبي صالح. (5) يروي عنه محمد بن عيسى بن عبد العزيز. (6) ينبغي بمقتضى العادة أن يكون توفِّي بعد القاسم بمدة. (7) ينبغي بمقتضى العادة أن لا يكون بين وفاته ووفاة الراوي عنه مدة طويلة مما يندر مثله. _________ (1) من (ط 2) وكتاب الكوثري.

(9/6)


وهذه الأوجه كلها منتفية في حق القيراطي، فلم يوصف بأنه تميمي، ولا بأنه حافظ وإن قيل: كان يُذكر بالحفظ، فإن هذا لا يستلزم أن يطلق عليه (الحافظ). ولم يُذكر أنه همذاني، بل ذكروا أنه هَرَوي الأصل سكن بغداد، ولم تُذْكَر له رواية عن القاسم (1)، ولا لمحمد بن عبد العزيز رواية عنه (2)، [والظاهر أنه جيءَ به إلى بغداد طفلًا، أو ولد بها؛ فإن في ترجمته من "تاريخ بغداد" ذكر جماعة من شيوخه وكلهم عراقيون من أهل بغداد والبصرة ونواحيها، أو ممن ورد على بغداد، وسماعه منه قديم، فمن شيوخه البغداديين: يعقوب الدورقي المتوفى سنة 252 (3)، ويوسف بن موسى القطان المتوفى 253، ومن البصريين: محمد بن يحيى بن أبي حزم القِطَعي المتوفى سنة 253، وصرّح الخطيب في ترجمة فَضْلك الرازي (4) بأن ابن أبي مقاتل بغدادي، فلا شأن له من جهة السماع بهمذان ولا بهراة] (5). وكانت وفاته سنة 316، أي قبل وفاة القاسم باثنتين وعشرين سنة، وقبل وفاة _________ (1) والقيراطي متهم بسرقة الحديث، وإنما يحمله على ذلك ترفعه أن يروي عن أقرانه فمَن دونهم، وشيوخه توفوا سنة 252 أو نحوها، وأقدم شيخ سمي للقاسم توفي سنة 277، وشيخه في هذه الحكاية توفي سنة 294، فكيف يروي سارق الحديث عن أصغر منه بنحو خمس عشرة سنة عن أصغر من شيوخ السارق بنحو أربعين سنة؟ [المؤلف]. (2) بل لم يدركه، فإن شيوخ محمد توفوا سنة 375 فما بعدها إلا واحدًا منهم يظهر أنه توفي قبلها بقليل، وذلك بعد وفاة القيراطي بنحو ستين سنة. [المؤلف]. (3) وقع في "التنكيل" (202) خطأ. (4) "التاريخ": (12/ 367). (5) زيادة استدركها المصنف رحمه الله في "التنكيل" (رقم 109) وأمر أن تُزاد هنا.

(9/7)


محمد بن عيسى بن عبد العزيز (1) بمائة وأربع عشرة سنة (2)، فكيف يروي محمد عمن مات قبله بأزيد من مائة سنة عمن مات بعد الشيخ باثنتين وعشرين سنة؟ ! [ص 6] ومن اطلع على "التأنيب" وغيره من مؤلفات الأستاذ عَلِم أنه لا يُؤتى من جهلٍ بطريق الكشف عن تراجم الرجال الواقعين في الأسانيد، ومعرفة كيف يُعلم انطباق الترجمة على المذكور في السند وعدم انطباقها، ولا يُؤتَى من بخلٍ بالوقت ولا سآمة للتفتيش، فلا بد أن يكون الأستاذ قد عرف أكثر هذه الوجوه إن لم نَقُل جميعَها، وبذلك عَلِم لا محالة أن صالح بن أحمد الواقع في السند ليس بالقيراطي، فيحمله ذلك على المواصلة للبحث، فيجد في "تاريخ بغداد" (3) نفسه في الصفحة اليسرى التي تلي الصفحة التي فيها ترجمة القيراطي ــ وقد نقل الأستاذ عنها ــ يجد ثَمّة ترجمة رجل آخر "صالح بن أحمد بن محمد ... أبو الفضل التميمي الهمذاني قَدِم بغداد وحدَّث بها عن ... والقاسم بن بندار (وهو القاسم ابن أبي صالح كما في ترجمته من "لسان الميزان" (4)، وقد نقل الأستاذ عنها) وكان حافظًا فهمًا ثقة ثبتًا ... ". لهذا الحافظِ ترجمةٌ في "تذكرة الحفاظ" (3/ 181) وفيها في أسماء _________ (1) لم أقف على تاريخ وفاة محمد بن عيسى، ولكن الخطيب أدركه بهمذان، فبان أنه كان حيًّا عند دخول الخطيب همذان. [المؤلف]. (2) الأصل: "بأزيد من مائة سنة" وأمر المؤلف في "التنكيل": (رقم 109) بإصلاحها بما أثبت. (3) (9/ 317). (4) (6/ 371).

(9/8)


شيوخه "القاسم بن أبي صالح" وفيها ثناء أهل العلم عليه، وفيها أن وفاته سنة 384. وذكره ابنُ السمعاني في "الأنساب" (1) الورقة 592، وذَكَر في الرواة عنه: أبا الفضل محمد بن عيسى البزاز. وإذ كانت وفاة هذا الحافظ سنة 384 فهي متأخرة عن وفاة القاسم بست وأربعين سنة، ومتقدمة على وفاة محمد بن عيسى بستٍّ وأربعين سنة (2)، ومثل هذا يكثُر في العادة في الفرق بين وفاة الرجل ووفاة شيخه ووفاة الراوي عنه، فاتضح يقينًا أن هذا الحافظ الفهم الثقة الثبت هو الواقع في السند. [ص 7] وقد عرف الأستاذ هذا حقّ معرفته، والدليل على ذلك: أولًا: ما عرفناه من معرفة الأستاذ وتيقّظه. ثانيًا: أن ترجمة التميمي قريبة من ترجمة القيراطي التي طالعها الأستاذ. ثالثًا: أن من عادة الأستاذ ــ كما يُعْلَم من "التأنيب" ــ أنه عندما يريد القدح في الراوي يتتبع التراجم التي فيها ذاك الاسم واسم الأب فيما تصل إليه يده من الكتب، ولا يكاد يقنع بترجمة فيها قدح، لطمعه أن يجد أخرى فيها قدح أشْفَى لغيظه. رابعًا: في السند "الحافظ" وذلك يدعو الأستاذ إلى مراجعة "تذكرة الحفاظ" (3). خامسًا: في عبارة الأستاذ: "والقاسم بن أبي صالح الحذّاء ذهبت كتبه بعد _________ (1) (13/ 425 - 426). (2) الأصل: "بنيف وثلاثين" وأمر المؤلف في "التنكيل": (رقم 109) بتغييرها بما هو مثبت. (3) "رابعًا ... الحفاظ" من الأصل فقط.

(9/9)


الفتنة، فكان يقرأ من كتب الناس وكُفّ بصره، قاله العراقي، ونقله ابن حجر في "لسان الميزان"". والذي في "لسان الميزان" (4/ 460) (1): " (ز) - قاسم بن أبي صالح بندار ... الحذاء ... روى عنه إبراهيم بن محمد بن يعقوب وصالح بن أحمد الحافظ ... قال صالح: كان صدوقًا متقنًا لحديثه، وكتبه صحاح بخطه، فلما وقعت الفتنة، ذهبت عنه كتبه، فكان يقرأ من كتب الناس وكُفّ بصره، وسماع المتقدمين عنه أصح". وحرف (ز) أول الترجمة إشارة إلى أنها من زيادة ابن حجر. كما نبه عليه في خطبة "اللسان" (2)، وذكر هناك أن لشيخه العراقي ذيلًا على "الميزان"، وأنه زاد تلك التراجم وغيرها في "اللسان" فما كان من ذيل شيخه العراقي جعل في [ص 8] أول الترجمة حرف (ذ) وما كان من غيره جعل حرف (ز)، فعُلِم من هذا أن ترجمة القاسم من زيادة ابن حجر نفسه لا من ذيل العراقي. هب أن الأستاذ وهمَ في هذا، فالمقصود هنا أن الذي في الترجمة من الكلام في القاسم هو من كلام الراوي عنه صالح بن أحمد الحافظ، فلماذا عَدَل عنه الأستاذ (3) ونسبه إلى العراقي؟ _________ (1) (6/ 371 - 372). (2) (1/ 193). (3) (ط): "فلماذا دلّس الكوثريُّ النقلَ وحرَّفَه". والظاهر أنها من زيادات المصحح التي تبرّأ المؤلف من عُهدتها في "تعزيز الطليعة" (ص 94 هامش 1)، وفي "شكر الترحيب" (ص 190 - 191).

(9/10)


الجواب واضح، وهو أن الكوثري خشي إن نَسَب الكلام إلى صالح بن أحمد الحافظ أن يتنبَّه القارئ فيقول: الظاهر أن صالح بن أحمد الحافظ هذا هو الواقع في سند الخطيب والظاهر أنه غير القيراطي لوجهين: الأول: أن القيراطي مطعون فيه، فلم يكن الحفَّاظ ليعتدُّوا بكلامه في القاسم، وكذلك الأستاذ الكوثري لم يكن ليعتدَّ بكلام القيراطي. الثاني: أن كلام صالح في الترجمة يدل أنه تأخر بعد القاسم، والقيراطي توفي قبل القاسم باثنتين وعشرين سنة، وبهذا يتبين أيضًا أن الكلام في القاسم لا يضره بالنسبة إلى رواية الخطيب، لأنها من رواية صالح بن أحمد الحافظ نفسه عنه وهو المتكلم فيه، فلم يكن ليروي عنه إلا ما سمعه منه من أصوله قبل ذهابها، فأعرض الأستاذ لهذين الغرضين عن صالح بن أحمد الحافظ، ونسبَ كلامه إلى العراقي، وحذف من العبارة ما فيه ثناء على القاسم. وهذه عادةٌ له، ستأتي أمثلة منها إن شاء الله تعالى. [ص 9] والمقصود هنا إثبات أن الأستاذ قد عرف يقينًا أن صالح بن أحمد الواقع في السند ليس هو بالقيراطي، بل هو ذاك الحافظ الفهم الثقة الثبت (1)، ولكن كان الأستاذ مضطرًا إلى الطعن في تلك الرواية، ولم يجد في ذاك الحافظ مغمزًا، ووقعت بيده ترجمة القيراطي المطعون فيه، وعرف أن هذا الفن أصبح بغاية الغُربة، فغلب على ظنه أنه إذا زعم أن الواقع في السند هو القيراطي لا يردّ ذلك عليه أحد، فأما الله تبارك وتعالى فله معه حساب آخر، والله المستعان. _________ (1) وليس من شأن الأستاذ تقليد معظمه ولا لجنته، وقد انتقدهما ص 56 في "تأنيبه" حيث لم يكن له هوى في موافقتهما. [المؤلف]. وهذا التعليق مما زاده المؤلف في (ط. الثانية).

(9/11)


وأما محمد بن أيوب؛ فالأستاذ يعلم أن المشهور بهذا الاسم في تلك الطبقة، والمراد عند الإطلاق في الرواية هو الحافظ الجليل الثقة الثبت محمد بن أيوب بن يحيى بن الضريس، ترجمته في "تذكرة الحفاظ" (3/ 195). وقد احتجّ الأستاذ (ص 114) في معارضة ما رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن ابن أبي سريج بما رواه الخطيب عن البرقاني عن أبي العباس بن حمدان عن محمد بن أيوب عن ابن أبي سريج، وذلك بناء من الأستاذ على أن شيخ ابن حمدان هو محمد بن أيوب بن يحيى بن الضريس لشهرته، هذا مع أنه لا يُعرف لابن الضريس رواية عن ابن أبي سريج، فأما روايته عن إبراهيم بن بشَّار فنصّ عليها المِزّي في ترجمة إبراهيم من "تهذيبه" (1) قال: "روى عنه ... ومحمد بن أيوب بن يحيى بن الضريس". فأما محمد بن [ص 10] أيوب بن هشام فمُقِلّ مرغوب عن الرواية عنه، لا تُعرف له رواية عن إبراهيم بن بشار ولا للقاسم بن أبي صالح رواية عنه. فقد بدَّل الأستاذ عمدًا في ذاك السند حافظين جليلين برجلين مطعون فيهما، وصنع ما صنع في شأن القاسم بن أبي صالح، وقد بان أنه ثقة، وأن هذه الرواية من صحيح روايته. ومن العجائب أن الأستاذ ارتكب هذه الأفاعيل (2) وهو يعلم أن ذلك لا يغني عنه شيئًا، ولو لم تتبين الحقيقة؛ لأن ذلك الأثر نفسه ثابت عن _________ (1) (1/ 103). (2) (ط): "الأباطيل".

(9/12)


إبراهيم بن بشَّار من غير هذه الطريق، فقد ذكره ابن عبد البر في "الانتقاء" (ص/148) (1) عن "تاريخ ابن أبي خيثمة" قال: "حدثنا إبراهيم بن بشار ... " و"الانتقاء" تحت نظر الكوثري كل وقت، كما يدل عليه كثرة نقله عنه في "التأنيب". وأعجب من هذا كلِّه وأغرب قول الكوثري بعد تلك الأفاعيل: "ولا أدري كيف يسوق الخطيب ... ولعل الله سبحانه طمس بصيرته ليفضحه بخذلانه المكشوف في كل خطوة". وهذا المترجَّى واقع ولكن بمن؟ هكذا تكون الأمانة عند الأستاذ (2)! [ص 11] 3 - أحمد بن الخليل. قال الخطيب (13/ 375 [380]): "أخبرنا ابن الفضل أخبرنا عبد الله بن جعفر حدثنا يعقوب بن سفيان حدثنا أحمد بن الخليل حدثنا عبدة ... ". ذكر الأستاذ هذه الرواية (ص 46) وقال: "وأحمد بن الخليل هو البغدادي المعروف بجور، توفي سنة ستين ومائتين، قال الدارقطني: ضعيف لا يحتج به. وهكذا يكون المحفوظ عند الخطيب". أقول: الصواب في لقب البغدادي الذي تكلم فيه الدارقطني "حور" بالحاء المهملة كما ضبطه أصحاب "المشتبه" (3). والذي في "الميزان" _________ (1) (ص 275 - المحققة). (2) "هكذا ... الأستاذ" من الأصل فقط. (3) انظر "المؤتلف والمختلف": (1/ 499) للدارقطني، و"الإكمال": (2/ 167) لابن ماكولا، و"توضيح المشتبه": (2/ 538).

(9/13)


و"اللسان" (1) في وفاته: "بقي إلى ما بعد الستين ومائتين" ولم يذكروا له رواية عن عبدة، ولا ليعقوب بن سفيان رواية عنه، وقد قال يعقوب بن سفيان كما في ترجمة أحمد بن صالح من "تهذيب التهذيب" (2): "كتبتُ عن ألف شيخ وكسر كلهم ثقات". وقبل ترجمة (حور) في "تاريخ بغداد" (3) ترجمة رجل آخر: "أحمد بن الخليل أبو علي التاجر البغدادي ... روى عنه ... ويعقوب بن سفيان". وهذا التاجر له ترجمة في "التهذيب" (4)، وفيها رواية يعقوب بن سفيان عنه، وتوثيق الأئمة له، وفيها: "قلت: لم أر له في أسماء شيوخ النسائي ذِكرًا، بل الذي فيه أحمد بن الخليل، نيسابوري، كتبنا عنه، لا بأس به، وقد قال الدارقطني: قديم، لم يحدِّث عنه من البغداديين أحد وإنما حديثه بخراسان، فلعله سكن خراسان". أقول: فكأنَّ النسائي نَسَبه إلى مسكنه. فهذا هو الواقع في سند الخطيب؛ لأنه هو الذي يروي عنه يعقوب بن سفيان، ولأنه ثقة، ويعقوب كتب عن الثقات، ولأنه سكن خراسان. [ص 12] وشيخه في السند عبدة، وهو خراساني، ولا ريب أن الأستاذ عند تفتيشه عن أحمد بن الخليل وقف أوّلًا على ترجمة هذا التاجر، وعرف _________ (1) "الميزان": (1/ 96)، و"اللسان": (1/ 453). (2) (1/ 40). (3) (4/ 129). (4) (1/ 27).

(9/14)


أنه هو الواقع في السند، ولكنه رآه ثقة، وهو بالحاجة إلى الطعن في تلك الرواية، فعَدَل عنه إلى ذاك الضعيف "حور". نعوذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر، وهكذا تكون الأمانة عند الأستاذ (1)! 4 - محمد بن جَبُّويه. قال الخطيب (3/ 370 [371 - 372]): "جبريل بن محمد المعدل بهمذان حدثنا محمد بن حيويه (كذا) النخاس حدثنا محمود بن غيلان ... ". ذكر الأستاذ هذه الرواية (ص 34) وقال: " ... في الطبعات الثلاث: "حَيّويه" والصحيح "جَبّويه"، هو ابن جبويه النخاس الهمذاني، وقد كذَّبه الذهبي في "تلخيص المستدرك" حيث قال في حديث مِيناء: ابن جبويه متهم بالكذب ... ". وذكر الخطيب (13/ 381 [390]) أثرًا آخر بمثل السند المتقدم، فقال الأستاذ (ص 64): "ووقع في الطبعات الثلاث بلفظ "حيويه"، وهو تصحيف كما سبق، متهم بالكذب ... ، وقال الذهبي في "مشتبه النسبة" (كذا) (2): ومحمد بن جبويه الهمذاني عن محمود بن غيلان. اهـ. لكن لا يمكن إدراكه لابن غيلان ... والخبر كذب مُلفَّق". أقول: قول الأستاذ: "لا يمكن إدراكه لابن غيلان" واضح الدلالة على أن الأستاذ اطلع على وفاة هذا الرجل، وليست مذكورة في "تلخيص [ص 13] المستدرك" ولا في "المشتبه"، وإنما هي مذكورة في ترجمته من الكتب، إذنْ فقد اطّلع الأستاذ على ترجمته، وهذا واضح فإنه يبعد أن يعثر الأستاذ _________ (1) "عند الأستاذ" من الأصل. (2) يشير المصنف رحمه الله إلى خطأ الكوثري في تسمية كتاب الذهبي، وإنما اسمه الصحيح "المشتبه".

(9/15)


على ما في "تلخيص المستدرك" بدون أن يقف على الترجمة، وهَبْه عثر على ذلك قبل النظر في الترجمة، فمن عادة الأستاذ أنه لا يشتفي بمثل ذلك الطعن، بل يفتِّش عن الترجمة لعله يجد فيها طعنًا أشد من ذلك. وكأنني بالأستاذ أوَّلَ ما نظر في هذا الرجل راجع "الميزان" و"اللسان"، فوجد في الأول بين ترجمتي محمد بن حنيفة ومحمد بن حيدرة "محمد بن حيويه بن المؤمّل الكَرَجي ... قال الخطيب ... "، ووجد في الثاني بين ترجمتي محمد بن حويطب ومحمد بن حيدرة كما في الأول، وزاد: "وروى أيضًا عن الدَّبَري ... مات سنة 373، وأورد له الحاكم في "المستدرك" حديثًا في مناقب فاطمة. فقال الذهبي: ... محمد بن حيويه الكرجي متهم بالكذب"، ولمّا وجد الأستاذ فيهما "قال الخطيب ... " راجع "تاريخ بغداد" فوجد فيه (5/ 233) في أواخر حرف الحاء المهملة من أبناء المحمدين ترجمة هذا الرجل، ولما وجد في "اللسان" ذِكْر "المستدرك" راجع فضائل فاطمة عليها السلام من "المستدرك"، فوجد فيه (3/ 160): "حدثنا أبو بكر محمد بن حيويه بن المؤمل الهمذاني حدثنا إسحاق ... ". وفي "تلخيصه" للذهبي: "ثنا محمد بن حيويه الهمذاني حدثنا إسحاق الدبري ... " ثم قال الذهبي: "ابن حيويه متهم بالكذب". ولم يجد الأستاذ في هذه المراجع كلها ما يشعر بأن هذا هو الواقع [ص 14] في سند تينك الروايتين عند الخطيب، بل وجد ما يدفع ذلك، فإنهم أرّخوا وفاة هذا الرجل سنة 373 وشيخ الواقع في السند محمود بن غيلان وفاته سنة 239، ومن هنا أخذ الأستاذ أنه لم يدركه، ثم راجع الأستاذ "مشتبه الذهبي" لعله يجد فيه ذِكْرًا للواقع في السند، فظفر بذلك "محمد بن جبويه الهمذاني عن

(9/16)


محمود بن غيلان" فعلم أن هذا هو الواقع في السند وأنه غير الكرجي. أولًا: لأنهم اتفقوا على أن أول اسم والد الكرجي حاء مهملة، وكلهم من أئمة (المشتبه)، ومنهم الذهبي نفسه في "الميزان" وهو الذي ضبطَ والدَ الراوي عن محمود بن غيلان بالجيم والموحَّدة. وثانيًا: لأن الذهبي يقول في ابن جبويه "عن محمود بن غيلان" والكَرَجي لم يدرك محمودًا، فانقسم الأستاذ شطرين، شطره حقق أن الصواب في الواقع في السند (محمد بن جبويه) بالجيم والموحدة، وشطره مال مع الهوى، فزعم أن الواقع في السند هو الذي اتهمه الذهبي! وكنتُ كذي رِجلين رجلٍ صحيحة ... ورجلٍ رمى فيها الزمانُ فشَلَّتِ (1) وقد ذكر ابن ماكولا في "الإكمال" (2) الرجلين قال: "أما جَبُّويه أوله جيم معجمة بعدها باء مشددة معجمة بواحدة، فهو محمد بن جبويه بن بندار أبو جعفر الهمذاني النخاس، يروي عن محمود بن غيلان ... حدث عنه ... وجبريل بن محمد". وقال فيمن أوله حاء مهملة: "وأما حَيُّويه بياء قبل الواو معجمة باثنتين من تحتها فهو ... ومحمد بن حيويه أبو بكر الكرجي، [ص 15] يعرف بابن أبي روضة، حدَّث عن ... وإسحاق الدَّبَري". وعُذْر الأستاذ أن ابن جبويه لم يَطْعن فيه أحد، والأستاذ مضطرّ إلى الطعن في تينك الروايتين، وهكذا تكون الأمانة عند الأستاذ! هذا، والأثر الأول رواه محمود بن غيلان عن وكيع، فقال الأستاذ بعدما _________ (1) البيت لكثيّر عزة "ديوانه" (ص 55). (2) (2/ 364 و 360 - 361 على التوالي).

(9/17)


تقدم: "فلا يصح هذا الخبر عن وكيع بمثل هذا السند، والذي صحّ عنه هو ما أخرجه الحافظ أبو القاسم بن أبي العوَّام صاحب النسائي والطحاوي في كتابه "فضائل أبي حنيفة وأصحابه" المحفوظ بدار الكتب المصرية وعليه خطوط كثير من كبار العلماء الأقدمين وسماعاتهم، وهو من مرويات السِّلَفي حيث قال: حدثني محمد بن أحمد بن حماد قال: حدثنا إبراهيم بن جُنيد قال: حدثنا عُبيد بن يعيش قال حدثنا وكيع ... اهـ. وأين هذا من ذاك؟ فبذلك تبين ما في رواية الخطيب بطريق ابن جبويه الكذاب من الدخائل. هكذا يكون المحفوظ عند الخطيب، نسأل الله العافية". أقول: المشهور من آل أبي العوام أحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن أحمد، ولَّاه العُبيديون الباطنية القضاء بمصر، فكان يقضي بمذهبهم، ولم أر من وثَّقه، روى عنه الشهاب القضاعي هذا الكتاب الذي ذكره الأستاذ، رواه أحمد عن أبيه عن جده على أنه تأليف الجد عبد الله بن محمد. وقد فتشت عن تراجمهم؛ فأما أحمد بن محمد فله ترجمة في "قضاة مصر" (1) وفي "الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية" (2) لعبد القادر القرشي، ووعد القرشيُّ أن يذكر أباه وجدَّه، ثم ذكر الجد (3) فقال: "عبد الله بن محمد بن أحمد جدّ أحمد بن محمد بن عبد الله الإمام المذكور في حرف الألف، ويأتي ابنه محمد". _________ (1) "رفع الإصر عن قضاة مصر" (ص 101 - 106). (2) (رقم 210). (3) (رقم 722).

(9/18)


هذا نص الترجمة بحذافيرها، [ص 16] ولم أجد فيها (1) ترجمةً لمحمد، فعبد الله هذا هو الذي يقول الأستاذ فيه: "الحافظ ... صاحب النسائي والطحاوي". كأنه أخذ ذلك من روايته عنهما في ذاك الكتاب. فأما أحمد فقد عُرِف بعضُ حاله، وأما أبوه وجدّه فلم أجد لهما أثرًا إلا من طريقه، وأما محمد بن أحمد بن حماد فترجمته في "لسان الميزان" (5/ 41) (2). وأما إبراهيم بن جُنيد، فإن كان هو الرَّقِّي فمجهول كما في "لسان الميزان" (1/ 45) (3). وإن كان هو إبراهيم بن عبد الله بن الجُنيد الخُتَلي البغدادي ــ نُسِب إلى جده ــ فثقة، لكن لم أر في ترجمته من "تاريخ بغداد" (4) ذِكْر عُبيد بن يعيش في شيوخه، ولا محمد بن أحمد بن حماد في الرواة عنه (5). وأما عُبيد بن يعيش فذكره ابن حبان في "الثقات" (6) وقال: "كان يخطئ". وعلى فرض صحة هذه الرواية فليس فيها ما ينافي رواية الخطيب، بل هما متفقتان في أصل المعنى، غاية الأمر أن في رواية الخطيب زيادة، وقد يكون وكيع قال مرة كذا، وقال مرة كذا. وعلى فرض التنافي فرواية الخطيب _________ (1) أي "الجواهر المضيئة" [المؤلف]. وكذا ذكر محققها عبد الفتاح الحلو. (2) (6/ 506). (3) (1/ 260). (4) (6/ 120). (5) محمد بن أحمد بن حماد أبو بشر الدولابي من تلاميذ إبراهيم بن الجنيد، روى عنه في مواضع كثيرة من كتابه "الكنى والأسماء". (6) (8/ 431).

(9/19)


أثبت، والأستاذ يتحقق ذلك، ولكنه يفعل الأفاعيل، ثم يبالغ في التهويل، ثم يقول: "نسأل الله العافية"! 5 - أبو عاصم. قال الخطيب (13/ 391 [409]): " ... الأبار حدثنا الحسن بن علي الحُلْواني حدثنا أبو عاصم عن أبي عَوانة ... ". فذكر الأستاذ هذه الرواية (ص 92) ثم قال: " ... وفيه أيضًا أبو عاصم العبَّاداني وهو منكر الحديث". أقول: الأستاذ يعلم أن الواقع في السند هو أبو عاصم النبيل الضحّاك بن مَخْلد الثقة المأمون؛ لأنه هو المشهور بأبي عاصم في تلك [ص 17] الطبقة، والمراد عند الإطلاق، وعنه يروي الحُلْواني كما في ترجمة الضحاك من "تهذيب التهذيب" (1) وترجمة الحُلواني من "تهذيب المزي" (2). ولكن هكذا تكون الأمانة عند الأستاذ! وذكر الخطيب (3/ 423) أثرين، أحدهما من طريق أبي قلابة الرَّقاشي، والآخر من طريق مُسدَّد، كلاهما عن أبي عاصم عن سفيان الثوري، فذكرهما الأستاذ (ص 169) ثم قال: "وربما يكون أبو عاصم في السندين هو العبَّاداني وحاله معلومة". أقول: قد عَلِم الأستاذ أنه الضحَّاك بن مَخْلد النبيل الثقة المأمون، فإنه المعروف بالرواية عن الثوري كما في ترجمته من "تهذيب التهذيب" (3)، _________ (1) (4/ 451). (2) (2/ 152 - 153). (3) (4/ 450).

(9/20)


وترجمة الثوري من "تهذيب المِزي" (1). وعنه يروي أبو قِلابة الرَّقاشي كما في ترجمته من "تاريخ بغداد" (10/ 425). وقد تغلَّب الأستاذ هنا على هواه إلى حدٍّ ما، إذ اقتصر على قوله: "وربما ... " ولم يجزم كعادته. 6 - أحمد بن إبراهيم. قال الخطيب (13/ 381 [389]): " ... الأبار أخبرنا أحمد بن إبراهيم قال: قيل لشريك ... ". ذكر الأستاذ هذه الرواية (ص 61)، ثم قال: " ... وأما أحمد بن إبراهيم فهو النُّكْري، ولفظه لفظ الانقطاع، ولم يدرك شريكًا إلا وهو صبي". أقول: أول مذكور ممن يقال له: أحمد بن إبراهيم في "تاريخ بغداد" (2)، [ص 18] و"تهذيب التهذيب" (3): "أحمد بن إبراهيم بن خالد الموصلي". وذكر سماعَه من شريك، وذكر المزيّ في "التهذيب" (4) شريكًا في شيوخه (5). ويُعْلَم من تاريخ وفاته والنظر في مولد الأبار أن الأبار أدركه إدراكًا واضحًا، وهو معه في بلد، وبذلك يُعلم أنه هو الواقع في السند، ولكن الأستاذ رأى هذا ثقةً فالتمس غيره ممن تتهيَّأ له المغالطة به، ويكون فيه مطعن، فلم يجد إلا النكري، وهو ثقة أيضًا لكن كان صغيرًا عند وفاة شريك، ولم تُذْكر له رواية عن شريك، فقنع به الأستاذ، وهكذا تكون الأمانة عند الأستاذ! _________ (1) (3/ 219). (2) (4/ 5). (3) (1/ 9) وليس فيه ذكر شريك. (4) (1/ 25). (5) "وذكر ... شيوخه" من (ط 2).

(9/21)


وأما قول الأستاذ: "لفظ انقطاع" فيردُّه أن أحمد بن إبراهيم الموصلي ثقة، وقد ثبت سماعُه من شريك، ولم يكن مدلّسًا، فروايته عن شريك محمولة على السماع، كما هو معروف في علوم الحديث، وأصول الفقه. وسيأتي شرح هذه القاعدة وبعض دقائقها في القسم الأول من "التنكيل" (1) إن شاء الله تعالى. 7 - أبو الوزير. قال الخطيب (13/ 384 [397]): " ... عبد الله بن محمود المروزي، قال: سمعت محمد بن عبد الله بن قُهْزاذ يقول: سمعت أبا الوزير أنه حضر عبد الله بن المبارك ... ". ذكر الأستاذ هذه الرواية (ص 69) ثم قال: "عبد الله بن محمود مجهول الصفة، وكذا أبو الوزير عمر بن مطرّف". أقول: عبد الله بن محمود من الحفاظ الأثبات كما يأتي في فرع (2) (ز) من هذه "الطليعة" إن شاء الله تعالى. [ص 19] وأما أبو الوزير فكيف يزعم الأستاذ أنه عمر بن مطرِّف؟ مع أن عمر بن مطرف لم يُعرف بروايةٍ أصلًا، وإنما ذُكِر اسمه في نسب ابنيه إبراهيم ومحمد. وقد قال الأستاذ (ص 83): "قاعدة ابن المبارك في الفقه ... " وإنما أخذ ذلك مما رواه الخطيب (13/ 343): " ... أبو حمزة المروزي قال: سمعتُ _________ (1) انظر (1/ 135 فما بعدها). (2) كذا في الأصل وانظر (ص 77)، وإن كان المؤلف قد سماها أحيانًا "أنواعًا". وسمّاها في "شكر الترحيب": "فروعًا" في مواضع عدة.

(9/22)


ابن أعْيَن أبا الوزير ... ". وعادة الأستاذ في الصبر على التنقيب تقضي بأنه قد راجع "الكنى" للدولابي فوجد فيه (2/ 147): "أبو الوزير محمد بن أعين المروزي، روى عن ابن المبارك" فبادر الأستاذ إلى نظر هذا الاسم في "تهذيب التهذيب" فوجد فيه (9/ 66): "محمد بن أعْيَن أبو الوزير المروزي خادم ابن المبارك، روى عنه وعن ابن عُيينة وفُضيل بن عياض ... وخَلْق، وعنه أحمد وإسحاق و ... ومحمد بن عبد الله بن قهزاذ وآخرون، قال أبو علي محمد بن علي بن حمزة المروزي: يقال إن عبد الله أوصى إليه، وكان من ثقاته وخواصه، وذكره ابن حبان في "الثقات" (1)، وقد ذكره ابنُ أبي حاتم (3/ 2/207) فقال: "وَصِيُّ ابن المبارك". فعلم الأستاذ يقينًا أن هذا هو الواقع في السند، ولكنه لم يجد فيه مغمزًا؛ لأن ثقة ابن المبارك به واعتماده عليه توثيق، ورواية الإمام أحمد عنه توثيق؛ لِمَا عُرِف من توقّي أحمد (2)، ومع ذلك توثيق ابن حبان، ولم يعارض ذلك شيءٌ، ففزع الأستاذ إلى التبديل كعادته، فزعم أن أبا الوزير [ص 20] الواقع في السند هو عمر بن مطرف؛ وذلك أنه لم يجد في كنى "التهذيب" ذكرًا لأبي الوزير، فطمع أن من يتعقبه لا يهتدي إلى ترجمة محمد بن أعين! _________ (1) (9/ 65). (2) كان ابن المبارك رجل دين ودنيا، فلم يكن ليثق في شؤونه في حياته وفي مخلفاته بعد وفاته إلا بعدل أمين يقظ، وهذا توثيق عملي قد يكون أقوى من القولي، والإمام أحمد لا يروي إلا عن ثقة عنده، صرح به شيخ الإسلام ابن تيمية، والسبكي في "شفاء السقام" والسخاوي في "فتح المغيث" ص 134، ويقتضيه ما في "تعجيل المنفعة" ص 15 و 19. وفي ترجمة عامر بن صالح ما يدل على ذلك. [المؤلف].

(9/23)


ثم رأى في الأبناء من "التهذيب" (1): "ابن وزير جماعة منهم محمد ... " فرجع إلى من يقال: (محمد بن الوزير) فوجد جماعة، ووجد معهم: "محمد بن أبي الوزير هو محمد بن عمر، تقدم"، فنظر ترجمته فإذا هو محمد بن عمر بن مطرف، فمن هنا أخذ الأستاذ اسم عمر بن مطرِّف، والله أعلم. وهكذا تكون الأمانة عند الأستاذ! 8 - محمد بن أحمد بن سهل. قال الأستاذ (ص 63): "وهناك رواية ... وهي ما رواه هبة الله الطبري في "شرح السنة" عن محمد بن أحمد بن سهل (الأصباغي) عن محمد بن أحمد بن الحسن (أبي علي بن الصواف) ... ". كذا فسر الأستاذ من عنده بقوله: "الأصباغي"، مع أن الأصباغي سكن دمشق، وهو مُقِلّ لا يعرف له رواية عن ابن الصوَّاف، ولا لهبة الله رواية عنه ولا لقاء، واقتصر الخطيب في ترجمته (1/ 307) على قوله: " ... سكن دمشق وحدّث بها عن محمد بن الحسين البُسْتَنْبان، وروى عنه أبو الفتح بن مسرور". ومعرفة الأستاذ ويقظته تقتضي أن يكون قد شعر بهذا وفتَّش، فعلم أن شيخ هبة الله في السند هو محمد بن أحمد بن فارس بن سهل أبو الفتح بن أبي الفوارس الحافظ الثقة الثبت، وترجمته في "تاريخ بغداد" (1/ 352) وفيها: "سمع من ... وأبي علي بن الصوَّاف ... حدث عنه ... وهبة الله بن _________ (1) (12/ 316).

(9/24)


الحسن الطبري". [ص 21] وإنما أسقط هبةُ الله في ذاك السند اسمَ الجد على ما عُرف من عادة المحدِّثين في تفننهم في ذِكْر شيوخهم الذين أكثروا عنهم. 9 - محمد بن عمر. قال الخطيب (13/ 405 [430]): "محمد بن الحسين بن حميد بن الربيع حدثنا محمد بن عمر بن دليل قال: سمعت محمد بن عُبيد الطنافسي ... ". ذكر الأستاذ هذه الرواية (ص 126) وقال: "محمد بن عمر هو ابن وليد التيمي، وقد تصحَّف "وليد" إلى "دليل" في الطبعات كلها، ويقول عنه ابن حبان: يروى عن مالك ما ليس من حديثه ... ". أقول: لم يذكروا في ترجمة محمد بن عمر بن وليد التيمي الذي تكلم فيه ابن حبان وغيره أنه يروي عن محمد بن عُبيد الطنافسي، ولا أنه يروي عنه محمد بن الحسين بن حميد بن الربيع، وأُراه أقدم من ذلك، فإنه يروي عن المتوفَّين حوالي سنة 180، كمسلم بن خالد، ومالك، وهُشيم، فيبعد أن ينزل إلى محمد بن عبيد المتوفى سنة 204، ولم يذكروا راويًا عن التيمي هذا إلا أبا زرعة المولود سنة 200، ويبعد أن يكون أدركه ــ أعني التيمي هذا ــ محمدُ بن الحسين بن حميد الذي أقدمُ من سُمِّي من شيوخه موتًا أبو سعيد الأشج المتوفى سنة 257، فالأقرب أن يكون الواقع في السند هو محمد بن عمر بن وليد الكندي الكوفي، يروي عن الكوفيين المتوفَّين حوالي سنة مائتين، وأقدم من سَمّوا من شيوخه محمد بن فُضَيل المتوفى سنة 195.

(9/25)


وذكر [ص 22] ابن أبي حاتم (1) هذا الكنديَّ فقال: "كتب عنه أبي في الرحلة الثالثة بالكوفة، وقَدِمنا الكوفة سنة 255 وهو حي فلم يُقْض لنا السماع منه". وقال النسائي: "لا بأس به"، وذكره ابن حبان في "الثقات" (2). فهذا كوفيّ يروي عن أقران محمد عبيد، ومحمد بن عبيد كوفيّ وقد أدركه ــ أعني الكندي ــ محمد بن حسين بن حميد بن الربيع وهو كوفي أيضًا. وهذا لا يخفى على الأستاذ، لكنه لم يجد في هذا مغمزًا فعَدَل إلى التيمي المطعون فيه لحاجة الأستاذ إلى الطعن في تلك الرواية، والله المستعان. 10 - محمد بن سعيد. قال الخطيب (13/ 375 [381]): " ... محمود بن غيلان حدثنا محمد بن سعيد عن أبيه ... ". فذكر الأستاذ هذه الرواية (ص 47) ثم قال: "محمد بن سعيد هو ابن سَلْم (3) الباهلي، وقد قال ابن حجر عنه (4) في "تعجيل المنفعة": منكر الحديث مضطربه، وقد تركه أبو حاتم ووهَّاه أبو زرعة فقال: ليس بشيء. اهـ. وإلى الله نشكو من هؤلاء الرواة الذين لا يخافون الله ... وهكذا يكون المحفوظ عند الخطيب". أقول: هذا يصلح أن يُعدّ نوعًا مستقلًّا من مغالطات الأستاذ، وهو اغتنام الخطأ الواقع في بعض الكتب إذا وافق غرضَه، والذي في "تعجيل المنفعة" _________ (1) (8/ 22). (2) (9/ 142). (3) (ط): "مسلم" تصحيف. (4) أي "فيه" [المؤلف].

(9/26)


(ص 324) (1): "محمد بن سعيد الباهلي البصري الأثرم عن سلام بن سليمان القارئ، وعنه أبو بكر محمد بن عبد الله جار عبد الله بن أحمد وشيخه، ويعقوب [ص 23] بن سفيان ومحمد بن غالب تَمْتام وجماعة، منهم أبو حاتم، ثم تركه، وقال: هو منكر الحديث مضطرب الحديث، ووهّاه أبو زرعة، فقال: ليس هو بشيء". فهذه الترجمة فيها تخليط لا أدري أَعَن سقطٍ نشأ أم عن غلط، وهذا الذي تكلموا فيه ليس هو محمد بن سعيد بن سلم، ولا هو باهلي، بل هو محمد بن سعيد بن زياد أبو سعيد القرشي الكُرَيزي البصري الأثرم، ذكره البخاري في "التاريخ" (1/ 1/96): "محمد بن سعيد القرشي البصري ... ". وذكره ابن أبي حاتم في كتابه (3/ 2/264): "محمد بن سعيد بن زياد القرشي أبو سعيد المصري (البصري؟ ) (2) الأثرم سكن بغداد ... سمع منه أبي ولم يحدِّث عنه، سمعته يقول: هو منكر الحديث مضطرب الحديث ... ، سألت أبا زرعة ... فقال: ضعيف الحديث ... وليس بشيء". وله ترجمة في "تاريخ بغداد" (5/ 305) وفي "الميزان" و"اللسان". _________ (1) (2/ 181 - ط. المحققة)، والنص فيها كما هو في الطبعة القديمة، فإن كان التخليط نشأ عن سقط أو غلط كما قال المؤلف، فمن مؤلفها لا من النسخ، وقد جاء اسمه في "مسند أحمد ــ زيادات عبد الله" (16703) كما ساقه الحسيني في "الإكمال" وابن حجر في "التعجيل". فالمؤلف يرى أن الذي تكلّم عليه الأئمة هو: محمد بن سعيد القرشي، والذي جاء في المسند: محمد بن سعيد الباهلي. فهما مفترقان لا متفقان. لكن لم أجد مَن عدَّهما اثنين في كتب الرجال، فالله أعلم. (2) تصحيح من المؤلف، وقد جاء على الصواب في الصفحة التي تليها من "الجرح والتعديل": (7/ 265).

(9/27)


ولا أشكُّ أن الأستاذ قد عرف ذلك، وعرف أن ما في "التعجيل" تخليط، ولكن إذا كان الأستاذ يصطنع المغالطات اصطناعًا كما مرَّ، فكيف لا يغتنم ما جاء عفوًا؟! والذي يظهر أن هناك محمد بن سعيد الباهلي يروي عن سلام بن سليمان القارئ، وعنه محمد بن عبد الله جار عبد الله بن أحمد، فاختلطت في "التعجيل" ترجمة هذا بترجمة محمد بن سعيد بن زياد القرشي الكُرَيزي البصري الأثرم، فأما الواقع في السند فهو كما قال الأستاذ محمد بن سعيد بن سَلْم الباهلي، ولم يطعن فيه أحد. وتأمل قول الأستاذ: "وإلى الله نشكو ... "! [ص 24] 11 - أبو شيخ الأصبهاني. قال الخطيب (13/ 384 [396]): " ... محمد بن عبد الله الشافعي قال: حدثني أبو شيخ الأصبهاني حدثنا الأثرم ... ". وقال (13/ 411 [438]): " ... محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي حدثنا أبو شيخ الأصبهاني حدثنا الأثرم ... ". أشار الأستاذ (ص 69) إلى الرواية الأولى وقال: "في سنده أبو شيخ الأصبهاني، ضعَّفه بلديُّه الحافظ أبو أحمد العسَّال، وله ميل إلى التجسيم". وأشار (ص 141) إلى الرواية الثانية وقال: "وفي سنده أبو الشيخ الأصبهاني، وقد ضعَّفه العسَّال" (1). وذكر الأستاذ (ص 49) حكايةً في سندها أبو محمد بن حيان فقال: _________ (1) انظر ما سيأتي في "التنكيل": (1/ 517 - 519) بخصوص تضعيف العسّال لأبي الشيخ وأنه لم يثبت. وحاشيتَه بخصوص سؤال الشيخ سليمان الصنيع للكوثري عن مصدره في نقل هذا التضعيف، فلم يذكر له شيئًا. وقد كان للمؤلف اهتمام بالغ بهذه المسألة؛ ففي رسالة منه إلى الشيخ أحمد شاكر يسأله عن مسائل منها هذه وفيها: "أن الكوثري يقول في أبي الشيخ هذا: "ضعفه بلديُّه الحافظ أبو أحمد العسّال بحق" فأحب أن أعرف مستند الكوثري في ذلك. وفي ذهني قصة فيها: أن رجلًا من المحدثين هجر صاحبًا له في حكاية عن الإمام أحمد تتعلق ببعض أحاديث الصفات، وقال الهاجر ما معناه: لا أزال هاجرًا له حتى يخرج تلك الحكاية من كتابه. هذه حكاية وقفت عليها قديمًا. ولم أهتد الآن لموضعها، ويمكن أن تكون الواقعة لأبي الشيخ والعسال وأن تكون هي مستند الكوثري".

(9/28)


"وأبو محمد بن حيان هو أبو الشيخ ... وقد ضعّفه بلديُّه الحافظ العسَّال". أقول: أما أبو الشيخ وهو أيضًا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأصبهاني فتأتي ترجمته في "التنكيل" (1) إن شاء الله تعالى. وأما هذا الراوي عن الأثرم وعنه أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي فهو رجل آخر ترجمته في "تاريخ بغداد" (2/ 326): "محمد بن الحسين بن إبراهيم بن زياد بن عجلان أبو شيخ الأصبهاني ... ، سكن بغداد وحدَّث بها عن ... وأبي بكر الأثرم ... ، روى عنه أبو بكر الشافعي ... ، ... وكان ثقة". فلا أدري أَعَرَف الأستاذ هذا وفَعَل ما فَعَل عمدًا، أم استعجل هنا على خلاف عادته، فلم يبحث حتى يتبين له أن أبا شيخ هذا غير أبي الشيخ المشهور. فالله أعلم (2). _________ (1) (رقم 129). (2) قال الكوثري في "الترحيب" (ص 329) تعليقًا على هذا الموضع: "وأما إفادة الأستاذ اليماني عن أن المراد بأبي شيخ هو محمد بن الحسين فأتقبّلها شاكرًا وداعيًا له بالمزيد ... ".

(9/29)


[ص 25] 12 - أبو الحسن بن الرزَّاز. في "تاريخ بغداد": (3/ 121) ترجمة لمحمد بن العباس بن حيويه أبي عمر الخَزَّاز، وفيها: "حدثني الأزهري قال: كان أبو عمر بن حَيُّويه مكثرًا وكان فيه تسامح، ربما أراد أن يقرأ شيئًا ولا يُقَرِّب أصلَه منه فيقرؤه من كتاب أبي الحسن بن الرزَّاز لثقته بذلك الكتاب، وإن لم يكن فيه سماعه، وكان مع ذلك ثقة". فاحتاج الأستاذ إلى الطعن في ابن حيويه هذا، فذكر (ص 21) بعضَ هذه العبارة وقال: " ... على أن أبا الحسن بن الرزَّاز الذي كان يثق بكتابه هو علي بن أحمد المعروف بابن طيب الرزاز، وهو معمَّر متأخر الوفاة ... نص الخطيب ... على أن ابنًا له كان أدخل في أصوله تسميعات طريَّة. فماذا تكون قيمة تحديث من يثق بها فيحدِّث من تلك الأصول! ". أقول: في "تاريخ بغداد" (11/ 330): "علي بن أحمد ... أبو الحسن المعروف بابن طيب الرزاز ... له دكان في سوق الرزازين ... حدثني بعض أصحابنا قال: دفع إليَّ علي بن أحمد الرزاز ... وحدثني الخلال قال: أخرج إليَّ الرزاز ... قلت: وقد شاهدت جزءًا من أصول الرزاز، وكان الرزاز مع هذا كثير السماع ... ". ثم ذكر أنه ولد سنة 335 ومات سنة 419، فالذي كان ابن حيويه ربما يقرأ من كتابه هو "أبو الحسن بن الرزاز" وعليُّ بن أحمد هذا هو أبو الحسن الرزاز كما تكرر في ترجمته. فأما قوله في أولها "المعروف بابن طيب الرزاز" فقوله: "الرزاز" من وصف عليٍّ نفسه لا من وصف [ص 26] "طيب". وسياق الترجمة يبين ذلك، وأيضًا فعليّ بن أحمد أصغر من ابن حَيُّويه بأربعين سنة، فيبعد جدًّا أن يحتاج ابن حيويه في قراءة حديثه إلى كتاب هذا

(9/30)


المتأخر، وأيضًا فلا يعرف بين الرجلين علاقة. وفي "تاريخ بغداد" (12/ 85): "علي بن محمد بن سعيد ... أبو الحسن الكندي الرزاز ... قال العَتيقي: وكان ثقة أمينًا مستورًا، له أصول حِسان". وذكر أنه توفي سنة 372، فهذا أقرب إلى أن يكون هو المراد، لكنه (الرزّاز) لا ابن الرزّاز. وفي "تاريخ بغداد" (12/ 113): "علي بن موسى بن إسحاق أبو الحسن، يعرف بابن الرزاز سمع ... روى عنه ابن حَيُّويه والدارقطني، وكان فاضلًا أديبًا ثقة عالمًا". فهذا هو الذي يتعيَّن أن يكون المراد بقول الأزهري: " ... فيقرؤه من كتاب أبي الحسن بن الرزاز لثقته بذلك الكتاب وإن لم يكن فيه سماعه". فكأنَّ بعض كتب علي بن موسى هذا صارت بعد وفاته إلى تلميذه ابن حيويه، وكان فيها ما سمعه ابن حيويه، لكن لم يقيَّد سماعه في تلك النسخة التي هي من كتب الشيخ، وبهذا تبين أنه لا يلحقُ ابن حيويه عيب، ولا يوجب صنيعه أدنى قدح، وسيأتي بسط ذلك في ترجمة محمد بن العباس من "التنكيل" (1) إن شاء الله تعالى. والمقصود هنا أن أبا الحسن بن الرزَّاز هو عليّ بن موسى بن إسحاق، لا عليّ بن أحمد كما زعم الأستاذ. وقد بقي غير هذه الأمثلة تأتي في مواضعها من "التنكيل" إن شاء الله تعالى. _________ (1) رقم (208).

(9/31)


[ص 27]ــ ب ــ ومن عوامده: أنه يعمد إلى كلام لا علاقة له بالجرح فيجعله جرحًا، فمن أمثلة ذلك: 1 و 2 - جرير بن عبد الحميد، وأبو عَوانة الوضَّاح بن عبد الله اليشكري. قال الذهبي في خطبة "الميزان" (1): "وفيه ــ يعني "الميزان"ــ من تُكُلِّم فيه مع ثقته وجلالته بأدنى لِين وبأقل تجريح، فلولا أن ابن عدي أو غيره من مؤلِّفي كتب الجرح ذكروا ذلك الشخص لما ذكرته لثقته". وهكذا قد يَذْكر في الترجمة عبارةً لا قَدْح فيها ولا مدح، وإنما ذَكَرها لاتصالها بغيرها، فمن ذلك أنه ذكر جرير بن عبد الحميد فقال في أثناء الترجمة: "قال ابن عمار: كان حجة وكانت كتبه صحاحًا. قال سليمان بن حرب: كان جرير وأبو عَوانة يتشابهان، ما كان يصلح إلا أن يكونا راعيين. وقال ابن المديني: كان جرير بن عبد الحميد صاحب ليل ... وقال أبو حاتم: جرير يُحتجّ به، وقال سليمان بن حرب: كان جرير وأبو عوانة يصلحان أن يكونا راعيي غنم، كانا يتشابهان في رأي العين، كتبت عنه أنا وابن مهدي وشاذان بمكة". لم يتعرض صاحب "التهذيب" مع محاولته استيعاب كل ما يقال من جرح أو تعديل لقضية التشابه ولا الصلاحية لرعي الغنم؛ لأنه لم ير فيها ما يتعلق بالجرح والتعديل. _________ (1) (1/ 2).

(9/32)


وأما الذهبي فذكر ذلك لاتصاله بغيره، ولأنّ ذِكْر الصلاحية لرعي الغنم إنما فائدته تحقيق التشابه في رأي العين، وبيان أنهما كانا يتشابهان ربما تكون له فائدة ما. والمقصود أن [ص 28] مراد سليمان من بيان صلاحية الرجلين لرَعْي الغنم هو تحقيق تشابههما في رأي العين كما يبينه السياق، ووجه ذلك: أنّ من عادة الغنم أنها تنقاد لراعيها الذي قد عَرَفَتْه وأَلِفَته وأَنِسَت به وعرفت صوته، فإذا تأخَّر ذاك الراعي في بعض الأيام، وخرج بالغنم آخر لم تَعْهَدْه الغنم لقي منها شدَّة لا تنقاد له، ولا تجتمع على صوته، ولا تنزجر بزجره، لكن لعلَّه لو كان الثاني شديد الشبه بالأول لانقادت له الغنم، تتوهَّم أنه صاحبها الأول، فأراد سليمان أنَّ تشابه جرير وأبي عوانة شديد بحيث لو رعى أحدُهما غنمًا مدة حتى أَلِفَتْه وأَنِسَت به، ثم تأخّر عنها وخرج الآخر لانقادت له الغنم، تتوهم أنه الأول. وقد روى سليمان بن حرب عن جرير (1)، وقال أبو حاتم: "كان سليمان بن حرب قلَّ من يرضى من المشايخ، فإذا رأيته قد روى عن شيخ فاعلم أنه ثقة". أما الأستاذ فإنه احتاج إلى الطعن في هذين الحافظين الجليلين جرير وأبي عوانة، فكان مما تمحَّله للطعن فيهما تلك الكلمة، وقَطَعها وفَصَلها بحيث يَخْفى أصلُ المراد منها، فقال في (ص 101) في جرير: "مضطرب _________ (1) كتب المؤلف أولًا: "الرجلين" ويبدو عليها آثار ضرب، وكتب في طرّة الصفحة ما هو مثبت، وعلق في الهامش: "وأُراه قد روى عن أبي عوانة ولكن لم أر من صرّح بذلك"اهـ.

(9/33)


الحديث لا يصلح إلا أن يكون راعي غنم عند سليمان بن حرب ... ". وقال (ص 92) في أبي عوانة: " ... كان يراه سليمان بن حرب لا يصلح إلا أن يكون راعي غنم". وأعاد نحو ذلك (ص 118). هب أن الأستاذ لا يعرف عادة الغنم فقد كان ينبغي أن ينبّهه السياق، ولعله قد تنبه ولكن تعمَّد المغالطة، ولذلك قَطَع العبارة وفَصَلها. والله المستعان (1). [ص 29] 3 - محمد بن عبد الوهاب أبو أحمد الفرَّاء. قال الأستاذ (ص 135): "معلول عند أبي يعلى الخليلي في الإرشاد". أقول: إطلاق كلمة "معلول" على الراوي من بدع الأستاذ، والذي في ترجمة محمد بن عبد الوهاب من "تهذيب التهذيب" (2): "قال الخليلي في "الإرشاد" (3) عَقِب حديث عليّ بن عثام عن سُعير بن الخِمْس عن مغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله ــ في الوسوسة ــ: قال لي عبد الله بن محمد الحافظ: أعجب من مسلم كيف أَدْخَل هذا الحديث في "الصحيح" عن محمد بن عبد الوهاب وهو معلول وفرد. انتهى. ولم أر الحديث المذكور في "صحيح مسلم" (4) إلا عن يوسف بن يعقوب الصفَّار عن علي بن عثَّام، فالله تعالى أعلم". _________ (1) وراجع "التنكيل" (رقمي 63 و 216). (2) (9/ 319). (3) (2/ 809). (4) (133).

(9/34)


أقول: مقصود ابن حجر من ذِكْر هذه الحكاية التنبيه على ما فيها من رواية مسلم في "الصحيح" عن محمد بن عبد الوهاب، فإن ذلك غير ثابت، إلا أن يصح هذا بأن يكون وقع في بعض النسخ من "صحيح مسلم" روايته الحديث عن محمد بن عبد الوهاب. وقد رواه أبو عوانة في "صحيحه" (1/ 79) عن محمد بن عبد الوهاب عن علي بن عثّام. وقول عبد الله بن محمد: "وهو معلول وفرد" يريد الحديث كما لا يخفى، وعِلَّته جاءت من فوق، ففي ترجمة سُعير بن الخِمْس من "تهذيب التهذيب" (1) أن مسلمًا أخرج له هذا الحديث الواحد، قال ابن حجر: "قلت: رفعه هو وأرسله غيره". وإنما قال عبد الله بن محمد: "عن محمد بن عبد الوهاب"؛ لأن محمدًا من معاصري مسلم وعاش بعد [ص 30] مسلم إحدى عشرة سنة، ومن عادة المحدثين اجتناب رواية ما ينزل سندهم فيه، والنزول في رواية مسلم عن محمد بن عبد الوهاب واضح، فتعجَّب عبد الله بن محمد من إخراج مسلم الحديثَ في "الصحيح"، مع أن هناك مانِعَين من إخراجه: الأول: نزول سنده. الثاني: أنه معلول وفرد. فبان أنه ليس في تلك الكلمة غضّ من محمد بن عبد الوهاب، وهو من الحفاظ الثقات الأثبات، ولم يجد الأستاذ فيه مغمزًا، فاضطر إلى تلك المغالطة القبيحة، والله المستعان. _________ (1) (4/ 105 - 106).

(9/35)


4 - عبد الله بن محمد بن عثمان بن السقاء. قال الأستاذ (ص 147): "هجره أهل واسط لروايته حديث الطير كما في "طبقات الحفاظ للذهبي"". أقول: الذي في ترجمة هذا الحافظ من "تذكرة الحفاظ" (3/ 165) من قول الحافظ خميس الحوزي: " ... من وجوه الواسطيين وذوي الثروة والحفظ ... وبارك الله في سِنّه وعِلْمه، واتفق أنه أملى حديث الطير، فلم تحتمله نفوسهم، فوثبوا به وأقاموه وغَسَلوا موضعه، فمضى ولزم بيته". أقول: الأستاذ يعلم أن هذه حماقة من العامة وجهل، لا يلحق ابن السقاء بها عيب ولا ذمّ ولا ما يشبه ذلك. وحديث الطير مشهور رُوي من طرق كثيرة، ولم ينكر أهل السنة مجيئه من طرق كثيرة، وإنما ينكرون صحته، وقد صححه الحاكم (1)، وقال غيره: إن طرقه كثيرة يدل مجموعها أن له أصلًا (2)، وممن رواه النسائيُّ في "الخصائص" (3)، [ص 31] لكن الأستاذ يقول: كما أن عامة ذاك العصر اشتد نكيرهم على هذا الحافظ، وظنوا أن روايته لذاك الحديث توجب سقوطه، فلعل عامة هذا الزمان إذا رأوا الأستاذ الكوثريَّ قد ذكر الحكاية في معرض الطعن في ذاك الحافظ= أن يظنوا أن في القصة ما يُعدُّ جرحًا! والله المستعان. _________ (1) في "المستدرك": (3/ 130 - 131). (2) قاله غير واحد منهم الهيتمي في "شرح الهمزية"، والسيوطي. (3) (8341) ضمن السنن الكبرى. وأخرجه الترمذي أيضًا (3721).

