×
كتاب للعلامة المعلمي اليماني؛ حقق فيه الكلام على المسائل الثلاث: الاجتهاد والتقليد، السنة والبدعة، العقيدة.

 تحقيق الكلام في المسائل الثلاث: الاجتهاد والتقليد، السنة والبدعة، العقيدة

(الاجتهاد والتقليد، السنة والبدعة، العقيدة) تأليف عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني (1386) تحقيق علي بن محمد العمران و محمد عزير شمس

(مقدمة 4/1)


 مقدمة التحقيق

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فبين أيدينا الآن كتاب من أعظم كتب الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله تعالى، حقّق فيه الكلام على مسائل كبرى تتعلق بالعقيدة، والسنة والبدعة، والاجتهاد والتقليد، فدقّق وحقّق، وناقش واستدلّ وتعمّق، وأطال وتوسّع وأغْدَق، وناقش المخالفين وأنصفهم وتحقّق. والعجب أنه ألّف هذا السِّفر النفيس في مقتبل شبابه، وعلى حين غُربة عن وطنه، وبُعدٍ عن كتبه، وعلى جناح سفر! وقد دلّت تلك المعطيات جميعًا على براعة المؤلف المبكّرة، وامتلاكه لناصية علوم الاجتهاد في تلك السن، ودلت أيضًا على صفاء مشربه، ووضوح طريقته، وانتهاجه نهج السلف الصالحين والعلماء المحققين؛ في قضايا الاعتقاد، ومسالك السنة والبدعة، ومسائل الاجتهاد والتقليد. وهذه المسائل الثلاث هي المسائل الرئيسة التي ناقشها في الكتاب على ما سيأتي مفصلًا. وقد كان إخراج الكتاب بهذه الصورة عملًا مضنيًا شاقًّا نحتسب أجره وتعبه، وذلك لأمور اكتنفت نسخَه ومخطوطاتِه كما سيأتي شرحه، فالحمد لله على ما يسّر ووفق وأعان. وقد كان العمل في تحقيقه من أوله إلى ص 171 من نصيب محمد عُزير شمس، ومن ص 172 إلى 454 من نصيب علي بن محمد العمران.

(مقدمة 4/5)


بالإضافة إلى ملاحق خمسة متعلقة بالكتاب اشتركنا فيها. ولنتحدّث عن الكتاب بما يكشف عن مضمونه ويعرّف به في النقاط الآتية: - موضوع الكتاب. - اسم الكتاب. - تاريخ تأليفه. - سبب تأليفه. - عرض مفصّل لموضوعات الكتاب. - العثور عليه ومعاناة ترتيبه والعمل عليه. - وصف النسخة الخطية. - طريقة العمل في الكتاب. - ترجمة الشيخ أحمد السوركتي. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين. المحققان علي بن محمد العمران ومحمد عزير شمس في 20 من رمضان 1433 هـ

(مقدمة 4/6)


- موضوع الكتاب

الكتاب عبارة عن جواب لسؤال سائل عن كتاب (المسائل الثلاث) للشيخ أحمد بن محمد السوركتي، فإن السوركتي ألف رسالة بهذا العنوان ناقش فيها ثلاث قضايا هي: بعض قضايا الاعتقاد، وبعض الأمور البدعية، ومسائل الاجتهاد والتقليد. وكان تأليف السوركتي لهذه الرسالة إبّان اشتداد الخلاف بينه وبين بعض السادة العلويين في إندونيسيا حول قضايا في العقيدة والاجتهاد والتقليد والسنة والبدعة (1)، فيبدو أن قدوم المؤلف إلى هذا البلد كان في وقت اشتداد الخلاف في هذه القضايا وغيرها بين الفريقين. فطلب هذا السائل من المؤلف ثلاثة أمور: أن يبدي رأيه في هذه الرسالة إجمالًا، ثم في مؤلفها، ثم يتكلم على مسائلها تفصيلًا. فلبّى الشيخ الأمرين الأولين واعتذر عن الأخير، فألحّ عليه السائل، فاستعان بالله وكتب هذا الكتاب. وسيأتي تفصيل مباحثه في عرض موضوعات الكتاب. - اسم الكتاب لم نقف على تسمية للكتاب في أي من الأوراق التي عثرنا عليها مما هو متعلق بهذا الكتاب، ولا في أوراق المؤلف الأخرى التي وقفنا عليها، _________ (1) انظر طرفًا منه في كتاب «حضرموت وعدن وإمارات الجنوب الغربي» للبكري، و «تاريخ حركة الإصلاح والإرشاد وشيخ الإرشاديين أحمد محمد السوركتي في إندونيسيا» لأحمد أبو شوك.

(مقدمة 4/7)


وحيث كان موضوع الكتاب كما أسلفنا هو الكلام على رسالة الشيخ أحمد السوركتي (المسائل الثلاث) استوحينا اسمًا من هذه المناسبة، فرأينا أن نطلق عليه اسم «تحقيق الكلام في المسائل الثلاث» كعنوان رئيس، وذكرنا تحته بخط أصغر الموضوعَ الرئيسَ لهذه المسائل إجمالًا؛ فقولنا: (تحقيق الكلام) مناسبته أن المؤلف نحا في كتابه نحو التحقيق والاجتهاد في كل المباحث التي عرض لها، فناسب أن نقول (تحقيق الكلام)، وقولنا: (المسائل الثلاث) لأنه عنوان رسالة السوركتي، ويصلح أيضًا أن ينطلق على المسائل التي حقّقها المؤلفُ هنا وأدارَ الكلام في الكتاب عليها. - تاريخ تأليفه أسلفنا أن هذا الكتاب ألفه الشيخ في مقتبل شبابه، فقد ألَّفه سنة 1344 هـ في إندونيسيا وهو في الثانية والثلاثين من عمره. يدلّ على ذلك أمران: 1 - ما ذكره المؤلف في المجموع رقم 4657 (ص 22) فقال: «مما يحتاج إلحاقه في رسالة الاجتهاد والتقليد: الأم جزء 1 ص 132». وتحته فائدة قُيّدت في يوم الخميس جمادى الثانية 44. أي سنة 1344 هـ. 2 - أن الشيخ السوركتي من سكان إندونيسيا ــ كما سيأتي في ترجمته ــ، وطبعت رسالته هناك، وصار بسببها لغط ونقاشات من بعض المتصوفة والمخالفين للسنة، فقُدّمت هذه الرسالة للشيخ المعلمي أثناء مقامه هناك إبان قدومه من اليمن. وهل رجع المؤلف إلى كتابه بعد هذا التاريخ للإضافة والتنقيح؟ الجواب: أن المعروف من طريقة المؤلف أنه يعتبر كتبَه، وينقّحها

(مقدمة 4/8)


ويضيف إليها، بل يكتب نسخًا عدةً بغرض الوصول لنسخة منقحة، وما عثرنا عليه من أوراق الكتاب تدلّ أنه كتبه مرة واحدة، لكنه كان يكتب بعض المباحث مرتين، وربما أضاف بعض الفوائد أو المراجع التي لم يكن وقف عليها وقت تأليفه للكتاب كإحالته على «فتح الباري» لابن حجر، فإنا نرجّح أنه لم يكن بين يديه وقت تأليف الكتاب؛ لأنه ينقل عنه بواسطة ثم وقف عليه بعد ذلك وألحق الإحالة. - سبب تأليفه ذكر المؤلف في صدر كتابه أن مناسبة تأليف الكتاب: أن بعض الإخوان أطْلَعه على كتاب بعنوان «المسائل الثلاث» للشيخ أحمد بن محمد سوركتي، وطلب من الشيخ ثلاثة أمور: 1 - أن ينظر فيه ويقدِّر حيثية مؤلفه؛ لأن كثيرًا من المخالفين له آنذاك كانوا يجهِّلونه ويبدِّعونه. فطالعه الشيخ ووصف مؤلفه بأنه على مكانة من العلم والدين والفهم الصحيح في الكتاب والسنة، لا يُنكِر هذا إلا مَن كان ناظرًا من وراء حجاب الهوى والتقليد. 2 - وطلب منه السائل أن يبيِّن ما يجب التنبيه عليه في الكتاب المذكور، فذكر ملاحظةً حول رأي المؤلف في علة النهي عن الجلوس على القبور، وعقَّب عليه بما رآه راجحًا في ضوء الأحاديث. 3 - وطلب منه السائل أيضًا الكلام على تلك المسائل الثلاث، فاعتذر منه، ولمَّا لم يعذره شرع في كتابة ما تيسر مستعينًا بالله ومرجئًا البسط إلى وقت آخر.

(مقدمة 4/9)


- عرض مفصّل لموضوعات الكتاب حقق الشيخ في هذا الكتاب الكلام على المسائل الثلاث: (الاجتهاد والتقليد، والسنة والبدعة، ومباحث من العقيدة).

  * المسألة الأولى: في الاجتهاد والتقليد

بعد الخطبة وبيان مناسبة التأليف قدم له بمقدمة في بيان التكليف وما يتصل به، وذكر في أثنائها أن بقاء التكليف لما كان متوقفًا على بقاء الكتاب والسنة واللسان الذي وردا به، تكفَّل الله سبحانه وتعالى بذلك. بيَّن المؤلف طريقة حفظ القرآن والسنة واللغة، وأن بحفظها حصل حفظُ الدين، وقامت الحجة على العالمين. ثم عقد فصلًا لبيان الدليل القطعي والظني، وأن الأحكام أيضًا على قسمين: قطعي وظني، وأحال للتفصيل إلى أصول الفقه، ثم عقد فصلًا لبيان حقيقة الظنّ، وحكم العمل بالدليل الظنّي، وما هو الظنّ الذي ذمّه الله سبحانه في القرآن الكريم، وأجاب عنه بجوابين: إجمالي وتفصيلي، بحيث تناول كل آية، وبيَّن معناها، وذكر الأدلة الموجبة للعمل بالظن بشرطه، ثم عقد فصلًا لبيان أن الله تعالى خلق بني آدم على الفطرة، وركَّب فيهم العقول، وأمدّهم بآلات توصلهم إلى المطلوب منهم من السمع والأبصار والأفئدة وغير ذلك من الحواس الظاهرة والباطنة. ثم أرسل إلى كل قوم رسولًا بلسانهم، وأرسل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى الخلق كافة وأنزل عليه الكتاب وأمدَّه مع ذلك بالسنة بيانًا للقرآن وإيضاحًا له، واختار له أصحابًا أمناء حفظ الله بهم كتابه وسنة نبيه. ثم فصَّل القول في طريقة تلقي الصحابة الأحكام عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكيف كان عوامُّ القرن الأول يستفتون العلماء ويعملون، وكيف كان

(مقدمة 4/10)


حالهم في زمن التابعين وأتباعهم ومن بعدهم. ثم عقد فصلًا ذكر فيه أنه لما كان معرفة الدليل من الكتاب والسنة متوقفًا على العلم بهما، وجب أحد أمرين: إما أن تكون معرفة ذلك فرض عين على كلِّ مكلَّف، أو تكون فرض كفاية. وعليه فما هو فرضُ القاصر؟ أتقليد أحد المجتهدين أم غيره؟ ومن هنا ينشأ الكلام على المسألة الأولى في هذا الكتاب، وهي الاجتهاد والتقليد. وطريقة المؤلف فيها ذكر حجج الفريقين غالبًا بقوله: «قال المقلدون» و «قال المانعون»، ليطلع القارئ على ما أدلى به الفريقان، فيتيسر له الحكم بينهما. بدأ المؤلف كلامه في الاجتهاد والتقليد بذكر أن تحصيل العلم مراتب: 1 - تحصيل علوم اللسان العربي. 2 - العلم بأصول الفقه. 3 - العلم بالكتاب والسنة. وفرض المجتهد هو الاجتهاد في كل ما يعرض له، وفرض من لم يحصّل المرتبة الثالثة سؤال المجتهد، فيتلو عليه المجتهد الآية أو يروي له الحديث، ويُخبره أنه قد اجتهد فلم يجد ما يعارض ذلك، ويفسّر للعامي أو الأعجمي الآية أو الحديث بلغته. وعقد فصلًا بعنوان «سؤال المجتهد» بيَّن فيه كيف كان العمل في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيما بعد من القرون الثلاثة، ثم بدأ الحوار بين المقلدين

(مقدمة 4/11)


والمانعين، يذكر وجهة نظر كل طائفة وأدلتها، وأشار في أثنائه إلى نهي الأئمة الأربعة عن تقليدهم، وبيَّن أن إفتاءهم للناس على طريقة السلف من إجابة السائل بتلاوة الآية أو رواية الحديث وتفسير ذلك وبيان دلالته. وذكر أجوبة المانعين عن خمسة أسئلة للمقلدين، وهي: (1) أأنتم أعلم أم الأئمة الأربعة، فإن قلتم: هم أعلم، فكيف يسوغ لكم مخالفتُهم؟ (2) أأنتم أعلم أم الأئمة الذين جاءوا بعدهم مقلِّدين لهم؟ فإن قلتم: هم أعلم، فلِمَ لا تقلِّدون كما قلَّدوا؟ (3) ما تعتقدون في المقلِّدين من علماء وغيرِهم وهم جمهور الأمة، أهم على حقّ أم على ضلالة؟ (4) ما تعتقدون في مشايخكم الذين أخذتم عنهم العلم ومشايخهم وهلمَّ جرًّا؟ (5) ما تعتقدون في مؤلفي هذه الكتب التي تأخذون عنها العلم. وبالرد على هذه الأسئلة بتفصيل من قبل المانعِين تنتهي المسألة الأولى المتعلقة بالاجتهاد والتقليد.

  * المسألة الثانية: السنة والبدعة

كتب المؤلف تمهيدًا في نحو عشرين صفحة، ذكر فيه أولًا معنى السنة والبدعة والمحدثة لغةً واصطلاحًا وشرعًا، وقرر أن كل فعل من الأفعال إما أن يكون موافقًا للكتاب والسنة وإما أن يكون مخالفًا. ولا واسطة بينهما. والموافق ما دلَّ على موافقته دليلٌ معتبر منهما، فهو من السنة، والمخالف ما

(مقدمة 4/12)


دلَّ على مخالفته دليلٌ منهما، فإن كان موجودًا من أول الإسلام فهو حرام أو مكروه ولا يُسمَّى بدعة ولا محدثة، وإن لم يكن موجودًا من أول الإسلام بل حدثَ بعد ذلك فهو محدثة بدعة. وليس المراد بقوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} أن يكون كل شيء بنص خاص، وإنما المراد أنه ما من شيء إلّا وحكم الله فيه مبيَّن في كتابه، إن لم يكن بالمطابقة فبالتضمن أو الالتزام أو المفهوم. ثم ذكر المؤلف أمثلة لذلك في المأمورات والمباحات والوسائل. وتكلم على معنى حديث «الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات»، فإن ظاهره إثبات الواسطة. وردّ عليه بأن المشتبهات ما تعارضت فيه دليلا الحل والحرمة، فإنه عند من لم يظهر له الترجيح ــ وهم كثير من الناس ــ مشتبه، فأرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يُعمل فيه ما يقتضي الاحتياط، مع أنه في نفس الأمر إما حلال وإما حرام. فالحديث دليل على عدم الواسطة عند التأمل. ثم إن الأشياء الحادثة بعد عصر النبوة نوعان: الأول: ما كان فيما يتعلق بمصالح الدنيا مما لا يضر بالدين، فهذا جائز لدخوله تحت عمومات الإباحة، فليس بدعة في الشرع ولا محدثة، لموافقته للشرع. الثاني: ما كان فيما يتعلق بالأمور الدينية خاصةً، فهذا على قسمين: وسائل ومقاصد. فأما الوسائل فإنه يجوز العمل بما أُحدِث منها بشرط تعذُّر أو تعسُّر الوفاء بمقصدها الديني بوسيلته التي كان العمل عليها في عهده - صلى الله عليه وسلم -. ومن هذا إجماع الصحابة على جمع القرآن في مصحف واحد. وأما المقاصد فالمحدث منه كلُّه بدعة ضلالة، وليس منه صلاة التراويح كما يظن

(مقدمة 4/13)


بعضهم، فإنها من السنة. وقد أطال الكلام في بيان ذلك. ثم ذكر أن اختراع قواعد اللغة العربية صالح لأن يكون من النوع الأول، فإن الناس محتاجون إلى اللغة في أمور دنياهم، وأن يكون من النوع الثاني، فإن الدين محتاج إلى معرفة اللغة، وعلى هذا فهو من الوسائل. وفي ضوء ما ذكر شرح معنى الحديث المشهور: «من سنَّ في الإسلام سنةً حسنةً فله أجرها ... »، وبيَّن أن المراد بالسنة فيه معناها اللغوي، أي من عَمِل في الإسلام عملًا حسنًا يتبعه فيه الناس، كما يدل عليه سبب الحديث. ثم ذكر أمثلةً من المخالف الموجود من أول الإسلام: شرب الخمر ودعوى الجاهلية والنياحة، وبيَّن أن من المخالف المبتدع غلوُّ بعض الفرق بالخوض في آيات الصفات إلى صريح التشبيه، أو تأويل ما ورد في الكتاب والسنة منها، وردَّ على من يرى ضرورة الخوض في علم الكلام لإبطال شبه المبتدعة، ويجعله من القسم الأول من النوع الثاني مثل جمع القرآن ونحوه. وقرَّر أن جميع البلايا التي فرَّقت أهل الإسلام ومزَّقت شملهم ناشئة عن سببين: أحدهما: الخوض في آيات الصفات وأحاديثها، والرغبة في إدخالها تحت القوانين الفلسفية. والثاني: إحياء ما أماته الدين من العصبيات القومية. وقد حرص الشارع على بقاء دين الإسلام دينًا واحدًا لا اختلاف ولا افتراق فيه، ولما كان الاختلاف في الدين قد يكون في الأصول وقد يكون في الفروع، جاء الشرع بمنع الخوض في الأصول، بل ما كان منها ظاهرًا فأمره واضح، وما كان بخلاف ذلك فالواجب الإيمان به فقط دون الخوض

(مقدمة 4/14)


فيه. وقد أورد المؤلف الآيات والأحاديث والآثار الواردة في ذلك، وذكر أن الأشعري رجع عن الخوض فيه إلى مذهب السلف، وكذا غيره من أكابر المتكلمين. ولكن بعدما تمزَّقت الجامعة الإسلامية سلكت كل فرقة مذهبًا، وحصل الاختلاف الذي ورد النهي عنه، والتنازع والفشل الذي حذَّر الله ورسوله منه. أما الفروع فقد جاء الإسلام فيها بما يمنع الاختلاف، وهو ردُّ ما اختُلف فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله، ولكن البلاء دخل على المسلمين من هذه الجهة أيضًا، بحملهم على تقيُّد كل فرقة منهم بمذهب مخصوص، مع الإعراض عن أدلة الحق ونصوصه من الكتاب والسنة، وآل بهم الأمر إلى العصبية المنهي عنها، فصار كلُّ أحد يتعصب للمذهب الذي ينتمي إليه ويقدح فيما عداه. وهكذا تجزأت العصبية الدينية. وبعد هذا التمهيد الذي قرَّر فيه معنى السنة والبدعة حدد ستة مباحث تتعلق بمسائل من العقيدة والتوحيد تكلم فيها عن حكم هذه المسائل بالدليل والحجة وما يجوز منها وما لا يجوز، وناقش المخالفين وفنَّد أدلتهم وشبهاتهم.

  البحث الأول: البناء على القبور

لم يصلنا من هذا البحث إلا مسوّدته، وهذا ظاهر من خلال سياق المؤلف للأحاديث بأسانيدها ــ على خلاف عادته ــ. وأيضًا نقص المادة العلمية في البحث، فأكثر البحث في سرد الروايات وتلخيصها. وقد تكلم المؤلف على هذه المسألة في مؤلَّف مفرد حافل سماه «عمارة القبور في الإسلام» وهو مطبوع ضمن هذه الموسوعة، فليراجع.

(مقدمة 4/15)


 البحث الثاني: اتخاذ القبور مساجد أو اتخاذ المساجد على القبور

كتب المؤلف صدر هذا البحث عدة مرات رجّحنا أن ما أثبتناه هو أكملها وآخرها. فذكر أولًا حجة من يجيز البناء من القرآن وهو استدلالهم بقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21]، ثم أجاب عن هذا الاستدلال من أوجه عديدة سواء على المنع من التسليم بالاستدلال أو بالتسليم. ثم نظر المؤلف إلى السنة فذكر الأحاديث الواردة في المنع من ذلك، فذكر جملة صالحة منها عن عدد من الصحابة، وأن فيها الكفاية لمن هداه الله. ثم ذكر وجه الدلالة منها على المسألة، ثم ذكر اعتراضًا وأجاب عليه. ثم عنون بقوله «تنبيهات»، فذكر تنبيهين يتعلقان بالاستدلال بالآية، والثالث كلام لابن حجر الهيتمي في عدّ الشافعية البناء على القبور من الكبائر. ثم نقل نصًّا عن يحيى بن حمزة من أئمة الزيدية يجيز فيه بناء القباب والمشاهد على قبور الفضلاء والملوك ... مع الجواب عليه. والنص والجواب ذكرهما العلامة الشوكاني في رسالته «شرح الصدور» كما بينَّا في التعليق. وختم المؤلف البحث بنص لابن القيم من «زاد المعاد» في البناء على القبور وتحريمه ... ثم عنون بـ «تتمّة» ذكر فيها الجمع بين نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن البناء على قبره، وبين إدخال قبره الشريف في المسجد وهل هو من البناء عليه؟

(مقدمة 4/16)


 البحث الثالث: زيارة القبور

ذكر أولًا ما يُحتجّ به في المسألة من القرآن مع نقاش الاستدلال به، ثم ذكر ما يحتج به من السنة على المسألة، فذكر أحاديث الباب المتعلقة بزيارة القبور. ثم ذكر عدة فروع في المسألة وهي: 1 - علة النهي أولًا. 2 - الحكمة من استحباب زيارة القبور. 3 - في النساء هل يزرن القبور؟ 4 - هل تُزار قبور الكفار؟ 5 - كيفية الزيارة. ثم عقد فصلًا في زيارة قبور الأنبياء والصالحين. فذكر أن الأصل مشروعية زيارة القبور عامة للأنبياء والصالحين وسائر المسلمين وإنما النزاع في شيئين: 1 - في شدّ الرحال. 2 - الغرض المقصود من الزيارة. فذكر المسألة الأولى، وناقش دليلها المشهور «لا تُشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ... » ووجه الدلالة منه، والتحقيق في مسألة شدّ الرحال والمقصود منها. ثم خلص إلى مسألة الغرض من زيارة القبور، وهي المسألة الثانية، وعقد فيها مناظرة بين المانعين من شدّ الرحل لزيارة قبور الأنبياء والصالحين وبين المجيزين لها بناءً على استدلالهم بخصوصية زيارة قبور الأنبياء والصالحين على غيرها من القبور، وأطال وأطاب في المناظرة بين

(مقدمة 4/17)


الفريقين، وخلص إلى المنع منها.

  البحث الرابع: التبرك

بدأ هذا البحث بتمهيد قرر فيه أن كل عاقل يعلم أن النفع والضر بيد الله تعالى، ومن اعتقد في غيره قدرةً مستقلّة على النفع والضر فذلك هو الكفر. وأن هذا مما لا خلاف بين المسلمين فيه. ثم قرر أن المقاصد الدينية (التي يراد بها رضوان الله تعالى) والمقاصد الدنيوية التي لا يقدر عليها إلا الله، أو تتناولها قدرة البشر بالأسباب العادية وأريد تحصيلها بغيرها= كل ذلك لا يكون سببه إلا شرعيًّا، أي يفتقر ثبوته في الشرع إلى دليل معتبر. وإذا تقرر ذلك فالتبرك هو التسبُّب لحصول البركة، والمقصود به أحد الأمور الثلاثة السالفة، فثبوته مفتقر إلى دليل معتبر من الشرع. ثم ذكر بعض ما ثبتت بركتُه بالأدلة الشرعية؛ فذكر بركة ماء زمزم، وبركة القرآن الكريم والأدعية الشرعية، ثم خلص إلى الحديث عن الرقى وحكمها، ثم تكلم على التمائم والتِّوَلة وحكمها. ثم عاد إلى ذكر ما ثبت التبرك به، فذكر التبرّك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - وأدلته وأطال فيها، ثم ذكر الاختلاف في حكم التبرّك بوضع اليد على منبره - صلى الله عليه وسلم -. ثم عقد مسألة هي معقد هذا البحث، وهي: هل للمسلمين أن يتبركوا بصلحائهم كما يتبرّك الصحابة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - استنادًا إلى تلك الأحاديث؟ فتكلم في المسألة في عشرين صفحة (ص 239 - 259) وجعلها على هيئة مناظرة بين المجيزين والمانعين، وجعل محور البحث والمناظرة في بيان الفرق بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين الصالحين والأولياء، فقياسهم التبرّك عليه لا يصح

(مقدمة 4/18)


مع الفارق، وكذلك قياس ذريته عليه لا يصح مع الأدلة على ذلك، ودفع الاعتراضات التي أوردها المجيزون. ثم عنون بـ «خاتمة» ذكر فيها أنه رأى في بعض الكتب بحثًا في فضل العلم والشرف أيهما أعظم ... ؟ فذكر كلامه وناقشه فيه، واختار أن العلم هو الأفضل. ثم ذكر ما بقي من أقسام التبرك، فذكر مسألة التبرك بالقبور والمشاهد وما بُني عليها، واختار التحريم، وذكر أدلة ذلك وفصَّل فيها بما لا مزيد عليه. البحث الخامس: التوسُّل ذكر معنى التوسّل، وقرّر أنه لا يُتقرَّب إلا بشيء قد أقرّه الشرع، أما التقرّب إليه بسؤاله والإقسام عليه بحق شيء من الأشياء فهو على أقسام، فذكر ثلاثة أقسام وحكم كل قسم منها. ثم ذكر حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علّم بعض أصحابه أن يدعو فيقول: «اللهم إني أسألك وأتوسّل إليك بنبيك نبي الرحمة ... »، وذكر من استدل به على جواز التوسّل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وبعد مماته، وذكر حديث: «اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك ... ». فتكلم على الحديثين من حيث الثبوت، ورجَّح ضعفهما وعدم الاحتجاج بهما، وأجاب عن اعتراضات المجيزين ــ بعد أن تبسّط في عرضها ــ على تضعيف الحديث والاستدلال به. ثم عنون بـ «فصل» صدّره بأن المجيزين للتوسل المتعارَف لم يثبت لهم دليل صريح في ذلك، وذكر بعض حججهم وأجاب عنها ... ثم ختم البحث بقوله: «والذي أختاره لنفسي: أن أُكْثِر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوّل الدعاء وأثنائه وآخره، وأتتبّع الأدعية الواردة في الكتاب والسنة

(مقدمة 4/19)


والإرشادات التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في آداب الدعاء، وأكتفي بالترضِّي والترحُّم والاستغفار للعلماء والصالحين، وأدَعُ التوسُّل عملًا بحديث الحسن السبط رضي الله عنه: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» أخرجه الترمذي وابن حبان والحاكم من حديث الحسن السِّبط رضي الله عنه، وما في معناه من الأحاديث. وأرجو أن تكون هذه الطريقة هي الأسلم؛ لأني على يقين أنه لو ثبت التوسّل المتعارَف ثم تركه إنسانٌ لم يكن عليه إثم؛ إذ لا قائل بوجوبه، فكيف والحال أنه لم يثبت؟ فتَرْكه بنيّة الإحجام عما لم يطمئنّ القلبُ بثبوته مما أرجو أن يأجرني الله تعالى عليه. فمن أحبّ السلامة فهذا سبيلها، ومَن أقْدَم على التوسُّل فهو وما تولّى، ولا أقطع بخطئه ولا ضلاله، بل أرجو له التوفيق والهداية إن شاء الله تعالى». وهنا انتهى الكلام على البحوث الخمسة التي عنون لها. وقد أتبعنا هذه البحوث الخمسة بحثًا في حكم اتخاذ ليلتي المولد والمعراج عيدًا، لم يتحرّر لنا مكانه في الكتاب ولم يعنونه المؤلف بعنوان، فرأينا أن هذا الموضع هو اللائق بسياق موضوعاته. وقد بدأه بقوله: «قال المانعون: ومن المحدَث اتخاذ ليلتي المولد والمعراج عيدًا»، ثم ذكر أول مَن أحدث ذلك، ثم بدأ البحث ــ كما سبق في البحوث السالفة ــ على شكل مناظرة بين المجيزين لذلك والمانعين منه، فبدأ بقول المجيزين ثم المانعين وهكذا، وتطرق في أثنائه لحكم العمل بالحديث الضعيف وشروطه ... وأطال في الرد على من أجاز الاحتفال بهما والتشنيع عليهم.

(مقدمة 4/20)


ثم ختم البحث بذكر نص وقع له في «تاريخ المحبّي» فيه رأي لبعض العلماء بجواز ضرب الطبل في المسجد قياسًا على الجهاد، وأجاب عن ذلك بكلام طويل وتقرير ماتع.

  * المسألة الثالثة: النداء للغائبين والموتى وغيرهم

تكلم على هذه المسألة في تمهيد وثلاث مقامات. أما التمهيد فلم نعثر منه إلا على بضعة أسطر، أفادتنا بذكر المقامات الثلاثة وهي: المقام الأول: في الاطلاع على الغيب (1) ذكر أولًا العلم القطعي وأقسامه الثلاثة، ثم عرَّف الغيب وذكر قسميه، ثم ذكر الصور الست لـ «علم الغيب» الناتجة عن الأقسام السالفة، ثم تكلم على الصور الستّ، لكن لم نعثر إلا على كلامه على الصورة الخامسة، أما باقي الصور (الأربع الأول والسادسة) فلم نقف عليها في قطع الكتاب التي وقفنا عليها. وفي الصورة الخامسة ــ وهي: العلم الخبري بما هو غيب عن جميع الخلق ــ ذكر أن العلم الخبري إنما يحصل بأحد خمسة أمور، فذكرها، ثم ذكر ما الذي يقع منها للأنبياء والملائكة والبشر وما الذي لا يقع. ثم شرع في الكلام على القسم الأول من الغيب، وذكر بعض ما يستدل به أهل الأرض على الغيب وهو لا يحصّل إلا الظن، فذكر: _________ (1) صدر هذا المقام (من ص 312 إلى ص 327) وجدناه في المجموع رقم [4707].

(مقدمة 4/21)


1 - الرؤيا، وهل يلزم منها علم الغيب؟ (328 - 340). وقع في أول هذا المبحث نقص، وأول الموجود منه في حجج مَن يرى أن في الرؤيا دليلًا على علم الغيب ثم أجاب عنها فيما بعد. وتكلم على الرؤيا وأقسامها وصورها بكلام طويل نفيس، ورؤية النبي في النوم وتمثّل الشيطان به. ثم عقد فصلًا في مسألة مفارقة الروح للجسد عند النوم فذكر المذهبين وأدلتهما، واختار المؤلف الوقف والرد في علم ذلك إلى الله تعالى. ثم تكلم عن التنويم المغناطيسي ومعناه، وما يقاس عليه من أنواع السحر وتحضير الأرواح وغيرها، وهل تفارق الروح الجسد فيه، وتعرّض الروح لتلاعب الشيطان في تلك الأحوال. ثم ذكر عدة أشياء مما يَستدلُّ به أهلُ الأرض على بعض الغيب من القسم الأول وهو في حقيقته لا يُحَصِّل إلا الظنَّ، فذكر: 2 - التحديث (341 - 343). 3 - والكهانة (343 - 348). 4 - والنظر في النجوم (348 - 351)، وذكر من متعلّقاتها. 5 - ومعرفة الأنواء (351 - 352). 6 - ومعرفة أحوال النجوم المتعلقة بذواتها (352 - 353). 7 - والخط في الرمل (353 - 354). 8 - والعرافة (والفأل والطيرة) (354 - 355).

(مقدمة 4/22)


9 - والطّرْق بالحصى (356). 10 - والتفاؤل بالقرآن وغير ذلك (356). ثم تكلم المصنف في فصلين متتاليين الأول عن استقلال الله سبحانه بعلم الغيب وأنه لا يشركه معه نبيّ ولا ولي، وساق النصوص والأدلة على ذلك. والثاني في علم النبي بالغيب، ذكر فيه حجة مَن قال بذلك وأجاب عنها، وذكر الأدلة على عدم علمه بالغيب من الكتاب والسنة وأنها في حقيقة الأمر لا تُحصى. ثم ذكر حديث حذيفة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام مقامًا ما ترك شيئًا يكون إلى قيام الساعة إلا حدَّث به ... » وأجاب عمن استدل به على علم النبي - صلى الله عليه وسلم - للغيب وأطال في ذلك. ثم تكلم عن القسم الثاني من علم الغيب، وهو ما يكون غيبًا بالنسبة إلى بعض الخلق دون بعضهم، فذكر أنواعه الثلاثة، وهي: ما يختص بمشاهدته الملائكة، وما يختص بمشاهدته الجنّ، وما يشاهده البشر. وذكر أشياء مما يستدلون به على هذه الأنواع، فذكر منها الكهانة ووسوسة الشياطين، والنظر في النجوم والعرافة والطرق والخط والتنويم المغناطيسي وغير ذلك. وذكر مما يدخل في هذا الباب: ما يُؤثر عن أهل الرياضيات كالإشراقيين من الفلاسفة والبراهمة وبعض المتصوّفة ... فتكلم عن هذا النوع وما يصيب أولئك في تلك الأحوال، وما تُخيّله الشياطين لهم، ثم نقل نصًّا طويلًا عن ابن عربي الطائي نقله عنه الآلوسي في بعض كتبه ما يُفصح

(مقدمة 4/23)


عن هذه الخيالات والوساوس. ثم عرض لما يزعمه بعض المتصوّفة من أنهم يرون النبي - صلى الله عليه وسلم - يقظةً ... وسبب زعمهم هذا والرد عليهم. وختم البحث بـ «خاتمة» ذكر فيها أنه أتى على جل ما يُستدل به على المغيبات، وأنه بقي كشف الصوفية وهو لا يخرج في جملته عما ذُكِر آنفًا. ثم خرج إلى موضوع متعلّق بكشف الصوفية وهو دعوى الإلهام عند بعض المتصوّفة، وكلامهم في حجيّته، ونقل كلام الشوكاني في «إرشاد الفحول» في الموضوع ثم علق عليه وردّ من زعم حجيّة الإلهام وأطال في نقاش حججهم بما لا مزيد عليه (371 - 385). وبهذا يكون انتهى الكلام على المقام الأول وهو علم الغيب. المقام الثاني: في تصرُّف بعض بني آدم في الكون ذكر أولًا قسميه، وهما: ما جرت به العادة، وهذا ثابت للأحياء، وما لم تجر به العادة، وهو ما يمكن أن يكون معجزة لنبي أو كرامة لولي، وذلك بحسب ما يتفق مع الحكمة الربانية. ثم ذكر حال النبي - صلى الله عليه وسلم - وما ملّكه الله إياه مما هو داخل تحت قدرة البشر أما ما فوق ذلك فيملك الدعاءَ به فقط وقد يملك شيئًا منه على سبيل خرق العادة. ثم ذكر أنه من المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن متصرفًا في الكون وحجّة ذلك، وذكر قصة الخضر وما يمكن أن يستدلّ بها على قضية التصرف في الكون والجواب عن ذلك، واستطرد إلى قضية الإنكار على المخالفين في

(مقدمة 4/24)


تلك المسألة استدلالًا بفعل موسى مع الخضر. ثم ذكر أن الأدلة صريحة واضحة في إبطال ادِّعاء أن بعض الصالحين يملك التصرف في الكون، والذي غرّ أولئك المدّعين أمور تتعلّق بالتزوير وانتحال الفضل أو التقشّف أو أصحاب سوء يتأكّلون باسم الشيخ وغير ذلك. ثم انفصل إلى ذكر أن حالات أولئك المشايخ المتصوفة لا تخلو من أربع حالات: 1 - أن يكونوا من أهل الزيغ والإلحاد تستّروا باسم التصوّف وإظهار الزهد والتقشف ليكيدوا للإسلام. 2 - أن يكونوا من أهل الإسلام لكن تلاعب بهم الشيطان. 3 - أن يكونوا من أهل الخير والصلاح، لكنهم أرادوا أن يتكلموا بما ظاهره الكفر استدعاء لذم الناس لهم؛ ليكتسبوا بذلك كسر نفوسهم والأجرَ للاعتداء عليهم. 4 - أن يكون لهم في كلامهم مرادات صحيحة، لكنهم عمّوها على الناس فجعلوها من قبيل الإلغاز، كما هو شائع في كلامهم .. واختار المؤلف أن كل أمر من هذه الأمور يوجد عند طائفة منهم، لكن الذي يدين الله به حُسن الظن بأشخاصهم وأنهم لا يعتقدون ما تدل عليهم مقالاتهم وإنما قالوها لغرض من الأغراض ظنوها حسنة، وذلك لا يمنعنا من انتقادهم وإنكار المنكر وبيان أن اعتقاد الظاهر منه فسق أو كفر أو جهل بحسب رتبته. مع النصيحة بالإعراض عن كتب هؤلاء ومؤلفاتهم.

(مقدمة 4/25)


ثم تكلم على الصوفية وكتبهم ودعاواهم أن أناسًا دسّوا عليهم فيها ... وكيف ركّبوا من كل أولئك خطة محكمة لترويج باطلهم ونشر خرافاتهم. ثم ذكر أن بعض من يُنسب إلى التصوّف يعدّ من أئمة الهدى كالجنيد، وأن بعض الصالحين ثبتت لهم كرامات، لكن ليس كل ما يدّعيه القصاصون صحيحًا بل كثير من حكاياتهم منقطعة ورواتها مجاهيل ... وأنه ينبغي أن توزن أمور الناس بميزان العدل، (فإن كان الشخص ملازمًا للطاعات، عاملًا بالكتاب والسنة معظمًا لهما ... فالظاهر أن الخارقة الواقعة على يده كرامة ... وإن كان بخلاف ذلك فالأمر بالعكس). وبهذا انتهى هذا المقام الثاني. المقام الثالث: النداء والطلب فذكر أولًا ما تقرر من أن الغيب لا يعلمه إلا الله وحده أو ما يُطْلِع عليه بعض خلقه، وأن المخلوق لا يملك شيئًا ولا يتصرف إلا بما جرت عليه عادة الخلق عليه، وبنى على ذلك أن كل نداء للغائب باعتقاد أنه يسمع أو يُبلّغ كل شيء أو بعض الأشياء لا يسوّغ نداءَه ولا الطلب منه. ثم ذكر المؤلف أن دعاء النبي قد لا يُستجاب لسَبْق الكتاب كما في قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وذكر آيات وأحاديث أخرى تدل على ذلك. ثم قرر أن كل من له اطلاع على السنة علم أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا ينادون غائبًا ولا حتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما كانوا يطلبون منه ما يمكنه تحصيله بالأسباب العادية، وإلا سألوه الدعاء ... وذكر جملة من الأحاديث في ذلك، ثم قال: والأحاديث أكثر من أن تُحصى.

(مقدمة 4/26)


أما عند موته فلم يُنقل عن أحدٍ من الصحابة ولا التابعين أنه طلب منه شيئًا البتة، بل غاية أمرهم إن حضروا إلى قبره أن يسلموا عليه وعلى صاحبيه، ولا يطلبوا منه شيئًا، وحديث الاستسقاء بالعباس صريح في أنهم كانوا لا يرون الطلب منه إلا في حياته، أما بعد قبضه فلا. ثم أدار المؤلف حوارًا بين المجيزين للطلب منه حال موته، وبين المانعين من ذلك وأطال في تقرير حجج المانعين. ثم ذكر حجة المجيزين بأنهم يجتهدون في الدعاء فلا يجدون إجابة حتى إذا ذهبوا إلى القبر ودعوا استجيب لهم ... وذكر كثيرًا من الأمثلة على ذلك مثل حمل النساء، وإنزال الأمطار، والوفاء بالنذر، وشفاء المريض، ووقع الكثير من الخوارق للعادات. فأجاب المؤلف عن ذلك بجواب تأصيلي، ثم ذكر أن الخوارق قد قسمها العلماء إلى أقسام: معجزات للأنبياء، وكرامات للأولياء (وقد سلف التفصيل فيها)، ومنها ما هي من قبيل: الاستدراج، أو السحر والشعبذة والكهانة وغيرها. والكلام على هذه الخوارق من وجهين: 1) إنكار وقوعها مطلقًا وأنها لا تثبت إلا عن مشاهدة أو تواتر، ثم إن ثبتت فيمكن أن تكون شعبذة أو سحرًا أو مخرقة .. فيجب وزنها بميزان الشرع كما سلف، وهي وإن ثبتت فلا يبنى عليها شيء مخالف للشرع. 2) الكلام على هذه الخوارق التي ذكروها واحدة واحدة بالتفصيل وبيان الحكم فيها وتلاعب الشياطين بعامة الناس في نسجها والتضليل بها.

(مقدمة 4/27)


ثم ذكر تنبيهًا أجاب فيه عما استَبْعَد به الناس من وجود الشياطين عند قبور الصالحين. ثم عاد إلى حوار المجيزين والمانعين وقد ناقش فيها مسائل مهمة في الاستعانة والاستغاثة، والطلب من المخلوقين، واعتقاد الضرر والنفع، والتوسّل، والتمسّح بالأضرحة، والنذر لها والذبح وغيرها. وفي نهاية البحث عقد عنوانًا بـ «الميزان» دعا فيه علماء الأمة للاستيقاظ من الغفلة والاجتماع وتأليف كتاب يكون ميزانًا في الاعتقاد، وبيَّن منهج وطريقة ذاك التأليف، وأن هذا هو الطريق الوحيد في ضم شمل الإسلام وأهله والتأليف بين قلوبهم. ثم ذكر جماع القول في تلك المسائل وهو: أن الله إنما يُعبد بما شرع، وتلك الأمور إما محدثة قامت الأدلة على بطلانها، أو فيها خلاف ونزاع فهي دائرة بين الحرام والمكروه أو المباح، فالسلامة منحصرة في ترك تلك الأشياء، فمن تركها فهو سالم لا محالة، والمسلم من حَرَص على السلامة بأيّ تقدير كان، ولا أسلم ولا أعلم ولا أفضل مما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتابعوهم. وبه ينتهي الكلام عن المقام الثالث وينتهي الكتاب. ثم أتبعنا الكتاب بعدّة ملاحق وهي: 1، 2 - ملحقان يتعلقان بمباحث الاجتهاد والتقليد. 3، 4 - ملحقان يتعلقان بالسنة والبدعة. 5 - ملحق يتعلق بالرؤيا في المنام وعلاقتها بعلم الغيب.

(مقدمة 4/28)


وهي مباحث متفرقة بمسائل تتعلق بكتابنا، لم نجدها كاملة، ووقعت فيها خروم عديدة، وإدخالُها في متن الكتاب يشوّش ترتيبه ولا يتسق مع جملة مباحثه فألحقناها لتستفاد وأملًا في العثور على مكمّلاتٍ لها، يسّر الله ذلك بمنّه. - العثور على الكتاب ومعاناة ترتيبه والعمل عليه ذكرنا في مقدمة المشروع أننا عمدنا إلى كتب المؤلف فنسخناها تمهيدا لمعرفتها ومن ثم تحقيقها، غير أن رسالتنا هذه ورسالة المواريث لم تُنسخا لالتباس ترتيب أوراقها وعدم معرفة موضوعها .. وفي آخر الأمر استقر رأينا على النظر في شأن هذه الرسالة وبدأنا بنسخ ما كان لدينا مصورا على الورق ورقة ورقة، ثم ما كان مصورًا على القرص المدمج ورقة ورقة أيضًا، ثم بدأنا بترتيب الأوراق من خلال السياق واتصال الكلام، فكان الاستدلال على اتصال الكلام يسهل حينا ويتعسر أحيانًا كثيرة، لكننا استطعنا بحمد الله ترتيب صفحات الكتاب إما يقينًا وهو الأغلب، أو اجتهادًا في بعض الصفحات. - وصف النسخة الخطية وصلنا الكتاب في أربعة دفاتر وأوراق متفرقة في مكتبة الحرم المكي، فمقدّمته التي تبيِّن حقيقة الكتاب ومناسبة تأليفه تُوجد في صفحة ضمن المجموع رقم (4707) وفي المجموع نفسه أوراق تتعلق بمباحث متفرقة من موضوع علم الغيب، كمعنى علم الغيب، وكونه مختصًّا بالله تعالى، وأنه لا يطلع على الغيب أحد حتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والرؤيا وهل يلزم منها علم الغيب.

(مقدمة 4/29)


ثم وجدنا مسودة المقدمة وبعض الفصول الأولى من الكتاب بعد الانتهاء من تحقيقه ضمن الأوراق والدفاتر غير المفهرسة التي عثرنا عليها في مكتبة الحرم المكي أخيرًا. ومعظم مباحث الكتاب في دفترين مضطربي الأوراق الأول برقم [4674] في 246 ورقة، والثاني برقم [4853] في 77 ورقة، وقد رُقّمت أوراق هذين الدفترين ترقيمًا حديثًا جدًا بعد تشتتها واضطرابها، وجلّد الدفتر الأول، فزاد الأمر إشكالًا في استخراج ترتيب الكتاب وتخليصه. وكنّا قبل الحصول على الكتاب في أقراص مدمجة قد حصلنا على صورة ورقية غير مرقمة مصورة عن الميكروفلم بالمكتبة، وقد نسخنا كثيرا من المباحث منها، وكانت مع وعورة استخراج الكتاب منها ومع تشتت أوراقها باهتة التصوير، بل لم تظهر لنا بعض كلماتها إلا بمزيد من تكرار النظر والتأمل وتكبير الحروف .. فكان نسخ هذا الكتاب وتخليصه من أصعب الأمور وأشقّها. وقد قمنا بنسخ كل ورقة منه كما هي، حتى إذا اكتمل النسخ قسَّمنا المنسوخ حسب أقسام الكتاب الثلاثة الرئيسة، ثم تأملنا في المنسوخ من كل قسم لمعرفة الترتيب واتصال الكلام بعضه ببعض، حتى اهتدينا إلى الوضع الذي ينشر عليه الآن. - طريقة العمل في الكتاب كانت طريقة العمل في الكتاب كطريقته في بقية كتب المشروع وهي بين أيدي الباحثين، وما كان لنا فيه من تصرف خاص بالكتاب فهو فيما يتعلق

(مقدمة 4/30)


بترتيب بعض المباحث التي لم يتبين ترتيبها، فاجتهدنا في وضعها في مكانها المناسب من الكتاب، وقُل مثل ذلك في ترتيب صفحات المخطوط التي شرحناها سابقًا فقد اجتهدنا في ترتيب بعض الأوراق التي لم يتبين لنا ترتيبها لا من خلال التعقيبة ولا من خلال ترتيب أوراق المخطوط بقطعه المختلفة، وما كان من إضافة إلى نصّ المؤلف من قِبَلنا فإنا نضعه بين معكوفتين [] بإشارة غالبًا وبدونها في الأقل، وقد كنا ــ كما سلف ــ وجدنا قطعة من مسودة الكتاب في الأوراق التي عثرنا عليها مؤخرًا فقارناها ووضعنا زيادات هذه القطعة بين معكوفتين، وذلك خاص بمبحث الاجتهاد والتقليد فحسب. وقد ختمنا الكتاب بفهارس لفظية صنعها الشيخ نبيل بن نصار السِّندي الباحث في المشروع، ثم بفهرس موضوعي مفصل. والحمد لله حق حمده.

(مقدمة 4/31)


ترجمة الشيخ السوركتي (1) تقدم في أول المقدمة أن سبب تأليف هذا الكتاب سؤال وجهه بعضهم إلى المؤلف عن كتاب المسائل الثلاث للشيخ أحمد السوركتي، فناسب أن نلقي الضوء على طرف من ترجمته فنقول: هو: الشيخ أحمد بن محمد السوركتي الأنصاري. ونسبة السوركتي: لقب لأحد أجداده، وهي من لغة أهالي تلك البلاد، ومعناها: كثير الكتب، والسبب: أن جدّه رحل إلى مصر لطلب العلم، وعاد من سفره بكتب كثيرة فلقب بهذا اللقب؛ لأن «سور» عندهم الكتاب، و «كتي» للمبالغة في الكثرة. ولد الشيخ أحمد في جزيرة أَرْقُو بالولاية الشمالية في السودان عام 1876 م=1294 من أسرة مشهود لها بالورع والصلاح والعلم، حفظ القرآن بخلاوي منطقة دُنْقُلا، ودرس مبادئ الفقه على والده. ثم رحل إلى الحجاز عام 1897 م في سبيل العلم والمعارف ورغبة في أداء الفريضة. وبعد أداء فريضة الحج أقام في المدينة المنورة أربع سنوات ونصف، درس في هذه المدة علوم القرآن والحديث والفقه واللغة العربية _________ (1) من مصادر ترجمته: «حضرموت وعدن وإمارات الجنوب الغربي» (ص 236 - 261)، و «تاريخ حركة الإصلاح والإرشاد وشيخ الإرشاديين أحمد محمد السوركتي في إندونيسيا» للدكتور أحمد إبراهيم أبو شوك. و «جهود الشيخ أحمد بن محمد السوركتي الأنصاري في الدعوة إلى الله في إندونيسيا» للطالب شفيق ريزا حسن، رسالة ماجستير بالجامعة الإسلامية نوقشت سنة 1428 هـ.

(مقدمة 4/32)


على علماء المدينة، أمثال المحدث عمر بن حمدان المغربي، والفقيه المالكي أحمد بن الحاج علي المجذوب، والعالم اللغوي الشيخ أحمد البرزنجي. ثم رحل إلى مكة المكرمة وجاور لمدة عشر سنوات حيث واصل طلب العلوم والمعارف النقلية والعقلية على كبار مشايخ الحرم المكي أمثال العلامة أسعد بن عبد الرحمن الدهان، والشيخ محمد بن يوسف الخياط، والشيخ شعيب بن موسى المغربي. وبعد هذه الأربعة عشرة عامًا ونصف من السياحة في حلقات العلم والمعرفة بالحرمين الشريفين حصل المترجم له على الإجازة العالمية من علماء الحجاز، وقيد اسمه في سجل علماء أم القرى، ثم صودق له بالتدريس في الحرم المكي. وافتتح مدرسة أهلية في مكة وصار لها إقبال منقطع النظير. وفي سنة 1329 هـ طلبته جمعية خير في جاكرتا لإدارة التعليم في مدرستها، وكان الواسطة لذلك العلامة الشيخ محمد بن يوسف الخياط والعلامة الشيخ حسين بن محمد الحبشي، فسافر السوركتي إلى إندونيسيا وبصحبته معلمون ومندوب جمعية خير: السيد عبد الله بن عبد المعبود الموصلي، ووصل إلى مدينة جاكرتا بصحبة الشيخين محمد الطيب المغربي ومحمد عبد الحميد السوداني في شهر ربيع الأول عام 1329 هـ ثم نزل ثلاثتهم ضيوفا على السادة العلويين الذين رحبوا بمقدمهم باعتبارهم أول هيئة علماء تصل من الأراضي المقدسة للعمل في مدارس جمعية خير.

(مقدمة 4/33)


وفور وصولهم عُين الأستاذ السوركتي مديرًا لمدرسة باكوجان ومفتشًا للتعليم، والشيخ محمد الطيب معلمًا بمدرسة كروكت، والشيخ محمد عبد الحميد بمدرسة بوقور. لما وصلوا جاكرتا قابلهم السادة العلويون وغيرهم من العرب بكل إجلال واحترام، واحتفلوا بهم احتفالًا بالغًا .. إلا أن ذلك لم يدم طويلًا ففي السنة الثانية وقعت خلافات بين الشيخ السوركتي وبعض السادة العلويين، واشتد النزاع وطال، وقد دفع هذا النزاع الشيخ السوركتي إلى تقديم استقالته في السادس من سبتمبر سنة 1914 م إلى إدارة جمعية خير. ويبدو من هذه الاستقالة أن السوركتي كان عازمًا على العودة إلى مكة المكرمة دون الدخول في صراع مكشوف مع السادة العلويين، إلا أن بعض وجهاء الحضارمة غير العلويين ثَنَوه عن هذا المسعى وشجعوه على إتمام المشوار التعليمي والإصلاحي الذي وضع لبناته في إندونيسيا. واستجابة لنداء هؤلاء عدَل السوركتي عن رأيه وفتح مدرسة خاصة في أحد بيوت نقيب العرب عمر بن يوسف منقوش بحارة جاتى، سماها مدرسة الإرشاد الإسلامية. وهذا هو أول نشوء لجمعية الإصلاح والإرشاد التي كان لها دور كبير بعد ذلك في نشر العلم والأخلاق والعقيدة، وافتُتح لها فروع كثيرة في كافة أرجاء إندونيسيا، وكثر انتفاع الناس بها، ومن أبرز مبادئ هذه الجمعية التي صاغها الأستاذ السوركتي ومن معه ما يلي:

(مقدمة 4/34)


- توحيد الله توحيدًا خالصًا بعيدًا عن مظان الشرك الظاهر والخفي في الاعتقاد والأفعال والأقوال. - المحافظة على الأخلاق الإسلامية التي جماعها: أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك وتحافظ على عزة النفس وشرف العمل وعدم الخنوع لغير الله. - المحافظة على العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج وغيرها وعدم التهاون فيها. - إحياء السنة الصحيحة وترك البدع وعدم المشايعة لها. - التعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان. - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة. - نشر العلوم الدينية والعصرية واللغة العربية. وقد أثنى عليها العلامة رشيد رضا في مجلته المنار بقوله: إن جمعية الإصلاح والإرشاد «غرضها إنشاء المدارس ونشر التعليم الديني والمدني الذي تقتضيه حالة العصر من الاستقلال وإحياء هدي الكتاب والسنة ومقاومة الخرافات الفاشية من طرق الابتداع في الدين». وقد كان للشيخ السوركتي تأثير بالغ في الحياة العلمية والدينية في إندونيسيا في العصر الحديث، فقد ذكر البروفيسور يوسف الخليفة في مقابلة صحفية أن «أثر الشيخ أحمد سوركتي في إندونيسيا معروف هنالك فهو الذي أيقظ العلماء، حتى طرده الاستعمارُ الهولنديُّ الذي كان يستعمر إندونيسيا.

(مقدمة 4/35)


ويذكر الشيخ محمد عبد الرحيم المؤرخ الذي كان مراسل الشيخ أحمد السوركتي أن الرئيس سوكارنو عندما خرج من السجن وقبل أن يكون رئيسًا لإندونيسيا، زار الشيخ أحمد السوركتي وكان قد فقد بصره فقال له الرئيس سوكارنو: «يؤسفني أن أزورك وقد فقدت بصرك ولكنك فتحت بصائرنا». ومن آثاره نجد عددًا من الرسائل العلمية «الماجستير والدكتوراه» قدِّم بعضها إلى الجامعات الغربية وبعضها إلى إندونيسيا. أهم رسائل السوركتي وفتاويه هي: 1 - «صورة الجواب» وهو رد على بعض من كتب من السادة العلويين في مسألة الكفاءة في النكاح يقرر فيها الكفاءة الدينية. 2 - «المسائل الثلاث» وهو الكتاب الذي أيّده وعلق عليه الشيخ المعلمي في كتابنا هذا. 3 - «أمهات الأخلاق». 4 - «الآداب القرآنية». وفاته: توفي الشيخ أحمد السوركتي سنة 1363 هـ في إندونيسيا. رحمه الله وغفر له.

(مقدمة 4/36)


نماذج من النسخة الخطية

(مقدمة 4/37)


مقدمة (تحقيق الكلام)

(مقدمة 4/39)


تحقيق الكلام في المسائل الثلاث (الاجتهاد والتقليد، السنة والبدعة، العقيدة) تأليف عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني (1386)

(4/1)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} [الكهف: 1 - 2]. وأنزل عليه في كتابه: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى سِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 161 - 163]. وأشهد أن لا إلـ? هـ إلا الله وحده لا شريك له، {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]. اللهمَّ صلِّ على محمد وأزواجه وذريته كما صلَّيتَ على آل إبراهيم، وبارِك على محمد وأزواجه وذريته كما باركتَ على آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ، وسلِّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد، فقد أطلعَني بعض الإخوان على رسالةٍ عنوانها: (المسائل الثلاث) التي قُدِّمت للأستاذ الشيخ (1) أحمد محمد سوركتي في سورابايا، _________ (1) "الثلاث ... الشيخ" مخروم في الأصل، استدركناه من المسوَّدة.

(4/3)


وسألني أن أقدِّر حيثية مؤلفها، لأن كثيرًا من المنتسبين إلى العلم يُجهِّلونه ويُبدِّعونه، ثم أُبدِي ما أراه من انتقاد في كلامه [لكونه أذن في ذلك] (1)، ثم أتكلم على تلك المسائل بما أدينُ الله تعالى به بقدر وُسْعي. وبعدَ مطالعتي للرسالة أجبتُ عن السؤال الأول: أن هذه الرسالة على صِغَرها تُمثِّل مؤلفَها بمكانٍ من العلم [الصحيح والفضل الحقيقي] والدين [الراسخ] والفهم السديد في الكتاب والسنة، [وأنه من البقية المذكورة في قوله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} (2) [هود: 116]، والطائفة المذكورة في قوله عليه الصلاة والسلام] (3). لا يُنكِر هذا كلُّ مَن يفهم كلامه إلا مَن كان ناظرًا من وراء حجاب الهوى والتقليد. وأما السؤال الثاني فلم يظهر لي في تلك الرسالة ما يجب التنبيه عليه سِوى قوله في (ص 43) بعد ذكر الأحاديث الواردة في النهي عن الجلوس على القبور ما لفظه: "والجلوس المنهيُّ عنه على ما يظهر هو الجلوس عليها للتبرك والاستشفاع أو للعبادة والدعاء، وأما الجلوس على القبر بغير قراءةٍ ولا نيةِ تبرُّك ولا لعبادةٍ، بل للاستراحة ريثَما يُدفَن الميتُ أو تُقضَى الحاجة، أو لوعظِ الحاضرين= فلا بأس [به] ... " إلخ. [ص 2] وهذا يقتضي أن ظاهر تلك الأحاديث النهي عن الجلوس عند القبور، وفي ذلك نظرٌ، بل ظاهرها هو النهي عن القعود على القبر نفسه، لأنه _________ (1) من المسوّدة، وكذا ما يأتي بين المعكوفتين. (2) في المسودة: "ولتكن منكم بقية". (3) "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ... " الذي أخرجه مسلم (1920) من حديث ثوبان وغيره.

(4/4)


هو الحقيقة، ولا صارفَ عنها. وحديث أبي هريرة (1): "لأن يجلسَ أحدكم على جَمْرةٍ ... " إلخ كالنصِّ في ذلك. وقد ذكر في الرسالة حديث مسلم (2) عن جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُجصَّص القبر وأن يُبنَى عليه وأن يُقعَد عليه". ويُوضح المراد منه أن لفظه عند الترمذي (3): "أن تُجصَّص القبور وأن يُكتَب عليها وأن تُوطأ". [وفي "المسند" (4) عن عمرو بن حزم قال: رآني النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - متكئًا على قبر، فقال: "لا تؤذِ صاحبَ هذا القبر، أو لا تُؤذِه"]. وأما حديث البراء (5) فالمراد: جلس عند القبر، إذ من المعلوم أن القبر المحفور لا يمكن أن يُجلَس عليه. ومثله حديث البخاري (6) عن أنس قال: "شهدنا بنتَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تُدفَن ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس على القبر ... " الحديثَ، فالمراد قطعًا جالسٌ عند القبر كما مرَّ. _________ (1) أخرجه مسلم (971). (2) رقم (970). (3) رقم (1052). (4) رقم (24009/ 39). (5) أخرجه أبو داود (3212) والنسائي (4/ 78) وابن ماجه (1549)، ولفظه: "قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة، فوجدنا القبر لم يُلحَد، فجلس وجلسنا معه". (6) رقم (1285، 1342).

(4/5)


وقد قيَّد مالكٌ القعودَ المنهيَّ عنه بالقعود لقضاء الحاجة (1)، وذلك يحتاج إلى دليل، وظواهر الأحاديث تردُّه. والظاهر ما قاله الجمهور: إن العلة هي كراهية انتهاك حرمة القبر. ومما يؤيِّده حديث النسائي (2) وغيره بأمره صلى الله عليه وآله وسلم لصاحب السِّبْتيَّتَين أن لا يمشيَ بهما في المقبرة. وغيره كثير. ونحن نوافق الأستاذ على تحذير الناس عن التبرك بالقبور وغيرِه مما ثبت النهيُ عنه، سواء أكان مع الجلوس عندها أو مطلق الحضور أو مع الغيبة، ولكنه لا يمنعنا ذلك أن نخالفه فيما فهمنا منه غير ما فهمه (3)، ومهما بلغَ من حُبِّنا للحق فلا ننصره إلّا بالحق. قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]. واعتذرتُ من السائل عن الأمر الثالث، وهو الكلام على تلك المسائل، لقصور باعي [وغَيبة كتبي]، ولما لم يعذرني استعنتُ الله سبحانه وتعالى، وشرعتُ في كتابة ما يتيسَّر لي، مُرجئًا البسطَ إلى وقت آخر إن شاء الله. * * * * _________ (1) قال مالك في "الموطأ" (1/ 233): إنما نُهي عن القعود على القبور فيما نُرى للمذاهب. (2) (4/ 96) من حديث بشير بن الخصاصية. (3) هذا السطر جاء في طرة الورقة وقد ذهب بعض حروف كلماته، فاجتهدنا في قراءته كما هو مثبت.

(4/6)


مقدمة في بيان التكليف وما يتصل به قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. حَصرتْ هذه الآية خلقَ الجن والإنس في علّيّة العبادة، لأن الاستثناء من أعم العلل، أي: لا سببَ لخلْق الله تعالى لهم إلّا إرادتُه أن يعبدوه، وعليه فلابدَّ من أن يكون خلْقُهم على هيئةٍ يكونون بها مستعدِّين لما لأجلِه خلقَهم، والأمر كذلك. [قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 7 - 9]. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون: 78]]. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [غافر: 67]، وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) [عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)] خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 - 4]، وقال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 1 - 3]. [ص 3] وقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 8 - 10].

(4/7)


[وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10]]. والقصد من إيراد هذه الآيات بيانُ أن الله تعالى إنما خلق الإنسانَ ذا سمعٍ وبصرٍ، وشمٍّ ولمسٍ، وبَطْشٍ ومشي، وفكر وعقل، وحفظ ونطق، وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة [التي لا يحصُر غرائبَ إتقانها وعجائب إحكامها غيرُ خالقها]، ليكون متمكنًا من العبادة التي لأجلها خُلِقَ من العدم. ويكفيك في بيان ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]. وفوقَ ذلك أودع في فِطَرِهم: الحنيفيةَ، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم: 30 - 31]. وفي "الصحيحين" (1) من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "كلُّ مولودٍ يُولَد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه ويُنصِّرانه ويُمجِّسانِه، كما تُنتَج البهيمةُ جمعاءَ هل تُحِسُّون فيها من جدعاءَ؟ حتى تكونوا أنتم تَجْدَعونها". ثم قرأ أبو هريرة: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}. وفي لفظ آخر (2): "ما من مولودٍ إلّا يُولَد على هذه الملة". _________ (1) البخاري (1385)، ومسلم (2658). (2) أخرجه أحمد في "مسنده" (7445) بهذا اللفظ.

(4/8)


وقد عقد المحقق ابن القيم لبيان هذه الفطرة بابًا في كتابه "شفاء العليل" (1) مقتبسًا أكثر كلامه من كلام شيخه أبي العباس ابن تيمية، وقال في آخره (2): "فقد تبيَّن دلالةُ الكتاب والسنة والآيات واتفاق السلف على أن الخلق مفطورون على دين الله الذي هو معرفته والإقرار به ومحبته والخضوع له، وأن ذلك موجبُ فطرتهم ومقتضاها، يجب حصوله فيها إن لم يحصل ما يعارضه ويقتضي حصولَ ضدِّه، وأن حصول ذلك فيها لا يقف على وجود شرطٍ، بل على انتفاء المانع، فإذا لم يوجد فهو لوجود مُنافِيه لا لعدمِ مقتضيه. ولهذا لم يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوجود الفطرة شرطًا، بل ذكر ما يمنع موجَبَها، حيث قال: "فأبواه يُهوِّدانِه ويُنصِّرانِه ويُمجِّسانِه". فحصول هذا التهويد والتنصير موقوف على أسبابٍ خارجة عن الفطرة، وحصولُ الحنيفية والإخلاص ومعرفة الرب والخضوع له لا يتوقف أصلُه على غير الفطرة، وإن توقَّف كمالُه وتفصيلُه على غيرها، وبالله التوفيق". انتهى. ثم ذكر الأدلة العقلية الموافقة لذلك، والكلام طويل، ولذلك اقتصرنا على إثبات الدعوى والدليل، ومَن أراد استيفاء البحث فعليه بـ "شفاء العليل". [ص 4] وفوق ذلك فإن الله سبحانه وتعالى خلق الأكوان المحسوسة لهم على هيئة دالة على وجودِه وإلـ? هيته ووحدانيته وكمالِه، فلا تقعُ عينُ ابنِ آدم ولا شيءٌ من حواسِّه إلّا على آيةٍ من آيات الله تعالى وبرهانٍ قاطع، وقد نبَّه _________ (1) هو الباب الثلاثون آخر أبواب الكتاب. وانظر "درء التعارض" لشيخ الإسلام (8/ 454 وما بعدها). (2) (ص 499) ط. بيروت 1407.

(4/9)


على ذلك القرآنُ في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)}. ثم قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)}. ثم قال جلَّ ذِكرُه: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام]. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [الروم: 8]. وقال تعالى: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا

(4/10)


بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية: 1 - 5]. وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105]. والآيات في ذلك كثيرة. وبناءً على ما تقدم زعمت المعتزلة أن كلَّ إنسانٍ قبلَ بلوغ الدعوة مكلَّفٌ بالنسبة لما أدرك العقل فيه صفةَ حُسْنٍ أو قُبحٍ لذاته أو لصفته أو لوجوهٍ واعتباراتٍ، على اختلافٍ بينهم في ذلك، وخالفهم غيرهم، كما ذكره الشوكاني في "إرشاد الفحول" (1). وبعد أن شرح الخلاف والاحتجاج من الطرفين قال في آخره ما لفظه (2): "وبالجملة فالكلام في هذا البحث يطول، وإنكارُ مجرد إدراك العقل لكون الفعل حسنًا أو قبيحًا مكابرةٌ ومباهتةٌ. [ص 5] وأما إدراكُه لكونِ ذلك الفعل الحسن متعلقًا للثواب، وكونِ ذلك الفعل القبيح متعلقًا للعقاب= فغير مسلَّم. وغايةُ ما تُدرِكه العقول أن هذا الفعل الحسن يُمدَح فاعلُه، وهذا الفعل القبيح يُذَمُّ فاعلُه، ولا تلازُمَ بين هذا وبين كونِه متعلقًا للثواب والعقاب". أقول: قوله: "غير مسلَّم" فيه نظر؛ لأنه إذا ثبتتْ معرفةُ الله تعالى بالفطرة والاستدلال، وثبتَ أن العقل يُدرِك حُسنَ العدل، فعندما يرى العاقل قصاصَ الله سبحانه وتعالى بين بعض الخلائق في الدنيا وإملاءَه لبعضهم، يؤدِّيه نظرُه إلى أن بعد هذه الدار دارًا أخرى، يبعثُ الله بها الخلقَ ويقتصُّ من الظالم، ونحو هذا. _________ (1) (1/ 78 وما بعدها). (2) (1/ 83).

(4/11)


ومع هذا فالذي أعتقده ما دلَّ عليه قولُه تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]، وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 130 - 131]. والآيات في هذا المعنى كثيرة. وهاهنا بحثٌ في حال الناس قبل بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، هل تقوم ببعثة كلِّ رسولٍ الحجةُ على كل مَن بلغتْه دعوتُه ولو لم يكن مِن قومه الذين أُرسِل إليهم، أو لا تقوم الحجةُ إلّا على قومِه خاصةً؟ ولهذا البحث موضعٌ غير هذا. ومما يتعلق به قوله تعالى في سورة الأنعام: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) وقوله في المائدة: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا ... } الآية [19]. وعلى كل حالٍ فإن الله جلَّ ذِكرُه لم يكتفِ في إقامة الحجة وبيان التكاليف بمجرد الفطرة والعقل، أما فيما لا سبيلَ لهما إلى إدراكه كالصلاة والصيام فظاهر، وأما غيره فلكثرة العوارض والشواغل التي تُغيِّر الفطرة وتَشْغَل العقلَ، فاقتضت الإرادة الربانية الهداية والبيان، فاصطفى سبحانه وتعالى مِن خلقه رُسُلًا يُنزل إليهم وحيَه، ويؤيِّدهم بآياته، ليذكِّروا الناسَ بآيات ربهم، [ويَلفِتوا أنظارهم إلى براهين توحيده]، ويدعوهم إليه،

(4/12)


ويبلِّغوهم أوامرَه ونواهيَه. فأول الأنبياء آدم أبو البشر عليه السلام، [أسجد له ملائكته، وعلَّمه الأسماء، و] استخلفه في الأرض ليعمرها ويعلِّم أولاده. ثم لم تزل الرسلُ تترَى جيلًا بعدَ جيلٍ، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36]، وقال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 163 - 165]. وقد قصَّ الله تعالى في القرآن قصص كثير من أنبيائه فيما جرى لهم مع أممهم، كما لا يخفى]. ثم إن الله سبحانه وتعالى ختمهم بمحمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، فأرسله للناس كافَّةً، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، وقال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40]. [ص 6] فهو صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين، والمأخوذ عليهم

(4/13)


وعلى أممهم الميثاقُ باتباعه، [قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40]]. وقال تعالى في سورة آل عمران بعد ذكر الأنبياء: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)}. وقال تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ

(4/14)


يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 155 - 158]. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 6 - 9]. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28]. [ص 7] ولو تركنا الأدلة السمعية جانبًا، وأَطلقَ الإنسانُ لعقله العِنان، وفَكَّه من القيود والأغلال، حتى يصير حرًّا ساذجًا، ثم استفتاه، لشهدَ أن هذه الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم متكفِّلةٌ بمصالح الخلق كافَّةً، معاشًا ومعادًا، وأن صلاح العالم هو في الاجتماع لا في الافتراق، وأن الشرائع السابقة مع ما اعتراها من القواطع والموانع والتغيير والتبديل قد صارت مخالفةً للمصالح، فالحجة قائمة ولله الحمد.

(4/15)


ولما كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتمًا للأنبياء، وكانت شريعتُه وارثةَ جميعِ الشرائع، والمعَدَّة لتدبير مصالح الناس كافةً في إبَّان رُقيِّهم وسُموّ مداركهم إلى نهاية عمر الدنيا= أمدَّه الله سبحانه وتعالى بالكتاب الحكيم الذي قال تعالى فيه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]، وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1]، وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23]. [ص 8] وحضَّ سبحانه وتعالى على العمل به في غيرِ ما آيةٍ، قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 155 - 157]. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 52 - 53].

(4/16)


وجعله سبحانه وتعالى عربيًّا، لأنه لسان العرب الذي بُعِث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهرهم (1)، ولاسيَّما مع ما امتازت به لغة العرب من حسن البيان، فيكون بيان الشريعة أولًا بها، ثم بواسطتها يُفسَّر لأهل اللغات الأخرى، فيحصل المقصود من التبليغ والهداية. وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم: 4]. وقال تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 1 - 3]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 27 - 28]. وقال تعالى: {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [فصلت: 1 - 4]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 41 - 44]. وقال تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ _________ (1) كذا في النسخة، وفي المسودة: "بين ظهرانيهم".

(4/17)


الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 1 - 4]. وإنما أتيتُ بهذه الآيات كلها هنا لما فيها من تعظيم شأن القرآن وتفخيمه، لأن ذلك هو المقصود بالذات. [ص 9] وأمر سبحانه وتعالى بكثرةِ تلاوته وتدبُّرِ آياته، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]. وقال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58]، وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17، 22، 32، 40]. ولا ريبَ أن الله تعالى لم ينزل القرآن لمجرد التلاوة، وإنما أنزله هدًى للناس. ومَن حفظ القرآن ولم يتدبَّر معانيَه صدقَ عليه قولُه تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5]. ومَن عَلِمَه ولم يعملْ به صدقَ عليه قولُه تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 175 - 177].

(4/18)


[ص 10] وأيَّد الله تعالى نبيَّه بالحكمة ليبيِّن للناس ما أُنزِل إليهم. قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية ما لفظه (1): "والرسول أنزل الله عليه الكتاب والحكمة، كما ذكر ذلك في غير موضع، وقد علَّم أمتَّه الكتابَ والحكمة، كما قال تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 129]. وكان يذكر في بيته الكتاب والحكمة، وأمر أزواج نبيِّه بذكر ذلك، فقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]. فآيات الله هي القرآن، إذ كان نفس القرآن يدلُّ على أنه منزَّل من الله، فهو علامة ودلالة على مُنزلِه. والحكمة قال غير واحدٍ من السلف: هي السُّنَّة، وقال أيضًا طائفة كمالك وغيره: هي معرفة الدين والعمل به (2)، وقيل غير ذلك، وكلُّ ذلك حقٌّ، فهي تتضمَّنُ التمييزَ بين المأمور والمحظور، والحق والباطل، وتعليمَ الحقّ دون الباطل، وهذه السنة التي فُرِّق بها بين الحق والباطل، وبيَّنت الأعمال الحسنةَ من القبيحة، والخيرَ من الشرّ" إلخ. وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64]. وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]. وقال تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ _________ (1) في "معارج الوصول" ضمن "مجموع الفتاوى" (19/ 175). (2) انظر "تفسير الطبري" (2/ 576) وابن كثير (1/ 645).

(4/19)


عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16 - 19]. ودلَّ الكتاب على أن جميع ما أتَى عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حقٌّ يجب اتباعُه، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]. وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]. وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. ولما كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين ورسولَ الله إلى الناس أجمعين، والكتاب الذي أُنزِل عليه خاتمَ الكتب، ودينُه الدينَ الذي لا يرضى الله تعالى غيرَه= دلَّ ذلك دلالةً قطعية أن كلَّ من جاء بعده إلى يوم القيامة مكلَّفٌ باتباعه. ومما يدلُّ عليه قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 19]. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 2 - 4]. بل في القرآن ما يكاد يكون خاصًّا بالقرون الأخيرة، وهو قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)}، ثم

(4/20)


أعقَبها سبحانه وتعالى ببشارة عظيمة، وهي قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد: 16، 17]. [ص 11] ثم إن بقاء التكليف باتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والعملَ بالكتاب والسنة إلى يوم القيامة، لما كان متوقفًا على بقاء الكتاب والسنة واللسان الذي وردا به، تكفَّل الله سبحانه وتعالى بذلك. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وقال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 17 - 19] ولا مانع من بقاء الجمع والبيان في هذه الآية على العموم. ودخلَ في هذا التكفُّلِ السُّنَّةُ واللغةُ؛ لأنهما لازمانِ للحفظ والبيان، لأن المقصود بالحفظ والبيان هو قيام الحجة، ولا تقوم الحجة على مَن بلغه القرآنُ وهو لا يَعرِف منه شيئًا، ولا يتمكن من أن يعرف منه شيئًا. والمعرفةُ إنما تكون بمعرفة اللغة والسنة، فعُلِمَ أن مِن لازمِ التكفُّلِ بحفظِ القرآن وبيانه حِفْظَهما، ولا ريبَ أن الواقع كذلك ولله الحمدُ. أما حفظ القرآن فمعلوم، وهو المعجزة العظمى الدالة على صدق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهي المعجزة التي لا تزال محفوظةً بحفظِه، وذلك أبلغُ في إقامة الحجة. وأما حفظ السُّنَّة، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سمعوا منه وبلَّغوا مَن بعدَهم. ثم هيَّأ الله تعالى من اختاره من عباده لحفظها وجمعها وضبطها ونقدِ رواتها إلى غير ذلك، وها هي الآن بين أيدينا مبينةً ولله الحمد.

(4/21)


وأما اللغة فقد كانت في القرن الأول لغةَ العرب عامةً، لا يحتاجون إلى تعلُّم شيء منها، وإنما نزل الكتاب وبُعِث الرسول بلُغتهم التي يَعرِفها صغيرهم وكبيرهم. فلما اختلطتْ بهم الأعاجم، وأوشكت اللغةُ أن تنهدم هيَّأ الله تعالى قومًا قاموا بحفظها وجمعها وضبطها وتدوينها، فاشتغل كل فريقٍ منهم بنوع منها، اعتنَوا به أحسنَ اعتناء، وذلك علم المفردات الذي خُصَّ باسم علم اللغة، وعلم الوضع، وعلم التصريف، وعلم النحو، وعلوم البلاغة، وعلم أصول الفقه، وغيرها. وها هي بين أيدينا ولله الحمد. وبحفظ الكتاب والسنة واللسان حصلَ حفظُ الدين، وقامت الحجة على العالمين، فإن الكتاب والسنة هما الأصلان اللذان ترجع إليهما الأحكام، إذ الإجماع والقياس ــ على عِلّاتهما ــ راجعانِ إليهما، إذ لابدَّ للأول من مستنَدٍ منهما، وللثاني من أصلٍ لذلك، مع أن الإجماعات التي قد اتفقت محفوظة بنقل العلماء، كما أنهم بينوا طرقَ القياس ووجوهَه، وإن كان حفظ الكتاب والسنة مُغنِيًا عن ذلك. * * * *

(4/22)


فصل (1) إنما يثبت الدليلُ إذا ثبتَ متنُه: إما قطعًا (2) كالقرآن ومتواتر السُّنَّة، وإما ظنًّا (3) كالصحيح والحسن من السُّنَّة. وإنما يثبتُ به الحكمُ إذا دلَّ عليه: إما قطعًا بأن لا يحتمل غيرَه، وإما ظنًّا بأن يحتمل غيرَه ولكن احتمالًا مرجوحًا. ويتحصلُ من هذا أن الأحكام على قسمين: قطعي كمدلول قطعيّ المتن قطعيّ الدلالة، وظني كمدلول ظنِّيهما أو ظنيِّ أحدهما وقطعيِّ الآخر إذا لم يتأيَّد بما يُبلِّغه درجةَ القطع، ولم يخالف بما يُبطِله أو يُضعِفه، فإن الأدلة فيها المنسوخ والناسخ، والمجمل والمبيَّن، والعام والمخصّص، والمطلق والمقيد، وغير ذلك مما محلُّ تفصيله أصول الفقه. * * * * _________ (1) كتب الشيخ هذا الفصل في المسودة كما يلي: (والدليل من حيث لفظه قطعي أو ظني، ومحتمل ومردود، وكلٌّ منها إما في المتن وإما في الدلالة. فقطعي المتن هو الكتاب وما تواتر من السنة، وقطعي الدلالة هو ما دلَّ على معنى لا يحتمل غيره. وظنّي المتن هو ما لم يتواتر لفظه من السنة وكان صحيحًا أو حسنًا، وظنّي الدلالة هو ما كان ظاهرًا في الدلالة على معنى ومحتملًا لغيره احتمالًا مرجوحًا. والمحتمل في المتن هو الحديث الضعيف، وفي الدلالة هو ما قابل الراجح في ظنّيها. والمردود في المتن هو الحديث الموضوع، وفي الدلالة ما لا يحتمل). (2) كذا في الأصل. وفي المسوَّدة: "إما ثبوتًا قطعيًّا". (3) في المسوّدة: "وإما بغلبة الظن".

(4/23)


[ص 12] فصل إن قال قائل: وجوب العمل بالثابت ثبوتًا قطعيًا مسلَّمٌ، وأما الظني فلا، كيف وقد ذمَّ الله تعالى في كتابه الظنَّ في عدة آيات، منها قوله تعالى في الأنعام: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) وقال تعالى فيها أيضًا: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) وقال تعالى في سورة يونس: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [36]، وقال تعالى فيها أيضًا: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) وقال تعالى في الجاثية: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وقال تعالى في النجم: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) وقال تعالى فيها: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)}.

(4/24)


وقبل الشروع في الجواب نُبيِّن حقيقة الظن، فنقول: لا يخفى أن حكم الذهن ينقسم إلى جازمٍ وغيره، فالجازم هو العلم والاعتقاد، وغيرُ الجازم إما أن يترجح أحد الطرفين: فالراجح الظنُّ، والمرجوح الوهمُ، وإما أن يتساويا وهو الشكُّ. وقد يُطلق العلم على الظن مجازًا، والعلاقةُ المجاوَرةُ في الذهن، كما يُطلق الظنُّ على العلم، كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46]، وعلى الشكّ، وعلى الوهم. [ص 13] ثم اعلم أن الظنّ الذي يُعتبر حجةً شرعيةً هو حكم الذهن الراجح، وله شروط: منها: أن لا يعارضه دليلٌ آخر يُبطِله أو يُضعِفه، إذا كان هذا المعارض ظاهرًا في نفسه، بحيث يُعَدُّ الشخصُ مقصِّرًا في عدم التنبُّه له والبحث عنه. ومنها: أن يكون عن دليل. فلو فُرِض أن شخصًا وقعَ في ذهنه ترجيحُ حكم من غير أن يستند إلى دليلٍ لم يكن حجةً، وشرطُ الدليل أن يكون مما يُحصِّل مثلُه الظنَّ، فلو وقع في ذهن أحدٍ ترجيحُ حكمٍ لحديث ضعيف لم يكن حجةً. ومن الدليل الضعيف: التقليد، قال تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78]. قيل: ومنها ــ أي الشروط ــ: أن يكون في غير أصول الدين، فلا يكفي فيها إلّا القطعُ. إلى غير ذلك. إذا تقرر هذا فالجواب عن الآيات السابقة بطريقين: إجمالي وتفصيلي. أما الإجمالي فنقول: إن (الظنّ) قد يُستعمل لمجرد الوهم، كما في

(4/25)


قوله تعالى في الحجرات: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [12]، وفي الحديث: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث" (1). وعليه فتلك الظنون التي نعاها الله تعالى جلُّها أو كلُّها مجردُ أوهامٍ ضعيفة يبعدُ أن تكون راجحةً في ذهنِ عاقلٍ، ولذلك فسَّرها الله تعالى في الآية الأولى والثانية والرابعة بالخرص، والخرص يُطلق على الكذب وعلى الحَزْر والتخمين. وقال في الآية السادسة: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]، فعطْفُ الهوى على الظنّ يدلُّ أن المراد به مجرد وهمٍ وخيالٍ وسوسَ لهم به الشيطانُ، وقلَّدوا آباءهم فيه، وشقَّ عليهم مخالفةُ آبائهم، وتكبَّروا عن الرجوع إلى الحق بعد أن كذَّبوه، إلى غير ذلك. ويُبيِّنه قوله بعد ذلك: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}، وذلك أن الذي جاءهم من ربهم هو بيان الحجج القواطع والبراهين الجلية التي تُبطِل ذلك الظنَّ، وقد بُيِّنتْ لهم أوضحَ بيانٍ حتى فهموها وعرفوها، فلم يبقَ مجالٌ لأن تكون أذهانُهم مرجِّحةً لما يخالفها، إذ لا يتصور أن يجتمع العلم والظنّ بشيء واحد في ذهن واحد باعتبارٍ واحد، فتعيَّن أن يكون المراد بالظنّ في الآية مجردَ الوهم الفاسد. ونحو هذا يقال في بقية الآيات، فإن الكون مشحونٌ بالأدلة والبراهين من آيات الآفاق والأنفس، ومن بيان الرسل والكتب، فإن فُرِض أن بعض الأشخاص قصَّر عن البحث والتنبُّهِ لتلك البراهين ولم ينبَّه عليها، فإن الظنّ حينئذٍ يكون على بابه، لأنه يصدُق عليه بالنظر إلى ذلك الشخص أنه حكمُ _________ (1) أخرجه البخاري (6064) ومسلم (2563) من حديث أبي هريرة.

(4/26)


الذهنِ الراجح، ولكن يكون باطلًا لمعارضته للقواطع التي قصَّر الشخص عن البحث عنها، مع كونه في أصول الدين التي لا يفيد فيها الظنُّ، على ما مرَّ. وتفصيلًا بأن يقال: أما الآية الأولى ــ وهي قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ} ــ فإنه من المشاهَد أن أكثر الديانات التي على وجه الأرض ما عدا الإسلام كلّها مبنيةٌ على أوهام وخرافات لا يُتصوَّر أن تترجَّح في ذهن عاقل، ولذلك فسَّره تعالى بالخرص. وأما الآية الثانية ــ وهي قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} ــ فالقوم حاولوا أن يغالطوا بذلك مدَّعين أن الله تعالى راضٍ باتخاذهم شفعاءَ، يشفعون لهم إليه، ويُقرِّبونهم إليه زُلفى، كما حكى تعالى عنهم في الآية الأخرى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28]، وهذه دعوى باطلة، لقيام القواطع على إبطالها، وكفَى بدعوة الرسول المؤيَّد بالمعجزات. ولذلك قال تعالى: {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ}. [ص 14] ويُوضِّح ذلك أن الله تعالى حكى عنهم في سورة الزخرف قولهم، كما أخبر في هذه الآية أنهم سيقولونه، فقال: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ}، قال تعالى: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا

(4/27)


عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)}. فالقوم لما قامت عليهم الحجة والبراهين المبطلة لدعواهم تعلَّقوا بآخرِ سهم مما كانوا يلجأون إليه، وهو قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا ... } إلخ. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 23 - 24] أي أتتمسَّكون بعادة آبائكم ولو جئتكم بأهدى منه؟ أي بما هو الهدى الحقيقي، فإن ما كان عليه آباؤهم لم يكن له حظٌّ من الهدى، وإنما ورد على سبيل التنزل لإلزام الحجة، إشارةً إلى أنه لو فُرض أن آباءهم كانوا على هدى، ولكن جاء بعد ذلك ما هو أهدى، لزمَهم اتباعُه، فكيف وآباؤهم على ضلال مبين؟ ! كما قال تعالى في البقرة: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وفي المائدة: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) وفي لقمان: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)}. وقد قامت الدلائل القاطعة على ضلال آبائهم وهُدَى ما جاءهم به الرسول، فلما فلتَتْ من أيديهم كلُّ شبهة، ولم يبقَ لهم أدنى شيء يتعلقون به، رجعوا إلى العناد المحض، كما حكى تعالى عنهم بقوله: {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}، ولذلك أعقبها تعالى بقوله: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزخرف: 24 - 25]. وأما الآية الثالثة ــ وهي قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} ــ فهي في المشركين أيضًا، وذلك أنهم عارفون مقرُّون أن الله تعالى هو الذي يرزق من السماء والأرض، ويملك السمع والأبصار،

(4/28)


ويُخرِج الحيَّ من الميت ويُخرِج الميت من الحي، ويُدبِّر الأمر، إلى غير ذلك مما تضمنته الآيات قبلها. فهم مع اعترافهم بذلك وغيره يزعمون أن الله تعالى راضٍ لهم بأن يتخذوا أوثانهم شفعاء، يشفعون لهم إليه، ويُقرِّبُونهم إليه زلفى، وهي دعوى باطلة وخيال فاسد، فإذا صدمَتْهم الحجة فرُّوا إلى التقليد، كما مرَّ بيانه، ونحوه الآية الرابعة (1). وأما الآية الخامسة (2) ــ وهي قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} الآية ــ فإن آيات الآفاق والأنفس وبيان الرسل المؤيَّدين بالمعجزات مُبطِلة لما قالوه، بحيث لا يبقى مجالٌ لأن تُرجِّحه أذهانهم. وأما الآية السادسة ــ وهي قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) ... } الآيات ــ فالأمر فيها واضح، فإن قولهم: إن تلك الأوثان بنات الله ــ تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا ــ من أبطل الباطل وأمحل المحال، وإنما كان القوم متهوِّرين متهوِّسين لا يبالون بما قالوا، فكلُّ ما نفثَه الشيطان في نفوسهم تبعوه بلا حياء ولا خجل، نعوذ بالله من الخذلان. هذا مع أن الرسول المؤيَّد بالمعجزات بين أظهُرِهم، والبراهين قائمة، فلا يشك أحدٌ أن الظنّ في هذه الآية هو مجرد الوهم الفاسد، بل الخرص الكاذب، بل البهتان العظيم. وأما الآية السابعة ــ وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) ... } ــ فالأمر فيها أيضًا واضح؛ لأن الملائكة عليهم السلام غيب عن كل أحد، فلم يكن هناك سبيل إلى ترجيح أنوثتهم، بل _________ (1) في الأصل: "الثالثة". ولعل الصواب ما أثبتناه، فإنه لم يتكلم على الآية الرابعة. (2) في الأصل: "الرابعة"، وهي الخامسة في ترتيب الآيات التي سبق ذكرها.

