يسر العقيدة الإسلامية
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
- يُسْرُ
العَقِيدة الإسْلامِية
- مقدمة التحقيق
- الأولى: في أصول لا بد منها الأصل الأول من المعلوم أن الإنسان يولد لا يعلم شيئًا، وإنما معه الإحساس بالألم ونحوه، أعني بحيث إذا قُرِص ظَهَر إحساسُه بألم القَرْصَة. وهذا الإحساس يلزمه منذ نفخ الروح، وليس هو بِعلمٍ، ومعه إلهامٌ فطري، به يلتقم الثدي ويمتصُّه. وهذا مع وضوحه لا أحفظ فيه خلافًا، وقد قال الله عز وجل: [{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}] [النحل: 78] (1).
- الأصل الثاني العلم المُكْتسب من الخبر لا يتحصَّل إلا بمعونة الحسّ والقياس، فإن الخبر يتضمن حُكمًا ومَحكومًا به ومحكومًا عليه، فلا يستفيد السامع حتى يكون قد عرف المحكوم به والمحكوم عليه وصورة الحكم بحسٍّ أو قياس. وأكثر الكلمات تتغير صورة المفهوم منها بتغيّر المنسوب إليه، فإذا قلت: "وجه زيد" تصوَّر السامع ــ إذا كان يعرف زيدًا ــ وجهه المخصوص. فإذا قلت: "وجه بكر" تصوَّر وجهًا آخر غير الأول. فإن قلت: "وجه رجل" تصور القَدْر المشترك بين وجوه الرجال. فإن قلت: "وجه إنسان" ازداد الاشتراك. فإن قلت: "وجه حِصان" تصوَّر شيئًا آخر، وهكذا: "وجه جمل"، "وجه صقر"، "وجه حيوان"، "وجه الدار"، و"وجه المسجد"، و"وجه الشهر"، و"وجه الأمر".
- الأصل الثالث كما أن العقل محتاج إلى الحِسّ والقياس في حُكْمه بالإثبات، فكذلك هو محتاج إليهما في حكمه بالنفي، سواءً أصاب أم أخطأ.
- الأصل الرابع: الأغلاط
- الأصل الخامس المقصود من وضع اللغات هو تسهيل سبيل التفاهم بين الأفراد ليتعاونوا على تحصيل معرفة ما يحتاجون إلى معرفته، فإن حسَّ الإنسان وقياسه بدون معونة غيره لا يكاد يكفيه، لما يحفظ به حياته.
- [ص 11] المقدمة الثانية: في التقليد والتحقيق
- [ص 19 ب] (1) المقدمة الثالثة: في تقسيم العقائد
- [ص 23] الباب الأول: في الضروريات
- [المسألة] الأولى: ما هو؟
- المسألة الثانية: كيف (1)؟
- [ص 48] المسألة الثالثة: أين؟
يُسْرُ العَقِيدة الإسْلامِية
تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله تعالى (1312 - 1386) تحقيق علي بن محمد العمران
(مقدمة 5 جـ/1)
مقدمة التحقيق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيّه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد. فهذه رسالة في العقيدة للشيخ العلامة المعلمي رحمه الله تعالى، أراد منها تسهيل العقيدة وتيسيرها كما أفصح عن ذلك في مقدمتها، وسيأتي نص كلامه، ولذلك أطلق عليها «دين العجائز أو يسر العقيدة الإسلامية» إلا أنه لم يتمكن من إتمامها ليتحقّق له مراده، وسنتحدّث عنها في عدة مباحث: * اسم الرسالة تردّد المؤلف في تسمية الرسالة، فكتب على رأس الصفحة الأولى منها «دين العجائز أو يُسر العقيدة الإسلامية» فكأنه لم يجزم بواحدٍ منهما فتركهما أملًا أن يستقرّ رأيه على واحدٍ منهما لو تمَّت الرسالة، لكنه لم يتمها فبقي الاسم على حاله. فاخترنا على الغلاف كتابة أوضحهما دلالةً على مقصود الكتاب وهو «يُسْر العقيدة الإسلامية». ولا أعتقد أن تقديم «دين العجائز» في الذكر يدل على تفضيل المؤلف له على الاسم الآخر، والله أعلم. * سبب تأليفها صرَّح المؤلف في صدر رسالته بسبب تأليفها، حيث ذكر اختلاف الناس في العقائد وتفرّقهم، وأنواع الكتب المؤلفة في العقائد، وأنها بأنواعها الثلاثة «المختصرة، والمتوسطة، والمطولة» لا تفضي إلى العلم اليقين
(مقدمة 5 جـ/3)
والاطمئنان، بل إلى الشك والحيرة والتقليد، ثم قال ص 5: «فأحببتُ أن أكتب رسالةً أوضِّح فيها الكلام، وأُقرِّب المرام، وأحرص على تقرير الحجة على وجهٍ يشفي غليل المستفيد، وتخرجه إن شاء الله تعالى عن الحيرة والتقليد». * موضوعات الرسالة بدأ المؤلف مقدمة رسالته بتمهيد بيَّن فيه اختلافَ الناس وتفرّقهم في العقائد، وأن كتب العقائد على ثلاث طبقات؛ مختصرات ومتوسطات ومطوّلات. وبيَّن ما في كل واحدة منها من عيوب، ثم خلص بمحصّلة من تلك الكتب وفائدتها لمن يطالعها بقوله (ص 4): «وبالجملة، فلا يكاد الناظر في تلك الكتب يخلص منها إلا بإحدى ثلاث: التقليد المحض، أو الحيرة، أو الشك في أصل ... » ثم ذكر (ص 5 - 6) أن هذا هو السبب الداعي إلى تأليف رسالته هذه، وغرضه منها، وتجرّده للحق بغضِّ النظر عن أيّ انتماء لفرقة من الفرق، وأنه نَظَر نَظَر صِدْق للحق. - ثم بدأ المصنف كتابه بمقدمات ثلاث: المقدمة الأولى: في أصول لابدّ منها (ص 7 - 21) وذكر فيها خمسة أصول. المقدمة الثانية: في التقليد والتحقيق (ص 22 - 39). ذكر فيها أن على المرء أن يسأل نفسه: هل تريد التقليد أو التحقيق؟ وأنه ينبغي على من اختار أحد الأمرين أن يقلّد الكتاب والسنة أو يحقق فيهما،
(مقدمة 5 جـ/4)
فهما أولى ما قُلّد وأولى ما حُقق، وأن المرء إذا رأى لنفسه النظر في كتب المتكلمين فعليه أن يحذر ما فيها ولا يغتر بما يزعمونه من حجج وبراهين. وكان المؤلف قد كتب فصلًا في الأسلحة التي يصول بها الفلاسفة، وكانت سببًا في ضلال كثير من الناس، ثم ضرب عليه، فأثبتُّه في موضعه في الهامش للفائدة. ثم عقد فصلًا ذكر فيه أن الخائضين في العقائد فِرَق، فذكر سبعًا منها إجمالًا، ثم تكلم عن كل واحدة بما يلخِّص طريقتها. ثم تكلم على ثلاثة من العلماء ممن جمع بين الكلام والفلسفة، وما وقع لهم من الرجوع للحق، وهم الجويني والغزالي والرازي. ولم يتمكّن من إتمام الكلام فيهم في هذه النسخة فترك بياضًا، أو أنه أراد نقله من الكتب الأخرى التي تكلم فيها على هؤلاء العلماء، فنقلتُ كلام المؤلف في المتن حينًا وفي الهامش أحيانًا أخرى بحسب ما يقتضيه السياق، مع الإشارة إلى كل ذلك. ثم عقد فصلًا في ذكر جنايات المتكلمين على الإسلام، وذَكَر المتصوّفة، وفلاسفة العصر. المقدمة الثالثة: في تقسيم العقائد (ص 40 - 46). قسَّم العقائد إلى قسمين: قسم لا يمكن في هذه الدار الوصول إلى معرفته، وقسم يمكنهم. فالأول (ما لا يمكنهم) لابدّ أن يكون الشارع قد حظر عليهم الخوض فيه لأسباب ثلاثة وذكرها. وأما القسم (الذي يمكنهم معرفته) فعلى ضربين، ما لم يكلفهم الشرع بطلبه، وما كلفهم به، وأن الأول على أقسام، محظور ومكروه ومباح. وأما
(مقدمة 5 جـ/5)
الثاني فينظر في الطريق الموصل إليه، وأن الطريق الموصل ليس كما يهواه الإنسان، وقد تكون محفوفة بالابتلاء لكنها موصلة، وضرب لذلك مثلًا بأحد الملوك ... ثم عقد فصلًا ذكر فيه أن المكلّف بطلب هذا القسم ينقسم بالنظر إلى درجة التكليف إلى أضْرب، فذكر أربعة. - بعد الانتهاء من المقدمات بدأ بالباب الأول في الضروريات، وذكر تحته أصولًا: الأصل الأول: وجود رب العالمين. قرّر فيه أن جميع الأمم من الأولين والآخرين كانوا مقرين بوجود رب العالمين، وأحال في استكمال الاستدلال بذلك إلى كتاب «العبادة» له. ثم ذكر فرقة «الدهرية» وحقق كونهم لا ينكرون وجود الربّ تعالى، ولا ينكرون كونه يهلكهم، وذكر احتمالين في المسألة. ثم عقد سبعة فصول نذكر موضوعاتها بإيجاز، فعقد فصلًا في سنة القرآن أن ما كان من الحق معروفًا لا يورد عليه الشبهات وإنما يؤخذ منه البرهان، وذكر أن البراهين على وجود رب العالمين كثيرة منها: الاستدلال بوجود الأثر على المؤثر، وتكلم عن هذا الدليل واختلاف الناس في تلخيصه. ثم عقد فصلًا فيما يجده الإنسان في نفسه من الاطمئنان بأن للعالم ربًّا ليس من جنس ما يراه ويشاهده، وما يعرض له حين تَصفُّح استدلال الفلاسفة أو أسلافه في النسب والتعليم. ثم أجاب عن اعتراض بعضهم بأن
(مقدمة 5 جـ/6)
بعض الناس قد يفزعون عند الشدائد إلى غير الله عز وجل. ثم عقد فصلًا للجواب عن سؤال: كيف حصل للنفس هذا الإدراك النفسي؟ وفصلًا بعده في الدلالة الظنية، وأنه ينبغي للعاقل ألا يلغيها وضرب أمثلةً على ذلك. ثم عقد فصلًا فيمن نشأ على خلاف الحق ماذا ينبغي له أن يعمل. وفصلًا يليه في أن الله تعالى إنما خلق الناس ليبتليهم في الأخْذِ بما ظهر لهم من الحق والأحوط وما يكون لهم من التوفيق والسداد، بخلاف مَن أبى ما ظهر له من الحق. ثم عقد فصلًا في تدبُّر ما حول الإنسان من الآلات والصناعات، وفي خلق الإنسان والحيوان، وتفاصيل خلق الإنسان، وتدبر أمر الشمس والقمر .. وارتباط الموجودات ببعضها ... وأن هذه الأمور مجتمعة تضطرك إلى الإيمان بأن لها صانعًا وأن تدبيره لا يفتر. ثم عنون بقوله: «مبلغ علم الملحدين» (ص 63 - 67)، ذكر فيه أن من الأدلة على وجود الرب تعالى وأن الهداية بيده: النظر في حال الملحدين، وكيف أنهم مع تبحُّرهم في معرفة الأمور الكونية نظروا إليها لذاتها ولم يهتدوا بها إلى حق .. وشَرْح ذلك والرّد عليهم. ثم عاد إلى ذِكْر الفصول المتعلقة بالأصل الأول فذكر خمسة فصول. ذكر في الأول منها الأمور التي تبعث المتشككين في إصرارهم على دعوى الشك فذكر ثمانية منها. ثم عقد فصلًا ذكر فيه طائفة من الأدلة على وجود رب العالمين، فمنها
(مقدمة 5 جـ/7)
ما يُشاهَد من تعجيل العقوبة لكثير من أهل البغي والظلم، ومنها إجابة الدعاء، وغير ذلك. ثم عقد فصلين صغيرين في الموضوع، وفصلًا ثالثًا ذكر فيه أن ثمرة النظر في نفس الناظر تدل على وجود ربّ حقيقيّ، وليس هو ذاك الكوكب ولا تلك الشمس، وذَكَر أسباب ذلك. ثم ذكر الأصل الثاني: أنه عز وجل واحد، وذكر الفِرَق التي قد تخالف هذا الأصل، فذكر ثلاث فرق وردّ عليها. ثم عقد فصلًا ذكر فيه اعتراضًا وردّ عليه، ثم عقد فصلًا ذكر فيه الشبهات التي تعترض الطلاب في هذا الزمان وتكاد تشككهم في ذلك، وذكر تحته مسائل (ص 84 - 95). الأولى: ما هو؟ الثانية: كيف؟ الثالثة: أين؟ وأطال في بسط هذه المسألة الثالثة، وذَكَر شُبَه المتكلمين والجواب عنها (ص 91 - 108). ثم قال: وهنا مباحث: المبحث الأول: المماثلة بين الشيئين تأتي على ثلاثة أضرب. وذكرها. المبحث الثاني: المماثلة في الوصف أو الأوصاف على أربعة أوجه. وذكرها.
(مقدمة 5 جـ/8)
المبحث الثالث: فيما بين هذه الأوجه من التلازم والتنافي. المبحث الرابع: في نفي المماثلة. وبه ينتهي ما وُجد من الكتاب. ثم ألحقتُ الكتاب بنصٍّ جاء في (ق 41 ب - 42 ب) وقد كتب المؤلف فوقه: «هذا مع الورقة الآتية يؤخَّر إلى بحث توحيد الألوهية إن شاء الله تعالى» إلا أن هذا المبحث لم نقف عليه فيما وُجد من الرسالة، فلا ندري أكتبه المؤلف أم لا؟ فألحقته في نهايتها للفائدة. * وصف النسخة للكتاب نسخة واحدة محفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم [4666] وتقع في 62 ورقة في دفتر مسطّر من القطع العادي، وهي بخط مؤلفها المعروف. وهي نسخة مسوّدة كثيرة الضرب واللحق والتخريج، كتب المؤلف عنوانها في رأس الصفحة الأولى: «دين العجائز أو يُسر العقيدة الإسلامية» ثم بدأ بالبسملة فالمقدمة، وتنتهي الرسالة عند قوله: « ... هي الحاصلة على الوجه الأول». والحمد رب العالمين. وكتب علي بن محمد العمران في 22/ 5/ 1433 هـ مكة المكرمة حرسها الله
(مقدمة 5 جـ/9)
نماذج من النسخة الخطية
(مقدمة 5 جـ/11)
الورقة الأولى من "سير العقيدة"
(مقدمة 5 جـ/13)
الورقة الأخيرة من "سير العقيدة"
(مقدمة 5 جـ/14)
يُسْرُ العَقِيدة الإسْلامِية تأليف الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله تعالى (1312 - 1386) تحقيق علي بن محمد العمران
(5 جـ/1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، حمدًا يوافي نعمَه، ويكافئ مزيدَه، وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك على محمد خاتم النبيين، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه وسائر عباد الله الصالحين. أما بعد؛ فإن الناس تشعَّبوا في العقائد شعوبًا، وتفرَّقوا فيها فِرقًا، وأمْعَنت كلُّ فرقة في الانتصار لقولها ودفع ما عداه، وصارت كتب العقائد على ثلاث طبقات: الأولى: مختصرات، يسرد مؤلِّفوها عقائد سلفهم، ويُلْزمون أبناء تلك الفرقة بحفظها واعتقادها والاستيقان بها، ولا يذكرون حُجةً ولا دليلًا. والثانية: متوسّطات، يسوق مصنفوها عقائد فرقتهم وبعضَ ما احتجَّ به قدماؤها عليها، وعلى دفع ما خالفها، على وجهٍ لا يكادُ يثمر غلبةَ الظن، فكيف اليقين؟! والثالثة: مطوَّلات، يُبْسَط فيها الخلاف، مع ذِكْر كثير من الحُجج، مع تدقيق الكلام، بحيث يصعب المرام، ويعتاص على الأفهام، فيعجز الناظر عن استيفاء النظر فيها، ويخرج منها كما دخل فيها، بل أشدَّ حيرةً وارتباكًا. وربما ذكر الماتنُ (1) دليلًا، ثم ذكر اعتراضًا عليه، وأجاب عنه، ثم ذكر ردًّا لهذا الجواب ودفعه. _________ (1) أي: صاحب المتن.
(5 جـ/3)
فيجيء الشارح فيذكر دفعًا لهذا الدفع وجوابًا عنه، وربما ذكر دفعًا لهذا الجواب ثم رده، فيجيء المُحَشِّي (1)، فيذكر دفعًا لذلك الرد ثم يجيب عنه. وهكذا لا تكاد هذه السلسلة تنقطع، وربما يقتصرون في الجواب على قولهم: "وهذا غير مسلَّم"، أو: "وفيه نظر"، أو دعوى بطلانه بالبديهة. وكثيرًا ما يُشَكِّكون في أجوبتهم، بقولهم: "قد يقال كذا"، أو: "فليتأمل" أو نحو ذلك. وكثيرًا ما يكون اعتمادهم على الإلزام للمخالف، أو الاستناد إلى دليل عقليّ قد اختلفوا فيه، أو الإحالة على مسألة أخرى مختلف فيها أيضًا. وكثيرًا ما يكون الناظر في تلك الكتب قد شدا شيئًا من العلم، فيظهر له ضَعْف بعض تلك الأجوبة، ولكنه لا يستطيع أن يفهم مِنْ ضَعْفه أنّ مقابِلَه حق. وغالب المؤلفين ينتسب أحدهم إلى فرقة خاصة، ويتقيَّد بها، ويلتزم الذَّبَّ عنها، وتسميتها (2): أهلَ الحق، ويطلق على مخالفيها الأنباز الشنيعة. وذلك كله مما يزهِّد الناظرَ ــ إن كان طالب حق ــ في كلامه، ويسيء ظنه في حُجَجه، ولا يأتمنه على نقله عن الفرق المخالفة له، ويَحْدِس أن المؤلف لم يذكر من حُجَج مخالفيه وأجوبتهم إلا أضعفها. وبالجملة؛ فلا يكاد الناظر في تلك الكتب يخلص منها إلا بإحدى ثلاث: التقليد المحض، أو الحيرة، أو الشك في أصلٍ اتفق عليه المختلفون _________ (1) أي: صاحب الحاشية. (2) تحتمل: "ويسميها".
(5 جـ/4)
في تلك المسألة إن لم يستظهر بطلانه. كمسألة الجهة للرب سبحانه، قد يتدبر الناظر الأدلة العقلية للفريقين، ثم يخرج بالشكِّ في وجود الله عز وجل أو إنكاره، فيقول: ما كان في جهة فليس برب، وما لم يكن في جهة فهو معدوم (1)! فأحببتُ أن أكتب رسالةً أوضِّح فيها الكلام، وأُقرِّب المرام، وأحرص على تقرير الحجة على وجهٍ يشفي غليل المستفيد، وتخرجه إن شاء الله تعالى عن الحيرة والتقليد. وهواي فيها إن شاء الله تعالى مع الحق، لا مع فرقة من الفرق، [ص 2] _________ (1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "منهاج السنة": (2/ 221 - 223): "للناس في إطلاق لفظ (الجهة) ثلاثة أقوال، فطائفة تنفيها وطائفة تثبتها وطائفة تفصّل ... والمتبعون للسلف لا يطلقون نفيها ولا إثباتها إلا إذا تبين أن ما أُثبت بها فهو ثابت وما نُفي بها فهو منفي؛ لأن المتأخرين قد صار لفظ (الجهة) في اصطلاحهم فيه إجمال وإبهام كغيرها من ألفاظهم الاصطلاحية، فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي؛ ولهذا كان النفاة ينفون بها حقًّا وباطلًا، ويذكرون عن مثبتيها ما لا يقولون به، وبعض المثبتين لها يُدخل فيها معنى باطلًا مخالفًا لقول السلف ولما دل عليه الكتاب والميزان. وذلك أن لفظ (الجهة) قد يراد به ما هو موجود، وقد يراد به ما هو معدوم، ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق، فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله كان مخلوقًا، والله تعالى لا يحصره ولا يحيط به شيء من المخلوقات، فإنه بائن من المخلوقات. وإن أريد بالجهة أمر عَدَمي، وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله وحده ... ". وانظر "مجموع الفتاوى": (3/ 41، 5/ 296 وما بعدها) و"درء التعارض": (3/ 295 وما بعدها).
(5 جـ/5)
وتقيُّدي فيها بالإسلام، ليس لأنه ديني ودين قومي، وإنما هو لاستيقاني بعد صِدْق النظر أنه الحق. وسترى إن شاء الله تعالى تصديقَ قولي هذا بقدر ما تَسَعه هذه العُجالة.
(5 جـ/6)
مقدمات
الأولى: في أصول لا بد منها الأصل الأول من المعلوم أن الإنسان يولد لا يعلم شيئًا، وإنما معه الإحساس بالألم ونحوه، أعني بحيث إذا قُرِص ظَهَر إحساسُه بألم القَرْصَة. وهذا الإحساس يلزمه منذ نفخ الروح، وليس هو بِعلمٍ، ومعه إلهامٌ فطري، به يلتقم الثدي ويمتصُّه. وهذا مع وضوحه لا أحفظ فيه خلافًا، وقد قال الله عز وجل: [{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}] [النحل: 78] (1).
ثم عَقِب الولادة يشرع في إدراك المحسوسات بحواسه، ثم يتدرَّج بطريق القياس. تجري العادة بأن أمه إذا أرادت إرضاعه ترفعه من مَهْده، فإذا تكرر هذا أدرك بطريق القياس أنه إذا رفعته من مهده فإنها سترضعه، فتراه إذا مسَّه الجوع يبكي، فإذا أخذَتْه من مهده سكت، فإذا مضت هُنَيهةٌ ولم ترضعه عاد إلى بكائه. وهكذا تتربّى معلوماته بالإحساس والقياس، ويقوى القياس في نفسه بالتكرر، وذلك هو الاستقراء. ثم بالإحساس والقياس ترتسم في نفسه القضايا الأولية، مثل أن الوجود والعدم لا يجتمعان ولا يرتفعان، وأن الشيء أعظم من جزئه، ويرتسم في _________ (1) بيّض المؤلف للآية أملًا في إلحاقها، ورجّحت أنه أراد الآية التي أثبتُّها.
(5 جـ/7)
نفسه أن الحادث لا بد له من مُحْدِث. والمقصود أنّه إنما يدرك بحسه أو بقياسه على ما أدركه بحسه. غاية الأمر: أن العقلَ يتصرَّف في المحسوسات والمقيسات، فيحكم فيها بأن هذا صواب جزمًا أو رُجْحانًا، وهذا خطأٌ كذلك، وهذا محتمل. وهذه الحال تلازم الإنسان مدة حياته، إلا أنه كلما كبر وتعلَّم وتعقَّل وتفكر اتسعت دائرة معلوماته بكثرة الإحساس والتوسع في القياس وقوة العقل. [ص 3] فإذا كان معك في البيت إنسان، فإنك تدرك وجودَه برؤيتك له، أو بسماع صوته أو حِسّه، أو بلمسك له (1)، أو شمك لرائحته. وتُدْرِك أنه إنسان باستقرائك السابق أن ذلك الشكل، أو ذلك الصوت، أو ذلك الملمس أو الرائحة إنما يكون للإنسان. وتدْرِك أنه فلانٌ باستقراء آخر، وهو أن ذلك الشكل والصوت والملمس والرائحة إنما يكون لفلان. وقد تخرج من حُجرتك ولا تدع بها أحدًا ثم تعود إليها عن قُرْب، فتجد حادثًا قد حدث فيها، فتعلم بسابق استقرائك مع حكم عقلك أنه إنما حدث عن سبب، فإذا أحببت معرفة السبب نظرتَ في ذلك الحادث مستعينًا باستقرائك السابق، فقد تكون ورقةٌ خفيفةٌ قد تحولت عن موضعها، فتُجوِّز أن يكون السبب هو الريح. وقد يكون كتابٌ كان في موضع غير متمكِّن فيه، فترى أنه _________ (1) في الأصل: "أو بلمسك لك"، سبق قلم. والكلمة على الصواب في صياغات سابقة لهذه الفقرة ضرب عليها المؤلف.
(5 جـ/8)
سقط، وإذا فكرت رأيت أنه لعدم تمكُّنه، كان مِن مدّة بسبب ثقله وعدم تمكُّنه يميل إلى الجهة التي سقط منها قليلًا قليلًا حتى سقط في ذلك الوقت. وإذا كان شيء معلّقًا بخيط ضعيف، فانقطع، وفكّرت، رأيتَ أن الخيط كان بسبب ثقل ما عَلِق به تَهِنُ قواه، وتتقطع شيئًا فشيئًا إلى أن انقطع. وإذا كان إناء فيه طعام، وهو متمكِّن في موضعه، فجئتَ وقد سقط، ظننتَ أن فأرة أو هرة أو نحوهما وثبت إليه فأسقطته. وإذا كان إناءُ طعام خفيف قد أُخِذَ من فوق مائدة، ووُضِع فوق مائدة أخرى بعيدة عنها، وكان في البيت أو جواره قِرْدٌ يمكن أن يكون دخل تلك الحجرة، جوَّزتَ أن يكون هو صنع ذلك. وإذا كان صندوق ثقيل، كان موضوعًا بالأرض، فحُوِّل عن موضعه إلى موضع آخر، رأيتَ أن إنسانًا دخل فصنع ذلك، وتَعْلَم مع ذلك أن ذلك الإنسان حي له قدرة على مثل ذلك الفعل. فإذا كانت عدة أشياء كانت في الحجرة قد حُوِّلت عن مواضعها ورُتِّبَت ترتيبًا أحسن وأتقن مما كانت= علمتَ أن ذلك الإنسان حكيم أيضًا إلى الحدِّ الذي يقتضيه ذلك الترتيب. فإذا كانت الحجرة مُحكمة الإغلاق من داخل وأنتَ خرجتَ منها، ووقفت قريبًا من الباب، وتعلم أنه لا يمكن أن يكون دخلها إنسانٌ بعدك، ثم عدتَ إليها فوجدتَ الأمتعة قد حُوِّلت عن مواضعها ورُتِّبت ترتيبًا آخر أبْدَع وأتقن مما كان، فإنك تُجَوِّز أحدَ أمرين: - إما أن إنسانًا له قدرة خارقة دخل إلى الحجرة من حيث لم تَجْرِ العادة بدخول الإنسان.
(5 جـ/9)
- وإما أن يكون [ص 4] موجود حيٌّ عالمٌ قديرٌ حكيمٌ إلى ذلك الحد، خارجٌ عن نوع الإنسان، وعن سائر الأنواع التي شاهدْتَها قبل، ومع ذلك فإنما أدركتَ وجودَه بالقياس على وجود المحسوسات، وكذلك ما أدركته من صفاته، فتدبر. * * * *
الأصل الثاني العلم المُكْتسب من الخبر لا يتحصَّل إلا بمعونة الحسّ والقياس، فإن الخبر يتضمن حُكمًا ومَحكومًا به ومحكومًا عليه، فلا يستفيد السامع حتى يكون قد عرف المحكوم به والمحكوم عليه وصورة الحكم بحسٍّ أو قياس. وأكثر الكلمات تتغير صورة المفهوم منها بتغيّر المنسوب إليه، فإذا قلت: "وجه زيد" تصوَّر السامع ــ إذا كان يعرف زيدًا ــ وجهه المخصوص. فإذا قلت: "وجه بكر" تصوَّر وجهًا آخر غير الأول. فإن قلت: "وجه رجل" تصور القَدْر المشترك بين وجوه الرجال. فإن قلت: "وجه إنسان" ازداد الاشتراك. فإن قلت: "وجه حِصان" تصوَّر شيئًا آخر، وهكذا: "وجه جمل"، "وجه صقر"، "وجه حيوان"، "وجه الدار"، و"وجه المسجد"، و"وجه الشهر"، و"وجه الأمر".
وإذا قلت: "وجه ضيغم"، وصاحبك لا يدري ما الضيغم، لم يستطع أن يُثبت في ذهنه صورةً ما. فإن قلتَ له: الضيغم شيء حيٌّ مما على الأرض، قَرُب أن يتصوَّر صورة مبهمة مشتركة بين الإنسان والفيل والبعوضة وغيرها، وهو مع ذلك لا يستطيع أن يثبتها.