(9/36)


5 - سالم (1) بن عصام. قال الخطيب (13/ 410 [436]): "أخبرنا أبو نعيم الحافظ، ثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان، ثنا سالم (2) بن عصام، ثنا رسته، عن موسى بن المساور قال: سمعت جَبَّر، وهو عصام بن يزيد يقول: سمعت سفيان الثوري ... ". قال الأستاذ (ص 136): "وسالم بن عصام صاحب غرائب". أقول: ذَكَره الراوي عنه هنا وهو أبو محمد ويُقال أبو الشيخ عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان في كتابه: "طبقات الأصبهانيين" (3) وقال: "وكان شيخًا صدوقًا صاحب كتاب وكتبنا عنه أحاديث غرائب، فمن حِسان ما كتبنا عنه ... ". وقال أبو نعيم الحافظ الأصبهاني في "تاريخ أصبهان" (4): "صاحب كتاب كثير الحديث والغرائب". أقول: ومن كثر حديثه لا بد أن تكون عنده غرائب، وليس ذلك بموجب _________ (1) كذا في الأصل و (ط) وكتاب الكوثري، ووقع في كل المواضع الآتية كذلك حتى النقل عن "تاريخ بغداد" مع أنه فيه على الصواب في طبعتيه. وصوابه "سَلْم" كما في مصادر ترجمته وغيرها. (2) كذا وانظر الحاشية السالفة. (3) منه نسخة محفوظة في المكتبة الآصفية بحيدراباد دكن الهند. [المؤلف]. أقول: وقد طبع في أربع مجلدات بتحقيق د. عبد الغفور البلوشي عن مؤسسة الرسالة. وترجمته في (3/ 509). (4) منه نسخة محفوظة في المكتبة الآصفية بحيدراباد دكن- الهند. [المؤلف]. وترجمته في (1/ 396 - ط. دار الكتب العلمية).

(9/37)


للضعف، وإنما الذي يضرّ أن تكون تلك الغرائب منكرة، وأبو الشيخ وأبو نعيم التزما في كتابيهما النص على الغرائب، حتى قال أبو الشيخ في ترجمة الحافظ الجليل أبي مسعود أحمد بن الفرات: "وغرائب حديثه وما ينفرد به كثير" (1). والغرائب التي كانت عند سالم ليست بمنكرة كما يعلم من قول أبي الشيخ: "كان شيخًا صدوقًا صاحب كتاب". [ص 32] ومع هذا فقد توبع سالم على الأثر الذي ساقه الخطيب، قال أبو الشيخ في ترجمة موسى بن المساور من "الطبقات" (2): "حدثنا محمد بن عَمرو، قال: حدثنا رسته، قال: حدثنا موسى بن المساور قال: سمعت عصام بن يزيد ... ". فذكر مثل ما ذكر سالم، ومحمد بن عَمرو أُراه محمد بن أحمد بن عَمرو الأبهري، ذكر أبو الشيخ في ترجمته (3) أنه من شيوخه وأنه يروي عن رسته، فإما أن يكون نسبه إلى جده وإما أن يكون سقط (بن أحمد) من النسخة. 6 - الهيثم بن خلف الدوري. قال الأستاذ (ص 47): "يروي الإسماعيليُّ عنه في "صحيحه" إصرارَه على خطأ، وفي الاحتجاج برواية مثلِه وقْفَة". أقول: الخطأ الذي يضرّ الراوي الإصرارُ عليه هو ما يُخْشى أن تترتَّب عليه مفسدة، ويكون الخطأ من المصِرّ نفسه، وذلك كمن يسمع حديثًا بسند _________ (1) (2/ 254). (2) (2/ 154). (3) (4/ 113). وهو كما حَدَس المؤلف رحمه الله، فإن (بن أحمد) ثابتة في النسخة المحققة.

(9/38)


صحيح فيغلط، فيركِّب على ذاك السند متنًا موضوعًا، فينبِّهه أهلُ العلم فلا يرجع. وليس ما وقع للهيثم من هذا القبيل، إنما وقع عنده في حديث الزهري عن محمود بن (1) الربيع عن عِتْبان، وقع عنده "محمد بن الربيع" بدل "محمود بن الربيع" وثَبَت على ذلك، وهذا لا مفسدة فيه، بل ثبات الهيثم يدل على عِظَم أمانته وشدّة تثبته، إذ لم يستحلّ أن يغيِّر ما في أصله، وقد وقع لمالك بن أنس الإمام نحو هذا، كان يقول في عَمرو بن عثمان: "عُمر بن عثمان" وثبت على ذلك. وقد قال الإسماعيليّ نفسه في الهيثم: إنه "أحد الأثبات". 7 - محمد بن عبد الله بن عمَّار. انظر ما يأتي (هـ/ 11). * * * * ــ ج ــ [ص 33] ومن عجائبه: اهتبال التصحيف أو الغلط الواقع في بعض الكتب إذا وافق غرضَه! فمن أمثلة ذلك: 1 - وضَّاح بن عبد الله أبو عوانة. ذكروا في ترجمة عليِّ بن عاصم مما عابوا به عليَّ بن عاصم أنه كان يغلط فيُبيَّن له مخالفة الحفَّاظ له فلا يعبأ بذلك، بل ينتقص أولئك الحفاظ، ففي "تاريخ بغداد": (11/ 450) في ترجمة عليِّ بن عاصم عن عليِّ بن المديني مراجعةٌ دارت بينه وبين عليِّ بن عاصم وفيها: " .... فقلت له: إنما _________ (1) "بن" ساقطة من الأصل، وهي في (ط 2) فلعل المؤلف استدركها بعد ذلك.

(9/39)


هذا عن مغيرة رأي حماد، قال: فقال من حدَّثكم؟ قلت: جَرير، قال: ذاك الصَّبِي (1)! قال: مر شيء آخر، فقلت: يخالفونك في هذا، فقال: مَن؟ قلت: أبو عوانة، قال: وضَّاح ذاك العبد! قال: وقال لشعبة: ذاك المسكين ... ". فوقعت هذه الحكاية في ترجمة علي بن عاصم من "تهذيب التهذيب" (2) المطبوع ووقع فيها: "وضّاع ذاك العبد" ولم يَخْف على ذي معرفة أن هذا تصحيف وأن الصواب "وضَّاح ... " كما في "تاريخ بغداد"، وعلى ذلك قرائن: منها: السياق، فإنه إنما قال في جرير "ذاك الصبي"، وفي شعبة "ذاك المسكين". فلم يجاوز حد الاستحقار، فكذلك ينبغي في حق أبي عوانة. ومنها: أن الذهبي لخَّص تلك الحكاية بقوله في "الميزان" (3): "وقيل: كان يستصغر الفضلاء". ومنها: أن أبا عوانة من الأكابر، وعلي بن عاصم مغموز، [ص 34] فلو تجرَّأ عليُّ بن عاصم فرمى أبا عوانة بالكذب لقامت عليه القيامة. ومنها: أنه لم يُعرف لعلي بن عاصم كلام في الرواة بحق أو بباطل، وإنما كان راويةً، ومع ذلك فلم يُحْمَد في روايته. _________ (1) كذا في الأصل و (ط)، ومطبوعة تاريخ بغداد وغيرها، وأصلحها محقق الطبعة الجديدة من التاريخ: (13/ 411) إلى "الضّبِّي" وأن ما وقع في المطبوعة تصحيف. (2) (7/ 345)، ووقع على الصواب في أصله "تهذيب الكمال": (5/ 266). (3) (4/ 55). ولعل الذهبي أخذها من قول عفّان: ما نذكر له إنسانًا إلا استصغره. كما في "تهذيب الكمال": (5/ 266) في قصةٍ له.

(9/40)


ومنها: أنه لو كان في عبارة علي بن عاصم ما يُعدُّ جرحًا لأبي عوانة، لكان حقه أن يُذْكَر في ترجمة أبي عوانة. وبالجملة فلا يشكُّ عارف أن الصواب: "وضَّاح ذاك العبد" كما في "تاريخ بغداد". ولا أشك أن الأستاذ لا يخفى عليه ذلك، حتى ولو لم يطّلع على ما في "تاريخ بغداد"، مع أنه قد طالع الترجمة فيه ونقل عنها، ولكنه كان محتاجًا إلى أن يطعن في أبي عوانة، ووقعت بيده تلك الغنيمة الباردة فيما يُرِيه الهوى، فلم يتمالك أن وقع، فقال (ص 92): "وأما أبو عوانة ... لكن يقول عنه علي بن عاصم: وضَّاع ذاك العبد"، وقال (ص 71): "بلغ به الأمر إلى أن كَذَّبه عليُّ بن عاصم". كذا صنع الأستاذ الذي يقيم نفسَه مُقام من يتكلم في الصحابة والتابعين، ويكثر من كتابة: "نسأل الله السلامة، نسأل الله العافية" ونحو ذلك! وهكذا تكون الأمانة عند الأستاذ. 2 - أبو عَوانة أيضًا. أبو عَوانة الوضَّاح بن عبد الله، اتفق الأئمة على الثناء عليه والاحتجاج بروايته، وأخرج له الشيخان في "الصحيحين" أحاديث كثيرة، ويأتي [ص 35] بعض ثناء الأئمة عليه في ترجمته من "التنكيل" (1) وصحَّ أنه أدرك الحسنَ البصري وابنَ سيرين، وحفظ بعض أحوالهما. قال البخاري في ترجمته من "التاريخ" (4/ 3/181): "سمع الحكم بن عُتيبة وحماد بن أبي سليمان وقتادة .... قال لنا عبد الله بن _________ (1) رقم (259).

(9/41)


عثمان: أرنا (1) يزيد بن زُرَيع قال: أرنا أبو عوانة قال: رأيت محمد بن سيرين في أصحاب السكّر فكلما رآه قوم ذكروا الله ... وقال لنا موسى بن إسماعيل: قال لي أبو عوانة: كل شيء حدثتك فقد سمعته". يعني أنه لا يدلس ولا يروي عمن لم يسمع منه. وقال ابن سعد في "الطبقات": (7/ 2/43) (2): "أخبرنا هشام أبو الوليد الطيالسي، قال: حدثنا أبو عوانة قال: رأيت الحسن بن أبي الحسن يوم عرفة خرج من المقصورة فجلس في صحن المسجد وجلس الناس حوله". وهذه الأسانيد بغاية الصحة. وفي "الصحيحين" من رواية أبي عوانة عن قتادة أحاديث، كحديث: "ما من مسلم يغرس غرسًا .... " (3)، وحديث: "من نسي صلاةً .... " (4)، وحديث: "تسحَّروا فإن في السحور بركة" (5). وأخرج له مسلم في "صحيحه" (6) من حديثه عن الحكم بن عُتَيبة كما ذكره المزي في "تهذيبه" (7). ووفاة الحسن وابن سيرين سنة 110، والحَكَم سنة 115، وقتادة سنة _________ (1) اختصار: "أخبرنا". [المؤلف]. (2) (9/ 288 - دار الخانجي). (3) البخاري (2320)، ومسلم (1553). (4) أخرجه مسلم (684). (5) أخرجه مسلم (1095). (6) (1934). (7) (7/ 456). و"في تهذيبه" من (ط).

(9/42)


117، وحماد سنة 120 وقيل قبلها، وذكر ابن حبان في ترجمة قتادة من "الثقات" (1) وفاته [ص 36] سنة 117، وذكر في ترجمة أبي عوانة (2) روايته عن قتادة ثم قال في أبي عوانة: "وكان مولده سنة اثنتين وتسعين، ومات في شهر ربيع الأول سنة ست وسبعين ومائة". هكذا في النسخة المحفوظة في المكتبة الآصفية في حيدراباد الدكن تحت رقم 1 - 4 من فن الرجال المجلد الثالث الورقة 218 الوجه الأول، ومثله في نسخة أخرى جيدة محفوظة في المكتبة السعيدية بحيدراباد (3). وكانت عند ابن حجر من "ثقات ابن حبان" نسخة يشكو في كتبه من سُقْمها، قال في "تهذيب التهذيب" (8/ 403): " .... ذكره ابن حبان في (الثقات) .... وقال: روى عنه حبيب، كذا في النسخة وهي سقيمة". وقال في "لسان الميزان": (2/ 442) (4): "رافع بن سلمان .... ذكره ابن حبان في (الثقات)، لكن وقع في النسخة ــ وفيها سقم ــ: رافع بن سنان". فوقع في تلك النسخة السقيمة تخليط في ترجمة أبي عوانة، فذكره ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (5) وبيَّن أنه خطأ قطعًا، ومع ذلك ففي عبارة ابن حجر تخليط في النسخة من "تهذيب التهذيب" المطبوع، ففيه (11/ 118): "وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: كان مولده سنة اثنتين _________ (1) (5/ 322). (2) (7/ 562 - 563). (3) "ومثله ... بحيدراباد" من (ط). (4) (3/ 441). (5) (11/ 116 - 120).

(9/43)


وعشرين ومائة، وقال: هو خطأ للشك فيه، لأنه صح أنه رأى ابن سيرين .... ". وقوله: "وقال هو خطأ للشك فيه" صوابه والله أعلم: "كذا قال، وهو خطأ لا شك فيه"، وقد علمتَ أن البلاء من نسخة "الثقات" التي كانت عند ابن حجر. [ص 37] وليس الأستاذ ممن يخفى عليه هذا ولا ما هو أخفى منه، لكنه كان محتاجًا إلى الطعن في أبي عوانة ظلمًا وعدوانًا. فقال (ص 118) في أبي عوانة: "فعلى تقدير ولادته سنة 122 كما هو المشهور ــ كذا ــ لا تصح رؤيته للحسن ولا لابن سيرين .... ". فليفرض القارئ أن الأستاذ في مقام إثبات سماع أبي عوانة من الحكم بن عتيبة أو قتادة أو حماد، وأن بعض مخالفي الأستاذ حاول دفع ذلك فقال: "فعلى تقدير ... " عبارة الأستاذ نفسها، فما عسى أن يقول الأستاذ في ذلك المخالف؟ أما نحن فنَجْتزئ بأن نقول: هكذا تكون الأمانة عند الأستاذ! 3 - أبو عوانة أيضًا. انظر ما يأتي (ح/1). 4 - محمد بن سعيد. راجع ما تقدم (أ/10). 5 - أيوب بن إسحاق بن سافري. في ترجمته من "تهذيب تاريخ ابن عساكر" (3/ 200) عن ابن يونس " .... وكان في خُلقه زَعارَّة، وسأله أبو حميد في شيء يكتبه عنه فمطله .... ". ومعروف في اللغة ومتكرر في التراجم أن يقال: "في خُلُق فلان زَعارَّة" أي شراسة، وهذا وإن كان غير محمود فليس مما يقدح في العدالة

(9/44)


أو يخدش في الرواية، لكن وقع في "تاريخ بغداد": (7/ 10) في هذه الحكاية: "وكانت في خلقه دعارة" كذا! وهذا تصحيف لا يخفى مثله على الأستاذ. أولًا: لأنه ليس في كلامهم "في خلق فلان دعارة" وإنما [ص 38] يقولون: فلان داعر بَيِّن الدعارة، إذا كان خبيثًا أو فاسقًا. ثانيًا: لأن ابن يونس عَقَّب كلمته بقوله: "سأله أبو حميد في شيء من الأخبار يكتبه عنه فمَطَله .... ". وهذه شراسة خلق لا خُبْث أو فسق. ثالثًا: لأن المؤلفين في المجروحين لم يذكروا هذا الرجل، ولو وُصِف بالخُبْث أو الفِسْق لما تركوا ذكره، ولكن الأستاذ احتاج إلى الطعن في هذا الرجل فقال (ص 137): "ذاك الداعر .... تكلم فيه ابن يونس". كذا قال! ولم يتكلم فيه ابن يونس بما يقدح، وقد ذكره ابن أبي حاتم في كتابه (1) وقال: "كتبتُ عنه بالرملة وذكرته لأبي فعرفه وقال: كان صدوقًا". 6 - عبد الله بن عمر بن الرمّاح. هو عبد الله بن عمر بن ميمون بن بحر بن الرمّاح، واسم الرماح سعد، له ولأبيه ترجمتان في "طبقات الحنفية" (2)، وهما معروفان عندهم، وللأب ترجمة في"تهذيب التهذيب" (7/ 498)، وفي "تاريخ بغداد" (11/ 182) وفي كتاب ابن أبي حاتم (3) وغيرها، ووقع في "تاريخ بغداد" (13/ 386) _________ (1) (2/ 241). (2) "الجواهر المضيّة" (2/ 319، 662) الابن ثم الأب. (3) (6/ 109).

(9/45)


في سند حكاية "عبد الله بن عثمان بن الرماح" فاحتاج الأستاذ إلى ردّها والتي قبلها فقال (ص 73): "وفي سند الخبر الأول الخزاز وفي الثاني ابن الرماح فلا يصحَّان مع وجودهما في السندين" اقتصر على قوله: "ابن الرماح" ولم ينبِّه على أن "عثمان" تصحيف والصواب "عمر". [ص 39] كما ذكر الأستاذ نفسُه في اسمٍ آخر قال (ص 93): "فلعل لفظ ــ عمر ــ صُحِّف إلى "عثمان" حيث يشبه هذا ذاك في الرسم عند حذف الألف المتوسطة في عثمان كما هو رسم الأقدمين". وكأنه خشي أن ينبِّه القارئ على أن ابن الرمَّاح هو ذاك العالم الحنفي، لم يتكلم فيه أحدٌ بما يردّ روايته، بل تَرَكه يتوهّم أن هذا رجل مجهول؛ لأنه لا يجد في الكتب ترجمةً لعبد الله بن عثمان بن الرماح، بل يتوهم أنه ضعيف، وقف الأستاذُ على تضعيفه في الكتب التي لم تُطْبَع، ولذلك قال ما قال! 7 - أحمد بن المعذل. ذكر الأستاذ (ص 95) قوله: إن كنتِ كاذبة الذي حدثتني ... فعليك إثم أبي حنيفة أو زُفَر المائلين إلى القياس تعمُّدًا ... والراغبين عن التمسك بالأثر ثم قال: "وهو الذي كان أخوه عبد الصمد بن المعذل يقول فيه: أضاع الفريضة والسنهْ ... فتاه على الإنس والجِنَّهْ" أقول: إنما قال عبد الصمد: "أطاع .... " هكذا في "الديباج المُذْهَب" (ص 30) و"لآلئ البكري" (ص 325) والسياق يُعيّنه، كان عبد الصمد ماجنًا، وكان أحمد عالمًا صالحًا تقيًّا؛ فكان يَعِظ عبد الصمد ويزجره، فقال

(9/46)


عبد الصمد: "أطاع .... " البيت، وبعده: [ص 40] كأنَّ لنا النار من دونه ... وأفرده الله بالجنه يريد أن أحمد معجب بتقواه وورعه، فأدَّاه ذلك إلى أن تاه على غيره. فإن قيل: إنما أراد الأستاذ التنكيتَ والتبكيت مقابلة للإساءة بمثلها. قلت: رأس مال العالم الصدق، ومن استحلَّ التحريف في موضع ترويجًا لرأيه لم يؤمَن أن يحرِّف في غيره. * * * * اعتبار لكن الأستاذ عند ما تخالف الألفاظُ هواه، كثيرًا ما يدَّعِي أنها مصحَّفة؛ فيزعم أن "الدين" محرّف عن "أرى" وأن "يكذب" محرّف عن "يكتب" و"للفرس .... وللرجل" عن "وللفارس .... وللراجل" وغير ذلك. في "تاريخ بغداد": (13/ 386 [401]) " .... محبوب بن موسى قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: قال أبو حنيفة: لو أدركني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أدركته لأخذ بكثير من قولي، قال: وسمعت أبا إسحاق يقول: كان أبو حنيفة يجيئه الشيء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيخالفه إلى غيره". ذكر الأستاذ هذا (ص 75) وذكر أن في النسخة الخطية زيادة سوق الخبر بسند آخر. وفي "تاريخ بغداد" (13/ 390 [407]) " .... أبو صالح الفراء قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: ردَّ أبو حنيفة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعمائة حديث أو أكثر .... وقال أبو حنيفة: لو

(9/47)


أدركني [ص 41] النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأدركته لأخذ بكثير من قولي، وهل الدين إلا الرأي الحسن". ذكر الأستاذ هذا (ص 85). وهذه الكلمة "لو أدركني ... " لها تأويل قريب ذكرته في "التنكيل" (1) ولم يقع عليه الحنفية بل ذهبوا يتعسَّفون، فروى عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي: حدثني أبو طالب سعيد بن محمد بن أبان البرذعي في مسجد أبي الحسن الكرخي ببغداد حدثني أبو جعفر ... الطحاوي أبنا بكَّار بن قتيبة أبنا هلال بن يحيى الرأي البصري، سمعت يوسف بن خالد السمتي ... " فذكر قصةً طويلة فيها عجائب، تراها في "مناقب أبي حنيفة" للموفق المكي (2/ 101 - 109)، وقد أشرت إلى بعضها في "التنكيل". وهذه الحكاية لا يشكُّ عارفٌ في أنها مكذوبة على الطحاوي، فعبد الله بن محمد ترجمته في "لسان الميزان" (3/ 348) (2). وشيخه لا يُعْرَف، وإنما ذكره صاحب "الجواهر المضيئة" (3) بما تضمَّنته هذه الحكاية، فلم يُسْمَع به إلا فيها، ويغلب على الظن أنه لا يوجد منه إلا اسمه، ولو كان للقصة أثر عند الطحاوي لما فاتت ابن أبي العوَّام. ومن تدبَّر القصة لم يشك في اختلاقها، وفيها: "لو أدركني البَتِّي لترك كثيرًا من قوله" مع أنه يعلم منها ومن غيرها أن البتِّي وهو عثمان بن مسلم البصري الفقيه كان يومئذ حيًّا يرزق! وذكر الأستاذ (ص 113) ما رُوي عن "حمَّاد بن زيد قال: ذُكِر أبو حنيفة _________ (1) ترجمة رقم (158). (2) (4/ 579 - 580). (3) (2/ 224).

(9/48)


عند البتّي فقال: ذاك رجل أخطأ عصم دينه كيف يكون حاله؟ ". ثم قال الأستاذ: "عثمان بن مسلم البتّي ... توفي سنة 143 ... وكانت تجري بينه وبين أبي حنيفة مراسلات ... وكان [ص 42] يوسف بن خالد السمتي بعد أن تفقه على أبي حنيفة رجع إلى البصرة وأخذ يجابه البتي ... ". وفي تلك الأخلوقة أن أبا حنيفة قال: "لو أدركني البتي ... " أول ما اجتمع به يوسف بن خالد. فمن تدبَّر علم أن تلك الأخلوقة المنسوبة إلى يوسف بن خالد إنما اختُلِقت لما شاعت حكاية يوسف بن أسباط، فأراد المختلقُ علاجَها فوقع فيما وقع فيه، ثم أن الأستاذ لم يقتصر على ما قيل قبله من دعوى التصحيف في "النبي" بل زاد أمرين: الأول: أنه على فرض أن أبا حنيفة قال تلك الكلمة بلفظ "النبي" فقوله: "لأخذ" المراد به "لأخذني". الثاني: أنه رأى أن مَن تقدَّمه لم يتعرَّضوا لما وقع في إحدى الروايات: "وهل الدّين إلا الرأي الحسن" فقال الأستاذ (ص 88): "فلا أشك أن "الدين" مصحف من "أرى ... "" وذهب يوجِّه احتمال العادة بمثل ذلك. وهذا موضع الاعتبار، بينما ترى الأستاذ يصنع ما تقدم في الأمثلة، فيغضّ النظر عن التصحيف الواضح والخطأ المكشوف؛ إذا به يحاول دعوى التصحيف التي لا يشك في بطلانها، ولا عجب في ذلك إذ مغزى الأستاذ إنما هو الانتصار لهواه. وقد قدمت أن لتلك الكلمة المنقولة عن أبي حنيفة تأويلًا قريبًا بدون دعوى التصحيف ولا التحريف، وستجده في "التنكيل" (1) إن شاء الله تعالى. _________ (1) ترجمة رقم (158).

(9/49)


ــ د ــ [ص 43] ومن غرائبه: تحريف نصوص أئمة الجرح والتعديل، تجيء عن أحدهم الكلمة فيها غضٌّ من الراوي بما لا يضره أو بما فيه تليين خفيف لا يُعَدُّ جرحًا، فيحتاج الأستاذ إلى الطعن فيمن قيلت فيه، فيحكيها بلفظٍ آخر يفيد الجرح، فمن أمثلة ذلك: 1 - إبراهيم بن سعيد الجوهري. هو من شيوخ مسلم في "صحيحه" ومن كبار الحفّاظ، قال فيه أحمد بن حنبل: "كثير الكتاب، كتب فأكثر". وقال الأستاذ نفسه (ص 151): "كان إبراهيم بن سعيد الجوهري يقول: كلُّ حديث لم يكن عندي من مائة وجه فأنا فيه يتيم". وتجد الحكاية بتمامها في ترجمة إبراهيم من "الميزان" (1). وكان من عادة المكثرين أن يتردّدوا إلى كبار الشيوخ ليسمعوا منهم، فربما جاء أحدهم إلى شيخ قد سمع منه الكثير يرجو أن يسمع منه ما لم يسمعه من قبل، فيتفق أن يشرع الشيخ يحدِّث بجزء قد كان ذاك المكثر سمعه منه قبل ذلك، فلا يعتني باستماعه ثانيًا أو ثالثًا، لأنه يرى ذلك تحصيل حاصل. فكأنه اتفق لإبراهيم هذا واقعةٌ من هذا القبيل، فحكى عبد الرحمن ابن خراش قال: "سمعتُ حجاج بن الشاعر يقول: رأيت إبراهيم بن سعيد عند أبي نعيم وأبو نعيم يقرأ وهو نائم. وكان الحجاج يقع فيه". وسيأتي إيضاح الجواب في ترجمة إبراهيم من "التنكيل" (2). _________ (1) (1/ 35 - 36). (2) (رقم 5).

(9/50)


والمقصود [ص 44] هنا أن الأستاذ ذكر تلك المقالة فحرَّفها تحريفًا قبيحًا. قال (ص 75): "كان يتلقى وهو نائم، كما قال الحافظ حجاج بن الشاعر، فحجَّاجٌ هذا ممن جرحه لا يندمل". وقال (ص 119): "رماه الحافظ حجَّاج بن الشاعر بأنه كان يتلقَّى وهو نائم". فعبارة حجّاج تحتمل ما قدَّمنا، بل إن ذلك (1) ليس فيها ما يدل على أن إبراهيم صار بعد ذلك المجلس يروي عن أبي نعيم أحاديث يزعم أنه تلقاها في ذاك الوقت الذي كان إبراهيم فيه نائمًا، وعبارة الأستاذ تفيد هذا. وعبارة حجّاج إنما تدلُّ على مرة واحدة عند أبي نعيم، وعبارة الأستاذ تدل أن التلقي في حال النوم كان من عادة إبراهيم عند أبي نعيم وغيره! فتدبَّر. 2 - مؤمّل بن إهاب. قال الأستاذ (ص 65): "ضعَّفه ابن معين على ما حكاه الخطيب". أقول: إنما حكى الخطيب (13/ 181) عن إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد قال: "سئل يحيى بن معين وأنا أسمع عن مؤمّل بن إهاب، فكأنه ضعَّفه" فتدبر، وقد قال أبو حاتم: "صدوق". وقال النسائي: "لا بأس به". وقال مرةً: "ثقة". وقال مسلمة بن قاسم: "ثقة صدوق". 3 - أحمد بن سلمان النجاد. قال الأستاذ (ص 65): "يقول عنه (2) الدارقطني [ص 45]: يحدِّث من كتاب غيره بما لم يكن في أصوله". _________ (1) "بل إن ذلك" كتبت بين الأسطر يشبه اللحق بخط باهت، ورسمه أقرب شيء لما أثبتّه، ولا يزال السياق قلقًا. (2) يريد: "فيه". [المؤلف].

(9/51)


أقول: إنما قال الدارقطني: "حدث .... " كما في "تاريخ بغداد" و"الميزان" و"اللسان" (1)، وذاك يصدُق بمرة واحدة كما حمله الخطيب وغيره، كما يأتي في ترجمة النجاد من "التنكيل" (2) وفيها بَسْط عذر النجاد. وعبارة الأستاذ تفيد بأن ذاك كان من شأن النجاد، تكرر مرارًا! 4 - أحمد بن كامل. قال الأستاذ (ص 43): "فيه يقول الدارقطني .... ربما حدث بما ليس عنده، كما رواه الخطيب". أقول: عبارة الدارقطني كما في "تاريخ بغداد" (3) وغيره: " .... بما ليس عنده في كتابه". وهذا القيد "في كتابه" يدفع القدح، فإنه لا يلزم من عدم كون الحديث عند أحمد في كتابه أن لا يكون عنده في حفظه، وتأتي ترجمة أحمد في "التنكيل" (4). 5 - عبد الله بن علي المديني. قال الأستاذ (ص 168): "وهو لم يسمع من أبيه على ما يقال". أقول: يريد الأستاذ بهذا قول الدارقطني، وعبارة الدارقطني كما في "تاريخ بغداد" (5): "أخذ كتبه وروى أخباره مناولة، قال: وما سمع كثيرًا من أبيه". _________ (1) "تاريخ بغداد": (4/ 191)، و"الميزان": (1/ 101)، و"اللسان": (1/ 475). (2) (رقم 19). (3) (4/ 357). (4) (رقم 29). (5) (10/ 9).

(9/52)


فقوله: "وما سمع كثيرًا من أبيه" واضح في أنه سمع منه، إلا أنه لم يكثر، وأول عبارته يفيد أن ما لم يسمعه من كتب أبيه وأخباره أخَذَه منه مناولةً، وهي من طرق التلقّي، [ص 46] فعلى هذا تكون روايته عن أبيه متَّصلة صحيحة إن صرَّح بالسماع فسماعٌ، وإلا احتمل أن يكون سماعًا وأن يكون مناولة، والرواية التي ذكرها الخطيب من طريقه ــ ولأجلها تعرَّض له الأستاذ ــ قد بيَّن فيها السماع. هذا، والسماعُ أصلُه أن يملي الشيخ بلفظه والتلميذ يسمع، لكن قد يطلق السماع على ما هو أعمّ من ذلك، وهذا هو المتبادر من قولهم: فلان لم يسمع من فلان، فيفهم منه أن روايته عنه منقطعة حتى ولو صرّح بالاتصال يكون كذبًا، وهذا هو مفهوم عبارة الأستاذ؛ لأنه قصد بها الطعن في رواية هذا الرجل التي بيَّن فيها السماع، فانظر تحريفه لعبارة الدارقطني! 6 - محمد بن أحمد الحكيمي. قال الأستاذ (ص 114): "قال البرقاني: في حديثه مناكير". أقول: لفظ البرقاني كما في "تاريخ بغداد" (1/ 269) و"لسان الميزان" (5/ 45) (1): "ثقة إلا أنه يروي مناكير" وبين العبارتين فرقٌ عظيم فإن "يروي مناكير" يقال في الذي يروي ما سمعه مما فيه نكارة ولا ذنب له في النكارة، بل الحَمْل فيها على مَنْ فوقه، فالمعنى أنه ليس من المبالغين في التنقّي والتوقِّي، الذين لا يحدِّثون مما سمعوا إلا بما لا نكارةَ فيه، ومعلوم أن هذا ليس بجرح. [ص 47] وقولهم: "في حديثه مناكير" كثيرًا ما تُقال فيمن _________ (1) (6/ 511).

(9/53)


تكون النكارة من جهته جزمًا أو احتمالًا فلا يكون ثقة. وهذا المعنى هو الذي أراد الأستاذ إفهامه، ولذلك حذف كلمة "ثقة". وقد تعقَّب الخطيبُ كلمةَ البرقاني بقوله: "وقد اختبرتُ أنا حديثه فقلّما رأيت فيه منكرًا". فثبت أن هذا الرجل مع ثقته غير مقصِّر في التنقِّي والتوقِّي، وإنما وقع في روايته مما يُنكر قليل جدًّا. وقال ابن حجر في "لسان الميزان": "ذكرته ــ يعني زيادة على "الميزان" ــ لأن المصنف ذكر عثمان بن أحمد الدقاق الصدوق الثقة بسبب كونه يروي المناكير". أقول: لا عذر لابن حجر في هذا. أولًا: لأنه أنكر على الذهبي ذكره لعثمان، كما يأتي في ترجمته من "التنكيل" (1). ثانيًا: لأن المناكير في مرويات عثمان كثيرة، والله المستعان. ــ هـ ــ [ص 48] ومن فواقره: تقطيعُ نصوص أئمة الجرح والتعديل، يختزل منها القطعة التي توافق غرضَه، وقد يكون فيما يدعه من النصّ ما يبين أن معنى ما يقتطعه غير المتبادر منه عند انفراده، فمن أمثلة ذلك: 1 - القاسم بن أبي صالح. راجع ما تقدم (أ: 2). 2 و 3 - جرير بن عبد الحميد وأبو عوانة الوضَّاح. راجع ما تقدم (ب-1 و 2). _________ (1) رقم (155).

(9/54)


4 - عبد الله بن علي ابن المديني. راجع ما تقدم (د: 5). 5 - محمد بن أحمد الحكيمي. راجع ما تقدم (د: 6). 6 - محمد بن يحيى بن أبي عمر. قال الأستاذ (ص 166): "قال عنه أبو حاتم: كان به غفلة، حدّث حديثًا موضوعًا عن ابن عيينة". أقول: عبارة أبي حاتم كما في كتاب ابنه (1) و"التهذيب" (2) وغيرهما: "كان رجلًا صالحًا وكان به غفلة، رأيت عنده حديثًا موضوعًا قد حدث به عن ابن عيينة، وكان صدوقًا". هذا وابن أبي عمر مكثر جدًّا عن ابن عيينة، فإذا اشتبه عليه حديث واحد لم يضره، ولعل أبا حاتم نبَّهه عليه فترك روايته، وقد يكون أبو حاتم أخطأ في ظنِّ الحديث موضوعًا. وسُئل الإمام أحمد: عمن نكتب؟ فقال: أما بمكة فابن أبي عمر. وقد أكثر مسلم في "صحيحه" عن ابن أبي عمر، له عنده على ما حكي عن "الزهرة" مائتا حديث وستة عشر حديثًا (3). 7 - [ص 49] محبوب بن موسى. قال الأستاذ (ص 17): "يقول عنه أبو داود لا تُقبل حكاياته إلا من كتاب". أقول: عبارة أبي داود كما في "التهذيب" و"الميزان" (4): "ثقة، لا يُلتفت إلى حكاياته إلا من كتاب". ويأتي تحقيق حال محبوب في ترجمته من _________ (1) "الجرح والتعديل": (8/ 124 - 125). (2) (9/ 518 - 520). (3) ذكره في "التهذيب" وهو صادر عن "إكمال تهذيب الكمال": (10/ 390) لمغلطاي. (4) "التهذيب": (10/ 52 - 54)، و"الميزان": (4/ 362).

(9/55)


"التنكيل" (1) إن شاء الله تعالى. 8 - سعيد بن عامر. قال الأستاذ (ص 109): "في حديثه بعض الغلط كما قال ابن أبي حاتم". أقول: عبارة ابن أبي حاتم نقلًا عن أبيه كما في كتابه (2) وغيره: "كان رجلًا صالحًا وكان في حديثه بعض الغلط، وهو صدوق" وتأتي ترجمة سعيد في "التنكيل" (3). 9 - سليمان بن حسَّان الحلبي. قال الأستاذ (ص 109): "قال أبو حاتم عنه (4): سألت ابن أبي غالب عنه فقال: لا أعرفه ولا أرى البغداديين يروون عنه". أقول: تتمة عبارة أبي حاتم كما في كتاب ابنه (5) و"تاريخ بغداد" (9/ 21): "وروى عنه من الرازيين أربعة أو خمسة" قال ابن أبي حاتم: "قلت لأبي: ما تقول فيه؟ قال: هو صحيح الحديث". 10 - محمد بن العباس أبو عَمرو بن حَيُّويه. راجع ما تقدم (أ: 12) وتأتي ترجمة محمد في "التنكيل" (6). _________ (1) (رقم 184). (2) (4/ 48 - 49). (3) (رقم 97). (4) الأستاذ يأتي بلفظ "قال عنه" بمعنى "قال فيه". [المؤلف]. وقد سبق التنبيه عليها. (5) "الجرح والتعديل": (4/ 107). (6) (رقم 209).

(9/56)


11 - محمد بن عبد الله بن عمَّار الموصلي. قال الأستاذ (ص 133): "قال ابن عدي: رأيت أبا يعلى يسيء القولَ فيه، ويقول: شهد على خالي بالزور. وله عن أهل الموصل أفراد وغرائب اهـ. وأبو يعلى من أعرف الناس به، وكلامُه فيه قاضٍ على كلام الآخرين". أقول: آخر ما حكاه ابن عدي عن أبي يعلى قوله: "بالزور" (1)، وعقب ذلك كما في "التهذيب" (2): [ص 50] قال ابن عدي: وابن عمار ثقة (3) حسن الحديث عن أهل الموصل؛ معافى بن عمران وغيره، وعنده عنهم أفراد وغرائب، وقد شهد أحمد بن حنبل أنه رآه عند يحيى القطان، ولم أر أحدًا من مشايخنا يذكره بغير الجميل، وهو عندهم ثقة". فحذف الأستاذ توثيق ابن عدي وجميع مشايخه لابن عمار، وحذف الدليلَ على أن المرادَ بالأفراد والغرائب: الأفرادُ والغرائب الصحيحة التي يُمْدَح صاحبها لدلالتها على إكثاره وعنايته ومهارته في الفن، كما تقدم شيء من ذلك (ب/ 5). وحَذَف الدليلَ على أن أبا يعلى كان عنده نُفْرة عن ابن عمار توجب أن لا يُعْتَدّ بكلامه المذكور فيه، كما يأتي إيضاح ذلك في ترجمة ابن عمار من "التنكيل". والأستاذ يتشبَّث بهذه القاعدة ويتوسّع فيها جدًّا، فيردّ كثيرًا من الروايات المحقّقة والجرحَ المفسَّر المحقَّق بدعوى انحراف الراوي أو الجارح عن المجروح، وإن كان الراوي أو الجارح جماعةً من الأئمة، ولم _________ (1) "الكامل في الضعفاء": (6/ 272). (2) (9/ 266)، و"تهذيب الكمال": (6/ 377). (3) تحرفت في "الكامل" إلى: "هو".

(9/57)


يثبت ما يعارض قولهم، بل مع ثبوت ما يوافق قولهم عمن كان موافقًا للمجروح مائلًا إليه، كما يأتي بعض ذلك في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت بن المغلس من "التنكيل" (1). ثم يناقض الأستاذ ذلك هاهنا فيزعم أن تلك الكلمة المحتملة الصادرة من أبي يعلى ــ مع تبيّن نفرته عن ابن عمار ــ يردّ بها توثيق الجمهور لابن عمار. وسيأتي في القسم الأول من "التنكيل" (2) تحقيق هذه القاعدة، وفي القسم الثاني ترجمة ابن عمار وبيان إمامته وجلالته. 12 - [ص 51] محمد بن فُضَيل بن غزوان. قال الأستاذ (ص 39) في الكلام في القاسم التمار: "وقال ابن سعد عن (3) محمد بن فُضيل الراوي عنه: بعضهم لا يحتج به". أقول: عبارة ابن سعد كما في "طبقاته" (4) و"التهذيب" (5) وغيرها: "كان ثقة صدوقًا كثير الحديث متشيّعًا، وبعضهم لا يحتج به". فحذف الأستاذُ التوثيقَ الصريحَ، والدليلَ على أن عدم احتجاج بعضهم بابن فضيل إنما هو لتشيُّعه، وقد وثقه ابن معين ويعقوب بن سفيان والعجليّ وغيرهم، ولم يطعن أحد في روايته، وقال ابن شاهين: "قال علي ابن _________ (1) (رقم 34). (2) (1/ 88 - 99)، وترجمة ابن عمار رقم (214). (3) بمعنى في. [المؤلف]. (4) (5/ 511). (5) (9/ 407).

(9/58)


المديني: كان ثقة ثبتًا في الحديث"، وقال الدارقطني: "كان ثبتًا في الحديث إلا أنه كان منحرفًا عن عثمان". وقد جاء ما يَدْفَعْ هذا (1). قال أبو هشام الرفاعي: "سمعت ابن فضيل يقول: رحم الله عثمان ولا رحم من لا يترحَّم عليه". وذكر ابن حجر في "مقدمة الفتح" (2) كلام ابن سعد ثم قال: "قلت: إنما توقَّف فيه من توقف لتشيُّعه". ثم ذكر كلام أبي هشام ثم قال: "احتجَّ به الجماعة". يعني الشيخين في "صحيحهما" وبقية الستة، ولا أدري من هو الذي لم يحتج بابن فضيل أو توقف فيه؟ ولعل المراد بذلك بعض المتشدِّدين في السنة لم يرو عن ابن فضيل لأنه يراه متشيِّعًا، ويرى في الرواية عنه ترويجًا للتشيع فتوقف لذلك، لا لأنَّ ابن فضيل ليس بحجة. ويأتي في القسم الأول من "التنكيل" (3) تحقيق حكم رواية المبتدع بما يُعْلَم منه أن مثل ابنَ فُضيل حجة على الإطلاق. [ص 52]ــ وـ ومن عواقره: أنه يعمد إلى جرح لم يثبت فيحكيه بصيغة الجزم محتجًّا به، فمن أمثلة ذلك: 1 - الحسن بن الربيع. قال الأستاذ (ص 151): "يقول فيه ابن معين لو كان يتقي الله لم يكن يحدِّث _________ (1) أعني انحرافه عن عثمان. [المؤلف]. (2) (ص 441). (3) (1/ 72 - 87).

(9/59)


بالمغازي، ما كان يُحْسِن يقرؤها". أقول: هذا الكلام إنما رواه بكر بن سهل الدمياطي عن عبد الخالق بن منصور عن ابن معين، وبكر بن سهل لم يوثقه أحد، بل ضعفه النسائي، ورماه الذهبي في "الميزان" (1) بالوضع. 2 - ثعلبة بن سُهيل القاضي. قال الأستاذ (ص 110): "ضعيف". أقول: هذا يصلح أن يُعدّ من أمثلة الفرع الثامن (خ) لكن أظن الأستاذ اعتمد على ما حكاه أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي عن ابن معين أنه قال في ثعلبة: "ليس بشيء". وهذه حكاية منقطعة كما قاله الذهبي في "الميزان" (2)، لأن بين الأزدي وابن معين مَفازَة، ومع ذلك فالأزدي نفسه مُتَّهم، له ترجمة في "تاريخ بغداد" و"الميزان" و"اللسان" (3). ثم لو فُرِض صحة تلك الكلمة عن ابن معين، فابن معين مما يطلق "ليس بشيء" لا يريد بها الجرح وإنما يريد أن الرجل قليل الحديث. وقد ذكر الأستاذ ذلك _________ (1) (1/ 346). لكن ليس فيه رميه بالوضع، ولفظه هناك: "حَمَل الناسُ عنه، وهو مقارب الحال" وذكر تضعيف النسائي. فلعل نسخة المؤلف كان فيها "حمل الناس عليه" أو توهّم المؤلف قراءتها كذلك. والله أعلم. وبنحوه قال في "المغني" (1/ 113)، و"السير": (13/ 427). (2) (1/ 371). (3) انظر "اللسان" (5 رقم 464 و 465) فإنهما ترجمة واحدة. وقوله في سطر 15: "فإما" إلى قوله في سطر 18: "انتهى" كلام معترض. [المؤلف]. وانظر "تاريخ بغداد": (2/ 243)، و"الميزان": (4/ 443)، و"اللسان": (7/ 90).

(9/60)


(ص 129) ويأتي تحقيق ذلك في ترجمة ثعلبة من "التنكيل" (1) وحاصله: أن ابن معين قد يقول "ليس بشيء" على معنى قلّة الحديث فلا تكون جرحًا، وقد يقولها على وجه الجرح ــ كما يقولها غيره ــ فتكون جرحًا، [ص 53] فإذا وجدنا الراوي الذي قال فيه ابن معين: "ليس بشيء" قليلَ الحديث وقد وُثِّق، وجب حَمْل كلمة ابن معين على معنى قلة الحديث لا الجرح، وإلا فالظاهر أنها جرح. فلما نظرنا في حال ثعلبة، وجدناه قليلَ الحديث، ووجدنا ابن معين نفسه قد ثبت عنه أنه قال في ثعلبة: "لا بأس به". وقال مرة: "ثقة"، كما في "التهذيب" (2). وممن قال ابنُ معين فيه: "ليس بشيء" أبو العطوف الجرّاح بن المنهال، فنظرنا في حاله، فإذا له أحاديث غير قليلة ولم يوثّقه أحد بل جرَّحوه، قال ابن المديني: "لا يُكتب حديثه"، وقال البخاري ومسلم: "منكر الحديث"، وقال النسائي والدارقطني: "متروك"، وقال أبو حاتم والدولابي الحنفي: "متروك الحديث ذاهب لا يكتب حديثه"، وقال النسائي في "التمييز": "ليس بثقة ولا يكتب حديثه" وذكره البرقي فيمن اتُّهِمَ بالكذب، وقال ابن حبان: "كان يكذب في الحديث ويشرب الخمر .... ". والكلام فيه أكثر من هذا (3). فعرفنا أن قول ابن معين فيه: "ليس بشيء" أراد بها الجرح كما هو المعروف عند غيره في معناها. فتدبَّر ما تقدم، ثم انظر حال الأستاذ إذ يبني على حكاية الأزدي عن ابن _________ (1) (رقم 61). (2) (2/ 23). (3) انظر "الميزان": (1/ 390)، و"اللسان": (2/ 246).

(9/61)


معين أنه قال في ثعلبة: "ليس بشيء" ويعلم حال الأزدي، وأنه كان بعد ابن معين بمدّة، ويعرف أن ابن معين قد يطلق تلك الكلمة لا على سبيل الجرح، وأنّ الحجةَ قائمةٌ على أن هذا من ذاك، ومع ذلك كله يقول الأستاذ في ثعلبة: "ضعيف". وفي أبي العطوف يرى [ص 54] الأستاذ جرح الأئمة له وأن له أحاديث غير قليلة، وأن ذلك مبيّن أن قول ابن معين فيه: "ليس بشيء" إنما أراد بها الجرح، ولكن الأستاذ يقول (ص 129): "وقال ابن معين: ليس بشيء، وهو كثيرًا ما يقول هذا فيمن قلَّ حديثه"! وعذر الأستاذ أنه بحاجة إلى ردّ رواية رواها ثعلبة وإلى تقوية أبي العطوف، هكذا تكون الأمانة عند الأستاذ! 3 - عبد الله بن جعفر بن دُرُستويه. قال الأستاذ (ص 39): "كان يحدِّث عمن لم يدركه لأجل دُريهمات يأخذها، فادْفَع إليه درهمًا يصطنع لك ما شئت من الأكاذيب". ذكر الأستاذ هذه التهمة في عدة مواضع كلّها بالجزم، بل نبز هذا العالم الفاضل الذي لا ذنب له إلا أنه روى كتابًا مشهورًا وهو "تاريخ يعقوب بن سفيان"، وقد ثبت سماعه له، حتى إن الذي كان أنكر عليه رجع أخيرًا فقصَدَه فسمع منه، كما في ترجمته من "تاريخ بغداد" (1)، نبزه الأستاذ بلقب "الدراهمي" مع أنه لا مستند للأستاذ في ذلك، إلا ما حكاه الخطيب عن هبة الله الطبري أنه ذكر ابن درستويه وضعَّفه وقال: "بلغني أنه قيل له: حَدِّث عن عباس الدوري حديثًا ونحن نعطيك درهمًا، ففعل، ولم يكن سمع من عباس". _________ (1) (9/ 428).

(9/62)


ولا يخفى على عالم أن هذه الحكاية لا يصح الاستناد إليها لجهالة المبلِّغ للطبري، والأستاذ مِن أعْلَم الناس بهذا، بل يجاوزه كثيرًا فيقول رادًّا لروايات الثقات الأثبات عمن يصرِّحون باسمه وقد ثبتت صحبتهم له وهم مع ذلك أبرياء من التدليس فيقول الأستاذ: "اللفظ لفظ انقطاع" حتى أحوجني ذلك إلى أن بينت في القسم الأول من "التنكيل" (1) شرح قاعدة [ص 55] الاتصال والانقطاع، وتحقيق الحكم فيما يشتبه منها، ومع هذا فقد قال الخطيب: "هذه الحكاية باطلة .... ". هكذا تكون الأمانة عند الأستاذ! ويأتي بقية الكلام في ترجمة عبد الله بن جعفر من "التنكيل" (2). 4 - الأصمعي عبد الملك بن قُرَيب. قال الأستاذ (ص 54): "كذَّبه أبو زيد الأنصاري". أقول: حاكي ذلك عن أبي زيد هو أحمد بن عبيد بن ناصح، وهو مطعون فيه، وفي "الميزان" (3) في ترجمة الأصمعي: "أحمد بن عبيد ليس بعمدة". ونقل الأستاذُ نفسُه هذا (ص 42) حين احتاج إلى ردّ رواية لأحمد بن عبيد. قال الأستاذ: "فلم يكن بعمدة كما ذكره الذهبي في ترجمة عبد الملك الأصمعي من الميزان". يجزم الأستاذ هنا بأنه ليس بعمدة، ثم يعتمده فيقول في الأصمعي: "كَذَّبه أبو زيد الأنصاري". هكذا تكون الأمانة عند الأستاذ! _________ (1) (1/ 135 - 144). (2) (رقم 119). (3) (3/ 376).

(9/63)


5 - جرير بن عبد الحميد. قال الأستاذ (ص 110): "تفرَّد برواية حديث الأخرس الموضوع". أقول: مستند الأستاذ حكاية سليمان الشاذكوني، والشاذكوني هالك. ويأتي شرح الحال في ترجمة جرير من "التنكيل" (1). 6 - سُلَيم بن عيسى القارئ. قال الأستاذ (ص 60): "كان ضعيفًا في الحديث .... وقد روى عن الثوري خبرًا منكرًا، ساقه العقيلي". أقول: لا مستند للأستاذ في قوله: "كان ضعيفًا في الحديث" إلا ذِكْر العُقيليِّ ــ ومَن تَبِعه ــ سليمَ بن عيسى في كتب الضعفاء (2)، مع رواية ذاك الحديث من طريق سُليم بن عيسى. [ص 56] فأما ذِكْر الراوي في بعض كتب الضعفاء فلا يضره ما لم يكن فيما ذكر به ما يوجب ضعفه، وذلك أنهم كثيرًا ما يذكرون الرجل لكلامٍ فيه لا يثبت أو لا يقدح أو نحو ذلك. وأما ذاك الحديث فرواه العقيلي عن يحيى بن صالح (3)، عن أبي صالح كاتب الليث، عن سُليم بن عيسى أبي يحيى، عن سفيان الثوري. ويحيى بن صالح مُتَكلَّم فيه، وأبو صالح كاتب الليث ليس بعمدة، تأتي ترجمته في _________ (1) (رقم 63). (2) انظر "الضعفاء" للعقيلي: (2/ 163)، و"الضعفاء": (2/ 13) لابن الجوزي. (3) كذا في الأصل، وصوابه "يحيى بن عثمان بن صالح" كما في "الضعفاء" للعقيلي (2/ 163) و"الميزان": (6/ 70) للذهبي، أو لعل المؤلف نسبه إلى جده، ويأتي قريبًا على الصواب.

(9/64)


"التنكيل" (1)، فعلى هذا لا يثبت أن سُليمًا روى ذاك الحديث. ومع هذا فسُليم الذي ذكره العقيلي، وروى عنه ذاك الحديث ليس هو بالقارئ صاحب حمزة الواقع في سند الخطيب، وإيضاحُ ذلك: أن العُقيلي قال: "سُليم بن عيسى، مجهول في النقل، حديثه منكر غير محفوظ. حدثناه يحيى ... " كما مرَّ، فقول العقيلي: "مجهول في النقل حديثه منكر" واضح في أنه عنده غير القارئ، فإن القارئ معروف مشهور، وهذا مجهول لا يعرف إلا بذاك الحديث كما تقتضيه عبارة العقيلي. ويؤكِّد هذا أن الذي ذكره العُقَيلي وروى عنه ذاك الحديث، كنيته "أبو يحيى" كما في السند، هكذا هو في كتاب العقيلي في النسخة المحفوظة بالمكتبة الآصفية في حيدراباد الدكن (2)، وهكذا هو في "الميزان" (3) وليست هذه كنية القارئ، أما القارئ فقال ابن الجزري في ترجمته من "طبقات القراء" (1/ 318): "كنيته أبو عيسى ويقال: أبو محمد" (4). [ص 57] والذهبي وإن بدأ في "الميزان" فزعم أنه القارئ فإنه رجع بعد ذلك ولفظه: "سليم بن عيسى الكوفي القارئ، إمام في القراءة، روى عن الثوري خبرًا منكرًا ساقه العقيلي، ولعل هذا الرجل غير القارئ .... ". فقد اتضح أن سُليم بن عيسى القارئ الواقع في سند الخطيب لا يناله _________ (1) (رقم 124). (2) قلت: وكذلك هو في النسخة المحفوظة في المكتبة الظاهرية بدمشق. [ن]. وهو كذلك في المطبوعة. (3) (6/ 70). (4) وذكره بالكنيتين الذهبي في "معرفة القراء": (1/ 157).

(9/65)


وهنٌ ما مما ذكر العقيلي ثم الذهبي؛ لأنه إن لم يكن هو الذي روى العقيلي عن يحيى بن عثمان عن كاتب الليث عنه ذاك الحديث فواضح، وإن كان إياه فلا يثبت عنه رواية ذاك الحديث للكلام في كاتب الليث وفي الراوي عنه. ولنكتف بهذه الأمثلة هنا، ويأتي لها في قسم التراجم من "التنكيل" نظائر منها في ترجمة حمَّاد بن سلمة (1)، ومنها في ترجمة محمد بن حسين بن حميد بن الربيع (2). اعتبار كما رأيت الأستاذ حيث يكون له غرض في الطعن في الراوي، قد يعمد إلى جرحٍ يعلمُ أنه لا يثبت فيجزم به، فكذلك حيث يكون له غرض في تقوية الراوي، قد يعمد إلى ثناء عليه يعلم أنه لا يثبت فيجزم به، كما يأتي في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت بن المغلس الحِمَّاني من "التنكيل" (3) والله المستعان. ــ ز ــ [ص 58] ومن تجاهله ومجازفاته: قوله في المعروف الموثَّق: "مجهول" أو "مجهول الصفة" أو "لم يوثَّق" أو نحو ذلك، فمن الأمثلة: 1 - عبد الله بن محمود. روى الخطيب (13/ 384 [397]) من طريق "عبد الله بن محمود _________ (1) (رقم 85). (2) (رقم (202). (3) (رقم 34).

(9/66)


المروزي قال: سمعت محمد بن عبد الله بن قُهْزاذ .. ". فقال الأستاذ (ص 70): "وعبد الله بن محمود مجهول الصفة". أقول: في ترجمة محمد بن عبد الله بن قُهْزاذ من "تهذيب التهذيب" (9/ 271): "روى عنه .... وعبد الله بن محمود السعدي". ولعبد الله بن محمود السعدي المروزي ترجمة في كتاب ابن أبي حاتم (1) وقال: "كتب إليَّ (2) بمسائل ابن المبارك من تأليفه". وله ترجمة في "تذكرة الحفاظ" (2/ 257). قال الذهبي: "الحافظ الثقة محدِّث مرو، أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمود بن عبد الله السعدي ... قال الحاكم: ثقة مأمون ... ". 2 - محمد بن مسلمة. روى الخطيب (13/ 395 [415]) من طريق البخاري "حدثنا صاحب لنا [عن حمدويه] (3) قال: قلت لمحمد بن مسلمة .... ". فقال الأستاذ (ص 103) في الحاشية: "مجهول، وليس هو بكاتب الحارث بن مسكين فإنه محمد بن سلمة .... ". أقول: قد قرأ الأستاذ ترجمته في "الانتقاء" لابن عبد البر الذي بثّ الأستاذُ عقاربَه في تعليقاته عليه (ص 56) (4). [ص 59] وفي "تاريخ _________ (1) (5/ 183). (2) وقع في الأصل و (ط): "إلى أبي" سهو، والمثبت من كتاب ابن أبي حاتم. (3) مستدركة من "تاريخ بغداد" وكتاب الكوثري. (4) (ص 102 - المحققة).