(4/29)


العكس أقرب، لأن المشركين كانوا يعلمون أن الذكر أشرف من الأنثى، ويُقرون بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المدبِّر للأمر، إلى غير ذلك، فكان اللائق بأذهانهم ترجيحُ ذكورةِ الملائكة، ولذلك وبَّخَهم الله تعالى في سورة الزخرف بقوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} الآيات [الزخرف: 17 - 19]. [ص 15] فإن قيل: بقي عليك قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}، فإنها جملة مستقلة مُبطِلةٌ لمطلق الظن. فالجواب أن يقال: هي وإن كانت جملة مستقلة، فهي مَسُوقة لإبطال ظنهم الذي هو مجرد الوهم والتخرُّص والتقليد، فتعيَّن حملُ الظنّ فيها على ذلك لتحصُلَ المطابقة، وقد عُلِم مما سبقَ أن ظنهم إنما كان مجردَ وهَم باطل، وهذا واضح ولاسيَّما في آية النجم. ومع هذا كله فلو فُرِض أن في هذه الآيات أو غيرها دليلًا على عدم حجية الظن الذي هو حكم الذهن الراجح، فغاية ما هناك أن يكون دليلًا عامًّا في ذلك قابلًا للتخصيص، وحينئذٍ فيكون مخصَّصًا بالأدلة الموجبة العملَ بالظن بشرطه، وهي كثيرة. أولها: أن يقال: إن أدلة الأحكام أكثرها ظنية، كما يعلمه من كانت له أدنى مُسْكةٍ، فلو لم يتعيَّن العمل بالظن بشرطه لكانت أكثر الأحكام مهملةً أو مجملة، أي أن ما لم يثبت متنُ دليله ثبوتًا قطعيًا يبقى مهملًا، وما ثبت متنُ دليله ثبوتًا قطعيًا ولم يدلَّ دلالة قطعية يبقى مجملًا. وهذا باطلٌ لما لا يُحصَى من الأدلة:

(4/30)


أولًا: لما فيه من تأخُّر البيان عن وقت الحاجة مع عموم التكليف، وهو سبحانه وتعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، و {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]. وثانيًا: لقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، أي مما يحتاج إليه الناس في أمر الشريعة ويسألون عنه، بدليل قوله تعالى قبلها: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ} [النحل: 89]. فهذه الآية دلَّت على عدم الإهمال والإجمال. ومما بيَّنه القرآن وجوب طاعة الرسول واتباعه، فكمل واتضح البيان بالكتاب العزيز وبسنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك أنزل تعالى قُبيلَ وفاة رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فدلت هذه الآية على الإكمال الذي هو عدم الإهمال والإجمال، وعلى إتمام النعمة الذي من جملته ذلك، وكلاهما متوقف على كون العمل بالظن بشرطه حجةً. ومن أدلة العمل بالظن قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: 55]، وقال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17 - 18]. إن اللفظ إذا احتمل معنيين، ولكنه ظاهر راجح في أحدهما، فلا شك أن الظاهر الراجح أحسن من الخفي المرجوح. ومن الظني خبر الواحد، وقد دلَّ القرآن على قبوله، قال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ

(4/31)


آمَنُوا إِنْ (1) جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، ومفهومه أن خبر العدل يُعمل به مطلقًا. وقد تواتر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يُرسِل الآحادَ إلى الملوك والجهات والقبائل، ويكتفي بذلك في إقامة الحجة وتبليغ الأحكام. كما أجمع الصحابة على الاحتجاج باللفظ في المعنى الراجح منه. والأدلة في هذا كثيرة، نعم ما خصَّصه الدليل فله حكمه، كاشتراط أربعة شهود على الزنا، وغير ذلك. * * * * _________ (1) في الأصل: "إذا" سبق قلم.

(4/32)


[فصل] (1) الحمد لله، إن الله سبحانه وتعالى لما خلق آدم أخرج له ذريته، وركَّب فيهم العقول، ثم أخذ عليهم الميثاق، ثم أبرزهم إلى الدنيا على الفطرة وهي الإسلام، أي أن الله سبحانه وتعالى جعل في فطرته معرفتَه والإقرار به ومحبته والخضوع له، كما حققه ابن القيم في "شفاء العليل" (2)، قال: وإن ذلك موجب فطرتهم ومقتضاها، يجب حصوله فيها، وإن لم يحصل ما يُعارضه ويقتضي حصول ضدّه، وأن حصول ذلك فيها لا يقف على وجود شرط، بل على انتفاء المانع، فإذا لم يوجد فهو لوجود مُنافيه، لا لعدم مقتضيه ... إلخ. وأمدَّهم سبحانه وتعالى بآلات تُوصِلهم إلى المطلوب منهم من السمع والأبصار والأفئدة، وغير ذلك من الحواس الظاهرة والباطنة، ثم جعل جميع مخلوقاته المحسوسة لهم في الآفاق والأنفس آياتٍ دالةً على وجوده وقدرته وإرادته وعلمه وكماله، وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. ثم أرسل إلى كل قوم رسولًا بلسانهم، وأيَّده بمعجزات تُوجب اليقين بصدقه، يُذكِّرهم ذلك الميثاق وتلك الفطرة، ويرشدهم. وشرع لهم على لسانه شريعة عادلة قويمة موافقة للفِطَر السليمة والعقول المستقيمة، وداعية إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة. ثم ختم هؤلاء الأنبياء بمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، أرسله إلى الخلق كافّةً، وفي _________ (1) هذا الفصل موجود في المسودة، ولا يوجد في نسخة الأصل. (2) سبقت الإحالة إليه (ص 9).

(4/33)


مقدمتهم قومه الذين بُعِث من أنفسهم وبلسانهم، وأنزل عليه الكتاب الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. وأمدَّه مع ذلك بالسنة بيانًا للقرآن وإيضاحًا له، واختار له أصحابًا أُمناء هُدَاةً أبرارًا، حفظ الله بهم كتابه وسنة نبيّه. فكان هو - صلى الله عليه وآله وسلم - يتلقّى الأحكام عن ربه بواسطة الوحي، فإذا نزلت النازلة وكان عنده وحيٌ سابقٌ من القرآن أو من غيره ظاهرٌ في حكمها قال به، وإلا فإن رأى مجالًا للاجتهاد اجتهد، واجتهاده حقٌّ لعصمته، فإن فُرِض وقوعُ شِبْه خطأٍ منه نُبِّه عليه فورًا، ولا يُقَرُّ إلا على الحق، وإلّا انتظر الوحي. وأما أصحابه فكانوا في حياته - صلى الله عليه وآله وسلم - يتلقَّون عنه كتاب الله تعالى، ويتعلمون سنته مباشرةً أو بواسطة، فإذا نزلت بأحدهم نازلة فإن كان عنده شيء من القرآن أو السنة ظاهر في الدلالة عليها عمل به، وإلَّا فإن كان حاضرًا سأل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مباشرةً أو بواسطة، وإلّا فإن رأى مجالًا للاجتهاد اجتهد، وإلّا توقف، كما يدل عليه قصة معاذ حين أرسله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى اليمن. وأما الأعراب ونحوهم كأهل اليمن ممن أسلم ولم يصحب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فكانوا يكتفون بمن يصل إليهم من الصحابة يستفتونه عما ينزل بهم، فيذكر لهم الآية من كتاب الله أو الخبر عن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما يتعلق بقضيتهم. وكان أحدهم يعمل ويفتي ويقضي بالآية أو الخبر مع بُعدِه عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - واحتمال أنه قد تجدد ما يخالفه، حتى إذا بلغهم ذلك انتقلوا إليه، كما فعل أهل مسجد قباء عندما أُخبِروا بتحوُّل القبلة. فلما تمَّ نزول القرآن وبيانه من السنة بما يكفي الأمَّة الكفايةَ التامة في جميع ما يَعرِض لها وينزِل بها إلى يوم القيامة آذنَهم الله تعالى بذلك بقوله

(4/34)


جلّ ذكره: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. ثم توفي رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - وكان أصحابه رضي الله عنهم إذا نزلت بأحدهم النازلة فإن كان عنده فيها شيء من الكتاب أو السنة واضح الدلالة قال به، وإلّا سأل من تيسَّر من بقية الصحابة، فإن وجد عند أحدهم ذلك قال به، وإلّا اجتهدوا في ذلك وعملوا بما ترجَّح لهم، وقد يتفق اجتهادهم وقد يختلف بحسب اختلاف الأنظار. وقد يعمل أحدهم بما يظهر له زمانًا ثم يبلغه أو يتبيَّن له ما يخالف ذلك فيرجع إليه. وكان صغار الصحابة والتابعون على قسمين: منهم مَن تكلَّم وتلقَّى كثيرًا من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فإذا نزلت به نازلة نظر فيما عنده من الكتاب والسنة، فإن رأى فيه دليلًا في نازلته عمل به، وإلّا سأل من وجده من كبار الصحابة وغيرهم، فإن وجد فذاك، وإلا اجتهد. [ومنهم] من لم يتفق له ذلك، كالأعراب ونحوهم، فكان شأن هؤلاء إذا نزلت بأحدهم النازلةُ ذهب إلى من يجده من علماء الصحابة والتابعين، فذكر له نازلته، فيذكر له المسؤول آية من كتاب الله تعالى أو حديثًا عن رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - يبيّن الحكم في نازلته، فيذهب السائل فيعمل بذلك ويرويه لغيره. وكان التابعون وتابعوهم غالبًا على العربية الخالصة، حاصلةً لهم مقاصدُ جميع العلوم المتعلقة بها من لغة ونحو وتصريف ومعانٍ وبيان، بل غالب مقاصد علم أصول الفقه، فكان الأعرابي إذا سأل العالمَ، فتلا عليه آية

(4/35)


من كتاب الله تعالى، أو روى له حديثًا عن رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - = فهم المراد منه غالبًا. وإلّا كأن كان أعرابيًّا بَحْتًا، وفي الآية أو الحديث ألفاظ خصَّها الشارع بمعانٍ شرعية، أو كان أعجميًّا لا يعرف [لغة] العرب، فإنه يستفسر المفتي عن معنى الآية أو الحديث، فيفسِّره له، إمّا بأن يخبره أن هذا اللفظ خصَّه الشارع لهذا المعنى، ويروي له في ذلك ما يدلُّ على ما قاله، وإما أن يخبره أن معناه في لغة العرب كذا بطريق الترجمة. والمفتي في جميع ذلك راوٍ لا غير. ومن هذا يظهر لك أن عوامَّ ذلك القرن كانوا في حكم المجتهدين، إلّا أن الإنسان كان يعمل بما أُفتي به، أو أخبره غيره أنه أُفتي به مع رواية الدليل، بدون أن يكتب معه جميع كتاب الله تعالى ولا الكثير من السنة، ولا يعلم الناسخ والمنسوخ، فكان يكتفي أحدهم بإخبار العالم أن هذا الدليل لا يعلم له ناسخًا ولا معارضًا، ولا مخصِّصًا ولا مقيِّدًا، ولا يشترط أن يكون الخبر بذلك لفظًا، بل يكفي فيه عدم ذكر المفتي لشيء من ذلك. وحينئذٍ فهل يقال: إن المستفتي بالنسبة إلى هذه الأمور مقلِّد أُبيح له التقليد للضرورة أو لا؟ الظاهر الثاني، ويكون قول المجتهد له ذلك بمنزلة بحثه ومراجعته، فإن ذلك أقصى جهده، ولكنه لا يجوز له الاستناد إلى مجرد قول آخر في دليل: إنه لا يعلم، بل يجب عليه البحث لقدرته. بل كان أحدهم إذا بلغه ولو بغير إفتاءٍ دليلٌ يدلُّ على حكم لم يتوقف عن العمل به، ولا يخلو أن يجيبه العالم بدليل يمكن أن يفهمه أو لا، وعلى الأول فإن قال له العالم: ولا أعلم ما يخالف هذا الدليل= فقد مرَّ حكمه، وإلّا فكما لو بلغه الدليل من غير مفتٍ، وقد مرَّ حكمه أيضًا. وعلى الثاني

(4/36)


فإنه يجزئه قول العالم: هذه الأدلة تفيد هذا الحكم، ولا أعلم ما يخالف ذلك. وهل قبول العاميّ لذلك تقليد أُبيح للضروة أو لا؟ الظاهر الثاني، ويكون قول العالم "هذه الأدلة تفيد هذا الحكم" كافيًا في حقّه، لأنه في معنى الرواية بالمعنى. وقوله: "ولا أعلم ما يخالف ذلك" بعد البحث بمنزلة بحثه ومراجعته، لأن ذلك جهد استطاعته. والحاصل أن العالم في تلك العصور كان يعمل ويقضي ويفتي ويروي ما بلغه ما لم يطلع على ما يخالفه، وكذلك العامي، والعالم كان يجتهد له ولغيره، بأن يراجع مظانّ الأدلة في صدور الرجال أو الكتب، ويدقّق النظر، فإن وجد دليلًا ظاهرًا لا يعلم له مخالفًا قال به، وإلّا اجتهد، بمثابة وجود العالم له. وكذلك العامي، فإن سؤاله للعالم عن حكم قضية لنفسه أو لغيره هو كمراجعة العالم للماهر، وذكْرِ العالم له الدليلَ الذي لا يعلم له مخالفًا. والعالم يراجع علماء اللغة فيما خفي عليه، فكذلك العامي في استفهامه للعالم. وكما قيل في العالم عند التعارض وعدم الترجيح قيل في العامي عند تعارض المفتين، وكما أن العالم إذا لم يؤدِّه اجتهاده إلى ترجيح شيء توقّف، فعلى نحو ذلك العامي. وقد كان هذا يقع من الصحابة في حياته - صلى الله عليه وآله وسلم - ومع القرب منه، ولم ينكره ولا قال: إذا فهمتم فهمًا في كتاب الله تعالى أو بلغكم عني حديث فلا تعملوا به حتى تراجعوني، بل قد بقي بعضهم يعمل بما نُسِخ بقيةَ حياة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وبعد وفاته، حتى بلغه الناسخ بعد ذلك، وربما مات قبل أن يبلغه. ثم كان صغار التابعين مع كبارهم على هذا النحو، يجيء العامي فيسأل من لقيه من العلماء عن مسألة، فيتلو عليه الآية أو يروي له الحديث ويُفهِمه

(4/37)


معناه إن لم يفهمه، فيذهب فيعمل به، ويرويه لغيره فيعمل به ذلك الغير بدون توقف، وهكذا. مع أن العوامّ حٍ (1) قد ضعُفتْ عربيتهم، بل الكثير منهم من الموالي الأعاجم، فقد صاروا قريبًا من عامة زماننا في انتفاء جميع شروط الاجتهاد. ثم تابِعو التابعين ثم تابعوهم على هذا المنوال، فكان العامي يجيء إلى العالم كأحد الأئمة الأربعة، فيسأله عن مسألة، فيذكر له آية أو يروي له حديثًا بما يدل على الحكم في مسألته، ولا يزيده على ذلك، فيذهب السائل فيعمل بذلك ويرويه لغيره، وهكذا على نحو ما مرَّ. وفصل الخطاب فيما ذُكر أن أهل تلك القرون على قسمين: عامي وعالم، والنوازل قسمان: متعلق بالنفس ومتعلق بالغير، والأحكام على وجهين: ما وُجد فيه دليل ظاهر وغيره. فالصور ثماني: (1 - 2) عالم ونازلة تتعلق به، ووجد لها دليلًا ظاهرًا، أو لا. (3 - 4) أو تتعلق بغيره، ووجد لها دليلًا ظاهرًا، أو لا. (5 - 6) عامي ونازلة تتعلق به، ووجد لها دليلًا ظاهرًا، أو لا. (7 - 8) أو تتعلق بغيره، ووجد لها دليلًا ظاهرًا، أو لا. فالأولى حكمها ظاهر، بأن يعمل بما دل عليه الأصل. وكذلك الثالثة، فيقضي بمقتضى ذلك الدليل أو يذكره للمستفتي، ويُفهِمه إن احتاج، فيعمل به. _________ (1) أي: حينئذ.

(4/38)


وقريب من هذا الخامسة والسابعة. كان العامي في تلك العصور يعمل بما يبين له فهمه من الأدلة بدون توقف، ويرويه لغيره فيعمل به ذلك الغير بدون توقف. وأما الصورة الثانية فكان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على ما سبق من التفصيل إن رأى مجالًا للاجتهاد اجتهد، وإلَّا انتظر الوحي، لأن الأدلة لم تكن قد أكملت. وأما أصحابه القريبون منه فيردُّون الأمر إليه، فيخبرهم أو يجتهد لهم أو ينتظر الوحي. وأما غيرهم فإن كانت النازلة تستدعي بيان الحكم حالًا تعين الاجتهاد، وإلّا فلا. وذلك لمن كان من الصحابة بعيدًا عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أو بعد وفاته، أو من علماء التابعين، وهكذا. فإن أداه اجتهاده إلى شيء فيها وإلَّا توقَّف. وأما الصورة الرابعة فقد مضى بيانها في حق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأما أصحابه فمن كان قريبًا منه - صلى الله عليه وآله وسلم - أحال الأمر إليه، وأما غيرهم فإما أن لا يوجد في الجهة عالم غيره أو يوجد، وعلى كلٍّ إما أن تكون تلك النازلة تحتاج إلى البيان حالًا أو لا، فإن لم يوجد في الجهة غيره كمعاذ حين بعثه إلى اليمن وكانت النازلة تحتاج إلى البيان حالًا تعيَّن الاجتهاد، وإلّا فلا، بل هو جائز، ومن اجتهد فلم يظهر له شيء توقَّف. وأما السادسة فإن كانت النازلة تستدعي بيان حكمها حالًا تعيَّن عليه استفتاء عالمٍ، وإلَّا فلا. وأما الثامنة فلا يلزمه شيء مطلقًا، غير أنه لا يمتنع أن يستفتي عالمًا ثم يروي لصاحبه.

(4/39)


فصل [ص 16] قد تبيَّن من هذه المقدمة قيام حجة الله تعالى على كلِّ إنسان، أولًا من حيث الخِلقة، وثانيًا من حيث الفطرة، وثالثًا من حيث الدعوة. وتَبيَّن لك أيضًا قيامها علينا كقيامها على أهل القرن الأول؛ لأن الكتاب والسنة محفوظان بين أيدينا، والمعجزة قائمة، واللغة معروفة. [أما القرآن فبالتواتر القطعي، وأما السنة فبالنقل الذي تقوم به الحجة، وكذلك ما يتوقف فهم الكتاب والسنة عليه من علوم اللغة فإنها مدوّنة] (1). وقد ضرب الله تعالى في القرآن من كل مثل، وضمَّنه أكملَ الهدى، ولاسيما في الدعوة إلى توحيده ومعرفته وإخلاص العبادة له، وأرشدَ فيه إلى التفكر في آيات الآفاق والأنفس، وهذا هو متعلَّق الاعتقاد، وبه تتعلق المسألة الثالثة، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى. وقد جاء فيه وفي السُّنَّة تفصيلُ أحكام الشريعة المتكفلة بمصالح العباد إلى يوم القيامة، بحيث لا يحتاجون إلى إحداثِ شيء، فمهما أحدثوه في الدين مما لا يوافق الكتاب والسنة فهو بدعةُ ضلالةٍ، مخالِفةٌ للمصلحة في الحقيقة. وهذا متعلَّق المسألة الثانية، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى. ولما كان معرفة الدليل من الكتاب والسنة متوقِّفًا على العلم بهما، لجواز أن يكون له ناسخ أو معارِض أو مخصِّص أو مقيِّد أو مبيِّن أو صارفٌ عن ظاهره، وعلى معرفة علوم اللغة، إذ لا يحصُلُ الوثوق بالفهم إلّا بعد معرفتها كما لا يخفى= وجبَ أحدُ أمرين: _________ (1) ما بين المعكوفتين من المسوّدة.

(4/40)


الأول: أن تكون معرفةُ ذلك فرضَ عينٍ على كلِّ مكلَّفٍ، لأن ما لا يتمُّ الواجب إلّا به فهو واجب. الثاني: أن تكون فرضَ كفاية، وعليه فما هو فرضُ القاصرِ؟ أتقليدُ أحد المجتهدين أم غيرُه؟ ومن هنا ينشأ الكلام على المسألة الأولى، وهي الاجتهاد والتقليد. وقد آنَ الشروعُ فيها، وبالله تعالى نستعين. وطريقتي في بيان هذه المسائل ذِكْرُ حججِ الفريقين غالبًا، قائلًا في المسألة الأولى: "قال المقلِّدون"، "قال المانعون"، وفي ما بعدَها: "قال المجيزون"، "قال المانعون"، كما ستراه إن شاء الله تعالى. ليطلع القارئ على ما أدلى به الفريقان، فيتيسَّر له الحكم بينهما، إلى غير ذلك من الفوائد. والأحاديث التي أذكرها فيها على ثلاثة أقسام: الأول: المنصوص على صحتها. الثاني: ورد على سبيل الشرح لبعض الأدلة الصحيحة، لكونه أقربَ إلى الفهم منها، وقد لا يكون متنُه معلومَ الصحة. الثالث: ما أحكيه عن استدلال بعض الناس به، وأبيِّن حكمه إن شاء الله تعالى.

(4/41)


المسألة الأولى الاجتهاد والتقليد * فصل: سؤال المجتهد * فصل (في منع التقليد) * فصل (نهي الأئمة عن التقليد) * فصل (مناقشة مع المقلدين) * فصل (الجواب عن اعتراضات المقلدين) * فصل (باب العمل بالدليل مفتوح بالاتفاق)

(4/43)


المسألة الأولى [ص 54] الاجتهاد والتقليد اعلم أن تحصيل العلم مراتب: أولاها: تحصيل علوم اللسان العربي، وهذا على درجتين: الأولى: ما هو فرض عين، قال الإمام الشافعي (1): "يجب على كل مسلمٍ أن يتعلَّم من لسان العرب ما يبلغه جهده في أداء فرضه". قال الماوردي (2): "ومعرفة لسان العرب فرض [على] كل مسلم من مجتهدٍ وغيره". وحدُّه أن يكون بحيث إذا تُلِيتْ عليه الآية من القرآن أو ذُكِر له الحديث من السُّنَّة، وفُسِّر له غريبُ الألفاظ، ونُبِّه على وجه الدلالة= فهِمَها. الدرجة الثانية: ما هو من فروض الكفاية، وهو أن تصير له في علوم اللسان ملكة قوية، بحيث يُوثَق بفهمه للكلام العربي من كتاب الله تعالى وسنة رسوله وكلام الأئمة، ويغلب على الظن إصابتُه ولو بمراجعة الكتب. فإذا بلغ ذلك تأهّل لتحصيل المرتبة الثانية: [وهي] العلم بأصول الفقه. وغالبُ مسائل أصول الفقه مبنية على اللغة، ومنها ما هو مبني على العقل، ومنها ما هو مبني على السمع. وينبغي في تحصيل ذلك أن ينظر في كل مسألةٍ النظرَ الذي يحصل به العلم المطلوب فيها. فإن كانت المسألة لغوية أو عقلية لم يحتج إلى شيء آخر، إذ هو عاقل _________ (1) "الرسالة" (ص 48). والمؤلف صادر عن "الحاوي" للماوردي (16/ 120) ط. دار الكتب العلمية. (2) المصدر السابق. ومنه الزيادة بين المعكوفتين.

(4/45)


وعالم باللسان. وأما ما كان منها مبنيًّا على السمع فلا يمكنه تحصيلُ العلم المطلوب فيها إلا بتحصيل المرتبة الثالثة، ولكنه ينبغي له النظر فيها بقدر جهده، ينظر الأدلة التي ذكرها العلماء فيها ما أمكنه من غيرها. ومن أصول الفقه علم مصطلح الحديث، فيجب تحصيله معه. فإذا أتقن ذلك بحيث يُوثَق باستنباطه، ويغلب على الظن عدمُ خطئه ولو بمراجعة الكتب، تأهَّل للمرتبة الثالثة: وهي العلم بكتاب الله تعالى وسنة رسولِه، بأن يُمارِس كتابَ الله تعالى بكثرة التلاوة والتدبر والتفكر، ويُمارِس كتب السنة بالقراءة وتأمّل المعاني وتعرُّف مواقع الأبواب، حتى يصير بحيث يغلب على الظن أنه إذا أمعن النظر في مسألة فتذكَّر كتاب الله تعالى وتصفَّح كتب السنة، لم يعزُب عنه ما فيها من الدلائل الظاهرة على مسألته، ولا يشتبه عليه ما يُحتَجُّ به من غيره، ولا الناسخ بالمنسوخ، ولا الراجح بالمرجوح، ولا ما يحتج به من الأحاديث بغيره. وإذا حصَّل ذلك فليبدأ بتكميل النظر في مسائل أصول الفقه التي تتوقف على السمع، حتى يستتبَّ له العلم بأصول الفقه، وهذا هو المجتهد. والحق أنه إذا حصَّلَ المرتبتين الأُولَيينِ تعيَّن عليه تحصيل الثالثة. ويكفيه من السنة أن تكون لديه كتبها المتداولة بين الناس، كالأمهات الست وغيرها من المسانيد والمجاميع، ولاسيَّما مع شروحها، فإن الشُّراح يتعرضون في كل باب لذكر ما فيه من الأدلة من الكتب العزيزة. ولا يلزمه جَمْع كتب السنة كلها، لأن أئمة السلف كانوا يجتهدون ويفتون [ص 55] مع علمهم بأنه قد

(4/46)


بقي كثيرٌ من السنة موجودًا على ظهر الأرض لم يبلغهم، ولم يكن أحدهم يمتنع عن الاجتهاد والفتوى بعلّة أنه لم يجمع السنة، وإنما كان غاية أحدهم أن لا يتصدَّر للاجتهاد والفتوى حتى يصير لديه طائفةٌ كبيرة من السنة تتعلق بأكثر أحكام الدين، وهذه كتبُهم بين أيدينا. نعم، ينبغي له أن يجمع كلَّ ما أمكنَه من كتب السنة، ولاسيَّما مع تيسُّرها في هذه الأزمان، ولله الحمد. ثم اعلم أن فرض المجتهد هو الاجتهاد في كل ما يَعرِض له، وأما من حاز المرتبتين الأوليين فإنه يجب عليه ــ كما تقدم ــ تحصيلُ الثالثة، وفرضُه قبلَ تحصيلها سؤال المجتهد، فيتلو عليه المجتهد الآية أو يروي له الحديث، ويُخبره أنه قد اجتهد فلم يجد ما يُعارِض ذلك. ويزيد من حاز المرتبة الأولى بدرجتها أن يبيِّن له المجتهد وجهَ الاستدلال في بنائه على بعض الأصول. ويزيد من لم يُحصِّل إلا الدرجة الأولى أن ينبِّهه المجتهد على وجه الدلالة في اللسان العربي. ويزيد من دونَه من عامّي أو أعجمي أن يُفسِّر له المجتهد الآية والحديث بلغته. وإذا تعسَّر في بعض الفروع بيان وجه الاستدلال أو بيان وجه الدلالة في اللسان العربي سقطَ، بخلاف ذكر الآية أو الحديث وتفسيره، فإنه لابدّ منه على كل حال، وكذا إخبار المجتهد بعدم المعارض. والظاهر أنه يكفي فيها دلالة الحال إذا كان المقام مقام فتوى، لأن المجتهد لا يُفتي إلّا بعد أن يَغلب على ظنّه عدمُ المعارض. * * * *

(4/47)


فصل (1) سؤال المجتهد كان العمل في حياة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وفيما بعد من القرون الثلاثة أن يجيء القاصرُ فيسأل العالمَ، فيجيبه العالم بذكر الدليل من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله، ويفسِّره له، فيذهب السائل فيعمل بذلك. فإذا عرضتْ له قضية أخرى ذهب فسأل من لقيه من العلماء: الأولَ أو غيره، وهكذا. وهذا شيء لا خلافَ فيه، وعليه كان عمل الأئمة الأربعة رحمهم الله، فقد أسند البيهقي (2) إلى الربيع قال: سمعت الشافعي وسأله رجل عن مسألة فقال: رُوي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال كذا وكذا، فقال له السائل: يا أبا عبد الله، أتقول بهذا؟ فارتعد الشافعي واصفرَّ وحالَ لونُه، وقال: ويحك! وأيُّ أرضٍ تُقِلُّني وأيُّ سماءٍ تُظِلُّني إذا رويتُ عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - شيئًا ولم أقل به؟ نعم على العين والرأس، نعم على العين والرأس. وقال الحميدي (3): سأل رجلٌ الشافعيَّ فأفتاه: قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كذا وكذا، فقال الرجل: أتقول بهذا يا أبا عبد الله؟ فقال الشافعي رحمه الله: أرأيتَ في وسطي زُنَّارًا؟ أتراني خرجتُ من الكنيسة؟ أقول: قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وتقولي لي: أتقول بهذا؟ أروي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا أقول به؟! _________ (1) عثرنا على هذا الفصل أخيرًا ضمن أوراق متفرقة من هذا الكتاب. (2) في "مناقب الشافعي" (1/ 475). (3) المصدر السابق (1/ 474).

(4/48)


نقلهما الشوكاني (1). ومن ذلك ما نقل عن ابن عبد البر (2) قال: وجاء رجل إلى مالك فسأله، فقال له مالك: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كذا وكذا، فقال الرجل: أرأيتَ؟ فقال مالك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وقال: لم يكن فُتيا الناس أن يقال لهم: قلتُ هذا، كانوا يكتفون بالرواية ويَرضَون بها. وحيث كان فرض من ذُكِر سؤال المجتهد فعلى المجتهد أن يجيب السائل بذكر الدليل، أي بتلاوة الآية أو رواية الحديث، ثم يفسِّره للسائل بلُغته العامية أو الأعجمية حتى يفهمه، فيذهب السائل فيعمل بذلك. ثم إذا عرضتْ له واقعة أخرى ذهبَ فسأل مجتهدًا، إما الأول وإما غيره، وهكذا. فلا يتعين عليه استفتاء مجتهد مخصوص في كلِّ قضاياه، بل أيّ مجتهد وجده كفاه. إن كان السائل من الرتبة الثالثة، فإن كان الدليل قطعي المتن والدلالة كفى المجتهد أن يذكر له الدليل، ويخبره أنه محكم. وإن كان قطعي المتن ظني الدلالة ذكره له، وأخبره أنه قد اجتهد فلم يجد ما يخالفه. وإن كان ظني المتن قطعي الدلالة أخبره به، وأنه ثابت، وأنه قد اجتهد فلم يجد ما يخالفه. وكذا إن كان ظنيهما. وإن كان السائل من الرتبة الثانية، فإن كان الدليل قطعي المتن والدلالة _________ (1) في "القول المفيد" (ص 23، 24) طبعة القاهرة 1347. (2) في "التمهيد" (8/ 411).

(4/49)


كفى المجتهدَ أن يذكر له الدليل ويُخبره أنه محكم. وإن كان قطعي المتن ظني الدلالة ذكره له وأخبره أن تلك الدلالة معتبرة في الشرع، وأنه قد اجتهد فلم يجد ما يخالفه. وإن كان ظني المتن قطعي الدلالة أخبره به وأنه ثابت، وأنه قد اجتهد فلم يجد ما يخالفه. وإن كان ظنيهما أخبره به وأنه ثابت، وأن تلك الدلالة معتبرة في الشرع، وأنه قد اجتهد فلم يجد ما يخالفه. وإن كان السائل من أهل المرتبة الأولى (1)، فإن كان الدليل قطعي المتن والدلالة ذكره له، وترجمه له بلغته العامية أو الأعجمية، وأخبره أنه محكم. وإن كان قطعي المتن ظني الدلالة ذكره له وترجمه، وبيَّن له وجه الدلالة، وأنها معتبرة في الشرع، وأخبره أنه محكم، وإن كان ظني المتن قطعي الدلالة أخبره به وبثبوته، وأن الثابت كذلك حجة في الشرع، وترجمه، وأخبره أنه قد اجتهد فلم يجد ما يخالفه. وإن كان ظنيهما أخبره به وبثبوته، وأن الثابت كذلك حجة في الشرع، وترجمه وبيَّن له وجه الدلالة وأنها دلالة معتبرة في الشرع، وأنه قد اجتهد فلم يجد ما يخالفه. والثالث يستحق اسم العالم، لأنه متأهل لمعرفة أحكام الكتاب والسنة. وهل يجب عليه تحصيل الرتبة الرابعة؟ الجواب أن تحصيل الرتبة الرابعة فرض كفاية لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]. فأمرهم الله تعالى أن لا يخرجوا جميعًا في السرايا، بل يبقى بعضهم مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - للتفقه في الدين. فتحصيل _________ (1) في الأصل: "الثالثة"، والسياق يقتضي "الأولى".

(4/50)


الدرجة الرابعة فرض كفاية على أهل كل جهة من المسلمين. فهذا الشخص في جهة من أهل فرض الكفاية. نعم إذا كان أهل الجهة كلهم قاصرين عن المرتبة الثالثة غيره تعيَّن عليه تحصيل الدرجة الرابعة؛ لأنه قد صار أقربهم إليها وأقدرهم على تحصيلها. وإذا لم يتعين عليه ففرضه فيما يعرض له من المسائل مراجعة الكتاب والسنة كما مرَّ، لأنه مأمور بالأخذ بالأحسن، ولا يكون عاملًا بذلك إلّا إذا اجتهد. نعم، كفاه أن يسأل مجتهدًا، فإن لم يجد مجتهدًا وجب عليه المراجعة لتعينها طريقًا لمعرفة الحكم. وحيث كان فرضه سؤال مجتهد غيره فالواجب على المسؤول أن يذكر له الدليل من كتاب أو سنة وكيفية الاستنباط، ويخبره أنه قد راجع الكتاب والسنة كما ينبغي، فلم يجد فيهما ما يخالف ذلك. وأما الثاني ففرضه سؤال مجتهد، فيذكر له المجتهد الدليل ويخبره أنه قد راجع الكتاب والسنة كما ينبغي، فلم يجد فيهما ما يخالف ذلك الدليل. وإن كان فيه ألفاظ شرعية أخبره بأن معناها في الشرع هو كذا. وإن كان فهمه للحكم باستنباط واضح [بيَّن] له دليل الاستنباط، فإن كان غامضًا اكتفى بأن يخبره أنه قد راجع الكتاب والسنة حتى غلب على ظنّه صحة ذلك الاستنباط، ولم يجد فيهما ما يخالف ذلك، وأنه راجعهما أيضًا، فلم يجد ما يخالف ذلك الاستنباط. وأما الأول ــ وهو مَن لم يعرف علوم اللسان ــ ففرضُه سؤال مجتهد، وعلى المسؤول أن يذكر له الدليل من كتاب أو سنة، ويترجمه له بلُغته، إن كان من عامة العرب فبالعامية، وإن كان أعجميًّا فبالأعجمية. فإن كان الدليل كافيًا فيكفي أن يخبره، فإن لم يكن قطعي الدلالة أخبره بذلك، وأنه قد نظر

(4/51)


في علوم اللسان فلم يجد ما يخالفه، فغلب على ظنِّه أن هذا اللفظ يدلُّ على هذا المعنى، ثم يخبره أنه قد راجع، إلى آخر ما مضى في الذي قبله. فإن الثالث عمل بإخبار المجتهد بأنه قد راجع ونظر، فلم يجد ما يخالف ذلك الدليل والاستنباط، والثاني بذلك وبأنه قد راجع ونظر حتى غلب على ظنه اعتبار ذلك الاستنباط وصحته، والأول بذلك وبأنه قد نظر في علوم اللسان، فغلب على ظنه أن هذا اللفظ يدل على هذا المعنى. فهل يُعدُّ هذا تقليدًا أو لا؟ أوجه: الأول: أنه تقليد أُبيح للضرورة، وهو قضية كلام الأستاذ السوركتي، وهو الظاهر. الثاني: أنه ليس تقليدًا، وإنما هو من باب العمل بالرواية، وعليه كلام الشوكاني، ويَرِدُ عليه أن شرط الرواية استنادها إلى القطع، فلا يكفي قول الراوي: أحسب أن فلانًا حدّثني، إلّا أن يقال: إنه هنا جاز العمل بها للضرورة. ويمكن في المسألة قولٌ ثالث، وهو أن يقال: إن الثالث إنما يعمل بالدليل الذي رواه له المجتهد، ويسقط عنه البحث والمراجعة، لأن الأصل العدم. وأما الثاني فيشترط أن يخبره بدليل الاستنباط، فيعمل هو في ثبوت الاستنباط بذلك الدليل، ثم يعمل بذلك الاستنباط، ويسقط عنه البحث عما يخالفه، لأن الأصل العدم. وأما الأول فيشترط في حقّه أن يخبره بدليل دلالة اللفظ، فيعمل هو في ثبوت تلك الدلالة بذلك الدليل، ويسقط عنه البحث عما يخالفه، لأن الأصل العدم، ثم يعمل بذلك الدليل في تلك المسألة، ويسقط عنه البحث

(4/52)


كما مرَّ. ويَرِدُ عليه أن الاستناد إلى كون الأصل العدم لا يكفي عن البحث كما في المجتهد. ويُجاب بأنه اكتُفي به هنا للضرورة (1). * قال المقلِّدون: إنا نراكم قد عُدتم إلى قولنا راغمين، فإنكم احتجتم إلى الرجوع إلى المجتهد وسؤالِه، وأوجبتم العملَ بقوله، وهذا هو التقليد بعينه. [ص 56] * قال المانعون: كلَّا، ما كان لنا أن نعود إلى قولكم بعدَ إذ تبيَّن لنا بطلانُه، والفرق بين الأمرين واضح. وذلك أنكم تقولون: إذا سأل القاصرُ المجتهدَ كفى المجتهد أن يجيبه بقوله: الحكم كذا أو كذا، بدون أن يخبره بدليله. وأما نحن فنقول: إن سؤال القاصر للمجتهد إنما هو سؤال عن حكم الله تعالى، لا عن الرأي المحض، وحينئذٍ فالواجب على المجتهد أن يذكر له الدليل من كتاب الله تعالى وسنة رسوله. وعلى هذا كان عمل السلف _________ (1) ذكر المؤلف هذا الموضوع بصيغة أخرى في صفحة، ونصها: "إن الرواية بالنفي شرطها أيضًا القطع، وهذا غير قاطعٍ بإخباره بأنه قد راجع ونظر، إذ لا يلزم من عدم الوجدان عدمُ الوجود، فقد يكون هنالك مخالف لم يُوفَّق لفهمه، لهذا لا يمكنه أن يقطع بالنفي بأن يقول: ليس في كتاب الله تعالى ما يخالف هذا، ولذلك لا يجوز للمجتهد أن يستند إلى مثل هذه الرواية. ومع ذلك فقد يكون دليل الاستنباط ودليل دلالة اللفظ غامضًا يتعذّر على العامي فهمه. نعم قد يقال: نسلِّم أن الرواية فيما ذُكر غير مستجمعة للشروط، ولكنه جاز العمل بها للضرورة".

(4/53)


الصالح أهل القرون الثلاثة. قال الشوكاني في رسالته "القول المفيد" (1) ما لفظه: "لا نطلب من كل فردٍ من أفراد العباد أن يَبلغ رتبة الاجتهاد، بل المطلوب هو أمرٌ دون التقليد، وذلك بأن يكون القائمون بهذه المعايش والقاصرون إدراكًا وفهمًا كما كان عليه أمثالهم في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهم خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، وقد عَلِمَ كلُّ عالم أنهم لم يكونوا مقلدين، ولا منتسبين إلى فردٍ من أفراد العلماء، بل كان الجاهل يسأل العالم عن الحكم الشرعي الثابت في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فيفتيه به ويرويه له لفظًا أو معنًى، فيعمل بذلك من باب العمل بالرواية لا بالرأي، وهذا أسهل من التقليد، فإن تفهُّم دقائق علم الرأي أصعب من تفهُّم الرواية بمراحل كثيرة ... " إلخ. * قال المقلِّدون: الكلام معكم في مقامين: الأول: قولكم "بل المطلوب ... " إلخ، إن أردتم أنه يلزم عوامَّ اليوم أن يشتغلوا بطلب العلم حتى يساووا عوامَّ الصحابة والتابعين، فهذا هو المشقة التي لأجلها عدلتم عن القول بوجوب بلوغ رتبة الاجتهاد، بل المجتهد اليوم لا يستطيع أن يبلغ هذه الدرجة، لأن عوامَّ ذلك القرن كانت علوم اللسان جميعها ملكةً لهم بدون طلبٍ ولا تكلف. وإن أردتم أن يكونوا بحيث إذا فُسِّرت لهم الآية من كتاب الله تعالى تفسيرًا بلغتهم أو تُرجِم لهم الحديث فهموه، فالناس جميعًا هكذا. _________ (1) (ص 14).

(4/54)


ولكنه ينشأ من هنا المقامُ الثاني، وهو أنه لا يكفي فهم الآية من كتاب الله تعالى أو فهم الحديث في معرفة الحكم، وذلك أن حصول المعرفة المعتبرة متوقف على أمور كثيرة، مثالُه الحديث المختلَف في حسنه، الدالُّ على حكمٍ من الأحكام دلالةً مختلَفًا فيها، المعارَضُ بحديثٍ آخر معارضةً مختلَفًا في الترجيح فيها، مع إمكان أن يكون [في الكتاب أو السنة] (1) [ص 57] ما يخالفه بنسخٍ أو تخصيصٍ أو تقييد أو تأويلٍ أو غير ذلك. فالمجتهد مُلزَمٌ بالنظر في أمورٍ: منها: النظر في وجوب العمل بخبر الآحاد، ويحتاج في هذا إلى اجتهاد مستقل. ثم النظر في رُواته واحدًا واحدًا، ويحتاج في هذا إلى اجتهاد آخر. ثم النظر إلى دلالته، ويحتاج فيها إلى اجتهاد ثالث بالنظر في علوم اللسان لمعرفة كيفية الدلالة وكونها معتبرة. ثم إلى اجتهاد رابع بالنظر في الكتاب والسنة، هل تلك الدلالة معتبرة شرعًا أم لا؟ ثم إلى اجتهاد خامس بمراجعة الكتاب والسنة، هل فيهما ما يخالف ذلك من ناسخ أو مخصص أو غيره مما مرّ. ثم يحتاج إلى اجتهاد سادس، وهو النظر في الترجيح عند وجود المعارض. _________ (1) تآكل في طرف الورقة أتى على عدّة كلمات، ولعلها ما أثبت.

(4/55)


وقد يعرض في الحكم الواحد أبحاث أكثر من هذه، كلٌّ منها يستدعي اجتهادًا خاصًّا. ولنفرضْ أن قاصرًا سألَ مجتهدًا عن الماء الذي وقعت فيه نجاسة، فإن المجتهد يحتاج إلى النظر في عدة أدلة من الكتاب والسنة، منها قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]، ومن السنة كحديث "الصحيحين" (1): "لا يبولنَّ أحدكم في الماء الراكد الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه". وفي روايةٍ لمسلم (2): "لا يغتسِلْ أحدكم في الماء الدائم وهو جُنُبٌ" قالوا: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولًا. وحديث "السنن" (3) عن ابن عمر قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من الدوابّ والسباع، فقال: "إذا كان الماء قُلَّتينِ لم يحمل الخبث". وفي روايةٍ لأبي داود (4): "فإنه لا ينجس". وحديث "السنن" (5) أيضًا عن أبي سعيد الخدري قال: قيل: يا رسولَ _________ (1) البخاري (239) ومسلم (282) من حديث أبي هريرة. (2) رقم (283) من حديث أبي هريرة أيضًا. (3) أخرجه أبو داود (63، 64) والترمذي (67) والنسائي (1/ 46) وغيرهم. (4) رقم (65). (5) أخرجه أبو داود (66) والترمذي (66) والنسائي (1/ 174). وقال الترمذي: حديث حسن.

(4/56)


الله! أنتوضأُ من بئر بُضاعة؟ وهي بئرٌ يُلقَى فيه الحِيَض ولحوم الكلاب والنتن، [ص 58] فقال رسول صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الماء طهورٌ لا يُنجِّسُه شيء". وحديث "السنن" (1) عن كبشة بنت كعب بن مالك أن أبا قتادة دخلَ عليها، فسكَبَتْ له وَضوءًا، فجاءت هرَّة تشرب منه، فأصغَى لها الإناءَ حتى شربت. قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبينَ يا ابنةَ أخي؟ قالت: فقلت: نعم، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنها ليست بنجسٍ، إنها من الطوَّافين عليكم والطوّافات". ونحوه عند أبي داود (2) من حديث عائشة. وحديث ابن ماجه (3) عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تَرِدُها السباع والكلاب والحُمر، عن الطهر منها. فقال: "لها ما حملتْ في بطونها، ولنا ما غَبَرَ، طَهورٌ". وحديث "الصحيحين" (4) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله _________ (1) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 22، 23)، ومن طريقه أبو داود (75) والترمذي (92) والنسائي (1/ 55) وابن ماجه (367). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (2) رقم (76). (3) رقم (519). قال البوصيري في "الزوائد": في إسناده عبد الرحمن [بن زيد بن أسلم]، قال فيه الحاكم: روى عن أبيه أحاديث موضوعة. قال ابن الجوزي: أجمعوا على ضعفه. وأخرجه أيضًا الدارقطني (1/ 31) والبيهقي (1/ 258). (4) البخاري (172) ومسلم (279).

(4/57)


عليه وآله وسلم: "إذا شربَ الكلبُ في إناء أحدكم فليغسِلْه سبعَ مرات". وفي روايةٍ لمسلم (1) قال: "طهور إناء أحدكم إذا وَلَغَ فيه الكلبُ أن يَغسِلَه سبعَ مراتٍ، أولاهن بالتراب" وغير ذلك. أما الآية الأولى فيحتاج إلى مراجعة اللغة ليعرف معنى الطهارة، ثم مراجعة التصريف ليعرف صيغة "طَهور"، ثم مراجعة علم البلاغة لمعرفة إطلاق "فَعُول" الذي يقتضي المبالغة في الفعل على الماء الذي لا يمكن فيه ذلك، إذ معنى "فلانٌ شَرُوبٌ للَّبَن" أنه يُكثِر ما يشربُه مرةً بعد أخرى، فقياس لفظ "طَهور" أنه يَكثر ما يَطهُرُ مرةً بعد أخرى، وهذا المعنى غير ظاهر، فقال بعضهم: حيث لم يمكن حملُه على كثرة العدد في الفعل الذي هو الحقيقة تعيَّن حملُه على المجاز، وهو أن يُراد القوة في الفعل، بمعنى أن طهارته قويَّة، وذلك أنه طاهر في نفسه ويُطهِّر غيره، بخلاف سائر الأشياء. وقال آخرون: بل يُحمل على كثرة العدد في التطهير، أي أنه يُطهّر مرةً بعد أخرى. ويحتاج المجتهد هاهنا إلى القوة في هذه العلوم حتى يتمكن من الترجيح. ثم بعد ذلك مراجعة الكتاب والسنة لمعرفة الطهارة في عُرف الشرع، ثم مراجعة كتب اللسان وأصول الفقه لينظر هل وَصْف الماء بالطهورية يقتضي أن لا ينجس بمجرد الملاقاة أو لا يقتضي. وبعد أن يقرر ذلك يحفظه، فينظر في الآية الثانية على نحو مما مضى، فإذا تقرر له فيها حكمٌ حفظه أيضًا. ثم ينظر في غير ذلك من الآيات التي يمكن أن يكون فيها دلالةٌ على المسألة، بأن ينظر في كل آية نظرًا خاصًّا على نحو ما تقدم، ثم يحفظ ما تقرَّر _________ (1) رقم (279/ 91).

(4/58)


له منها. [ص 59] ثم ينظر في الحديث الأول على نحو ما تقدم، حتى يُقرِّر هل فيه دلالةٌ على أن الماء ينجس أو لا؟ وما تقرَّر له في ذلك حفِظَه. ثم يَعمِدُ إلى حديث القلَّتين، فينظر أولًا في إسناده، فإن ظهر له أنه صالح للاحتجاج به نظر فيه على نحوٍ مما تقدم. ونظر في الآثار تحديدَ القلتين، ونظر هل فيه دلالة على أن ما دونهما يتنجس بمجرد الملاقاة أو لا؟ وما تقرر له في ذلك حفظه. ثمَّ وجَّه نظره إلى حديث بئر بضاعة على نحو ما ذُكِر، وهل فيه دلالةٌ على أن الماء لا ينجس أو لا؟ وما تقرر له منه حفظه أيضًا. ثم في حديث أبي قتادة على نحو ذلك، وهل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنها ليست بنجس" دلالةٌ على أن الماء ينجس بمجرد الملاقاة أو لا؟ ثم في حديث أبي سعيد على المنوال المذكور، وهل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لها ما حملتء في بطونها، ولنا ما غَبَرَ، طهور" دلالةٌ على أن الماء لا ينجس أو لا؟ ويحفظ ما تقرر له. ثم في حديث "الصحيحين": "إذا شرب الكلبُ ... " إلخ، وهل فيه دلالةٌ على أن الماء ينجس بمجرد الملاقاة أو لا؟ ويحفظ ما ظهر له. ثم ينظر في غير ذلك من الأحاديث التي يمكن أن يكون فيها دلالة على المسألة على السبيل المشروح. وبعد استيفاء الأدلة جميعًا ينظر ما بين المحفوظات، فيعمل بمقتضى اجتهاده، فيخصِّص عامَّها بخاصِّها، ويحمل مطلَقها على مقيَّدها، ويجمع بين المتعارضين منها. فإن لم يمكن الجمع نظرَ هل ثَمَّ دليلٌ على كون أحدهما منسوخًا، فإن لم يجد ذلك رجع إلى الترجيح، حتى يتقرر له وجهٌ واحدٌ هو الحكم الذي يجوز لك العمل به.

(4/59)


فأنتم ترون هذه المسألة التي كل أحدٍ مضطرٌّ إلى معرفتها كيفَ تشعَّبتْ واستصعبتْ، حتى لو تصدَّى عارفٌ لبسط النظر فيها وشرح الأدلة لتحصَّل من ذلك مؤلَّف مستقل. * قال المقلِّدون: إذا قُرِّر هذا، فما قولكم أيها المانعون في جواب المجتهد للسائل القاصر؟ هل يجب على المجتهد أن يجيب القاصرَ بجواب يُحصِّل له المعرفةَ التي حصَلتْ للمجتهد نفسه، حتى يتلو عليه القرآن من أوله إلى آخره، ويفسِّر له كلَّ آيةٍ أمكنَ أن تكون فيها أدنى دلالةٍ، ويسردُ له أحاديث السنة ويشرح له كلَّ ما أمكن أن يكون فيه أدنى دلالة، ويذكر له من كتب اللسان على نحو ما ذُكِر ... إلخ، أو لا يجب عليه ذلك؟ لا شكَّ أنكم لا تكلِّفون المجتهدَ ولا السائلَ هذه الشُّقَّةَ البعيدة التي أيسرُ منها تكليف القاصر أن يتعلَّم [ص 146] حتى يبلغ درجة الاجتهاد. وإن قلتم: إنه لا يجب عليه إلَّا أن يتلو عليه إحدى الآيتين إن ترجَّح له مدلولُها، أو أحد الأحاديث إن ترجَّح له مدلوله، ويُفسِّر له معناه، فيكون السائل عاملًا بالآية أو بالحديث. فنقول لكم: وهل يكفي في العمل بالكتاب والسنة هذا القدرُ؟ حتى لو عمدَ مجتهدٌ إلى آية أو حديث، فعمِلَ به بدون نظرٍ إلى ما يُوافقه أو ما يخالفه كفاه، ولو عمدَ قاصر إلى آيةٍ في كتاب الله تعالى فهمَ معناها أو حديثٍ كذلك جاز له أن يعمل به، بدون معرفة هل هو منسوخ أو لا، مخصَّصٌ أو لا، مقيَّدٌ أو لا، مؤوَّلٌ أو لا، والحديث حجةٌ أو لا ... إلخ، لا شك أنكم لا تجيزون ذلك، فنسألكم: ما هو الفرق بين الأمرين: العمل بعد سؤال

(4/60)


المجتهد حيث أخَّرتموه، والعمل بدون سؤاله حيث لم تُجيزوه؟ هل هو إلا إخبار المجتهد الذي يحصل به الظنُّ؟ هو هو ولا محالةَ، وعليه فذلك هو التقليد بعينه وإن أبيتم. * قال المانعون: أما المقام الأول فإننا نختار الشِّقّ الثاني، وهو أنهم أي عوامُّ اليوم يكونون بحيث إذا فُسِّرت لهم الآية من كتاب الله تعالى، أو تُرجم لهم الحديث بلغتهم، فهموا. على أنه قد تقدم في أول الرسالة أن تعلُّم العربية فرض عين على كل مسلم، ولكنه على كل حال أن العامي أو الأعجمي قبل تعلُّمه العربية محتاجٌ إلى التفسير بلغته. وأما المقام الثاني وإن أطلتم بما لا طائل تحته، [ص 161] فإنا وإياكم متفقون على أن الاجتهاد على المجتهد فرضُ عينٍ لقدرته عليه، وأنّ أخْذَ القاصر بقول المجتهد إنما هو للضرورة، لأنه لو كُلِّف الناس جميعًا بلوغَ رتبة الاجتهاد لضاعت المعايش والمصالح التي هي فروض كفاية، ولعظُمتِ المشقةُ، وعليه فإنه يسقط عن القاصرِ القدرُ الموجب للمشقَّة فقط. وليس من المشقَّة أن يسأل المجتهد عن حكم من الأحكام، فيُخبره المجتهد بالدليل، ويُفسِّره له، فيكون عاملًا بذلك الدليل بما فهمه منه. [ص 162] وقولنا: إنه يسقط عن المستفتي البحثُ والمراجعة، ولا يجب على المفتي أن يُبيِّن له جميعَ ما يتعلق بالبحث مما لا يبلُغه فهمُه، أولى من قولكم: إن للعامي في هذه الأعصار استفتاءَ فقيه مقلِّدٍ، فيُخبره الفقيه بما فهمه من كلام متأخري فقهاء مذهبه، ولا يلزمه أن يشرح له جميع ما يتعلَّق

(4/61)


بالبحث، فهذا الفقيه اجتهد في كلام متأخري فقهاء مذهبه، ومتأخرو فقهاء مذهبه إنما اجتهدوا في كلام مَن قبلَهم، والذين قبلَهم اجتهدوا في كلام من تقدمهم، وهكذا تسلسلت الاجتهادات حتى تصلَ الإمامَ المجتهد المطلق. فإن قلتم: إن هذا العامي بالصفة المذكورة مقلِّدٌ لذلك المجتهد المطلق صاحب المذهب، فأولى منه أن نقول: إن العامي المستفتي للمجتهد عامل بالدليل، لا مقلِّد لذلك المجتهد، وإنما عَمِلَ بقوله في نفي المعارض، وهذه رواية ظنية على النفي، جاز العمل بها للضرورة، مع موافقتها للأصل الذي هو عدم المعارض. وإن قلتم: إن العامي المستفتي للمقلِّد مقلِّد له، وهَلُمَّ جرًّا، فقد نسلِّم أن المستفتي للمجتهد قد يضطرُّ إلى نوع من التقليد للضرورة التي ذكرتموها، ولكن ما جاز للضرورة قُدِّر بقدرها، ولا يلزم من جواز الشيء للضرورة جوازه مطلقًا. وهذا بخلاف حال العامي المستفتي للفقيه المقلّد فإنه مقلّد له بلا ضرورة، لقدرته على سؤال المجتهدين وتحصيلِ علمٍ مقتبسٍ من الدليل. وكذلك المفتي في تقليده لمن قبله، والذين قبله في تقليدهم في بعض المسائل لمن قبلهم، وكذلك الذين قبلهم في تقليدهم لمن تقدمهم، وهكذا حتى يبلغ إلى الإمام. ولا يستوي البحران، فإن مستفتي المجتهد لم يُقلّده في المسألة من أصلها، فإننا نوجب أن يتلو عليه الآية أو يُخبره بالحديث، فهو إنما عمِلَ بتلك الآية أو بذلك الحديث، وإنما قلَّده في عدم المعارض ونحو ذلك للضرورة، على فرض تسليم أن ذلك تقليد.

(4/62)


[ص 163] وأما مستفتي المقلِّد فإنه قلَّده في المسألة من أصلها، مع أنه مثله مقلِّد، وليتَه كان مقلِّدًا فحسب، بل هو مقلِّد في المسألة من أصلها لمقلِّدٍ كذلك لمقلِّدٍ كذلك لمقلِّدٍ كذلك، وهَلُمَّ جرًّا. والفرق مثل الشمس ظاهر، فإن صاحبنا يذهب يعمل بتلك الآية التي تلاها عليه المجتهد وفهَّمه دلالتَها بقدر الإمكان، أو بالحديث كذلك على سبيل الرواية الصحيحة في المتن والترجمة، وقد غلب على ظنِّه أن تلك الدلالة صحيحة معتبرة لأمرين: الأول أن الأصل عدم المعارض، والثاني أن الظاهر عدم خطأ المجتهد في إخباره بذلك على سبيل الرواية الجائزِ العملُ بها للضرورة. وأما صاحبكم فإنه إنما يذهب يعمل بقول ذلك الفقيه، عالمًا أنه إنما أخبره بما فهمه من كلام مَن قبله، وأن الذين قبله إنما قالوا بما فهموه من كلام مَن تقدمهم، وهلمَّ جرًّا. فأيهما أولى بالحق وأقربُ إلى الدين؟ [ص 164] مع أن العمل بقول المفتي بدون أن يذكر دليله بدعة مخالِفةٌ لما كان عليه العمل في خير القرون، والتزام العمل بقولِ مفتٍ واحدٍ في جميع الأعمال بدعةٌ أخرى أشدُّ، فالأئمة الأربعة رحمهم الله إنما كانت فتواهم على عادة السلف، وهكذا من كان في زمانهم وبعده. نقل السيوطي في رسالته في الاجتهاد (1) فيما نقله عن ابن حزم ما _________ (1) "الردّ على من أخلد إلى الأرض وجهلَ أن الاجتهاد في كل عصرٍ فرض" (ص 56 - 59) ولم أجد النصَّ في كتب ابن حزم المطبوعة.

(4/63)


لفظه: قد دل الكتاب والسنة وحَضَّا على النظر والاجتهاد وترك التقليد، ووجدنا أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم أوَّلَهم عن آخرهم ليس منهم أحدٌ أتى إلى من هو فوقه في القرب والسابقة والعلم، وأخذ قوله كله، فيقلِّده في دينه، بل رأيت كلَّ امرئٍ منهم يجتهد لنفسه. ثم بحثنا عن عصر التابعين، فوجدناهم على تلك الطريقة، ليس منهم أحدٌ أتى إلى تابعٍ أكبر منه أو إلى صاحبٍ، فتقلّد قوله كلَّه. وكذلك أتباع التابعين ليس منهم أحدٌ أتى إلى تابعٍ أو صاحبٍ أو فقيهٍ من أهل عصره أكبر منه، فأخذ بقوله كلِّه ولم يخالفه في شيء منه، ولا أمروا بذلك عاميًّا منهم ولا خاصيًّا. وهذه القرون المحمودة الثلاثة، فعلمنا يقينًا أنه لو كان أخذُ قول عالمٍ واحدٍ بأسْرِه فيه شيء من الخير والصواب ما سبقَهم إليه مَن حدثَ في القرون المذمومة، ولو كان ذلك فضيلةً ما سبقناهم إليها. وهذا العصر الثالث هو الذي كان فيه ابن جريج، وسفيان بن عيينة بمكة؛ وابن أبي ذئب، ومحمد بن إسحاق، وعبيد الله (1) بن عمر، وإسماعيل بن أمية (2)، ومالك بن أنس، وسليمان بن بلال، وعبد العزيز بن أبي سلمة، وعبد العزيز الدراوردي، وإبراهيم بن سعد بالمدينة؛ وسعيد بن أبي عَروبة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، ومعمر بن راشد، وأبو عوانة، وشعبة، وهمام بن يحيى، وجرير بن حازم، وهشام الدستوائي، وزكريا بن أبي زائدة، وحبيب بن الشهيد، وسوَّار بن عبد الله، وعبيد الله بن الحسن، _________ (1) في الأصل: "عبد الله" مصحفًا. (2) في الأصل: "أبي أمية"، وهو خطأ. والتصويب من رسالة السيوطي.

(4/64)


وعثمان بن سليمان بالبصرة؛ وهشام بن بشر بواسط، وسفيان الثوري، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، [ص 165] والحسن بن يحيى (1)، وشَرِيك، وأبو حنيفة، وزهير بن معاوية، وجرير بن عبد الحميد، ومحمد بن خازم بالكوفة؛ والأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز (2)، والزبيدي، والقاضي حمزة بن يحيى، وشعيب بن أبي حمزة بالشام؛ والليث بن سعد، وعقيل بن خالد بمصر، كلهم على الطريقة التي ذكرت، ما منهم من أحدٍ أخذَ بقول إمامٍ ممن قبله، فقبِلَه كلَّه دونَ أن يردَّ منه شيئًا. ثم حدث بعدهم من اعتصم بهداهم وسلك سبيلَهم في ذلك، نحو: يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وبشر بن المفضّل، وخالد بن الحارث، وعبد الرزاق، ووكيع، ويحيى بن آدم، وحميد بن عبد الرحمن الرُّؤَاسي، والوليد بن مسلم، والحميدي، والشافعي، وابن المبارك، وحفص بن غياث، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وأبي (3) داود الطيالسي، وأبي الوليد الطيالسي، ومحمد بن [أبي] عدي، ومحمد بن جعفر، ويحيى بن يحيى النيسابوري، ويزيد بن هارون، ويزيد بن زريع، وإسماعيل ابن عُلَيّة، وعبد الوراث بن سعيد، وابنه عبد الصمد، ووهب بن جرير، وأزهر (4) بن أسد، وعفان بن مسلم، وبشر بن عمر، وأبي عاصم _________ (1) كذا في الأصل تبعًا للمطبوعة، وصوابه: "الحسن بن حيٍّ". راجع ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (7/ 361). (2) في الأصل: "سعيد بن الضرير"، وهو خطأ، والتصويب من رسالة السيوطي. (3) في الأصل هنا وفي الموضع بعده: "أبو" سهو. (4) كذا تبعًا للمطبوعة، واستظهر الشيخ في الهامش أن صوابه: "بهز".

(4/65)


النبيل، والمعتمر بن سليمان، والنضر بن شميل، ومسلم بن إبراهيم، والحجاج بن منهال، وأبي عامر العقدي، وعبد الوهاب الثقفي، والفريابي، ووهب بن خالد، وعبد الله بن نمير، وغيرهم، ما من هؤلاء أحدٌ قلَّد إمامًا كان قبلَه. ثم تلاهم على مثلِ ذلك: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وأبو عبيد، وأبو خيثمة، وأبو أيوب الهاشمي، وأبو إسحاق الفزاري، ومخلد بن الحسين، ومحمد بن يحيى الذهلي، وأبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة، وسعيد بن منصور، وقتيبة، ومسدَّد، والفضل بن دُكين، ومحمد بن المثنى، وبُندار، ومحمد بن عبد الله بن نمير، ومحمد بن العلاء، والحسن بن محمد الزعفراني، وسليمان بن حرب، وعارم (1) وغيرهم، وليس منهم من أحدٍ قلَّد رجلًا، وقد شاهدوا مَن قبلهم ورأوهم، فلم يروا أنفسَهم في سعةٍ من أن يُقلِّدوا دينَهم أحدًا منهم. [ص 166] ثم أتى بعدَ هؤلاء: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، ومحمد بن سَنْجر، ويعقوب بن شيبة، وداود بن علي، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن جرير الطبري، وبقي بن مخلد، ومحمد بن عبد السلام الخُشَني وغيرهم، ما منهم أحدٌ أتى إلى إمامٍ قبلَه، فأخذ قولَه كلَّه فتديَّنَ به، بل كلُّ هؤلاء نهى عن ذلك وأنكره. ولم أجد أحدًا ممن يُوصَف بالعلم قديمًا وحديثًا يستجيز التقليد ولا يأمر به، وكذلك ابن وهب، وأشهب، وابن الماجشون، والمغيرة بن أبي _________ (1) في الأصل: "عامر"، والتصويب من رسالة السيوطي.

(4/66)


حازم، ومطرِّف و [ابن] كنانة، لم يُقلِّدوا شيخهم مالكًا في كل ما قال، بل خالفوه في مواضع، واختاروا غيرَ قوله. وكذلك الأمر في زفر، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، والحسن بن زياد، وبكار بن قتيبة، والطحاوي. وكذلك القول في المزني، وأبي عُبيد بن حَرْبويه، وابن خزيمة، وابن سُرَيج، فإن كلًّا منهم خالفَ إمامَه في أشياء، واختار فيها غير قولِه. ومِن آخر مَن أدركنا على ذلك شيخنا أبو عمر (1) الطلمنكي، فما كان يقلِّد أحدًا، وذهب إلى قول الشافعي في بعض المسائل. إلى كثيرٍ من سلفٍ وخلفٍ لو ذكرتهم لطال الخَطْب (2) بذكرهم. ثم أنشد لنفسه قصيدةً في الاجتهاد، وقال في آخرها: واهْرُبْ من التقليد فهو ضلالةٌ ... إنَّ المقلِّد في السبيلِ الهالك إلخ. [ص 167] فصل * قال المانعون: وهَبْ أنه لا فرقَ بين أن يجيب المجتهد سائلَه بتلاوة الآية أو رواية الحديث، وأن يُجيبه بذكر الحكم مجردًا عن الدليل، فإنكم لم تقفوا عند هذا، بل جاوزتموه إلى ما هو أبعدُ، وهو تقليد الميت، وقد نقل الغزالي في "المنخول" (3) إجماعَ أهل الأصول على عدم جواز تقليد _________ (1) في الأصل: "أبا عمر". (2) في الأصل: "الخطاب". والتصويب من رسالة السيوطي. (3) (ص 480).

(4/67)


الميت، نقله الشوكاني في "إرشاد الفحول" (1)، وحكى عن الرازي في "المحصول" (2)، ولفظه المنقول: فإن حكى عن ميت لم يجزْ له الأخذُ بقوله، لأنه لا قولَ للميت، لأن الإجماع لا ينعقد على خلافه حيًّا، وينعقد على موته، وهذا يدلُّ على أنه لم يبقَ له قولٌ بعد موته. فإن قلتَ: لِمَ صُنِّفتْ كتب الفقه مع فناء أربابها؟ قلتُ: لفائدتين: إحداهما: استفادة طُرق الاجتهاد من تَصرُّفِهم في الحوادث، وكيف بُني بعضُها على بعض. والثانية: معرفة المتفق عليه من المختلف فيه، فلا يُفتى بغير المتفق عليه. انتهى. ثم قال الشوكاني (3): وفي كلامه هذا التصريحُ بالمنع من تقليد الأموات. قال الروياني في "البحر" (4): إنه القياس، وعلَّلوا ذلك بأن الميت ليس من أهل الاجتهاد، كمن تجدَّد فسقُه بعد عدالتِه، فإنه لا يبقى حكمُ عدالته، وإما لأن قوله وصفٌ له، وبقاء الوصف بعد زوال الأصل محالٌ، وإما لأنه لو كان حيًّا لوجبَ عليه تجديدُ الاجتهاد، وعلى تقدير تجديده لا يتحقق بقاؤه على القول الأول، فتقليده بناءٌ على وهمٍ أو تردُّدٍ، والقولُ بذلك _________ (1) (2/ 1097). (2) (6/ 70، 71). (3) "إرشاد الفحول" (2/ 1097). (4) انظر "البحر المحيط" للزركشي (6/ 298)، ففيه نقل كلام الروياني في "البحر".

(4/68)


غير جائز. اهـ. ثم حكى قولَ المجيزين، قال (1): واحتجَّ بعضُ أهل هذا القول بانعقاد الإجماع في زمنه على جواز العمل بفتاوى الموتى. قال الهندي (2): وهذا فيه نظر؛ لأن الإجماع إنما يُعتبر من أهل الحلّ والعقد، وهم المجتهدون، والمجمعون ليسوا بمجتهدين، فلا يُعتَبر إجماعُهم بحالٍ. ثم نقل عن ابن دقيق العيد كلامًا ظاهره موافقة المجيزين، وردَّه (3). والحاصل أن المقلدين قاطبةً يلتزمون حجيةَ الإجماع، فما بَقي إلّا أن يُنظَر في الإجماع الذي ذكره عن الغزالي، فإن كان مستوفيًا للشروط على مذاهب المقلدين فقد لزِمَتْهم الحجةُ به، وإلّا فلا. فنقول أولًا: هذا الإجماع حكاه الغزالي، فهل حكايته لذلك كافيةٌ في إثباته؟ فنقول: قال في "إرشاد الفحول" (4): الإجماع المنقول بطريق الآحاد حجة، وبه قال الماوردي وإمام الحرمين والآمدي، ونُقِل عن الجمهور اشتراطُ عدد التواتر. وحكى الرازي في "المحصول" (5) عن الأكثر أنه ليس بحجة، فقال: الإجماع المروي بطريق الآحاد حجة [خلافًا] لأكثر الناس، لأن ظنّ _________ (1) "إرشاد الفحول" (2/ 1098). (2) هو الصفي الهندي، انظر "البحر المحيط" (6/ 297). (3) "إرشاد الفحول" (2/ 1099). (4) (1/ 420). (5) (4/ 152).

(4/69)


وجوب العمل به حاصلٌ، فوجبَ العملُ به دفعًا للضرر المظنون، ولأن الإجماع نوعٌ من الحجة، فيجوز التمسك بمظنونه كما يجوز بمعلومه، قياسًا على السنة. ولأنا بيّنا أن أصل الإجماع فائدته ظنية، فكذا القول في تفاصيله. انتهى. وبهذا يظهر أن الراجح حجيته عندهم. [ص 168] وثانيًا: هذا الإجماع منقول عن أهل الأصول فقط، فهل إجماعُهم وحدَهم كافٍ في هذه المسألة؟ فنقول: قال الشوكاني أيضًا (1): الإجماع المعتبر في فنون العلم هو إجماع أهل ذلك الفن العارفين به دونَ من عداهم، فالمعتبر في الإجماع في المسائل الفقهية قول جميع الفقهاء، وفي المسائل الأصولية قول جميع الأصوليين، وفي المسائل النحوية قول جميع النحويين، ونحو ذلك. ومَن عَدا أهل ذلك الفن فهو في حكم العوامّ، فمن اعتبرهم في الإجماع اعتبر غيرَ أهلِ الفن، ومَن لا فلا. وقال (2) في بحث اعتبار العامَّة في الإجماع بعد كلامٍ: قال الروياني في "البحر": إن اختصَّ بمعرفة الحكم العلماءُ، كنُصُبِ الزكوات، وتحريم نكاح المرأة وعمَّتها وخالتها، لم يُعتَبر وفاقُ العامّة معهم. وإن اشترك في معرفته الخاصة والعامة، كأعداد الركعات، وتحريم بنت البنت، فهل يُعتبر إجماع العوامّ معهم؟ فيه وجهان، أصحهما: لا يُعتبر، لأن الإجماع إنما يصحُّ عن _________ (1) "إرشاد الفحول" (1/ 416). (2) المصدر نفسه (1/ 414، 415).

(4/70)


نظرٍ واجتهاد. والثاني: يعمُّ لاشتراكهم في العلم به. قال سليم الرازي: إجماعُ الخاصة هل يُحتاج معهم فيه إلى إجماع العامة؟ فيه وجهان، والصحيح أنه لا يُحتاج فيه إليهم. قال الجويني: حكم المقلِّد حكم العامّي في ذلك، إذْ لا واسطةَ بين المقلِّد والمجتهد. اهـ. فأقول: هذه المسألة التي هي تقليد الأموات مسألة أصولية قطعًا، وقد علمتَ مما نقلناه أن الراجح أن إجماع أهل كل فنٍّ على شيء من مسائله كافٍ في الحجية، بل إذا كانت المسألة مما يختصون بمعرفته كان إجماعهم فيها حجةً وفاقًا، كما هو قضية كلام الروياني. وثالثًا: قد زعم بعض المجيزين الإجماع في عصره على الجواز، ولا شك أن ذلك بعد إجماع الأصوليين الذي نقله الغزالي، فعلى فرض تسليم هذا الإجماع الثاني هل يكون ناقضًا للأول؟ فنقول: حكى الشوكاني أيضًا (1) في بحث الإجماع على شيء بعد الإجماع على خلافه: أن الجمهور على المنع. إلى أن قال: وحكى أبو الحسن السهيلي في "آداب الجدل" له في هذه المسألة أنها إذا أجمعت الصحابة على قول، ثم أجمع التابعون على قولٍ آخر، فعن الشافعي جوابان: أحدهما ــ وهو الأصحُّ ــ: أنه لا يجوز وقوعُ مثلِه، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أن أمته لا تجتمع على ضلالة (2). _________ (1) "إرشاد الفحول" (1/ 405). (2) أخرجه ابن ماجه (3950) من حديث أنس بن مالك، وفي إسناده أبو خلف الأعمى متروك، وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (83) من طريق آخر، لكن فيه مصعب بن إبراهيم منكر الحديث. وله شواهد يرتقي بها إلى الحسن لغيره.

(4/71)


والثاني: لو صحَّ وقوعه فإنه يجب على التابعين الرجوعُ إلى قول الصحابة. قال: وقيل: إن كلّ واحدٍ منهما حقٌّ وصوابٌ، على قولِ من يقول: إن كل مجتهد مصيب. وليس بشيء. انتهى. [ص 169] وبهذا تبيَّن لك أنه لو ثبت الإجماع الثاني لم يكن حجةً، بل الواجب الرجوع إلى الأول، ومع هذا فالإجماع الثاني عند من ادعاه إنما هو سكوتي، وهو ليس بحجة عند الإمام الشافعي وأحمد وغيرهما، صرَّح به الشافعي في "الأم" (1) في باب الأوقات التي يُكره فيها الصلاة. قال الشوكاني (2) في بحث الإجماع السكوتي والمذاهب التي فيه: الأول: أنه ليس بإجماع ولا حجة. قاله داود الظاهري وابنُه والمرتضى، وعزاه القاضي إلى الشافعي واختاره، وقال: إنه آخر أقوال الشافعي. وقال الغزالي والرازي والآمدي: إنه نصُّ الشافعي في الجديد: وقال الجويني: إنه ظاهر مذهبه. إلى أن قال (3): القول الحادي عشر: إنه إجماعٌ بشرط إفادة القرائنِ العلمَ بالرضا، وذلك بأن يوجود من قرائن الأحوال ما يدلُّ على رضا _________ (1) (10/ 109، 110 ضمن "اختلاف الحديث"). (2) "إرشاد الفحول" (1/ 399، 400). (3) المصدر نفسه (1/ 403، 404).

(4/72)


الساكتين بذلك القول. واختار هذا الغزالي في "المستصفى" (1). وقال بعض المتأخرين: إنه أحقُّ الأقوال، لأن إفادة القرائنِ العلمَ بالرضا كإفادة النطق، فيصير كالإجماع القطعي. القول الثاني عشر: إنه يكون حجةً قبل استقرار المذاهب لا بعدها، فإنه لا أثر للسكوت، لما تقرَّر عند أهل المذاهب من عدم إنكار بعضهم على بعضٍ إذا أفتى أو حكمَ بمذهبه، مع مخالفته لمذهب غيره. وهذا التفصيل لابدَّ منه على جميع المذاهب. اهـ. أقول: وأنت خبيرٌ أنه لو ثبتَ وقوعُ الإجماع الثاني فإنه لا يكون إلّا سكوتيًا كما مرَّ، وليس هناك قرائن تدلُّ على الرضا، بل بالعكس إن القرائن تدلُّ على أن من كان يرى خلافَ ذلك يمنعه الخوف من المقلّدين الذين هم جمهور الناس وأرباب السَّطوة والأُبَّهة أن يبطشوا به، وقد وقع بعض ذلك، ومع ذلك فهو إنما وقع بعد استقرار المذاهب. هذا على سبيل التنزل، وإلّا فلم يزل في كل عصرٍ جماعةٌ من العلماء يمنعون التقليد رأسًا، فدعوى الإجماع الثاني ساقطة من أصلها. فإن قلت: قد سلَّمتم أن القاصر قد يضطر إلى نوع من التقليد، وهو في العمل بإخبار المجتهد بعدم المعارض للدليل الذي يُبينه له، وإذَنْ فهذا النوع من التقليد لم يزل موجودًا منذ العصر الأول، ولا يخفى أن القاصر منهم كان يستفتي المجتهدَ فيُفتيه، ويلزم في ذلك هذا النوع من التقليد. ثم إن ذلك القاصر يذهب يعمل بتلك الفتوى طولَ عمرِه، ولم يُنقَل أن أحدًا من _________ (1) (1/ 191).

(4/73)


المجتهدين أمرَ مستفتيه أن لا يعمل بفتواه إلّا مدةَ حياته، فإذا ماتَ استفتى غيرَه، بل هذا مما لا ريبَ في عدمه، فهو إجماعٌ أرجح من الإجماع [ص 170] الذي نقلتم عن الغزالي. بل فوقَ ذلك لم يكن كل أحدٍ من أهل البوادي يذهب يستفتي المجتهدَ رأسًا، بل كان يذهب بعضهم فيستفتي أحدَ المجتهدين، ثم يرجع فيُخبر أهلَه وجيرانَه وغيرهم، فيعملون بمقتضاها، وربما أخبر أولادَه فأخبروا أولادهم، واتصل العمل بذلك زمنًا طويلًا. وعلى هذا كان العمل في تلك العصور. فالجواب أولًا: أننا أسلفنا أن أخْذَ القاصر بقول المجتهد في عدم المعارِض إنما هو من العمل بالرواية، غاية ما فيه أنها رواية لا يجوز العمل بمثلها إلا للضرورة، وعلى هذا فلا تقليدَ هناك، فعملُ القاصر بذلك بعد وفاةِ المجتهد ليس من تقليد الميت في شيء، كما أن عمله بذلك في حياته ليس في شيء من تقليد الحي. ثم إن عمل غيره من أهله وجيرانه بما أخبرهم به إنما هو عملٌ بالرواية، فهو يذكر لهم ما ذكره له المجتهد من الآية وتفسيرها، أو الحديث وترجمته على سبيل الرواية الصحيحة، ثم يذكر لهم إخبارَ المجتهد له أنه لا معارضَ لذلك على سبيل الرواية الجائزة للضرورة، فيجوز لهم العمل بروايته الصحيحة والاضطرارية، كما جاز له العمل برواية المجتهد كذلك. فإن أبيتم إلّا تسمية العمل الاضطراري بهذه الرواية تقليدًا فقد أسلفنا أننا قد نسلِّم ذلك، ولكنه لا يلزم من جواز هذا النوع من التقليد اضطرارًا جواز مطلق التقليد. وهكذا نقول هنا: لا يلزم من جواز هذا النوع من تقليد الميت جوازُ مطلق التقليد.

(4/74)


ولا يقدح هذا في الإجماع الذي نقله الغزالي، لأن كلامه في التقليد المطلق، أي في العمل بمجرد إخبار المجتهد بدون معرفة دليله، وفي هذا دليل واضح على أن أهل الأصول لم يكونوا يعتبرون عملَ القاصر بإخبار العالم بعدمِ المعارض تقليدًا، وإلّا لم يُطلِقوا القولَ بمنع تقليد الميت بإجماعٍ منهم، وهذا هو عينُ ما قدَّمناه أن ذلك إنما هو نوع من الرواية يجوز العمل بها للضرورة. * قال المانعون: ولم تقفوا عند هذا، بل أوجبتم التزامَ مذهب إمام معين، وهذا مع عمل القرون الثلاثة في طرَفيْ نقيض، وإنما قاله من قاله لِمَا التزمه من جواز التقليد المطلق، فرأى أن العامي مُعرَّضٌ لتتبع الرخص وللتلفيق، فاحترز بإلزامه مذهبًا معينًا، على خلافٍ بينهم [ص 171] يطول شرحُه. حتى إن بعضهم أجاز تتبُّعَ الرخص مطلقًا وكذلك التلفيق، وفي المثل: "لا يَلِدُ الغلطُ إلا غلطا". ما على فاهم الحق من عدم إباحة التقليد المطلق، بل يجب على العامي سؤال المجتهد، فإنه لا يريد تتبع الرخص، فإن اتفقت له رخصة فهو لم يقصدها عينًا. فإذا كان هناك عدة مجتهدين، فذهب العاميُّ فسأل كلَّ واحدٍ منهم، وعرفَ دليله، فوجدها متعارضة، فالواجب عليه الترجيح بين الأدلة إن اتَّسع عقلُه لذلك، وإلّا فبيْنَ المفتين بالعلم فالورع ونحو ذلك بقدر ما يفهمه. هذا إن ذهب فاستفتى كلَّ واحدٍ منهم، أما إذا اكتفى بسؤال واحدٍ منهم وهو الأولى له، فإنه يعمل بفتواه، وإن بلغَه أن غيره ــ ولو أرجح منه ــ يخالفه في ذلك. وأما التلفيق فإنه لا محذور فيه لإجماع أهل القرون الأولى على عدم

(4/75)


التزام مفتٍ واحدٍ، بل تَعرِض لأحدهم مسألة في نواقض الوضوء كخروج الدم، فيذهب فيستفتي أحدَ العلماء فيُفتِيه بأنه لا ينقُض، ثم تَعرِض له مسألة في مسّ الفرج، فيذهب فيستفتي عالمًا آخر، فيُفتيه بعدم النقض، فيذهب فيتوضأ ويخرج منه دمٌ، فلا يعتبره ناقضًا بناءً على فتوى الأول، ويمسُّ فرجَه ولا يعتبره ناقضًا بناءً على فتوى الثاني، ويُصلِّي بذلك الوضوء مع أنه قد يكون المفتي الأول يرى النقضَ بمس الفرج، والثاني يرى النقض بخروج الدم. فكان جميع القاصرين في تلك الأزمنة معرَّضين للتلفيق كما ترى، والصحابة رضي الله عنهم والتابعون ومَن بعدهم من جميع العلماء لا يجهلون ذلك. ولم يكن أحدٌ منهم يُلزِم العاميَّ أن لا يستفتي إلّا مفتيًا واحدًا، ولم يكن أحدٌ منهم يُلزِمُ العاميَّ إذا جاء يستفتيه عن شيء من نواقض الوضوء أن يسمع منه جميع المسائل المتعلقة بنواقض الوضوء، فضلًا عن بقية أحكام الوضوء، فضلًا عن الصلاة، وهذا يقتضي إجماعَهم على أنه لا حرجَ في التلفيق. وإذا تأملتَ ما قدّمناه من أن المستفتي ليس مقلِّدًا للمفتي في شيء، وإنما هو عاملٌ بالدليل، اتضح لك أنه لا معنى لخشية التلفيق، لأنه في حكم المجتهد إذا أداه اجتهادُه إلى صورةٍ ملفَّقةٍ من مذهبَيْ مجتهدين ممن قبله، ولا حرجَ في ذلك اتفاقًا، فكذا هذا. نعم، وكما أن الإجماع المذكور حجة واضحة [ص 172] في عدم الحرج في التلفيق على الصفة المذكورة، فهو حجة على عدم الحرج في التلفيق حتى تتركَّب صورةٌ مُجمَعٌ على منعها. وهذا ظاهر أنهم كانوا يعتبرون كل جزئية من الجزئيات حكمًا مستقلًّا، فكما أن المجتهد قد يؤدِّيه اجتهاده إلى حكم من أحكام الصلاة يخالف بعضَ المجتهدين ممن قبلَه ويوافق بعضهم، ويؤديه اجتهاده إلى حكم من أحكام

(4/76)


الصيام يخالف فيه من وافقه في الأول ويوافق من خالفَه فيه، فإنه يعمل بما أدَّى إليه اجتهاده، ولا عبرةَ بكونه يتركَّب من عبادته صورة مخالفةٌ للإجماع. وهكذا في الصلاة والوضوء، وهكذا في بعض أحكام الوضوء مع بعض. فكذلك يقال في المستفتي، وإنما يحذر مخالفة الإجماع إذا كان في جزئية واحدة. فتأمَّلْ هذا، فإنه واضح، والله أعلم. وفوق ما ذُكِر فإنكم حكمتم بانقطاع الاجتهاد، وقد حكى في "إرشاد الفحول" الخلاف في ذلك، حتى قال (1): وقالت الحنابلة: لا يجوز خلوُّ العصر عن مجتهدٍ، وبه جزم أبو إسحاق والزبيري، ونسبه أبو إسحاق إلى الفقهاء. قال: ومعناه أن الله تعالى لو أخلى زمانًا من قائم بحجةٍ زال التكليف، إذ التكليف لا يثبت إلا بالحجة الظاهرة، وإذا زال التكليف بطلت الشريعة. قال الزبيري: لن تخلُوَ الأرضُ من قائمٍ لله بالحجة في كل وقتٍ ودهرٍ وزمانٍ، وذلك قليل في كثير، فأما أن يكون غير موجودٍ كما قال الخصم فليس بصواب، لأنه لو عُدِمَ الفقهاء لم تَقُم الفرائضُ كلُّها، ولو عُطِّلت الفرائضُ كلها لحلَّتِ النقمةُ بالخلقِ، كما جاء في الخبر: "لا تقوم الساعةُ إلّا على شِرار الناس" (2). ونحن نعوذ بالله أن نُؤخَّر مع الأشرار. انتهى. قال ابن دقيق العيد: هذا هو المختار عندنا، لكن إلى الحدّ الذي ينتقض به القواعد بسبب زوالِ الدنيا في آخر الزمان. _________ (1) (2/ 1037). (2) أخرجه مسلم (2949) من حديث ابن مسعود.

(4/77)


وقال في شرح خطبة "الإلمام" (1): والأرض لا تخلو من قائمٍ لله بالحجة، والأمة الشريفة لابدَّ لها من سالكٍ إلى الحقّ على واضح المحجة (2)، إلى أن يأتي أمرُ الله في أشراط الساعة الكبرى. انتهى. وما قاله الغزالي رحمه الله من أنه قد خلا العصرُ عن المجتهد، قد سبقَه إلى القول به القفَّال، ولكنه ناقَضَ ذلك فقال: إنه ليس بمقلِّدٍ للشافعي، وإنما وافقَ رأيُه رأيَه، كما نقلَ ذلك عنه الزركشي (3)، وقال: قول هؤلاء القائلين بخلوّ العصر عن المجتهد ممّا يُقضَى منه العجبُ، فإنهم إن قالوا ذلك باعتبار المعاصرين لهم فقد عاصر القفال والغزالي والرازي والرافعي من الأئمة القائمين بعلوم الاجتهاد على الوفاء والكمال جماعة منهم. [ص 173] ومن كان له إلمامٌ بعلم التاريخ، والاطلاعُ على أحوال علماء الإسلام في كل عصرٍ، لا يخفى عليه مثلُ هذا، بل قد جاء بعدهم من أهل العلم مَن جمعَ الله له من العلوم فوقَ ما اعتدَّه أهلُ العلم في الاجتهاد. وإن قالوا ذلك لا بهذا الاعتبار، بل باعتبار أنَّ الله عزَّ وجلَّ رفعَ ما تفضَّل به على مَن قبلَ هؤلاء من هذه الأمة (4) من كمال الفَهم، وقوة الإدراك، والاستعداد للمعارف، فهذه دعوى من أبطل الباطلات، بل هي جهالةٌ من الجهالات. _________ (1) يراجع "البحر المحيط" (6/ 208). (2) في الأصل: "الحجة" تبعًا للمطبوعة القديمة من "إرشاد الفحول"، والتصويب من الطبعة المحققة (2/ 1038) و"البحر المحيط". (3) المصدر السابق (6/ 208، 209). (4) في الأصل: "الأئمة" تبعًا للمطبوعة القديمة، والمثبت من الطبعة المحققة (2/ 1038).

(4/78)


وإن كان ذلك باعتبار تيسُّر العلم لمن قبل هؤلاء المنكرين وصعوبته عليهم وعلى أهل عصورهم، فهذه أيضًا دعوى باطلة، فإنه لا يخفى على من له أدنى فهمٍ أن الاجتهاد قد يسَّره الله تعالى للمتأخرين تيسيرًا لم يكن للسابقين، لأن التفاسير للكتاب العزيز قد دُوِّنتْ، وصارت في الكثرة إلى حدٍّ لا يُمكِن حصْرُه، والسنة المطهَّرة قد دُوِّنتْ، وتكلم الأئمة على التفسير والتجريح والتصحيح والترجيح بما هو زيادة على ما يحتاج إليه المجتهد. وقد كان السلف الصالح ومَن قبلَ هؤلاء المنكرين يرحلُ للحديث الواحد من قُطْرٍ إلى قُطر. فالاجتهاد على المتأخرين أيسرُ وأسهلُ من الاجتهاد على المتقدمين، ولا يخالف في هذا مَن له فهمٌ صحيح وعقلٌ سويٌّ. وإذا أمعنتَ النظر وجدتَ هؤلاء المنكرين إنما أُتُوا من قِبَلِ أنفسهم، فإنهم لما عكفوا على التقليد واشتغلوا بغير علم الكتاب والسنة حكموا على غيرهم بما وقعوا فيه، واستصعبوا ما سهَّله الله على من رزقه العلم والفهم، وأفاض على قلبه أنواعَ علوم الكتاب والسنة. ولما كان هؤلاء الذين صرَّحوا بعدم وجود المجتهدين شافعية، فها نحن نصرِّح لك مَن وُجِد من الشافعية بعد عصرهم ممن لا يخالف مخالفٌ في أنه جمعَ أضعافَ علوم الاجتهاد، فمنهم: ابن عبد السلام، وتلميذه ابن دقيق العيد، ثم تلميذه ابن سيد الناس، ثم تلميذه زين الدين العراقي، ثم تلميذه ابن حجر العسقلاني، ثم تلميذه السيوطي (1). فهؤلاء ستة أعلام، كلُّ _________ (1) كونه تلميذ ابن حجر فيه نظر، فقد كان عمر السيوطي ثلاث سنوات عند وفاة الحافظ. وفي "شذرات الذهب" (8/ 52): أحضره والده مجلسَ الحافظ ابن حجر.