(5 جـ/10)
وإذا قلت: "وجه جِنّي، أو مَلَك" لم يستطع أن يثبت في نفسه صورة؛ لأنه لم يحس بملك أو جني، ولا بما يعلم مشابهته له في الشكل ولو في الجملة، إلا أن وهمه ينازعه إلى صورة الإنسان، إذا كان قد علم أن الملائكة والجن كالناس في أنهم عِبادٌ أحياء عقلاء. ولكن عقله يدفع ذلك بأن الملائكة والجن وإن شاركوا الناس في تلك (1) الصفات وغيرها فليسوا من جنس الناس، والمشاركة في بعض الصفات لا يستلزم المشاركة في كل شيء، كيف وقد عَلِم المفارقة في أصل الجنس؟ ! فإن أخبره صادقٌ بأن للملَك أجنحة، فله أحوال: الأولى: أن يكون يرى أن للملك ذاتًا مُشَخَّصة تقابل ما يسمَّى للحيوان الأرضي: جسمًا، فهذا يقع في وهمه أولًا أنها كأجنحة الطير المعروفة، ثم يدفع هذا [ص 5] بما سمعه من صفات الملائكة: أنهم عِباد عُقلاء عُلْويون مقرَّبون إلى ربّ العالمين، أولو قدرة عظيمة، وغير ذلك، فيعلم أنهم ليسوا من جنس الطير المعروفة، فلعله إنما يستقرّ في ذهنه أنَّ للملك أطرافًا من ذاته لو رآها إنسان لأطلق عليها: أجنحة. الثانية: أن يكون يرى أن الملَكَ ذاتٌ مجردة عن المادة ألبتة، كما تقوله المتفلسفة؛ فإنه يتردد ويتحَيَّر، وأقصى ما عنده أن يتأوَّل الأجنحة على القُدْرة، أو نحو ذلك من التأويلات. الثالثة: أن يكون خالي الذهن عن التجسد والتجرد، وهذا إذا سمع الصفات التي إنما عرفها للأجسام يقع له ما يقع للأول. _________ (1) الأصل: "بعض تلك" وعلى "بعض" آثار شطب، ورجحتُ أنه ضرب عليها، ثم أضاف "وغيرها".
(5 جـ/11)
الأصل الثالث كما أن العقل محتاج إلى الحِسّ والقياس في حُكْمه بالإثبات، فكذلك هو محتاج إليهما في حكمه بالنفي، سواءً أصاب أم أخطأ.
أما الحس؛ فظاهر، كأن تكون بصيرًا، فتحكم بأنه ليس معك في حجرتك إنسانٌ آخر. وأما القياس؛ فكما تحكم أن تسع بيضات لا تمكن قسمتها ــ وهي سالمة ــ إلى قسمين متساويين في العدد، وكما يُكذِّب أناس بوجود الشياطين معهم، وكما يكذِّب كثير من الناس بخوارق العادات، وكما قد تكذِّب من يقول لك: وُلد لي ولد له ثلاث أعين. * * * *
الأصل الرابع: الأغلاط
أما أغلاط الحواسّ؛ فمنها رؤية الجسم البعيد صغيرًا، ورؤية من يغمز إحدى عينيه الشيءَ شيئين، وغير ذلك مما تراه في كتاب "المواقف" (1)، وغيره. وأما أغلاط القياس؛ فمنها أنك إذا جئت بإنسان لم تسبق له معرفة بالمذياع، فأوقفته خارج حُجرة فيها مِذْياع، ثم دخلتَ وفتحتَ المذياع، وعدت إلى صاحبك، فإنه إذا سمع المذياع حكم بأن في الحُجْرة إنسانًا يتكلّم، وأمثال هذا كثيرة. _________ (1) (1/ 88 - 92) للإيجي. وانظر "بغية المرتاد": (ص 267)، و"مجموع الفتاوى": (4/ 30، 13/ 76).
(5 جـ/12)
وقال الله عز وجل: { ... كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} [النور: 39]. وقال سبحانه: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} [النمل: 44]. واعلم أن الأغلاط في النفي أكثر منها في الإثبات؛ وذلك لكثرة اعتماد الإنسان في الحكم بالنفي على استقرائه [ص 6] الناقص، فلو لم يَثبُت عندك قطعًا تفاوتُ الناس في الإبصار لكنت إذا تراءيت الهلال أنت وآخرون فادَّعوا رؤية الهلال وأنت لا تراه تُكذِّبهم. وقِسْ على هذا سائر الحواس. ولهذا تجدنا نكذِّب ما يُحْكى عن زَرْقاء اليمامة (1)، ونكاد نكذِّب ما يحكيه أهلُ التجارب من قوة شمِّ الكلب، وكذلك يكذِّب كثيرٌ من الناس كثيرًا مما يُحكى من الغرائب الطبيعية. وكثيرٌ مما اكتشفه الناس كالكهرباء والراديو وغيرها لو حُكي لهم لوازمه قبل أن يُكْتَشَف لقطعوا باستحالتها. وهذه الاكتشافات اضطرت علماء الطبيعة إلى أن يجزموا أنه لا يزال في خبايا الكون أشياء لا تخطر لأحد على بال، سيرى الناس بعد اكتشافها كثيرًا مما يقطعون الآن باستحالته. هذا مع أن أرضنا هذه نقطة صغيرة من العالم، ولا نشكّ أنَّ فيه ما هو أرقى منها، وأن هناك ما ليس هاهنا، ولا يجد العقلُ مانعًا من أن يكون هنا وهناك حقائق لا تُدْرَك بحواسنا هذه، وإنما تُدرك بحواسّ أخرى، وقد صرَّح _________ (1) امرأة من جديس، قيل: إنها كانت تنظر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام، وتبصر الشعرة البيضاء في اللبن .. انظر "ثمار القلوب": (1/ 465 - 467)، و"حياة الحيوان": (4/ 241)، و"الأعلام": (3/ 44).
(5 جـ/13)
بذلك المتفلسفون (1) من القدماء والعصريين (2). قال بعض العصريين: إن للنحل حاسة سادسة (3). وليس هناك ما يحصر الحواسّ الممكنة في الخمس، ولا في ست، ولا سبع، ولا أكثر. وهذا الحَبّ والنوى لو لم يتضح لنا بالحس والقياس والتواتر اتضاحًا قاطعًا أن الحبة والنواة تبقى سنين، ثم إذا وُضِعَت في الطين نبت منها مثل أصلها، ثم كبر، ثم أثمر مثل ذلك الثمر الأول، وهكذا أبدًا = لقطعنا باستحالته. وكذلك توالد الحيوان وما فيه من العجائب، لو أخذتَ بيض حمام، فولَّدته توليدًا صناعيًّا، بوضعه في التبن ونحوه في حرارة معتدلة، فلما خرجت الفراخ ربيتها بدون أن تخالط غيرها من الحمام، ثم أخذت منها ذكرًا وأنثى، وعزلتهما في موضع = لوجدتهما بعد أن يكبرا ويتسافدا يشرعان في جمع القَشّ، واتخاذ موضع صالح لوضع البيض فيه وحضنه (4). فمن أعْلَمَهما أن السِّفاد سبب للتوالد؟ ومن أعلمهما أن الأنثى ستضع بيضًا يحتاج أن يُحْضَن؟ وقس على ذلك. _________ (1) غير واضحة في الأصل، وهكذا قرأتها. (2) هذا من حيث التجويز العقلي لا مانع منه. وانظر ما ذكره الإمام ابن القيم من حِكْمة جعل الحواس خمسًا في مقابلة المحسوسات الخمس، وأنه لو كان هناك ما يُحسّ بغيرها لجعل له حاسة سادسة. "مفتاح دار السعادة": (2/ 203). (3) انظر في عجيب أمرها وحكمة خلقها: "مفتاح دار السعادة": (2/ 165 - 169)، و"حياة الحيوان الكبرى": (4/ 29 - 52). (4) ذكر المصنف نحو هذا المثال في "التنكيل ــ القائد": (2/ 327).
(5 جـ/14)
وطالع ما قاله علماء الحيوان في النحل والنمل (1). * * * *
الأصل الخامس المقصود من وضع اللغات هو تسهيل سبيل التفاهم بين الأفراد ليتعاونوا على تحصيل معرفة ما يحتاجون إلى معرفته، فإن حسَّ الإنسان وقياسه بدون معونة غيره لا يكاد يكفيه، لما يحفظ به حياته.
والإشارة محدودة الفائدة؛ إذ من المعلومات ما لا يُمكن إفهامها بمجرد الإشارة، ومنها ما يمكن على وجه إجمالي مشتبه، ومنها ما يمكن تحديده ولكن بعد تعب وعناء وصرف وقت طويل، وأما ما عدا ذلك فهو قليل. وجَرِّب ذلك بأن تدخل بلدًا لا تعرف لسانهم، ولا يعرفون لسانك، فانظر ما يكون حالك قبل أن تعرف كلماتٍ من لغتهم، على أنك في هذه التجربة [ص 7] أحسن حالًا منك لو فرضت أنه لم توضع للناس لغة أصلًا. هذا، ولا يخفى أن فائدة التعاون إنما تحصل إذا كان المخبر حريصًا على إفهام المخاطَب ما هو الواقع، فإذا كلَّمْت رجلًا بكلام ترى أنَّ من شأن ذلك الكلام بحسب قانون تلك اللغة مع حال المخاطب أنه إذا سمعه فهم منه معنى، فذلك المعنى إن كان مطابقًا للواقع في اعتقادك؛ فقد تحرَّيت الصدق، وأتيت بالكلام فيما هو المقصود منه، وإن كان غير مطابق للواقع في اعتقادك، _________ (1) سبقت الإشارة إلى الكلام في النحل. وفي النمل انظر "مفتاح دار السعادة": (2/ 150 - 152)، و"حياة الحيوان": (4/ 105 - 119).
(5 جـ/15)
بمعنى أنك لا تعتقد مطابقته للواقع، بل تعلم أو تظن مخالفته له أو تشك؛ فقد تحرَّيت الكذب، [وأتيت] (1) بالكلام فيما هو نقيض المقصود منه. ولا شكَّ أن قانون العربية [أن يكون] الكلام على ظاهره المفهوم منه، مع ما يكون هناك من القرائن التي [إن لم] يلاحظها المخاطَب كان مقصِّرًا. فإذا كنت مع رفيق لك في الهند مثلًا، وأهلكما في اليمن، ثم رجعت إلى وطنك، فسألك أهل رفيقك عنه فقلت لهم: قُتِلَ، قَتَلَه فلان، فهاهنا عدة أحوال: الأولى: أن تكون شَهِدْته قد (2) قَتَلَه فلانٌ القَتْلَ الحقيقي. الثانية: أن تكون شَهِدْته قد جرحه فلان، فأغمي عليه، وقال من عنده: إنه مات، وسافرتَ عَقِبَ ذلك، ولا ترى إلا أنه مات الموتَ الحقيقي. الثالثة: أن تكون علمت بالجرح، ثم أخبرك من تثق به أنه مات. الرابعة: أن يكون رفيقك رجع معك وهو حاضر المجلس، وقد عرف أهله ذلك، ولكنهم سألوك عما كان حاله في الهند، فقلت: قتله فلان، وأردت أنه خَدَعه في معاملته، أو نحو ذلك مما يُتجوَّز عنه بالقتل. الخامسة: أن يكون رفيقك باقيًا بالهند، وسئلت عنه، فقلت: قُتِل في الهند قَتَله فلان، وسمَّيتَ رجلًا يعرفون أنه لم يزل عندهم، وأردتَ أنه كَتَبَ إليه بكتابٍ أشار عليه فيه بما ضره ونقصه، فكأنه قتله، أو نحو ذلك مما يُتجوَّز عنه بالقتل. _________ (1) تفشَّى الحبرفي هذا الموضع، فطمس الكلمات التي وضعناها بين المعكوفات في هذه الأسطر الثلاثة. (2) عليها أثر الضرب، لكن الظاهر أنها ثابتة، والضرب إنما امتدّ إليها من السطر الآخر.
(5 جـ/16)
[ص 8] السادسة: أن تكون علمتَ بأن فلانًا جرحه، وظننت أن ذلك الجرح قاتل، وسافرت قبل أن تعلم بالموت، أو أخبرك به من لا يوثق به. السابعة: أن يكون صاحبهم لم يرجع من الهند، وكذلك فلان، وقلت لهم: إنه قُتِل، قَتَلَه فلان، ولم تتأول شيئًا. الثامنة: مثل السابعة، إلا أنك تأولت، أردت: خَدَعَه، أو نحو ذلك مما يُتجوَّز عنه بالقتل، زاعمًا أنه يكفي قرينة صارفة عن الظاهر: أن صاحبهم موجود على الأرض حيّ يُرْزَق، أو أن فلانًا سافر إلى أمريكا قبل التاريخ الذي زعمتَ أنه قَتَل صاحبهم فيه، ويستحيل رجوعه إلى الهند في تلك المدة، وهم لا يعلمون بذلك، أو أنه قد علم الله تعالى أن صاحبهم لا يُقْتل في الوقت الذي أخبرتهم بأنه قُتِل فيه، ويستحيل أن يقع خلاف ما سبق في علم الله، أو نحو ذلك من الأمور التي تنافي القتل، ولكنهم لا يعلمونها. ومن ذلك: أن يكون صاحبهم رجع مستخفيًا وهو موجود في المجلس بحيث لا يرونه، أو يكون عندك في بيتك، وجاءك أبوه وهو ضعيف البصر، فأدخلته إلى المكان الذي فيه ابنه ولم تخبره به، بل جلس بحيث لو كان صحيح البصر لرآه. فأما الصورة الأولى فهي الصدق المَحْض، إلا أنه في هذا المثال قد يحرم عليك إخبارهم إذا خشيت أن يَعْدوا فيقتلوا بعض أقارب القاتل. وأما الثانية فالظاهر أنه لا يلزمه قبح الكذب وإثمه، ولكن كان الأحوط أن تُفصِّل، فتَحْكي الواقعة كما هي لمكان الاحتمال وإن كان بعيدًا، ولا فرق في هذه بين أن يكون مات أو لم يمت، كأن يكون أفاق بعدك ولم يبلغك ذلك.
(5 جـ/17)
وأما الثالثة فهي قريب من الثانية، إلا أن الملامة لك ألزم، إذ كان ينبغي لك أن لا تصرِّح بالقتل، بل تشرح الواقعة كما كانت، ولا فرق في هذه ــ أيضًا ــ أن يكون مات أو لا. وأما الرابعة فلا قُبْح فيها ولا إثم بالنظر إلى القتل؛ لأن صاحبهم حيّ أمامَ أعينهم، فكيف يتوهَّمون أنه قتل؟ ! وكذلك الخامسة؛ فإنهم يعلمون أن فلانًا لم يزل عندهم، فكيف يتوهمون أنه مع ذلك قَتَل صاحبهم بالهند؟ ! وأما السادسة فالقبح والإثم لازم لك؛ إذ لستَ بجازم في نفسك بأنه مات، فكيف تجزم بالقتل؟ وإنما سبيلك أن تقصّ عليهم الواقعة كما كانت، ولا فرق في هذه بين أن يكون مات أو لا. وأما السابعة فتحرِّيك الكذب ولزوم قبحه وإثمه لك ظاهر، سواءً أكنت تعلم بعدم القتل أو لا تعلم قتلًا ولا عدمه، وسواءً اتّفق أن كان في نفس الأمر أنه قتله أو لا؛ إذ المدار على جرأتك على الكذب وهي ثابتة على كل حال. [ص 9] وأما الثامنة فهي كالسابقة (1)، فإن تأويلك في نفسك لا يغير من صورة الخبر ولا من فهم السامع شيئًا، وكذلك المنافيات التي لا يعلمها السامع لا تُغِّير من فهمه شيئًا. والقرينة التي اشترطها العلماء لصحَّة التجوُّز المرادُ بها ما يقترن بالخبر مما يَشعُر به السامعُ ليصرفه عن فهم ما لم يقصد. ومجرّد تأول المخبِر في _________ (1) تحتمل: "كالسابعة".
(5 جـ/18)
نفسه ووجود منافٍ لا يَشعُر به المخاطَب لا يغير من المفسدة التي لأجلها قَبُح الكذب وحُرِّم شيئًا. ألا ترى أنهم في الصورة الثامنة يفهمون مثل ما فهموه في السابعة، وتنبني على ذلك نفس المفاسد التي تنبني في الثامنة؛ كحزنهم وأسفهم واحتمال أن يبادروا فيقتلوا فلانًا أو بعض أقاربه، ثم يتسلسل القتل للأبرياء. وأن تموتَ أنتَ فُجاءَة، ولا يصل خبرٌ يخالف خبرك، فيقتسمون تَرِكَة صاحبهم، ويزوّجون نساءه، وغير ذلك. * * * * فصل الكذب في نفسه قبيح محرَّم، فإذا ترتبت عليه مفسدة كان أشدَّ قبحًا وإثمًا، ولا يخلو عن مفاسد تترتب عليه. ولا يُعْهَد في الشرع ولا العرف الترخيص في شيء منه، إلا إذا كان فيه دفع لمفسدة لا تندفع إلا به، وظهر أنه لا يترتب عليه مفسدة أعظم منها. [ص 10] ولكن مثل هذا إن جاز لعامة الناس فلا أراه يجوز للأنبياء بعد النبوة؛ لأن مبنى الرسالة على الصدق المحض. فإن قيل: فقد ثبت في "الصحيح" (1): "لم يكذب إبراهيم ــ عليه السلام ــ إلا ثلاث كذبات" (2). _________ (1) البخاري رقم (3357)، ومسلم رقم (2371) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) انظر كلام المصنف على هذا الحديث، والقول في تخريج كلمات إبراهيم في "التنكيل ــ القائد إلى تصحيح العقائد": (2/ 390 - 398).
(5 جـ/19)
قلت: كلمات إبراهيم ــ عليه السلام ــ تجمع أمورًا: الأول: التورية القريبة. الثاني: أنه كان في حاله ما يدعو إلى أن يُظَنّ أنه وَرَّى، وهذا شبه قرينة، وذلك كقوله لما سُئل (1) عن امرأته: "هي أختي"، وأراد الأخوَّة في الدين. فإنه كان من عادة الجبار: الذي دخل بلاده أنه إذا سمع بامرأة جميلة لها زوج بدأ بقتل زوجها، ومن البيِّن أنّ الزوج إذا سُئل عن امرأته في مثل تلك الحال يحرص على تخليص نفسه من القتل، فإذا كان ممن لا يستحلّ صريحَ الكذب وَرَّى. فتلك شِبْه قرينة تصرف عن الظاهر، ونحو هذا يأتي في الكلمتين الأخريين. الأمر الثالث: أنه إنما بتلك (2) الكلمات يدفع مفاسد عظيمة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، كُلُّهنّ في ذات الله". وأقربها إلى حظ النفس قوله: "هي أختي"، ولم يقلها لمجرد حظ نفسه، بل حرص على بقائه حيًّا ليدعو إلى الله عز وجل، ودفع بها ظلم القتل عن أولئك القوم. ولا أستبعد أن تكون تلك الكلمات وقعت منه ــ عليه السلام ــ قبل النبوة، ويدل على ذلك قول الله عز وجل فيما حكاه عن قومه بعد تكسير _________ (1) في الأصل: "سأل" وسيأتي على الصواب في أول الصفحة التالية. (2) غير محررة في الأصل وهكذا استظهرتها.
(5 جـ/20)
أصنامهم: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60]، والفتى: الشاب (1)، والغالب أن النبوة تكون بعد الأربعين. وعلى ذلك أدلة أخرى من كيفية محاورته مع قومه، فكأنه ــ عليه السلام ــ أدرك التوحيد بصفاء فطرته وذكاء قريحته. ومع هذا كله فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سماها: "كذبات"، وبيَّن أنه لم يقع من إبراهيم مما يطلق عليه الكذب غيرها. وثبت في "الصحيح" (2) أن إبراهيم ــ عليه السلام ــ يعتذر عن الشفاعة يوم القيامة بهذه الكلمات، فيعدُّها يومئذٍ خطايا، كما يعتذر آدم بأكله من الشجرة، ويعتذر موسى بقتله نفسًا، وهذا مما يوضِّح شدة بُعدِ الأنبياء عن الكذب، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. * * * * _________ (1) انظر "لسان العرب": (15/ 145) ويطلق الشابّ على القويّ المكتمل، وعلى الحَدَث السنّ، وسياق الآية يدل أنهم أرادوا الغضّ منه وتصغيره، فكأنهم أرادوا المعنى الثاني. وانظر "منهاج السنة": (5/ 70). لكن أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن المنذر ــ كما في (الدر المنثور: 4/ 390) ــ عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبيًّا إلا وهو شاب، وقرأ هذه الآية وغيرها. (2) في حديث الشفاعة الطويل عند البخاري رقم (4712)، ومسلم رقم (194) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5 جـ/21)
[ص 11] المقدمة الثانية: في التقليد والتحقيق
ينبغي لطالب الحق من المسلمين أن يختبر نفسَه قبل البحث، ويسألها: التقليدَ تريد أم التحقيق؟ فإن كانت تريد التقليد؛ فأولى من قُلِّد في العقائد كتاب الله وسنة رسوله، فإن لم يكن أهلًا للنظر فيهما، فليبذل جهده في تحصيل التأهُّل. وإن كان يريد التحقيق؛ فالتحقيق في الكتاب والسنة أيضًا، فإنه لا أعلم بالله ــ عز وجل ــ من نفسه، ثم من رسوله. فإن أبى إلا النظر في آراء المتكلمين والمتفلسفين، معتذرًا بأن كلامهم قد اختلط بالكتب العلمية على اختلاف أنواعها من تفسير، وشروح حديث، وتراجم رجال، وفقه وأصوله، وعلوم اللغة. وتلك العلوم لا بدّ منها لطالب العلم، ولا يجدها إلا في تلك الكتب التي قد خُلِط بها الكلام والفسلفة، فليجعل نُصْب عينه أنه إنما يريد التحقيق، وأن غاية التحقيق في الكتاب والسنة، وأنه إنما يريد بالنظر في الكتب التوصُّلَ إلى الكتاب والسنة. ثم ليحذر من تقليد المتكلمين والمتفلسفين، وليضع كلَّ أصلٍ يؤصِّلونه على أنه دعوى لا يقبلها بمجرد الاغترار بكثرة المدَّعين وجلالتهم في صدور الناس، وما اشتهروا به من علم ودقة نظر، وما يكررونه مِنْ زَعْمِ: أن بدائه العقول دالة عليها، وأنها قامت عليها البراهين القطعية، وأنه لا يخالفها إلا بليد أو معاند، أو غير ذلك (1). _________ (1) بعد هذا ذكر المؤلف فصلًا في أسلحة الفلاسفة التي بها يصولون، وكانت سببًا في ضلال كثير من الناس، وهي اثنا عشر سلاحًا، ولكنه ضرب عليه ربما لتكون في =
(5 جـ/22)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . _________ = مكان أنسب من هذا، فرأينا إثباته في الحاشية للفائدة وهذا هو: فصل اعلم أن للمتفلسفة وأتباعهم وأشياعهم أسلحة بها يصولون، وبها اضطروا أكثر الناس إلى تقليدهم، حتى كثيرًا من أكابر العلماء، فلنكشف لك عن حقيقتها بعون الله. السلاح الأول: دعوى أوائلهم تصريحًا وكثيرٍ [الأصل: كثيرًا] ممن بعدهم تعريضًا أنهم غير متقيدين بهوى ولا دين وإنما غرضهم الحق من حيث هو. السلاح الثاني: براعتهم في الطبيعيات والرياضيات، فيتوهم الإنسان أنهم كما فاقوا في ذلك وأدركوا حقائق لا ريب فيها، وأبانوا عن لطف نظر ودقة إدراك، فكذلك ينبغي أن يكونوا في الإلهيات. وإذا تمكن هذا الأمر من نفسه صار يأخذ أقوالهم في الإلهيات قضايا مسلّمة، كما يفعل مثل ذلك في أقوالهم في الطبيعيات والرياضيات. السلاح الثالث: استدلالهم في الإلهيات بقضايا طبيعية أو رياضية، وأكثر الناظرين لا يتقن الطبيعيات والرياضيات ولا يتنبّه للمغالطات فيها، فيضطر إلى أخذ قضاياها مسلّمة، أو قل: إلى أن يقلدهم فيها، ويجرّه ذلك إلى أن يقلدهم فيما زعموا من الدلالة. [ص 12] السلاح الرابع: تهويلهم في شأن المنطق، وأنه لا يوثق بعلم من لا يعرفه ولا يفهمه ولا يعقله. السلاح الخامس: أنهم يقررون قضايا خاصة كإبطال الدور وإبطال التسلسل وما يسمونه برهان التطبيق وغير ذلك، فمنها ما هو باطل في نفسه ولكنهم يدعون أنه برهان قطعي وأنه بديهي ويكثرون من إيراد الشُّبه عليه، فيكثر أن يوافقهم الناظر عليه ثم يحتجون به في مسائل أخرى، ومنها ما هو حق في نفسه في أمر خاصّ يمثلون به عند الاحتجاج على حقيقة تلك القضية في مواضع غير ما هي حق فيه، فيأخذها الناظر على أنها برهان قد سبق منه أن أدرك بنظره أنه حق ولا يتنبه للفرق. السلاح السادس: البراعة في وضع الأسماء، فيختارون للمعاني التي يريدون إثباتها أسماء مقبولة، وللتي يريدون نفيها أسماء منفّرة، وكذلك يسمون أنفسهم بأسماء =
(5 جـ/23)
[ص 13] فصل اعلم أن الخائضين في العقائد فرق: الفرقة الأولى: أهل الآثار المقتصرون على ما جاء في الكتاب والسنة، مستشهدين بما تقتضيه بدائه العقول وما يقرب منها في الوضوح. الثانية: فلاسفة اليونان. _________ = مقبولة ومخالفيهم بأسماء مكروهة. السلاح السابع: تعريفهم بعض الأشياء تعريفات أوسع من مفهوماتها اللغوية أو أضيق، وبذلك تسهل لهم المغالطة في تلك الأسماء. السلاح الثامن: أنهم يقدمون بيان أغلاط الحسّ والقياس والوهم، ثم يعمدون إلى ما يريدون تقسيمه من الأمور التي يرى الإنسان أنها ضرورية فيدّعون أنها وهمية أي من جملة الأغلاط. وإلى مايريدون إثباته فيحتجون بالضرورة ولا يتعرضون لاحتمال الغلط، فإذا أُجيبوا بمثل جوابهم فيما نفوه قالوا (الأصل: قالوه): هذه سفسطة أو مكابرة. ... السلاح التاسع: تدقيق الكلام وتكثير الأقسام وحشد الشبهات على ما قال أوحد الزمان "فقالوا لهم إن هذه ... " المعتبر ج 3 ص 34. السلاح العاشر: قد علموا أن أعزّ شيء على المتدينين دينهم، فيأتونهم من طريقه فيقولون لهم: لو صحّ ما تقولونه لزم أن يكون الخالق محدثًا، أو أن يكون معدومًا، أو نحو ذلك من الأوصاف المنافية للدين. هذا من أنفذ أسلحتهم، فإن المتديّن إذا سمع مثل هذا اضطرب ومُلئ رُعبًا ونفرت نفسه عن ذلك القول. وربما تمتنع من تدقيق النظر خوفًا أن يجرها ذلك إلى الكفر. السلاح الحادي عشر: زعمهم أن الكلام لا يمكن أن يعلم منه قطعًا أن المتكلم أراد كذا. [ص 13] السلاح الثاني عشر: سعيهم في تفخيم شأن متبوعيهم ومن يوافقهم، وتعظيم كتبهم، وإطلاق الألقاب الضخمة عليهم.