(9/67)


البخاري": (1/ 1/240): "محمد بن مسلمة أبو هشام المخزومي المدني .... سمع مالكًا .... وقيل لمحمد بن مسلمة: ما لرأي فلان ... " فذكر الحكاية التي ذكرها الخطيب. وقال ابن حبان في "الثقات" (1): "محمد بن مسلمة بن هشام بن إسماعيل أبو هشام المخزومي ... يروي عنه هارون بن عبد الله الحمَّال والناس، وكان ممن يتفقَّه على مذهب مالك ويفرّع على أصوله، ممن صنف وجمع". وذكره ابن أبي حاتم في كتابه (2) وقال: " .... روى عنه عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة وأبي .... سألت أبي عنه فقال: كان أحد فقهاء المدينة من أصحاب مالك، وكان من أفقههم، ... سئل أبي عنه فقال: مديني ثقة". وفي "الديباج المذهب" (ص 227): "محمد بن مسلمة .. روى محمدٌ هذا عن مالك وتفقَّه عنده، وكان أحد فقهاء المدينة من أصحاب مالك وكان أفقههم، وهو ثقة، وله كتب فقه أُخِذَت عنه، وهو ثقة مأمون حجة، جمع العلم والورع، توفي سنة 206". ويبعد جدًّا أن يكون هذا كلُّه خفي على الأستاذ مع ما عرفناه منه من النشاط في التفتيش عن التراجم، بل في سياق كلامه ما يُشْعِر بأنه عرف هذا الرجل، فإنه قال (ص 104): "ونهمس في أذن هذا المتعصّب الهاذي: إن كنت ... فما رأيك في مذهب إمامك ... " يعني مالكًا، والله المستعان. _________ (1) (9/ 55). (2) (8/ 71).

(9/68)


[ص 60] 3 - طاهر بن محمد. ذكر الخطيب (13/ 373 [378]) حكاية من طريق "طاهر بن محمد ثنا وكيع ... ". فقال الأستاذ (ص 43): "طاهر بن محمد مجهول". أقول: بل معروف موثَّق، هو طاهر بن أبي أحمد محمد بن عبد الله الزُّبَيري، ذكره المِزّي في "تهذيبه" (1) في الرواة عن وكيع، وذكره ابن أبي حاتم في كتابه (2) وقال: "روى عنه محمد بن عبد الله الحضرمي وموسى بن إسحاق القاضي"، وذكره ابن حبان في "الثقات" (3) وقال: "يروي عن وكيع وأبي أسامة، حدثنا عنه محمد بن إدريس الشامي، مستقيم الحديث". وهذا من توثيق ابن حبان الذي لا مَغْمَز فيه، كما يأتي شرحه في ترجمة ابن حبان من "التنكيل" (4). 4 - إسماعيل بن حمدويه. ذكر الخطيب (13/ 414 [442]) أثرًا من طريق "سلامة بن محمود القيسي: حدثنا إسماعيل بن حمدويه البيكندي، قال: سمعت الحميدي ... ". فقال الأستاذ (ص 150): "إسماعيل بن حمدويه مجهول". _________ (1) (7/ 462). (2) (4/ 499). (3) (8/ 328). (4) (رقم 200).

(9/69)


أقول: ذكره ابن حبان في "الثقات" (1) ــ ووقع في النسخة "السكندري" (2) ــ وقال: "يروي عن أبي نُعيم وأبي الوليد وأهل البصرة، حدثنا عنه محمد بن المنذر شَكَّر (3)، كان مقيمًا بالرملة زمانًا، وكتب عنه شَكَّر". أقول: فقد عَرَفه ابنُ حبان وعرفَ حديثَه. وتوثيقُه لمن عرفه وعرف حديثَه مقبولٌ، كتوثيق غيره من الأئمة، ويأتي شرح ذلك في ترجمة ابن حبان من "التنكيل" (4). [ص 61] 5 - عبد الرحمن بن داود بن منصور. ذكر الأستاذ (ص 184) روايةً لأبي نعيم الأصبهاني، عن أبي الشيخ، عن عبد الرحمن بن داود بن منصور. فقال الأستاذ: "عبد الرحمن بن داود مجهول". أقول: ذكره أبو الشيخ، وأبو نعيم أنفسُهما في كتابيهما، فقال أبو الشيخ (5): "عنده حديث الشام ومصر، أكثر الناس حديثًا عنهم، كان من الفقهاء، صاحب أصول ثقة مأمون". وذكر أبو نعيم في "تاريخ أصبهان" (6) نحو ذلك. _________ (1) (8/ 105). (2) ثم رأيته في نسخة أخرى جيدة (البيكندي). [المؤلف]. وهو كذلك في المطبوعة. (3) كذا في الأصل، وفي مطبوعة الثقات: " ... بن المنذر [بن] سعيد ... ". (4) (رقم 200). (5) "طبقات المحدثين بأصبهان": (4/ 96). (6) (2/ 78).

(9/70)


وهذان الكتابان قد وقف عليهما الأستاذ، فإنه قال (ص 59) عند ذكر عمر بن قيس الماصر: "له ولذويه ذكر واسع في "تاريخ أصبهان" لأبي الشيخ"، وقال (ص 151) في أحمد بن عبد الله الأصبهاني: "مترجم في "تاريخ أصبهان" لأبي نعيم". وفي كلا النقلين نظر، لكن المقصود هنا بيان وقوف الأستاذ على الكتابين، وقد دلَّ على ذلك كلامه في سالم (1) بن عصام كما مرّ (ب/ 5)، ولا يخفى على الأستاذ أن عبد الرحمن هذا أصبهاني، فالظن به أنه راجع ترجمته في الكتابين المذكورين. 6 - أحمد بن الفضل بن خزيمة. قال الأستاذ (ص 111): "لم يوثَّق". أقول: هو أحمد بن الفضل بن العباس بن خزيمة، ترجمته في "تاريخ بغداد" (4/ 347) وفيها: "وكان ثقة". 7 - جعفر بن محمد الصندلي. قال الأستاذ (ص 141): " [الذي] (2) أثنى ابنُ حَيُّويه عليه وحده لا يكون إلا من هذا الصنف". أقول: ابن حَيّويه هو محمد بن العباس أبو عمر بن حيويه الخزَّاز، [ص 62] ستأتي ترجمته في "التنكيل" (3)، وهو أحد الثقات الأثبات العارفين، ومع ذلك ففي ترجمة جعفر هذا من "تاريخ بغداد" _________ (1) كذا وقد تقدم (ص 37) أن الصواب "سَلْم". (2) من كتاب الكوثري يستقيم بها السياق. (3) (رقم 209).

(9/71)


[(7/ 221)] (1): "وكان ثقة صالحًا ديّنًا، سكن باب الشعير. أخبرنا أحمد بن أبي جعفر، حدثنا يوسف بن عمر القوَّاس، حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد الصندلي الأطروش سنة سبع عشرة وثلاثمائة ومات فيها، وكان يقال: إنه من الأبدال". ثم ذكر الخطيب أن الصحيح أنه مات سنة 318، وقال ابن الجوزي في "المنتظم" (6/ 234) في ترجمة جعفر هذا: "وكان ثقة صالحًا دينًا ... ، وكان يقال: إنه من الأبدال". اعتبار كما أن الأستاذ يتجاهل المعروفين الثقات حين يكون هواه ردّ روايتهم، فكذلك يتعارف المجاهيل ويحتجّ بروايتهم إذا كانت روايتهم توافق هواه، وسيأتي في "التنكيل" أمثلة لذلك. ومنها: في ترجمة أحمد بن عبد الله الأصبهاني، ذكر الخطيب (2) أثرًا من طريق علي بن حَمْشاذ عنه واستنكره، فقال الأستاذ (ص 151) "سعى الخطيب ... بأن يقول: إن أحمد بن عبد الله الأصفهاني مجهول، كيف وهو من ثقات شيوخ ابن حمشاذ، مترجَم في "تاريخ أصفهان" لأبي نعيم". كذا قال، وقد فتّشتُ "تاريخ أبي نعيم" فوجدت فيه ممن يقال له "أحمد بن عبد الله" جماعة ليس في ترجمة واحد منهم ما يشعر بأنه هذا، وفوق ذلك فجميعهم غير موثَّقين (3). _________ (1) بيَّض المؤلف للجزء والصفحة فاستدركتها. (2) "التاريخ": (3/ 439). (3) وادّعى الأستاذ أن عليَّ بن حمشاذ لا يروي إلا عن الثقات، فبينت هناك كذب هذه الدعوى، وسقت عدة من الروايات التي فيها رواية علي بن حمشاذ عن الضعفاء والمتهمين. [المؤلف].

(9/72)


ومنها: في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت بن المغلّس [ص 63] الحِمَّاني، ذَكَر الخطيب (1) بسنده حكاية عن ابن أبي خيثمة، وردَّها بنكارتها وبأنّ في السند مجاهيل. فاحتجَّ الأستاذ بتلك الحكاية جازمًا بها، ودفع كلام الخطيب بقوله: "وهذا مما يغيظ الخطيب جدًّا، ويحمله على ركوب كل مركب للتخلص منه بدون جدوى". كذا قال، ثم لم يبيِّن ما يعرِّف به أولئك الذين جَهَّلهم الخطيب (2). ومنها: في ترجمة الإمام الشافعي فيما يتعلق بكتاب "التعليم" المنسوب لمسعود بن شيبة، هذا الكتيّب فيه جهالات في الطعن في مالك والشافعي، وذكر ابن حجر في "لسان الميزان" (3) مسعودَ بن شيبة وقال: "مجهول لا يُعرف عمن أخذ العلم ولا من أخذ عنه، له مختصر سماه "التعليم" ... ". فزعم الأستاذ في حاشية (ص 3) "أنه معروف عند الحافظ عبد القادر القرشي و ... وغيرهم، فنعُدّ صنيع ابن حجر هذا من تجاهلاته المعروفة لحاجة في النفس، وقانا الله اتباع الهوى". كذا قال! والقرشيُّ وغيره لم يُعَرِّفوا من حال مسعود بن شيبة إلا بما أخذوه من كتاب "التعليم" نفسِه، وليس في ذلك ما يدل أنهم عرفوه المعرفةَ التي تنافي الجهالة، والواقع أن كتاب "التعليم" ألَّفه حنفيّ مجهول متعصِّب، _________ (1) "التاريخ": (4/ 209). (2) وقد عرف غيرُه بعضَهم بالضعف الشديد، كما ستراه في "التنكيل". [المؤلف]. (3) (8/ 46).

(9/73)


وكتب على ظاهره ذاك الاسم المستعار "مسعود بن شيبة" (1)، ولكن الأستاذ مع معرفته بالحقيقة يَلْدَغ ويَصْئي (2) ويرمي الأئمة بدائه، ثم يقول: "وقانا الله اتباع الهوى"! [ص 64] ومما يدخل في هذا الضرب: قول الكوثري (ص 16) عند نقله ما ذكره الخطيب في موضع قبر أبي حنيفة: "كان من المناسب أن يذكر الخطيب هنا ما ذكره في (1/ 123) من تبرُّك الشافعي بأبي حنيفة حيث قال: أخبرنا القاضي أبو عبد الله الحسين بن علي الصيمري قال: أنبأنا عمر بن إبراهيم المقرئ قال: أنبأنا مكرم بن أحمد قال: أنبأنا عمر بن إسحاق بن إبراهيم قال: أنبأنا علي بن ميمون قال: سمعت الشافعي يقول: إني لأتبرَّك بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره في كل يوم ــ يعني زائرًا ــ فإذا عَرَضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده، فما تبعد عني حتى تُقْضى اه. ورجال هذا السند كلهم موثقون عند الخطيب". أقول: أما الصَّيمري وشيخه فموثَّقان عند الخطيب ــ أي في "تاريخه" كما هو الظاهر ــ ومع ذلك فالظاهر أن هذه الحكاية من كتاب "مناقب أبي حنيفة" الذي جمعه مُكْرَم بن أحمد، وكان كتابًا معروفًا، ولعله كان عند الخطيب نسخة منه، وكان سماعه له من الصيمري، ومعظم الاعتماد في مثل هذا على صحة النسخة، ولم يكن الخطيب ليعتمد عليها إلا وهي صحيحة، _________ (1) تكلم المؤلف على "مسعود بن شيبة" في "التنكيل": (رقم 189) في ترجمة الشافعي بما يشفي، وفي رسالة "تنزيه الإمام الشافعي عن مطاعن الكوثري". (2) "يلدغُ ويصئي" مَثَل يُضرب لمن يبتدئ بالأذى ثم يشكو. انظر "المثل السائر" (2/ 345)، و"اللسان": (14/ 449 صأي). ووقع رسمها في الأصل: "ويصيء" وفي (ط): "ويصئ".

(9/74)


فالصيمري وشيخه من الوسائط السَّنَدية ــ فلا يضر تلك الرواية أن يكون فيهما أو في أحدهما كلام ــ على أنه لا كلام فيهما فيما أعلم. وأما مُكْرَم فقد قال الخطيب في ترجمته (1): [ص 65] "وكان ثقة"، ولم أر ما يخالف ذلك سوى ما ذكره الخطيب (4/ 209) في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت بن المغلِّس الحِمَّاني قال: "حدثني أبو القاسم الأزهري قال: سئل أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني وأنا أسمع عن جَمْع مُكْرَم بن أحمد "فضائل أبي حنيفة"؟ فقال: موضوع، كله كذب، وضَعَه أحمد بن المغلّس الحِمّاني .... ". فهذه العبارة تحتمل أوجهًا: الأول: أن يكون الدارقطني تجوَّز في قوله: "كله" وإنما أراد أن الموضوع بعض ما تضمّنه ذاك المجموع، وهو ما فيه رواية عن أحمد بن محمد بن الصلت بن المغلس. الثاني: أن تكون عبارة الدارقطني على ظاهرها، ويكون ما في ذلك المجموع من غير الحِمَّاني أصله من وَضْع الحِمَّاني، ولكن كان لمُكْرَم إجازات من أولئك الشيوخ، فأسقط اسم الحمّاني من تلك الروايات ورواها عن أولئك المشايخ بحق الإجازة، كما قيل: إن الحافظ أبا نعيم الأصبهاني ربما صنع مثل ذلك كما يأتي في ترجمته من "التنكيل" (2). الثالث: أن يكون مُكْرَم واطأ الحِمَّاني، فوضع له الحماني تلك _________ (1) "تاريخ بغداد": (13/ 221). (2) (رقم 21).

(9/75)


الحكايات عن الشيوخ الذين أدركهم مُكرم، فرواها مُكرمٌ عنهم. وهذا الوجه الثالث هو الموافق لظاهر سؤال الأزهري للدارقطني وجواب الدارقطني، لكن يدفعه توثيق الخطيب لمُكْرم، وأنه لم يذكره أحد في "الضعفاء"، والوجه الثاني أيضًا موافق لظاهر سؤال الأزهري وجواب الدارقطني، وهو أدنى أن [ص 66] لا يدفعه ما يدفع الثالث. وعلى كلّ حال فلم ينحلّ الإشكال، فدعه وافرض أن الراجح هو الوجه الأول، وأن هذه الرواية صحيحة عن عمر بن إسحاق بن إبراهيم، فمن عمر هذا؟ ومن شيخه؟ أموثَّقان هما عند الخطيب كما زعم الأستاذ؟ أما أنا فقد فتشت "تاريخ بغداد" فلم أجدهما فيه، لا موثَّقَين ولا غير موثَّقَين، بل ولا وجدتهما في غيره، نعم في غيره علي بن ميمون الرّقِّي يروي عن بعض مشايخ الشافعي ونحوهم، وهو موثَّق، لكن لا تُعرف له رواية عن الشافعي، وقد راجعت "توالي التأسيس" (1) لابن حجر لأنه حاول فيها استيعاب الرواة عن الشافعي، فلم أجد فيهم علي بن ميمون لا الرّقِّي ولا غيره، انظر "توالي التأسيس" (ص 81). هذا حال السند، ولا يخفى على ذي معرفة أنه لا يثبت بمثله شيء، ويؤكِّد ذلك حالُ القصة، فإن زيارته قبر أبي حنيفة كلَّ يومٍ بعيدٌ في العادة، وتحرِّيه قصده للدعاء عنده بعيد أيضًا، إنما يُعْرَف تحري القبور لسؤال الحوائج عندها (2) بعد عصر الشافعي بمدة، فأما تحري الصلاة عنده فأبعد وأبعد. _________ (1) كذا وصواب اسمه "توالي التأنيس" بالنون. (2) الأصل: "عندنا". وفي (ط 2) على الصواب.

(9/76)


والمقصود إنما هو المقابلة بين قول الأستاذ: "ورجال هذا السند كلهم موثقون عند الخطيب" مع الأمثلة السابقة، وبين الأمثلة المتقدمة في الفرع (1). وبيان أن الأستاذ إن تجاهل المعروفين الموثَّقين من رواة ما يخالف هواه، فإنه يتعارف المجهولين من رواة ما يوافقه، والله المستعان. [ص 67]ــ ح ــ ومن أعاجيبه: أنه يطلق صِيَغ الجرح مفسَّرة وغير مفسّرة بما لا يوجد في كلام الأئمة، ولا له عليه بيّنة، فمن أمثلة ذلك: 1 - أنس بن مالك صاحب رسول اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم. قال الأستاذ (ص 80): "وأما حديث الرّضْخ فمرويّ عن أنس بطريق هشام بن زيد، وأبي قِلابة عنعنة، وفيه القتل بقول المقتول من غير بيِّنة، وهذا غير معروف في الشرع، وفي رواية قتادة عن أنس إقرار القاتل، لكن عنعنة قتادة متكلَّم فيها، وقد انفرد برواية الرّضْخ أنس رضي الله عنه في عهد هَرَمِه، كانفراده برواية شرب أبوال الإبل في رواية قتادة (زاد في الحاشية - كما في "الكفاية" للخطيب (ص 74) برغم حَمَلات البدر العيني على الإتقاني وصاحب "العناية" في ذلك) وبحكاية معاقبة العُرَنيين تلك العقوبة للحجاج الظالم المشهور، حينما سأله عن أشدّ عقوبة عاقب بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى استاء الحسن البصري من ذلك ... ومن رأي أبي حنيفة: أن الصحابة رضي الله عنهم مع كونهم عدولًا ليسوا بمعصومين مِن مثل قِلّة الضبط الناشئة عن الأُمية، أو كبر السن، فيرجِّح رواية الفقيه منهم على رواية غيره عند التعارض، ورواية غير الهَرِم منهم على رواية الهَرِم ... ". أقول: المقصود هنا ما في هذه العبارة من زعم أن أنسًا رضي الله عنه _________ (1) غيرت في (ط) إلى: "النوع".

(9/77)


هَرِم واختلّ ضبطُه! [ص 68] ولا أعرف أحدًا قبل الأستاذ زعم هذا. نعم ذكروا أنه رضي الله عنه لما كبر نسيَ بعضَ حديثه، لكن لا يلزم من النسيان اختلال الضبط؛ فإن الناسي إن نسي الحديث أصلًا لم يحدِّث به البتة، وكيف يحدِّث به وهو ناسٍ له؟ وإن عَرَض له تردُّد في قصة أو في بعضها، فإنه إذا كان ضابطًا لم يحدّث بها، أو يحدِّث بها ويبين التردد والشك، فالضابط هو الذي لا يحدِّث إلا بما يتقنه، فما لم يتقنه لم يحدِّث به أو حدَّث به وبين شكَّه، سواء أكان عدم الاتقان لذاك الحديث من أول مرة عند التلقي أم عارضًا. وزعمه أنه هَرِم غيرُ قويم؛ لأن الهرم أقصى الكبر، ولم يبلغ أنس أقصى الكبر، أما من جهة كبر السن فقد قيل: إنه لم يجاوز المائة، وقيل: بل جاوزها بثلاث سنين، وغلّطوا من قال: إنه جاوزها بسبع سنين وقد كان في عصره مِنْ قومه وغيرِهم من عاش فوق ذلك، فبلغ حسَّان مائة وعشرين سنة، وكان سُويد بن غَفَلة يؤمُّ الناسَ في قيام رمضان وقد أتى عليه مائة وعشرون سنة، ثم عاش حتى تمّ له مائة وثلاثون سنه، وبلغ أبو رجاء العُطاردي مائة وسبعًا وعشرين سنه، وبلغ أبو عمرو سعد بن إياس الشيباني مائة وعشرين سنة، وبلغ المعرور بن سويد مائة وعشرين سنة، وبلغ زِرُّ بن حُبيش مائة وسبعًا وعشرين سنة، وبلغ أبو عثمان النهدي مائة وثلاثين، وقيل: مائة وأربعين سنة (1) وحسَّانٌ صحابي من قوم أنس، والستة _________ (1) من قوله: "وبلغ زر ... " إلى هنا من (ط 2) استدركها المؤلف، وقد أمر في "شكر الترحيب" (ص 265) أن تضاف هنا مع تعديل في العبارة. وقد ألَّف في المعمّرين غير واحد منهم: أبو حاتم السجستاني، والذهبي في جزئه "أهل المئة فصاعدًا".

(9/78)


الباقون (1) [ص 69] كلهم ثقات أثبات مُجْمع على الاحتجاج بروايتهم مطلقًا، ولم يطعن أحدٌ في أحدٍ منهم بأنه تغيّر بأخرة. وأما من جهة قوة البدن؛ فلم يزل أنس صالحًا حتى مات لم يعرض له وهن شديد. وأما من جهة كمال العقل، وحضور الذهن؛ فلم يزل أنس كامل العقل حاضر الذهن حتى مات. وأحبُّ أن أتتبّع عبارة الأستاذ السابقة ليتضح للقارئ تحقيق الأستاذ وتثبته! أما هشام فهو ابن زيد بن أنس بن مالك، وليس هو بمدلِّس، والراوي عنه شعبة، وهو معروف بالتحفُّظ عن رواية ما يُخْشى فيه التدليس، والحديث في "الصحيحين". وأما أبو قِلابة فهو عبد الله بن زيد الجَرْمي، وقد قال أبو حاتم (2): "لا يعرف له تدليس". وسماعه من أنس ثابت كما في حديث العُرَنيين وغيره، فعنعنة هذين محمولة على السماع باتفاق أهل العلم. وقوله: "وفيه القتل بقول المقتول" إنما يكون فيه ذلك لو صرَّح بنفي الاعتراف، ولم يصرِّح به (3)، وإذ لم يصرِّح به فالواجب في مثل ذلك إذا كان _________ (1) الأصل: "وسويد وأبو رجاء وأبو عمرو". وغيَّرها في الطبعة الثانية إلى ما هو مثبت بعد زيادة مَن ذكرهم مِن المعمرين. وأمر بنحو ذلك في "شكر الترحيب" (ص 77). (2) "الجرح والتعديل": (5/ 58). (3) ولو صرّح به لوجب قبوله إلا أن يتبين أنه منسوخ، هذا بالنسبة للأخذ بقول المقتول. فأما الحكم الذي الكلام فيه، وهو وجوب القَوَد على القاتل عمدًا بمثقّل يَقْتُل مثلُه، فالحديث حجة فيه على كل حال. [المؤلف]

(9/79)


الظاهر باطلًا أن يبني على أنه وقع الاعتراف، وهذا كما في دلالة الاقتضاء المشروحة في أصول الفقه، وهي أنه إذا لم يصح المعنى الظاهر عقلًا أو شرعًا وجب إضمار ما يصح به الكلام، ولا يعدّ عدم صحة الظاهر مسوِّغًا لردِّه رأسًا، فكذلك هنا، بل الأمر هنا أوضح، فإنَّ تَرْك الراوي لبعض الجزئيات، مما يرى أنه لا يخفى ثبوتُه على أحد، أسهل من الحذف في التركيب. هذا كلّه على فرض أنه لم ينقل الاعتراف وهو منقول ثابت في رواية قتادة. [ص 70] قوله: "عنعنة قتادة متكلَّم فيها". أقول: دع عنعنتَه وخذ تصريحَه، قال البخاري في "الصحيح" (1) في "باب إذا أقرَّ بالقتل مرة قُتِل به": "حدثني إسحاق، أخبرنا حَبَّان، حدثنا همام، حدثنا قتادة، حدثنا أنس بن مالك: أن يهوديًّا رَضَّ رأسَ جاريةٍ بين حجرين ... فجيء باليهودي فاعترف، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرضَّ رأسه بالحجارة ــ وقد قال همام: بحجرين". وفي "مسند الإمام أحمد" (3/ 269) (2): حدثنا عفَّان، حدثنا همَّام قال: أنا قتادة أن أنسًا أخبره: " ... فأخذ اليهوديّ فجيء به فاعترف". فهل في هذا عنعنة يا أستاذ؟ (3). _________ (1) (6884). (2) (13840). (3) ليس هذا من الزيادة. إنما هو من تبيين المجمل وتعيين المحتمل، ومن يحتج بالمرسل كيف يعقل أن يرد مثل هذا؟ ! [المؤلف]. أقول: وهذا جواب من المؤلف على ما أورد الكوثري في "الترحيب" كما سيأتي. وانظر ترجمة أنس بن مالك رضي الله عنه في "التنكيل" (رقم 56).

(9/80)


قوله: "وقد انفرد برواية الرَّضْخ أنسٌ في عهد هَرَمِه". أقول: أما الانفراد فليس بمانع من الاحتجاج عند أهل السنة، بل بإجماع الصحابة والتابعين، بل الأدلة في ذلك أوضح، ولم يشترط التعدّد إلا بعضُ أهل البدع، نعم قد يُتَوقَّف في بعض الأفراد لقيام قرائن تُشْعِر بالغلط، والمرجع في ذلك إلى أئمة الحديث، وليس ههنا قرينة، وأئمة الحديث قد صحَّحوا هذا الحديث كما علمت. وأما قوله: "في عهد هَرَمِه" فقد تقدَّم أنه لم يهرم، وليس هناك دليل أنه لم يحدِّث بهذا الحديث إلا بعد كبره، فالجزم بذلك مجازفة. قوله: "كانفراده برواية شرب أبوال الإبل في رواية قتادة". أقول: في "فتح الباري" (1): " ... وروى ابن المنذر عن ابن عباس مرفوعًا: في أبوال الإبل شفاء للذَّرِبَة بطونُهم". والحديثُ في "الصحيحين" (2) وغيرهما عن قتادة مصرّحًا في بعض طرقه بالسماع من أنس، ولم ينفرد به قتادة، بل ثبت في "الصحيحين" (3) وغيرهما من رواية [ص 71] أبي قِلابة مصرّحًا في بعض طرقه بالسماع من أنس، وثبت في "صحيح مسلم" (4) من رواية عبد العزيز بن صُهَيب وحُميد عن أنس. وفي _________ (1) (10/ 143). والحديث أخرجه أحمد (2677)، والطبراني في "الكبير" (12/ 238)، والبيهقي في "معرفة السنن": (2/ 235). وفي سنده حَنَش وابن لهيعة، وهما ضعيفان. (2) البخاري (1501، 4192، 5686، 5727)، ومسلم (1671/ 14). (3) البخاري (4610، 6804، 6899)، ومسلم (1671/ 10). (4) (1671).

(9/81)


"تفسير ابن جرير" (6/ 119 - 120) (1) بسند صحيح عن سعيد بن جبير ذكر القصة بسياق آخر وفيها: "فاشربوا أبوالَها وألبانها" (2). وما في "الكفاية" (ص 74) حاصله: أن الخطيب عقد بابًا لما استثبتَ فيه الراوي غيرَه وميَّزه، فذكر في جملة الأمثلة عن حُميد عن أنس: " ... فشربتم من ألبانها، قال حميد: وقال قتادة عن أنس: وأبوالها". فمقصود الخطيب أن حميدًا لم يحفظ في الحديث "وأبوالها"، وإنما أخذه من قتادة، فهذا حجة على أن حميدًا ليس في محفوظه عن أنس (وأبوالها)، وليس فيه ما يدلّ أن قتادة تفرّد بها، وقد ثبت من رواية أبي قلابة وعبد العزيز بن صهيب، ثم لو فرض تفرُّد قتادة فقتادة أحفظهم. قوله: "وبحكاية معاقبة العُرَنيين". أقول: كان اجتماع أنس بالحجّاج لما كان الحجاج بالبصرة وذلك سنة 75 (3) قبل وفاة أنس ببضع عشرة سنة، وليس في الحديث ما يصلح أن يكون شبهة للحجّاج على ظلمه، ولو كان فيه ذلك فلم يكن الحجاج ليحتاج في ظلمه إلى شُبْهة، ومع هذا فلأنس عُذْر، وهو أنه قد كان حدَّث بالحديث قبل ذلك، فلعله لما سأله الحجَّاج خشي أن يكون قد بلغ الحجّاجَ تحديثه به، فإذا كتمه عند سؤاله إياه اتخذ الحجاجُ ذلك ذريعة إلى إيذاء أنس. ثم أقول: إن كان مقصود الأستاذ أن تحديث أنسٍ للحجاج بتلك القصة _________ (1) (8/ 362 - ط. دار هجر) وفيه: "فاشربوا من أبوالها ... ". (2) قوله: "وفي تفسير ... وألبانها" استدركها المؤلف في الطبعة الثانية. (3) راجع أخبار هذه السنة من التواريخ. [المؤلف]

(9/82)


يدل على اختلال ضبط أنس، فلا يخفي بطلان هذا، [ص 72] وإن كان مقصوده أن ذلك موجب لفسق أنس، فليصرِّحْ به. قوله: "قلة الضبط الناشئة من الأمية أو كبر السن". أقول: أما الأُميّة فليست مما يوجب قلّة الضبط، وإنما غايتها أن يكون في رواية صاحبها كثير من الرواية بالمعنى، وليس ذلك بقادح، ومع ذلك فلم يكن أنسٌ أميًّا، ولا يُخْشى في حديث الرَّضْخ، ولا حديث العرنيين رواية أنس بالمعنى، أما عدم الأمية ففي "الإصابة" (1): "قال محمد بن عبد الله الأنصاري: حدثنا ابن عَون عن موسى بن أنس: أن أبا بكر لما اسْتُخْلف بعث إلى أنس ليوجِّهه إلى البحرين على السّعاية، فدخل عليه عمر فاستشاره فقال: ابعثه فإنه لبيب كاتب". وأما الرواية بالمعنى فإنما تُخْشى في الأحاديث القولية، والحديثان فعليان. قوله "فيرجح ... ". أقول: الترجيح إنما يكون عند قيام المعارض، ولم يعارض حديثَي أنسٍ ــ ولا سيما حديث الرضخ ــ شيءٌ يُعْتَدّ به، وليس مما يوهن الدليل أن يكون بحيث لو عارضه ما هو أرجح منه لقدّم الراجح، فإن هذا الوهن إنما يحصل عند وجود المعارض الأقوى، فإذا لم يكن هناك معارض أقوى لم يكن هناك وهن. هذا، وسيأتي بسط الكلام على حديث الرَّضْخ في الفقهيات من _________ (1) (1/ 128).

(9/83)


"التنكيل" (1)، وتأتي ترجمة أنس في قسم التراجم هناك (2)، والله الموفق. [ص 73] 2 - أبو عوانة الوضَّاح. قال الأستاذ (ص 92): " .... وما رواه في ست سنوات في آخر عمره، لا يعتد به لاختلاطه". أقول: فتشت المظانّ فلم أر أحدًا زعم أن أبا عوانة اختلط، وكأنَّ الأستاذ تشبَّث بما في "تاريخ بغداد" (13/ 465 [494]) " .... محمد بن غالب حدثنا أبو سلمة (3) قال: قال لي أبو هشام المخزومي: من لم يكتب عن أبي عوانة قبل سنة سبعين ومائة فإنه لم يسمع منه"، ثم عقب ذلك بذكر وفاة أبي عوانة سنة 175، أو سنة 176، وحمل الأستاذ قوله: "فلم يسمع منه" على المجاز، أي فلم يسمع منه سماعًا يُعتدّ به، ثم تخرَّص أن ذلك لأجل اختلاطه. ويدفع هذا: أن مثل أبي عَوانة في إمامته وجلالته، وكثرة حديثه، وكثرة الآخذين عنه لو اختلط لاشتهر ذلك وانتشر، فكيف لو دام ذلك سنوات؟ وقد اعتنى الأئمة بجمع أسماء الذين اختلطوا، فلم يذكروا أبا عَوانة، واعتنى المؤلفون في الضعفاء بذكر الذين اختلطوا، فلم يذكروا أبا عوانة، ومن ذكره منهم لم يذكر أنه اختلط، وإنما ذكر أنه كان إذا حدَّث من حفظه يغلط، ومع ذلك فهذه الرواية لا وجود لها (4) في "تهذيب التهذيب" (5) مع حرصه على _________ (1) (2/). (2) (رقم 56). (3) "حدثنا أبو سلمة" استدركها المؤلف في الطبعة الثانية. (4) الأصل: "له" سهو، والمثبت من (ط 2). (5) (11/ 116 - 120) ترجمة أبي عوانة.

(9/84)


ذِكْر كلّ ما فيه مدح أو قدح، وظهر من ذلك أنها ليست في أصوله (1). والذي يظهر أنهم حملوها على أن المقصود بها بيان تاريخ الوفاة (2)؛ لأن الخطيب عقَّبَها بما هو صريح في ذلك، فإما أن يكونوا أعرضوا عنها لشذوذها وإجمالها، وإما أن يكون وقع في نسخة "التاريخ" المطبوع سقط والأصل: "قبل سنة (ست و) سبعين"، فرأوا أنها مع إجمالها محتملة للوجهين المصرَّح بهما، فإن كان ولا بدّ فقد يكون المراد بها معنى ما رُوي عن الإمام أحمد: أن أبا عوانة كان في آخر عمره يقرأ من كتب الناس، يعني اعتمادًا على حفظه، مع قول أحمد: "إذا حدَّث أبو عوانة من كتابه فهو أثبت، وإذا حدّث من غير كتابه ربما وهم"؛ فيكون أبو هشام بالغ في قوله: "فلم يسمع منه". فأما الاختلاط فلا وجه له البتة. [ص 74] 3 - محمد بن علي بن الحسن بن شقيق. في "تاريخ بغداد" (13/ 414 [443]) من طريق "أحمد بن محمد بن الحسين البلخي يقول: سمعت محمد بن علي بن الحسن بن شقيق يقول: سمعت أبي يقول: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: لَحَديثٌ واحد من حديث الزهري أحبّ إليّ من جميع كلام أبي حنيفة". فذكر الأستاذ (ص 151) أثرًا قبل هذا، ثم قال: "وفي سند الخبر الذي بعده _________ (1) يعني "الكمال" للمقدسي، و"تهذيب الكمال" للمزي، و"إكمال تهذيب الكمال" لمغلطاي. (2) هذا هو المتعين ولا حاجة لما بعده، فقد صرح الحافظان الجليلان أبو بكر الإسماعيلي وأبو أحمد بن عدي بأن أبا عوانة مات سنة سبعين ومائة، كما في "تاريخ جرجان" ص 438. [المؤلف]. وهذا التعليق مما أضافه المؤلف في الطبعة الثانية.

(9/85)


محمد بن شفيق (كذا) وليس بذاك، ومتن الخبر لحديث واحد ... ". فمحمد بن علي بن الحسن بن شقيق وثَّقه النسائي وغيرُه، وقال الحاكم: "كان محدِّث مرو". ولم يغمزه أحد، فأما أبوه فمن جِلّة أصحاب ابن المبارك، احتجَّ به الشيخان في "الصحيحين" وبقية الستة (1). 4 - حُسين بن حُرَيث أبو عمَّار المروزي. قال الأستاذ (ص 83) "كثير الإغراب". أقول: لم أجد للأستاذ سَلَفًا في هذا، والحسين بن حريث من شيوخ الشيخين في "الصحيحين"، وأبي داود والترمذي والنسائي في كتبهم، ووثقه النسائي وغيره، ولم يغمزه أحد (2). 5 - علي بن محمد بن مهران السوّاق. قال الأستاذ (ص 156): "من ضعفاء شيوخ الدارقطني". كذا قال، وهذا الرجل روى عنه الدارقطني، ووثَّقه الخطيب ولم يغمزه أحد، وتأتي ترجمته في "التنكيل" (3). 6 - جعفر بن محمد بن شاكر. قال الأستاذ (ص 109): "بلغ تسعين [سنة] (4) واختلّ ضبطُه". أقول: أما العمر فذكروا أن جعفرًا قارب التسعين، وأما اختلال الضبط _________ (1) ترجمته في "تهذيب التهذيب": (9/ 349 - 350). (2) ترجمته في "تهذيب التهذيب": (2/ 333 - 334). (3) (رقم 167). (4) المعكوفان من المؤلف.

(9/86)


فمن مجازفات الأستاذ، قال الخطيب (7/ 176): "كان عابدًا زاهدًا ثقة صادقًا متقنًا ضابطًا". [ص 75] وأسند عن ابن المنادي: "كان ذا فضل وعبادة وزهد، انتفع به خلقٌ كثير في الحديث". وعنه أيضًا: "كان من الصالحين، أكثر الناسُ عنه لثقته وصلاحه، بلغ تسعين سنة غير يسير". وبلوغ التسعين لا يستلزم اختلال الضبط، كما مرّ في ترجمة أنس (1)، ويتأكد ذلك في هؤلاء المتأخرين؛ لأن اعتمادهم على أصول مثبتة منقَّحة محفوظة، لا على الحفظ، والله الموفق. فهذه ثمانية من فروع مغالطات الأستاذ ومجازفاته، وبقي بعض أمثلتها، وسترى ذلك في "التنكيل"، وكذلك بقيت فروع أخرى ستراها في "التنكيل" إن شاء الله تعالى. منها: أنه قد يكون في الرجل كلام يسير لا يضر، فيزعمه الأستاذ جرحًا تُردّ به الرواية، كما قال في الحسن بن علي الحُلْواني، والحسن بن أبي بكر، وعثمان بن أحمد بن السماك، ومحمد بن عباس بن حَيّويه (2). ومنها: أن الأستاذ قد يحكي كلامًا في الرجل مع أنه لا يضره بالنسبة إلى الموضع الذي يتكلّم عليه، كأن يروي الخطيب عن رجل كلامًا قاله برأيه، فيحكي الأستاذ في ذلك الرجل كلامًا حاصله أنه كان سيء الحفظ، كما قال في إبراهيم بن محمد أبي إسحاق الفزاري، ويوسف بن أسباط، وسفيان بن وكيع، وقيس بن الربيع، ومؤمَّل بن إسماعيل، ومحمد بن _________ (1) (ص 77). (2) انظر تراجمهم في "التنكيل" على التوالي (رقم 77، 73، 155، 209).

(9/87)


ميمون أبي حمزة، ومحمد بن جعفر بن الهيثم (1). ومنها: أن الخطيب كثيرًا ما ينقل بعض الروايات عن بعض المصنفات المشهورة، ولكنه على عادة أقرانه لا يصرِّح بالنقل، بل يرويها بسنده الذي سمع به ذاك الكتاب، فيتكلّف الأستاذ الكلام في بعض مَنْ بين الخطيب وبين مؤلِّف الكتاب، مع أن هذا لا يقدح في الرواية، إذ معظم الاعتماد في مثل هذا على صحة النسخة؛ [ص 76] ككلامه في عبد الله بن جعفر بن درستويه، والحسن بن الحسين بن دوما، ومحمد بن أحمد رزق، وأحمد بن كامل (2). ومنها: أن الأستاذ يعمد إلى كلامٍ قد ردّه الأئمة، فيتجاهل الأستاذ ردَّهم ويحتج بذلك الكلام، ككلامه في عليّ بن عبد الله بن المديني، وبشر بن السَّرَي، وأحمد بن صالح، ومحمد بن بشَّار، وإسماعيل بن إبراهيم أبي معمر الهذلي، وأبي مُسْهِر عبد الأعلى بن مسهر، وعبد الله بن محمد بن أبي الأسود، ومحمد بن عبد الله بن عمّار (3). ومنها: أنه يعمد إلى ما يعلم أنه لا يُعدّ جرحًا البتة، فيعتدّ به ويهوِّل، مثل كلامه في عبد الله بن الزّبير الحميدي، والحسن بن أبي بكر بن شاذان، ورجاء بن السندي (4). _________ (1) انظر "التنكيل" (رقم 8، 268، 100، 182، 253، 236، 198). (2) انظر تراجمهم في "التنكيل" (رقم 119، 74، 187، 29). (3) انظر "التنكيل" (رقم 163، 58، 20، 195، 47، 137، 128، 214). (4) انظر "التنكيل" (رقم 121، 73، 92).

(9/88)


ومنها: أنه يتهم بعض الحفاظ الثقات بتُهَم لا أصل لها، كما قاله في الحميدي، وأحمد بن عليّ الأبّار، إلى غير ذلك (1). وسترى إن شاء الله تعالى هذا كلَّه وغيره في "التنكيل". وحسبي الله ونعم الوكيل، وصلى الله على خاتم أنبيائه محمد وآله وصحبه. _________ (1) انظر "التنكيل" (رقم 121، 27).

(9/89)


تعزيز الطليعة تأليف العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي اليماني رحمه الله تعالى 1312 - 1386 تحقيق عليّ بن محمد العمران

(9/91)


[ص 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي أنزل الميزان، وأمر بالعدل والإحسان، وزجر عن الجور والعدوان، بالعدل أقام السموات والأرض، وبه شَرَع النهي والأمر، قال ــ وقوله الحق ــ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]. وقال عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. أما بعد، فهذه رسالة أردفتُ بها رسالتي "طليعة التنكيل" [ص 2] لمَّا وقفتُ على رسالة الأستاذ العلامة محمد زاهد الكوثريّ التي سمّاها

(9/93)


"الترحيب بنقد التأنيب"، يردُّ بها على "الطليعة" (1). وأسأل الله ــ تبارك وتعالى ــ أن يوفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه. _________ (1) طبعت "الطليعة" بعيدًا عني، وبعد مدة وصلت إليّ منها بضع نسخ مطبوعة، وكنت عند إرسال المسوّدة إلى الناشر أذنت بالتعليق، ويمكن أني أذنتُ بالإصلاح، وكنت أعتقد أن ذلك لن يتعدى زيادة فائدة، أو التنبيه على خطأ، فلما وقفت على المطبوع وجدت خلاف ذلك، رأيت تعليقات وتصرفات في المتن إنما تدور على التشنيع الذي يسوء الموافق من متثبتي أهل العلم، ويعجب المخالف. هذا مع كثرة الأغلاط في الطبع، فكتبتُ إلى الناشر في ذلك على أمل استدراك التنبيه على الأغلاط، وعلى ما يدفع عني تَبِعة ذلك التشنيع، وإلى الآن لم يصلني منه جواب، هذا مع علمي أنه ساءه ذلك التصرف كما ساءني. والكلمة التي طبعت كمقدمة للطليعة إنما هي كلمة كنت كتبتها قبل تلخيص الطليعة بمدة، لما طلب بعض فضلاء الهند أن أشرح له موضوع كتابي، ولا أدري كيف وقعت إلى المعلق أو الطابع، فأدرجها كمقدمة للطليعة، ولم يتنبه لما فيها مما كنت غيرته، كما يدل عليه ما في خطبة "الطليعة"، ومع هذا لم تنجُ تلك الكلمة من التصرف أيضًا. [المؤلف].

(9/94)


 الباب الأول: في مطالب متفرقة

ـــ 1 ـــ فصل رسالتي "طليعة التنكيل" قدّمتها بين يدي كتابي "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل"، رددتُ به على الأستاذ أشياء تعرَّض لها في كتابه "تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب". [ص 3] والذي سمّاه "أكاذيب"، ويسميه في كلامه "المثالب" عامته كلمات رُويت عن بعض المتقدمين، يظهر منها غضٌّ من أبي حنيفة، فعَمَد الأستاذ إلى مصحّح "تاريخ الخطيب"، فأنحى عليه، وعلى أبي الفضل بن خيرون ــ أحد رواة التاريخ عن الخطيب ــ، فحطَّ عليه، وعلى الخطيب، فحاول إسقاطه، ثم يقتصّ في كلّ إسنادٍ رجالَ الإسناد، فلا يكاد يدع منهم أحدًا إلا تكلّم فيه، ثم يساور قائل الكلمة، ويتعرَّض في الأثناء لمن يعْلَمه أثنى على واحد من أولئك الذين يتكلم فيهم الأستاذ، وربما يتعدَّى إلى غير هؤلاء، كما فعل في كلامه في ابن أبي حاتم صاحب كتاب "الجرح والتعديل"، فعَرَض لحرب الكرماني صاحب الإمام أحمد بن حنبل بِعِلَّة أن ابن أبي حاتم أخذ عنه في الاعتقاد ــ زعم الأستاذ ــ! ولا يكاد يترك من هؤلاء إلا من كان حنفيًّا، فإنه يحاول أن يبرِّئه من تلك الرواية. وأصل المقصود من كتابي "التنكيل" إنما هو تعقُّب كلام الأستاذ في

(9/95)


الرجال، فبينت ثقةَ كثيرٍ ممن حاول جرحهم، وجَرْحَ أفراد حاول توثيقهم، ووافقتُه في مَن رأيت كلامه فيه في محلِّه، ورتبت كتابي كما في الطليعة (ص 10 - 11) (1) على أربعة أقسام: الأول: في تحرير القواعد التي خلط فيها الأستاذ، وعامتها في أحكام الجرح والتعديل. الثاني: في التراجم مرتبًا على حروف المعجم، وهذا هو أصل المقصود. الثالث: في الفقهيات، وهذا ليس مما ينكر الأستاذ. الرابع: في الاعتقاديات. والذي دعا إليه: أن الأستاذ طعن في أئمة الحديث بأنهم مُجَسِّمة. فالقسم الأول والرابع متمِّمان للثاني، وأما الثالث فليس مما ينكره الأستاذ، ولم يزل أهل العلم ينظرون فيه، وليس في الحقيقة من موضوع الكتاب، لكن تعرَّض الأستاذ في "التأنيب" لمسائل فقهية أيَّدَ فيها مذهبه، فأحببت أن أنظر فيها. والذي اضطرّني إلى التعقيب: أن السنة النبوية وما تفتقر إليه من معرفة أحوال رواتها، ومعرفة [ص 4] العربية، وآثار الصحابة والتابعين في التفسير، وبيان معاني السنة والأحكام وغيرها، والفقه نفسه= إنما مدارها على النقل، ومدار النقل على أولئك الذين طعن فيهم الأستاذ وأضرابِهم، فالطعن فيهم يؤول إلى الطعن في النقل كلِّه، بل في الدين من أصله. _________ (1) (ص 4).

(9/96)


وحسبك أنّ من المقرر عند أهل العلم أنه إذا نُقِل عن جماعة من الصحابة القول بتحريم شيء، ولم ينقل عن أحدٍ منهم أو ممن عاصرهم من علماء التابعين قولٌ بالحلّ عُدّ ذاك الشيء مُجْمَعًا على حُرمته، لا يسوغ لمجتهد أن يذهب إلى حِلّه، فإن ذهب إلى حلّه غافلًا عن الإجماع كان قوله مردودًا، أو عالمًا بالإجماع فمِنْ أهل العلم من يضلِّله، ومنهم من قد يكفِّره. لكنه لو ثبت عن رجل واحد من الصحابة قولٌ بحلِّ ذلك الشيء= كانت المسألة خلافية، لا يُحْظَر على المجتهد أن يقول فيها بقول ذاك الصحابي، أو بقولٍ مفصّل يوافق هذا في شيء وذاك في شيء. ولا يحرم على المقلِّد الذي مذهب إمامه الحرمة أن يأخذ بالحل، إما على سبيل الترجيح والاختيار ــ إن كان أهلًا ــ وإما على سبيل التقليد المحض إن احتاج إليه. وثبوت ذاك القول عن ذاك الصحابي يتوقف على ثقة رجال السند إليه، والعلم بثقتهم يتوقّف على توثيق بعض أئمة الجرح والتعديل لكلّ منهم، والاعتدادُ بتوثيق الموثِّق يتوقف على العلم بثقته في نفسه وأهليته، ثم على صحة سَنَد التوثيق إليه، وثقته في نفسه تتوقف على أن يوثِّقه ثقةٌ عارف، وصحّة سند التوثيق تتوقف على توثيق بعض أهل المعرفة والفقه لرجاله، وهلمّ جرًّا. والسعيُ في توثيق رجل واحد من أولئك بغير حق، أو في الطعن فيه بغير حق سعيٌ في إفساد الدين بإدخال الباطل فيه، أو إخراج الحق منه. فإن كان ذاك الرجل واسع الرواية أو كثير البيان لأحوال الرواة، أو جامعًا للأمرين، كان الأمر أشدّ جدًّا، كما يعلمه المتدبِّر.

(9/97)


ولولا أن أُنْسَب إلى التهويل لشرحت ذلك، فما بالك إذا كان الطعن بغير حق في عدد كثير من الأئمة والرواة؟ يترتّب على الطعن فيهم إسقاط رواياتهم، زيادةً على محاولة توثيق جمٍّ غفير ممن جرحوه، وجرح جمٍّ غفير ممن وثقوه؟ ! [ص 5] ففي "التأنيب" الطعن في زُهاء ثلاثمائة رجل، تبيَّن لي أن غالبهم ثقات، وفيهم نحو تسعين حافظًا، وجماعة من الأئمة، فكم ترى يدخل في الدين من الفساد لو مشى للأستاذ ما حاوله من جرحهم بغير حق؟ ! على أنَّ الأمر لا يقف عندهم، فإن الأستاذ يحاول الرد بالاتهام، والتُّهَم غير محصورة، فيمكن كلّ مَن يهوى ردَّ شيءٍ من النقل أن يبدي تهمةً في رواته وموثِّقيهم، فيحاول إسقاطهم بذلك. بل يعدّ الملحدون الإسلامَ نفسَه ذريعةً لاتهام كلّ من روى من المسلمين ما يثبت النبوةَ والقرآنَ ونحو ذلك، ولا يقنعون بالآحاد، بل يُساورون المتواترات، بزعم إمكان التواطؤ والتتابع لاتفاق الغرض. ولو كان هذا الطعن من رجل مغمور أو غير مشهور بالعِلْم الديني، لهان الخطب، ولكنه من رجل يَصِف نفسَه أو يصفه بعضُ خواصّه ــ كما في لوح "التأنيب" ــ بقوله: "الإمام الفقيه المحدث والحجة الثقة المحقق العلامة الكبير ... ". ومكانته في العلم معروفة، والحنفيةُ ــ وهم السواد الأعظم كما يقول ــ يتلقَّون كلامَه بالقبول، وكذلك كثير من غيرهم ممن يعظم الأستاذ؛ لدفاعه عن جهمية الأشعرية، وعن القبورية.

(9/98)


ـــ 2 ـــ فصل حاول الأستاذ في "الترحيب" (1) التبرُّؤ مما نُسِب إليه في "الطليعة" من الطعن في أنس رضي الله عنه، وفي هشام بن عروة (2)، وفي الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد. أما كلام الأستاذ في الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد فسيأتي ــ إن شاء الله تعالى ــ في تراجمهم (3). ويكفي تدبر العبارة التي قالها في "التأنيب" في معرض الثناء عليهم ــ زعم ــ، ونقلها في "الترحيب" في معرض التبرُّؤ من الطعن فيهم. وحقيقة الحال أن الأستاذ يرى أو يتراءى أو يعرض على الناس أن يروا أن منازل الأئمة هي كما يتحصَّل من مجموع كلامه في "التأنيب"، ويرى أنه قد تفضَّل على الأئمة الثلاثة، وجامل أتباعَهم بأن أوهمهم في بعض عباراته أنه رفعهم عن تلك المنزلة قليلًا. فلما رآني لم أعتدّ بذاك الإيهام الفارغ، كان أقصى ما عنده أن يوهم الجهال براءته ــ ومعهم العلماء ــ أن تلك منازلهم عنده، رضوا أم كرهوا. فأما كلامه في أنس، فتراه وما عليه في "الطليعة" (ص 98 - 106) (4)، _________ (1) (ص 351 - مع التأنيب". (2) "وفي هشام بن عروة" ملحقة بين الأسطر ولعل هذا مكانها. (3) يعني من "التنكيل" وهم فيه بالأرقام (183، 189، 32). (4) (ص 77 - 83).

(9/99)


ويأتي تمامه في ترجمته (1). وينبغي أن يُعْلَم أن منزلة أنس رضي الله عنه عندنا غير منزلته التي يجعله الأستاذ فيها، فلسانُ حال الأستاذ يقول: ومَن أنس؟ وما عسى أن تكون قيمة رواية أنس في مقابلة الإمام الأعظم وعقليته الجبارة؟ ! كما أشار إلى ذلك في "الترحيب" (ص 24) (2) إذ قال: "وأسماء الصحابة الذين رغب الإمام عما انفردوا به من الروايات مذكورة في "المؤمَّل" لأبي شامة الحافظ. وليس هذا إلا تحريًّا بالغًا في المرويات يدل على عقلية أبي حنفية الجبارة". فزادنا مع أنس جماعةً من الصحابة رضي الله عنهم، وإلى ما يغالط به من "الترجيح" ــ الذي دفعته في "الطليعة" (ص 105 - 106) (3) ــ التصريح بأنه يكفي في تقديم رأي أبي حنيفة على السنة أن ينفرد برواية السنة بعضُ أولئك الصحابة. هذا مع أن رواية أنسٍ في الرّضْخ تشهد لها أربعُ آيات من كتاب الله عز وجل، بل أكثر من ذلك، كما يأتي في "الفقهيات" (4) إن شاء الله تعالى. ومعها القياس الجلي، ولا يعارض ذلك شيء، إلا أن يقال: إنّ عقلية أبي حنيفة الجبارة كافية لأن يقدّم قوله على ذلك كلّه! وعلى هذا فينبغي للأستاذ أن يتوب [ص 6] من قوله في "التأنيب" (ص 139) عند كلامه على ما رُوي عن الشافعي من قوله: أبو حنيفة يضع _________ (1) من "التنكيل" رقم (56). (2) (ص 317 - مع التأنيب). (3) (ص 82 - 83). (4) (2/ 127 وما بعدها).

(9/100)


أوَّلَ المسألة خطأ ثم يقيس الكتاب كلَّه عليها. قال الأستاذ هناك: "ولأبي حنيفة بعض أبواب الفقه من هذا القبيل، ففي كتاب الوقف أخذ بقول شريح القاضي، وجعله أصلًا، ففرَّع عليه المسائل، فأصبحت فروع هذا الباب غير مقبولة، حتى ردَّها صاحباه، وهكذا فعل في كتاب المزارعة، حيث أخذ بقول إبراهيم النخعي فجعله أصلًا، ففرَّع عليه الفروع". إلا أن يقول الأستاذ: إن أبا حنيفة لم يستعمل عقليته الجبارة في تلك الكتب أو الأبواب، وإنما قلّد فيها بعضَ التابعين، كشريح وإبراهيم. فعلى هذا يختص تقديم العقلية الجبارة بما يقوله من عند نفسه غير متبع فيه لأحد. فعلى هذا نطالب الأستاذ أن يطبِّق مسألة القَوَد على هذه القاعدة. أما نحن فلا نَعْتد (1) على أبي حنيفة بقول الأستاذ، ولا بحكاية أبي شامة الشافعي الذي بينه وبين أبي حنيفة نحو خمسمائة سنة، بل نقول: لعلّ أبا حنيفة لم يرغب عن انفراد أحدٍ من الصحابة، بل هو موافقٌ لغيره في أن انفراد الصحابي مقبول على كلِّ حال، وإنما لم يأخذ ببعض الأحاديث؛ لأنه لم يبلغه من وجه يثبت، أو لأنه عارضه من الأدلة الشرعية ما رآه أرجح منه. وإذا كان أبو حنيفة قد يأخذ برأي رجل واحد من التابعين، كشُرَيح في الوقف، وإبراهيم في المزارعة، فكيف يترك سنةً لتفرُّد بعضِ الصحابة بها؟ ! فأما التحرّي البالغ، فإن كان هو الذي يؤدِّي إلى قبول ما حقّه أن يُقْبَل، وردّ ما حقّه أن يُرَدّ، فلا موضع له هنا، وإن كان هو الذي يؤدِّي إلى قبول ما حقّه الرد كرأي شُريح في الوقف، ورأي إبراهيم في المزارعة، وإلى ردّ ما _________ (1) تحتمل: "نعقد".

(9/101)


حقّه القبول كما ينفرد به بعض الصحابة، ولا يعارضه من الأدلة الشرعية ما هو أقوى منه، أو كردِّ حديث الرضخ مع شهادة القرآن والقياس الجلي له= فهذا تجرٍّ ــ بالجيم ــ لا تحرٍّ ــ بالحاء ــ، أو قل: تحرٍّ للباطل لا للحق. فإن كان المقصود التخييل السحري، فيستطيع من يردّ انفراد الصحابي ــ أيّ صحابيٍّ كان ــ أن يقول: إن ذلك تحرٍّ بالغ، بل ومن يردّ السنن كلّها سوى المتواتر، بل ومَن يردّ المتواتر أيضًا فيقول: بل التحرِّي البالغ يقضي أن لا ينسب إلى شرع الله إلّا ما نصَّ عليه كلامه، بل ومن يردّ الدلالة الظنية من القرآن، ويردّ الإجماع قد يقول ذلك، ولم يبق إلا الدلالات اليقينية من القرآن. وشيوخُ الأستاذ من المتكلمين ينفون وجودها، كما يأتي في "الاعتقاديات" (1) إن شاء الله تعالى. فأما القياس فهو بأن يسمى إلغاؤه تحرّيًا واحتياطًا في دين الله أولى من ذلك كله فإنه بالنسبة إلى ذلك كما قيل: ويذهب بينها المرئيُّ لغوًا ... كما ألغيتَ في الديةِ الحُوارا (2) والمقصود هنا أن منزلة أنس عندنا غير منزلته التي يجعله الأستاذ فيها بلا تحرٍّ، وإن زعم الأستاذ أنه ليس في كلامه ما ينتقد. وفي "فتح الباري" (3) في باب المُصَرَّاة: "قال ابنُ السمعاني في "الاصطلام": التعرُّض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله، بل هو _________ (1) انظر "التنكيل": (2/ 485 وما بعدها). (2) البيت لذي الرمة "ديوانه" (2/ 1379) وفيه: "ويهلك بينها ... ". (3) (4/ 365 - ط السلفية).