(4/79)


واحدٍ منهم تلميذُ مَن قبلَه، قد بلغوا من المعارف العلمية ما يَعرِفه مَن يعرف مصنَّفاتهم حقَّ معرفتها، وكلُّ واحدٍ منهم إمام كبير في الكتاب والسنة، محيطٌ بعلوم الاجتهاد إحاطةً متضاعفةً، عالمٌ بعلومٍ خارجةٍ عنها. ثم في المعاصرين لهؤلاء كثيرٌ من المماثلين لهم، وجاء بعدهم من لا يقصر عن بلوغ مراتبهم، والتعدادُ لبعضهم فضلًا عن كلِّهم يحتاج إلى بسطٍ طويل. وقد قال الزركشي في "البحر" (1) ما لفظه: لم يختلف اثنان في أن ابن عبد السلام بلغَ رتبةَ الاجتهاد، وكذلك ابن دقيق العيد. انتهى. و[حكاية] هذا الإجماع من هذا الشافعي [ص 174] يكفي في مقابلة حكاية الاتفاق من ذلك الشافعي الرافعي. وبالجملة، فتطويل البحث في مثل هذا لا يأتي بكثيرِ فائدة، فإن أمرَه أوضحُ من كلِّ واضح، وليس ما يقوله مَن كان من أُسَراء التقليد بلازمٍ لمن فتح الله عليه أبوابَ المعارف، ورزقه من العلم ما يخرج به عن تقليد الرجال، وما هذه بأولِ فاقرةٍ جاء بها المقلدون، ولا هي بأول مقالةٍ باطلةٍ قالها المقصِّرون. ومن حَصَر فضلَ الله تعالى على بعض خلْقِه، وقصَرَ فهمَ هذه الشريعة المطهرة على مَن تقدَّم عصرُه، فقد تجرَّأ على الله عزَّ وجلَّ، ثم على شريعته الموضوعة لكل عباده، ثم على عباده الذين تعبَّدهم الله بالكتاب والسنة. ويالله العجب من مقالاتٍ هي جهالاتٌ وضلالاتٌ، فإن هذه المقالة تستلزم رفعَ التعبد بالكتاب والسنة، وأنه لم يبقَ إلّا تقليد الرجال الذين هم _________ (1) (6/ 209).

(4/80)


متعبدون بالكتاب والسنة كتعبد من جاء بعدهم على حدٍّ سواء، فإن كان التعبد بالكتاب والسنة مختصًا بمن كانوا في العصور السابقة، ولم يبقَ لهؤلاء إلا التقليد لمن تقدَّمهم، ولا يتمكنون من معرفة أحكام الله من كتاب الله وسنة رسوله، فما الدليل على هذه التفرقة الباطلة والمقالة الزائفة؟ وهل النسخُ إلا هذا؟ ! سبحانك هذا بهتانٌ عظيم. انتهى (1). وقد نقلتُ هذا الكلام بطوله لما فيه من التحقيق النيِّر. وبعد، فلا يخفاك أن الحنابلة مُطبِقون على عدم خُلوِّ الأرض من مجتهد، وأكثر أصحابنا الشافعية معهم، وثَمَّ على وجه الأرض طوائفُ من المسلمين لم يزالوا ولا يزالون يقولون بدوام الاجتهاد، كالهادوية في اليمن وغيرهم، فما معنى حكاية الرافعي الاتفاق؟ مع أن عبارته غير جازمة بذلك، ولفظها كما في "ارشاد الفحول" (2): "الخلقُ كالمتفقين على أنه لا مجتهد اليوم". وذكر الشوكاني عقبهَا ما لفظه (3): قال الزركشي: ولعله أخذه من كلام الإمام الرازي، أو من قول الغزالي في "الوسيط": "قد خلا العصر عن المجتهد المستقل". قال الزركشي: ونقلُ الاتفاق عجيب، والمسألة خلافية بيننا وبين الحنابلة، وساعدهم بعضُ أئمتنا. اهـ. ومن تأمَّل ما شرطَه العلماء في المجتهد علم بطلان القول بخلوّ الزمان _________ (1) أي كلام الشوكاني في "إرشاد الفحول" الذي بدأ باقتباسه قبل أربع صفحات. (2) (2/ 1036). (3) المصدر نفسه (2/ 1037). وانظر "البحر المحيط" (6/ 207).

(4/81)


عنه إلى انتقاض قواعده. وقد بيَّن السيوطي في رسالته "الرد على من أخلدَ إلى الأرض، وجهلَ أن الاجتهاد في كل عصرٍ فرض" أقوالَ هؤلاء الزاعمين أنه قد خلا الزمانُ من المجتهد، وأنهم إنما أرادوا المجتهد المستقل لا المجتهد المطلق، ولعله يأتي نقلُ ذلك إن شاء الله تعالى. [ص 175] ثم ظهر لي أن الإمام الغزالي رحمه الله مصيبٌ في قوله: "قد خلا العصر عن المجتهد المستقل"، وأراد بالمستقل من لا ينتسب إلى مذهبٍ من المذاهب، وهذا صحيح، فإن المذاهب الأربعة لما انتشرت واستفحل أمرها عَمَّ الانتسابُ إليها أكثرَ الناس، ثم صار تعليم العلم إنما هو على طرقها، فطالب العلم لابدَّ أن يكون أبوه منتسبًا إلى أحدها، فيُرسِله إلى العلماء المنتسبين إلى مذهبه، فينشأ على ذلك المذهب، ويطلب العلم على طريقه، ثم إذا بلغ رتبةَ الاجتهاد لم تَزُلْ عنه تلك النسبة، وإن صار إنما يعمل باجتهاده ويخالف ذلك المذهب في كثير، وهو بنفسه لا يحبُّ أن تزول عنه النسبة خشيةً من الجهّال أن ينسبوه إلى الضلال، لاسيَّما والمناصب والمراتب اللائقة بأهل العلم قد صارت مختصَّةً بالمنتسبين إلى المذاهب، فيرى بقاءه منتسبًا ليتولَّى بعض تلك المناصب، فيأخذ منه ما يقتاتُه في مقابل معرفته بذلك المذهب إن كان الوقف خاصًّا ورأى صحته وصحة التخصيص، أو في مقابلِ قيامِه بتلك الوظيفة العلمية، أو غير ذلك. وهو مع ذلك يجتهد ويُصرِّح بمخالفته لمذهبه في مؤلفاته، وغير ذلك، ولكنه من حيث الاعتبار لا يزال في عداد أهل ذلك المذهب، فهو منتسبٌ على كل حال، وبهذا الاعتبار لا يُطلق عليه مستقل. وسائر المجتهدين في عصر الغزالي وقبلَه بكثير كلهم منتسبون على هذا.

(4/82)


فهذا مراد الغزالي في قوله: "إن العصر خلا عن المجتهد المستقل"، وإن لم يفهمها من جاء بعده، فبنى عليها انقطاع الاجتهاد. وكيف يُعقَل أن الغزالي يقول بانقطاع الاجتهاد وهو نفسه يجتهد في أصول الدين وأصول الفقه، وله فيهما المؤلفات العديدة، والناس فيهما عيالٌ عليه، والاجتهاد فيهما يُشتَرط له شروط الاجتهاد في الفروع بالأولى. ومع ذلك فهو القائل (1): إنه يكفي المجتهدَ من الحديث أن يكون عنده "سنن أبي داود"، ويكفيه أن يَعرِف مواقعَ كلّ بابٍ، فيراجعه وقتَ الحاجة. [ص 176] والحاصل أنهم فهموا أن "المستقلّ" في عبارته قيدٌ للاجتهاد المدلول عليه بقوله "المجتهد"، وأنه يريد المستقلّ في اجتهاده، أي المجتهد اجتهادًا مستقلًّا. والذي أراه أنه ليس بقيدٍ للاجتهاد، وإنما هو قيدٌ للشخص، أي الشخص الجامع بين الاجتهاد والاستقلال عن الانتساب، والذي رأيتُه هو المتعين جمعًا بين أقوال هذا الإمام، وعليه فقوله بمعزِلٍ عن انقطاع الاجتهاد، إذ الاستقلال في كلامه أمرٌ اعتباري، يكفي في وجوده أن يقوم أحد أولئك المجتهدين المعدودين في أتباع المذاهب، فيصرِّح باتصافه بالاجتهاد، ويُعلِن به على رؤوس الأشهاد، فيزول ذلك الانتساب اللفظي، ويصير مستقلًّا لفظًا ومعنًى. وإذ لم يقع هذا التصريح في عصره فما المانع أن يقع بعده؟ وليس من شرط المستقل أن لا يطلب العلم (2) على طريقة أحد المذاهب، بل يطلبه على طريق مستقلة، ومع ذلك فلا مانعَ من أن يوجَد من يطلب العلم على طريق مستقلة. _________ (1) انظر "المستصفى" (2/ 351). (2) في الأصل: "العالم"، وهو سبق قلم.

(4/83)


وقد قيل: إن المراد بالمجتهد المستقل المنفيّ هو الذي يقوم بإنشاء مذهب جديد. وهذا أيضًا أمر اعتباري، فما المانع أن يُوجَد مجتهد ذو جاهٍ يكثُر تلامذتُه، فيؤسِّسون له مذهبًا؟ وحاول بعضهم أن يجعل الفرق بين "المستقلّ" المنفي في كلام الغزالي في "الوسيط"، و"المطلق" المعترف بوجوده (1)، [ص 177] وحاصلُه أن أحكام الشريعة فروع منتشرة، وإنما يتم الاجتهادُ فيها بضبطها بأصول وقواعد تُرَدُّ إليها وتُحمَل عليها، كقولهم: العام يُبنى على الخاصّ أو لا يبنى؟ المطلق يُحمَل على المقيَّد أو لا يُحمَل؟ وهكذا بقية الأصول المبيَّنة في أصول الفقه. فالأئمة السابقون قد تتبعوا الأدلة الشرعية واستقرأوها، ثم أصَّلُوا تلك الأصول، وجعلوا لكل أصلٍ عبارةً تدلُّ عليه صارت بعد ذلك حقيقةً عرفيَّةً، فمن فعلَ مثلَ ذلك كان مجتهدًا مستقلًّا. ولا شكَّ أن تلك الأصول والقواعد محصورة، وقد أتى عليها أولئك الأئمة. فالمجتهد اليوم لا يُمكِنه تأصيلُ أصلٍ لم يَسبِقُوه إليه، فهو عيالٌ عليهم في ذلك. وبهذا يتبيَّن أن العصر قد خلَا عن المجتهد المستقل، ليس لقصور الناس، بل لاستحالة أن يأتي أحدٌ بأصولٍ أخرى بعد أن استُغرِقت الأصول الممكنة. فالمجتهد في هذه العصور إذا اجتهد في بناء العام على الخاص، فإن ترجَّح له البناء فهو مذهب الشافعي، وإن ترجَّح له عدمُ البناء فهو مذهب أبي حنيفة، وهكذا في سائر الأصول. وهذا الفرق كما تراه اعتباريٌّ، وذلك أن الأئمة المتقدمين لم يأتوا بشيء _________ (1) بعده بياض في الأصل في بقية الصفحة. والكلام متصل بما بعده.

(4/84)


من عندهم، بل ولم يعتبروا أصلًا لم يُسبَقُوا إلى اعتباره، ولو فعلوا ذلك ــ وحاشاهم ــ لكانوا من شِرار خَلْق الله تعالى. بل ولا يُحْوِج تأصيلُ تلك الأصول إلى استقراء، لأن لها دلائلَ خاصَّةً تدلُّ عليها، بخلاف الأصول اللغوية. مثاله: كون الحال منصوبًا بشرائط، فإن أئمة النحو إنما عرفوا ذلك باستقراء كلام العرب، وبعد الاستقراء جعلوا له هذا الضابط، وصار الناس بعدهم لا يتوصلون إلى معرفة اللغة إلّا بواسطة تلك الضوابط. بخلاف أصول الفقه، فإن منها ما هو مبني على العقل كالمجمل والمبيَّن، والعقل لا يحتاج إلى استقراء. ومنها ما هو مبني على اللغة، وهو لا يحتاج إلى استقراء، بل مَن عرفَ اللغة عرفَه، ومعرفة اللغة تحصُلُ بدون معرفة كلام الأئمة في أصول الفقه. فمن عرف علومَ اللغة عرفَ أن صيغة "افْعَلْ" أصلها للطلب الجازم، وتجيء لغيره بقرينةٍ عليه، وأن نحو {لَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] يدلُّ على النهي عن الضرب بالأولى، ونحو "في الغنم السائمة زكاةٌ" (1) يدلُّ على أن غير السائمة لا شيء فيها. وتعلُّم اللغة هذه الأزمان ليس موقوفًا على تعلُّم ما قرَّره الأئمة في أصول الفقه، بل على أصول علوم اللغة التي أصَّلَها غيرُهم. ومنها ما هو مبني على الشرع، وهذا لا يحتاج إلى استقراء، بل عليه _________ (1) في كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصدقة: "في سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة ... ". أخرجه أبو داود (1567) وغيره. ونحوه في كتاب أبي بكر الصديق لأنس، كما رواه البخاري (1454).

(4/85)


دليلٌ خاصٌّ، كما يُستدَلُّ للقياس بقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]. [ص 178] فالأصول المبنية على الشرع لها أدلة خاصة تدلُّ على نفس الأصل، بخلاف الضوابط التي وضعها أئمة اللغة، فليس لها أدلة كذلك، وإنما كان أمامَهم كلمات العرب المنتشرة، فلم يتم لهم وضعُ تلك الضوابط إلّا باستقرائها. ولو فُرِض أن بعض الأصول تحتاج إلى استقراء الأدلة الشرعية، فالأدلة الشرعية في هذه العصور باقية مجموعة متيسِّرٌ الاطلاعُ عليها أكثر مما كان متيسِّرًا للأئمة السابقين، فاستقراء العالمِ لها اليومَ أتمُّ من استقرائهم، بخلاف الأصول اللغوية. وأما كون المجتهد اليوم إذا اجتهد في بناء العام على الخاص فلابدّ أن يوافقَ أحدَ الإمامين، فهكذا الإمامانِ لكلٍّ منهما سلفٌ من الصحابة رضي الله عنهم، وإلّا لكان أحدهما خارقًا للإجماع. فلو قصرنا لفظ "المجتهد المستقل" على مَن لم يُسبَقْ إلى اعتبار ذلك الأصل لم يكن إلّا من الصحابة، بل والصحابة أيضًا لابدَّ أن يكون لها سلفٌ من الكتاب والسنة، فلكلٍّ من المختلفين دليلٌ، وإن كان الحقُّ في نفس الأمر واحدًا، إلَّا أنَّ كلًّا منهما يرى الموافق للكتاب والسنة هو ما رآه. نعم، الأئمة السابقون انفردوا بجمع تلك الأصول في تآليفَ، وبيَّنوها وبيَّنوا دلائلَها من العقل واللغة والشرع، ووضعوا لكلِّ أصلٍ عبارةً تدلُّ عليه، فكانوا ينظرون في أدلة العقل والشرع واللغة أولًا، ثم يذكرون الأصلَ ويختارون له عبارةً تدلُّ عليه. والمجتهدون المتأخرون ينظرون في تلك الكتب أولًا، ثم ينظرون في أدلة العقل والشرع واللغة.

(4/86)


وأيضًا فالأئمة المتقدمون كانوا عارفين باللغة سليقةً، فلم يكونوا محتاجين إلى تعلُّم علوم اللغة على ما وضعه علماؤها. وعلى كل حال فالفرقُ كما قدَّمنا اعتباري. [ص 179] فإن جمعهم لتلك الأصول وبيان دلائلها وإن كانت مزيةً إلّا أنها لا تقتضي كونَ نظرهم في الأحكام أصوبَ من نظر المتأخرين، بل الأمر بالعكس، فإن في جَمْع المتقدمين لها وعنايتهم بها كابرًا عن كابرٍ [ما] يُقرِّب للمجتهد المتأخر المسافةَ، ويَجمعُ له المتشتِّت، فتكون الأدلةُ جميعًا نُصْبَ عينَيْه، وتجتمعُ له معارفُ الأولين جميعًا. وكذلك تعريفُهم تلك الأصول بعباراتٍ استحسنوها لا يَقدحُ في اجتهاد غيرِهم، بل الأمر بالعكس لما ذكرنا. وأما كونهم كانوا عارفين باللغة سليقةً ففيه نظرٌ، ومع ذلك فالمتأخر يتمكن من بلوغ درجتهم فيما يحتاج إليه الشرع من اللغة، بل ربما كان المتأخر أولى بذلك، فإن المتقدمين لم يكونوا عارفين بلغة العرب كلها على اختلافها، غايتُهم أن يَعرِفوا لغة أهل الأرض التي هم فيها، بخلاف المتأخرين، فإن أئمة اللغة جمعوا لهم سائر فروع اللغة كما هو معروف في كتبهم. وعلى كلّ حالٍ فهذه فروقٌ لا تُعتبر في الاجتهاد، ولنرجعْ إلى سياق كلام المانعين. * [ص 180] قال المانعون: ومع هذا كلِّه فإنكم أقمتم كلامَ أئمتكم مقامَ كلام الله تعالى وكلام رسوله في جعله أصلًا، يُؤخذ بظاهره وإيمائه وإشارته ومفهومه، ويُقاس عليه. وهكذا متأخرو أصحابِه يقيمون كلامَ مَن تقدَّمهم مقام كلام الله تعالى وكلام رسوله وكلام الإمام، وهكذا يتسلسل التقليد

(4/87)


طبقة بعد طبقة، مع الإعراض عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فاختلط ــ ولاسيّما في كتب المتأخرين ــ كلامُ الإمام بكلام أصحابه فيما استنبطوه من كلامه بكلام مَن تبعَهم واستنبط من كلامهم، إلى آخر السلسلة. فكم من مسألةٍ ورد فيها حكمٌ عن الإمام، وصحَّ الدليلُ بخلافها، وعمل به غيرُه من الأئمة، فأعرض أصحابه عن الدليل وعملوا بكلامه، مع أنه كان لهم العملُ بالدليل وعدُّه من مذهب الإمام، لِمَا تواتَر عن الأئمة من قولِ كلٍّ منهم: "إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي" أو معناه. فإن لم تطمئن نفوسهم إلى هذا فكان لهم أن يُقلِّدوا في ذلك الحكم غيرَه من الأئمة المتفق عليهم. وكم من مسألةٍ لم يَرِدْ فيها عن الإمام نصٌّ، وحكمها في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله واضح، وعمل به غيرُه من الأئمة (1) = لم يلتفت الأتباع إلى الدليل الشرعي بل استنبطوا حكمًا من كلام الإمام، ولم يعبأوا بموافقة (2) الدليل الشرعي ومن عَمِل به أو مخالفته. وكم من مسألةٍ لم يَرِد فيها عن الإمام ولا عن أصحابه شيء، ودليلُها في كتاب الله أو سنة رسوله، وأخذ به غيرُه من الأئمة، فجاء متأخرو أتباعه فأعرضوا عن الدليل الشرعي ومَن عمل به، ونظروا في كلام مَن تقدَّمَهم مِن أتباع ذلك المذهب، فاستنبطوا منه حكمًا ما، غير ملتفتين إلى موافقة الدليل الشرعي أو مخالفته. _________ (1) قوله: "وعمل به غيره من الأئمة" ألحقه الشيخ بين الأسطر، فوضعناه في مكانه المناسب. (2) في الأصل: "بمخالفة ... أو مخالفته" سبق قلم.

(4/88)


وهكذا اتخذوا القرآن مهجورًا، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، والتمسوا الهدى في غير كتاب الله تعالى. وليتَهم إذْ فعلوا ذلك تركوا الدليل المخالف لهم من الكتاب والسنة ظِهْريًّا، وجعلوه نسيّا منسيًّا، لكنهم يعودون عليه بالتأويل والتحويل، والتحريف والتبديل، وصَرْفِه عن ظاهره بالوجوه البعيدة حتى يردُّوه عَسْفًا إلى موافقة ما التزموه من الأقوال التي تخالفه، حتى لقد تجيء عن الإمام أو أحدِ أتباعه عبارةٌ ظاهرها الدلالةُ على حكم، ثم نجد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله عبارةٌ ظاهرها الدلالةُ على خلاف ذلك، فيقدِّمون ما ظهر لهم من عبارة الإمام أو أحد أصحابه على ما يظهر من عبارة الكتاب أو السنة، وإن كانت دلالة الآية أو الحديث أظهر وأرجح من دلالة عبارتهم. بل لو اتفق ورود نصٍّ قرآني لا يقبل التأويل أصلًا أو نصّ من السنة المتواترة كذلك ما رفعوا له رأسًا. وبعضهم يجيب عن ذلك بقوةٍ: هذا منسوخ، فإن طُولِب بالناسخ قال: لا أعلمه، ولكن قول إمامي بخلافه يدلُّ على اطّلاعه على ناسخه، حتى لو لم يكن قول إمامه نصًّا في ذلك، بل مما استنبطه بعض أصحابه. [ص 181] فكأيِّنْ من دليلٍ من كتاب الله تعالى أو من سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أجلب عليه مقلِّد بخيله ورَجله، وعدا عليه بنَابِه وظُفْرِه، فغادرَه يتشحَّطُ في الدم، ووَدَعَه قائلًا: [فخرَّ صريعًا] لليدين وللفم (1) _________ (1) عجز بيت في شعر عدد من الشعراء، منهم جابر بن حُنَي كما في "شرح المفضليات" للأنباري (ص 441)، وربيعة بن مكدم كما في "الأغاني" (16/ 67)، والمكعبر الأسدي كما في "الاقتضاب" (ص 439)، وعصام بن المقشعر كما في "معجم الشعراء" للمرزباني (ص 270).

(4/89)


لدى حيث ألقتْ رحلَها أمُّ قَشْعم (1) أتدري أيها الشيخ أيَّ دمٍ أرَقْتَ؟ وأيَّ أديم مزَّقْتَ؟ أتحسبُ فريستَك هي ذلك الدليل المخالف لهواك؟ كلَّا فإنه حجة من حُجج الله تعالى على خلقه، وحجج الله تعالى معصومة: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157]. إنما مُثِّلَ لك دينُك وإيمانُك، فعليهما كان عدوانك! ومن دَمِهما ارتوى سيفُك وسنانُك! وبمَصْرعِهما اشتفَى هواك وشيطانُك! وقد كنتَ في غِنًى عن هذا، فإنك تقول: إنك مقيَّدٌ بمذهبك، لا يلزمك الخروج عنه ولو ثبتَ الدليل، ولا يلزمُك إقامةُ دليلٍ على صحة مذهبك ولا دَفْعُ دليلٍ يخالفه، وتقول: إن فَهْمَ الأدلةِ كما ينبغي خاصٌّ بالمجتهد. فما حملَكَ بعد ذلك أن تسعَى لتكلُّف الاحتمالات البعيدة لمناصرة مذهبك، وتعدو على الأدلة المخالفة له فتؤوِّلها وتحوِّلها وتحرِّفها عن مواضعها؟ فهل هذا إلّا التناقض المحض والتعصب البحت؟ وهل هذا إلّا غِلٌّ في قلبك على كل ما خالف مذهبك وغلوٌّ في التعصب له؟ عكس ما ورد في الحديث الصحيح: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئتُ به" (2). نعم، التأويل جائزٌ للمجتهد عند تعارض الأدلة للجمع بينها، مع تحرِّي الحقّ وتوخِّي الأرجح في نفس الأمر، أما في غير ذلك فلا، ولا كرامة. [ص 182] بالله عليك تدبَّرْ قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي _________ (1) عجز بيت لزهير من معلقته. (2) أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (15) والخطيب في "تاريخ بغداد" (4/ 369) والبغوي في "شرح السنة" (104) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (2/ 394): تصحيح هذا الحديث بعيدٌ جدًّا من وجوه، ثم ذكرها.

(4/90)


مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 46 - 52]. فانظُرْ أين تضعُ نفسَك؟ فإن لنفسك عليك حقًّا، فلا تُلْقِها في مهاوي الهلاك، وقد خلق الله لك سمعًا وبصرًا وفؤادًا، والحق واضح ما عليه حجاب. [ص 183] وَيْحَك يا مسكين! إن كنتَ من الذين آمنوا فإن الله تعالى خاطبهم بقوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 1 - 5]. وقال سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ

(4/91)


إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 59 - 62]. ما أشبه حالَ المقلدين بقولِ هؤلاء: "إن أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا". قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 63 - 65]. فعلى المؤمن أن يتأدب مع الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما لو كان بحضرته صلى الله عليه وآله وسلم. فانظر يا مسكين كيف حالُك في هذا الواجب؟ ومن العجائب أن المقلدين يتركون النصوص المتواترة عن إمامهم بأنه إذا صحَّ الحديث فهو مذهبه، وأنه راجعٌ عما يخالفه، إلى آخر ما ورد، ويأخذون بمفهومٍ من قوله أو إشارةٍ أو إيماءٍ، أو مجردِ رأي أحدِ أتباعِه. ومن ذلك ما ذكره أصحاب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أن مذهبه جواز تعدد الجمعة في بلد واحدٍ للحاجة، وذكروا أنهم أخذوا ذلك من تقريره لأهل

(4/92)


بغداد، حيث دخلَها والجمعةُ متعددةٌ بها، فلم ينكر ذلك. ومع هذا فنصُّه ظاهرٌ في منع التعدد مطلقًا (1). فلا أدري من أيهما أَعجَبُ؟ أمِن استدلالِهم بتقريرِه أم من تركِهم لنصِّه حيثُ لم يوافقْ هواهم؟ مع كونهم مسجِّلين على أنفسهم أنهم لا يتركون كلامَه ولو ظهرتْ دلالةُ القرآن بخلافه، أو صحَّ الحديث بخلافه، وعاملين بذلك كأنهم لم يعلموا أن تقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان حجةً لعصمته - صلى الله عليه وآله وسلم -، فمن المحال أن يرى أحدًا يفعل شيئًا غيرَ جائزٍ فيسكت عن إرشاده. والشافعي رحمه الله تعالى على فضله لم يَصِلْ إلى هذه الدرجة، ومع هذا فإنه دخلَ بغداد وهي مقرُّ الخلافة، وفيها جماعة مجتهدون هم المُفتون بجواز تعدد الجمعة، فهل يسوغُ للشافعي أن يقول: أيها الناس! لا تعملوا بفتوى هؤلاء العلماء، بل أنا أفتيكم؟ ومع ذلك فهو لا يأمنُ على نفسِه من الضرر. ومع هذا فالجمعتان في بغداد كانت إحداهما في الجانب الشرقي، والأخرى في الغربي، والنهر حائل بين الجانبين، وكلٌّ من الجانبين في حكم بلدٍ مستقل. ومع هذا فقد كان هذا التقرير في القديم، وقد نصَّ في الجديد على خلافه، فقد [ص 184] [نصَّ على] (2) المنع، أي منع إقامة جمعتين مطلقًا، وأن ذلك هو المتعين (3)، لإجماع السلف على عدم التعدُّد مع الحاجة إليه، وبَسَطَ ذلك بما ينبغي أن تراجعه. فإن قيل: إن الأصحاب رأوا منعَ التعدُّد مشدَّدًا جدًّا، فعَدَلوا عنه. فالجواب: أنه إن كان التشديد في هذه المسألة هو حكم الله تعالى _________ (1) انظر "الأم" (2/ 385). (2) ذهب التآكل في رأس الورقة بكلمتين أو ثلاث. ولعلها ما أثبتناه. (3) هنا كلمة لم نتبينها، والسياق مستقيم بدونها.

(4/93)


فليس لهم أن يخففوا ما شدَّد الله، وإن لم يكن التشديد فيها هو حكم الله فمن أين فهموا ذلك؟ فإن قالوا: مِن مذهب الشافعي. قيل لهم: كلَّا، فإنه ليس معكم إلّا إقراره لأهل بغداد، وهذا لا يتمسك به عاقل. وإن قلتم: مِن قواعده "أن المشقة تَجلِبُ التيسير". قيل لكم: هذه قاعدة أغلبية، وقد نصَّ في هذا الفرع على خلافها، فكان مخصّصًا لها، ومذهبُه رحمه الله بناءُ العامّ على الخاص. ومع ذلك فالمشقة هنا لم تتحقق، إذ يُمكِن أهلَ البلد الواحد أن يُصلُّوا في الشوارع التي عند الجامع، أو يوسِّعوا جامعَهم، أو يبنوا أوسعَ منه. ويمكنكم أن تقولوا بأن من لم يدرك وُسْعًا في الجامع وحوالَيْه تسقط عنه الجمعة ويجب عليه الظهر، ونحو ذلك. وإن قلتم: فهمنا ذلك من كتاب الله تعالى وسنة رسوله. قيل: فما هو؟ سلَّمنا وجودَه، لكن أنتم مقلِّدون لا تُسوِّغون لنفوسكم الخروجَ عن المذهب. فإن قالوا: إن الإمام رحمه الله قال: "إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي". وفي معنى صحة الحديث صحةُ دليلٍ آخر. قيل: فهلَّا طردتُم هذا في جميع المسائل؟ فعملتم بقول الإمام فيما وافقَ الكتابَ والسنة، وعدلتم عما لم يوافق إلى عموم قوله: "إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي"، فتكونوا أسعدَ خلقِ الله بمذهبه، ومِن أسعدِ خَلْقِ الله باتباع كتاب الله تعالى وسنة رسوله.

(4/94)


ثم لماذا عدلتم في هذه المسألة عن ذكر هذا، وأوهمتم الناسَ أن تقرير غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة؟ سبحانك هذا بهتان عظيم. إذا كان قولُ العشرة المبشَّرين بالجنة وجمهور الصحابة لا يُعدُّ دليلَ حجةٍ حتى يُجمع جميعُ الصحابة، فما بالك بواحدٍ من غيرِهم؟ وقد مرَّ أن مدار حجية التقرير على العصمة، وهذا مما لا خلافَ فيه. نعم، إنما عدلتم عن ذلك لئلا يلزمكم ما أُلزِمُكموه من ترك قوله في كل ما خالف الحديث الصحيح، بل ذلك ما ألزمتموه أنفسَكم بكلمة الإسلام وشهادة الحق، فإنّ مِن لازمها أن لا تُحِلُّوا إلّا ما ثبتَ حِلُّه عن الله ورسوله، ولا تُحرِّموا إلّا ما ثبتَ تحريمُه عن الله ورسولِه، وإلّا كنتم كالذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا. والله يهدي مَن يشاء إلى صراطٍ مستقيم. [ص 28] فصل الأئمة الأربعة كغيرهم من أئمة السلف قد ثبت عنهم النهيُ عن التقليد من طرقٍ كثيرة، وكان إفتاؤهم للناس على عمل السلف من إجابة السائل بتلاوة الآية أو رواية الحديث، وتفسير ذلك وبيان دلالته. وقد أسند البيهقي (1) إلى الربيع قال: سمعتُ الشافعي وسأله رجلٌ عن مسألة، فقال: رُوي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال كذا وكذا، فقال له السائل: يا أبا عبد الله! أتقول بهذا؟ فارتعد الشافعي واصفرَّ وحالَ لونُه، وقال: ويحك! أيُّ أرضٍ تُقِلُّني، وأيُّ سماء تُظِلّني إذا رويتُ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئًا ولم أقل به؟! نعم على الرأس والعين، نعم على الرأس والعين. _________ (1) في "مناقب الشافعي" (1/ 475). وقد تقدم.

(4/95)


وفي "إعلام الموقعين" (1): وقال الحميدي: سأل رجلٌ الشافعيَّ فأفتاه: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذا وكذا، فقال الرجل: أتقول بهذا يا أبا عبد الله؟ فقال الشافعي رحمه الله: أرأيتَ في وسطي زُنَّارًا؟ أتُراني خرجتُ من الكنيسة؟ [ص 29] أقول: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتقول لي: أتقولُ بهذا؟ أروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا أقول به؟ ! ومن ذلك ما نُقِل عن ابن عبد البر (2) قال: وجاء رجلٌ إلى مالك فسأله، فقال له مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا وكذا، فقال الرجل: أرأيتَ؟ فقال مالك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. وقال: لم يكن فُتيا الناس أن يقال لهم: قلتُ هذا، بل كانوا يكتفون بالرواية ويرضون بها. وإنما نقلنا هذه لتعلموا أن الأئمة الأربعة رحمهم الله كان عملهم في الإفتاء بعمل السلف بتلاوة الآية أو ذِكْر الحديث على ما مرَّ. وأما منعهم عن التقليد وإرشادهم الناسَ إلى اتباع السُّنَّة وتركِ قولهم، فالآثار عنهم في ذلك كثيرة مشهورة في كتب المؤلفين. وكفى في ذلك ما ذكره المزني في أول "المختصر". وإننا لنعوذ بالله عزَّ وجلَّ من أن نتَّهم الأئمة الأربعة أو غيرهم من العلماء بأنهم يرضَون بتقديم قولهم على قول الله تعالى ورسوله، حاشاهم، بل وحاشا كلّ مسلمٍ من هذا القول الذي هو الكفر الصُّراح والشرك البَواح. وقد كان تعليمهم لتلامذتهم إنما هو بذكر _________ (1) (2/ 266). وانظر "مناقب الشافعي" (1/ 474). (2) انظر "التمهيد" (8/ 411) و"الاستذكار" (21/ 25).

(4/96)


أدلة الحكم والاستدلال بها، والإجابة عما يخالفها، فكانوا يعلِّمونهم الاجتهادَ. وهذا واضح من كتبهم. ومع ذلك فتقليد الميت باطلٌ بإجماع أهل الأصول كما مرَّ. على أنكم غيرُ مقلِّدين لهم، فإنهم لم يتكلَّموا في كل مسألةٍ، وإنما أخذ أتباعُهم يُفرِّعون على أقوالهم ويقيسون ويُرجِّحون، فصار التقليد مركبًا بدرجات كثيرة. ثم جاء المتأخرون، فخلطوا الأحكام المأخوذة عنهم بالأحكام المقيسة على كلامهم [و] بالأحكام التي (1) اخترعها الأتباعُ بآرائهم، مع أن المقرر في الأصول أن لازمَ [ص 30] المذهب ليس بمذهب. فالأحكام المأخوذة من لازِم قولهم ليست على هذا مذهبًا لهم. والحاصل أن التقليد من أصله قد قام الدليل على مَنْعه، كما هو مفصَّلٌ في كتب القوم، مما هو معروفٌ متداولٌ بين الناس، ومرَّ في هذه الرسالة وسيأتي فيها إن شاء الله تعالى ما يكفي في ذلك. ولو سلَّمنا جواز التقليد للأحياء فإنه لا يجوز للأموات، ولو سلَّمنا جوازه للأموات لما جاء إلّا لما ثبتَ من نصوصهم. * [ص] (2) قال المقلدون: هاهنا ثلاثة أمور: الأول: قولكم: "إن أهل الثلاثة القرون إنما كانت فتواهم بتلاوة الآية أو رواية الحديث" فنقول: هذا ليس على إطلاقه، كيف وفي المجتهدين مَن يقول بمجرد اجتهاده إذا لم يجد دليلًا من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، كما _________ (1) في الأصل: "الذي" سهوًا. (2) بداية صفحة جديدة ولم ترقم في الأصل.

(4/97)


ورد عن كثير من الصحابة رضي الله عنهم، منهم الصدِّيق رضي الله عنه وغيره، كانوا إذا جرت واقعةٌ وأعوزَهم الدليلُ من كتاب الله تعالى أو سنةِ رسوله اجتهدوا برأيهم، ثم يقول المجتهد: إن كان صوابًا فمِن الله، وإن كان خطأ فمنِّي ومن الشيطان (1)، أو نحو ذلك. الثاني: قولكم: "إنه لم يكن منهم مَن يلتزم اتباعَ إمامٍ معين". وهذا قد يُنازَعُ فيه، فقد كان لابن عباس أتباعٌ مخصوصون، ولابن مسعودٍ كذلك، وكذا مَن بعدهم. وأما الأئمة الأربعة فاتِّباعُ تلامذتهم لهم لا يخفى على أحد. الثالث: حكاية إجماع الأصوليين على منع تقليد الميت، لا يخفى ما فيها، فإن تلامذة الأئمة الأربعة لم يزالوا عاملين بمذاهبهم بعد موتهم، وهكذا مَن بعدهم، وهلُمَّ جرًّا. * قال المانعون: أما الأول فإننا إنما أطلقنا القول لأن الحكم لا يؤخذ إلّا عن دليل من الكتاب والسنة ولو بواسطة القياس، فإن فُرض أن مجتهدًا لزِمَه النظرُ في واقعة، وتعيَّن عليه فورًا، فإنه يسوغ له أن يجتهد رأيَه بما هو الأولى والأشبه بالشرع، ويلزمه حينئذٍ أن يخبر بأن ذلك اجتهاد منه، كما قال الصدِّيق وغيره، وحينئذٍ فيجوز العمل بذلك الاجتهاد للضرورة. فإن ظهر دليلٌ وجب _________ (1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنَّف" (19191) وابن أبي شيبة في "المصنَّف" (11/ 415، 416) والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 223) عن أبي بكر، وأخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" (9/ 214) والبيهقي (10/ 116) عن عمر، وأخرجه أحمد في "المسند" (1/ 431، 4/ 279) وأبو داود (2116) والنسائي (6/ 122) عن ابن مسعود. وانظر "التلخيص الحبير" (4/ 195).

(4/98)


المصير إليه. [31] وسيأتي شرح هذا إن شاء الله في كلام الإمام الشافعي. وأما الثاني فليس الأمر كما زعمتم، فإن أصحاب ابن عباس لم يكونوا مقلدين له، وإنما كانوا يأخذون عنه العلم بالرواية، وكثيرًا ما يأخذون عن غيره كما يعرفه من مارسَ الآثار، وكذا أصحاب ابن مسعود وغيره، وكذا أصحاب الأئمة الأربعة، كان أخذهم عنهم بطريق الرواية لا غير، كما هو معروف في كتبهم. كيف لا وقد تواتر عن الأئمة الأربعة المنعُ من التقليد مطلقًا؟ وإنما كان تعليمهم لتلامذتهم روايةً للأحاديث وتعليمًا لطُرق الاجتهاد، فدوَّن تلامذتهم كلامهم كذلك ليستعين به مَن بعدهم في حفظ الأحاديث وتعلُّم كيفية الاجتهاد، لا ليجمُدوا عليه، بل بيَّنوا أنهم ــ أي الأئمة ــ يمنعون من التقليد، كما تراه في أول "مختصر المزني". ولهذا ترى أصحاب كل إمام قد خالفوه في عدة مسائل ترجَّح لهم فيها خلافُ ما ترجَّح له. وقال بعض المنتسبين إلى مذهب الشافعي (1): لسنا مقلدين للشافعي، [ص] (2) وإنما وافق رأيُنا رأيَه. وقال السيوطي في رسالته: "الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض" (3) ما لفظه: "وللمفتي المنتسب أربعة أحوال، أحدها أن لا يكون مقلِّدًا لإمامه، لا في المذهب ولا في دليله، لاتصافه بصفة المستقلّ، وإنما يُنسَب إليه لسلوكه طريقَه في الاجتهاد، وادَّعى الأستاذ أبو إسحاق هذه الصفة لأصحابنا، فحكى عن أصحاب مالك وأحمد وداود _________ (1) انظر ما سبق (ص 78). (2) بداية صفحة جديدة لم ترقم في الأصل. (3) (ص 114).

(4/99)


وأكثر الحنفية أنهم صاروا إلى مذاهب أئمتهم تقليدًا لهم، ثم قال: والصحيح الذي ذهب إليه المحققون ما ذهب إليه أصحابنا، وهو أنهم صاروا إلى مذهب الشافعي لا تقليدًا له، بل لمّا وجدوا طريقَه في الاجتهاد والقياس أسدَّ الطرق، ولم يكن لهم بدٌّ من الاجتهاد، سلكوا طريقَه، فطلبوا معرفةَ الأحكام بطريق الشافعي". وذكر في تلك الرسالة نحو هذا عن القاضي عبد الوهاب المالكي (1)، نقل عنه كلامًا طويلًا في إبطال التقليد، وفي آخره (2): "فإن قيل: فهذا خلاف ما أنتم عليه من دعائكم إلى درسِ مذهب [مالك] بن أنس واعتقادِه، والتديُّنِ بصحته وفسادِ ما خالفه. قلنا: هذا ظنٌّ منك بعيد، وإغفال شديد، لأنا لا ندعو من ندعوه إلى ذلك، إلّا إلى أمرٍ قد عرفنا صحته وعلمنا صوابه بالطريق الذي بيَّناه، فلم نخالفْ بدعائنا إليه ما قررناه وعقدنا البابَ عليه". قلتُ: وكان تعليمهم مذهب مالك حينئذٍ ليس بذكر مجرد قوله، بل بسَرْد حُججِه من الكتاب والسنة وبيانِ ما لها وعليها. وهذا وجه اندفاع المناقضة. ثم إن قول الأستاذ أبي إسحاق في أصحابنا المتقدمين: "إنهم صاروا إلى مذهب الشافعي ... " إلخ، أي: في معظم الأحكام، فلا ينافي ذلك أنهم قد يخالفونه إذا ترجَّح لهم ما يخالفه. ويحتمل أن يبقى الكلام على إطلاقه، مع اعتبار مذهب الشافعي بما ثبت بالدليل، وإن نُقِل عنه ما _________ (1) (ص 123 - 126). (2) (ص 126).

(4/100)


يخالفه، عملًا بقوله: "إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي". ومثلُ هذا يقال في كلام القاضي عبد الوهاب ليتم اندفاع المناقضة في كلامه. والله أعلم. [ص 32] وبهذا عُلِمَ الجواب على الأمر الثالث، فإن تلامذة الأئمة وعدة طبقات ممن بعدهم لم يكونوا متبعين للأئمة اتباعَ تقليدٍ، وإنما كانوا يتعلمون علمه، فيستعينون به على الاجتهاد، وكثيرًا ما يخالفونه كما علمتَ. وأما مَن جاء بعد ذلك فجمَدَ على التقليد، فاستغنى بكلام الإمام عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله، واتخذ كتابَ الله مهجورًا، ولم يرفع إليه رأسًا، فهؤلاء لا حجةَ في عملهم، لأنهم لم يكونوا مجتهدين فيُعتَبر قولهم في الإجماع، ولا تجوز فتواهم، ولا تُجيزون أنتم تقليدهم، فأنتم وهُم سواءٌ. ومن راجع مؤلفاتهم علم مقدارَ علمهم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله. على أنه لم يزل في المنتسبين إلى الأئمة علماء أجلَّةٌ عارفون بكتاب الله تعالى وسنة رسوله، ينكرون التقليد ويمنعونه ويتبعون الدليل، كما هو مفصَّل في محالِّه من الكتب المؤلفة في إبطال التقليد. فأولئك في الحقيقة مجتهدون، وإن كان تيَّار التقليد حين طمَّ على الأمة حَرَمَهم من لقب الاجتهاد، وحَرَمَ الأمةَ من الاهتداء بهَدْيهم والانتفاع بعلمهم، إلّا أن آثارهم والحمد لله محفوظة. تلك آثارنا تدلُّ علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار (1) نحن لا ننكر أن تقديم المقلدين لقول إمامهم على الدليل الشرعي صادر عن حسنِ ظنٍّ به [ص 33] أنه قد أحاط بأدلة الكتاب والسنة، فرأوا أنه _________ (1) البيت في "ريحانة الألباء" (1/ 302) بلا نسبة.

(4/101)


إذا كان صريحُ كلامه أو مفهومه يخالف ظاهرَ آيةٍ أو حديثٍ، فالظاهر أنه إنما ذهب إلى خلاف ذلك لدليلٍ أقوى منه ثبتَ لديه، ولا يلزم من عدم اطلاعنا على دليله عدمُه، لما لا يخفى أن عدم العلم ليس علمًا بالعدم. وهذا في الحقيقة غلوٌّ مذموم وجهلٌ فاحش، لأن الأصل عدم اطلاعه على هذا الدليل، والأصل أنه لا دليل يخالفه. وكم من حديث لم يعمل به الأئمة لعدم صحته لديهم، وقد صحَّ بعدهم، وسيأتي إن شاء الله. [ص 34] ومن جنس ما ذكرناه دليل بقاء وقت المغرب إلى غروب الشفق، فإن الشافعي رحمه الله نصَّ على أنه لم يصحَّ لديه، وأنه إن صحَّ وجبَ العمل به. وقد صحَّ بعده ذلك الدليل، بل هو في أعلى درجات الصحة، وصار إليه أصحابه، إما عملًا بالدليل الثابت، وإما ــ وهو الظاهر ــ عملًا بوصيته. وعلى كلٍّ فكان ينبغي لهم أن يُوسِّعوا الدائرة، فيعملوا بكل ما ثبت من الأدلة عملًا بوصية الإمام أنه إذا صحَّ الحديث فهو مذهبه، وأن يعملوا بما صحَّ عنه من نهيه عن تقليده وتقليد غيره، ويقتدوا بسيرته في الإفتاء والتدريس ببيان الحجج. ومن المعلوم أن السُّنَّة كانت في عهد الأئمة مفرَّقةً بتفرق التابعين في مشارق الأرض ومغاربها، وإنما تتبعها مَن بعدهم ودوَّنها، وذلك من فضل الله تعالى على هذه الأمة. وأيضًا كيف يسوغ لرجلٍ يؤمن بالله واليوم الآخر تركُ العمل بآية من كتاب الله تعالى أو حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لمجرد احتمالِ أنه ثبتَ عند إمامِه ما يخالفه؟ مع أن الأئمة نصُّوا على أنه إذا صحَّ الحديث بخلاف قولهم وجبَ أن يُرمى بقولهم عرضَ الحائط، وأنهم

(4/102)


راجعون عن ذلك القول المخالف في حياتهم وبعد مماتهم، وأنه إذا صحَّ الحديث فهو قولهم ومذهبهم. فلو أن إنسانًا من المنتسبين إلى أحد الأئمة عملَ بحديث صحيح لكان أسعدَ خلْقِ الله باتباعِ مذهب ذلك الإمام، لأن القول الذي يخالف الحديث إن كان نصًّا من الإمام فهو مرجوع عنه بما ذكر، وإن كان من تخريج الأصحاب فهو أوهى وأوهنُ. هذا علاوةً على أنه أسعدُ خلق الله باتباع دين الله في تلك القضية. فصل ويقال لمن ناظر في مسألة التقليد: أمجتهدٌ أنتَ فيها أم مقلِّد؟ فإن قال: مجتهد، كان ذلك تسليمًا منه ببقاء الاجتهاد. وقيل له: مجتهد مطلق أم في هذه المسألة فقط؟ فإن قال: مُطْلق. قيل له: فلماذا تُنازع في مسألة التقليد؟ قال: ليترخص به العامة. قيل له: إنه لا يَسوغُ للعامي العملُ بالتقليد إلا بعد علمه بجوازه، ولا سبيلَ له إليه، لأنه إن ادّعاه عن دليلٍ فالأدلة في ذلك ــ على علّاتها ــ ظنية، يفتقر جوازُ العمل بها إلى اجتهاد، وليس من أهله. أو عن تقليدٍ أيضًا عاد السؤال وهكذا. ونعني بالعلم الظنَّ الذي يُسوِّغ الشرعُ الاستنادَ إلى مثله. وإن قال: بل في هذه المسألة فقط. قيل له: هذا متوقّفٌ على القول بجواز تجزِّي (1) الاجتهاد، وإنها مسألة _________ (1) كذا في الأصل، مصدر تجزَّى بالتسهيل، والأصل: "التجزُّؤ".

(4/103)


خلافية، فمقلدٌ أنت فيها أم مجتهد؟ فإن قال: مقلِّد. قيل له: فاجتهادك في مسألة التقليد باطل، لبنائه على أصلٍ أنتَ فيه مقلِّد. وإن قال: بل مجتهد فيها أيضًا. قيل له: هذا لا يصحّ، وذلك أن كونه يجوز لك الاستناد إلى القول بجواز التجزِّي متوقفٌ على غلبة ظنك بجواز التجزِّي، وغلبةُ ظنك بجواز التجزِّي متوقف على اجتهادك في مسألته اجتهادًا يغلبُ على ظنِّك صحتُه، واجتهادُك فيها اجتهادً يغلب على ظنك صحتُه متوقف على غلبة ظنك بأنك أهلٌ للاجتهاد فيها، وغلبةُ ظنك بأنك أهلٌ للاجتهاد فيها متوقف على غلبة ظنك أنه يجوز لك الاستنادُ إلى القول بجواز التجزِّي، وإنه دَوْر. وإن قال: أنا في مسألة التقليد مقلِّدٌ أيضًا، أُورِدَ عليه السؤالُ الذي قدَّمنا. فقيل له: إنه لا يَسُوغ لك الاستنادُ إلى التقليد إلّا بعد غلبة ظنك بجوازه، ولا سبيل لك إليها، لأن غلبة الظن إمّا عن دليل، والأدلة في هذا ــ على علاتها ــ ظنية تفتقر إلى الاجتهاد، ولستَ من أهله؛ وإما عن تقليدٍ، فيعود السؤال، وهكذا. فإن قال: فإن غلبة الظن بجواز التقليد حصلتْ لي بفتوى مجتهدٍ ذكرَ لي فيها الأدلة الشرعية، وفسَّرها لي، وأخبرني أنه ليس لها معارض معتبر.

(4/104)


قيل له: مجتهد مقيّد أم مطلق؟ فإن قال: مقيّد، أُورِدَ عليه ما مرَّ. فإن قال: مطلق. قيل له: فهلَّا صنعت في جميع فروع دينك هكذا، فتكون ناجيًا بيقين؟ ويقال له ولمن تعامَى عن البرهان المتقدم: لمن أنتَ مقلِّد؟ فإن سمَّى أحدًا من الأئمة [ص 60] قيل له: إن هذا الإمام قائلٌ ببطلان التقليد، وهذه نصوصه في كتبه وكتب أصحابه وغيرها، وهذه الأدلة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله وأقوال العلماء، مع عمل السلف الصالح الصحابة فمَن بعدهم والأئمة، تؤيِّد ما قاله من المنع. فإن قال: لكن بعض العلماء نُسِب إليه القول بجواز التقليد. قيل له: دعْ "قِيل وقال" العاطل عن الاستدلال، واسمعْ نصوصَ ربك عز وجل ونصوصَ نبيك وأصحابه وأتباعهم وأئمة الدين، ومنهم إمامك. فإن وفَّقه الله تعالى فلله الحمد، وإلّا فقل له: فهاهنا مخرجٌ حسن، وهو أن تعتمد استفتاء علماء الكتاب والسنة الموجودين في عصرك، فتسألهم عما يعرض لك من أمور دينك، فيخبرك المسؤول بالدّليل الذي في المسألة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، ويفسِّر لك معناه، ويبيِّن لك وجه الدلالة، ويُخبرك بأنه لا معارضَ له، وأنه أخذ بمقتضاه من الأئمة المشهورين فلانٌ، فيكون عملك بهذه الفتوى عملًا بكتاب الله تعالى وسنة رسولِه وفتوى العالم المعاصر لك، مع اطمئنان قلبك بقول أحد الأئمة المشهورين ما يوافق ذلك، إذ تكون في حكم المقلد له، وأنت ترى صحة تقليده.

(4/105)


فإن قال المتعامي عن البرهان المتقدم: لكن في هذا تبعيض التقليد [ص 26] والتعرض للتلفيق. وقد أخبرني بعض العلماء بمنع ذلك ووجوبِ الالتزام لمذهب إمام معين. قيل له: هذا التحريج قول باطل، وذُكِر له عملُ الأمة في زمن الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم، مع نصوص العلماء المصرّحين بجواز تجزِّي التقليد ونحو ذلك مما مرَّ بيانه، وذُكِّر بنصوص الكتاب والسنة وعمل السلف في وجوب العمل بالدليل، وبنصوص إمامه وغيره في ذلك، وبُيِّن له أن الإمام الذي يريد أن يلتزم مذهبَه مطلقًا غير معصوم ولا محيط بالشريعة، ولا يدَّعى له ذلك. وقد تواتر عنه ما يفيد ذلك من الاعتراف بأنه معرَّض للخطأ مع عدم إحاطته بالشريعة، وتواتر عنه الأمر بتقديم ما صحَّ من الأدلة على قوله. ومثلُه في ذلك سائر الأئمة وجميع أفراد الأمة ما عدا نبيها صلى الله عليه وآله وسلم. وذُكِر له بعض الأدلة العقلية والنقلية على ذلك مما بيَّناه في هذه الرسالة وغيره. وقيل له: إننا نتلو عليك آية من كتاب الله تعالى، أو نروي لك حديثًا صحيحًا عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ونبيِّن لك دلالته على حكم من الأحكام بحسب ما تقتضيه اللغةُ العربية والإطلاقات الشرعية، ونذكر لك مَن أخذ بذلك من الأئمة الأربعة، وأنه لا معارضَ لذلك من الأدلة الشرعية، فيجيء رجلٌ مقلِّد فيخبرك بحكمٍ فهمه من كلام مقلِّد آخر، وأن ذلك المقلد فهمه من كلام مقلِّد ممن تقدَّمه، وهلُمَّ جرًّا، حتى تتصل الحلقات بالإمام المجتهد. ففهْمُ المقلّد الذي أفتاك يحتمل الخطأ، وتلك العبارة التي فهم منها ذلك يحتمل أن يكون لها معارض من العبارات

(4/106)


الأخرى، وقسْ على هذا قولَ مَن تقدمَه وهكذا مَن قبلهم إلى آخر السند، مع أن الإمام المجتهد يحتمل أن يكون أفتى بما أفتى عن دليل ثابت، ويحتمل أن يكون اجتهد في ذلك برأيه لعدم استحضاره للدليل، كما وقع كثير من ذلك لأكابر الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم. وعلى فرض كونه أخذه من دليل ثابت، فذلك الدليل محتملٌ لأن يكون له معارضٌ لم يطلع عليه الإمام واطلعَ عليه غيره، أو لم يثبت عنده وثبتَ عند غيره، كما في وقت المغرب في قول الشافعي، وغير ذلك مع ما تقدم بيانه [ص 27] من أن جَمْع العلم كان صعبًا في القرون الأولى قبلَ تدوينه؛ فأيهما أرجحُ إن كنتَ مسلمًا عاقلًا؟ آلحكمُ المفهومُ من كتاب الله وسنة رسوله كما يبينه لك أحد علماء الكتاب والسنة، العارفين بأحكامهما، والمطلعين على مذاهب الأئمة وأدلتهم، مع إخباره لك أنه لا معارضَ لذلك، وموافقة قول أحد الأئمة المشهورين لذلك، فتكون عاملًا بما فهمتَه من الكتاب والسنة، مع أن الأصل أنه لا معارضَ لذلك، وتأكَّد ذلك بإخبار ذلك العالم، وتَمَّ الاطمئنان بموافقة أحد الأئمة المشهورين؟ أم الحكم المفهوم من عبارة بعض المقلدين، كما يحكيه لك أحد المقلّدين الذين لا يعرفون أحكام كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله، ولا هم مطَّلعون على مذاهب الأئمة وأدلتهم، بل غايتهم معرفة كلام بعض من تقدَّمهم من المقلِّدين الذين هم قريب منهم في ذلك، وهلُمَّ جرًّا، ولاسيَّما مع إصرارهم على مخالفة إمامهم الأعظم في منع التقليد وفي منع العمل بقوله فيما جاء الدليل الشرعي بخلافه، ومع ردِّهم لما ثبت من الكتاب أو السنة بخلاف قول إمامهم أو بخلاف قول أحد أتباعه فيما ادَّعى أنه استنبطه

(4/107)


من قول الإمام أو من قول تابعٍ آخر، وتنقُّصِهم لبقية الأئمة المجتهدين في ردّ أقوالهم جملةً؟ وهذا بخلاف الطريقة التي أَرشدْنا إليها، فإن المستفتي لا يكون رادًّا لحكم من أحكام كتاب الله وسنة رسوله، ولا رادًّا لما قاله إمامُه من مَنْع التقليدِ ومَنْع العمل بقوله فيما جاء الدليل الشرعي بخلافه، ولا متنقِّصًا لأحد الأئمة المجتهدين لكونه إنما يُرجِّح بالدليل لا بمجرَّد التشهِّي، مع أنه وإن خالفَ قولَ أحدهم في مسألةٍ وافقه في أخرى. ولا يَرِدُ على هذا شيء من المحذورات، لأنه قد عمِلَ بالكتاب والسنة بعد تفهُّمِ ذلك ممن يُعرَف بالعلم، واعتمدَ في عدمِ المعارض على الأصل، مع ظاهر إخبار المفتي، مع تأكُّدِ ذلك بموافقة أحد المجتهدين المشهورين. فإن كان مفتيه مجتهدًا فقد أدى الواجب، وإلَّا فهو في الحكم المقلِّد لذلك الإمام الذي وافق قوله. وتجزِّي التقليد عند من يقول به لا مانعَ منه إلّا تتبع الرخص، وهو منتفٍ في هذه الطريقة. وأما التلفيق فلا محذورَ فيه كما بيناه آنفًا (1). فإن هداه الله تعالى لهذه الطريقة فلله الحمد، وإلَّا فإنّ الله غنيٌّ عن العالمين. وهذا الفصل كافٍ في إبطال التقليد، لتأيُّده بالبراهين القاطعة، ولا يخرج عن ذلك إلا صورة واحدة، وهي ما إذا استفتى القاصرُ مجتهدًا مطلقًا في مسألة التقليد، فأفتاه بالجواز فتوًى متفقًا على صحتها، بأن ذكر له دليلًا شرعيًّا وفسَّره له، وأخبره أنه لا مُعارضَ لذلك. وهذه الصورة مع عزَّتها قد بينّا ما ينقُضُ هذه الفتوى، وبيَّنا الطريقة التي إذا اعتمدها الإنسان كان ناجيًا بيقين، والحمد لله رب العالمين. _________ (1) انظر (ص 75).

(4/108)


[فصل] [ص 35] * قال المقلدون: أخبِرونا أيها المانعون: (1) أأنتم أعلمُ أم الأئمة الأربعة؟ فإن قلتم: هم أعلمُ، فكيف تَسُوغ لكم مخالفتُهم؟ (2) أأنتم أعلم أم الأئمة الذين جاءوا بعدهم مقلدين لهم؟ فإن قلتم: هم أعلم، فلِمَ لا تقلِّدون كما قلَّدوا؟ (3) ما تعتقدون في المقلِّدين من علماءَ وغيرِهم وهم جمهور الأمة، أهم على حق أم على ضلالة؟ (4) ما تعتقدون في مشايخكم الذين أخذتم عنهم العلم ومشايخهم وهلمَّ جرًّا؟ (5) ما تعتقدون في مؤلفي هذه الكتب التي تأخذون عنها العلم؟ * قال المانعون: (1) الأئمة الأربعة أعلم إجمالًا، فأما تفصيلًا فقد يبلُغنا من السنة ما لم يبلغهم، وهذا كثير. وذلك أن السُّنَّة كانت في وقتهم لم تُدوَّن. وفي ترجمة الإمام مالك (1) أن الرشيد قال له: إني عزمتُ أن أحمل الناس على "الموطأ" كما حمل عثمان الناسَ على المصحف. فقال: أما حملُ الناس على "الموطأ" فليس لك إلى ذلك سبيلٌ؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم افترقوا بعده في الأمصار فحدَّثوا، فعند أهل كل مصرٍ علمٌ. _________ (1) انظر "طبقات ابن سعد" (ص 440 - القسم المتمم)، وفيه أن أبا جعفر المنصور قال له ذلك. وانظر "ترتيب المدارك" (1/ 192، 193) و"سير أعلام النبلاء" (8/ 78).

(4/109)


وفي "إعلام الموقعين" (1) أن الربيع قال: سمعتُ الشافعي يقول: كل مسألة يصحُّ فيها الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلتُ فأنا راجعٌ عنها في حياتي وبعد مماتي. ونقل إمام الحرمين في "نهايته" (2) عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أنه قال: إذا صحَّ خبرٌ يخالف مذهبي فاتبعوه، واعلموا أنه مذهبي. وفي "تدريب الراوي" (3) للسيوطي تنبيهات، الأول: اعتُرِض على التمثيل بـ "مسند أحمد" بأنه شرطَ في مسندِه الصحيحَ. قال العراقي: ولا نسلِّم ذلك، والذي رواه عنه أبو موسى المديني أنه سُئل عن حديث فقال: انظروه، فإن كان في "المسند" وإلّا فليس بحجة. فهذا ليس بصريح في أن كلَّ ما فيه حجة، بل ما ليس فيه ليس بحجة. قال: على أن ثَمَّ أحاديثَ صحيحة مخرجة في "الصحيحين" وليست فيه، منها: حديث عائشة في قصة أم زرع (4). انتهى. وساق السيوطي الكلام إلى أن قال (5): "وقال الهيثمي في "زوائد المسند": "مسند أحمد" أصحُّ صحيحًا من غيرِه، [وقال ابن كثير] (6): لا _________ (1) (2/ 266). (2) "نهاية المطلب" (4/ 260). (3) (1/ 172). (4) أخرجه البخاري (5189) ومسلم (2448). (5) (1/ 173). وكلام الهيثمي في أول "غاية المقصد" بنحوه. (6) زيادة من "تدريب الراوي". وكلام ابن كثير في "اختصار علوم الحديث" (1/ 118، 119).

(4/110)


يُوازي "مسندَ أحمد" كتابٌ مسند في كثرته وحسنِ سياقاته، وقد فاته أحاديث كثيرة جدًّا، بل قيل: إنه لم يقع له جماعة من الصحابة الذين في الصحيحين قريبًا من مئتين". وإذا كان هذا الإمام أحمد، وهو وارثُ مَن قبله من الأئمة وجامعُ علمِهم وزيادة، وهو أكثر الأئمة روايةً للحديث وأجمعهم، كما يُعلَم من الموازنة بين ما رُوِي عنه وما رُوي عنهم= إذا كان ذلك في حقِّه ففي حقِّ غيره أولى وأحرى. وهذا واضح جدًّا، والله أعلم. [ص 36] ومع هذا فقد يتنبه الإنسان لدلالةٍ في كتاب الله تعالى أو في السنة الثابتة عزُبَتْ عن من هو أعلم منه، كما رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيثُ ذكَّرتْه المرأةُ بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] (1). وابن مسعود حيث ذكَّره أبو موسى بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا [فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً] فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] (2). وفي "زاد المعاد" (3) في الكلام على حديث فاطمة بنت قيس وقول عمر: "لا نردُّ كتابَ ربنا لقولِ امرأةٍ لعلها نسيتْ ... " إلخ: أن الإمام أحمد كان يتعجب من ذلك _________ (1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (10420) وابن المنذر في "تفسيره" (1551) عن أبي عبد الرحمن السلمي. وفي الباب روايات أخرى تكلم عليها الألباني في "إرواء الغليل" (6/ 348) وضعفها. وانظر "تفسير ابن كثير" (3/ 45، 46) و"فتح الباري" (9/ 204) و"الدر المنثور" (4/ 293، 294). (2) أخرجه البخاري (345، 346، 347) ومسلم (368). (3) (5/ 478).

(4/111)


ويقول: وأين في كتاب الله أن للمطلقة ثلاثًا السكنى والنفقة؟ أو كما ذكر. وهذا كثير جدًّا عن أكابر الصحابة، ولا يحتاج إلى إثبات دليلٍ، فإنه مما لا خفاءَ فيه أن الإنسان معرَّضٌ للنسيان مهما كانت رتبتُه، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسهو في الصلاة وينسى بعض الآيات حتى يُذكِّره بعضُ أصحابه، كما ثبت في حديث ذي اليدين (1) وغيره، ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم معصوم، إذا نسي ذكَّره الله تعالى بوحيٍ أو إلهامٍ، أو يُقيِّظُ له من يذكِّره من أصحابه، وذلك لئلا يُعتبر فعلُه المبني على النسيان شرعًا. وأما غيره من الأمة أكابرها وأصاغرها إذا نسي فقد يُذكَّر، كما في نسيان عمر وابن مسعود المارّ ذكره، وقد لا يَذكُر ولا يُذكَّر، وذلك لأنه لا محذورَ في عدم تذكيرهم، إذ ليس قول أحدٍ منهم ولا فعلُه حجةً تُفيد شرعًا لغيره. وأما قولكم: "فإن قلتم: هم أعلم منا فكيف يسوغ لكم مخالفتهم؟ "، فأخبِرونا أهم أعلمُ أم أكابرُ الصحابة: أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعائشة وغيرهم؟ ولا شك أن أكابر الصحابة أعلم، فكيف ساغ لهؤلاء الأئمة مخالفةُ مَن هو أعلمُ منهم. وجوابكم هو جوابنا. إن الله سبحانه وتعالى لم يُنزل كتابه خاصًّا بأحد، بل عامًّا في كل مكلَّف، قائلًا سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ}، {يَاعِبَادِيَ}. فكلُّ مكلَّفٍ من بني آدم مكلَّفٌ بأن يفهم خطابَ ربّه، وإنه لَعارٌ وشنارٌ وفضيحة الأبد أن يكون كلام الله تعالى الذي أنزله على نبيه مخاطبًا لنا خطابًا يتناول كلَّ واحدٍ منا، موجودًا بين أيدينا، ميسَّرةٌ الطريقُ إلى فهمه والعمل به، ثم نُعرِض عنه _________ (1) أخرجه البخاري (1228) ومسلم (573) من حديث أبي هريرة.

(4/112)


ونهجره! إنا لله وإنا إليه راجعون. وأيْمُ الله لو أن أهل مدينة من المدن جاءهم كتابٌ من ملكهم يتناول كلَّ واحدٍ منهم، ما بقي واحدٌ منهم إلّا وأحبّ أن يسمع خطابَ الملك ويفهمه، فأما إذا علموا أنه أمرهم أن من عملَ بما في ذلك الكتاب استحق الإنعام والإكرام، ومَن لم يعمل بما فيه استحق التخليد في الحبس، فإن كلّ واحدٍ منهم يبذل جِدَّه وجهدَه ليطلع على ذلك الكتاب، وعلى الأقل على خبر جازمٍ ممن يثق به أن الذي في الكتاب هو كذا. فأما إذا قال له من يثق: أظن أن فيه كذا، فإنه لا يكتفي بذلك. [ص 37] وكذا لو أرسل الملك رسولًا، وأمر كلَّ أحدٍ باتباعه والعملِ بقوله. إذا كان هذا في مَلِك من ملوك الدنيا، لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعًا ولا ضرًّا، وإن أثاب فثوابُه محدود، وإن عاقب فعقابه منقطع، فكيف بنا وكتاب الله جلَّ جلالُه وسنة رسوله بين أيدينا، وثوابُه الجنة وعقابه النار؟ ! ولما كان سلف هذه الأمة وخير القرون يعلمون ذلك، ويعلمون أن كلَّ فردٍ منهم مكلَّفٌ بأن يعرف حكم الله تعالى من كتابه الكريم، أو مما يرويه له الثقات عن رسوله عليه أفضل الصلاة والتسليم= لم يكونوا يُعرِّجون على غير ذلك ولا يلتفتون إليه، ولاسيما مع علمهم أن غير المعصوم وإن علَتْ رتبتُه في العلم والفضل معرَّضٌ للخطأ والنسيان والغفلة وعدم الاطلاع وغير ذلك، فلم يكونوا يعملون إلّا بكتاب الله تعالى وإلَّا بما أخبرهم الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأن الخطأ والنسيان والغفلة وغيرها منتفيةٌ في الرواية، إذ لا تُقبل إلا بالجزم، بخلاف الرأي، فإن المجتهد مكلَّف بما غلب على ظنه، وقد يعزُب عنه الدليلُ فيعمل برأيه، فلم يكن مجرد رأيه

(4/113)


حجةً. ولهذا قال الإمام الشافعي وغيره: ليس قول الصحابي حجةً، وإذا روى الصحابي حديثًا ورأى خلافَه عمِلْنا نحن بما رواه لا بما رآه. فلذلك ترى أصاغر الصحابة قد يخالفون أكابرَهم، وترى التابعين قد يخالفون أصاغر الصحابة وأكابرَهم، كما يخالف بعضهم بعضًا. وهكذا تابِعوا التابعين على هذا المنوال، إلّا إذا أجمع الصحابة على أمرٍ الإجماعَ المعتبر. ولهذا رُوي عن الإمام الشافعي أنه قال (1): ما جاء عن الله ورسوله فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة تخيَّرنا، وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجالٌ. أي أن ما جاء عن الصحابة فإن كانوا أجمعوا فإجماعُهم حجة، وحاشاهم أن يُجمِعوا إلّا على حكمٍ ثابت في الكتاب أو السنة، وإن اختلفوا اجتهدنا واخترنا ما رأيناه أقربَ إلى دلالة الكتاب والسنة، وإن كان قولًا لأحد أصاغرهم يخالف ما عليه الأكابر. وكذا لم يزل علماء الأمة يخالف كلُّ واحدٍ منهم مَن هو أكبر منه، فضلًا عمن هو مثلُه أو دونَه، لاختلاف الأفهام والمدارك، والتفاوت في الاطلاع على الدليل، وكل واحدٍ مكلَّفٌ بما غلبَ على ظنّه أنه حكم الله تعالى، [ص 38] بدليلٍ من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن خالفَ مَن هو أجلُّ منه وأفضل وأكمل وأكثر. ولا يلزم من مخالفة _________ (1) هذا مروي عن الإمام أبي حنيفة في "الانتقاء" (ص 144) و"المدخل" للبيهقي (ص 111) و"الإحكام" لابن حزم (4/ 188) وغيرها.

(4/114)


الإنسان لغيره استنقاصُه له، ولا بُغضُه له، ولا تفضيلُه نفسَه عليه، ولا غيرُ ذلك، وإنما اجتهد ذاك، فعمِلَ بما أدَّاه إليه اجتهادُه كما هو فرضُه، واجتهد هذا، فعمِلَ بما أدَّاه إليه اجتهادُه كما هو فرضه. [ص 39] وفي "الأم" (1) في باب الأوقات التي تُكْرَه فيها الصلاة، باب الخلاف في هذا الباب: حدثنا الربيع قال الشافعي رحمه الله تعالى: فخالَفَنا بعضُ أهل ناحيتنا وغيره فقال: يُصلَّى على الجنائز بعد العصر وبعد الصبح ما لم تقارب الشمس أن تطلع، وما لم تتغيَّر الشمس. واحتجَّ في ذلك بشيء رواه عن ابن عمر يُشبِه بعضَ ما قال. قال الشافعي: وابن عمر إنما سمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم النهيَ أن يتحَّرى أحدٌ فيصلِّي عند طلوع الشمس وعند غروبها (2)، ولم أعلمه روى عنه النهي عن الصلاة بعد العصر ولا بعد الصبح. فذهب ابن عمر إلى أن النهي يُطلَق على كل شيء، فنهى عن الصلاة على الجنائز لأنها صلاةٌ في هذين الوقتين، وصلَّى عليها بعد الصبح وبعد العصر، لأنا لم نعلمه روى النهيّ عن الصلاة في هذه الساعات. أقول: انظر احتياط هذا الإمام بقوله: "ولم أعلمه روى عنه النهي ... " إلخ، حيث عدلَ عن قوله: "ولم يسمع منه"؛ لأنه قد يكون سمع منه ونسي أو تأوَّل، كما أنه قد يكون ثبت سماع ابن عمر عند غير الإمام الشافعي، فعبَّر بعبارة لا شبهةَ فيها، مشيرًا بها إلى أنه لا يلزمه العمل إلا بما علم. _________ (1) "اختلاف الحديث" ضمن كتاب "الأم" (10/ 102، 103). (2) أخرجه البخاري (585)، ومسلم (828).

(4/115)


ثم قال بعد كلام (1): قال الشافعي: وذهب أيضًا إلى أنه لا يُصلِّي أحد للطواف بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس. واحتج بأن عمر بن الخطاب طاف بعد الصبح، ثم نظر فلم يرَ الشمس طلعتْ، فركب حتى أناخ بذي طُوى، فصلَّى (2). قال الشافعي: فإن كان عمر كره الصلاة في تلك الساعة فهو مثل مذهب ابن عمر، وذلك أن يكون علمَ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر، فرأى نهيه مطلقًا، فترك الصلاة في تلك الساعة حتى طلعت الشمس. إلى أن قال (3): قال الشافعي: وفي هذا المعنى أن أبا أيوب الأنصاري سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهى أن تُستقبَل القبلةُ أو بيت المقدس لحاجة الإنسان (4) ... إلخ. إلى أن قال (5): قال الشافعي: علم أبو أيوب النهيَ، فرآه مطلقًا، وعلم ابن عمر استقبالَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحاجته، ولم يعلم النهي، ومن علمهما معًا قال ... إلخ. إلى أن قال (6): قال الشافعي: وفي هذا المعنى أن أُسَيد بن حُضَير _________ (1) المصدر السابق (10/ 104). (2) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 368). (3) "الأم" (10/ 104). (4) أخرجه البخاري (144) ومسلم (364). (5) "الأم" (10/ 105). (6) المصدر نفسه (10/ 105).

(4/116)


وجابر بن عبد الله صلَّيا مريضَين قاعدينِ بقومٍ أصحَّاءَ، فأمراهم بالقعود معهما (1)، وذلك أنهما ــ والله أعلم ــ علما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [ص 40] صلَّى جالسًا وصلَّى وراءه قومٌ قيامًا، فأمرهم بالجلوس (2)، فأخذا به، وكان الحق عليهما. ولا شكَّ أنه قد عزبَ عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى في مرضه الذي مات فيه جالسًا، وأبو بكر إلى جنبه قائمًا (3) ... إلخ. أقول: انظر كيف جزمَ الإمام رضي الله عنه بأن هذين الصحابين الجليلين عزبَ عنهما ذلك الأمر المشهود الذي لا يكاد يعزُب عن أحد. وهذا حسْنُ ظنٍّ من الإمام رضي الله عنه، وذلك أن الواجب عليه الأخذ بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولو ثبت عن الصحابة خلافه، ومع ذلك فيُحسِن الظنَّ بالصحابة ما أمكنَ، فإن أمكنَ عدمُ الاطلاع قيل: لعله لم يعلم، وإن لم يمكن قيل: لعله عزبَ عنه. وهذا هو الواجب على كل متأخّرٍ في حقِّ من تقدَّمه. والعالم في زماننا يجب عليه الأخذ بالحديث وإن خالفه بعض المجتهدين، ومع ذلك يُحسِن الظنَّ والأدب بمثل ما مرَّ. وإذا ساغ للإمام رضي الله عنه أن يُجوِّز أن أكابر الصحابة لم يطلعوا على بعض الأحاديث، _________ (1) راجع "مصنف عبد الرزاق" (2/ 462) و"مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 224، 225). (2) أخرجه البخاري (688، 1113، 1236) ومسلم (412) من حديث عائشة. وفي الباب أحاديث أخرى. (3) أخرجه البخاري (683) ومسلم (418) من حديث عائشة.

(4/117)


وكان يعزُب عنهم مثل ذلك الأمر المشهور الذي لا يكاد يستقرُّ في الذهن أنه يعزُب عن أحدٍ منهم، فلَأنْ يجوزَ مثلُ ذلك للعلماء المتأخرين في حق المتقدمين أولى وأحرى. والحاصل أن الواجب هو الأخذ بالحديث مطلقًا، ثم يتلطَّف العالم في الاعتذار عمن تقدَّمه بما أمكن، ولو بأن يقول: ربما بلغَهم دليلٌ لم يبلُغْنا، وليس لنا أن نعمل إلا بما بلغَنا. ثم قال بعد كلام: قال الشافعي (1): وفي مثل هذا المعنى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خطبَ الناسَ وعثمانُ بن عفان محصورٌ، فأخبرهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهاهم عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث (2) ... إلخ. إلى أن قال: وكلٌّ قال بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يدلُّ على أنه قاله على معنًى دون معنًى أو نسخَه، فعلمَ الأولَ ولم يعلم غيرَه، فلو علمَ أمْرَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه صارَ إليه إن شاء الله. أقول: في "المسند" (3) من طرقٍ عن علي رضي الله عنه حديث إباحة الادّخار من لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فليراجَع. _________ (1) "الأم" (10/ 106). (2) أخرجه البخاري (5573) ومسلم (1969). (3) رقم (1236، 1237). وأخرجه أيضًا الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 185). وفي إسناده ضعف. والحديث صحيح لغيره.

(4/118)


ثم قال: قال الشافعي (1): ولهذا أشباهٌ غيره في الأحاديث، وإنما وضعت هذه الجملة عليه لتدلَّ على أمورٍ غلِط فيها بعضُ من نظرَ في العلم، ليعلَمَ مَن علِمَه أن من متقدمي الصحبة وأهلِ الفضل والدين والأمانة من يعزُب عنه من سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيء علِمَه غيرُه، ممن لعله لا يُقاربه في تقدُّم صحبته وعلمِه. ويعلَمَ أن علم خاصِّ السنن إنما هو علم خاصٌّ لمن فتح الله عز وجلَّ له علمه، لا أنه عام مشهورٌ شهرةَ الصلاةِ، وجُملِ الفرائض التي كُلِّفَتْها العامةُ، ولو كان مشهورًا شهرةَ جُملِ الفرائض ما كان الأمر فيما وصفتُ من هذا وأشباهه كما وصفتُ. ويعلَمَ أن الحديث إذا رواه الثقاتُ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذلك ثبوته. وأن لا نعوِّل على حديثٍ ليثبتَ أنْ وافقه بعضُ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يُردّ لأنْ عَمِلَ بعضُ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عملًا خالفَه، لأنَّ لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين كلِّهم حاجةً إلى أمرِ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعليهم اتباعُه، لا أن شيئًا من أقاويلهم تبِعَ ما رُوي عنه ووافقَه يزيد قولَه شدَّةً، ولا شيئًا من أقاويلهم يُوهِن ما روى عنه الثقة، [ص 41] لأن قوله المفروض اتباعُه عليهم وعلى الناس، وليس هكذا قول بشرٍ غيرِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال الشافعي (2): فإن قال قائل: أَتَّهمُ الحديث المروي عن رسول الله _________ (1) كتاب "الأم" (10/ 107). (2) كتاب "الأم" (10/ 107).

(4/119)


صلى الله عليه وآله وسلم إذا خالفَه بعض أصحابه، جاز له أن يتَّهم [الحديث] عن بعض أصحابه لخلافه، لأن كلًّا روي خاصة معًا. وإن يُتَّهما فما رُوِي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى أن يُصار إليه. ومن قال منهم قولًا لم يروِه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يَجُزْ لأحدٍ أن يقول: إنما قاله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لِما وصفتُ أنه يَعزُب عن بعضهم بعضُ قوله، ولم يجز أن نذكره عنه إلّا رأيًا له ما لم يقلْه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فإن كان هكذا لم يجز أن يُعارَضَ بقول أحدٍ قولُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولو قال قائل: لا يجوز أن يكون إلا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لم يحلَّ له خلاف من وضعه هذا الموضع. وليس من الناس أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلّا وقد أُخِذ من قوله وتُرِك لقول غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يجوز في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يُردَّ لقولِ أحدٍ غيرِه. فإن قال قائل: فاذكُر لي في هذا ما يدلُّ على ما وصفتَ فيه. قيل له: ما وصفتُ في هذا الباب وغيرِه متفرقًا وجملةً. ومنه: أن عمر بن الخطاب إمامَ المسلمين، والمقدَّمَ في المنزلة والفضل وقِدَم الصحبة والورع، والثقة والثبت، والمبتدئ بالعلم قبلَ أن يُسأله، والكاشفَ عنه، لأن قوله حكمٌ يلزم، كان (1) يقضي بين المهاجرين والأنصار أن الدية للعاقلة، ولا تَرِث المرأةُ من دية زوجها شيئًا، حتى أخبره أو كتب إليه _________ (1) في الأصل: "حتى كان". و"حتى" لا توجد في "الأم"، وبدونها يستقيم السياق.

(4/120)


الضحاك بن سفيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب إليه أن يُورِّث امرأةَ أشيمَ الضبابي من دية زوجها، فرجع إليه عمر وترك قوله (1). وكان عمر يقضي أن في الإبهام خمس عشرة، والوسطى والمسبِّحة عشرًا عشرًا، وفي التي تلي الخنصرَ تسعًا، وفي الخنصر ستًّا، حتى وجد كتابًا عند آل عمرو بن حزم الذي كتبه له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "وفي كلِّ إصبعٍ مما هنالك عشْرٌ من الإبل"، فترك الناس قولَ عمر (2)، وصاروا إلى كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. [ص 42] ففعلوا في ترك أمرِ عمر لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فِعْلَ عمر في فِعْلِ نفسه، في أنه ترك فِعْلَ نفسِه لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك الذي أوجب الله جلَّ وعزَّ عليه وعليهم وعلى جميع خلقه. قال الشافعي (3): وفي هذا دلالةٌ على أن حاكمهم كان يحكم برأيه فيما لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه سنة لم يعلمها، ولم يعلمها أكثرهم، وذلك يدلُّ على أن علم خاصِّ الأحكام خاصٌّ كما وصفتُ، لا عامٌّ كعامِّ جُملِ الفرائض. قال الشافعي: وقسمَ أبو بكر حتى لقي الله عز وجل، فسوَّى بين الحرّ والعبد، ولم يفضِّل بين أحدٍ بسابقةٍ ولا نسبٍ. ثم قسمَ عمر، فألغى العبيد، _________ (1) أخرجه أبو داود (2927) والترمذي (2110)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (2) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (17698) والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 93). وكتاب عمرو بن حزم في "الموطأ" (2/ 489) وغيره. (3) كتاب "الأم" (10/ 108).

(4/121)


وفضَّل بالنسب والسابقة، ثم قسمَ عليٌّ، فألغى العبيد وسوَّى بين الناس، وهذا أعظمُ ما يلي الخلفاء وأعمُّه وأولاه أن لا يختلفوا فيه. وإنما لله جلَّ وعزَّ في المال ثلاثة أقسام: قسم الفيء، وقسم الغنيمة، وقسم الصدقة. فاختلف الأئمة فيها، ولم يمتنع أحدٌ من أخذِ ما أعطاه أبو بكر ولا عمر ولا علي. وفي هذا دلالةٌ على أنهم يُسلِّمون لحاكمهم وإن كان رأيهم خلافَ رأيه، وإن كان حاكمهم قد يحكم بخلاف آرائهم، لا أن جميع أحكامهم من جهة الإجماع منهم. وعلى أن من ادَّعَى أن حكم حاكمهم إذا كان بين أظهرهم ولم يردُّوه، فلا يكون إلا وقد رأوا رأيَه، قِيْل: إنهم لو رأوا رأيَه فيه لم يخالفوه بعده. فإن قال قائل: قد رأوه في حياته، ثم رأوا خلافه بعده. قيل له: فيدخلُ عليك في هذا ــ إن كان كما قلتَ ــ أن إجماعهم لا يكون حجةً عندهم ... إلخ، بكلام يُبطل فيه ما يُسمَّى بالإجماع السكوتي. ثم قال (1): فإن قال قائل: أفتجدُ مثلَ هذا؟ قلنا: إنما بدأنا به لأنه أشهرُ ما صنع الأئمةُ، وأولى أن لا يختلفوا فيه وأن لا يجهله العامة، ونحن نجد كثيرًا من ذلك. إن أبا بكر جعلَ الجدَّ أبًا، ثم طرحَ الإخوةَ معه، ثم خالفه فيه عمر وعثمان وعلي. ومن ذلك أن أبا بكر رأى على بعض أهل الردّة فداءً وسبيًا، وحبسَهم لذلك، فأطلقَهم عمر وقال: لا سَبْيَ ولا فداءَ. مع غيرِ هذا مما سكتنا عنه، ونكتفي بهذا منه. _________ (1) "الأم" (10/ 110).

(4/122)


[ص 43] ثم ذكر مسائل أخرى مما وقع فيها الخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم، وقال في أثناء كلامه (1): فدلَّ ذلك على أن قائل السلف يقول برأيه ويخالفه غيرُه، ويقول برأيه ولا يُروى عن غيره فيما قال به شيء. إلى أن قال (2): وفي هذا دليلٌ على أن بعضهم لا يرى قولَ بعضٍ حجةً تلزمُه إذا رأى خلافها، وأنهم لا يرون اللازمَ إلا الكتاب والسنة. ثم ذكر كلامًا يُبطِل به إمكانَ العلم بالإجماع الحقيقي، إلى أن قال: قال الشافعي: والعلم من وجهين: اتباع أو استنباط، والاتباع اتباعُ كتابٍ، فإن لم يكنْ فسنَّة، فإن لم يكن فقول عامةِ من سلَفَنا لا نعلم له مخالفًا، فإن لم يكن فقياسٌ على كتاب الله جلَّ وعزّ، فإن لم يكن فقياسٌ على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن لم يكن فقياس على قول عامةِ مَن سلف لا مخالفَ له، ولا يجوز القول إلا بالقياس، وإذا قاس من له القياس فاختلفوا، وسِعَ كلًّا أن يقول بمبلغ اجتهاده، ولم يَسَعْه اتباعُ غيرِه فيما أدَّى إليه اجتهاده بخلافه. والله أعلم اهـ (3). وفي ما ذكرناه الدلالةُ التي ليس بعدها أصرحُ منها على كثير مما ذكرناه في هذه الرسالة. ومن تأمَّلَ هذا الفصل من كلام الإمام الشافعي رحمه الله تعالى عرفَ سقوطَ التقليد جملةً إذا ثبتَ الحديثُ، خصوصًا قوله: "ويعلم أن الحديث إذا رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذلك _________ (1) "الأم" (10/ 112). (2) المصدر نفسه (10/ 113). (3) إلى هنا انتهى النقل من كتاب "الأم".

(4/123)


ثبوته، وأن لا نُعوِّل على حديثٍ ليثبتَ أن وافقَه بعضُ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يُرَدُّ لأن عمِلَ بعضُ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عملًا خالفَه، لأنَّ لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين كلِّهم حاجةً إلى أمرِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعليهم اتباعه لا أنَّ شيئًا من أقاويلهم تَبِعَ ما رُوي عنه ووافقَه يزيدُ قولَه شِدَّةً، ولا شيئًا خالفَه من أقاويلهم يُوهِن ما رَوى عنه ــ أي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ــ الثقةُ، لأن قولَه المفروضُ اتباعُه عليهم وعلى الناس، [ص 44] وليس هكذا قول بشرٍ غيرِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال الشافعي: فإن قال قائل: أَتَّهِمُ الحديثَ المروي عن رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا خالفه بعض أصحابه جاز له أن يتَّهِمَ [الحديث] عن بعض أصحابه لخلافِه، لأن كلًّا روي خاصةً معًا. وإن يُتَّهما، فما رُوي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى أن يُصار إليه. ومن قال منهم قولًا لم يَرْوِه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجز لأحدٍ أن يقول: إنما قاله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لِما وصفتُ من أنه يعزُبُ عن بعضهم بعضُ قوله، ولم يجزْ أن نذكره عنه إلّا رأيًا له، ما لم يقلْه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فإن كان هكذا لم يجزْ أن يُعارَضَ بقولِ أحدٍ قولُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولو قال قائل: لا يجوز أن يكون إلّا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يحلَّ له خلاف من وضعه هذا الموضع. وليس من الناس أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلّا وقد أُخِذ من قوله وتُرِك لقولِ غيرِه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يجوز في قول النبي

(4/124)


صلى الله عليه وآله وسلم أن يُرَدَّ لقولِ أحدٍ غيرِه". هذا الإمام الشافعي رحمه الله يقول: "ومَن قال منهم ــ أي الصحابة رضي الله عنهم ــ قولًا لم يَروِه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم يجزْ لأحدٍ أن يقول: إنما قاله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يجز أن نذكره عنه إلّا رأيًا له ... " إلخ. وبالضرورة إن جميع الأئمة هكذا، فلا يجوز أن يُردَّ الدليلُ الصحيح بخلافِهم له واحتمالِ أن يكون ثبت لديهم أرجحُ منه. والله الموافق. [ص 45] السؤال الثاني: قولكم: "أأنتم أعلمُ أم الأئمة الذين جاءوا بعدهم ــ أي بعد الأئمة الأربعة ــ مقلِّدين لهم؟ ". فالجواب: أن العلماء الذين جاءوا بعد الأئمة الأربعة ثلاثة أقسام: ففيهم الكثير الطيب أئمة مجتهدون، حتى من الذين يظنُّ الناس أنهم مقلِّدون، حتى لقد عَدَّ أهلُ كلِّ مذهبٍ كثيرًا من المجتهدين في عِدادِ المقلِّدين لإمامهم تكثيرًا للسواد، حتى تنازعت المذاهب الأربعة إمامَ السنة محمد بن إسماعيل البخاري، فعدَّه أهلُ كلِّ مذهب في المقلِّدين لإمامهم، ولا يخفى على أحدٍ أنه كان مجتهدًا مستقلًّا، فكم في "صحيحه" من ردٍّ على كلِّ مذهب منها. ومن طالع مصنَّفات أولئك العلماء عرفَ الحقيقة. القسم الثاني: قوم منتسبون إلى مذاهب الأئمة، وهم مع ذلك مجتهدون، كما مرَّ فيما نقلناه عن السيوطي، وقد قال الشيخ أبو إسحاق: إن أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى من هذا القسم. ومرَّ عن القاضي عبد الوهاب المالكي نحوه.