(5 جـ/24)
الثالثة: قدماء المتكلمين من المسلمين. الرابعة: المتفلسفون من المسلمين الذين يقلدون فلاسفة اليونان، ثم يقابلون بين عقائدهم وبين الإسلام. الخامسة: الجامعون بين الكلام والفلسفة. السادسة: المتصوفة. السابعة: أهل الفلسفة العصرية. فأما أهل الآثار؛ فقد يقع لهم الخطأ بالاستشهاد بحديث لم يثبت، أو بفهم من آية أو حديث ثابت، فيخطئون في فهمه، أو بالاستشهاد بأثرٍ عن بعض الصحابة أو التابعين قد يكون مما أُخِذَ عن أهل الكتاب (1). _________ (1) الثناء على أهل الحديث والآثار كثير على لسان السلف وأئمة العلم والإيمان، وقد يقع من بعضهم الخطأ والغلط كما ذكر المؤلف وغيره لكنهم لا يجتمعون عليه كما هو شأن بقية الفرق، وخطؤهم قليل إذا قورن بخطأ غيرهم، وانظر "القواعد الحديثية من منهاج السنة": (ص 25 - 35) لراقمه. وسأنقل عبارتين جامعتين لشيخ الإسلام في الثناء عليهم، قال في "مجموع الفتاوى": (3/ 347): "أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية: أهل الحديث والسنة، الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمهم تمييزًا بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها، وأهل معرفة بمعانيها واتباعًا لها تصديقًا وعملًا وحبًّا وموالاة لمن والاها ومعاداة لمن عاداها، الذين يردّون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة، فلا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول، بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه". وقال في "منهاج السنة": (5/ 166): "لم يجتمع قط أهل الحديث على خلاف قوله في كلمة واحدة، والحق لا يخرج عنهم قط، وكل ما اجتمعوا عليه فهو مما جاء به الرسول، وكل من خالفهم من خارجي ورافضي ومعتزلي وجهمي وغيرهم من أهل البدع فإنما يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل من خالف مذاهبهم في الشرائع العملية كان مخالفًا للسنة الثابتة. وكل من هؤلاء يوافقهم فيما خالف فيه الآخر، فأهل الأهواء معهم بمنزلة أهل الملل مع المسلمين، فإن أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الملل". وانظر "المجموع": (4/ 1 - 193).
(5 جـ/25)
وأما فلاسفة اليونان ونحوهم؛ فالذي يستهوي النفوس لتقليدهم هو الوقوف على كثرة صوابهم في الطبيعيات والرياضيات، وما اشتهر من أنهم لم يكونوا متقيدين بهوى ولا دين، وإنما كانت نهمتهم تحقيق الحق. فعليك أن تعرف أن كثرة إصابتهم في الطبيعيات والرياضيات إنما هو لأنها في متناول الإنسان؛ لأنها مما يهدي إليه الحس والقياس. فأما الإلهيات فإنما يتناول القياس منها طرفًا إجماليًّا، ويعجز عن التفصيل إثباتًا ونفيًا، فإن غَلَبْته شهوة الاطلاع، فخاض في ذلك، فإنما جَهْدُه (1) أن يقيس الغائب على الشاهد مع أنه ليس من جنسه، ويعمل باستقرائه الناقص، ويجحد ما لم يعرف له نظيرًا، وكلُّ ذلك غلط. وربما أوداه التوغُّل في ذلك، فيرجع فينقض ما يمكن إدراكه من الطرف الإجمالي. ذكر صاحب "المُعْتبر" (2) البرهانَ على شمول علم الله عز وجل _________ (1) غير واضحة في الأصل، ولعلها ما أثبته. (2) وهو في علم المنطق، لأبي البركات هبة الله بن مَلْكا البغدادي ت (547). ترجمته في "إخبار العلماء بأخبار الحكماء": (2/ 460) للقفطي، وانظر ثناءه على هذا الكتاب في "وفيات الأعيان": (6/ 74). واختلف في اسم جده هل هو ملكا، أو ملكان بالنون. انظر "الأعلام": (8/ 74) للزركلي.
(5 جـ/26)
للكليات والجزئيات، وذكر شبهة النافين، وأنها ارتيابهم في الكيفية، ثم قال: "وصناعة النظر تأمر المتأمل بأنه إذا حقق أصلًا، وتيقَّن معلومًا، حصَّله بنظره، وحازه إلى سوابق علمه، وتأمَّلَ نسبته إلى ما هو مجهول حتى يكتسبه ويحصِّله بذلك المعلوم السابق، فإن قدر على كسبه فذاك، وإلا ثبت في علمه على معلومه، وترك المجهول في مُهْلة الطَّلَب، فأما إنْ نَقَضَ المعلومَ بالمجهول، وردَّ الحاصلَ بالمطلوب، فإنه لا يثبت له علم، ولا يصح له معنى في معلوم أبدًا، ويكون كمن ينقض الأساس لبناء الجدار، فلا يبقى الأساس ولا الجدار". (المعتبر 3/ 95). وإذا كان الأمر كذلك فهذا كله خبط عشواء، وخوض على غير هدى، فكيف يتوهَّم من كثرة إصابتهم في الطبيعيات والرياضيات أن يكون حالهم في هذا كذلك؟ ! على أنه قد كثر خطؤهم في الطبيعيات أيضًا، على ما هو معروف فيما يرده عليهم علماء الإفرنج الذين تيسَّر لهم أن يعرفوا من الطبيعيات أكثر مما عرفه اليونان. وأما قدماء المتكلمين فلا يُعْلَم في عهد التابعين منهم إلا طائفتان: الأولى: كان كلامها قاصرًا على القَدَر والوعيد. الثانية: أفراد حُكِيَ عنهم الكلام في الصفات، فأولهم ــ فيما أعلم ــ الجَعْد بن درهم قتله خالد القَسْري يوم النحر، بدأ فصلى بالناس، وخطب، ثم قال: [ارجعوا فضحّوا تقبل الله منكم، فإني مضحٍّ بالجَعْد ابن دِرهم، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا، تعالى الله علوًّا كبيرًا
(5 جـ/27)
عما يقول الجَعْد بن درهم، ثم نزل فذبحه] (1). ثم تلاه الجَهْم بن صفوان، وقد رُوِي أن الجهم كان يأخذ الكلام عن الجعد، ذكر ذلك البخاري في "تاريخه" (2). وللجهم آراء مشهورة، وعارضه مقاتل بن سليمان، فخالفه في آرائه، وتبع كلًا منهما طائفةٌ، ثم كثرت الزندقة في عهد المهدي العباسي، وأخذت تلتبس بالكلام، فتتبع المهدي من عُرف بالزندقة البحتة، وبقيت بقايا. وفي زمن الرشيد استولى الأعاجم على تدبير الحكومة، وخلا الجوّ للناس، فكثر فيهم الكلام؛ منهم من هو زنديق في نفس الأمر، ومنهم من عُرِف بالكلام ومزج به شيئًا من شبهات الزنادقة. وبالجملة فكان الكلام في ذلك العصر مباراة بين المتكلمين في الأسواق والمجامع، لا غرض لكلٍّ منهم إلا أن يظهر أنه غلب، وكان الأمراء والأغنياء يعقدون المجالس للمتكلمين، لا لطلَبِ حقٍّ ولا نصرته، بل على سبيل التفكُّه. وكان أئمة المسلمين ينهون عن ذلك، ويبالغون في الزجر عنه، كما هو معروف في محله. وفي هذا العصر بدأت فلسفة اليونان تنتشر بين المسلمين، ويتلقَّفها _________ (1) بيّض المؤلف لكلام القسري، وقد سقته من المصادر. وأخرج القصة البخاري في "خلق أفعال العباد" (3)، و"التاريخ الكبير": (1/ 64) والدارمي في "الرد على الجهمية" (7)، وغيرهم. (2) "الكبير": (1/ 64).
(5 جـ/28)
المتكلمون، ويخوضون فيها، ويضمون إلى أقوالهم السابقة ما يضمون، واتصل طَرَفٌ من ذلك بالمأمون، فتعصَّبَ له كما هو مشهور. ومن هنا قويت شوكة المعتزلة الذين ضمُّوا ما نُقِل عن المعتزلة الأُوَل كعمرو بن عُبيد، وواصل بن عطاء إلى رأي جهم وما اتصل به. واحتاج علماء المسلمين إلى معارضتهم، فمنهم من اقتصر على دفعهم بالكتاب والسنة، ومنهم من أخذ بطرفٍ من الكلام، وكان من هؤلاء الحارث المُحَاسبي، وعبد الله بن سعيد بن كُلَّاب، وتوسَّع ابنُ كلَّاب في الكلام مع عدم تبحُّره في الشريعة، وبقي الأمر على ذلك حتى جاء الأشعري، [ص 15] وكان أول أمره معتزليًّا، ثم تبرأ عن الانتساب إليهم، وانتسب إلى أهل السنة، ونُقِلَ عنه قولان: أحدهما: التوسُّع في النظر والتأويل على نحو طريقة المعتزلة، مع مخالفتهم في بعض المسائل خلافًا لفظيًّا أو قريبًا من اللفظي، إلا مسائل معدودة الخلاف فيها معنوي. وفي هذا الضرب إحداث آراء وتوجيهات (1) يرى السلفيون أنها تخالف مذهب السلف، وفي بعضها تمحُّلات ألجأه إليها ما استولى على ذهنه من أقوال المعتزلة. والقول الآخر: التزام مذهب السلف، كما تراه في كتاب "الإبانة" (2). _________ (1) تحتمل: "وتوجّهات". (2) ومن أقواله فيه: "فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرِّفونا قولكم الذي تقولون به وديانتكم التي تدينون بها؟ قيل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب الله ربنا عز وجل وبسنة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما روي عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ــ نضَّر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته ــ قائلون، ولِما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق ودفع به الضلال وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكِّين، فرحمة الله عليه من إمام مقدَّم وجليل معظم وكبير مفهم". "الإبانة": (ص 70 - 71 ت فوقية). وانظر في تحقيق الأطوار التي مرّ بها، وهل رجع إلى مذهب أهل السنة أم بقيت عليه بقايا من مذهب ابن كُلّاب؟ "موقف ابن تيمية من الأشاعرة": (1/ 361 - 409) للمحمود.
(5 جـ/29)
والنظرُ يقتضي صحةَ ما قيل: إن هذا هو قوله الأخير، ولكن عامة أتباعه لم يلتفتوا إليه. ثم انتشر الكلام، وساء ظن الناس بالكتاب والسنة وأقوال السلف، فصار كثير من الناس يتبع المعتزلة والجهمية، ويأخذ كلامهم، وينتصر له، وكثير منهم ــ وهم في الغالب ممن كان آباؤهم وشيوخهم على رأي السلف ــ يلتحقون بالأشعرية، على القول الأول للأشعري، وفي أثناء ذلك تتصل بالأشعرية مسائل من أصول المعتزلة أو آراء جديدة، وشهر الأشاعرةُ أنفسَهم بأنهم أهل السنة، وأنهم الذابون عن عقائد السنة. ولم تزل في المسلمين بقايا من أهل الحديث يرون أن الحق إنما هو في اتباع الكتاب والسنة، ويبدِّعون الأشعرية، كما يبدِّعون المعتزلة، ولكنهم كانوا يَقلِّون ويضعفون حتى صاروا غرباء يرميهم الأشعريةُ بكلّ عظيمة،
(5 جـ/30)
وهؤلاء اشتهروا بالحنابلة، نسبة إلى الإمام أحمد بن حنبل، ونَشِب الخلافُ بينهم لاحتكاكهم بالمعتزلة والأشاعرة. فعلى طالب الحق أن ينفي نفسه عن التعصب لفرقةٍ من هذه الفرق؛ بناء على أنه مسلك آبائه وأشياخه. ثم يعلم أن المعتزلة يتمدَّحون عند الجمهور بأنهم أهل العدل والتوحيد، ويشنِّعون على مخالفيهم بخلاف ذلك، ويتقربون إلى الخاصة فوق ذلك بأنهم الذين أَعطَوا النظر العقلي حقَّه، وأن مخالفيهم يخالفون العقل، ثم ينتقون مسائل يتراءى منها أن الصواب معهم. فاعلم أنه إن ظهر لك في مسألة أو أكثر أن الحق معهم، لم يلزم من ذلك أن يكون الحق معهم في كل شيء. وأما النظر العقلي فقد عرفت في الكلام على الفلاسفة أن نظرهم في الإلهيات لا يوثق به، وذلك يأتي هنا. وأما الأشاعرة فإنهم يتمدَّحون بأنهم أهل السنة، وأنهم الجامعون بين العقل والنقل. فاعلم أن مخالفيهم لم يوافقوهم على دعوى أنهم أهل السنة، بل بدَّعوهم وضلَّلوهم، وإنما يمكنك الفصل في ذلك بعد النظر، وبذلك ضعفت دعواهم النقل، وأما دعواهم العقل فحالهم فيه كحال المعتزلة. [ص 16] وأما الحنابلة فلا أظنك تحتاج إلى ما يُزَهِّدك فيهم، ويمنعك من تقليدهم. وأما المتفلسفة من المسلمين فعيبهم أنهم قلدوا فلاسفة اليونان ــ وقد علمت حالهم ــ ورفعوا درجتهم على درجة الأنبياء، ومع ذلك زعم بعض
(5 جـ/31)
من جاء بعدهم أنهم غلطوا في أشياء نسبوها إلى فلاسفة اليونان خطأً. منها ما كان من غلط المترجِم. ومنها ما كان من قول بعض فلاسفة الروم المُتنصِّرة. وأقربهم إلى تحرِّي الحق أبو البركات (1) صاحب "المعتبر"، ولكنه لم يَسْلَم من كثير مما وقعوا فيه. هذا، واعلم أن الفلاسفة أنفسهم كثيرًا ما يذكرون الشيء على الحَدْس والتخرُّص، لا على أنه يقيني عندهم، ويوردون عليه شواهد حَدْسية، فيجيء من بعدهم فيرى أن تلك حقائقُ قطعية لا تقبل الشك. وأما الجامعون بين الكلام والفسلفة فأشهرهم ثلاثة: إمام الحرمين، والغزالي، والفخر الرازي (2). _________ (1) وقد كان يهوديًّا فأسلم في آخر عمره، وانظر ما سبق عنه (ص 32). (2) يبدو أن المؤلف أراد أن يتكلم عن كل واحد منهم بخلاصة موجزة، فبيَّض لإمام الحرمين، وتكلم عن الغزالي، ولم يتكلم على الفخر بشيء. والظاهر أنه أراد بعد ذِكْر تبحّرهم في الفلسفة والكلام أن يذكر ما آلت إليه أحوالهم من الرجوع إلى السنة في الجملة والنهي عن الخوض في الفلسفة والكلام، بدليل آخر كلامه في هذا الفصل. وقد وجدنا المؤلف تكلّم على هؤلاء العلماء الثلاثة في "التنكيل ــ القائد": (2/ 369 - 376) بنحو كلامه هنا مع بعض الاختلاف، فننقل كلامه من هناك بخصوص الجويني في المتن، وبخصوص الرازي في الحاشية لما تقدم في أول الكلام. قال: "وأما الفخر الرازي ففي ترجمته من (لسان الميزان) 4/ 429: "أوصى بوصية تدل على أنه حسن اعتقاده"، وهذه الوصية في ترجمته من كتاب (عيون الأنباء) 2/ 26 - 28 قال مؤلف الكتاب: "أملى في شدة مرضه وصية على تلميذه إبراهيم بن أبي بكر بن علي الأصفهاني ... وهذه نسخة الوصية: بسم الله الرحمن الرحيم يقول العبد الراجي رحمة ربه الواثق بكرم مولاه، محمد بن عمر بن الحسين الرازي وهو =
(5 جـ/32)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . _________ = في آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة، وهو الوقت الذي يلين فيه كل قاسٍ ويتوجه إلى مولاه كل آبق ... إن الناس يقولون: الإنسان إذا مات انقطع تعلقه عن الخلق، وهذا العام مخصوص من وجهين: الأول: أنه إن بقي منه عمل صالح صار ذلك سببًا للدعاء له آثر عند الله. والثاني: ما يتعلق بمصالح الأطفال ... ، أما الأول، فاعلموا أني كنت رجلًا محبًّا للعلم. فكنت أكتب في كل شيء شيئًا لا أقفُ على كميةٍ وكيف، سواء كان حقًّا أو باطلًا، غثًّا أو سمينًا! ... إلا أن الذي نظرته (؟ نصرته) في الكتب المعتبرة لي أن هذا العلم المحسوس تحت تدبير مدبر منزه عن مماثلة المتحيزات والأعراض، وموصوف بكمال القدرة والعلم والرحمة. وقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتهافي القرآن العظيم، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال لله تعالى، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذاك إلا العلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل في تلك المضايق العميقة، والمناهج الخفية. فلهذا أقول: كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده ووحدته، وبراءته عن الشركاء في القدم والأزلية، والتدبير والفاعلية، فذاك هو الذي أقول به وألقى الله تعالى به، وأما ما انتهى الأمر فيه إلى الدقة والغموض فكل ما ورد في القرآن والأخبار الصحيحة المتفق عليها بين الأئمة المتبوعين للمعنى الواحد فهو كما هو، والذي لم يكن كذلك أقول: يا إله العالمين ... وأقول: ديني متابعة محمد سيد المرسلين، وكتابي هو القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما ... ". فبيَّن في وصيته هذه أنه تدرج إلى أربع درجات: الأولى: الجري مع خاطره حقًا كان أو باطلًا. الثانية: ما نصره في كتبه المعتبرة. الثالثة: ارتيابه في المأخذ الخلفي وهوالنظر الكلامي والفلسفي. الرابعة: ما استقر وثوقه به ورجع إليه، وهو ما أثبته المأخذ السلفي الأول وأكده الشرع، ثم قسم الباقي إلى قسمين: =
(5 جـ/33)
فإمام الحرمين [صحَّ عنه أنه قال في مرض موته: "لقد قرأت خمسين ألفًا في خمسين ألفًا ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومه الطاهرة، وركبت البحر الخِضَمّ، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام عنه، كل ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق، "عليكم بدين العجائز"، فإن لم يدركني الحق بلطف بره فأموت على دين العجائز، وتختم عاقبة أمري عند الرحيل على نزهة أهل الحق، وكلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، فالويل لابن الجويني". وقال: "اشهدوا عليَّ أني رجعت عن كل مقالة يخالف فيها السلف، وأني أموت على ما يموت عجائز نيسابور". إلى غير ذلك مما جاء عنه وتجده في ترجمته من "النبلاء" للذهبي، "طبقات الشافعية" لابن السبكي وغيرها. فتدبر كلام هذا الرجل الذي طبقت شهرته الأرض يتَّضِحْ لك منه أمور: الأول: حسن ثقته بصحة اعتقاد العجائز وبأنه مقتضٍ للنجاة. الثاني: سقوط ثقته بما يخالف ذلك من قضايا النظر المتعمق فيه، وجزمه بأن اعتقاد تلك القضايا مقتضٍ للويل والهلاك. الثالث: أنه مع ذلك يرى أن حاله دون حال العجائز لأنهن بقين على الفطرة وسلمن من الشك والارتياب، ولزمن الصراط، وثبتن على السبيل، _________ = الأول: ما بينه الكتاب والسنة، فهو كما بيَّناه. الثاني: ما عدا ذلك، فبيَّن عدم وثوقه فيه بما سبق أن قاله في كتبه واعتذر عن ذلك بحسن النية". اهـ "التنكيل ــ القائد": (2/ 374 - 376). وانظر "تاريخ الإسلام" وفيات 606 ص 241، و"طبقات السبكي": (8/ 90 - 92)، و"الروض الباسم": (2/ 347 - 348) لابن الوزير ــ بتحقيقي ــ.
(5 جـ/34)
فرجي لهن أن يكتب الله تعالى في قلوبهن الإيمان، ويؤيدهن بروح منه، فلهذا يتمنى أن يعود إلى مثل حالهنَّ، وإذا كانت هذه حال العجائز، فما عسى أن يكون حال العلماء السلفيين؟ ! ] (1). وأما الغزالي فحاله عجيب، والذي يتراءى من صفاته أنه كان يغلب عليه ثلاثة أخلاق: الأول: الشغف بالعلم. الثاني: حب التفوُّق (2). الثالث: الحرص على حَمْل الناس على التمسّك بالعبادات الإسلامية. فبالخُلُق الأول نظر في الفقه وأصوله والكلام، ثم حكى عن نفسه أنه لم يقنعه (3) الكلام، فنظر في الفلسفة فلم تشفه، فمال إلى التصوُّف، ثم عاد إلى مطالعة كتب الحديث، حتى مات و"صحيح البخاري" على صدره. وبالخلق الثاني تجده عندما حصَّل الكلام يبالغ في مدحه، ثم لما أخذ الفلسفة صار يبالغ في مدحها، ويزعم أن من لم يعرف المنطق لا يوثق بعلمه، ويقول: "إن عامة المتكلمين مقلدون". ثم لما أخذ التصوّف صار يبالغ في مدحه، ويفرط في إطرائه، ثم كأنه _________ (1) بيّض المؤلف للكلام على الجويني أربعة أسطر. وقد نقلنا كلامه فيه من "التنكيل ــ القائد": (2/ 369 - 370)، وانظر: "سير أعلام النبلاء": (18/ 471)، و"المفهم": (8/ 692 - 693) للقرطبي، و"الروض الباسم": (2/ 348). (2) لم يذكر هذا الخُلُق في "التنكيل". (3) غير محررة، وتحتمل: "ينفعه".
(5 جـ/35)
لما شرع في مطالعة السنة صنف كتاب "إلجام العوام عن علم الكلام" ولعله لو مُدّ في عمره حتى يتمكَّن في معرفة السنة لتَحَنْبَل (1). [ص 17] وبالخلق الثالث تراه يُحَسِّن التصوفَ للمتفلسفين، ويوهِمُ في بعض كلامه أن المتصوّفة يعتقدون بعض العقائد التي يزعم المتفلسفون أنها قطعية، ويدعو المتفسلفة إلى التزام العبادات الشرعية ولو على وجه الاحتياط إلى غير ذلك. والمقصود هنا أنه بيّن أن الكلام لا يقنع، والفلسفة لا تشفي، وظهر من رجوعه إلى مطالعة السنة أنه وجد التصوف لا يغني. لكن هؤلاء الأكابر لم يرجعوا حتى ملؤوا الدنيا كلامًا، ولم يلتفت الناس إلى رجوعهم، كما لم يلتفتوا إلى رجوع الأشعري. والمقصود هنا أن هؤلاء الأكابر قد زَهِدوا فيما شحنوا به كتبهم من الكلام والفلسفة، وساء ظنُّهم به، وتبرؤوا عنه، فوجب أن لا يُغترّ به لمجرَّد نسبته إليهم. * * * * _________ (1) قال عبد الغافر الفارسي ــ وهو صاحب الخبرة به ــ: "وكانت خاتمة أمره إقباله على طلب حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ومجالسة أهله ومطالعة الصحيحين، ولو عاش لسبق الكل في ذلك الفن بيسيرٍ من الأيام" اهـ. انظر "المنتخب من السياق" (ص 74)، و"تاريخ الإسلام": (وفيات 505 ص 118). وما ذكره المؤلف عن كتاب "إلجام العوام" فيه نظر يتضح بالنظر في كتابه "ميزان العمل" (ص 405 - 408)، و"نقض المنطق" (ص 55) لابن تيمية، و"موقف ابن تيمية من الأشاعرة": (2/ 632 - 637).
(5 جـ/36)
فصل اعلم أن في كلام المتكلمين جنايات كثيرة على الإسلام، ولها أسباب: الأول: عدم رسوخهم في معرفة الإسلام، فربما نسبوا إليه ما هو بريء عنه، ثم لِزمَتْهم لوازم منافية للإسلام، فمنها ما يلتزمونه، ومنها ما يتمحَّلون لدفعه بأقوال يأباها (1) العقل وينكرها الإسلام. الثاني: أنه ربما يحتجون بحجَّة لم يذكرها الإسلام، ولا ما هو في معناها، فتُدْفَع بِمَدافع تُلْجئهم إلى هدم شيء من الإسلام، وإلى أقوالٍ يأباها العقل وينكرها الإسلام. الثالث: أن في الإسلام مسائل يتعذَّر أن يُدْرَك بمجرّد العقل ثبوتُها أو انتفاؤها، فيحاول هؤلاء أن يحتجّوا عليها، فيُلْزَمون، فيَدْفَعون، فيقعون فيما يخالف الإسلام، و ... (2). [ص 18] وأما المتصوِّفة، فقد كان في عهد التابعين زُهَّادٌ على طريقة السلف، ثم لم يزل في كل عصر متزهدون، ولم يكونوا على طريقة واحدة، بل كانوا مختلفين بحسب اختلاف الفِرَق المعروفة في زمانهم، فمنهم المحافظ على طريقة السلف، ومنهم الخارجي، والشيعي، والمعتزلي، والجهمي، بل ومنهم من يُنْسب إلى الزندقة والباطنية، ثم صار منهم الحنبلي، والمعتزلي، والأشعري، والمتفلسف، وغير ذلك. ثم أكثرهم مصرِّحون بأن في طريقهم أخطارًا ومغالط يضلّ بها أكثر سالكيها، وأن عامة كلامهم ألغاز ورموز لا يعرفها إلا من سلك طريقهم، _________ (1) الأصل: "بأياها"، سهو. (2) ترك المؤلف بقية (ص 17) بياضًا.
(5 جـ/37)
وتجدهم كثيري الاختلاف بينهم، والمتأخر منهم يطعن على المتقدم تصريحًا أو تلويحًا، ويدَّعي أحدهم أن الولاية خُتِمت به، فينكر عليه معاصروه ومن يأتي بعده منهم. وبالجملة فإن كنت تميل إلى التقليد، فتقليد الكتاب والسنة أولى بالحق من تقليدهم، وإن كنت تريد معرفة طريقهم، فلذلك شروط عندهم معروفة، ومنها ما هو مخالف لما عُرِف من الشريعة الإسلامية ومن عمل الصحابة والتابعين، وأقصى ما عندهم الكشف، وقد كشفتُ عنه في غير هذا الموضع، ويكفيك قول بعض قدمائهم وهو أبو سليمان الدَّاراني (1): [ربما تقع في قلبي النكتة من نكت القوم أيامًا فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة] (2). وقول بعض متأخريهم وهو أبو الحسن الشَّاذِلي (3): [إذا عارض كشفُك الكتاب والسنةَ فتمسك بالكتاب والسنة ودع الكشف، وقل لنفسك: إن الله تعالى قد ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة ولم يضمنها لي في جانب الكشف ولا الإلهام ولا المشاهدة ... ] (4). _________ (1) هو عبد الرحمن بن عطية أبوسليمان الداراني الدمشقي الصوفي (ت 215). ترجمته في "طبقات الصوفية": (ص 75 - 82) للسلمي، و"الحلية": (9/ 254 - 280). (2) قول الداراني بيّض له المؤلف، وأكملته من "التنكيل ــ القائد": (2/ 379). وقوله هذا ذكره السلمي في "طبقات الصوفية"، والقشيري في "الرسالة": (1/ 61). (3) هو علي بن عبد الله بن عبد الجبار أبو الحسن الشاذلي المغربي، شيخ الطائفة الشاذلية (ت 656). ترجمته في "لطائف المنن" (ص 75 - 89) لابن عطاء الله، و"تاريخ الإسلام" (وفيات 656 ص 273 - 274)، و"طبقات الشعراني": (2/ 4 - 11). ومقدمة "الرد على أبي الحسن الشاذلي" لابن تيمية، بتحقيقي. (4) قول الشاذلي بيّض له المؤلف، وأكملته من "لطائف المنن" و"طبقات الشعراني".
(5 جـ/38)
وقد بينتُ في موضعٍ آخر أن الكشفَ ليس بطريق شرعي، وأنه لا يفيد ما تقوم به الحجة (1). وأما فلاسفة العصر؛ فإن فلسفتهم كانت ردَّ فِعْل لفلسفة اليونان ومن تبعهم، فأولئك توسّعوا في الخياليات والحدسيات، وهؤلاء حصروا فلسفتهم في المحسوسات، وإنما يأخذون من القياسات بمقدار ما تضطرهم إليه أمور دنياهم، ويصرحون بأن الإلهيات لم يقم عليها عندهم دليل محسوس، وأنهم لم يحيطوا بكل شيء من المحسوسات فضلًا عن غيرها، وزادهم نُفْرة عن الدين أنهم إنما عرفوا من الدين النصرانيةَ، وقد قامت لديهم البراهين على اختلالها. وأما الإسلام فإنهم نشأوا على بُغْضه وعداوته، واستمر لهم ذلك لأغراضهم السياسية، ومن تكلَّف الإنصافَ منهم لم يسلك في معرفة الإسلام الطريق الموصلة إليها، على أن جماعة من جِلَّتهم يعترفون بوجود الإله، ومن لا يعترف يقول: لا أدري. ولا معنى لتقليد من يقول: لا أدري! * * * * _________ (1) انظر "التنكيل ــ القائد إلى تصحيح العقائد": (2/ 378 - 385).