(9/102)


بدعة وضلالة". ذكر ذلك في صدد ردِّ كلام بعض الحنفية في رواية أبي هريرة حديث المصرَّاة. وأما هشام بن عروة بن الزبير بن العوام، فهذه قصته: روى هشام عن أبيه عروة ــ وفي رواية للدارمي (1/ 51) (1): هشام عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة ــ قال: "لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلًا حتى ظهر فيهم المولَّدون أبناء سبايا الأمم، فقالوا فيهم بالرأي، فضلّوا وأضلّوا". فذكرها الأستاذ في "التأنيب" (ص 98) ثم قال: "وإنما أراد هشام النكاية في ربيعة وصاحبه (مالك) لقول مالك فيه [ص 7] بعد رحيله إلى العراق فيما رواه الساجي، عن أحمد بن محمد البغدادي، عن إبراهيم بن المنذر، عن محمد بن فُليح قال: قال لي مالك بن أنس: هشام بن عروة كذَّاب. قال: فسألت يحيى بن معين فقال: عسى أراد في الكلام، فأما في الحديث فهو ثقة". وعلَّق في الحاشية: "هذا من انفرادات الساجي. وأهلُ العلم قد تبدُر منهم بادرة، فيتكلّمون في أقرانهم بما لا يقبل، فلا يُتّخذ ذلك حجة، على أن ما يؤخذ به هشام بعد رحيله إلى العراق أمرٌ يتعلق بالضبط في التحقيق، وإلا فمالك أخرج عنه في الموطأ". ففهمتُ من قوله: "وإنما أراد هشام النكاية .... " أنه يريد أن هشامًا افترى هذه الحكاية لذاك الغرض، وأنّ ذلك مِن الكذب الذي عُني (2) في الكلمة _________ (1) (122). (2) غير محررة في الأصل، ولعلها ما أثبتّ.

(9/103)


المحكيّة عن مالك: "هشام بن عروة كذاب"، ومِن الكذب في الكلام على ما في الحكاية عن ابن معين، ومن البوادر التي لا تقبل كما ذكره في الحاشية. وبنيتُ على ذلك ما قلتُه في الكلمة التي كنتُ كتبتها إلى بعض الإخوان، فاتفق أن وقعت بيد المعلِّق أو الطابع، فطبعها كمقدمة للطليعة ــ بدون علمي ــ قلت فيها كما في "الطليعة" المطبوعة (ص 4) (1): "وفي هشام بن عروة بن الزبير بن العوام، حتى نَسَب إليه الكذب في الرواية". فتعرَّض الأستاذ لذلك في "الترحيب" (ص 48) (2)، وتوهَّم أو أوهم أنني إنما بنيتُ على ما في الحكاية التي نقلها مما نُسِب إلى مالك من قوله: "كذاب"، فأعاد الأستاذ الحكاية هناك ثم قال: "أهذا قولي أم قول مالك، أيها الباهت الآفك". فأقول: أما قولك، فقد قدمتُ ما فيه من إفهام أن هشامًا افترى تلك الحكاية انتقامًا من مالك، وأما قول مالك فلم يصح، بل هو باطل. ومن لطائف الأستاذ: أنه اقتصر في ما تظاهر به في صدر (3) الحاشية مِن محاولة تليين الحكاية عن مالك على قوله: "وهذا من انفرادات الساجي"، فكأنه لا مَطعن فيها إلا ذلك، وهو يعلم أن زكريا الساجي حافظٌ ثقة ثبت، وإن حاول هو في موضع آخر أن يتكلّم فيه، كما يأتي في ترجمته (4) إن شاء الله تعالى. _________ (1) (ص 3 - 4) بنحوه ولم أجده بنصه. (2) (ص 338 - مع التأنيب). (3) غير محررة في الأصل. (4) من "التنكيل" رقم (94).

(9/104)


هذا مع جزمه في المتن بقوله: "لقول مالك فيه". [ص 8] والحكايةُ أخرجها الخطيب في "تاريخ بغداد" (1/ 223) وتعقَّبها بقوله: "فليست بالمحفوظة إلا من الوجه الذي ذكرناه، وراويها عن إبراهيم بن المنذر غير معروف عندنا". يعني: أحمد بن محمد البغدادي. وبغداديٌّ لا يعرفه الخطيب الذي صرف أكثرَ عمره في تتبُّع الرواة البغداديين لا يكون إلا مجهولًا، فهذا هو المُسْقِط لتلك الحكاية من جهة السند. ويُسقطها من جهة النظر: أن مالكًا احتجّ بهشام في "الموطأ"، مع أن مالكًا لا يجيز الأخذ عمن جُرِّب عليه كذبٌ في حديث الناس، فكيف الرواية عنه؟ فكيف الاحتجاج به؟ وصحَّ عن مالك أنه قال: "لا تأخذ العلم من أربعة، وخذ ممن سوى ذلك، لا تأخذ من سفيه مُعلنٍ بالسَّفَه وإن كان أروى الناس، ولا تأخذ عن كذَّاب يكذب في أحاديث الناس إذا جُرِّب ذلك عليه، وإن كان لا يُتّهم أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .... ". أسنده الخطيب في "الكفاية" (ص 116)، وذكره ابن عبد البر في "كتاب العلم" (1)، كما في مختصره (ص 122)، وقال: "وقد ذكرنا هذا الخبر عن مالك من طرق في كتاب التمهيد (2) .... ". _________ (1) (2/ 821). (2) (1/ 66).

(9/105)


وكأنَّ الأستاذ يحاول إثبات أن الأئمة كمالك وابن معين يوثّقون الرجل إذا رأوا أنه لا يكذب في الحديث النبوي، وإن علموا أنه يكذب في الكلام، ويحاولُ أن يُدْخِل في الكلام ما يرويه الثقات مما فيه غضٌّ من أبي حنيفة، وهكذا ما يرويه أحدهم عن غيره مما فيه غضّ من أبي حنيفة، ولو مِن بُعْد، كرواية هشام المذكورة. وعلى هذا فيدخل في الكلام الذي لا يمتنع الأئمة من توثيق الكاذب فيه كلُّ كلامٍ إلا ما فيه إسناد خبر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولو ــ والعياذ بالله تعالى ــ تم هذا للأستاذ لسقطت المرويات كلها، ويأبى الله ذلك والمؤمنون. أما السنة فإنها لا تثبت إلا بثقة رواتها، وتوثيقُ الأئمة للرواة كلامٌ ليس فيه إسنادُ خبرٍ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهكذا روايةُ مَن بَعْد الأئمة لكلام الأئمة هي كلام، ويدخل في ذلك سائرُ كلماتِ الجرح والتعديل، والمدح والقدح: قولُها، وروايتُها، وحكايةُ مقتضيها، وروايتُه. فإذا كانوا يرون أن الكذب في ذلك لا ينافي الثقة لم نأمن من أن يكذبوا فيه، وتوثيق مَن بعدهم لهم لا يدفع أن يكونوا يكذبون مثل هذا الكذب، بل يجوز أن يكون ذاك التوثيق نفسه كذبًا، وإن كان قائله ثقةً. وأما ما عدا السنة من آثار الصحابة والتابعين ونحو ذلك، فكلّه كلام، والمعروف بين أهل العلم أنّ تعمُّد الكذب يوجب ردَّ رواية صاحبه مطلقًا. [ص 9] وقد قال الخطيب (ص 117): "باب في أن الكاذب في غير

(9/106)


حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترد روايته. قد ذكرنا آنفًا قولَ مالك بن أنس، ويجب أن يُقبل حديثه إذا ثبتت توبته". ولم يذكر في ذلك خلافًا، وقد روى ابنُ أبي حاتم عن أبيه: أن يحيى بن المغيرة سأل جريرَ بن عبد الحميد عن أخيه أنس بن عبد الحميد، فقال: قد سمع من هشام بن عروة، ولكنه يكذب في حديث الناس، فلا تكتب عنه". وفي "النخبة" وشرحها (1) ما يفيد أن الكذب في الكلام أشدّ إسقاطًا للراوي من الزنا مثلًا. فأما القبول بعد ثبوت التوبة فقد خالف فيه الصيرفي ــ فيما قيل ــ وهو من أجلّة النُّظار، فعنه أن الكاذب في غير الحديث النبوي كالكاذب فيه في أن لا تُقبل روايته أبدًا وإن تاب (2). ويتأكّد هذا في الكذب في الرواية لأقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين وغيرهم من أهل العلم، وما يتصل بذلك مما فيه توثيق راوٍ أو جرحه، أو ذمّ عالمٍ أو مدحه، وقريبٌ من هذا قول تابع التابعي. وتوثيق الراوي يكون تثبيتًا لمروياته، فإن كان فيها كذب كان التوثيق تثبيتًا للكذب في عدة أحاديث نبوية، فالكذب في ذلك التوثيق أشدّ من الكذب في حديث واحد. _________ (1) "نزهة النظر" (ص 88). (2) انظر "علوم الحديث" (ص 116) لابن الصلاح فقد نقل ذلك عن الصيرفي فيما فهمه من كتاب شرح رسالة الشافعي. وخالفه العراقي في "التقييد والإيضاح": (1/ 589 - 590) وقال: إنما أراد الصيرفي الكذب في الحديث.

(9/107)


والجرح إسقاط للراوي، فإذا كان في نفس الأمر ثقة، ففي جرحه إسقاط لعدة من الأحاديث النبوية. وليس الكذب المسقط لأحاديث نبوية صحيحة بأخفّ من الكذب المثبت لأحاديث باطلة. ومدحُ العالمِ تثبيت لمروياته ولأقواله أنها أقوالُ عالمٍ تصيرُ بها المسألةُ خلافية، ويكون للعاميّ الأخذ بها تقليدًا. وذمُّه على العكس من ذلك، أعني: أنه قد يكون فيه إسقاط المرويات والأقوال، بل قد يقال: الرواية بابٌ واحدٌ، فالكذب في ضربٍ منها يجرُّ إلى الكذب في الضرب الآخر. هذا، وإطلاقهم أن الكاذب في غير الحديث النبوي لا تُقبل روايته يتناول الكذبة الواحدة [ص 10] في غير الرواية، وإن لم يُخْش منها ضرر. فأما على القول بأنها مسقطة للعدالة مطلقًا ــ وفي الزواجر (2/ 169): أنه ظاهر الأحاديث أو صريحها ــ فظاهر. وأما على القول بأنها وحدَها حيث لا ضرر فيها لا تسقط العدالة، فقد يقال: هذا خاصٌّ بما إذا وقعت ممن لا يتعانى الرواية، فأما الراوي فالأمر فيه أشدّ؛ لأنّ عِماد الرواية الصدق، والكذب خلقٌ واحد، فمن كَذَب في غير الرواية لم يُؤمَن أن يجرّه ذلك إلى الكذب في الرواية. وأيضًا فالشهادة يُحتاج إلى التسمح فيها؛ لأن التشديد في عدالة الشهود قد يؤدِّي إلى ضياع الحقوق بخلاف الرواية، فإنما يتعاناها أفراد من أهل العلم، والغالب فيها بعد زمن الصحابة أن يوجد الحديث عند جماعة. ويشدّ هذا قولُ الحنفية: إنه يجوز القضاء بشهادة فاسِقَين، ولا يجوز قبول

(9/108)


الرواية إلا مِنْ عَدْل. وعلى كلّ حال فالكذب في الرواية قد لا يتأتي أن يقال: إن منه ما لا ضرر فيه ولا مفسدة. فعلى هذا فلا يكون إلا كبيرةً قطعًا، فيكون مسقطًا لعدالة صاحبه ألبتة، حتى لو فرضنا أنّ من الأئمة من قد يوثِّق مَن يعلم أنه قد كَذَب في كلام الناس كذبةً لا ضرر فيها ولا مفسدة، فلا يلزم من ذلك أن يوثِّق مَن يرى أنه قد يكذب في الرواية لغير الحديث النبوي. وهكذا ما يتعلّق بالجرح والتعديل، والمدح والقدح، فإن الكذب فيه ضارٌّ، مشتملٌ على المفاسد حتمًا، فلا ينافي أن قال: إنه لا (1) يسقط العدالة. والمقصود هنا إيضاح أنك إذا نسبتَ إلى راوٍ تعمُّدَ الكذب في رواية ــ ولو لغير الحديث النبويّ ــ أو جرح أو تعديل= فقد زعمت أنه فاسق ساقط العدالة، مردود الرواية مطلقًا. فمحاولة الأستاذ نِسْبة هشام إلى تعمُّد الكذب في تلك الرواية محاولة لإسقاط هشام ألبتة. ولهذا نظائر في كلام الأستاذ ستأتي، ويأتي الكلام على التهمة قريبًا إن شاء الله تعالى (2). وأما كلام الأستاذ في أئمة الفقه: مالك والشافعي وأحمد، فسيأتي في تراجمهم (3). _________ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب حذف "لا". (2) انظر (ص 34 فما بعدها). (3) في "التنكيل".

(9/109)


ـــ 3 ـــ فصل من أوسع أودية الباطل الغلوّ في الأفاضل، ومن أَمْضى أسلحته أن يرمي الغالي كلَّ من يحاول ردَّه إلى الحق ببغض أولئك الأفاضل ومعاداتهم. يرى بعضُ أهل العلم أن النصارى أول ما غَلَوا في عيسى عليه السلام كان الغلاة يرمون كلَّ من أنكر عليهم بأنه يبغض عيسى ويحقره، ونحو ذلك؛ فكان هذا من أعظم ما ساعد على انتشار الغلو؛ لأن بقايا أهل الحق كانوا يرون أنهم إذا أنكروا على الغلاة نُسِبوا إلى ما هم أشدّ الناس كراهية له مِن بُغْض عيسى وتحقيره. ومَقَتهم الجمهورُ، وأوذوا، فثبَّطَهم هذا عن الإنكار، وخلا الجوُّ للشيطان. وقريب من هذا حال غلاة الروافض، وحال القبوريين، وحال غلاة المقلدين. وعلى هذا جرى الأمر في هذه القضية؛ فإن الأستاذ غلا في أبي حنيفة حتى طعن في غيره من أئمة الفقه، وفي أئمة الحديث، وثقات رواته، بل تناول بعض الصحابة والتابعين. وأُسْكِتَ أهلُ العلم [ص 11] في مصر وغيرها برَمْي كلِّ مَن يهمّ أن ينكر عليه ببغض أبي حنيفة ومعاداته، ولما اطّلع الأستاذ على "الطليعة" جرَّد على صاحبها ذلك السلاح. ومن تصفَّح "الترحيب" عَلِم أن ذلك ــ بعد المغالطة والتهويل ــ هو سلاحه الوحيد، فهو يُبْدئ فيه ويُعيد، ونفسُه تقول له: هل من مزيد! فمن جهة يقول في "الترحيب" (ص 15): "أخبار الآحاد على فرض ثقة

(9/110)


رواتها لا تناهض العقل ولا النقل المستفيض فضلًا عن المتواتر، وقد ثبتت إمامة أبي حنيفة وأمانته ومناقبه لدى الأُمة بالتواتر". ويقول بعد ذلك: "خبر الآحاد يكون مردودًا عند مصادمته لما هو أقوى منه من أخبار الآحاد، فضلًا عن مصادمته لما تواتر". ويقول (ص 17): "وأما الخبر المصادم لذلك من بين أخبار الآحاد، فيردّ حيث لا تمكن مناهضته للعقل والخبر المتواتر على تقدير سلامة رجاله من المآخذ". ويقول (ص 26): "ومن المقرر عند أهل العلم أن صحة السند بحسب الظاهر لا تستلزم صحة المتن". ويعد حسناتي ذنوبًا فيقول (ص 19): "وحذفه للمتون لأجل إخفاء مبلغ شناعتها عن نظر القارئ، فلو ذكرها كلها مع كلام الكوثري في موضوع المسألة، لنبذ السامع نقد هذا الناقد في أول نظرة، لما حوت تلك المتون من السخف البالغ الساقط بنفسه من غير حاجة إلى مُسقط، فيكون ذكر المتون قاصمًا لظهره". ويقول (ص 25): "ولو كان الناقد ذكر في صُلب نقده متن الخبر المتحدّث عنه، كان القارئ يحكم بكذب الخبر بمجرَّد سماعه، لكن عادة الناقد إهمال ذكر المتن إخفاءً لحاله". ومن جهة أخرى يعود فيقول في "الترحيب" (ص 16): "وعادتي أيضًا في مثل تلك الأخبار تطلُّب ضعفاء بين رجال السند بادئ ذي بدء، ضرورةَ أن الخبر الذي ينبذه العقل أو النقل لا يقع في رواية الثقات". ويقول (ص 19): "ومن المضحك تظاهره (اليماني) بأنه لا يعادي النعمان مع سعيه سعي المستميت في توثيق رواة الجرح، ولو بالتحاكم إلى الخطيب نفسه المتهم فيما عمله، مع أنه لو ثبتت ثقة حملتها ثبت مقتضاها".

(9/111)


فلأدع الاستنتاج إلى القارئ، وأقول: أما الباعث لي على تعقّب "التأنيب" فقد ذكرتُه أول "الطليعة" (1)، وتقدّم شرحه في الفصل الأول، وهب أنّ غرضي ما زعمه الأستاذ، وأنه يلزم من صنيعي تثبيت مقتضى تلك الحكايات، فلا يخلو أن يكون كلامي مبنيًّا على الأصول المألوفة والقواعد المعروفة، أو يكون خلاف ذلك. فإن كان الأول، فلازم الحقِّ حقٌّ، وإن كان الثاني، ففي وُسْع الأستاذ أن يوضّح فسادَه بالأدلة المقبولة. فعلى أهل المعرفة أن يحاكموا بين "الطليعة"، و"الترحيب" حتى يتبين لهم أقام الأستاذ ببعض كلامي بأدلة مقبولة عند أهل العلم، أم أردف ما في "التأنيب" من التهويل والمغالطة والتمحل بمثلها؟ ! ولم يكد يضيف إلى ذلك إلّا رمي اليماني ببغض أبي حنيفة! كأنَّ الأستاذ يرى أن تلك المهاجمة لا تُتَّقى إلا بالهوى، بإثارة ما استطاع في نفوس أتباعه الذين يهمّه شأنهم ليضرب به بينهم وبين "الطليعة" و"التنكيل" حجابًا لا تخرقه حجّة، ولا يزيده الله تعالى بعد استحكامه إلا شدّة. والواقع أن مقصودي هو ما شرحته في الفصل السابق، ولذلك أهملت ذِكر المتون لأنها خارجة عن مقصودي، ومع ذلك ففي ذكرها مفاسد: الأولى: ما أشار إليه الأستاذ في الجملة، وهو أن يطلع عليها حنفي متحمِّس، فيحمله ذِكْر المتن على أن يعرض عن كلامي البتة، ولا يستفيد إلَّا بُغْض مَن نُسِب إليه المتن من الأئمة. _________ (1) (ص 4).

(9/112)


الثانية: أن يطلع عليها رجلٌ مِن خصوم الحنفية، فيجتزئ (1) بذاك المتن، ويذهب يعيب أبا حنيفة بتلك المقالة، غير مبالٍ أصح ذلك أم لا؟ الثالثة: أن يطلع عليها عاميٌّ لا يميز، فيقع في نفسه أن أئمة السلف كان بعضهم يطعن في بعض، ويكبر ذلك عليه، ويسيء الظنَّ بهم جميعًا. فإهمال ذِكْر المتن يمنع هذه المفاسد كلّها، ولا يبقى أمام الناظر إلا ما يتعلق بتلك القضايا الخاصة التي ناقشتُ فيها الأستاذ. والواقع أيضًا أنه لا يلزم من صنيعي تثبيت الذم، ولا يلزمني قَصْد ذلك، ومن تأمَّل عبارات الأستاذ في الجهة الأولى ــ كما قدمتها ــ بان له صحة قولي. وأزيد ذلك إيضاحًا وشرحًا وتتميمًا، فأقول: عامة مناقشتي للأستاذ إنما هي في الأسانيد، في كلامه في بعض رجال تلك الأسانيد، وقد وافقته (2) على ضعف جماعةٍ منهم، ولا يلزم من تثبيتي ثقةَ رجلٍ من رجال السند ثبوت ثقةِ غيره، بل الأمر أبعد من ذلك، فإنَّ المقالةَ المسندة إذا كان ظاهرها الذمّ أو ما يقتضيه لا يثبت الذمُّ إلا باجتماع عشرة أمور: الأول: أن يكون هذا الرجل المعيَّن الذي وقع في الإسناد ووقعت فيه المناقشة ثقة. الثاني: أن يكون بقية رجال الإسناد ثقات. الثالث: ظهور اتصال السند. _________ (1) تحتمل: "فيجترئ". (2) غير محررة في الأصل.

(9/113)


الرابع: الأمن من أن يكون هناك عِلّة خفية يتبين بها انقطاع أو خطأ أو نحو ذلك مما يوهن الرواية. الخامس: الأمن من أن يكون وقع في المتن تصحيف أو تحريف أو تغيير، قد يوقع (1) فيه الرواية بالمعنى. السادس: الأمن من أن يكون المراد بالكلام غير ظاهره. [ص 12] السابع: الأمن من أن يكون الذامُّ بنى ذمَّه على غير حجة، كأن يبلغه إنسان أنَّ فلانًا قال: كذا، أو فعل كذا، فيحسبه صادقًا وهو كاذب، أو غالط. الثامن: الأمن من أن يكون الذامُّ بنى ذمَّه على أمرٍ حَمَله على وجه مذموم، وإنما وقع على وجهٍ سائغ. التاسع: الأمن مِنْ أن يكون للمتكلّم فيه عذر أو تأويل فيما أنكره الذامّ. العاشر: ظهور أن ذلك المقتضي للذمِّ لم يرجع عنه صاحبه. وقد يُزاد على هذه العشرة، وفيها كفاية. فهذه الأمور إذا اختلَّ واحدٌ لم يثبت الذم، وهيهات أن تجتمع على باطل. والذي تصدّيتُ لمناقشة الأستاذ فيه إنما يتعلق بالأمر الأول، ولا يلزم من تثبيته تثبيت الثاني، فضلًا عن الجميع. وقد يلزم من صنيعي في بعض المواضع تثبيت الثاني، ولا يلزم من ذلك تثبيت الثالث، فضلًا عمّا بعده. _________ (1) شبه مطموسة في الأصل، ولعلها ما أثبت.

(9/114)


وما قد يتفق في بعض المواضع من مناقشتي للأستاذ في دعوى الانقطاع أو التصحيف، فالمقصود من ذلك كَشْف مغالطته، ولا يلزم من ذلك تلك الأمور كلها. وأذكر ههنا مثالًا واحدًا: قال إبراهيم بن بشار الرمادي: "سمعت سفيان بن عيينة يقول: ما رأيت أحدًا أجرأ على الله من أبي حنيفة، ولقد أتاه رجل من أهل خراسان، فقال: يا أبا حنيفة، قد أتيتك بمائة ألف مسألة، أريد أن أسألك عنها، قال: هاتها. فهل سمعتم أحدًا أجرأ على الله من هذا". هذه الحكاية أوّل ما ناقشت الأستاذ في سندها في "الطليعة" (ص 12 - 20) (1)، فإنه خَبَط في الكلام في سندها إلى الرمادي بما ترى حاله في "الطليعة". فتكلَّم في الرمادي ــ وستأتي ترجمته (2) ــ وزاد الأستاذ في "الترحيب" (3)، فتكلّم في ابن أبي خيثمة بما لا يضرّه (4)، وذَكَر ما قيل: إن ابن عيينة اختلط بأخَرَة، وهو يعلم ما فيه، وستأتي ترجمتُه (5). [ص 13] وقد ذكر الأستاذ في "التأنيب" جوابًا معنويًّا جيدًا، ولكنه مزجه _________ (1) (ص 6 - 12). (2) "التنكيل" رقم (2). (3) (ص 322 - مع التأنيب). (4) "بما لا يضره" ضرب عليها المؤلف، ثم كتب فوقها علامة التصحيح إشارة إلى إبقائها وعدوله عن الضرب عليها. (5) "التنكيل" رقم (99).

(9/115)


بالتخليط، فقال ــ بعد أن تكلّم في السند بما أوضحتُ حاله في "الطليعة" (1) ــ: "وابن عيينة بريء من هذا الكلام قطعًا بالنظر إلى السند" كذا قال! ثم قال بعد ذلك: "وأما من جهة المتن، فتكذِّب شواهدُ الحال الأخلوقةَ تكذيبًا لا مزيد عليه ... رجلٌ يُبعث من خراسان ليسأل أبا حنيفة عن مائة ألف مسألة بين عشية وضحاها، ويجيب أبو حنيفة عنها بدون تلبُّث ولا تريّث ... ". كذا قال! وليس في القصة أن الرجل سأل عن مسألة واحدة، فضلًا عن مائة ألف، ولا أن أبا حنيفة أجاب عن مسألةٍ واحدة، فضلًا عن مائة ألف، فضلًا عن أن يكون ذلك كله بين عشية وضحاها. وكان يمكن الأستاذ أن يجيب بجوابٍ بعيدٍ عن الشَّغَب، كأن يقول: يبعد جدًّا أو يمتنع أن تجمع في ذاك العصر مائةُ ألف مسألة ليأتي بها رجل من خراسان ليسأل عنها أبا حنيفة، وهذا يدل على أحد أمرين: إما أن يكون السائل إنما أراد: أتيتك بمسائل كثيرة، فبالغ. وإما أن يكون بطَّالًا لم يأت ولا بمسألة واحدة، وإنما قصد إظهار التشنيع أو التعجيز، فأجابه أبو حنيفة بذلك الجواب الحكيم. فإن كان الرجل إنما قصد التشنيع أو التعجيز، ففي ذاك الجواب إرغامه، وإن كان عنده مسائل كثيرة، نَظَر فيها أبو حنيفة بحسب ما يتسع له الوقت، ويجيب عندما يتضح له وجه الجواب. فأما ابن عيينة، فكان من الفريق الذين يكرهون أن يفتوا (وقد بيَّن _________ (1) (ص 6 - 12).

(9/116)


الأستاذ ذلك في "التأنيب" (1)) فكأنه كره قولَ أبي حنيفة: "هاتها"، لما يُشْعِر به من الاستعداد لما يكرهه ابن عيينة. وكان أبو حنيفة من الفريق الذين يرون أن على العالِم إذا سُئل عما يتبين له وجه الفتوى فيه أن يفتي؛ للأمر بالتبليغ، والنهي عن كتمان العلم، ولئلّا يبقى الناس حيارى لا يدرون ما حكم الشرع في قضاياهم، فيضطرَّهم ذلك إلى ما فيه فساد العِلْم والدين. ولا ريب أن الصواب مع الفريق الثاني، وإن حَمِدنا الفريق الأول حيث [ص 14] يكفّ أحدهم عن الفتوى مبالغةً في التورع، واتكالًا على غيره حيث يوجد. فأما الجرأة فمعناها الإقدام، والمقصود هنا ــ كما يوضِّحه السياق وغيره ــ الإقدام على الفتوى، فمعنى "الجرأة على الله" هنا هو الإقدام على الإفتاء في دين الله، وهذا إذا كان عن معرفةٍ موثوقٍ بها فهو محمود، وإن كرهه المبالغون في التورُّع كابن عيينة، وقد جاء عن ابن عمر أنه قال: "لقد كنتُ أقول: ما يعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن، فالآن قد علمت أنه أوتي علمًا". وعنه أيضًا أنه قال: "أكثر أبو هريرة. فقيل له: هل تنكر شيئًا مما يقول؟ قال: لا، ولكنه اجترأ وجَبُنَّا. فبلغ ذلك أبا هريرة فقال: فما ذنبي إن كنتُ حفظتُ ونسوا". راجع "الإصابة" (2)، ترجمة ابن عباس، وترجمة أبي هريرة. _________ (1) (ط القديمة ص 97، والجديدة ص 156). (2) (4/ 147، 7/ 441 على التوالي).

(9/117)


وإقدام أبي حنيفة كان من الضرب المحمود، وإن كرهه ابن عيينة. وقد روى الخطيبُ نفسُه ... (الحكايتين اللتين ذكرهما الأستاذ في "التأنيب"). فهذا وغيره يدلُّ على بُعد أبي حنيفة عن الجرأة المذمومة. فأمّا إذا علمنا أنّ ابنَ عيينة كان يطيب الثناء على أبي حنيفة، فإن ذلك يرشدنا إلى حَمْل تلك المقالة على معنًى آخر أدنى إلى الصواب، مع ما فيه من الحكمة البالغة التي تهدينا إلى بابٍ عظيم النفع في فهم ما يُنقل عن أهل العلم من كلام بعضهم في بعض. وحاصله: أن أكثر الناس مُغْرَون بتقليد من يعظم في نفوسهم، والغلو في ذلك، حتى إذا قيل لهم: إنه غير معصوم عن الخطأ، والدليل قائم على خلاف قوله في كذا، فدلَّ ذلك على أنه أخطأ، ولا يحلُّ لكم أن تتبعوه على ما أخطأ فيه= قالوا: هو أعلم منكم بالدليل، وأنتم أولى بالخطأ منه، فالظاهر أنه قد عرف ما يدفع دليلكم هذا. فإن زاد المنكرون فأظهروا حسنَ الثناء على ذاك المتبوع، كان أشدّ لغلوِّ متبعيه. خطب عمّار بن ياسر في أهل العراق قبل وقعة الجمل ليكفَّهم عن الخروج مع أم المؤمنين عائشة [ص 15] فقال: "والله إنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم؛ ليعلم إيَّاه تطيعون، أم هي". أخرجه البخاري في "الصحيح" (1) من _________ (1) (7100).

(9/118)


طريق أبي مريم الأسدي عن عمار، وأخرج (1) نحوه من طريق أبي وائل عن عمار. فلم يؤثِّر هذا في كثير من الناس، بل رُوي أن بعضهم أجاب قائلًا: "فنحن مع من شهدت له بالجنة يا عمار". فلهذا كان من أهل العلم والفضل من إذا رأى جماعةً اتبعوا بعض الأفاضل في أمر يرى أنه ليس لهم اتباعه فيه، إما لأن حالهم غير حاله، وإما لأنه يراه أخطأ أطلق (2) كلمات منفِّرة، يظهر منها الغضّ من ذاك الفاضل، لكي يكفّ الناس عن الغلو فيه، الحاملِ لهم على اتباعه فيما ليس لهم أن يتبعوه فيه. فمن هذا ما في "المستدرك" (ج 2 ص 329): " ... عن خيثمة قال: كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه [في نفرٍ]، فذكروا عليًّا فشتموه، فقال سعد: مهلًا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .... فقال بعضهم: فوالله إنه كان يبغضك ويسمّيك الأخنس. فضحك سعدٌ حتى استعلاه الضحك، ثم قال: أليس قد يجد المرء على أخيه في الأمر يكون بينه وبينه، ثم لا يبلغ ذلك أمانته ... " (3). قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وأقره الذهبي. _________ (1) (7101). (2) غير محررة في الأصل ولعلها ما أثبت. (3) وأخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده ــ كما في المطالب العالية (4273) ــ وقال الحافظ ابن حجر: إسناد صحيح.

(9/119)


وفي "الصحيحين" (1) وغيرهما عن علي رضي الله عنه قال: "ما سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع أبويه إلّا لسعد بن مالك (هو سعد بن أبي وقاص) فإنه سمعته يقول يوم أحد: يا سعد? رمِ، فداك أبي وأمي" ويُرْوى عن عليٍّ كلمات في ذا وذاك. وكان سعد قد تقاعد عن قتال البغاة، فكان عليّ إذا كان في جماعةٍ يخشى أن يتبعوا سعدًا في القعود ربما أطلق ــ غير كاذبٍ ــ كلماتٍ توهم الغضَّ من سعد، وإذا كان مع من لا يَخْشى منه القعود، فذكر سعدًا، ذَكَر فضله. ومنه ما يقع في كلام الشافعي في بعض المسائل التي يخالف فيها مالكًا من إطلاق كلمات فيها غضٌّ من مالك، مع ما عُرِف عن الشافعي من تبجيل أستاذه مالك. وقد روى حرملة عن الشافعي أنه قال: "مالكٌ حجة الله على خلقه بعد التابعين" (2). كما يأتي في ترجمة مالك (3)، إن شاء الله تعالى. ومنه ما تراه في كلام مسلم في "مقدمة صحيحه" (4) مما يظهر منه الغضُّ الشديد من مخالفه في مسألة اشتراط العلم باللقاء، والمخالف هو _________ (1) البخاري (2905)، ومسلم (2411). وأخرجه الترمذي (2829)، وأحمد (1147). (2) انظر "تهذيب التهذيب": (10/ 8). (3) في "التنكيل" (رقم 183). (4) (1/ 28 - 30).

(9/120)


البخاري، وقد عُرِف عن مسلم تبجيله للبخاري. وأنت إذا تدبّرتَ تلك الكلمات وجدت لها مخارج مقبولة، وإن كان ظاهرها التشنيع الشديد. وفي ترجمة الحسن بن صالح بن حيّ من "تهذيب التهذيب" (1) كلمات قاسية أطلقها بعضُ الأئمة فيه، مع ما عُرِف من فضله، ومنها (2): "قال أبو صالح الفراء: "ذكرتُ ليوسف بن أسباط عن وكيع شيئًا من أمر الفتن، فقال: ذاك يشبه أستاذه ــ يعني: الحسن [بن صالح] بن حيّ ــ فقلت ليوسف: أما تخاف أن تكون هذه غيبة؟ قال: لِمَ يا أحمق؟ أنا خيرٌ لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم، أنا أنهى الناس أن يعملوا بما أحْدَثوا، فتتبعهم أوزارهم، ومَن أطراهم كان أضرَّ عليهم". [ص 16] أقول: الأئمة غير معصومين عن الخطأ والغلط، وهم إن شاء الله تعالى معذورون مأجورون فيما أخطؤوا فيه، كما هو الشأن فيمن أخطأ بعد بَذْل الوسع في تحرِّي الحق، لكن لا سبيل إلى القطع بأنه لم يقع منهم في بعض الفروع تقصير يؤاخذون عليه، أو تقصير في زجر أتباعهم عن الغلوِّ في تقليدهم. على أن الأستاذ إذا أحبَّ أن يسلك هذه الطريق لا يضطر إلى الاعتراف بأنّ ابن عيينة اعتقد أن أبا حنيفة أخطأ في بعض مقالاته، بل يمكنه أن يقول: لعلَّ ابنَ عيينة رأى أناسًا قاصرين عن رتبة أبي حنيفة يتعاطَون مثل ما كان يقع _________ (1) (2/ 285). (2) تحتمل قراءتها: "وفيها".

(9/121)


منه مِن الإكثار من الفتوى والإسراع بها غير معترفين بقصورهم؛ اغترارًا منهم بكثرة ما جمعوا من الأحاديث والآثار، فاحتاج ابنُ عيينة في رَدْعِهم إلى تلك الكلمة القاطعة لشَغَبِهم. والله أعلم. * * * *

(9/122)


ـــ 4 ـــ فصل يفرّق الأستاذُ الأمةَ بعد ظهور أبي حنيفة فريقين: الأول: أبو حنيفة وأصحابه المخلصون. الثاني: سائر المسلمين. ثم لا يكاد يعرض له أحدٌ من الفريق الثاني بما يخالفه إلا رماه بمعاداة أبي حنيفة وأصحابه؛ لأجل الاختلاف في بعض العقائد وأصول الفقه، ولازم ذلك أن يكون الفريق الثاني كلهم عنده كذلك، وإن سكت عمن لم يعرض له بما يضطره إلى اتهامه. ثم يقسِّم مَن يَعْرِض له مِن الفريق الثاني قسمين: القسم الأول: الذين يحاول الأستاذ إسقاطهم البتة. القسم الثاني: الذين يحاول إسقاطهم فيما يتعلق بالغضِّ من أبي حنيفة وأصحابه. فيقول: إنهم متهمون في ذلك، فلا يُقبل منهم، ولكنه يقبل منهم ما عداه. فأما القسم الأول؛ فقد نظرتُ في شأنهم في تراجمهم من "التنكيل"، وأشرتُ إلى بعضهم في "الطليعة". وأما القسم الثاني؛ فالنظر في شأنهم يتوقَّف على تحرير قاعدة التهمة، وقد كنتُ بسطته في "التنكيل" (1)، ثم دعت الحاجةُ إلى تلخيصه هنا. فأستعين الله تبارك وتعالى، وأقول: _________ (1) (1/ 60 - 71).

(9/123)


[ص 17] قاعدة في التهمة في "المصباح" (1): "والتهمة بسكون الهاء وفتحها: الشكّ والرِّيبة ... وأتهمته: ظننت به سوءًا ... واتَّهمتُه بالتثقيل على افتعلت مثله". والكلام هنا في اتهام المحدِّث والراوي، ويتّصل به اتهام الشاهد. والأمر المتَّهَم به نوعان: الأول: ما يكون ــ على فَرْض ثبوته ــ غير مسقطٍ للعدالة، فهذا النوع لا حَجْر على الأستاذ الكوثري فيه، وإن افتقر إلى دليل. وذلك كنسبة المحدّث أو الراوي أو المخبر إلى الخطأ والغلط، أو إلى التسامح الذي لا يقدح، كأنْ يقال فيمن روى عمن لم يدركه أو لم يصرح بالسماع وهو معروف بالتدليس: "كأنه سمعه من غير ثقة". أو إلى فلتة اللسان التي تصدر حال الغضب لا يقصد بها ظاهرها، أو لا يقصد بها الحكم، أو إلى إيهام الذمّ بدون إرادته، وذلك في كلمات التنفير التي تقدم بيانها في الفصل الثاني (2)، وما يشبه ذلك. النوع الثاني: ما يكون ــ على فرض ثبوته ــ مسقطًا للعدالة، كتعمّد الكذب في الرواية، ولو لغير الحديث النبوي، أو في الإخبار بجرح أو تعديل أو بما يقتضي الجرح، وكالإقدام على جرح مَن لا يعلمه مجروحًا، وتعديل من لا يراه عدلًا، على ما سلف في القاعدة الأولى (3). _________ (1) (ص 30). (2) (ص 9). (3) كذا في الأصل، والقاعدة ستأتي (ص 45). فلعلّ هذا المبحث كان متأخرًا عنها فقدّمه المؤلف هنا. وسيأتي نظيرها (ص 35).

(9/124)


فاجتناب الكذب في هذه الأمور من أركان العدالة، بل هو ركنها الأعظم (1). وإذا ثبت في راوٍ أنه قد كذب في روايةٍ، أو ثبت في جارحٍ أنه قد تعمَّد جرحًا يعلم بطلانه، أو ثبت في معدِّل أنه قد تعمَّد تعديلًا يعلم بطلانه، فذلك كما لو ثبت في شاهد أنه قد تعمّد شهادة زور (2). فإذا نسب الأستاذ إلى إمام أو محدِّث أو راوٍ شيئًا مما ذكر جازمًا بالنسبة، فقد جزم بنفي الركن الأعظم من عدالته، فإن زعم أنه مع ذلك يبقى المنسوب إليه ذلك عدلًا مقبول القول والرواية فيما لم يتَّهِمه فيه فقد زعم أنه غير عدل، فإن اقتصر الأستاذ على الاتهام بما ذكر أو اعترف بأن جزمه بالنِّسْبة لم يكن عن دليل تقوم به الحجة، وإنما هو عن قرينة تورث التهمة، فاتهام المحدِّث أو الراوي بشيء مما ذكر يلزمه ظنُّ أنه ليس بعدل، بل في "النخبة" وشرحها (3) ما يفيد أن التهمة بالكذب أشدّ من ثبوت الزنا ونحوه، كما مر في القاعدة الأولى (4). فقوله مع ذلك: إنه يبقى عدلًا مقبولًا [ص 18] في غير ما يتهمه فيه= حاصله: أنه يظنه عدلًا غير عدل. فإن اكتفى الأستاذ بالاحتمال بدون ترجيحٍ لأحد الطرفين لزمه أن لا يجزم بأن الرجل عدل ولا يظن، فإن قال مع ذلك: _________ (1) كتب المؤلف بعدها: "ظاهر ص 20". يقصد أن بقية الكلام هناك. (2) كتب المؤلف فوق السطر: "الورقة الرابعة، الصفحة اليمنى". (3) "نزهة النظر" (ص 88). وانظر ما سيأتي في التعليق على هذا الموضع. (4) (ص 45). وانظر ما سلف (ص 34 حاشية 3).

(9/125)


إنه يكون عدلًا مقبولًا في غير ما يتهمه فيه= فحاصل ذلك أنه يظنه عدلًا ولا يظنه عدلًا! ! ولا أعلم خلافًا أن الرجل إذا ثبت أنه تعمَّد شهادةَ زورٍ لصديقه على عدوه سقطت عدالته ألبتة، فلا يكون عدلًا في شهادة أخرى، ولو كانت لعدوِّه على صديقه. وكذلك لا أعلم خلافًا أن من تظن به ما ينافي العدالة ليس لك أن تعدِّله، ومثله من يحتمل عندك احتمالًا غير راجحٍ ولا مرجوح أنه ارتكب ما ينافي العدالة، وذلك أن التعديل يتضمَّن الجزم بأنه لم يكن ولن يكون منه ما ينافي العدالة، وهذا الوازع هو المَلَكة التي ذكروها في قولهم في تعريف العدالة: "مَلَكة تمنع من اقتراف الكبائر ... " (1). فأما أن تتهم أنت رجلًا أو تشك فيه، ويعدِّله غيرُك فلا مانع من ذلك، وإذا ثبت التعديل سقطت التهمة، فضلًا عن الشك، ولا سيما إذا كان الاتهام أو الشك ممن هو دون المعدِّل في الخبرة، فأما إذا كان له هوًى في ردّ الشهادة ونحوها فالأمر أوضح، فإن اتهام المخبِر كثيرًا ما يكون من أماني الهوى، كما قال أبو الطيب (2): شقَّ الجزيرةَ حتى جاءني نبأ ... فَزِعتُ منه بآمالي إلى الكذب وكأنه أخذه من قول الأول (3): _________ (1) انظر "التنكيل": (1/ 73 - 74)، ورسالة "الاستبصار في نقد الأخبار" (ص 15 فما بعدها). (2) سيأتي تخريجه (ص 144). (3) الأبيات من قصيدة لأعشى باهلة يرثي بها أخًا له يقال له: المنتشر. انظر "جمهرة أشعار العرب": (2/ 714)، و"الكامل": (3/ 1431) للمبرد.

(9/126)


إني أتتني لسانٌ ما أُسرُّ بها ... مِن عُلوَ لا عجبٌ فيها ولا سَخَرُ جاءت مرجَّمةً قد كنتُ أحذرها ... لو كان ينفعنى الإشفاقُ والحَذَر تأتي على الناس لا تلوي على أحدٍ ... حتى أتتنا وكانت دوننا مُضَر إذا يُعاد له ذكرٌ أُكذِّبه ... حتى أتتني بها الأنباءُ والخَبَر [ص 19] وهناك أمور قد يتشبَّث بها الأستاذ: منها: ردّ شهادة العدل لنفسه، وكذا لأصله أو فرعه أو زوجه، وعلى عدوِّه في قول جماعةٍ من أهل العلم. ومنها: رد شهادة صاحب العصبية، فيما ذكره الشافعي. ومنها: حكاية عن شريك القاضي قد يُؤخذ منها أنه يرى أن الرجل قد يكون عدلًا إذا شهد بمائة دينار مثلًا، ولا يكون عدلًا إذا شهد بمائة ألف دينار. ومنها: فرعٌ للشافعي في السؤال عن الشاهد، قد يُفْهَم منه نحو ذلك. ومنها: ما في "لسان الميزان" (1/ 16) (1) في جرح المحدِّث لمن يخالفه في الاعتقاد، كجرح الجُوزجاني الناصبي للكوفيين المنسوبين إلى التشيُّع. ومنها: ما نُقِل عن الجوزجاني هذا أنه لا يؤخَذ عن المبتدع الثقة ما فيه تقوية لبدعته. وصرَّح به ابن قتيبة، ومال إليه بعض المتأخرين. ومنها: ما ذكروه في جرح المحدِّث لمن هو ساخط عليه، كالنسائي _________ (1) (1/ 212).

(9/127)


لأحمد بن صالح، وككلمة مالك في ابن إسحاق. فلننظر في هذه الأمور (1): أما الشهادة للنفس، فجاء الشرع بعدم قبولها، وليس ذلك حكمًا بِتَحقُّقِ التهمة في كلّ شاهد لنفسه، أي: أنه حقيق بأن يظن به عارفوه أنه لا يتورَّع عن أن يشهد لنفسه زورًا (2). ألا ترى في كبار الصحابة وخيار التابعين أن أحدهم لو شهد لنفسه بمالٍ مثلًا لجزمنا بأنه غير مفترٍ، ولاسيما إذا كان غنيًّا، وكان المال نزرًا، والمشهود عليه معروفًا بجَحْد الحقوق. ولو كان العدل حقيقًا بأن يُتّهم بأنه شهد لنفسه زورًا، لكان حقيقًا أن يتهم في شهادته لغيره، إذ كيف تتهمه فيما لو شهد لنفسه بدرهم بأنه شهد زورًا حرصًا على أن يحصل له درهم، ولا تتهمه إذا شهد لغيره بعشرة دراهم بأنه شهد زورًا لتحصل له ثلاثة دراهم مثلًا حيث يحتمل أن يكون المدّعي رشاه. وفي أصحابنا من لا نتهمه، ولو حصل له بسبب شهادته مائة أو أكثر، وذلك كأن يدّعي على فاجر بمائة فيجحده، ثم تجري للفاجر قضية، فيجيء إلى صاحبنا، ويقول له: أنت عارف بالقضية، فاحضر فاشهد بما تعلم، فيقول: نعم أنا عارف بها، ولكنك ظلمتني مائة، فإن دفعت لي المائة شهدت بما أعلم، فيدفع له مائة فيشهد، فإننا لا نتهم صاحبنا في دعواه ولا شهادته. _________ (1) كتب المؤلف: "وقد كنت بسطت الجواب عن هذه الأمور في "التنكيل" والآن دعت الحاجة إلى تلخيصه هنا". ثم ضرب عليها. (2) كتب المؤلف بعدها هكذا: "ص 20 ( ... ) " فنقلناه إلى مكانه.

(9/128)


فإن قيل: إذا كانت العدالة تنافي التهمة، ويغلب على الظن لو شهد العدل لنفسه أنه لم يشهد زورًا. فلماذا لم يقبل الشرع شهادة العدل لنفسه؟ قلت: أكتفي في هذا بأنّ التهمة تجوز في كثير من الناس، فالتهمة هنا منظورٌ إليها غير مبنيٍّ عليها، كالمشقّة في حكم قَصْر الصلاة، ونظائر ذلك مما يكون المعنى المستدعي للحكم خفيًّا أو غير منضبط، فيعدل الشارع عن بناء الحكم عليه إلى بنائه على معنى ظاهر منضبط، يكون مَظنة للأول في الجملة، ثم يكون مدار الحكم على الثاني، ثم لا يلزم من وجود الثاني مع الحكم وجود الأول، ولا من وجود الأول وجود الحكم. فالمسافر المترفِّه يقصر الصلاة مع عدم المشقَّة التي تستدعي التخفيف، والمقيمون العمَّال في المناجم ونحوها عليهم مشقَّة شديدة ولا يقصرون، فكذلك هنا لا يلزم مِن ردِّ شهادة الرجل لنفسه أن يكون حقيقًا بأن يُتَّهم بشهادة الزور، ولا من وجود التهمة في شهادة لغير النفس أن تردّ بمجرَّد وجود التهمة، وإنما تردّ لعدم ثبوت العدالة الثابت اشتراطها [ص 20] بنص آخر. فالعدل الثابت العدالة لا تُقبل شهادته لنفسه، لا لأجل أنه حقيق بأن يُتَّهم، فإن العدالة تدفع ذلك، بل العلة كون الشهادة للنفس أو كونها دعوى. ولهذا لما حاول الشافعي (1) قياس الشهادة للفرع والأصل على الشهادة للنفس لم يعرِّج على التهمة، بل عوَّل على أن الفرع من الأصل، فشهادة أحدهما للآخر كأنها شهادة لنفسه، ولم يخفَ عليه ضعف هذا، فعضده _________ (1) في "الأم": (8/ 114 - 115).

(9/129)


بقوله: "وهذا مما لا أعرف فيه خلافًا". ولما عرف أصحابه وجود الخلاف، ذهب بعضُ حُذَّاقهم ــ كالمزني وأبي ثور ــ إلى القبول. فإن قيل: وما المانع من اتهام العدل؟ قلت: أما أن يتهمه من لا يثق بعدالته، أو من له هوًى في تكذيبه، فلا مانع منه، وإنما الممنوع أن يكون العدل حقيقًا بأن يُتَّهم. هذا، وللحُكْم المذكور (1) حِكَم تُدْرَك بالتدبّر، منها: أن الشهادة للنفس أظهر مظان التهمة، فكأنّ في عدم قبولها تنزيه للعدل عن أن يتهمه أكثر الناس؛ لأن أكثرهم لا يعرفون عدالته حقّ المعرفة. ومنها: أنها لو كانت الشهادة للنفس تُقَبل من العدل لتهاون أكثر العدول في الإشهاد على معاملاتهم، ثقةً بأن شهادتهم لأنفسهم مقبولة، فيؤدي هذا إلى أن تكثر القضايا التي تكون فيها شهادة المدعي لنفسه، فيرتاب فيها القاضي؛ لأنه لا يعرف عدالة العدول معرفة خبرة، وإذا ارتاب القاضي كان عليه أن يتريّث في فصل القضية، فيؤدّي ذلك إلى أن تتراكم القضايا عند القضاة، ويتأخّر الفصل فيها، وذلك يضرّ بالناس. ومنها: أن المعدّل قد يخطئ ويتساهل أو يداهن، فيعدّل من ليس بعدل، فلو كانت شهادة العدل لنفسه تُقبل لاغتنم هؤلاء الذين عُدّلوا بغير حقٍّ ذلك، فأكثروا من الدعاوى الباطلة، فقد يضيع بسبب ذلك من الحقوق أكثر _________ (1) كتب المؤلف بعدها: "ص 21". يعني أن باقي الكلام هناك، وقد كان ضرب على الكلام هناك، ثم بدا له أن يلحق في هذا الموضع.

(9/130)


مما يضيع بسبب عدم قبول شهادة العدل لنفسه. هذا، وقد جاء الشرع بعدم قبول شهادة النساء في الحدود ولو كُنّ من ذوات العدالة. ومعلوم أن عدم قبولهن ليس لأجل التهمة، بل له حكمة أخرى لا يضرها أن لا يفهمها بعض الناس بل ولا جميعهم. أما الشهادة للفرع والأصل والزوج، فمختلف فيها، فإذا بنينا على عدم القبول، فالجواب نحو ما تقدم. فأما الشهادة على العدوّ، فالقائلون بأنها لا تُقبل يخصّون ذلك بالعدواة الدنيوية التي تبلغ أن يحزن لفرحه، ويفرح لحزنه، فأما العداوة الدينية والدنيوية التي لم تبلغ ذاك المبلغ، فلا تمنع من القبول عندهم. والمنقول عن أبي حنيفة ــ كما في كتب أصحابه ــ أن العداوة لا تقتضي رد الشهادة إلا أن يبلغ أن تسقط بها العدالة. أقول: وإذا بلغت ذلك لم تقبل شهادة صاحبها حتى لعدوِّه على صديقه. ويقوِّي هذا القول أن القائلين بعدم القبول يشترطون أن تبلغ أن يحزن لفرحه، ويفرح لحزنه، وهذا يتضمن أن يفرح لذبح أطفاله ظلمًا، وللزنا ببناته [ص 22] وارتداد زوجاته، ونحو ذلك. وقس على ذلك الحزن لفرحه. وهذا مسقط للعدالة حتمًا. فإن قيل: قد يفرح بذلك من جهة أنه يُحْزِن عدوَّه، ومع ذلك يَحزن من جهة مخالفته للدين. قلت: إن لم يغلب حزنه فرحه فليس بعدل، وإن غلب فكيف يظن به أن يوقع نفسه في شهادة الزور التي هي من أكبر الكبائر، وفيها أعظم الضرر

(9/131)


على نفسه في دينه، ولا يأمن أن يلحقه لأجلها ضرر شديد في دنياه، كلُّ ذلك ليضرّ المشهود عليه في دنياه ضررًا قد يكون يسيرًا، كعشرة دراهم مثلًا. وهَبْه صح الردُّ بالعداوة مع بقاء العدالة، فالقائلون بالردِّ يشرطون أن تكون عداوةً دنيوية تبلغ أن يحزن لفرحه، ويفرح لحزنه، وهذا لا يتأتَّى للأستاذ إثباته في أحدٍ ممن يتهمهم؛ لأنه إن ثبت انحرافهم عن أبي حنيفة وأصحابه، وثبت أن ذلك الانحراف عداوة فهي عداوة دينية، وهب أنه ثبت في بعضهم أنها عداوة دنيوية، فلا يتأتَّى للأستاذ إثبات بلوغها ذاك الحدّ، أي: أن يحزن لفرحه، ويفرح لحزنه، وهَبْه بلغ فقد تقدَّم أن الرواية لا تردُّ بالعداوة. وأما ما ذكره الأستاذ من كلام الشافعي في أصحاب العصبية، فالشافعي إنما عَنَى العصبية لأجل النسب، كما هو صريحٌ في كلامه، وذلك أمر دنيوي، وكلامُه ظاهرٌ في أنها بشرطها تُسقط العدالة، ولا ريب أنه إذا بلغت العصبية أو العداوة إسقاط العدالة لم تقبل لصاحبها شهادةٌ ولا رواية البتة سواء أكانت دنيوية أم مذهبية أم دينية، كمن يُسْرف في الحنق على الكفار، فيتعدّى على أهل الذمة والأمان بالنهب والقتل، ونحو ذلك، بل قد يكفر .. فقد اتضح بما تقدم الجواب عن بعض ما يمكن أن يُتشبَّث به في ردّ رواية العدول. وبقي حكاية عن شريك (1) ربما يُؤخذ منها أنه قد تقبل شهادة بعض _________ (1) أما أثر شريك ففي تاريخ بغداد (13/ 499): عن شريك أن رجلًا قدّم إليه رجلًا فادّعى عليه مائة ألف دينار قال: فأقرّ به قال: فقال شريك: أما إنه لو أنكر لم أقبل عليه شهادةَ أحدٍ بالكوفة إلا شهادة وكيع بن الجراح وعبد الله بن نُمير. وعلق عليه المصنف في رسالة له في "العدالة" بقوله: "يعني أن المال عظيم، فلا ينبغي تهمة الشاهد فيه حتى يكون عظيم العدالة، ولو كان ألف دينار فقط لكان بالكوفة يومئذٍ ألف عدل أو أكثر من [لا] ينبغي التهمة بشهادة رجلين منهم فيه".

(9/132)


العدول في القليل، ولا تقبل في الكثير، وفرعٌ للشافعي قد يتوهّم منه نحو ذلك، وما يقوله أصحاب الحديث في رواية المبتدع، وما يقوله بعضهم في جَرْح المحدِّث لمن هو ساخط عليه. فأما الحكاية عن شَريك فمنقطعة، ولو ثبتت لوجب حملها على أن مراده القبول الذي تطمئن إليه نفسه. [ص 23] فإن القاضي قد لا يكون خبيرًا بعدالةِ الشاهدين وضَبْطِهما وتيقُّظِهما، وإنما عدّلهما غيرُه، فإذا كان المال كثيرًا جدًّا بقي في نفسه ريبة. وقد بَيَّن أهلُ العلم أن مِثل هذا إنما يقتضي التروِّي والتثبُّت، فإذا تروَّى وبقيت الحالُ كما كانت وجب عليه أن يقضي بتلك الشهادة، ويعرض عما في نفسه. وأما الفرع المذكور عن الشافعي (1)، فليس من ذاك القبيل، وإنما هو من باب الاحتياط للتعديل، ومع ذلك فقد ردَّه إمامُ الحرمين، وقال: إن أكثر الأئمة على خلافه (2). _________ (1) ذكر الشافعي في "الأم": (6/ 309) أنه ينبغي للقاضي إذا سأل عن الشهود مَن يطلب منه بيان حالهم أن يبين للمسؤول مقدار ما شهدوا فيه، قال: "فإن المسؤول عن الرجل قد يعرف ما لا يعرف الحاكم من أن يكون الشاهد ... وتطيب نفسه على تعديله في اليسير، ويقف في الكثير". (2) في "نهاية المطلب": (18/ 492).

(9/133)


وأما رواية المبتدع وجَرْح المحدِّث لمن هو ساخط عليه، فأفرد كلًا منهما بقاعدة (1). وأما ما في "لسان الميزان" (1/ 16) (2) فمقبول، والجوزجاني ناصبيّ، يرى أنّ التشيُّع ــ وإن خف ــ مذهب رديء، وزيغ عن القصد، فيطلق على من يراه متشيِّعًا ما يعتقده فيه، كأن يقول: "رديء المذهب، زائغ عن القصد". ونحو ذلك. وقول ابن حجر: إنه إذا جَرَح بعض الكوفيين ممن يراه متشيعًا، وخالفه غيره ممن هو مثله أو فوقه، فوثَّق ذلك الرجل، قُدِّم التوثيق = قولٌ صحيح. لكنه إذا بنى جَرْحَه على دليل وصرَّح به، فلا بدَّ من الاعتداد بدليله؛ لأنه غير متهم بأن يتعمَّد الكذب ونحوه، ولو كان متهمًا بذلك لما قبلنا جرحه البتة، ولو لم يخالفه غيره. _________ (1) من قوله: "فأما الشهادة على العدو ... " إلى هنا سيعيده المؤلف (ص 59 - 62) فأبقيناه على حاله، ولعله ذهل أن يضرب عليه من أحد الموضعين. (2) (1/ 212).