(4/125)


وعليه فتلامذة الأئمة لا يخرجون عن هذين القسمين، وكذا تلامذتهم. ومن راجع كتب الأصول عرف أن كثيرًا من العلماء الذين يظنّ الناس أنهم كانوا مقلِّدين قائلون بمنع التقليد وذمِّه، وإذا منعوه وذمُّوه علمنا أنهم لم يكونوا عاملين به، وإنما كانوا يتظاهرون بالتقليد [ص 46] حذرًا على أنفسهم من مثلِ ما عُومِل به ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما. ومع ذلك فكانوا يبلِّغون حجةَ الله تعالى بالإشارة والإيماء، كما يقول بعضهم: "والمختار من حيث الدليل كذا" أو "وظاهر هذه الآية أو هذا الحديث كذا"، أو يقول: "هذا مذهبنا، ومذهبُ فلانٍ (يذكر إمامًا آخر) كذا، مستدلًّا بكذا"، ويذكر الآية أو الحديث. وقد يُصرِّحون بالحقّ إذا ألَّفوا أو درسوا في أصول الفقه، حيث يذكرون شروط الاجتهاد، ويصرِّحون أن من جمعَها فهو مجتهدٌ، فرضُه الاجتهاد. ويذكرون ممن منع التقليد مطلقًا من العلماء، ويُردِّدون في مؤلفاتهم قولَ إمامهم إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي، وغير ذلك مما يعرفه مَن طالع مؤلفاتهم. وإذا استفتاهم الناسُ عن مذهب إمامهم نقلوا لهم قوله نقْلَ الراوي المخبر فقط. وهؤلاء على هُدًى وصراطٍ مستقيم. وأما القسم الثالث: المقلدون الذين استخبرتمونا أهم أعلمُ أم مجتهدو هذا العصر؟ [ص 47] فنقول: أهل هذا القسم فِرَقٌ: الأولى: المشتغلون بعلوم اللسان وتأليفها وتصنيفها، ولم يُحصِّلوا غيرَها. الثانية: المشتغلون بنقل أقوال أحد الأئمة والتخريج عليها، وجَمْع

(4/126)


ذلك وتأليفه وتصنيفه، ولم يُحصِّلوا غيرَ ذلك. الثالثة: المشتغلون بالكلام والجدل والمنطق والفلسفة والتأليف فيها، ولم يحصِّلوا غير ذلك. الرابعة: المشتغلون بالتصوف والعبادة والسياحة والتخلِّي عن الناس، ولم يُحصِّلوا غيرَ ذلك. الخامسة: المشتغلون بعلوم الاجتهاد، ولكن لم يبلغوا رتبة الاجتهاد. وهذه الفِرق كلُّها وإن كانوا أو بعضُهم أعلمَ من مجتهدي هذا العصر بالنسبة إلى بعض العلوم، فهم بالنسبة إلى الأحكام الشرعية من العامة لا من العلماء، وإن طار صيتُهم وعظمتْ سُمعتُهم. الفرقة السادسة (1): أناسٌ تدلُّ مؤلفاتهم على أنهم أحرزوا علوم الاجتهاد وبرَّزوا فيها، وتدلُّ مؤلفاتهم على تعصُّبٍ شديد للمذهب المنتسبين إليه، بحيث يُقطَع بعدم دخولهم في القسم الثاني. فهؤلاء إذا كان فيهم مَن هو أعلم من مجتهدي هذا العصر فهو لم ينتفع بعلمه، بل يَصدُق عليه من بعض الوجوه قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا}. ومع هذا فإننا لا نقول في شخصٍ معين: إنه كذلك، بل نتخلَّص من ذلك بأن نرجِّح شهادةَ مؤلفاتِه على تعصبه الذي يدلُّ على قصورِه، لاعتضادها بظاهرِ اعترافه بأنه قاصر. _________ (1) في الأصل: "الخامسة".

(4/127)


[ص 48] السؤال الثالث: قولكم: "ما تعتقدون في المقلدين من علماء وغيرهم وهم جمهور الأمة: أعلى حقٍّ أم ضلالة؟ ". الجواب: فقد علمتم أننا نعتقد أن من كان من العلماء بالغًا رتبةَ الاجتهاد فهو مجتهد، وإن لم يُصرِّح بذلك، لما مرَّ. والمجتهدون كلُّهم على هدًى من ربهم وصراطٍ مستقيم. وأما من كان قاصرًا عن ذلك، فإن كان من المتعصبين المضادِّين لكتاب الله تعالى وسنة رسوله ولأهل العلم بهما، قائمًا بعداوتهم وإثارةِ العامة عليهم، فهذا هالك بلا شكٍّ. وإن لم يكن بهذه الصفة فهو كمن دونَه من العامة إن لم تقُمْ حجة الله عليهم بمنع التقليد، ومنعِ الإعراض عن كتاب الله تعالى واتخاذِه مهجورًا، والمنعِ من عداوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمقاطعة سنته، فهو معذور إن شاء الله. وإلّا فأمره إلى الله، إن شاء غفر له، وإن شاء عذَّبه، ما دام محرزًا للإيمان المعتبر. السؤال الرابع: قولكم "ما تعتقدون في مشايخكم الذين أخذتم عنهم العلم، ومشايخهم وهلمَّ جرًّا"؟ الجواب: أنهم قد دخلوا في عموم العلماء، وقد تقدم حكمهم. ومع هذا فهم على قسمين: قسم بلغَ رتبةَ الاجتهاد، فنحن نعتقد فيه كما كان الإمام أحمد بن حنبل يعتقد في الإمام الشافعي، وكما كان الشافعي يعتقده في الإمام مالك، وكما كان مالك يعتقده في كبار التابعين، وكما كان التابعون يعتقدونه في الصحابة رضي الله عنهم. ولنا أسوةٌ بهم في مخالفة كل واحدٍ منهم لشيخه أو مشايخه

(4/128)


في بعض الأحكام، إيثارًا لدلالة كتاب الله تعالى وسنة رسوله، عملًا بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به" (1). قال النووي في "أربعينه" (2): هذا حديث صحيح، رويناه في كتاب "الحجة" بإسناد صحيح. وقِسم لم يبلغوا رتبة الاجتهاد، فهؤلاء نعتقد فيهم كما كان يعتقده الأئمة في الرواة. السؤال الخامس: "ما تعتقدون في مؤلِّفي هذه الكتب التي تأخذون عنها العلم"؟ الجواب: أنهم قد دخلوا في عموم العلماء، وقد تقدم حكمهم. ومع ذلك فإننا نعتقد فيهم ما كان الأئمة يعتقدونه في الرواة. ولنذكر هاهنا حديثًا ... (3) ذهبَ كثيرًا من صدوركم، وهو حديث "الصحيحين" (4) عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مثلُ ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثلِ الغيثِ الكثير أصابَ أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة قَبِلتِ الماءَ فأنبتتِ الكلأ والعُشْبَ الكثير، وكانت منها أجادبُ أمسكتْ الماء فنفع الله بها الناسَ، فشرِبوا وسَقَوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى _________ (1) سبق تخريجه (ص 90). (2) انظره مع شرحه "جامع العلوم والحكم" (2/ 393). (3) خرم بمقدار كلمة. (4) البخاري (79) ومسلم (2282).

(4/129)


إنما هي قِيعانٌ لا تُمسِك ماءً ولا تُنبِتُ كلأً. فذلك مثلُ مَن فَقِهَ في دين الله ونفعَه ما بعثني الله به فعَلِمَ وعلَّم، ومثلُ من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يَقبلْ هُدى الله الذي أُرسِلْتُ". * * * *

(4/130)


فصل قد بينّا بحمد الله تعالى الأجوبة عما أوردتموه من الأسئلة، وبعدُ، فإنكم لا تجهلون أننا مأمورون بتدبُّر كتاب الله عزَّ وجلَّ، وتعلُّم وتفهُّم سنة رسوله، فإذا وجدنا آية أو حديثًا يدلُّ على حكم من الأحكام، وبَحثنا حتى غلب على ظننا أنه لا معارضَ له، فهل تُسوِّغون لنا الإعراضَ عن ذلك الدليل إلى قول العلماء؟ هَبُوا أنه يَسُوغ ذلك فيما إذا قام الإجماع على خلافِ ذلك الدليل، وهذا إن لم يكن معدومًا فهو أقلُّ قليل، فما تقولون إذا كان الأئمة مختلفين، فبعضهم يقول بمقتضى ذلك الدليل، وبعضهم يقول بخلافه؟ وقد علمتم أن الله تعالى أمر بردِّ ما اختُلِفَ فيه إلى كتابه وسنة رسوله، فهل تُوجِبون علينا اختيارَ قول الإمام الموافق لذلك الدليل، عملًا بأمر الله تعالى لنا ولسائر المسلمين باتباع كتابه وسنة رسوله، وردِّ ما اختُلِف فيه إليها، أم تُسوِّغون لنا اتباعَ القول المخالف لذلك الدليل لمجرد احتمال أن قائله وقفَ على معارضٍ له؟ وقد علمتم أن هذا مجردُ احتمالٍ الأصلُ عدمُه، والأدلة متواترة والأئمة مُجمِعون على أنه لا يسوغُ الاستناد إلى مثله. وقد مرَّ في كلام الإمام الشافعي بيان ذلك، وهو مع ذلك معارَضٌ بأشياء كثيرة: أولها: احتمال أن يكون ذلك الإمام الذي قال بخلاف ذلك الدليل لم يطلع عليه، أو اطلع عليه وعَزَبَ عنه، أو عَزَبَتْ عنه دلالتُه، ولاسيَّما وقد تقوم قرينة على بعض هذه الاحتمالات، كما سيأتي في مسألة البناء على القبور إن شاء الله.

(4/131)


وثانيها: أن الظاهر عدم هذا المحتمل بدليل عمل الإمام الآخر بما يوافق ذلك الدليل. وثالثها: بحث العالم البحث الواجب حتى يغلب على ظنه المحتمل، ولاسيَّما وأدلة الشريعة في هذه الأزمنة مدوَّنة مخدومة ميسَّرة، ولاسيَّما مع تيسُّر جمع الكتب بهذه المطابع. فمن المعلوم أن مَن جمع الأمهاتِ الستَّ و"مسند" الإمام أحمد وغيرها من كتب السنة المطبوعة الآنَ كان عنده من الأحاديث ما لم يكن عند أحد الأئمة المتقدمين، بل هذا المتعيَّن في بعض الأحاديث بعينه. هَبُوا أنه لا يَسُوغ لنا اختيارُ أحد القولين على سبيل الاجتهاد لعدم التأهل له في زعمكم، فما تقولون في اختيار أحد القولين أو الأقوال على سبيل التقليد؟ ويكون الاختيار لما ظهر رجحانه بموافقة الدليل الراجح، فإن علماء التقليد إلّا من شذَّ يقولون: إن للإنسان أن يُقلِّد من شاء من الأئمة في حقّ نفسه، ويتجزَّأ التقليد، وهذا هو الذي لا ينبغي غيره، لما هو معلوم من عمل السلف الصالح، حتى الأئمة الأربعة أنفسهم، فلم يكونوا يُلزِمون العاميَّ أن لا يستفتيَ إلا عالمًا واحدًا. واستثنى بعضهم ما إذا كان بقصد تتبُّعِ الرخص، فإنه لا يجوز. وصرَّح بعضهم بجواز تتبُّع الرخص أيضًا، وتتبُّعُ الرخص لا يتأتَّى إلّا فيما إذا كان التقليد بحسب الهوى والتشهّي، أما إذا كان اتباعًا لما يُرجِّحه الدليل ــ كما هو الفرض في مسألتنا ــ فلا يتأتى ذلك. وشرطَ آخرون أن لا يُؤدِّي تجزِّي التقليد إلى التلفيق بحيث تتركَّب قضيةٌ لا يقول بها كلٌّ من المقلَّدين، كأن يقلِّد الشافعيَّ في عدم نقض الوضوء بخروج الدم، ويقلِّد أبا حنيفة في عدم

(4/132)


النقض بمسِّ الذكر، ويريد أن يعمل بهما في وضوء واحد، قال: لأن وضوءه باطل اتفاقًا. وأجازه بعضهم، وهو المتعيِّن، كما يقتضيه إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم. يأتي العاميُّ أحدَ العلماء فيسأله عن مسألة في نواقض الوضوء مثلًا، فيفتيه، ثم يأتي عالمًا آخر، فيسأله عن مسألة أخرى في نواقض الوضوء أيضًا، فيفتيه، فيذهب فيعمل بهما معًا، وقد يكون ذلك تلفيقًا على ما وُصِف، كأن يُفتِيَه الأول بعدم النقض بخروج الدم، والثاني بعدم النقض بمسّ الذكر، ويكون الأول يرى النقض بمسِّ الذكر، والثاني يرى النقض بخروج الدم. بل ربما تتركب من العمل بمجموع الفتاوى صورة باطلة إجماعًا من حيث جملتها، فقد كان العاميُّ في تلك القرون معرّضًا لهذا، والعلماء ــ الصحابة ومَن بعدهم ــ لا يخفى عليهم مثل هذا، ولم يأمر أحدٌ منهم أحدًا من العامة الاحتراز عن ذلك. فإن قيل: لكن الفتوى في تلك القرون كانت ببيان الدليل كما ذكرتم، فكان العامي في حكم المجتهد، فكما أنه لا بدعَ في قول المجتهد بعدم النقض بالأمرين مثلًا تبعًا للدليل، وإن كان لم يسبقه أحدٌ من المجتهدين إلى القول بذلك، بل بعضهم يرى عدم النقض بالأول ويرى النقض بالثاني، وبعضهم بالعكس، فكذلك العامي في الفتوى المبيَّن فيها الدليلُ. فالجواب: أن كلامنا مبني على التنزل في جواز التقليد، والقائلون بجواز التقليد يزعمون أن العمل بهذا النوع من الفتيا تقليد، وأن عامة السلف كانوا مقلِّدين لعلمائهم، وبهذا يتم لنا الاستدلال بذلك على جواز تجزِّي التقليد وجواز التلفيق.

(4/133)


وأما من يعترف بأن العمل بهذا النوع من الفتيا ليس تقليدًا، فهو يرى بطلانَ التقليد من أصله، وهذا هو الأصل الذي ندعو إليه، وإنما أردنا أن نُثبت أن العمل بالطريق التي ندعو إليها صحيح اتفاقًا، وذلك أننا نقول: إن العالم منا يجتهد قدرَ وُسْعِه، وينظر في أدلة المجتهدين المشهورين، ثم يعمل بالراجح من الأدلة، ولابدَّ أن يكون موافقًا لأحدهم. فمن اعترف ببطلان التقليد فإنه يُصحِّح عملَنا، لأنه هو الفرض المتعيَّن علينا، إذ قد اجتهدنا في الأدلة وأخذنا بالراجح. وأما مَن يزعم صحةَ التقليد فإنه يصحِّح عملنا أيضًا، لشرطِنا موافقةَ أحد المجتهدين المشهورين. وأما المتحيِّر فإنه يرى أن عملنا صحيح على كلا التقديرين، والحمد لله رب العالمين. وكما أن جمهور علماء المقلِّدين قائلون بجواز أن يقلِّد الإنسان مَن شاء من الأئمة في حقِّ نفسه مع تجزئة التقليد، فكذلك محققوهم قائلون بجواز تجزِّي التقليد في الحكم والفتوى. وأما نحن فنقول: إنما منعَ بعضُهم تجزِّي التقليد في الحكم والفتوى لأمرين: الأول: خشية أن يكون الحاكم والمفتي رقيقَ الدين، فيتبع هواه، فإذا جاءه أحد الخصمين أو السائل بعَرَضٍ من الدنيا حكمَ له أو أفتاه بالمذهب الذي وافق هواه، وإذا جاءه خصمه بعَرَضٍ أكثر حكم بالمذهب الآخر، فاتخذ دينَ الله لُعبةً وشبكةً يصطاد بها أعراض الدنيا. الثاني: أن القضاء يحتاج إلى توليةٍ من السلطان، وكذلك تبعتْه الفتوى في الأزمنة الأخيرة، وجرت عادة السلاطين أن يُعيِّنوا للقاضي أو المفتي مذهبًا معيَّنًا ليقضي أو يفتي به. وأيضًا فالمفتي وإن لم يكن مُولًّى من قِبل السلطان جرت العادة أنه

(4/134)


يكون منتسبًا إلى مذهبٍ من المذاهب المشهورة، فلا يأتيه يستفتيه إلّا العامة الملتزمون لذلك المذهب، وهم إنما يسألونه عن ذلك المذهب المعيَّن، فكيف يجيبهم بغيره؟ ولهذا حكى بعضهم قال (1): كان السيوطي رحمه الله تعالى ربَّما يُرجِّح خلافَ مذهب الشافعي في بعض المسائل اجتهادًا، فإذا جاءه سائل في تلك المسألة أفتاه بمذهب الشافعي، فقيل له في ذلك، فقال: إنما يسألونني عن مذهب الشافعي لا عن الراجح عندي. إذا تقرر ذلك فقد قال المحققون من علماء التقليد: إذا كان القاضي أو المفتي عدلًا ولم يمنعه السلطان من الحكم بغير مذهب معيَّن، فله تجزئة التقليد في القضاء أيضًا، فيختار من مذاهب الأئمة ما يُرجِّحه الدليل إن كان متأهلًا أو نحو ذلك. وأما المفتي فإن كان مُولًّى، فإذا كان عدلًا ولم يمنعه السلطان من الفتوى بغير مذهب معين فله تجزئة التقليد في الفتوى أيضًا، فيختار ما يرجِّحه الدليل أو تقتضيه المصلحة كالتشديد على القوي المفرِّط والتخفيف على الضعيف المعذور ونحو ذلك. وإن لم يكن مولَّى (2) فيُشترط في حقه العدالة فقط، كذا قيل. وينبغي أنه يشترط في المفتي أن لا يفتي بغير المذهب المنتسب إليه، إلّا أن يذكر للسائل أن مذهب إمامنا كذا. ولكن مذهب فلانٍ من الأئمة كذا، ويرشده إلى تقليده إن أراد. هذا على مقتضى تفريع المقلدين، وأما ما ندعو إليه فإننا نقول: إنه ينبغي لأولي الأمر أن لا يُولُّوا القضاء أو الفتوى إلّا مَن كان عدلًا عالمًا بالكتاب والسنة وأقوال الأئمة، وهو الذي ندَّعي له الاجتهاد، وهو المستحق للقضاء _________ (1) انظر "الميزان" للشعراني (1/ 16). (2) بعده في الأصل: "فإن كان".

(4/135)


والفتوى إجماعًا، فيولِّيه السلطان القضاءَ بما ترجَّح له دليله الشرعي بعد اجتهاده، بشرط موافقة أحد المجتهدين المشهورين، وكذلك الفتوى، ويشترط فيها أيضًا أن يُبيِّن للمستفتي أن الفتوى هي بما اقتضاه اجتهاده، ويُبيِّن له مَن وافقه من المجتهدين. وينبغي للناس أن يَعْمِدوا إلى مَن كان بقربهم من مدّعي الاجتهاد الظاهري العدالة، فيستفتوهم في سائر أمور دينهم، فيفتي العالم سائلَه كما كان عليه العمل في السلف الصالح، بذكرِ الدليل وتفسيره وغير ذلك، ثم يخبره بمن وافق ذلك من الأئمة، فيعمل السائل بتلك الفتوى ويكون بريئًا بيقين، لأنه إن كان العمل بالتقليد غير جائز فهو قد أدّى أقصى ما يمكنه، وهو سؤال العلماء المعاصرين له طبقَ ما كان عليه العملُ في القرون الأولى بمعرفة الدليل ودلالته وعدم المعارض، وليس يمكنه أكثر من هذا إلّا أن يتفرغ لطلب العلم حتى يبلغ رتبة الاجتهاد، وهذا ليس مكلَّفًا به كلُّ أحدٍ بلا خلاف. وإن كان العمل بالتقليد جائزًا فإما أن يكون متعينًا في هذه الأزمان كما زعم، وإما أن لا يكون متعينًا، فإن لم يكن متعينًا فالأمر واضح، لأنه يكون المرء حينئذٍ (1) مخيَّرًا بين التقليد وبين استفتاء علماء عصره، واستفتاءُ علماء عصره على ما ذكرنا أرجح لما قررناه، وهو مع (2) ذلك في حكم المقلد للإمام الذي شرطنا موافقة قوله. وإن كان متعينًا فقد شرطنا أن يخبره المفتي بموافقة أحد المجتهدين المشهورين، وحينئذٍ يكون في حكم المقلد لذلك المجتهد، وقد التزم الأدب مع كتاب الله تعالى وسنة رسوله، ومع علماء _________ (1) اختصرها المؤلف إلى (ح) وكذا ما بعدها. (2) هكذا استظهرنا الكلمتين من الأصل.

(4/136)


عصره، ومع الأئمة المجتهدين، إذ لم يُرجِّحْ أحدَهم على غيره مطلقًا بدون مرجِّح ظاهر، كما هو شأن المقلد المحض، بل عمل بقول هذا في مسألة، وقولِ الآخر في أخرى، وترجيحه بمقتضى الدليل الشرعي كما عرفه وفهمه، وكما أخبره مفتيه أنه لا معارضَ له. وهذا كما كان علماء التابعين ومَن بعدهم يتخيرون في أقوال الصحابة، ويرجِّحون بحسب ما يقتضيه الدليل، ويُفتون القاصرين بذلك. رُوي عن الإمام الشافعي أنه قال (1): ما جاء عن الله ورسوله فعلى العين والرأس، وما جاء عن الصحابة تخيَّرنا، وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال. ونحن نقول: ما جاء عن الله ورسوله فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الأئمة المجتهدين من الصحابة وغيرهم مجمعًا عليه فهو في حكم ما جاء عن الله ورسوله، فعلى الرأس والعين؛ أو مختلَفًا فيه تخيَّرنا، فاخترنا ما ظهر لنا رجحانه بالنسبة إلى الدليل من كتاب الله تعالى وسنة رسوله. ومع ذلك فنعوذ بالله عزَّ وجلَّ ونبرأ إليه من تنقُّص أحدٍ من الأئمة رضي الله عنهم، كما كانوا يعوذون بالله ويبرأون إليه من تنقُّص أحدٍ من الصحابة، ولكن فرض الله في حقِّنا أن نتخيَّر في أقوال المجتهدين إذا اختلفوا، عملًا بأمره أن يُرَدَّ ما اختُلِف فيه إليه وإلى رسوله، وكان هذا في حياة رسوله بالرد إلى كتاب الله تعالى وإلى رسوله بنفسه، وبعد وفاة رسولِه بالرد إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وهذا كما كان عمل الأئمة رحمهم الله تعالى إذ فرض الله عليهم ذلك، فكانوا يتخيرون في أقوال الصحابة إذا اختلفوا بردّها إلى كتاب الله _________ (1) هذا مشهور عن الإمام أبي حنيفة، وقد سبق تخريجه (ص 114).

(4/137)


تعالى وسنة رسوله، واختيار ما ظهر لهم رجحانُه. وبهذا تبيَّن أوضحَ البيان أن باب العمل بالدليل مفتوح بالاتفاق، أما على القول بوجود المجتهدين اليوم فواضح، وأما على القول بانقطاع الاجتهاد فالأدلة الشرعية محفوظة، وأقوال المجتهدين مدوَّنة، ولا مانعَ من تقليد أيّ مجتهدٍ كان، فلا أقلّ من ترجُّح من يوافق قوله الدليل، ولا أقلّ من أن يكون مدَّعي الاجتهاد اليوم أهلًا للترجيح، مع أنه لو فُرِض أنه ليس مجتهدًا وأنه أخطأ في الترجيح، فليس في ذلك محذور، لأن القائلين بالتقليد يجيزون التقليد ابتداءً، فلأن يجوز بعد بذل الوسع في طلب المرجِّح الشرعي أولى وأحرى. وبهذا يَسْلَم القاصر من محاربة الله ورسوله باتخاذ القرآن مهجورًا والزيغ عن اتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والله سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. وفي الحديث الصحيح: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئتُ به" (1). ويَسْلَم من الجهل بالدليل الشرعي في عمله، ويَسْلَم من سوء الأدب مع بعض الأئمة المجتهدين بتنقُّصِهم والتعصُّب عليهم والترجيح عليهم بدون مرجِّح معتبر، ويَسْلَم من عناد علماء عصره القائمين بعلوم الكتاب والسنة وغير ذلك، وحَسْبُه أنه موافق للشرع بيقين. فهذه الميزان، لا "ميزان" الشعراني رحمه الله، فإنه بناها على أن كل فردٍ من أفراد المجتهدين في المسائل الخلافية مصيبٌ باعتبارٍ مخطئ باعتبارٍ، أما إصابته ففي نسبته الحكمَ الذي قال به إلى الشريعة، وأما خطأه ففي زعمه _________ (1) سبق تخريجه (ص 90).

(4/138)


إطلاقَ الشريعة ذلك الحكم. مثاله: الماء المستعمل، قال أبو ثور وداود وأصحابه: إنه طاهر مطهِّر غير مكروهٍ استعمالُه، وقال مالك وأصحابه: طاهر مطهِّر مكروهٌ استعمالُه، وقال الشافعي: طاهر غير مطهِّر، وقال أبو يوسف: إنه نجس. كذا في "بداية المجتهد" (1). فالشعراني رحمه الله يقول (2): الأول مخفف، وهو محمول على أن يكون المستعمل نبيًّا أو وليًّا، فيبقى الماء على أصله، لا يتقاطر فيه شيء من الذنوب. والثاني أشدُّ منه قليلًا، وهو محمولٌ على ما إذا كان المستعمل مستورًا ومريدُ التطهير غير مُكَاشَف، فهو شاكٌّ هل تقاطَرَ فيه شيء من الخطايا أو لا؟ ولما كان الظاهر التقاطر كُرِه له التطهُّر به، وكذا إذا كان مكاشفًا، ووجد أن الماء لم يتقاطر فيه إلّا شيء من المكروهات ونحوها. والثالث أشدّ، وهو محمول على ما إذا كان المستعملُ مسرِفًا على نفسه ومريد التطهير غير مكاشف، فإنه حينئذ يتأكَّد عنده أنه تقاطر في الإناء شيء من المعاصي، ولكنه لما لم يكن مشاهدًا لها لم يُحكَم في حقه بنجاسة الماء، غير أنه غير مطهِّر. وكذا إذا كان مريد التطهير مكاشفًا، وشاهد الماء، فإذا هو لم يتقاطر فيه إلّا شيء من الصغائر. والرابع أشدُّ من الجميع، وهو خاصٌّ بما إذا كان مريد التطهير مكاشفًا، وشاهد الماء قد تقاطر فيه شيء من الكبائر. هذا قضية كلام الشعراني رحمه الله أو نحوه، وحاصل ما ذكر أن الحكم _________ (1) (1/ 30). (2) انظر "الميزان الكبرى" (1/ 108).

(4/139)


الشرعي في الماء المستعمل أنه يختلف باختلاف الأحوال، ففي الحال الأول طاهر ومطهِّر غير مكروه، وفي الثاني مكروه، وفي الثالث غير طهور، وفي الرابع نجس. وحينئذ فأبو ثور وداود وأصحابه وإن أصابوا في قولهم بالنسبة إلى ما حمل عليه قولهم، فإنهم أخطأوا في إطلاق ذلك وتعميمه، وذلك أنهم رأوا بعض الأدلة تدل على أن شيئًا من المستعمل طاهر طهور غير مكروه، فقالوا به وعمَّموه في جميع الأحوال، والحال أنه واقع فيما إذا كان المستعمل نبيًا أو وليًّا فقط. وعلى هذا فقِسْ. والحاصل أن قضية ميزانه أنهم جميعهم على خطأ، لم يصيبوا الحكم الشرعي، وإن أخذ كلٌّ منهم بطرفٍ منه. وهكذا عمَّم ميزانه في جميع مسائل الخلاف، فإذا جميع أئمة الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة المجتهدين الأربعة وغيرهم كلهم عنده كما ترى مخطئون. وهذا ضدُّ ما قاله قوم: إن كل مجتهد مصيب، وإن الحق متعدد. وكلاهما باطل، وقوله رحمه الله: أظهر بطلانًا لاقتضائه إجماعَ الأئمة على الخطأ في جميع مسائل الخلاف ما عداه. فإن قيل: إنه أراد بميزانه دفعَ ما يُوهمه الاختلاف من تناقض الأدلة الشرعية. فالجواب: أن هذا مندفعٌ بما هو معلوم أن المجتهدين غيرُ معصومين عن الخطأ في الاجتهاد، فقد يجهل أحدهم الدليل، وقد ينساه، وقد يَعزُب عنه، وقد تَعزُب عنه دلالته، إلى غير ذلك. فلا جَرمَ كانوا معرَّضين للخطأ، وهذا يقتضي أن يكونوا في المسائل الخلافية على قسمين: مصيب فحسبُ،

(4/140)


ومخطئ فحسبُ. وبهذا ثبت الحديث الصحيح (1) أنه "إذا حكم الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا حكم فأخطأ فله أجرٌ واحد"، وعلى هذا أجمع الصحابة رضي الله عنهم فمَن بعدهم من أئمة الأمة. وبهذا يثبتُ نزاهةُ الشريعة عن التناقض، ويثبتُ نزاهة الأئمة، لأننا لا نقول: إنهم جميعهم مخطئون كما هو قضية قوله، بل ولا نجزم في أحدٍ منهم بعينه أنه مخطئ، وإنما نُرجِّح ما ترجَّح لنا من حيث الدليل. ويثبتُ أيضًا نزاهةُ الصحابة رضي الله عنهم وجميع الأمة عن الإجماع على الخطأ، بخلاف ما يقتضيه قوله. إلى غير ذلك مما هو واضح جلي. فوازِنْ أيها القارئ بين الميزانين وفَّقك الله تعالى. قال المقلِّدون: أيها القوم! قد جادلتمونا فأطلتم جدالَنا، وما لنا ولتضييع أعمارنا في نزاعٍ لا ينقطع. هَبُوا أن كلّ ما احتججتم به صحيح، وكلّ ما دافعنا به هَباءٌ تذهب به الريح، ولاسيَّما والطريقة التي أرشدتم إليها قريبةٌ من الصواب أو هي الصواب عينُه. لكن أنتم لا تجهلون أنّ بين زماننا هذا والقرون الثلاثة بَونًا بعيدًا، فقد كان المجتهدون لا يُحصَون كثرةً، وأما في عصرنا هذا فأنتم تعلمون أنه بعد تسليم وجود الاجتهاد فلأفراد يُعدُّون بالأصابع، لو كلَّفتم جميعَ المسلمين قصدَهم من أطراف المعمورة في كل واقعةٍ تعرِضُ لكان هذا تكليفَ ما لا يُطاق. وكيف يصنع الناس بعباداتهم ومعاملاتهم اليومية؟ مع أن كثيرًا ممن يدّعي الاجتهاد ليس عنده من العلم شيء، بل كثيرًا ما تُتَّخذ دعوى الاجتهاد وسيلةً إلى اتباع الشهوات، والاسترسال في الأهواء، واستخدام الأدلة الشرعية في الأغراض النفسية _________ (1) أخرجه البخاري (7352) ومسلم (1716) من حديث عمرو بن العاص.

(4/141)


بدون هدًى من الله، فيجعلون الشرع تبعًا لأهوائهم وسُلَّمًا لشهواتهم، وينظرون إلى البدع الناشئة عن الاختلاط بالأجانب، فيأخذون على عاتقهم نصرتَها بتأويل أدلة الشرع إليها، إلى غير ذلك من المفاسد التي لا تخفى على أحد. وكلُّ أحدٍ لا يخفى عليه أن تقليد أحد الأئمة الأربعة أقربُ إلى دين الله تعالى من سؤال أحد هؤلاء المنتحلين للاجتهاد على هذه الصفة. * يقول عبد الله المفتقر إليه: هذا الكلام صحيح، فإنا لا نعلم الآن على ظهر الأرض من يصحُّ منه دعوى الاجتهاد إلّا أفرادًا معروفين، وأما من ينتحل الاجتهاد لأغراضه (1)، بل لخدمة شهواته وهواه فهذا أضرُّ على الدين من غلاة المقلِّدين، فإن المقلدين إنما أُتُوا من الغلوّ في حسن ظنِّهم بالأئمة الأعلام، حتى أدَّاهم ذلك إلى تقديم قولهم على أدلَّة الكتاب والسنة، ظنًّا أنهم اطلعوا عليها، وإنما خالفوها لما هو أقوى منها كما مرَّ بيانه. وأما هؤلاء المنتحلون فإنما يتخذون انتحال الاجتهاد وسيلةً لأغراضهم وأهوائهم. وهذا الأمر هو الذي غرَّ بعضَ صالحي المقلِّدين حتى ذهب إلى سدِّ باب الاجتهاد، وإن لم يُوفَّق للصواب في ذلك، لأن الأرض لا تخلو من قائم لله تعالى بالحجة، وحجة الله تعالى بكتابه وسنة رسوله باقيةٌ إلى يوم القيامة. وإنما الواجب أن يُميَّز بين المُحِقِّ والمُبْطِل، فلا ينبغي أن يُدْفَع الباطل بوجهٍ يقتضي دفع الحق، كيف وهو إذن باطل مثله يحتاج إلى دفع، ومع ذلك فهو غير مستحق أن يظهر عليه؛ لأن الله تعالى إنما وعد الحقَّ بالظهور على _________ (1) هكذا استظهرنا الكلمة، ورسمها غير واضح.

(4/142)


الباطل، وإنما أوقع المسلمين فيما أوقعَهم فيه هذه الحيلة العوجاء، يريد أحدهم أن يدفع الباطل فيَعْمِد إلى باطلٍ مثلِه ليدفعه به، فيُزْهِق الله الجميع ويُظهِر الحقَّ على لسان من اختار، كما قال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37]. ومع هذا فالمفسدة في دفع الحق أضرُّ من المفسدة في صولة الباطل؛ لأن في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ما يُميِّز بين المحق والمبطل، والهادي من المُضِلّ، وقد وعد الله تعالى الحقَّ بالظهور على الباطل، قال عزَّ وجلَّ: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18]. والجواب عمّا مرَّ أن يقال: أما قولكم: "أين زماننا هذا من القرون الثلاثة؟ ... " إلخ، فالجواب: هذا مسلَّم، والسبب في ذلك ظهور بدعة التقليد، فإنها لما ظهرت صار من يريد طلب العلم إنما همُّه أن يتعلَّم في مذهب بعض الأئمة، فيشتغل بذلك من أول عمره، فينشأ على ذلك، وربما أفنى فيه جميع عمره. وأما سائر أهل المعاش فغاية أحدهم أن يتعلم مختصرًا في المذهب الذي عليه أبوه، ليعمل به، ثم يذهب في عمل دنياه، وزادَ الطينَ بِلَّةً كون الدُّوَل التي تتولَّى أمور المسلمين من المقلدين، فصاروا يُولُّون القضاء والإفتاء والتدريس غير أهلها، بل يشترطون أن يكون مقلدًا، فلو كان مجتهدًا لم يولُّوه شيئًا. وبعد أن صارت المذاهب أحْزابًا كلٌّ منها يتعصب لحزبه صار اجتهاد المتفقهين فيها إنما هو في جمع العامة، وجَرِّهم إلى جانبه، وتسليطهم على مَن يخالفه.

(4/143)


ولمّا تكافأت هذه الأربعة المذاهب اصطلح فقهاؤها على أن يعترف كلٌّ منهم للآخر، ويتعصبوا على مَن خرج عنهم. فصار الاجتهاد مطرودًا متعصَّبًا عليه، ومن تظاهر به قيل: هذا مبتدع خارج عن المذاهب الأربعة، فاجتمعوا على أذيته، ولم يجد من يردُّ عنه، لأن أمور الدولة بأيديهم. ثم يجيء طالب العلم، فيرى هوانَ الاجتهاد وما وقع فيه صاحبه من المشقة والعناء، فتنصرف همتُه عن سلوك تلك الطريق، لما يرى أن نتيجتها في الدنيا العناء والتعب، بخلاف طريق التقليد، فإنه يرى نتيجتها في الدنيا القضاء والإفتاء، والمناصب العالية، والرتب السامية، والأموال الواسعة، والمواكب التابعة، إلى غير ذلك. ثم طرأتْ بعد ذلك تلك القولة، أي انقطاع الاجتهاد، وشاعت في الناس، فكانت ضِغثًا على إبَّالةٍ، إذ انتشر بين الناس أن الاجتهاد ممتنع، فانقطعت رغبات الناس فيه ضرورةَ أن الهمم لا تتعلق إلا بما في نيله مطمع. ومع ذلك فإن الله تعالى لا يُخلِف وعدَه بحفظ الدين، فلم يزل في هذه العصور كلها من تقوم به الحجة من المجتهدين رغمًا عن تلك العوائق والقواطع، كما بُيِّن في هذه الرسالة وغيرها، والطريق بحمد الله تعالى واضحة ميسَّرة. وأما قولكم: إنه لا يطيق جميع المسلمين قصدَ المجتهد في كل واقعة، فهذا صحيح، ولكن البلاد على قسمين: الأول: الذي فيه أو بالقرب منه عالمٌ بالكتاب والسنة وأقوال الأئمة، عدلٌ يدعي الاجتهاد، فهؤلاء يتعين عليهم الرجوع إلى قوله على ما شرحنا، وبعد شرط العلم والعدالة وموافقة أحد المجتهدين ينتفي المحذور.

(4/144)


والثاني: البلد الذي ليس فيه ولا بالقرب منه عالمٌ كذلك، فالواجب على أهل هذا البلد أن يُرسِلوا إلى أقرب عالم كذلك منهم من يستفتيه في الوقائع على ما شرحنا، وينقل إليهم على سبيل الرواية، ويُهَيِّئوا من طلبة العلم مَن يرحل لطلب العلم والسموّ إلى درجة الاجتهاد، فإن ذلك فرض كفاية إجماعًا. قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، والأدلة في هذا لا تُحصَى. كيف والإمامة والقضاء والفتوى والحسبة وغيرها مشروط فيها الاجتهاد إجماعًا. وكونُ طلب رتبة الاجتهاد فرضَ كفاية مما لا يخالف فيه مسلم، وما من بلدٍ إلا وفيه كثير من طلبة العلم، فإذا قام أغنياؤه بكفاية نفرٍ من الطلبة وكفاية عائلاتهم وساعدوهم على الرحلة إلى العلماء لطلب العلم، لكانوا قد أدَّوا ما يجب عليهم في هذا. بل لو فُرِض أنه ليس على وجه الأرض مجتهد لما منع ذلك من وجوب طلب رتبة الاجتهاد، وذلك أن العلوم مدوَّنة، والأدلة الشرعية محفوظة مبيَّنة موضَّحة ميسَّرة، وما من علمٍ إلا وثمَّ رجالٌ كثير يُتْقِنونه، غايةُ الأمر أنه يَقلُّ الجامعون للعلوم، وهذا ليس مانعًا، فالطالب يأخذ من هذا علم النحو، ومن هذا علم التصريف، ومن هذا علم البيان، ومن هذا علم أصول الفقه وهلمَّ جرًّا، وإذا هو قد جمع علوم الاجتهاد. وبما أن هذا غير ممتنع قطعًا على كل تقدير، فإن ما ذكرناه من أنه يجب على أهل كل بلدٍ ترشيحُ نفرٍ من طلبة العلم لطلب علوم الاجتهاد= أمرٌ لا ينبغي أن يخالف فيه أحدٌ. وأما أعمالهم في عبادتهم اليومية، فإن كانوا مقصِّرين عن الإرسال إلى

(4/145)


أقرب عالم كما مرَّ، وعن تهيئة بعض الطلبة، فأعمالهم ــ والله أعلم ــ باطلة. وإن كانوا غير مقصِّرين بل يرسلون إلى ذلك العالم فيما يَعرِض لهم، وقد هيَّأوا بعض الطلبة كما مرَّ فإنه يَسُوغ لهم في مدة انتظار عود الخبر من ذلك العالم أن يسألوا مَن كان له بعضُ إلمامٍ بالعلم من أهل بلدهم، ليطالع بعض الكتب التي بينت فيها الحكم بأدلته، ككتاب "الأم" للشافعي وغيرها، ويعملوا بما يخبرهم أنه ظهر له مع موافقته لأحد المجتهدين. والحاصل أنهم يبذلون أقصى ما يُمكِنهم في ذلك، حتى يعود جواب العالم الجامع الشروط، فيعملون به، فإذا منَّ الله تعالى على أولئك النفر الذين رشَّحوهم لطلب علوم الاجتهاد أو بعضهم استغنَوا بهم. على أننا لا نرى للقاصر الاقتصارَ على استفتاء عالم واحدٍ في جميع دينه، بل الأولى أن يستفتي هذا العالم في هذه المسألة، والعالم الآخر في أخرى، وهكذا. فإن اقتصر على استفتاء عالم واحد بأن لم يتيسَّر له غيره فلا بأس. ولو أن الناس فزعوا إلى هذه الطريقة التي فتح الله علينا ببيانها لعادتِ الأرضُ مُشرِقةً بنور هذا الدين الشريف، ولم يَمْضِ زمنٌ يسيرٌ حتى تعود الأمة الإسلامية من حيث علومها الدينية كما كانت عليه في القرون الثلاثة، وكذلك من حيث عزّها وشرفها وقوتها، لأن تلك الطريقة تقضي على هذا التفرق والتحزُّب والتعصُّب قضاءً باتًا، وتصبح الأمة كما كانت بالأمس على مذهب واحدٍ، ولاسيَّما إذا تيسَّرتْ لها في الاعتقاد طريقةٌ نحو هذه. ولعل الله تعالى يفتح عليَّ ببيانها في المسألة الآتية إن شاء الله تعالى.

(4/146)


المسألة الثانية السنة والبدعة * تمهيد * البحث الأول: البناء على القبور * البحث الثاني: اتخاذ القبور مساجد * البحث الثالث: زيارة القبور * البحث الرابع: التبرك * البحث الخامس: التوسُّل * بحث في اتخاذ ليلتي المولد والمعراج عيدًا

(4/147)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [تمهيد] [ص 1] السنة لغةً: الطريقة والسيرة، واصطلاحًا للفقهاء: مرادف المندوب، وشرعًا إطلاقانِ: الأول ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قولًا وفعلًا وتقريرًا. والثاني ما شرعه الله تعالى لعباده بكتابه وعلى يد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. والبدعة لغةً: الأمر المبتدع، أي المخترع على غير مثالٍ سبقَ، إما مطلقًا، كقوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 117] أي: مُبدِعُهما، كما في "المختار" (1) وغيره. وإما مقيَّدًا، كأن رأيتَ بخيلًا أعطَى دينارًا، فإنك تقول: هذا الفعل من هذا الرجل بدعة. وشرعًا: الأمر المبتدع في الدين على غير مثالٍ من الكتاب والسنة. والمحدَثة لغةً: الأمر المكوَّن بعد أن لم يكن: إما باعتبار ذاتِه، كما إذا أعطى كريمٌ دينارًا أو أكثر، فإنك تقول لتلك الإعطاءة: محدثة. وإما باعتبار نوعه، كما إذا أعطى بخيلٌ دينارًا، فإنك تقول: هذا الفعل من هذا الرجل مُحدَث، وهي بهذا الاعتبار مرادفة للبدعة. قال (2): قوم إذا حاربوا ضرُّوا عدوَّهمُ ... أو حاولوا النفعَ في أشياعهم نفعوا _________ (1) "مختار الصحاح" (بدع). (2) هو حسَّان بن ثابت رضي الله عنه، والبيتان من قصيدة له في الديوان (1/ 102، 103) و"سيرة ابن هشام" (2/ 564) و"تاريخ الطبري" (3/ 118) و"الأغاني" (4/ 149).

(4/149)


سجيَّةٌ تلك فيهم غيرُ مُحدَثةٍ ... إن الخلائقَ فاعلَمْ شرُّها البِدَعُ وشرعًا: مرادفُ البدعة شرعًا. فالبدعة والمحدثة شرعًا: الأمر المبتدع في الدين على غيرِ مثالٍ من الكتاب والسنة. والمراد بقوله: "على غير مثالٍ من الكتاب والسنة" أن يكون غيرَ موافقٍ لهما، وكلُّ فعلٍ من الأفعال إما أن يكون موافقًا للكتاب والسنة، وإما أن يكون مخالفًا. والموافق ما دلَّ على موافقته دليلٌ معتبرٌ منهما دلالةً معتبرةً، فهو من السُّنَّة، والمخالف ما دلَّ على مخالفته دليلٌ منهما دلالةً معتبرة، فإن كان موجودًا من أول الإسلام فهو حرام أو مكروه بحسب ما يقتضيه دليله، ولا [يسمَّى] (1) بدعة ولا مُحدَثة. وإن لم يكن موجودًا من أول الإسلام بل حدثَ بعد ذلك فهو محدثة بدعة. ولا واسطةَ بين الموافق والمخالف. [ص 2] لأن الله تعالى قال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) وأومأ إلى وجه ذلك بقوله عقبَ هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]، ليعلم أنه ليس المراد بقوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} أن يكون كل شيء بنصٍّ خاص، وإنما المراد أنه ما من شيء إلّا وحكم الله تعالى فيه مبيَّن في كتابه، إن لم يكن بالمطابقة فبالتضمن أو الالتزام أو المفهوم، كأن يكون ذلك الشيء داخلًا تحت أمرٍ عامّ مبيَّنٍ حكمُه في كتاب الله تعالى. ومنها في المأمورات: العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى والتقوى والمعروف _________ (1) مخروم في الأصل.

(4/150)


والإنصاف، وفي المنهيات: الجور والإساءة وحرمان ذي القربى والفحشاء والمنكر والبغي، وكلها في هذه الآية. ولذلك رُوي عن ابن مسعود أن أجْمعَ آيةٍ في القرآن لخيرٍ وشرٍّ هذه الآية (1). ومما يبيِّن ذلك حديث مسلم (2) عن شدّاد بن أوس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن الله تبارك وتعالى كتب الإحسانَ على كلِّ شيء، فإذا قتلتم فأَحسِنُوا القِتلةَ، وإذا ذبحتم فأحْسِنوا الذَّبحَ، وَلْيُحِدَّ أحدُكم شَفْرتَه ولْيُرِحْ ذبيحتَه ". يقول عبد الله الفقير إليه: أراد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "كتبَ الإحسانَ على كل شيء" قولَه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}. وهذا حجة في عموم مثل هذه الصيغة وفي حجية العموم. وفي المباحات: قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، وقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4]، وقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119]، وقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية [الأنعام: 145]، وقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، وقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]. _________ (1) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (489) والطبري في "تفسيره" (14/ 337) والطبراني في "المعجم الكبير" (8658) وغيرهم. (2) رقم (1955).

(4/151)


ومن العمومات الواردة في كتاب الله تعالى: في اتباع الرسول وطاعته المأمور بهما، فإنه يدخل تحت ذلك جميع ما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جميع الأحكام. فإن قيل: فما تقول في الحديث الصحيح: "الحلال بيِّنٌ، والحرام بيِّنٌ، وبينهما مشتبهات" (1)؟ فإن ظاهره إثباتُ الواسطة. قلت: هذه واسطة بين الحلال البيِّن والحرام البيِّن، لا بين الحلال والحرام من حيث هما. والمراد بالحلال هو ما عبَّرنا عنه بالموافق، وبالحرام ما عبَّرنا عنه بالمخالف، والمشتبهات ما تعارضت فيه دليلَا الحلِّ والحرمة، فإنه عند مَن لم يظهر له الترجيح ــ وهم كثير من الناس ــ مشتبه، فأرشد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يُعمل فيه ما يقتضي الاحتياط. هذا مع أنه في نفس الأمر إما حلال وإما حرام، فالحديث دليلٌ على عدم الواسطة، فتأمَّلْ. ومما يكون حكمه مبيّنًا في كتاب الله تعالى بدلالة الالتزام: الوسائل، أي الأمور التي لا تتم الأمور المشروعة إلّا بها، فإنّ لكل وسيلةٍ حكْمَ مقصدِها، فإن تعدَّدت الوسائل وكلٌّ منها يكفي في تحصيل المقصد كان الحكم لواحدةٍ منها لا بعينها، ويكون الدليل الشرعي الدال على حكم [مقصد] (2) ها [دالًا] على [حكمها] دلالةً مطلقةً [عامّةً] عمومًا بدليًّا، كما إذا قلت لإنسانٍ: اضرِبْ رجلًا، فإنه يحصُلُ امتثال الأمر بضرب أي رجلٍ كان. _________ (1) أخرجه البخاري (52، 2051) ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير. (2) الكلمات التي بين المعكوفتين مخرومة في الأصل.

(4/152)


فقول الشارع: "أدُّوا النُّسُك" [أمرٌ] بأداء النسك، وأداء النسك لا يتم إلّا بسفرٍ إلى الحرم، وما لا يتمُّ الواجب إلّا به فهو واجب، فالسفر إلى الحرم واجب، فكان الأمر بأداء النسك أمرًا بالسفر إلى البيت، وهذا السفر مطلق يصدُق على السفر برًّا والسفر بحرًا وغير ذلك. إذا تقرر ما ذُكِر فإنه ما من شيء من الأشياء إلّا وحكمه الشرعي مبيَّنٌ في كتاب الله تعالى بإحدى الدلالات الثلاث أو المفهومات المعتبرة، سواء كان موجودًا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم حدثَ بعده، وحينئذٍ فالآتي بشيء ما من الأشياء إن كان الإتيان به موافقًا للشرع فتلك السُّنَّة، وإن كان مخالفًا له فإن كان موجودًا من أول الإسلام فهو حرام أو مكروه فحسب، وإلَّا فهي المحدثة البدعة. [ص 3] والحاصل أن الأشياء الحادثة بعد عصر النبوة نوعان: الأول: ما كان فيما يتعلق بمصالح الدنيا، من مطاعم ومشارب وملابس ومراكب ومناظر ومزارع وغير ذلك مما لا يضر بالدين، فهذا جائز لدخوله تحت عمومات الإباحة، فليس في الشرع بدعةً ولا محدثةً لموافقته للشرع، ولا مانعَ من استعمال المحدث من ذلك وسيلةً لتحصيل الأمور الدينية، كركوب الطيارات لأداء النسك، لأن مقصود الشارع من الأمر بالسفر لأداء النسك هو الانتقال إلى الحرم بأيّ وسيلةٍ كانت لأداء المقصود الذي هو النسك، وإن كان الاتباع أفضل. النوع الثاني: ما كان فيما يتعلق بالأمور الدينية خاصةً، فهذا على قسمين: وسائل ومقاصد. فأما الوسائل فإنه يجوز العمل بما أُحدِث منها بشرط تعذُّر أو تعسُّرِ

(4/153)


الوفاء بمقصدها الديني بوسيلته التي كان العمل عليها في عهده صلى الله عليه وآله وسلم. ومن هذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم على جمع القرآن في مصحف واحد، وذلك أن المحافظة على القرآن هي أهم الأمور الدينية، وكانت الوسيلة لذلك في عهده صلى الله عليه وآله وسلم الحفظ، فلما استحرَّ القتلُ بالقرَّاء في عهد الصدِّيق، وانتشر المسلمون في الآفاق، وبدأت الهِمَمُ تَكِلِّ عن الحفظ، [و] رأى الصحابة رضي الله عنهم أن الوسيلة الأولى قد ضعُفت عن الوفاء بالمقصد الذي هو المحافظة على القرآن، وأن الاقتصار عليها يُخشَى أن يؤدّي إلى ضياع المقصد= قرروا أن الأمر بالمحافظة على القرآن يلزمهم أن يعملوا لتحصيله بكل وسيلة، فإن أمكن حصولُه بالوسيلة التي كان [العمل] عليها في عهده صلى الله عليه وآله وسلم تعيَّن ذلك، وإلّا نظروا وسيلة أخرى، وعملُهم بالوسيلة الأخرى من السُّنَّة، لأنه عملٌ بمقتضى الدليل. والحاصل أن الإذن في هذا كأنه على الترتيب، فلا يجوز العمل بالمحدث حتى يمتنع العمل بما قبله، فالعمل بالمحدث من غير أن يمتنع ما قبله بدعة، والعمل به بعد امتناع ما قبله [سنة]. وأما القسم الثاني ــ وهو المقاصد ــ فالمحدَث منه كلُّه بدعة ضلالة، وليس منه صلاة التراويح كما يظن بعضهم، فإنها من السنة، كما ثبت في "الصحيحين" (1) عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اتخذ حُجرةً في المسجد من حصيرٍ، فصلَّى فيها لياليَ حتى اجتمع عليه ناس، ثم فقدوا صوتَه ليلةً وظنُّوا أنه قد نام، فجعل بعضُهم يتنحنح ليخرج إليهم، _________ (1) البخاري (7290) ومسلم (781).

(4/154)


فقال: "ما زال بكم الذي رأيتُ من صنيعكم حتى خشيتُ أن يُكتَب عليكم، ولو كُتِب عليكم ما قمتم به، فصلُّوا أيها الناسُ في بيوتكم، فإن صلاة المرء في بيته أفضلُ إلَّا المكتوبةَ". وقوله: "ما زال بكم الذي رأيتُ من صنيعكم" يريد ــ والله أعلم ــ من اجتماعهم وحرصهم على الحضور، كما يدل عليه قوله: "فصلُّوا أيها الناس ... " إلخ. فقطعَ صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرج للصلاة بهم خشيةَ أن تُكتَب عليهم، وأرشدهم إلى أن يُصلُّوا في بيوتهم، لأن صلاة المرء في بيته أفضل إلا المكتوبة، وخشيةُ أن تُفرض هو المانع في الحقيقة. فأما عدولهم عن الصلاة في بيوتهم فإن غاية ما فيه أنه خلاف الأولى، ومع ذلك فكان ينجبر بائتمامهم به صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن لما انقطع ائتمامهم به للمانع الأول انتفى الانجبار كما هو ظاهر. فلما توفي صلى الله عليه وآله وسلم انتفى الأمر الأول الذي هو المانع في الحقيقة، وبقي المانع الآخر وهو كون الأفضل صلاتهم في بيوتهم، فبقي الحال على ذلك خلافةَ الصدّيق وبعضَ خلافة عمر، ثم كان ما أخرجه البخاري (1) عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريّ قال: خرجتُ مع عمر بن الخطاب ليلةً إلى المسجد، فإذا الناسُ أوزاعٌ متفرقون، يصلِّي الرجل لنفسه، ويصلِّي الرجلُ فيصلِّي بصلاته الرهطُ، فقال عمر: إني لو جمعتُ هؤلاء على قارئ واحدٍ لكان أمثلَ، ثم عزَم فجمعَهم على أُبي بن كعب. قال: ثم خرجتُ معه ليلةً أخرى والناسُ يصلُّون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعمتِ البدعةُ هذه! والتي ينامون عنها أفضلُ من التي يقومون، يريد آخر الليلة، وكان الناس يقومون أوّلَه. _________ (1) رقم (2010).

(4/155)


فدلَّ هذا الحديث أن الناس في خلافة عمر تركوا الصلاةَ في بيوتهم إلى الصلاة في المسجد، فرأى عمر رضي الله عنه أن الأمر الذي لأجله قطعَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخروجَ للصلاة بهم ــ وهو خشية أن يُكتَب ذلك ــ قد انتفى، لإكمال الدين وانقطاع التشريع بوفاته صلى الله عليه وآله وسلم، والأمر الذي لأجله أرشدهم صلى الله عليه وآله وسلم إلى ترك الصلاة في المسجد ــ وهو الصلاة في بيوتهم ــ قد تركوه من ذاتِ أنفسهم، ولعله رأى أن أمرهم بأن يصلُّوا في بيوتهم ربما يُؤدِّي إلى تكاسُلِ بعضهم، مع أن غاية الأمر أنه أفضل فقط، وإلا فالجميع من السُّنَّة، لا جَرَمَ رأى أن جَمْعهم على قارئ واحدٍ أقربُ إلى السنة من بقائهم أوزاعًا، لموافقته لفعله صلى الله عليه وآله وسلم تلك الليالي، مع زوال المانع الأول، ومع إعراض الناس عن الصلاة في بيوتهم، ومع ذلك فأرشدهم إلى الأكمل بقوله: "والتي ينامون عنها أفضل" يريد ــ والله أعلم ــ بذلك الصلاةَ في البيوت، لأنهم إنما ينامون في بيوتهم. والحاصل أن السنة في صلاة الليل مخيَّرة بين أقسام: إما أن يصلِّي الرجل في بيته، وهذه هي الأفضل. وإما أن يصلّيها في المسجد منفردًا، ويصلِّي كلُّ رهطٍ وحدهم، وهذا هو الذي رأى عمر رضي الله عنه الصحابة يفعلونه. وإما أن يصلُّوا في المسجد بإمامٍ واحد، وهذا هو الذي فعله صلى الله عليه وآله وسلم بهم لياليَ، ثمَّ عدلَ عنها خشيةَ أن يُكتب. وأما قول عمر رضي الله عنه: "نعمتِ البدعة" فأراد ــ والله أعلم ــ الأمر المبتدع بعد أن كان العمل على خلافه، وهذا إنما هو بالنسبة إلى تلك المدة التي بينَ تركه

(4/156)


صلى الله عليه وآله وسلم الصلاةَ بهم وبينَ عَزْم عمر بجمعِهم على قارئ واحد. لا المبتدع مطلقًا، فقد ثبت فعلُه عنه صلى الله عليه وآله وسلم كما مرَّ. وقد يكون عمر سمع بعضَ الناس يقول: بدعة، لعدم نظرِه في الدليل، أو قدَّر أن بعض الناس سيقول ذلك، فقال: نعمتِ البدعة، أي: في زعم هذا الزاعم، كما قال تعالى في عكس هذا: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49]، أي: على ما كنت تزعم، والله أعلم. وأما اختراع القواعد لعلوم العربية فهو صالحٌ أن يكون من النوع الأول، لأن الناس محتاجون في أمور دنياهم إلى معرفة لغة أسلافهم، وأن يكون من الثاني، فإن الدين محتاج إلى معرفة اللغة التي ورد بها الشرع، وعلى هذا فهو من الوسائل، لأن حفظ اللغة وسيلة لمعرفة الدين، وكان حفظ اللغة في عهده صلى الله عليه وآله وسلم حاصلًا في العرب بالطبع ومن خالطهم تعلَّم منهم بسهولة، فلما انتشر الإسلام وكثُر اختلاط العرب بالعجم تدهورت اللغة، وكادت تذهب لولا أن [العلماء اهتدوا إلى] (1) اختراع تلك القواعد وتدوينها. والله أعلم. [ص 4] وبما ذُكِر عُلِم معنى الحديث الصحيح (2): "من سَنَّ في الإسلام سنةً حسنةً فله أجرها وأجرُ من عمِل بها من بعده، من غير أن ينقُص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنةً سيئةً كان عليه وِزرها ووِزرُ من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". فالمراد بالسنة فيه معناها اللغوي، وأصلها في اللغة: الطريقة الحسِّيَّة. _________ (1) خرم في طرف الورقة ذهب بعدة كلمات. ولعل تقديرها ما أثبتناه. (2) أخرجه مسلم (1017) من حديث جابر.

(4/157)


يقال: سَنَّ فلانٌ سنةً في بطن الوادي، أي: طرقَ طريقةً. ثم تُستعمل في الطريقة المعنوية، يقال: سنَّ فلان سنةً، أي: عمل عملًا يتبعه فيه الناس. ومنه حديث الصحيحين (1) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تُقتَلُ نفسٌ ظلمًا إلّا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها، لأنه أوّلُ من سَنَّ القتلَ". فمعنى "من سَنَّ في الإسلام سنةً حسنةً": مَن عمِلَ في الإسلام عملًا حسنًا يتبعه فيه الناس، وسبب الحديث صريح في هذا، ولفظه في "صحيح مسلم" (2) عن جرير قال: كنّا في صَدْر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجاءه قومٌ عُراةٌ مُجتابِي النِّمار ... الحديثَ، فذكر هيئةَ القوم الدالة على شدةِ فاقتهم، وتكدُّرَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذلك، وقيامَه في الناس خطيبًا يحثُّهم على الصدقة، ثم قال: فجاء رجلٌ من الأنصار بصُرَّةٍ كادتْ كفُّه تَعجِزُ عنها، بل قد عَجَزَتْ، ثم تتابعَ الناس، حتى رأيتُ لونَيْنِ (3) من طعام وثياب، حتى رأيتُ وجهَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتهلَّلُ كأنَّه مُذْهَبةٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من سَنَّ في الإسلام سنّةً حسنةً ... " إلخ. وظاهرٌ أنه صلى الله عليه وآله وسلم يشير إلى ذلك الأنصاري الذي جاء بالصُّرَّة، فتتابع الناس لما رأوه. ولا شبهةَ أن مجيئه بالصُّرة من أوفق الأعمال _________ (1) البخاري (3335) ومسلم (1677). (2) رقم (1017). (3) كذا في الأصل. وفي صحيح مسلم: "كَوْمينِ"، والكومة: الصُّبرة، والكوم: العظيم من كل شيء.

(4/158)


للكتاب والسنة، فكيف يُستدلُّ بهذا الحديث على أن البدعة قد تكون حسنة؟ فإن قيل: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قلنا: واللفظ أيضًا لا يعمُّ البدعةَ، لأنه مقيَّدٌ بالحسن، والحسن إنما يعرف بالشرع، ومَن قال: يعرف بالعقل فهو معترف أن العقل ليس بحاكم بعد ورود الشرع، بل الحاكم الشرع فقط، ومع ذلك فالشرع قد استوفى جميع المحاسن والمصالح، إمّا بخصوصٍ وإما بعمومٍ. قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، وغيرها من البراهين التي قد ذكرنا بعضها في هذه الرسالة. وكيف يكون شيء من البدعة حسنًا والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "كل بدعة ضلالة"؟ وأما ما أوردوه من صلاة التراويح وجمع القرآن وعلوم العربية وغير ذلك، فهذا من السُّنَّة لموافقته لأدلة الكتاب والسنة، مع ظهور السبب في عدم وجوده في القرن الأول، وحدوثِ السبب المقتضي لفعله، كما مرَّ بيانه، والله الموفِّق. وقد علمتَ مما سبقَ أن الحَسَنَ هو ما وافق الشرع مطلقًا، وهو من السنة وإن لم يكن موجودًا في العهد النبوي، وأن السيء هو ما خالف الشرع، فإن كان مطروقًا من أول الإسلام فهو كفرٌ أو حرام أو مكروه بحسب ما قام عليه الدليل، وإن لم يكن مطروقًا من أول الإسلام فهو محدَثةٌ بدعةُ ضلالةٍ. والموافق إذا كان غيرَ موجود، أو كان ثُمَّ هُجِر، فالذي يطرقه أولًا يَصدُقُ عليه أنه سنَّ سنةً حسنةً، فله أجرُها وأجرُ من عَمِل بها من بعده بشرطه. كما أن المخالف إذا لم يكن موجودًا في العهد النبوي، أو وُجِد ثمّ هُجِر، فأولُ من يطرقه يصدُق عليه أنه سنَّ سنةً سيئةً، فعليه وِزرُها ووِزْرُ مَن عمِلَ بها من بعده بشرطه.

(4/159)


[ص 5] ومن المخالف الموجود من أول الإسلام: شرب الخمر، ودعوى الجاهلية، والنياحة. فهذا وإن كان محظورًا كما لا يخفى فلا يُسمَّى بدعةً. نعمْ، إحداثُ نوعٍ منه لم يُعهَد قبلُ يُسمَّى بدعةً، ومن ذلك ما اعتاده رجال الشيعة ونساؤهم من النوح على الحسين بن علي عليهما السلام يومَ عاشوراءَ ولَطْم الخدود وشَقِّ الجيوب، بل هو أشدُّ وأشنع، لأن النياحة في الجاهلية كانت خاصةً بالنساء الضعيفات العقول والقلوب، وبالوقت القريب من الموت، ومع هذا ورد من الزجر عنها ما هو معلوم، فما بالك بنَوح الرجال ........................... (1). ومن المخالف المبتدع غلوُّ بعض الفِرق بالخوض في آيات الصفات إلى صريح التشبيه، حتى قال بعضهم (2): أعفُوني عن الفرج واللحية، وسَلُوني عما شئتم. وأمثال ذلك. وقد شنَّع الله تعالى على الكفَّارِ في تخرُّصِهم على الملائكة، قال تعالى: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19]. فكيف بمن ليس كمثله شيء؟ وأما ما ورد من آيات الصفات وأحاديثها فالذي يُفهَم منها هو أن لله جلَّ ذكرُه مطلقَ يدٍ ووجهٍ ونحو ذلك مما ورد، أما أن يدلَّ على ماهية (3) أو كيفية ونحوها فلا، بل لو قيل: إن مَلَكًا من الملائكة له رأس لما فُهِم منه إلَّا أن له رأسًا فحسبُ، فأما _________ (1) هنا بعض الكلمات ذهبت في التجليد. (2) هو داود الجواربي من مشبهة الروافض، كما في "الفرق بين الفِرق" (ص 228) و"المِلل والنِحل" (ص 105، 187). (3) لا يقصد الشيخ بالماهية الحقيقة، فهي ثابتة، بل يقصد التحديد والكمية والكيفية، فهي منفية. وسيأتي التصريح بذلك فيما يأتي.

(4/160)


تفصيله فكلَّا. وذلك أن الماهية والكيفية ونحوها لا تُفَهم بمجرد ذكر الرأس مثلًا، وإنما يحكم الإنسان على الشيء الغائب عنه إذا كان قد عرف نوعه، فالإنسان إذا تصوَّر إنسانًا من الغابرين أو الغائبين فإنه لا يحكم عليه إلّا بما هو مشترك بين سائر الأناسيّ فقط. وذلك للعلم بأنه إنسان من هذا النوع المشاهَد، فإنْ تصوَّر شيئًا آخر كطوله وجسامته وبياضه مما لم يثبت اتصافُه بها فهذا مجرَّدُ تخيُّلٍ، كما قد يتصور أن له رأسَ ثورٍ ونحوه. فأما الملائكة فإن من لم يرَ أحدًا منهم لم يُمكِنْه أن يحكم عليهم بشيء، فإن ورد وصفُهم بالأجنحة، فقد يتصور الإنسان أجنحة كأجنحة الطير، ولكنه فضلًا عن كونه لا يفهم من الخبر أن رؤوسهم كرؤوس الطير وأرجلهم كأرجل الطير، لا يفهم منه أن أجنحتهم كأجنحة الطير وإن وُصِفوا بالأجنحة، للعلم بأنهم ليسوا من نوع الطير. وإذا كان هذا في الملائكة الذين هم خلقٌ من خلق الله تعالى، فما بالك بجبَّار السموات والأرض سبحانَه وتعالى؟ ومن المبتدع أيضًا: مقابلُ هذا القول، وهو تأويل ما ورد في الكتاب والسنة من آيات الصفات مطلقًا، قالوا: لأن قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] يَصرِفها عن ظاهرها. فيقال لهم: وما هو ظاهرها؟ فإن قالوا: إن ظاهرها هو أن المراد باليد يدٌ كأيدينا، وبالوجه وجهٌ كوجوهنا ونحو ذلك= فغير مسلَّم، لما مرَّ أنها لا تُفهِم إلّا مطلقَ يدٍ ووجهٍ ونحوها مما ورد، فإن تصوَّر الإنسان ماهية أو كيفية أو كمية فهو يعلم أن ذلك تخيُّلٌ بَحْتٌ، كما مرَّ في أجنحة الملائكة، ولله المثلُ الأعلى.

(4/161)


وإن قالوا: إن ظاهرها وإن كان لا يثبت به إلّا مطلقُ يدٍ ووجه، فقد يتصور الإنسان ماهيةً أو كيفيةً أو كميةً ونحو ذلك، ويحكم بجوازها، كما أن الإنسان إذا علم أن للملائكة [ص 6] أجنحة، وتصوَّر أجنحةً كأجنحة الطير، قد يحكم بجواز ذلك بأن تكون أجنحةً عظيمةً من نور على هيئة أجنحة الطير، فجاءت تلك الآيتانِ لنفي هذا التجويز. ففي هذا نظر، فإن الإنسان عند تصور عظمة ربّ الأرباب جبَّار السموات والأرض يمتنع منه تجويزُ ذلك. ومن لم يمنعه تصوُر عظمة الرب جلَّ ذكره عن تجويز ذلك فأولى أن لا يمنعه تلك الآيتانِ: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}؛ لأن دلالتهما ليست في منع التجويز بأقوى من تصوُّرِ عظمة الحق سبحانه وتعالى. وإن قالوا: إن ظاهرها هو إثبات مطلق اليد والوجه ونحوها مما ورد، وزعموا أن ذلك من أصله محال= فلا ولا كرامة، فإن العليم الخبير أنزل تلك الآيات البينات في كتابه غيرَ جاهلٍ ولا غافل، وقد أنزل القرآن عربيًا مُبِينًا، وكلَّف العرب بما فهمتْه من كتابه ومن كلام نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، ولا شكَّ أنهم عند سماع هذه الآيات يفهمون منها ظاهرها غالبًا، أي: ثبوت مطلق يد ووجه ونحوهما مما ورد. ووجوه المجاز التي تكلَّفها المؤوِّلون وإن صلحتْ في بعض المواضع. فهي بعيدة في مواضع كثيرة. وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ السورة من القرآن فيها شيء من آيات الصفات، فيسمعها العربي فيفهم منها ما يفهم، وليس الحال هاهنا كالحال في آيات الأحكام ونحوها، فإن العمل هناك بالحكم قبل معرفة ناسخه والعامّ قبل معرفة مخصِّصه والمطلق قبل معرفة مقيِّده جائز،

(4/162)


وقد وقع من ذلك كثير في عهده صلى الله عليه وآله وسلم. وعلى فرض أنه غير جائز ففهْمُ المنسوخ بدون معرفة ناسخه ونحوه لا خطر فيه، بخلاف الاعتقاديات، فلم يكن الله سبحانه وتعالى ليُنزِل آيةً تدلُّ دلالة واضحةً على أمرٍ القولُ به كفرٌ أو نحوه، ويَكِلَ البيانَ إلى آية بعيدةٍ عنها، بحيث قد يسمع الأعرابي الأولى دون الثانية. ومع هذا فقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} لا تدلَّانِ على نفي ما أثبتته آيات الصفات من مطلق اليد والوجه ونحوه مما ورد، كما لا تدلَّان على نفي السمع والبصر وغيرهما من الصفات. وأما قولهم بأن العقل يَصرِفها عن ظاهرها، وكان العرب عقلاء يعلمون عظمة الجبَّار جلَّ جلالُه، ويقطعون بتنزُّهه عن ظواهر تلك الآيات، وإنْ فُرِض ضلالُ أحدٍ منهم فهو لتقصيره في عدم النظر بالعقل. [ص 7] فجوابه أن العقل غايته إدراك انتفاء النقائض عن الله سبحانه وتعالى، تفصيلًا فيما يقطع بكونه نقيصةً، وإجمالًا فيما عدا ذلك. ومطلق اليد والوجه اللائقين بجلال الرب سبحانه وتعالى ونحوهما مما ورد لا يقطع العقل الصحيح بكون ذلك من النقائص، كما في السمع والبصر وغيرهما من الصفات، ومن اعتقد أن ذلك من النقائص فقد غلِط، ومثارُ الغلط: التصوُّرُ، فإن الذهن إذا تصوَّر مطلق اليد والوجه ونحوهما تصوَّر ماهيةً وكميةً جريًا على ما يعتاده ويعرفه في المحسوسات. فيغلَط بعضُ النظَّار، فيظنُّ لشدة تلازمهما في الذهن تلازمَهما في الخارج، وليس الأمر كذلك. فلذلك انقسم الناس إلى قسمين:

(4/163)


الأول: من علم أن إثبات مطلق اليد والوجه ونحوهما مما ورد لا يستلزم ماهيةً ولا كيفيةً ولا كميةً وغيرها من الحوادث، فآمن بذلك كما جاء من عند الله تعالى. والثاني: من ظنَّ التلازم بين الأمرين، وهؤلاء افترقوا إلى فرقتين: فرقة اعتقدت التلازم، فاعتقدت ثبوتَ اليد والوجه مع ما اعتقدتْه ملازمًا لذلك من الحوادث. وفرقة علمتْ أن ثبوت الماهية والكيفية والكمية وغيرها من الحوادث نقصٌ بالنسبة إلى الله تعالى، فنَفَتْ ثبوتَ مطلق اليد والوجه وغيرهما مما ورد رأسًا، وتعسَّفتْ في تأويل الآيات والأحاديث الواردة بذلك، بدون التفاتٍ إلى ما يلزم على هذا القول، وأعرضتْ عن قوله تعالى في كتابه: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، وقوله تعالى في رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]. وقد اعتذر بعضهم بأنهم إنما خاضوا في علم الكلام مع كون الخوض فيه بدعة لأنه نشأ في الناس [كثير من] المبتدعة [شبَّهوا] على [الجهال] (1) بالشُّبه المنسوجة بالأدلة وغيرها. ورأى العلماء أن الوقوف على طريقة السلف غيرُ كافٍ في ردّ شُبَه هؤلاء القوم وإدحاضِ ما يغُرُّون به الناس، فاضطرُّوا إلى قتالِ أولئك المبتدعة بسلاحهم، وصياغةِ حجج الدين في قوالب الفلسفة، ليكون ذلك كافيًا في إبطال تلك الشُّبه، وأرادوا بهذا القول أن ينظموا هذا الفعل في سلك القسم الأول من النوع الثاني، ويُلحِقوه بجمع القرآن ونحوه. _________ (1) هنا كلمات ذهب أكثرها في طرف الورقة، ولعلها ما قدرناها.

(4/164)


والجواب على هذا من وجوه: الأول: أن هذه الأمور الاعتقادية التي خضتم فيها هي من المقاصد لا من الوسائل، والمقاصد لا يسوغ الإحداثُ فيها أصلًا. الثاني: أننا لا نُسلِّم أن طريقة السلف قصرتْ عن الدفاع عن الدين، كيف وهي طريقة القرآن وطريقة أنبياء الله أجمعين؟ والتاريخ يشهد بذلك، فإن المتمسكين بطريقة السلف ما زالوا منصورين على المبتدعة حتى نشأتُم. الثالث: أن هذا الخوض الذي خضتموه منهيٌّ عنه بخصوصه بأدلة الكتاب والسنة. الرابع: أنكم لم تقتصروا على ما قلتم من صوغ حجج الدين في قوالب الفلسفة، بل قلبتم حجج الدين ومقاصده ظهرًا لبطنٍ، فحكَّمتم أقوال حكماء اليونان وآراء حزب الشيطان في كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فكلُّ آية أو حديثٍ رأيتموه يخالف شيئًا من فلسفتكم تأوَّلتموه وصرفتموه عن ظاهره، ورددتموه إلى هواكم، فحكَّمتم هواكم في دين الله. إلى غير ذلك من الوجوه التي لا خفاء بها، وإلى الله المشتكى، وبه المستعان، وعليه التُّكلان. وأنت إذا تأملتَ في تاريخ الإسلام وجدتَ جميع البلايا التي فرَّقتْ أهلَه ومزَّقتْ شَمْلَه ناشئةً عن سببين: أحدهما: هو الخوض في هذه الآيات والأحاديث، والرغبة في إدخالها تحت القوانين الفلسفية. الثاني: إحياء ما أماته الدين من العصبيات القومية، وذلك أنها لا تقوم

(4/165)


دولةٌ إلا على أساس عصبية، والعصبية أنواع: قومية ووطنية، وكلاهما تؤدي إلى الافتراق، وتَؤول إلى الخلف والشقاق. ودينية، وهي تكفُلُ الاتحاد بين أهل ذلك الدين إذا أُمِيتَتْ بينهم العصبيات القومية والوطنية. ولذلك فإن الدين الإسلامي بُني على إماتة العصبيتين القومية والوطنية، وعلى السعي في إحياء العصبية الدينية. ولما كانت الأديان معرَّضةً للتشعُّب والاختلاف، وإذا حصلَ الاختلاف وقع الافتراق، وصارت كل فرقةٍ ذاتَ دينٍ مستقل، فيؤدِّيها ذلك إلى التعصُّب على بقية الفرق، وهلُمَّ جرًّا= حَرَصَ الشارع على بقاء دين الإسلام دينًا واحدًا لا اختلافَ ولا افتراقَ فيه، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]. ومن تأمل أحكام الدين الإسلامي وجدها بأجمعها تَرمي إلى هذا الغرض الذي هو الاجتماع وعدم التفرق. ولما كان الاختلاف في الدين قد يكون في الأصول، وقد يكون في الفروع، جاء الشرع بمنع الخوض في الأصول، بل ما كان منها ظاهرًا لا يمكن الاختلاف فيه فأمرُه واضح، وما كان بخلاف ذلك فالواجب الإيمان به فقط، وأن يقول كلُّ أحدٍ منا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، [ص 8] ويمسك عمّا عدا ذلك. وعلى هذا جاء الشرع الشريف، قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. ولا شك أن الخائض في الأصول لابدَّ وأن يقْفُوَ ما ليس له به علم، وذلك أن العلم حقيقته ما ينكشف به المعلوم انكشافًا تامًّا، أي: بحيث لا يبقى في مقابله أدنى احتمال. والأشياء التي خاض فيها المحدَثون ليست كذلك.

(4/166)


وقال تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 1 - 3]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 7 - 8]. وفي "الصحيحين" (1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} إلى {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)}. فقال: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّاهم الله، فاحذروهم". وفي "سنن الترمذي" (2) عن أبي هريرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضِبَ حتى احمرَّ وجهُه، حتى كأنما فُقِئ في وجنتَيْهِ حَبُّ الرُّمّان، فقال: "أبهذا أُمِرتُم؟ أم بهذا أُرسِلْتُ إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمتُ عليكم عزمتُ عليكم أن لا تنازعوا فيه". وفي "المشكاة" (3): وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمع _________ (1) البخاري (4547) ومسلم (2665). (2) رقم (2133). قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث صالح المري، وصالح المري له غرائب ينفرد بها لا يتابَع عليها. (3) رقم (237).

(4/167)


النبي صلى الله عليه وآله وسلم قومًا يتدارؤون في القرآن، فقال: "إنما هلك مَن كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضَه ببعضٍ، وإنما نزل كتابُ الله يُصدِّق بعضُه بعضًا، فلا تكذِّبوا بعضَه ببعضٍ، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكِلُوه إلى عالمه". رواه أحمد وابن ماجه (1). وفي "صحيح مسلم" (2) عن عبد الله بن عمرو قال: هجَّرتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومًا، قال: فسمع أصواتَ رجلين اختلفَا في آية، فخرج علينا رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم يُعرَف في وجهه الغضبُ، فقال: "إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب". ورُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلًا جاء يسأله مستشكلًا لشيء من كتاب الله تعالى، فضربه بالدِّرة ضربًا مُوجِعًا، ونفاه وأمر بأن يُهْجَر، فمكثَ ذلك الرجل إلى أن مات لا يكلِّمه أحد (3). وعلى هذا مضى التابعون، فقال مالك (4) لمن سأله عن الاستواء: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة، وأنت رجلٌ مبتدع. وقال هو أو غيره لمن سأله عن شيء من ذلك: أنا على يقينٍ من ديني _________ (1) "مسند أحمد" (6741) وابن ماجه (85). وإسناده حسن. (2) رقم (2666). (3) هو صَبيغ بن عِسْل، وقصته مع عمر مشهورة رُويت من طُرق مختلفة، انظر "سنن الدارمي" (146، 150)، و"شرح أصول اعتقاد أهل السنة" للالكائي (ص 634 - 635)، و"تاريخ دمشق (23/ 411 - 413)، و"الإصابة" (5/ 306 - 308). (4) انظر "حلية الأولياء" (6/ 325، 326) و"سير أعلام النبلاء" (8/ 100، 101).

(4/168)


وأنتَ شاكٌّ، فاذهبْ إلى شاكٍّ مثلِك فخاصِمْه (1). وقد كثر النقلُ عن الإمام الشافعي في النهي عن الكلام، ومن معين قوله: "لأن يأتي العبد ربَّه يومَ القيامة بكلِّ ذنبٍ ما خلا الشركَ خيرٌ له من أن يأتيه بشيء من الكلام" (2). ومنه: "إذا سمعتَ الرجل يقول: الاسم عينُ المسمَّى أو غير المسمَّى فاعلم أنه من أهل الكلام، ولا دينَ له" (3). وأما الإمام أحمد فشأنه في ذلك مشهور، وقد هجرَ الحارثَ المحاسبي لخوضه في الكلام (4). وقد رجع الأشعري عن الخوض فيه إلى مذهب السلف، كما أبانَه في كتابه "الإبانة"، وكذلك الغزالي كما شرحه في كتابه "الإلجام"، وكذا إمام الحرمين والرازي كما نقله الذهبي في "النبلاء" (5). ولكنه ــ ويا للأسف ــ[ص 9] بعد أن تمزَّقت الجامعة أيدي سبأ، وسلكتْ كل فرقةٍ من الفرق مذهبًا، وحصل الاختلافُ الذي نهى الله ورسولُه عنه، والتنازع والفشل الذي حذَّر الله ورسوله منه. وغاية الأمر أنه حفظ الله تعالى على بعض هذه الأمة الحقَّ، كما بشَّرَ به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله فيما رواه معاوية بن قرَّة عن أبيه قال: _________ (1) انظر "الإبانة" لابن بطة (1/ 404، 2/ 509). وهو قول مالك أيضًا. (2) انظر "آداب الشافعي ومناقبه" (ص 187) و"حلية الأولياء" (9/ 111)، و"مناقب الإمام الشافعي" للبيهقي (1/ 452). (3) "مناقب الإمام الشافعي" (1/ 405). (4) انظر "تاريخ بغداد" (8/ 215، 216). (5) انظر (18/ 471 - 474، 21/ 501).

(4/169)


قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا فسَدَ أهل الشام فلا خيرَ فيكم، ولا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرُّهم من خذَلَهم حتى تقوم الساعة" قال ابن المديني: هم أصحاب الحديث. رواه الترمذي (1) وقال: هذا حديث حسن صحيح. ومع هذا فإننا لا نيأسُ من رَوح الله تعالى أن يُعيدَ للإسلام مجدَه، ويردَّ من تفرقتْ بهم السُّبلُ إلى سبيله، وهو على كلِّ شيء قدير. وأما الفروع فقد جاء الإسلام فيها بما يمنع الاختلاف ويحولُ دونَه، وهو ردُّ ما اختُلِف فيه إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فإن اختلفت الأنظار فكلُّ أحدٍ من النُّظَّار يعذر صاحبَه كما عذَرَه الله تعالى، ولا يَحمِله خلافُه إياه على عدم موالاته وموادَّتِه، ما دامَ قد اجتهد بقدر وُسْعِه، وقال بما ترجَّح عنده أنه الحق. ومع ذلك فلا يكاد يمضي يسيرٌ من الزمن حتى يُظهِر الله تعالى الحقَّ بإظهار دليله، فيزول الاختلاف ويتم الائتلاف. ولكن البلاء دخلَ على المسلمين من هذه الجهة أيضًا بحملهم على تقيُّدِ كلِّ فرقة منهم بمذهب مخصوص، مع الإعراض عن أدلة الحق ونصوصه من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وآلَ بهم الأمرُ إلى العصبية المنهيِّ عنها، فصار كل أحدٍ يتعصَّبُ للمذهب الذي ينتمي إليه ويقدح فيما عداه. وهكذا تجزَّأت العصبية الدينية، التي حرصَ الشارع على جعلها رابطةً لكلِّ من ينتمي إلى الدين الإسلامي حتى تكون الجامعة الإسلامية، كما في "الصحيحين" (2) عن _________ (1) رقم (2192). (2) البخاري (6011) ومسلم (2586).

(4/170)


النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادِّهم وتعاطُفِهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضوًا تداعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَر والحمَّى". وأنت تعلم أن الذين ينتمون إلى الإسلام يبلغون الآن نحو ثلاث مئة مليون (1)، ولكنك مع الأسف لو حاولتَ أن ترى منهم بضعةَ آلافٍ على عصبية دينية صحيحة كما شرعه الله تعالى ودعا إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجاهد عليه أصحابه رضي الله عنهم، ومشى عليه خيارُ التابعين رحمهم الله تعالى= [لم تجد] إلا من شاء الله تعالى. _________ (1) هذا في سنة 1344 هـ عندما ألَّف الشيخ الرسالة. والآن قد جاوز عددهم المليار.

(4/171)


 [البحث الأول: البناء على القبور]

[روايات حديث أبي الهيّاج عن علي] [الروايات من مسند أحمد] حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا معاوية، حدثنا أبو إسحاق، عن شعبة، عن الحكم، عن أبي محمد الهذلي، عن علي، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فقال: «أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنًا إلا كسره، ولا قبرًا إلا سوّاه، ولا صورة إلا لطخها؟» فقال رجل: أنا يا رسول الله. فانطلق، فَهَاب أهلَ المدينة، فرجع، فقال علي: أنا أنطلق يا رسول الله. قال: فانطلق ثم رجع، فقال: يا رسول الله، لم أدع بها وثنًا إلا كسرته، ولا قبرًا إلا سويته، ولا صورة إلا لطختها. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من عاد لصنعة شيء من هذا، فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -» (1). حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا حماد ــ يعني ابن سلمة ــ عن يونس بن خباب، عن جرير بن حيان، عن أبيه، أن عليًا قال: أبعثك فيما بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني أن أسوِّيَ كل قبر، وأطمس كل صنم (2). حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن أبي وائل، عن أبي الهيّاج الأسدي قال: قال لي علي: أبعثك على ما بعثني _________ (1) (657). (2) (683)

(4/172)


عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته (1). حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا أسود بن عامر، حدثنا شعبة، قال: الحكم، أخبرني عن أبي محمد، عن علي، قال: بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة فأمره أن يسوي القبور (2). حدثنا عبد الله، حدثنا شيبان أبو محمد، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا يونس بن خباب، عن جرير بن حيان، عن أبيه، أن عليًا قال لأبيه: لأبعثنَّك فيما بعثني فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن أسوي كل قبر، وأن أطمس كل صنم (3). حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا وكيع وعبد الرحمن، عن سفيان، عن حبيب، عن أبي وائل، عن أبي الهيّاج قال: قال لي علي: قال عبد الرحمن: إن عليًا قال لأبي الهيّاج: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن لا تدع قبرًا مشرفًا إلا سويته، ولا تمثالًا إلا طمسته (4). حدثنا عبد الله، حدثني أبو داود المباركي سليمان بن محمد، حدثنا أبو شهاب، عن شعبة، عن الحكم، عن أبي المورع، عن علي، قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة، فقال: «من يأتي المدينة فلا يدع قبرًا إلا سواه، ولا صورة إلا طَلَخَها، ولا وثنًا إلا كسره» قال: فقام رجل فقال: أنا، ثم هاب أهلَ المدينة فجلس، قال علي: فانطلقت، ثم جئت فقلت: يا رسول الله، لم أَدعْ بالمدينة قبرًا _________ (1) (741). (2) (881). (3) (889). (4) (1064)

(4/173)


إلا سويته، ولا صورة إلا طلختها، ولا وثنًا إلا كسرته، قال: فقال: «من عاد فصنع شيئًا من ذلك فقد كفر بما أنزل الله على محمد» الحديث (1). حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا أسود بن عامر، حدثنا شعبة، قال: الحكم أخبرني عن أبي محمد، عن علي، قال: بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة فأمره أن يسوي القبور (2). حدثنا عبد الله، حدثني شيبان أبو محمد، حدثنا حماد ــ يعني ابن سلمة ــ، أخبرنا حجاج بن أرطأة، عن الحكم بن عتيبة، عن أبي محمد الهذلي، عن علي بن أبي طالب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلًا من الأنصار أن يسوي كل قبر، وأن يلطخ كل صنم فقال: يا رسول الله، إني أكره أن أدخل بيوت قومي، قال: فأرسلني، فلما جئت قال: يا علي، لا تكونن فتانًا، ولا مختالًا، ولا تاجرًا إلا تاجر خير فإن أولئك مسوفون ــ أو مسبوقون ــ في العمل (3). حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن رجل من أهل البصرة، قال: ويكنيه أهل البصرة أبا مورع قال: وأهل الكوفة يكنونه بأبي محمد قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة، فذكر الحديث، ولم يقل عن علي، وقال: ولا صورة إلا طلخها فقال: ما أتيتك يا رسول الله حتى لم أدع صورة إلا طلختها. وقال: لا تكن فتانًا ولا مختالًا (4). _________ (1) (1170). و «طلخها» بمعنى «لطخها» أي بالطين حتى يطمسها. (2) (1175). (3) (1176). (4) (658).

(4/174)


حدثنا عبد الله، حدثني عبيد الله بن عمر القواريري، حدثنا السكن بن إبراهيم، حدثنا الأشعث بن سوار، عن ابن أشوع، عن حنش الكناني، عن علي: أنه بعث عامل شرطته، فقال له: أتدري على ما أبعثك؟ على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن أنحت كل ــ يعني صورة ــ، وأن أسوي كل قبر (1). مسلم (2): حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب (قال يحيى: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا وكيع)، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، عن أبي الهيَّاج الأسدي، قال: قال لي علي (3) بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ أن لا تدع تمثالًا إلّا طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلا سوّيته. الترمذي (4): حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل: أن عليًّا قال لأبي الهياج الأسدي: أبعثك على ما بعثني به النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ أن لا تدع قبرًا مشرفًا إلا سويته ولا تمثالًا إلا طمسته. قال: وفي الباب عن جابر. قال أبو عيسى: حديث علي حديث حسن. والعمل على هذا عند بعض _________ (1) (1284). (2) (969). (3) كتب المؤلف إلى هنا، وأثبت الباقي من الصحيح. (4) (1049).