(5 جـ/39)
[ص 19 ب] (1) المقدمة الثالثة: في تقسيم العقائد
يمكن قَسْم العقائد إلى أقسام: قسم لا يمكن الناسَ في هذه الدار الوصولُ إلى معرفته. وقسم يمكنهم. فالذي لا يمكنهم لا بد أن يكون الشارع الحكيم قد حَظَر عليهم الخوضَ فيه؛ لأسباب: الأول: أنه تضييع للعمر في غير طائل. الثاني: أنه مظنة للغلط، فإنه كما أن من يتراءى الهلال في ليلة تسع وعشرين ــ والحال أنه لا يمكن أن يُرَى ــ قد يكدّ عينيه في التحديق إلى موضع من الأُفق، فيُخيّل إليه كأنه رأى الهلال، ثم يستثبت فلا يرى شيئًا، فيصرف نظره إلى موضع آخر من الأفق، ويحدق إليه، فيخيل إليه أيضًا، فيستثبت فلا يرى شيئًا، وقد يتكرر له هذا مرارًا. وكذلك يعرض لمن يحاول أن يرى النجومَ نهارًا، وإنما يخيل إليه رؤية الصورة الثابتة في خياله. وكذا من يكون في الليل في موضع بعيد عن العمران، قد يبالغ في الإصغاء ليسمع صوتًا أو حسًّا، فيُخيّل إليه أنه سمع. فهكذا من يكد فكره في الاستدلال قد يعرض له شبيه بهذا، ثم يصعب عليه التنبه لغلطه؛ لأن خطأ الحواس قد يتنبه له العقل، فإذا أخطأ العقل فمن ينبهه؟! _________ (1) [ص 19 أ] مضروب عليها.
(5 جـ/40)
[ص 20] لو بغير الماء حلقي شَرِقٌ ... كنتُ كالغصّان بالماء اعْتِصاري (1) وقد تقدم في الأصل الرابع من المقدمة الأولى (2) الإشارة إلى شيء من الأغلاط. وفيما شرحه العلماء من أغلاط الحسّ ما يستمر على كثير من الناس وإن تنبه له علماء الطبيعيات، ومنها ما يصعب عليهم حلّه، وقد يستمر عليهم الغلط، حتى إن الأشاعرة يزعمون أن العَرَض لا يبقى زمانين، فيزعمون أن بياض هذا الورق وسواد هذا المِداد في تبدّل مستمر، ولكن الحسّ لا يُدْرِك ذلك لسرعة توالي الأمثال. ويزعم ... (3) أن الأجسام كذلك في تبدّل مستمر، فما بالك بأغلاط العقل؟ ! هذا مع أن من كلَّف نفسَه النظر يحتاج غالبًا إلى كلام أهل الآراء المختلفة، وكلٌّ منهم يحتجّ على رأيه بشبه يزعم (4) على كثير من النظار حلها. السبب الثالث: أنه مظنة الكذب على الله، وذلك من وجهين: الأول: أن العقل قد يغلط كما تقدم، فيظهر الغالطُ غلطَه ويحتج عليه، ويتعصّب له، فإذا دفعه غيره بحجة حمله التعصب على عدم الرجوع. _________ (1) البيت لعدي بن زيد العبادي، في "الشعر والشعراء": (1/ 229)، و"الاشتقاق" (ص 269) لابن دُريد. (2) (ص 12 - 14). (3) ترك المؤلف بياضًا مقدار كلمة. ولعلها "النظَّام" فقد نُسب إليه هذا الزعم في "بغية المرتاد" (ص 421) و"شرح المقاصد": (3/ 86). (4) كذا في الأصل، ولعل المؤلف أراد: "يصعب" أو "يتعذر" فسبق قلمه بهذه الكلمة.
(5 جـ/41)
الوجه الثاني: التخرص؛ إما بأن يتفق له ما اتفق في الوجه الأول، فيحمله التعصب على عدم النظر في حجة خصمه، ويبقى على رأيه بعد عروض الشك فيه. وإما بأن تعرض له شبهة، ثم اعتراض عليها، ثم جواب هذا الاعترض، ثم رد هذا الجواب، وهكذا ... فيمرّ على ذلك إلى أن يكلّ ذهنه، ويتعب فكره، فيقف، وتكره نفسُه الرجوع بخُفَّي حُنَين، فيختار ما اتفق وقوفه عنده. والمفروض أنه خرج عن دائرة العقل، وحاول إدراك ما لا يدرك، والخارج عن دائرة العقل ضاربٌ في ما لا نهاية له، ولا يمكن أن يجد فيه ما يطمئن إليه العقل المتثبت، فمثله مثل مسافِرَين مرّا بموضع صالح للنزول، فقال أحدهما: ننزل هنا، فإنه ليس بعده منزل صالح، فقال الآخر: كلا بل نمشي، فلعلنا نجد منزلًا أصلح من هذا، فراجعه صاحبه فأبى، فانطلقا، ثم كلما مر بمكان نظر فيه، فرآه غير صالح، وهكذا حتى استولى عليه التعب، فقال: ننزل ههنا، فإن هذا موضع صالح، وقد علم أنه ليس بصالح، ولكنه يغالط صاحبه، بل ونفسه. هذا، ومعنى النزول في العقائد هو الإقامة في ذلك الموضع، وقلَّ من يجْذِبه التوفيق، فيرده إلى الموضع الصالح، كما اتفق لإمام الحرمين وغيره، على ما تقدم في المقدمة الثانية (1). [ص 21] وأما القسم الذي يمكنهم في هذه الدار الوصول إلى معرفته فهو على ضربين: _________ (1) (ص 39 - 44).
(5 جـ/42)
الأول: ما لم يكلفهم الشرع بطلبه. الثاني: ما كلفهم به. فالأول على أوجه؛ محظور ومكروه ومباح، فما حظره الشارع الحكيم فهو مظنة المفاسد والأخطار، وكذلك ما كرهه وإن كان دون الأول. وما أباحه فالخير والشر فيه متعادلان. والثاني وهو ما كلفهم به؛ يبقى النظر في الطريق إليه (1)؛ فقد تعرِض أمام الإنسان طريقان أو طرق يُرْجى منها الوصول، وقد يكون في نفس الأمر منها ما لا يوصل، ومنها ما قد يوصل، ولكن يغلب أن يَعْترِض سالكَها ما يهلكه، أو تكون في سلوكها صعوبة يعجز عنها أكثر السالكين. والشارع الحكيم لا بدَّ أن يهدي العباد إلى الطريق الموصل السليم السهل المستقيم، وينهاهم عن الطرق الأخرى، فإذا وجدنا الشارع قد أرشدنا إلى طريق، فسلوكنا غيرَها مخالفةٌ له، وتعريضٌ لأنفسنا للهلاك. واعلم أن الله غني عن العالمين، وإنما خلق الناس ليبلوهم ويختبرهم. وقد أوضحتُ هذا الأصل في رسالة "العبادة" (2). ومن جملة الابتلاء: أن جعل إلى المقصود طريقًا موصلة ليست كما يهواه الإنسان ويشتهيه، بل يتراءى له بادئ النظر أنها غير موصلة، وجعل طرقًا أخرى إما أن لا توصل، وإما أن يغلب فيها الهلاك، ولكنها توافق هوى الإنسان وشهوته، ويتراءى له أنها موصلة، وذلك ابتلاء العباد، فمن كان _________ (1) من قوله: "على أوجه ... " إلى هنا لحق في أعلى (الورقة 21 ب). (2) (ص 57 - 65).
(5 جـ/43)
حَسَنَ الظنِّ بالشارع فإنه يسلك الطريق التي أرشد إليها ولا يبالي بمخالفتها لهواه وشهوته، ومن كان مؤثرًا لهواه وشهوته فإنه يسلك غيرها. ولنضرب لذلك مثلًا: وهو ملك عظيم، بعث إلى رعيته رجلًا منهم، قد عرفوا صدقه وأمانته ونصحه وإخلاصه، ومعه ما يبين لهم اتصاله بالملك، فأعلن فيهم أن الملك يدعوهم إلى بستان قد أعدّه لهم، ومد لهم سنة ــ مثلًا ــ، وأن من وصل استحق الإنعام والإكرام، ومن مضت المدة ولم يصل استحق العقوبة والنكال. فلما فكروا في أنفسهم علموا افتقارهم إلى الوصول إلى الملك، ورجوا الإنعام وخافوا العقوبة، ولم يكونوا يعرفون أين البستان، ولا في أي جهة هو، ولا كيف الطريق إليه، فأخبرهم ذلك السفير عن الملك بوصف الطريق الموصل إلى البستان، وبعد أن أتم الوصف تركهم، فافترقوا فرقتين: الأولى: رأوا أن في السفر كلفة ومشقة، فآثروا البقاء على ما هم عليه، وأخذوا يتشككون في وجود الملك [ص 22] أو في صدق السفير، وبقوا على ما هم عليه حتى مضت المدة. والثانية: علمت افتقارها إلى الوصول إلى الملك، ورَجَتِ الثوابَ، وخافت العقاب، وافترقت طوائف: طائفة قالت: المدة طويلة، فلنبق على راحتنا وملاذِّنا إلى أن تنتصف المدة، ثم نسافر، ثم بقيت تسوِّف حتى انتهت المدة. وطائفة عزمت على السفر، ولكنها لما أرادت السير على تلك الطريق التي وصفها السفير رأت أنها طريق عادية، ودعاها داعٍ إلى طريق أخرى
(5 جـ/44)
مُعبَّدة، على حافتيها القصور والبساتين والملاعب، قائلًا لهم: ينبغي أن تكون هذه هي الطريق إلى بستان الملك، لا تلك الطريق العادية الناشفة، فتبعوه، وسلكوا تلك الطريق، فذهبت بهم إلى جهة غير جهة البستان، فهلكوا. وطائفة دعاها داعٍ إلى طريق أخرى ذات مناظر بهجة؛ من رياضٍ وغياضٍ وأنهارٍ، قائلًا: ينبغي أن تكون هذه هي الطريق إلى بستان الملك، لا تلك القاحلة، فتبعوه فهلكوا. وطائفة فكرت في أنفسها، فقالت: السفير الذي جاءنا قد عرفنا صدقه وأمانته، ونصحه وإخلاصه وقربه من الملك، وقد تكون لهذه الطريق التي يراها الناس ناشفة قاحلة مزيةٌ عَلِمها الملك وجهلها الناس، ولعله إنما تركها ــ في ما ترى العين ــ قاحلة ناشفة لاختبار من يصدقه ممن لا يصدقه، ولو لم يكن لها مزية إلا أنها موصلة لكفاها ذلك، فسلكوها، فنجوا. فصل والمكلَّف بطلبه ينقسم بالنظر إلى درجة التكليف إلى أضرب: الضرب الأول: ما هو من ضروريات الإيمان بحيث أن من لم يؤمن به فليس بمؤمن. الثاني: ما ليس كذلك، ولكن طلبه والإيمان به فرض على كل مُكلّف. الثالث: ما طلبه ومعرفته فرضٌ على الكفاية. الرابع: ما طلبه ومعرفته مستحبّ فقط. هذا، وربما يختلف حكم الأمر الواحد باختلاف الأشخاص والأحوال، فيكون على شخص وفي حال فرضًا، وعلى شخص حرامًا، وغير ذلك.
(5 جـ/45)
والذي ينبغي أن يُرَتَّب البحث التفصيلي بحسب الأربعة الأضرب المذكورة. وهذا آخر المقدمات، وأسأل الله تبارك وتعالى التوفيق والعون، اللهم يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك، واهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، فإنه لا حول ولا قوة إلا بك.
(5 جـ/46)
[ص 23] الباب الأول: في الضروريات
وهي أصول: الأصل الأول: وجود رب العالمين اعلم أن الأمم التي سمعنا بها من الأولين والآخرين وبلغنا شيء من أخبارها كلها مقرِّة بوجود رب العالمين، وقد بسطتُ في رسالة "العبادة" (1) ما تيسر لي من أدلة ذلك عن قوم نوح، وقوم صالح، وقوم هود، وقوم إبراهيم، والمصريين في عهده، ثم في عهد يوسف، ثم في عهد موسى، حتى فرعون نفسه، وأوضحتُ ذلك بالأدلة الشافية. وهكذا حال اليونان والهند والصين والمجوس والترك وغيرهم، وكذلك سائر الأمم المتوحشة، حتى زنوج أمريكا (2) التي لم تُكْتَشف إلا منذ أربعمائة سنة. وأما الأفراد فقد يكون من السابقين من تشكَّك في وجود رب العالمين، أو كابر فجحد، كما يقع نحو ذلك من أفراد من الإفرنج المتأخرين، الذين قَصَروا علمهم على المحسوسات، كما تقدم. فأما ما شاع في الكتب من تسمية فرقة من الفرق بـ "الدهرية"، فأصل هذا الاسم مأخوذ من قول الله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجاثية: 24 - 25]. _________ (1) (ص 439 - 551). (2) المعروف أن الزنوج إنما جُلبوا إلى أمريكا مؤخّرًا عبيدًا للخدمة، ومن سكنها قديمًا إنما هم الهنود الحمر.
(5 جـ/47)
وقد أخبرنا الله تبارك وتعالى عن مشركي العرب أنهم يعترفون بوجود الله، وأنه الذي يرزقهم من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، والذي يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، والذي يدبر الأمر، والذي له السموات والأرض، وأنه رب السموات السبع ورب العرش العظيم، وأنه بيده ملكوت كل شيء، والذي يجير ولا يجار عليه، وأنه الذي خلق السموات والأرض، وسَخَّر الشمسَ والقمر، وأنه الذي ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها، وأنه العزيز العليم (1). إلى غير ذلك مما بينت كثيرًا منه في رسالة "العبادة" (2). إذا عرفنا ذلك فقولهم: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} لا يمكن أن يُحْمَل على إنكار وجود الرب، ولا إنكار تدبيره مطلقًا؛ إذْ لا دلالة فيه على ذلك، وقد عُلِم أن القوم كانوا يعترفون بوجود الرب، وأنه المُدبِّر مطلقًا. إذًا بقي أن يقال: إنهم إنما أنكروا أن يكون الله تعالى هو الذي يهلكهم، وهذا بعيد؛ لأنه يوجد في كلامهم ما يخالفه. والذي يظهر لي في قولهم: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} احتمالان: الأول: أن يكون هذا قول فرد أو أفراد منهم، عاندوا به ما أُوْرِد عليهم في إنكار البعث، فإن سياق الآيات إنما هو لإثبات البعث، كأنه قيل لهم: إن الله تعالى إنما يميت الناسَ ليرجعهم إلى ما أعدّ لهم مما يستحقونه، وإلا _________ (1) راجع سورة يونس الآية (31 - 33)، وسورة المؤمنون الآية (84 - 89)، وسورة العنكبوت الآية (61 - 63)، وسورة لقمان الآية (25)، وسورة الزمر الآية (38)، وسورة الزخرف الآية (9)، والآية (87) [المؤلف]. (2) سبقت الإشارة إليها في الصفحة السالفة.
(5 جـ/48)
فلماذا يميتهم؟ ! ويؤكد ذلك بأن كثيرًا من [ص 24] الناس يموتون قبل أن يلقوا في حياتهم الدنيا ما يُعدّ جزاءً لأعمالهم، فكثير من الأخيار يعيشون عيشةً نَكِدة حتى يموتوا، وكثير من الظَّلمَة يعيشون في رغدٍ من العيش حتى يموتوا، فإذا لم تكن هناك دارٌ أخرى فقد كان مقتضى الحكمة أن لا يُمِيت الله عز وجل أحدًا حتى يستوفي جزاءه، فكابر ذلك الفرد أو الأفراد، فقال ما قَصَّه الله تبارك وتعالى. وذلك كما كابر بعض اليهود فيما قصه الله تبارك وتعالى ورده بقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 90 - 91]. الاحتمال الثاني: أن يكون الله عز وجل أراد به القول الذي كان شائعًا بينهم من نِسْبة الحوادث إلى الدهر، كما هو كثير في أشعارهم، فإن ذلك وإن كُنّا إذا عرضناه على ما عُلِم من اعترافهم بوجود الله عز وجل وأنه المدبر يترجَّح لنا أنهم إنما كانوا يطلقونه مجازًا، إلا أنه لمَّا شاع وذاع بينهم كان من أشدِّ أسباب الغفلة عن الله عز وجل وتدبيره، وصار أحدهم يطلقه تبعًا للاستعمال الشائع الذائع، وربما يغفل عن كونه مجازًا، وإن كان إذا نُبِّه وقُرِنَ له ذلك بما يعترف به من وجود الله عز وجل وأنه المُدبِّر تنبه لأنه مجاز. ونحن نجد كثيرًا من المسلمين يستعمل ذلك، كقوله: "الدهر معاند لي"، "الدهر لا يساعدني"، وذلك كثير في أشعارهم، وكثير منهم لا يستحضر عندما يقوله أنه مجاز، وإنما سمع الناسَ يقولون فقال، وإن كان إذا
(5 جـ/49)
نُبِّه انتبه، ويؤيد هذا المعنى ويُعيّنه الحديث الصحيح [قال - صلى الله عليه وسلم -: "قال الله عز وجلّ: يؤذيني ابن آدم يسبّ الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار"] (1). ثم أطلق المتكلمون لفظ "الدهري" على من قال من الفلاسفة بقدم العالم، وقد يُجْمع بينهما فيقال كما في "المصباح" (2): "الرجل الذي يقول بقدم الدهر ولا يؤمن بالبعث دهري". * * * * فصل من سُنة القرآن: أن ما كان من الحق معروفًا بين الناس مسلَّمًا عندهم أن لا يَذْكُر ما يمكن أن يُورَد عليه من الشبهات، وإنما يَذْكُر ما يُؤخذ منه البرهان على ذلك الحق، والبراهين على وجود رب العالمين كثيرة، أشهرها الاستدلال بوجود الأثر على وجود المؤثِّر كما يعبر عنه جماعة، وقد تقدمت الإشارة إليه في الأصل الثاني (3) من المقدمة الأولى. وهذا القدر متفق عليه بين الناس، وقد نَبَّه عليه القرآن، فذكر كثيرًا من آيات الآفاق والأنفس، ودعا إلى النظر والتفكر فيها، وقال سبحانه: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35 - 36]. _________ (1) ضاقت الحاشية على المؤلف فبيّض للحديث، وسقته اجتهادًا. وهو في البخاري (6181)، ومسلم (2246) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) (ص 77). (3) كذا، وإنما تقدمت الإشارة إليه في الأصل الأول (ص 8 - 10).
(5 جـ/50)
قال بعض الأكابر (1): "يقول سبحانه: أَحَدَثوا من غير مُحدِث، أم هم أحدثوا أنفسهم؟ ! ومعلوم أن الشيء لا يوجد نفسَه" (ص 15) (2). وحكوا عن بعض الأعراب أنه سُئل عن معرفته ربَّه فقال: "البعرة تدل على البعير، و [آثار الأقدام تدل على المسير] " (3). [ص 25] واختلف الناس في تلخيص هذا المعنى على وجوه: الوجه الأول ــ وهو المشهور بين المتكلمين ــ قولهم: الحادث لا بد له من مُحدِث، فإن كان محدثه هو القديم فذاك، وإن كان حادثًا فله (4) في نفسه محدث، وهكذا فلا بد أن تنتهي السلسلة إلى محدث غير حادث. وقد اصطدمت هذه العبارة بأمور: الأول: الشبهة القائلة: هذا مسلَّم، ولكن قد لا يثبت به وجود رب العالمين؛ إذ قد يقال: هذا حادث فله محدث، ومحدثه حادث فله محدث، ومحدثه حادث، فله محدث، وهكذا بغير نهاية. والأمر الثاني: ما قد يقال: وجوب الانتهاء إلى قديم مسلَّم، ولكن قد يُدَّعَى قِدَم شيء أو أشياء ليست برب العالمين، كأن يُدَّعَى قدم الشمس مثلًا. _________ (1) هو ابن أبي العزّ الحنفي في "شرح الطحاوية" (ص 112). (2) هكذا بخط المؤلف فوق السطر. (3) ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير": (1/ 166)، و"تلبيس إبليس" (ص 66)، والمقري في "نفح الطيب": (5/ 289) بسياق آخر وزيادة. وما بين المعكوفين منها، وتركه المؤلف نقاطًا. (4) "فله" مكررة في الأصل.
(5 جـ/51)
الأمر الثالث: ما ذهب إليه أرسطو وشيعته من قدم العالم، وما ذهب إليه قوم من القِدَم النوعيّ للخلق. أجاب المتكلمون عن الأمر الأول بأن التسلسل إلى ما لا نهاية له في القدم مُحالٌ، وذكروا لبيان إحالته أدلةً تعتاص على الأفهام، ولا يأمن الناظر فيها تضليل الأوهام، وقد قدح فيها قوم وعارضوها. ودفعوا الأمرَ الثاني بالاستدلال على حدوث الشمس مثلًا بأنها جسم له أجزاء وحدود ونهاية، وأنها تتحرك وتنتقل وتتغير من حال إلى حال، وأن ذلك كله لا يكون إلا للمحدث القابل للفناء. وبذلك دفعوا الأمر الثالث. فأورِد (1) عليهم أنّ الكتابَ والسنة يصفان الرب عز وجل بشيء من جنس هذه الصفات، فالتزموا تأويل ذلك كله، وجرى في ذلك ما جرى. والله المستعان. الوجه الثاني: عبارة الفلاسفة ــ وقد استعملها المتكلمون أيضًا ــ قالوا: ممكن الوجود لا بد له من واجب الوجود لذاته، وقد شرحه أبو البركات (2) في "المعتبر" (3/ 20). وقد يعبِّرون عنه بقولهم: المعلول لا بدّ له من علة حتى ينتهي إلى علة غير معلولة، وأُورِدت عليه شبهة التسلسل إلى غير نهاية، فلخَّصَه بعضُ المتكلمين في عبارات لا ترِدُ عليها هذه الشبهة. _________ (1) غير محررة، ورسمها: "فورد". وما أثبته يدل عليه ما يأتي بعد أسطر. (2) انظر ما سبق عنه (ص 26، 32).
(5 جـ/52)
وأُورِد (1) عليه أيضًا: أن غايته إثبات واجب، وقد يُدَّعَى وجوب بعض الأشياء، فلا يحصل المقصود من الدلالة على وجود رب العالمين، فعادوا يستدلون على إمكان تلك الأشياء بنحو ما استدلَّ به المتكلمون على حدوثها. * * * * [ص 26] فصل الإنسان إذا رجع إلى نفسه وأنعم النظر في تفتيشها وجد عندها اطمئنانًا بأن للعالم ربًّا ليس من جنس ما تراه وتشاهده، وقد يشتبه عليك هذا الأمر في نفسك، فتجده أولًا كالشيء الذي يتراءى من وراء حجاب، بَيْنا تقول: قد أثبتُّه خَفِي عنك. أو كصورة قد نسيتها، فأنت تحاول أن تذكرها، فإنك قبل أن تذكرها قد يعرض لك أن تحسَّ كأنك قد ذكرتها ثم تغيب عنك، وهكذا في أشياء أخرى. وقد تتصفّح ما استدلّ به المتكلمون والفلاسفة، فلا تطمئن إليه نفسك، ثم تراجعها في ذاتها، فتجد اطمئنانها بوجود الرب على ما كان، فتعلم أن هذا الاطمئنان لم يأتها من جهة أدلتهم، ويتأكد هذا عندك بأنك تجد كثيرًا من الناس لم يسمع بأدلة المتكلمين والفلاسفة، واطمئنان نفسه بوجود الرب ثابت، لعله أظهر من اطمئنانك. وقد تعرض على نفسك الاستدلال بقول أسلافك في النسب والتعليم، فلا تجدها تطمئن إليه، وتعرض عليها أمورًا أخرى مضى عليها آباؤك _________ (1) قبلها في الأصل: "ولم"، ولا معنى لها، ولعله أراد أن يكتب شيئًا ثم أضرب عنه ونسي أن يضرب عليها.
(5 جـ/53)
وأسلافك، فلا تجدها تطمئن إليها، ثم تراجعها في اطمئنانها بوجود الرب، فتجده بحاله، فتعلم أن ذلك لم يأتها من جهة التقليد. ويتأكد هذا عندك بما سبق (1): أن القبائل المتوحشة حتى زنوج أمريكا يعتقدون وجود الرب، ويتأكد الأمران معًا بأن بعض الأفراد يكون ملحدًا قد ردَّ أدلة المتكلمين والمتفلسفين، واستدل بزعمه على نفي وجود الرب، وعلى أنه لا يمكن العلم بوجوده ولا عدمه، وسفَّه التقليد، وتعصَّب لذلك جهده، ثم هو يجد نحو تلك الطمأنينة من نفسه على ما حُكِي عنهم. وأظهر ما تكون هذه الطمأنينة عندما يعتري الإنسان مرض أو خوف شديد، فيجدُ نفسَه تفزع إلى ذي قوة غيبية، تلتجئ إليه، وتستغيث به. قال الله تبارك وتعالى (2): [{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا ... } [يونس: 12]، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ... } [الروم: 33]، وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ... } [العنكبوت: 65]. فإن قيل: فإننا نجد كثيرًا من الناس إذا اعتراه مرض أو خوف يفزع إلى غير الله عز وجل، فقد يفزع النصراني إلى المسيح وأُمّه، والذين يعبدون الملائكة إلى الملائكة، وعوامّ المسلمين إلى من يعتقدون فيه الولاية من الموتى. _________ (1) (ص 47 وما بعدها). (2) ترك المؤلف مكان الآيات فارغًا بمقدار ستة أسطر، فأكملناه بالآيات المناسبة للسياق.
(5 جـ/54)
فعنه جوابان: الأول: أنّ يُدَّعى أن هذا إنما يكون عند المرض أو الخوف الخفيف، فأما عند الشدة الشديدة فإنما يفزعون إلى رب [ص 27] العالمين، كما قَصَّه الله عز وجل عن المشركين (1). الثاني: أن الفزع إلى تلك الأشياء إنما هو من جهة اعتقاد علاقتها بالرب، فإن فُرِض أن من الناس من يزعم في بعض المخلوقات أنه هو الرب، فنفسه إنما فزعت إلى الرب، غير أنّ العادةَ والتقليد وجَّه الفزعَ إلى ذلك الشيء من جهة توهُّم أنه هو الرب. وإيضاح ذلك أن القَدْر المغروس في النفس مجمل تتكاثف عليه الحُجُب، ومثال ذلك: امرأة عمياء أضلَّت ولدها صغيرًا، فهي تعرف أن لها ولدًا تحبه طبعًا، وتبحث عنه، فقد يجيئها إنسان بولد فيقول لها: هذا ولدك، فتأخذه وتضمّه وتشمّه على أنه ولدها لا ترتاب فيه. وقد يأتيها إنسان ببعض ثياب ولدها، ويخبرها بذلك، فتأخذ ذلك الثوب فتشمه وتلتذّ به، وقد يأتيها بثوب لغير ولدها، فيزعم لها أنه ثوب ولدها، فيكون حالها كذلك، فهذا كله لا ينفي اعتقادها أن لها ولدًا، وأنها إنما تحبّ ولدها في نفس الأمر، وتحنو عليه، وتلتذّ بقربه. * * * * _________ (1) في الآيات التي سلفت قريبًا. وفي قوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ... } الآية [الإسراء: 67].