(9/134)


 [الباب الثاني: قواعد خلط فيها الكوثري] (1)

1 - رمي الراوي بالكذب في غير الحديث النبوي تقدم في الفصل الثاني (2) قول مالك: "لا تأخذ العلم من أربعة، وخذ ممن سوى ذلك: لا تأخذ عن سفيه مُعْلن بالسَّفَه وإن كان أروى الناس. ولا تأخذ عن كذّاب يكذب في حديث الناس إذا جُرِّب عليه ذلك، وإن كان لا يتهم أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... ". أسنده الخطيب في "الكفاية" (ص 116) إلى مالك كما تقدم، ثم قال (ص 117): "باب في أن الكاذب في غيرِ حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تُرَدُّ روايته - قد ذكرنا آنفًا قولَ مالك بن أنس. ويجب أن يقبل حديثه إذا ثبتت توبته". ولم يذكر ما يخالف مقالة مالك. وأسند (ص 23 - 24) إلى الشافعي: " ... ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورًا، منها: أن يكون من حدَّثَ به ثقةً في دينه معروفًا بالصدق في حديثه ... ". وهذه العبارة ثابتة في "رسالة الشافعي" (3). وفي "لسان الميزان" (ج 1 ص 469) (4): "قال ابن أبي حاتم عن أبيه أن يحيى بن المغيرة سأل جريرًا (ابن عبد الحميد) عن أخيه أنس فقال: قد _________ (1) زيادة من المحقق، لأنه قد تقدم الباب الأول (ص 5)، وفيه الفصول الأربعة التي ذكرها المؤلف، وهذا هو الباب الثاني وفيه القواعد التي خلط الكوثري فيها. (2) (ص 15). ووقع في الأصل: "الثالث". (3) (ص 370). (4) (2/ 223).

(9/135)


سمع من هشام بن عروة، ولكنه يكذب في حديث الناس، فلا يُكْتَب عنه". وفي "النخبة وشرحها" (1): " (ثم الطعن) يكون بعشرة أشياء ... ترتيبها على الأشدّ فالأشدّ في موجِب الردّ على سبيل التدلِّي ... (إما أن يكون بكذب الراوي) في الحديث النبويّ ... (أو تُهْمتِه بذلك) ... وكذا مَن عُرِف بالكذب في كلامه وإن لم يظهر منه وقوع ذلك في الحديث النبوي، وهو (2) دون الأول. (أو فحش غلطه) ... (أو غفلته) ... (أو فسقه) ... (أو وهمه) ... (أو مخالفته) أي الثقات (3) (أو جهالته) ... (أو بدعته) ... (أو سوء حفظه) ... ". هذه النقول تعطي أن الكذب في الكلام تُرَدُّ به الرواية مطلقًا، وذلك يشمل الكذبة الواحدة التي لا يترتّب عليها ضرر ولا مفسدة. وقد ساق صاحب "الزواجر" الأحاديث في التشديد في الكذب ثم قال (ج 2 ص 169): "عَدُّ هذا [هو ما صرحوا به. قيل: لكنه مع الضرر ليس كبيرة مطلقًا، بل قد يكون كبيرة كالكذب على الأنبياء، وقد لا يكون ــ انتهى ــ. وفيه نظر بل الذي يتجه أنه حيث اشتدّ ضررُه بأن لا يحتمل عادة كان كبيرة. بل صرَّح الروياني في "البحر" بأنه كبيرة وإن لم يضر، فقال: مَن كذب قصدًا رُدّت شهادته وإن لم يضر بغيره، لأن الكذب حرام بكل حال؛ وروى فيه حديثًا. وظاهر الأحاديث السابقة أو صريحها يوافقه، وكأن وجه عُدولهم عن ذلك ابتلاء أكثر الناس به، فكان] كالغيبة على ما مرَّ فيها عند جماعة". _________ (1) (ص 87 - 89 - ط. العتر). (2) في "النزهة": "وهذا". (3) في "النزهة": "للثقات".

(9/136)


أقول: لا يلزم من التسامح في الشاهد أن يُتسامح في الراوي لوجوه: الأول: أن الرواية أقرب إلى حديث الناس من الشهادة، فإن الشهادة تترتب على خصومة، ويحتاج الشاهد إلى حضور مجلس الحكم، ويأتي باللفظ الخاص الذي لا يحتاج إليه في حديث الناس، ويتعرَّض للجرح فورًا. فمن جُرِّبت عليه كذبة في حديث الناس لا يترتب عليها ضرر، فخوفُ أن يجرَّه تساهلُه في ذلك إلى التساهل في الرواية أشدُّ من خوف أن يجرَّه إلى شهادة الزور. الثاني: أن عماد الرواية الصدق، فمعقول أن يشدَّد فيها فيما يتعلق به ما لم يشدَّد في الشهادة. وقد خُفِّف في الرواية في غير ذلك ما لم يخفَّف في الشهادة. تقومُ الحجةُ برواية الواحد والعبد والمرأة وجالبِ منفعةٍ إلى نفسه أو أصله أو فرعه، أو ضررٍ على عدوّه ــ كما يأتي ــ بخلاف الشهادة. فلا يليق بعد ذلك أن يخفَّف في الرواية فيما يمسُّ عمادَها. الثالث: أن الضرر الذي يترتب على الكذب في الرواية أشدُّ جدًّا من الضرر الذي يترتّب على شهادة الزور، فينبغي أن يكون الاحتياط للرواية آكد. وقد أجاز الحنفية قبول شهادة الفاسق دون روايته. والتخفيف في الرواية بما تقدّم من قيام الحجة بخبر الواحد وحده وغير ذلك لا ينافي كونها أولى بالاحتياط؛ لأن لذلك التخفيف حِكمًا أخرى، بل ذلك يقتضي أن لا يخفف فيها فيما عدا ذلك، فتزداد تخفيفًا على تخفيف. الرابع: أن الرواية يختص بها قوم محصورون ينشؤون عادةً على العلم والدين والتحرُّز عن الكذب، والشهادة يحتاج فيها إلى جميع الناس؛ لأن المعاملات والحوادث التي تحتاج إلى الشهادة فيها تتفق لكل أحد، ولا

(9/137)


يحضرها غالبًا إلا أوساط الناس وعامتهم الذين ينشؤون على التساهل، فمعقولٌ أنه لو رُدَّت شهادةُ كلِّ من جُرِّبت عليه كذبة لضاعت حقوق كثيرة جدًّا، ولا كذلك الرواية. هذا كله في كذب يسير في حديث الناس لا تترتب عليه مفسدة. فأما الكذب في رواية ما يتعلق بالدين ولو غير الحديث النبوي، فلا خفاء في إسقاط صاحبه؛ فإن الكذب في روايةِ أثرٍ عن صحابي قد يترتب عليه أن يحتج بذلك الأثر من يرى قول الصحابي حجة، ويحتج هو وغيره به على أن مثل ذلك القول ليس خرقًا للإجماع، ويستند إليه في فهم الكتاب والسنة، ويردّ به بعض أهل العلم حديثًا رواه ذاك الصحابي يخالف ذلك القول. ويأتي نحو ذلك في الكذب [في] رواية قولٍ عن تابعي، أو عالم ممن بعده، وأقلُّ ما في ذلك أن يقلّده العامي. وهكذا الكذب في روايةِ تعديلٍ لبعض الرواة، فإنه يترتب عليها قبول أخبار ذلك الراوي، وقد يكون فيها أحاديث كثيرة غير صحيحة، فيترتب على هذا من الفساد أكثر مما يترتب على كذب في حديث واحد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكذلك الكذب في رواية الجرح، فقد يترتب عليها إسقاط أخبار كثيرة صحيحة، وذلك أشد من الكذب في حديث واحد. وهكذا الإخبار عن الرجل بما يقتضي جرحه. وهكذا الكذب في الجرح والتعديل كقوله: "هو ثقة"، "هو ضعيف"، أو نحو ذلك. فالكذب في هذه الأبواب في معنى الكذب في الحديث النبوي أو قريب منه، وتترتب على ذلك مضارُّ شديدة ومفاسد عظيمة. فلا يتوهّم محلٌّ للتسمُّح فيه، على فرض أن بعضهم تسامح في حديث الناس فلم يجرح

(9/138)


الراوي بما قد يقع له فيه من كذب يسير لا يترتب عليه ضرر. والأستاذ يرمي بعض أئمة السنة فمَن دونهم مِن ثقات الرواة بتعمّد الكذب في الرواية وفي الجرح والتعديل كذبًا يترتب عليه الضرر الشديد والفساد الكبير، ثم يزعم أنه إنما يقدح بذلك فيما لا يقبله هو منهم، فأما ما عداه فإنهم يكونون فيه عدولًا مقبولين ثقات مأمونين. وكأنه يقول: وإذا لزم أن يسقطوا البتة فليسقطوا جميعًا! وليت شعري مَن الذي يعادي أبا حنيفة؟ أمن يقتضي صنيعه أنه لا يمكن الذبُّ عنه إلا بمثل هذا الباطل، أم مَن يقول: يمكن المتحرِّي للحق أن يذبَّ عنه بدون ذلك؟ تنبيه: ليس من الكذب ما يكون الخبر ظاهرًا في خلاف الواقع، محتملًا للواقع احتمالًا قريبًا، وهناك قرينة تدافع ذاك الظهور، بحيث إذا تدبرها السامعُ صار الخبر عنده محتملًا للمعنيين على السواء، كالمجمل الذي له ظاهر ووقت العمل به لم يجئ، وكالكلام المرخَّص فيه في الحرب، وكالتدليس، فإن المعروف بالتدليس لا يبقى قوله: "قال فلان" ــ ويسمي شيخًا له ــ ظاهرًا في الاتصال بل يكون محتملًا، وهكذا من عُرِف بالمزاح إذا مَزَح بكلمة يعرف الحاضرون أنه لم يُرِدْ بها ظاهرها، وإن كان فيهم من لا يعرف ذلك، إذا كان المقصود ملاطفته أو تأديبه على أن ينبَّه في المجلس. وهكذا فلتات الغضب، وكلمات التنفير عن الغلو ــ وقد مرت الإشارة إليها في الفصل الثالث (1) ــ، على فرض أنه وقع فيها ما يظهر منه خلاف الواقع. _________ (1) (ص 20 - 32). ووقع في الأصل: "الثاني".

(9/139)


وقد بسطت هذه الأمور وما يشبهها في "رسالتي في أحكام الكذب" (1). فأما الخطأ والغلط، فمعلوم أنه لا يضرُّ وإن وقع في رواية الحديث النبوي، فإذا كثر من الراوي أو فحش قدَحَ في ضبطه ولم يقدح في صدقه وعدالته. والله الموفق. * * * * _________ (1) واسمها "إرشاد العامِه إلى الكذب وأحكامه" وهي مطبوعة ضمن هذا المشروع ــ قسم الفقه.

(9/140)


[ص 34] 2 - التهمة بالكذب تقدم (1) أن أشدَّ موجبات ردِّ الراوي كذبُه في الحديث النبوي، ثم تهمته بذلك، وفي درجتها كذبه في غير الحديث النبوي. فإذا كان في الرواية والجرح والتعديل بحيث يترتب عليه من الفساد نحوُ ما يترتب على الكذب في الحديث النبوي فهو في الدرجة الأولى، فالتهمة به في الدرجة الثانية أو الثالثة. وقد ذكر [علماء] الحديث بعد درجة الكذب في الحديث النبوي ودرجة التهمة به درجتين بل درجات، ونصوا على أن مَن كان مِن أهل درجة من الأربع الأولى فهو ساقط البتة في جميع رواياته، سواء منها ما طُعِن فيه بسببه وغيره. والأستاذ يطعن في جماعة من أئمة السنة والموثَّقين من رواتها، فيرمي بعضهم بتعمّد الكذب، وبعضهم بالتهمة بذلك، ويجمع لبعضهم الأمرين: يكذِّب أحدَهم في خبر، ويتهمه في آخر؛ ويجزم بأنهم متهمون في كلِّ ما يتعلق بالغضّ من أبي حنيفة وأصحابه، ولو على بعد بعيد، كما يأتي في ترجمة أحمد بن إبراهيم (2)؛ ويصرِّح في بعضهم بأنهم مقبولون فيما عدا ذلك. فهل يريد أنهم عدول مقبولون ثقات مأمونون مطلقًا، ولا يُعتدُّ عليهم بتكذيب الأستاذ ولا اتهامه؛ لأنه خَرْق للإجماع في بعضهم ومخالف للصواب في آخرين، ولأنَّ الأستاذ لم يتأهل للاجتهاد في الكلام في القدماء، ولأنّ كلامه فيهم أمر اقتضته مصلحة مدافعة [اللا] مذهبية التي _________ (1) (ص 34). (2) رقم (11).

(9/141)


يقول: إنها قنطرة اللادينية (1)! كما يقول بعض سلفه من المتكلّمين: إن كثيرًا من نصوص الكتاب والسنة المتعلقة بصفات الله عز وجل ونحوها صريحة في الباطل مع علم الله عز وجل ورسوله بالحق في نفس الأمر، ولكن دعت إلى ذلك مصلحةُ اجترار العامة إلى قبول الشريعة العملية (2)! فإن كان هذا مراد الأستاذ فالأمر واضح، وإلا فإن أراد بالقبول القبول على جهة الاستئناس في الجملة انحصر الكلام معه في دعوى الكذب والتهمة، وسيأتي إن شاء الله تعالى. وإن أراد أنهم في ما يتعلق بتلك الشجرة الممنوعة ــ وهي الغضّ من أبي حنيفة وأصحابه ــ كذابون ومتهمون، وفيما عدا ذلك عدول مقبولون ثقات مأمونون، فهذا تناقض وخرق للإجماع فيما نعلم. نعم، هناك أمور قد يتشبَّث بها في دعوى اجتماع التهمة والعدالة، وقد أشار الأستاذ إلى بعضها. وينبغي أن يُعلم أن التهمة تقال على وجهين: الأول: قول المحدّثين: "فلان متهم بالكذب". وتحرير ذلك أن المجتهد في أحوال الرواة قد يثبت عنده بدليل يصح الاستناد إليه أن الخبر لا أصل له وأن الحَمْل فيه على هذا الراوي، ثم يحتاج بعد ذلك إلى النظر في الراوي أتعمَّد الكذبَ، أم غلِط؟ فإذا تدبر وأنعم النظر فقد يتجه له الحكم بأحد الأمرين جزمًا، وقد يميل ظنُّه إلى أحدهما إلا أنه لا يبلغ أن _________ (1) للكوثري مقال بهذا العنوان ضمن "مقالاته" (ص 106). (2) ترى الكلام عن ذلك في الاعتقاديات [2/ 411 وما بعدها] إن شاء الله تعالى. [المؤلف]. وانظر "الحموية" (ص 267 - 268) لشيخ الإسلام.

(9/142)


يجزم به. فعلى هذا الثاني إذا مال ظنه إلى أن الراوي تعمد الكذب قال فيه: "متهم بالكذب"، أو نحو ذلك مما يؤدي هذا المعنى. ودرجة الاجتهاد المشار إليه لا يبلغها أحدٌ من أهل العصر فيما يتعلق بالرواة المتقدمين، اللهم إلا أن يتهم بعضُ المتقدمين رجلًا في حديث يزعم أنه تفرَّد به، فيجد له بعضُ أهل العصر متابعات صحيحة، وإلا حيث يختلف المتقدمون فيسعى في الترجيح. فأما مَن وثَّقه إمام من المتقدمين أو أكثر، ولم يتهمه أحد من الأئمة، فيحاول بعض أهل العصر أن يكذِّبه أو يتهمه، فهذا مردود؛ لأنه إن تهيَّأ له إثبات بطلان الخبر وأنه ثابت عن ذلك الراوي ثبوتًا لا ريب فيه، فلا يتهيأ له الجزم بأنه تفرَّد به، ولا أن شيخه لم يروه قط، ولا النظر الفني الذي يحق لصاحبه أن يجزم بتعمد الراوي للكذب أو يتهمه به. بلى قد يتيسر بعض هذه الأمور فيمن كذَّبه المتقدمون، لكن مع الاستناد إلى كلامهم، كما يأتي في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت (1)، وترجمة محمد بن سعيد البورقي (2)؛ وإن كان الأستاذ يخالف في ذلك، فيصدِّق من كذَّبه الأئمة وكذبُه واضح، كما يكذِّب أو يتَّهم من صدَّقوه وصدقُه ظاهر، شأنَ المحامين في المحاكم، معيارُ الحق عند أحدهم مصلحةُ موكِّله! هذا، والأستاذ فيما يهوِّل بدعوى دلالة العقل والتواتر والنقل الراجح، حيث لا ينبغي له دعوى ذلك. وليس من شأني أن أناقشه في كلِّ موضع، ولكني أقول: حيث تصح دعواه، فلا يصح ما بناه عليها من تكذيب الثقات واتهامهم. وحيث يلزم من صحة الدعوى صحة البناء، فالدعوى غير _________ (1) رقم (34). (2) رقم (207).

(9/143)


صحيحة. وإنما كتبتُ هذا بعد فراغي من النظر في التراجم، وأسأل الله التوفيق. الوجه الثاني: مقتضى اللغة. والتهمة عند أهل اللغة مشتقة من الوهم، وهو كما في "القاموس" (1): "من خَطَرات القلب أو مرجوح طَرَفَي المتردَّدِ فيه". والتهمة (2) بهذا المعنى تعرض في الخبر إذا كان فيه إثبات ما يظهر أن المخبر يحبّ أن يعتقد السامع ثبوته. وذلك كشهادة الرجل لقريبه وصديقه، وعلى من بينه وبينه نُفْرة، وكذلك إخباره عن قريبه أو صديقه بما يُحْمَد عليه، وإخباره عمن هو نافر عنه بما يُذَمّ عليه. وقس على ذلك كلَّ ما من شأنه أن يدعو إلى الكذب. وتلك الدواعي تخفى، وتتفاوت آثارها في النفوس وتتعارض، وتُعارِضُها الموانعُ من الكذب. [ص 35] وقد تقدمت الإشارة إليها في الفصل الخامس (3). فلذلك اكتفى الشارع في باب الرواية بالإسلام والعدالة (4)، فمَن ثبتت عدالته وعُرف بتحرّي الصدق من المسلمين فهو على العدالة والصدق في أخباره، لا يقدح في أخباره أن يقوم به بعض تلك الدواعي، ولا أن يتهمه من لا يعرف عدالته، أو من لا يعرف أثر العدالة على النفس، أو مَن له هوى مخالف لذاك الخبر فهو يتمنّى أن لا يصح، كما قال المتنبي (5): _________ (1) (ص 1507 - الرسالة). (2) بعده في الأصل: "في" ولا مكان لها، وليست في "التنكيل". (3) لم يعقد المؤلف سوى أربعة فصول، إلا إن اعتبر مبحث التهمة بالكذب فصلًا خامسًا فنعم، وانظر (ص 34). (4) في "التنكيل" زيادة: "والصدق". (5) كذا في الأصل هنا وفي (ص 126). والرواية: "طوى الجزيرة حتى جاءني خبر ... فزعت فيه ..................... " انظر: شرح الواحدي لديوان المتنبي (608) وغيره. وفي "التنكيل" زاد بيتًا بعده وهو: حتى إذا لم يَدَعْ لي صدقُه أملًا ... شرِقتُ بالدمع حتى كاد يشرَقُ بي

(9/144)


شقَّ الجزيرةَ حتى جاءني نبأ ... فزعتُ منه بآمالي إلى الكذِب وكأنه أخذه من قول الأول (1): إنّي أتَتني لِسانٌ ما أُسَرُّ بها ... من عَلْوَ لا عَجَبٌ فيها ولا سَخَرُ جاءَتْ مُرَجَّمَةً قد كنتُ أَحْذَرُها ... لو كان يَنفعُني الإشفاقُ والحَذَرُ تأْتي على النّاس لا تَلوي على أَحدٍ ... حتى أتَتْنا، وكانت دوننا مُضَرُ إذا يُعَادُ لها ذِكْرٌ أُكَذِّبُهُ ... حتى أتَتْني بِهَا الأنْبَاءُ وَالخَبَرُ وجماعة من الصحابة روى كلٌّ منهم فضيلة لنفسه يرون أن على الناس قبول ذلك منهم، فتلقَّت الأمةُ ذلك بالقبول. وكان جماعة من الصحابة والتابعين يقاتلون الخوارج، ثم روى بعض أولئك التابعين عن بعض أولئك الصحابة أحاديث في ذمِّ الخوارج، فتلقت الأمة تلك الأحاديث بالقبول. وكثيرًا ما ترى في تراجم ثقات الرواة من التابعين فمن بعدهم إخبارَ الرجل منهم بثناء غيره عليه، فيتلقى أهل ذلك بالقبول. وقبلوا من الثقة دعواه ما هو ممكن من صحبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو لأصحابه، أو إدراكه لكبار الأئمة وسماعه منهم وغير ذلك، مما فيه فضيلة للمدعي، وشرف له، وداع للناس إلى الإقبال عليه، وتبجيله، والحاجة إليه. ولم يكن أهل العلم إذا أرادوا الاستيثاق من حال الراوي يسألون إلّا _________ (1) تقدم تخريج الأبيات (ص 36 - 37).

(9/145)


عما يمسّ دينه وعدالته. ونص أهل العلم على أن الرواية في ذلك مخالفة للشهادة. وفي "التحرير" لابن الهمام الحنفي مع "شرحه" لابن أمير حاج (ج 2 ص 245) (1): " (وأما الحرية والبصر وعدم الحدّ في قذف و) عدم (الولاء) [أي القرابة من النسب أو النكاح ... ] (و) عدم (العداوة) الدنيوية (فتختص بالشهادة) أي تشترط فيها، لا في الرواية". فأما الشهادة فإن الشرع شَرَط لها أمورًا أخرى مع الإسلام والعدالة، كما أشار إليه ابن الهمام، وشرط في إثبات الزنا أربعة ذكور وفي غيره من الحدود ونحوها ذَكَرين، وفي الأموال ونحوها رجلًا وامرأتين إلى غير ذلك. فأما الشهادة للنفس فمتفق على أنها لا تقبل. وأما الشهادة للأصل وللفرع وللزوج وعلى العدوّ ففيها خلاف. وفي بعض كتب [الفقه] (2) أن الردّ في ذلك لأجل التهمة، وظاهر ذلك أن التهمة هي العلة، فيُبنى عليها قياسُ غير المنصوص عليه. وهذا غير مستقيم (3)، إذ ليس كلُّ شاهدٍ لنفسه حقيقًا بأن يتّهم. ألا ترى أن كبار الصحابة وخيار التابعين لو شهد أحدُهم لنفسه لم نتهمه، ولاسيّما إذا كان غنيًّا والمشهود به يسيرًا كخمسة دراهم، والمشهود عليه معروفًا بجحد الحقوق. أقول هذا لزيادة الإيضاح، وإلا _________ (1) (3/ 46) وما بين المعكوفين منه. (2) زيادة ذهل المؤلف عن كتابتها. وانظر "المحيط البرهاني": (9/ 189)، و"حاشية العدوي": (7/ 207)، و"الحاوي": (11/ 328). (3) كتب المؤلف أولًا: "وهذا فاسد" ثم غيَّرها في (ص 41) إلى ما هو مثبت.

(9/146)


فالواقع أننا لا نتهمهم مطلقًا حتى لو شهد أحدهم لنفسه على آخر منهم وأنكر ذاك لم نتهم واحدًا منهما، بل نعتقد أن أحدهما نسي أو غلط. وليس ذلك خاصًّا بهم، بل كل من ثبتت عدالته لا يتهمه عارفوه الذين يعدِّلونه ولا الواثقون بتعديل المعدِّلين. فإن اتهمه غيرهم كان معنى ذلك أنه غير واثق بتعديل المعدّلين، ومتى ثبت التعديل الشرعيّ لم يُلتفت إلى من لا يثق به. ولو كان لك أن تعدِّل الرجل وأنت لا تأمن أن يدعي الباطل ويشهد لنفسه زورًا بخمسة دراهم مثلًا، لكان لك أن تعدِّل من تتهمه بأنه لو رشاه رجل عشرة دراهم أو أكثر لشهدوا له زورًا. وهذا باطل قطعًا، فان تعديلك للرجل إنما هو شهادة منك له بالعدالة، والعدالة "مَلَكة تمنع صاحبها عن اقتراف الكبائر وصغائر الخسة ... " فكيف يسوغ (1) أن تشهد بهذه المَلَكة لمن تتهمه بما ذكر؟ ولو كان كلُّ عدل حقيقًا بأن يتهمه عارفوه بنحو ما ذكر لما كان في الناس عدل. وفي أصحابنا من لا نتهمه في شهادته ولو حصل له بسببها مائة درهم أو أكثر، كأن يدعي صاحبنا على فاجر مائة درهم فيجحده، ثم تتفق للفاجر خصومة أخرى، فيجيء إلى صاحبنا فيقول له: أنت تعرف هذه القضية، فاحضر، فاشهد بما تعلم، فيقول صاحبنا: نعم أنا أعرفها، ولكنك ظلمتني مائة درهم، فأدِّها إليَّ إن أردت أن أشهد، فيدفع له مائة درهم، فيذهب فيشهد= فإننا لا نتهم صاحبنا في دعواه ولا شهادته. [ص 36] وفي أصحابنا مَن لو ائتمن على مئات الدراهم، ثم بعد مدة _________ (1) في "التنكيل": "يسوغ لك".

(9/147)


ادعى ما يحتمل من تلفها، أو أنه ردَّها على صاحبها الذي قد مات، لَما اتهمناه. نعم قد يتهمه مَن لا يعرفه كمعرفتنا، أو من لا يعرف قدر تأثير الموانع عن الخيانة في نفس من قامت به. فالفاسق المتهتك لا يعرف قدر العدالة، فتراه يتهم العدول، بل لا يكاد يعرف عدالتهم، وإن كانوا جيرانه. فإن قيل: يكفي في التعليل أن ذلك مظنة التهمة، ولا يضر التخلُّف في بعض الأفراد، كما قالوا في قصر الصلاة في السفر: إنه لأجل المشقة وإن تخلفت المشقة في بعض المسافرين كالمَلِك المترَفِّه. قلت: العلة في قصر الصلاة هي السفر بشرطه لا المشقَّة، فكذلك تكون العلة في رد الشهادة للنفس هي أنها شهادة للنفس، أو أنها دعوى كما يومئ إليه حديث: "لو يُعطى الناسُ بدعواهم لادّعى ناسٌ دماءَ رجالٍ وأموالهم ... " (1). فعلى هذا لا يتَّأتى القياس، ألا ترى أن في أعمال العمّال المقيمين ما مشقَّته أشدّ من مشقة السفر العادي، ذلك كالعمل في المناجم ونحوها، ومع ذلك ليس لهم أن يقصروا الصلاة؟ فإن قيل: الشهادة للأصل والفرع مظنة للتهمة، كما أن الشهادة للنفس مظنة لها. قلت: فالعمل في المناجم مظنة للمشقة، بل المشقة فيه أشقّ وأغلب، والتهمة في الشهادة للأصل والفرع أضعف وأقل من التهمة في الشهادة للنفس، فإنَّ حِرص الإنسان على نفع نفسه أشدّ غالبًا من حرصه على نفع أصله أو فرعه، وقد يكون الرجل منفردًا عن أصله أو فرعه وبينهما عداوة. _________ (1) أخرجه البخاري (4552)، ومسلم (1711) مختصرًا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(9/148)


والشافعي ممن يقول برد الشهادة للأصل والفرع، ولم يعرِّج على التهمة، ولكنه لما علم أن جماعةً ممن قبله ذهبوا إلى الردّ ولم يَعْلَم لهم مخالفًا، هاب أن يقول ما لا يعلم له فيه سلفًا، فحاول الاستدلال بما حاصله: أن الفرع من الأصل فشهادة أحدهما للآخر كأنها شهادة لنفسه، ثم قال كما في "الأم" (ج 7 ص 42) (1): "وهذا مما لا أعرف فيه خلافًا". كأنه ذكر هذا تقويةً لذاك الاستدلال، واعتذارًا عما فيه من الضعف. ولما علم بعض حُذّاق أصحابه كالمزني وأبي ثور أن هناك خلافًا ذهبوا إلى القبول (2). ثم أقول: لو كان هناك نص أو إجماع على عدم قبول الشهادة للأصل أو الفرع أو الزوج لكانت العلة فيها أنها شهادة لمن ذُكر، ولم تكن العلة هي التهمة. فأما الشهادة على العدوّ، فالقائلون بأنها لا تُقبل يخصون ذلك بالعداوة الدنيوية التي تبلغ أن يحزن لفرحه ويفرح لحزنه. فأما العداوة الدينية والدنيوية التي لم تبلغ ذاك المبلغ، فلا تمنع من القبول عندهم. والمنقول عن أبي حنيفة كما في كتب أصحابه (3) أن العداوة لا تقتضي ردّ الشهادة إلا أن تبلغ أن تَسْقُطَ بها العدالة. أقول: وإذا بلغت ذلك لم تقبل شهادة صاحبها حتى لعدوِّه على صديقه. ويقوِّي هذا القول أن القائلين بعدم القبول يشرطون أن تبلغ أن يحزن لفرحه _________ (1) (8/ 114). (2) انظر "البيان": (13/ 311) للعمراني. (3) انظر "رد المحتار": (8/ 225 - 226).

(9/149)


ويفرح لحزنه. وهذا يتضمن أن يفرح لذبح أطفاله ظلمًا، والزنا ببناته، وارتداد زوجاته ونحو ذلك، وقس على ذلك الحزن لفرحه، وهذا مسقط للعدالة حتمًا. فإن قيل: قد يفرح بذلك من جهة أنه يُحْزن عدوَّه، ومع ذلك يحزن من جهة مخالفته للدين. قلت: إن لم يغلب حزنُه فرحَه فليس بعَدْل، وإن غلب فكيف يظن به أن يوقع نفسه في شهادة الزور التي هي من أكبر الكبائر، وفيها أعظم الضرر على نفسه في دينه، ولا يأمن أن يلحقه لأجلها ضرر شديد في دنياه، كلُّ ذلك ليضر المشهود عليه في دنياه ضررًا قد يكون يسيرًا كعشرة دراهم مثلًا؟ وهَبْه صحّ الردّ بالعداوة مع بقاء العدالة فالقائلون بالرد يشرطون أن تكون عداوة دنيوية تبلغ أن يحزن لفرحه ويفرح لحزنه، وهذا لا يتأتّى للأستاذ إثباته في أحدٍ ممن يتهمهم؛ لأنه إن ثبت انحرافهم عن أبي حنيفة وأصحابه وثبت أن ذلك الانحراف عداوة فهو عداوة دينية. وهب أنه ثبت في بعضهم أنها عداوة دنيوية فلا يتّأتى للأستاذ إثبات بلوغها ذاك الحدّ، أي أن يحزن لفرحه ويفرح لحزنه. وهبه بلغ، فقد تقدم أن الرواية لا تردّ بالعدواة. وأما ما ذكره الشافعي في أصحاب العصبية (1)، فالشافعي إنما عنى العصبية لأجل النسب، كما هو صريح في كلامه. وذلك أمر دنيوي، وكلامه ظاهر في أنها بشرطها تسقط العدالة. ولا ريب أنه إذا بلغت العصبية أو العداوة إسقاط العدالة لم تقبل لصاحبها شهادة ولا رواية ألبتة، سواء أكانت _________ (1) في "الأم": (7/ 512).

(9/150)


دنيوية، أم مذهبية، أم دينية؛ كمن يسرف في الحنق على الكفار فيتعدَّى على أهل الذمة والأمان بالنهب والقتل ونحو ذلك، بل قد يكفر. فقد اتضح بما تقدّم الجوابُ عن بعض ما يمكن التشبُّث به في ردِّ رواية العدول. وبقي حكاية عن شريك ربما يُؤخَذ منها أنه قد يقبل شهادة بعض العدول في القليل ولا تُقبل في الكثير (1)، وفرعٌ للشافعي قد يتوهّم منه نحو ذلك (2)، وما يقوله أصحاب الحديث في رواية المبتدع، وما قاله بعضهم في جرح المحدِّث لمن هو ساخط عليه. فأما الحكاية عن شريك فمنقطعة (3)، ولو ثبتت لوجب حملها على أن مراده القبول الذي تطمئنّ إليه نفسه. فإن القاضي قد لا يكون خبيرًا بعدالة الشاهدين وضبطهما وتيقّظهما، وإنما عدَّلهما غيره، فإذا كان المال كثيرًا جدًّا بقي في نفسه ريبة. وقد بيَّن أهل العلم أن مثل هذا إنما يقتضي التروِّي والتثبت، فإذا تروّى وبقيت الحال كما كانت وجب عليه أن يقضي بتلك الشهادة، ويعرض عما في نفسه. وأما الفرع المذكور عن الشافعي فليس من ذاك القبيل، وإنما هو من باب الاحتياط للتعديل. ومع ذلك فقد ردَّه إمامُ الحرمين وقال: إن أكثر الأئمة على خلافه (4). _________ (1) تقدم ذكره (ص 132). (2) تقدم ذكره (ص 133). (3) لأن راوي القصة عن شريك هو ابن عباد لم يسمعها منه بل قال: "أُخْبِرتُ عن شريك". (4) انظر "نهاية المطلب في دراية المذهب": (18/ 492).

(9/151)


وأما رواية المبتدع، وجرح المحدِّث لمن هو ساخط عليه، فأُفردُ كلًّا منهما بقاعدة (1). * * * * _________ (1) انظر التعليق على (ص 134) هامش (1).

(9/152)


[ص 37] 3 ــ رواية المبتدع لا شبهة أن المبتدع إن خرج ببدعته عن الإسلام لم تقبل روايته، لأن من شرط قبول الرواية: الإسلام. وأنه إن ظهر عناده، أو إسرافه في اتباع الهوى، والإعراض عن حجج الحق، ونحو ذلك مما هو أدلّ على وهن التدين من كثير من الكبائر كشرب الخمر وأخذ الربا، فليس بعدل فلا تقبل روايته؛ وشرط قبول الرواية: العدالة. وأنه إن استحلَّ الكذب، فإما أن يكفر بذلك، وإما أن يفسق. فإن عذرناه فمِنْ شرط قبول الرواية: الصدق، فلا تقبل روايته. وأن من تردّد أهلُ العلم فيه، فلم يتجه لهم أن يكفِّروه أو يفسِّقوه، ولا أن يعدِّلوه، فلا تقبل روايته، لأنه لم تثبت عدالته. ويبقى النظر فيمن عدا هؤلاء. والمشهور الذي نقل ابن حبان والحاكم (1) إجماع أئمة السنة عليه أن المبتدع الداعية لا يُقبل البتة، وأما غير الداعية فكالسُّنّي. واختلف المتأخرون في تعليل ردّ الداعية، والتحقيق إن شاء الله تعالى: أن ما اتفق أئمة السنة على أنها بدعة، فالداعية إليها الذي حقّه أن يسمى داعية لا يكون إلا من الأنواع الأولى، إن لم يتجه تكفيره اتجه تفسيقه، فإن لم يتجه تفسيقه فعلى الأقل لا تثبت عدالتُه. _________ (1) كلام ابن حبان في "المجروحين": (3/ 63). وكلام الحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص 133).

(9/153)


وإلى هذا أشار مسلم في "مقدمة صحيحه" (1) إذ قال: "اعلم ــ وفقك الله ــ أن الواجب على كلّ أحدٍ عرفَ التمييزَ بين صحيح الروايات وسقيمها وثقات الناقلين لها من المتهمين أن لا يروي منها إلا ما عَرف صحة مخارجه والسِّتارة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان عن أهل التُّهَم والمعاندين من أهل البدع. والدليل على أن الذي قلنا في هذا هو اللازم دون ما خالفه قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] وقال جل ثناؤه: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. فدل بما ذكرنا من هذه الآي أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول، وأن شهادة غير العدل مردودة. والخبر وإن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه فقد يجتمعان في أعظم معانيهما، إذ كان خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم، كما أن شهادته مردودة عند جميعهم". هذا، وإذا كانت حجج السنة بينةً، فالمخالف لها لا يكون إلا معاندًا، أو متبعًا للهوى معرضًا عن حجج الحق. واتباعُ الهوى والإعراضُ عن حجج الحق قد يفحش جدًّا حتى لا يحتمل أن يُعذَر صاحبه. فإن لم يجزم أهل العلم بعدم العذر، فعلى الأقل لا يمكنهم تعديل الرجل. وهذه حال الداعية الذي الكلام فيه، فإنه لولا أنه معاند، أو منقاد لهواه انقيادًا فاحشًا، معرض عن حجج الحقّ إعراضًا شديدًا؛ لكان أقلّ أحواله أن يحمله النظر في حجج الحقِّ على الارتياب في بدعته، فيخاف إن كان متدينًا أن يكون على ضلالة، _________ (1) (1/ 8).

(9/154)


ويرجو أنه إن كان على ضلالة فعسى الله تبارك وتعالى أن يعذره. فإذا التفت إلى أهل السنة علم أنهم إن لم يكونوا أولى بالحق منه، فالأمر الذي لا ريب فيه أنهم أولى بالعذر منه، وأحقُّ إن كانوا على خطأ أن لا يضرَّهم ذلك؛ لأنهم إنما يتبعون الكتاب والسنة، ويحرصون على اتباع سبيل المؤمنين، ولزوم سراط المنعَم عليهم: النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وخيار السلف. فيقول في نفسه: هب أنهم على باطل، فلم يأتهم البلاء من اتباع الهوى وتتبع السبل الخارجة. ولا ريب أن من كانت هذه حاله فإنه لا يكفِّر أهلَ السنة ولا يضلِّلهم، ولا يحرص على إدخالهم في رأيه، بل يشغله الخوف على نفسه، فلا يكون داعية. فأما غير الداعية؛ فقد مرَّ نقلُ الإجماع على أنه كالسُّنّي، إذا ثبتت عدالته قُبِلت روايته. وقد ثبت عن مالك ما يوافق ذلك، ومن أصحابه مَن ينقل عنه أنه لا يُروى عنه أيضًا، والعمل على الأول. وذهب بعضهم إلى أنه لا يُروى عنه إلا عند الحاجة، وهذا أمر مصلحي لا ينافي قيام الحجة بروايته بعد ثبوت عدالته. وحكى بعضُهم أن غير الداعية إذا روى ما فيه تقوية لبدعته لم يؤخَذ عنه (1). ولا ريب أن ذلك المرويّ إذا حَكَم أهل العلم ببطلانه فلا حاجة إلى روايته إلا لبيان حاله. ثم إن اقتضى جرح صاحبه بأن ترجّح أنه تعمّد الكذب أو أنه متهم بالكذب عند أئمة الحديث سقط صاحبه البتة، فلا يؤخذ عنه ذاك ولا غيره، وليس هذا خاصًّا بالمبتدع. وإن ترجّح أنه إنما أخطأ، فلا وجه _________ (1) انظر للأقوال في المسألة "علوم الحديث" (ص 114 - 115) لابن الصلاح، و"فتح المغيث": (2/ 58 - 70).

(9/155)


لمؤاخذته بالخطأ. وإن ترجح صحة ذلك المروي، فلا وجه لعدم أخذه. نعم قد تدعو المصلحة إلى عدم روايته حيث يخشى أن يغترَّ بعض السامعين بظاهره، فيقع في البدعة. قرأت في جزء قديم من "ثقات العجلي" (1) ما لفظه: "موسى الجهني قال جاءني عمرو بن قيس المُلائي وسفيان الثوري فقالا (2): لا تحدّث بهذا الحديث بالكوفة أن النبي عليه السلام قال لعَليّ: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" (3). كان في الكوفة جماعة يغلون في التشيّع ويدعون إلى الغلو، فَكَرِه عمرو بن قيس وسفيان أن يسمعوا هذا الحديث، فيحملوه على ما يوافق غلوَّهم، فيشتدّ شرُّهم. وقد يمنع العالمُ طلبةَ الحديث عن أخذ مثل هذا الحديث، لعلمه أنهم إذا أخذوه ربما رووه حيث لا ينبغي أن يُروى. لكن هذا لا يختص بالمبتدع، وموسى الجهني ثقة فاضل لم يُنسب إلى بدعة. هذا، وأول من نسب إليه هذا القول إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، وكان هو نفسه مبتدعًا منحرفًا عن أمير المؤمنين عليّ، متشددًا في الطعن على المتشيِّعين، كما يأتي في القاعدة الآتية. للجوزجاني كتاب في الجرح والتعديل. قال في مقدمته (4) ــ كما نقله السخاوي في "فتح المغيث" _________ (1) من هذا الجزء نسخة في المكتبة الآصفية (رقم 54 ـ رجال)، وانظر ترتيبه (2/ 183 - تحقيق البستوي). (2) الأصل: "فقال" والمثبت من كتاب العجلي. (3) أخرجه البخاري ومسلم. (4) (ص 11 - ت البستوي). واسم كتابه "الشجرة" وطبع باسم "أحوال الرجال".

(9/156)


(ص 142) (1): "ومنهم زائغ عن الحق، صدوق اللهجة، قد جرى في الناس حديثُه، لكنه مخذول (2) في بدعته، مأمون في روايته، فهؤلاء ليس فيهم حيلة إلا أن يؤخذ من حديثهم ما يُعرف وليس بمنكر، إذا لم تقوَ به بدعتُه، فيتَّهمونه (؟ ) بذلك" (3). والجوزجاني فيه نَصْب، وهو مولع بالطعن في المتشيّعين كما مرّ، ويظهر أنه إنما يرمي بكلامه هذا إليهم، فإن في الكوفيين المنسوبين إلى التشيع جماعة أجلّة، اتفق أئمة السنة على توثيقهم، وحُسْن الثناء عليهم، وقبول رواياتهم، وتفضيلهم على كثير من الثقات الذين لم يُنسبوا إلى التشيُّع، حتى قيل لشعبة: حَدِّثنا عن ثقات أصحابك. فقال: إن حدثتكم عن ثقات أصحابي فإنما أحدثكم عن نفرٍ يسير من هذه الشيعة: الحكم بن عُتيبة، وسَلَمة بن كُهيل، وحبيب بن أبي ثابت، ومنصور (4). راجع تراجم هؤلاء في "التهذيب" (5). فكأنَّ الجوزجاني لما علم أنه لا سبيل إلى الطعن في هؤلاء وأمثالهم مطلقًا، حاول أن يتخلّص مما يكرهه من مرويّاتهم، وهو ما يتعلق بفضائل أهل البيت. وعبارته المذكورة تعطي أن المبتدع الصادق اللهجة، المأمون في _________ (1) (2/ 66 - ط السلفية بالهند). (2) في "الشجرة": "إذ كان مخذولًا". (3) في "الشجرة": "إذا لم يُقوِّ به بدعته، فيُتَّهم عند ذلك". (4) الخبر في "تقدمة الجرح والتعديل": (1/ 138). (5) (2/ 432 - 434 و 4/ 155 - 157 و 2/ 178 و 10/ 312 - 315) على التوالي.

(9/157)


الرواية، المقبول حديثه عند أهل السنة، إذا روى حديثًا معروفًا عند أهل السنة غير منكر عندهم، إلا أنه مما قد تَقوَى به بدعتُه، فإنه لا يؤخَذ وأنه يُتَّهم. فأما اختيار أن لا يؤخذ، فله وجه رعاية للمصلحة كما مرَّ. وأما أنه يُتَّهم راويه، فلا يظهر له وجه بعد اجتماع تلك الشرائط. إلا أن يكون المراد أنه قد يتهمه مَن عَرَف بدعته ولم يعرف صدقه وأمانته، ولم يعرف أن ذاك الحديث معروف غير منكر، فيسيء الظن به وبمروياته. ولا يبعد من الجوزجاني أن يصانع عما في نفسه بإظهار أنه إنما يحاول هذا المعنى، فبهذا تستقيم عبارتُه. أما الحافظ ابن حجر، ففهم منها معنًى آخر قال في "النخبة وشرحها" (1): "الأكثر على قبول غير الداعية، إلا أن يروي ما يقوِّي مذهبه، فيُرَدُّ على المذهب المختار. وبه صرح الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ أبي داود والنسائي". وسيأتي الكلام معه إن شاء الله تعالى (2). ولابن قتيبة في كتاب "تأويل مختلف الحديث" (3) كلام حاصله أن المبتدع الصادق المقبول لا يُقبل منه ما يقوِّي بدعتَه، ويُقبل منه ما عدا ذلك. قال: "وإنما يَمنع من قبول قول الصادق فيما وافق نحلته وشاكل هواه لأن نفسه تريه أن الحقَّ فيما اعتقده، وأن القربة إلى الله عز وجل في تثبيته بكل وجه. ولا يؤمَن مع ذلك التحريف والزيادة والنقص". كذا قال، واحتجّ بأن شهادة العدل لا تُقبل لنفسه وأصله وفرعه. وقد مر الجواب عن ذلك (4). ولا أدري كيف _________ (1) (ص 104). (2) (ص 73 فما بعدها). (3) (ص 141). (4) (ص 58 - 59).

(9/158)


ينعت بالصادق من لا يؤمَن منه تعمدُ التحريف والزيادة والنقص؟ وإنما يستحق النعت بالصادق من يوثَق بتقواه، وبأنه مهما التبس عليه من الحق فلن يلتبس عليه أن الكذب ــ بأيّ وجه كان ــ منافٍ للتقوى، مجانبٌ للإيمان. ولا ريب أن فيمن يتسم بالصلاح من المبتدعة ــ وأهل السنة ــ من يقع في الكذب إما تقحُّمًا في الباطل، وإما على زعم أنه لا حرج في الكذب في سبيل تثبيت الحق. ولا يختص ذلك بالعقائد، بل وقع فيما يتعلق بفروع الفقه وغيرها، كما يُعلَم من مراجعة كتب الموضوعات. وأعداءُ الإسلام وأعداءُ السنة يتشبثون بذلك في الطعن في السنة، كأنهم لا يعلمون أنه لم يزل في أخبار الناس في شؤون دنياهم الصدق والكذب، ولم تكن كثرة الكذب بمانعة من معرفة الصدق إما بيقين وإما بظن غالب يجزم به العقلاء ويبنون عليه أمورًا عظيمة. ولم يزل الناس يغُشُّون الأشياء النفيسة ويصنعون ما يشبهها كالذهب والفضة والدر والياقوت والمسك والعنبر والسمن والعسل والحرير والخز والصوف وغيرها، ولم يَحُل ذلك دون معرفة الصحيح. والخالقُ الذي هيَّأ لعباده ما يحفظون به مصالح دنياهم هو الذي شرع لهم دين الإسلام، وتكفّل بحفظه إلى الأبد. وعنايتُه بحفظ الدين أشدّ وآكد، لأنه هو المقصود بالذات من هذه النشأة الدنيا، قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. ومن مارس أحوال الرواية وأخبار رواة السنة وأئمتها علم أن عناية الأئمة بحفظها وحراستها ونفي الباطل عنها والكشف عن دخائل الكذابين والمتهمين كانت أضعاف عناية الناس بأخبار دنياهم ومصالحها. وفي "تهذيب التهذيب" (1/ 152): "قال إسحاق بن إبراهيم: أخذ الرشيد

(9/159)


[زنديقًا، فأراد قتله، فقال: أين أنت من ألف حديث وضعتُها! فقال له: أين أنت يا عدوَّ الله من أبي إسحاق الفَزاري وابن المبارك ينخُلانها حرفًا حرفًا! "] (1). وقيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: تعيش لها الجهابذة. وتلا قول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2) [الحجر: 9]. والذكر يتناول السنة بمعناه، إن لم يتناولها بلفظه؛ بل يتناول العربية وكلّ ما يتوقّف عليه معرفة الحق. فإن المقصود من حفظ القرآن أن تبقى الحجةُ قائمةً والهدايةُ دائمةً إلى يوم القيامة، لأن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع، والله عز وجل إنما خلق الخلق لعبادته، فلا يقطع عنهم طريق معرفتها. وانقطاعُ ذلك في هذه الحياة الدنيا انقطاعٌ لعلَّة بقائهم فيها. قال العراقي في "شرح ألفيته" (ج 1 ص 267) (3): "رُوِّينا عن سفيان قال: ما ستر الله أحدًا يكذب في الحديث. ورُوّينا عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: لو أن رجلا هَمَّ أن يكذب في الحديث لأسقطه الله. ورُوِّينا عن ابن المبارك قال: لو هَمَّ رجل في السَّحَر أن يكذب في الحديث لأصبح والناس يقولون: فلان كذاب". والمقصود هنا أن من لا يؤمَن منه تعمّدُ التحريف والزيادة والنقص ــ على أيّ وجهٍ كان ــ فلم تثبت عدالتُه. فإن كان كلّ من اعتقد أمرًا ورأى أنه _________ (1) ترك المؤلف باقي القصة بياضا فأكملناه من المصدر. (2) "تقدمة الجرح والتعديل": (1/ 3 و 2/ 18)، "التعديل والتجريح": (1/ 33). (3) (ص 124).

(9/160)


الحق وأن القُربة إلى الله تعالى في تثبيته لا يؤمَن منه ذلك، فليس في الدنيا ثقة. وهذا باطل قطعًا، فالحكم به على المبتدع إن قامت الحجة على خلافه بثبوت عدالته وصدقه وأمانته فباطل، وإلا وجب أن لا يحتجّ بخبره البتة، سواء أوافق بدعته أم خالفها. والعدالة: "مَلَكة تمنع من اقتراف الكبائر ... " وتعديل الشخص شهادةٌ له بحصول هذه المَلَكة، ولا تجوز الشهادة بذلك حتى يغلب على الظن غلبة واضحة حصولها له. وذلك يتضمن غلبة الظن بأن تلك المَلَكة تمنعه من تعمُد التحريف والزيادة والنقص، ومن غلب على الظن غلبةً يصح الجزم بها أنه لا يقع منه ذلك، فكيف لا يؤمَن أن يقع منه؟ ومن لا يؤمَن أن يقع منه ذلك، فلم يغلب على الظن أن له مَلَكةً تمنعه من ذلك. ومن خيف أن يغلبه ضربٌ من الهوى، فيوقعه في تعمُّد الكذب والتحريف، لم يؤمَن أن يغلبه ضرب آخر، وإن لم نشعر به. بل الضربُ الواحدُ من الهوى قد يوقع في أشياء يتراءى لنا أنها متضادة. فقد جاء أن موسى بن طريف الأسدي كان يرى رأي أهل الشام في الانحراف عن عَليّ رضي الله عنه، ويروي أحاديث منكرة في فضل عليّ، ويقول: "إني لأسخر بهم" يعني بالشيعة، راجع ترجمته في "لسان الميزان" (1). وروى محمد بن شجاع الثلجي الجهمي، عن حَبَّان بن هلال أحد الثقات الأثبات، عن حماد بن سلمة أحد أئمة السنة، عن أبي المهزِّم، عن أبي هريرة مرفوعًا: "إن الله خلق الفرس، فأجراها، فعرقت ثم خلق نفسه منها" (2). وفي _________ (1) (8/ 205). (2) أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (231).

(9/161)


"الميزان" (1) أن غرض الجهيمة من وضع هذا الحديث أن يستدلوا به على زعمهم أن ما جاء في القرآن من ذكر "نفس الله" عز وجل إنما المراد بها بعض مخلوقاته. أقول: ولهم غرضان آخران: أحدهما: التذرُّع بذلك إلى الطعن في حماد بن سلمة، كما يأتي في ترجمته (2). الثاني: التشنيع على أئمة السنة بأنهم يروون الأباطيل. والشيعيُّ الذي لا يؤمَن أن يكذب في فضائل أهل البيت، لا يؤمَن أن يكذب في فضائل الصحابة على سبيل التقية، أو ليُري الناس أنه غير متشدّد في مذهبه، يُمهِّد بذلك لِيُقبَل منه ما يرويه مما يوافق مذهبه. وعلى كلّ حال فابن قتيبة ــ على فضله ــ ليس هذا فنُّه، ولذلك لم يعرج أحد من أئمة الأصول والمصطلح على حكاية قوله ذلك فيما أعلم. والله الموفق. وفي "فتح المغيث" (ص 140) (3) عن ابن دقيق العيد: "إن وافقه غيره فلا يلتفت إليه إخمادًا لبدعته وإطفاءً لناره. وإن لم يوافقه أحد، ولم يوجد ذلك الحديث إلا عنده ــ مع ما وصفنا من صِدْقه وتحرّزه عن الكذب، واشتهاره بالتدين، وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته ــ فينبغي أن تقدَّم مصلحةُ تحصيلِ ذلك الحديث ونشرِ تلك السنة على مصلحة إهانته وإطفاء ناره". _________ (1) (5/ 24 - 25). (2) رقم (85). (3) (2/ 60 - 61) وكلام ابن دقيق العيد في كتابه "الاقتراح" (ص 294).

(9/162)


ويظهر أن تقييده بقوله: "وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته" إنما مغزاه: إذا كان فيه تقوية لبدعته لم تكن هناك مصلحة في نشره، بل المصلحة في عدم روايته، كما مرَّ. ويتأكد ذلك هنا بأن الفرض أنه تفرد به، وذلك يدعو إلى التثبت فيه. وإذا كان كلام ابن دقيق العيد محتملًا لهذا المعنى احتمالًا ظاهرًا، فلا يسوغ حمله على مقالة ابن قتيبة التي مرّ ما فيها. وقال ابن حجر في "النخبة وشرحها" (1): "الأكثر على قبول غير الداعية، إلا أن يروي ما يقوِّي مذهبه (2) فيُرَدُّ على المذهب المختار. وبه صرَّح الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ أبي داود والنسائي ... وما قاله متّجه، لأن العلة التي لها رُدَّ حديثُ الداعية واردة فيما إذا كان ظاهرُ المروي يوافق مذهبَ المبتدع، ولو لم يكن داعية. والله أعلم". أقول: الضمير في قوله: "فيُرَدُّ" يعود فيما يظهر على المبتدع غير الداعية، أوقَعَ الردَّ على الراوي في مقابل إطلاق القبول عليه. وقد قال قبل ذلك: "والتحقيق أنه لا يُرَدُّ كلُّ مكفَّر ببدعة" والمراد برد الراوي: رد مروياته كلها. وقد يقال: يحتمل عود الضمير على المرويّ المقوّي لمذهبه، وعلى هذا فقد يفهم منه أنه يُقبل منه ما عداه، وقد يُشعِر بهذا استناد ابن حجر إلى قول الجوزجاني. فأقول: إن كان معنى الردّ على هذا المعنى الثاني ترك رواية ذاك الحديث للمصلحة، وإن كان محكومًا بصحته؛ فهذا هو المعنى الذي تقدَّم أن به تستقيم عبارة الجوزجاني. وإن كان معناه رد ذاك الحديث اتهامًا _________ (1) (ص 104). (2) في "النزهة": "بدعته".

(9/163)


لصاحبه، ويردُّ معه سائر رواياته؛ فهذا موافق للمعنى الأول، ولا تظهر موافقته لعبارة الجوزجاني. وإن كان معناه رد ذلك الحديث اتهامًا لرواية فيه، ومع ذلك يبقى مقبولًا فيما عداه؛ فليست عبارة الجوزجاني بصريحة في هذا ولا ظاهرة فيه كما مرَّ، وإنما هو قول ابن قتيبة. وسياق كلام ابن حجر ــ ما عدا استناده إلى قول الجوزجاني ــ يدل على أن مقصوده ردّ الراوي مطلقًا، أو رد ذاك الحديث وسائر روايات راويه، وذلك لأمور، منها: أن ابن حجر صرَّح بأن العلة التي رد بها حديث الداعية واردة في هذا، وقد قدَّم أن العلة في الداعية هي "أن تزيين بدعته قد يحمله على تحريف الروايات وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه". ومن كانت هذه حاله فلم تثبت عدالته ــ كما تقدم ــ فيردّ مطلقًا. ومنها: أن هذه العلة اقتضت في الداعية الردّ مطلقًا فكذلك هنا، بل قد يقال على مقتضى كلام ابن حجر: هذا أولى، لأن الداعية يردّ مطلقًا، وإن لم يَروِ ما يوافق بدعته، وهذا قد روى. هذا، وقد وثَّق أئمة الحديث جماعةً من المبتدعة، واحتجوا بأحاديثهم، وأخرجوها في الصحاح. ومن تتبع رواياتهم وجد فيها كثيرًا مما يوافق ظاهرُه بدَعَهم. وأهلُ العلم يتأوّلون تلك الأحاديث غير طاعنين فيها ببدعة راويها، ولا في راويها بروايته لها (1). بل في رواية جماعة منهم أحاديث _________ (1) كحديث مسلم [78] من طريق الأعمش، عن عدي بن ثابت، عن زر قال: قال علي: "والذي فَلَق الحبة وبرأ النَّسَمة، إنه لعهد النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - إليَّ أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق". عديّ قال فيه ابن معين: "شيعي مفرط". وقال أبو حاتم: "صدوق وكان إمام مسجد الشيعة وقاصّهم". وعن الإمام أحمد: "ثقة إلا أنه كان يتشيع". وعن الدارقطني: "ثقة إلا أنه كان غاليًا في التشيع". ووثقه آخرون. ويقابل هذا رواية قيس بن أبي حازم عن عَمرو بن العاص: عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - جهارًا غير سرٍّ يقول: "ألا إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين، إن لهم رحمًا سأبلها ببلالها". ورواه غندر عن شعبة بلفظ: "إن آل أبي ... " ترك بياضًا، وهكذا أخرجه الشيخان. وقيس ناصبي منحرف عن علي رضي الله عنه. ولي في هذا كلام. [المؤلف].