(4/175)


أهل العلم يكرهون أن يرفع القبر فوق الأرض. قال الشافعي: أكره أن يرفع القبر إلا بقدر ما نعرف أنه قبر لكي لا يوطأ ولا يجلس عليه. النسائي (1): أخبرنا عمرو بن علي، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا سفيان، عن حبيب، عن أبي وائل، عن أبي الهيّاج قال: قال عليّ رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لا تدعن قبرًا مشرفًا إلا سويته، ولا صورة في بيت إلا طمستها. أبو داود (2): حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، حدثنا حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، عن أبي هيّاج الأسدي قال: بعثني عليّ قال لي: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أن لا أدع قبرًا مشرفًا إلّا سويته، ولا تمثالًا إلا طمسته. * * * * _________ (1) (2031). (2) (3218).

(4/176)


[تلخيص روايات أبي الهياج عن عليّ] [وفي «صحيح مسلم» (1): عن أبي الهيّاج الأسدي، قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أن لا تدع تمثالًا إلا طسمته ولا قبرًا مشرفًا إلا سوّيته]. وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي بألفاظ متقاربة، ورواه الإمام أحمد من طرقٍ عن أبي الهيّاج، ورواه بطريق أخرى فيها أبو محمد الهذلي ــ قال الذهبي: «لا يعرف» ــ عن عليّ رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنازة فقال: «أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنًا إلا كسره، ولا قبرًا إلا سوّاه، ولا صورة إلا لطخها؟» فقال (رجل): أنا يا رسول الله. فانطلق فَهَاب أهلَ المدينة فرجع، فقال علي رضي الله عنه: أنا أنطلق يا رسول الله. قال: فانطلق ثم رجع، فقال: يا رسول الله، لم أدَعْ بها وثنًا إلا كسرته، ولا قبرًا إلا سويته، ولا صورة إلا لطختها. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من عاد لصنعة شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم». الحديث. ورواه من طريق أخرى فيها أبو المورّع وهو أبو محمد الهذلي المذكور عن عليّ وذكر نحوه، وفي آخره قال: فقال: «مَن عاد فصنع شيئًا من ذلك فقد كفر بما أنزل على محمد» الحديث. ورواه من طريق أخرى مختصرًا بلفظ: بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة فأمره أن يسوِّي القبور. _________ (1) (969).

(4/177)


ورواه عبد الله، حدثني عبيد الله بن عمر القواريري، ثنا السكن بن إبراهيم، ثنا الأشعث بن سوَّار، عن ابن أشوع بن حنش الكناني عن علي رضي الله عنه بعث شرطته فقال له: أتدري على ما أبعثك؟ على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أن أنحت كل ــ يعني صورة ــ، وأن أسوِّي كل قبر. فإن قال قائل: لعل القبور التي كانت في المدينة حينئذٍ من قبور المشركين كما يدلّ عليه قوله: «ولا وثنًا إلا كسرته». فالجواب: أنه لا شكّ أنه كان في المدينة حينئذٍ من قبور المشركين ولكن ليس في الحديث ما يدلّ على أنه لم يكن فيها من قبور المسلمين، بل الحديث عامّ في كل قبر، ولاسيّما وفي آخره ــ كما عند الإمام أحمد ــ: «من عاد فصنع شيئًا من ذلك فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم». وهذا عام في كل من اتخذ وثنًا أو صورة أو شرّف قبرًا. ولو كان هذا الحكم من وجوب الهدم خاصًّا بقبور المشركين لبيَّن صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، والله أعلم، فلما أطلق فَهِمنا أنه على عمومه في كل قبر. وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعث أبا الهيّاج لطمس الصور وهدم القبور، ولا يخفى أن القبور حينئذٍ كلّها أو جلّها قبور المسلمين، وعمَّم الأمر بقوله: «أن لا تدع قبرًا إلا سوّيته». وفي رواية للإمام أحمد ــ قد مرّت ــ: «أن أسوِّي كل قبر». ومع هذا ففي «صحيح مسلم» (1) عن ثُمامة بن شُفي قال: كنّا مع _________ (1) (968).

(4/178)


فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس، فتوفّي صاحبٌ لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسُوِّي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بتسويتها. وأخرجه أبو داود والنسائي، وهو عند الإمام أحمد بلفظ: قال: «أخفّوا عنه، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمرنا بتسوية القبور». و (كان) تُشْعِر بالدوام، و (القبور) جمع محلَّى باللام فيعمُّ كلَّ قبر. وهذا واضح، والأمر للوجوب إذ لا صارف عنه. [فـ «قبر» في الحديث الأول] (1) دخلت عليه (ال) ولا عَهْد، فكان عامًّا في كل قبر، كما أن «قبرًا» في الحديث الثاني نكرة في سياق [النهي و] هي من صيغ العموم، فكان عامًّا في كل قبر. والقول بأنّ قبور أهل العلم والفضل مستثناة من ذلك يحتاج إلى دليل، ولم يأتِ دليل على ذلك. ودعوى أنّ كون صاحب القبر فاضلًا وعالمًا يقتضي تخصيصه= مجرد استحسان بلا دليل، ومَن استحسن فقد شرَّع، ومن شرّع فقد كفر، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى. بل إذا نظرنا إلى العلة في النهي عن البناء على القبور وجدناها خشيةَ أن يضلّ الناسُ بها كما ضلَّ قومُ نوح وغيرهم. وهذا المحذور أشدّ في قبور الفضلاء منه في قبور غيرهم، فكانت حُرمة البناء على قبور الفضلاء أشدّ، ووجوبُ إزالته آكد. وتخصيص بعضهم التحريمَ بما بُني في غير المِلك، كالمقابر المسبّلة، _________ (1) زيادةيكتمل بها السياق.

(4/179)


لا دليل عليه، وإن كان البناء في المقابر المسبّلة أشدُ حُرْمة؛ لكونه حرامًا من جهتين: الأولى: كونه بناء على قبر. والثانية: كونه استيلاء على حق الغير بلا إذن. بقي أن يُقال: إنك قلت في أول هذه الرسالة في بحث الجلوس على القبر: إن حقيقة الجلوس على القبر هو الجلوس عليه نفسه، لا الجلوس عنده، فهلَّا تقول هنا كذلك، فيكون البناء المنهيّ عنه هو ما كان على القبر نفسه، بأن يُجعَل أساسًا لدار أو نحوها، فيكون منهيًّا عنه لانتهاك حرمته؟ قلت: إن البناء على القبر بهذا المعنى لا يمكن إلا بعد نبشه، إذ لابدّ لوضع الأساس من حفر الأرض لئلّا ينهار البناء. وهذا المعنى بعيد عن منطوق الحديث؛ إذ لو كان هو المراد لقال: أن يُنبش القبر ويُبنى مكانه، فتعيَّن أن يكون المراد بالبناء عليه: البناء على جوانبه، وهذا صريح في حديث أبي الهيَّاج.

(4/180)


 [135] البحث الثاني اتخاذ القبور مساجد أو اتخاذ المساجد على القبور

إذا تصفَّحنا كتابَ الله تعالى نلتمس فيه دلالة في هذا البحث لم نجد إلّا قولَه تعالى في ذكر أصحاب الكهف: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21]. فيقال: إن الله تعالى حكى عنهم هذا القول ولم يُنكره، فدلّ على جوازه في شرع مَن قبلنا، وشَرْعُ مَن قبلنا شرعٌ لنا ما لم يَرِد في شرعنا ما ينسخه كما تقدم (1). والجواب: لا نسلّم أنّ عدم إنكار الله تعالى جلَّ ذكره لما يحكيه من الأقوال ويقصّه من الأفعال يدلّ على الجواز، كيف وقد حكى سبحانه قولَ إبليس: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12]، ولم يردّ عليه ردًّا يخصُّ هذه الدعوى؟ وحكى سبحانه عن النمروذ قولَه: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] ولم يُكذّبه. وقصّ عن إخوة يوسف خَدْعَهم أباهم، وإخلافَهم وعدَهم له، وإرادتهم قتلَ أخيهم، وإلقاءه في غيابة الجبّ، وبيعَه بثمن بَخْسٍ. ولم ينصّ في قصّتهم على أن تلك الأفعال من المحرّمات. وغير هذا كثير في القرآن. سَلَّمْنا أن عدم إنكاره سبحانه وتعالى يدلّ على الجواز في شرعهم، فلا نُسَلِّم أن شرع مَن قبلنا شرع لنا، كما هو الصحيح من مذهب الإمام _________ (1) لم يتقدّم شيء في المباحث السالفة.

(4/181)


الشافعي (1). سَلَّمنا أن شرع مَن قبلنا شرعٌ لنا، لكنّا نقول: قد ورد في شرعنا ما ينسخه، وهو الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تواترت أو كادت. فإن قيل: وكيف تنسخون القرآن بالسنّة؟ فالجواب: أنا لم ننسخ القرآن بالسنة، وإنما نسَخْنا شرع مَن قبلنا بالسنة، وبيانُه: أن الآية ليست هي الخطاب الذي ثبت به الحكم الأول حتى يلزم من نسخه نسخها، بل الخطاب الذي ثبت به الحكم الأول هو خطابٌ كان لنبيّ تلك الأمة، وتضمّنت الآيةُ الإخبار عنه فقط، إذ السُّنَّة إنما نسخت ذلك الخطاب الذي ثبت به الحكم الأول، وهو الخطاب الواقع لذلك النبيّ، وهذا جائز واقع بلا خلاف. ولم تنسخ الإخبارَ عنه الذي تضمّنته الآيةُ حتى تكون ناسخةً للآية. هذا، مع أن ذلك الخبر خبر عن أمرٍ قد وقع، ونَسْخ مثل ذلك محال، فتأمل. [ص] (2) الثانية (3): سلّمنا أن إخبار القرآن بالشيء بدون تنبيه على خطره _________ (1) انظر «اللمع» (ص 136)، و «إرشاد الفحول»: (2/ 982 - 985). والذي في المصادر أن هذا قول جماعة من محققي الشافعية وغيرهم، وذكر ابن السمعاني أن القول بأنه شرع لنا ما لم ينسخ هو قول أكثر الشافعية والحنفية وأومأ إليه الشافعي في بعض كتبه. انظر «قواطع الأدلة»: (2/ 211). (2) هذه الصفحة وما يليها من فيلم رقم (3584). (3) لعل المؤلف أراد أن الجواب عن قولهم «إن الله حكى هذا القول ولم ينكره فدلَّ على جوازه» يكون بطريقين؛ الأولى: على عدم التسليم بذلك، وقد سبقت، والثانية: على التسليم .. وهي هذه. أو يكون الكلام تابعًا لكلامٍ قبله لم نقف عليه ضمن أوراق هذا المبحث.

(4/182)


يد [ل على جوازه] (1) ولكنّا نقول: الذي أخبر به القرآن هنا إنما هو العزم، ومجرّد العزم لا يتعلّق به حكم. الثالثة: سلّمنا أن فيه ما يدلّ على جواز الفعل، ولكنّا نقول: [إن] «على» في الآية ليست للاستعلاء بل للسببيّة، كما في قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]. وقول الشاعر (2): * علامَ تقولُ: الرمحُ يُثقِل عاتقي * إلخ فيكون المعنى: لنتخذنّ لأجلهم مسجدًا، أي ليكون .... يحتمل ...... منهم ولون .... عنهم (3)، ويتعيّن الثاني؛ لدلالة السُّنَّة على منع الأول، ولا يحتمل أن يكون على أجسامهم لقوله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف: 18]. وغير ذلك لما سيأتي. ثم ظهر لي مِن تأمّل الآيات [أن] الفريقين اتفقوا على العزم على البناء [على باب الغار] (4)، واختصّ الذين غلبوا على أمرهم بالعزم [على] اتخاذ _________ (1) خرم بمقدار كلمتين. فلعله ما قدّرته. (2) البيت لعمرو بن معديكرب ضمن قصيدة له. «ديوانه المجموع» (ص 53 - 56)، و «الحماسة»: (1/ 99)، وعجزه: * إذا أنا لم أطعن إذا الخيلُ كرّتِ * (3) خرم في أطراف الورقة أتى على عدة كلمات، فأثبتّ ما ظهر منها. (4) خرم في الأصل واستفدنا إكماله مما سيأتي من كلام المؤلف. وكذا ما بين المعكوفات بعده.

(4/183)


المسجد، وذلك أن الله عزَّ وجلَّ [قال]: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} أهلَ المدينة ومَنْ معهم {لِيَعْلَمُوا} أي: أهل المدينة ومَن معهم {أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ} أي: الحاضرون من أهل المدينة ومَن معهم {بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا} [الكهف: 21] جميعًا ــ كما هو ظاهر ــ، وعليه فالعزم على اتخاذ المسجد إنما هو بعد البناء على باب الغار وغيره، وحينئذٍ فيحتمل القُرْب، فيكون معنى «على» الاستعلاء المجازيّ. والبُعْد، ويكون معناها السببيّة. والثاني هو الحق لدلالة السُّنَّة. الطريق الرابعة: لو سلّمنا دلالة الآية على وقوع البناء على أجسامهم، وأنّ عدم التنبيه يدل على الجواز، فنقول: قد وُجد التنبيه بالسنة، إذ لا يجب أن يكون التنبيه في نصّ القرآن، فإن ما ادّعيتموه من الدلالة ليست من دلالة نظم الكتاب بمنطوقٍ أو مفهوم. ومع قطع النظر عن هذه فغايتها أن تكون ظنية كالعموم والإطلاق، فيكون من النوع الثاني من المجمل، أي الذي له ظاهرٌ وقد أُريد به خلافه. والسنة كافية للبيان اتفاقًا. الخامسة: الدلالة بعد تسليمها إنما تكون على جواز تلك الواقعة بعينها، فأما في غيرها فإنما يمكن أخذه بطريق القياس في حق أهل تلك الشريعة إذا وُجدت شروطه في حقّهم؛ بأن يكونوا متعبَّدِين به، ولا يكون هناك نصٌّ في كتابهم أو كلام نبيّهم يعارضه، وأن توجد الأولوية أو المساواة في العلة. وهذا كله مجهول لدينا. وغاية ما نعلمه أن بناء المساجد على القبور كان حرامًا على اليهود والنصارى، كما دلّ عليه لَعْنُ مَن فعل ذلك منهم، واشتدادُ

(4/184)


غضب الله عليهم، كما تواتر في السنة. فإن كانت واقعة أهل الكهف في اليهود أو النصارى فالأمر واضح، وإلَّا فالظاهر من الأحاديث أن مثل ذلك لم يزل محرَّمًا. فإن فُرِض أنه كان جائزًا في شريعةٍ قبل التوراة والإنجيل، واختير أنّ شرع مَن قبلنا شرعٌ لنا، وأننا متعبّدون بالقياس ولو على أصل مِن شرع مَن قبلنا. فالجواب بوجوه: الأول: أن مجرد احتمال أن يكون في شرعٍ قبل التوراة والإنجيل لا يصلح متمسَّكًا، وإن استُؤنِسَ له بتلك الدلالة المدّعاة (1). الثاني: أن في كون شرع مَن قبلنا شرعًا لنا خلافًا. الثالث: أن القول بأنه شرعٌ لنا مقيّدٌ بأن لا يكون في شرعنا ما يخالفه، وقد عُلِم ما في السنة من النهي عن ذلك. الرابع: أن في تعبّدنا بالقياس خلافًا. الخامس: أن القائلين بالقياس في شرعنا لم نعلمهم أجازوه على أصلٍ مِن شرع مَن قبلنا. [السادس] (2): أن شرط القياس عدم النصّ المعارض له، حتى لو كان الأصل قطعيًّا والنصّ المعارض ظنيًّا، فكيف والأمر في مسألتنا بالعكس؟ _________ (1) «وإن استونس ... المدعاه» لحق لعل هذا مكانه. (2) في الأصل: «الخامس» سبق قلم، واستمرّ في العدد الذي بعده.

(4/185)


[السابع]: أن شرط القياس أيضًا الأولوية أو المساواة [في العلة] (1) لا بكون مجرد النبوّة والصلاح، فما بقي إلّا أن يكون كونها [آية خارجة عن العادة] بتلك المثابة. على أنه لو فُرِض وجود مثل تلك الآية أو أبلغ منها لَمَا صحّ القياس لما تقدّم. [ثم رجعنا النظر إلى السنة، فوجدنا في «الصحيحين» (2) وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها: أن أم سلمة ذكرت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة بأرض الحبشة، وذكرت له ما رأت فيها من الصور. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أولئكِ قوم إذا مات فيهم العبد الصالح ــ أو الرجل الصالح ــ بنوا على قبره مسجدًا وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئكِ شرار الخلق عند الله». وفي «صحيح مسلم» (3) عن جندب بن عبد الله البجلي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت يقول: «ألا وإنّ مَن كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك». وفي «الصحيحين» (4) من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قاتل الله اليهودَ والنصارى اتخذوا قبورَ _________ (1) خرم بطرف الورقة من أسفلها أتى على كلمتين في هذا الموضع وثلاث كلمات في السطر الآتي. ولعل التقدير ما أثبته بين معكوفين. (2) البخاري (434)، ومسلم (528). (3) (532). وفي الأصل: «فإنما أنهاكم» والمثبت من «الصحيح». (4) البخاري (2437)، ومسلم (530).

(4/186)


أنبيائهم مساجد». وعن أسامة بن زيد قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أدْخِل عليَّ أصحابي» فدخلوا عليه فكشف القناع، ثم قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد» (1)] (2). وفي «الصحيحين» (3) عن عائشة قالت: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طَفِقَ يطرحُ خميصةً له على وجهه، فإذا اغتمَّ كَشَفها، فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». يحذِّرُ ما صنعوا. وروى الشيخان (4) مثله عن ابن عباس. قال الشوكاني (5): وأخرج الإمامُ أحمد في «مسنده» (6) بإسناد جيّد من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مِن شِرار الناس مَن تدركهم الساعةُ وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد». قال غيره: ورواه الطبراني (7). _________ (1) أخرجه أحمد (21774)، والطيالسي (669)، والبزار (2609) وغيرهم. وفي سنده ضعف يسير يتقوّى بشواهده الكثيرة. (2) زيادة يتم بها السياق، وأضفت هذه الأحاديث لأن المؤلف أشار بعد صفحتين إلى الأحاديث التي ذكرها إجمالًا وعدّ منها هذه الأربعة. وانظر رسالة الشوكاني «شرح الصدور» (ص 29 - 31). (3) البخاري (435 و 436)، ومسلم (531). (4) انظر الأرقام السالفة. (5) في «شرح الصدور في تحريم رفع القبور» (ص 30 - 31 - ضمن الرسائل السلفية). (6) (3844)، وأصله في البخاري (6067) دون قوله: «والذين يتخذون القبور مساجد». (7) في «الكبير»: (9/ 34) (10260).

(4/187)


وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي ــ وقال: حديث حسن ــ والنسائي، وابن ماجه (1)، عن ابن عباس قال: لعن رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم زائرات القبور، والمُتَّخذين عليها المساجد والسُّرُج. وأخرج أحمد وأهل السنن عن زيد بن ثابت (2) أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُّرُج». وفي «الموطأ» (3) عن عطاء بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعْبَد، اشتدّ غَضبُ الله على قومٍ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وعطاء تابعي، فالحديث مرسل. وقد مرَّ (4) أن الإمام أحمد أخرجه في «المسند» (5) بسندٍ رجاله كلهم ثقات بلفظ: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا، لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». _________ (1) أخرجه أحمد (2030)، وأبو داود (3236)، والترمذي (320)، والنسائي (2043)، وابن ماجه (1575)، وابن حبان (3180). وهو ضعيف بزيادة «السرج»، وباقي الحديث له شواهد يتقوى بها. وانظر «النهج السديد» (223) للدوسري، وحاشية المسند: (4/ 363 - 364). (2) كذا، ولم أجد الحديث عن زيد بن ثابت، ولعل المؤلف تابع الشوكاني في رسالته «شرح الصدور» (ص 30) فقد عزاه إليه. (3) (475). (4) لم يتقدم شيء فيما سبق. (5) (7358) عن أبي هريرة. وأخرجه أبو يعلى (6681)، والبيهقي في «معرفة السنن»: (5/ 358).

(4/188)


وفي «الموطأ» (1) في حديث وصيّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ولا تتخذوا قبري وثنًا». فهذا ما تيسّر ذِكْره من أحاديث الباب، قد رواها من الصحابة: عائشة، وأبو هريرة، وأسامة، وجندب، وابن عباس، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وجُلّها في «الصحيحين» من طُرق، وفي ذلك كفاية لمن هداه الله، وبالله التوفيق. [140] فدلّت هذه الأحاديث على حرمة اتخاذ المساجد على القبور، أي: بأن يكون البناء مشتملًا على القبر وإن اتّسَعَ، إذ لا يتصوّر أن يُتّخذ القبر نفسه مسجدًا، ولا أن يبنى عليه مسجدٌ، بمعنى أن يكون البناء على حيطان القبر. وحديث عائشة: أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... الحديث ــ وقد مرَّ (2) ــ صريحٌ في هذا. [ص] فإن قال قائل (3): إن هذه الأحاديث تدلّ على أن اتخاذ المساجد على القبور [كان محرَّمًا] (4) على اليهود والنصارى. وذَكَر المفسِّرون أن الأمة التي بَعثَ الله فيها أهلَ الكهف كانوا نصارى، فكيف يُقال: إن اتخاذ المساجد على القبور كان جائزًا في شرعها؟ _________ (1) لم أجده بهذا اللفظ في الموطأ، وذكره الشوكاني في «شرح الصدور» (ص 32) ولم يعزه إلى الموطأ. وهو بهذا اللفظ عند البزار (9086) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) (ص 186). (3) كتب المؤلف هذا المبحث مرتين، هذا أكملهما. (4) تمزُّق في طرف الورقة أتى على بعض الكلمات، ولعلها ما أثبت.

(4/189)


فالجواب: أن قول المفسرين: إن تلك الأمة التي بُعِث فيها أهلُ الكهف كانوا نصارى قولٌ لا دليلَ عليه، وإنما هو مأخوذ عن أهل الكتاب فلا يوثَق به، مع أنّ الله تعالى قد منعنا من سُؤالهم في شأن أهل الكهف بقوله تعالى: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 22]. وعلى هذا فالجمع بين ما سلّمناه جَدَلًا في دلالة الآية على أن ذلك كان جائزًا في شرع تلك الأمة، وبين الأحاديث الدالّة على كونه كان حرامًا على اليهود والنصارى= أن يقال: إن تلك الأمة كانت قبل موسى عليه السلام، فكان ذلك جائزًا في شرعهم، ثم نُسِخ في شرع موسى وعيسى عليهما السلام، ثم تأكَّد النسخُ في شريعةِ خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم وبارك عليه وعلى آله. على أن الظاهر أنّ البناء للمساجد على القبور كان حرامًا في جميع الشرائع، ودلالة الآية على جواز تلك الواقعة ممنوع أو محمول على أن «على» للتعليل لا للاستعلاء، فيكون المعنى: لتتخذنّ لأجلهم مسجدًا. فيكون اتخاذ المسجد بعيدًا عنهم، ليكون تذكارًا بتلك الآية، والله أعلم. تنبيهات الأول: تقدم أن الأولى حمل «على» في الآية على السببيّة وإن كان خلاف الظاهر، جمعًا بين الأدلة، ولو سُلِّم أنها استعلائية لكان المراد الاستعلاء المجازيّ، أي: على مكان يَقْرُب منهم، كما في قوله تعالى: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه: 10]، وقول الشاعر (1): _________ (1) هو الأعشى في «ديوانه» (ص 120) من قصيدة يمدح بها المحلّق بن خنثم. وصدره: * تُشبّ لمقرورَين يصطليانها *

(4/190)


* وباتَ على النار الندى والمُحَلَّق * وذلك لأنه لا يمكن البناء عليهم لأنهم في الكهف، والكهوف تكون في الغالب صغيرة لا تسع أن يُبنى داخلها مسجد، ويؤيد هذا قوله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف: 18]. فإنه إذا كان هذا الرعب ملازمًا لكهفهم كان من الممتنع بعد عودتهم إلى مضجعهم أن يدخل البنّاؤون لبناء مسجدٍ على جُثثهم في داخله. وما قيل: إنه لعله كان الغار حفرةً عميقة ... (1) فيكون البناء على رأسه على جثثهم بدون دخول. يُبْعِدُه قوله تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف: 17 - 18] (2). ومع ذلك فالبناء بقُرْب القبر من المحرَّم في شريعتنا؛ لما مرّ في قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18]، ولأنّ العلةَ ــ وهي خشية أن يؤدّي تمييز القبر إلى تعظيمه ــ موجودةٌ هنا، مع أن مقصود الشارع سدّ الذريعة، ولا يتحقق ذلك إلا بسدّ الباب رأسًا، والله الموفق. الثاني: إنّما عزم الغالبون على أمرهم أن يتخذوا عليهم مسجدًا إشهارًا _________ (1) يحتمل هنا وجود كلمة لعلها «جدًّا» مخرومة في طرف الورقة. (2) من قوله: «وما قيل إنه لعله ... » إلى آخر هذه الآية لحق لم يتحرر مكانه، واجتهدتُ في إثباته في المكان المناسب.

(4/191)


لتلك الآية البالغة، حتى إذا قيل: بُني هذا المسجد على فتيةٍ كان مِن أمرِهم كيتَ وكيتَ= كان ذلك مما يُثبّت القلوبَ على الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، كما يدلّ عليه السياق، ومع ذلك فمثل هذا ممنوع في شرعنا لإطلاق الأدلة حُرْمة بناء المساجد على القبور، ومنها قبور الأنبياء والصالحين وغيرهم بأي قصدٍ كان، مع ما مرَّ أنّ مقصود الشارع سّد الذريعة. [ص 13] الثالث: ذكر ابن حجر في «الزواجر» (1) أنه وقع في كلام بعض الشافعية عدّ اتخاذ القبور مساجد والصلاة إليها واستلامها والطواف بها ونحو ذلك من الكبائر. وكأنَّه أخذ ذلك مما ذُكِر في الأحاديث. ووجه اتخاذ القبر مسجدًا واضح؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لَعَن من فَعَل ذلك بقبور الأنبياء عليهم السلام، وجَعَل مَن فَعل ذلك بقبور الصالحين شرارَ الخَلْق عند الله تعالى يوم القيامة، ففيه تحذيرٌ لنا. واتخاذُ القبرِ مسجدًا معناه: الصلاة عليه أو إليه، وحيئنذٍ يكون قوله: «والصلاة إليها» مكرَّرًا، إلّا أن يُراد باتخاذها مساجد الصلاة عليها فقط. نعم، إنما يتَّجه هذا الأخذ إن كان القبرُ قبر معظَّم مِن نبيّ أو وليّ، كما أشارت إليه روايةُ: «إذا مات فيهم الرجل الصالح» (2) ومِن ثَمَّ قال أصحابنا: تحرم الصلاةُ إلى قبور الأنبياء والأولياء تبرّكًا وإعظامًا. فاشترطوا شيئين: أن يكون قبر مُعَظّم. وأن يقصد الصلاة إليها. ومثلُ الصلاة عليه التبرُّك والإعظام. وكون هذا الفعل كبيرةً ظاهرٌ من الأحاديث، وكأنَّه قاس عليه كلَّ تعظيمٍ _________ (1) (1/ 173). والمؤلف صادر عن «روح المعاني»: (15/ 237) للآلوسي. (2) جزء من حديث عائشة سبق تخريجه (ص 186). ووقع في الأصل: «إن كان»!.

(4/192)


للقبر، كإيقاد السُّرُج عليه تعظيمًا له وتبرّكًا به والطواف به كذلك. وهو أَخْذٌ غير بعيد، سيّما وقد صرَّح في بعضُ الأحاديث المذكورة بلعن من اتخذ على القبر سراجًا، فيُحمل قولُ الأصحاب بكراهة ذلك على ما إذا لم يقصد به تعظيمًا وتبركًا بذي القبر. ا? (1). أقول: قوله: «وقع في كلام ... » إلخ. هو الذي لا ينبغي غيرُه، فإنّهم عرَّفوا الكبيرةَ بأنها: ما ورد فيه وعيد شديد بنصِّ كتابٍ أو سنة. وهذا التعريف صادقٌ على الأشياء المذكورة كما لا يخفى. وقوله: «واتخاذ القبر مسجدًا معناه الصلاة عليه أو إليه ... » إلخ. فيه نظر، نعم، الصلاة إليه قد ثبت النهيُ عنها بما في «صحيح مسلم» (2) عن أبي مرثد الغنوي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلُّوا إليها». والصلاة عليه أشدّ فهي مفهومة بالأَولى. وأما أحاديث النهي عن اتخاذها مساجد، فهي وإن لزم منها بطريق الأولى النهي عن الصلاة على القبور وإليها، فليس ذلك [هو معناها] المطابقي، [وإنما معناها] المطابقي [هو النهي] (3) عن اتخاذ المساجد عليها؛ لأن المساجد صارت حقيقةً شرعية في ما يُبنى ليكون مصلّى. والظاهر أنه ليس المراد أن اليهود والنصارى كانوا يبنون المساجدَ على نفس القبر، بل المراد أنهم يبنون بناءً يشتمل على القبر. ويبين هذا حديث «الصحيحين» (4) _________ (1) هنا انتهى كلام الآلوسي في «روح المعاني». (2) (972). (3) خرم في طرف الورقة أتى على عدة كلمات قدّرناها بما هو مثبت بين المعكوفات. (4) البخاري (1341)، ومسلم (528).

(4/193)


وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن أمّ سَلَمة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أولئك قوم ... » الحديث، وقد مرَّ (1). فهذه الكنيسة التي رأتها أمُّ المؤمنين في أرض الحبشة لم تكن ثلاثة أذرع في ذراعين أي: موضع قبر كما هو واضح. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث: «بنوا على قبره مسجدًا وصوَّروا فيه تلك الصور» صريحٌ في أن المراد بناء يشتمل على القبر، وأن الوعيد يتناول البناء نفسَه فضلًا عن الصلاة على القبر وإليه. وقد ترجم البخاري على هذا بقوله: (باب بناء المسجد على القبر) (2). وقد أحْسَن (3) بنصِّه على أن مثل الصلاة عليه التبرّكُ والإعظام، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله (4). [ص 14] وأما ما استدلّ به الإمام يحيى (5) بقوله: (ولا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء والملوك، لاستعمال المسلمين ولم يُنْكَر). _________ (1) (ص 186). (2) كتاب الجنائز في تبويبه على الحديث السالف رقم (1341). (3) يعني الآلوسي في كلامه السابق. (4) (ص). (5) هو يحيى بن حمزة بن علي المؤيّد من أئمة الزيدية (ت 745). انظر «البدر الطالع»: (2/ 331)، و «الأعلام»: (8/ 143). انظر كلامه في «البحر الزخّار»: (2/ 132) للمرتضى.

(4/194)


فالجواب عنه: أنّ هذه الأحاديث الكثيرة لم تزل تُتْلَى في مدارسهم ومجالس حُفّاظهم (1)، يرويها الآخر عن الأول، والصغير عن الكبير، والمتعلّم عن العالم، مِن لدن أيّام الصحابة إلى هذه الغاية، وأوردها المحدّثون في كتبهم المشهورة من الأمهات والمسندات والمصنفات، وأوردها المفسِّرون في تفاسيرهم، وأهلُ الفقه في كتبهم الفقهيّة، وأهلُ الأخبار والسِّيَر في كتب الأخبار والسير، فكيف يُقال: إن المسلمين لم ينكروا على مَن فعل ذلك؟ وهم يروون أدلّة النهي عنه واللعن لفاعله خَلَفًا عن سلف في كلِّ عصر. ومع هذا فلم يزل علماء الإسلام منكرين لذلك مبالغين في النهي عنه، وقد حكى ابن القيّم (2) عن شيخه تقيّ الدين، وهو الإمام المحيط بمذاهب سَلَف هذه الأمة وخَلَفها: أنه قد صرّح عامةُ الطوائف بالنهي عن بناء المساجد على القبور، ثم قال: «وصرّح أصحابُ أحمد ومالك والشافعي بتحريم ذلك وطائفة أطلقت الكراهةَ، لكن ينبغي أن يحمل على كراهة التحريم، إحسانًا للظنّ بهم، وأن لا يُظنَّ بهم أن يجوّزوا ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لَعْنُ فاعلِه، والنهي عنه» انتهى (3). _________ (1) غير محررة في الأصل، واستأنست بما في رسالة «شرح الصدور». (2) في «إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان»: (1/ 335 ط. عالم الفوائد). وانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى»: (17/ 463 و 24/ 318 وغيرها). (3) كلام الإمام يحيى والجواب عنه نقله المؤلف من رسالة «شرح الصدور» للشوكاني (ص 24، 37 - 38).

(4/195)


قال المحقق ابن القيم في «زاد المعاد» (1): «ومنها: أن الوقف لا يصحّ على غير بِرٍّ ولا قُربة كما لم يصح وقف هذا المسجد (يعني مسجد الضرار) وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بُنِي على قبرٍ كما يُنْبَش الميت إذا دفن في المسجد، نصّ على ذلك الإمام أحمد وغيره، فلا يجتمع في دين الإسلام مسجدٌ وقبرٌ، بل أيّهما طرأ على الآخر مَنع منه، وكان الحكم للسابق، فلو وُضِعا معًا لم يجز. ولا يصحّ هذا الوقف ولا يجوز، ولا تصحّ الصلاة في هذا المسجد لِنَهْي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، ولَعْنه مَن اتخذ القبر مسجدًا أو أَوْقَد عليه سِراجًا. فهذا دينُ الإسلامِ الذي بعث الله به رسولَه ونبيَّه، وغُرْبته بين الناس كما ترى». * * * * _________ (1) (3/ 572).

(4/196)


* [ص 15] تتمّة: لو قال قائل: ما الجمع بين هذه الأدلة ولاسيَّما حديث «الصحيحين» (1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» قالت: ولولا ذلك لأُبْرِز قبره غير أنه خشي أن يكون مسجدًا. وبين ما فعله الصحابة رضي الله عنهم في المسجد؟ فالجواب: أن الصحابة رضي الله عنهم لم يُدْخِلوا القبرَ في المسجد، وإنما لمَّا احتاجَ الناسُ إلى توسعة المسجد اضطرّوا إلى إدخال الحجرة، غير أنهم احتاطوا بجعل القبر بعُزْلةٍ عن المسجد. ولم يكن المسجد ولا البناء لأجل القبر (2). فإن قلتَ: فإنه قد بُني على القبر بعد ذلك. قلت: قد علمتَ أنه لا حُجّة إلا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله، ومجرّد وقوع البناء على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يُعدّ دليلًا، كما أنه لو دخل إنسانٌ الكعبة أو أقام عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال كلمةً أو عَمِل عملًا= لم يكن ذلك دليلًا على جوازه. وقد كانت الأصنام والأوثان (3) _________ (1) البخاري (1330)، ومسلم (529). (2) والذي أدخل القبر في بناء المسجد إنما هو الوليد بن عبد الملك، وقد أنكر عليه بعض السلف كسعيد بن المسيب. انظر «مجموع الفتاوى»: (27/ 418). (3) لم يظهر منها إلا: «والأ».

(4/197)


داخل الكعبة وخارجها زمانًا طويلًا و ... (1) الكفر. ولا أثَرَ لدعوى الإجماع هنا، فإنه لا إجماع، بل جمهور علماء الأمة متّبِعون لما تقضي به الأدلة، وإنما يسكتون عن النهي تصريحًا خوفًا من الملوك والعامة، فهم يكتفون بالنصّ على الحكم في مؤلّفاتهم وتدريساتهم. وقد علمتَ تلك الأدلة الصحيحة الثابتة في مؤلفاتهم طبقةً عن طبقة، حتى تتصل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف يصح ادّعاء إجماع يخالفها؟! ومع ذلك فقد علمتَ من كلام الإمام الشافعي الذي نقلناه في المسألة الأولى (2) أن الإجماع السكوتيّ ليس بحجّة، وأن الإجماع الحقيقي لا سبيل إلى عِلْمِه، وإنما غاية الأمر أن يقال: هذا قول فلان ولا نعلمُ له مخالفًا، فيؤخَذ بهذا حيث لم يكن في المسألة دليلٌ من كتابٍ أو سنة، فإذا وُجِد دليلٌ من كتاب أو سنة وجَبَ المصيرُ إليه. وقد نقل المحقّق ابنُ القيم مثل هذا عن الإمام أحمد (3). إذا علمتَ هذا فماذا يؤثِّر الإجماعُ في معارضة تلك الأدلة؟ على أنه قد مرّ عن بعض الفقهاء المتأخرين (4) أنّ محلّ كون الإجماع حجة هو في _________ (1) كلمة أو أكثر ذهب بها خرم في طرف الورقة. ولعل تقديرها: «وليس دليلًا على إقرار الكفر». (2) انظر (ص 72، 122). (3) في «إعلام الموقعين»: (2/ 53 - 54). (4) هو ابن حجر الهيتمي في «تحفة المحتاج»: (3/ 197). ونقله المؤلف في كتابه «عمارة القبور في الإسلام» (ص 113 - المبيّضة).

(4/198)


العصور الصالحة، فأما في العصور الأخيرة فلا. على أننا نعلم أن محبّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يتحقَّقُ الإيمانُ إلّا بها، ولكن حقيقة محبّته هو أن يكون أحبَّ إلينا من أنفسنا وأهلينا والناس أجمعين. وهذه المحبّة شيء في القلب، وإظهارها يجب أن يكون على وجهٍ مأذونٍ به شرعًا، فأما إظهار المحبة على وجهٍ منهيٍّ عنه شرعًا فإنه منافٍ لحقيقة المحبّة الإيمانية. وعلى كلِّ حال فثمرة محبّته صلى الله عليه وآله وسلم هو اتباع سنته، بل إن اتباعه صلى الله عليه وآله وسلم هو ثمرة [محبّة الله] ... (1) وبمحبته حققنا [أمر الله] تعالى بمحبّته وبمحبَّة رسوله كما يحبّ ويرضى. _________ (1) هنا تآكل في أسفل الورقة ذهب بنحو سطر كامل، وما بعده لحقٌ لعل هذا مكانه، وقد أثبت منه ما ظهر.

(4/199)


 البحث الثالث زيارة القبور

تصفَّحنا كتاب الله تعالى نلتمس فيه دلالة على هذا الموضوع، فلم نجد إلا قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} أي من المنافقين {مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}، ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84]. فدلّ بطريق الإيماء على أن النهي يتناول كل من وُجدت فيه العلة، وهي الكفر بالله والموت عليه. ومفهومه أن مَن لم توجد فيه العلة، وهو مَن مات على دين الإسلام غير منهيّ عن الصلاة عليه والقيام على قبره. وهذا واضح ولكن الشأن في تفسير القيام على القبر، فنقول: قال السيوطي في «فتاواه» (1) كما نقله الآلوسي في «تفسيره» (2): «المراد بالقيام على القبر: الوقوف عليه حالة الدفن وبعده ساعةً، ويحتمل أن يعمّ الزيارة أيضًا أخْذًا من الإطلاق» ا?. قال الآلوسي: وفي كون المراد بالقيام على القبر الوقوف عليه حالة الدفن وبعده ساعةً خفاء، إذ المتبادر من القيام على القبر ما هو أعمّ من ذلك. نعم، كان الوقوف بعد الدفن قَدْر نَحْر جزور مندوبًا (3)، ولعلّه لشيوع ذلك إذ _________ (1) «الحاوي للفتاوي»: (1/ 308). (2) «روح المعاني»: (10/ 155). (3) انظر الأحاديث في ذلك في «البدر المنير»: (5/ 335 - 339).

(4/200)


ذاك أَخَذَ في مفهوم القيام على القبر ما أخذ. انتهى. أقول: قوله: «نعم كان الوقوف بعد الدفن قدر ... [إلخ]». إنما رُوِيَ هذا في وصية [عمرو بن العاص] (1) ولم يسنده إلى السنة، نعم في «سنن أبي داود» (2) عن عثمان [قال: كان] النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا دفن الميت وقف عليه فقال: «استغفروا لأخيكم ثم سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل». والذي يظهر لي تناول النهي في الآية للقيام للزيارة، إذ الفعل في سياق النهي فيعمّ، فالمعنى: لا يكن منكَ قيامٌ على قبره، و «قيام» يتناول القيام للدفن والقيام للزيارة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص [السبب] (3). وعليه ففي الآية النهي عن القيام على المنافق، سواء أكان للدفن أو للزيارة، فكلاهما منهيٌّ عنه في [حق المنافقين] (4) بالمنطوق، وفي حق الكفَّار بالمفهوم، ومأذون فيه (5) في حقّ المسلمين بالمفهوم، والله أعلم. [ص 2] ثم رجعنا النظرَ إلى السنة فوجدنا حديث مسلم (6) عن بُريدة _________ (1) أخرجه مسلم (121). وما بين المعكوفين مطموس في الأصل. (2) (3221). وأخرجه الحاكم: (1/ 370)، والبيهقي: (4/ 56). قال الحاكم: صحيح الإسناد. وحسَّنه النووي والمنذري وابن حجر. انظر «الخلاصة» (2/ 1028) للنووي، و «البدر المنير»: (5/ 330 - 331). (3) مطموسة في الأصل. (4) مطموسة في الأصل. (5) طمس في بعض الكلمة ولعلها ما قدّرت. (6) (1977).

(4/201)


رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» الحديث. ولابن ماجه (1) عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تزهّد في الدنيا وتذكّر الآخرة». وحديث مسلم (2) عن بُريدة أيضًا قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلّمهم إذا خرجوا إلى المقابر: «السلام عليكم أهلَ الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية». وحديث مسلم وغيره (3) عن أبي هريرة قال: زار النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم قبر أُمه فبكى وأبكى مَن حوله، فقال: «استأذنتُ ربي في أن أستغفر لها فلم يأذَن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكِّر الموتَ». وحديث مسلم (4) أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المقبرة فقال: «السلام عليكم دارَ قومٍ مؤمنين وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون ... » الحديث. وقد مرّ. _________ (1) (1571). (2) (975). (3) مسلم (976)، وأخرجه أبو داود (3234)، والنسائي (2034)، وابن ماجه (1572)، وأحمد (9688). (4) (249).

(4/202)


وحديث مسلم (1) عن عائشة أيضًا قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدًا مؤجَّلون، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد». وهاهنا فروع: الأول: في عِلَّة النهي أولًا. هي ــ والله أعلم ــ أن أهل الجاهلية كانوا يقولون ويفعلون عند القبور أشياء ينكرها الشرع، فلئلّا يقع قريبو العهد بالجاهلية في شيءٍ من تلك الأشياء جهلًا أو جريًا على ما اعتادوه= اقتضت الحكمةُ النهيَ عن زيارة القبور مطلقًا سدًّا للذريعة. فلما ثبتت قواعد الإسلام وتبينت أحكامه، ورسخت الأقدام فيه، رَخّص في الزيارة بزوال المانع. ويومئُ إلى هذا ما رواه ابن ماجه عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «زوروا القبور ولا تقولوا هُجْرًا» (2). الثاني: في الحكمة في استحباب زيارة القبور: _________ (1) (974). (2) لم أجده في ابن ماجه، وأخرجه الطبراني في «المعجم الصغير» (881). قال الهيثمي في «المجمع»: (3/ 87): «فيه محمد بن كثير بن مروان وهو ضعيف جدًّا». أقول: وجاء هذا اللفظ أيضًا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أخرجه مالك (1394)، وأحمد (11606)، ومن حديث أنسٍ عند أحمد (13615)، وأبي يعلى (3705)، والحاكم: (1/ 376). ومن حديث بريدة عند النسائي (3033).

(4/203)


أقول: قد بينها - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «فإنها تذكّر الموتَ» وهو معنى القول الآخر: «فإنها تزهّد في الدنيا وتذكّر الآخرة». الثالث: في النساء هل يزرن القبور؟ أقول: ظاهر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فزوروها» شموله للذكور والإناث، كما هو شأن الخطابات الشرعية، وفي «صحيح مسلم» (1) عن عائشة قالت: كيف أقول يا رسول الله؟ ــ تعني في زيارة القبور ــ قال: «قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون». [ص 3] وفي «الصحيحين» (2) عن أنسٍ قال: مرّ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: «اتقي الله واصبري». قالت: إليكَ عني، فإنك لم تُصَب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأتت بابَ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فلم تجد عنده بوّابين فقالت: لم أعرفك. فقال: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى». فأنكر عليها رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم الجزعَ والحزن، ولم ينكر عليها الخروجَ إلى القبر. فهذه الأحاديث تدلّ على الجواز. لكن ورد ما ظاهره يخالف ذلك، قال في «المشكاة» (3): وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لَعَن زوّارات القبور. رواه _________ (1) (974). (2) البخاري (1283)، ومسلم (926). (3) (1/ 398).

(4/204)


أحمد والترمذي وابن ماجه (1). وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح». وقال: «قد رأى بعضُ أهل العلم أنّ هذا كان قبل أن يرخِّص النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم في زيارة القبور، فلما رخّص دخل في رخصته الرجال والنساء، وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور للنساء لقلَّة صبرهنّ وكثرة جزعهنّ». تم كلامه (2). وروى الترمذي (3) عن ابن أبي مُليكة قال: لما توفي عبد الرحمن بن أبي بكر بالحُبْشيّ (4) ــ وهو موضع ــ فحمل إلى مكة فدُفِن بها، فلما قدمت عائشةُ أتت قبرَ عبد الرحمن بن أبي بكر فقالت: وكُنّا كَنَدْماني جَذيمة حِقْبةً ... من الدهر حتى قيل: لن يتصدّعا فلما تفرّقنا كأنّي ومالكًا ... لطول اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلةً معا ثم قالت: والله لو حضَرْتُك ما دُفنتَ إلا حيث متَّ، ولو شهدتُك ما زرتك. والذي يلوح لي أن الرّخصة عمّت الذكورَ والإناث، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النساء عن كثرة الزيارة، كما يدل عليه قوله في _________ (1) أحمد (8449)، والترمذي (1056)، وابن ماجه (1576). (2) أي كلام الترمذي. (3) رقم (1055). وأخرجه عبد الرزاق (11811)، والحاكم: (3/ 476). وصححه النووي في الخلاصة: (2/ 1034) على شرط الشيخين. (4) اسم جبل بقرب مكة يبعد عنها ستة أميال. انظر «معجم البلدان»: (2/ 214).

(4/205)


الحديث السابق: «زوّارات القبور». وبهذا تتفق الأدلة، والله الموفق. ثم وقفت على «فتح الباري» (1) فحكى فيه الخلاف، وقال: «قال القرطبيّ: هذا اللعن إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصِّفةُ من المبالغة .. » إلخ. وهو الذي لاح لي ولله الحمد. الرابع: هل تُزار قبور الكفّار؟ قد مضى أول هذا البحث (2) أن قوله تعالى: {وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] يتناول الزيارة، وأن العلة ــ وهي الكفر بالله ورسوله والموت عليه ــ موجودة في غير المنافقين من الكفّار؛ فتكون زيارة قبور الكفار منهيًّا عنها. ولكن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» عام يتناول قبور الكفار. ثم إن العلة التي لأجلها نُدِبت زيارة القبور ــ وهي كونها تذكّر الموت أو تزهّد في الدنيا وتذكِّر الآخرة ــ موجودة في قبور الكفار. قالوا: وقد زار النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم قبر أُمِّه كما مرّ (3). والذي يلوح لي ترجيح دلالة الآية؛ أولًا: لما يظهر من أنها نَسَخت جواز القيام على قبور الكفار كما نَسَخت جواز الصلاة عليهم. ونزولها كان بعد عود النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تبوك، وما مرّ من أدلة الجواز متقدّم على ذلك. _________ (1) (3/ 149). وكلام القرطبي في «المفهم» (2/ 633). (2) (ص 200). (3) (ص 202).

(4/206)


[ص 4] ثانيًا: أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم علّمنا كيف نقول عند زيارة قبور المسلمين فقط، فلنقتصر على ذلك. والظاهر أنه لو كانت زيارة قبور الكفار مشروعة لعلّمنا كيف نقول عندها. ثالثًا: أن (1) زيارة قبور المسلمين فيها فائدة غير مجرّد تذكُّر الآخرة، وهي الدعاء لهم كما ورد. رابعًا: أن زيارة قبور المشركين تورث للزائر غَلَبة الرجاء، بحيث يُخشى منه الاتكال والتقصير في الطاعات؛ لأنه يستشعر ما كانوا فيه من الشرك بالله تعالى، والجحود لوحدانيته وغير ذلك، وأنه مؤمن بالله تعالى. وهذا الرجاء مع كونه محذورًا في نفسه، فهو نقيض الحكمة التي شُرِعت لها زيارة القبور، وهي تذكير الآخرة لتجديد الخوف وترقيق القلب والتزهيد في الدنيا؛ لينشأ عن ذلك الإقبال على الطاعات والتوبة من الخطايا التي سَلَفت، والاحتراز عنها فيما بقي. بخلاف زيارة قبور المؤمنين فإنها ــ إن لم يكونوا معصومين (2) ــ تذكّر بالثواب والعقاب معًا، وأن المحسنين منهم قد أفضوا إلى النعيم المقيم والمسيئين على خطر عظيم، وأنه لاحِقٌ بهم، فإن أحسن فالحُسْنى، وإن أساء فالأخرى. وبهذا النظر يحصل مقصود الزيارة الذي مرّ ذكره، فينشأ عنه ما ينشأ. وإن كانوا معصومين تذكّر ما هم فيه من النعيم المقطوع به لعصمتهم، فيشتاق إليه، ثم يذكر أنه غير معصوم، وأنه لاحِقٌ بالموتى، فإن أحسن كان _________ (1) الأصل: «أن في» وبحذف (في أو فيها) يستقيم السياق. (2) كالأنبياء والرسل.

(4/207)


مع الذين أنعم الله عليهم، يتقلّب في ذلك النعيم الدائم، وإن أساء كان حريًّا أن يكون في ضدِّه من العذاب اللازم. وبهذا النظر يحصل المقصود من الزيارة، وما ينشأ عنها من الاجتهاد في الإحسان والجدّ في جهاد النفس والشيطان. وفقنا الله تعالى لما يحبُّه ويرضاه. ومما يتعلّق بالمقام: حديث الترمذي (1) عن عَمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «خصلتان مَن كانتا فيه كتبه الله شاكرًا صابرًا: من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضّله الله عليه كتبه الله شاكرًا صابرًا. ومَن نظر في دينه إلى مَن [هو] دونه، ونظر في دنياه إلى مَن هو فوقه، فأسِفَ على ما فاته منه لم يكتبه الله شاكرًا ولا صابرًا». ولا يخفى أن زائر القبر ناظرٌ في دينه إلى حال المقبور، فينبغي أن لا يكون دونه، بأن يكون كافرًا، فالحديث دليل في النهي عن زيارة قبور الكفار، فتأمّل. والله أعلم. _________ (1) (2512). وفيه بعد قوله: «خصلتان ... صابرًا»: «ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله شاكرًا ولا صابرًا». قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب». وأخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص 50) والطبراني في «مسند الشاميين» (505)، والبغوي في «شرح السّنة»: (14/ 293). وفي إسناده المثنى بن الصبّاح ضعيف، وبه ضعَّفه المناوي في «فيض القدير»: (3/ 589) وضعَّفه الألباني في «الضعيفة» (1924). ويغني عنه ما أخرجه مسلم (2963) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم».

(4/208)


[ص 5] الخامس (1): كيفية الزيارة: أقول: قد علمتَ أن المقصود من الزيارة إنما هو تذكُّر الموت والآخرة، والدعاء للميت، ومعلوم أنه يكفي في هذا القيام قريبًا من القبر، والدعاء بالأدعية الواردة، وقد مرَّت (2). ولفظه في حديث بريدة: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنّا إن شاء الله بكم للاحقون، ونسأل الله لنا ولكم العافية». وحديث أبي هريرة: «السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون». وحديث عائشة الأول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدًا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد». وحديث عائشة الثاني: «السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين مِنَّا والمستأخرين، وإنّا إن شاء الله بكم لَلاحقون» (3). * * * * _________ (1) من الفروع في المسألة، وقد مضى الرابع (ص 207). (2) (ص 202). كلها تقدم تخريجها. (3) هذا اللفظ لم يتقدم هناك، وهو أحد ألفاظ الحديث رقم (974) في «صحيح مسلم».

(4/209)


[ص 6] فصل في زيارة قبور الأنبياء والصالحين قد علمتَ أن الأدلة الواردة في مشروعية زيارة القبور عامةٌ في قبور الأنبياء والصالحين وسائر المسلمين، وإنما النزاعُ في شيئين: الأول: في شدّ الرحال. الثاني: الغرض المقصود من الزيارة. وعند التحقيق ينحصر النزاع في هذا الأخير، كما ستراه إن شاء الله تعالى. فأما شدّ الرحال، فإنّ من العلماء مَن مَنَعه لحديث «الصحيحين» (1) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تُشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا». فقال قومٌ: هو نفيٌ، والمراد به النهي، وهو عامّ في كلّ شيءٍ. أي: لا تَشدّوا الرحال إلى شيءٍ من الأشياء إلّا إلى ثلاثة مساجد. ثم ما وَرَد فيه دليلٌ خاصّ في إباحةِ أو نَدْبِ أو وجوبِ شدِّ الرحال إليه غير ما ذُكِر فهو مخصَّصٌ من هذا العموم. وذلك كطلب الرزق، والتفكّر في آيات الآفاق، وزيارة ذوي الأرحام، وطلب العلم، والجهاد، وغير ذلك. فيبقى زيارة القبور داخلًا تحت ذلك العموم. _________ (1) البخاري (1864، 1995)، ومسلم (827).

(4/210)


وقال آخرون: بل المراد: لا تشدّوا الرحال إلى بقعة من بقاع الأرض تلتمسون فضلَها عند الله تعالى غير الثلاثة المساجد. قالوا: ولا نحتاج لتخصيص طلب الرزق وغيره مما سبق، ويكون النهي بحالِهِ متناولًا لزيارة القبور. وقال غيرهم: بل الحديث واردٌ في شأن المساجد، أي: لا تشدّوا الرحال إلى مسجد من المساجد تلتمسون فضله غير المساجد الثلاثة، فيكون الحديث خاصًّا بالمساجد. وأنت خبيرٌ أنَّ ظاهر اللفظ يعيِّن القول الأول؛ إذ التقييد ببقاع الأرض أو بالمساجد خارج عن مدلول اللفظ. وعلى كلِّ حال فالأدلة ثابتةٌ والإجماعُ منعقدٌ على إباحة شدّ الرحال إلى كلِّ مقصدٍ دينيّ أو دنيويّ يحتاج الوصول إليه إلى ذلك. والظاهر أن المسلم إذا أراد زيارة القبور للغرض المتفق عليه، وهو تذكُّر الآخرة، ولم يكن بالقُرب منه قبور= لم يَحْرُم عليه أن يشدّ رحله لزيارة أقرب القبور إليه، بل لا أظنُّ أحدًا يتردّد في .... (1) أنه مأمور بزيارة القبور لتذكّر الآخرة، والأمر بزيارة القبور [ص 7] مطلق، والنهي عن شدّ الرحال إلى غير الثلاثة المساجد عام، فهل يقال: إن إطلاق الأمر بزيارة القبور يخصّصُ عمومَ النهي عن شدّ الرحال؟ أو يقال: إن عموم النهي عن شدّ الرحال يقيّد إطلاق الأمر بزيارة القبور؟ أو يقال: إن كان بِقُرْبه قبر تعيّن عليه العمل بالحديثين، بأن يزور القبر القريب منه ولا يشدّ رحلَه إلى غيره. وإن لم يكن _________ (1) تآكلٌ في طرف الورقة ذهبَ بكلمتين أو ثلاثًا.

(4/211)


بالقرب منه قبر ترجّح تخصيص عموم النهي عن شدّ الرحال بإطلاق الأمر بزيارة القبور، فيرخّص له بشدّ رحله لزيارة أقرب القبور إليه لتذكُّر الآخرة؛ لأن هذا الغرض غرضٌ مهمٌّ شرعًا، وليس في شدّ الرحل إليه إخلال بغرض شرعيّ؛ لأن الغرض الذي لأجله النهي عن شدّ الرحال لغير الثلاثة المساجد إنما هو ــ والله أعلم ــ خشيةَ أن يضيّع المسلمون مصالحهم الدينية والدنيوية في الرحيل إلى ما لا فائدة لهم فيه، وفي مسألتنا قد تحققت الفائدة. وهذا الثالث ــ والله أعلم ــ هو الحقُّ إن شاء الله تعالى. وعلى هذا فمن جعل لزيارة قبور الأنبياء والصالحين فائدةً دينية زائدة عن قبور غيرهم من المسلمين، أي زائدةً عن مجرّد تذكّر الموت وما بعده خصّصها بنحو ما خصصنا به مَن كان بعيدًا من القبور، في أنه يجوز له شدّ رحله لزيارة أقرب القبور إلى محلّه. ومن هنا قلنا: إنه عند التحقيق ينحصر النزاع في المقصود من الزيارة، وعليه فأقول: قال المانعون: إن غرض الشارع من الأمر بزيارة القبور هو ما بيّنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله في حديث مسلم (1): «فإنها تُذَكِّر الموتَ». وفي حديث ابن ماجه (2): «فإنها تزهّد في الدنيا وتذكّر الآخرة». فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فإنها تذكر الموت ــ فإنها تزهّد في الدنيا وتذكّر الآخرة» نصٌّ منه على مشروعية زيارة القبور، وحينئذٍ (3) فلا شكَّ أنه يكفي في تحصيل هذا المقصد أيّ قبرٍ كان من قبور المسلمين. _________ (1) (976) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) (1571) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (3) اختصرها المؤلف إلى (ح) كما فعل في مواضع أخرى.

(4/212)


قال المجيزون: هذا مسلّم، ولكن ليس في هذا ما يدلّ على أنه لا غرض للشارع غير ما ذُكِر، كيف وقد تقدّم من الأحاديث ما يدلُّ على أنه من المقاصد السلامُ عليهم، والدعاء لهم، والدعاء للنفس؟ [ص 8] كما مرَّ ذلك في نَقْل الأدعية الواردة عنه صلى الله عليه وآله وسلم في زيارة القبور، فيرجع إليها (1)، وهي تدلّ أن من المقاصد السلام عليهم، والدعاء لهم وللنفس وللمؤمنين. ولفظ حديث عائشة: «السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون» (2). فإذا تقرَّر ذلك، فلا شك أنه لا يكفي في تحصيل هذه المقاصد زيارة أيّ قبرٍ كان، لأن من المقاصد: السلام على الموتى، وقد يريد الإنسان أن يخصّ بالسلام ميّتًا معينًا من الأنبياء أو الصالحين. ومن المقاصد: الدعاء لصاحب القبر، والإنسان قد يريد أن يخصّ أيضًا. ومن المقاصد: الدعاء للنفس وللمؤمنين، ولا شك أن الدعاء في بعض المواطن أَرْجى. ومن ذلك: مواضع قبور الأنبياء والصالحين، فإنَّ تجلِّي الرحمةِ عندها أكثر من غيرها. ومن المقاصد الشرعية ــ وإن لم تدلّ عليها تلك الأحاديث ــ: تذكُّر سيرة الأخيار؛ لأن في ذلك الحضّ للنفس عليها. ولا شكَّ أن الإنسان عند زيارته قبور الأنبياء والصالحين يتذكَّر سِيَرهم وما كانوا عليه من الأعمال الصالحة واجتناب الشبهات؛ فيحمله ذلك على الاقتداء بهم. وأيضًا: أنه عند زيارة قبور أهل الخير، يستشعر ما هم فيه من رضوان الله تعالى والجنة، _________ (1) (ص 209). (2) تقدم (ص 209).

(4/213)


فتشتاقُ نفسُه إلى اللحاق بهم، ويعلم أنّ ذلك متوقِّف على العمل بِعَمَلهم؛ فيحضُّه ذلك على عمل الخير. فهذه كلُّها مقاصد شرعيّة، تختلف باختلاف القبور، وبذلك يُخصّص حديث النهي عن شدّ الرِّحال على تسليم عمومه في كلِّ شيء. فأما على اقتصار عمومه على البقاع أو المساجد فلا حاجة إلى التخصيص. أما الثاني فواضح، وأما الأول: فلأننا نقول: المراد البقاع لذاتها لا لشيء آخر كائنٍ فيها، كعالم كائن في مصر، وجهادٍ في الثغر، ونحو ذلك. إذ ليس القصد ذات مصر ولا الثغر، وإنما القصد العالم والجهاد. ومثل هذا يقال في قبور الأنبياء والصالحين، فليس القصد القبر، أي الحفرة التي هي من الأرض، بل القصد الذات المدفونة فيها. [ص 9] قال المانعون: لا نسلِّم أن للشارع حِكْمةً في الأمر بزيارة القبور غير ما نصَّ عليها الحديثُ، كما مر. فأما السلام عليهم، والدعاء لهم، والدعاء للنفس وللمؤمنين فهي من المقاصد العامة التي تُقال عند غير القبور فجيء بها عند زيارة القبور عَرَضًا. وإن سلَّمنا أنها من المقاصد فليست لذاتها وإنما هي حاصلة تبعًا، يدلك على ذلك أن السلام عليهم معناه الدعاء لهم بالسلامة، وذلك (1) والدعاءُ لهم وللنفس وللمؤمنين يمكن أن يحصِّلها الإنسان وهو على فراشه، فكيف يقال: إنها من الأغراض التي شُرِعت لها زيارة القبور؟ ! وقولكم: «وقد يريد الإنسان أن يخصّ بالسلام إنسانًا معيّنًا». _________ (1) كذا في الأصل. ويشير بذلك إلى السلام عليهم.

(4/214)


فالجواب: أن السلام هو عبارة عن الدعاء له بالسلامة، فادعُ له وأنتَ في بيتك أو مسجدك أو دكانك أو حيث كنت. وسيأتي في الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا عليَّ حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني» (1). وبهذا يُعْلَم الجواب عن قولكم: «ومن المقاصد الدعاء لصاحب القبر ... » إلخ. وأما قولكم: «ومن المقاصد الدعاء للنفس وللمؤمنين ... » إلخ. فقد مرَّ أن هذا ليس من مقاصد زيارة القبور، وإنما يحصل عندها عَرَضًا، فاتخاذه مقصدًا شرعيًّا بدعة. ولم يكن الصحابةُ والتابعون ومَن بعدهم يزورون القبور لأجل الدعاء عندها. ولو كانوا يرون أن في الدعاء عندها مزيد فائدةٍ وكونه أَرْجى للقبول ونحو ذلك لكانوا أسرع إليه. ولو سلّمنا أن الدعاء عندها أرجى لتبيّن بفعل السلف اختصاص العمل بذلك إذا كانت الزيارة لمقصدها، فيُسْتحسن الدعاءُ حينئذٍ. وأما أن يُقصد القبرُ لأجل الدعاء فلا. وسيأتي في التوسُّل (2) حديث البخاري (3) في توسّل عمر رضي الله عنه _________ (1) أخرجه أحمد (8804)، وأبو داود (2042)، والطبراني في «الكبير» (19/ 486) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث حسَّنه شيخ الإسلام في «الاقتضاء»: (2/ 170) وصححه النووي في «الخلاصة»: (1/ 440)، وله شواهد عن عدد من الصحابة. (2) (ص 271). (3) (1010).

(4/215)


والصحابة بالعباس رضي الله عنه وقول عمر: «اللهم إنّا كنّا إذا أجْدَبْنا توسّلنا إليك بنبيك صلى الله عليه وآله وسلم فتسقينا، وإنَّنا نتوسّل إليك بعمِّ نبيك». وهذا دليلٌ ظاهر أنهم لم يكونوا يرون الدعاء عند القبور، وإلّا لما تركوا قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذهبوا يستسقون في غير محلِّه. وسيأتي في بحث عِلْم الغيب الحديث الذي أخرجه صاحب «المختارة» بسنده إلى عليّ بن الحسين أنه رأى رجلًا يجيء إلى فُرجةٍ كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيدخل فيها ويدعو، فنهاه وقال: أحدّثكم حديثًا سمعته من أبي عن جدِّي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا، فإن تسليمكم ليبلغني أين كنتم» (1). [ص 10] [وثبت] (2) عن ابن عمر (3) أنه كان يقول عند إتيانه قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبيه: السلام عليك [يا رسول الله]، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أَبَتِ. ونحن لا ننكر الدعاءَ عند القبور كما ورد في الأحاديث الصحاح. وإنما ننكر أن تُقْصَد القبور لأجل الدعاء. ونقول: لا تُقصَد القبور إلا لتذكُّر _________ (1) وأخرجه إسماعيل القاضي في «فضل الصلاة على النبي» (20)، وابن أبي شيبة (7624)، والبزار (509)، وأبو يعلى (469). والحديث صححه الضياء المقدسي في «المختارة» (428)، وحسَّنه السخاوي في «المقاصد الحسنة» (ص 263). (2) طمس بمقدار كلمة أو كلمتين، ولعلها ما قدرته. وهكذا ما قدرته بين معكوفات في المواضع الأخرى. (3) أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (6724) وابن أبي شيبة (11915). وإسناده صحيح.

(4/216)


[الموت] والآخرة. فإذا وصل الإنسانُ سلَّم على أهلها ودعا لهم ولنفسه وللمؤمنين كما ورد. أما قولكم: «إن من المقاصد الشرعية تذكُّر سيرة الأخيار». فهذا يحصل تمامَ الحصول بقراءة القرآن، فإنه [خُلُق] (1) إمام الأخيار صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد في «الصحيح» عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها (2)، أو قراءة شيء من كتب السنن الصحيحة. وتذكُّر سيرتِه صلى الله عليه وآله وسلم بقراءة القرآن أو مطالعة السنن يغني عن تذكّر سِيَر غيره ممن ليس بمعصوم، ولاسيَّما مع ما مُزِجت به سِيَر غيره من الصالحين من الكذب الذي يخالف كثيرًا من أحكام الشرع. قال المجيزون: وفي زيارة قبر نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم فائدة أخرى، وهي أن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]، فعلَّق المغفرةَ على ثلاثة أمور: المجيء إليه صلى الله عليه وآله وسلم، والاستغفار، واستغفاره صلى الله عليه وآله وسلم. وعليه فإنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يستغفر لجميع أمته، ولكن استغفاره يحتاج إلى الأمرين الأخيرين، فإذا جاء أحدُنا قبرَه واستغفر الله تعالى تمَّت الأمور الثلاثة، فحصلت الرحمة وقبول التوبة. هكذا رأيتُ معنى هذا في _________ (1) مطموسة في الأصل فلعلها ما قدرته. (2) لعله أراد ما أخرجه مسلم (746) من قول عائشة رضي الله عنها لما سألها سعد بن هشام عن خُلُق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: ألستَ تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: فإن خُلُق نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن.

(4/217)


«المواهب» (1). قال المانعون: الآيةُ واردةٌ في المنافقين. وما عليكم إلا أن تقرأوا ما قبلها وما بعدها، فتعلموا ذلك. يريد الله تعالى: لو أنهم جاؤوك فاعترفوا بما سلف منهم، وخضعوا لحكم الله تعالى على يدك، واستغفروا الله تعالى واستغفرتَ لهم لوجدوا الله توابًا رحيمًا. ومع قَطْع النظر عن هذا، فإن الاستغفارَين اللذين في الآية مشروطان بتقدُّم المجيء، والاستغفارُ الذي ذكرتم أنّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قد استغفره لأمته متقدِّم على المجيء، ولا يمكنكم أن تقولوا: إنه يمكن أن يستغفر لنا صلى الله عليه وآله وسلم الآن [ص 11] لما ثبت في «صحيح البخاري» (2) عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: وارأساه. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ذاك لو كان وأنا حيّ، فأستغفر لكِ وأدعو لكِ» الحديث. ودعاؤه صلى الله عليه وآله وسلم لأمته ليس مقيَّدًا بزيارتهم قبرَه اتفاقًا. وأما شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم فهي حقٌّ وأيُّ حقّ، ولكنها لا تتوقّف على زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم، بل تتوقف على تحقيق الإيمان قبل كلِّ شيء. ففي «صحيح البخاري» (3) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَسْعَد الناسِ بشفاعتي يوم القيامة مَن قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه أو نفسه». _________ (1) «المواهب اللّدنيّة»: (3/ 589) للقسطلاني. (2) (5666). (3) (99).

(4/218)


على أنَّنا لا ننكر زيارةَ قبره صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّها من أفضل القُرُبات، وإنما ننكر ما نهى عنه صلى الله عليه وآله وسلم مِن اتخاذ قبره عيدًا، ونُنكر شدَّ الرحال لغير قبره من قبور الأنبياء والصالحين (1). وفَصْل الخطاب بيننا وبينكم: أنكم تعتقدون أن الدعاءَ عند القبور أقرب إلى القبول. وتعتقدون أنّ الصالحين أحياء، بحيث يرون زائرهم ويسمعونه ويغيثونه بتصرّفهم في الكون، أو يدعون الله تعالى. وكلا الأمرين غير صحيح؛ أما الأول، فلأنَّه لو كان الأمر كما تقولون لأمَرَنا به الله تعالى ورسولُه. فإنّ الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]. وقد عَلِمْتم أنه لم يصح عنه صلى الله عليه وآله وسلم الأمر بزيارة قبور أحدٍ من الصالحين لأجل الدعاء، وعَلِمْتم أن أصحابه رضي الله عنهم لم يكونوا يفعلون ذلك؛ بل صحَّ عنهم ما يخالفه، وهكذا أتباعُهم حتى ذهبت قرون الخيرية، وظَهَر الجهلُ والبدعُ، وصار كلُّ أحدٍ يشرع لنفسه ما يستحسنه هواه. والدين ليس ما تستحسنه النفسُ، وإنما هو ما صحَّ عن الله تعالى وعن رسوله عليه الصلاة والسلام. _________ (1) لأن شدّ الرحل إنما هو للمسجد فهو في الحقيقة سفر إلى المساجد، بخلاف غيره من الأنبياء فإن شدّ الرحل إلى قبورهم سفر للقبر ذاته. ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن الذين استحبوا السفر إلى زيارة قبر نبينا مرادهم السفر إلى مسجده، وهذا مشروع بالإجماع، ولو قصد المسافر إليه فهو إنما يصل إلى المسجد، والمسجد منتهى سفره، لا يصل إلى القبر، بخلاف غيره فإنه يصل إلى القبر». «مجموع الفتاوى»: (27/ 254، 266).

(4/219)


وهَبُوا أنكم جرّبتم أنّ الدعاء عند القبور أقرب إجابة، فإنّ هذا ليس دليلًا شرعيًّا كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى (1)، وليس الدليلُ إلّا ما ثبت من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، إجماعًا واتفاقًا بين جميع العلماء بلا خلافٍ في ذلك أصلًا. وأمّا اعتقادُكم أنّ الصالحين أحياء، بحيث يرون زائرهم ويسمعونه ويقدرون على إعانته إلى آخره، فسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق هذا في مبحث مستقلّ (2) بما لا تبقى معه شبهة، وحسبكم لو عَقَلْتم حديث عائشة السابق في قولها: وارأساه (3). [ص 12] هذا، في زيارة من ثبت صلاحُه بالظواهر الشرعية، ولم يكن قبره على الكيفية المنهيّ عنها، ولم يُتَّخذ قبره عيدًا، ولم يكن عند قبره شيءٌ من المنكرات، ولم يقصد من الزيارة التبرُّك بالقبر والتمسُّح ونحوه، والدعاء والاستغاثة ونحو ذلك. فأما في غير ذلك فلا يمكن لعاقل أن ينكر حرمته مطلقًا. وممن لم يثبت صلاحُه مَن ثبت عنه أنه كان يدّعي علم الغيب أو نحوه لتكذيبه للقرآن. وكون القبر على كيفية منهيٍّ عنها يُعْلَم مما سبق. واتخاذُ القبر عيدًا منه ما اعتِيدَ في هذه الأزمان من الاجتماع عند قبر _________ (1) (ص 415 - 420). (2) لم يأت بحث مستقل في هذا، وانظر إجابة جُمليّة عنه في (ص 422). (3) تقدم (ص 218).

(4/220)


بعض المزعوم صلاحُهم في ميعاد معلوم في كل سنة يجتمع فيها الناس، ويتجمّلون لها، ويوسِّعون فيها النفقات وغير ذلك. والحاصل أنهم يتخذون تلك الأيام عيدًا، ويكون الغرض الأكبر من الاجتماع في المحلّ الذي فيه القبر هو اختلاط الرجال بالنساء، والتوصل إلى ما يجرُّه ذلك من المنكرات، وشرح هذا يطول. وأما قولنا: «ولم يقصد من الزيارة التبرك ... » إلخ، فهذا هو المقصد العام لعامة الناس في هذه الأعصار، وهو الشرك الصريح والعياذ بالله، كما سيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في مبحث التبرك وغيره (1). نسأل الله تعالى أن يثبت قلوبنا على دينه، ويهدينا لما اختُلف فيه من الحق بإذنه، وهو وليّ الفضل والإحسان، وهو المستعان وعليه التكلان. _________ (1) (ص 222).

(4/221)

 البحث الرابع التبرُّك

الإنسان مفطور على الطلب لما ينفعه والهرب مما يضرّه، وكلُّ عاقل يعلم أن النفعَ والضرَّ بيد الله تعالى، ومَن اعتقد في غيره قدرةً على النفع والضر، فإن اعتقد لذلك الغير قدرةً مستقلّة عن قدرة الله تعالى، أي غير مستمدّة منها، فذلك هو الكفر، سواء اعتقد أن تلك القدرة تستقلّ بالإيجاد أو تحتاج إلى إعانة قدرة الله تعالى. وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين. وإن علم أن النفعَ والضرَّ بيد الله تعالى، ولكن اعتقد في شيء من الأشياء أن الله تعالى أودعَ فيه نفعًا أو ضرًّا وجعله سببًا، ففيه تفصيل؛ وذلك أنَّ المقصد إما أن يكون دينيًّا أو دنيويًّا، وأعني بالديني: رضوان الله تعالى والدار الآخرة، وبالدنيوي: ما عداه، والديني لا يكون سببه إلا شرعيًّا. وأما الدنيوي فهو على قسمين: الأول: ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فهذا لا يكون سببه إلا شرعيًّا. والثاني: ما تتناوله قُدرة الخلق، فإن أُريد تحصيله بغير سببه العادي، كان كالذي قبله، لا يقدر عليه إلا الله تعالى، ولا يكون سببه إلا شرعيًّا. وإن أُريد تحصيله بسببه العادي، فهذا مما تتناوله قدرة البشر التي أعطاهم الله تعالى إيَّاها، فيكون سببه عاديًّا. إذا تقرّر ذلك فالمقاصد الدينية كلُّها وكذا الدنيوية التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى، وكذا ما تتناوله قدرة الخلق بالأسباب العادية إذا أُريد تحصيله بغيرها= كلُّ ذلك لا يكون سببه إلا شرعيًّا. وكون الفعل شرعيًّا يفتقر إلى

(4/222)


ثبوته في الشرع بدليلٍ معتبر. فمَن اعتقد في شيءٍ ما أنه سبب لشيءٍ مما ذُكر؛ فإن كان ثابتًا في الشرع بدليل معتبر، فاعتقاده حق والعمل به هدى، وإن لم يكن ثابتًا في الشرع بدليل معتبر، فاعتقاده والعمل به ضلال مبين. وأما المقاصد الدنيوية التي تتناولها قُدرة الخلق بالأسباب العادية إذا أُريد تحصيلها بها، فلا يفتقر اعتقاد كون شيء من الأشياء سببًا لها إلى ثبوته شرعًا، وإنما العمل بها يفتقر إلى الإذن الشرعي. [ص 2] إذا تقرّر ذلك فالتبرّك هو التسبُّبُ لحصول البركة، ولا يكون المقصود به إلا أحد الأمور الثلاثة التي بينّا أن سببها لا يكون إلا شرعيًّا، فهو إذن مفتقِرٌ إلى ثبوته من الشرع بدليل معتبر، فإن ثبت فاعتقاده حق والعمل به هُدى، وإن لم يثبت فاعتقاده والعمل به ضلال مبين. فأقول: قد ثبت التبرك بأشياء منها: * ماء زمزم، قال في «الهَدْي» (1): «ماء زمزم، سيّد المياه وأشرفها، وأجلّها قدرًا، وأحبها إلى النفوس، وأغلاها ثمنًا وأنفسها عند الناس، وهو هَزْمَة جبريل وسُقيا إسماعيل. وثبت في «الصحيح» (2) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لأبي ذر وقد أقام بين الكعبة وأستارها أربعين ما بين يوم وليلة، وليس له طعام غيره، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إنها طعام طُعْم». وزاد غير مسلم بإسناده: «وشفاء سُقم» (3). _________ (1) يعني «زاد المعاد في هدي خير العباد» لابن قيم الجوزية: (4/ 392 - 393). (2) «صحيح مسلم» (2473). وفيه: « ... ثلاثين ما بين يوم وليلة». وما في الأصل تبع للهدي. (3) أخرجه الطيالسي (459)، والبزار (9/ 361)، والبيهقي: (5/ 147) وغيرهم. وعزاه البيهقي لمسلم، وليست في المطبوع منه، ويؤيده كلام المصنف والحافظ في «المطالب العالية» (1404).

(4/223)


وفي «سنن ابن ماجه» (1) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «ماء زمزم لما شُرِب له». وقد ضعّف هذا الحديثَ طائفةٌ بعبد الله بن المؤمّل راويه عن محمد بن المنكَدِر. وقد رُوِّينا عن عبد الله بن المبارك أنه لما حجّ أتى زمزم فقال: اللهم إن ابن أبي الموالِ حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه عن نبيك صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «ماء زمزم لما شُرِب له»، فإني أشربه لظمأ يوم القيامة (2). وابن أبي الموالِ ثقة، فالحديث إذًا حسن، وقد صححه بعضُهم، وجعله بعضهم موضوعًا، وكلا القولين فيه مجازفة. وقد جرّبتُ أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أمورًا عجيبة، واستشفيتُ به من عدة أمراض، فبرأتُ بإذن الله» اهـ (3). _________ (1) (3062). وأخرجه أحمد (14849)، والبيهقي: (5/ 148). وانظر كلام المصنف على الحديث في حواشيه على «الفوائد المجموعة» (ص 113 - 114). (2) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (3833)، وابن عساكر في «تاريخه»: (32/ 436) من رواية سويد بن سعيد عن ابن المبارك، وقد أخطأ في الرواية عنه والمحفوظ ابن المبارك عن ابن المؤمل. انظر «فتح الباري»: (3/ 493) و «التلخيص الحبير»: (2/ 287). (3) انتهى كلام ابن القيم في «الهدي».

(4/224)


* ومنها: القرآن الكريم والأدعية المأثورة، بقراءة المتبرِّك وقراءة متبرَّكٍ به. وهذا مما لا خلاف فيه، وكذا بكتابة شيء من ذلك. قال في «الهدي» (1): «قال المرُّوذي (2): بلغ أبا عبد الله أني حُمِمتُ، فكتب لي من الحمَّى ورقة (3) فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله وبالله، محمد (4) رسول الله، {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 69 - 70]، اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل اشفِ صاحبَ هذا الكتاب بحولك وقوّتك وجبروتك إله الحق، آمين. قال المرُّوذي: وقُرِئ على أبي عبد الله وأنا أسمع: أبو المنذر عمرو بن مجمع حدثنا يونس بن حبان قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي أن أعلّق التعويذ؟ فقال: إن كان من كتاب الله، أو كلامٍ عن نبيِّ الله فعلّقه واستشفِ به ما استطعتَ. قلت: أكتب هذه من حمى الرِّبْع: باسم الله وبالله، ومحمد رسول الله ... إلى آخره؟ قال: إي نعم. وذكر أحمد عن عائشة رضي الله عنها وغيرها: أنهم سهّلوا في ذلك. قال حرب: ولم يشدّد فيه أحمد بن حنبل. قال أحمد: وكان ابن مسعود يكرهه كراهةً شديدة جدًّا. وقال أحمد وقد سُئل عن التمائم تُعلَّق بعد نزول البلاء؟ قال: أرجو أن _________ (1) (4/ 356 - 358). (2) وقع في الأصل تبعًا للهدي: «المروزي» والصواب ما أثبت، وقد نقله ابن القيم أيضًا في «بدائع الفوائد»: (4/ 175 - بتحقيقي). (3) كذا. وفي «الهدي»: «رقعة». (4) في «البدائع»: «ومحمد».

(4/225)


لا يكون به بأس. قال الخلال: وحدثنا عبد الله بن أحمد قال: رأيت أبي يكتب التعويذ للذي يفزع، وللحمى بعد وقوع البلاء. [ص 3] ثم ذكر كتابًا آخر، ثم قال: قال الخلال: أنبأنا أبو بكر المرُّوذي أن أبا عبد الله جاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله تكتب لامرأة قد عَسُر عليها ولدها منذ يومين؟ فقال: قل له يجيء بجامٍ واسعٍ وزعفران، ورأيته يكتب لغير واحد ... ثم قال بعد كلام: ورخّص جماعة من السلف في كتابة بعض القرآن وشُربه، وجعل ذلك من الشفاء الذي جعل الله فيه. ثم قال بعد كلام: كتاب للرعاف: كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يكتب على جبهته: {وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [هود: 44]. وسمعته يقول: كتبتُها لغير واحد فبرأ، فقال: ولا يجوز كتابتها بدم الراعف كما يفعله الجهّال؛ فإن الدم نجس، فلا يجوز أن يُكتب به كلام الله تعالى» (1). قال في «المشكاة» (2): وعن عَمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا فزع أحدكم في النوم فليقل: أعوذ بكلمات الله التامّة من غضبه وعقابه وشرّ عباده، ومن هَمَزات الشياطين وأن يحضرون، فإنها لن تضره». وكان عبد الله بن عمرو يعلّمها مَن بلغ مِن ولدِه، ومَن لم يبلغ منهم كتبها في صكّ ثم علّقها في عنقه. رواه أبو داود _________ (1) انتهى النقل من «زاد المعاد». (2) (2/ 57).

(4/226)


والترمذي (1)، وهذا لفظه. وفي «سنن أبي داود» (2) عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود أن عبد الله رأى في عنقي خيطًا فقال: ما هذا؟ فقلت: خيطٌ رُقي لي فيه. قالت: فأخذه فقطعه، ثم قال: أنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إن الرُّقَى والتمائم والتِّوَلَة شرك». فقلت: لِمَ تقول هكذا، والله لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي [يرقيني] فإذا رقاها سكنت. فقال عبد الله: إنما ذلك عمل الشيطان كان ينخسها بيده، فإذا رقى كفَّ عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «أذْهِبَ الباسَ ربَّ الناس واشفِ أنتَ الشافي لا شفاءَ إلا شفاؤك شفاءً لا يغادرُ سَقَمًا». وفيها (3) أيضًا: عن عبد الله بن عَمرو قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «ما أبالي ما أتيتُ إن أنا شربتُ ترياقًا، أو تعلّقتُ تميمةً أو قلت الشعرَ مِن قِبَل نفسي». وفيها (4) أيضًا: عن عيسى بن حمزة قال: دخلت على عبد الله بن عُكَيم _________ (1) أبو داود (3893)، والترمذي (3528) ــ وقال: حسن غريب ــ وأحمد (6696)، وانظر الكلام عليه في حاشية المسند: (11/ 296 - 297). (2) (3883). وأخرجه أحمد (3615)، وابن ماجه (3530)، وابن حبان (6086)، والحاكم (4/ 240) وصحّحاه. وانظر حاشية المسند: (6/ 110 - 112). (3) أي «المشكاة»: (2/ 531). وهو في «سنن أبي داود» (3869)، وأحمد (7081). وإسناده ضعيف، انظر: حاشية «المسند»: (11/ 652). ووقع في الأصل تبعًا للمشكاة: «عبد الله بن عمر». وهو تصحيف. (4) (2/ 531). وهو في «جامع الترمذي» (2072)، وأحمد (18781). قال البوصيريّ في «إتحاف الخيرة»: (4/ 468): «مرسل ضعيف».

(4/227)


وبه حمرة فقلت: ألا تعلّق تميمة؟ فقال: نعوذ بالله من ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن تعلَّق شيئًا وُكِل إليه» (1). [ص 4] وفي «المستدرك» (2) عن عقبة بن عامر مرفوعًا: «مَن عَلَّق تميمةً فلا أتمَّ الله له، ومن عَلّق وَدَعةً فلا وَدَع الله له». قال الحاكم: صحيح، وأقرَّه الذهبي. وفيه (3) عن عِمران بن حُصين قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي عضدي حَلْقة صَفَر فقال: «ما هذه؟ » قلت: مِن الواهنة. فقال: «فانبذها». قال الحاكم: صحيح، وأقرّه الذهبي. وفيه (4) عن قيس بن السكن الأسدي، قال: دخل ابن مسعود على امرأةٍ (5)، فرأى عليها حرزًا من الحُمرة، فقطعه قطعًا عنيفًا، ثم قال: إن آل عبد الله عن الشرك أغنياء، وقال: كان مما حفظنا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن التمائم والرُّقى والتِّوَلَة (6) من الشرك. قال: صحيح، وأقرّه الذهبي. وفيه (7) عن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن زينب امرأة عبد الله أنها _________ (1) كتب المصنف بعدها «اقلب» يعني تُكتب الصفحة التي تليها كاملة ثم يعود الكلام إلى سياقه. (2) (4/ 216). (3) (4/ 216). (4) (4/ 217). (5) الأصل: «امرأته». والمثبت من «المستدرك». (6) كذا، وفي «المستدرك» في هذا الموضع والمواضع الأخرى: «والتولية». (7) (4/ 417 - 418).

(4/228)


أصابها حُمْرة في وجهها، فدخلت عليها عجوز فَرَقَتْها في خيط فعلَّقته عليها، فدخل ابن مسعود رضي الله عنه فرآه عليها فقطعه، ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حدثنا أن الرقى والتمائم والتِّوَلَة شِرك. والتِّوَلة ما يهيّج الرجال. قال: على شرط الشيخين، وأقرّه الذهبي. وفيه (1) عن أم ناجية قالت: دخلتُ على امرأة ابن مسعود زينب أعودها من حمرة ظهرت بوجهها وهي معلقة بحرز؛ فإني لجالسة دخل عبد الله، فلما نظر إلى الحرز أتى جدعًا معارضًا في البيت، فوضع رداءه عليه، ثم حسر (2) عن ذراعيه فأتاها، فأخذ الحرز فجذبها حتى كاد وجهها أن يقع على الأرض، فانقطع ثم خرج من البيت فقال: لقد أصبح آل عبد الله أغنياء عن الشرك، ثم خرج فرمى بها خلف الجدار، ثم قال: يا زينب أعندي تعلِّقين! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهي عن الرقى والتمائم والتِّوَلَة. فقالت أم ناجية: يا أبا عبد الرحمن، أما الرقى والتمائم فقد عرفنا، فما التِّوَلَة؟ قال: التِّوَلَة ما يهيِّج النساء. وفيه (3) عن الحسَن قال: سألت أنسًا عن النُّشْرة؟ فقال: ذكروا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها من عمل الشيطان. قال الحاكم: صحيح، وأقرَّه الذهبي. _________ (1) (4/ 216 - 217). وفي إسناده السري بن إسماعيل الكوفي متروك. انظر «الضعفاء» للعقيلي: (2/ 176)، و «الكامل»: (3/ 456 - 457) لابن عدي. (2) في المطبوع: «حصر». وكأن المؤلف أصلحه. (3) (4/ 418).

(4/229)


وفيه (1) عن بُكير بن عبد الله بن الأشج أن أمّه حدّثته: أنها أرسلت إلى عائشة رضي الله عنها بأخيه مخرمة، وكانت تداوي من قرحة تكون بالصبيان، فلما داوته عائشة وفرغت منه، رأت في رجليه خلخالين جديدين (كذا) فقالت عائشة: أظننتم أن هذين الخلخالين يدفعان عنه شيئًا كتبه الله عليه، لو رأيتهما ما تداوى عندي وما مس عندي، لعمري لخلخالان من فضة أطهر من هذين. قال الحاكم: صحيح، وأقرّه الذهبي. وفيه (2) عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ليست التميمة ما تعلّق به بعد البلاء، إنما التميمة ما تعلَّق به قبل البلاء. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. ثم قال: ولعل متوهمًا يتوهّم أنها من الموقوفات على عائشة رضي الله عنها، وليس كذلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد ذكر التمائم في أخبار كثيرة، فإذا فسّرت عائشةُ رضي الله عنها التميمة فإنه حديثٌ مسند. اهـ. أقول: أما الرقى فقد ثبت في «الصحيح» تخصيص النهي بما كان فيه شرك، منه ما في «صحيح مسلم» (3) عن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنّا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: «اعرضوا _________ (1) (4/ 217 - 218). (2) (4/ 217). (3) (2200).