(5 جـ/55)
فصل فإن قيل: هذا الإدراك النفسي كيف حصل للنفس؟ قلت: قد يكون بقيَّة من بقايا ما أدركته قبل تقييدها في الجسد، إن قلنا: إن النفوس خُلِقت أو تُخْلَق قبل الأجساد بزمان طويل، وأن من شأنها إذا قُيِّدت بالجسد أن تنسى أو ينسيها الله عز وجل ما كان لها قبل ذلك. وعلى هذا فبقيَتْ لها هذه البقية؛ لأنها أظهر ما أدركته قبل تقيُّدِها بالجسد، ولأن حكمة الله تبارك وتعالى اقتضت إبقاء ذاك القَدْر لها؛ ليكون كالأساس لما أراده سبحانه من تكليفها في الحياة الدنيا. وقد يقال: إن للنفوس ذاتها إدراكًا ما غير ما تدركه بالحواس والقياس العادي. ومن تتبع أحوال نفسه وجد لها شيئًا من ذلك، فقد يعرض له ضيق وغمّ لا يعرف سببه، ثم يتبين أنه في ذلك الوقت جرى ما من شأنه أن يغمه، وقد يعرض له فرح وانبساط لا يعرف سببه، ثم يتبين أنه جرى في ذلك الوقت ما من شأنه أن يسره. وقد يقال: إن ذلك من آثار ملاحظتها لدلالة الأثر على المؤثر، أو غيره من الأدلة الآتية، فإننا نجد النفس قد تلاحظ بعض الدلائل ملاحظةً لا يشعر بها العقل، كأن يرى إنسانًا فتميل إليه، وآخر فتنفر (1) عنه، ولا تعرف سببًا لذلك. ويكون السبب أن الأول يشبه في صورته وشكله وهيئته وغير ذلك إنسانًا آخر تحبه، والثاني يشبه آخر تبغضه، وإذا أمعنت النظر عرفت ذلك، _________ (1) هذا الفعل والذي قبله "فتميل" نقطها المؤلف بالياء والتاء معًا "فيميل ... فينفر".
(5 جـ/56)
وقد جَرَّبت هذا أنا وغيري. وقد يكون المرئي نفسه قد سبق أن أحسن إليك أو أساء، ولكن تقادم العهد ونسيته. وقد يشعر العقل، ولكن لا يمكنك شرح ذلك، كأن ترى إنسانًا فيقع لك أنه عربي، وترى أنك إنما أدركت ذلك من صورته، فإذا [ص 28] قيل لك: اشرح ذلك بأن تقول: لونه كذا، وشكل وجهه كذا، وعينه كذا، بما يبين اختصاصَ تلك الهيئات بالعرب غالبًا لم تستطع ذلك. واعلم أن العقل يأبى أن يقبل ما لا يدركه هو، حتى لقد يتردد أو يعاند فيما قد شعر به في الجملة، كما مر في صورة العربي. والذي ينبغي للعقل أن لا يلغي إدراك النفس، بل يتثبت فيه ويتدبر، ويمعن النظر حتى يتبين الأمر، فإن لم يتبين أخذ بالأحوط. * * * * فصل العاقل لا يلغي الدلالة التي هي ظنية عنده، أما في مصالح الدنيا فمعلومٌ أن عمادها الظن، فالزّارع يتعب ويصرف كثيرًا من المال على رجاء الثمرة، وحصولُها ليس بقطعي، وكذلك الصانع والتاجر وحافر البئر والناكح والحاكم وأرباب السياسة والقتال، وكذلك الطبيب والمتداوي، وغير ذلك، فتدبَّر وأنعم النظر. فإذا كان الأمر كذلك في جلب المنافع ودفع المضار التي يعلم الإنسان أنها منقطعة عنه عما قليل، إذ لعله يموت بعد ساعة أو يوم أو نحو ذلك، فإن طال عمره لم يجاوز في الغالب ثمانين سنة، فكيف لا يعمل هذا في المنفعة
(5 جـ/57)
والمضرّة التي لا نهاية لها في القَدْر، ولا في المدة وهي الأخروية؟ ! فمن حَصَل له ظنٌّ ما بأنّ للعالم ربًّا هو المدبر في الحياة، وإليه المرجع في الآخرة، فمِنْ أحْمَق الحُمْق أن يلغي هذا الظن، بل ينبغي أن يستعرض الأديان، فأيها كان أقرب إلى الحق التزمه وعمل به. بل نجد العقلاء في مصالح الدنيا إذا شكُّوا في شيء أخذوا بالأحوط، فقد يتكلف أحدهم التعب والمَغْرَم لجلب منفعة مهمة أو دفع مضرة شديدة، ليس عنده ظن بحصولهما، ولكنه يقول: يحتمل أن تقعا. فإن كانت تلك المنفعة أو المضرَّة لا تحصل أصلًا كنتُ قد أضعتُ تعبي ونفقتي، وإن كانت تحصل المنفعة وتندفع المضرَّة إذا تعبت وغرمت، وتفوت المنفعة وتقع المضرة إذا لم أتعب ولم أغرم، فقد فزت فوزًا عظيمًا بتعبي وغرامتي، فأنا بين أمرين: إن تعبت وأنفقت خشيت ضياع تعبي ونفقتي، وإن لم أتعب ولم أُنفق خشيت فوات تلك المنفعة العظيمة ووقوع تلك المضرَّة الشديدة، وضياعُ التعب والنفقة أهون من فوات تلك المنفعة ووقوع تلك المضرة، والعاقل إذا خُيّر بين [ص 29] ضررين اختار أهونهما. بل نجد العقلاء يصنعون مثل هذا في جلب المنافع العظيمة ودفع المضار الشديدة التي يُظنّ عدم حصولها، يقول أحدهم: يترجّح عندي أنها لا تكون، ولكن يحتمل أن تكون. أقول: فإذا كان هذا حالهم في منافع الدنيا ومضارها التي تنقطع عما قليل ــ كما مر ــ، فينبغي للعاقل مثل ذلك وأولى منه في أمر الدين. * * * *
(5 جـ/58)
فصل من نشأ على خلاف الحق يكون قد استولت عليه صوارف عنه، فهو حَرِيّ إذا عُرِض عليه دليلٌ على خلاف رأيه أن لا يمعن النظر فيه، وإذا أمعن أن يغالطه هواه بالشبه، فقد يكون الدليل قاطعًا فيرى أنه ظني، أو ظنيًّا فيرى أنه محتمل. فينبغي له أن يعرف هذا من نفسه، ويأخذها بالأحوط ــ كما مر ــ، فلعله إذا وطَّن نفسه على ذلك وأخذ بالأحوط أن تذهب تلك الصوارف، فيظهر له حقيقة ذلك الدليل، وأنه قطعيّ أو ظنيّ. فصل قد ثبت في الإسلام أن الله عز وجل إنما أنشأ الناس هذه النشأة ليبتليهم، وإذا كان كذلك فمن قَبِل ما ظهر له من الحق وأَخَذ بالأحوط فقد نجح في الامتحان، فهو حقيقٌ بأن يوفّقه الله عز وجل ويرشده، فيتبيّن له أن ما كان يراه ظنيًّا هو حق قطعًا، إما بأن ييسر الله تعالى له ترتيب الدليل الذي كان عنده ظنيًّا على وجهٍ قطعي، وحلّ ما كان يخالفه من الشبهات حلًا قطعيًّا، وإما أن يرشده إلى دليل آخر، وإما بأن يشرح صدرَه وينوّر قلبه، فيحصل له اليقين، وإن كان لا يدري من أين جاء. وعلى العكس من هذا يكون حال من أبى ما ظهر له من الحق، قال الله تبارك وتعالى (1): [{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ _________ (1) بيّض المؤلف مكان الآية عدة أسطر، فأكملته بما ظننتُ أنه المراد.
(5 جـ/59)
يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}] [الأنعام: 125]. * * * * فصل انظر فيما حولك من الآنية والآلات، وكيف صُنعت، ولماذا صُنعت، وتفكَّر هل كانت بغير صانع؟ ثم إذا عرفت دلالتها على صانع فانظر دلالتها على معرفة الصانع وعقله وحكمته، ومقدار ما تدل على ذلك، حتى تنظر في آلة الخياطة, والساعة, والحاكي, الفوتغراف, والراديو، فإذا انتهيت منها فانظر في صانعها الغريب. وانظر في خلق الإنسان وغيره من الحيوان، تجد أن بين الذكر والأنثى ميلًا طبيعيًّا إلى المقاربة، تكون نتيجته إلقاء النُّطفة في الرحم، والذَّكَر لم يكن يشعر مما تولَّدت نطفته، ولا كيف تولدت. وقد لا يشعر بأنه إذا قارب أنزل، ولا بأنه إذا أنزل كان لذلك نتيجة. وللأنثى ــ فيما يقول التشريح الحديث ــ مِبْيَض، من شأنه توليد البيض، ثم تكبر البيضة حتى تضيق عنها الغشاوة، فتنشق، فيسيل بها الدم حتى يلقيها في الرحم، وعن ذلك الدم يكون الحيض، وليس للأنثى شعور بشيء من هذا، بل جَهِلَه الفلاسفة وعلماء التشريح والطب السالفون. قالوا: وفي نطفة الذَّكَر حيوانات صغيرة جدًّا، لا تدرَك إلا بالمُكبِّرات، فإذا وقعت النطفة في المَمرّ إلى الرحم سعت تلك الحيوانات حتى يجيء واحد منها إلى البيضة فيغوص فيها، وبذلك تكون البيضة قد تلقَّحت، هذا والذكر والأنثى لا يشعران إلا بلذَّتهما التي قضياها.
(5 جـ/60)
فإن كانت الأنثى مما يلد كالمرأة تربَّت البيضةُ في الرَّحِم إلى أن يكون خلقًا سويًّا من جنس الأبوين، وإن كانت مما يبيض أُحيطت البيضة بذلك الغشاء الصُّلب المعروف، وألقتها الأنثى في مكان تعدُّه لذلك، ثم تحضنها إلى أن يخرج الفرخ حيًّا سويًّا كأبويه، وتخليق الجنين مما لا شعور للأبوين به ولا بكيفيته، ولولا العادة لما علما بأنه يكون ولد إلا أن يكون إلهام فوق العادة. ثم يكون من الأولاد ذُكْران ومنها إناث، وليس للأبوين ولا لغيرهما خيرة في ذلك ولا شعور، ويكون لكل مولود يولد صورة تخالف صورة جميع الناس، ثم انظر في تفصيل الخِلْقة، ثم في تيسير الغذاء المناسب للطفل، ثم في طريق التغذية. ثم ارجع إلى الشجر، توضع النواةُ في الطين، فلا تلبث أن تنشقّ وتنبت منها شجرة مثل أصلها، وانظر كيف تغذيتها، وكيف ثمرتها، إلى غير ذلك. ثم انظر كيف تيسير ما يحتاج إليه الحيوان والنبات، فإن أشد ما يحتاج إليه هو الهواء والنور والحرارة المعتدلة، ثم الماء، ثم الغذاء، وتجد هذه الأشياء قد قُسِّمت في الوجود بحسب شدة الحاجة إليها، وقِسْ عليها غير ذلك. ثم تدبَّر أمرَ الشمس مع الأرض، وكيف تتغير حتى يتكون الفصول، ثم انظر في السحاب والمطر والرياح، ثم سل الحُكَماء الكبار أولي العقول الكبيرة: هل استطاعوا أو يستطيعون أن يصنعوا ذرّة لها من الأعضاء والقُوى والإدراك والحياة ما لهذه الذرة التي نطؤها بأقدامنا كل يوم؟ أو بُرّةً تُغْرَس فتنبت كما ينبت البر؟ أم أن يُخَلِّدوا إنسانًا أو يبقوه معمرًا مائتي سنة مثلًا، أم
(5 جـ/61)
أن يحيوا ميتًا؟ أم هل يعرفون ما هي الروح؟ ثم انظر في ارتباط الموجودات بعضها ببعض، كأنها أركان حكومة واحدة، أو أركان [ص 31] مصنع من المصانع، أو عائلة واحدة، أو أعضاء شخص واحد في التعاون والتباعد، أو آلات ساعة واحدة، فتجد تقدير الليل والنهار، والحر والبرد، والهواء والريح والمطر، والنور والظلمة، كلُّ ذلك على المقدار الصالح للحياة. وتفكَّر في تلقيح الشجر على ما يصفه علماء النبات، وأن كثيرًا منه يكون بواسطة النحل والفراش التي تقع على الزهرة المذكرة لتمتصَّ عَسلَها، فيَعْلَق برجلها وريشها شيء من طلع تلك الزهرة، ثم تقع على زهرة أخرى مؤنثة لتمتصَّ عسلها أيضًا، فيقع ذلك الطلع، فيتم لقاح الزهرة. وبالجملة، فمواضع العبرة في العالم كثيرة جدًّا. فتفكَّرْ وتدبَّرْ أيضطرُّك رؤية ملعقة من حديد إلى العلم بأن لها صانعًا، وهكذا إلى الساعة، أتَضْطَرُّكَ معرفَتُها إلى العلم بأن لها صانعًا عاقلًا، له قدرة وحكمة تناسب ذلك الإحكام وتلك الدقة، ثم لا يَضْطَرُّك ما رأيتَ من خَلْق الإنسان والحيوان والنبات، وسائر أجزاء العالم، وذلك الإحكام المدهش والنظام التام إلى العلم بأن للعالم خالقًا حيًّا عليمًا قديرًا مريدًا حكيمًا مدبرًا. أو لا يضطرُّك ما ترى من تدبير الأجَنَّة في بطون الأمهات، والنوى في باطن الأرض، وغير ذلك إلى أن تدبير الخالق مستمرّ لا يفتر؟ ! * * * *
(5 جـ/62)
مَبْلَغُ عِلْم المُلْحدين إن من الأدلة على وجود الرب تبارك وتعالى وأن الهداية بيده هو: النظرُ في حال الملحدين، فإنهم تبحَّروا في النظر في عجائب المخلوقات، فأدركوا فيها ما لم يدركه مَن قبلهم، ولكنهم نظروا فيها لذاتها، لا ليهتدوا بها إلى حق، بل قام بهم من بغض الدين واحتقاره والاستكبار عن آياته ما استحقوا به خذلان الرب تعالى، فكان مبلغ علمهم أنهم يخرصون أن هذا الفضاء قديم، وأن فيه مادة مبثوثة يسمونها: "الأثير"، فيها عدة قُوى من جَذْب ودَفْع وحركة وغير ذلك، وأن تلك المادة بما فيها من القوى يتركَّب منها بعد عصورٍ ذرات صغيرة، سماها بعض المصريين: "الجواهر الفردة"، وهذه الذرات يختلف تركيبها من المادة الأصلية، وباختلافه تختلف، فمنها ما يكون ذهبًا، ومنها ما يكون فضة، إلى غير ذلك من العناصر. قالوا: وإذا أذبنا الذهب مثلًا إلى أقصى درجات الإذابة، فإنما ينحلّ إلى هذه الذرات، وهكذا سائر الأجسام حتى المائعات والغازات، وهي العناصر الهوائية. قالوا: وهذه الذرات صلبة لا يمكن هدمها. قالوا: وإذا صار بعض المادة ذرات أحدثت لها قوى أخرى، ثم كأنها بمجموع القوى التي فيها تتجمع وتكون كوكبًا واحدًا، ثم يعرض لذلك الكوكب ما يكسره، فتتطاير الكِسَر هنا وهنا، فحدسوا أن أرضنا هذه متعلقة هي والسيارات التي حولها بالشمس، وأن الشمس هي الأم، ولا يدرون أتكونت ابتداءً، أم هي قطعة من كوكب أعلى منها؟
(5 جـ/63)
قالوا: ثم تكسَّرت الشمس فتطايرت منها السيارات التي الأرض واحدة منها، وأخذت هذه السيارات تدور حول أصلها التي هي الشمس. قالوا: ثم انكسرت من الأرض كسرة هي [ص 32] القمر. قالوا: وأما الحيوان والنبات فإنا وجدنا لهما مادة خاصة، لا يتكون الحيوان والنبات إلا منها، فكأنها بالقوى الموجودة في المادة اتفق بالتبادل والتركب المستمرّ أن تكونت تلك المادة، وحصلت لها هذه القوّة الخاصة التي نسميها الحياة، وبحصول الحياة لها حصلت لها إرادة لها تأثير في تكوين جسمها وتركيبه، وفي توليد مثلها. قالوا: ثم لعلها أخذت تتوالد وتترقَّى صورها بفعل إرادتها حتى صارت إلى هذه الحال. وقوّى هذا الخَرْص عندهم بأنهم وجدوا الحيوان على درجاتٍ في الرُّقيّ، أدناه حيوانات حقيرة توجد في الماء، وأرقاه الإنسان، ووجدوا بعض الأنواع متقاربة كالخيل والحمير، ووجدوا الجنين يتشكَّل في بطن أمه على عدة أشكال، فتوهَّموا أنه يمر في تشكله على السلسلة التي ابتدأت من الحيوان الدنيء إلى أن وصلت إلى الشكل الذي عليه أبواه، وهم مع هذا متفقون أنه لا يوجد فيما يعلمونه حيٌّ إلا من حيّ، وأنهم لم يشاهدوا ولم يسمعوا بأن حيوانًا قد ترقَّى بإرادته من شكل إلى شكل آخر بخلاف العادة المعروفة في جنسه، وأنهم قد حفروا في مواضع كثيرة يقدرون في بعضها أنها اندفنت قبل مائة ألف سنة أو أكثر، ويجدون في بعضها جثث الناس، وبعض الحيوانات الموجودة الآن على ما هي عليه الآن، وأنه إن فُرِض صحة ذلك الترقّي فلا يكون القليل منه إلا في ملايين من السنين، وأنَّ عُمر الأرض على ما يَحْدِسونه لا يكفي لذلك، ولا لعُشْره، ولا لعُشْر عُشْره،
(5 جـ/64)
فعادوا يفرضون فرضًا آخر، وهو أن الحياة جاءت إلى الأرض من كوكب آخر. فيقال لهم: تلك المادة كيف وُجدت؟ وتلك القوى التي لها كيف حصلت؟ ثم تلك الحياة ما حقيقتها؟ وأنى جاءت؟ وما بال الحيوانات الدنيئة لا تزال موجودة بكثرة؟ فهل كان لبعضها تلك الإرادة الخارقة حتى رقَّتها إلى الإنسانية وبقي بعضها على تلك الحال؟ وإن كانت الحياة جاءت من كوكب آخر فهل جاءت بأبسط صورها ــ أي: الحيوانات الدنيئة ــ ثم ترقَّت في الأرض؟ لا يمكنُ هذا الفرض؛ فإنه يعود الإشكال. أم جاءت في صورة راقية، فإني وجدتُ في الأرض الحيوانات التي أدنى من ذلك النوع، أم جاءت بِعِدّة أنواع منها الدنيء ومنها الراقي؟ وكيف كان مجيئها؟ ثم أيّ حاجةٍ بالحيوانات الدنيئة إلى بقاء نسلها تلك الحاجة الشديدة التي تقتضي الإرادة الشديدة؟ ونحن نجد كثيرًا من أفراد أرقى الحيوان ــ وهو الإنسان ــ لا همَّ لهم في الولد ألبتة، وإنما يقارب الذكر الأنثى للشهوة، فإن كان لهما همٌّ في الولد فطلبًا للذة بمحبة الولد، فإن زاد عن ذلك فلكي يخدمهما الولد. ونجد الحيوانات الدنيئة ــ كما قالوه ــ يكون آخر عهد الأمّ بولدها حين تضعه، فإن عاشت لم تعد تعرفه، ونجد بعض الحيوانات التي هي أرقى من ذلك تربي الأم ولدها بالشفقة المغروزة [ص 33] فيها، فإذا قوي طردته ولم تعد تعرفه، كالحمام وغيرها من الطير. ثم قد كان الظاهر أن تلك الإرادة تترقَّى بترقِّي الحيوان، فتكون أرقى ما تكون في الإنسان، أو على الأقل تبقى كما كانت، ونحن نجد الأمر بالعكس، فالإنسان لا يستطيع بإرادته أن يغير شيئًا من تركيب جسمه ولا نسله، فقد
(5 جـ/65)
يجتمع الذكر والأنثى وهما كارهان للولد، كما يكون بين الزانيين المُسْتخْفِيين الخائفَيْن من الفضيحة، وقد يشتهيان الولد ويحبان أن يكون ذكرًا فيكون أنثى، وقد يحبان أن يكون شكله كذا، وهيئته كذا، فيكون على خلاف ذلك. وما أدري ما يقولون في النبات، وهل يقولون: إن له إرادة بها ترقَّى؟ ثم ما عسى أن يقولوا في النظام البديع في الموجودات ــ على ما تقدّم بعضُه ــ هل إرادة بعض الحيوانات الدنيئة هي التي رَتَّبت العالم على هذا النظام؟ أوَلا يهديكم العقل إلى أنه لا بد من إرادة عُليا هي التي دبرته وتدبره، وأنها إرادة الخالق ولا بُدّ؟ ! وبالجملة، فالقوم أنفسهم يسلِّمون أن هذا الفَرْض الذي فرضوه إنما هو تَخَرُّص محض، وأنه يَرِدُ عليه من الإشكالات أضعاف أضعاف ما ذكرتُه، وأنّ هناك أشياء كثيرة في العالم لا تَنْحَلُّ بذلك الفرض. فإذا قلتَ لهم: فلماذا لا تُسَلِّمون بوجود الخالق المُدبِّر وتستريحون من هذا العناء، ثم إن وجدتم مُسبّبات عرفتم أسبابَها قلتم: هذا عن كذا، وهذا عن كذا، والخالق هو الذي جعلها كذلك، وما لم تعرفوا له سببًا قلتم: إرادة الخالق، وكفى؟ قالوا: لم يقم عندنا دليل حِسّي على وجود الخالق. فيقال لهم: ولا قام عندكم دليل حِسيٌّ على هذه التخرُّصات! فيقولون: نعم، ولكنها أقرب إلى ما عرفناه. فيقال لهم: بل هي بعيدة عنه، ثم هي لا تشفي ولا تكفي، والقول بوجود
(5 جـ/66)
الخالق أقرب إلى ما تعرفون، فإنَّ مما تعرفون أن في البدن روحًا تدبِّره، ولا تدرون ما هي، فقولوا: إن للعالم روحًا تدبره، وإن لم تدروا ما هو. لا أريد أنَّ علاقة الرب بالعالم كعلاقة الروح بالجسد، وإنما أريد التدبير فقط. وقد رجع أكثر القوم إلى الاعتقاد بوجود الأرواح لما ظهر لهم من تجارب في ذلك، انظر كتاب ... (1). وكذلك ارعوى كثيرٌ من عقلائهم، فاعترف بوجوب الرب، وسفَّه إخوانه المتشككين، ودَحَض شبهاتهم. * * * * فصل الباعث للمتشكِّكين على إصرارهم على دعوى الشك أمور: الأول ــ وهو عُمْدتهم ــ: أن فلسفتهم الحديثة كانت ردّ فعل لفلسفة اليونان وأتباعهم، كانت تلك تبالغ في التخيُّلات والتوهُّمات، فجاءت هذه تحصر العلم في المحسوسات، وقد انهدم هذا الأصل عند أساطينهم بما حدث فيهم من قضية الأرواح. الثاني: أن فيها ردّ فعل للنصرانية المبدلة التي أفرطت في الخرافات والخُزَعبلات. الثالث: أنهم وجدوا كتبهم الدينية فيها ما يُقْطَع بكذبه وبطلانه، ولا يحتمل تأويلًا. _________ (1) بيّض المؤلف لاسم الكتاب. ولعل المؤلف أراد كتاب "تمييز الأرواح" من تعليم ألان كاردك. فإنه لخّصه في مجموع رقم (4712) من (ص 52 - 79)، وفيه مباحث تتعلق بما ذكره المؤلف.
(5 جـ/67)
الرابع: أن أوائلهم أرادوا تخليص قومهم من قيود ديانتهم، وعارضهم القسيسون والرُّهبان، فطال النزاع بينهم، فبالغ المتفلسفون [ص 34] في الطعن في الديانة وتسفيه المتمسكين بها إلى أن صوروهم بأقبح صور الجهل والجمود والحُمْق واعتقاد الخرافات، وطال ذلك ورَسَخ في النفوس، فصار المتمسِّك بالدين محتقرًا فيما بينهم، والطاعن في الديانة محمودًا بحرية الفكر، وغير ذلك، فيرى أحدهم أنه إذا عاد فاعترف بوجود الرب عُدَّ مُنْحطًّا رجعيًّا كما يقولون، ويكفي خصمَه أن يسقطَ سُمعته بقوله: نحن في عصر العلم والتجديد، وفلان يرجع بنا إلى خرافات القرون الجاهلية. الخامس: أن القوم نشأوا على الإباحة والتهافت على الملاذّ الدنيوية، ومن شأن الدين أن يقيِّد صاحبه، أو ينغِّص عليه ملاذَّه بِتوقُّع العقوبة، فنفوسهم تنفر من ثبوت الدين، وتعاديه أشد العداوة. السادس: أنه كما أن سليم البصر لا يرى في الظُّلمة، بل يحتاج إلى النور، فكذلك البصيرة تحتاج في إدراك ما يتعلق بالغيب إلى نور خاص، وهذا النور الخاص إنما يكون في التعليمات النبوية، وهم أبعد الناس عنها. السابع: أنهم يَحدِسون أنه إذا كان هناك دين حق فهو الإسلام، ولكنهم ينفرون عن الإسلام لأمور (1): منها: العداوة المتوارثة فيهم للمسلمين. ومنها: عداوة دولهم للإسلام، فهي لا تفتأ تنفِّر عنه بالطرق المختلفة. _________ (1) انظر "الوحي المحمدي": (ص 22 - 23) لرشيد رضا.
(5 جـ/68)
ومنها: أنهم ينظرون إلى أحوال المسلمين في هذا الزمان. ومنها: أنهم إنما ينظرون إلى العقيدة الإسلامية بصورتها المشوَّهة في كتب القسيسين الذي استعربوا ووصفوا الإسلام، فإن أمعنوا النظر نظروا في كتب المتفلسفين من المسلمين، فإن زادوا نظروا في بعض التراجم الناقصة للقرآن. الثامن: أنهم مع أخذهم في دنياهم بل وفي علمهم بالظن والاحتياط، يأبون ما هو أوضح من ذلك في الدين، وبذلك كانوا مستكبرين عن قبول الحق، وقد قال الله تبارك وتعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146]. (1). * * * * [ص 35] فصل ومن الأدلة (2) ما يُشاهَد من تعجيل العقوبة لكثير من أهل البغي والظلم والجور، وسوء المِيْتة لأكثرهم، وذهاب ما جمعوه من الأموال الكثيرة بعوارض لم تكن في حساب، إمَّا في حياتهم، وإمَّا بعد هلاكهم، وأهل الخير والعدل بخلاف ذلك. _________ (1) كتب المؤلف أول الآية فقط {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ ... } وترك عدة أسطر لإكمالها. (2) يعني على وجود ربّ العالمين، وأنّ الهداية بيده. وانظر ما سبق (ص 63).
(5 جـ/69)
ومنها: ما لا يخلو إنسان من الناس من وقوعه له، وهو أنه كثيرًا ما يقارب الخَطَر ولا يشعر، ويكاد يقع فيه، فيجد ما ينبهه فيسلم، أو يعرض عارض لم يكن في حساب فينجو، وقد جربنا هذا كثيرًا. ومنها: أن الإنسان الذي لا يخلو من خير يكثر أن تنزل به المصيبة التي كان يظن أنها إذا وقعت مات غمًّا، فيجد في نفسه عند وقوعها ما يهوِّنها عليه ويخفِّفها، بل لعله يرجو منها خيرًا، وعلى العكس من ذلك أهل الشر. ومن ذلك: ما يُشاهَد من حال الأغنياء الفَجَرة؛ تُسَدّ عنهم طرق الخير، فلا يكادون ينفقون فيها فلسًا، وتُيسَّر لهم طرق الشرّ فينفقون فيها الأموال الكثيرة لغير شهوة يُعتدّ بها أو لذّة تعقل. ومنها: ما جربه كلّ مؤمن من نفسه من إجابة الرب دعاءه، وإغاثته عند الكرب، وتخليصه من المهالك، وغير ذلك، ويشاركهم في ذلك أهل الأديان الباطلة؛ لأن عندهم اعتقادًا بوجود الرب، والتجاءً إليه، واستغاثةً به، فيمدهم سبحانه بجوده وكرمه في هذه الدنيا (1)، قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ _________ (1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم": (2/ 314 - 315): "فمن دعاه موقنًا أنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه أجابه، وقد يكون مشركًا وفاسقًا، فإنه سبحانه هو القائل: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12] وهو القائل سبحانه: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 12] وهو القائل سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40 - 41]. =
(5 جـ/70)
الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62] (1). ومنها: ما يحكيه بعض المتدينين عن أنفسهم: أن أحدَهم إذا فعل خيرًا وجد أثر ذلك في تيسير الخير له في دينه ودنياه، وإذا فعل سوءًا أحسَّ بأثر ذلك من تغيُّر حاله في دينه ودنياه. وكثيرًا ما تنال أحدهم العقوبة، فيعرف [أنها] بذنبِ كذا لمناسبتها له. كان ابن سيرين ــ أحد أئمة التابعين ــ يتَّجِر وهو مع ذلك محتاط في تجارته، فاتفق أن عَرَض له ما أوقعه في خسارة تجارته، وأدى الأمر إلى أن رفعه خصومُه إلى القاضي فحبسه، فقال: إني لأعرف الذنب الذي عوقبت به، فقيل له: وما هو؟ قال: قلت يومًا لرجل: يا مفلس (2)! _________ = ولكن هؤلاء الذين يُستجاب لهم ــ لإقرارهم بربوبيته وأنه يجيب دعاء المضطر إذا دعاه ــ إذا لم يكونوا مخلصين له الدين في عبادته ولا مطيعين له ولرسوله، كان ما يعطيهم بدعائهم متاعًا في الحياة الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق ... وقد دعا الخليل عليه الصلاة والسلام بالرزق لأهل الإيمان فقال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فقال الله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)} [البقرة: 126]. فليس كل من متعه الله برزق ونَصْر، إما إجابة لدعائه، وإما بدون ذلك يكون ممن يحبه الله ويواليه، بل هو سبحانه يرزق المؤمن والكافر والبر والفاجر، وقد يجيب دعاءهم ويعطيهم سُؤلهم في الدنيا، ومالهم في الآخرة من خَلاق" اهـ. (1) ذكر المؤلف أول الآية {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ ... } وترك سطرًا لإكمالها. (2) بنحوها في "الحلية": (2/ 271)، و"تاريخ دمشق": (43/ 546).