(9/164)


ظاهرة جدًّا في موافقة بدعهم أو صريحة في ذلك إلا أن لها عللًا أخرى. ففي رواية الأعمش أحاديث كذلك ضعَّفها أهل العلم، بعضها بضعف بعض مَن فوق الأعمش في السند، وبعضها بالانقطاع، وبعضها بأن الأعمش لم يصرح بالسماع وهو مدلس. ومن هذا الأخير حديث في شأن معاوية ذكره البخاري في "تاريخه الصغير" (ص 68) (1) ووهَّنه بتدليس الأعمش، وهكذا في رواية عبد الرزاق وآخرين. هذا، وقد مرَّ تحقيق علة رد الداعية، وتلك العلة ملازمة أن يكون بحيث يحق أن لا يؤمَن منه ما ينافي العدالة، فهذه العلة إن وردت في كل مبتدع روى ما يقوّي بدعته، ولو لم يكن داعية، وجب أن لا يُحتج بشيء مِن مرويات مَن كان كذلك، ولو فيما يوهن بدعته؛ وإلاّ ــ وهو الصواب ــ فلا يصح إطلاق الحكم، بل يدور مع العلة. فذاك المروي المقوِّي لبدعة راويه إما غير منكر، فلا وجه لرده، فضلًا عن ردّ راويه. وإما منكر، فحكم المنكر معروف، وهو أنه ضعيف. فأما راويه فإن اتجه الحمل عليه بما ينافي العدالة، كرميه بتعمّد الكذب أو اتهامه به، سقط البتة. وإن اتجه الحمل على غير ذلك، كالتدليس المغتفَر والوهم والخطأ، لم يجرح بذلك. وإن تردد _________ (1) (2/ 802 - ط الرشد) والصحيح أنه التاريخ الأوسط طبع خطأ باسم "الصغير".

(9/165)


الناظر وقد ثبتت العدالة وجب القبول، وإلا أخذ بقول مَن هو أعرف منه، أو وقف. وقد مرَّ أوائلَ القاعدة الثانية (1) بيان ما يمكن أن يبلغه أهل العصر من التأهل للنظر، فلا تغفل. وبما تقدم يتبين صحةُ إطلاق الأئمة قبولَ غير الداعية إذا ثبت صلاحُه وصدقه وأمانته. ويتبين أنهم إنما نصوا على ردّ المبتدع الداعية تنبيهًا على أنه لا يثبت له الشرط الشرعي للقبول، وهو ثبوت العدالة. هذا كله تحقيق للقاعدة. فأما الأستاذ، فيكفينا أن نقول له: هب أنه اتجه أن لا يقبل من المبتدع الثقة ما فيه تقوية لبدعته، فغالب الذين طعنتَ فيهم هم من أهل السنة عند مخالفيك وأكثر موافقيك، والآراء التي تعدُّها هوى باطلًا، منها ما هو عندهم حق، ومنها ما يسلِّم بعضهم أنه ليس بحق ولكن لا يعدُّه بدعة. وسيأتي الكلام في الاعتقاديات والفقهيات، ويتبين المحقّ من المبطل إن شاء الله تعالى. وفي الحق ما يُغنيك لو قنعتَ به، كما مرت الإشارة إليه في الفصل الثاني. ومن لم يقنع بالحق أوشكَ أن يُحرَم نصيبَه منه، كالراوي يروي أحاديثَ صادقةً موافقةً لرأيه، ثم يكذب في حديث واحد، فيفضحه الله تعالى، فتسقط أحاديثه كلُّها! {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]. والمتبادر من عبارة الجوزجاني أنه يرى أنهم أحقَّاء [ص 24] بأن يتهموا فيما يروونه من ذلك، وإن كان معروفًا غير منكر عند أهل السنة وعند الناصبة أيضًا، وكان راويه منهم صدوق اللهجة مأمونًا في روايته، قد اتفق أئمة السنة على توثيقه وقبول حديثه. _________ (1) (ص 53).

(9/166)


وهذا كما ترى، فإن كون المروي معروفًا غير منكر كافٍ في دفع التهمة، فكيف إذا كان راويه كما ذكر؟ فإن كان هذا المتبادر هو مراد الجوزجاني، فلا يخفى بُطلانُه، ويقال له: أما أن نتهم الثقات بالكذب في الروايات، فلا سبيل إليه، ولكن لا مانع أن نتهمهم بما لا ينافي العدالة إذا اقتضى الحال ذلك، ونبدأ بك أيها المبتدع، فنتهمك في رأيك هذا. ولولا قوله: "ما يعرف وليس بمنكر" لقلنا: إنه أراد ما يشكوه من بعضهم، كالأعمش وأبي إسحاق السبيعي من تدليس المنكرات، فيكون أراد المنع من رواية ذلك؛ لاتهام الراوي بأنه سمعه ممن ليس بثقة فدلَّسَه. ولولا ذِكْره الاتهام، لقلنا: لم يُرِد الحكم ببطلان ما منع من أخذه، فإنه إذا لم يكن له علة فهو صحيح ضرورةَ أنه معروف غير منكر، وأن راويه صدوق اللهجة، مأمون الرواية، مقبول عند أئمة السنة، ولكن منع من أخذه إرغامًا للمبتدع بأن لا يروى عنه ما يحبّ أن يروي، مع أنه لا حاجة إلى روايته لوجهين: الأول: أنه معروف من غير طريقه. الثاني: أنه يتعلق ببدعته، والمصلحة تقضي بعدم رواية ذلك، ولو عن السّنّي. ذكر العجلي ــ كما في جزء قديم من "ثقاته" (1) ــ: عن موسى الجهني قال: جاء عَمرو بن قيس المُلائي وسفيان الثوري، فقالا: لا تحدِّث بهذا _________ (1) انظر ترتيبه: (2/ 183 ــ تحقيق البستوي). وانظر (ص 156) حاشية (1).

(9/167)


الحديث في الكوفة: أن النبي عليه السلام قال لعلي: "أنت مِنّي بمنزلة هارون من موسى" (1). وإلى هذا أشار ابن دقيق العيد. وقد يقال: لعل الجوزجاني لم يرد بذكر الاتهام إثبات أنهم أحقاء أن يتهموا، وإنما أراد أنه ينبغي أن لا يُروى ذلك عنهم خشية أن يسمعه من لا يعرف حالهم فيتهمهم، فيضر ذلك بهم وبمروياتهم، أو يقال: لم يرد الاتهام القادح وإنما أراد ما يوقعه موافقة ظاهر الخبر لمذهب راويه من الارتياب، وذلك كما إذا شهد رجلان لأخيهما، فإن القاضي يرتاب في شهادتهما، وقد يبقى أثر الريبة بعد أن يُعدَّلا، فكما أن للقاضي أن يقول للمدَّعي: زدني شهودًا، وإن كان إذا لم يجد المدعي غير أخويه يلزم القاضي أن يقضي بشهادتهما. وإذا سمى المدّعي شهودَه قبل أن يحضرهم، فسمى أخويه ورجالًا آخرين، فللقاضي أن يقول له: جئني بالذين سميتهم غير أخويك. فكذلك لأهل الحديث أن يعرضوا عما يرويه المبتدع الثقة مما يوافق ظاهره بدعته؛ لأن ذاك الارتياب ــ وإن كان لا ينافي ثبوت الخبر ــ قد أوقع فيه بعض الوهن، ومع ذلك فلا داعي إلى روايته، إذ الغرض أنه إنما يقضي بظاهره موافقة بدعة الراوي، فليس في روايته إلا مساعدة تلك البدعة، فيحتاج أهل السنة إلى تأويله وصرفه عن ظاهره، فالأولى أن لا يُروى رأسًا. وهذا المعنى في نظري أحسن ما تُحْمَل عليه عبارة الجوزجاني. _________ (1) أخرجه البخاري (3706)، ومسلم (2404) من حديث سعد بن أبي وقاص.

(9/168)


وقد يحمل كلامه على معنى أن من أتى منهم بمنكر، أو بما يقوِّي به بدعته ــ وحقه أن يتهم فيه ــ فإنه يُترك ألبتة، ولا يُروى عنه ذلك الحديث، ولا غيره؛ لخروجه بذلك عن حَدِّ أن يكون صدوق اللهجة مأمونًا في روايته، ويأتي عن ابن حجر ما يظهر منه أنه حمل عبارة الجوزجاني على هذا المعنى. [ص 27] هذا والمنقول عن كبار أئمة السنة في شأن المبتدع إنما هو الامتناع والمنع من السماع منه والرواية عنه، وأكثرهم يخصُّون ذلك بالداعية، ومع ذلك فقد روى بعضُهم عمن جاء أنه كان داعية، ولم أرَ في نصوصهم ما يبين العلة، واختلف من بعدهم؛ فمنهم من قال: إن العلة هي كراهية ترويج البدعة، وعلى هذا فما دعت الحاجةُ إلى روايته عن المبتدع، فينبغي أن يروى عنه، كما مرَّ عن ابن دقيق العيد (1). وهذه العلة إنما تَقْوَى في الداعية؛ لأن أهل العلم إذا لم يمتنعوا ويمنعوا الناس من السماع منه، قَصَده الناسُ ليسمعوا منه، فدعاهم إلى بدعته ورغَّبهم فيها، وإذا لم يمتنع أهل العلم ويمنعوا الناس من الرواية عن الداعية لم يمتنع الناس من قصده، أو قصد مثله للسماع منه. [ص 28] ومنهم من قال: إن العلة هي أن المبتدع فاسق، وكثير من أهل العلم يستبعدون هذا بأن المبتدع قد يكون مخطئًا، غير مقصِّر تقصيرًا يعتدّ به، وقد قال الله عز وجل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، في آيات أخرى. _________ (1) (ص 72).

(9/169)


وأسلم ما يجاب به عن هذا: أن حجج السنة في العقائد ونحوها ظاهرة، فالمبتدع إما غير معتدٍّ بها، كما يقول غُلاة المتكلمين: إن النصوص القرآنية والسنية لا تصلح حجة في صفات الله عز وجل، ونحوها من العقائد، وإما متهاون بها مسرف في إيثار هواه إيثارًا شديدًا لا يُعْذَر فيه، فإن لم يظهر كفرُه فعلى الأقل يتبين فسقه. أقول: ولك أن تنزل عن هذا فتقول: فإن لم يتبين فسقه فعلى الأقل لا يوثَق بعدالته، فلا يمكن تعديله. ومن يخص الداعية له أن يقول: قد يجوز أن تَقْوَى الشبهةُ في نفس من ليس بمؤثرٍ هواه إيثارًا شديدًا، ولكنه لا بد أن يبقى في نفسه تردد يحمله على أن يعذر مخالفيه فيما زاغ فيه، ويخشى أن يكون هو المخطئ لا هم، ويرى أنهم إن كانوا هم المخطئين فلم يأتهم ذلك من خارج، وإنما أتاهم من جهة وقوفهم عند ما فهموه من النصوص لقوة إيمانهم بها، واعتمادهم عليها. فمن تعدَّى هذا الحدّ، وضلَّل أهلَ السنة، ودعا إلى بدعته فقد بان عناده، وانقطع عذرُ من يحاول أن يعذره. ويشير إلى هذا قول مسلم رحمه الله في "مقدمة صحيحه" (1) إذ قال: "اعلم ــ وفقك الله ــ أن الواجب على كل أحدٍ عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها، وثقات الناقلين لها من المتهمين: أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه، والستارة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع. والدليل على أن الذي قلنا في هذا هو اللازم دون ما خالفه: قول الله _________ (1) (1/ 8).

(9/170)


تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]. وقال جل ثناؤه: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]. وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. فدلّ بما ذكرنا من هذه الآي أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول، وأن شهادة غير العدل مردودة. والخبر وإن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه، فقد يجتمعان في أعظم معانيهما، إذ كان خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم، كما أن شهادته مردودة عند جميعهم". فالمبتدع الذي يتضح عناده إما كافر، وإما فاسق، والذي لم يتضح عناده ولكنه حقيق بأن يتهم بذلك هو في معنى الفاسق؛ لأنه مع سوء حاله لا تثبت عدالته، والداعية الذي الكلام فيه واحدٌ من هذين ولا بدّ. [ص 30] قد عَرَّف أهلُ العلم العدالة بأنها: "مَلَكَة تمنع عن اقتراف الكبائر وصغائر الخسة ... "، زاد التقي السبكي: "وهوى النفس". وقال: "لا بدّ منه، فإن المتقي للكبائر وصغائر الخسة مع الرذائل المباحة قد يتبع هواه عند وجوده لشيء منها فيرتكبه، ولا عدالة لمن هو بهذه الصفة". نقله المحليُّ في "شرح جمع الجوامع" (1) لابن السبكي، ثم ذكر أنه _________ (1) (2/ 148 - 150 - مع حاشية البناني) وأشار المحلّي إلى أن هذه الزيادة موجودة في بعض نسخ "جمع الجوامع"، وهي مأخوذة من والده تقي الدين السبكي. وهي ثابتة في نسخة الأصل لشرح ابن حلولو. "الضياء اللامع": (2/ 216 - 218).

(9/171)


صحيح في نفسه، ولكن لا حاجة إلى زيادة القيد، قال: "لأنَّ مَن عنده ملكة تمنعه عن اقتراف ما ذكر ينتفي عنه اتباع الهوى لشيء منه، وإلا لوقع في المهوي، فلا يكون عنده ملكة تمنع منه". أقول: ما من إنسان إلا وله أهواء فيما ينافي العدالة، وإنما المحذور اتباع الهوى، ومقصود السبكي تنبيه المعدِّلين، فإنه قد يخفى على بعضهم معنى "الملكة"، فيكتفي في التعديل بأنه قد خَبَر صاحبه فلم يره ارتكب منافيًا للعدالة فيعدّله، ولعله لو تدبر لعلم أن لصاحبه هوى غالبًا، يخشى أن يحمله على ارتكاب منافي العدالة إذا احتاج إليه وتهيّأ له، ومتى كان الأمر كذلك فلم يغلب على ظنّ المعدّل حصول تلك المَلَكة، وهي العدالة لصاحبه. بل إما أن يترجح عنده عدم حصولها، فيكون صاحبه ليس بعدل، وإما أن يرتاب في حصولها لصاحبه، فكيف يشهد بحصولها له؟ (1)، وهذا هو معنى التعديل. وأهل البدع كما سماهم السلف "أصحاب الأهواء"، واتِّباعُهم لأهوائهم في الجملة ظاهر، وإنما يبقى النظر في العمد والخطأ، ومَن ثبت تعمّده أو اتهمه بذلك عارفوه، لم يؤمَن كذبُه. وفي الكفاية للخطيب (ص 123): "عن علي بن حرب الموصلي: كلّ صاحب هوى يكذب ولا يبالي". _________ (1) بعده في الأصل: "بثبوت تلك الملكة لصاحبه" وهذه العبارة مما نسي المؤلف أن يضرب عليها، وبقاؤها يفسد المعنى.

(9/172)


يريد ــ والله أعلم ــ أنهم مظنة ذلك، فيُحْتَرَس من أحدهم حتى تتبيّن براءتُه. وأما ما ذكروه في كلام النسائي في أحمد بن صالح، فإنهم لم يرموا النسائي بتعمّد الباطل، ولا اتهموه، ولا قالوا: إن ذلك لا يؤمَن منه، بل برّؤوه من ذلك، وإنما أقاموا الأدلة على خطائه. ولمّا كان قد يُستغرب الخطأ من النسائي؛ لما عُرِف به من شدّة التحرّي والتثبت، ذكروا أنه كان ساخطًا على أحمد بن صالح، ومن شأن التسخُّط أن يورث سوء الظن، ومن وقفتَ على ما يقتضي بظاهره جرحه فإنك إن كنت حسن الظن به ارتبت في ذاك الظاهر، فاحتجت إلى التثبت، بل قد يقوى الظن فلا يؤثر عندك ذاك الظاهر، بل تجزم بحمله على ما لا ينافي ظنك. وإن كنت سيِّئ الظن به لم يكن هناك ما يدفع ذاك الظاهر، ولا ما يريب فيه، وحينئذٍ تبادر نفسك إلى قبوله. وفي "ألفية العراقي" (1): وربما رُدّ كلامُ الجارحِ ... كالنّسَئي في أحمدَ بنِ صالح فربما كان لجرحٍ مخرجُ ... غَطّى عليه السُّخْطُ حين يُحرجُ قال ابن الصلاح (2): "إلا أن ذلك لا يقع منهم تعمدًا للقدح مع العلم ببطلانه". _________ (1) (ص 183). (2) في "علوم الحديث" (ص 391).

(9/173)


وقد شرحت القضية في ترجمة أحمد بن صالح (1)، كما يأتي إن شاء الله تعالى. * * * * _________ (1) في كتاب "التنكيل" رقم (20).

(9/174)


4 ــ قدح الساخط ومدح المحب ونحو ذلك كلام العالِم في غيره على وجهين: الأول: ما يخرج مخرج الذمّ بدون قصد الحكم. وفي "صحيح مسلم" (1) وغيره من حديث أبي هريرة سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "اللهم إنما محمد بشر، يغضب كما يغضب البشر، وإني قد اتخذت عندك عهدًا لم تخلفنيه، فأيما مؤمن آذيته أو سَبَبْته أو جلدته فاجعلها له صلاة ... ". وفيه (2) نحوه من حديث عائشة ومن حديث جابر. ولم يكن صلى الله عليه وآله ومسلم سبّابًا ولا شتّامًا ولا لعّانًا، ولا كان الغضب يخرجه عن الحق، وإنما كان كما نَعَتَه ربُّه عز وجل بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وقوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] وقوله عز وجل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]. وإنما كان يرى من بعض الناس ما يضرهم في دينهم أو يُخِلُّ بالمصلحة العامّة أو بمصلحة صاحبه نفسه، فيكره صلى الله عليه وآله وسلم ذلك وينكره، فيقول: "ما له تربت يمينه" (3) ونحو ذلك مما يكون _________ (1) (2601). وأخرجه أحمد في "المسند" (10403). والرواية الأخرى عند مسلم أيضًا. (2) حديث عائشة رقم (2600) وحديث جابر (2602). (3) بهذا اللفظ أخرجه أبو يعلى (4220)، وأخرجه أبو داود (186) وأحمد (18212) وغيرهما بلفظ: "تربت يداه" من حديث المغيرة بن شعبة، وأخرجه أحمد (12609) بلفظ: "تربت جبينه" من حديث أنس بن مالك.

(9/175)


المقصود به إظهار كراهية ما وقع من المدعوّ عليه وشدة الإنكار لذلك. وكأنه ــ والله أعلم ــ أطلق على ذلك سبًّا وشتمًا على سبيل التجوُّز بجامع الإيذاء. فأما اللعن فلعله وقع الدعاء به نادرًا عند شدة الإنكار. ومن الحكمة في ذلك إعلام الناس أن ما يقع منه صلى الله عليه وآله وسلم عند الإنكار كثيرًا ما يكون على وجه إظهار الإنكار والتأديب، لا على وجه الحكم. وفي مجموع الأمرين حكمة أخرى، وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد علم من طباع أكثر الناس أن أحدهم إذا غضب جرى على لسانه من السبّ والشتم واللعن والطعن ما لو سُئل عنه بعد سكون غضبه لقال: لم أقصد ذلك ولكن سبقني لساني، أو لم أقصد حقيقته ولكني غضبت. فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينبه أمته على هذا الأصل ليستقر في أذهانهم، فلا يحملوا ما يصدر عن الناس من ذلك في حال الغضبِ على ظاهره جزمًا. وكان حذيفة ربما يذكر بعض ما اتفق من كلمات النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند غضبه، فأنكر سلمان الفارسي ذلك على حذيفة رضي الله عنهما، وذكر هذا الحديث (1). وسئل بعض الصحابة ــ وهو أبو الطفيل عامر بن واثلة ــ عن شيء من ذلك، فأراد أن يخبر، وكانت امرأته تسمع، فذكَّرتْه بهذا الحديث، فكفَّ (2). فكذلك ينبغي لأهل العلم أن لا ينقلوا كلمات العلماء عند الغضب، وأن يراعوا فيما نُقل منها هذا الأصل. _________ (1) أخرجه أحمد (23721) وأبو داود (4659). (2) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (2309) وقال الهيثمي في "المجمع": (8/ 479): "فيه عبد الوهاب بن الضحاك وهو متروك".

(9/176)


بل قد يقال: لو فُرض أن العالم قصد عند غضبه الحكم لكان ينبغي أن لا يعتدَّ بذلك حُكْمًا. ففي "الصحيحين" (1) وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "لا يقضينَّ حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان" لفظ البخاري. والحكم في العلماء والرواة يحتاج إلى نظر وتدبُّر وتثبُّت أشدَّ مما يحتاج إليه الحكم في كثير من الخصومات. فقد تكون الخصومة في عشرة دراهم، فلا يخشى من الحكم فيها عند الغضب إلا تفويت عشرة دراهم. فأما الحكم على العالم والراوي، فيخشى منه تفويت علم كثير، وأحاديث كثيرة، ولو لم يكن إلا حديثًا واحدًا لكان عظيمًا. ومما يخرج مخرج الذم لا مخرج الحكم: ما يقصد به الموعظة والنصيحة. وذلك كأن يبلغ العالِمَ عن صاحبه ما يكرهه له، فيذمه في وجهه أو بحضرة من يبلغه، رجاء أن يكفَّ عما كرهه له. وربما يأتي بعبارة ليست بكذب، ولكنها خشنة موحشة، يقصد الإبلاغ في النصيحة ككلمات الثوري في الحسن بن صالح بن حي (2)، وربما يكون الأمر الذي أنكره أمرًا لا بأس به، بل قد يكون خيرًا، ولكن يخشى أن يجرَّ إلى ما يكره، كالدخول على السلطان، وولاية أموال اليتامى، وولاية القضاء، والإكثار من الفتوى. وقد يكون أمرًا مذمومًا، وصاحبه معذور، ولكن الناصح يحب لصاحبه أن يعاود النظر أو يحتال أو يخفي ذاك الأمر. وقد يكون المقصود نصيحة الناس لئلا يقعوا في ذلك الأمر؛ إذ قد يكون لمن وقع منه أولًا عذر ولكن يخشى أن يتبعه الناس فيه غير معذورين. ومن هذا: كلمات التنفير التي تقدمت الإشارة _________ (1) البخاري (7158) ومسلم (1717) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. (2) انظر "تهذيب التهذيب": (2/ 285).

(9/177)


إليها في الفصل الثاني (1). وقد يستسمح العالم فيما يحكيه على غير جهة الحكم، فيستند إلى ما لو أراد الحكم لم يستند إليه، كحكاية منقطعة، وخبر من لا يُعَدُّ خبرُه حجة، وقرينة لا تكفي لبناء الحكم ونحو ذلك. وقد جاء عن إياس بن معاوية التابعي المشهور بالعقل والذكاء والفضل أنه قال: "لا تنظر إلى عمل العالم، ولكن سله يصدقك" (2). وكلام العالم ــ إذا لم يكن بقصد الرواية، أو الفتوى، أو الحكم ــ داخل في جملة عمله الذي ينبغي أن لا يُنظر إليه. وليس معنى ذلك أنه قد يعمل ما ينافي العدالة، ولكن قد يكون له عذر خفي، وقد يترخَّص فيما لا ينافي العدالة، وقد لا يتحفظ ويتثبت، كما يتحفظ ويتثبت في الرواية والفتوى والحكم. هذا، والعارف المتثبت المتحرِّي للحق لا يخفى عليه ــ إن شاء الله تعالى ــ ما حقُّه أن يُعَدَّ من هذا الضرب، مما حقُّه أن يعَدَّ من الضرب الآتي. وأن ما كان من هذا الضرب، فحقه أن لا يُعتدَّ به على المتكلَّم فيه ولا على المتكلِّم. والله الموفق. [ص 43] الوجه الثاني: ما يصدر على وجه الحكم فهذا إنما يُخشى فيه الخطأ. وأئمة الحديث عارفون، مُتَحَرُّون، متيقظون يتحرَّزون عن الخطأ جهدهم، لكنهم متفاوتون في ذلك. ومهما بلغ الحاكِم من التحري فإنه لا يبلغ أن تكون أحكامه كلها مطابقة لما في نفس الأمر. فقد تسمع رجلًا يخبر بخبر، ثم تمضي مدة، فترى أن الذي سمعته منه هو فلان، وأن خبره الذي _________ (1) تقدمت الإشارة إلى ذلك وغيره (ص 29 - 31). (2) انظر "تهذيب الكمال": (1/ 308) للمزي.

(9/178)


سمعته منه هو كيت وكيت، وأن معناه كذا، وأن ذاك المعنى باطل، وأن المخبِرَ تعمَّد الإخبار بالباطل، وأنه لم يكن له عذر، وأن مثل ذلك يوجب الجرح. فمن المحتمل أن يشتبه عليك رجل بآخر، فترى أن المخبر فلان، وإنما هو غيره. وأن يشتبه عليك خبر بآخر، إنما سمعت من فلان خبرًا آخر، فأما هذا الخبر فإنما سمعته من غيره. وأن تخطئ في فهم المعنى، أو في ظن أنه باطل، أو أن المخبر تعمَّد، أو أنه لم يكن له عذر، أو أن مثل ذلك يوجب الجرح، إلى غير ذلك. وغالب الأحكام إنما تُبنى على غلبة الظن، والظن قد يخطئ، والظنون تتفاوت. فمن الظنون المعتدّ بها: ما له ضابط شرعي، كخبر الثقة. ومنها: ما ضابطه أن تطمئن إليه نفسُ العارف المتوقي المتثبت بحيث يجزم بالإخبار بمقتضاه طيّبَ النفس منشرحَ الصدر والنفوس تختلف في المعرفة والتوقِّي والتثبُّت؛ فمن الناس من يغتر بالظن الضعيف، فيجزم. وهذا هو الذي يطعن أئمة الحديث في حفظه وضبطه، فيقولون: "يحدث على التوهم ــ كثير الوهم ــ كثير الخطأ ــ يهم ــ يخطئ". ومنهم المعتدل، ومنهم البالغ التثبُّت. كان في اليمن في قَضاء الحُجَرية قاض كان يجتمع إليه أهل العلم ويتذاكرون، وكنت أحضر مع أخي، فلاحظتُ أن ذلك القاضي ــ مع أنه أعلم الجماعة فيما أرى ــ لا يكاد يجزم في مسألة، وإنما يقول: "في حفظي كذا، في ذهني كذا" ونحو ذلك. فعلمت أنه ألزم نفسه تلك العادة حتى فيما يجزم به، حتى إن اتفق أن أخطأ كان عذره بغاية الوضوح. وفي ثقات المحدّثين مَن هو أبلغ تحرّيًا مِن هذا ولكنهم يعلمون أن الحجة إنما تقوم بالجزم، فكانوا يجزمون فيما لا يرون للشكِّ فيه مدخلًا،

(9/179)


ويقفون عن الجزم لأدنى احتمال. روي أن شعبة سأل أيوب السختياني عن حديث فقال: أشكُّ فيه. فقال شعبة: شكُّك أحبُّ إليَّ من يقين غيرك (1). وقال النضر بن شُميل عن شعبة: لأن أسمع من ابن عون حديثًا يقول فيه: "أظن أني سمعته" أحبُّ إليَّ من أن أسمع من ثقة غيره يقول: قد سمعت (2). وعن شعبة قال: "شكُّ ابنِ عون وسليمانَ التيمي يقين" (3). وذكر يعقوبُ بن سفيان حمادَ بن زيد، فقال: معروف بأنه يقصر في الأسانيد، ويوقف المرفوع، كثير الشك بتوقّيه، وكان جليلًا. لم يكن له كتاب يرجع إليه، فكان أحيانًا يذكر فيرفع الحديث، وأحيانًا يهاب الحديث ولا يرفعه (4). وبالغ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب فكان إذا سئل عن شيء لا يجيب حتى يرجع إلى الكتاب. قال أبو طاهر السِّلَفي: سألت أبا الغنائم النَّرْسي عن الخطيب فقال: "جبل، لا يُسأل عن مثله، ما رأينا مثله. وما سألته عن شيء فأجاب في الحال إلا يرجع إلى كتابه" (5). وإذا سبق إلى نفس الإنسان أمر ــ وإن كان ضعيفًا عنده ــ ثم اطلع على _________ (1) انظر "تهذيب التهذيب": (1/ 349). (2) "الجح والتعديل": (5/ 131). (3) "تهذيب التهذيب": (4/ 176). (4) "تهذيب التهذيب": (3/ 11). (5) "كتاب الأربعين" (ص 537) لعلي بن المفضل، و"السير": (18/ 575).

(9/180)


ما يحتمل موافقة ذلك السابق ويحتمل خلافه، فإنه يترجح في نفسه ما يوافق السابق، وقد يقوَى ذلك في النفس جدًّا وإن كان ضعيفًا. وهكذا إذا كانت نفس الإنسان تهوى أمرًا فاطلع على ما يحتمل ما يوافقه ويحتمل ما يخالفه، فإن نفسه تميل إلى ما يوافق هواها. والعقل كثيرًا ما يحتاج عند النظر في المحتملات والمتعارضات إلى استفتاء النفس لمعرفة الراجح عندها. وربما يشتبه على الإنسان ما تقضي به نفسه بما يقضي به عقله. فالنفس بمنزلة المحامي عند ما تميل إليه، ثم قد تكون هي الشاهد، وهي الحَاكم. والعالم إذا سخط على صاحبه، فإنما يكون سخطه لأمر ينكره، فيسبق إلى النفس ذاك الإنكار، وتهوى ما يناسبه، ثم تتبع ما يشاكله، وتميل عند الاحتمال والتعارض إلى ما يوافقه. فلا يؤمَن أن يقوَى عند العالم جرحُ مَن هو ساخط عليه لأمرٍ، لولا السخط لَعلِمَ أنه لا يُوجب الجرح. وأئمة الحديث متثبتون، ولكنهم غير معصومين عن الخطأ. وأهل العلم يمثِّلون لجرح الساخط بكلام النسائي في أحمد بن صالح (1). ولَمَّا ذكر ابن الصلاح ذلك في "المقدمة" (2) عقَّبه بقوله: "قلت: النسائي إمام حجة في الجرح والتعديل، وإذا نُسِب مثله إلى مثل هذا كان وجهه أنّ عين السُّخْط تبدي مساوئ، لها في الباطن مخارج صحيحة تَعْمى عنها بحجاب السُّخْط، لا أن ذلك يقع من مثله تعمّدًا لقدح يعلم بطلانَه". وهذا حق واضح، إذ لو حُمل على التعمّد سقطت عدالة الجارح، _________ (1) انظره في "تهذيب التهذيب": (1/ 37). (2) (ص 391).

(9/181)


والفرض أنه ثابت العدالة. هذا، وكلّ ما يُخشى في الذمّ والجرح يخشى مثله في الثناء والتعديل. فقد يكون الرجل ضعيفًا في الرواية، لكنه صالح في دينه، كأبان بن أبي عياش، أو غيور على السنة كمؤمَّل بن إسماعيل، أو فقيه كمحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى. فتجد أهل العلم ربما يثنون على الرجل من هؤلاء، غير قاصدين الحكم له بالثقة في روايته. وقد يرى العالم أن الناس بالغوا في الطعن، فيبالغ هو في المدح، كما يروى عن حماد بن سلمة أنه ذُكِر له طعن شعبة في أبان بن أبي عيا ش، فقال: أبان خير من شعبة (1). وقد يكون العالم وادًّا لصاحبه، فيأتي فيه نحو ما تقدم، فيأتي بكلمات الثناء التي لا يقصد بها الحكم، ولاسيما عند الغضب له، كأن تسمع رجلًا يذمّ صديقك أو شيخك أو إمامك، فإن الغضب قد يدعوك إلى المبالغة في إطراء من ذمه، وكذلك تقابل كلمات التنفير بكلمات الترغيب. وكذلك تجد الإنسان إلى تعديل من يميل إليه ويُحسِن به الظن أسرع منه إلى تعديل غيره. واحتمالُ التسَمُّح في الثناء أقرب من احتماله في الذمّ، لأن العالم يمنعه من التسمُّح في الذمّ الخوفُ على دينه لئلّا يكون غيبة، والخوفُ على عرضه، فإن مَن ذمَّ الناس فقد دعاهم إلى ذمِّه. ومن دعا الناسَ إلى ذمِّه ... ذمُّوه بالحقّ وبالباطل (2) _________ (1) "من اختلف العلماء ونقاد الحديث فيه" (ص 40) لابن شاهين. (2) من أبيات في "الأغاني": (14/ 157)، وهو في "رسائل الجاحظ": (1/ 355)، و"الحماسة البصرية" (854) ونُسِب لغير واحد.

(9/182)


ومع هذا كله، فالصواب في الجرح والتعديل هو الغالب، وإنما يحتاج إلى التثبت والتأمل فيمن جاء فيه تعديل وجرح. ولا يسوغ ترجيح التعديل مطلقًا بأن الجارح كان ساخطًا على المجروح، ولا ترجيح الجرح مطلقًا بأن المعدِّل كان صديقًا له، وإنما يستدل بالسخط أو الصداقة على قوَّة احتمال الخطأ إذا كان محتملًا. فأما إذا لزم من اطراح الجرح أو التعديل نسبةُ مَن صَدَر منه ذلك إلى الكذب أو تعمّد الباطل أو الغلط الفاحش الذي يندر وقوع مثله مِنْ مثله، فهذا يحتاج إلى بيِّنة أخرى، لا يكفي فيه إثبات أنه كان ساخطًا أو محبًّا. وفي "لسان الميزان" (ج 1 ص 16) (1): "وممن ينبغي أن يُتوقَّف في قبول قوله في الجرح: مَن كان بينه وبين مَن جرحه عداوة، سببُها الاختلاف في الاعتقاد. فإن الحاذق إذا تأمل ثَلْبَ أبي إسحاق الجوزجاني لأهل الكوفة رأى العجب! وذلك لشدّة انحرافه في النّصْب، وشهرة أهلها بالتشيع. فتراه لا يتوقف في جرح مَن ذَكَره منهم بلسان ذَلْق وعبارة طَلْقة، حتى إنه أخذ يليِّن مثلَ الأعمش وأبي نعيم وعبيد الله بن موسى وأساطين الحديث وأركان الرواية. فهذا إذا عارضه مثلُه أو أكبرُ منه، فوثَّق رجلًا ضعَّفه قُبِلَ التوثيق. ويلتحق به عبد الرحمن بن يوسف بن خِراش المحدّث الحافظ، فإنه من غلاة الشيعة بل نُسِب إلى الرفض، فيُتأنَّى في جرحه لأهل الشام؛ للعداوة _________ (1) (1/ 212). ذكر المؤلف أول النقل وآخره هكذا "وممن ينبغي ... ويُتأمل" ونقلناه بتمامه من مصدره.

(9/183)


البينة في الاعتقاد. ويلتحق بذلك ما يكون سببُه المنافسةَ في المراتب، فكثيرًا ما يقع بين العصريين الاختلاف والتباين لهذا وغيره. فكلُّ هذا ينبغي أن يُتأنَّى فيه ويُتأمَّل". أقول: قول ابن حجر: "ينبغي أن يتوقف" مقصوده ــ كما لا يخفى ــ التوقّف على وجه التأنّي والتروِّي والتأمل. وقوله: "فهذا إذا عارضه مثله ... قبل التوثيق" محلّه ما هو الغالب من أن لا يلزم من اطراح الجرح نسبةُ الجارح إلى الكذب، أو تعمّدِ الحكم بالباطل، أو الغلطِ الفاحش الذي يندر وقوعُه. فأما إذا لزم شيء من هذا، فلا محيص عن قبول الجرح، إلا أن تقوم بينة واضحة تثبت تلك النسبة. وقد تتبّعتُ كثيرًا من كلام الجوزجاني في المتشيِّعين، فلم أجده متجاوزًا الحدَّ. وإنما الرجل ــ لما فيه من النَّصْب ــ يرى التشيُّع مذهبًا سيئًا، وبدعةَ ضلالةٍ، وزيغًا عن الحقّ وخذلانًا؛ فيطلق على المتشيِّعين ما يقتضيه اعتقاده، كقوله: "زائغ عن القصد ــ سيِّئ المذهب"، ونحو ذلك. وكلامه في الأعمش ليس فيه جرح، بل هو توثيق، وإنما فيه ذمّ بالتشيع والتدليس. وهذا أمر متفق عليه: أن الأعمش كان يتشيَّع ويدلّس، وربما دلس عن الضعفاء، وربما كان في ذلك ما يُنْكَر. وهكذا كلامه في أبي نعيم. فأما عُبيد الله بن موسى فقد تكلم فيه الإمام أحْمد وغيره بأشدّ من كلام الجوزجاني. وتكلم الجوزجاني في عاصم بن ضَمْرة. وقد تكلم فيه ابن المبارك وغيره، واستنكروا من حديثه ما استنكره الجوزجاني. راجع "سنن البيهقي" (ج 3 ص 51). غاية الأمر أن الجوزجاني هوَّل، وعلى كلِّ حال فلم يخرج

(9/184)


من كلام أهل العلم. وكأنّ ابن حجر توهّم أن الجوزجاني في كلامه في عاصم (1) يُسِرُّ حَسْوًا في ارتغاء (2). وهذا تخيّل لا يُلتفت إليه. وقال الجوزجاني في يونس بن خباب: "كذاب مفتر" (3). ويونس وإن وثقه ابن معين، فقد قال البخاري: "منكر الحديث". وقال النسائي مع ما عرف عنه: "ليس بثقة". واتفقوا على غلوّ يونس، ونقلوا عنه أنه قال: إن عثمان بن عفان قتل ابنتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وأنه روى حديث سؤال القبر ثم قال: ههنا كلمة أخفاها الناصبة. قيل له ما هي؟ قال: إنه ليسأل في قبره: مَن وليّك؟ فإن قال: عليٌّ، نجا! فكيف لا يُعذر الجوزجاني مع نَصْبه أن يعتقد في مثل هذا أنه كذاب مفتر؟ وأشدُّ ما رأيته للجوزجاني هو ما تقدم عنه في القاعدة الثالثة من قوله: "ومنهم زائغ عن الحق ... " (4). وقد تقبل ابن حجر ذلك، على ما فهمه من معناه، وعظَّمه، كما مرَّ، وذكر نحو ذلك في "لسان الميزان" نفسه (ج 1 ص 11) (5). وإني لأعجب من الحافظ ابن حجر رحمه الله يوافق _________ (1) انظر كلام الجوزجاني في "الشجرة" (ص 34 - 42) وتعقب الحافظ في "التهذيب": (5/ 45). (2) "يُسِرُّ حسوًا في ارتغاء" مثلٌ يضرب لمن يُظهِر أمرًا وهو يريد خلافه. انظر "مجمع الأمثال": (3/ 525) و"فصل المقال" (ص 76). يريد أن الحافظ توهّم أن الجوزجاني أراد اتهام عاصم بالكذب وإن لم يفصح في كلامه بذلك. (3) (ص 50). (4) (ص 11) (5) (1/ 204).

(9/185)


الجوزجاني على ما فهمه من ذلك، ويعظمه، مع ما فيه من الشدة والشذوذ ــ كما تقدم ــ ويشنِّع عليه ههنا ويهوِّل فيما هو أخفُّ من ذلك بكثير عندما يتدبر! والله المستعان.

(9/186)


شكر الترحيب تأليف العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي العتمي اليماني رحمه الله تعالى 1312 - 1386 تحقيق عليّ بن محمد العمران

(9/187)


[ص 1] الحمد لله الآمر بالقسط على كل حال، وتحري الصدق في كلِّ مقال. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]. وقال عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان. {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. أما بعد، فإني كنتُ قبل سنوات شرعتُ في تأليف كتاب في تتبُّع مطاعن الأستاذ العلامة محمد زاهد الكوثري في أئمة الحديث، وثقات رواته في كتابه «تأنيب الخطيب»؛ لباعثٍ يأتي شرحه إن شاء الله تعالى، ورأيت (1) تلخيص نموذج منه يشتمل على ما أراه أهم تلك المناقشات؛ ليطلع الناس على ذلك، فلا يغترُّوا بمطاعن الأستاذ. _________ (1) غير محررة في الأصل ولعلها ما أثبت.

(9/189)


وطُبع ذاك النموذج باسم «طليعة التنكيل»، ثم رأيت الآن رسالةً للأستاذ في الجواب عن ذلك، سماها «الترحيب بنقد التأنيب». فأحبّ أن أنبه أولًا على ما وقع في طبع «الطليعة» مما لا ذنب لي فيه: ــ 1 ــ كنت أولًا تحدثت إلى بعض الإخوان عن اشتغالي بتأليف الكتاب، فسألني أن أكتب له وُرَيقة تشرح مقاصد الكتاب، فكتبت كلمةً اتفق أن وصلَتْ بعد ذلك إلى المعلّق على «الطليعة» (1)، فأثبتها ــ بدون تأمل ــ كمقدمة لـ «الطليعة»، وذلك عن غير أمري، وفيها ما يخالف ما في خطبة «الطليعة» نفسها، من تسمية الكتاب وترتيبه. ــ 2 ــ [ص 2] أرسلت «الطليعة» إلى رجل من سراة السلفيين بالحجاز (2)؛ ليطلع عليها، وإن رأى أن يقوم بنشرها فعل، وأذنت في التعليق عليها إذا لزم. فدفع ذلك السريُّ «الطليعةَ» إلى الأستاذ الفاضل عبد الرزاق حمزة المدرس بالمسجد الحرام، فأولُ ما صنع الأستاذ عبد الرزاق حمزة أن أثبت الورقة التي سبق ذكرُها كمقدمة لـ «الطليعة»، ولم يتدبَّر ما فيها من بعض المخالفة، كما مر. ثم علق على «الطليعة» تعليقاتٍ هو المسئول عنها، ولم أرتضها، وزاد _________ (1) علق على «الطليعة» ط الأولى: الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة رحمه الله، كما سيذكر المؤلف. (2) هو الشيخ الوجيه محمد حسين نصيف (ت 1392) رحمه الله.

(9/190)


مع ذلك فأصلح (في زعمه) مواضع في صُلب الكتاب، بتغيير بعض الكلمات، وزيادة بعض الكلمات والجُمَل، كلّ ذلك لأجل التشنيع والنكاية، إظهارًا لغضبه لما يعتقد أنه الحق. وكأنه استجاز ذلك لإذني المطلق في التعليق، ولأنه لم يتضح له قراءة خطي في بعض المواضع، أو رأى العبارةَ غير واضحة، فأصلح برأيه، ولظنِّه أن التشنيع والنكاية من مقصودي، فظنَّ أنه كلما كان أبلغ في ذلك كان أرضى عندي. وقد يكون بعضُ ذلك من صنيع من وَكَل إليه مراجعة «الطليعة» في مصر، ولا أدري من هو! وقد كنتُ عرضت النسخةَ التي أرسلتها إلى الحجاز على بعض أفاضل أهل العلم هنا (1)، فلما وصلت النسخة المطبوعة، ورأيناها استنكرنا جميعًا هذا الصنيع. وأطْلَعتُ بعضَ أهل العلم من الحنفية على النسخة المطبوعة، وقد كان اطلع على الأصل الذي بخطي. وبالجملة، فإني تألّمْت وتأسَّفت لذلك الصنيع المسئول عنه الأستاذ عبد الرزاق حمزة. ومع ذلك فإنني أقول: كما أنني أحبُّ أن يعذرني الناس في زللي، وكذلك الأستاذ محمد زاهد يحبّ أن يعذره الناس، فعلينا ــ معًا ــ[ص 3] أن لا نَضُنَّ على الأستاذ عبد الرزاق حمزة ــ بتسليم أن له حقًّا ــ أن يرى أن له عذرًا فيما صنعه. _________ (1) يعني في الهند.

(9/191)


ــ 3 ــ الطبع وقع بمصر بعيدًا عني، وعن الناشر، والمعلّق (1)، فلم تتيسر العناية بالتصحيح المطبعي، فوقعت في الطبعة أغلاط نعى الأستاذ الكوثري عليَّ بعضها (ص) (2) من «الترحيب»، ولم يوازن بين حالي وحاله. هذا، وما وقع في «الطليعة» مما شرحته دعاني إلى التوقف عن إرسال «التنكيل» للطبع على تلك الطريقة. وآمُلُ أن يتيسر لي ما هو أضبط من ذلك، إن شاء الله تعالى. * * * * _________ (1) كان الشيخ لا يزال في الهند، والناشر محمد نصيف في جدة، والمعلّق محمد عبد الرزاق حمزة في مكة المكرمة. (2) لم يذكر المؤلف الصفحة من الترحيب، وانظر (ص 324 - مع التأنيب).

(9/192)


 [الباب الأول] (1) النظر في خطبة «الترحيب»

تكلم الأستاذ فيها عن تأليفي، وتظنّى أنني شرعتُ فيه عَقِب نشر «التأنيب»، ثم تظنَّى في سبب تأليفي، وسبب علاقتي بالناشر، وسبب تعجيل طبع «الطليعة»، وأشار إلى الطعن في الشيخ محمد نصيف، والأستاذ عبد الرزاق حمزة. وقال (ص 5): «فربما يكون هذا الناقد من اللامذهبية الحُدَثاء ... ». ثم قال: «والواقع أنه لا يهمني لا هذا التعجُّل، ولا ذلك التمهُّل». أقول: وأنا ــ بحمد الله عز وجل ــ لا ألتفت إلى مناقشة الأستاذ في تلك التظنّيات، غير أن الواقع الذي يعرفه جماعة هنا، أن «التأنيب» لم يصل إلى الدائرة إلى الآن، وأني إنما وقفت عليه في شهر ربيع الثاني سنة (1366)، جاء بعض الأفاضل بنسخة منه، وعرض عليّ أن أنظر فيها، فأبيت؛ لأنني كنت أكره الخوض في تلك القضية، وقد عرفتُ مما اطلعت عليه قبلُ من تعاليق الأستاذ على بعض الكتب أنه كثيرًا ما يتطرَّف في نظري. فألحَّ عليّ ذلك الفاضل، فأطعته، وهنالك رأيت ما هالني! فبدا لي أن أكتب شيئًا، فشرعت في ذلك ــ لعله ــ الأربعاء لعشر بقين من شهر ربيع الثاني سنة (1366). ومع ذلك، لم أكن أواصل العمل، وربما يمضي الشهر وأكثر لا أنشط _________ (1) زيادة أرشد إليها صنيع المؤلف من ناحيتين، الأولى: إحالته على «الباب الأول» كما في (ص 35 و 45). الثانية: أنه عقد الباب الثاني (ص 27) ولم نجده عقد الباب الأول، فدلّ على أن النظر في الخطبة هو الباب الأول.

(9/193)


لكتابة شيء، وأنا إلى الآن لم أكمل قسم العقائد (1). هذا هو الواقع، أحوجني الأستاذ إلى شرحه، وإن كان لا تتعلق به فائدة! ثم ذكر (ص 6) الكلمات النابية التي وقعت في التعليق على «الطليعة»، وبعضها في «الطليعة» نفسها، منها عدة أسطر في (ص 20). وقد قدمتُ أنه لا ذنب لي فيها، ولو كانت مما عَمِلت يدي لما أنكرتها، بل إن كنت أرى لي مبررًا في الإقدام عليها ذكرته، وإلا اعترفت بزللي. والله المستعان. ثم ذكر الأستاذ (ص 6 - 7) وَصْفي له ببالغ التيقظ، وسَعَة الاطلاع؛ لأتوصَّل بذلك إلى دفع احتمال أن يكون مخطئًا في المواضع التي انتقدتها من «التأنيب»، وإثبات أنه تعمَّد ذلك. فأقول ــ عالمًا أن الله تبارك وتعالى رقيب حسيب ــ: أما ثنائي على معرفة الأستاذ وتيقُّظه، [ص 4] فذاك ما لا ريب فيه. ومن تأمل تأليفاته عَلِم ذلك حقّ العلم. وأما نسبتي له إلى التعمّد، فإنني بنيتُها على قرائن عِلْمية، مَنْ عَرَف فنّ الرجال والتراجم، وعرف معرفة الأستاذ، وأنصف= لا يسعه أن (2) يرميني بالمجازفة. _________ (1) قد كمل بحمد الله، وهو آخر الأقسام من التنكيل، وسماه المؤلف «القائد إلى تصحيح العقائد». (2) كانت العبارة: «لا يسعه إلا أن يوافقني عليها» ثم غيَّرها المؤلف إلى: «لا يسعه أن يرميني» ونسي الضرب على «إلا» فحذفناها.

(9/194)


وأذكر هنا من ذلك مثالًا واحدًا، وهو ما نقلته في «الطليعة» (ص 11 - 43) من تبديل الرواة، وأن الأستاذ ربما مرَّ به في الأسانيد الرجل، نعرف بالدلائل الفنيّة (1) أنه فلان الثقة، فيفتش عن رجل آخر ضعيف يوافق ذاك الثقة في الاسم واسم الأب، أو نحو ذلك، فيزعم أنه هو الواقع في السند. ثم ذكرتُ مِن ذلك اثني عشر رجلًا وقعوا في نحو عشرين رواية، وأقمتُ الدليل على ذلك، كما يراه المنصف في «الطليعة». وقد اعترف الأستاذ في «الترحيب» (2) ببعض ذلك، ومع هذا لم أجد له في الكتاب كله مثالًا واحدًا عكس هذا! بأن يقع في سندِ روايةٍ في المغامز رجلٌ ضعيف، فيخطئ الأستاذ فيبدله بثقة! ! فهذا مثال واحد للأمور التي أقفلت دوني باب الاقتصار على القول بأن الأستاذ غلط. هذا مع علمي بأني معرَّض للخطأ والغفلة. والله المستعان. [ص 5] أقول: الأستاذ حرّ أن يظنّ بي ما شاء، أما الواقع، فهو أن الذي غاظني وأنكرتُه من صنيع الأستاذ هو ما أنكره غيري من أهل العلم المستبصرين، من الحنفية وغيرهم. وذلك هو طعن الأستاذ في أكابر أهل العلم، وإساءته القول فيهم بدون حجة علمية. وقد شرحتُ ذلك في تراجمهم من «التنكيل»، وأفردت كلامه في الإمام الشافعي (3)؛ لطوله. _________ (1) هكذا رسمها، ولعله يعني دلائل فن علم الحديث. (2) انظر (ص 321). (3) في رسالته «تنزيه الإمام الشافعي عن مطاعن الكوثري» وهي ضمن هذه الموسوعة بتحقيقي.

(9/195)


ولما علمتُ أن الأستاذ كثير الأتباع، مسموع الكلمة، مقبول القول، رأيت أن مطاعنه الباطلة في الأئمة لا يسهل محو أثرها السيئ من صدور الناس إلا بيانُ تعدياته العلمية، سواءً أكانت مغالطة منه ــ كما ظننت ــ أم خطأ، كما يقول. وبعد، فلأستاذ ــ كما يعترف به هو ــ حريصٌ أشدَّ الحرص على إسقاط روايات المغامز. فلينظر المنصف في الأمثلة التي ذكرتها في «الطليعة»، وليتدبرها، وليراجع «التأنيب»، ويراجع هذا الرد «الترحيب»، ثم ليقض بالعدل، أَكَبَحَ الأستاذُ حرصَه على الإحجام عن الباطل، وقَصَره على تلمّس وجوه الحق، أم طمح وتعدّى؟ وأعترف أنا أنني فيما كتبته من «الطليعة» كنت حريصًا على بيان مغالطات الأستاذ. فليقضِ المنصف: أتعديتُ وجُرت، أم حاولت جهدي الاقتصار على وجوه الحق؟ [ص 6] ثم ذكر الأستاذ (ص 9 - 11) مقدِّمة في الأحداث التي اكتنفت نشر «تاريخ الخطيب»، وضمَّنها بعض الثناء على الإمام أبي حنيفة رحمه الله. وذلك لا يتعلق بما أنكرته عليه، وناقشته فيه. خلا أنه أشار إلى نبز المخالفين لأبي حنيفة بالبدعة، وهو يعلم أن فيهم مَن مقامه في صدور أهل العلم بالكتاب والسنة أعظم من مقام غيره من الأئمة. ومن عادة الأستاذ أنه يلجأ إلى التهويل، وتكثير السواد، والتشبث بالمشهورات ــ وإن لم تصح ــ، وبالأمور المؤثِّرة على العوام، وأشباه ذلك.

(9/196)


ولو كان يقتصر على الحجج العلمية، لكان خيرًا له. ومع ذلك، فأنا لا أناقشه في ذاك القبيل، على شرط أن لا يتعدّى إلى إساءة القول في الأئمة الذين مقامهم عند أتباعهم من المسلمين لا يقلّ عن مقام أبي حنيفة عند أتباعه. ومقامهم عند أهل العلم المحققين الأبرياء من الهوى ــ من الحنفية وغيرهم ــ عظيم جدًّا. حتى سمعت من بعض أهل العلم من الحنفية، وبُلِّغت عن غيره منهم الإنكار الشديد على الأستاذ. ثم ذكر الأستاذ (ص 12 - 15) بعض أسباب طعن بعضهم في أبي حنيفة، كالقول بالرأي، والإرجاء، والقول بخلق القرآن. وهذا لا تعلُّق له بمناقشتي، فأما المسائل الاعتقادية، فقد نظرت فيها في قسم الاعتقاد (1) تحرِّيًا لما هو الحقّ إن شاء الله، لا بقصد الطعن في المخالف. ثم ذكر (ص 15) شَرْح طريقته في البحث عن أسانيد المثالب، فقال: «منها أن أخبار الآحاد ــ على فرض ثقة رواتها ــ لا تناهض العقل، ولا النقل المستفيض، فضلًا عن المتواتر». [ص 7] أقول: هذا مما أوافقه عليه، ولكن ذلك لا يبيح المغالطة وسوء الطعن في الثقات، بل يقال ــ مثلًا ــ: هذا سند رجاله ثقات، ولكن متنه باطل؛ لمعارضته المعقول، أو المتواتر، أو نحو ذلك. _________ (1) من كتاب التنكيل واسمه «القائد إلى تصحيح العقائد». وقد سبقت الإشارة إليه (ص 8).

(9/197)


ولو اكتفى الأستاذ بهذا لما احتجت إلى أن أتعب في مناقشته. وكذلك من يريد مناقشته في الموضوع، يكفيه أن ينازعه ــ إن أمكنه ــ في صحة دلالة العقل، أو في ثبوت التواتر. وبذلك يتوفَّر الوقت على الأستاذ ومخالفيه، ويسهل الوصول إلى الحق عن قرب، ولا نكون ضُحْكة بين الناس، يقول أحدنا: إذا طعنوا في إمامي طعنت في إمامهم، وإذا طعنوا في مشايخي طعنت في مشايخهم، وإذا طعنوا في مذهبي طعنت في مذهبهم، وهكذا يؤول حال أهل العلم إلى المهاترة، ولا يوصل إلى حقيقة علمية. نعم، إن المدَّعى عليه إذا كان قابضًا للدار أو الأرض ــ مثلًا ــ، قد يحب المشاغبة وطول المنازعة، والخروج عن موضوع الدعوى، على أمل أن تخور قُوى المدَّعي؛ لطول المصابرة، فيسكت، كما أن المدّعي قد يحبّ مثل ذلك، على أمل أن يسأم المدَّعَى عليه طولَ النزاع، فيصالحه على الأقل. لكن هذا إنما يكون في أهل الباطل، فأما إذا كان المدَّعي والمدَّعَى عليه محبين للحق، فما عليهما إلا مفاوضة ساعة، بأن ينظر كلٌّ منهما في حجة صاحبه، فإن لم يتفقا رجعا إلى قاضٍ أو محكَّمٍ، وشرحا له الواقع كما هو. لكن حالنا ــ كما لا يخفى ــ حال أهل الباطل، والله أعلم بالمُبْطِل، فأحد المختلفين رمى صاحبه بأنه مبطل مشاغب له، وصاحبه يكيل له أضعاف ذلك. وإلى الله المشتكى. [ص 8] قال الأستاذ (ص 15) أيضًا: «ومنها أن بين علماء الجرح والتعديل من يسجل أسماء المجهولين في عداد الثقات».

(9/198)


أقول: وهذا مما أوافقه عليه، وقد أفضتُ في شرح هذا في ترجمة ابن حبان من «التنكيل» (1)، وبينتُ أن توثيقه لمن لم تثبت معرفته له لا يرفع عنه الجهالة، وذكرتُ حالَ غيره من الأئمة. ثم قال الأستاذ (ص 15): «ومنها: أنه تقرَّر عند أهل العلم أن فاقد الشيء لا يعطيه». أقول: هذا مما أوافقه عليه، على معنى أنّ مَن ثبت أنه ليس بثقة، فلا يقبل منه توثيق لغيره، لكن بنى الأستاذ على هذا قوله: «فأمثال أبي نعيم، والبيهقي، والخطيب، ممن ثبتت شدة تعصبهم الموجبة لرد أنبائهم فيما يمس تعصبهم= لا يقبل قولهم في توثيق رجال المثالب». أقول: هذا لا أوافق عليه، بل أقول: مَن ثبت عند أهل العلم المتثبِّتين الذين لم يغلب عليهم سلطان الهوى أنه بلغ من حاله في الوقوع في غيره ما يُسقط عدالتَه، فهو مجروح لا يقبل توثيقه لموافقٍ ولا مخالف. غايةُ الأمر أن يُستأنس بثنائه على مخالفه استئناسًا. فأما مَنْ لم يبلغ ذلك، ولكن عُرِف بمَيلٍ، فإنما يجب التثبُّت في قوله الذي يوافق ميله، ويُتَروَّى فيه، فإن ظهر ما يدلّ على خطائه أو تساهله أو تسرُّعه، وخالفه مَنْ هو مثله في العلم والفضل، أو أقوى منه= ترجح قول المخالف. وأما إذا لم يكن هناك مرد لقوله إلا اتهامه بأنه كذب أو تعمَّد الحكمَ بالباطل؛ فلا سبيل إلى هذا بعد تسليم أنه ثقة في نفسه. _________ (1) (رقم 200).