(4/230)


عليَّ رُقاكم، لا بأس بالرُّقَى ما لم يكن فيه شرك». وأقول: الرُّقى قسمان: الأول: ما كان فيه تبرّك، فهو بحسب المتبرَّك به، فإن كان من القرآن أو الدعاء وذِكْر الله تعالى فحَسَن. وإن كان مما فيه شرك فهو ممنوع مطلقًا. ويُلحق به ما كان بالعجمية فيُمنَع. الثاني: ما لم يكن فيه تبرُّك، وإنما هو ألفاظ لا يظهر لتركيبها معنى، أو يظهر لها معنى ليس فيه شيء من التبرّك، وإنما هو على سبيل الخواصّ، جرت العادةُ بتأثيره بدون معرفة السبب، وهذا داخل في الإذن، ولكن لا يَغِبْ عنك أن الرقية لا تكون رقيةً إلا بعد وقوع البلاء، فأما قبله فليست رقية بل يقال لها: تعويذة ونحو ذلك، وهو على أصل المنع إلا ما كان بالقرآن والدعاء، والله أعلم. [ص 5] وأما التمائم والتِّوَلة فاختلف في تفسيرها أولًا، وفي حمل النهي ثانيًا. والذي يظهر أنه إذا كان الكتاب بعد وقوع البلاء، وكان المكتوب من القرآن أو الدعاء، فلا بأس به، كما ثبت عن الإمام أحمد وغيره، ولأنّ المحذور إنما هو مظنة الشرك والإعراض عن التوكّل، وهو منتفٍ هاهنا قطعًا؛ لأن الالتجاء إلى القرآن والدعاء هي حقيقة التوكّل، فكيف تكون منافية له؟ ! ومن المنهيّ عنه: الخرزات والعظام والأوتار ونحوها من الأشياء التي يُزْعَم أن لحملها خاصيةً في دفع العين أو شرّ الجنّ أو غير ذلك. وقد ثبت

(4/231)


في «الصحيحين» (1) عن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسولًا: «لا تُبقينّ في رقبة بعير قلادةً من وَتَر أو قلادةً إلا قُطِعَت». ومثل هذا ــ فيما يظهر ــ التختُّم بأحجارٍ مخصوصة، بزعم أنّ لها خاصة في القبول والمحبّة والهيبة وسعة الرزق، وغير ذلك من دفع العين والجن ونحوه. فأما ما كان من قبيل الأدوية كالخرزات التي جرت العادةُ أن مَن تختّم بها لم تضرّه لدغ الحية والعقرب، فالظاهر ــ والله أعلم ــ أنه لا بأس بها؛ لأنها نوع من الدواء. وهذا محتاج إلى بسطٍ لم يتيسّر لي الآن، والله أعلم. نعم تلخيص الكلام فيه أن يقال: [ص 6] التمائم قسمان: ما يكون طلب الانتفاع به من حيث التبرُّكُ، وما يكون من حيث الخاصية. فما كان من حيث التبرّك، فإن كان فيه شرك فهو ممنوع مطلقًا كالرقية بالشعر، وإلّا بأنْ كان من القرآن أو الدعاء فمذهب الإمام أحمد وغيره جوازه لدفع ما قد وقع من البلاء. وأما ما يكون طلب الانتفاع به من حيث الخاصية، فإن كانت الخاصية المزعومة أثرًا غير ما يُطْلَب حصولُه في الأدوية، كالخرزات التي يُزعَم أنّ مَن حملها حصل له القبول والهيبة وسعة الرزق وغير ذلك، فهذا ممنوع، وهو من الشرك، لعموم الأحاديث السابقة وغيرها. وإن كان مما يُطلب حصوله بالأدوية، فإن كان طريق تأثير الضرر _________ (1) البخاري (3005)، ومسلم (2115).

(4/232)


معنويًّا كالعين ومسّ الجن، فهو ممنوع قبل وقوع البلاء قطعًا؛ للأحاديث الواردة في ذلك، وأما بعد وقوع البلاء فقياس جواز الرُّقية بما لم يكن فيه تبرّك جوازُه. وإن كان طريق تأثير الضرر حسّيًّا كلدغ الحية والعقرب ونزف الدم وغيره، فعموم الأمر بالتداوي يتناوله، وليس في حمله قبل حصول الضرر مضرّة؛ لأنه لا يطلب تأثيره من حينئذٍ، وإنما يُدّخَر إلى عند وقوع البلاء كما يُدَّخَر الدواء. ومن هذا الخرزات التي إذا تختَّم بها الملدوغ سكن عنه الألم، أو من ينزف الدم انقطع. والله أعلم. * ومنها التبرّك بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ففي قصة الحديبية: «فوالله ما تنخَّمَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم نُخامةً إلا وقعت في كفّ رجل منهم، فدَلَكَ بها جلدَه ووجهَه، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وَضوئه» (1). وفي «الصحيحين» (2) عن جابر قال: أتى رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم عبدَ الله بن أُبيّ بعدما أُدْخِل حفرته، فأمر به فأُخْرِج، فوضعه على ركبتيه، فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصَه ... الحديث. وفيهما (3) عن أبي جُحيفة قال: رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وآله _________ (1) أخرجه البخاري (2731، 2732) عن المسور بن مخرمة ومروان. (2) البخاري (1350)، ومسلم (2773). (3) البخاري (3566)، ومسلم (503/ 250). واللفظ لمسلم.

(4/233)


وسلم بمكة وهو بالأبطح في قبّة حمراء من أدَم ... ورأيتُ الناسَ يبتدِرون ذلك الوضوء، فمن أصاب منه شيئًا تمسّح به، ومن لم يُصب منه أخذ من بَلَلِ يد صاحبه. الحديث. وفي «الصحيحين» (1) عن السائب بن يزيد قال: ذهبَتْ بي خالتي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله إن ابن أختي وَجِع، فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، ثم توضّأ، فشربتُ من وضوئه. الحديث. وفي «الصحيحين» (2) عن أم سُليم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأتيها فيقيل عندها، فتبسط نِطْعًا، فيقيل عليه، وكان كثير العَرَق، فكانت تجمع عرقَه فتجعله في الطيب، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يا أم سليم ما هذا؟ » قالت: عرقك نجعله في طيبنا، وهو من أطيب الطيب. وفي رواية: قالت: يا رسول الله، نرجو بركته لطيبنا. قال: «أصبتِ». وفي «صحيح مسلم» (3) عن أسماء بنت أبي بكر أنها أخرجت جبّة طيالسة كَسْروانيَّة لها لبنة ديباج، وفرجيها مكفوفين بالديباج، وقالت: هذه جبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت عند عائشة، فلما قُبِضت قبضتها، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى نستشفي بها. وفي «الصحيحين» (4) عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى _________ (1) البخاري (190)، ومسلم (2345). (2) البخاري (6281)، ومسلم (2332). (3) (2069). (4) البخاري (171)، ومسلم (1305).

(4/234)


منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونَحَر نُسكَه، ثم دعا بالحلّاق، وناول الحالق شِقَّه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إيّاه، ثم ناوله الشقَّ الأيسر فقال: احلق، فحلقه، فاعطاه أبا طلحة فقال: «اقسمه بين الناس». وفي رواياته اختلاف بيَّنها في «الهدي» (1). [ص 7] وفي «صحيح البخاري» (2) عن عثمان بن عبد الله بن مَوْهَب قال: أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء، وكان إذا أصاب الإنسانَ عينٌ أو شيء، بعث إليها مِخْضَبَه، فأخرجَتْ من شعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت تُمسكه في جُلْجُل من فضة، فخَضْخَضَتْه له فشرب منه. قال: فاطلعتُ في الجُلْجُل فرأيت شعراتٍ حُمرًا. وفي «صحيح مسلم» (3) عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى الغداة جاء خدمُ المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يُؤتَى بإناء إلا غمس يده فيه، فربما جاؤوه في الغداة الباردة، فيغمس يده فيها. وفي «الصحيحين» (4) عن أم عطية قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن نغسل ابنته فقال: «اغسلنها ثلاثًا، [أو خمسًا]، أو أكثر من ذلك إن رأيتنَّ ذلك بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورًا أو شيئًا من كافور، فإذا فرغتنَّ فآذِنّني» فلما فرغنا آذنّاه، فألقى علينا حَقْوه فقال: _________ (1) «زاد المعاد»: (2/ 247). (2) (5896). واللفظ نقله المؤلف من «جامع الأصول»: «4/ 740). (3) (2324). (4) البخاري (1254)، ومسلم (939). وما بين المعكوفين منهما.

(4/235)


«أشِعِرْنها إيّاه». الحقو: الإزار. والإشعار: جعله شعارًا. والشعار: الثوب الذي يلي الجسد. وفي البخاري (1) عن سهل رضي الله عنه: أن امرأة جاءت النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم ببردة منسوجة فيها حاشيتُها ــ أتدرون ما البردة؟ قالوا: الشملة، قال: نعم ــ قالت: نسجتها بيدي فجئت لأكسوكها، فأخذها النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم محتاجًا إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره، فحسَّنها فلان، فقال: اكسُنيها ما أحسنها! قال القوم: ما أحسنتَ، لبسها النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم محتاجًا إليها، وسألتَه وعلمتَ أنه لا يردّ، قال: إني والله ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كَفَني. قال سهل: فكانت كفنه. واختلف السلف في التبرُّك بوضع اليد على منبره صلى الله عليه وآله وسلم حين كان موجودًا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (2): «فكرهه مالك وغيره لأنه بدعة. وذُكِر أن مالكًا لما رأى عطاءً فَعَل ذلك لم يأخذ عنه العلم، ورخَّص فيه أحمد وغيره؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما فَعَله». أقول: لعلّ مَن أجازه قاسه على التبرُّك بثيابه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ثبت ذلك كما مرَّ. [ص 8] وقد ورد في تقبيل اليدين والرجلين حديث في «سنن أبي داود» والترمذي والنسائي (3) عن صفوان بن عَسَّال قال: قال يهودي لصاحبه: _________ (1) (1277). (2) في «مجموع الفتاوى»: (27/ 79 - 80). (3) الترمذي (2733)، والنسائي (4078). ولم أجده في «سنن أبي داود». وأخرجه أحمد (18092)، والحاكم: (1/ 9) وصححه. وفيه ضعف من جهة إسناده. انظر حاشية المسند (30/ 13 - 14).

(4/236)


اذهب بنا إلى هذا النبي، فقال صاحبه: لا تقل: نبيّ، إنه لو سمعك لكان له أربع أعين، فأتيا رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألاه عن [تسع] آيات بيِّنات، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حَرَّم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تولّوا للفرار يومَ الزحف، وعليكم خاصةً اليهود: أن لا تعتدوا في السبت». فقال: فقبّلا يديه ورجليه. وقالا: نشهد أنك نبي. قال: «فما يمنعكم أن تتبعوني؟ » قالا: إن داود عليه السلام دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إن تبعناك أن يقتلنا اليهود. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وفي «سنن أبي داود» (1) عن زارع وكان في وفد عبد القيس، قال: لما قدمنا المدينة فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبِّل يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورِجله. وقد روى الإمام أحمد في «مسنده» (2) عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في نفرٍ من المهاجرين والأنصار، فجاء بعيرٌ فسجد له، فقال أصحابه: يا رسول الله، تسجد لك البهائم والشجر، فنحن أحقُّ أن _________ (1) (5225). (2) (24471). وأخرجه ابن ماجه (1852). وفي سنده علي بن زيد بن جدعان ليّن الحديث، وله شواهد سيذكر المؤلف بعضها.

(4/237)


نسجد لك، فقال: «اعبدوا ربكم، وأكرموا أخاكم، ولو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرتُ المرأةَ أن تسجد لزوجها» الحديث. وفي «المشكاة» (1) عن قيس بن سعد قال: أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبانٍ لهم، فقلت: لَرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحقّ أن يُسجَد له، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: إني أتيت (2) الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فأنت أحقّ بأن يُسْجَد لك، فقال لي: «أرأيتَ لو مررتَ بقبري أكنت تسجد له؟ » فقلت: لا، فقال: «لا تفعلوا، لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحدٍ لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهنّ لما جعل الله لهم عليهن مِن حقّ» رواه أبو داود (3). ورواه أحمد عن معاذ بن جبل (4). قال شيخ الإسلام ابن تيمية (5): ولما سجد له معاذ نهاه وقال: «إنه لا يصلح السجود إلا لله، ولو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها» ا? . * * * * _________ (1) (2/ 241). (2) الأصل: «رأيت» سبق قلم. (3) (2140). (4) (19403). (5) في «مجموع الفتاوى»: (27/ 81).

(4/238)


[مسألة التبرك بالصالحين] [ص 9] وهل للمسلمين أن يتبرّكوا بصلحائهم كما يتبرّك الصحابة رضي الله عنهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستندين إلى تلك الأحاديث ونحوها أو لا؟ يقول المجيزون: نعم؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم بُعِث مشرّعًا، والأصل في فعله التشريع، أي أن حكم غيره من الأمة مثل حكمه، والخصوصية خلاف الأصل، فلا يُصار إليها إلا بدليل. قالوا: ويُقاس على التبرّك بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم التبرُّك بذريته من حيثُ كونُهم ذريةً له. وقد فهم الصحابة رضي الله عنهم هذا حيث استسقوا بالعبّاس رضي الله عنه لفضله ولقرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال عمر رضي الله عنه: «وإنّا نتوسَّل إليك بعمّ نبيّك» (1). واستسقوا زمان معاوية بيزيد بن الأسود الجرشي لفضله. وقال معاوية: «اللهم إنا نستشفع إليك بخيارنا» (2). ويقول المانعون: أما ما لم يرد فيه دليل صحيح فالأمر فيه واضح، وأما ما ورد فيه دليل صحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فَعَلَه أو أقرَّ عليه في باب التبرّك به، فهو خاصّ به، وليس هذا من باب التشريع؛ لأن التشريع إنما هو في الأحكام التي المدار فيها التكليف، لأنه لما كان النبي صلى الله _________ (1) أخرجه البخاري (1010، 3710). (2) أخرجه الفسوي في «المعرفة والتاريخ»: (2/ 220) وأبو زرعة الدمشقي في «تاريخه»: (1/ 602).

(4/239)


عليه وآله وسلم مكلَّفًا مثلنا كان كل فعل يفعله شريعةً لنا إلا أن يدلّ دليلٌ على الخصوصية. وأما التبرُّك فإن المدار فيه على الفضل والبركة، وهو صلى الله عليه وآله وسلم أعظم الناس بركةً، وليس أحدٌ من أمته مثله في ذلك، فكيف يقال: إن التبرك به يدلّ على التبرُّك بغيره؟ هذا واضح البطلان، إلا أن يدّعي المجيزون أنَّ أحدًا من أُمته أولى منه صلى الله عليه وآله وسلم أو مساوٍ له، فليفعلوا ما شاؤوا، ولن يلتزموا ذلك حتى يخلعوا ربقة الإسلام من أعناقهم! [ص 10] ومما يؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقطوع بكونه حبيب الله وخليله في الدنيا والآخرة، قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر. وأما غيره من هذه الأمة فإنما يمكن القطع في حق الصحابة المبشّرين بالجنة، ومع ذلك فلم يكن يُتبَّرك بهم رضي الله عنهم، ولا يثبت في التبرُّك بهم أثرٌ صحيح، لا بمَن كان منهم من القرابة ولا غيرهم. فدلَّ ذلك على أنَّ التبرُّك كان خصوصية له صلى الله عليه وآله وسلم لا يَشْرَكه فيها غيره حتى مَن عُلِمَت نجاتُه. وأما غيرهم فلا سبيل إلى القطع بكمال إيمان أحد ولا وفاته عليه ولا نجاته يوم القيامة. وفي ذلك أحاديث كثيرة منها: حديث «الصحيحين» (1) عن أبي بكرة قال: أثنى رجلٌ على رجلٍ عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «ويلك قطعتَ عنقَ أخيك ــ ثلاثًا ــ، من كان منكم مادحًا لا محالة فليقل: أحسب فلانًا والله حسيبه، إن كان يرى أنه كذلك، ولا يزكِّي على الله أحدًا». _________ (1) البخاري (2662)، ومسلم (3000).

(4/240)


ومنها: حديث «الصحيحين» (1) أيضًا عن ابن مسعود عنه صلى الله عليه وآله وسلم وفيه: «وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها». وفي «الصحيحين» (2) أيضًا عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار». ولما قالت الأنصاريةُ في عثمان بن مظعون: هنيئًا لك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. لم يُقرّها صلى الله عليه وآله وسلم. والحديث في «صحيح البخاري» (3). ولما قال سعد بن أبي وقّاص: يا رسول الله مالَكَ عن فلان، فوالله إني لأراه مؤمنًا. قال: «أو مسلمًا». والحديث في «صحيح البخاري» (4) أيضًا. والمراد هنا كراهية القطع بالإيمان والنجاة، فأما الثناء على شخص بأنه كان مواظبًا على عمل الخير، مُجانبًا أعمال الشرّ فحَسَنٌ، وهو المراد في حديث «الصحيحين» (5) عن أنس قال: مرّوا بجنازة، فأثنوا عليها خيرًا، فقال _________ (1) البخاري (3332)، ومسلم (2643). (2) البخاري (2898)، ومسلم (112). (3) (1243). (4) (27)، وهو في «صحيح مسلم» (150) أيضًا. (5) البخاري (1367)، ومسلم (949).

(4/241)


النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وجَبَت». ثم مرّوا بأخرى فأثنوا عليها شرًّا، فقال: «وجَبَت». فقال عمر: ما وجبت؟ قال: «هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا فوجبت له النار. أنتم شهداء الله في الأرض». والسرُّ في ذلك ــ والله أعلم ــ أن ثناءهم على الميت يدلّ على أنهم لم يروا منه إلا الخير، فإذا شهدوا له بذلك غفر الله له ما لم يطلعوا عليه؛ لأنه سبحانه وتعالى أكرم من أن يفضحه في الآخرة وقد ستره في الدنيا، كما ورد معنى ذلك في «الصحيح»، [ص 11] ففي «الصحيحين» (1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كلُّ أمتي معافى إلا المجاهرون، وإن من المجانة (2) أن يعمل الرجل بالليل عملًا ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عملتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربُّه، ويصبح يكشف ستر الله عنه». وفي «الصحيحين» (3) عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول: أتعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى [إذا] قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: سَتَرْتُها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته. وأما الكفّار والمنافقون فينادي بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء _________ (1) البخاري (6069)، ومسلم (2990). (2) كذا في الأصل: «المجاهرون ... المجانة». والمؤلف ينقل لفظ الحديث من «المشكاة»: (3/ 47). وهو لفظ بعض روايات «صحيح البخاري» كما في «فتح الباري»: (10/ 486 - 487). (3) البخاري (2441)، ومسلم (2768).

(4/242)


الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين». ثم رأيت الحديث في «مسند الإمام أحمد» (1) مفسَّرًا على ما ظهر لي، وهو في مسند أبي هريرة ولفظه: «ما من عبدٍ مسلم يموت يشهد له ثلاثة أبيات من جيرانه الأدْنَين بخير إلا قال الله عز وجل: قد قبلت شهادة عبادي على ما عَلِموا وغفرتُ له ما أعلم». وذلك أن شهادة الجيران الأدْنَين ظاهرة في كونه لم يُجاهر بسوءٍ، وإذا لم يجاهر بسوء كان ذلك ظاهرًا في عدم استرساله في المعاصي وتوغّله فيها، إذ لو فعل ذلك لهان عليه المجاهرة ولو بإطلاع جيرانه على بعض عمله، إذ العادة تقضي بذلك، مع جَرَيان عادة الله تعالى بفضيحة المسترسل في المعاصي والمتوغِّل فيها. فإذ لم يقع شيءٌ من ذلك، أي من مجاهرته أو من اطلاع أعدائه أو فضيحة الله تعالى له= كان ذلك ظاهرًا في عدم استرساله. وتلخيصه: أن ستر الله تعالى لعبده في الدنيا دليل إرادته المغفرة في الآخرة، كما اقتضته الأحاديث الصحيحة، وشهادةُ الجيران ظاهرةٌ في الدّلالة على الستر، وبهذا يتمّ المراد. نعم يُشترط أن يكون الشهود من الجيران ممن يفرِّق بين الحق والباطل، والطاعة مِن المعصية. ويشترط أيضًا أن تكون شهادتهم مطابقةً لما علموه. _________ (1) (8989، 9295). يرويه شيخ من أهل البصرة عن أبي هريرة، فسنده ضعيف من أجل هذا الشيخ المبهم.

(4/243)


فإن قيل: فما تقولون في مَن كان ظاهر عمله الخير ثم خُتِم له ــ والعياذ بالله ــ بسوء الخاتمة، فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48، 116]. فالجواب: أن هذا قلّما يتفق مع ما ذُكِر لظاهر هذه الأحاديث وغيرها؛ لأن الخاتمة هي فَذْلَكة (1) العمل الطويل، ففي «الصحيح» (2): «اعملوا فكُلٌّ ميسّر لما خُلِق له». فإن أمكن وقوعه كان مخصّصًا لما ذكر. ثم اعلم أن هذه الشهادة ليست في التزكية المنهيّ عنها في الأحاديث المارّة؛ لأن تلك في التزكية المقطوع بها بما في نفس الأمر، وهذه شهادة بما شاهدوه من محافظته على الخير، واجتنابه الشر. [ص 12] ولا يقال: إن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وجَبَت» قد يكون عن وحي، فيكون خاصًّا، بل ذلك عام (3) في كل مسلم، بدليل رواية أبي هريرة التي رواها الإمام أحمد، كما مرّ قريبًا. وفي البخاري (4) عن أبي الأسود قال: قدمت المدينة وقد وقع بها مرض، فجلستُ إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فمرَّت بهم جنازة، فأُثنيَ على صاحبها خيرًا، فقال عمر رضي الله عنه: وجبت، ثم مُرّ بأخرى فأثني على صاحبها خيرًا، فقال عمر رضي الله عنه: وجبت، ثم مُرَّ بالثالثة _________ (1) أي: خلاصته ونتيجته. (2) البخاري (4946)، ومسلم (2647). (3) لم يظهر إلا «عا» بسبب تآكل الورقة. (4) (1368).

(4/244)


فأُثنيَ على صاحبها شرًّا، فقال: وجبت. فقال أبو الأسود: فقلت: وما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة». فقلنا: وثلاثة؟ قال: «وثلاثة». فقلنا: واثنان. قال: «واثنان». ثم لم نسأله عن الواحد. والمقصود أن غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأمة لا يمكن القطع بتحقق إيمانه في حياته، ولا بموته عليه، ولا بنجاته يوم القيامة، حتى لو ظهرت على يده الخوارق؛ لأنها لا تفيد إلا الظنّ، لإمكان أن يكون من باب الاستعانة بالجن أو السِّحر أو الاستدراج أو غير ذلك. كيف وقد يقع ما يشبه ذلك للكفار، كما كان للإشراقيين من الفلاسفة، والكَهَنة من العرب، والسَّحَرة من بقية الأمم، وكما هو معروف الآن بالتنويم المغناطيسي وغير ذلك. وحسبك ما يقع للمسيح الدجّال. وليس المقصود رمي من ظهرت على أيديهم الخوارق بالسِّحْر والكذب وغيره، وإنما المقصود بيان أن ظهور ذلك على أيديهم لا يفيد القطع، بخلاف معجزات الرسل فإنها أمرٌ فوقَ ذلك. ولا يَغُررك قولهم: (ما كان معجزةً لنبي كان كرامة لولي) (1)، فإن هذا الإطلاق يتناول ادّعاء أن الولي قد يأتي بكتاب معجز كالقرآن، ولاسيما مع ادّعائهم نزول الوحي عليهم، كما سيأتي نقله إن شاء الله تعالى، فتنبّه. نعم، إذا كان الإنسان كامل الاستقامة على الحدود الشرعية، كان الغالب تحقُّقَ إيمانه ونجاته، ووجب العمل بالظاهر فيما صح الأمر به _________ (1) انظر «فتح الباري»: (7/ 383)، و «الإنصاف في حقيقة الأولياء» (ص 37) للصنعاني.

(4/245)


والإذن فيه، كمحبته وإكرامه القَدْر المشروع في حقِّ فضلاء المؤمنين. فأما أن يُقام مُقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التبرّك بآثاره فكلّا. على أن النوع الشائع في التعظيم، وهو تقبيل الأيدي والرُّكَب والأرجل لم يثبت فعله في حقِّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلّا في حديث اليهوديين على ما مرّ (1). وأما مقابلته صلى الله عليه وآله وسلم لجميع الصحابة فإنما كان بمجرَّد المصافحة. وأما في هذا الزمان فقد صار الشريف أو الشيخ لا يُرْجى أن يقابله أحدٌ أبدًا إلّا ويعظّمه بشيء من ذلك، فيقيم نفسَه فوق مُقام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم! [ص 13] فصل قال المانعون: وأما قياس ذرّيته صلى الله عليه وآله وسلم على آثاره فغير صحيح، أما عند مَن لا يجيز القياس فظاهر. وأما مَن يجيزه فإنه يشترط الأولوية أو المساواة، ولا مساواة هنا فضلًا عن الأولويّة. بيانه: أن آثاره صلى الله عليه وآله وسلم كالشَّعر والثياب وغيرها مما ورد مقطوعٌ بكونها كانت مُلابِسَةً له، ومقطوع بأنها ليس لها صفات تناقض البَرَكة، ولا كذلك الذرية في الأمرين، فتأمّل. وأما استسقاء الصحابة بالعبّاس فليس من هذا؛ لأنهم إنما توسلوا بدعائه، وهذا جائز اتفاقًا، حتى أن الله سبحانه أمرنا بالدعاء لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. _________ (1) (ص 237).

(4/246)


وفي «صحيح مسلم» (1) عن عبد الله بن عَمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علَيَّ فإنه مَن صلّى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمَن سأل لي الوسيلة حلَّت عليه الشفاعة». وروى الترمذي وأبو داود (2) عن عمر بن الخطاب قال: استأذنتُ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم في العمرة، فأذِن لي وقال: «أشْرِكنا يا أُخَي في دعائك ولا تنسنا». ولا يُنْكَر أن لأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم من القُرب منه ما يوجب لهم المزيَّة على غيرهم في الجملة، فمن كان منتسبًا إليه صلى الله عليه وآله وسلم، ظاهرَ الاستقامة فمحبته واجبة، وسؤال الدعاء منه حَسَن، وأما التبرُّك به قياسًا فلا، لما مرّ. وكذا كلّ مَن كان ظاهر الصلاح والاستقامة والفضل فمحبّته واجبة، وسؤال الدعاء منه حَسَن، ومِن هذا استسقاء معاويةَ بيزيد بن الأسود الجرشي رحمه الله تعالى (3). _________ (1) (384). (2) الترمذي (3562)، وأبو داود (1498)، وأخرجه أيضًا ابن ماجه (2894)، وأحمد (195) وغيرهم. قال الترمذي: حسن صحيح. لكن في سنده عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف. (3) سبق تخريجه (ص 239).

(4/247)


قال المجيزون: إن الاستدلال بما ورد في التبرُّك بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم على التبرُّك بآثار غيره لا يستدعي الأولويّة ولا المماثلة ولا اليقين، بل المدار على وجود مطلق البركة، وهي بحسب الظن المعتبر شرعًا. ونحن وإن لم نقطع في حق الصالحين بالتحقق بالإيمان وغيره، فالمدار في الشرع على غَلَبة الظن، وهي حاصلة. وما أجبتم به عن التبرُّك بذريّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يردّه؛ لأن المدار على وجود الأثر الطاهر، وهو موجود فيهم، ولا يحتاج إلى القطع بل يكفي غَلَبة الظنّ، إذ المدار عليها في الشرعيّات. وما زالت الأمة تتبرّك بصالحيها وذريّة نبيها بتقبيل الأيدي والرُّكَب والأرجل، والتبرّك بالتفل والثياب وغير ذلك. فهو إجماع، وله أسوة بغيره من الإجماعات التي خرقتموها! [ص 14] قال المانعون: أما قولكم: إنه لا يشترط الأولويّة والمساواة، فممنوع كما مرّ. وأما قولكم: إن المدار في الشرعيات على غَلَبة الظن، فجوابه: أن هذا مسلّم لو ثبت التبرّك بالصالح مطلقًا، وهو لم يثبت، وإنما ذكرنا ذلك إيضاحًا للفرق الظاهر. وقولكم في الذرية: إن المدار على غَلَبة الظن أيضًا= جوابُ مَن لم يفهم، ونحن لم ننكر نَسَبَهم، وإنما مرادنا أن الظنّي لا يُقاس بالقطعي. وما ذكرتموه من عمل الناس، فجوابه: أنه لا يتمّ لكم دعوى الإجماع، بل لنا أن نقول: إن السلف كانوا مجمعين على ترك ذلك، يعني الصحابة

(4/248)


والتابعين، وإنّما حَدَث بعد ذلك، وإجماعُ الصحابة والتابعين هو الإجماع الصحيح. ولعلكم تذكرون ما نقلناه عن الفقهاء في البحث الأول من هذه المسألة (1). فبالله عليكم تعالوا بنا نصطلح، ودَعُوا هواكم ومحبّتكم لاستعباد الناس {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64]. واذكروا الحديث الصحيح، قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يؤمن أحدُكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به» (2)، وثِقوا بالله تعالى، فوالله ليعوضنَّكم خيرًا مما سيفوتكم من التقبيل وغيره (3). [ص 15] يقول عُبيد الله المفتقر إليه: نعم الاحتياط في هذا أن تُتبّع سيرة السلف، فيُنظر ما كان يعمله خيار الصحابة رضي الله عنهم والتابعون في حق أقارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين لم يُبشّروا بالجنة، فيُعْمَل مع مَن وُجد الآن من الأشراف المُسْتَيقَنين (4). ويُنظر ما كان يعمله التابعون في حق غير المبشرين من الصحابة رضي الله عنهم، فيعمله العامةُ الآن مع العلماء والصلحاء. وإنما قيّدنا بعدم التبشير لما تقدم من بطلان قياس الظني على القطعي، والله أعلم. _________ (1) (ص 68 - 75). (2) تقدم تخريجه (ص 90). (3) كتب المؤلف بعده ثم ضرب عليه: «أقول: هذا ما أمكنني اختطافه في هذا البحث على حين عجل، وأدعه مفتوحًا» وترك نصف الصفحة بياضًا. وما كتبه المؤلف بعد ذلك هو تتميم للكلام المفتوح في المسألة. (4) غير محررة في الأصل.

(4/249)


على أننا نعلم أن العلماء وأهل الفضل والصلاح الصادقين لا يحبون تعظيم الناس لهم، بل تقشعرّ منه جلودهم، وتشمئزّ منه نفوسهم، ويكرهونه أشدّ الكراهة. وكذلك يكرهون تبرّك الناس بهم؛ لأنهم دائمًا يرون نفوسهم من أهل النقص والخطأ، ويكرهون كل ما قد يكون سببًا للعُجْب وذريعةً إليه، حتى إن بعضهم يتلبّس بما ظاهره المعصية هربًا من ذلك. وأما مَن كان دون هذه المنزلة، فإنه وإن أحبَّ تعظيم الناس له وتبرّكهم به فإنما يدعوه إلى ذلك حبُّ الدنيا، فيرى أن تعظيم الناس له وتبرّكهم به يستدعي تقرّبهم إليه بالأموال، فالمقصود حينئذٍ (1) هو المنفعة المادية فقط. وهذا مع كونه مقصدًا سيّئًا في نفسه بالاتفاق، فالمانعون لا يمنعون الناسَ من مواساة أهل العلم والفضل والصلاح والقرابة الشريفة بالأموال، بل يرون ذلك من أفضل القُرُبات، ويحضّون الناسَ على الاستكثار منه. نعم، قد يكون بعض الأشراف والعلماء يحبُّ تعظيم الناس له وتبرّكهم به مع عدم احتياجه إلى المنفعة المادية، وإنما يحبّ ذلك لمجرّد الفخر والعُجْب والمباهاة والتعاظم، ولا شكّ أن ذلك مذموم شرعًا. وأشدّ الناس محاربةً لهذا الداء ونحوه من أدواء القلوب: مشايخ الصوفية، حتى إن بعضهم يقول: من رأى نفسه خيرًا من بعرة كانت البعرةُ خيرًا منه! والذي ينبغي في مثل هذا: أن يُعامل صاحبه بنقيض قصده كما ورد: _________ (1) كتبها المؤلف (ح) اختصارًا، وكذا ستأتي بعد أسطر.

(4/250)


الكبر على المتكبِّر تواضع (1). [ص 16] على أن التعظيم إنما هو وسيلة لإظهار المحبَّة التي هي المقصود بالذات وحينئذٍ فيمكن إظهار المحبة بغيره كقوله: «إني أحبك في الله» كما ورد الأمر بذلك في الحديث (2)، وكإهداء الهدايا، وغير ذلك. وكذلك التبرّك إنما هو وسيلة لحصول البركة التي هي المقصود بالذات، وحيئنذٍ (3) فيمكن استحصال البركة بطلب الدعاء، كما ثبت الأمر به، وحينئذٍ فلا يخفى أن الاحتياط يقضي بالتوقّف عن التعظيم والتبرّك المختلَف فيهما، وأن يُقتصَر في تحصيل المقصود بكلّ منهما على الوسيلة الثابت الإذن بها شرعًا بالاتفاق، عملًا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (4)، وقوله عليه أفضل الصلاة والسلام: «الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من الناس» الحديث (5). _________ (1) ذكرها ابن الملقن في «طبقات الأولياء» (ص 112) لبشر الحافي. ووردت بلفظ «التكبر على المتكبر صدقة». انظر «فيض القدير»: (4/ 336)، و «الأسرار المرفوعة»: (142). (2) أخرجه أبو داود (5124)، والترمذي (2392)، والنسائي في «الكبرى» (9963)، وأحمد (17303) من حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه. وأخرجه أحمد (21619) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وفي سنده ابن لهيعة. (3) اختصرها المؤلف إلى (ح). (4) أخرجه الترمذي (2518)، والنسائي (5711)، وأحمد (1723) وابن حبان (722) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما، قال الترمذي: حسن صحيح. (5) أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.

(4/251)


خاتمة: رأيت في بعض الكتب (1) بحثًا في فضل العلم والشرف أيهما أعظم، فذكر المؤلف اختلافًا في ذلك، ثم قال ما معناه: إن القائل بأفضلية الشرف قال: لو جُنّ الشريف لم يزل عنه الشرف، ولو جُنّ العالم زال عنه العلم، وفضل الشرف ذاتي، وفضل العلم عَرَضي. وبناءً على ذلك جزم بأفضلية الشرف. فعجبت من هذا مع قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. وما يبينها من الأحاديث الكثيرة! ثم ظهر لي أن المبحوث عنه هو فضل الشرف وفضل العلم مع قطع النظر عن التقوى، فأقول: إن كلًّا من العلم والشرف لا يكون فضلًا إلا مع التقوى، فإذا فُقِدت التقوى عاد وبالًا على صاحبه، كما يدلّ عليه قوله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ ... } الآية [الأحزاب: 30]، وقوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا ... } الآية [الأعراف: 175]. وحينئذٍ فالخلاف مفروض بين عالم وشريف مستويي الرتبة في التقوى. إذا تقرّر ذلك فالأفضل منهما هو العلم؛ لأن طلبه نوع من أنواع التقوى، بخلاف النسب، ولأنَّ العلم شرط للتقوى بخلاف النسب، ولأن العلم من الفواضل التي ينفع بها صاحبُها دينَه وإخوانه المسلمين، ولا كذلك النسب، ولأن طلب العلم من عمل الإنسان الذي يستحقّ عليه الثواب بخلاف النسب. _________ (1) لعله كتاب «ظهور الحقائق في بيان الطرائق» (ص 111) لعبد الله بن علوي العطاس. ففيه نحو ما ذكره المؤلف.

(4/252)


وعلى كل حال فالفضل إنما يتحقّق بالتقوى والاتباع، وإلّا عاد العلمُ وبالًا على صاحبه. وفقنا الله تعالى لما يحبّه ويرضاه آمين. على أن الوجهين اللذين ادعى أنهما يقتضيان أفضلية النسب يقتضيان أفضلية العلم، وذلك أنه تبين منهما أن النسب ليس من الأفعال الاختيارية التي يُحْمَد صاحبها عليها، بل هو كالطول والقصر وبياض اللون وسواده مما لا يتعلّق به الحمد ولا الجزاء. ولو تمّ استدلاله لزم منه أن حُسْن الوجه أفضل من العلم؛ لأنه ذاتي لا يزول بالجنون. وهذا القول هو الجنون! على أن فضل النسب هو أمر اعتباري [ص 17] بين الناس، وأما عند الله تعالى فليس الكرم إلا التقوى. وأما ما ورد من الأدلة الشرعية مما يقتضي فضيلةً للنسب فإنما هو باعتبار كونه منشئًا للتقوى أو ناشئًا عنها، والأول ــ أعني كونه منشئًا للتقوى ــ إنما يكون بالنظر إلى المجموع لا الجميع، وحيث كان كذلك فلا يحصل للفرد إلّا إذا كان من أهل التقوى، وذلك لوجود المقتضي الذي لأجله أُطلق الفضل على النسب فيه، وإلّا كان كالحشَفَة من التمر، بل إذا اتصف بما يضاد التقوى كان بمنزلة حشفةٍ نُقِعَت في نجاسة. والثاني ــ أعني كونه ناشئًا عن التقوى ــ شرط حصوله للفرد أن لا يوجد فيه ما يُناقض التقوى ويعارضها. ومع ذلك فمعلوم أن النسب ليس من الأمور القطعية. وقد سمعت شيخي محمد بن علي الإدريسي يحكي عن جده أحمد بن إدريس أنه كان يقول: (الزمانُ قد طال وليس على فروج النساء أقفال). وهذا البحث يحتاج إلى بسط ليس هذا موضعه.

(4/253)


[ص 18] وقد بقي من أقسام التبرك: التبرّك بالقبور والمشاهد وما بني عليها من المساجد. أقول (1): قد عَلَمتَ الأدلة الصحيحة الصريحة على حُرمة البناء على القبر وحرمة بناء المسجد عليه أو بقربه بحيث يكون منسوبًا إليه، وأن ذلك من الكبائر الملعون صاحبها، والمشتدّ غضب الله على من فعلها، وأنّ العلة في ذلك هي كراهية التشبّه بالمشركين من الأمم السالفة، وخشية أن يجر ذلك إلى الشرك كما مرّ تقريرُه بأدلته (2). فإذا كانت المشاهد والمساجد المتخذة على القبور بهذه المثابة، فالواجب على كل مسلم المبادرة إلى هدمها كما صحّ به الأمر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورواه الإمام الشافعي رحمه الله عن الأئمة بمكة (3)، ونقله عنه النووي في «شرح مسلم» (4). ومضى في بحث البناء على القبور أن ذلك هو مذهبه ومذهب جميع أئمة الإسلام، بل هو الدين الذي تعبَّدنا الله به. فارجعْ إلى ذلك (5). فمن لم يقدر على هدمه بيده فالواجب عليه تشديد الإنكار بلسانه، فإن لم يقدر فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان، وليس بعد ذلك من الإيمان مثقال _________ (1) في الأصل بعدها: «قد تقدم إثبات» والظاهر أن المؤلف نسي أن يضرب عليها بعد أن غيّر العبارة عدة مرات. (2) انظر ما سبق (ص 186 وما بعدها). (3) انظر «الأم»: (2/ 631). (4) (7/ 36 - 38). (5) (ص 195).

(4/254)


ذرة كما ورد في «صحيح مسلم» (1) [ص 19] عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما من نبي بعثه الله في أُمّة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلُف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل». وفي «صحيح مسلم» (2) أيضًا عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان». فإذا كان الاقتصار على الإنكار بالقلب أضعف الإيمان الذي ليس بعده من الإيمان حبة خردل، فما بالك بالرّضا بذلك؟ فما بالك بالمساعدة عليه؟ فما بالك بفعل ما حَرُم [من] البناء واتخاذ المساجد لأجله، وتواتر لعن فاعله، واشتداد غضب الله عليه؟ وعلماء الأمة سَلَفًا وخَلَفًا مجمعون على أنّ التبرك بالقبور بالاستلام والتمسح والتقبيل ووضع العينين ونحوه= كلّه محادّة لله ورسوله، وخروج عن سواء سبيله، فالعلماء بين مكفِّر ومفسِّق. ولا يصح قياس قبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على آثاره، لأن القبور ولاسيَّما قبور الأنبياء والصالحين مظنة افتتان الناس وضلالهم. وقد تقدّم (3) في حديث أبي داود عن قيس بن _________ (1) (50). (2) (49). (3) (ص 238).

(4/255)


سعد وأحمد عن معاذ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أرأيت لو مررت بقبري أكنت تسجد له؟ » قال: فقلت: لا. وهذا يدل على أنهم كانوا يعلمون وضوح الفرق بينه صلى الله عليه وآله وسلم حاضرًا وبين قبره، ويعلمون الخَطَر في تعظيم القبور. وقد جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم اتخاذ المساجد على القبور من عبادة الأوثان فيما روي عنه من قوله: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعْبَد. اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (1). وقد تقدم بيان عِلّته زيادةً على علة النهي عن مطلق البناء، وذلك خشية الصلاة إلى القبر، فكيف بمن صلى إلى القبر؟ فكيف بمن أقبل على القبر يشمّه ويضمّه ويستلمه ويلثمه ويضع عينيه عليه حال العاشق الوامق، إنّا لله وإنّا إليه راجعون! ولو نظرتَ حالَ الناس مع كلام الله تعالى الموجود عند كلّ أحدٍ منهم لرأيتهم عنه معرضين، وعلى عبادة القبور مُقبلين! بل كثيرًا ما ترى الإنسان تاركًا للصلاة والصيام، مرتكبًا للفواحش، جاهلًا بربّه ودينه، وهو مع ذلك مشغوف بهذه القبور [ص 20] يحنّ إليها، ويحنو عليها، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والله عزَّ وجلَّ يقول في كتابه العزيز: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]. _________ (1) بهذا اللفظ أخرجه مالك في «الموطأ» (475) من مرسل عطاء بن يسار. وأخرجه بنحوه أحمد (7358)، والحميدي (1025) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد حسن.

(4/256)


هذه حال أهل الجاهلية، وقد كانوا مع ذلك إذا وقع أحدهم في شدة أعلن التوحيد كما قصّه الله عزَّ وجلَّ في مواضع من كتابه، منها قوله عزَّ وجلَّ: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]. وأخرج الترمذي (1) عن عمران بن حُصين قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي: «يا حُصين كم تعبد اليومَ إلهًا؟ » قال أبي: سبعة، ستًّا في الأرض وواحدًا في السماء، قال: «فأيهم تعدّ لرغبتك ورهبتك؟ » قال: الذي في السماء ... الحديث. فهذا حال أهل الجاهلية الذين سمعتَ قوارع الآيات في شأنهم، وعلمتَ بعثة محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم لدعوتهم، وقيامه هو ومَن آمن معه بجهادهم. فأما عامة المسلمين اليوم فإن قبور صالحيهم أحبّ إليهم من مساجدهم، وبذل الأموال الطائلة في عمارتها وفرشها وإيقاد السُّرُج عليها والذبح عندها [تابع ص 20] أيسر عليهم من إخراج الزكاة الواجبة، والمشيُ إلى بعض تلك القبور للتمسّح بها أشرف لديهم من المشي إلى علماء الدين، ودعاؤها والاستغاثة بها أرجى عندهم من إخلاص الدعاء لله وحده لا شريك له. وكلما اشتدّ على أحدهم البلاءُ ازداد ابتهالًا إليها على العكس من حال أهل الجاهلية، فإنّا لله وإنا إليه راجعون. وقد مرّ بيان الزيارة المشروعة التي قام الدليل على استحبابها ومنع ما _________ (1) (3483). وأخرجه البزار (9/ 53)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2355). قال الترمذي: «غريب». وفي نسخة: «حسن غريب».

(4/257)


عداها، فارجع إليه (1). فإن كنتَ ممن يحبّ الله ورسوله، فالسبيل واضح، وميزان المحبةِ الاتباعُ، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31]. وإن كنت ممن وجد حلاوة الإيمان فالطريق بيِّن. وإن كنت ممن كان هواه تَبَعًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقد تبيّن لك ما جاء به، ففي «الصحيحين» (2) عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين». وفيهما (3) عنه أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ثلاث من كنَّ فيه وجد حلاوةَ الإيمان: مَنْ كان الله ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، ومن أحبّ عبدًا لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يكون في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار». وفي «صحيح مسلم» (4) عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ذاقَ طعمَ الإيمان مَن رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولًا». وقد صحَّح النووي ــ كما مرَّ (5) ــ الحديثَ المرويّ عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يؤمن أحدُكم حتى يكون _________ (1) (ص 209). (2) البخاري (15)، ومسلم (44). (3) البخاري (16)، ومسلم (43). (4) (34). (5) (ص 129).

(4/258)


هواه تبعًا لما جِئت به». وحسبك قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. وإن كانت نفسك تحدّثك أنها تحبُّ اللهَ ورسولَه فامتحنها بالرضا والتسليم لكلّ ما جاء عن الله وعن رسوله، فقد قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31]. فإن كنت زاهدًا في محبة الله تعالى وزعمتَ أنك تحبّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعلم أن محبته على قسمين: الأولى: محبة لا تنافي محبة الله تعالى [ص 21] فهذه هي شرط الإيمان، وميزانها الاتِّباع. ومحبة تنافي محبَّة الله تعالى، وهي كمحبة النصارى لعيسى، فهذه هي مناقضة للإيمان. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما يحبّ مَن أحبّ اللهَ. ويقال لصاحب هذه المحبّة: إن كنت تحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه لا يحبّك، وكيف يحبّ مَن لا يحب الله؟ وكيف يحبّ مَن غضب عليه الله؟ فاتق الله في نفسك، وانظر إلى أين أنت سائقها، على أن المحبّة لا تتحقق إلا بالاتباع على كل حال. والله أعلم.

(4/259)


 البحث الخامس التوسُّل

قال في «المختار» (1): «الوسيلة: ما يُتقرّب به إلى الغير، والجمع الوسيل والوسائل، والتوسّل والتوسيل واحد، يقال: وسَّل فلان إلى ربه وسيلةً بالتشديد، وتوسّل إليه الوسيلة إذا تقرّب إليه بعمل». ومِن هنا نعلم أنه لا دلالة في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] إلا على الأمر بابتغاء ما يتقرّب به إلى الله، وهو أمر مجمل لا يؤخذ بيانه إلا من الشرع، فمن ادّعى في شيءٍ من الأشياء أنه يتقرّب به إلى الله تعالى كُلِّف بإبراز حجّةٍ من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله. وعليه فأقول: التقرّب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل، واجتناب الحرام والمكروه مما لا يحتاج إلى بيان. وأما التقرُّب إليه بسؤاله والإقسام عليه بحق شيءٍ من الأشياء ــ وهو الذي تفهمه العامة من التوسّل ــ فهو على أقسام: أولها: سؤال الله تعالى بوجهه الكريم وأسمائه الحسنى. وهذا مستحبٌّ اتفاقًا. وثانيها: سؤاله بذات من ذوات خلقه، كالكعبة والعرش والكرسي، ولم أر التصريح بجوازه عن أحد (2). _________ (1) «مختار الصحاح» (ص 721). (2) كتب المؤلف أولًا: «وهذا ممنوع اتفاقًا» ثم أبدلها بهذه العبارة. وقد صرّح جماعة من العلماء بالمنع منه. انظر «مجموع الفتاوى»: (1/ 202، 344)، و «الاقتضاء»: (2/ 307 - 308).

(4/260)


وثالثها: سؤاله بجاه بعض خلقه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (1): «وأما القسم الثالث وهو أن يقول: اللهم بجاه فلان عندك أو ببركة فلان أو بحرمة فلان عندك= افعل بي كذا وكذا. فهذا يفعله كثير من الناس، لكن لم يُنقل عن أحد من الصحابة والتابعين وسلف الأمة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء، ولم يبلغني عن أحد من العلماء في ذلك ما أحكيه؛ إلا ما رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد بن عبد السلام (2). فإنه أفتى أنه لا يجوز لأحد أن يفعل ذلك إلا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إن صحّ الحديث في النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومعنى الاستفتاء: قد روى النسائي والترمذي (3) وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عَلَّم بعض أصحابه أن يدعو فيقول: «اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة. يا محمد، يا رسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها لي. اللهم: فشفِّعْه فيَّ». _________ (1) «مجموع الفتاوى»: (27/ 83 - 85). (2) انظر «فتاوى العز بن عبد السلام» (ص 83). وقد بيَّن شيخ الإسلام في جواب له عن كلام العزّ هذا فقال: «وأما استثناؤه الرسولَ ــ إن صحّ حديث الأعمى ــ فهو رحمه الله لم يستحضر الحديث بسياقه حتى يتبين له أنه لا يناقض ما أفتى به، بل ظنَّ أنه يدل على محل السؤال، فاستثناه بتقدير صحته ... ». «جامع المسائل» (5/ 97). (3) النسائي في «الكبرى» (10419)، والترمذي (3578)، وأخرجه ابن ماجه (1385)، وأحمد (17240)، وابن خزيمة (1219)، والحاكم: (1/ 313)، والبيهقي في «دلائل النبوة»: (6/ 166).

(4/261)


[117] فإن هذا الحديث قد استدلّ به طائفة على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد مماته. قالوا: وليس في التوسل دعاء المخلوقين ولا استغاثة بالمخلوق وإنما هو دعاء واستغاثة بالله؛ لكن فيه سؤال بجاهه كما في «سنن ابن ماجه» (1) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر في دعاء الخارج للصلاة أن يقول: «اللهم إني أسألك بحقّ السائلين عليك وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا رياء ولا سمعةً. خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت». قالوا: ففي هذا الحديث أنه سأل بحق السائلين عليه وبحق ممشاه إلى الصلاة، والله تعالى قد جعل على نفسه حقًّا، قال الله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، ونحو قوله: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا} [الفرقان: 16]، وفي «الصحيح» (2) عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: «يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟» قال: الله ورسوله أعلم، قال: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. أتدري ما حقّ العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ فإن حقهم عليه أن لا يعذبهم». وقد جاء في غير حديث: «كان حقًّا على الله كذا وكذا». كقوله: «مَنْ شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يومًا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها في الثالثة أو الرابعة كان حقًّا على الله أن يسقيه من طينة الخبال». _________ (1) (778)، وأخرجه أحمد (11156)، وابن أبي شيبة (29812). وسيأتي الكلام عليه. (2) البخاري (7373)، ومسلم (30).

(4/262)


قيل: وما طينة الخبال؟ قال: «عصارة أهل النار» (1)» اهـ. قلت: أما الحديث الأول فهو حديث الأعمى المشهور [214] وقد رواه الترمذي وابنُ ماجه والحاكم في «المستدرك» كما في «منتخب كنز العمال» (2). وأخرجه الإمام أحمد وابن خزيمة، وأخرجه البيهقي والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (3). وأسانيده كلها تدور على أبي جعفر. وهذا لفظ الترمذي في «سننه» في كتاب الأدعية: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا شعبة، عن أبي جعفر، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف: أن رجلًا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: «إن شئتَ دعوتُ وإن شئتَ صبرتَ فهو خير لك» قال: فادعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهتُ بك إلى ربي في حاجتي هذه لتُقْضَى لي، اللهم فشفِّعه فيَّ». قال: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وهو الخَطْمي. _________ (1) أخرجه أبو داود (3680) من حديث ابن عباس رضي الله عنه، والنسائي (5670) وابن حبان عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وأحمد (14880) من حديث جابر رضي الله عنه. (2) «كنز العمال»: (2/ 181 و 6/ 521). (3) سبق عزوه إلى هذه المصادر قريبًا.

(4/263)


وقال ابن ماجه: حدثنا أحمد بن منصور بن سيَّار، حدثنا عثمان بن عمر، وساق مثل إسناد الترمذي، ولفظه: أنّ رجلًا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ادع الله لي أن يعافيني، فقال: «إن شئتَ أخَّرتُ لك وهو خير، وإن شئتَ دعوتُ»، فقال: ادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه، ويصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بمحمد نبي الرحمة، يا محمد، إني قد توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفِّعْه فيّ». قال أبو إسحاق: هذا حديث صحيح. وأما الإمام أحمد (1) فرواه عن عثمان بن عُمر وعن رَوْح، كلاهما عن شعبة عن أبي جعفر، وأخرجه أيضًا عن مؤمّل عن حماد ــ يعني ابن سلمة ــ عن أبي جعفر عن عمارة عن عثمان بن حنيف. والألفاظ متقاربة بنحو لفظ الترمذي وابن ماجه. قال المانعون: أما رجال حديث الأعمى فكلّهم ثقات لكنه كما قال الترمذي: «غريب لا يُعرف إلا من هذا الوجه». والغرابةُ وإن كانت لا تُنافي الصحة فإنها توجب ريبة. قال الإمام أحمد: لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب فإنها مناكير وعامتها عن الضعفاء. وقال الإمام مالك: شرّ العلم الغريب وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس. رواهما البيهقي في «المدخل» كما ذكره السيوطي في «شرح التقريب» (2). _________ (1) (17240، 17241، 17242). (2) «تدريب الراوي»: (2/ 634). وليسا في المطبوع من «المدخل». وكلمة أحمد أخرجها ابن عدي في «الكامل»: (1/ 39)، وكلمة مالك أخرجها الخطيب في «الجامع»: (2/ 137).

(4/264)


قلتُ: والغرابة في الاصطلاح إما في المتن وإما في السند، فالغرابة في المتن: أن ينفرد بمتنه واحد. وهذا الحديث تفرّد به أبو جعفر عن عمارة، وتفرّد به عمارة عن عثمان بن حنيف. ومع ذلك فالدعاء الذي تضمّنه غريب في الأدعية المأثورة، ليس له أنيس، فهو غريب في متنه في بابه. [215] وقال السيوطي في «شرح التقريب» (1) في الكلام على الشاذ وعند قول المتن: (وقال الحاكم (2): هو ما انفرد به ثقة وليس له أصل بمتابع) لذلك الثقة. قال: ويغاير المعلل بأن ذلك وُقِف على عِلّته الدالة على جهة الوهم فيه، والشاذّ لم يوقَف فيه على علة كذلك، فجعل الشاذ تفرّد الثقة، فهو أخص من قول الخليلي. قال شيخ الإسلام (3): وبقي من كلام الحاكم: وينقدح في نفس الناقد أنه غلط، ولا يقدر على إقامة الدليل على ذلك، قال: وهذا القيد لا بدّ منه، قال: وإنما يغاير المعلل من هذه الجهة، قال: وهذا على هذا أدقّ مِن المعلّل بكثير، فلا يتمكَّن من الحكم به إلا مَن مارس الفنَّ غاية الممارسة، وكان في الذروة من الفهم الثاقب ورسوخ القَدَم في الصناعة. قلت: ولعُسْره لم يفرِدْه أحدٌ بالتصنيف. ومن أوضح أمثلته: ما أخرجه _________ (1) (1/ 268 - 269). (2) في «معرفة علوم الحديث» (ص 375). (3) يعني الحافظ ابن حجر، وقد نقله عنه تلميذه البقاعي في «النكت الوفية»: (1/ 455) بأتم مما هنا. ولعل السيوطي لخصه منه.

(4/265)


في «المستدرك» (1) من طريق عُبيد بن غنام النخعيّ، عن علي بن حكيم، عن شَريك، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضُّحى، عن ابن عباس قال: في كلّ أرض نبيّ كنبيكم وآدم كآدم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى. وقال: صحيح الإسناد. ولم أزل أتعجَّب من تصحيح الحاكم له حتى رأيت البيهقيَّ (2) قال: إسناده صحيح ولكنه شاذٌّ بمرَّة. اهـ (3). قلت: وهذا الذي قاله الحاكم (4) واقع في حديث الأعمى، وذلك أنه تفرّد به أبو جعفر عن عمارة، وتفرّد به عمارة عن عثمان بن حنيف، وهو غريب في الأدعية النبوية، فلم يُعْرَف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاءٌ يشبهه في التوسّل، على كثرة الأدعية المأثورة، وحِرْص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على تعليم أصحابه، ولم يُعرف عن أحدٍ من الصحابة ولا من التابعين ولا من سَلَف الأمة ما يُشبهه كما مرّ عن شيخ الإسلام ابن تيمية (5). فإن قيل: إن الحاكم لم يوافَق على تعريفه للشاذ، فقد قال النووي بعد حكاية قول الحاكم وقوله مثله عن الخليلي: «وما ذكراه مشكل بأفراد العدل الضابط، كحديث: «إنما الأعمال بالنيات»، والنهي عن بيع الولاء، وغير ذلك في «الصحيح» ... » إلخ. _________ (1) (2/ 493). (2) في كتاب «الأسماء والصفات»: (2/ 268). (3) انتهى النقل من «تدريب الراوي». (4) يعني في تعريفه للشاذ. (5) (ص 261).

(4/266)


[216] قلت: قد اتفق الحاكم ومتعقِّبو كلامه على اشتراط الفردية في الشذوذ، ثم اشترط الحاكم قوله: «وليس له أصلٌ بمتابع، وينقدح في نفس الناقد أنه غلط، ولا يقدر على إقامة الدليل». ومثَّل له السيوطي بما سمعت، واشترط المتعقّبون أن يخالف مَن هو أرجح منه. فالحاكم لم يحكم بردِّ الفرد مطلقًا، بل شَرَط مع ذلك ما سمعت، وبذلك يعلم أنه لا يَرِدُ عليه أفراد «الصحيح». والحاصل أن الحاكم نحى بالشاذ نحو المعلَّل كما أشار إليه شيخ الإسلام، فالتفرّد جُزء علّة، فإذا وُجدت قرائن أخرى على الوهم كملت العلة، كما في حديث ابن عباس الذي مثَّل به السيوطي، ولا يبعُد أن يكون منه حديث البحث، وما أحراه بذلك! هذا بالنسبة إلى الاستدلال به على التوسُّل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته، وأما بعد مماته خصوصًا مع ما زِيد فيه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما مرّ: «قال: فإن كان لك حاجة فمثل ذلك» (1) = فيعارضه إجماع الصحابة رضي الله عنهم على العدول عن التوسُّل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته إلى التوسُّل بعمه العباس، فيزداد ضعفًا إلى ضعفه. والحاصل أن العارف المنصف لا يطمئنّ قلبُه إلى الاحتجاج بهذا الحديث. _________ (1) هذه الزيادة أخرجها ابن أبي خيثمة في «تاريخه» كما ذكر شيخ الإسلام في «قاعدة جليلة ــ مجموع الفتاوى»: (1/ 275) وأعلَّها بتفرّد حماد بن سلمة ومخالفته لرواية شعبة وروح بن القاسم وهما أوثق منه. ثم أجاب شيخ الإسلام عنها على فرض ثبوتها فانظره.

(4/267)


أما حديث ابن ماجه (1) فهذا لفظه: «حدثنا محمد بن سعيد بن يزيد التستري، حدثنا الفضل بن الموفق أبو الجهم، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن خرج من بيته إلى الصلاة، فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك (2)، وأسألك بحقّ ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشَرًا، ولا بَطَرًا، ولا رياءً، ولا سُمعةً، وخرجتُ اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. أقَبَل اللهُ عليه بوجهه، واستغفر له سبعون ألف ملك». ففيه الفضل بن الموفّق ضعَّفه أبو حاتم، وفضيل بن مرزوق من أفراد مسلم، وعِيْب على مسلم إدخاله في «الصحيح»، وإن كان الأكثر على توثيقه، فإن أبا حاتم قال: صدوق يَهِم كثيرًا، يُكتب حديثه. قيل: يُحتجّ به؟ قال: لا. وقال ابن حبان في «الثقات» (3): «يخطئ». وقال في «الضعفاء» (4): [217] «كان يخطئ على الثقات، ويروي عن عطية الموضوعات». كذا في «تهذيب التهذيب» (5). قال: وقال مسعود (6) عن الحاكم: ليس هو مِن شرط الصحيح، وقد عِيْبَ على مسلم إخراجه لحديثه اهـ. وهذا القدح مفسَّر فهو _________ (1) (778). (2) في الأصل: «إليك» سبق قلم. (3) (7/ 316). (4) (2/ 209). (5) (8/ 299). (6) في سؤالاته للحاكم (85).

(4/268)


أولى من قول الموثِّقين. وعطية العوفي ضعَّفه الجمهور. قال السِّنْدي (1) في الكلام على هذا الحديث: وفي «الزوائد» (2): هذا إسناد مسلسل بالضعفاء؛ عطية وهو العوفي، وفُضيل بن مرزوق، والفضل بن الموفّق= كلهم ضعفاء، لكن رواه ابن خزيمة في «صحيحه» من طريق فُضيل بن مرزوق، فهو صحيح عنده. اهـ. وابنُ خزيمة يطلق الصحيح على ما يشمل الحسن، ولا شكّ أنّ فضيلًا وثَّقه كثير من الأئمة ولكن القدح المفسَّر أولى. قال المجيزون: إن هذين الحديثين قد نصَّ أئمة السنة على صحتهما، فنصَّ على صحة حديث الأعمى الحاكمُ والترمذيُّ وابنُ ماجه (3). ونص على صحة حديث السؤال بحقّ السائلين الإمامُ ابن خزيمة، فمَن أنتم حتى تخالفوهم وتُخطِّئوهم؟ وقولكم في حديث الأعمى: إنه غريب في بابه غير مسلَّم، وقد ثبت في «الصحيحين» وغيرهما حديث الثلاثة أصحاب الغار وتوسّلهم بأعمالهم، واستجابة الله تعالى لهم. ودلّ سياق الحديث على الثناء عليهم، وورد مورد _________ (1) في حاشيته على ابن ماجه: (1/ 262). (2) «مصباح الزجاجة» (295). (3) ابن ماجه لم يصحّح الحديث، والذي في سنن ابن ماجه عقب الحديث: (قال أبو إسحاق: إسناده صحيح) ليس (أبو إسحاق) هو ابن ماجه، لأن كنيته أبو عبد الله. ولا أدري مَن يكون أبو إسحاق هذا. ولعله أحد رواة السنن. ثم راجعت الطبعة المحققة عن مؤسسة الرسالة فوجدت المحقق يذكر أن هذه الزيادة لم ترد في النسخ الخطية التي اعتمدها لسنن ابن ماجه. وأشار في الطبعة الهندية إلى أنها في إحدى النسخ الخطية.

(4/269)


الحثّ على الإخلاص بمثل أعمالهم؛ فكان شريعةً لنا ولا شكّ، فثبت جواز التوسّل بالأعمال بهذا الحديث الذي تواتر أو كاد، فلا سبيل لكم إلى التلاعب به. وإذا جاز توسّل الشخص بعملٍ من أعماله فجوازه بأحد الصالحين أولى فضلًا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجاء حديث الأعمى والسؤال بحقّ السائلين موافِقَين له في التوسّل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالصالحين. [218] قالوا (1): وفي «سنن أبي داود» (2): عن جُبير بن محمد بن جُبير بن مُطعِم، عن أبيه، عن جده قال: جاء أعرابيّ فقال: يا رسول الله، جُهِدَت الأنفسُ، وضاعت العيال، ونُهِكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ويحك أتدري ما تقول؟ ! » وسبّح رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما زال يسبح حتى عُرِف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال: «ويحك إنه لا يُسْتَشْفَع بالله على أحدٍ من خلقه، شأنُ الله أعظم من ذلك ... » الحديث. _________ (1) كتب المؤلف قبلها: «الحمد لله» وكأنه استأنف الكلام بعد انقطاع فبدأه بالحمدلة. (2) (4726). وأخرجه البزار (3432)، وابن خزيمة في «التوحيد» (148)، والطبراني في «الكبير» (2/ 168)، وابن منده في «التوحيد» (607) وغيرهم. قال ابن منده: إسناد صحيح متصل. وصححه ابن القيم في «تهذيب السنن»: (5/ 2164 - 2173). لكن ضعَّفه الذهبي في «العلو» (ص 39) قال: هذا حديث غريب جدًّا فرد. وفي سنده جبير بن محمد ليّن الحديث، ومحمد بن إسحاق مدلس لم يصرح بالتحديث.

(4/270)


فأنكر عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: «نستشفع بالله عليك» وأقرّه على قوله: «نستشفع بك على الله» وتبيَّن بهذين الحديثين وغيرهما بطلان ما دفعتم به حديثَ الأعمى أنه غريبٌ في بابه. [219] وكذلك ثبت في «صحيح البخاري» (1) عن أنسٍ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعبّاس بن عبد المطلب فقال: «اللهم إنا كنّا نتوسّل إليك بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعمّ نبينا فاسْقِنا، قال: فيُسْقَون». وظاهره التعدّد. ولا ريب أن الاستسقاء إنما يقع بمحضر جمهور الصحابة رضي الله عنهم وعِلْم الجميع، ولمَّا لم يُنكر صار إجماعًا. وكذلك معاوية بن أبي سفيان استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي وقال: «اللهم إنا نستشفع إليك بخيارنا» (2) ولم يُنكرَ عليه ذلك. وهذه الأحاديث والآثار لم تزل تتناقلها الأئمة، ويَبْعُد أن يتناقلوها ويتفقوا على عدم العمل بها، بل الظاهر أن الأمّة لم تزل آخذة بهذه السنة مِن زمانه صلى الله عليه وآله وسلم وزمن أصحابه مِن بعده وتابعيهم، وهكذا إلى اليوم. ويشهد لهذا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية إنه لم يجد عن العلماء نقلًا في باب التوسّل إلا ما رآه في فتاوى ابن عبد السلام (3)، فالظاهر أن التوسّل كان أمرًا مُتّفَقًا عليه متلقًّى بالقبول، معمولًا به في الخاصة والعامة، ولذلك لم يتكلموا عليه في كتبهم. _________ (1) (1010). (2) تقدم تخريجه (ص 239). (3) انظر ما سبق (ص 261).

(4/271)


قال المانعون: يا مقلِّب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك، واهدنا لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، واجعلنا ممن لا سبيل له إلا بسبيلك، واجعل هوانا تَبَعًا لما جاء به رسولك. ما كان ينبغي لنا أن نعمد إلى عمل أطبق عليه عامة هذه الأمة فنخطّئه ونضلّله لمجرّد الهوى، إنّا والله لحريصون على أن تكون جميع أعمال هذه الأمة مطابقة لشريعة نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، مستندة إلى أدلة صحيحة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فهل يُعقل أن نعكس القضية فنسعى في إماتة شيء من السنة والعياذ بالله؟ ! [220] قد تصفّحنا ما أجبتم به حريصين على أن نجد فيه ما يثلج الصدر في جواز التوسّل، فيسرّنا أن تكون العامة على هدى في هذه المسألة، ونستفيد علمًا لم يكن عندنا، ولكننا لم نجد إلا دعاوى مجرّدة، وبيان ذلك تفصيلًا: أولًا: قولكم: «إن هذين الحديثين ــ أي حديث الأعمى والسؤال بحق السائلين ــ قد نصَّ الأئمة على صحتهما ... » إلخ. وجوابه: أن حديث الأعمى وإن نصّ الحاكم وابن ماجه على صحَّته (1)، والترمذي على أنه متردِّد بين الحُسْن والصحة، فقد نص الترمذي على أنه غريب، والغرابةُ توجب الريبة كما دلّ عليه كلام الإمامين مالك وأحمد، وقد مرَّ (2). وحينئذٍ فتكون جُزء علّة، فإذا وُجِدت قرينة أخرى كملت العلة، وذلك كما في حديث ابن عباس الذي صححه الحاكم: «في كل أرض نبي _________ (1) انظر ما سبق من التعليق على نسبة التصحيح إلى ابن ماجه (ص 269). (2) (ص 264).

(4/272)


كنبيكم ... » إلخ، وقد مرّ (1). وذلك أنه اجتمع فيه مع الغرابة في المتن الغرابة في الباب؛ إذ لم يرد في الكتاب والسنة ما يُشعر بما دلّ عليه. ولما نظرنا في حديث الأعمى وجدناه أشبه شيء بهذا الحديث، وليس في هذا غض ممن صححه أو حسّنه؛ لأن التصحيح والتحسين محمول على الإسناد ونحن لا ننكره. على أننا لم نأت بشيءٍ من عند أنفسنا، وإنما نقلناه عن الأئمة كما عرفت. وكم من حديث صححه أحدُ الأئمة وتعقّبه مَن بعده! وذلك كثير في «الصحيحين» فضلًا عن غيرهما. نعم، إن ثبتت دعواكم أنه قد ورد في السنة الصحيحة ما يخرج حديث الأعمى عن كونه غريبًا في بابه بَطَل ما أشرنا إليه مِن إعلاله، وسيأتي البحث معكم في ذلك. وأما حديث السؤال بحقّ السائلين، وتصحيحُ ابن خزيمة له، فابن خزيمة ممن يعبّر عن الحسن بالصحيح كما مرّ وذَكَره السيوطي في «شرح التقريب» (2) وغيره، ومع ذلك ففضيل بن مرزوق قد مرّ الكلام عليه، وهذه ترجمته في كتب أسماء الرجال فليراجعها الباحث، وكذلك عطية العوفي. وأما حديث «الصحيحين» في قصة الثلاثة أصحاب الغار، فليس من التوسّل المتعارف في وِرْدٍ ولا صَدَر، [221] وهذا لفظه في «صحيح البخاري» (3): «بينما ثلاثة نفرٍ ممن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر فأووا _________ (1) (ص 266). (2) (1/ 174). (3) (3465).

(4/273)


إلى غار، فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصِّدْق، فليَدْعُ كل رجلٍ منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه ... » إلخ. قال في «الفتح» (1): «وفي رواية موسى بن عقبة: «انظروا أعمالًا عملتموها صالحة لله» ومثله لمسلم. وفي رواية الكُشْمِيْهَني: «خالصة ادعوا الله بها»، ومن طريقه في البيوع: «ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه»، وفي رواية سالم: «إنه لا ينجيكم إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم»، وفي حديث أبي هريرة وأنس جميعًا: «فقال بعضهم لبعض: عفا الأثر ووقع الحجر ولا يعلم بمكانكم إلا الله، ادعوا الله بأوثق أعمالكم»، وفي حديث عليّ عند البزار: «تفكَّروا في أحسن أعمالكم فادعوا الله بها، لعلّ الله يفرج عنكم»، وفي حديث النعمان بن بشير: «إنكم لن تجدوا شيئًا خيرًا من أن يدعو كلُّ امرئ منكم بخير عملٍ عَمِلَه قطّ» اهـ. ولفظ دعاء الأول: «اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ... » وذَكَر عملَه ثم قال: «فإن كنت تعلم أني فعلتُ ذلك من خشيتك ففرّج عنّا». وكذا الثاني والثالث. فأين هذا من قول القائل: «اللهم إني أتوسّل إليك بحقّ صلاتي وصيامي، وأتوجّه إليك بفضلها لديك»؟ ! فضلًا عن قوله: «اللهم إني أسألك بجاه فلان، وأتوجّه إليك بحقه عليك وفضله لديك». فإن أهل الغار إنما ذكروا أعمالهم التي أخلصوا فيها لله تعالى؛ استنجازًا لوعده للمخلصين بتفريج كروبهم، وكشف همومهم وغمومهم، ومعنى دعائهم: اللهم إن كنت _________ (1) (6/ 507).

(4/274)


تعلم أننا عَمِلنا هذه الأعمال مخلصين لك، فأنْجِزْنا وَعْدَك للمخلصين بتفريج كروبهم، وكشف ما نزل بهم، وإجابة دعائهم. قال الحافظ في «الفتح» (1): [222] «وفي هذا الحديث استحباب الدعاء في الكرب، والتقرب إلى الله تعالى بذكر صالح العمل، واستنجاز وعده بسؤاله. واستنبط منه بعضُ الفقهاء استحباب ذكر ذلك في الاستسقاء، واستشكله المحبُّ الطبري لما فيه من رؤية العمل، والاحتقارُ عند السؤال في الاستسقاء أولى؛ لأنه مقام التضرُّع. وأجاب عن قصة أصحاب الغار بأنهم لم يستشفعوا بأعمالهم، وإنما سألوا الله تعالى إن كانت أعمالهم خالصةً وقُبِلت، أن يجعل جزاءها الفرجَ عنهم، فتضمّن جوابه تسليم السؤال لكن بهذا القيد، وهو حسن. وقد تعرّض النوويُّ لهذا فقال في «كتاب الأذكار» (2) في باب دعاء الإنسان وتوسّله بصالح عمله إلى الله، وذَكَر هذا الحديث، ونقل عن القاضي حسين وغيره استحباب ذلك في الاستسقاء، ثم قال: وقد يقال: إن فيه نوعًا من ترك الافتقار المطلق، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أثنى عليهم بفعلهم، فدلّ على تصويب فعلهم. وقال السبكيُّ الكبير: ظهر لي أن الضرورة قد تُلجئ إلى تعجيل جزاء بعض الأعمال في الدنيا، وأن هذا منه، ثم ظهر لي أنه ليس في الحديث رؤية عمل بالكلية، لقول كلٍّ منهم: «إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء _________ (1) (6/ 509 - 510). (2) (ص 398).

(4/275)


وجهك». فلم يعتقد أحدٌ منهم في عمله الإخلاص، بل أحال أمرَه إلى الله، فإذا لم يجزموا بالإخلاص فيه مع كونه أصلح أعمالهم فغيره أولى، فيستفاد منه أن الذي يصلح في مثل هذا أن يعتقد الشخص تقصيره في نفسه ويسيء الظنّ بها، ويبحث على كل واحد من عمله يظن أنه أخلص فيه، فيفوّض أمرَه إلى الله، ويعلّق الدعاءَ على عِلْم الله به، فحينئذٍ يكون إذا دعا راجيًا للإجابة خائفًا من الردّ. فإن لم يغلب على ظنّه إخلاصُه ولو في عملٍ واحد، [فليقف عند حدِّه]، ويستحيِ أن يسأل بعمل ليس بخالص. قال: وإنما قالوا: ادعوا الله بصالح أعمالكم في أول الأمر، ثم عند الدعاء لم يطلقوا ذلك، ولا قال واحد منهم: أدعوكَ بعملي، وإنما قال: إن كنتَ تعلم ثم ذكر عمله. انتهى ملخّصًا. وكأنه لم يقف على كلام المحبّ الطبري الذي ذكرته فهو السابق إلى التنبيه على ما ذكر، والله أعلم». اهـ. والحق ما اختاره الحافظ وصدَّر به بقوله: «التقرب إلى الله تعالى بذكر صالح العمل، واستنجاز وعده بسؤاله». [223] وقول المحبّ الطبري: إنهم لم يستشفعوا بأعمالهم، وإنما سألوا الله إن كانت أعمالهم خالصة وقُبِلت= حقّ لا شك فيه. وأما قوله: «أن يجعل جزاءها الفرج عنهم»، فكأنه ظهر له ذلك من قولهم: «فلْيدْعُ كلّ رجلٍ منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه» وسائر الروايات موافقة لهذه في إطلاق الدعاء بالعمل، ولكن لا يخفى أن الدعاء إنما يكون حقيقة بالكلام ومِن المحال أن يكون بالأعمال التي انقضت بوقتها، فلابدّ من تقدير مضاف، فَلْنقدِّر (ذِكْر) كأنهم قالوا: فليدع كل رجلٍ منكم بذكر ما يعلم ... إلخ. فقد دعوا الله بذكر أعمالهم.

(4/276)


ثم إما أن يكونوا قصدوا بذكرها استنجاز الوعد أو استعجال الجزاء، والأول أولى كما اختاره الحافظ، وقد يُحمل عليه كلام السبكي، فإنه قال: «ظهر لي ... » إلخ فذكر ما يفيد أنهم دعوا بذكر أعمالهم استعجالًا لجزائها، ثم قال: «ثم ظهر لي ... » إلخ فدلّ على أن الذي ظهر له أخيرًا غير الذي ظهر له أولًا، فتأمل. والحقّ أنهم لم يطلبوا تعجيل جزائها وإنما ذكروها استنجازًا لوعد الله تعالى لعامليها بالإغاثة وإجابة الدعاء، ولذلك كان ظاهر الحديث الثناءَ عليهم، وهذا واضح جدًّا. قال المانعون: فإن كنتم ترون أيها المجيزون في استنجاز الوعد دلالةً على التوسّل المدَّعى فما أكثر أدلّتكم! منها قوله تعالى حكايةً عن نوح: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45]، فإن الله تعالى أنكر عليه قوله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} لما فيه من عدم المباينة للكافر، ولم ينكر عليه قوله: {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} مع أن المقصود به استنجاز الوعد. ومنها حديث «الصحيحين» (1) في دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عريش بدر، ولفظه في البخاري: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك». وفي رواية مسلم: «فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على مَنكِبيه، ثم التزمه مِن ورائه، فقال: يا نبيّ الله كفاك مناشدتك ربّك، فإنه سينجز لك ما وعدك»، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} الآية [الأنفال: 9] _________ (1) البخاري (2915)، ومسلم (1763).

(4/277)


فأمدّه الله بالملائكة. وفي رواية للبخاري (1): «فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك قد ألْححتَ على ربك، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم عالمٌ بوعد الله تعالى، وعالم بأن الله لا يخلف وعدَه، ولكنَّه جوَّز أن يكون الوعد مشروطًا بشيء، كأن لا يصدر عن أحدٍ من المسلمين شيء من المخالفات، فلم يزل يدعو حتى ــ والله أعلم ــ أعْلَمَه الله أن النصر كائنٌ لا محالة، أي غير مشروط بشيء، فخرج يَثِبُ في الدرع ويقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]. وأبو بكر رضي الله عنه لم يلاحظ ما لاحظه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بل اطمأنّ بمطلق الوعد، فتأمّل. والأدلة كثيرة، والعجب ممن يستدلّ بحديث أصحاب الغار على جواز قول القائل: «اللهم إني أسألك بحق فلان عليك وجاهه العظيم لديك»، مع أنه لا يدلُّ على التوسّل بالأعمال إلا بمعنى ذِكرها في الدعاء استنجازًا لوعد الله تعالى لعاملها بالإغاثة. [224] والحاصل أن معنى حديث أصحاب الغار على ما قاله المحبّ الطبري: أن هؤلاء الثلاثة ذكروا أوثق أعمالهم، وسألوا الله تعالى أن يعجّل لهم ثوابها بالتفريج عنهم. وعلى المختار الذي قاله الحافظ واحتمله كلام السبكي: أنهم ذكروا أوثق أعمالهم استنجازًا لوعد الله تعالى لمن عمل مثلها بالإغاثة، وكشف الكروب. وعلى كلٍّ فلا معنى لقولكم: «وإذا جاز توسّل الشخص بعمل من أعماله فجوازه بأحد الصالحين أولى ... » إلخ، فإن أهل الغار سألوا حقًّا ثابتًا _________ (1) (4877).

(4/278)


لهم بوعد الله تعالى، والمتوسّلُ بأحد الصالحين لم يسألّ حقًّا ثابتًا له، وهذا مما يُخْجَل من إيضاحه لوضوحه. وأما ما في «سنن أبي داود» عن جُبير بن محمد بن جُبير بن مُطعِم عن أبيه عن جده قال: جاء أعرابيّ ... إلخ. ففي إسناده ابن إسحاق، وهو مختلَف فيه، وأقلّ ما فيه أنه يدلِّس، قاله الإمام أحمد، كما في «تهذيب التهذيب» (1) وغيره. والمدلِّس لا يحتج به إلا فيما صرَّح فيه بالتحديث، ولم يصرّح في هذا الحديث، فإن لفظ الراوي عنه: سمعتُ ابن إسحاق يحدِّث عن يعقوب بن عتبة وللحديث علّة أخرى نبَّه عليها أبو داود (2). وأما حديث استسقاء عمر والصحابة بالعبّاس بن عبد المطلب رضي الله عنهم ومثله استسقاء معاوية بيزيد بن الأسود الجرشي، فهو عليكم لا لكم؛ لدلالته الظاهرة على إجماع الصحابة رضي الله عنهم على عدم التوسّل بالميّت والغائب، وهل يَشكُّ عاقل أن الصحابة رضي الله عنهم يعدلون عن التوسُّلِ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى طلب الدعاء من غيره إلّا لأمرٍ ما، وهو عدم جواز التوسّل بالمعنى المتعارف، وهذا صريح جدًّا من قول عمر: «اللهم إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبينا فتسقينا، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبينا». فإن قيل: فما الفرق بين التوسّل بالحيّ والميت؟ قلت: الفرق بيِّن، وذلك أنّ في الكلام حذف مضاف في الموضعين، أي: إنا كنّا نتوسّل إليك [225] بدعاء نبيّنا، أي: نطلب منه الدعاء لنا فيدعو، _________ (1) (9/ 43). (2) (4726) وسبق ذكرها عند الكلام على الحديث (ص 270).

(4/279)


فيكون دعاؤه وسيلة لنا، وإنا الآن نتوسّل بدعاء عمّ نبينا، وها هو يدعو لنا، ودعاؤه وسيلة لنا. وتقدير المضاف في الموضعين متعيّن؛ إذ لو لم يقدّر لكان الظاهر التوسّل بالذات، وذات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باقية بعد الموت، فعلامَ يعدل الصحابة عن التوسّل بها، ويقول الفاروق مقالته الدالة على امتناع التوسّل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى احتيج إلى العدول إلى عمّه؟ فتبيَّن أنه ليس المراد التوسّل بالذات. ولا يصحّ تقدير المضاف «بأعماله الصالحة» وإن ارتضاه الشوكاني؛ لأن أعمال النبي صلى الله عليه وآله وسلم باقية فَعَلامَ يعدل عنها إلى التوسّل بأعمال عمه، فتعيَّن أن يكون المضاف هو أمر يمتنع حصوله من الميّت، ويحصل من الحيّ، وهو الدعاء في القضية بعينها. إذا تقرّر ذلك فمعنى هذا الحديث: اللهم إنّا كنّا إذا أجْدَبْنا نتوسّل إليك بدعاء نبينا لنا بالسُّقيا فتسقينا، وإن نبينا قد قَدِم عليك فلا يمكن أن يدعو لنا بالسُّقيا الآن، ولكنا نتوسّل إليك بدعاء عمّ نبينا بالسُّقيا الآن فاسْقِنا. فإن قيل: فهل قول عمر: «اللهم إنّا كنّا نتوسّل ... » إلخ مجرّد خبر أو دعاء؟ فالجواب: أننا [226] نسلِّم أنه دعاء، ولكن ليس معنى التوسّل هو التوسُّل الذي تدّعونه، وإنما هو مطلق التقرب، كما هو معناه لغةً. فكأن عمر قال: إنا كنا نتقرّب إليك بطلب الدعاء من نبيّك، وقد تعذّر ذلك فتقرّبنا إليك بطلب الدعاء من عمّه، وها هو يدعو وندعو، فأنْجِزْ لنا وعدك بإجابة الدعاء.

(4/280)


وهذا كما ترى ليس فيه ما يدلّ على التوسّل وإنما هو من باب استنجاز الوعد الذي مرّ تقريره في حديث ثلاثة الغار. ولا شكَّ أن الله تعالى وَعَد عبادَه إجابة الدعاء بقوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وعوّدهم الإغاثة بالسُّقيا إذا طلبوا الدعاء من رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بإجراء العادة بذلك، وإجراءُ العادة بمثابة الوعد، وذلك إجابة لدعاء رسوله، وجزاءً لهم حيث عرفوا الحقّ للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ففزعوا إليه في ذلك. وهذا كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]، فَشَرَط في ذلك ثلاثة أشياء: الأول: مجيئهم إلى الرسول طالبين منه أن يستغفر لهم. والثاني: استغفارهم الله. والثالث: استغفار الرسول لهم. وكذلك السُّقيا كانوا يفزعون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم طالبين منه الدعاء، فيدعو ويدعون، فيسقيهم الله تعالى. وفي «سنن أبي داود» (1) بإسناد حسن عن عائشة رضي الله عنها قالت: شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر فوُضِع له في المصلّى، ووعد الناسَ يومًا يخرجون فيه. قالت عائشة: فخرج رسول الله صلى الله _________ (1) (1173).

(4/281)


عليه وآله وسلم حين بدا حاجبُ الشمس، فقعد على المنبر، فكبَّر وحَمِد الله عزَّ وجلَّ ثم قال: «إنكم شكوتم جَدْبَ ديارِكم، واستئخار المطر عن إبّان زمانه عنكم، وقد أمركم الله عزَّ وجلَّ أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم» ثم قال: «الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مَلِك يوم الدين، لا إله إلّا الله يفعل ما يريد ... » الحديث. ثم قال أبو داود: «وهذا حديث غريب، إسناده جيّد، أهل المدينة يقرؤون {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وإن هذا الحديث حجة لهم» اهـ. قلت: والغرابةُ هنا هي الفرديّة، وهي بمجرّدها غير قادحة، مع أن معنى الحديث في «الصحيح» (1). فهذا هو التوسّل الذي أخبر عنه عمر بقوله: «إنا كنّا نتوسل بنبيك ... » إلخ، وذلك سؤالهم الدعاء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعاؤه ودعاؤهم مستنجزين وعدَ ربّهم، كما أشار إليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وقد أمركم عزَّ وجلَّ أن تدعوه ووعدكم أن يستجب لكم». [227] والصحابة رضي الله عنهم سألوا الدعاء من العبّاس رضي الله عنه لفضله وقرابته، فدعا ودعوا معه مُستنجزين لوعد ربهم. فهذا هو التوسُّل الذي يقول عنه عمر: «وإنّا نتوسّل بعم نبيّك». * * * * _________ (1) أخرج البخاري (1012) ومسلم (894) حديث عبد الله بن زيد المازني في خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى لصلاة الاستسقاء. وأخرجا أيضًا ــ البخاري (933) ومسلم (897) ــ حديث أنس في استسقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر يوم الجمعة.

(4/282)


فصل قد تبيَّن لك مما مرّ أن المجيزين للتوسُّل المتعارَف لم يثبت لهم دليل صريح، وقد أجاز بعضُهم التوسُّل بالأعمال الصالحة مطلقًا، وخصَّ غيره ذلك بأعمال المتوسّل نفسه. وسَبَق لي قولٌ قلتُ فيه: الذي يظهر أنه لا بأس أن يتوسّل (1) الإنسان بكلِّ عملٍ من شأنه أن ينفعه في حاجته التي يريد التوسّل به فيها، ومنه حديث ثلاثة الغار؛ لأن من شأن أعمالهم تلك أن تنفعهم في الإغاثة وتفريج الكرب. ومنه أيضًا توسّل الصحابة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم بالعباس؛ لأن الصحابة كانوا يتوسّلون بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم في طلب السُّقيا، وهو عمل ينفعهم في ذلك، ثم توسّلوا بدعاء العباس لهم بالسُّقيا، وهو عمل ينفعهم في ذلك، ويُحْمَل عليه حديث الأعمى؛ لأنه لما شكا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسأله الدعاء، توجّه قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ربِّه في إغاثته، فأمره بالوضوء والصلاة والدعاء، ويُقَدَّر مضاف في الدعاء، فكأنه قال: اللهم إني أسألك وأتوجّه إليك بتوجّه قلب نبيك محمد ... إلخ. فإن قيل: فقد جاء في بعض الروايات: «فإن كان لك حاجة فمثل ذلك» (2)؟ _________ (1) قبلها كلمة «وتوسّط» نسي المؤلف أن يضرب عليها. (2) سبق الكلام على هذه الزيادة وإعلال شيخ الإسلام لها (ص 268).

(4/283)


فالجواب: أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك يدلّ أن قلبه صلى الله عليه وآله وسلم توجّه إلى ربِّه في قضاء حوائج هذا الأعمى مطلقًا، فهو كلما أراد أن يسأل الله حاجةً فإنما يتوسّل إليه بذلك التوجُّه. وعلى ذلك حديث السؤال بحقِّ السائلين، فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم إني أسألك بحقّ السائلين عليك» معناه: أسألك بحقّ سؤالي، وأما ما بعده فواضح. وأما حديث الاستشفاع فليس من التوسُّل في شيءٍ، وإنما معناه إنا نطلب منك الشفاعة، وعلى هذا فيجوز (1) للإنسان التوسُّل بجميع أعمال نفسه مطلقًا، وكذا بعمل غيره الذي قام الدليل الشرعيُّ على أنه ينفعه في حاجته التي يريد التوسُّل به فيها خاصة [228]، كالتوسل في السُّقيا بدعاء الغير بها، وهذا يوافق توسُّل الصحابة بالعبّاس، وذلك أنهم إنما كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعو لهم بالسُّقيا في ذلك الوقت، فدعاؤه بذلك عمل ينفعهم في تلك الواقعة فقط، فإذا أجْدَبوا مرةً أخرى احتاجوا إلى دعاءٍ آخر بها، فلما قُبِض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأجدبوا لم يمكن أن يدعو لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسُّقيا حينئذٍ، فطلبوا الدعاء من عمه لفضله وقرابته، وتوسَّلوا به لكونه عملًا ينفعهم في السُّقيا حينئذٍ. ويُستنتج مما ذكر أن الرجل من أمة محمد إذا عمل عملًا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدعاءُ لفاعله كان له أن يتوسّل بدعاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيما دعا له به، فكأن يصلي أربعًا قبل العصر عملًا بحديث أحمد والترمذي وأبي داود عن ابن عمر قال: قال رسول الله _________ (1) قبلها في الأصل «ثم» نسي المؤلف أن يضرب عليها.