(5 جـ/71)
يعني أنه عَيَّره بذلك، فعاقبه الله عز وجل بأن أوقعه في مثل ما عيره به. وقال بعضهم: إني لأرى ذنبي في وجه خادمي ولسان امرأتي (1)، أو كما قال. يريد أنه إذا أذنب أنكر حال خادمه، فلا يجده كما كان من حُسْن الخدمة والطاعة، وأنكر حال زوجته فوجدها تطيل لسانها عليه على خلاف عادتها. ويحكي بعضُهم عن نفسِه أنه ربما أراد في نفسه مواقعة ذنب، فينكر حال الناس معه، ويجد منهم من يتكلم بكلام فيه ما يتعلق بذلك الذنب، حتى كأنه يعنيه، أو كأنه قد اطلع على ما في نفسه، وقد يتكرر ذلك من عدة أفراد، فيتوب في نفسه، فلا يلبث ذلك أن يزول. وأنه قد يعرض له باب خير، فيبخل من الإنفاق فيه، فلا يلبث أن يعرض له ما يضطره إلى إنفاق أضعاف ذلك. [ص 36] ولو فتشت لوجدت أفرادًا من الناس لأحدهم وارد من المال يكفيه وأهله براحة، ثم يقع في اكتساب الحرام، فتجد الحلال مع الحرام لا يكفيه كما كان يكفيه الحلال، ولو دقَّقتَ لوجدت أنها تعرض له عوارض لا يشعر بها، مثل كثرة انكسار الآنية، وتخرُّق الثياب قبل وقتها، وغير ذلك من الأسباب التي تضطره إلى الإنفاق، وهو يرى أنه لم ينفق إلا فيما لا بدَّ منه (2). _________ (1) أخرج أبو نعيم في "الحلية": (8/ 109) عن الفضيل بن عياض قال: "إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي". وذكره في "البداية والنهاية": (13/ 662) في ترجمة الفضيل، وجاء في بعض نسخها الخطية: "في خلق حماري وخادمي وامرأتي وفأر بيتي". وذكره في "الداء والدواء": (ص 85 - ط عالم الفوائد) عن بعض السلف وفيه: "في خُلق دابتي وامرأتي". (2) ترك المصنف (ص 36) بعد هذا الموضع فراغًا قَدْرُه عشرة أسطر.
(5 جـ/72)
ومن الأدلة (1): أن أفرادًا نشأوا نشأة طاهرة، عرفهم الناس فيها بالصدق والأمانة، والخير والطهارة، والنُّصْح للناس، والعقل والحِلْم، والفهم والذكاء، وعدم الميل إلى سمعة ولا جاه ولا شهرة، ثم أخبروا أن الله جعلهم أنبياء، فاختبرهم الناس بعد أن ادَّعَوا، فوجدوهم على ما كانوا عليه من الأخلاق، وازدادوا فضلًا وخيرًا، ثم اختبرهم الناس في العمل على ما يأمرون به، فوجدوهم أشد الناس محافظة عليه سرًّا وجهرًا. فإذا صرفنا النظر عن النبوة فأخبار مَن هذه حاله من الصدق والأمانة والعقل والفطنة وغير ذلك من خصال الخير لا يمكن إهماله. وقد اتفق عُقلاء الإفرنج على وصف محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالعقل الراسخ، والذكاء الخارق، والحكمة البالغة، والأخلاق الفاضلة (2)، ثم اعترفوا أخيرًا بنزاهته عن الكذب، وحاولوا بتمحّل للجمع بين ذلك وبين ما يتشكَّكون فيه من وجود الرب وملائكته، فقالوا ما تراه مع جوابه في كتاب "الوحي المحمدي" (3) للسيد محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى. ومن الأدلة: ما ظهر على أيدي أولئك الأفراد من الآيات الخارقة التي تدل على أن لهذا العالم ربًّا قادرًا حكيمًا يفعل ما يشاء. ومنها: ما جاؤوا به من الشرائع الحكيمة. _________ (1) يعني على وجود ربّ العالمين، وأن الهداية بيده سبحانه. وانظر (ص 63، 69). (2) انظر كتاب "قالوا عن الإسلام": (ص 91 - 145) لعماد الدين خليل، الفصل الثاني محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقد ذكر أقوال اثنين وأربعين عالمًا منهم. (3) (ص 87 - 140).
(5 جـ/73)
وقد اعترف عقلاء الإفرنج على قلة علمهم بالشريعة الإسلامية بأنها أكمل تشريع يمكن [ص 37]، حتى قال (1): [جيبوب: إن الشريعة المحمدية تشمل الناس جميعًا في أحكامها، من أعظم مَلِك إلى أقل صعلوك، فهي شريعة حُبِكت بأحكم وأعلم منوال شرعي لا يوجد مثله قط في العالمين]. _________ (1) ترك المؤلف سطرين بياضًا ليلحق القول لكنه لم يفعل، والقول الذي أثبته وجدته في كنّاشة للمؤلف (رقم 4727) (ص 66) علّقه من جريدة البلاغ المصرية بتاريخ الاثنين 5/ ربيع الأول سنة 1347. ثم نقل المؤلف في كناشته السالفة قولًا آخر للمسيو ليون روش قال: "لم أذكر شيئًا في قوانيننا الوضعية إلا وجدته مشروعًا في الدين الإسلامي، بل إنني عدت إلى الشريعة التي يسميها جول سيمون "الشريعة الطبيعية" فوجدتها كأنها أخذت من الشريعة الإسلامية أخذًا. ولقد وجدت فيه حلّ المسألتين اللتين تشغلان العالم، الأولى: في قول القرآن: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] فهذا جمل مبادئ الاشتراكية. والثانية: فرض الزكاة على كل ذي مال وتخويل الحكومة أخذ حقوق الفقراء من الأغنياء إذا امتنعوا من دفعها طوعًا". ثم قال: "ولو أن هذا الدين وجد رجالًا يعلمون الناس حق التعليم، ويفسّرون تمام التفسير لكان المسلمون اليوم أرقى العالمين وأسبقهم في كل الميادين".اهـ. ويمكن أن نذكر بعض كلماتهم مما نظن أن المؤلف أراد الإشارة إليه: قال درواني: "على صعيد القانون في مجال العدل والإنسانية وفي مجال الحكمة والشفقة، فإنَّ قانون الإسلام لا مثيل له بين أديان العالم ... [وهو] لا يقيم وزنًا للأشخاص والذوات الشخصية، ولا يعترف بأية امتيازات أو طبقات ... وهنا أيضًا لا يوجد أي قانون حتى في القرن العشرين يمكن أن يضاهي القانون الإسلامي ... ". وقال ستوك: "أعتقد من صميم قلبي أن الإسلام منهج كامل للحياة يغاير المسيحية، والحق أن الإسلام هو الدين الكامل الوحيد". انظر كتاب "قالوا عن الإسلام": (ص 174، 194) لعماد الدين خليل.
(5 جـ/74)
و [من] تدبَّر هذه الشريعة وجد حِكمةً بالغة وإتقانًا باهرًا، يستحيل في العادة أن تكون من وضع بشر واحد، بل ولا من وضع البشر كلهم. فصل إذا كنت قد أنعمت النظر فيما تقدم فقد علمت أن الأدلة المذكورة ــ قطعيها وظنيها ــ لم يثبت بها وجود مُجرَّد، ولا وجود ذات مجردة، بل وجود رب هو المدبر لهذا العالم، فعُلِمَ بذلك أنه حي قدير مريدٌ، عليم حكيم، كريم رحيم، إلى غير ذلك من الصفات. ولهذا ــ والله أعلم ــ يُكتفَى في الكتاب والسنة في ذِكْر الإيمان بالإيمان بالله، ولا يُفرَّق فيهما بين الإيمان به والإيمان بصفاته، وإن أُفرد الاحتجاجُ على بعضها كقوله (1) تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]. فصل العقل إنما يستثبت بالأدلة المتقدمة وغيرها وجودَ الربّ، وأنه حيٌّ عليم قدير، إلى غير ذلك من صفاته، بطريق القياس على ما عرفه من وجود الناس ــ مثلًا ــ وحياتهم وعلمهم وقُدرتهم، ونحو ذلك. وهو بنفس تلك الأدلة يعلم أن الرب ليس من جنس هذه المحسوسات، وأن مشاركته لها في تلك الصفات تكاد لِعِظَم التفاوت تكون مشاركةً في الاسم فقط، وأن هذه المشاركة لا تقتضي المشاركة في غير ما ثبتت فيه. _________ (1) تحتمل قراءتها في الأصل: "بقوله".
(5 جـ/75)
فصل النظر على الوجه الذي شرحناه يبيِّن في نفس الناظر أن الربَّ الذي وصل به النظرُ إلى معرفته ليس هو ذاك الكوكب، ولا القمر، ولا الشمس. أولًا: لأن هذه الأشياء من جنس ما يراه ويحسّه، وهل الكوكب إلا جِسْم منير، مثله في السماء كثير، وجنسه في الأرض موجود، وهو الشعلة والمصباح؟ ثانيًا: لأن هذه الأشياء لا يظهر فيها أثر حياة ولا قدرة، ومجرد الإنارة والحرارة ليست من دلائل حياة ولا قدرة، فإنها موجودة في النار. ثالثًا: بل يظهر في الشمس وغيرها أنها جماد، وذلك ببقائها على وتيرة واحدة ونظام مستمر، يعلم به أن القادر الحكيم هو الذي وضعها عليه. رابعًا: ما يظهر عليها من علامات أنها مخلوقة لمصلحة الخلق، كما خُلِقت الأرض والهواء والماء والنبات. خامسًا: لاتفاق الأمم جميعًا على أن الشمس فما دونها ليست هي رب العالمين، فأما ما حُكِي عن عُبَّاد الكواكب فقد بيَّن المحقّقون ــ وأوضحتُ ذلك في رسالة "العبادة" (1) ــ أنهم إنما يرون في الكواكب نحو ما يرون في الأصنام، فإن القوم يعترفون برب العالمين، ثم يعبدون الملائكة ليشفعوا لهم إليه، ثم زعموا أن للملائكة تعلقًا بالكواكب، من جهة أن مع كل كوكب مَلَكًا يدبره. فعبدوا الكواكب على قصد عبادة الملائكة التي تدبرها. ثم لما رأوا أن الكواكب تغيب عنهم اتخذوا أوثانًا على أشكالٍ _________ (1) (ص 671 وما بعدها).
(5 جـ/76)
تخيلوها للكواكب، وسموها بأسمائها؛ لتكون موجودة عندهم دائمًا، فيعبدوها متى أرادوا. وبهذا يُعْلَم تفسير قول الله عز وجل عن إبراهيم عليه السلام: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 76 (1) - 81]. فإنما أراد بـ"الرب" المعبود، على طريقة قومه في تسمية الكواكب أربابًا، على معنى أنها تستحق العبادة؛ لعلاقتها بالملائكة كما تقدم. وقوله: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} أي: أن هذا يغيب، فإذا غاب لم تمكن عبادته على الطريقة المعروفة عندهم، وكانوا هم يسلِّمون هذا، ولأجله اتخذ الأصنام كما مر. وهكذا في الباقي. وقوله: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي: فإنه لا يغيب علمًا وقدرة. _________ (1) الأصل: "77".
(5 جـ/77)
وقوله: {وَلَا تَخَافُونَ .... } مما يبين أن القوم كانوا يعترفون بوجود الله. وعلى ذلك أدلة أخرى قد ذكرتها في رسالة "العبادة" (1). وقد خَلَّط المفسرون في هذا، ولاسيما المتأخرين. والله المستعان. * * * * _________ (1) انظر (ص 458، 680 - 681).
(5 جـ/78)
الأصل الثاني (1): أنه عز وجل أَحَدٌ صرَّح المتكلمون ــ كما بينته في رسالة "العبادة" (2) ــ بأنه لم يخالف في هذا أحد من الناس، وإنما يقرب من الخلاف فيه فِرَق: الأولى: غلاة المجوس، زعموا أن الشيطان قديم، وأن له قدرة عظيمة، وأنها لا تزال المغالبة بين الله عز وجل وبينه حتى يُغلَب الشيطان أخيرًا، ويلقيه الله عز وجل في جهنم، هو ومن تَبِعه. والذي أوقعهم في هذا القول هو النظر بعقولهم، غير مستضيئين بنور الأنبياء، فرأوا أن الله عز وجل لا يمكن أن يكون منه شرّ، ثم رأوا في العالم شرورًا، فقال بعضهم: الشرور من إبليس. فقال آخرون: يعود الإشكال في خَلْق الله تعالى لإبليس الشرير. وهكذا أخذوا يفرضون وينقضون، حتى قال بعضهم: لا مَخْلَص إلا بالقول بأن إبليس قديم، لم يخلقه الله عز وجل. وهذا الفرض يكفي في بطلانه بقاء العالم على ما نشاهده من النظام، كما يشير إليه قوله عز وجل: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]. فأما ما جهلوه من تفسير وقوع الشر، فإن أمكَن توجيهٌ يقبله العقل فذاك، وإلا وجبَ التوقفُ والعلمُ بأن لذلك [ص 40] تأويلًا صحيحًا وإن لم نعلمه. الفرقة الثانية: غُلاة النصارى في قولهم: إن الله ربٌّ واحد حقيقة، وهو مع ذلك ثلاثة أقانيم: الأب والابن والروح القدس (3). _________ (1) تقدم الأصل الأول (ص 47). (2) انظر (ص 332 - 337). (3) انظر "الملل والنحل": (2/ 245)، و"الجواب الصحيح": (3/ 183 وما بعدها).
(5 جـ/79)
ولهم في ذلك خَبْطٌ طويل، قد بين أهل العلم بطلانه، والنصارى أنفسهم يقولون: إن قولهم مما يبطله العقل. الفرقة الثالثة: أتباع أرسطو، يقولون: إن واجب الوجود واحد، وسائر الموجودات ممكنة، ثم يتخَرَّصون بأن موجودًا ممكنًا صدر عن الله تعالى بطريق الإيجاب، فهو لم يزل معه، كما يصدر الشعاع عن الشمس، ولم يزل معها. ثم سموا هذا: عقلًا أول (1)، وخَرَصوا أنه صدر عن هذا الثاني عقل ثانٍ، إلى عشرة عقول. ويزعمون أن كلًا من العقول رب لما دونه، وهم أنفسهم يعترفون بأن هذا تخرُّص، وبنوه على أصول واضحة البطلان، كقولهم: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وقولهم: إن الصدور عن واجب الوجود إنما كان بالإيجاب، وقولهم: إن العالم قديم، وغير ذلك مما هو بكلام المُبَرْسَمِين (2) أشبه منه بكلام العقلاء. وقد علمت أن الأدلة التي تقدم بيانها أوصلتك إلى العلم بأن للعالم ربًّا حيًّا عليمًا قديرًا حكيمًا، فإن فُرِض أن المدبِّر الذي تشاهد آثار تدبيره مربوب، فربُّه هو الرب، ولا بد أن يكون أكمل منه في الحياة والعلم والقدرة والحكمة. _________ (1) كذا في الأصل. (2) المبرسَم من أصيب بداء الهذيان. والبِرْسام: علة يُهْذَى فيها. فارسي معرّب "بَر": الصدرُ، "سام": الورم أو المرض. انظر "التاج": (16/ 48)، و"قصد السبيل": (1/ 270).
(5 جـ/80)
وهكذا هذا الثاني إن فُرِض أنه مربوبٌ أيضًا. إذن فالربُّ الحقيقي هو الذي ليس فوقه رب، فهو الله عز وجل، فإن فُرِض أن مِن دونه مدبرًا، فلا يخلو أن يكون عمله إنما هو تنفيذ ما أمره الله عز وجل به، أو يتصرف بهواه وإرادته. إن كان الأول فهو عبد لا رب، وإن كان الثاني فلا يخلو أن يكون تدبيره بغير إذن الله عز وجل أو بإذنه. الأولُ مُحالٌ كما تقدم في الكلام على إبليس (1)، وأما الثاني فلا يخلو أن يكون أَذِنَ الله عز وجل له لعلمه أنه لا يفعل إلا ما يحبه الله ويرضاه، أو أَذِنَ له مع علمه بأنه يفعل ما لا يحبه الله ولا يرضاه. فالأول عبد لا رب، وأما الثاني فلا يخلو أن يكون الله عز وجل مراقبًا له، فإذا أراد أن يفعل ما لا يحبه الله عز وجل منعه وحالَ بينه وبين الفعل، أو أن يكون مهملًا له، فالأول عبد لا رب، وأما الثاني فلا يخلو أن يكون تصرفه المُخَلّى بينه وبينه واسعًا بما فيه تدبير الأمور [ص 41] العظيمة، كتسيير الشمس والقمر، وإرسال الرياح، وغير ذلك من الأمور العظيمة، أو يكون جزئيًّا لا يؤدي إلى فساد النظام المُشاهد. فالأول باطل لما مرَّ في الكلام على إبليس (2)، وأما الثاني فلا يخلو أن يكون الله عز وجل أذن له لغير حكمة أو لحكمة. الأول باطل؛ إذ قد ثبت بالأدلة التي ثبت بها وجود الرب عز وجل أنه _________ (1) (ص 79). (2) الموضع نفسه.
(5 جـ/81)
حكيم، وسيأتي زيادة إيضاح لذلك إن شاء الله تعالى، وأما الثاني فما تلك الحكمة؟ أحاجة الله عز وجل إليه، أم خوفه منه؟ كلاهما باطل. أم محبته له؟ هذا أيضًا باطل؛ لأن المفروض أنه يفعل ما لا يحبه الله عز وجل ولا يرضاه، فكيف يحبه ويمكِّنه من فعل ما لا يحبه ولا يرضاه، ومقتضى محبة الله عز وجل أن يَحُول بين الذين يحبهم وبين فعل ما لا يحبه؟! أم تشريفه وتكريمه؟ هذا أيضًا باطل؛ فإن شرف المربوب وكرامته إنما هو في طاعة ربه، فتركه يفعل ما لا يرضي ربَّه ليس بتشريف، بل قد يكون إهانة له. أم الابتلاء والاختبار، كما في تمكين الله عز وجل الإنس والجن؟ فيلزمه نزول درجته إلى درجة الإنس والجن، وسيأتي استقصاء البحث في الكلام على توحيد الألوهية، إن شاء الله تعالى (1). [ص 43] فصل قد يقال: وحدانية الرب عز وجل وإن اتفق الناس عليها ــ على ما مضى ــ فقد يُجَوِّز الوهمُ وجودَ ربين أو أكثر. ثم إمَّا أن يُقال: إن هذا العالم الذي نشاهده مختصٌّ بأحدهما وللآخر عالم آخر، وإما أن يقال: إنهما ربان لهذا العالم ولكنهما لكمال علمهما وحكمتهما لا يمكن أن يختلفا حتى يلزم من اختلافهما فساد السموات والأرض. _________ (1) كتب المصنف بعد هذا الكلام في رأس (الورقة 41 ب) تعليقًا نصه: (هذا مع الورقة الآتية (ص 41 - 42) يؤخّر إلى بحث توحيد الألوهية إن شاء الله تعالى). فأخرناه إلى آخر الكتاب لأن المؤلف لم يكتب المبحث المشار إليه.
(5 جـ/82)
والجواب: أن الفلاسفة والمتكلمين قد ذكروا عدة براهين لإبطال هذا الفرض، ولكن الكلامَ فيها دقيق، ومبنيٌّ على أصولهم، فليراجعها من شاء في كتبهم. والذي يليق برسالتنا هذه أننا سنقيم الدليل على صحة النبوة، وعلى نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبذلك تثبت نبوة نوح وإبراهيم، وموسى وعيسى، وغيرهم ممن صرح القرآن بنبوَّته. وإذا ثبت ذلك فمعنى نبوّتهم أنهم مرسلون من جانب الربوبية؛ ليكونوا سفراء يبلغوا الناس عن ذلك الجانب، وقد عُلِم أن هؤلاء الأنبياء بلَّغوا الناس أنه لا يوجد إلا ربٌّ واحد، فالآمر لهم بذلك المؤيد لهم بالمعجزات إن كان أحد الربين المفروضين فقد كذب، وأمر بالكذب، واهتضم حق صاحبه، ومثل هذا لا يجوز على الرب. فإن أبيت إلا افتراض جوازه، فلا بدَّ من التنازع بين الربين، وذلك باطل كما تقدم في الكلام على إبليس (1). وإن فُرِض أن الأنبياء مرسلون من الربين معًا فكيف يجوز على الرَّبين أن يأمراهم بالكذب والزور، ونَفْي وجود أحدهما، والإعراض عنه؟ ! وتصوُّر هذا كافٍ في العلم ببطلانه. فإن عاد الوهم فجَوَّز كذبَ الأنبياء، فمعنى ذلك تجويز أن لا يكونوا أنبياء، وسيأتي إثبات نبوتهم. وهذا بحمد الله تبارك وتعالى برهان قاطع، إنما يبقى فيه إثبات النبوة، وسيأتي إن شاء الله تعالى. _________ (1) (ص 79).
(5 جـ/83)
فصل قد علمت أن الأدلة على وجود رب العالمين تضمنت الدلالة على أنه حيٌّ قدير عليم حكيم، وأن ذلك على الوجه الذي دل عليه تدبير العالم من كمال الحياة وعِظَم القدرة وسَعَة العلم وتمام الحكمة. والإنسان إذا أيقن بهذا فقد حصل له الإيمان بالله على الوجه الكافي في هذا الباب، وتلك الأدلة كافية في تحصيل هذا اليقين، لكن أكثر الطلاب في هذا الزمان تعترضهم شبهات تكاد تشكِّكهم في ذلك، عامتها يرجع إلى: ما هو؟ وكيف هو؟ وأين؟ ومتى؟ [ص 44] وكيف؟ ونحو ذلك، فأجدُ الحاجةَ داعية إلى النظر في ذلك، وفيه مسائل:
[المسألة] الأولى: ما هو؟
ارجع فتدبر الأصل الأول في أوائل الرسالة، ثم استحضر أنك قد عرفت أن الرب عز وجل ليس من جنس ما تحسُّ به وتشاهده؛ فتعلم بذلك أنه لا سبيل إلى إدراك ما هو بحسٍّ ولا قياس. وإنما أدركنا أنه موجود حيّ قدير عليم حكيم؛ لأنَّ (1) لنا سبيلًا إلى ذلك من جهة القياس، وإن عَظُمَ الفرق. ثم ارجع إلى الأصل الثاني إلى الخامس، وانظر إلى ما قصه الله تبارك وتعالى من محاورة موسى عليه السلام لفرعون، قد أوضحتُ في رسالة "العبادة" (2) بالأدلة الشافية من الكتاب والسنة، والتاريخ والآثار التي _________ (1) "لأن" يرسمها المصنف: "لئن"، وقد تشتبه بكلمة"بين". (2) (ص 687 - 707).
(5 جـ/84)
اكتُشِفَت في مصر، وكلام المحققين من أهل العلم: أن فرعون وقومه كانوا يعترفون بوجود رب العالمين، وإنما كان أوائلهم قالوا: إن ربّ العالمين بغاية العَظَمة، والبشر بغايةٍ من الضعف والحقارة، فليس لهم لذلك أن يرفعوا أنفسهم إلى التصدِّي لعبادة رب العالمين، فإن ذلك يُعَدّ سوء أدب وانتهاك حُرْمة، كما لو قام جماعة من كنَّاسي المراحيض فقالوا: نذهب لنسلم على السلطان. قالوا هذا مع أنَّ ما بين السلطان والكنَّاسين قريب؛ لأن الفرق الذي بينه وبينهم عارض، فأما بين ربّ العالمين وبين البشر فالفرق عظيم جدًّا. قالوا: وكما أن بين السلطان وبين كنَّاسي المراحيض وسائط، حقُّ كناسي المراحيض أن يرفعوا حوائجهم إلى أقرب الوسائط إليهم، ثم ذلك الواسطة يرفع (1) أمره إلى من فوقه، وهكذا حتى ينتهي إلى المَلِك. فبين البشر وبين رب العالمين واسطة هم الملائكة، فحقُّ البشر أن يعبدوا الملائكة، ويرفعوا حوائجهم إليهم، وأما عبادة رب العالمين فهي حق للملائكة، حتى جاء فرعون فزاد ــ كما يقال ــ في الطُّنْبور نَغْمة، كأنه بعد أن تملَّك جمع أكابر قومه، وقرَّرهم بتلك العقيدة، ثم قال لهم: كما أن البشر ليس لهم أن يعبدوا رب العالمين لانحطاط درجتهم، فكذلك ينبغي أن يُتَوقَّف في عبادتهم للملائكة؛ لأن (2) درجة الملائكة وإن كانت مُنْحطّة عن درجة رب العالمين فهي بعيدة في العلو والعظمة عن درجة البشر. فكأنهم قالوا: وكيف نصنع؟ لا بدّ لنا من العبادة! _________ (1) الأصل: "يرفعه" سبق قلم، والصواب ما أثبت. (2) الأصل: "لا"، سهو.
(5 جـ/85)
فقال فرعون: ينبغي لعامة البشر أن ينظروا من كان منهم أعلى درجة وأعظم شأنًا، فيجعلونه واسطة بينهم وبين الملائكة، هو يعبد الملائكة والعامّة يعبدونه، فقالوا: ليس هذا إلا الملك، فقرروا أن كلَّ قومٍ لهم ملك ينبغي لهم أن يتخذوه إلهًا، فيعبدوه، وهو يعبد الملائكة. وبذلك حصل فرعون على منصب الألوهية عندهم، ولذلك قال فرعون: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (1) [الزخرف: 51]، فقرر مَزِيَّته عليهم، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، فقرر ربوبيته لهم، يعني: الملك، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، فقرر ألوهيته لهم. ولم يتعرَّض في هذا كله لغيرهم من الناس، كأهل الهند والصين والروم وغيرهم؛ لأن الأمر الذي قرره مع قومه [ص 45] أن المَلِك إنما يكون ربًّا وإلهًا لرعيته، وأما غيرهم فلهم ملوك غيره، فهم أرباب وآلهة كلٌّ لرعيته. وقال لموسى: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29]؛ لأنّ موسى عليه السلام عنده من رعيته. وقال له آلُه: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127]، فأثبتوا أن لفرعون آلهة، ومعنى الكلام: أن موسى لم يكتف بأن يَذَر عبادتك، بل ترك عبادة آلهتك، يعنون الملائكة، فلم يكتفِ بمساواتك، بل رفع نفسه إلى مساواة آلهتك. _________ (1) "أفلا تبصرون" لم يكتبها المؤلف، وترك لها فراغًا.