(9/199)


وهذه القاعدة قد حررتُها في قسم القواعد من «التنكيل» (1)، وحشدتُ هناك ما حضرني من النقل والنظر والشواهد. والخطيب إذا اتفق أنه وثَّق بعضَ الرواة الذين اتفق أنْ كانوا من رواة المغامز= فليس هذا عند الإنصاف من مَظنَّة ميله؛ لأن الراوي لم يقتصر على تلك الرواية، بل له روايات [ص 9] أخرى كثيرة قد يكون فيها ما يخالف ميل الخطيب. فاتهام الخطيب أنه وثقه لأنَّ عنده رواية موافقة لميله إسرافٌ وتعدٍّ. على أنني قد بسطت ترجمة الخطيب في «التنكيل» (2) بما يَعْرِف به المنصف جليَّة الحال. والتوسُّع في ردّ رواية العالم لما فيه غضّ من مخالفه، يلزمه ردّ رواية العالم فيما فيه مدحٌ لموافقه، ثم يجرُّ هذا إلى ما لا نهاية له إلا إسقاط السنة النبوية ألبتة، فضلًا عن غيرها من علوم الرواية، حتى الفقه نفسه. وهذا ما لا سبيل إليه. فعلى المتثبت أن يقف عند الحق، ومن لم يَسَعْه الحقّ، فلا وسَّع الله عليه! فإن غالبته نفسُه على التطرُّف بدا (3) فنظر ما يجر إليه تطرُّفه. قال: «ومثل أبي الشيخ صاحب كتاب «العَظَمة»». أقول: هذا مما لا أوافق الأستاذ عليه، وترى ترجمة أبي الشيخ في «التنكيل» (4). _________ (1) (1/ 88 - 99). (2) (رقم 26). (3) كذا. (4) (رقم 129).

(9/200)


قال: «ومرادي من كون الرجل غير موثَّق كونه غير موثَّقٍ مِن أهل الشأن». أقول: أما مَنْ لم يكن عندك ولا عند غيرك من أهل الشأن ــ أي ممن يقبل ثوثيقهم ــ، فقد يسوغ لك أن تقول فيمن لم يوثقه غيره: «غير موثَّق». وأما من كان عند غيرك من أهل الشأن، فإنه إذا وثَّق رجلًا لم يسغ لك أن تطلق تلك الكلمة. على أنه لعلك إذا راجعت كلامك تبين لك أن جماعةً ممن تزعم ــ عند حاجتك ــ أنه لا يعتدّ بتوثيقهم، قد احتججتَ أنتَ مرّةً أخرى ــ أو مرارًا ــ بتوثيقهم! فإن لم يكن هذا قد وقع منك، فعسى أن تحتاج إليه فيما بعد، فتحرِّي الحقّ خيرٌ وأسلم. قال (1): «وكم من راوٍ يوثق ولا يحتج به، كما في كلام يعقوب الفسوي». أقول: سيأتي ما في هذا. قال: «بل كم ممن يوصف بأنه صدوق ولا يعدّ ثقةً، كما قال ابن مهدي: أبو خَلْدة صدوق مأمون، الثقة سفيان وشعبة». أقول: لا ريب أن كلمة «صدوق» دون كلمة «ثقة». هذا هو الاصطلاح الغالب، فإذا قام دليل اتبع. فكلمة ابن مهدي التي ذكرها الأستاذ حملها أهلُ العلم على أن ابن مهدي أراد بالثقة هنا ما هو أجل وأكبر مما عليه الاصطلاح الغالب، ولهذا ضرب المثل بـ «شعبة»، و «سفيان»، وهما الغاية في الثقة. _________ (1) كتب على طرة الصفحة تجاهها: «مقدمة»، وكذا مقابل كلامه الآتي بعد سطر.

(9/201)


وقد قال يزيد بن زُرَيع، والنسائي، وابن سعد، والعجلي، والدارقطني، في أبي خلدة: «ثقة». وقال ابن عبد البر: «هو ثقة عند جميعهم، وكلام ابن مهدي لا معنى له في اختيار الألفاظ» (1). وقد تتبع كلام جماعة من الأئمة في الجرح والتعديل، ليعرف اصطلاحهم، [ص 10] فوجدت منهم مَن يطلق «ثقة» على معنى أنه صالح في دينه، حتى ربما صرَّح بعضهم فقال في الرجل: «ثقة ضعيف الحديث»، أو «ثقة ضعيف جدًّا». وسترى ذاك الفصل في «التنكيل» (2)، إن شاء الله تعالى. قال (ص 15 - 16): «ومنها: أن خبر الآحاد يكون مردودًا عند مصادمته لما هو أقوى منه ... ففي هذا الموضع لا داعي للبحث عن رجال السند من كل ناحية ... ». أقول: قد تقدم ما هو قريب من هذا، ونبَّهتُ على ما فيه، وأنا فلم أناقش الأستاذ في عدم ذكره روايات التوثيق فيمن يريد جرحه، لكن إذا كان فيما سكت عنه ما يدفع ما ذَكَرَه، فلا بدّ من المناقشة، وذلك ليُعْطَى ذاك الراوي ما هو حقه في نفس الأمر، ويبين مع ذلك أن روايته معارضة لما هو أقوى منها، ويبين ذاك الأقوى؛ ليعرف الناظر ما له وما عليه. قال (ص 16): «وأما مراعاة حرفية الجرح فغير ميسورة كل وقت، وكفى الاحتفاظ بجوهر المعنى». أقول: الأستاذ يعلم ما في الرواية بالمعنى عن الكتب المؤلفة المتيسِّر الوقوف عليها كل وقت! فإن أبى إلا الرواية بالمعنى، فعلى الأقل يحافظ _________ (1) انظر الأقوال فيه في «تهذيب التهذيب»: (3/ 88). (2) (1/ 120 - 123).

(9/202)


على جوهر المعنى تمامًا. قال (ص 16) أيضًا: «فطريقتي على هذا في البحث عن رجال المثالب: النظر أولًا في متن الخبر، لأستجلي مبلغ مخالفته للعقل (1) ... فإن كان الخبر ظاهر السقوط، بمخالفته للعقل أو للنقل، فلا أرى داعيًا إلى التوسع في إبداء وجوه الخلل في السند، بل أكتفي ببعض مآخذ في الرجل، مدونة في كتب أهل الشأن ... غير مستقصٍ». أقول: قد أحسن الأستاذ بالتصريح بهذا، أما أنا فإني في نقد «التأنيب» لم ألتفت إلى متون الحكايات، وإنما كنت أنظر كلام الأستاذ في السند، ثم أراجع المظان، وأكتب ما تبين لي. هذا، وقد كان الأولى بالأستاذ أن يبيِّن البرهان العقلي أو النقلي، لسقوط المتن، ثم يكتفي به، فإن لم يكن وثوقه بقوة تلك الحجة فعلى الأقل يلزمه تحرِّي الحقّ في الكلام في الرواة، فإن رأى أن تحرِّي الحق لا يكفي لسقوط السند، قال: رجال السند ثقات، والمتن باطل؛ لمعارضته الحجة القطعية، أو نحو ذلك. [ص 11] قال (ص 16) أيضًا: «وعادتي أيضًا في مثل تلك الأخبار تطلُّب ضعفاء بين رجال السند بادئ بدء، ضرورةَ أنّ الخبر الذي ينبذه العقل أو النقل لا يقع في رواية الثقات». أقول: لك الحقّ في ذلك، ولكن لكل شيء حدّ، وعلى العاقل المتثبِّت أن لا يغلو في حسن الظن بنفسه في مظنة هواه، فلعل بعض ما ترى أن العقل _________ (1) في «الترحيب»: «أو».

(9/203)


ينبذه لو عرضته على معتدل المزاج، عارف بأحوال الناس، لما وافقك على رأيك، فأما مخالفك فأبعد وأبعد. وأنت أيها الأستاذ تكرر قولك: «إنا ننظر إلى فلان بغير العين التي تنظرون إليه». هذا أو معناه. وهو حقّ لا ريب فيه. فمخالفك إذا رآك تسامحت لا يعذرك، كما أنه إذا وقع منه مثل ذلك لا تعذره، فأما إذا بلغ الأمر المغالطة فالأمر واضح. قال: «ومجرد التوافق في الاسم لا يبرِّر نسبة الخبر التالف إلى الثقات، لأجل تصحيح الأخبار الكاذبة». أقول: لا ريب أن التوافق في الاسم لا يجوِّز تعيين أحدهما بغير حجة، وأبعد من ذلك وأَبْطَل تعيين أحدهما والدلائل العلمية والقرائن المستند إليها في مثل تلك المباحث تقضي بأنه غيره. أما قولك: «لأجل تصحيح الأخبار الكاذبة» فهذه تهمة ترميني بها، والله عز وجل أعلم بحقيقة الحال. وأما أنت أيها الأستاذ فشدّة حرصك على إسقاط تلك الروايات مما تعترف به، ولا ألومك في ذلك، ولكن لكلِّ شيء حد! قال (ص 17): «وإني أرى الأصل في أنباء أبي حنيفة هو الفضل والنبل ... بخلاف الأستاذ اليماني، فإنه يرى الأصل هو الشر، فيحاول إثبات كلّ شر .... ». أقول: أما الفضل والنبل فمما أعتقده إلى الحدِّ الذي يعتقده مَنْ لا هوى له في التعظيم بغير حق، ويزعم ــ والله رقيبه وحسيبه ــ[ص 12] أنه لا هوى له في الغضّ، وإنما يستقي معلوماته من المصادر التي يرى صحتها، ويثق

(9/204)


بصحّة دلالتها. فقولك: «إني أرى الأصل هو الشر، فأحاول إثبات كل شر» لا أوافقك عليه. على أنك إنما رأيت من كلامي «الطليعة»، وهي في متناول أهل العلم، فلينظروا فيها، وليوازنوا بين حالي وحال غيري، والله المستعان. قال (ص 17): «والمسيء حقًّا إلى نفسه وإلى الأئمة هو الناقد المنتهج منهج تركيز المثالب على أكتاف أبي حنيفة، بتصحيح الكلمات النابية على ألسنة أئمة كبار، بمحاولة توثيق رواتها ... ». أقول: أما أنا فقد قدمت أني لم ألتفت إلى وزن الروايات بعقلي ولا هواي، وإنما كان همي مناقشة الأستاذ في طعنه في أئمة السنة. على أني أزعم أني لو وقفت على كلمة أرى أنها تضرُّ قائلها، كالشافعي ــ إمام مذهبي ــ، أو الحميدي، أو غيرهما، فإنه لا يجرمني ذلك على أن أحيف في النظر في رجال السند، وأتخبَّط في الكلام فيهم، بل أقول ما يقتضيه النظر، فإن ظهر لي أنهم ثقات، قلت: إنهم ثقات، ثم إن احتجت إلى أن أنظر في حال قائل تلك الكلمة، حَرَصت على توخي العدل، إن شاء الله تعالى. ولست أدَّعي براءتي من الهوى، ولا تمكّني من التغلُّب عليه كما يجب، ولكن الناس متفاوتون في اتباع الهوى، فعلى المنصف أن يتدبر «الطليعة»، ثم ينظر نسبة حظي من اتباع الهوى إلى حظ غيري. [ص 13] ثم قال الأستاذ (ص 17 - 18): «ثم إن محاولة الاختفاء وراء الرجال في معامع الجدل ليست من شأن الأبطال ... ثم إن كل واحد من الأمة فيه ما يؤخذ أو يرد، فمحكّ القول هو الحجاج في كلِّ موقف، ومنزلة كلِّ عالم إنما تتبين بقرع

(9/205)


الحجة بالحجة ... ». والذي فهمته من هذا الكلام: أن التمسك في الغضِّ من أبي حنيفة بالمقالات المروية، وبتوثيق رواتها، عجزٌ من صاحبه، وطريق معرفة منزلته إنما هو قرع الحجة بالحجة. فأقول: قد علمت أنه لا شأن لي في الغضِّ من أبي حنيفة، وإنما اضطرني إلى مناقشة «التأنيب» ما فيه من الغضِّ من أئمة السنة بما لا أرى له مسوِّغًا. هذا هو مقصودي، ولو كان لي هوًى في الغضِّ من أبي حنيفة لكان لي شأن آخر. لكن الأستاذ يحرص ــ كما يتراءى لي ــ في أن يضطرني إلى سلوك تلك الطريق، لمغزًى يرمي إليه! ولا يدري لعله لولا أن ديني يحجزني عن ذلك للبّيْتُ طلبه، ثم لعله لا يحمد مغبَّة ذلك. ومَن ظنّ ممن يلاقي الحروبَ ... بأنْ لا يُصابَ فقد ظنّ عجزا (1) فأما الدنيا فالأستاذ يعلم أن لكلِّ بضاعة سوقًا! ذكر قال (ص 18 - 19): « ... يحتم على الناقد ... أن يدرس ملابسات فتنة القول بخلق القرآن، وما ترتَّب عليها ... ». وحاصل هذه العبارة ــ فيما أفهم ــ أن الخلاف الاعتقادي بين أتباع أبي حنيفة وأهل الحديث أدَّى إلى كلام بعضهم في أبي حنيفة، واختلاق بعضهم الروايات عن السابقين، ثم غلوّ بعض المشاهير من أهل الحديث في المقالات التي يسميها الأستاذ «التجسيم»، وحشد الروايات فيها. _________ (1) البيت للخنساء «الديوان» (ص 273 - دار عمار).

(9/206)


وأقول: فتنة القول بخلق القرآن المشؤومة لم يقتصر أثرها على أحد الجانبين، بل عملت عملها هنا وهنا، ولعل عملها في جانب الأستاذ أشد. ولا أحبّ أن أخوض في ذلك هنا، فأما المعتقد فقد أودعتُ قسم الاعتقاد من «التنكيل» ما فيه كفاية لاستقاء الحقِّ من معدنه، والله ولي التوفيق. ثم ذكر كلامًا، قد تقدم حاصله، فلا أعيده. ثم قال: «ومن المضحك تظاهره (يعنيني) بأنه لا يعادي النعمان، مع سعيه سَعْي المستميت في توثيق رواة الجروح، [ص 14] ولو بالتحاكم إلى الخطيب نفسه المتهم فيما عمله». أقول: يأبى الأستاذ إلا أن يستغلَّ محبّة الناس لأبي حنيفة، وتوقيرهم له، في قطع ألسنة الصِّدق عن الدفاع عن أئمة السنة، كأنه لا يبالي أن يسقطوا، أو تسقط بسقوطهم السنة النبوية، وتسقط علوم الرواية، حتى الفقه نفسه. أما أنا فقد قدمتُ أن غاية مقصودي تبرئة أئمة السنة عما نسبه إليهم الأستاذ وهم في نظري براء منه، وأحوجني ذلك ــ كما قدمت ــ إلى تتبع عثرات الأستاذ؛ ليُعْلَم مقدار تحرِّيه وتثبُّته. فأما الاستماتة، فإن كانت في حشد الأدلة لإحقاق الحق، فلا حرج فيها، والمذموم هو الاستماتة الموقعة في التهوّر والمغالطة. والخطيب ــ في نظري ونظر أئمة الحديث في عصره وما بعده ــ غير متهم بتعمّد الكذب، أو تعمّد حكم بباطل. وهواه له حدّ لا يقتضي اتهامه بما

(9/207)


ذكر، وقد بسطت ترجمته في «التنكيل» (1). قال الأستاذ: «مع أنه لو ثبتت ثقة حَمَلتها ثبت مقتضاها». أقول: هذا ينافي ما ادعاه الأستاذ مرة بعد مرة، من معارضة تلك الروايات للمعقول والمتواتر، أو على الأقل لما هو أقوى منها؛ فإن الرواية إذا كانت مخالفة لما هو أقوى منها رُدَّت، ولم يلزم من ذلك جرح رواتها، إذا كان قد عُرِف أنهم ثقات، بل تُحْمَل على سهو أو خطأ، أو رواية بالمعنى، أو حمل على معنى غير ظاهر، أو غير ذلك مما هو معروف. لكني كما لم أُعْنَ بالغض لم أُعْنَ بالذبّ. قال الأستاذ (ص 19 - 20): «وحذفه للمتون لأجل إخفاء مبلغ شناعتها عن نظر القارئ، فلو ذكرها كلها مع كلام الكوثري في موضوع المسألة لنبذ السامع نقد هذا الناقد في أول نظرة». [ص 15] أقول: إذا محاسنيَ اللّاتي أُدِلّ بها ... عُدّت ذنوبًا فقلْ لي كيفَ أعتذرُ (2) كأنّ الأستاذ يظنُّ الناسَ كلّهم حنفيةً متحمِّسين، ولا يدري أن في الناس كثيرون (3) ليسوا بحنفية، وكثيرون منهم حنفية غير ناضجين، وفيهم وفيهم. وقد سمعت من أهل العلم والرزانة من يقول: إن الأستاذ أساء إلى أبي حنيفة وأصحابه بنقله نصوص تلك الروايات في «التأنيب»، فإن تلك _________ (1) رقم (26). (2) البيت للبحتري «ديوانه» (2/ 308). (3) كذا في الأصل، والوجه «كثيرين».

(9/208)


الروايات كان معظمها مدفونًا في «تاريخ بغداد»، حتى بعد أن طبع «تاريخ بغداد»؛ فإنه كتاب كبير لا يتيسر تحصيله إلا لأفراد قليلين. لكن الأستاذ أثبت تلك الكلمات في كتاب صغير، وسعى في تكثير نسخه، وزيادة انتشاره، فوصل إلى أيدي أناس كثير، فإن كان منهم الموافق الذي لا يتأثر بذلك، فمنهم غيره ممن ذكرت سابقًا، وكثير منهم لا يقنعهم ردّ الأستاذ، وهب (1) أنهم لا يميلون إلى بطلانه، لكنهم متوقفون، وتفعل تلك الكلمات في أنفسهم فعلها. وبعد، فلو أني ذكرت تلك المقالات لكان للأستاذ أن يتهمني بأنني ذكرتها تشفيًا وتشنيعًا، ولا ريب أن قوله هذا يكون أولى بالقبول. فأما ذكرها مع كلام الأستاذ فيها، فقد أوضحتُ أن ذلك ليس من مقصودي، على أنه ليس من الضروري أن أوافق الأستاذ في كلِّ كلام تكلم به في تلك المقالات، فذكري لها يستدعي أن أناقش الأستاذ فيما لا أوافقه عليه. وهذا أبعد عن مقصودي وأبعد. ثم قال (ص 20): «وهو يسعى في تحميل الروايات الكاذبة على أكتاف ثقات يضعهم في الأسانيد بدل الضعفاء، وأنا أسعى في رد البضاعة الزائفة إلى أصحابها المتهمين ... ». [ص 16] أقول: قد قدّمتُ أنه لا شأن لي بمتون الروايات أكاذبة زائفة، أم على خلاف ذلك، وإنما اعتنيت بإثبات تطرُّف الأستاذ. وعلى فَرْض أن تلك الروايات ــ أو بعضها ــ كاذبة زائفة، فإنما الحق تركها لصاحبها الذي هي له في نفس الأمر، وإن ضرته أو ضرت غيره. _________ (1) رسمها في الأصل: «وهم» ولعله سبق قلم.

(9/209)


فأما جعلها لغيره، انتصارًا للهوى، فعدوان لا ريب فيه، سواء أكان الهوى حقًّا أم باطلًا. هذا رأيي، فإن كان الأستاذ يستحلُّ مثل هذا العدوان، اتباعًا للمثل العصري: «الغاية تبرر الواسطة»، فله رأيه! وأقول ما قال الأستاذ في خاتمة هذا الفصل: «هذا طريق، وذاك طريق، والله المستعان». ثم ذكر الأستاذ (ص 21 - 23) الفصل الثاني في تتبُّع اعتراضاتي. قال: «فمن ذلك رميه إياي في مفتتحي القسمين من طليعته بالطعن في الأئمة، من غير ذكر أي دليل». [ص 17] وفي (ص 36، 143) من «التأنيب» شيء عن أحمد، وكفى بالطعن في اعتقاد أخصّ الناس به، كابنه عبد الله، وخواصّ أصحابه، مع محاولة استيعابهم= محاولة للطعن فيه. وفي الكلام في محنة خلق القرآن من الرمز والهمز ما لا يسع المناقش أن لا يعتدّ به. وفي (ص 116، و 100، و 105) من «التأنيب» بعض ما يتعلق بمَالِك، وكلامُه في الشافعيّ لا يقلُّ عن ذلك، بل لعله أكثر، وحسبك بطعنه في نَسَبِه. وقد شرحتُ ذلك في ترجمة الشافعي من «التنكيل» (1)، ورأيت أن أفردها عن «التنكيل» لطولها (2). _________ (1) (رقم 189). (2) تقدمت إشارة المؤلف إلى ذلك (ص 9).

(9/210)


وكأنَّ الأستاذ يتجاهل هنا أن الإسراف في رفع إحدى الكفتين إبلاغ في حط الأخرى. والإسراف في رفع أحد العِدْلين إسقاط للآخر، قد يؤدّي إلى إسقاطهما معًا. أولا يسمح لي الأستاذ ــ وأنا شافعي ــ بأن أعتقد رُجحان الشافعي على ما قرره الفقهاء؟ ! وإن صحّ ما تظنَّاه أنني من اللامذهبية الحدثاء، يعني الذين يقولون: لا تقلد أحدًا، أو الذين ينتسبون إلى مذهب، ولكن إذا بان لهم رُجحانُ دليلِ غيره اختاروه؛ فالغالب في هؤلاء اتباع النصوص. وتفاوت الأئمة فيما يتعلق بالرواية، ومعرفة النصوص ــ على ما هو الظاهر المشهور ــ معروف. ومن المعلوم أن الفريقين لا يوافقون الأستاذ على استنباطاته، بل يعدون بعضها مكابرة. هذا، وقد ضاق الأستاذ ذرعًا بتقديم (1) ابن عبد البر في «الانتقاء» مالكًا، فالشافعي، على أبي حنيفة في الذِّكْر، فذهب يتمحَّل لذلك وجهًا في تعليقه عليه، غير مبالٍ بمخالفته للظاهر الذي يدلّ عليه حال ابن عبد البر وقاله. وقد غضب الأستاذ على إمام الحرمين تلك الغضبة، لسعيه في ترجيح مذهب الشافعي. [ص 18] وإن كلفني الأستاذ أن أكتفي بإظهاره الثناء على الأئمة في بعض المواضع، على ما فيه من دخائل، وأغضُّ النظر عمّا وراء ذلك= فهلّا حَجَزه _________ (1) تفشى المداد عند هذه الكلمة ولعلها ما أثبت.

(9/211)


ما يراه في «الطليعة» (ص 4) (1): «فرأيت الكوثري تعدّى ما يوافقه عليه أهل العلم من توقير أبي حنيفة، وحسن الذبِّ عنه، إلى ما لا يرضاه عالم متثبِّت»؟ ! هلَّا حَجَزه هذا عن رميي بمعاداة أبي حنيفة، وأنني إنما بينت ما وقع في «التأنيب» من تبديل الثقة بالضعيف، ونحو ذلك؛ لتثبيت تلك المتون؟ ! مع أنه لو لم يكن لي مغزى في ذلك إلا بيان الواقع لكفاني عذرًا، كيف ولي مغزى آخر كما تقدم؟ ! ثم قال (ص 24): «وكذلك ليس من معتقد أهل الحق رفع الصحابة رضي الله عنهم إلى مستوى العصمة». أقول: ولا أنا ادعيتُ ذلك. ولم يقتصر الأستاذ في كلامه في أنس على أن يقول: «ليس بمعصوم»، بل قال ما تراه في «الطليعة» (ص 99) (2). _________ (1) (ص 3). (2) (ص 77).

(9/212)


 الباب الثاني في النظر في أجوبته عن اعتراضاتي في «الطليعة»

جواباته عن الفرع الأول، وتحته اثنا عشر مثالًا

وموضوع هذا الفرع: تبديل الأستاذ في الأسانيد التي يجب الطعن فيها الراوي الثقة بسَمِيٍّ له متكلَّم فيه. * المثال: (1 و 2). راجع «الطليعة» (ص 11 - 20) (1). حاول الأستاذ (ص 24 - 30) الجواب عما في «الطليعة» (12 - 20)، ودعاه إلى التطويل أنها أول صدمة! ولا بأس بأن أسايره، ليتبين مقدار فوزه أو خيبته! أصل السند في «تاريخ الخطيب» (2) هكذا: «أخبرنا محمد بن عيسى بن عبد العزيز البزاز بهمذان، حدثنا صالح بن أحمد التميمي الحافظ، حدثنا القاسم بن أبي صالح، حدثنا محمد بن أيوب، أخبرنا إبراهيم بن بشار، قال: سمعت سفيان بن عيينة». فقال الأستاذ في «التأنيب» (ص 97): «في سنده صالح بن أحمد التميمي، وهو ابن أبي مقاتل القيراطي، هروي الأصل، ذكر الخطيب عن ابن حبان: أنه كان يسرق الحديث ... والقاسم بن أبي صالح الحذَّاء: ذهبت كتبه بعد الفتنة، فكان يقرأ من كتب _________ (1) (ص 5 - 13). (2) (13/ 412).

(9/213)


الناس، وكُفّ بصره. قاله العراقي. ونقله ابن حجر في «لسان الميزان» (1). ومحمد بن أيوب بن هشام الرازي: كذَّبه أبو حاتم ... ». [ص 19] وفي «الطليعة» (ص 13): «أما صالح المذكور في السند فهو صالح بن أحمد، وهو موصوف في السند نفسه بأنه: 1 - تميمي. 2 - وحافظ. 3 - ويظهر أنه هَمَذاني؛ لأن شيخه والراوي عنه هَمَذانيان. 4 - ويروي عن القاسم بن أبي صالح. 5 - ويروي عنه محمد بن عيسى بن عبد العزيز. 6 - وينبغي بمقتضى العادة أن يكون توفي بعد القاسم بمدة. 7 - وينبغي بمقتضى العادة أن [لا] (2) يكون بين وفاته، ووفاة الراوي عنه مدة طويلة مما يندر مثله. وهذه الأوجه كلها منتفية في حق القيراطي، فلم يوصف بأنه تميمي، ولا بأنه حافظ، وإن قيل: كان يُذكر بالحفظ، فإن هذا لا يستلزم أن يطلق عليه لقب «الحافظ»، ولم يذكر أنه همذاني، بل ذكروا أنه هروي الأصل سكن بغداد، ولم تُذكر له رواية عن القاسم، ولا لمحمد بن عبد العزيز رواية عنه. وكانت وفاته سنة (316)، أي: قبل وفاة القاسم باثنتين وعشرين سنة، وقبل وفاة محمد بن عيسى بن عبد العزيز بأزيد من مائة سنة». _________ (1) (6/ 371). (2) أسقطت في الطبع. [المؤلف].

(9/214)


ولم أكن وقفت على وفاة محمد بن عيسى، وإنما بنيت ما تقدم على ما صرحوا به من أن الخطيب أدركه بهمذان، وتاريخ رحلة الخطيب معروف، ثم بعد الإرسال للطبع وقفت على الترجمة في «تاريخ بغداد» نفسه (ج 2/ ص 406)، وفيها أنه قتل سنة (430). ووقع هناك «محمد بن عيسى بن العزيز»، وقد أشار إليه الأستاذ (ص 29) من «الترحيب»، ولكن يظهر أنه عرف أني لم أكن وقفت على الترجمة، فضنَّ عليّ بالتصريح! بل قال: «على أن زيادة «عبد» على جد محمد بن عيسى، المدوَّن في «تاريخ الخطيب» باسم «العزيز»، ليكون: ابن عبد العزيز، المتأخر الوفاة، ربما تكون مما لا يقتنع به سوى الأستاذ الناقد الذي لا يرى بأسًا في جعل «الصواف» هو «السواق»». وهذه العبارة موجَّهة، يمكن حمل قوله: «المدون في تاريخ الخطيب» على ما وقع في السند، فقد يكون الأستاذ قصد هذا الإيهام، لكي أردَّ عليه بأن الذي في السند «محمد بن عيسى بن عبد العزيز»، وأنه نفسه أثبته كذلك في «التأنيب»، وفي «الترحيب»، فحينئذٍ يتضاحك الأستاذ قائلًا: «هذا اليماني يتغالط، ليرميني بدائه، [ص 20] فقيسوا سائر كلامه على هذا»! وفي الترجمة في «التاريخ»: «سمع ... ، وصالح بن أحمد الهمذاني الحافظ، ... وكتبت أنا عنه بهمذان». والأستاذ يرى .... (1) أنه هو الذي في السند، سقط من نسخة «التاريخ» لفظ «عبد»، ولذلك اقتصر في التوقف عن ذلك على قوله: «ربما». _________ (1) هنا كلمة لم تتبين كتبت فوق السطر.

(9/215)


أقول: فعلى هذا، يبدل مكان قولي في آخر العبارة السابقة المنقولة عن «الطليعة»: «بأزيد من مائة سنة»، بلفظ «بمائة وأربع عشرة سنة». فأنا إنما احتججت بسبعة أوجه، كما أثبته مع الأرقام، ومعلوم أنه إذا كان منها ما لا يكفي بمفرده لإثبات الدعوى، ولكن المجموع كافٍ، لم ينبغِ لعالم المناقشة بأن منها ما لا يكفي وحده. على أنّ مَن تتبع صنيع أهل العلم في التمييز بين المتفقين وجدهم كثيرًا ما يفزعون إلى قرينة إنما تفيد الرجحان. راجع «فتح المغيث» (ص 449 - 450) (1). ومما قاله هناك: «ويزول الإشكال عند أهل المعرفة بالنظر في الروايات ... أو باختصاص الراوي بأحدهما، إما بأن لم يرو إلا عنه فقط ... أو بأن يكون من المكثرين عنه، الملازمين له، دون الآخر ... أو بكونه ــ كما أُشير إليه في معرفة أوطان الرواة ــ بَلَديّ شيخه، أو الراوي عنه إن لم يُعْرَف بالرحلة، فإن بذلك وبالذي قبله يغلب على الظن تبيين المهمل. ومتى لم يتبين ذلك بواحد منها ... فيرجع فيه إلى القرائن والظن الغالب». ومعلوم أن المعروفين بصحبة جابر بن عبد الله الصحابي، إذا قال أحدهم ــ وإن كان مدلسًا ــ: «سمعت جابرًا يقول: قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ... » = لا يتردَّد أهل العلم ــ قديمًا وحديثًا ــ في حمله على جابر بن عبد الله الصحابي، وإن عرفوا أنه كان في عصر الراوي أو بلده كثيرون اسم كل منهم «جابر». وهكذا الحال في «أنس» وغيره، وأمثلة ذلك أكثر من أن تحصى. _________ (1) (4/ 283 - طبعة الجامعة السلفية).

(9/216)


والأستاذ نفسه يجري على ذلك حيث لا يخالفه هواه. ونظير ذلك صنيع أهل العلم في الترجيح بين النصوص المتعارضة، فإنهم يكتفون بأدنى مرجِّح. [ص 21] ثم بينتُ بعد ذلك أن تلك الأوجه السبعة إنما تنطبق على الحافظ صالح بن أحمد بن محمد أبي الفضل التميمي الهمذاني، روى عن جماعة، منهم: القاسم بن أبي صالح، وروى عنه جماعة، منهم: محمد بن عيسى، وكانت وفاته سنة (384)، ووقع في «الطليعة» (ص 15): «وإذ كانت وفاة هذا الحافظ سنة (384)، فهي متأخرة عن وفاة القاسم بستة (كذا) وأربعين سنة، ومتقدمة على وفاة محمد بن عيسى بنيف وثلاثين سنة». أما إذا تبين أن وفاة محمد بن عيسى كانت سنة (430) ــ على ما مر ــ فينبغي أن تُجْعَل هذه العبارة هكذا: « .... فهي متأخرة عن وفاة القاسم بست وأربعين سنة، ومتقدّمة على وفاة محمد بن عيسى بست وأربعين سنة ... ». ثم قلت: «ومثل هذا يكثر في العادة ... ». فاعترض الأستاذ في «الترحيب» أولًا جزمي بأن المذكور في السند هو صالح بن أحمد بن محمد أبو الفضل التميمي الهمذاني الحافظ الثقة المأمون، لا صالح بن أحمد بن أبي مقاتل الهروي المطعون. قال الأستاذ (ص 25): «فيقول [اليماني] في شخص اكتنفه راويان من أعلى وأسفل همذانيان: ينبغي أن يكون ذلك الشخص همذانيًّا أيضًا. وينبغي أيضًا أن لا يحدِّث هرويٌّ في همذان، ولا همذاني في هراة». أقول: هذا حله في الوجه الثالث من السبعة، وحاصل ذاك الوجه: أنا إذا

(9/217)


وجدنا رواية لمحمد بن عيسى الهمذاني عن صالح بن أحمد عن القاسم بن أبي صالح الهمذاني، ثم وجدنا في الرواة «صالح بن أحمد» رجلين، أحدهما همذاني دون الآخر، فالأقرب أن يكون الهمذاني هو الواقع في السند. وأنت خبير أن كون هذا أقرب لا يدفع أن يكون خلافه محتملًا احتمالًا قريبًا، وهو الذي أبداه الأستاذ. فالنتيجة أن احتمال «صالح بن أحمد» في المثال المذكور لأن يكون هو غير الهمذاني قريب، واحتمال أن يكون هو الهمذاني أقرب. فبقيت دعواي سالمة. قال: «وينبغي ــ أيضًا ــ أن لا ينسب من هو تميمي نسبًا إلى هراة بلدًا». أقول: يريد بهذا الخدش في الوجه الأول، وأنت خبير أن حاصل الوجه الأول أنَّا إذا وجدنا [ص 22] لمحمد بن عيسى رواية عن صالح بن أحمد التميمي عن القاسم بن أبي صالح، ثم وجدنا رجلين: نُسِب أحدهما في ترجمته في الكتب بأنه تميمي، ولم يُنْسَب الآخر في ترجمته، على تعدد مواضعها هذه النسبة= فإنه يكون الأقرب أن الواقع في السند هو المصرَّح في ترجمته بأنه تميمي. واعتراض الأستاذ هاهنا أبعد من الذي قبله، كما لا يخفى على المتدبِّر. وإنما يكون في هذا احتمالٌ قريبٌ، واحتمالٌ بعيدٌ، لا قريب وأقرب. قال الأستاذ: «وينبغي ــ أيضًا ــ أن لا يدعى حافظًا من يذكر بالحفظ». أقول: يريد بهذا الخدش في الوجه الثاني.

(9/218)


وحاصله: أننا إذا وجدنا رواية لمحمد بن عبد العزيز عن صالح بن أحمد الحافظ عن القاسم بن أبي صالح، ففتشنا، فوجدنا رجلين يقال لكل منهما: صالح بن أحمد، أحدهما منعوت في ترجمته حيث وقعت بـ «الحافظ»، ولا يُكاد يُذكر في غيرها إلا مع هذا النعت، وهو مذكور في طبقات الحفاظ. والآخر لم يُطْلَق عليه هذا اللقب، لا في ترجمته حيث وقعت، ولا حيث يذكر، وإنما في ترجمته أن بعض أهل العلم ذكره وقال: «كان يُذْكَر بالحفظ». والحال في هذا الوجه كالحال في وجه «الهمذاني»، إن لم يكن كوجه «التميمي». قال الأستاذ: «فيبني [اليماني] على هذه الانبغاءات البتّ في الرجل الثقة الذي يحاول إحلاله محل الضعيف». أقول: قد علمت أنني لو بنيتُ الحكمَ على واحدٍ من هذه الثلاثة، بناء على أنه الأرجح، لكان لذلك وجه، لكني لم أبنِ على واحدٍ منها، ولا على تلك الثلاثة، بل على مجموع سبعة، هذه الثلاثة أضعفها! فشاغب الأستاذ في تلك الثلاثة، ثم ذكر أنه لا فائدة للمشاغبة في رجل أو رجلين! ! ثم ذكرت في «الطليعة» (1) أن الأستاذ زعم أن «محمد بن أيوب»، الواقع في السند، هو محمد بن أيوب بن هشام ــ الضعيف ــ. والنظرُ يقتضي أنه محمد بن أيوب بن يحيى بن الضريس الحافظ الثقة. وذلك لوجهين: الأول: أن المشهور في ذلك العصر، والمتبادر عند الإطلاق، إذا أطلق _________ (1) (ص 12).

(9/219)


«محمد بن أيوب» هو ابن الضريس الحافظ. الثاني: أن الواقع في السند يروي عن إبراهيم بن بَشّار الرمادي، وأن المِزِّي ذكر في ترجمة إبراهيم في الرواة عنه: محمد بن أيوب بن يحيى بن الضريس. وعضدتُ ذلك بقولي: «وقد احتج الكوثري (ص 114) في معارضة ما رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن ابن أبي سريج بما رواه الخطيب عن البرقاني عن أبي العباس بن حمدان عن محمد بن أيوب عن ابن أبي سريج، وذلك بناءً من الكوثري على أن شيخ ابن حمدان هو محمد بن أيوب بن يحيى بن الضريس؛ لشهرته، هذا مع أنه لا يُعْرَف لابن الضريس رواية عن ابن أبي سريج». ثم ذكرتُ ما ظهر لي من القرائن التي تدلُّ أن التبديل كان عمدًا. ثم ذكرتُ أنه لم يكن للأستاذ فائدة في كلامه في هذا السند؛ فإن تلك المقالة نفسها ثابتة عن إبراهيم بن بشار من غير هذه الطريق. ذكرها ابنُ عبد البر في «الانتقاء» (ص 148) (1) عن «تاريخ ابن أبي خيثمة» قال: حدثنا إبراهيم بن بشار ... و«الانتقاء» تحت نظر الكوثري كل وقت ... قال الأستاذ (ص 25) من «الترحيب»: «ولم يدر [اليماني] المسكين أن ذلك الخبر في السقوط بحيث لا يمكن أن يقوم على قدم، فضلًا عن قدمين ... لاستحالة المتن، ووجود ما يسقط الخبر سوى هذا الرجل» يعني: صالح بن أحمد. _________ (1) (ص 275 - المحققة).

(9/220)


[ص 24] (1) وقال (ص 27): «ومحمد بن أيوب: أعدُّه ابن هشام الرازي ــ المضعَّف ــ، وهو يجعله ابن الضريس ــ الموثَّق ــ، فماذا يفيد ذلك؟ ». وقال (ص 25): «فما الفائدة المرجوَّة من المشاغبة في رجل أو رجلين في السند، بعد استحالة المتن في العادة، ووجود إبراهيم بن بشار الرمادي ... ». [ص 25] أقول: أما أنا فقد بينتُ مقصودي في الباب الأول (2)، والذي ينبغي أن يُسأل هو الأستاذ، فيقال له: فما الذي دعاك إلى تلك المغالطة، ثم إلى هذه المكابرة؟ ! [ص 26] ثم ذكر في (ص 26) أنه قد سبقه إلى القول بأن صالحَ بن أحمد في السند [هو المضعّف] (3) الملكُ المعظّم، واللجنة الأزهرية القائمة بالتعليق على «تاريخ الخطيب». قال: «ولا أدري كيف فات الأستاذ الناقد كل هذا؟ ». أقول: لم أقف إلى الآن على رد الملك عيسى، ولا على الطبعة الثانية للمجلد الثالث عشر من «تاريخ بغداد»، وإنما تيسر لي الوقوف على الطبعة الأولى. ثم أقول: أما الملك عيسى، فقد شرحتُ بعض حاله في ترجمة الشافعي (4)، وقد عهدتُ من الأستاذ لا يقلده، بل خالفه في بعض المواضع. قال (ص 56) من «التأنيب» في ذِكْر مسدَّد بن قطن: «وأبو مسدد قطن بن _________ (1) ضرب المؤلف على أغلب صفحتي 24 و 25. (2) (ص 9 - 10). (3) زيادة يستقيم بها السياق، وانظر «الترحيب» (ص 320 - 321). (4) «التنكيل» (رقم 189).

(9/221)


إبراهيم ... ، وليس المراد: قطن بن نسير كما ظن ذلك الملك المعظم، وما وقع في كتاب الملك المعظم ــ المطبوع ــ من ذكر «بشير» بدل «نسير» تصحيف، وكذلك ما وقع في تعليق الطبعة الثانية من ذكر «بشر» بدل «نسير» تصحيف آخر، ومتابعة للواهم في «قطن»، ولا شأن لابن نسير هنا، وإنما المراد هو أبو مسدد قطن بن إبراهيم، لما ذكرنا، ولم يكن لقطن بن نسير ابن يُسمَّى مسدّدًا». وفي هذا بيانٌ لقيمة كلام الملك عيسى في زعمه أن صالحًا هو ابن أبي مقاتل، ولقيمة متابعة اللجنة الأزهرية ــ إن كانت تابعت الملك عيسى، ولم تقلد الأستاذ ــ، وبيان لأن الأستاذ لا يقلد عيسى ولا اللجنة. وفي «الطليعة» قرائن استدللت بها على معرفة الأستاذ بالواقع وتغافله عنه، والعلم عند الله عز وجل. ثم أعاد الأستاذ (ص 28) ذِكْر سَبْق الملك عيسى واللجنة الأزهرية إلى ما ذكر، ثم قال: «ومع هذا .. لا مانع لدي من قبول تحقيق الأستاذ اليماني في عدِّ صالح بن أحمد في السند هو الموثَّق، مقدّرًا بحثه، شاكرًا فضله، ومعترفًا بأني كنت وهمت». أقول: لا جَرَم لو بدأ الأستاذ بهذا ونحوه، ثم عَدَل في قوله، وجرى على هذا المنهاج؛ لاتهمت نفسي فيما زعمت من أنه فعل ما فعل عن عمد، ولتلقيت صنيعه بغاية الشكر والتقدير، والتبجيل والتوقير، لا لأن في ذلك إظهار مزية لي، فإن قدري عند نفسي حقير، ولكن لشرف الرجوع إلى الحق إذا تبين، وفضيلة الاعتراف بسبق الوقوع فيما لا يُسْتَحسن، ثم لبعثني ذلك على تغيير كثير من عبارات [ص 27] «التنكيل». لكن جاء هذا الاعتراف مدفونًا فيما لا يناسبه، فقد قال الأستاذ عقب

(9/222)


ذلك: «لكن قبولي لتحقيقه هكذا لا يوصله إلى نتيجة يتوخَّاها من إثبات أن أبا حنيفة جريء في دين الله». أقول: قد علمتَ أن المتن لم يكن يهمني، وأنه إذا ثبت كان له محامل سائغة. ثم حاول الأستاذ الرجوع فيما وهب! فقال: «على أن صالح بن أحمد المضعَّف عند الملك المعظَّم واللجنة العلمية الأزهرية، وصالح بن أحمد الموثَّق عند الأستاذ الناقد، كلاهما من طبقة واحدة، على تأخُّر وفاة أحدهما، وبعد ثبوت المعاصرة بينهما لا يقبل في الطبقات المتأخرة ادعاء أن هذا أخذ عن فلان، وعنه فلان، بخلاف ذاك، إلا من جِهْبِذ خِرِّيت، وأين هو؟ ». أقول: يأبى الأستاذ إلا أن يعيدها جَذَعة! فأقول: بين وفاتي الرجلين ثماني وستون سنة، فإن ساغ للأستاذ مع ذلك أن يعدَّهما من طبقة واحدة، فبين وفاة الراوي عن صالح بن أحمد ووفاة القيراطي مائة وأربع عشرة سنة! وقد عَلِم الأستاذ ــ وعَلِم كلُّ عارفٍ بعلوم الرواية ــ أن الجِهْبِذ الخِرِّيت ــ إن كان هناك من الأئمة من يعترف له الأستاذ بهذا اللقب! ــ كان يجزم بنحو ما جزمت به لدليل دون مجموع تلك الأوجه السبعة بكثير. ثم ذكر (ص 29) أنه لا يبعد سقوط اسم بين اسمي الراويين. يعني أن يكون الأصل: محمد بن عبد العزيز البزاز بهمذان ... حدثنا صالح بن أحمد التميمي الحافظ. فيكون بين محمد وصالح رجل سقط، ويكون صالح هو القيراطي.

(9/223)


وذهب الأستاذ يُقَرِّب احتمال ذلك! [ص 28] وأقول: ذكَّرني هذا كلمة لأبي حنيفة في شأن المناظرة (1)، والأستاذ يعلم أن هذا الاحتمال الذي أبداه يحتاج مُدَّعيه إلى حجة، ولا حجة هنا، ولا شبهة، بل الأدلة متوفّرة على نفي ذلك، كما سبق. ثم ذكر (ص 26 - 27) حال القاسم بن أبي صالح. وفي كلامي في «الطليعة» (ص 16 - 17) (2) ما يُعْلَم به وهن كلام الأستاذ هنا وسقوطه، فلا حاجة لإعادته. ثم قال (ص 29): * المثال 3. «الطليعة» (ص 20 - 22) (3). قال الأستاذ (ص 30): «فمن أين له أن يزعم أن من روى عنه التاجر لم يرو عنه حور؟». أقول: جواب هذا في «الطليعة» نفسها. ثم قال (ص 31): «على أن التاجر على فرض أنه هو شيخ يعقوب الفسوي، يكون ممن لا يحتج به في نظر يعقوب، حيث يقول: كتبتُ عن ألف شيخ وكسر، كلهم ثقات، ما أحد منهم أتخذه عند الله حجة إلا أحمد بن صالح بمصر، وأحمد بن حنبل في العراق ... فماذا يفيد توثيق من لا يحتج به. وقد حذف الأستاذ [اليماني] عجز كلام الفسوي هذا؛ لئلا يخدش في الاحتجاج به». _________ (1) لم أتبين الكلمة المقصودة. (2) (ص 10 - 11). (3) (ص 13 - 15).

(9/224)


أقول: الذي في السند من رواية يعقوب عن أحمد بن الخليل. فزعم الأستاذ أن أحمد بن الخليل هو الملقَّب «حور»، وهو ضعيف جدًّا. وبينت أنا أنه أحمد بن الخليل الكاتب، وأقمتُ الدليلَ على ذلك. فمن ذلك: أن رواية يعقوب عن أحمد بن الخليل الكاتب معروفة مذكورة في الكتب، دون «حور». وأكدتُ ذلك بأن يعقوب إنما كتب عن الثقات، فالظاهر أن لا يروي عن «حور» الذي ليس بثقة. [ص 29] وذكرتُ شاهدًا لهذا المعنى الأخير عبارة يعقوب المذكورة، إلى قوله: «كلهم ثقات». وذلك محصّل لمقصودي على كلِّ حال؛ لأن بقية العبارة، وهو قوله: «ما أحد منهم أتَّخِذه عند الله حجة إلّا أحمد بن صالح بمصر، وأحمد بن حنبل في العراق» = لا ينافي مقصودي قطعًا، فإن مقصودي أنه يبعد أن يكون أحمد بن الخليل الواقع في السند هو «حور»؛ لأن «حور» غير ثقة، ويعقوب كتب عن الثقات. والقطعة التي تَرَكْتُها من عبارة يعقوب لا تنافي هذا، ضرورة أنها لا تعطي أن شيوخ يعقوب سوى الأحمدين ليسوا بثقات. ودعوى الأستاذ في «الترحيب» أنه يصير المعنى: أن شيوخ يعقوب سوى الأحمدين ثقات لا يحتج بهم= مغالطة جديدة. أما أولًا: ففي شيوخ يعقوب أمثال حِبَّان بن هلال، وأبي نُعيم الفضل بن دُكَين، وأبي الوليد الطيالسي، ممن هم عند أهل العلم أثبت من أحمد بن صالح، وقد احتجَّ بهم أحمد بن حنبل وأحمد بن صالح ــ معًا ــ،

(9/225)


بل مدار السنة عليهم وعلى مَنْ هو مثلهم أو دونهم. فكيف يُعْقَل أن يزعم يعقوب أنه لا يحتج بهم؟ ! وأما ثانيًا: فالعبارة بظاهرها ــ فضلًا عن حقيقتها ــ لا تعطي هذا المعنى، إذ لا يلزم من كون الراوي ليس بحجة أن لا يكون ثقة؛ لأن كلمة «حجة» أبلغ من كلمة «ثقة»، وقولهم: «فلان ليس بحجة»، وإن كانت معدودةً من صيغ الجرح، فليس مثلها قولهم: «فلان ثقة وليس بحجة». وقد قال عثمان بن أبي شيبة في أحمد بن عبد الله بن يونس: «ثقة وليس بحجة» (1). وروي عن أبي داود أنه سُئل عن رجل فوثقه، فقيل له: هو حجة؟ قال: الحجة أحمد بن حنبل (2). ولا يخفى أن أبا داود يحتج بكثير جدًّا من الرواة غير أحمد بن حنبل. وأما ثالثًا: فالذي يظهر من فحوى العبارة ــ مع ما قدمته ــ أن يعقوب لم يرد بقوله: «أتخذه عند الله حجة» الاحتجاج بروايته، وإنما أراد بها الاقتداء في العقيدة، والهدي، والسيرة، والفقه، والورع. هذا، ولو وفق الأستاذ لما لا يبعد عن الصواب ذاك البعد، لقال: عبارة يعقوب إنما تعطي [ص 30] أن العدد الذي ذكره من شيوخه «ألف شيخ وكسر» ثقات، ولا يلزم من ذلك أن يكون شيوخه كلهم ثقات؛ أما أولًا: فلأن العدد لا مفهوم له، فقوله: «كتبت عن ألف شيخ وكسر» لا يلزم منه أنه لم _________ (1) انظر «تهذيب التهذيب»: «1/ 50). (2) رواه عنه الآجرّي. انظر «تهذيب الكمال»: (3/ 290)، و «تهذيب التهذيب» (4/ 207 - 208) في ترجمة سليمان بن عبد الرحمن بن عيسى التميمي.

(9/226)


يكتب عن غيرهم، فلعل العدد المذكور هم الذين يقول يعقوب: إنهم ثقات. ويكون قد كتب عن جماعة من الضعفاء. ثم يستدل الأستاذ على إثبات هذا بأن يراجع ترجمة يعقوب في الكتب، ويتتبع شيوخه، فيجد فيهم بعض الضعفاء. ومن هذا احترزت في «الطليعة»، فلم أقل: «شيوخ يعقوب ثقات»، ولا «شيوخ يعقوب كلهم ثقات»، وإنما قلت (ص 21) (1): «وقد قال يعقوب بن سفيان ... ». وقلت (ص 22) (2): «ويعقوب كتب عن الثقات». وذلك أنني لم أراجع في ذاك الوقت شيوخ يعقوب، بل قلت في نفسي: إن كان فيهم مَنْ هو ضعيف، فإن ذلك لا يدفع مقصودي، إذ غاية الأمر أن يبقى أن في شيوخ يعقوب ضعفاء، وغالب شيوخه ثقات، فيحصل مقصودي بأن الأولى الحمل على الغالب. وهذا كافٍ لما قصدته من تأييد الدلائل الأخرى، فتدبر. ولم يكن مقصودي هناك إثبات أن أحمد بن الخليل التاجر ثقة في نفسه، ومع ذلك أشرت إليه بقولي (ص 21) (3): «وتوثيق الأئمة له، وفيها». أي في ترجمته من «التهذيب». * المثال 4. في «الطليعة» (ص 22 - 29) (4). _________ (1) (ص 14). (2) (ص 14). (3) (ص 14). (4) (ص 15 - 20).

(9/227)


اعترف الأستاذ (ص 33) على جمجمة لا أناقشه فيها!، فمن أحب فليقابل كلامه بما في «الطليعة». * [ص 31] المثال 5. من «الطليعة» (ص 29 - 30) (1). تعرض الأستاذ لهذا (ص 33)، وثبت على دعواه، فلا بأس بالإيضاح. فأقول: هناك رواية عن الحسن بن علي الحُلْواني: حدثنا أبو عاصم، عن أبي عوانة. فزعم الأستاذ أن أبا عاصم هو العبَّاداني الضعيف، لا النبيل الثقة، فدفعت ذلك بأن النبيل «هو المشهور بأبي عاصم في تلك الطبقة، والمراد عند الإطلاق، وعنه يروي الحُلْواني، كما في ترجمة الضحاك من «تهذيب التهذيب» (2)، وترجمة الحلواني من «تهذيب التهذيب» (3)». وهناك رواية ثانية من طريق أبي قِلابة الرقاشي عن أبي عاصم عن سفيان الثوري. وثالثة عن مسدد عن أبي عاصم عن الثوري. ذكرهما الأستاذ في «التأنيب»، وقال: «وربما يكون أبو عاصم في السندين هو العباداني»، فدفعتُ ذلك بنحو ما تقدم، وبأن النبيل هو المعروف بالرواية عن الثوري، كما في ترجمة النبيل من «تهذيب التهذيب» (4)، وترجمة _________ (1) (ص 20 - 21). (2) (4/ 451). (3) (2/ 302) ولم يذكره ضمن من روى عنه، وذكره في «تهذيب الكمال»: (2/ 153). (4) (4/ 451).

(9/228)


الثوري من «تهذيب المزي» (1)، وعنه يروي أبو قلابة الرقاشي كما في ترجمته من «تاريخ بغداد» (2). فاقتصر الأستاذ ــ فيما يظهر من كلامه ــ على الكلام في الأثر الأول، واعتذر عن قول: «هو المشهور في تلك الطبقة، والمراد عند الإطلاق» بقوله: «عادة أصدقائنا هؤلاء أن يذكروا كنية لضعيف يشاركه فيها ثقة، تمهيدًا لادعاء أنها في سند المثالب لذلك الثقة». وكأنه يشير بهذا إلى أن الرواة أطلقوا حيث كان ينبغي لهم أن يقيدوا، قصدًا منهم لإيهام أن أبا عاصم هو النبيل. ولم يتعرّض لبقية ما استدللت به، لكن عارضه بأن أبا عاصم «من كبار المناضلين عن مذهب أبي حنيفة بالبصرة، بكل ما أوتي من حول وطول، وقد امتلأت الكتب بما قاله ورواه في مناقب أبي حنيفة ومآثره». أقول: لا شأن لي بتتبع ما روي عن أبي عاصم في المناقب؛ لئلا يهيج إخواننا ويموجوا قائلين: لم يقتصر اليماني على السعي في تثبيت المثالب [ص 32] حتى أخذ يسعى في تقويض روايات المناقب! بل أقتصر هنا على لَفْت نظر العارف إلى أمرين: الأول: هل يسوغ اتهام الرواة الثقات بذاك التدليس الشنيع؟ الثاني: هل تثبت رواية الحُلْواني والرقاشي ومسدَّد عن أبي عاصم العبَّاداني، ورواية العباداني عن الثوري، بمجرد استبعاد أن يروي النبيل عن _________ (1) (3/ 219). (2) (10/ 425).

(9/229)


غيره ما فيه غضّ من أبي حنيفة؟ * المثال 6. «الطليعة» (ص 30 - 31) (1). حاصل هذا المثال: أنها جاءت رواية عن «الأبّار: أخبرنا أحمد بن إبراهيم قال: قيل لشريك .... ». فذكر الأستاذ أن أحمد بن إبراهيم هو النُّكْري، ولفظه لفظ انقطاع، ولم يدرك شريكًا إلا وهو صبي. فقلت في «الطليعة» (30 - 31): «أول مذكور ممن يقال له أحمد بن إبراهيم في «تاريخ بغداد»، و «تهذيب التهذيب»: أحمد بن إبراهيم بن خالد الموصلي، وذكر الخطيب سماعه من شريك». هذا هو الصواب، ووقع في المطبوع: «وذكر إسماعه من شريك». ونبه الأستاذ على أنه ليس في «تهذيب التهذيب» ذكر سماعه من شريك. وصدق الأستاذ. قال الأستاذ في «الترحيب» (ص 33): «وجود النكري في سند الخبر أو عدم وجوده لا يقدم ولا يؤخر»! أقول: المقصود بيان الواقع. وراجع «الطليعة». وقلت في «الطليعة» ــ أيضًا ــ: «وأما قوله: «لفظ انقطاع» فيردُّه أن أحمد بن إبراهيم الموصلي ثقة، وقد ثبت سماعه من شريك، ولم يكن مدلسًا ... ، وسيأتي شرح هذه القاعدة، وبعض دقائقها في القسم الأول من «التنكيل»، إن شاء الله تعالى». _________ (1) (ص 21 - 22).

(9/230)


فقال الأستاذ: «ليس «قيل» مثل «عن» عندهم». أقول: هذا من تلك الدقائق التي شرحتها في قسم القواعد من «التنكيل» (1) بأدلتها وشواهدها، فلا أطيل بذلك هنا. وذكر الأستاذ هنا أن الخطيب لا يحتج به فيما هو متهم فيه. يعني في شأن سماع الموصلي من شريك. وقد تقدم الكلام على هذا في الفصل ... (2) من الباب الأول. وبعد .. فهب أنه لم يثبت السماع، فالنكري الذي اختاره الأستاذ ــ مع تأخر ترجمته في «تاريخ بغداد»، و «التهذيب» ــ لم يُذْكر له سماع من شريك، فلماذا اختاره الأستاذ؟! * المثال 7. «الطليعة» (ص 31 - 34) (3). ذكر الأستاذ في «الترحيب» (34) ما يتعلق بعبد الله بن محمود، وسيأتي في موضعه في المثال الأول من الفرع السابع (4)، إن شاء الله. والمقصود هنا إنما هو شأن «أبي الوزير»، فاعترف الأستاذ بما ذكرتُه، _________ (1) (1/ 135 - 144). (2) ترك المؤلف هنا ــ وفي مواضع أخرى ــ بياضًا بمقدار كلمة أملًا في إلحاقها، والموضع المشار إليه في (ص 13)، لكن لم يكتب المؤلف فصولًا، ولا وضع «الباب الأول» مع أنه قد عقد الباب الثاني، والظاهر أنه عنى بالباب الأول الكلام على خطبة الكتاب كما سبقت الإشارة إليه (ص 7). (3) (ص 22 - 24). (4) (ص 260).