(4/284)


صلى الله عليه وآله وسلم: «رحم الله امرءًا صلى قبل العصر أربعًا» (1). فله أن يتوسَّل في طلب الرحمة بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم له فيها، ولو أطلق التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، ناويًا التوسّل بذلك الدعاء فلا بأس كما جاء في حديث الأعمى وغيره. ولا يقال: إن شَفَقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورحمته بأمته تدلّ أنه كان يدعو لهم بكل ما ينفعهم، فنتوصل بذلك إلى جواز التوسّل مطلقًا. لأننا نقول: عدول الصحابة رضي الله عنهم إلى التوسّل بالعبّاس رضي الله عنه ينافي ذلك. فالمتعيّن قَصْر ذلك على ما ورد بالنص، كصلاة أربع قبل العصر. وقد يُجاب عن هذا بأن يقال: إن كان المراد بالتوسّل السؤال بحقّ ذلك العمل وفضله عند الله تعالى، والإقسام به عليه، فهو ممنوع كما مَرَّ نقلُه عن «الفتح» في حديث الغار، مع أن حديث الغار وتوسّل الصحابة بالعبّاس لا يَدُلّان عليه أصلًا، وغيرهما مقدوح فيه كما مَرَّ. وإن أُريد بالتوسّل مجرّد ذكر العمل استنجازًا للوعد، مع المحافظة على الأدب والحذر من الاعتماد على العمل، فهذا هو الذي سبق تقريره في حديث الغار، وهو حقّ لا شُبهة فيه. والله الموافق. [229] أقول: هذا آخر ما تيسَّر لي كتابته في هذا البحث، ومَن تأمّله حقَّ تأمّله عَلِم أنّ مدار التوسّل على حديث الأعمى، فمن أراد معرفة الحق فعليه _________ (1) أخرجه أبو داود (1271)، والترمذي (430)، وأحمد (5980)، والطيالسي (2048)، وابن حبان (2453)، والبيهقي (2/ 473). قال الترمذي: حسن غريب.

(4/285)


أن يحقق البحثَ فيه والنظرَ في حاله حتى يطمئنّ قلبُه، فيعمل بما ظهر له. وقد رأيتُ في «شرح الإحياء» (1) ما لفظه: وأخرج البيهقي في «الدلائل» والنسائي في «اليوم والليلة» من طريق أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عثمان بن حنيف، فذكر قصة فيها حديث الأعمى هذا ولفظه: «فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ائت الميضأة فتوضّأ، ثم ائت المسجد فصلّ ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجّه إليك بنبيك نبيّ الرحمة، يا محمد إني أتوجّه بك إلى ربي فتجلي لي عن بصري، اللهم شفِّعه فيّ وشفّعني في نفسي ... » إلخ. ثم ذكر مَن رواه من الأئمة من طريق عُمارة بن خزيمة على نحو ما أسْلَفنا، فإن صحّت روايتُه من طريق أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمّه زالت غرابةُ الحديث في نفسه. وقد سبق في تأويله والجمع بينه وبين غيره من الأدلة ما علمتَ، فراجِعْ ما هناك والله يتولّى هداك. وأما العامة فتمسّكهم بالتوسّل بأنواعه هو فرعٌ عن تمسّكهم بالتقليد كل منهم لفقهاء المذهب الذي التزمَه من غير تفريق بين العقائد وغيرها، فتنازلهم إلى التوقف عن التوسّل لا يتم حتى يتنازلوا عن الانكباب على التقليد في كل شيء. والذي أختاره لنفسي: أن أُكْثِر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوّل الدعاء وأثنائه وآخره، وأتتبّع الأدعية الواردة في الكتاب والسنة _________ (1) «إتحاف السادة»: (3/ 472). والحديث في «الدلائل»: (6/ 167) للبيهقي، و «السنن الكبرى» للنسائي (10421). وانظر للاختلاف في إسناده «علل ابن أبي حاتم» (2064).

(4/286)


والإرشادات التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في آداب الدعاء، وأكتفي بالترضِّي والترحُّم والاستغفار للعلماء والصالحين، وأدَعُ التوسُّل عملًا بحديث الحسن السبط رضي الله عنه: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (1) أخرجه الترمذي وابن حبان والحاكم من حديث الحسن السِّبط رضي الله عنه، وما في معناه من الأحاديث. وأرجو أن تكون هذه الطريقة هي الأسلم؛ لأني على يقين أنه لو ثبت التوسّل المتعارَف ثم تركه إنسانٌ لم يكن عليه إثم؛ إذ لا قائل بوجوبه، فكيف والحال أنه لم يثبت؟ فتَرْكه بنيّة الإحجام عما لم يطمئنّ القلبُ بثبوته مما أرجو أن يأجرني الله تعالى عليه. فمن أحبّ السلامة فهذا سبيلها، ومَن أقْدَم على التوسُّل فهو وما تولّى، ولا أقطع بخطئه ولا ضلاله، بل أرجو له التوفيق والهداية إن شاء الله تعالى. _________ (1) تقدم تخريجه.

(4/287)


[بحث في اتخاذ ليلتي المولد والمعراج عيدًا] [ص 1] قال المانعون: ومِن المحدَث اتخاذ ليلتي المولد والمعراج عيدًا. وأول مَن أحدَث ذلك العُبيديون بمصر ثم توسّع الناسُ فيه، فألفّوا في ذلك القصص المشتملة على الآثار الموضوعة والضعيفة، والتأويلات البعيدة، كما تراه في قصة المولد المعروفة بـ «شرف الأنام». وكما في بعض قصص المعراج المشتملة على الحديث الطويل الذي نصَّ أئمة الحديث أنه موضوع، وغير ذلك. والتزموا قراءة قصة المولد في غير ليلته، وصاروا ينذرون قراءتها، ويجتمعون لأجلها، ويذبحون ويطعمون، وينشدون الأشعار، وفوق ذلك صاروا يجعلون لكل من وُسِم بالصلاح عيدًا ليلة مولده أو ليلة موته، ويجتمعون لذلك، ثم يقرأون فيها قصصًا مؤلَّفة في أخباره مشتملة على أشياء يكذّبها كتاب الله تعالى وسنة رسوله، مِن دعوى علم الغيب وغيرها. وجعلوا لكل مَن يوسَم بالصلاح عيدًا في كل سنة يجتمعون عند قبره، وينحرون النحائر، إلى غير ذلك. ويرتكبون فيها كثيرًا من المحرّمات زاعمين أن ذلك الميّت يتحمّل ذلك عنهم، يعنون أن الله تعالى لا يؤاخذهم على ذلك إكرامًا له، إلى غير ذلك من المحدَثات التي ينكرها الدين والعقل. قال المجيزون: أما اتخاذ ليلتي المولد والمعراج عيدًا، فهذا من المحبّة له صلى الله عليه وآله وسلم، ومحبته شرط الإيمان.

(4/288)


قال المانعون: محبّته صلى الله عليه وآله وسلم التي هي شرط الإيمان هي أن يكون أحبّ إلينا من والدينا وأولادنا والناس أجمعين. والمحبّة شيءٌ في القلب يعلمه الله تعالى، وعلامتها المحافظة على ما يحبّه المحبوب، واجتناب ما يكرهه. وكلُّ مسلم يعلم أن أحبّ الأشياء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو التمسُّك بسنته والعضّ عليها بالنواجذ، وأن أبغض الأشياء إليه هو الإحداث في الدين والابتداع فيه. وصحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - قوله: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة». قال بعض الأئمة: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يردّد هذا الكلام في عامة خُطبه. وهذه الأمور التي أحدثتموها في باب [الدين] (1) لو كان في ذلك شيءٌ من القُربة لَأَمَر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته أو فعله أصحابه بعد وفاته، لكن تلك القرون الفاضلة مضت كلُّها وليس فيها من هذا شيءٌ، وإنما أُحدِث بعد ذلك، فهو محدَث ــ والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «شر الأمور محدثاتها» ــ وبدعة، وهو صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «كل بدعة ضلالة». قال المجيزون: فإنه يُقاس على العيدين والجمعة وعاشوراء مما ثبت اتخاذه عيدًا لوقوع نعمة من العامة فيه (2)، ولا شكّ أن ولادته ومعراجه صلى الله عليه وآله وسلم مِن أعظم النعم. _________ (1) شبه مطموسة في الأصل، وما أثبته مقدَّر. (2) كذا، ولعل المقصود: «من النِّعم العامة فيه».

(4/289)


قال المانعون: هذا الأمر محدَث قطعًا، فما معنى الاستدلال عليه؟ وما لكم وللاستدلال؟ فإنما أنتم مقلدون، وقد مضى (1) الأئمة الأربعة وغيرهم من المجتهدين على عدم هذا، فوجب عليكم أن تتمسكوا بمذاهبكم كما ألزمتم أنفسَكم. وعلى التنزُّل فهذا القياس باطل في ذاته أولًا، لعدة وجوه؛ منها: أن النِّعَم التي في العيدين والجمعة تتكرر بتكرُّرهما. وأما عاشوراء فإنه ليس بِعيد، وإنما نُدب صيامه فقط. وفي «الصحيح» (2) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصومه بمكة موافقةً لقريش فيما لم يبدّلوه من دين إبراهيم. وعلى هذا فلم يجدد له رؤية اليهودَ يصومونه حُكمًا. وبقية الوجوه تُعْلَم من تفصيل هذا القياس، ببيان الأصل والفرع والعلة وغير ذلك مما يطول ذكره ونحن في غنًى عن ذكره. ولمعارضته للسنة وإجماع الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين ثانيًا. [ص 2] ولو ساغ الاستدلال بهذا القياس لاتُّخِذَت أيام السنة كلها أعيادًا. والحاصل أن بطلان هذا الاستدلال من أوضح الواضحات (3). قال المجيزون: فإن الاجتماع في هذه الليالي داخل تحت عموم الاجتماع للذِّكْر وتعلّم العلم وغير ذلك. _________ (1) تحتمل «قضى». (2) البخاري (1893) ومسلم (1125). (3) كلمة غير واضحة ولعلها ما أثبت.

(4/290)


قال المانعون: الاجتماع الذي ينبغي دخوله تحت العموم هو ما كان يقع مثله في عهده صلى الله عليه وآله وسلم، ثم في عصر أصحابه ومَن بعدهم من القرون الفاضلة، وهو مطلق الاجتماع الذي لا يُتحرّى له هيئة مخصوصة، ولا ذكر مخصوص ولا يوم مخصوص من أيام السنة، فهذا هو الذي يصلح لدخوله تحت عموم الأمر بالاجتماع للذكر. فأما الجمعة والعيدين فإنها ثبتت بأوامر خاصة. وفوق هذا فإن الهيئة والذكر المخصَّصان للمولد محدَثان أيضًا، فإن ما تسمونه ذِكرًا هو قصة مشتملة على الآثار الموضوعة والضعيفة، والهيئة تشتمل على إنشاد القصائد بالألحان والترجيع، وغير ذلك. وبعضهم يزيد مع ذلك الضرب بالدفوف. قال المجيزون: أما قولكم: إنها مشتملة على الآثار الموضوعة والضعيفة، فلا نُسَلِّم أن فيها الموضوع، وأما الضعيف فمسلَّم، ولكن قال العلماء: إنه يُعمل بالضعيف في الفضائل ونحوها من القَصَص والمواعظ، ويجوز روايته بدون بيان ضعفه. وأما إنشاد القصائد بالألحان، فهذه مسألة مشهورة، قد تكلم عليها الغزالي وغيره، وقد ثبت إنشاد الشعر والضرب بالدفوف بحضرته صلى الله عليه وآله وسلم. قال المانعون: أما بيان ما في تلك القصص من الموضوعات [فلن] نتفرَّغ له الآن، ولعلّنا نتفرّغ له في وقت آخر إن شاء الله تعالى. وأما العمل بالضعيف فله شروط أشار إلى بعضها النووي

(4/291)


في «التقريب» واستدرك السيوطي في شرحه زيادة عليها (1). فمنها: أن لا يكون في العقائد ولا في الأحكام. ومنها: أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج مَن انفرد من الكذّابين والمتهمين بالكذب ومَن فَحُشَ غلطُه. ومنها: أن يندرج تحت أصل معمول به. ومثاله: جمع كثير من الأئمة أربعين حديثًا عملًا بما رُوي عن أبي الدرداء قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما حدُّ العلم الذي إذا بلغه الرجل كان فقيهًا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن حفظ على أمتي أربعين حديثًا في أمر دينها بعثه الله فقهيًا، وكنت له يومَ القيامة شافعًا وشهيدًا» رواه البيهقي في «شعب الإيمان» (2). وهو حديث ضعيف، ولكن كثير من الأئمة جمعوا أربعينات؛ لأنهم رأوا أنه مما لا خلاف فيه: أن جمع سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أعظم القُرُبات بأيّ عددٍ كان، وهذا أصل معمول به بلا خلاف، وهو يشتمل ما إذا كان المجموع أربعين أو أقل أو أكثر، فمَن جمع منهم أربعين كان عاملًا بهذا الأصل الصحيح وملاحظًا العمل بذلك الحديث الضعيف، أي: إن كان صحيحًا في نفس الأمر فقد عمل به، وإلا فهو عامل بالسنة قطعًا، لدخول عمله تحت ذلك الأصل المعمول به. [ص 3] والحاصل: أن عملهم بالحديث الضعيف ليس إلا في تعمد عدم _________ (1) «التقريب» (1/ 351 مع شرحه «التدريب»). وانظر رسالة الشيخ في حكم العمل بالحديث الضعيف ضمن «مجموع الرسائل الحديثية» في هذه الموسوعة. (2) (1597).

(4/292)


النقصِ عن الأربعين، وقد يكون اقتصارهم على الأربعين لشغل كانوا فيه، أو ليفهموا الناس أنهم عملوا بهذا الحديث الضعيف، وإلا فليس في الحديث أن مَن زاد على الأربعين لا ينال ذلك الفضل، بل هو مُفهم بفحوى الخطاب: أن مَن زاد على الأربعين كان أولى بذلك الفضل وزيادة. والله أعلم. ومن الشروط: أن لا يعتقد عند العمل به ثبوتَه. وقال النووي قبل هذا: وإذا أردت رواية الضعيف بغير إسناد فلا تقل: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا، وما أشبهه من صيغ الجزم، بل قل: رُوِي كذا، وبلغنا كذا، أو: وَرَد، أو: جاء، أو نُقِل، أو ما أشبهه، وكذا ما يُشك في صحته. انتهى. وتلك الآثار التي ننتقدها عليكم ليست مُستكملة للشروط، بل منها ما هو في العقائد، ومنها ما ضعفه شديد، ومنها ما لا يندرج تحت أصل معمول به، بل فوق ذلك هو معارض للآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة. وأيضًا فالعامة عندما يسمعون ذلك يعتقدون ثبوته، مع كون مؤلفي القَصَص يحكونه بصيغة الجزم. وهَبْهُم حَكوه بصيغة التمريض، فإن ذلك لا يكفي في حق العوام بخلاف [ص 4] العصور التي أُجيز فيها رواية الضعيف بشروطه، والاكتفاء بحكايته بصيغة التمريض عن التصريح بضعفه، فإن الناس كانوا حينئذٍ يعرفون الفرقَ بين صيغة التمريض وصيغة الجزم، فيفهمون أن الحاكي بصيغة التمريض غير قائل بصحة ذلك الأثر. فأما في هذه الأعصار فإنه بعد وجود الشرائط كلِّها لابد من الإشارة إلى عدم الجزم بصحة الحديث إشارةً يفهمها العامة، فإن الاقتصار في الإشارة على صيغة التمريض يوقع القاصَّ وسامعيه في الخطر.

(4/293)


أما القاص فلأنه حكى لهم الحديث الضعيف حكايةً يفهمون منها أنه صحيح، فقد أخذ بنصيبه من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأما السامعون فلأنهم يفهمون أن تلك الآثار صحيحة فيعتقدون مضمونها وأنها صحيحة، ويبادرون بتضليل كلِّ مَن سمعوه يقول: إنها ضعيفة، فينتهكون بذلك حُرمة الدين وحرمة علماء الدين بالوقوع في أعراضهم، وربما استجراهم الشيطان إلى أذيتهم في أنفسهم (1). وهذا فيما يتعلّق بالآثار المتعلقة بشيء من أحوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أما الآثار المتعلقة بمن يُعرف بالخير والصلاح، فالأمر فيها أشد، إذا كان فيها ما يكذّبه القرآن؛ فيكون اعتقادها كفرًا والعياذ بالله تعالى. وأما إنشاء القصائد بالألحان، وقولكم: إنه قد ثبت مثل ذلك، وضربُ الدفوف بحضرته صلى الله عليه وآله وسلم، فنعم قد وقع شيء من ذلك بحضرته صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن لا على أنه من الدين ولا علاقة له بالدين، بل على أنه من الأمور الدنيوية التي تباح في أوقات مخصوصة، يُباح فيها الإقبال على أمور الدنيا وزينتها، فأخرجا في «الصحيحين» (2) عن عائشة أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى، تدفّفان، وتضربان، وفي رواية: تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم متغشٍ بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن وجهه، فقال: «دعهما يا أبا بكر؛ فإنها أيام عيد»، وفي رواية: «يا أبا بكر إن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا». _________ (1) كلمة مطموسة ولعلها ما قدَّرت. (2) البخاري (987)، ومسلم (892).

(4/294)


فالجاريتان إنما كانتا تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، وليس في ذلك مِن ذكر الله ولا الصلاة والسلام على رسوله شيء، ومع ذلك فإن نهي أبي بكر لهما واضح الدلالة على أنه كان يعلم النهي عن مثل ذلك، وظن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم به لكونه نائمًا، فنهاهما، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: «دعهما فإنها أيام عيد». فقوله: «فإنها أيام عيد» علةٌ لقوله: «دعهما». وفي هذا تقرير منه صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر على [ص 5] النهي فيما عدا ما تتناوله العلة. ومقتضى الكلام أن ما تعلمه من النهي عن مثل هذا صحيح، إلا أنه مقيدٌ بأن لا يكون في أيام العيد، فإن أيام العيد يشرع فيها إظهار الزينة والتبسُّط في الأمور الدنيوية التي من شأنها ترويح النفس، كلبس الجديد، والتطيُّب، والتنظّف، ونحو ذلك. والحاصل أن الذي يدل عليه الحديث دلالة واضحة: أن التدفيف والغناء بما فيه ذكر الحرب ونحوه غير جائز، إلا أنه يترخّص فيه أيام العيد، فهو دليل على أن ذلك مجرد رخصةً رخّص فيها صلى الله عليه وآله وسلم لزوجته وأقرَّها عليه، كما أقرها على اللعب بالبنات، ففي «الصحيحين» (1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنتُ ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل ينقمعن منه، فيسرّبهن إليَّ فيلعبن معي. وفي «سنن أبي داود» (2) عنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة تبوك أو حنين، وفي سهوتها ستر، فهبَّت ريح فكشفت ناحيةَ _________ (1) البخاري (6130)، ومسلم (2440). (2) (4932). وأخرجه النسائي في «الكبرى» (8901)، والبيهقي: (10/ 219).

(4/295)


السّتر عن بناتٍ لعائشة لعب، فقال: «ما هذا يا عائشة؟» قالت: بناتي. ورأى بينهن فرسًا له جناحان من رقاع، فقال: «ما هذا الذي أرى وسطهنّ»؟ قالت: فرس. قال: «وما هذا الذي عليه». قالت: جناحان: قال: «فرس له جناحان!». قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلًا لها أجنحة؟ قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه. ثم إنَّ فِعْل مثل ذلك في أيام العيد حسنٌ لثبوت الرخصة، وأما في غيرها فالأصل المنع إلا ما ثبت بدليل. كالعرس، [ص 6] ففي «صحيح البخاري» (1) عن خالد بن ذكوان عن الرُّبيِّع بنت معوّذ بن عفراء قالت: جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين بُني عليَّ فجلس على فراشي كمجلسك مني، فجعلتْ جُويريات لنا يضربن بالدف، ويندبن من قُتِل من آبائي يوم بدر إذ قالت إحداهن: «وفينا نبيّ يعلم ما في غد» فقال: «دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين». ثم إن إبدال أشعار الحرب بما فيه ذِكْر لله تعالى، وإبدال أيام العيد والعرس بمجامع الذكر، وإبدال البيوت بالمساجد، وإبدال الترخّص بذلك، واعتقاد كونه من الزينة التي يُترخّص بها أيام العيد والعرس باعتقاد كونه عبادة= لا يخفى أنه من أفحش البدع. وأما ما زعمه بعضُهم من أن أوقات قراءة قصة المولد هي من أوقات الأفراح، بل هي أعظم الأفراح بذكرى ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته؛ فتقاس على أيام العيد والعرس وغيرها من أيام الأفراح؟ _________ (1) (4001 و 5147).

(4/296)


فالجواب: أنَّ هذا باطل لوجهين: الأول: أن أيام العيد والعرس والختان هي أوقات أفراح أسبابُها حادثة، وأما قراءة قصة المولد فإنما هي ذكرى فرح قد مضى وقت سببه. وما مثل ذلك إلّا مثل من أنشأ قصيدة [ص 7] في ذكر عرسه، أو ذكر ختان ولده، وصار ينشدها كل يوم، ويدفّف عليها بحجة أنها متعلقة بعرس أو ختان. فإن قيل: فإن في ذِكْر ولادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم زيادة فرح. قلنا: وكذلك في ذكرى العرس، وختان الولد، وعلى كل حال فبطلان القياس واضح. الوجه الثاني: أن المسألة من أصلها محدَثة. قالوا: وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن امرأة قالت: يا رسول الله، إني نذرتُ أن أضرب على رأسك بالدفّ، قال: «أوفي بنذرك» رواه أبو داود (1). قلنا: قد أسلفنا أن ضرب الدف في أوقات الفرح مما يترخّص به، ويبين هذا الحديث ما أخرجه الترمذي (2) من حديث بريدة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله، إني كنت نذرت إن ردَّك الله صالحًا أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنّى. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن _________ (1) (3312)، من طريقه البيهقي: (10/ 77). (2) (3690). وأخرجه البيهقي: (10/ 77).

(4/297)


كنتِ نذرتِ فاضربي وإلا فلا» فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عليّ وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، ثم دخل عمر فألقت الدف تحت استها، ثم قعدت عليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، إني كنت جالسًا وهي تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، فلما دخلتَ أنتَ يا عمر ألقت الدُّف» رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. أقول: والآثار الواردة في النذر تدل أنَّه يلزم فيما عدا المعصية، وما لا يُطيقه أو كان فيه مشقة شديدة، فيدخل في هذا نذر المباح، وخلاف الأَوْلى بل المكروه فيما يظهر. ففي «سنن أبي داود» عن ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينحر إبلًا ببوانة، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعبد؟ » قالوا: لا، قال: «فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ » قالوا: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم». وأنت خبير أن السفر إلى بوانة ــ على فرض كون الرجل لم يكن ساكنًا بها وهو الظاهر ــ فيه لولا النذر إتعاب للنفس لغير غرضٍ شرعيّ، وهذا لا يبعد أن يكون مكروهًا. ثم إن العدول عن نحر الإبل في الحرم خلاف الأولى، ولاسيّما والصدقة على فقراء الحرم أولى من الصدقة على فقراء بوانة. وحديثُ السوداء ظاهر في أن الفعل الذي نذَرتْه منهيّ عنه، لولا النذر؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وإلا فلا». أي: وإن لم تكوني نذرت

(4/298)


فلا تضربي. [ص 8] والنهيُ حقيقة للتحريم. فظاهره: أنها إن لم تكن نذرت حرم عليها ذلك الفعل، لكن النهي مصروف عن ظاهره، بدليل الإذن لها بالفعل إن كانت نذرته. وقد عُلم من الأحاديث الصحيحة أنه لا يلزم النذر في معصية الله تعالى، فتبقى الكراهة. فالظاهر ــ والله أعلم ــ أن ذلك الفعل الذي نذَرَتْه مكروه في نفسه، ولكنه جاز للنذر. ويؤيّد هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الشيطان يخاف منك يا عمر» إلخ، إلى أن قال في بيان علة أن الشيطان يخاف من عمر: «فلما دخلتَّ أنتَ ألقت الدفّ». وهذا واضح في أنّ في فعلها ذلك نصيبًا للشيطان. وبهذا يظهر أن قدوم الغائب ونحوه ليس مما يُشْرَع فيه التدفيف إلا أن يُنْذَر. وأنه إن نذر في مثل ذلك شُرع الوفاء به وفاءً بالنذر، وإن كان فيه للشيطان نصيب. هذا ولا يخفى أن قدوم الغازي سالمًا سبب من أسباب الفرح، فلا يدلّ كون التدفيف في مثله غير معصية على كونه غير معصية مطلقًا. ومع هذا فقدومه صلى الله عليه وآله وسلم من الغزو سالمًا سبب للفرح حدَثَ حينئذٍ، فلا يُقاس عليه نحو المولد والمعراج؛ إذ ليس هذا إلّا مجرد ذكرى كما مرَّ. ومع هذا فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال حياته كثيرًا ما تعرض بحضرته الأشياءُ الجِبلِّية، فيعمل فيها ما يقتضيه الحال من الأفعال المباحة في مثل تلك الأحوال. وأما بعد وفاته فإن ذكره متصل بذكر الله تعالى لا ينفكّ عنه، فيجب أن يُراعى عند ذكره ما يُراعى عند ذكر الله تعالى من الأدب والرغبة فيما عند الله تعالى، ومراعاة ما كان يُراعى في عهده

(4/299)


صلى الله عليه وآله وسلم في مواطن الذكر. هذا في ما كان موافقًا للسنة من ذكره صلى الله عليه وآله وسلم. فأما ما لم يكن موافقًا فإنه خطأ من أصله. وقد بقيت آثارٌ غير ما سبق يتمسَّكُ بها المجيزون، وفيما قدمناه ما يُعلم به الجواب عليها. ومما يحتاج إلى ذكره هاهنا: أن هؤلاء القوم يستدلّون على جواز الرقص بحديثِ حُكمِه صلى الله عليه وآله وسلم في حضانة ابنِ عمِّه حمزة، وفيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: «أنت مني وأنا منك»، ولجعفر: «أشْبَهتَ خَلْقي وخُلُقي»، ولزيد: «أنتَ أخونا ومولانا»، وأنّ كلًّا منهم حَجَل عند ذلك (1). والجواب: أن الحجل هو عبارة عن رفع إحدى الرجلين والحفز على الأخرى. وهذا وإن كان من الحركات غير الاعتيادية، فليس هو من الرَّقْص في شيء، ومع ذلك فإنه من الأفعال الجِبِلّية [ص 9] التي الأصل فيها الإباحة، وعَرَض لهؤلاء الثلاثة فعله، لِمَا داخل كلًّا منهم من الفرح بتلك البشارة، وغايةُ ما يُستفاد من الحديث إباحة ذلك في مثل ذلك الحال. كما يستفاد من الأحاديث المذكور فيها الضحك: إباحة الضحك فقط، وكما يستفاد من حديث مسابقته صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة (2) على (3) مجرد الجواز. _________ (1) أخرجه البخاري (2699) بدون قصة الحجل، وبها أخرجه أحمد (857)، والبزار (744)، وهي زيادة ضعيفة منكرة. (2) حديث مسابقته - صلى الله عليه وسلم - لعائشة أخرجه أبو داود (2578)، والنسائي في «الكبرى» (8894)، وابن ماجه (1979)، وأحمد (24981 و 25488)، وهو حديث صحيح. (3) كذا في الأصل، والعبارة تستقيم بحذف «على».

(4/300)


والحاصل أنّ استدلالكم بهذا الحديث باطل من وجوه: الأول: أنهم إنما حجلوا ولم يرقصوا. والحَجْل دليل الشدة والرجولية، بخلاف الرقص والتثنِّي. الثاني: أن ذلك جرى منهم من باب الأفعال الجِبِليَّة، كالضحك. فلا يجوز اتخاذ ذلك عبادة. الثالث: أنهم في ذلك الوقت ــ وإن كانوا بحضرته صلى الله عليه وآله وسلم ــ لم يكونوا في ذكر لله تعالى. بل كانوا في محاورة معه صلى الله عليه وآله وسلم، والمحاورةُ معه حيًّا يُضْطَر معها إلى وقوع كثير من الأشياء الجِبِلّية، كالضحك وغيره. ولاسيَّما وكانوا في سفر، والسفر مما يترخّص فيه بمثل هذا ترويحًا للنفس من مشقَّته. ومن هذا مسابقته صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة في بعض أسفاره (1). فأما الذكر وسَماع العلم فإن السنة فيه: الخشوع والخضوع والإخبات، وقد ورد في بيان الإحسان: «أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (2). ومن الواضح أن المؤمن إذا استشعر بأنَّ الله يراه كانت عبادته على تمام الخضوع والسكون. بخلاف ما لم يكن عبادة، كحال عليّ وجعفر وزيد. الرابع: أن هذا وقع مرةً واحدة في عهده صلى الله عليه وآله وسلم، وأما في الفعل المطّرد في طول عهده فهو كما ورد في وصفهم: كأنما على _________ (1) سبق تخريجه قريبًا. (2) أخرجه البخاري (50)، ومسلم (8) في حديث جبريل الطويل.

(4/301)


رؤوسهم الطير. نعم، الحديث يدلّ على أن مثل ذلك الفعل في مثل تلك الحال جائز. كأن يكون أحدنا مسافرًا فيلقى أحدًا يبشره بما يسرّه، فأما في غير ذلك فلا. وبهذا وغيره تبيَّن أن اعتيادكم للرقص عند الذكر بدعة قبيحة، وإلى الله المشتكى. واستدلوا أيضًا بحديث لعب الحبشة بحرابهم (1)، ولا دليل في هذا؛ لأنه من تعلُّم هيئة القتال. واستدلوا أيضًا بحديث الترمذي (2) عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسًا فسمعنا لَغَطًا وصوت صبيان، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا حبشيّة تُزْفِن والصبيان حولها .. الحديث إلى أن قالت: إذ طلع عمر فارفضَّ الناسُ عنها. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إني لأنظر إلى شياطين الجن والإنس قد فرُّوا من عمر». [ص 10] والجواب: أن هذا من باب اللعب واللهو الذي ليس بحرام بدليل إذنه صلى الله عليه وآله وسلم أن تنظر إليه وهي حينئذٍ (3) صبية صغيرة تستأنس إلى ما يلهو به الصبيان، كما ورد في لعبها بالبنات وغير ذلك. وقالت في حديث لعب الحبشة: فاقدروا قدر الجارية حديثة السن، _________ (1) أخرجه البخاري (5190) ومسلم (892) من حديث عائشة رضي الله عنه. (2) (3691) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وأخرجه النسائي في «الكبرى» (8908). (3) في الأصل: «ح» اختصارًا لـ «حينئذٍ».

(4/302)


الحريصة على اللهو. ولكن قوله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر الحديث: «إني لأنظر إلى شياطين الجن والإنس قد فروا من عُمر» يدلُّ على الكراهة. وإنما أقره صلى الله عليه وآله وسلم بيانًا للجواز. وفيه مع ذلك نحوٌ مما تقدم. وما أقبحَ الجهلَ والعنادَ! فِعْلٌ من الأفعال الجِبلّية معلوم بالضرورة أنه من اللهو واللعب وإنما وقع التقرير عليه مرة أو مرتين لبيان الجواز، فيجيء هؤلاء القوم يجعلونه من العبادة التي شرع الله تعالى لخلقه أن يستعملوها عند ذكره. وما أسوأَ هذا الفعلَ حيث يُقرَن بين ذكر لله تعالى وبين هذه الأفعال التي هي من اللهو واللعب! فما أجرأ من يفعل ذلك على الله تعالى، وأجْهَلَه بالأدب معه سبحانه وتعالى! بل ما أوهنَ إيمانَه؛ فإن كمال الإيمان الإحسان، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. والخلاصة: أننا نقول لهؤلاء القوم: النزاعُ بيننا وبينكم في التطريب والتدفيف والرقص عند ذكر الله تعالى، والتزامُ ذلك دائمًا وعدُّه من وظائف العبادة وشرائط الذكر؛ هل كان الأمر عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو عهد أصحابه، أو عهد التابعين، وتابيعهم من المجتهدين وغيرهم، أو لا؟ وعلى التنزُّل فهل ورَدَ في دليلٍ صحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فَعَل التطريبَ، أو التدفيفَ، أو الرقص في وقت ذكر الله تعالى، أو أذِنَ فيه، أو أقرّ عليه؟ كلّا، لم يكن شيء من ذلك. وهذا كافٍ في الدلالة على أن ما يفعله هؤلاء القوم مُحْدَث، وكلّ محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وإلى الله المتشكى وعليه المتكل وهو غني عن العالمين. * * * *

(4/303)


[ص 11] الحمد لله بعد هذا قرأت في «تاريخ المحبّي» (1) في ترجمة إبراهيم الصمادي الواعظ ما لفظه: «ومنهم مسلم الكبير مذكور في نسبهم (2)، وهو صاحب الطبل المستقرّ عندهم من نحاس أصفر كان معه في فتح عكة يضربون به عند سماعهم ووَجْدهم، وقد سُئل كثير من العلماء عنه فأفتى البدر الغزي والشمس بن حامد والتقوي ابن قاضي عجلون بإباحته في المسجد وغيره قياسًا على طبول الجهاد والحجيج؛ لأنها محركة للقلوب إلى الرغبة في سلوك الطريق، وهي بعيدة الأسلوب عن طريقة (3) أهل الفسق والشر». أقول: قوله: لأنها محركة للقلوب ... إلخ، يريد أن ذلك هو العلة المبنيّ عليها القياس، وهي الترغيب والتنشيط لسلوك ما في سلوكه مشقة من الخير. والجواب: بمنع كون هذا الوصف هو العلة في الأصل. لِمَ لا تكون العلة هي قصد اهتداء من ضلّ من المجاهدين والحجاج؛ لأن المسافرين مع كثرتهم يتخلّف بعضهم لقضاء حاجته، ويعيى بعض المشاة، وتعيى دابّة بعض الركبان، وتشرد بعض دوابهم، ويعرِّس بعضهم وراء الجيش، ويبتعد بعضهم في طلب الماء أو طلب الظلّ في الهاجرة، أو طلب الطريق إذا ضل الدليل، وغير ذلك. ويعرض لهم ذلك دائمًا، فلا يكفي مجرّد التصويت لدفعه= لا جَرَم رُخِّص لهم في التطبيل. _________ (1) وهو «خلاصة الأثر»: (1/ 50). (2) الأصل: «نِسبتهم» والمثبت من المصدر. (3) الأصل: «طريق» والمثبت من المصدر.

(4/304)


ولو سُلّم أن في الوصف الذي ذكره مناسبة، فَلَنا أن نمنع كونه تمام العلة، لِمَ لا تكون العلة مجموع الوصفين، أي ما ذكره هو من التنشيط والترغيب وما ذكرناه نحن من الإعلام. ولو تنازلنا بتسليم أن مجرّد الوصف الذي ذكره علة تامة، فيُعترض بأن المشقة وصف غير منضبط. ولو تسامحنا في هذا، فهي في الفرع أقلُّ مناسبة من الأصل؛ إذ مشقة السفر أشدّ من مشقة ذكر الله تعالى. ولو تغاضينا عن هذا فيُعارَض بأن التطبيل بأي كيفية كان ظاهرٌ في قصد اللعب، وإباحته في سفر المجاهدين والحجاج لتخفيف المشقة لا يعارضها شيء، بخلافه في حالة الذكر والمساجد، فإنه يعارضه أن فيه انتهاك الحُرْمة. ففي «صحيح مسلم» (1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردّها الله عليك، فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا». هذا مع أن نَشْد المرء لضالته مما ينبغي له؛ لما في تركه من تضييع المال. ونشد الضالة في المسجد له مناسبة لاجتماع الناس فيه، ولاسيَّما وقد يكون للمسجد أبواب، وإذا خرج الناس من المسجد اختلطوا وتكلموا، فوقعت الضوضاء فلا يقوم النّشْد خارج المسجد مُقامه داخله والناسُ مجتمعون هادئون. ومع ذلك فالمنع من ذلك عام، وأين هذا من التطبيل؟ ! وفي «صحيح البخاري» (2) عن السائب بن يزيد قال: كنتُ قائمًا في _________ (1) (568). (2) (470).

(4/305)


المسجد فحصبني رجل، فنظرت، فإذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، فقال: ممن أنتما، أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ليت شعري لو رأى عمر هؤلاء الناس في بعض بيوت الله يضربون بطونهم ويرقصون ويصفقون ويغنون بالألحان، ويحرفون ذكر الله تعالى، ويذكرونه بما لم ينزل به من سلطان، ما كان يقول لهم؟ ! ثم إن في التطبيل تشتيت ذهن الذاكرين وغيرهم من المصلين، والمقصود من الذكر [ص 12] الإقبال على الله تعالى، وتصوّر معاني الذِّكر، والتخلّي عن سائر الشواغل والخواطر. فإن زعموا أنه لا يشغلهم ذلك عن الذكر فقد كذبوا، فقد كان القرآن يشغل الصحابة رضي الله عنهم عن الصلاة، ولذلك ورد: «لا يَشغَلنَّ قارئُكم مُصلّيكم» (1) وما في معناه. وفي «الصحيحين» (2) عن عائشة قالت: صلَّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها _________ (1) ذكره العجلوني في «كشف الخفاء»: (2/ 509، 234) بلفظ: «لا يشوّش ... » ونقل عن النجم (الغزي) قوله: لا يعرف بهذا اللفظ. ونقل السخاوي في «المقاصد» (ص 361) عند كلامه على حديث: «ما أنصف القارئ ... » عن الحافظ ابن حجر قولَه: «يُغني عنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن» وهو صحيح من حديث البياضي في الموطأ [29] وأبي داود». وهو في «المسند» (19022). (2) البخاري (373)، ومسلم (556).

(4/306)


نظرة، فلما انصرف قال: «اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وائتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتْني آنفًا عن صلاتي». ومثل هذا في السنّة كثير. مع أن أكثر المريدين الذين يحضرون الذكر من العامة الذين جلّ همهم التفرّج واللعب، وربما كان لبعضهم أغراض فاسدة، نسأل الله تعالى السلامة. ومع التجاوز عما ذُكر، فنسأل المفتين هل يطردون علَّتهم في كل ما يطلب فيه الترغيب من الخير، كصلاة الجمعة والجماعة، وقراءة القرآن وتعلّم العلم وغير ذلك، فيكون المؤذّن يحضر معه طبلًا يطبّل به بعد الأذان ليرغّب الناسَ في الحضور. وعند الصلاة يؤتى بصبيان يطبلون لترغيب المصلين وتنشيطهم ولاسيّما في قيام رمضان، ويصنع ذلك في المسجد الحرام ومسجد النبي عليه الصلاة والسلام، ومسجد بيت المقدس، وغيرها من المساجد، فيصبح الدين مكاءً وتَصْديَة، ولاسيّما إذا ضموا إلى ذلك الغناء بالألحان والأصوات الحسان ليكون ذلك أبلغ في الترغيب والتنشيط قياسًا على الحَدْوِ في السَّفَر. فإن استحيوا من الله تعالى ومِن رسوله وكتابه ومِن المسلمين، فذلك المطلوب، وإن ارتكب المفتون ما يقتضي الطرد، قلنا لهم: فإن حكم الصلوات والجُمَع والجماعات والاجتماعات لقراءة القرآن وتعلّم العلم والاجتماع للذّكر الذي هو الفرع المتكلَّم فيه في مسألتنا معلوم من السنة المتواترة والإجماع المقطوع به المطبق عليه في القرون الثلاثة الفاضلة، وعدّة قرون بعدها= وهو حرمة التطبيل في شيء من ذلك، مع وجود الاجتماعات للذكر وغيره ووجود الطبول ووجود قصد الترغيب.

(4/307)


فلو فُرِض انتظام القياس لكان معارضًا بالسنة المتواترة والإجماع القطعي، فكيف يعتبر والسنة تَثبت بالترك كما تَثبت بالفعل؟ قال الشوكاني في «إرشاد الفحول» (1): «تركه صلى الله عليه وآله وسلم للشيء كفعله في التأسّي به فيه، قال ابن السمعاني: إذا ترك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شيئًا وجب علينا متابعته فيه، ألا ترى أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما قُدِّم إليه الضبّ فأمسك عنه، وترك أكله= أمسك عنه الصحابة وتركوه إلى أن قال لهم: «إنه ليس بأرض قومي فأَجِدُني أعافه» وأَذِن لهم في أكله ... » إلخ. ولو أردنا استيفاء ما يتعلق بالمقام لطال الكلام ولكن فيما ذكرناه كفاية، فقد أبطلنا ذلك القياس ببضعة أوجه، كل واحد منها كافٍ في المطلوب، وأنه تبين لكل عاقل أن التطبيل في المسجد أو عند الذكر بدعة ضلالة. والله المسؤول أن يهدينا وسائر المسلمين ويوفّقنا لاتباع سراطه المستقيم. _________ (1) (1/ 225).

(4/308)


 المسألة الثالثة النداء للغائبين والموتى وغيرهم

• تمهيد. • المقام الأول: علم الغيب. • المقام الثاني: في تصرُّف بعض بني آدم في الكون. • المقام الثالث: النداء والطلب.

(4/309)


(1) [231] إذا تقرَّر ذلك فلا يخفى أنه قد شاع بين الناس النداءُ للغائبين والموتى، والطلبُ منهم ومن الحاضرين ممن يُعرف بالصلاح للأشياء التي لا يقدر عليها البشر عادةً. والكلامُ على هذا يستدعي النظر في ثلاثة مقامات: الأول: في الاطلاع على الغيب. الثاني: في قدرة بعض البشر على التصرّف في الكائنات بما لا يقدر عليه البشر عادةً. الثالث: في النداء والطلب. * * * * _________ (1) لم نعثر على ما قبلها من الكلام، ولا ندري ما مقدار النقص في هذا الموضع.

(4/311)


 [*1] (1) المقام الأول علم الغيب

العلم والمراد به القطعي ثلاثة أقسام: القسم الأول: العلم الذاتي، وهو علم الله سبحانه وتعالى، ويلحق به علم المخلوق المُدرِك له بذاته بسببٍ عاديّ، أي: لا باستناده إلى إخبار غيره له، ولا باستناده إلى سببٍ غير عاديّ. القسم الثاني: العلم الخارق، أي المستند إلى سببٍ غير عاديّ، أو إلى سببٍ عاديّ ولكن بكيفية غير عادية. القسم الثالث: العلم الخبري، أي المستند إلى الإخبار. والغيب: عبارة عما غاب عن إدراك المخلوق له بعلمه الذاتي عادةً، وهو قسمان: الأول: ما هو غائب عن الخلق كلهم عادةً. الثاني: ما يختلف باختلاف الخلق، بأن يكون غيبًا بالنظر إلى مخلوق، غيرَ غيبٍ بالنظر إلى آخر. فالصور ست: الأول: العلم الذاتي بما هو غيب عن جميع الخلق عادةً. _________ (1) هذا الترقيم المسبوق بـ (*) هو لمجموعة من الأوراق تتعلق بكتابنا هذا وجدناها في مجموع آخر برقم (4707). كما استفدنا من هذا المجموع في مواضع أخرى كما بينّاه في مقدمة التحقيق.

(4/312)


الثانية: العلم الذاتي بالأشياء التي تختلف باختلاف الخلق. الثالثة: العلم الخارق بما هو غيب عن جميع الخلق عادةً. الرابعة: العلم الخارق بالأشياء التي تختلف باختلاف الخلق. الخامسة: العلم الخبري بما هو غيب عن جميع الخلق عادة. السادسة: العلم الخبري بالأشياء التي تختلف باختلاف الخلق. فأقول مستعينًا بالله عزَّ وجلَّ (1): [*2] الصورة الخامسة: العلم الخبريّ بما هو غيب عن جميع الخلق. لا يخفى أن العلم الخبري إنما يحصل بأحد خمسة أمور: الأول: بخطاب الله جل جلاله للمخلوق مباشرةً من وراء حجاب. الثاني: بخَلْقه العلمَ الضروريَّ في القلب. الثالث: بخطاب المَلَك المعلومُ أنه مَلَك. وهذه الثلاثة هي الواردة في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51]. الرابع: بخطاب النبيّ. الخامس: بإخبار عدد التواتر. _________ (1) لم نجد الكلام على الصور الأربع الأولى، وما وجدناه يبدأ بالكلام على الصورة الخامسة.

(4/313)


أما الأول والثاني، فإنه في الدنيا كالصورة الرابعة يعمّ وقوعه للأنبياء جميعهم، ولبعض الملائكة، ويدّعيه بعضُهم لبعض الأولياء، وفي الآخرة لجميع المؤمنين. والله أعلم. وأما الثالث، فإنه يقع في الدنيا للأنبياء جميعهم وللملائكة؛ بأن يخبر بعضُهم بعضًا، وليس فيه ما يقع للشياطين التي تسترق السمع كما سيأتي (1)، ويدّعي بعضُهم وقوعَه للأولياء، وسيأتي الكلامُ فيه إن شاء الله تعالى (2). وأما في الآخرة فإنه يقع لجميع الناس. فإن قيل: فظاهر القرآن وقوعه؛ وقع لحوّاء إذ كانت في الجنة، ولإبليس إذ كان في الجنة. قلت: الله أعلم هل كان خطاب حوّاء مباشرة أو بواسطة آدم؟ وهل كان خطاب إبليس مباشرة أو بواسطة بعض الملائكة؟ فإن ثبت وقوعُه مباشرةً فهما حينئذٍ في الجنة، وقد تقدّم أنه يقع في الآخرة لجميع أهل الجنة. والله أعلم. وأما الرابع، فإنه ممكن لكلّ مَن لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته، سواء في الدنيا أو في الآخرة، فأمّا مَن لقيه في الرُّؤيا فإن إخباره حينئذٍ لا يحصِّل العلم كما سيأتي إن شاء الله تعالى (3). ويدّعي بعضُ الأولياء الاجتماع بالنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد _________ (1) (ص 344 - 348). (2) (ص 341 - 344). (3) (ص 328 وما بعدها).

(4/314)


موته يقظةً، وهذا إن صحّ فهو في حكم الرؤيا، فلا يحصُل بإخباره العلم كما سيأتي إن شاء الله تعالى (1). وأما الخامس، فهو ممكن لكل أحدٍ. وأما ما قد يقع بواسطة الخارقة، كإخبار الطفل الذي لم يبلغ حدَّ النُّطق، وإخبار الحيوانات غير الناطقة، وإخبار الجمادات= فإنّ ذلك لا يحصّل للمُخْبَر العلم القطعيّ بصدق الخبر، لتطرّق الاحتمالات إلى جميع ذلك فتأمّل. وكذا ما يقع من إخبار الجن للكُهّان ومَن في معناهم، وما يقع من إخبار النائم في التنويم المغناطيسي، فإنه لا يحصِّل القطع أيضًا. * * * * _________ (1) (ص 328 وما بعدها).

(4/315)


[فصل في أنه لا يعلم الغيب إلا الله، ولا يعلمه لا نبي ولا ولي] [*3] (1) قال الله تعالى لرسوله: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50]، وقال له: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} الآية [الأنعام: 57 - 59]. وقال له: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188]. والعلمُ المنفيُّ في هذه الآية يتناول العلمَ الذاتيّ، ويتناول الإظهار على جميع الغيب؛ بدليل قوله: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ}. واستكثارُ الخير وعدمُ مسّ السوء لا يتوقّف إلّا على مطلق المعرفة بالغيب، سواء بالعلم أو بالاطلاع، فتأمَّل. وحكى سبحانه وتعالى عن نبيه نوح مثل ذلك، وذلك قوله تعالى: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} [هود: 31]. _________ (1) من هنا وجدنا هذا المبحث في اختصاص علم الغيب بالله تعالى في المجموع المشار إليه سالفًا رقم [4707].

(4/316)


وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} الآية [الإسراء: 36]. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 25 - 28]. دلّت هذه الآية أنه سبحانه وتعالى وحدَه عالمُ الغيب فلا يُظهر على غيبه أحدًا إلا مَن ارتضى من رسله فإنه يطلعه على ما لا بدّ منه لأداء الرسالة، بعد أن يسلك من بين يديه ومن خلفه رَصَدًا من الملائكة يحفظونه من تلبيس الشياطين وتخييلهم، وهي مُبيّنة لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179]. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]، وقال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65]، وقال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101]. والآيات في هذا كثيرة. وانظر قصة نبيِّ الله يعقوب ومُكْثه تلك السنين العديدة لا يعلم أين ابنُه ــ عليهما السلام ــ وإن كان قد أُعْلِم أنه حيّ.

(4/317)


[فصل في علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغيب] [فإن قيل: إن الله قد أظهر نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم على جميع الموجودات، فقد روى معاذ بن جبل قال: احتبس عنّا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات غداةٍ عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعًا، فثُوّب بالصلاة، فصلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتجوَّز في صلاته، فلما سلّم دعا بصوته قال لنا: «على مصافّكم كما أنتم»، ثم انفتل إلينا، ثم قال: «أما إني سأحدثكم ما حبسني] (1) [*4] عنكم الغداة: أني قمت من الليل فتوضأتُ وصليتُ ما قُدِّر لي، فنعستُ في صلاتي حتى استثقلتُ، فإذا أنا بربّي في أحسن صورة، فقال: يا محمد! قلت: لبيك ربّ، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري، قالها ثلاثًا. قال: فرأيته وضع كفّه بين كتفي حتى وجدت بَرْد أنامله بين ثديي، فتجلّى لي كل شيءٍ وعرفتُ، فقال: يا محمد، قلت: لبيك ربّ، قال: فيمَ يختصمُ الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفَّارات .... » الحديث. رواه أحمد والترمذي (2) وقال: «حسن صحيح، وسألتُ محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث صحيح». _________ (1) ما بين المعكوفين إضافة يكتمل بها السياق، وبقية نص الحديث سقته من كتاب «المشكاة» لأنها مصدر المؤلف في نقل الحديث كما مرّ التنبيه عليه مرارًا. (2) أخرجه أحمد (22109)، والترمذي (3235)، والذي فيه عن البخاري «حسن صحيح ... ». وروي من حديث عبد الرحمن بن عائش عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أخرجه أحمد (23210)، وله شاهد من حديث ابن عباس أخرجه الترمذي (3233) وأحمد (3484).

(4/318)


فيقال: إن ظاهر قوله: «فتجلّى لي كلُّ شيء» العموم في سائر الموجودات، فيكون الله تعالى أظهره حينئذٍ على جميع الكائنات. والجواب: أن المراد ــ والله أعلم ــ كلّ شيء مما يختصم فيه الملأ الأعلى، كما يدلّ عليه السياق، فإن السؤال إنما وقع على ذلك، والإظهار إنما وقع ليعلم ذلك كما هو ظاهر من السياق. فإن قيل: فإن في بعض روايات الحديث: «فتجلّى لي ما في السموات والأرض، وتلا: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]» (1). قلت: إن صحّ بهذا اللفظ فيحتمل أن يكون مِن تصرُّف بعض الرواة، فَهِمه من قوله: «فتجلّى لي كلُّ شيء وعرفتُ» أن المراد كلّ شيءٍ في السموات والأرض، فروى بالمعنى الذي فهمَه، ويُبْعِد هذا تلاوة الآية. وعلى كل حال فلا أظنَّ هذا اللفظ يصح؛ لأن الظاهر من معنى الآية، _________ (1) أخرج هذه الرواية أحمد (16621 و 23210) عن عبد الرحمن بن عائش عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأخرجها ابن خزيمة في «التوحيد» (318)، والدارمي في «مسنده» (2195) عن عبد الرحمن بن عائش سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال البخاري فيما نقله عنه الترمذي: «وهذا غير محفوظ، ذكر الوليد في حديثه عن عبد الرحمن بن عائش قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وروى بشر بن بكر عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر هذا الحديث بهذا الإسناد عن عبد الرحمن بن عائش عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا أصح، وعبد الرحمن بن عائش لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ». «جامع الترمذي» (5/ 368)، و «العلل الكبير»: (2/ 894). ونحوه ذكر ابن خزيمة. وانظر حاشية «المسند»: (27/ 172 - 174).

(4/319)


كما يدلّ عليه ما بعدها، أن المراد ــ والله أعلم ــ بقوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} أي: نوجّه نظرَه إلى أشياء من آيات مُلْكنا في السماوات والأرض، ونفتح له بسببها فهمًا واستدلالًا يؤكّد يقينه في نفسه، ويكون له حجةً على قومه. فإنّ عقب هذه الآية: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} الآيات، وظاهر ترتيبها بالفاء أنها من ثمرة قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي} وهذا ظاهر فيما قلناه. وقوله: {هَذَا رَبِّي} استفهام بِحَذْف أداته لتكون على صورة الإخبار، فيظن قومه أن ذلك منه إخبار، وأنه موافق لهم في دينهم، ليكون ذلك أدعى إلى نظرهم وتأمّلهم وعَقْلِهم الحجة فيه (1)، والله أعلم. [*5] ومما يدلّ على أنه ليس المراد من الآية أن الله تعالى أظهر إبراهيم على جميع الغيب قولُه بعد هذه الآيات: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأنعام: 80]. ولما جاءه الملائكة لم يعرف أنهم ملائكة، بل ذهب فجاءهم بعجلٍ حنيذٍ، فلما رأى أيديهم لا تَصِل إليه نَكِرَهم وأوجس منهم خيفة. وفي حديث «الصحيحين» (2) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لم يكذب إبراهيم ... » الحديث «بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبارٍ من الجبابرة، فقيل له: إن ههنا رجلًا ... » الحديث، _________ (1) غير واضحة ولعلها ما أثبتّ. (2) البخاري (3358)، ومسلم (2371).

(4/320)


وفي آخره: «فأتته ــ أي إبراهيم ــ وهو قائم يصلي فقال: مَهْيَم ... » الحديث. والحاصل أنه من أَمْحَل المحال أن يُظهر الله عبدًا من عبيده على جميع غيبه، وحسبك أن الله تعالى متعبِّد عبيدَه بالدعاء، فكيف يدعو العبد فيما قد عُلِم أنه واقع أو غير واقع، وقد قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 187 - 188]. ومرّ (1) أن قوله: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} كما يدلُّ على عدم العلم الذاتيّ يدلّ على عدم الإظهار على جميع الغيب، لأن استكثاره الخير وعدم مسّ السوء له لازمٌ لإظهاره على جميع الغيب، كما هو لازم للذّاتي، فلا يتمّ المنع إلا بامتناعهما معًا. وقوله تعالى: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} وما بعده يدلّ على أن الساعة لم يُظْهِر اللهُ على وقتها أحدًا من خلقه، والآيات في هذا المعنى كثيرة. [*6] وأما الأحاديث الدالة على ما قدمنا فهي كثيرة لا تُحصى، ففي حديث جبريل الثابت في «الصحيحين» (2): «متى الساعة؟ فقال: ما _________ (1) (ص 316). (2) البخاري (50)، ومسلم (9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4/321)


المسؤول عنها بأعلمَ مِن السائل، وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمةُ ربَّتها، وإذا تطاولت رُعاة الإبل البهم في البنيان، في خمسٍ لا يعلمهنَّ إلا الله، ثم تلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34]» الحديث. وفي «الصحيحين» (1) أيضًا عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمهنَّ إلّا الله، فقال: لا يعلم أحدٌ ما يكون في غدٍ، ولا يعلم أحدٌ ما يكون في الأرحام، ولا تعلم نفسٌ ماذا تَكْسِب غدًا، ولا تدري نفسٌ بأيّ أرضٍ تموت، وما يدري أحدٌ متى يجيء المطر». وأخرج الإمام أحمد والبزَّار والضياء المقدسي في «المختارة» (2) وغيرهم عن بُريدة قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «خمسٌ لا يعلمهنّ إلا الله: إن الله عنده علم الساعة ... » (3) [الحديث. وأخرج] (4) الشيخان والترمذيّ والنسائيّ وأحمد وغيرهم عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: مَن زعم أن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم يخبر الناسَ بما يكون في غدٍ ــ وفي رواية: يعلم ما في غدٍ ــ فقد أَعْظَم _________ (1) البخاري (4697) ولم أجده في مسلم من حديث ابن عمر. (2) ليس في المطبوع منها. (3) أخرجه أحمد (22986)، والبزار (4409)، والضياء كما في «جمع الجوامع» (12287). (4) ما بين المعكوفين مطموس، ولعله ما قدّرتُه.

(4/322)


على الله الفِرْيَةَ، والله تعالى يقول: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (1) [النمل: 65]. والعلم المنفيّ في الآية والأحاديث هو العلم الذاتيّ، فلا يُنافي أنّ الله تعالى قد يُظهر الرسلَ على شيءٍ من الخَمْس وغيرها، فهذا القرآن مَلْآنُ بالإخبار عما سيكون يوم القيامة، وهو داخلٌ فيما سيكون في غدٍ. وأحاديثُ الشفاعة نصٌّ على أنه صلى الله عليه وآله وسلم أُعْلِم ببعض ما سيكون له يوم القيامة، وذلك داخل في قوله تعالى: {مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}. والمراد بالعلم فيها العلم القطعيّ، فلا يُنافي هذا ظنّ نزول المطر وغيره، وظنّ صاحب الرؤيا والمحدَّث، وظنّ المنجّم والكاهن ومَن في معناهما. نعم إن الله تعالى لا يظهر أحدًا كائنًا مَن كان على كل شيءٍ من غيبه، بل الثابت إظهار الرسل على بعض الجزئيات بحسب ما تقتضيه الحكمة. [*7] والحاصل أن الأدلة على أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن مُظْهَرًا على جميع الغيب لا تُحصَى من الكتاب والسنة، وبذلك يتعيّن حمل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فتجلّى لي كلُّ شيء وعرفتُ ... » على الأشياء التي يختصم فيها الملأ الأعلى، كما يدلّ عليه السياق (2). _________ (1) البخاري (3234) من طريق القاسم عن عائشة وليس فيه هذا اللفظ، ومسلم (177)، والترمذي (3068)، والنسائي في «الكبرى» (11468)، وأحمد (24227) كلهم من طريق مسروق عن عائشة. (2) انظر ما سبق (ص 318).

(4/323)


وهذا أولى من أن يقال: إن الله تعالى أظهره حينئذٍ على ما في السموات وما في الأرض ثم سَتَر ذلك عنه. وأولى من أن يُقال: إن هذا الإظهار كان في آخر عمره صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يلزم عليه عدم الاحتياج إلى الوحي، ولا عدم التكليف بالدعاء، ولا غير ذلك من الأشياء؛ لأن راويه معاذ بن جبل رضي الله عنه خرج إلى اليمن قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكثير. وسيأتي قريبًا ما يدلّ على أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يُظْهَر على جميع الغيب بعد موته، ومنه حديث «الصحيحين» (1) في ذكر الحوض، وفيه: أنه يقال له صلى الله عليه وآله وسلم: «إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك». [*8] وقد بقي حديثٌ آخر أخرجاه في «الصحيحين» (2) عن حذيفة قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مَقامًا ما ترك شيئًا يكون في مَقامه ذلك إلى قيام الساعة إلَّا حدَّث به، حَفِظه مَن حَفِظه، ونسيه مَن نسيه، قد عَلِمَه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيتُه، فأراه فأذكره كما يذكر الرجلُ وجهَ الرجلِ إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه». والجواب عنه: أنَّ المراد ما ترك شيئًا من الأمور العظيمة والفتن الجسيمة، كما يدلُّ عليه حديث أبي داود (3) عن حذيفة قال: «والله ما أدري، _________ (1) البخاري (4625)، ومسلم (2860) من حديث ابن عباس، وجاء من حديث أبي هريرة وأنس وابن مسعود رضي الله عنهم في الصحيحين وغيرهما. (2) مسلم (2891) وليس عند البخاري من حديث حذيفة، وهو عنده بنحوه من حديث عمر (3192). (3) (4243). وفي إسناده ضعف.

(4/324)


أنسي أصحابي أم تناسَوا؟ والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مِن قائدِ فتنةٍ إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ مَن معه ثلثمائة فصاعدًا إلا قد سمَّاه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته». والحديث على كلِّ حال مشكل؛ أمَّا أولًا: فلأنَّ المقامَ الواحد، بل الأشْهُر لا تسع ذِكرَ كلِّ رئيس ثلثمائة فصاعدًا، فضلًا عن كلِّ شيء. والمعجزة ممكنة، والله على كل شيء قدير، ولكن ظاهر الأحاديث أنَّ ذلك جارٍ على مقتضى العادة. وأمَّا ثانيًا: فلأن الصحابة رضي الله عنهم وقعوا في فتن بعده صلى الله عليه وآله وسلم [*9] فما لهم لم يحفظوا ما قال صلى الله عليه وآله وسلم فيها، وربما حفظوا القليل. فإن قيل: لعلّ الله تعالى أنساهم عامَّةَ ذلك لِمَا سبق في حكمته، فقد بقي إشكال آخر، وهو أنه لا يظهر فائدة عظيمة للإخبار ثم الإنساء. فأما الإخبار ببعض الفتن وعدم إنسائه، ففيه فائدة لمن أدركها؛ يَسْتدلّ على الحقّ من الباطل. ثم إن إظهارهم على ما سيكون بهم تفصيلًا منافٍ للتكليف، كما دلّ عليه: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188] كما مرَّ بيانه (1). والذي يترجَّح في معنى الحديث ــ والله أعلم ــ ما قدَّمناه: أن المراد من الأمور العِظام والفتن الجسام التي تهمُّ الإسلام، ويفزع لها الخاص والعام. _________ (1) (ص 321).

(4/325)


وأما تقييده في حديث أبي داود برئيس ثلثمائة فصاعدًا، فلعلَّه قاله بناء على ظنِّه، كأنه ــ والله أعلم ــ رأى جماعةً كلَّهم رئيس ثلثمائة قد ذكرهم النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فقاس على ذلك المذكورين إلى يوم القيامة. وفي هذا القياس نظر، فإن مقتضى الحكمة أن يذكر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم الفتنَ الصغارَ التي تلي موته لأهميتها، ولا يقتضي أن يستقصي ذلك إلى يوم القيامة، بل يُكتفى بالأمور العامة. وقد روى مسلم (1) عن عَمرو بن أخْطَب الأنصاري، قال: «صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومًا الفجر، وصعد على المنبر، فخَطَبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلَّى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر حتى غربت الشمس فأخبرنا بما هو كائن إلى يوم القيامة». قال: «فأعلمُنا أحفظُنا». وهو في معنى حديث حذيفة، والكلام عليه مثلُه. وأنا مؤمن بأن الله عزَّ وجلَّ على كلِّ شيء قدير، وأن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أهلٌ لأن يكرمه الله بكل كرامة يمكن أن يُكرَم بها أحدٌ من عباد الله تعالى، فيُظهره على ما شاء من الغيب، ويطوي له الزمان حتَّى يتكلم في الساعة الكلامَ الذي لا تسعه إلا السنون العديدة وغير ذلك. وإنما اضطرَّني إلى التأويل الجمعُ بين الأدلة كما علمتَ، مع أن اتِّساع المعلومات الكونية ليس من الفضل المقصود للأنبياء عليهم السلام، فنفيُ شيء منه عنهم لا يُوهم نقصًا. _________ (1) (2892).

(4/326)


وعلى كلِّ حال، فالحديثان لا يدلَّان على أنه صلى الله عليه وآله وسلم أُظهر على جميع الغيب؛ كيف والدنيا بما فيها ليست بالنسبة إلى الآخرة شيئًا .... (1)، والله أعلم، وهو حسبي ونعم الوكيل. * * * * _________ (1) نحو ثلاث كلمات ذهب بأكثرها قطع في طرف الورقة.

(4/327)


 [القسم الأول من الغيب]

[ومما يَستدلّ به أهلُ الأرض على بعض الغيب من القسم الأول ولا يحصّل إلا الظن: الرؤيا. وفي «صحيح البخاري» (1) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله] (2) [185] صلى الله عليه وآله وسلم: «الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءً من النبوّة». ولهما (3) [عن] (4) أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا اقترب الزمان لم تَكَد تكذب رؤيا المؤمن، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوّة ... » الحديث. فيقال: إن تلك الطرق التي ذكرناها آنفًا ستٌّ وأربعون طريقًا، خمسٌ وأربعون منها خاصة بالأنبياء، وواحد يكون لغيرهم، وهي الرؤيا. والمراد برؤيا المؤمن في حديث أبي هريرة: رؤياه الصالحة، فقد تكون رؤياه غير صالحة، كما يُشير إليه قوله في أول الحديث: «لم تكد». وهذا يدل أن رؤيا المؤمن قد تكذب ولكن الغالب صدقها. ومما يصرّح بهذا: حديث «الصحيحين» (5) عن أبي قتادة قال: قال _________ (1) (6989). (2) لم نعثر على أول الكلام في هذا المبحث المتعلّق بالرؤيا، فأضفت ما بين المعكوفين ليتم به السياق. وانظر (ص 341) وساق المؤلف هذا الحديث ضمن حُجج مَن يرى أن في الرؤيا دليلًا على علم الغيب، ويأتي جواب المؤلف بعده. تنبيه: في مجموع [4707] كلام على الرؤيا وتأويلها لكنه ناقص أصيبت بعض أوراقه بتلف بالغ، فأثبت ما ظهر منه في ملحق آخر الكتاب. (3) البخاري (7017)، ومسلم (2263). (4) خرم في طرف الورقة أتى على هذا الحرف. (5) البخاري (3292)، ومسلم (2261). واللفظ ساقه المؤلف من «المشكاة» (2/ 544).

(4/328)


رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الرؤيا الصالحة مِن الله، والحُلُم من الشيطان، فإن رأى أحدُكم ما يحبّ فلا يحدِّث به إلا مَن يحبّ، وإذا رأى ما يكره فليتعوّذ بالله من شرِّها ومن شرِّ الشيطان، ولْيتفُل ثلاثًا، ولا يحدّث بها أحدًا فإنها لن تضرّه» ا? . وقد قال قومٌ في معنى الستة والأربعين: أن مدّة نبوّة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم كانت ثلاثًا وعشرين عامًا، فمنها ستة أشهر كان يرى الرؤيا الصالحة، ثم جاء الوحي فيما بعدها. ونِسْبةُ الستة الأشهر إلى الثلاثة وعشرين عامًا جزءٌ من ستة وأربعين. وهذه مناسبةٌ ظاهرُها حَسَن، ولكن عند التحقيق يترجّح ما بينّاه أولًا؛ وذلك أن مُدّة نبوّته صلى الله عليه وآله وسلم مختلَف فيها، ومدّة الرؤيا منها غير معلومة، ومع ذلك فلم تنقطع الرؤيا عنه صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن جاءه صريحُ الوحي، بل مكثت إلى أن توفَّاه الله تعالى وهو يرى في نومه. وأيضًا الحديث جعل الرؤيا ظاهرةً بتقسيم أجزاء النبوة إلى ستة وأربعين، فما بينّاه سابقًا أقرب إلى لفظه. ثم رأيتُ بعضَهم (1) قال: «وذَكَر الحليميُّ أن الوحي كان يأتيه صلى الله عليه وآله وسلم على ستة وأربعين نوعًا، مثل النفث في الرُّوع، وتمثّل المَلَك له بصورة دحية مثلًا، وسماعه مثل صلصلة الجرس، إلى غير ذلك، ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم ما قال». اهـ _________ (1) هو الآلوسي في «روح المعاني»: (12/ 182). وكلام الحليمي في كتابه «شعب الإيمان»، ونقله الحافظ في «الفتح»: (1/ 20).

(4/329)


قلت: وهذا ــ والحمد لله ــ هو الذي ظهر لي. ويؤيِّده أنه ورد في بعض الروايات: «من خمسة وأربعين» (1)، وفي أخرى: «من سبعين جزءًا» (2). ونَقَل (3) عن الحافظ ابن حجر أنه قال: إن كون الرؤيا الصالحة جزءًا من كذا من النبوّة= إنما هو باعتبار صِدْقها لا غير، وإلّا لساغ لصاحبها أن يسمّى نبيًّا، وليس كذلك. أقول: بتأمل ما تقدم يظهر أن المراد بالأجزاء: العلوم، لأن النبوّة [من] (4) حيث هي لا تتجزَّأ، [فلا] يقال: [بُعِث نبيّ وربع] ... ، فالأجزاء عبارة عن العلوم لا غير، والمعنى: أن الرؤيا عِلْمٌ من جُملة علوم النبوة. والله أعلم. [186] ثم اعْلَم أن الرؤيا تنقسم ــ كما قال ابن سيرين ــ إلى أقسام: حديث النفس، وتخويف الشيطان، وبُشرى من الله تعالى (5). وهذا الذي قاله ابنُ سيرين حقّ. أما حديث النفس، فلأننا نجد من أنفسنا كثيرًا أنّنا نكون في بعض الأيام نتكلّم في شيء أو نتفكّر أو نهتمّ في _________ (1) في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في «صحيح مسلم» (2263). (2) في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في «صحيح مسلم» (2265). (3) يعني الآلوسي في «روح المعاني». وكلام الحافظ في «فتح الباري»: (1/ 20). (4) ما بين المعكوفات في هذه الفقرة تقدير لكلمات في طرف الورقة لم تظهر بتمامها وبقيت بعض آثارها. (5) هذا التقسيم لأنواع الرؤيا مذكور في حديث أبي هريرة في البخاري (7017)، ومسلم (2263)، وقد اختلف في رفعه ووقفه، ورجَّح البخاري الوقف. وقائلها هو أبو هريرة رضي الله عنه نقلها عنه محمد بن سيرين. وانظر «فتح الباري»: (12/ 407).

(4/330)


شأنه، فإذا نمنا عقِب ذلك حلمنا بما يتعلّق به. أما تخويف الشيطان، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة؛ ففي «الصحيحين» (1) عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان .. » الحديث. وإنما سكت عن القسم الثالث وهو حديث النفس؛ لأنه لا بد أن يحضره إما الشيطان وإما الملك، فإن حضره الشيطان التحق بقسمه، وإن حضره الملك التحق بقسمه. وإذا كان كذلك فالرائي لا يقطع برؤياه أنها من قسم بعينه، ولاسيّما والرؤيا التي هي من الله تعالى قد تكون مُنْذرة، وإنما أُطلق عليها «المبشّرات» في الحديث السابق تغليبًا كما نُقل عن السيوطي؛ وعليه فلا سبيل للرائي إلى القطع بأنّ رؤياه من الله تعالى، وإنما معه الظن فقط، ومع ذلك فالرؤيا التي من الله تعالى تحتاج إلى تأويل وتعبير. وقد تقدم في المسألة الثانية (2) في الكلام على رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ} [الأنفال: 43] فارجع إليها. وقصّ الله تعالى في كتابه رؤيا يوسف عليه السلام، وهي حقّ، وهي محتاجة إلى التعبير كما لا يخفى. _________ (1) أخرجه البخاري (3292)، ومسلم (2261). (2) لم يتقدم شيء هنا، فهو مما فُقِد من هذه الرسالة. انظر أول هذا المبحث (ص 308)، ومقدمة التحقيق.

(4/331)


والأحاديث الصحيحة كثيرة في مرائي نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وأكثرها مؤوَّلة، منها: رؤياه الناس يُعْرَضون عليه وعليهم قُمُص، منها ما يبلغ الثُّديّ، ومنها ما دون ذلك، وعُرِض عليه عمر بن الخطاب وعليه قميص يجرُّه. وأوّل ذلك بالدِّين (1). وإذا كان في حقه صلى الله عليه وآله وسلم فكيف بغيره. وقد يكون التأويل بعيدًا، كمن رأى نفسه فرِحًا يُؤوّل بالحزن، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76]. وكمن رأى نفسه ذليلًا يؤوَّل بالعز؛ لقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123]. ولا سبيل إلى القطع في التأويل وإنما هو الظن. وهذا بالنسبة إلى ما تدل عليه الرؤيا من الإخبار عن الغيب، وأما بالنسبة إلى الصورة المرئية، فإن المرئي ليس هو عين الصورة الحقيقية، وإنما المرئي مثال تستخرجه المخيِّلة من الحافظة أو يصوّره الشيطان أو يمثِّله المَلَك، والمثال حينئذٍ حاضر بالنسبة إلى الروح، فإدراكها له من الإدراك للحاضر لا للغيب؛ لأن الغيب إنما هو عين الصورة الحقيقية، والمرئي إنما هو مثالها. فإن قلتَ: فقد ثبت في «الصحيحين» (2) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثَّل في صورتي». ومنها عن أبي قتادة قال: قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ رآني فقد رأى الحقّ» (3). _________ (1) أخرجه البخاري (23، 7008)، ومسلم (2390) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (2) البخاري (110)، ومسلم (2266). (3) أخرجه البخاري (6996)، ومسلم (2267).

(4/332)


[187] قلت: تمثيل الصُّوَر في النوم قد يكون من حديث النفس، وقد يكون من الشيطان، وقد يكون من الملك. وحديث النفس لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يحضره الشيطان فيلتحق بقِسْمِه، وإما أن يحضره المَلك فيلتحق بقِسْمِه، فانحصر الحال في الاثنين. والدليل على أنه قد يكون من الشيطان قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ولا يتمثَّل بي الشيطان». وكما أنه لا يتمثل به فإنه لا يحضر تحديث النفس بصورته، فما بقي إلا ما يكون بتمثيل الملك أو حضوره، وكلّه حقّ. ومما يدلُّ على تمثيل المَلَك: حديث «الصحيحين» (1) عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أُريتك في المنام ثلاث ليالي، يجيء بك الملك في سَرَقةٍ من حرير، فقال لي: هذه امرأتك، فكشفتُ عن وجهك الثوبَ، فإذا أنتِ هي، فقلت: إن يكن هذا من عند الله يُمْضِه». وفي الكلام تقدير والتفات، والتقدير ــ والله أعلم ــ: أُريتُ صورتَك في المنام ثلاث ليالي، يجيء بها المَلكُ في سَرَقةٍ من حرير، فقال لي: هذه امرأتك، فكشفتُ عن وجهِ تلك الصورةِ الثوبَ، فإذا هي صورتك، أي التي أعرفها في اليقظة. وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعرفها في بيت أبيها وهي صبيّة، ولهذا قال: «إن يكن هذا من عند الله يُمْضِه». والله أعلم. وعلى هذا [188] فإن رؤياه صلى الله عليه وآله وسلم لا تكون بتصوير الشيطان ولا حضوره، وإذا لم تكن كذلك فهي بتمثيل الملك بإذن الله تعالى _________ (1) البخاري (3895)، ومسلم (2438).

(4/333)


أو حضوره. وهذا القسم هو الحق ليكون معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن رآني في المنام فقد رآني»: مَن رأى صورتي في المنام فقد رأى مثالي الحقّ، كما يدلّ عليه قوله في حديث أبي قتادة: «من رآني فقد رأى الحق». ويحتمل أن يكون المراد بقوله: «فقد رآني» أنه سيراه يقَظَة يوم القيامة، كما يدل عليه حديث «الصحيحين» (1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثّل الشيطانُ بي». وبما قرّرْناه يتبيّن أن رؤياه صلى الله عليه وآله وسلم ليست من علم الغيب؛ لأن علم الغيب إنما هو ذاته صلى الله عليه وآله وسلم، فأمّا مثاله الذي يراه النائم فليس غيبًا، بل حاضر مُشاهَد للروح. ومثلُه رؤيا بعض المؤمنين لبعض، فإنها قد تكون حقًّا مع كونها ليست مِن علم الغيب في شيء (2). ومع كون رؤيانا له صلى الله عليه وآله وسلم حقًّا، فليس ما رأيناه يقولُه أو يفعلُه أو يُقرّ عليه حجة، واسْتُشْكِل هذا فقيل وقيل، والذي فتح الله به عليَّ هو: أن ذلك القول أو الفعل يحتاج إلى تعبير وتأويل، والتعبير والتأويل يحتمل وجوهًا كثيرة، حتى قد يكون تعبير الشيء ضدّه كما مرّ تمثيله (3). _________ (1) البخاري (6993)، ومسلم (2266). (2) وضع المؤلف هنا علامة اللحق المعتادة لكنه لم يلحق شيئًا في الورقة. (3) (ص 332).

(4/334)


فإذا رأيتَه صلى الله عليه وآله وسلم يأمرك بشيء، فقد يكون تأويلُ الأمرِ النهيَ أو الإخبارَ بوقوعه، أو الأمرَ بشيء يعبّر به الشيء المرئيّ، أو غير ذلك من الاحتمالات التي لا تنحصر= لا جَرَمَ لم يصلح ذلك لاعتباره حجة. نعم، إذا رأيتَه يأمرك بشيء قد ثبت في كتاب الله تعالى أو السنةِ الصحيحة استحبابُه، فإنه يتأكّد لك استحباب ذلك الشيء، لترجُّح أن الأمر المرئيّ في النوم على ظاهره، ويشهد لهذا واقعة لابن عباس بسبب مذهبه في التمتع (1). [189] وهل المراد برؤياه صلى الله عليه وآله وسلم التي هي الحقّ رؤيا شخصٍ يتسمّى باسمه، أو يخبرَ الرائي بأنه هو، أو يقع في نفسه ذلك وإن لم يكن على صورته التي كان عليها في الدنيا؟ أو لابد أن يكون على صورته التي كان عليها في الدنيا؟ أقول: ظاهر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فإن الشيطان لا يتمثّل في صورتي»، وقوله: «ولا يتمثل الشيطان بي» أنه لابدَّ في تعيّن كون الرُّؤيا حقًّا أن يكون المرئي على صورته التي كان عليها في الدنيا صلى الله عليه وآله وسلم، فإن الشيطان إنما مُنِع من التمثّل به، ولم يُمنَع من انتحال اسمه. _________ (1) «واقعة ... التمتع» كتبها المؤلف في طرة الورقة، والواقعة التي يشير إليها هي ما في «صحيح مسلم» (1242) عن أبي جمرة الضبعي قال: تمتّعتُ، فنهاني ناس عن ذلك فأتيت ابن عباس فسألته عن ذلك؟ فأمرني بها. ثم انطلقتُ إلى البيت فنمتُ، فأتاني آتٍ في منامي فقال: «عمرة متقبَّلة وحجٌّ مبرور». قال: فأتيت ابن عباس فأخبرته بالذي رأيت، فقال: «الله أكبر الله أكبر! سنّة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - ».

(4/335)


فصل قد فهمت مما قدمناه أن الرؤيا إنما هي بحديث النفس أو تصوير الشيطان أو تمثيل المَلَك، وأن ذلك واقع لروح الرائي بدون مفارقتها الجسد. وفي المسألة مذهب آخر وهو أن الروح تفارق الجسد عند النوم، ثم تذهب حيث شاء الله تعالى من الكون، فربما شاهَدَتْ بعضَ الأشياء حقيقةً، وربما وقع لها التخييل والتمثيل من الشيطان أو من المَلَك. ويُستَدَلّ لهذا المذهب بقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]. قالوا: فدلّت الآيةُ على أن الله تعالى يتوفّى نفسَ النائم كما يتوفّى نفسَ الميت، ثم يمسك ما قَضى عليها الموتَ من نفوس النائمين، ويرسل التي لما يَقْض عليها الموتَ عند إرادة اليقظة. هذا على كون ما بعد الفاء تفسيرًا للنائمة، فمعنى الآية {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا و} يتوفى {الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} أي: يتوفاها في منامها، ثم يقضي سبحانه وتعالى في النائمة بما أراد {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} أي: يحبسها عن العَود إلى الجسد فيموت {وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى} التي لم يَقْض عليها الموتَ بإعادتها إلى جسدها عند إرادة يقظته {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وهو أجل انتهاء العمر، فإذا جاء الأجلُ توفّاها وأمسكها. والله أعلم (1). _________ (1) انظر «الروح»: (1/ 56 - 59)، و «مجموع الفتاوى»: (5/ 451 - 453).

(4/336)


[190] وهذا التفسير هو الذي يؤيده حديث «الصحيحين» (1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا أوى أحدُكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخِلَةِ إزاره فإنه لا يدري ما خَلَفَه علىه، ثم يقول: باسمك ربي وضعتُ جنبي وبكَ أرفعُه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين». واستشْكِل هذا بأنّ الناعس لا يجد الألم الذي يجده المحتضِر، وأن النائم يبقى فيه النَّفَسُ والدمُ والحركة، وإذا حُرِّك أو سمع صوتًا انتبه، إلى غير ذلك. وأقرب الأجوبة من هذا: أن للروح بالجسد تعلُّقَين: الأول: تعلّقها به في اليقظة، وهو بوجودها فيه. الثاني: تعلّقها به عند النوم، وهو بقاء اتصالها به بآثار وأشعّة تتصل به منها، فبهذه الأشعة تبقى الحياة في الجسد، ثم إذا أراد الله تعالى إرسالها ردّها إلى جسدها فاستيقظ. وإذا أراد إمساكها أبْطَل تلك الصِّلة التي بينها وبين الجسد فمات. والألمُ الذي ينال المريض عند النَّزْع إنما هو لنزع الروح بجميع آثارها. وزعم بعضُهم أن الله تعالى جعل السبب في ذلك صلاح الجسد، فما دام الجسدُ صالحًا فهو لا يزال منتفعًا بالروح، إن حلَّت فيه حصل له الحياة واليقظة، وإن فارقته حصلت له الحياة بما يتصل به من أشعتها. فإذا أراد الله تعالى موت أحدٍ أفسد الجسدَ عن قبول الانتفاع بالروح، وإذا شرع الجسد في الفساد نشأ من ذلك المرضُ والنزاع، فإذا تمّ فسادُه فارقَتْه الروحُ ولايزال _________ (1) البخاري (6320)، ومسلم (2714).

(4/337)


لها اتصالٌ به، ولكن لا ينفعه ذلك بعد تمام فساده. فإذا أراد الله تعالى حياةَ ميتٍ أصلح جسدَه، فيصير قابلًا للانتفاع، فتُرَدُّ عليه روحُه. [191] والخلاف في هذا متشعّب، والذي أختارُه الوقفَ، وردّ العلم إلى الله تعالى، ولا سيما وهذا البحث متعلِّق بشؤون الروح، وقد قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]. ولا دلالة فيما هو معروف في هذه الأعصار من التنويم المغناطيسي، وهو كما أخبرني بعضُهم: أن بعض السّحَرة يتسلّط على شخص يكون عنده حتى ينوّمه، ثم يقول: اذهب إلى محلّ كذا فانظر ما ثمّ هناك، ثم يصبر قليلًا فيتكلَّم النائمُ ويقول: هناك كذا وكذا إلخ= لاحتمال أن يكون الذاهب إلى ذلك المحلّ هو شيطان من الشياطين، ثم يرجع فيتكلّم على لسان النائم كما يتكلّم الشيطان على لسان المصروع. والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم. أعاذنا الله منه، وحفظنا من نزغاته. وقِس على هذا ما لعلّك تسمع به من أنواع السحر في التنويم المغناطيسي وغيره، كتحضير الأرواح والاجتماع لها، كما هو معروف في أخبار الصوفية، وقد شاع الآن في الرياضيين من النصارى وغيرهم، ولا يبعد أن يكون الحاضر إليهم هو قرين صاحب الروح؛ إذ مع كل إنسان قرين من الشياطين كما هو ثابت في «الصحيح» (1) وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى (2). _________ (1) كما في حديث ابن مسعود في «صحيح مسلم» (2814): «ما منكم من أحدٍ إلا وقد وُكِل به قرينه من الجن ... » الحديث. في أحاديث أخرى. (2) (ص 425).

(4/338)


نعم، لو سُلِّم أن الروح تفارق الجسد في النوم وفي التنويم المغناطيسي وتذهب حتى تشاهد بعض الأشياء بحقائقها، فهذا لا يكون من الإظهار على الغيب، أما أوّلًا فلأنه ليس من الغيب بالنسبة إلى الروح. وأما ثانيًا فلأنه لا يحصل اليقين بأنها شاهَدَتْ ذلك الشيء حقيقةً؛ لاحتمال أن يكون اعترَضَها بعضُ الشياطين فخيّل لها. والوجه الأول متعيّن في رؤيانا لذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا سلّمنا أنها قد تكون برؤية أرواحنا لروحه الشريفة مباشرةً، أي لا لمثالها فقط. والله أعلم. والروح في التنويم المغناطيسي كهي في النوم معرّضةٌ لتلاعب الشيطان بخلاف الإنسان في يقظته، فإنه محجوب عن الشياطين غالبًا، وإنما قلنا: غالبًا؛ لأنه قد يقع تصوّرهم له، ففي «صحيح مسلم» (1) عن ابن مسعود قال: إن الشيطان ليتمثَّل في صورة الرجل، فيأتي القومَ فيحدّثهم بالحديث من الكذب، فيتفرّقون فيقول الرجل منهم: سمعتُ رجلًا أعرفُ وجهه ولا أدري ما اسمه يحدث. [192] وفي «صحيح البخاري» (2) عن أبي هريرة قال: «وكَلَني رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلتُ: لأرفعنّك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: إني محتاج وعَلَيَّ عِيال ولي حاجة شديدة، قال: فخلّيتُ عنه، _________ (1) (7). (2) (2311).

(4/339)


فأصبحتُ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يا أبا هريرة ما فعل أسيرُكَ البارحة؟ » قلت: يا رسول الله شكا حاجةً شديدةً وعيالًا، فرحمتُه فخلّيتُ سبيلَه، قال: «أما إنه قد كذَبَك وسيعود .. » الحديث. فذكر أنه عاد الليلة الثانية والليلة الثالثة، وقال له في الثالثة: دعني أعلّمك كلمات ينفعك الله بها، إذا أويتَ إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حتى تختم الآية، فإنك لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنّك شيطان حتى تصبح، قال: فخلّيتُ سبيلَه، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما فعل أسيرك البارحة؟ » قلت: زعم أنه يعلمني كلماتٍ ينفعني الله بها، [فخلّيتُ سبيلَه]، قال: «أمَا إنّه قد صَدَقك وهو كذوب. تعلمُ مَن تخاطب منذ ثلاث ليال؟ » قلت: لا، قال: «ذاك شيطان». ووقفتُ في اليمن في بعض كتب الزيدية على قصّة: أنه بعد أن توفي الإمام القاسم (1) ــ مؤسس الدولة القاسمية في اليمن ــ بمُدّة، خرج فقيهٌ من أصحابه فإذا هو بالإمام القاسم بعينه لا يشكّ فيه، ثم ذهب في البريّة وهو يراه في حالة اليقظة. وذلك الفقيه عاقلٌ لم يُجرّب عليه كذب، ولا عُرف في عقله شيء، فذهب وأخبر علماء الزيدية حينئذٍ، فأجابوا بأن ذلك شيطان تصوّر بصورة الإمام. والذي يظهر أن الله تعالى مانع الشياطين من التمثل بمثال الأحياء المعيّنين لئلّا تفسد المصالح، فأما التمثُّل بمثال إنسان مجهول كما في الحديثين، أو ميّت كما في القصة، فمن الممكن، إلّا النبي صلى الله عليه _________ (1) هو القاسم بن محمد بن علي بن محمد المنصور بالله، من أئمة الزيدية (ت 1029). ترجمته في «البدر الطالع»: (2/ 47 - 51)، و «الأعلام»: (5/ 182).

(4/340)


وآله وسلم فإنه معصوم مِن تمثّل الشيطان به، ومثلُه في ذلك جميع الأنبياء. والله أعلم. [193] ومما يَستدلُّ به أهل الأرض على بعض الغيب من القسم الأول ولا يُحصِّل إلا الظن: التحديث. ففي «الصحيحين» (1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ولقد كان فيما قبلكم من الأمم محدَّثون، فإن يك في أمتي أحدٌ فإنه عمر». والمحدَّث هو الذي يُلقي المَلكُ في رُوعه بعض الخواطر، فيحصل له بذلك ظنُّ وقوع ذلك. وهذه الخواطر قد تكون من المَلَك، وقد تكون من الشيطان، ولكن المحدَّث يغلب في خواطره كونها من المَلَك، فتكون غالب ظنونه صادقة، ومع ذلك فهو لا يرتقي عن الظن في شيء من ذلك، أما في نفسه، فلأنَّه لا يزال عنده احتمال ما يخالف ذلك، وأما بالتجربة، فلأنّه لا يطّرِد الصدق، ولا يزال هناك احتمال أن يكون الخاطر من الشيطان؛ ولهذا لم يكن الصحابةُ يتخذون ظنَّ عمرَ حجةً ولا هو نفسُه، وقد ثبت تردّدُه في أشياء كثيرة، وخطؤه في مواضع: منها: قوله حين توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قال (2). ومنها: نهيه الناسَ عن التغالي في الصَداق ووعيده لمن زاد على خمسمائة _________ (1) البخاري (3669 و 3689) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ومسلم (2398) من حديث عائشة رضي الله عنها. (2) يعني قول عمر رضي الله عنه: «والله ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» كما في «صحيح البخاري» (3667).

(4/341)


درهم ــ فيما أظن ــ حتى ذكّرته إحدى المسلمات بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20]، فقال: أصابت امرأةٌ وأخطأ عمر (1). ومنها: ما مرّ في الرسالة الأولى في كلام الشافعي رحمه الله (2). ومنها: نسيانه لقصّته مع عمّار في التيمّم، فذكّره عمار فلم يذكر (3). وإذا كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم جائزٌ عليه النسيان والخطأ في الاجتهاد فما بالك بغيره؟ إلا أنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يُقرّ على الخطأ كما هو مقرَّر في أصول الفقه، وقد سبق ما يتعلّق به (4). ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتخذ مجرَّد خاطرٍ يخطر له حجّةً، بل إذا اجتهد استند إلى دليل من كتاب الله تعالى أو مما سَبَق من الوحي. وقد سَبَق (5) حديث مسلم عن رافع بن خديج في تأبير النخل، وهو صريح في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظن النخل كبقيّة الشجر لا تحتاج إلى لقاح، فأخبرهم بأنه يظن ذلك قائلًا: «لعلكم ... » إلخ، ولم يأمرهم بتركه، وإنما تركوه من جهة أنفسهم، فلما نقصت وأخبروه قال لهم: _________ (1) القصة أخرجها عبد الرزاق (6/ 180) من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عن عمر رضي الله عنه، وأخرجها سعيد بن منصور: (1/ 166)، ومن طريقه البيهقي في «الكبرى»: (7/ 233) من طريق مجالد عن الشعبي عن عمر. قال البيهقي: هذا منقطع. (2) (ص 100 - 101، 113). (3) أخرجه البخاري (338)، ومسلم (368). (4) لم نره فيما سبق. (5) لم نره فيما سبق، وسيأتي (ص 387) مع تخريجه.