(5 جـ/86)
قال الله تبارك وتعالى لموسى وهارون: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء: 16 - 19]. لفرعون في هذا الكلام غرضان: الأول: المنُّ على موسى بالتربية. والثاني ــ وهو الأهم ــ: القدح في رسالته، كأنه يقول: إنما أنت بشر من عامة البشر، وقد لزمك النقص بقتل النفس وكُفْر النعمة، والرسالة أمرٌ عظيم لا يصلح لها البشر، فكيف البشر القاتل للنفس الكافر للنعمة؟ ! وهذا كما حكاه الله تعالى عن قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم من قولهم للرسل: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم: 10]. وقد تكرر ذلك في القرآن، اقرأ سورة الأنبياء (3)، وسورة المؤمنين (24)، وسورة الشعراء (154، و 186)، وسورة يس (15)، وسورة التغابن (6). بل قال الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 45 - 47]. وقد تَسْتغرب استبعادهم أن يكون البشر رسولًا مع قولهم: إنه حيًّا وميتًا يكون إلهًا، وقد كشفت عن وجه ذلك في رسالة "العبادة" (1). _________ (1) (ص 701).
(5 جـ/87)
ثم ذكر الله تبارك [وتعالى]: جوابَ موسى عليه السلام: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا (1) وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 20 - 21]. هذا جوابٌ عن الأمر الثاني، يقول: إن [ص 46] لزمني نقص بقتل النفس فإنما كان ذلك قبل الرسالة، وأما البشرية فإنها ليست مانعة من فضل الله، وقد تفضَّل عليَّ. {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 22]. هذا جوابٌ عن الأمر الأول، وعن كفر النعمة من الأمر الثاني، أي: أيُّ مَنٍّ لك على إنسان ربيته وعبَّدتَ قومَه تقتل أبناءهم وتستحيي نساءهم؟ ! فعَدَل فرعونُ إلى سؤال آخر يحاول به أن يُرِي قومه أن موسى عليه السلام كاذبٌ في دعواه الرسالة: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23]. يريد: أن الرسول مِنْ شأنه أن يكون قد حضر عند مُرْسِلِه وشاهدَه وعَرَفه، فقل لنا: ما هو؟ يحاول أن يقول موسى: لا أدري ما هو، أو: ليس لبشر أن يدري، أو نحو ذلك. فيقول: فلست برسول إذن. {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 24]. هذا من النوع الذي يسميه البيانيون: الأسلوب الحكيم، وهو إجابة السائل بخلاف ما يترقب؛ لنُكْتة. كأنه يقول: ليس من شرط الرسول أن يعرف ذات مرسله، فقد يدعو الملك بعض الأمناء الذين لم يروه قط، فيكلمه من وراء حجاب، أو يبعث إليه ثقة من ثقاته، ويوجهه رسولًا، ولكن كأنك يا فرعون _________ (1) الأصل: "حكمًا وعلمًا" سهو.
(5 جـ/88)
لم تعرف معنى قولي: "رب العالمين"، أو كأنك وملأك تجحدون وجود رب العالمين، فأنا أجيبك بحسب هذا. فتجاهل فرعون: {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 25]. أسأله عن شيء فيجيبني بغيره! فأجابه موسى: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 26]. في هذا تأكيد للجواب قبله، مع إشعارهم بسوء صنيعهم، وتعرّضهم لغضب ربهم، وكأن في قوله: {وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} تعريضًا بما أحدثه فرعون وتبعوه عليه كما تقدم. فأصر فرعون على تجاهله: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27]. يُسأل عن الشيء فيجيب بغيره، ويصرّ على ذلك! فاستمرّ موسى عليه السلام على توكيد جوابه السابق: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28] وإلا فأنتم المجانين؛ إذ ينبغي لكم أن تعرفوا كلامي، وهو أني ادَّعيت الرسالة من ربكم الذي تعرفون وجوده، وتعترفون به، فحقكم أن تسألوني بينة على دعواي فحسب. فأراد فرعون حسم المحاورة {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29]. فتلطَّف موسى عليه السلام بما منع حَسْم المحاورة، واضطرارهم إلى الجواب الذي كان ينبغي أن يأتوا به من أول مرة، وهو سؤاله البينة على دعواه، قال: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} [الشعراء: 30].
(5 جـ/89)
فاضطر فرعون إلى إجابته؛ إذ لو لم يجبه لأنكر الناس عليه ــ ولو في نفوسهم ــ قائلين: ادعى وبذل البينة على دعواه، قال: {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ... } [الشعراء: 31]. الآيات. فإذا عرفت هذا فاعلم أنه لا سبيل لك إلى معرفة ما هو رب العالمين، وأن الذي [ص 47] ينبغي لك: أن تكفَّ نفسَك عن التعب فيما لا سبيل إليه مع ما فيه من الخَطَر، وأن تشكر الله عز وجل على ما آتاك من الأدلة على القَدْر الذي عرفته، كما قال الله تبارك وتعالى لنبيه موسى عليه السلام: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144].
المسألة الثانية: كيف (1)؟
قال الراغب (2): "كيف: لفظ يُسأل به عما يصح أن يقال فيه: شبيه وغير شبيه، كالأبيض والأسود، والصحيح والسقيم؛ ولهذا لا يصح أن يقال في الله عز وجل: كيف". فإن قيل: السؤال بكيف يرجع إلى الصفات، ولا يعقل موجود لا صفة له. قلت: السائل بكيف يطلب أن يُخْبَر بصفة يمكنه تصوُّرها وإدراكها، وصفاتُ الله عز وجل التي يُفْهَم السؤال عنها من قول القائل: "كيف الله؟ " مما لا سبيل لنا إلى إدراكه بحس ولا قياس. فقول ذلك يقتضي أن السائل يعتقد أن المسؤول يدركها، وأن للسائل سبيلًا إلى إدراكها، والأمر بخلاف ذلك. _________ (1) تقدمت المسألة الأولى (ص 84). (2) في "المفردات": (ص 730).
(5 جـ/90)
فإن قيل: فقد أدركنا بعض الصفات، مثل أنه سبحانه قادر عليم حكيم، فما المانع من أن يقال لمنكر البعث مثلًا: أتؤمن بالله؟ فيقول: نعم. فيقال له: كيف هو؟ أقادر أم عاجز؟ قلت: هذا السؤال لا يليق بهذا الباب، وحسبك أن تقول: "أليس بقادر"! ونحو ذلك. والمقصود هنا إنما هو تنبيهك على أن منع الكيف لا يستلزم نفيه، وأن نفيه قد لا يستلزم نفي الصفة، فإن استلزم ذلك فهو ــ أعني نفي الكيف ــ باطل. فافهم.
[ص 48] المسألة الثالثة: أين؟
لو أخبر إنسان بوجود موجود، فقيل له: أين هو؟ فقال: في بلد كذا، أو: في البحر، أو: في الهواء، أو: في السماء، أو: فوق السماء، أو: فوق كل شيء حيث لا يكون فوقه شيء يُحَسّ، لكان في مُتعارَفِ الناس قد أجاب عن السؤال، فقَصْرُ المكان على ما دون الأخير اصطلاح موجبٌ للمُغَالطة، فليتنبَّه له. ثم اعلم أن النُّظَّار بعد أن اتفقوا على أن الله تبارك وتعالى موجود قائم بذاته اختلفوا، فقال أكثرهم: ليس هو في مكان، فلا هو فوق ولا تحت، ولا خارج العالم ولا داخله. وقال آخرون: إنه لا يعقل موجود بهذه الصفة، بل ما كان كذلك (1) فهو _________ (1) الأصل: "ذلك".
(5 جـ/91)
عدم مَحْض، حتى قال المَعَرِّي (1): قالوا: لنا خالقٌ قديمٌ ... قلنا: صدقتم كذا نقول (2) [زعمتموه بلا مكانٍ ... ولا زمانٍ ألا فقولوا هذا كلامٌ له خَبيءٌ ... معناه: ليست لنا عقولُ] فأجاب الأولون: بأن هذا وهمٌ اقتضاه اعتماد الإنسان على حِسّه وقياسه عليه، ولم يحس بموجود ليس في مكان، فلذلك يأبى أن يكون موجود إلا في مكان. فقال الآخرون: ليس هذا بوهم، بل هو حقيقة بينة بنفسها، والقول بأنها وهم سَفْسَطة محضة (3). فقال الأولون: إن الإنسان إذا ألِفَ النظرَ في المعقولات وتمكَّن فيها اتضح له أن ذلك وهم. قال الآخرون: يُردُّ على هذا بوجوه: الأول: أننا نجد مَن خاض في المعقولات وهو موافقٌ لنا. الثاني: أننا قد نظرنا في شيء من معقولكم، فوجدنا عامته شبهات ملفقة ومغالطات متعمقة، وقد اعترف بذلك جماعة من أكابركم، كما تقدم عن إمام الحرمين والرازي والغزالي (4). _________ (1) في "اللزوميات": (2/ 189). وصدر البيت الأول فيه: "قلتم: لنا خالق حكيم". (2) ترك المصنف بعد هذا البيت سطرين للبيتين الآتيين فأكملناهما من المصدر. (3) السفسطة: قياس مركب من الوهميات، الغرض منه تغليط الخصم وإسكاته. انظر "التعريفات": (ص 118)، و"التوقيف على مهمات التعاريف": (ص 407). (4) انظر (ص 32 - 36).
(5 جـ/92)
الثالث: أننا وجدنا أكثر ما عندكم تقليد كبرائكم، وقد اعترف بذلك الغزالي إذ قال (1): [بل اعتقاد أكثر المتكلمين في نُصرة مذاهبهم بطريق الأدلة، فإنهم قبلوا المذهب والدليل جميعًا بحُسْن الظن في الصِّبا، فوقع عليه نشؤهم]. فلعل ما يعرض للمتعمِّق منكم من السكون إلى موجود ليس في مكان إنما هو أثر من آثار التقليد والشبهات، والمُحَال إذا كثر سماعه واعتياد التصديق به تقليدًا ربما تألفه النفس، فترى كأنها مصدقة به مطمئنة إليه. الرابع: أنكم توافقون أن معرفة الله عز وجل واجبة على كل عاقل، ولو كانت المعرفة لا تحصل إلا بالتعمُّق في المعقولات لكان غالب الناس غير متمكنين منها. فإن قلتم: قد قال قوم بأنه يكفي العامة التقليد. قلنا لكم: قد اختلف عليهم الناس، فمَنْ يقلدون؟ على أننا قد فتَّشنا كثيرًا من المقلدين الذين يُظْهِرون القول بقولكم، فوجدناهم إنما يقولون ما لا يفهمون، أو ما لا يعتقدون، فإذا حوققوا تبين أنهم معنا في ذلك القول، غاية الأمر أنهم قد لا يجزمون جَزْمنا؛ لتوهمهم أن ذلك ربما يفقدهم أعز شيء عليهم وهو الدين. _________ (1) ترك المؤلف مكان القول بياضًا، فأكملناه بما بين المعكوفين؛ فالظاهر أن هذا هو النص الذي أراد المؤلف نقله، بدليل أنه نقله في "التنكيل ــ القائد": (2/ 226). وهذا القول في "المستصفى": (1/ 44)، وقد كرره الغزالي بنحوه في عدد من كتبه، انظر "المنقذ من الضلال": (7/ 33 - ضمن رسائل الغزالي)، و"إلجام العوام عن علم الكلام": (4/ 81 ضمن رسائل الغزالي).
(5 جـ/93)
الخامس: أن الأنبياء إنما بُعِثوا ليدعوا الناس إلى معرفة ربهم وطاعته، ولم نَعْلَمهم دعوا الناس إلى التصديق بأنه ليس في مكان، بل الأمر بعكس ذلك، كما يأتي. [ص 49] قال الأولون: أما الوجه الأول فلسنا ندعي أن كل من خاض في المعقولات تبين له الأمر، وإنما ادعينا أن من شأنه (1) ذلك، وقد يتخلف في بعض الأفراد، هذا إن سُلِّم أن الأفراد الذين وافقوكم (2) هم ممن تمكن في المعقولات. وأما الثاني فلسنا ننكر أن هناك شبهات ومغالطات، ولكننا نقول: إن النظر في المعقولات من شأنه أن يوصل إلى حل تلك الشبه، فغايتنا من النظر هو الوصول إلى الحقيقة وحل الشبه، فنذكرها لنحلها، ولا ندعي العصمة في كل شيء، فقد نخطئ، ولكن هذه المسألة مما اتضح لنا اتضاحًا لا يحتمل الخطأ. وما ذكرتم من حال إمام الحرمين والرازي والغزالي فلم تثبتوا أنهم رجعوا إلى قولكم في هذه المسألة، بل لعل المنقول خلاف ذلك. وهَبْهُم رجعوا إلى قولكم، فذلك لا يشكِّكنا فيما قام لدينا من الحجة، ولا يكون حجة لكم. وأما الثالث فلا ننكر أن منا من يقلد، ولكننا نعلم في كثير مما نقوله أننا لسنا مقلدين فيه، ومن جملته هذه المسألة. _________ (1) غير بينة في الأصل، ولعلها ما أثبت. (2) رسمها في الأصل: "وافقوتم"، ولعل الصواب ما أثبت.
(5 جـ/94)
وأما أنّ النفس قد تسكن إلى المحال لكثرة سماعه واعتياد التصديق به تقليدًا، فهذا لا ننكره، ولكننا نعلم أن تصديقنا بهذه المسألة ليس من هذا القبيل؛ لقيام الحجة عليه (1). فقاطعهم الآخرون قائلين: جوابكم عن هذه الثلاثة الأوجه مداره على دعوى قيام الحجة القطعية عندكم، فلخِّصوا لنا أوضح حُججكم في ذلك لننظر فيها، ثم ننظر في جوابكم عن الوجهين الأخيرين (2). قال الأولون: الحجة الأولى: أنه قد ثبت بالبراهين القطعية أن الرب واجب الوجود، وأن المكان مخلوق مُحدَث، فقد كان سبحانه موجودًا قبل وجود المكان، فثبت أنه كان موجودًا لا في مكان. الحجة الثانية: ما لا يتصور وجوده إلا في مكان فهو محتاج في وجوده إلى وجود المكان، وما كان محتاجًا إلى غيره في وجوده، فوجوده متأخر عن وجود ذلك الغير. الحجة الثالثة: قد قامت الحجة على أن الرب قائم بذاته، فليس بعَرَض، فلو كان في مكان لكان جسمًا، والجسم إما حقير جدًّا، وهو الجزء المتناهي في الصغر الذي يسمى: الجوهر الفرد، وإما كبير، والجسم الكبير مركَّب من أجزاء، والمركَّب محتاج إلى جزئه، وهو غيره، والمحتاج إلى غيره ممكن لا واجب. _________ (1) "عليه" ضرب المؤلف عليها سهوًا مع الكلام الذي كتبه أولًا ثم أخّره إلى موضع آخر. (2) سيأتي الجواب عن الوجهين الأخيرين (ص 104 - 105).
(5 جـ/95)
وشرحه بعضهم: بأن المركب ذو أجزاء، وجزؤه ليس بمعدوم، وإلا عدم الكل، ولا واجبًا وإلا تعدد الواجب، فتعين أنه ممكن ... إلى آخر ما في حواشي [ص 50] "شرح المواقف" (1). وهناك حجج أخرى يدق فيها الكلام، ويصعب المرام، ويكثر الخصام. قال الآخرون: أما الحجة الأولى فقد نقلتم إطباق المتكلمين وبعض قدماء الفلاسفة أن المكان تعيُّنه (2) موهوم (3)، وحقيقته أنه الفضاء أو الخلاء، وهو أمر عَدَمي، وأدلتهم بغاية القوة، ودعوى مخالفيهم الضرورة مردود، بل لو ادعى الضرورة في أن هذا الفضاء بعد فرض نزع ما يملؤه من هواء وغيره هو في نفسه عدم محض لكان أقرب إلى فِطَر الناس. وما احتجوا به على وجوده من أنه يشار إليه، قد أُجِيب عنه بأنه إشارة تبعية، كما في حواشي "شرح المواقف" (4) وغيرها. ثم قد اتفقوا على أنه ليس خارج العالم أمر وجودي، مع أنه يمكن الإشارة، إما من هنا، فنقول: النقطة التي خارج العالم من هذه الجهة، والأخرى التي من هذه الجهة، وإما على فرض أن شخصًا على طرف العالم، فيشير هنا وهناك. وبقية الأدلة قد أجيب عنها، كما في حواشي "شرح المواقف" وغيره. _________ (1) (8/ 21). (2) غير محررة، وتحتمل: "تعيينه". (3) انظر "حواشي شرح المواقف": (5/ 121، 138 - 139). (4) (5/ 115).
(5 جـ/96)
وقد قدمت فصلًا في ذلك (1). ومن أنصف علم أن الحجج المُثْبِتة أنه تبارك وتعالى في جهة أقوى بدرجات مما احتجَّ به على أن الفضاء شيء وجوديّ، هذا إن لم يسلم أن تلك قطعية. وإذا ثبت أو جاز أن يكون حقيقة الفضاء أمر عدمي (2) سقطت حجتكم الأولى، وكذلك الثانية، فإنه إذا كان الفضاء أمرًا عدميًّا لم يتصور الحاجة إليه في الوجود إلا بمعنى الحاجة إلى أن لا يرتفع بالكلية، وارتفاعه بالكلية محال، وارتفاعه في الجملة واجبٌ، وذاك وجود الرب عز وجل، وجائزٌ وذاك وجود غيره تعالى، والجائز محتاج في وجوده إلى الواجب. فغاية ما تلزمونا به احتياج الرب سبحانه في وجوده إلى عدمٍ ما، يستحيل وجوده بدون إيجاد الرب سبحانه له، ولا حرج في هذا، بل ولا في بعض ما هو أشد منه، كأن يقال: إن الرب محتاج في ربوبيته إلى عدم وجود ربّ آخر يُنازعه. فإن قلتم: فيلزم أن يكون عدم وجود الجائزات متقدمًا على وجود الرب. قلنا: بل يكفي المعية، والربّ أزلي، وذاك العدم أزلي (3). _________ (1) لم نجد هذا الفصل المشار إليه فيما وقفنا عليه من هذه الرسالة. (2) كذا في الأصل بالرفع في اللفظين، وحقهما النصب. (3) من قوله: "كأن يقال ... " إلى هنا تتمة اللحق الطويل الذي بدأ في (الورقة 50 ب)، لكنه جاء في (الورقة 51 ب).
(5 جـ/97)
وقد رأيت من يقول: هب أنّ الفضاء أمر وجودي، فقد قال بعض أكابر القائلين بوجوده: إنه لا يتصور ارتفاعه، فهو عنده واجب الوجود، فلماذا لا يلتزم مثبتو الجهة لله عز وجل هذا القول على فرض أن الفضاء أمر وجودي؟ فقلت له: في هذا إثباتُ قديمٍ مع الله عز وجل. فقال: وما الذي يبطله عقلًا؟ فذكرت له ما حضرني. فقال: وما الذي يبطله نقلًا؟ قلت: يقال لك: إنه قدح في ربوبية الله عز وجل وشرك به. فقال: لا أفهم كونه قدحًا في ربوبيته، إنما القدح القول بأن العالم غنيٌّ عن تدبير الله عز وجل، فأما القول بأن هذا الفضاء قديم، وكل ما فيه من الممكنات فهو خلق الله عز وجل وتدبيره، فلا أراه قدحًا في الربوبية. وأما الشرك فالذي [ص 51] أفهم أنه: إثبات رب مع الله عز وجل، أو معبود معه، أو يقول بنحو قول النصارى: إن الرب ثلاثة أقانيم، انفصل منها أقنوم، فكان منه عيسى، ثم انفصل الآخر، فنزل على عيسى. ومن يقول بقدم الفضاء لا يقول شيئًا من ذلك، فإنه يعرف أنه لا حياة للفضاء، ولا قدرة، ولا إرادة، ولا علم، ولا غير ذلك من الصفات التي يدور عليها أمر الربوبية والألوهية، ولا يقول: إنه أقنوم في الرب عزَّ وجلَّ. فذكرتُ له ما حضرني، ثم قلت: ويقال لك: هذا خرق للإجماع، فإن المسلمين أجمعوا على أن ما سوى الله حادث. فقال: هذا قول إجمالي، فلعلّ مِن المُجْمِعين من كان يرى أن الفضاء
(5 جـ/98)
أمر عدمي، كما هو المنقول عن إطباق المتكلمين، ولعل منهم من لم يخطر بباله؛ لأننا إذا كنا في حجرة ثم سألنا بعض العقلاء الذين معنا: أي شيء موجود في هذه الحجرة؟ لذهب يعدد لنا الأجسام التي فيها، فإن دقَّق عدَّ فيها الهواء، فأما أن يعد الفضاء فلا، إلا أن يكون قد سمع قول من يقول: إن الفضاء أمر وجودي، فقلَّده. فذكرتُ له ما حضرني، ثم قلت: ويقال لك: هو مخالف للنصوص، كقول الله عز وجل: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] ونحوها. فقال: أقول: إن هذا عام يخصه العقل، فإن العقل العادي إما أن لا يعد الفضاء شيئًا موجودًا، كما تقدم في المثال آنفًا، وإما أن يعلم أنه لا يتصور عدمه، وهذا التأويل أقرب بألف درجة من تأويلات من يقول: إن الله عز وجل ليس في جهة، مع أني أدعي إجماع السلف على القول بالجهة، وأذكر من نصوص الكتاب والسنة في إثباتها أضعاف أضعاف ما يمكن أن تذكره في أنه خالق كل شيء، وأن كل ما سواه حادث. وهذا الإجماع والنصوص نص في محل النزاع ــ وهو ثبوت الجهة ــ فأما ذاك الإجماع وتلك النصوص فإنما يمكن تناولها للفضاء على وجه العموم. فقلت له: أتعتقد هذا؟ قال: لا، ولكني أراه أقرب إلى العقل والدين من القول بأن الله موجود لا في جهة، وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه، وأنه خلق العالم لا في ذاته ولا خارجًا عنه.
(5 جـ/99)
قال: وكذلك يقال في جواب حجتهم الثانية. فيسألون على فرض صحة قولهم: إن الفضاء موجود محدَث: هل كان يمكن أن يحدثه الله عز وجل ويُحْدِث فيه جسمًا في وقت واحد بدون تقدم أحدهما على الآخر؟ فإن لم يكابروا قالوا: نعم. وبذلك يعلم أنه لا يلزم التأخر، بل تجوز المعية. فإذا جاز أن يكون المكان قديمًا لم يمتنع أن يكون المتمكِّن قديمًا، ثم يقال [ص 52] بالقدم فيما قام الدليلُ على قدمه، وبالحدوث فيما قام الدليل على حدوثه. فكان مما قلت له: وكيف يكون الرب محتاجًا في وجوده إلى غيره؟ ! فقال: هذه كلمة مشنعة بالإيهام، فإن الذي يتبادر من الحاجة في الوجود حاجة الحادث إلى محدثه، أو المعلول إلى علته، أو إلى جزئها، وليس ما هنا كذلك. قلت: فيقال لك: هو قريب من ذلك، وهو أنه احتياج الموجود إلى شرط وجوده. فقال: إذا لوحظ القدم في الجانبين وأن الرب حيٌّ قديرٌ مريدٌ عليمٌ حكيمٌ إلى غير ذلك من صفات العظمة والكبرياء، وأنَّ الفضاء خالٍ من ذلك كله هان الأمر. فإن بقيَتْ هناك شَناعة فيجاب عنها بنحو ما يجيبون عن قولهم: إن المحال لا يدخل تحت القدرة، كما يقول القائلون بحدوث المكان: إنه
(5 جـ/100)
شرط لوجود الأجسام، فلا يقدر الباري عز وجل أن يعدمه مع بقاء الأجسام. وبالجملة فالقول بما يستلزم هذا القدر من الاحتياج خير بألف درجة بل بما لا يُحْصَى من القول بما يستلزم عدم وجود الرب. فذكرت له ما حضرني، وكان من آخر ما قلت له: إن كنت مصممًا على أنه لا يمكن الوجود إلا في جهة، فخيرٌ لك أن تعتمد على أن الفضاء أمر عدمي، وتقف عنده. قالوا: وأما حجتكم الثالثة فإننا لا نطلق على الرب عز وجل أنه جسم، فإن عنيتم بالجسم ما له جهة، وهو قائم بذاته، فإننا نلتزم ذلك، ولا نقول: إنه جسم، ونقول: إن ذات الله تبارك وتعالى عظيمة. ولا نحدد قولكم: "مركب من أجزاء". نقول: المركب ما ركبه غيره، والرب عز وجل قديم تعالى الله عن ذلك، والأجزاء مأخوذة من الجزء، وهو القسم، وذات الرب عز وجل لا تتجزأ، وكذلك الأبعاض والأقسام والأعضاء، كل هذا يتضمن التفصيل والتفريق، إما بالفعل، وإما بالإمكان، والباري عز وجل يتعالى عن ذلك. فإن قلتم: إننا نطلق المركب وذا الأجزاء على ما هو أعم مما ذكرتم، فالمقصود أن ذات ربكم بحيث يمكن لمن رآه أن يشير إلى شيء منها دون شيء، وما كان كذلك فهو في اصطلاحنا مركب ذو أجزاء. قلنا: يمكن أن [ص 53] نلتزم ما ذكرتم في ذاته تعالى، ولا نقول: مركب، ولا ذو أجزاء، تعالى الله عن ذلك. فإن قلتم: فإن قولنا: المركب محتاج إلى جزئه، يجري فيما ذكر،
(5 جـ/101)
فالذات محتاجة إلى الشيء المفروض الإشارة إليه منها، وذاك الشيء ليس هو إياها فهو غيرها، فالذات محتاجة إلى غيرها. قلنا: قولكم: "إلى غيرها .. " وهم، فإن المفهوم من قولكم: "غيرها" أنه ليس شيئًا منها، فإنك لو قلت: في يدي شيء غير هذا القلم، ثم فسرت ذلك بشيء من القلم لأنكر عليك. وفي "شرح المقاصد" (2/ 76) في تفسير المتغايرين: "وتفسيرهما (1) بالشيئين أو الموجودَين أو الاثنين فاسد ... قال صاحب "التبصرة": وكذلك تفسيرهما بالشيئين من حيث إن أحدهما ليس هو الآخر يصدق على الكل مع الجزء، كالعشرة مع الواحد، وزيد مع رأسه، مع أنه لم يقل أحد: يكون الجزء غير الكل إلا جعفر بن حارث من المعتزلة، وعُدّ ذلك من جهالاته؛ لأن العشرة اسم للمجموع، يتناول كلّ فرد مع أغياره، فلو كان الواحد غير العشرة لصار غير نفسه؛ لأنه من العشرة ولن تكون العشرة بدونه". وإذا كان هذا في الواحد من العشرة، فكيف برأس زيد مثلًا؟ ! فكيف بشيء من ذات الباري تبارك وتعالى، والانقسام فيها مستحيل؟ ! فإن قلتم: دعوا قولنا: "غيرها"، ونقول: إن الذات من حيث هي ذات تامة محتاجة في تمامها إلى الشيء المفروض الإشارة إليه منها. قلنا: حاجة الذات إلى شيء منها هو في معنى حاجتها إلى نفسها، وليس في هذا ما ينافي وجوب الوجود. _________ (1) من قوله: "وبالجملة فالقول ... " إلى هنا ضعيف في التصوير فلم تمكن قراءته إلا بصعوبة بالغة.
(5 جـ/102)
بقي قول ذاك المتحذلق ــ ما معناه ــ: ذاك الشيء إما واجب الوجود، فيلزم تعدد الواجب، وإما ممكن، فأشياء الذات ممكنة، فهي ممكنة. وجوابه: أن ذات الرب عز وجل يستحيل عليها الانقسام، فالذات واجبة، وما هو من الواجب فهو واجب. وهذا التعدد الموهوم ليس هو التعدد المنافي للتوحيد، فإن الذات واحدة، وذلك أن قولنا في الشيء المفروض الإشارة إليه: إنه واجب، إنما معناه أنه من ذات واجبة، فثبت له حكم الوجوب. وقد يمكن تقريب هذا بأن يقال: زيد مولود، ورأسه منه، فالرأس مولود، وهكذا قلبُه وكبده، فهل يلزم من هذا أن يكون زيد عدة مولودين؟ هذا، ونستغفر الله ونتوب إليه مما اضطررنا إليه في هذا الفصل مما لا يخلو عن جرأة على الله تعالى وتهجُّم على ما لا ينبغي، وقد كان يكفينا وإياكم أن نعرف أنه تبارك وتعالى موجود حيٌّ قديرٌ مريدٌ عليمٌ حكيمٌ بما تقدم من الأدلة، ثم نعرف النبوة، ثم نتبع كتاب الله وسنة رسوله، فإنه [ص 54] لا أحد أعرف بالله من نفسه، ثم من رسله. قال الأولون: ما نراكم أنصفتم في اختيار قول من قال: إن المكان أمرٌ عدمي، ولا تدبر (1) المجوِّز أن المكان موجود واجب الوجود (2) والربّ محتاج في وجوده إليه ما يَرِد عليه من اللوازم الشنيعة، ولا أنصفتم في قولكم: إن وجوب الشيء المفروض الإشارة إليه لا يستلزم تعدد الواجب. _________ (1) كذا في الأصل. والظاهر أنها معطوفة على قوله: "ما نراكم أنصفتم". (2) الأصل: "الجود"، سبق قلم.