(9/231)


أنه أبو الوزير محمد بن أعين، لا أبو الوزير عمر بن مطرِّف. ثم ناقش في توثيق محمد بن أعين. وكنت قلت في «الطليعة» النقل (1): «إنه كان من ثقات ابن المبارك وخواصه، وأنه وصيه، وأن أحمد بن حنبل روى عنه، وأن ابن حبان ذكره في الثقات». فقال الأستاذ: «توثيق ابن حبان على طريقته في توثيق المجاهيل ... ، وكون المرء خادمًا أو كاتبًا أو وصيًّا أو معتمدًا عنده في شيء ليس بمعنى توثيقه في الرواية عندهم ... وقول الناقد: أحمد بن حنبل لا يروي إلا عن ثقة رأي مبتكر، وروايته عن مثل عامر بن صالح معروفة». أقول: أصل المقصود أن أبا الوزير الذي في السَّند ليس بعمر بن مطرف المجهول، بل محمد بن أعين الذي سمعتَ الثناء عليه. فهب أنه لم يثبت بما ذكرتُه أن ابن أعين ثقة في الرواية، فقد ثبت ــ على الأقل ــ ما يقرب من ذلك، وثبت اختصاصه بابن المبارك، وروايته في تلك الحكاية هي عن ابن المبارك. فهذا كافٍ لمقصودي في «الطليعة». على أن في جواب الأستاذ مناقشة: أما ابن حبان، فالنظر في توثيقه مستوفًى في ترجمته من «التنكيل» (2) وبه يُعْلَم أن توثيقه هنا ليس كتوثيقه لبعض أتباع التابعين ــ مثلًا ــ، ممن يظهر أنه لم يعرف حديثه ولا سَبَره. _________ (1) غير محررة في الأصل، وما أثبته أقرب إلى رسمها. (2) (رقم 200).

(9/232)


وأما ثقة ابن المبارك بمحمد بن أعين واختصاصه له، واختياره لوصايته، فأقلّ ما يدلُّ عليه ذلك أنه كان عند ابن المبارك عدلًا غير مغفّل. وأما أحمد بن حنبل، فمعروف أنه لا يروي إلا عن ثقة عنده. وعامرُ بن صالح الذي روى عنه هو عامر بن صالح بن عبد الله بن عروة، [ص 34] وهو مختلَف فيه، وثقه أحمد، وضعفه غيره. وهذا لا ينافي أن أحمد لا يروي إلا عن ثقة، إذ المقصود: «عن ثقة عنده». وهذا هو معنى قولي: «ورواية الإمام أحمد عنه توثيق»، كما لا يخفى. فغاية ما يخشى أن يخطئ أحمد، فيظنّ من ليس بثقة ثقة، لكن هذا خلاف الغالب. فإذا روى أحمد عن رجلٍ ولم يجرحه غيرُه، حُمِل على الغالب. وهذا معنى ما في «فتح المغيث» (134) (1) قبيل الكلام في المجهول، الخلاف فيمن روى عنه ثقة، أيكون ذلك توثيقًا له؟ فقال: «والثالث: التفصيل، فإن عُلِم أنه لا يروي إلا عن عدل كانت روايته عن الراوي تعديلًا، وهذا هو الأصح عند الأصوليين ... ». ثم قال: «تتمة: مَن كان لا يروي إلا عن ثقة ــ إلا في النادر ــ: الإمامُ أحمد، وبقي بن مخلد ... ». وقوله: «إلا في النادر» يشير ــ والله أعلم ــ إلى من يخطئ فيه، فيروي عنه يراه ثقة، وهو عند غيره غير ثقة. _________ (1) (2/ 41).

(9/233)


فعلم بهذا أن ما قلته ليس بقولٍ مبتكر، كما ادعى الأستاذ! وقد اعتمد الأستاذ على ابن أعين في رواية أخرى. راجع «الطليعة» (ص 32) (1). * المثال 8. «الطليعة» (ص 34 - 35) (2). ذكر الأستاذ في «التأنيب» حكاية عن هبة الله الطبري عن محمد بن أحمد بن سهل عن محمد بن أحمد بن الحسن، فذكر الأستاذ أن محمد بن أحمد بن سهل هو الأصباغي، وأن شيخه هو أبو علي بن الصواف. فاعترضته في «الطليعة» بأن الأصباغي مُقِلّ، لا يعرف له رواية عن ابن الصواف، ولا للطبري رواية عنه، واقتصر الخطيب في ترجمته على قوله: «سكن دمشق وحدَّث بها عن محمد بن الحسين البستنبان، روى عنه أبو الفتح بن مسرور». وبينتُ أن شيخ الطبري هو محمد بن أحمد بن فارس بن سهل، نَسَبه هبةُ الله إلى جده، على ما جرت به عادتهم في التفنُّن في أسماء شيوخهم الذين أكثروا عنهم، كما يصنع البخاري في اسم محمد بن يحيى وغيره. وكما يصنع الإسماعيلي في اسم الغِطْريفي، وأشباه ذلك كثيرة جدًّا. والدليل على ذلك ــ مع ما مر ــ: أن في ترجمة محمد بن أحمد بن فارس بن سهل من «تاريخ بغداد» ذكر روايته عن ابن الصوَّاف، ورواية هبة الله الطبري عنه. _________ (1) (ص 23). (2) (ص 24 - 25).

(9/234)


[ص 35] فذكر الأستاذ ذلك في «الترحيب» (ص 35)، وهاج وماج! قال: «فزاد الناقد قبل «سهل» فارسًا ... تزيدًّا منه لما شاء هواه». ثم ذكر القصة، وفيها بعد (الصواف): «عن محمد بن عثمان عن محمد بن عمران بن أبي ليلى، قال: حدثنا أبي، قال: لما قدم ذاك الرجل (يعني أبا حنيفة) إلى محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، شهد عليه حماد بن أبي سليمان ... ، فحدثني خالد بن نافع قال: كتب ابن أبي ليلى إلى أبي جعفر وهو بالمدينة ... ». ثم قال الأستاذ: «فعلى هذا تكون استتابته قبل وفاة حماد بن أبي سليمان، قبل سنة (120) من الهجرة، عندما كان أبو جعفر المنصور العباسي بالمدينة في عهد هشام بن عبد الملك الأموي، قبل تأسيس الدولة العباسية بدهر». أقول: قد قدّمتُ أن مقصودي في هذا الفرع الأول: إنما هو إظهار ما وقع من المغالطة في بعض الأسانيد، ولا شأن لي بالمتن، أيصح أم يبطل، بل إذا كان هناك ما يدلُّ على بطلانه فاعتراضي أشد؛ لأن وجود دليل صحيح على البطلان لا يغني الأستاذ عن المغالطة! فكيف بما ليس معه في إبطاله دليل؟ ! ومع هذه، فقد ذكرتُ هذه القصة في ترجمة محمد بن عثمان بن أبي شيبة من «التنكيل» (1)؛ لأنها مما يُقْدَح بها فيه، ثم بينت هناك أن الزيادة التي زادها خالد بن نافع لا يُسأل عنها محمد بن عثمان؛ لأن خالدًا ضعيف، ويشبه أن يكون خالد أراد أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب، زعم خالد أن ابن أبي ليلى كتب إليه يستشيره، كما يستشير القاضي _________ (1) (رقم 219).

(9/235)


أكابر العلماء في زمانه. وهو الذي كان بالمدينة، أما المنصور فكان بعد خلافته ببغداد. وهذا وإن كان أقلّ شناعةً، لكنه باطل أيضًا؛ لأن وفاة الباقر متقدمة. على كل حال، فزيادة خالد في عنقه، ويبقى الكلام في شهادة حماد مع أنه توفي سنة (120). وتمام الكلام في «التنكيل». * المثال 9. «الطليعة» (ص 35 - 37) (1). راجع «الطليعة» لتعلم ما استدللتُ به، أما الأستاذ فقال (ص 37): «هل الكوثري في حاجة في إسقاط تلك الرواية، بعد أن نص على أنها رواية الكذَّاب بن الكذّاب محمد بن الحسين بن حميد بن الربيع، ومعه محمد بن عُبيد الطنافسي الذي يقول فيه أحمد: إنه يخطئ ولا يرجع عن خطئه، كما في رواية ابن أبي حاتم». [ص 36] أقول: مِن عادة الأستاذ أن لا يكتفي في القدح في الرواية بوجهٍ ولا وجهين، ولا أكثر، بل يذكر من الوجوه ما يمكنه، ولا سيما إذا كان غير واثق بما يورده، ومن طالع «التأنيب» عرف صحة قولي. فطَعْنه في محمد بن الحسين لم يكن ليصدَّه عن تطلُّب وجهٍ آخر أو أكثر، ولو بطريق المغالطة. وقد شرحت ذلك في «الطليعة» (2). أما محمد بن الحسين؛ فترجمته في «التنكيل» (3)، وكلمة «الكذاب بن الكذاب» لم تثبت، ومحمد بن الحسين قد وُثِّق، وتمام الكلام في ترجمته. _________ (1) (ص 25 - 26). (2) (ص 25). (3) (رقم 202).

(9/236)


أما محمد بن عبيد؛ ففي «مقدمة الفتح» (1): «وثّقه أحمد ــ في رواية الأثرم ــ، وكذا وثقه ابن معين، والعجلي، والنسائي، وابن سعد، وابن عمار ... ، احتج بمحمد الأئمةُ كلُّهم ... ». أقول: والذي يظهر من سياق ترجمته أن خطأه إنما كان في اللحن. والله أعلم. * المثال 10. «الطليعة» (ص 37 - 39) (2). لم يتعرَّض الأستاذ لمعارضة ما أثبته من الأدلة على ما وقع في ترجمة محمد بن سعيد في «تعجيل المنفعة» من التخليط. فليراجع القارئ كلامي في «الطليعة»، ثم ليراجع كلام الأستاذ، ليتضح له حقيقة الحال. * المثال 11. «الطليعة» (ص 39 - 40) (3). اعترف الأستاذ (ص 38) بأنه أخطأ. * المثال 12. «الطليعة» (ص 40 - 43) (4). موضوع هذا المثال: ما في «تاريخ بغداد» (5): «حدثني الأزهري، قال: _________ (1) (ص 441). (2) (ص 26 - 28) وانظر التعليق على هذا الموضع. (3) (ص 28 - 29). (4) (ص 30 - 31). (5) (3/ 122).

(9/237)


كان أبو عمر بن حيويه مكثرًا، وكان فيه تسامح، ربما أراد أن يقرأ شيئًا ولا يقرب أصله منه، فيقرؤه من كتاب أبي الحسن بن الرزاز؛ لثقته بذلك الكتاب، وإن لم يكن فيه سماعه، وكان مع ذلك ثقة». فقال الأستاذ في «التأنيب»: «على أن أبا الحسن بن الرزاز [ص 37] هذا الذي كان يثق (ابن حيويه) بكتابه هو علي بن أحمد المعروف بابن طيب الرزاز ... ». فبينتُ في «الطليعة» أن الذي في كلام الأزهري هو أبو الحسن بن الرزاز، وعلي بن أحمد هذا لا يقال له: ابن الرزاز، وإنما يقال له: «الرزاز»، كما تكرر في ترجمته وغيرها في مواضع كثيرة. وكان له دُكّان لبيع الأرز. ومع ذلك فهو أصغر من ابن حيويه بأربعين سنة، ولا يعرف بينهما علاقة. ثم ذكرتُ أن هناك ثانيًا يقال له: أبو الحسن الرزاز، وهو أكبر من ابن حيويه قليلًا، ولكن هو أيضًا «الرزاز»، والذي في كلام الأزهري «ابن الرزاز». ثم ذكرتُ ثالثًا يقال له: «علي بن موسى أبو الحسن ابن الرزاز»، وهو من شيوخ ابن حيويه، فيتعيَّن أن يكون هو المراد في كلام الأزهري. ثم قلتُ: «فكأنَّ بعض كتب علي بن موسى هذا صارت بعد وفاته إلى تلميذه ابن حيويه، لكن لم يقيِّد سماعَه في تلك النسخة التي هي من كتب الشيخ». فأشار الأستاذ إلى هذا المثال في «الترحيب» (ص 38 - 40)، وتغافل رأسًا عن الدليل الواضح، وهو أن الذي في كلام الأزهري «ابن الرزاز»، وعلي بن أحمد هو نفسه «الرزاز».

(9/238)


وذهب الأستاذ يصارع ما أيدت به ذاك الدليل من صِغَر عليِّ بن أحمد، وكونه لا يعرف له علاقة بابن حيويه! فذكر (ص 40): «أنهما من أهل بغداد، وعاشا هناك متعاصِرَين سبعًا وأربعين سنة، فماذا كان يمنع هذا من الاجتماع بذاك، وهما من بلد واحد؟ ». أقول: المدار في هذه الأمور على اختيار الأقرب فالأقرب، كما تقدم في المثال الأول. فههنا يدلُ كلام الأزهري أن ابن حيويه إنما كان يروي من كتاب ابن الرزاز؛ «لثقته بذلك الكتاب»، [ص 38] وليس مما يقرب أن يثق ابن حيويه بكتاب رجل أصغر منه بأربعين سنة، لم يُعرف بشدّة الضبط والتيقّظ. هذا مع اشتهار ابن حيويه بالتثبت والتيقظ. قال العتيقي: «كان ثقة متيقظًا». وقال البرقاني: «ثقة ثبت حجة». ويدلّ كلام الأزهري أيضًا أن كتاب ابن الرزاز كان في متناول ابن حيويه متى أراد، فلو كان ذلك وابن الرزاز صاحب الكتاب حيّ لما كان ما ذكر إلا وهو ملازم لابن حيويه. وكونهما في بغداد نحو سبع وأربعين سنة إنما يُقرِّب أن يكونا اجتمعا في الجملة، فأما أن يكونا متلازمين فيحتاج إلى دليل. ويدلُّ كلام الأزهري أيضًا أنه لم يكن يقع لابن حيويه قراءة من غير أصله إلا من ذاك الكتاب، وهو كتاب ابن الرزَّاز. ولو كان ابن حيويه بحيث يثق بكتاب علي بن أحمد، لكان أولى من ذلك أن يثق بكتاب غيره ممن هو أكبر وأوثق وأثبت وأضبط من علي بن أحمد. فلماذا اختص وثوقه بكتاب ابن الرزاز؟ !

(9/239)


ويدلُّ كلام الأزهري أيضًا أن وثوق ابن حيويه في محلِّه، لقوله: «وكان مع ذلك ثقة»، فدل ذلك على أن قوله: «كان فيه تسامح» إنما أراد به تسامحًا يسيرًا لا ينافي الثقة. وعلى هذا يُحمَل قول ابن أبي الفوارس: «كان فيه تساهل». كما يدلُّ عليه توثيق الأكثرين له، مع قول البرقاني ــ وهو أعلم الجماعة وأتقنهم ــ: «ثقة ثبت حجة». فهذه الأمور تؤكِّد الدليل الأول الذي تغافل عنه الأستاذ، وهو من أقوى الأدلة كما لا يخفى. [ص 39] قال الأستاذ (ص 39): «رواية الخزاز لو كانت عن كتاب أحد شيوخه لكانت روايته عن أصل شيخه، ولَمَا كان يُرمى بالتسامح». أقول: بلى، يظهر في هذا تسامح، وذلك أن ذاك الكتاب لم يكن هو أصل ابن حيويه الذي سمع فيه، ومن المحتمل أنه كان فيه مخالفةٌ ما لأصل شيخه، بنقصٍ أو زيادة، أو نحو ذلك، لم يتنبَّه لها عند السماع. فإذا تحقق ذلك فيما بعد، فالاحتياط أن يروي كما في أصله، ثم يقول: «هكذا في أصل سماعي، ولكن رأيت في أصل شيخي كذا». وترى لذلك أمثلة في الكتب، منها في «تاريخ جرجان» لحمزة السهمي (ص) (1). ومع ذلك، فإن أصل الشيخ بقي عند الشيخ مدة، لا يثق ابن حيويه بالاحتياط في حفظه، كما يمكنه يثق بالاحتياط في أصل نفسه. ومن _________ (1) ترك المؤلف رقم الصفحة غُفلًا، وانظر منه (ص 164، 175، 222).

(9/240)


المحتمل أن يكون أصل الشيخ بقي بعد موته عند أهله، فلا يوثق بأنهم احتاطوا لحفظه كما يثق ابن حيويه بالاحيتاط في أصل نفسه. فمثل هذه الأمور كافية لأن يقال: «فيه تسامح»، «فيه تساهل»، إلا أنه لما كان الأصل عدم المخالفة، وكان ابن حيويه ــ مع كونه ثقة ثبتًا حجة متيقظًا ــ واثقًا بانتفاء المخالفة= لم يخدش ذلك في ثقته؛ لاحتمال أنه أعاد مقابلة أصله على ذلك الكتاب، أو صار إليه، فعلم تطابقهما. وبعد ثبوت ثقة الرجل وتيقّظه لا يصح الخدش فيه بأمر محتمل. والقاعدة محرَّرة في قسم القواعد من «التنكيل» (1). والأستاذ يقول بها، ويغلو فيها! قال الأستاذ: «وكان ينبغي أن يذكر في السند اسم شيخه الذي ناوله أصله». كذا قال! ورواية ابن حيويه على الوجه المذكور ليست عن مناولة، وإنما كان يروي عن ابن الرزَّاز بحقِّ سماعه منه. غاية الأمر أنه بدل أن يقرأ من أصل نفسه قرأ من أصل شيخه. قال الأستاذ: «مع أنه لا ذِكْر للرزاز مطلقًا في طبقة شيوخ الخزاز في أسانيد المثالب التي تولى كبرها الخزاز في كتاب الخطيب. وليس بمعقولٍ أن يهمل التلميذ ذِكْر شيخه في سندٍ ما حَمَله وتلقَّاه مِن طريقه». أقول: ومَن الذي قال لك: إن ابن حيويه لم يرو شيئًا قط إلا من ذاك الكتاب الذي كان ربما يقرأ منه إذا بعد منه أصله؟ ! ومَن الذي قال لك: إن الخزَّاز لم يرو إلا عن ابن الرزَّاز؟ ! _________ (1) (1/ 130 - 134).

(9/241)


إنما ذاك كتاب خاص، يظهر أنه ليس من الكتب التي روى منها الخزاز في كتاب الخطيب، كما يدلّ عليه أن ابن الرزاز المذكور ــ مع أنه محدِّث معروف موثَّق، وهو من شيوخ ابن حيويه، كما نص عليه ــ لا رواية له في تلك المقالات أصلًا! فدل ذلك أن الكتب المأخوذة منها تلك المقالات لم تكن من مروياته، يقول: «حدثنا أبو الحسن بن الرزاز»، ويقرأ من الكتاب. فإن قيل: عبارة الأزهري كأنها تبعد عن هذا. قلت: فغاية الأمر أن يكون ابن حيويه سمع بعض المؤلفات من غير ابن الرزاز، ثم وقعت إليه نسخة ابن الرزاز، [ص 40] فكان يقرأ منها، فالنسخة أصل شيخه، لكن ليس ذاك الكتاب مسموعًا له من الشيخ نفسه، بل مسموعًا له من شيخ آخر. ففي هذا صار ابن الرزاز كالأجنبي عن ابن حيويه؛ لأنه وإن كان شيخه ففي غير ذاك الكتاب. فإن قيل: أفلا يخدش هذا في ثقة ابن حيويه؟ قلت: كلا، وبَسْط ذلك في ترجمته من «التنكيل» (1)، وفيما تقدّم ما يكفي. على أن مقصودي في «الطليعة» في هذا الموضع إنما هو إثبات أن ابن الرزاز المذكور في عبارة الأزهري ليس هو علي بن أحمد الرزاز، كما زعم الأستاذ. * * * * _________ (1) (رقم 209).

(9/242)


جواباته عن الفرع الثاني، وفيه سبعة أمثلة وموضوعه: أن الأستاذ يعمد إلى كلام لا علاقة له بالجرح، فيجعله جرحًا. * المثال 1، و 2، و 3. في «الطليعة» (ص 43 - 48) (1). ذكر الأستاذ في «الترحيب» (ص 40) أنه لم ير فيما ذكرته في هذه الأمثلة شيئًا يجدر التحدُّث عنه. أقول: هذا اعتراف في مكابرة! فليراجع القارئ «الطليعة». * المثال 4. «الطليعة» (ص 48 - 50) (2). موضوع هذا المثال: أن الحافظ عبد الله بن محمد بن السقاء وقع في سند، فقدح فيه الأستاذ بقوله: «هجره أهل واسط لروايته حديث الطير». وإنما أخذ ذلك من قول الحافظ خميس الحوزي في ذكر ابن السقاء: «من وجوه الواسطيين، وذوي الثروة والحفظ، وبارك الله في سنه وعلمه، واتفق أنه أملى حديثَ الطير، فلم تحتمله نفوسهم فوثبوا به، فأقاموه، وغسلوا موضعه، فمضى ولزم بيته». فبينت في «الطليعة» أنه ليس في هذا ما يقدح في ابن السقاء، وأن ذاك الإنكار إنما يكون مِن جَهَلة العامة. [ص 41] فتجلَّد الأستاذ وقال في «الترحيب» (40): «مطاردةُ محدِّث لأجل حديثٍ حدَّثه ليست من شأن العامة، بل من شأن العلماء ... »! _________ (1) (ص 32 - 35). (2) (ص 36).

(9/243)


أقول: فليخرج الأستاذ إلى بعض المواضع البارزة، وليحك قصةً تخالف بظاهرها معتقد العامة، فلينظر هل ينكرون عليه أم لا؟! وثناءُ الحافظ خميس الحوزي حاكي القصة على ابن السقاء كافٍ. * المثال 5. «الطليعة» (ص 50 - 51) (1). موضوع المثال: قول الأستاذ في «التأنيب»: «سالم (2) بن عصام صاحب غرائب». فذكرتُ في «الطليعة» أن ذلك مأخوذ من عبارة أبي الشيخ وأبي نعيم، وأصل عبارة أبي الشيخ: «وكان شيخًا صدوقًا، صاحب كتاب، وكتبنا عنه أحاديث غرائب، فمن حِسان ما كتبنا عنه ... ». وعبارة أبي نعيم: «صاحب كتاب، كثير الحديث والغرائب». وليس ذلك بموجبٍ للضعف، وإنما الذي يضر أن تكون تلك الغرائب منكرة، أي: ويكون الراوي تفرَّد بها، بحيث يتجه الحمل فيها عليه، وعبارة أبي الشيخ تدفع هذا. وقد قال أبو الشيخ في الحافظ الجليل أبي مسعود أحمد الفرات: «وغرائب حديثه وما يتفرد به كثير». ثم ذكرتُ أن سالمًا قد توبع على تلك الرواية، فعَدَل الأستاذ في «الترحيب» (ص 40 - 41) عن الكلام في الغرائب إلى ما حاصله: أن أبا _________ (1) (ص 37). (2) كذا في الأصل في جميع المواضع، ووقع مثله في «الطليعة» وكتاب الكوثري، وصوابه «سَلْم». وانظر التعليق على «الطليعة» (ص 64).

(9/244)


الشيخ ليس بأهل لأنْ يُقبل منه التوثيق، وأن كلمة «صدوق» دون كلمة «ثقة»، وأن المتن «أبو حنيفة ضال مضل» يعني: وهذا باطل قطعًا، وأن في السند جماعة آخرين تكلم فيهم الأستاذ في «التأنيب». ثم وجَّه الحَمْلةَ عليَّ بتهمة أنني أسعى لتصحيح المطاعن في أبي حنيفة. وأعاد ذلك (ص 43 - 44). فأقول: أما أبو الشيخ فحافظ جليل، ثقة ثبت، وترجمته في «التنكيل» (1). وكذلك بقية رجال السند تراجمهم في «التنكيل» (2)، وكلامي في «الطليعة» إنما هو فيما يتعلَّق بسالم بن عصام، فأما ما يتعلق بغيره ففي تراجمهم من «التنكيل». وأما بطلان المتن لمعارضته للعقل أو التواتر، فلا شأن لي به، كما قدمت في الفصل ... (3) من الباب الأول. * المثال 6. «الطليعة» (ص 51 - 52) (4). موضوع هذا المثال قول الأستاذ في الحافظ الثبت الهيثم بن خلف الدوري: «يروي الإسماعيلي عنه في صحيحه إصراره على خطأ، وفي الاحتجاج برواية مثله وقفة». فشرحت في «الطليعة» القصة، وأوضحت أن ما فعله الهيثم لا يضره، _________ (1) (رقم 129). (2) بالأرقام (21، 139، 252). (3) تركه المؤلف بياضًا. وانظر التعليق السالف (ص 45). (4) (ص 38 - 39).

(9/245)


بل يدل على شدة تثبته، وقد قال الإسماعيلي ــ نفسه ــ في الهيثم: «أحد الأثبات». فقال الأستاذ (ص 41) من «الترحيب»: «إن كان إصرار الهيثم بن خلف الدوري على خطأ في اسم غير مضرّ، فلماذا هذا التهويل والتضليل في ذكر الكوثري أسماءً بدل أسماء، على فرض أنه مخطئ في ذلك». أقول: هكذا فليكن الشَّغَب! الهيثم وقع في أصله اسم خطأ، فأبى الهيثمُ أن يغيِّر ما في أصله، كأنه يقول: إن كان خطأ فالخطأ ممن قبلي، ومع ذلك فذاك الخطأ لا يترتب عليه مفسدة أصلًا. وقد وقع للإمام مالك بن أنس (1) نحو ما وقع للهيثم، فأين هذا مما صنعه الأستاذ؟! قال الأستاذ: «مع أن الكوثري غير مخطئ فيها». يعني: في أمثلة الفرع الأول! وقد سبق اعترافُه الصريح في المثال الأول والرابع والسابع والحادي عشر، وقريب من ذلك في الثاني. ورجع الآن إلى الإنكار! ومثل هذا لا يستغرب! * المثال 7 (2). يتعلق بما يأتي في المثال الحادي عشر من الفرع الخامس (3). * * * * _________ (1) انظر «تهذيب الكمال»: (5/ 374 - 375) في ترجمة عُمر بن عثمان بن عفان. (2) (ص 39). (3) (ص 73) واكتفى هناك بالإحالة على «الطليعة».

(9/246)


 الفرع الثالث في اهتبال التصحيف أو الغلط الواقع في بعض الكتب إذا وافق غَرَضَه

* المثال الأول. «الطليعة» (ص 53 - 55) (1). موضوع هذا المثال: أنه وقع في ترجمة علي بن عاصم في الكتب حكاية في احتقاره للأئمة، وأنه قال في أبي عَوانة الوضَّاح بن عبد الله اليشكري: «وضّاح، ذاك العبد»، وفي جرير: «ذاك الصَّبِي»، وفي شعبة: «ذاك المسكين». [ص 43] هكذا وقع في «تاريخ بغداد» (2): «وضّاح ذاك العبد»، ووقع في «تهذيب التهذيب» (3) المطبوع: «وضاع ذاك العبد». فاعتمد الأستاذ في «التأنيب» هذه الثانية عندما حاول الطعن في أبي عَوانة حتى قال: «بلغ به الأمر إلى أن كذَّبه عليُّ بن عاصم». فبينت في «الطليعة» أن ما وقع في «تهذيب التهذيب» المطبوع تصحيف لا يخفى على مثل الأستاذ، ولا من هو دونه، ورُحْتُ أوضِّح الواضح، فذكرت خمس قرائن تبين ذلك؛ فقال الأستاذ (ص 41): «والذي أراه أن قول الأستاذ [اليماني] في دائرة الاحتمال، لكن قول علي بن عاصم في جرير بن عبد الحميد: «ذاك الصبي»، وفي شعبة: «ذاك المسكين»، من غير ذكر _________ (1) (ص 39 - 41). (2) (11/ 450). (3) (7/ 345) ووقع على الصواب في أصله «تهذيب الكمال»: (5/ 266).

(9/247)


اسميهما يبعد احتمال ذكر اسم أبي عوانة، على أن الغالب في اسمه «الوضاح» باللام، بل يكون علي بن عاصم أسرف في رميه أبا عوانة بالوضع والكذب». أقول: ليس في هذا ما يدفع (1) الحق، فمن المعروف أن ذِكْر الرجل بكنيته إكرام له، وكان أبو عوانة مشهورًا بكنيته، لا يكاد يُذْكَر إلا بها، فنصَّ عليُّ بن عاصم على اسمه تأكيدًا لاحتقاره له، كأنه يقول: ليس بأهل أن يُذكر بكنيته. بخلاف شعبة وجرير، فإنهما كان مشهورَين باسميهما، فليس في ذكرهما باسميهما ما يشعر باحتقار. وهكذا ترك اللام، فإنّ ذِكْره بقوله: «الوضاح» فيه تفخيم، بخلاف قوله: «وضاح» ــ إذا كان الغالب «الوضاح» ــ، فإن العدول عنه إلى «وضَّاح» يُشْعِر بزيادة الاحتقار، كأنه يقول: ليس بأهل أن أفخّم اسمه. وبالجملة، فمن كان ممارسًا لكتب الرجال، عارفًا بعلوم الأدب، فإنه يعرف الصواب بذوقه لأول مرة، فكيف إذا رأى ما في «تاريخ بغداد»؟ ومن لم يكن كذلك فيراجع ما ذكرته في «الطليعة»، مع ما هنا. هذا، والذي أوقع مصحح [ص 44] «تهذيب التهذيب» في التصحيف ــ فيما يظهر ــ أنه لم يكن من الممارسين للفن، وكانت النسخة واحدة، رأى الكلمة في الأصل مشتبهة ... (2) «وضاع»، ولو على بُعد، ولم يكن مستحضرًا اسم أبي عوانة، لغرابته، ولأن أبا عونة لا يكاد يُذكر إلا بكنيته، وكانت كلمة «وضّاع» حاضرة في ذهنه لتكرُّر ذكر الوضع في التراجم. _________ (1) تحتمل: «يدافع». (2) كلمتان تفشّى المداد فوقهما فلم تتبيّنا.

(9/248)


والأستاذ وغيره من أهل العلم لا يخفى عليهم ما وقع من الخطأ في مطبوعات الدائرة القديمة، مثل «التهذيب» و «اللسان»، و «تعجيل المنفعة». ولا يكاد يخلو عن مثل ذلك كتاب في تراجم الرجال؛ لما أصبح فيه هذا الفن من الغرابة. وفي مطبوعات مصر كـ «الإصابة»، و «الميزان» ما يُقضى منه العجب! ومن أحبَّ أن يعرف ترقِّي التصحيح في دائرة المعارف، فليراجع «التاريخ الكبير» للبخاري. وذكر الأستاذ هنا ما يتعلق بخطأ أبي عوانة إذا حدَّث من حفظه، وقد أفضت في ذلك في ترجمته من «التنكيل» (1). * المثال 2. «الطليعة» (ص 55 - 59) (2). هو من أوضح الأمثلة على ما قصدتُ بيانه في «الطليعة»، فأعرض الأستاذ في «الترحيب» عما يتعلق به، ورجع يعيد الكَرَّة على ما يتعلق بالمثال الخامس من الفرع الثاني، ويرميني بمعاداة أبي حنيفة، ويكلّفني ما ليس من موضوع كلامي في «الطليعة» بالنظر إلى مقصودي. وقد مر الجواب في محله، فليراجع القارئ هذا المثال في «الطليعة». * المثال 3. يتعلق بما يأتي في المثال الثاني من الفرع الثامن (3). _________ (1) رقم (259). (2) (ص 41 - 44). (3) (ص 80 - 81).

(9/249)


* المثال 4. يتعلق بما تقدم في المثال العاشر من الفرع الأول (1). * المثال 5. «الطليعة» (ص 59 - 60) (2). موضوعه: أنه وقع في «تاريخ بغداد» عن ابن يونس في شأن أيوب بن إسحاق بن سافري: «وكان في خُلقه دعارة، وسأله أبو حميد في شيء يكتبه عنه فمطله». [ص 45] فاعتمد الأستاذ عند حاجته إلى الطعن في أيوب هذا تلك الكلمة، فقال: «ذاك الداعر ... تكلم فيه ابن يونس». فبينت في «الطليعة» أن المعروف في الاستعمال أن يقال: «في خلق فلان زَعارَّة». وهذا هو اللائق؛ لأن الزَّعارَّة هي الشراسة، وهي تتعلق بالخلق. والدعارة: الخبث والفسق. ثم أيدت أن الصواب: «زَعارَّة» بدلالة السياق، وبأن هذا الرجل لو وُصِف بالخبث والفسق لذكره المؤلفون في المتكلَّم فيهم من الرواة. وبأنّ في «تهذيب تاريخ ابن عساكر» (3) في هذه القصة: «زعارة». وأكدت ذلك بأن ابن أبي حاتم ذكر أيوب هذا، وقال: «كتبت عنه بالرملة، وذكرته لأبي فعرفه، وقال: كان صدوقًا». فتعرض الأستاذ لهذا (ص 44) من «الترحيب»، فأخذ يطعن في مُهَذِّب _________ (1) (ص 51). (2) (ص 44 - 45). (3) (3/ 200).

(9/250)


«تاريخ ابن عساكر»، وفي أمانته، وأنه «مجسِّم» (1)، وأن اعتماد اليماني عليه يدل على توافقهما في المشرب، وراح يطوِّل بما ليس من صلب الموضوع، إلا أنه قال: «ولم يكن السافري إلا داعرًا، سافر الوجه، أصبحت الدعارة خلقًا فيه، وملكة عنده، رغم أنف هذا الناقد». وهذا فرارٌ منه إلى التأويل، وتجاهل الأستاذ أنني لم أعتمد على ما في «تهذيب تاريخ دمشق»، وإنما أيدت به ما يقتضيه النظر، ونسي أنه ــ نفسه ــ مما ينقل عن «تهذيب تاريخ دمشق»، ويستند إليه. هذا، مع أن مُهَذِّب الكتاب لا غرض له هنا في الخيانة، كما يدعي الأستاذ، حتى يبدل «دعارة» بـ «زعارة». ومن شأن الأستاذ الخلط في الموضوع، فلما رآني أُجرِّد بعض الأشياء لتحقيق النظر فيها على حِدَة، لم يرقه ذلك! * المثال 6. «الطليعة» (ص 60 - 61) (2). ذكرت في «الطليعة» ما حاصله: أنه وقع في «تاريخ بغداد» في سند حكاية: «عبد الله بن عثمان بن الرماح»، فاقتصر الأستاذ في «التأنيب» على أن في السند «ابن الرماح»، فلا يصح. فذكرتُ في «الطليعة» [ص 46] أن هذا الرجل هو عبد الله بن عمر بن ميمون بن بحر بن الرمَّاح، هو وأبوه حنفيان معروفان. تصحف «عمر» إلى «عثمان»، كما ذكره الأستاذ ــ نفسه ــ في اسم آخر. نقلتُ كلامه في «الطليعة» _________ (1) وهو العلامة عبد القادر بن بدران الحنبلي (ت 1346)، ترجمته في «الأعلام»: (4/ 37). (2) (ص 45 - 46).

(9/251)


ثم قلت: «وكأنه خشي أن ينبه القارئ على أن ابن الرمَّاح هو ذاك العالم الحنفي ... ». فقال الأستاذ في «الترحيب» (ص 44 - 45): «ومن عجائب صنع هذا الباحث (اليماني) أيضًا: رميه إياي بأخص أوصافه، من ادعاء التصحيف فيما لا يروقه من الروايات، فيجعل عبد الله بن عثمان بن الرماح، المجهول في سند الخطيب، في صدد رمي أبي حنيفة ... = عبد الله بن عمر، متزيّدًا في نسبه ما شاء من الأسماء، ومبدّلًا «عثمان» بـ «عمر»، ليلقي في روع السامع أن هذا الراوي حنفي يقبل قوله عند أصحاب أبي حنيفة، فيلصق بالإمام هذا الاتهام، بل ابن عمر هذا أيضًا مجهول الصفة، فلا يناهض خبره ما تواتر ... ». أقول: أما دعوى تصحيف «عمر» إلى «عثمان»، فقد استدللت على قرب وقوعه بكلام الأستاذ نفسه، وأما الحمل عليه هنا فإنه لا يعرف في تلك الطبقة، ولا في الرواة، ولا الفقهاء، ولا غيرهم، من يقال له: «عبد الله بن عثمان بن الرماح»، وإنما المعروف في تلك الطبقة «عبد الله بن عمر» المذكور. وأما التزيُّد في الأسماء، فلأن «عمر» والد هذا الرجل كثيرًا ما يُنْسَب إلى جده «الرماح». وقد قال الترمذي (1) في باب ما جاء في الصلاة على الدابة في الطين والمطر: «حدثنا يحيى بن موسى، حدثنا شبابة بن سوَّار، حدثنا عمر بن الرمَّاح البلخي، عن كثير بن زياد، عن عمرو بن عثمان بن يعلى (2) بن مُرّة، _________ (1) (2/ 266 حديث 411). (2) الأصل: «بن يعلى بن عثمان» سبق قلم.

(9/252)


عن أبيه عن جده ... ». ثم قال الترمذي: «غريب، تفرد به عمر الرماح». وعمر الرمّاح هذا هو والد عبد الله المذكور. وفي «تهذيب التهذيب» (1) في ترجمة عثمان بن يعلى، ذكر ذاك الحديث، وقال: «روى الترمذي هذا الحديث الواحد من رواية عمر بن الرماح عن كثير بن زياد ... ». وفيه أيضًا (ج 7/ ص 447): «عمر بن الرمَّاح البلخي، هو ابن ميمون، يأتي». وراجع ترجمة عمر في «تاريخ بغداد» (2). وراجع ترجمة عبد الله في «طبقات الحنفية» (3). فأما ما رماني به الأستاذ فذلك غفلة أو تغافل عن مقصودي بنشر «الطليعة»، وقد قدمتُ بيان ذلك في الفصل .... (4) من الباب الأول. * [ص 47] المثال 7. «الطليعة» (ص 61 - 62) (5): حكي أن أحمد بن المعذل الفقيه المالكي كان عالمًا (6) صالحًا تقيًّا، وكان أخوه عبد الصمد ماجنًا، فكان أحمد يعظ عبد الصمد ويزجره، فقال _________ (1) (7/ 159 - 160). (2) (11/ 182). (3) «الجواهر المضيَّة»: (6/ 662). (4) تركه المؤلف بياضًا. وانظر ما سبق (ص 45). (5) (ص 46 - 47). (6) الأصل: «علمًا» سبق قلم والتصحيح من «الطليعة».

(9/253)


عبد الصمد: أطاع الفريضةَ والسنهْ ... فتاه على الإنس والجِنَّه كأنّ لنا النارَ مِن دونِه ... وأفرده الله بالجنهْ غضب الأستاذ على أحمد بن المعذّل! فذكر البيت الأول، وجعل الكملة الأولى «أضاع». فنبهتُ في «الطليعة» على أن الرواية «أطاع»، كما في غير واحد من الكتب، والسياق يُعَيّنه. فقال الأستاذ في «الترحيب» (ص 45): «هذا تمحُّل! لو كان مراده هذا لقال: أقام .. ، وإنما الطاعة لله ولرسوله، لا للعمل، وهذا ظاهر». كذا قال الأستاذ! وكنت أظن أنه وجد ذاك الشعر في بعض الكتب بلفظ «أضاع»، فغضَّ النظرَ عنه، وحكاه، كما في «وضّاع» و «دعارة»، وأن ذلك منه على وجه التنكيت والتبكيت. لكن عبارته في «الترحيب» خيَّبت ظني، وزادت الأمر شدة! ولو لم يوجد هذا الشعر إلا في كتاب واحد، وفيه «أطاع»، وليس هناك ما يدلّ على صحتها، ولا عدم صحتها؛ لما جاز للعالم تغييرها؛ لأن العربية لا تضيق عنها، فتحتمل أن تكون على حذف المفعول، أو قَصْر الفعل عنه، ثم تنتصب «الفريضة» إما على المفعول المطلق، كأنه قيل: أطاع الطاعة المفروضة والمسنونة، وإما على التضمين، وإما على نزع الخافض الذي سماه الأستاذ «الحذف والإيصال»، وتبجَّح بمعرفته في كلامه على أثر: «لا تعقل العاقلة عمدًا ... ».

(9/254)


وإما على التجوُّز بـ «أطاع» عن «أدى»، فإن الطاعة تستلزم أداء الفرائض، أو غير ذلك. فكيف إذا وُجد الشعر بلفظ «أطاع» في كتب مختلفة، فكيف بالتغيير إلى «أضاع»، مع إبطال الأدلة المعنوية له؟ ! فمنها: عجز البيت في الأول، فإن إضاعة الفرائض والسنن [ص 48] لا يظهر أن تكون سببًا وباعثًا على التِّيْه، وإنما الذي قد يكون سببًا له أداؤها والمحافظة عليها، لما يُداخِل الإنسان من العجب. ومنها: البيت الثاني، فإن المضيع للفرائض والسنن لا يمكن أن يظن أنه من أهل الجنة دون غيره، وإنما الذي قد يُظَنُّ به ظنّ ذلك مَن كان مؤديًا للفرائض والسنن، محافظًا عليها، فإنه قد يظن أن الجنة له دون العُصاة. ومنها: سبب قول عبد الصمد هذين البيتين. ومنها: ما هو معلوم من حال أحمد من الديانة. والله الموفق. * * * *

(9/255)


 الفرع الرابع في تغيير نصوص أئمة الجرح والتعديل والتعبير عنها بما يخالف معناها

* المثال 1. «الطليعة» (ص 66 - 68) (1). أشار الأستاذ (ص 50) إلى هذا، فادَّعى أن عبارته هي بمعنى النص المنقول عن حجاج الشاعر، قال: «لأنه لا يتصوَّر مِن مثل ابن الشاعر أن يقع فيه من غير أن يتكرر ذلك منه». كذا قال! وحجاج بن الشاعر إنما رُويت عنه تلك العبارة، وأنه كان يقع، والوقوع لا يُدْرَى ما هو، فالمدار على تلك العبارة، وإذا كانت لا تعطي إلا مرة واحدة، فيكف يجوز أن يتوهّم على ابن الشاعر أنه لم يقلها إلا وقد يكرر ابن الشاعر. فإن لابن الشاعر نفسه أن ينكر هذا، ويقول: لماذا تحمّلونني ما لا تحمل عبارتي؟! نعم، للأستاذ فهمه، ولكن ليس له أن يبني على هذا الفهم تغيير الألفاظ في حال أن الكتب التي هي فيها في متناول يده كلّ وقت، على فرض أنه قد يحكي من حفظه. وأما إذا كان ينظر في الكتاب، فيرى العبارة، فيغيرها قصدًا، فالأمر أشد. * المثال 2. «الطليعة» (ص 68) (2). _________ (1) (ص 50 - 51). (2) (ص 51).

(9/256)


حاصل المثال أن ابن الجنيد قال: سُئل يحيى بن معين وأنا أسمع عن مُؤمّل بن إهاب، فكأنه ضعَّفه. فقال الأستاذ في «التأنيب» (1) في مؤمل: «ضعفه ابن معين». فقال في «الترحيب» (ص 45) [ص 49]: «على أن الذاكرة قد تخون في استذكار المعنى الحرفي، فقول القائل: «كأنه ضعفه» لا يفرُق كثيرًا من قوله: «ضعّفه»، لكون الحكم على الأحاديث بالصحة والضعف، وعلى الرجال بالثقة أو الضعف ــ في أخبار الآحاد ــ مبنيًّا على ما يبدو للناقد، لا على ما في نفس الأمر. فظهر أن ذلك [عبارة عن] (2) غلبة الظن فيما لا يقين فيه، وسبق أن نقلنا عن أحمد في «الرمادي»: «كأنه يغيّر الألفاظ»، وقد بنى عليه الذم الشديد». أقول: لا يخفى ما في هذا من التعسُّف، فإنه مما لا يخفى! فإن الخبر شرط صحته الجزم، فهل للأعمى الصائم إذا سأل بصيرًا عن غروب الشمس، فقال البصير: «كأنها قد غربت» = أن يفطر؟ ! وهل على من عهد ثوبًا طاهرًا فقال له قائل: «كأنه قد تنجَّس» أن يعدّه نجسًا؟ ! وهل لامرأة غاب عنها زوجها مدة، فلقيها ثقتان ــ مثلًا ــ فقالا (3): «كأنه قد مات» أن تعتد وتتزوج؟ ! _________ (1) (ص 106). (2) سقطت من الأصل، والاستدراك من «الترحيب». (3) الأصل: «قال».

(9/257)


إلى غير ذلك من الأمثلة. فهكذا قول ابن الجنيد: «فكأنه ضعفه»، فإن الناقد هنا هو ابن معين، وابن الجنيد مخبر عما شاهده وسمعه، فقوله: «فكأنه ضعّفه» نظير الأمثلة التي قدمنا، فلا يثبت بها حكم. وهذا واضح. فأما ما وقع في الرواية عن أحمد: «كأنه يغير الألفاظ»، فهذه إن كانت من الراوي عن أحمد، فهي تفسير لقول أحمد: «يملي عليهم ما لم يسمعوا». وإن كانت من أحمد، فهي تَظَنٍّ لوجه صنيع الرمادي، وترجمة الرمادي في «التنكيل» (1). * المثال 3، و 4، و 5، و 6. «الطليعة» (69 - 73) (2). * المثال 3. «الطليعة» (ص 69). لم يذكر الأستاذ ما يحتاج إلى زيادة عما في «الطليعة». * المثال 4. «الطليعة» (ص 69). قال الأستاذ (ص 51): «ليس عادة النقاد أن يقولوا لما ليس في كتاب الراوي: إنه عنده، فلا يكون سقوط (في كتابه) مغيّرًا للمعنى، ولا مقصودًا، فَهِم الناقد أم لم يفهم». أقول: راجع «الطليعة»، وتدبر! * * * * _________ (1) (رقم 2). (2) (ص 51 - 54).

(9/258)


 الفرع الخامس تقطيع نصوص أئمة الجرح والتعديل

* المثال 1 - 12. «الطليعة» (ص 72 - 78) (1). اكتفى الأستاذ بما حاصله: أنه إنما يأخذ محلّ الحاجة، فراجع «الطليعة». * * * *

  الفرع السادس يعمد إلى جرح لم يثبت فيحكيه بصيغة الجزم محتجًّا به

* المثال 1 - 3. «الطليعة» (ص 79 - 82) (2). لم يتعرّض لها الأستاذ بما يحتاج إلى مناقشته فيه زيادة على ما في «الطليعة». * المثال 4. «الطليعة» (ص 82) (3). عدل الأستاذ عن موضع المناقشة إلى كلام آخر، ترى حاله في ترجمة الأصمعي من «التنكيل» (4). * المثال 5، و 6. «الطليعة» (ص 83 - 86) (5). لم يتعرض لها الأستاذ بما يحتاج إلى زيادة على ما في «الطليعة». _________ (1) (ص 54 - 59). (2) (ص 59 - 63). (3) (ص 63). (4) (رقم 146). (5) (ص 64 - 66).

(9/259)


 الفرع السابع قوله في المعروف الموثّق: «مجهول»، ونحوها

* المثال 1. «الطليعة» (ص 86 - 87) (1). عبد الله بن محمود المروزي. قال الأستاذ في «التأنيب»: «مجهول الصفة». فاعترضته بأن هذا الرجل حافظ مصنّف معروف. قال ابن أبي حاتم (2): «كتب إلى أبي بمسائل ابن المبارك، من تأليفه». وذكره الذهبي في «تذكرة الحفاظ» (3): «الحافظ الثقة، محدث مرو ... قال الحاكم: ثقة مأمون». أجاب الأستاذ بما حاصله: أنه لا يعتدّ بتوثيق الحاكم، وأما الذهبي فمتابع للحاكم. وقد مر الكلام على هذا المعنى في الفصل ... (4) من الباب الأول. وترجمة الحاكم في «التنكيل» (5)، ولم يطعن أحد في كلامه في الرواة، وإنما نسبوه إلى التشيّع، وإلى التساهل في تصحيح بعض الأحاديث الضعاف. _________ (1) (ص 66 - 67). (2) «الجرح والتعديل»: (5/ 183). (3) (2/ 257). (4) تركه المؤلف بياضًا. وانظر ما سبق (ص 45). (5) (رقم 215).

(9/260)


أما (1) جرحه وتعديله؛ فمأخوذ به من عهده، وهلم جرًّا. * [ص 51] المثال 2. «الطليعة» (ص 87) (2). ذكر الأستاذ (ص 47) أنه تنبَّه فيما بعد لأن محمد بن مسلمة هو المخزومي، ثم قال: «رُوي عن أبي حاتم توثيقه، لكن تحاماه أصحاب الأصول الستة وأحمد». أقول: هذا خارج عن الموضوع، وترجمة الرجل في «التنكيل» (3). * المثال 3، و 4. «الطليعة» (ص 89 - 90) (4). أشار الأستاذ إلى أن من عادة ابن حبان توثيق المجاهيل. أقول: قد أجبتُ عن هذا في «الطليعة»، وتمامه في ترجمة ابن حبان من «التنكيل» (5). * المثال 5. «الطليعة» (90 - 91) (6). أجاب الأستاذ بالكلام في أبي الشيخ وتوثيقه. وترجمة أبي الشيخ في «التنكيل» (7). _________ (1) الأصل «أم» سهو. (2) (ص 67). (3) لم أجدها، فلعل المؤلف اكتفى بما في الطليعة. (4) (ص 69 - 70). (5) (رقم 200). (6) (ص 70 - 71). (7) (رقم 129).

(9/261)


* المثال 6، و 7. «الطليعة» (91 - 92) (1). يجيب الأستاذ بأن الخطيب لا يحتجّ به فيما هو متّهم فيه، وقد تقدم كشف ما في هذا من المغالطة (2). * * * * _________ (1) (ص 71 - 72). (2) (ص 13).

(9/262)


 الفرع الثامن في إطلاقه صِيَغ الجرح بما لا يوجد في كلام الأئمة

* المثال 1. «الطليعة» (ص 98 - 102) (1). قال الأستاذ (ص 48): «غاية ما عملت في أنس رضي الله عنه هو نَقْل مذهب أبي حنيفة في تخيّر بعض رواياته، وهذا مشهور في كتب أهل العلم، وليس في هذا مساس بأنس، وكبر السن أمرٌ لا مهرب منه ... ، وإن كان لا يدع حافظة المرء على ما كانت عليه في عهد الشباب». أقول: راجع «الطليعة»، وأَضِفْ إلى الجماعة الذين ذكرتُهم آخر (ص 100): أبو عثمان النهدي، بلغ مائة وثلاثين. وقيل: وأربعين سنة. وزِرّ بن حُبيش بلغ مائة وسبعًا وعشرين سنة. ومعرور بن سويد بلغ مائة وعشرين سنة. ويُجْعَل السطر الأول من (ص 101) هكذا: «وسويد، وأبو عثمان، وأبو رجاء، وزِرّ، وأبو عَمرو، ومعرور، كلهم ثقات أثبات مُجْمَع على ... ». ثم ذكر (ص 49): «من مذهب أبي حنيفة أيضًا، كما يقول ابن رجب في «شرح علل الترمذي»: رد الزائد إلى الناقص في الحديث متنًا وسندًا». ثم راح يفرِّع على هذا أنه إذا [ورد] (2) في رواية عن راوٍ لفظ «عن»، وفي أخرى «سمعت»، فالمعتمد العنعنة؛ لأنها الناقصة. _________ (1) (ص 77 - 84). (2) زيادة يستقيم بها السياق.

(9/263)


كذا قال! ولا أدري لماذا يفزع الأستاذ إلى ابن رجب، وهل ابن رجب أَعْرَف بمذهب أبي حنيفة من الحنفية أنفسهم؟ ! ثم ما مستند ابن رجب؟ فأما أخذ الأصول من الفروع وبناؤها عليها، كما هو شأن الحنفية، فليس بمقنع. ولهم في ذلك من المناقضات والتعسُّفات [ص 52] ما هو معروف في أصول الفقه. ومع ذلك، لا يظهر دخول مسألة العنعنة تحت القاعدة، وإنما رد الزائد إلى الناقص أن تأتي رواية منقطعة قطعًا ورواية موصولة، ففي المنقطعة نقص راوٍ ــ مثلًا ــ، وفي الموصولة زيادته، وهكذا إذا أتت رواية موقوفة ورواية مرفوعة، وأما النقص في المتن فواضح. وفوق هذا .. فهذه القاعدة غير مجمع عليها، فتحتاج إلى دليل. والاكتفاء بأنها «احتياطٌ لدين الله» لا يكفي. أرأيت لو قال قائل: لا أحتج إلا بما ثبت يقينًا، بأن يكون قطعي المتن، قطعي الدلالة، احتياطًا لدين الله أن أثبته بالظن. أيكفيه هذا؟ أو رأيت لو قال قائل: لا أحتج بالرأي والقياس البتة، احتياطًا لدين الله أن أثبته برأيي. أيكفيه هذا؟ ومسألة القصاص في القتل بالمثقَّل قد توسَّعت فيها في الفقهيات من «التنكيل» (1)، واحتججت بأربع آيات من كتاب الله عز وجل. وذكر الأستاذ هنا (ص 48) ما قلت في مقدمة «الطليعة» (2): إنه تكلم _________ (1) (2/ 127 وما بعدها). (2) (ص 4).

(9/264)


في هشام بن عروة حتى نَسَبه إلى الكذب. فزعم أن مقصودي ما نقله عن الخطيب، مما أخرجه عن الساجي بسنده إلى مالك. ثم قال الأستاذ: «أهذا قولي أم قول مالك، أيها الباهت الآفك؟ ». أقول: لا أحبّ أن أجاري الأستاذ في حِدَّته، وإنما أقول: ليس مقصودي ما زعمتَه، إنما مقصودي قول الأستاذ في «التأنيب» (ص 98) ــ بعد ذكره رواية هشام عن أبيه قال: «لم يزل أمر بني إسرائيل ... » ــ قال الأستاذ: «إنما أراد هشام بذلك النكاية في ربيعة وصاحبه، لقول مالك فيه ... ». ففهمت من قوله: «إنما أراد ... » أن مقصوده أن هشامًا (1) اختلق هذه الحكاية، ورواها عن أبيه لذاك الغَرَض. فإن كان هذا مراد الأستاذ في «التأنيب» فذاك، وإن زعم أنه لم يُرِد هذا فأمره إلى الله، وأستغفر الله وأتوب إليه. أما رواية الساجي؛ فقد ردَّها الخطيب نفسُه (1/ 223) [ص 53] بأنّ شيخ الساجيّ لا يُعْرَف، فعَدَل الأستاذ عن ذلك: «هذا من انفرادات الساجي، وأهل العلم قد تبدر ... ». فأوهم أنه لا علة للحكاية إلا انفراد الساجي، والساجي حافظ جليل، ترجمته في «التنكيل» (2)! وقول الأستاذ: «وأهل العلم قد تَبْدُر ... » يوهم أن الحكاية ثابتة، فيحتاج إلى الاعتذار عنها! _________ (1) الأصل: «هشام». (2) (رقم 94).

(9/265)


* المثال 2. «الطليعة» (ص 106 - 108) (1). لم أر في «الترحيب» تعرُّضًا لهذا، وقد وقفت على نسخة أخرى جيدة من «ثقات ابن حبان» محفوظة في المكتبة السعيدية بحيدر اباد، وفيها كما نقلته عن نسخة الآصفية. ورأيت في «تاريخ جرجان» (2) لحمزة السهمي ترجمة لأبي عوانة، وفيها عن ابن عدي والإسماعيلي أنه توفي سنة سبعين ومائة. وهذا يؤيد ما ظننته في «الطليعة» (ص 107) (3) سطر (8). والله أعلم. * المثال 3. «الطليعة» (ص 108) (4). قال الأستاذ (ص 50): «وأما قولي في محمد بن علي بن الحسن بن شقيق: ليس بالقوي. فيكفي في إثباته إعراض الشيخين عن إخراج حديثه في الصحيح مع روايتهما عنه خارج الصحيح». أقول: لم يحتاجا إلى ما عنده؛ لأن سِنّه قريب من سنهما، وروايتهما عنه خارج الصحيح في صحتها وقفة، وربما يكونان رويا عنه بعض الحكايات مما لم يجداه عند من هو أعلى إسنادًا منه. وقد وثَّقه النسائي، وهو في توثيق المتأخرين أشدّ احتياطًا من الشيخين، فربّ رجلٍ فيهما أو في أحدهما يضعّفه النسائي، وغيره. _________ (1) (ص 84 - 85). (2) (ص 481 - بتحقيق المؤلف). (3) (ص 85). (4) (ص 85).

(9/266)


وليس (1) كلُّ مَن لم يروِ عنه الشيخان غير قوي. والأستاذ نفسه لا يلتزم هذا. * المثال 4. «الطليعة» الطليعة (ص 108) (2). نبَّهني الأستاذ على أن لفظ «وأبو عمار» استدرك الضرب عليه في جدول الإصلاح. وصدق الأستاذ. * المثال 5. «الطليعة» (ص 109) (3). قال الأستاذ (ص 50): «السواق غير الصواف». أقول: ترجمته في «التنكيل» (4). * المثال 6. «الطليعة» (ص 109) (5). قال الأستاذ: «لا أريد التكلم عن ابن المنادي، فإنه معروف». أقول: أحسن الأستاذ إلى نفسه! _________ (1) الأصل: «وليس كان ... » فالظاهر أن «كان» كتبها المؤلف قبل تعديل العبارة ثم ذهل عن الضرب عليها. (2) (ص 86). (3) (ص 86). (4) (رقم 167). (5) (ص 86 - 87).

(9/267)


[S1] 


 [S1]ييي