(5 جـ/103)
ولكننا ندع هذا، ونتمم الجواب عن بقية الأوجه التي ذكرتم. أما الوجه الرابع (1) فقد اختلف أصحابنا على أقوال: الأول: أن العامي يكفيه التقليد بأن الله عز وجل ليس في مكان. الثاني: أنه يكفيه أن يبقى خالي الذهن في هذه المسألة. الثالث: بل ولا يضره التردد فيها، مع نفي اللوازم الموجبة للكفر. الرابع: بل ولا يضره اعتقاد المكان، مع نفي اللوازم أيضًا. الخامس: بل ولا يضره أن يعتقد الجسمية على أنه جسم لا كالأجسام، بل قال بعض المحققين (2): ينبغي إقرار العوامِّ على ذلك؛ لئلا يتشككوا في وجود الرب عز وجل، بل قيل: يحرم التعرض لهم، بل قيل: إن التعرض لهم كفر. وأما الوجه الخامس فإن أصحابنا يفرقون بين الخاصة والعامة، فيقولون: أما الخاصة فقد دعاهم الرسل إلى التدبر والنظر، وبينوا أن الله هو الحق وما سواه باطل، وأنه الأول والآخر، وأنه خالق كل شيء، وأنه ليس كمثله شيء، وأنه لم يكن له كفؤًا أحد، وأنه القدوس، وهو المنزَّه عن كل نقص، إلى غير ذلك، وهذه إذا (3) تدبرها الخاصة وأعطوها حقها لم يخْفَ عليهم الحق. وأما العامة فاختلفوا فيهم على الأقوال المتقدمة. _________ (1) تقدم الجواب على الثلاثة الأوجه الأولى (ص 94 - 96). (2) لعله الغزالي، قارن بكتابه "الاقتصاد في الاعتقاد" (ص 8)، و"إلجام العوام عن علم الكلام": (4/ 82 - 83 ضمن رسائل الغزالي). (3) الأصل: "وهذا إذ".
(5 جـ/104)
فالقائل إنه يكفيهم التقليد يقول: إن الشارع أمرهم بتقليد الخاصة، واكتفى منهم بذلك، وقس عليه. وقولكم: "بل الأمر بعكس ذلك" تشيرون به إلى ما جاء في الكتاب والسنة مما يوهم الجهة. والجواب: أنها محمولة على المجاز، وقد بيَّن أصحابنا ذلك في كتبهم، فأما الخاصة فإن ذلك لا يشتبه عليهم؛ لما لديهم من القرائن العقلية والنقلية، كما تقدم. وأما العامة فعلى ما تقدم، فلنبنِ (1) على القول الرابع أو الخامس، فيسقط اعتراضكم ألبتة. قال السعد التفتازاني في "شرح المقاصد" (2): ["فإن قيل: إذا كان الدين الحق نفي الحيِّز والجهة، فما بال الكتب السماوية والأحاديث النبوية مُشعرة في مواضع لا تُحصى بثبوت ذلك، من غير أن يقع في موضع منها تصريحٌ بنفي ذلك؟ ... أجيب: بأنه لما كان التنزيه عن الجهة مما تقصر عنه عقول العامة حتى تكاد تجزم بنفي ما ليس في الجهة، كان الأنسب في خطاباتهم، والأقرب إلى اصطلاحهم، والأليق بدعوتهم إلى الحق ما يكون ظاهرًا في التشبيه وكونِ الصانع في أشرف الجهات، مع تنبيهات دقيقة على التنزيه المطلق عما هو من سمات الحدوث ... "]. قال الآخرون: أما القول بكفاية التقليد فقد فتشنا فوجدنا عامة المسلمين _________ (1) غير محررة في الأصل. (2) ترك المؤلف لقول السعد خمسة أسطر، فلعله ما أكملناه من "شرح المقاصد": (4/ 50 - 51).
(5 جـ/105)
يعتقدون أن الله فوق عرشه بذاته، إلا عددًا قليلًا جدًّا منهم، فإنهم يُظْهِرون القول بقولكم، فإذا فُتِّشوا وُجِدوا مع العامة، أو متشكِّكين، كما تقدم. [ص 55] فعامة المسلمين إلا أقل قليل يكونون عند من يقول القول الأول كفارًا أو فساقًا، ويلزمهم عنده الخوض في المعقولات حتى يصدِّقوا بأن الله عز وجل ليس في مكان، وتكليفهم الخوض في المعقولات باطلٌ إجماعًا. وأما القول الثاني فهو أشد بطلانًا، فإنَّ في فِطَر الناس اعتقادَ أن ربهم في جهة العلو، وقد أكد الشرع ذلك في نفوسهم بشرع رفع الأيدي وغيره. فأما من كان يفهم العربية في الجملة فشأنه أوضح، فليس في الخارج من هو خالي الذهن في هذه المسألة، بل الجمهور على اعتقاد جهة العلو، وقليل جدًّا أكثرهم مُتحيِّرون، وأقلهم مقلدون لكم تقليدًا غير جازم، ولم يبق إلا أفراد يجزمون بقولكم بألسنتهم، والله أعلم بقلوبهم. وأما القول الثالث فقد تقدم أن المترددين قليل جدًّا، وهم مع ترددهم في الجهة مترددون في اللوازم التي تعدونها كفرًا، ويمكننا أن نقول: إن ترددهم في الجهة قد يستلزم ترددهم في اعتقاد وجود الرب عز وجل. وأما القول الرابع فقد حاول صاحبه السلامة، لكن اشتراطه نفي اللوازم إن كان يعد منها ما تعبرون عنه بقولكم: "جسم لا كالأجسام" فلم يصنع شيئًا. وأما القول الخامس فقد قارب صاحبه السلامة، وسيظهر حاله في الكلام على الوجه الخامس. [ص 56] قالوا: أما جوابكم عن الوجه الخامس فإننا نستعرض ما ذكرتموه من الأدلة الشرعية هذه.
(5 جـ/106)
فقولكم: إن الرسل دعوا الناس إلى التدبر والنظر، فنسألكم: هل على الرسول أن يربي أصحابه على تفصيل ذلك، ثم على أصحابه أن يربوا تابعيهم على ذلك، ثم على تابعيهم في حق من بعدهم؟ فإن قلتم: لا، أبطلتم. وإن قلتم: نعم، قلنا: فهذه السنة [ص 56] وأخبار السلف بين أظهركم، فانظروا هل تجدون في شيء منها نظرًا مثل نظركم، أو تعمقًا مثل تعمقكم، أو تجدون فيها التصريح بما تزعمون. وأما بيانهم أن الله هو الحق وما سواه باطل، وأنه الأول والآخر، وأنه خالق كل شيء، فهذا كله حق، ولكننا نسألكم: هل فسروه كما تفسرون؟ وهل نبهوا الناس على ما تزعمون من الدقائق التي تزعمون أنه لا تتم تلك الحقائق بدونها، بل لا تتحقق إلا بها؟ وأما بيانهم أن الربّ عز وجل ليس كمثله شيء فحق، ولكننا نسألكم: هل وكَلَ الرسولُ إلى العرب أن تفهم تلك الجملة كما تفهم كلامها؟ فإن قلتم: نعم. [ص 57] (1) قلنا: فماذا تفهم العرب بمقتضى لغتها من قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]؟ (2). قالوا: اذكروا ما عندكم في ذلك. _________ (1) ضرب المؤلف على بقية (ص 56 - 57 أ) عدا السطر الأول من (ص 57 أ). (2) انظر كلام المصنف على هذه الآية ومعناها في "التنكيل ــ القائد": (2/ 424 فما بعدها).
(5 جـ/107)
قلنا: قال ابن بري: "الفرق بين المُمَاثلة والمُساواة: أن المساواة تكون بين المختلِفَين في الجنس والمتفِقَين؛ لأن التساوي هو التكافؤ في المقدار لا يزيد ولا ينقص، وأما المماثلة فلا تكون إلا في المتفِقَين، تقول: نحْوُه كنَحْوِه، وفقهُه كفقْهِه، ولونُه كلونه، وطعمُه كطعمه، فإذا قيل: هو مثله على الإطلاق، فمعناه أنه يسدّ مسدَّه، وإذا قيل: هو مثله في كذا، فهو مساوٍ له في جهةٍ دون جهة". "شرح القاموس" (1). وقال الراغب (2): "هو أعمّ الألفاظ الموضوعة للمشابهة، وذلك أن النِّدّ يقال فيما يشارك في الجوهر فقط، والشِّبْه [يقال] فيما يشارك في الكيفية فقط، والمُسَاوي يقال فيما يشارك في الكمية فقط، والشَّكل يقال فيما يشارك في القَدْر والمساحة فقط، والمِثْل عامّ في جميع ذلك". ويأتي باقي كلامه. [ص 58] وهنا مباحث: الأول: المماثلة بين الشيئين تأتي على ثلاثة أضرب: الأول: المماثلة في أمر خاص واحد أو أكثر مدلولٍ على خصوصه باللفظ أو بقرينة حالية. الضرب الثاني: المماثلة في أمر خاص واحد أو أكثر يخصِّصها العرف، كقولك: زيد مثل الأسد، فيدل العرف أن المقصود في الجرأة، وتقول: عندي مطرف مثل مطرفك، فيعلم بالعرف أن المقصود المماثلة في الصفات المحسوسة الحاضرة، وأنه لا ينافي ذلك أن يكون أحدهما ملكك والآخر _________ (1) (15/ 680). وانظر "اللسان": (11/ 610). (2) في "المفردات" (ص 759).
(5 جـ/108)
ملك غيرك، وأن أحدهما نُسِج قبل الآخر، أو اشتُرِيَ بثمن أكثر من الآخر، أو لُبِس أكثر مما لُبِس الآخر، أو أن هذا نَسَجه مسلم، وذاك نسجه كافر، إلى غير ذلك من الصفات. الضرب الثالث: المماثلة من كل وجه، وهذا إن أُخِذَ على إطلاقه مستحيل؛ لأن من جملة الوجوه أن يكون هذا في ذاك المكان الخاص، ولا يمكن أن يكون الآخر مثله في ذلك؛ لأن معنى المماثلة في ذلك أن يكون الثاني في ذلك المكان الخاص الذي للأول. ومنها: أن لهذا هذه العينية الخاصة، ولا يمكن أن يكون الآخر مثله في ذلك؛ لأن معنى المماثلة في هذا أن يكون للثاني نفس العينية التي للأول. وإن قيل: من كل وجه تمكن فيه المماثلة، اندفعت الاستحالة العقلية، ولكن قد يقال: بقيت الاستحالة العادية من جهة أن الأوصاف في الوجود كثيرة، والاختلاف فيها كثير، والموجود إنما هو التماثل في بعضها دون بعض، فأما التماثل بين شيئين فيها جميعًا فلا يكون عادة، والأقرب أنه ممكن، ولكنه قليل. المبحث الثاني: المماثلة في الوصف أو الأوصاف على أربعة أوجه: الأول: التماثل في صحة اتصاف كلا الشيئين بذلك الوصف أو الأوصاف، كأن يقال: البرغوث مثل الفيل في الجسمية، على معنى أنه كما أن الفيل متصف بأنه ذو جسم، فكذلك البرغوث متصف بأنه ذو جسم. وكذلك أن يقال: بكر مثل زيد في العالِمِية، تريد أن بكرًا ثابت له هذا الوصف ــ أي: أنه عالم ــ كما هو ثابت لزيد.
(5 جـ/109)
ولا يخفى أن المماثلة على هذا الوجه لا تستلزم المماثلة في قدر الوصف وصفاته، ولا في الصفات الأخرى للممثّل به، فلا يلزم أن يكون علم بكر مثل علم زيد في القدر وغيره من الصفات، ولا أن بكرًا مثل زيد في وصف آخر. الوجه الثاني: المماثلة في الوصف بالنظر إلى مقداره مماثلة عرفية على سبيل المبالغة، كأن يقال: فلان مثل النخلة، أي: في مقدار الطول، أو: مثل الفيل، أي: في مقدار الجسم، وهذه لا يلزم منها المقاربة في المقدار، فضلًا عن المساواة الحقيقية فيه، فضلًا عما عدا ذلك من صفات الطول والجسم، أو من صفات النخلة والفيل، وإنما حاصلها أن فلانًا طويل جدًّا، أو ضخم جدًّا. الوجه الثالث: مثل الذي قبله، إلا أنه على غير المبالغة، بل على غض النظر عن التفاوت اليسير عرفًا، كأن يقال: بكر مثل زيد في العلم، وأَعْرفُ رجلًا مثل زيد، أي: في الشكل والصورة، وهذه مماثلة عرفية، هي في التحقيق مقاربة فقط. [ص 59] الوجه الرابع: تماثل الشيئين في الوصف أو في مقداره مماثلة حقيقية، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "الذهبُ بالذهبِ مِثْلًا بمثل" (1) أي: في الزِّنَة. فإن قيل: إن المماثلة الحقيقية قد يتعذَّر العلم بها، إذ قد يحتمل أن يكون في أحدهما زيادة مثقال ذرة ــ مثلًا ــ لا يظهر لها أثر في الميزان. _________ (1) أخرجه البخاري رقم (2176)، ومسلم رقم (1584) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(5 جـ/110)
والجواب: أن هذا معفوٌّ عنه؛ إذ لا يمكن الاحتراز عنه، فالمراد المماثلة الحقيقية فيما يظهر للناس في وزنهم. المبحث الثالث: فيما بين هذه الأوجه من التلازم والتنافي: إطلاق المماثلة بالوجه الأول لا يستلزم صحة إطلاقها على بقية الأوجه. فقولنا: "البرغوث مثل الفيل في الجسمية" لا يستلزم أن يصح أنه مثله في مقدار الجسم، لا مبالغة، ولا مسامحة، ولا حقيقة. وإطلاقها بوجهٍ من الثلاثة الأخرى يستلزم صحة إطلاقها بالوجه الأول. وإطلاقها بالوجه الثاني ينافي إطلاقها بأحد الوجهين اللذين بعده؛ لأن مبناه على المبالغة، ولا بد فيها من تحقّق تفاوتٍ له قَدْر. وإطلاقها بالوجه الثالث ينافي إطلاقها بالوجه الذي بعده إذا تحقق التفاوت، وكذا بالوجه الذي قبله؛ لأن مبناه على المبالغة. وإطلاقها بالوجه الرابع لا ينافي إطلاقها بالثالث؛ إذ لا يشترط فيه تحقق التفاوت، ولا ينافي إطلاقه بالثاني؛ لأن مبناه على المبالغة. المبحث الرابع: في نفي المماثلة نفي المماثلة في وصفٍ لا يستلزم نفيها في غيره، ونفيها في وصفٍ بالنظر إلى مقداره لا يستلزم نفيها في مطلق الاتصاف به، ونفي المماثلة الحقيقية لا يستلزم نفي المماثلة العُرْفية. وقِس على ذلك. ونفيها في وصفين قد يُعنى به نفيها في كل منهما، وقد يُعنى به نفيها في
(5 جـ/111)
الجمع بينهما، وقد يُعنى به فيهما مجتمِعَين. فإذا قيل: ليس بكر مثل زيد في العلم والعمل، فقد يُعنى به ليس مثله في العلم ولا في العمل، وقد يُعْنَى به أنه ليس مثله في الجمع بينهما، فإن زيدًا عالم عامل، وليس لبكرٍ إلا أحدهما، وقد يُعنى به أنه ليس مثله فيهما مُجْتمِعَين، بل إما أن لا يكون مثله في هذا، أو لا يكون مثله في هذا كما تقول: لا مثل لزيد في العلم والعمل، تريد أنه يوجد من يماثله في (1) العلم، ولكن لا يماثله في العمل، ويوجد من يماثله في العمل، لكن لا يماثله في العلم. وإذا قيل: ليس له مثل في وصفٍ ما، كان المعنى أن كل وصف يتصف به فلا يماثله فيه غيره. [ص 60] وفي بعض ما قاله نظر، وتعبيره بالمشاركة قد يوهم أنه يكفي في المماثلة مطلق المشاركة، وليس كذلك، كما يُعْلَم بتدبر كلامه، مع ما تقدم عن ابن بَرّي وهو أعرف باللغة. وفي "الأساس" (2) للزمخشري: "مُثِلَ الشيءُ بالشيء: سُوِّي به وقُدِّر تقديرَه". ومثله في كلامهم كثير. وفي "روح المعاني" (7/ 510) (3): "نُسِبَ إلى الأشعري أنه يشترط في التماثل التساوي من كل وجه. واعْتُرِض بأنه لا تعدّد حينئذٍ فلا تماثل، وبأن أهل اللغة مطبقون على صحة قولنا: زيد مثل عَمرو في الفقه إذا كان _________ (1) تكررت في الأصل. (2) (ص 420). (3) جعل المؤلف الرقم في آخر النقل فقدمناه. وهو في الطبعة المنيرية: (25/ 19).
(5 جـ/112)
يساويه فيه ويسدُّ مسدَّه، وإن اختلف في كثير من الأوصاف، وفي الحديث: "الحنطة بالحنطة مِثْلًا بمثل"، وأُريدَ به الاستواء في الكيل دون الوزن وعدد الحبات وأوصافها. ويمكن الجواب بأن مراده التساوي في الوجه الذي به التماثل". والذي يتحرر أن المماثلة بين الشيئين على ضربين: تامة وخاصة. فالتامة هي تساويهما في كل ما يمكن التساوي فيه مع التغاير، والخاصة هي التساوي في أمر خاص، كالفقه والكيل في المثالين السابقين. والخاصة تأتي في الكلام على وجهين: الأول: وهو الشائع الذائع كالمثالين السابقين. والثاني: كأن يقال: هذا الطفل مثل ذلك الإمام في أنه يعلم، يعني: أن كلًّا منهما يوصف بأنه يعلم مع صرف النظر عن مقدار العلم، ويقال: الذرة مثل الفيل في الجسمية، أي: أن كلًّا منهما له جسم، والبعوضة مثل جبريل في أن لكلٍّ منهما أجنحة. إذا تقرر هذا فلا نزاع بين العقلاء أنه ليس لله تبارك وتعالى مِثْل مماثلة تامة، ولا خاصة بالوجه الأول، وأما بالوجه الثاني فإن الله تبارك وتعالى موصوف بأنه موجود، قائم بذاته، حي قدير مريد، عالم (1) حكيم، سميع بصير، إلى غير ذلك، ويوصَف الإنسان وغيره بهذه الأوصاف أو بعضها. ويمكن أن يؤتَى بعبارة تفيد تمثيلًا خاصًّا بالوجه الثاني، ولكن لم يأت في الشرع إذنٌ بذلك، ولا استعمله العلماء فيما أعلم. _________ (1) كذا، ولعله يريد "عليم" كما سبق مرارًا.
(5 جـ/113)
ومن الموانع عن ذلك أن العبارة قد توهم المماثلة التامة أو الخاصة بالوجه الأول، ويكون فيها سوء أدب، ألا ترى أن المصحف يُرَى، وأن القاذورات تُرى، ويمتنع أن تصاغ عبارة للتمثيل في ذلك، كأن يقال ــ وأستغفر الله ــ: كذا مثل المصحف في أن كلًّا منهما يُرى. لكن المنع من التعبير لا يقتضي صحة نفي تلك المماثلة الخاصة بالوجه الثاني؛ لأنها في نفسها ثابتة، وإنما مُنِع التعبير لما تقدم، فتدبر. وقد يقال: إن استعمال كلمة "مثل" في هذا الوجه الثاني توسّع، وإنما حق الكلمة أن تستعمل (1) فيما قبله، وقد يستشهد لهذا بأنك إذا قلت: ههنا أشياء كثيرة مثل الفيل من بعض الوجوه، ثم تركت سامعيك يتفكرون، ثم قلت لهم: منها الماء؛ لأن الفيل موجود قائم بذاته مرئي ينتفع به الناس، والماء مثله في كل أمر من هذه الأمور، إذًا لوجدتهم ينكرون أن يكون هذا هو المعنى الظاهر من سؤالك. [ص 61] إذا تقرر هذا فقول الله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] يمكن أن يقال في تفسيرها أقوال: الأول: أن المراد المُماثلة التامة، وهي أنه ليس شيء يساويه في جميع الأمور التي قد تُتَوهَّم المساواة فيها مع التغاير. وعلى هذا القول لا يكون في الآية إبطالٌ لوجود مماثلٍ مماثلةً خاصة، أي: من بعض الوجوه؛ لأن نفي المماثلة تامةً يصْدُق بانتفاء المماثلة في بعض الأمور؛ لأنها إذا انتفت المماثلة في بعض الأمور فقد انتفت المماثلة _________ (1) الأصل: "يستعمل" بالياء.
(5 جـ/114)
التامة، وصح نفيها. قال الله تبارك وتعالى: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 7 - 8]. القول الثاني: أن المراد المماثلة في أمور مخصوصة. وأولى ما يقال في تعيين هذه الأمور: إنها هي المذكورة قبل. قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 9 - 11]. والذي يتلخص من ذلك ــ بدون تعسُّف ــ سبعة أوصاف: الأول: الولاية، أي: العناية بمن يتولاه، ويمكن أن يعبَّر عنها بالقدرة المطلقة على النفع والضُّر. الثاني: إحياء الموتى، أي: بمحض قدرته. الثالث: القدرة على كل شيء. الرابع: الحكم، أي: الاستحقاق المطلق للحكم بين الخلق. الخامس: فَطْر السموات والأرض. السادس: جَعْله من أنفس الناس والأنعام أزواجًا. السابع: ذَرْؤهم فيه، أي: تدبير النطفة حتى تكون حيًّا سويًّا. بدأ سبحانه فبين اختصاصه بكل وصف من هذه الأوصاف، ثم أكدَّ ذلك
(5 جـ/115)
بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أي: في شيء من ذلك. واختصاصه سبحانه بهذه وبأوصاف أخرى ذُكِرت قبلها وبعدها يستلزم اختصاصه بأوصافٍ أُخَر، وأنه لا مثل له فيها أيضًا. ومنها: استحقاق أن يعبد، وهو الألوهية، وهو المقصود من تلك الآيات، كما يُعْلَم من سياقها. وما لم تستلزم الاختصاصَ به من الأمور، وأنه لا مِثْل له فيه= لا يلزم عدم الاختصاص به، ولا وجود المِثل فيه، فيحتاج النظر فيه إلى دليل آخر. ودعوى اللزوم في شيء يحتاج إلى بيان أن العرب الذين هم أول من خُوطب وبلسانهم نزل الكتاب كانوا يعرفون وجه اللزوم، وسنوضح هذا في موضع آخر، إن شاء الله تعالى. وقد يقال: المعنى: ليس كمثله شيء في أمرٍ ما تُستَحَقّ به العبادة، فيعمّ ما تقدم وغيره، أو يقال: ليس كمثله شيء في صفةٍ من صفات الكمال، فيشمل ما تقدم وغيره. ومعروف في الكلام أنه إذا أتي بعبارة فيها نفي المماثلة مطلقًا، وكان المقام مقام المدح فُهِم [ص 62] أن المراد المماثلة في الصفات التي يُمْدَح بها. وعلى هذا فقد عُرِف أن صفاته تبارك وتعالى كلها صفات كمال، فيرجع المعنى إلى أنه لا شيء يماثله في صفة من صفاته، وتكون المماثلة هي الخاصة على الوجه الأول (1). _________ (1) إلى هنا انتهى الموجود من هذا الكتاب.
(5 جـ/116)
(1) [فلا يخلو أن تكون دائرة تمكينه في أمور خاصة ليس منها التصرف في أحوال البشر بالنفع والضر، أو يكون بحيث تشمل ذلك. الأول لا شأن للبشر به، وأما الثاني فقد علمنا أن الله تبارك وتعالى لما مكَّن البشر من أن ينفع بعضهم بعضًا أو يضر جعل كلًّا منهم بحيث يرى غيره ويعرفه، وجعل لكل منهم سمعًا وبصرًا وعقلًا وقدرةً، وغير ذلك، فسهَّل لكل منهم السبيل إلى اجتلاب النفع من صاحبه ودفع ضره، وذلك المفروض أن الله تعالى مكنه في (2) التصرف فيهم لو كان حقًّا لجعل الله تعالى للناس سبيلًا إلى العلم به واستجلاب النفع منه ودفع ضره. فإن قيل: فقد يصل إلى الإنسان نفع من صاحبه بدون سعي منه، ويصله ضرر منه لم يكن يمكنه اتقاؤه. قلت: ما كان كذلك فهو مما قضاه الرب عز وجل حتمًا، فإن كان تصرف ذلك المفروض وجوده قاصرًا على مثل هذا فلا شأن للبشر به؛ لأن ما قضاه الله عز وجل حتمًا، بحيث لا يتوقف على سعي من الإنسان ولا تقصير فهو واقع حتمًا، فلا شأن لهم بالطريق التي يصل منها. فإن قيل: دع هذا، بل نقول: إن الله عز وجل جعل للناس وسيلةً إلى العلم بذلك المفروض وجوده، وهو أن كثيرًا من الأمم قالت بوجوده، _________ (1) هذا النص كتبه المؤلف (ص 41 ب- 42 ب) ثم كتب فوقه: "هذا مع الورقة الآتية يؤخّر إلى بحث توحيد الألوهية إن شاء الله تعالى". لكن المؤلف لم يكتب هذا المبحث فأثبته هنا في آخر الكتاب. والله المستعان. (2) كذا، ولعلها: "من".
(5 جـ/117)
[وجعل لهم وسيلة إلى اجتلاب النفع منه ودفع الضر، وذلك بأن يعظِّموه ويتضرَّعوا إليه]. [*] قلت: الأمم التي قالت بوجوده ليس عندها أكثر من التخرُّص، فالعاقل إذا فكر وتدبر علم أنه إن فرض وجوده ثم أخذ يعظِّمه ويتضرع إليه كان بذلك قد سواه برب العزة في رجاء النفع الغيبي والتعظيم والتضرع لأجله، فهو في ذلك على خطر غضب الله عز وجل عليه؛ إذ سوَّى به غيره، بل سوى به ما لم يثبت وجوده. وإن أعرض عنه واقتصر على تعظيم الله عز وجل والتضرع إليه فإنه سبحانه لا يضيّعه؛ لعلمه أنه إنما حمله على ذلك الخوف من أن يقول على الله بلا علم، أو أن يسوِّي به غيره لمجرد تخرُّص. والعاقل يرى أن هذا الثاني هو المتعين، فإن فرض وجود ذلك المفروض فإن الله عز وجل يغنيه عن نفعه ولا يمكِّنه من ضره. ووجه آخر: وهو أن الأمم المشار إليها تقول بوجود عدد كثير بالصفة المذكورة، وأن الإنسان إذا عظَّم بعضَهم وتضرَّع إليه غضب عليه غيرةً منهم وأراد به الضر، وأن الإنسان قد يتضرع إلى فردٍ منهم ويعظمه، ويتضرّع عدوّه إلى فرد آخر ويعظمه، فيريد صاحب عدوه به الضر، وأنه إن تضرع إلى اثنين وعظَّمهما غضب عليه الذي يرى نفسه أنه أعظمهما، قائلًا: كيف سوَّى بيني وبين من هو دوني؟! فيريد به الضر، وأولى من ذلك إذا قال: أنا أتضرَّع إليهم كلهم، وأعظّمهم كلهم]. __________ [*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس بالمطبوع، وهو ثابت في الأصل الوارد من «عطاءات العلم» جزاهم الله خيرا.
(5 جـ/118)