(4/342)


«إنما أنا بشر ... » إلخ. والحاصل أن المَلك قد يتلقَّى الخبرَ من السماء بالصفة المذكورة آنفًا، أو يكون في الأرض فيخبره بعض الملائكة النازلين في السماء، فيذهب فيُلقي خاطرها في قلب المؤمن إلى آخر ما تقدّم. [194] والتحديث أضعف من الرؤيا الصادقة، ولذلك استثناها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: «لم يبق من النبوة إلا المبشّرات» (1) ولم يستثنه. وسبب ذلك ــ والله أعلم ــ أن الرؤيا الصادقة قريبة من المشاهدة لما فيها من قوة الإدراك بخلاف التحديث. ومما يستدلّ به أهل الأرض على بعض الغيب من القسم الأول، ولا يحصِّل إلا الظن الضعيف: الكهانة. قال الله سبحانه وتعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء: 221 - 223]. وقد مرّ حديث مسلم عن ابن عباس، ويفسِّره حديث البخاري (2) عن أبي هريرة أن نبيَّ الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا قضى الله الأمرَ في السماء ضربت الملائكةُ بأجنحتها خَضَعانًا لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحقَّ، وهو العليّ الكبير، فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع هكذا بعضه فوق _________ (1) أخرجه البخاري (6990) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) (4800). أما حديث مسلم (2229) عن ابن عباس فلم يتقدم فيما وقفنا عليه من الرسالة.

(4/343)


بعض ــ ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدَّد بين أصابعه ــ فيسمع الكلمة فيلقيها إلى مَن تحته، ثم يلقيها الآخر إلى مَن تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدرك الشهابُ قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مئة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا، فيُصدَّق بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء». وفي «الصحيحين» (1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل أناسٌ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الكُهَّان؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنهم ليسوا بشيء»، قالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدِّثون أحيانًا بالشيء يكون حقًّا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنّي فيقرّها في أذن وليه قرَّ الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مئة كذبة». فإن قلت: قد قررتم سابقًا (2) أنّ إخبار المَلك للبشر بالغيب من الإظهار على الغيب، وقرَّرتم أنه خاصّ بالرُّسُل، فما تقولون في سماع الجني لكلام الملائكة بالغيب؟ فالجواب: أننا قرّرنا فيما قرّرناه أن سماع بعضِ الملائكة من بعضٍ ليس من الإظهار على الغيب، بل هو كسماع عامة البشر من الأنبياء، بخلاف سماع البشر لخبر الغيب من الملائكة مع القَطْع بكونهم ملائكة، فإنه من الإظهار على الغيب الخاص بالأنبياء. وبقي الجنّ لم نبيِّن حكمهم فيما سبق، فقد يقال: إنهم أولى من عامّة _________ (1) البخاري (6213)، ومسلم (2228). (2) (ص 324).

(4/344)


الإنس بعدم تلقّي الغيب من الملائكة؛ لأن الإنس أشرف منهم. وقد يُقَال بخلاف ذلك [195] بحُجّة أنهم من حيث الخِلْقة أقرب إلى الملائكة، فإنهم يرون الملائكة بدليل قوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} الآية [الأنفال: 48]، والملائكة يرونهم فلا يبعد أن يكون سماعهم لكلام الملائكة مما جرت به عادتهم، بل هذه الأحاديث حجة في كونهم يسمعون كلام الملائكة على مقتضى العادة والخِلْقة؛ فإن فيها أنهم يسمعون كلام الملائكة في السماء الدنيا، ونحن معشر البشر لا نسمع كلام الملائكة إلا إذا تمثلوا (لنا)، ومع هذا فقد دلّت الآيات والأحاديث على أن الله تعالى لا يمكِّنهم من سماع كلام الملائكة في السماء الدنيا، قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 210 - 212]. وقال تعالى: {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 8 - 10]. إلا أنهم قد يسمعون الكلمة الواحدة، أي: بدون تمام المعنى، فيتخرّصون هم وأولياؤهم في المعنى المراد بها، ويركّبون من ذلك كلامًا طويلًا، والغالبُ كذبُه، وقد يوافق على سبيل الاتفاق. وإذا كَذَب وحَدَث حادثٌ يتعلّق بتلك الكلمة يخالف إخبار الكاهن تأوّل الناسُ خبره الأول بأنه رمز وإشارة إلى هذا الحادث وصدّقوه! والحاصل أنّ الجنّي إنما يسمع من الملائكة كلمة أو كلمتين لا يتمّ بهما

(4/345)


المعنى، فيتخرّص هو ووليُّه لتكميل المعنى، والغيبُ إنما هو المعنى التامّ لا الكلمة أو الكلمتين التي تتعلّق به من دون وفائها به، كما يُشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم لابن صيّاد: «قد خبَأْتُ لك خبيئًا فما هو؟ » وكان خبأ له قولَه تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10]، فقال ابن صياد: هو الدُّخ، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «اخسأ فلن تعدوَ قدرَك» (1). مع أن هذا [إنما] يتعلق بالقسم الثاني [من أقسام العلم بالغيب] (2). وبهذا لم يصدق على ذلك الجني أنه تلقى عن الملائكة خبرًا من أخبار الغيب. ولو سلَّمنا جَدَلًا أنه قد يتلقَّى خبرًا تامًّا في النادر لَمَا كان مِنْ عِلْم الغيب، فإن الملائكة ليسوا غيبًا عن الجنّ، فإنهم يرونهم ويسمعون منهم بحسب خِلْقتهم، فلا يكون سماعهم لكلامهم بالغيب إظهارًا على الغيب كما في سماع عامة الملائكة لكلام الرسل منهم، فإن رُسُل الملائكة ليسوا غيبًا بالنسبة إلى الملائكة، وكما في سماع عامة الإنس لكلام رسلهم، فإن رسل الإنس ليسوا غيبًا بالنسبة إلى عامة الإنس، وكما في سماع الجن كلام الإنس، فإن الإنس ليسوا غيبًا بالنسبة إلى الجن [196] وكما في سماع الإنس لكلام الجن إذا تمثَّلوا بصورهم، وكما في سماع الإنس لكلام الملائكة إذا تمثَّلوا بهم. ولكن هذا الأخير لا يمكن بواسطته الاطلاع على الغيب [لأن] الملائكة لا تخبر غير الرسل بالغيب إلا بالتمثيل في الرؤيا والتحديث في القلب، بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لم يبق من النبوّة إلا المبشرات» قالوا: _________ (1) أخرجه البخاري (1354)، ومسلم (2924) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (2) ما بين المعكوفات غير واضح في الأصل فلعله ما أثبت.

(4/346)


وما المبشرات؟ قال: «الرؤيا الصادقة ... ». ومرّ سابقًا (1) أن هذا لا ينافي حديث التحديث؛ لأن التحديث أضعف من الرؤيا فلم يَسْتَثْنِه. فأما مشافهة الملائكة للإنسان بالغيب يقظةً فإنه أقوى من الرؤيا، فالحديث المذكور دليل على عدمه أيضًا، فإن وقع لأحدٍ غير الأنبياء شيءٌ مما يشبه ذلك فليحذر، فإنما المخاطِبُ له شيطان. والله أعلم. وذلك أن الرائي لا يثق بكون الشخص المتمثِّل له ملكًا إلا أن يكون الرائي نبيًّا، فإن الله يسلك من بين يديه ومن خلفه رَصدًا، ويعصمه من تلبيس الشياطين عليه. وأما غير النبي فالظاهر إذا تمثَّل له شخصٌ على أنه مَلَك وخاطبه بالغيب، فهو شيطان كما مرّ دفع هذا (2)، فالأولى إطلاق الجواب الأول، وهو أنَّ الجنّ لا يُمَكَّنون من استيفاء خبرٍ تامٍّ عن الملائكة. وهكذا يقال في سماعهم لخبر الملائكة في الأرض: إن الله عز وجل لا يُمكِّنهم منه إلّا ما كان من كلمة أو كلمتين، وذلك أن الملائكة إذا أرادوا أن يتكلّموا في الأرض بدأوا بطرد الشياطين حتى لا تسمع كلامهم أو غير ذلك مما لا نعلمه، والله على كل شيء قدير. (3) وكما أن الجني قد يتلقَّى تلك الكلمة باختطاف السمع من السماء فقد يتلقّاها باختطاف السمع من الملائكة في الأرض كما مرّ، وقد يتلقّاها _________ (1) (ص 343). (2) (ص 345). (3) كتب المؤلف قبلها «رجع» يعني رجوعه إلى أصل البحث بعد الاستطراد.

(4/347)


من شيطانٍ آخر كما مرَّ في حديث البخاري (1)، وقد يتلقاها من كاهن أو منجِّم، أو طارق من الجنّ أو الإنس، وكل هذا إنما يكون في الكلمة التي لا تُفْهِم معنًى تامًّا، وإنما يقعُ التخرُّص من الجن وأوليائهم. والتخرُّصُ أكْذَب الظن. فليس في ذلك رائحة من الإظهار على الغيب. والله أعلم. وقد يتلقّى الجنيُّ الخبرَ التامَّ من القسم الأول من الغيب عن الإنس، بعد أن يصل إلى الإنسيّ بإحدى الطرق السابقة، والجنّي حينئذٍ كأحد عامة الإنس، فما أمْكَنَ أن يسمعه أحدُ عامة الإنس أمكن أن يسمعه الجنيُّ، فيحصل للجني العلمُ بسماع النبي من الإنس، وبسماع عدد التواتر منهم، وبقراءته لذلك الخبر في كتاب الله تعالى، ويحصل له الظن في غير ذلك، والتفصيل لا يخفى، ثم يتلقى الجنُّ بعضُهم عن بعض، وقد ينقل بعضُهم ذلك الخبر إلى بعض الإنس، وهلمّ جرًّا، والله أعلم. * * * * [197] ومما يستدلّ به أهلُ الأرض على بعض الغيب من القسم الأول، ولا يحصِّل إلا الظنَّ الضعيف: النظر في النجوم. وذلك أن بعض الناس يرصد هذه الكواكب وأوقات طلوعها وغروبها واقترانها ومقادير سيرها، ويحكمون على بعضها بالسعادة وبعضها بالنحس، وينسبون لكلِّ كوكب محلًّا مخصوصًا من الأرض والأيام والساعات والمعادن والأعضاء والحروف والأحوال، كالحرب والنصر والهزيمة، والغنى والفقر، والزواج والفراق، والرُّخص والغَلاء، وغير ذلك. ويسندون _________ (1) تقدم (ص 343 - 344).

(4/348)


ذلك للتجربة أو لمناسباتٍ وهمية، ويربطون ذلك باسم السائل واسم أمه والوقت الذي ولد فيه، إلى غير ذلك. ثم منهم مَن يزعم أن هذه الكواكب هي المدبِّرة للعالم، فكلّ جوهر أو عَرَض في الأرض مربوط بالكواكب، ويزعمون لها الحياة والعلم وغير ذلك من الصفات، وهؤلاء قسمان: قسم ينكر وجود الخالق جلّ وعلا، ويزعم أن هذه الكواكب هي المدبِّرة بمشيئتها، وهذا من أفحش أنواع الكفر، والعياذ بالله. والثاني: يعترف بوجود الخالق جلّ وعلا، ويزعمون أن هذه الكواكب مدبِّرة للعالم بإذنه تعالى، أي يجعلون لها قدرةً كقدرة الإنسان على ما يَقْدِر عليه من الأفعال. ومنهم مَن لا يعتقد للكواكب تدبيرًا ولا تصرفًا ولكنه يزعم أن الله تعالى أجرى العادةَ بوقوع الحوادث الأرضية على قاعدةٍ نسبية بينها وبين الكواكب. فإذا جاء السائل ــ مثلًا ــ في ساعة كذا من يوم كذا في إقليم كذا، وسأل عن كذا، وكان كوكب كذا في برج كذا، وكوكب كذا في برج كذا، وكان اسم السائل كذا واسمه أمه كذا ومولده كذا= فإنّ جوابه كذا. فيقولون: أجرى الله تعالى العادةَ أنه إذا اتفقت هذه الأشياء على هذه الكيفية كان ما أجابوا به. ولا نُطيل الكلامَ في هذا، فإن العاقل إذا تأمّل ما ذكروه من المناسبات علم أنها أمور خرافية! وإذا بحث في التاريخ عَلِم أن ما يدّعونه من التجربة وجَرَيان العادة باطل، وعَلِم أن الغالب في كلامهم الكذب [198] وإن فُرِض أنَّ كلامَ بعضهم صدق في واقعةٍ، فهي بالنسبة إلى الوقائع التي أُخْلِف قوله فيها كَلَا شيء. ولو أنّ إنسانًا جعل يحكي وقائع ستقع على سبيل الكذب

(4/349)


بدون نظرٍ في نجوم أو غيرها= لَمَا بَعُد أن يتفق وقوع بعض ما ذكره على سبيل الاتفاق و «مع الخواطئ سهم صائب» (1)! وقد أثبت أهل الأرصاد في هذه الأعصار اكتشافَ كواكبَ لم تُعْرَف من قبل، وأنه لا يزال يتجدَّد لهم الاكتشاف، بما يُعلَم معه أن ثَمَّ كواكب لا تزال مجهولة. فيقال للمنجّمين: إن هذه الكواكب التي اكتُشفت حديثًا وبعضها أكبر من الشمس ــ فيما يقول أهلُ الأرصاد ــ ما هو حكمها؟ والكواكبُ التي لا تزال مجهولة ما يدريكم ما حكمها؟ فقد يكون بعضها ــ على ما تزعمون ــ كونه نحسًا، فإذا اقْتَرَن بالسَّعْد قَلَبه نحسًا. وعلى هذا فربّما حكمتم بالسعد على ما نظرتم في الكواكب، ويكون هناك كوكب من المجهولة مقترنًا بها! والحاصل أن النظر في النجوم من أكذب الظن ولا يحصل به إلّا مجرد الاحتمال، وقد رُوي عن قتادة قال: خلق الله تعالى هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يُهتدى بها، فمَن تأوّل فيها بغير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلَّف ما لا يعنيه، وما لا علم له به، وما عَجَز عن علمه الأنبياء والملائكة (2). _________ (1) انظر «فصل المقال» (ص 43)، و «مجمع الأمثال»: (3/ 273). (2) أثر قتادة أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب في النجوم، معلّقًا مجزومًا به، ووصله ابنُ جرير في «تفسيره»: (14/ 193)، وابن أبي حاتم: (9/ 2913) وغيرهما، وفي ألفاظها اختلاف وزيادات، والنص الذي ذكره المؤلف نقله من «روح المعاني»: (27/ 3)، وقد عزا الآلوسي لفظ «ما لا علم .... » إلى رزين. وانظر «جامع الأصول»: (4/ 29).

(4/350)


[199] ومما يتعلّق بالنجوم: معرفة الأنواء. والأنواءُ جمع نَوء، وهو وقت سقوط الكواكب، جرت العادةُ أن المطر ينزل غالبًا في أوقات أنواءٍ معروفة، فيتوهّم الجاهل أنَّ لها دخلًا في سبب نزول المطر، والحقيقةُ غير ما توهَّموه؛ وذلك أن الأرض تكون محتاجةً إلى المطر في أوقاتٍ مخصوصة من السنة الشمسية، واتفق أن كانت تلك الأوقات في أوقات تلك الأنواء، وربُّنا سبحانه وتعالى عليم حكيم رحيم، ينزّل الغيث غالبًا في أوقات حاجة الأرض إليه رحمةً بعباده، فإذا رأى الجاهلُ أن الغيثَ ينزل غالبًا في أوقات تلك الأنواء ظنَّها هي السبب في نزوله. والمؤمن يعلم أن السبب في نزوله هو فضل الله ورحمته، وإنما يوافق نزول تلك الأنواء في غالب السنين؛ لأن الأرض تشتدُّ حاجتها إلى المطر في تلك الأوقات، فاقتضى فضل الله ورحمته إغاثتها في أوقات حاجتها، وليس للأنواء دخل في السببية. وقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى دفع هذا الوهم بتقديم نزول المطر على تلك الأنواء في بعض السنين، وتأخيره عنها، وعدمه أحيانًا، ولكنَّ كثيرًا منهم لم ينتفع بذلك بل أصرّ على ضلاله. وقد أخرج النسائي (1) بسنده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لو أمسك الله القَطْرَ عن عباده خمس سنين ثم أرسله لأصبحت طائفةٌ كافرين يقولون: سُقينا بنَوءِ المِجْدَح». _________ (1) (1526). وأخرجه أحمد (11042)، وابن حبان (6130) بلفظ «سبع سنين»، وأبو يعلى (1312) بلفظ «عشر سنين». وفي سنده عَتّاب بن حنين ذكره ابن حبان في «الثقات»: (5/ 274)، وروى عنه اثنان.

(4/351)


وفي «الصحيحين» (1) عن زيد بن خالد الجهني قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاةَ الصبح بالحديبية على إثْرِ سماءٍ كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «قال: أصبحَ مِن عبادي مؤمنٌ بي وكافر، فأما مَن قال: مُطِرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب. وأما مَن قال: مُطِرْنا بنوءِ كذا وكذا، فذلك كافرٌ بي مؤمن بالكوكب». ولا يخفاك أنه لا سبيل إلى معرفة وقت نزول الغيث قبل نزوله، أما أولًا فلأنّ العادةَ غير مطّردة، بل كثيرًا ما يتقدَّم، وكثيرًا ما يتأخّر، وكثيرًا ما يخلف. وأما ثانيًا فلأنه إذا غلبت العادةُ بنزوله في أوقات مخصوصة من السنة الشمسية فالوقت الواحد منها يكون أيّامًا، فلا يُعلم في أيّ يوم منها وأيّ ساعة لاختلافِ ذلك. ولهذا كان وقت نزول الغيث مما لا يعلمه إلا الله تعالى، كما نصَّ عليه في كتابه. وإصابةُ الظنِّ في بعض الأوقات ليست علمًا. ونحو هذا يقال في هبوب الرياح وغير ذلك، والله أعلم. [200] مما يتعلّق بالنجوم: معرفةُ أحوالها المتعلّقة بذواتها، كأوقات طلوعها وغروبها، ومقادير سيرها، ومقادير أجرامها وارتفاعها، وخسوفها وكسوفها، وهو المعروف بعلم الهيئة. وقد تقدَّم أن معرفة ذلك ليست من علم الغيب في شيء؛ أما أولًا فلأنّ الخسوف ــ مثلًا ــ وإن كان غيبًا فالدلائل الجارية بالعادة المطَّرِدة ليست غيبًا، بل كل عاقل يمكنه أن يدركها. وهذا كعلمِ كلِّ أحدٍ إذا طلعت الشمسُ اليومَ أنها ستغرب بعد كذا وكذا ساعة، _________ (1) البخاري (846)، ومسلم (71).

(4/352)


وستطلع مرةً ثانية بعد تمام أربعٍ وعشرين ساعة، وغير ذلك. وأما ثانيًا فلأنّه لا يمكن حصول العلم القطعيّ لإمكان أن يخرق الله تعالى العادة، كما في طلوع الشمس من مغربها، وغير ذلك. وعلى هذا المنوال يقال في سائر الأشياء التي اطّردت العادةُ بوقوعها، كتأثير السمّ، وإحراق النار، وغير ذلك، والله أعلم. * * * * ومما يستدلّ به أهلُ الأرض على بعض الغيب من القسم الأول ولا يحصِّل إلا الظن الضعيف: الخطّ في الرمل. وفي حديث مسلم (1) عن معاوية بن الحكم قال: قلتُ: يا رسول الله، أمورٌ كنّا نصنعها ... الحديث إلى أن قال: قلت: وههنا رجالٌ يخطّون خطًّا، قال: «كان نبيٌّ من الأنبياء يخط، فمَن وافق خطَّه فذاك». وهذا إذنٌ بالخطِّ بشرط موافقة خطِّ ذاك النبي، وموافقة خط ذاك النبي متعذِّرة، فالتعليق به تعليق بالمُحَال، فمعنى الكلام على هذا: إطلاق عدم الإذن. فإن قيل: فلعلّ هذا الخط المنقول عن المتقدِّمين موافقٌ لخطِّ ذاك النبي. فالجواب: أن هذا أمرٌ مشكوكٌ فيه، والمراد بالموافقة المعلَّق عليها الإذن: الموافقةُ يقينًا أو على الأقل بِظنٍّ يُعْمَل بمثله في الشرع، بل الموافقة منتفية يقينًا؛ لأن هذا الخط لو كان موافقًا لخطّ ذلك النبي لكان الغالب عليه _________ (1) (537).

(4/353)


الصدق، والأمرُ بالعكس. وقد عُلِم أنّ الخط بالرمل لا يحصّل اليقين بل ولا الظنَّ الغالبَ، فليس من الاطلاع على الغيب في شيءٍ. والله أعلم. [201] ومن ذلك العَرافة، وهي عبارة عن الاستدلال بالأشياء التي تقارن وقتَ السؤال، من حال السائل والمسؤول، واسمه واسم المكان، وما يقع عند ذلك من كلام إنسان حاضر أو مرور حيوان، أو غير ذلك. ويدخل تحت هذا الفأل والطِيَرة. وفي حديث معاوية بن الحكم قال: كنا نتطيَّر، قال: «ذلك شيءٌ يجده أحدُكم في نفسه فلا يصدّنّكم». وفي «الصحيحين» (1) عن أبي هريرة قال: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا طِيرَة، وخيرها الفأل» قالوا: وما الفأل؟ قال: «الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم». وأقول ــ والله أعلم ــ: إن الإنسان إذا أراد سفرًا ــ مثلًا ــ فَعَرض له شيءٌ مما يتعَرَّف (2) به؛ كأن يسمع رجلًا ينادي: يا محمود، يا سعيد، يا مبارك؛ أو يسمع رجلًا ينادي: من يشتري النحاس؟ أو نحو ذلك= فالظاهر أن ذلك مجرَّد اتفاق، ويحتمل أن يكون الله سبحانه وتعالى يسّر (3) المنادي يا محمود، يا سعيد، يا مبارك؛ تبشيرًا لذلك المسافر إذا كان مؤمنًا وكان سفره مباحًا. ويحتمل أن يكون الشيطان ساق ذلك المنادي بالنحاس ليُحْزن ذلك المسافر، والشرعُ يرشد إلى اعتقاد الظاهر الغالب، وهو أن ذلك موافقة فقط. _________ (1) البخاري (5754)، ومسلم (2223). (2) غير محررة، ولعلها ما أثبت. (3) رسمها «يسره» ولعل الهاء مضروب عليها.

(4/354)


ولا يكره الفرح بالتفاؤل بنحو: يا مبارك، بتجويز أن يكون تبشيرًا من الله تعالى، فإنه مما يقوّي التوكّل على الله تعالى، بخلاف التفاؤل على غير هذا الوجه، بل باعتقاد التأثير لغير الله تعالى، فإنه شركٌ والعياذ بالله. وبخلاف التطيّر مطلقًا بنحو سماع: مَنْ يشتري النحاس؟ فإنه إن لم يكن مجرّد اتفاق فهو من الشيطان ولا شكّ، فالعمل به إنما يكون عن اعتقاد التأثير لغير الله تعالى، والعياذ بالله، ولذلك أطلقَ الشرعُ ذمّ الطِّيرة، وورد أنها من الشرك، وإنما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ذلك شيءٌ يجدونه في أنفسهم» [202] يدلّ أنّ مجرّد وجوده في النفس لا يضر. وهذا إذا كان مع اعتقاد أنه لا مؤثِّر إلا الله تعالى، فإن وجوده في النفس حينئذٍ يكون من وسوسة الشيطان المعفوّ عنها، كما في «الصحيحين» (1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّ الله تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورُها ما لم تعمل به أو تتكلّم». فأما إذا اعتقد الإنسان التأثير لغير الله تعالى فقد أشرك، وكذا إذا صدّه التطيّر عن عزمه، فإن هذا دليل اعتقاده ذلك، والعياذ بالله. والتفاؤل الذي لا بأس به هو ما اتفق من غير قصد، فأما ما يقصده الإنسان، كاستنطاق إنسانٍ آخر بقصد التفاؤل وغير ذلك= فهو حرام قطعًا، كإهاجة الطير وغيرها؛ لأنها تدلّ على اعتقاد التأثير، بخلاف مَن سمع شيئًا اتفاقًا ولم يصدّه عن التوكل، والله أعلم. ثم لا يخفى أن العَرافة مطلقًا لا تحصّل العلم بل ولا الظنّ الغالب، فليست من علم الغيب في شيءٍ. والله أعلم. _________ (1) البخاري (2528)، ومسلم (127).

(4/355)


ومما يستدلّ به على ما ذُكر: الطّرْق بالحصى. وفي «سنن أبي داود» (1) عن قَطَن بن قبيصة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «العيافة والطَّرْق والطِّيَرة من الجِبْت». قال في «المختار» (2): «الجِبْت كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر». وكأنها ــ والله أعلم ــ موضوعة للقَدْر المشترك، أي: للشيءِ الذي يعظِّمه الناسُ ويعتقدون فيه التأثير، وهو باطل. ولا يخفى أن دلالة الطَّرْق ليست إلا مجرّد تخرّص لا شُبْهَة فيها لعلمِ الغيب. والله أعلم. وقد حَدَث في القرون القريبة أشياءُ أخرى، كالتفاؤل بالقرآن (3)، وقد كنتُ أفعله، حتى فتحتُ المصحف في بعض الأيام، فإذا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة: 101]، ففهمتُ من هذه الآية دليلًا على النهي الخاصّ عن التفاؤل بالقرآن، ومَن تأمل فيها عَرَف وجه الدلالة. ومنها التفاؤل بغير القرآن من الكتب، والقرعة المعروفة بقرعة الأنبياء، وقرعة الطيور، وسهم الغيب، وغير ذلك. وكلها داخلة تحت النهي عن الطيرة. وقد أرْشَدَنا الشرعُ إلى ما نفعله إذا أردنا أمرًا من الأمور، وهي الاستخارة. _________ (1) (3907). وأخرجه أحمد (15915)، والنسائي في «الكبرى» (11043)، وابن حبان (6131) وغيرهم. (2) «مختار الصحاح» (ص 91). (3) قد وجد قبل ذلك، فقد ذكره ابن بطة وأنه فعله، انظر «مقدمة إبطال الحيل»، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية.

(4/356)


وتأمّل حكمةَ الشرعِ [203] كيف جعل الاستخارة هي عبارة عن دعاء الله تعالى: أنه إن علم أن ذلك الأمر خير للمستخير يسَّره له وإلا صَرَفه عنه، بخلاف زَجْر الطير والتفاؤل بالكتب وغيره، فإنها تُحَتِّم على صاحبها أن هذا الأمر بعينه خير، وهذا الأمر بعينه شرّ، فربما ظهر له المصلحة في ترك ذلك الفعل المزعوم أنه خير أو فِعْل ذلك الأمر المزعوم أنه شرّ، فيكون ذلك سببًا لهمّه وغمّه وحزنه وضعف توكّله؛ لوقوعه بين أمرين: بين ترجيح المصلحة الظاهرة، وترجيح ذلك التفاؤل. فالحمد لله الذي أرشدنا إلى ما فيه صلاحُ معاشِنا ومعادِنا، وراحةُ قلوبنا، ونجاتُنا مِن كلِّ همّ وغمّ وحَزَن، فالحمد لله رب العالمين.

(4/357)


 [القسم الثاني من الغيب]

[204] وأما القسم الثاني من الغيب، وهو ما يكون غيبًا بالنسبة إلى بعض الخلق دون بعضهم، فهو ثلاثة أنواع: الأول: ما يختصّ بمشاهدته الملائكة، كما فوق السموات، فهذا يلتحق بالقسم الأول. ومِن هذا أحوال الموتى، كما يدلّ عليه حديث «الصحيحين» (1) في عذاب القبر، وفيه في ذِكْر الكافر: «فيصيح صيحةً يسمعها من يليه غير الثقلين». النوع الثاني: ما يختص بمشاهدته الجن، أي دون الإنس، وهذا يمكن الإنس الإطلاع عليه بإخبار الجن، كما سيأتي تفصيله. الثالث: ما يشاهده البشر، وهذا بالنسبة إلى من أدركه منهم ببعض الإدراكات المشتركة بين البشر مشاهَدٌ لا غيب، وبالنسبة إلى مَن لا يدركه غيب، فيكون الشيء الواحد غيبًا غير غيب، أي غيبًا بالنسبة إلى بعض البشر غير غيب بالنسبة إلى غيره، بل قد يكون الشيءُ غيبًا غير غيبٍ مع اتحاد الشخص، ولكن باعتبارين، بأن يكون غير غيب بالنسبة إلى إدراكه ببعض الحواسّ، غيبًا بالنسبة إلى إدراكه بحاسّةٍ أخرى، وذلك كالأعمى ونحوه يلمس بعض الأشياء، فإنه غير غيبٍ بالنسبة إلى لمسه، وغيبًا (2) بالنسبة إلى بصره. وهذا النوع إذا كان غيبًا فإن البشر يستدلّون عليه بأمور منها ما يحصّل _________ (1) البخاري (1338)، ومسلم (2870) مختصرًا من حديث أنس رضي الله عنه. (2) كذا، والوجه «وغيبٌ».

(4/358)


العلم، وهو إظهار الله تعالى للأنبياء وإخبار الأنبياء لأصحابهم، ونَقْل عدد التواتر من أصحابهم، ونقل عدد التواتر ممن شاهد ذلك الشيء. ومنها ما لا يُحصِّل العلم، وهو الرؤيا والتحديث، بأن يُعْلِمه المَلَك بالطريقة المذكورة في القسم الأول، أو يشاهده بنفسه، فيحدِّث به في قلب المؤمن على نحو ما مرّ (1). ومنها الكَهَانة، وقد مرَّت حقيقتُها في القسم الأول (2)، ولكنها هاهنا تتوسّع؛ لأن الجنّ متمكِّنون من مشاهدة الحوادث الأرضية، ومِن قَطْعِ المسافات البعيدة في المدّة القصيرة، قال الله تعالى: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل: 39]. وكَذِبُهم وكَذِبُ الكهّان إنما هو في القسم الأول لاحتياجهم إلى الكذب، لأنهم لا يتحصّلون بعد المخاطرة وهلاك كثير منهم إلّا على بعض الكلمات التي لا تفي بالمعنى، فيتخرَّصون الكذب لإتمام المعنى. [205] فأما في الحوادث الأرضية فلا داعي لهم إلى الكذب، ولاسيَّما إذا علموا أنّ وليَّهم الإنسيَّ إذا كَثُر صدقُه في الإخبار عن الحوادث البعيدة اعتقد الناسُ فيه العقائد الزائفة، فإن الشياطين يحرصون حينئذٍ على صدق الحديث بمقدار حرصهم على إضلال الناس. ويمكنهم اطلاع الشياطين على الحوادث الأرضية بالمشاهدة وبالسماع من الجن ومن الإنس ممن شاهد ذلك أو سمع به أو ظنه بطريقٍ من طرق _________ (1) (ص 330 و 341). (2) (ص 343).

(4/359)


الظن وغير ذلك. وإلقائهم للإنس على قسمين: فمن كان متصلًا بهم شافهوه مشافهةً، ومَن لم يكن كذلك وسوسوا بها في نفسه. وربما وَسْوَس الشيطان في نفس الإنسان بشيءٍ ثم ذهب إلى إنسان آخر فوسوس بذلك الشيء عينه، ومن هنا يقع كثيرًا أنه إذا تثاءب شخص تثاءب من بجنبه، وذلك أن التثاؤب من الشيطان كما في الحديث (1). وربما وسوس الشيطان في صدر إنسان ثم أخبر وليّه ــ أو (2) وسوس في نفسه ــ أن ذلك الإنسان يقول في نفسه كذا وكذا ــ ذلك الآخر الذي وسوس له به ــ فيقول الوليّ لذلك الإنسان: إنك تقول في نفسك كذا وكذا! وربما تناولت الشياطين الإخبار، وقس على هذا. وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه خَطَر في نفسه بعض الأيام أن يتزوّج بعضَ النساء، فلم يكلِّم بذلك أحدًا، ثم خرج إلى السوق، فإذا الخبر شائع بين الناس: أن أمير المؤمنين يريد أن يتزوج فلانة، فقال: هذا الخنّاس (3). وبهذه المناسبة أقول: إنه قد تقع لي بعضُ الخواطر فتصدُق وأنا أزِنها بميزان الشرع، فما كان ظاهره الخير رجوتُ أن يكون من المَلك، وما كان ظاهره الشرُّ خشيتُ أن يكون من الشيطان. _________ (1) أخرجه البخاري (3289) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) تحتمل: «أي». (3) لم أعثر عليه.

(4/360)


ومن ذلك أني كنت سنة 35 (1) ببلدتي «عُتمة» بمركزها المعروف بـ «الربوع»، وأنا إذ ذاك أكتب لحاكمها السيّد محمد بن علي الذّاري (2)، وكان قد أرسل رسولًا إلى الإمام يحيى بن محمد، فأبطأ الرسول. وبينا أنا يومًا جالس أمام القلعة خَطَر لي أن ذلك الرسول الذي ينتظره سيمرّ حينئذٍ من تحت القلعة، فصوّبت نظري إلى تحت القلعة؛ وإذا بذلك الرجل مارًّا من ذلك المكان. والذي يهمّنا من هذا أن رؤية الإنسيّ للجنيّ وسماعه لكلامه إنما يكون إذا تمثّل الجني بصورةٍ غير صورته الأصلية، قال الله تعالى في إبليس عليه اللعنة: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27]، فمشاهدة الإنسي للجني بعد تمثّله بغير صورته ليست من الاطلاع على الغيب، وكذلك سماعه لكلامه، وكذلك الاستفادة من كلامه عن حال بعض الحوادث الأرضية ليس من الاطلاع على الغيب، كما في خبر الإنسي للإنسي. ومع هذا كله فالجنّ مغرمون بالكذب، ولا يمكن بلوغ خبرهم حدَّ التواتر، فلا يحصل بخبرهم القطع، ولو حصل لم يكن من الاطلاع على الغيب المنفيّ في الآيتين، والله أعلم. [206] ومما يُستدلّ به في هذا النوع: النظر في النجوم والعَرافة والطَّرْق والخطّ والتنويم المغناطيسي، وغير ذلك مما مرّ، وحكمُه ما مرّ في القسم الأول (3). _________ (1) أي (1335 هـ). (2) (ت 1344 هـ). ترجمته في «هجر العلم»: (2/ 661)، و «نزهة النظر» (ص 569). (3) (ص 343 - 357).

(4/361)


نعم، ربما أعانت الشياطين أصحاب تلك الطرق مع تمكّنها من معرفة الحوادث الأرضية كما مرّ، فيكثر صدقُهم، وعلى كلٍّ فإنَّ شيئًا من ذلك لا يحصّل العلم، والله أعلم. ومما يدخل في هذا الباب ما يُؤثَر عن أهل الرياضات كالإشراقيين من الفلاسفة، والبراهمة في الهند، وبعض المتصوّفة من المسلمين ونحوهم، وذلك أنهم يعالجون أنفسهم بالجوع والسهر والبعد عن الناس، وغير ذلك، فيزعمون أنه يبلغ بهم ذلك مراتب؛ أدناها: سرعةُ الفهم للأشياء الغامضة ونحو ذلك، وأعلاها عند الإشراقيين ــ من (1) أدناها عند المتصوّفة ــ: تَمَكُّنُ أرواحِهم مِن الاطّلاع على بعض الحوادث الكونية، كما يُحكى أن الإشراقيين من أصحاب أفلاطون كانوا يقفون بمكان بعيدٍ عن مكانه ثم يتلقُّون منه الحكمة بخواطرهم، ومثل هذا كثير من حكايات المتصوّفة. والذي أراه في هذا: أنه إن كان مع نومهم فهو نوعٌ من الرؤيا، غايةُ الأمر أنهم لما كانت أنفسهم متعلّقة بمعرفة الحكمة كلَّ التعلُّق صارت تحدِّثهم في النوم بما هي مشغولة به، فربما توصّلت بذلك إلى تسلسل النظر ومعرفة بعض الحقائق. ومثل هذا يقع لكثير من الناس، وما مِنّا أحدٌ إلا وقد يجد نحو ذلك من نفسه في بعض الأحيان، فإني أيّام تعلُّقي بقرض الشعر كنت كثيرًا ما أرى في النوم أني نظمتُ البيتَ أو البيتين أو الثلاثة فصاعدًا، وربما أسْتَيقظُ وأنا ذاكر لذلك. وأيام تعلُّقي بتأليف هذه الرسالة كثيرًا ما أرى في النوم أني أنظر في بعض مسائلها وأراجع الكتب وغير ذلك. _________ (1) كلمة غير محررة ولعلها ما أثبت.

(4/362)


وإن كانوا يزعمون أن ذلك في حال يقظتهم كما هو ظاهر كلام بعضهم وصريح كلام آخرين، فقد ذكروا أن سببه هو أن الإنسان إذا استعمل الرياضة ضعف جسدُه حتى يصير شبيهًا بجسد النائم، فيتأتّى له حينئذٍ في اليقظة ما يتأتّى له في النوم، فيرى صورَ الأشياء لكن لا بعينيه الشحميَّتين بل بالقوّة التي يرى بها في النوم، وهكذا السماع وغيره بحيث يُطبق عينيه فلا تمتنع الرؤية، ويسدّ أُذنيه فلا يمتنع السماع، ونحو ذلك (1). وهذا ــ إنْ حسّنّا العبارة ــ نوعٌ من الرُّؤيا، أوَ لا ترى أنك إذا أردت تخيّل صورة شيءٍ غائب ثم أطبقت عينيك كان التخيُّل أقوى مما إذا فتحتهما، وذلك لأنّ في إطباقهما تفريغًا للنفس من الاشتغال بالمحسوسات. وبهذا يعلم أنه كلما ازداد الإنسان بعدًا عن الاشتغال بالمحسوسات صار أقوى تخيُّلًا كما في النوم. فمِنْ أعمال الجن: يُخيِّلون للإنسان المرئيات والمسموعات ويوسوسون في خاطره ببعض الوقائع كما مرّ. والرياضة هي السبب الوحيد لموالاة الجن والشياطين والاستعانة بهم كما هو معروف عند الوثنيين. [206 ب] وفي كلامٍ لابن عربي نقله الآلوسي في بعض كتبه (2) قال: «لله تعالى ملَك موكّل بالرؤيا يسمى (الروح) وهو دون السماء الدنيا، بيده صور الأجساد التي يدرك فيها النائم نفسه وغيره، وصور ما يحدث من تلك الصور _________ (1) عدة كلمات ذهبت أوائلها لمجيئها في طرف الورقة. ولعلها ما اجتهدت في إثباته. (2) لعله في رحلته «غرائب الاغتراب». وكلام ابن عربي في «الفتوحات المكية»: (2/ 6).

(4/363)


من الأكوان، فإذا نام الإنسان أو كان صاحب غَيبةٍ وفناء، أو قوة إدراك لا تحجبه المحسوساتُ في يقظته عن إدراك ما بيد هذا الملك من الصور، فيدرك ما يدركه النائم، لأنّ اللطيفة الإنسانية تنتقل بقواها من حضرة المحسوسات إلى حضرة الخيال المتَّصل بها الذي محلّه مُقدَّم الدماغ، فيفيض عليها ذلك الروح الموكل بالصور من الخيال المنفصل عن الإذن الإلهي ما يشاء الحق أن يريه لهذا النائم أو الغائب ومَنْ ذُكِر معه من المعاني متجسِّدَةً في الصور التي بيد هذا المَلك، فمنها ما يتعلَّق بالله تعالى وما يوصَف به من الأسماء، فيدرك الحق في صورة أو القرآن أو العلم أو الرسول الذي هو على شرعه، فهنا يحدث للرائي ثلاث مراتب: أحدها: أن تكون [الصورة] (1) المدْرَكة راجعة للمرئي بالنظر إلى منزلةٍ ما من منازله وصفاته الراجعة إليه، فتلك رؤيا الأمر على ما هو عليه بما يرجع إليه. الثانية: أن تكون الصورة المرئية راجعة إلى حال الرائي في نفسه. الثالثة: أن تكون راجعةً إلى الحقِّ المشروع والناموس الموضوع، أيِّ ناموسٍ كان في تلك البقعة التي ترى تلك الصورة فيها، وفي ولاة أمر ذلك الإقليم القائمين بناموسه. وما ثَمَّ رتبة رابعة. فالأولى حسنةٌ كاملة لا تتصف بقبح ولا نقص، والأخيرتان قد تظهر الصورة فيهما بحسب الأحوال من حُسْن وقُبْح ونَقْص وكَمَال. فإن كان من تلك [الصورة] خطابٌ فهو بحسب ما يكون الخطاب، وبقَدْر ما يَفْهَم منه في رؤياه، ولا يعوِّل على التعبير في ذلك بعد الرجوع إلى عالم الحس إلا إذا _________ (1) ما بين المعكوفين هنا وما بعده مستدرك من «الفتوحات» لابن عربي.

(4/364)


كان عالمًا بالتعبير أو يسأل عالمًا به. وينظر حركة الرائي مع تلك الصورة مِن أدبٍ واحترام وغير ذلك، بحسب ما يصدر منه من معاملته لتلك الصورة، فإنها صورة حقّ من كل وجه، وقد يشاهد الروح الذي بيده هذه الصورة وقد لا [يشاهده]. وما عدا هذه الصورة فليست إلا من الشيطان أو مما يحدِّث المرءُ به نفسَه في يقظته، فلا يعوُّل عليها، ومع ذلك إذا عُبِّرَت كان لها حُكم ولا بدّ، ويحدث لها ذلك من قوة تعبير المُعَبِّر لا من نفسها ... » إلخ. والذي يتلخّص منه: أنّ ما يقع للمرتاضين من الصوفية وغيرهم في بعضهم هو من قبيل الرؤيا بأقسامها، مِن صادق وكاذب ومحتاج إلى التأويل وغيره. وتعيين الصادقة من الكاذبة، والصريحة من المؤوّلة، وتعيين التأويل= كلُّ ذلك مجرّد حَدْس وتخمين لا يحصل به الظن المعمول به شرعًا فضلًا عن اليقين. قال الآلوسي (1): وقال غير واحدٍ من المتفلسفة: هي انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيّلة إلى الحس المشترك. والصادقةُ منها إنما تكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ، فيتصوّر بما فيها مما يليق بها من المعاني الحاصلة هناك. ثم إن المتخيّلة تحاكيه بصورة تناسبه، فترسلها على الحس المشترك، فتصير مشاهَدَةً، ثم إن كانت شديدةَ المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت إلا بالكلية والجزئية استغنت عن التعبير وإلّا احتاجت إليه. _________ (1) في «روح المعاني»: (12/ 181 - 182). وقوله: «هي انطباع الصورة ... وإلّا احتاجت إليه» هو نص كلام البيضاوي في تفسيره: (3/ 274).

(4/365)


والفرق بين المحتاجة وغيرها عسر جدًّا (1). وذكر بعض أكابر السادة الصوفية ما يقرب من هذا، وهو: أن الرؤيا من أحكامها: حضرة المثال المقيد المسمّى بالخيال، وهو قد يتأثّر من العقول السماوية والنفوس الناطقة المدركة للمعاني الكلية والجزئية، فيظهر فيه صور مناسبة لتلك المعاني، وقد يتأثر من القوى الوهمية المدركة للمعاني الجزئية فقط، فتظهر فيه صور تناسبها، وهذا قد يكون بسبب سوء مزاج الدّماغ، وقد يكون بسبب توجُّه النفس بالقوّة الوهمية إلى إيجاد صورةٍ من الصور، كمن يتخيّل صورةَ محبوبه الغائب عنه تخيّلًا قويًّا، فتظهر صورته في خياله فيشاهده (2) ... إلخ. [207] ومن هذا ما ذكره بعضُ المتصوِّفة: أنهم يرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يَقَظَةً، وهم إذا أرادوا أن يُرَبُّوا المريد إلى نيل هذه الدرجة يأمرونه بالرياضة الشاقة، فيواصل الصومَ المدّةَ الطويلة ويختلي عن الناس، وأن يفرغ فكره عن كل شيءٍ، ثم يستعمل الصلاةَ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويكلِّف نفسَه تخيّل ذات النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم كما هو منعوت في «الشمائل الترمذية» وغيرها، ويداوم على هذا= فإنه يرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يَقَظةً. وقد عرفتَ رأيي في هذا مما مرَّ. فإن قيل: فقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أن الشيطان لا يتمثّل به (3). _________ (1) هذه العبارة ليست من كلام الآلوسي، فلعلَّها تعليق من المؤلف. (2) إلى هنا ينتهي كلام الآلوسي. (3) سبق تخريجه.

(4/366)


قلت: ونحن لم نقل إنه تمثّل به، وإنما قلنا: إنّ قوّة التخيّل تبلغ بالإنسان أن يرى في اليقظة ما يراه في النوم، كما أنّ قوّة التخيّل قد توهم الإنسان أنه رأى بعينيه الشحميَّتين ما لم يره، ويسمع بأذنيه ما لم يسمعه، ويلمس ببعض أعضائه ما لم يلمسه، كمن يتراءى الهلال ليلة الثلاثين، ويطيلُ النظرَ، فإنه يتخيّل أنه رأى الهلال، ولكنه لا يلبث أن يزول، فيذهب بعضُ الجهّال يشهد برؤية الهلال. وأما مَن يعرف السبب فإنه لا يعتبر تلك الخَطْفة حتَّى تثبت الرؤية. ولا يبعد أنه إذا قوي التخيّل، ولاسيّما مع الرياضة والتفرُّغ والتخلِّي عن الناس= يبلغ الإنسان إلى حدٍّ أعظم من هذا، فيظنّه قد رآى وتثبّت. وقد مرّ في المنقول عن الآلوسي ما يفيده. وأما في تخيّل غير ذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنهم معرّضون لتلاعب الشياطين ــ والعياذ بالله ــ في حواسهم الباطنة والظاهرة برياضةٍ أو بدونها، وعُقلاؤهم عارفون بهذا ولكنهم يرون أن اشتغال المريد بأوصاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حدّ استحضارها تمامًا بحيث يصير يراها في النوم، ويراها برؤيا المثال في اليَقَظة= مزية عظيمة وفائدة كبيرة، ومع ذلك فإنهم لا يزالون يرشدون كلَّ من سلك طريقهم أن يعرض كل ما ظهر له من الأفهام على كتاب الله تعالى وسنة رسوله، أي بدلالتيهما التي اعتبرها الشرع، فإن كان موافقًا عمل به، وإن كان مخالفًا حَذِره، وإن لم يعلم موافقته ولا مخالفته وَقَف، فينزِّلون الكشفَ منزلةَ الرؤيا، وهم في هذا مصيبون، وإنما خطؤهم من حيث مخالفتُهم لذلك أحيانًا، ومن حيث سلوكُهم طريقًا غير الطريق التي أمر الله تعالى بها ورسولُه، ولزمها الصحابةُ

(4/367)


والتابعون وتابعوهم، فلم يكن فيهم أحدٌ يخالف الشرعَ فيعمل بعمل هؤلاء القوم ويزعم ما يزعمونه، ويغترّ بما اغترّوا به. فالشريعة تنهى عن الوصال في الصيام ولو يومين (1)، بل ورد في «الصحيح» (2) الأمر بالسحور وتعجيل الفطور. ومن حكمة ذلك ــ والله أعلم ــ أن لا تطول مدّة الإمساك. [208] وثبت في «الصحيح» (3) النهي عن صوم الدهر. وثبت في «الصحيح» (4) النهي عن سَهَر أكثر الليل، وثبت فيه (5) النهي عن الترهّب وغير ذلك. والحاصلُ أن الشرع اختار أوساط الأمور، وخيرُ الأمور أوساطها. _________ (1) أخرجه البخاري (1962)، ومسلم (1102) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (2) تعجيل الفطر أخرجه البخاري (1957)، ومسلم (1098) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، وتأخير السحور أخرجه البخاري (1920) من حديثه أيضًا، وأخرجه مسلم (1094) من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه. (3) أخرج البخاري (5063) حديث الثلاثة الذين تقالّوا عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفيهم من قال: «أنا أصوم الدهر ... » الحديث. وأخرج مسلم (1162) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كيف بمَن يصوم الدهر؟ فقال: «لا صام ولا أفطر ... » الحديث. (4) كما في حديث أبي برزه الأسلمي رضي الله عنه في البخاري (547)، ومسلم (647): «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤخر العشاء إلى ثلث الليل ويكره النوم قبلها والحديث بعدها ... ». (5) في البخاري (5073)، ومسلم (1402) عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ردّ على عثمان بن مظعون التّبَتُّل .. . وجاء في «مسند أحمد» (25893) وابن حبان (9) قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعثمان بن مظعون: «يا عثمان إن الرهبانية لم تُكتب علينا ... » الحديث.

(4/368)


والكلامُ في هذا يطول، ولكن حسبك أن ربّنا سبحانه وتعالى هو الذي بيده الخير كلّه، وإليه يُرجع الأمر كلُّه، وهو الرزَّاق لخيرات الدنيا من مالٍ وعلمٍ وفهم وغيره، ولخيرات الآخرة. فمن كان يطلب ما هو خير له في دينه ودنياه معًا، فليعلم أن ذلك لا يتأتّى له إلا برضوان الله، ورضوانُ الله لا يتأتّى إلا بطاعته، وطاعتُه هي التزام ما ورد في كتابه وسنة رسوله، وليحذر أن يخالف ذلك أو يشرع من عنده ما لم يأذن به الله في كتابه أو على لسان رسوله، فيبوءُ بالخسران. ومَن كان يطلب ما هو خير له في دنياه فقط فهو وما تولّى، وما أحراه أن يخسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]، يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك، واهدني لما اخْتُلِف فيه من الحقّ بإذنك، وارض عني رضًا لا سخط بعده، بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

(4/369)


خاتمة قد أتينا بحمد الله تعالى في هذا الفصل على جُلِّ أو كُلِّ الطرق التي يُستدلّ بها على المغيّبات، وبقي الكشف الذي يدّعيه الصوفية، وهو لا يخرج عما ذكرنا، وهو محتملٌ لأن يكون من الرؤيا أو حديث النفس أو التحديث، وأن يكون من تلاعب الشياطين والعياذ بالله. وهم معترفون بهذا، فتسمعهم يقولون: «كشف رحماني، كشف شيطاني»، «خاطر روحاني، خاطر شيطاني». والتمييز بالرجوع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله. ومن ذلك رؤيتهم لمن يظنونه أو يزعم أنه مَلَك، وسماع كلام من يظنونه أو يزعم أنه ملك. وقد سبق (1) أنهم يقولون: إنه لا يجتمع لهم الرؤية والسماع معًا، وإنما يرون ولا يسمعون، أو يسمعون ولا يرون. وهذا كسائر أنواع الكشف على كلِّ حال لا يُحصِّل اليقين، ولا يحصل به إلا بعض الظنّ، فتبيَّن أنه ليس فيه ولا في غيره من تلك الأمور ما يُعدّ إظهارًا على الغيب لغير الرسل. والحمد لله رب العالمين. _________ (1) (ص 363).

(4/370)


[الكلام في حجية الإلهام وهل هو من الإظهار على الغيب؟] [209] وقد ذكر الشوكاني في «إرشاد الفحول» (1) دعوى بعض المتصوّفة حجيَّةَ الإلهام، قال: «واحتجَّ بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] أي: ما تفرّقون به بين الحق والباطل، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] أي: عن كل ما يلتبس على غيره وجهُ الحكم فيه. وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]. فهذه العلوم الدينية تحصُلُ للعباد إذا زَكَت أنفسُهم، وسلمت قلوبهم لله تعالى، بترك المنهيّات وامتثال المأمورات؛ وخبرُهُ (2) صدق ووعده حق. واحتجَّ شهابُ الدين السُّهْرَوَرْدي على الإلهام بقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7]، وبقوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]. فهذا الوحي هو مجرّد الإلهام. ثم إن من الوحي (3) علومًا تحدث في النفوس الزكيَّة المطمئنَّة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إن مِن أُمتّي المحدَّثين والمكلَّمين، وإن عمر لمنهم» (4). وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} _________ (1) (2/ 1016 - 1020 - ت الأثري). (2) في الطبعة الجديدة: «إذ خبره ... ». (3) كذا في الأصل تبعًا للطبعة القديمة، وفي الجديدة: «الإلهام». (4) لم أجده بهذا اللفظ، ومصدر الشوكاني «البحر المحيط» للزركشي: (6/ 104). وهو بمعناه في الصحيح كما سيأتي.

(4/371)


[الشمس: 7 - 8]، فأخبر أن النفوس مُلهَمَة. قال الشوكاني: قلت: وهذا الحديث الذي ذكره هو ثابت في الصحيح (1) بمعناه، قال ابن وهب في تفسير الحديث: أي: مُلهَمون، ولهذا قال صاحب «نهاية الغريب» (2): جاء في الحديث تفسيره أنهم الملهمون، والملهم: هو الذي يُلْقى في نفسه الشيء، فيخْبِر به حدسًا وفراسةً، وهو نوعٌ يخصّ به الله مَن يشاء من عباده، كأنهم حُدِّثوا بشيء فقالوه (3). وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «استفتِ قلبك، وإن أفتاك الناس» (4)، فذلك في الواقعة التي تتعارض فيها الأدلة. قال الغزالي: واستفتاء القلب إنما هو حيث أباح المفتي، أما حيث حَرَّم فيجب الامتناع ... إلخ. وقال الشوكاني في آخر الكلام: «ثم على تقدير الاستدلال لثبوت الإلهام بمثل ما تقدَّم من الأدلة، من أين لنا أن دعوى هذا الفرد لحصول _________ (1) البخاري (3469) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم (2398) من حديث عائشة رضي الله عنها. (2) (1/ 350). (3) الأصل: «قالوه». (4) أخرجه أحمد (18006)، والدارمي (2575)، وأبو يعلى (1586) وغيرهم عن وابصة بن معبد رضي الله عنه. والحديث حسَّنه النووي في «رياض الصالحين» (ص 208) و «الأذكار» (ص 408). وضعَّفه الحافظ ابن رجب في «جامع العلوم والحكم»: (2/ 94) وأعلّه بالانقطاع، وبضعف الزبير بن عبد السلام. وانظر حاشية المسند: (29/ 528 - 529).

(4/372)


الإلهام له صحيحة، وما الدليل على أن قلبه من القلوب التي ليست بموسوسة ولا بمتساهلة؟ » ا? . يقول عبد الله الفقير إليه: قد سبق في تضاعيف هذه الرسالة ما يُعلَم منه الجواب، ولكن ينبغي أن نعيده هنا موضَّحًا فأقول: أما وجود الإلهام فلا نزاع فيه، فأفراد العالَمِ كلّها تحت حكم الله تعالى يُلْهم كلًّا منها ما أراد، ومِنْ ذلك القلوب كما قال تعالى (1): وفي «الصحيح» (2) عن عبد الله بن عَمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلبٍ واحدٍ يصرّفه كيف يشاء» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم مصرّف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك». فالباري جلّ جلاله كما يُلْهِم جميع الكائنات ما أراد، فهو يُلْهِم القلوبَ كلَّها [210] والأدلة على هذا أكثر من أن تُحْصَى، ولكن هذا الإلهام هو عبارة عن خاطرٍ من جنس هذه الخواطر التي يجدها الإنسان في نفسه، وهذا هو الذي وقع لأمّ موسى، فإنها لما وضعَتْه وخافت عليه فرعون، وقع في نفسها أن ترضعه كما ترضع الأمُّ ولدَها، فإذا خافت عليه جعلته في صندوق وألقتِ الصندوقَ في الماء. [و] لمّا أنّ الصندوق لا يرسب في الماء، فلابُدَّ أن تذهب به الأمواج، فيراه بعض الناس فيأخذه، فيحتمل حينئذٍ أنه من أبناء _________ (1) كتب المؤلف: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا} [الشمس: 7 - 8] ثم ضرب عليها، وأبقى موضع الآية بياضًا. ولعل قوله: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} مما يصلح في هذا الموضع. (2) أخرجه مسلم (2654).

(4/373)


القِبْط وضَعَتْه أمُّه في التابوت لريبةٍ أو غيرها فيَسْلَم، ويحتمل أن يعلم أنه من بني إسرائيل، فَعَلَت به أمُّه ذلك خوفًا عليه من الذبح فيُذْبح، ويحتمل أن يقع في يد فرعون أو شخصٍ من أتباعه فيرحمه، ويحتمل أن تتدافعه الأمواج حتى يموت، فأنتَ ترى أن هذا الفعل كما يحتمل الهلاكَ يحتمل السلامةَ، بخلاف ما لو تركَتْه عندها فإنه لا يحتمل إلا الهلاك. ومع ذلك فهلاكه بعيدًا عنها أهون عليها من ذبحه في حجرها. والحاصل أن المصلحة تقتضي وضعه في التابوت، فألْهَم الله تعالى أمَّ موسى هذا الفعل، فوجدت في نفسها خاطرًا يرشدها إلى ذلك، وتبيَّنت لها المصلحةُ المعقولةُ ففعلَتْه. وهذا الخاطر هو في الظاهر من جنس الخواطر التي يمكن عروضها لكلِّ أحدٍ. فالإلهام الذي لا نزاع في وجوده هو نحو هذا مما يلتبس بسائر الخواطر. فمن ادّعى زيادةً على هذا فدعواه مردودة إلا ما كان من قبيل الرؤيا، وقد مرَّ الكلامُ عليها (1). وقد ثبت في «صحيح البخاري» (2) قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لم يبق من النبوّة إلا المبشِّرات» قالوا: وما المبشِّرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة». وفي «صحيح مسلم» (3) زيارة أبي بكر وعمر لأمّ أيمن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما انتهيا إليها بكت، فقالا لها: ما يُبْكيك ... الحديث إلى أن قالت: ولكني أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيّجَتْهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها. وقد مرَّ في هذا _________ (1) (ص 328 وما بعدها). (2) (6990) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) (2454) من حديث أنسٍ رضي الله عنه.

(4/374)


الموضوع ما يُغني. وأما حديث التحديث، فليس فيه أن التحديث أمر زائد على الخاطر، وإنما يمتاز المُحَدَّث عن غيره بكثرة الخواطر الحقّة (1) في خواطره، فيكون تفرّسه أكثر صوابًا من غيره. وأما قوله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، وقوله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، فليس فيهما أن الفرقان والمخرج هو إلهامُ نفسِ الحكم أو الدليل بطريق غيرِ عادية. وعليه فالحقُّ أن الفرقان والمخرج هو في حقِّ المجتهد أن يجعل الله تعالى في قلبه باعثًا على طلب الحق، وييسّر له النظر في الحجج الظاهرة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله بالطريق العادية، ويثبّته تعالى حتى لا يُقصِّر ولا يتَّبع الهوى، بل يؤدّي ما وجب عليه، بحيث يكون مُصيبًا مأجورًا أجرين، أو مخطئًا معذورًا، مأجورًا أجرًا واحدًا. وفي حقّ العامّي أن يجعل الله تعالى في قلبه [211] باعثًا على طلب الحق، والحرص على استفتاء العلماء في كلِّ ما يعرض له، وييسّر له من يسأله من العلماء بالطريق العادية، ويثبّته تعالى حتى لا يُقصر ولا يتعدّى، بل يؤدي ما يجب عليه. وإنما لم نقل: إن الفرقان والمخرج هو ما يكون فيه إصابة الصواب في نفس الأمر لأمرين: _________ (1) غير محررة في الأصل، ولعلها ما أثبت.

(4/375)


الأول: أن الأجر والسعادة لا تتوقّف على ذلك، بل تتوقّف على أداء الواجب. الثاني: أننا وجدنا الأنبياء عليهم السلام قد ينسون ويخطئون، كما وقع لداود عليه السلام في شأن الغنم، وفي شأن المرأتين، وغير ذلك مما قد مرَّ بعضُه (1) ــ وهم أتقى الناس ــ فإذا جاز عليهم الخطأ فغيرهم أولى بلا شكّ، وإنما يُذَكِّرهم الله تعالى لئلا يصير خطاؤهم شَرْعًا يُعمل به، وهذا منتفٍ في حقّ غيرهم. وكذلك وجدنا الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا اختلافًا كثيرًا، ووقع منهم الخطأ، وهم أتقى الأمة بل أتقى الأمم، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ... } الآية [الفتح: 29]. وقد نزل في أبي بكر رضي الله عنه قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} (2) [الليل: 17]، فشهد له القرآن أنه الأتقى، وهذا يستلزم أن يكون أتقى بني آدم ما عدا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومع ذلك فقد كان يقع منه الخطأ، بدليل مخالفة أكابر الصحابة له في كثير من الأمور كما في المسألة الأولى (3). وكذلك التابعون وتابعوهم المشهود لهم بأنهم خير القرون، وفيهم أكابر الأئمة كالمجتهدين الأربعة وغيرهم. وهذا واضحٌ جدًّا. _________ (1) لم نره فيما سبق. (2) انظر «الدر المنثور»: (15/ 477 - 478). (3) (ص 111 - 112).

(4/376)


ثم إن الفرقان والمخرج إنما يطَّرِد في حقّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لِعِصْمتهم من الإخلال بالتقوى مطلقًا، فأما غيرهم فلا يطّرد لعدم العصمة، إلا أن الظاهر أنه إذا استوى العالِمَان في العلم وامتاز أحدهما بزيادة التقوى كان قوله أرجح، وهذا إنما يتأتّى اعتباره في العامّي إذا استفتى العَالِمَين، ولم يظهر له رُجحان دليل أحدهما، فأما مَن عداه فإنه تَبَعٌ للدليل كما ورد: «الحكمةُ ضالةُ المؤمن ... » (1) إلخ، وكما عُرف من حال الصحابة رضي الله عنهم ومَن بعدهم في مخالفة كل منهم للأفضل والأتقى إذا ظهر له رجحانُ دليل غيره. وبهذا عُرِفت الميزة التي امتاز بها المتّقي عن غيره ودَلَّت عليها الآيتان، فالمتّقي إن كان نبيًّا فهو مصيب أبدًا، وإن كان غير نبيّ فهو مأجور غالبًا. وأما غير المتّقي فإنه لا يستحقّ التثبيت، بل يغلب عليه الكسل عن أداء ما يلزمه من الاجتهاد أو سؤال المجتهد، فيقصّر في ذلك ويعمل برأيه، وقد يتّبع هواه ويتعصّب، ومع هذا فالحال غير مطّرِد وإنما يتأتّى الاعتبار بنحو ما سبق في التّقي والأتقى، والله أعلم. وأما قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] فلا يتأتّى الاستدلال بها إلّا على تقدير معيَّة الواو، وهو غير متعيّن، ولو سُلِّم _________ (1) أخرجه الترمذي (3687)، وابن ماجه (4169) وغيرهما من طريق إبراهيم بن الفضل عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: «هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن الفضل المدني المخزومي يُضعّف في الحديث من قبل حفظه». وضعّفه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (114)، وانظر «المقاصد الحسنة» (ص 191) للسخاوي.

(4/377)


فالتعليم في هذه الآية هو بمعنى الفرقان والمخرج في الأوليين، والله أعلم. [212] والحاصل أن الإلهام ليس إلا عبارة عن خاطرة من جنس هذه الخواطر التي تعرض لكلِّ إنسان، والخواطر تتنوّع إلى حديث النفس وإلى ما يكون بمجرَّد خلق الله تعالى، وإلى ما يكون بحديث الملك، ويزيد غيرُ الأنبياء بوسوسة الشياطين. وحديثُ النفس قد يكون حقًّا وقد يكون باطلًا. وما كان بمجرَّد خلق الله تعالى قد يكون للهداية، وقد يكون للابتلاء، ونحوه ما يكون بتحديث الملك. وما يكون من الشيطان لا يكون إلا باطلًا، إلا أنه ربما وسوس بالأمر من الحق يتوصّل به إلى باطل أشدّ. وحينئذٍ فنقول لمدّعي حجية الإلهام: بأيّ طريقٍ عرفتَ أنه حقّ؟ فإن قال: بإلهامٍ آخر. قلنا له: والإلهام الآخر يحتمل ما احتمل الأول، وبتطرّق الاحتمال إلى الثاني يتطرّق الاحتمال إلى الأوّل. وإن قال: لكون صاحب الخاطر متَيَقّنًا. قلنا له: هل هو معصوم؟ قال: لا. قلنا: فكيف قلتَ ما قلتَ؟ فإن قال: الغالب على المتَّقي خواطر الحقّ بدليل تلك الآيات المتقدّمة، وحديث التحديث.

(4/378)


قلنا: أَتْقى خَلْق الله تعالى أنبياؤه، وقد عرفتَ جواز السهو والخطأ عليهم، وتذكيرهم ليس لمجرّد التقوى، وإنما هو لأمر آخر. وهذا يدلّ أنّ اطّراد التقوى لا يستلزم اطراد صِدْق الخواطر، وأما إذا لم تَطَّرِد التقوى فالأمر أبْيَن، ومثل هذا لا يكون حجة، كما في الراوي إذا كذب مرّةً أو مرتين لم تُقبَل روايتُه مطلقًا، على أنه يحتمل أن يكون أكثر حديثه صدقًا. وبنحو هذا يُجاب عن حديث التحديث. وإن قال مدّعي الحُجّية: عرفتُ أنه إلهام بانشراح صدري له، وانشراح الصدر إنما يكون لِمَا يكون من جهة الله تعالى. قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]. وقال تعالى في سورة أخرى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268]. وفي الحديث عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن للشيطان لَمَّة بابن آدم وللمَلَك لَمَّة، فأما لَمَّة الشيطان فإيعاد بالشرّ، وتكذيب بالحقّ، وأما لَمّة المَلَك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومَن وجد الأخرى فليتعوّذ بالله من الشيطان الرجيم». ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ}. رواه الترمذي (1)، وقال: هذا حديث غريب. _________ (1) (2988). وأخرجه النسائي في «الكبرى» (10985)، والبزّار (2027)، وأبو يعلى (4999)، وابن حبان (997). وفي سنده عطاء بن السائب اختلط بأخرة، والراوي عنه أبو الأحوص روى عنه بعد الاختلاط. انظر «الكواكب النيّرات» (ص 319 وما بعدها). ورجَّح الأئمة وقفه. «علل الترمذي» (654) و «علل ابن أبي حاتم» (2224).

(4/379)


[213] وأخرج البيهقي في «شعب الإيمان» (1) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّ النورَ إذا دخل الصدرَ انفسح»، فقيل: يا رسول الله، هل لذلك من عَلَمٍ يُعْرَف به؟ قال: «نعم، التجافي من (2) دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله». وقال ابن الصلاح (3): ومِن علامته (أي: خاطر الحق): أن ينشرح له الصدرُ ولا يُعارضه معارض آخر. اهـ. فالجواب: أن انشراح الصدر لأمرٍ ما هو خاطر آخر يحتمل ما احتمل الخاطر، وذلك أنه قد ينشرح للأمر لوجود هداية الله تعالى، أو إلقاء الملك، وقد ينشرح لموافقته لهواه، وقد ينشرح لوسوسة الشيطان. فأما قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} فالذي فيها شَرْح الصدر للإسلام لا شَرْح الصدر مطلقًا. وكذا جَعْل الصّدْرِ ضيّقًا _________ (1) (10068). وأخرجه ابن أبي الدنيا في «قصر الأمل» (129)، والحاكم في «المستدرك»: (4/ 311) وسكت عليه، وقال الذهبي في تلخيصه: عديّ ساقط. وله شواهد لكنها ضعيفة. انظر «العلل المتناهية»: (2/ 318) لابن الجوزي، و «شرح العلل»: (2/ 771 - 772) لابن رجب. (2) كذا في الأصل تبعًا للمشكاة: (3/ 133)، وفي المصادر: «التجافي عن». (3) نقله عنه في «البحر المحيط»: (6/ 103) من «فتاويه». ومصدر المؤلف «إرشاد الفحول»: (2/ 1016).

(4/380)


حَرَجًا، أي: عن الإسلام لا مطلقًا. والكفّار يفرحون كثيرًا بكفرهم كما فرح المشركون يومَ أُحد بما نالوه من المسلمين، وغير ذلك، قال عز وجل: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 81]، وقال عزَّ وجلَّ: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]، وقال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45]، والمتَّقي قد يفرح بالأمر يوافق هواه ما دام غير معصوم. أما قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} [البقرة: 268]، فهذه الآية في الإنفاق كما يبينه السياق، يقول الله تعالى: إن الشيطان يَعِدُكم يا معشر الأغنياء بالفقر لئلَّا تنفقوا في سبيل الله، ويأمركم بالفحشاء من البخل وغيره، والله يَعِدُكم جزاء إنفاقكم في سبيله مغفرةً منه وفضلًا. وما روي من الحديث (1) ــ إن صح ــ فهو قريب من هذا، فلَمَّة الشيطان إيعاد بالفقر لمريد الصدقة، وبالقتل لمريد الجهاد، ولَمَّة المَلك إيعاد بالجزاء في الدنيا والآخرة. والحاصل أن الصدقة والجهاد والعبادة وتجنّب المحرّمات لا يكون إلا مع التصديق بوعد الله تعالى بحُسْن الجزاء في الدنيا والآخرة، فالله سبحانه وتعالى يدعو إلى هذا التصديق. وأما الشيطان ــ نعوذ بالله منه ــ فإنه بدعواه إلى التكذيب يَعِدُ بعدم حُسْن الجزاء، فيصوّر الصدقة بصورة مَغْرَم، ونحو ذلك، فإنه تعالى يَعِد المؤمنين بالخيرات إذا اتقوه ليزدادوا تقًى، والشيطان يَعِدهم بالشرور ليقصِّروا في التقوى، فلو كان الإنفاق معصيةً _________ (1) تقدم نصه (ص 379).

(4/381)


حضّ عليه الشيطان ووعد بالغنى كما هو ظاهر، والله أعلم. ثم إن الوعد إنما هو في جزاء التقوى، فلابدّ من معرفة التقوى بدليلٍ غير الخاطر. ومن ذلك أن يريد الإنسان أن ينفق فَخَطر له في نفسه خوف أن يؤدِّي الإنفاقُ إلى افتقاره، فإن هذا لا يدلّ على تعيين ذلك الخاطر؛ لأن الإنفاق قد يكون في مرضاة الله تعالى، وقد يكون في معصيته، والذي من الشيطان إنما هو فيما إذا كان الإنفاق في مرضاة الله تعالى، وحينئذٍ فلابدّ لمعرفة حكم الإنفاق [10] من النظر في الأدلة الظاهرة من الكتاب والسنة، فإن عيّن الدليلُ حكمَ الإنفاق لم يتعيّن الخاطر لاحتمال كونه من حديث النفس. إلا أنه على كلِّ حال ما كان من الخواطر مودّيًا لما يقتضيه حكم الكتاب والسنة فهو خاطرُ حقٍّ، ولكن الشيطان قد يوسوس للإنسان بفعل شيء مما ظاهره خير ليستجريه إلى الوقوع في شرٍّ، كما تراه يزعج كثيرًا من الجهال الفقراء إلى الحجّ، لمعرفته بطريق العادة أنهم يُضيّعون في سفرهم أكثر الصلوات، ويرتكبون غير ذلك من المنهيَّات. وأما قوله: «وإيعاد بالحق» وقوله: «وتكذيب بالحق» فواضح أن الحقّ لابدّ أن يكون معروفًا بدليل آخر، ولا دليل إلا الكتاب والسنة. وأما حديث البيهقي ــ إن صح ــ فهو تفسير للآية، وقد علمتَ معناها، فقوله: «إن النور إذا دخل الصدر انفسح» أي: انفسح الصدر، أي: للحق، كما بيَّنه جوابه على قولهم: هل لذلك مِنْ علم؟ والحاصل أن النفس قد تفرح وتنشرح وتنفسح للحق وللباطل، ولكن الذي مِن الله سبحانه وتعالى هو ما كان فيه فرحٌ وانشراح وانفساح للحق، والذي من الشيطان هو ما كان فيه غمٌّ وضيق وحَرَج من الحقّ، فالكلام إنما هو في الحق، وإلَّا فمن فرح بالحق اغتمّ من الباطل، ومن اغتمّ من الحق

(4/382)


فرح بالباطل، إلا أن الفرح بالحق دائمٌ ثابتٌ مستقرٌّ، والفرح بالباطل متزلزل، فلذلك أطلقَ الانشراح ونحوه في جانب الحق، وأطلق الحرج ونحوه في جانب الشرّ، والله أعلم. وبما تقرّر عرفتَ أنَّ مجرّد الانشراح بالخاطر لا يصلح دليلًا. وأما قول ابن الصلاح: «ومن علامته أن ينشرح له الصدر ولا يُعارضه معارضٌ آخر» فهو غير بعيد، ومعناه أن صاحب الخاطر يجتهد في أدلّة الشرع الظاهرة، أو يستفتي عالمًا في تلك المسألة التي وقع له فيها الخاطر، فإن لم يقف على معارضٍ لِمَا خَطَر له فيه الخاطر وانشرح له صدرُه، دلّ ذلك على أن ذلك الخاطر من الحق. وهذا يشتمل على قسمين: الأول: أن يجد له مؤيدًا من الأدلة الظاهرة. وهذا هو ما نقوله وندعو إليه، وهو أن يُسْتَدلّ على الخاطر بالأدلة الشرعيّة، فما دلّت الأدلّةُ الشرعيةُ الظاهرة على أنه حق كان الظاهر أن الخاطر الموافق لها حقّ، فتُجْعَل الشريعة دليلًا على الخواطر، لا الخواطر دليلًا على الشريعة. والثاني: أن لا يجد له مؤيدًا ولا معارضًا، وفي إمكان هذا نظر؛ لأنه ما من شيء من الأشياء إلا ويمكن المجتهد معرفة حكمه الشرعيّ بالاجتهاد. فإن قيل: قد دلّ الحديث الصحيح: «الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مُشْتَبِهات» (1) على وجود هذا القسم الذي هو المشتبهات [*ق] (2) المفسّرة _________ (1) أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما. (2) هذه الورقة من الفلم رقم (3584).

(4/383)


بقوله: «لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس». وحينئذٍ فقد يخطر للإنسان خاطر يشرح له صدره، فإذا نظر في الكتاب والسنة اشتبه عليه حكمه، وكذا إذا سأل العلماء وأجابوه بما يوقِع في الاشتباه. فالجواب: أن الشارع قد أرشدنا إلى الأخذ بالاحتياط في هذا، كما يدلّ عليه قوله في هذا الحديث: «فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ... » إلخ، فإن كان الخاطر يميل إلى الاحتياط فقد وُجِد ما يؤيّده من الشرع، وإن كان يميل إلى غيره فقد وجد ما يعارضه، فرجع إلى القسم الأول. فإن قيل: يمكن وجود القسم الثاني فيما أدّى فيه الاجتهاد أو فتوى المجتهد إلى الإباحة، وانشرح القلبُ لعدم الأخذ بذلك. فالجواب: أن ذلك المباح إن كان استعماله من التوسُّع والتبسُّط فالشرع قد أرشدنا إلى التخفيف، فانشراح الخاطر بذلك قد وجد من الشرع ما يؤيده، وانشراحه لغيره قد وجد ما يخالفه. وإن كان من غير التبسُّط فالشرع قد أرشدنا إلى العمل به، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]. وقد مرّ (1) حديث «الصحيحين» في الثلاثة الذين قال أحدهم: أما أنا فأصلّي الليل أبدًا، وقال الآخر: أنا أصوم النهار أبدًا ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل الناس فلا أتزوّج. فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا. أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأُفْطِر، وأُصلي وأرقد، وأتزوّج النساء، فمن رَغِب عن سنتي فليس مني». _________ (1) سيأتي (ص 462).

(4/384)


نَعَم يمكن وجود القسم الثاني فيما لم يوقَفْ فيه على دليل يدلُّ على حُرمته ولا كراهته، فأُخذ به بأصل الإباحة، ولم يظهر في استعماله تبسُّط ولا تضييق إلى الحدّ الذي أرْشَدَنا الشارعُ إلى اجتنابه، ولا ظهرت مصلحة ولا مفسدة، ففي هذا إذا انشرح الصدرُ لعدم الأخذ به= كان ذلك علامة على أنه من الحق. وذلك أن عدم الوقوف على دليل يدلّ على الحُرمة أو الكراهة لا يستلزم عدم الدليل في نفس الأمر، ولم يظهر من الشرع دليلٌ يرشد إلى العمل بذلك الشيء ولا تَرْكِه، فكان الأخذ به والترك على حدٍّ سواء من الشرع، فلمَّا وقع الخاطرُ بعدم الأخذ، وانشرح له الخاطر= كان ذلك مرجّحًا يجوز الأخْذُ به. وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : «استفت قلبك وإن أفتاك الناس» كما مرَّ (1). فإن قيل: فلعلّ الخاطر يكون من حديث النفس والشيطان، وانشراح الصدر يكون بوسوسة الشيطان لغرضٍ له في ذلك. فالجواب: أن الظاهر من انشراح الصدر واطمئنانه كُونُه من جهة الله تعالى ما دام لم يعارِضْه دليلٌ آخر. وإن احتمل ما ذكرتم فهو احتمال مرجوح، وقد أخذ الإنسان بما هو أقرب إلى التقوى في اجتهاده. وهذا هو أقصى ما يمكنه. على أنه إذا استفتى قلبَه بعد التوجُّه إلى الله تعالى وإخلاص الدعاء والاستخارة فلم يَزْدَد إلّا (2) انشراحًا واطمئنانًا، فذلك كان أظهر، والله أعلم. _________ (1) (ص 372). (2) جاءت كلمة في طرف الورقة المتآكلة فذهبت ببعضها، ولعلها ما أثبت.

(4/385)


 [118] المقام الثاني في تصرُّف بعض بني آدم في الكون

لا يخفاك أن تصرّف الآدمي في الكون على قسمين: الأول: ما جرت به العادة، وهذا ثابت للأحياء بلا شك. الثاني: ما لم تجرِ به العادة، وهذا قد [يكون] معجزةً لنبيّ أو كرامةً لوليّ. غير أنه إنما يكون في أشياء مخصوصة بحسب ما يتفق مع الحكمة الربانية، قال تعالى (1): [127] {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188]. وقال تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 49]. والذي شاء الله تعالى أن يُمَلِّكه النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم هو ما يدخل تحت قدرة البشر، وأما فوق ذلك فإنه كان يملك الدعاء به في الدنيا، وقد يملك شيئًا منه على سبيل خَرْق العادة، كَنَظَره إلى الحوض وهو على المنبر. وسيملّكه الله تعالى الشفاعة في الآخرة كما تدلُّ عليه أحاديث الشفاعة (2). _________ (1) ترك المؤلف باقي الصفحة [118] بياضًا، وكتب الآيات وباقي الكلام في ورقة أخرى أعطيت رقم [127]. (2) منها ما أخرجه البخاري (3340)، ومسلم (194) عن أبي هريرة، وما أخرجه البخاري (7510)، ومسلم (193) عن أنس رضي الله عنهما.

(4/386)


وإذا كان هذا حاله صلى الله عليه وآله وسلم وهو سيِّد الخلق فما بالك بغيره؟ وقال سبحانه وتعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 33 - 37]. وفي «صحيح مسلم» (1) عن رافع بن خَديج قال: قَدِم نبيُّ الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وهم يؤبِّرون النخلَ، فقال: «ما تصنعون؟» قالوا: كنا نصنعه، قال: «لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا» فتركوه، فنقصت قال: فذكروا ذلك له، فقال: «إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر». [126] ثم إنه من المعلوم ضرورةً من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن هو المتصرّف في الكون في حياته. وقد سُقتُ الأدلة على عدم علمه الغيب (2) إلا أنّ الله تعالى يطلعه على وقائع مخصوصة، _________ (1) (2362). (2) (ص 316 وما بعدها).

(4/387)


وهذا يستلزم أنه لم يكن المتصرِّف في الكون؛ لأن التصرُّف يتوقّف على العلم، ولو كان صلى الله عليه وآله وسلم هو المتصرّف لكانت دعوتُه إلى الله تعالى وجهادُه ونَصَبُه وتعبُه وابتهالُه إلى الله تعالى بالدعاء ونحو ذلك عَبَثًا! وإذا كان المعتزلةُ وغيرُهم لم يسلِّموا أن الله تعالى هو الذي يخلق أفعالَ العباد حين فِعْلِها لما يلزم على ذلك من جَعْل إنزال الكتب وإرسال الرسل عبثًا لغير حكمة، ففي مسألتنا أولى؛ لأن غاية ما أجاب به الأشعريةُ قولهم: إن الله تعالى لا يُسأل عما يفعل، وهذا الجواب لا يتأتّى في مسألتنا، فإن الآدميّ مكلّف على كلّ حال، وإذا كانت الأشعريةُ نفت نِسبة الأفعال إلى فاعلها المحسوس إلّا مجازًا، فما بالك بنسبة الفعل إلى مخلوق آخر غير فاعله المحسوس؟! وأما قصة الخَضِر فليس فيها ما يُسْتغرب أصلًا؛ أمّا خَرْق السفينة فإن مثله في شرعنا يجوز للإنسان في مال موليّه. وأما قَتْل الغلام فإن مثله كان جائزًا في شريعة الخَضِر، بل رُوي عن ابن عبّاس (1) ما يدلّ أن مثله جائز في شَرْعِنا لولا أن شرطه ــ وهو العلم بأنه لو عاش لأرهق أبويه طُغيانًا وكفرًا ــ محال؛ إذ لا يُعلَم ذلك إلّا بإعلام الله تعالى، وقياسُ قول مَن يقول بالمصالح المرسلة لا يأباه. وأما إقامة الجدار فليس فيها شيء. _________ (1) أخرجه مسلم (1812) في كتاب ابن عباس رضي الله عنهما إلى نجدة الحروري، وفيه: «وكتبتَ تسألني عن قتل الولدان، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقتلهم وأنت فلا تقتلهم، إلا أن تعلم منهم ما علم صاحبُ موسى من الغلام الذي قتله .. ».

(4/388)


فإن قيل: فلماذا أنكرها الكليمُ عليه السلام؟ فالجواب: أنه لم يكن مطَّلعًا على السبب، وما مثله إلا مثل مَن يَعْمِد إلى رجلٍ معروف بالفضل فيقتله؛ لأنه يعلم أنه قَتَل أباه مثلًا، فإنّ كلَّ من رآه أو علم بأنه قتل هذا الفاضل ولم يعلم السبب ينكر عليه ويُشنّع ويستعظم هذا الفعل، مع أنه في الحقيقة حق، ولو اطلع على سببه لم ينكره. وقد جاء في الحديث ــ ما معناه ــ أنّ رجلًا صلى الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قام يركع، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «آلصبح أربعًا؟» فقال: يا رسول الله، إني لم أصلّ الركعتين قبل الصبح، فهما هاتان. فأقرّه على ذلك (1). وفي معنى هذا كثير. [124] وانظر كيف أنكر موسى على الخضر ما ظنَّه منكرًا، وقال له أولًا: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف: 71]. فنَسَب إليه أنه خرقها ليغرق أهلها، مع أن الواقع أن الخضر لم يخرقها ليُغرق أهلها وإنما خرقها لينفعهم، ولكن لما كان الظاهر أنه إنما خرقها ليغرق أهلها لم يتحاشَ موسى عليه السلام في نِسبته إليه بالاستفهام الإنكاري. _________ (1) أخرجه أحمد (24161)، وأبو داود (1267)، والترمذي (422)، وابن ماجه (1154)، وابن خزيمة (1116). من حديث محمد بن إبراهيم عن قيس بن عمرو الأنصاري. قال الترمذي: «حديث محمد بن إبراهيم لا نعرفه مثل هذا إلا من حديث سعد بن سعيد. وقال سفيان بن عيينة: سمع عطاء بن أبي رباح من سعد بن سعيد هذا الحديث، وإنما يروى هذا الحديث مرسلا ... وإسناد هذا الحديث ليس بمتصل، محمد بن إبراهيم التيمي لم يسمع من قيس». وضعفه النووي في شرح المهذب، وحسنه ابن القطان، وقواه ابن الملقن. انظر «البدر المنير»: (3/ 263 - 269).

(4/389)


ثم عقَّبه بقوله: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} أي: عظيمًا شنيعًا. فلم يمنعه عليه السلام علمه بفضل الخضر وعلمه بالوحي من الله تعالى، وإعلامه أنه سيرى منه ما ظاهره منكر، وشرطه عليه أن لا يسأله عن شيءٍ من ذلك= لم يمنعه هذا كلُّه وغيرُه أن ينكر عليه ما ظنَّه منكرًا، ولم يقل: «لعل لها عذرًا وأنت تلوم» (1). ثم أكّد عليه الخضر الشرطَ وأعْلَمه أن ذلك لأمرٍ ما من الأمور التي نبَّهه عليها، فلم يمنعه ذلك أن يُعاود الإنكار لمّا عاود الخضر مثل ذلك الفعل بقتل الغلام. وقد يقال: إن قوله أولًا: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} استفهام على أصله، وقوله: {لَقَدْ جِئْتَ} إلخ أي: إن كان الأمر كذلك. ولكن يَرِدُ عليه أنه لا يتأتَّى مثل هذا في قضية الغلام، فتأمل. وقد علمتَ أن دلائل الكتاب والسنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عامة مطلقة، وقد كان بعض الصحابة رضي الله عنهم يرمي بعضًا منهم بالنفاق إذا فلت منه عمل يُشبه عمل المنافقين، وقد تكرّر ذلك من عمر ابن الخطّاب رضي الله عنه بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينكره _________ (1) صدر بيت لمنصور النمري، انظر «الزهرة»: (1/)، و «التمثيل والمحاضرة» (ص)، وهو بلا نسبة في أكثر نسخ «البيان والتبين»: (2/ 363)، و «البصائر والذخائر»: (9/ 153). وعجزه: * وكم لائم قد لام وهو مليم *

(4/390)


عليه، وإنما بيّن له خطأه، كما في قصة حاطب وغيرها (1). ثم إن الواجب على المنكَرِ عليه أن يُبيّن عذرَه كما فعله الخَضِر. وقد ثبت في الحديث أنّ أم المؤمنين صفية زارت رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو معتكف في المسجد فقام معها يُشيّعها، وإذا برجلين مارّين، فناداهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «على رِسْلِكما إنما هي صفية بنت حُيي ... » (2) الحديث. ولم يزل الصحابةُ يُنكر بعضُهم على بعض والأئمة مِن بعدهم، [125] مع أن قصة الخضر إنما هي في أشياء مخصوصة، وأين هي من دعوى بعضهم التصرّف في جميع الكون حتى لا تتحرك ذرّة إلا ... (3)؟ ثم إن دعوى بعضهم التصرّف في أحوال الكون كلها خيرها وشرّها يستلزم ارتفاع التكليف؛ لأن أكثر أحوال الكون جارية على خلاف الشريعة، وهذا كله خرافات لا ينبغي لعاقل الالتفات إليها ولا الاشتغال بها لولا الضرورة الملجئة إلى ذلك، وإلى الله المشتكَى! وأما الموتى فالأمر في حقهم أوضح، ومَن تأمل أدلّة العقل والنقل وجدَها صريحةً في إبطال ما يدّعيه بعضُ الناس لبعض الصالحين مِن التصرّف في الكون، وإنما غرّهم أمور: _________ (1) أخرجه البخاري (3077)، ومسلم (2494) من حديث علي رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاري (2038)، ومسلم (2175) من حديث صفية رضي الله عنها. (3) بياض بقدر كلمة. ولعلها «بعلمه أو بأمره».

(4/391)


أولها (1): أن كثيرًا من الناس يلبس ثياب الزور، بانتحال الفضل والصلاح، ويتزَهَّد ويتقشّف ويتورّع= يتذرّع بذلك إلى اعتقاد الناس فيه، وإقبالهم عليه، وتعظيمهم له. وقد يستعين بما يحسنه من شعبذة ومخرقة واستعانة بالشياطين وغير ذلك. وقد يكون الشيخ في نفسه صالحًا، ولكن يُبتلى بأصحاب سوء يحاولون أن يأكلوا به الدنيا، فهم لا يألون جهدًا في التقوّل عليه ولاسيَّما إذا مات؛ فإن أولاده وأتباعه يعرفون أنه بموته أدبرت عنهم الدنيا، فيسعون في حفظها بالأكاذيب والخُرَافات والإشاعات الباطلة، وربما ساعدتهم الشياطين لإضلال الخلق، كما كانت تفعل في الجاهلية عند الأصنام والأبداد، وكما روي مِن فعلها مع الأسود العنسي، وكما يقع من فعلها مع الدجّال. [122] ولا يخلو حالهم عن أحد أربعة أمور: الأول: أن يكونوا من أهل الزيغ والإلحاد، تستّروا باسم التصوّف وإظهار الزهد والتقشّف؛ ليكيدوا الإسلام والمسلمين. وهذا هو الذي يقطع به كثيرٌ من أجلّة العلماء، بحجَّة أن جميع المذاهب التي جاء بها هؤلاء القوم هي مذاهب معروفة عن الأمم الزائغة من قدماء اليونانيين الفلاسفة وغيرهم، وكذلك العادات هي عادات أولئك، والأحوال أحوالهم، والأقوال أقوالهم. ومَن راجع كتب المقالات وعَرَف أقوالَ الفلاسفة وغيرهم من الطوائف الكفرية لم يستبعد هذا. _________ (1) لم يذكر المؤلف غيره، إلا أن يكون قوله: «وقد يكون الشيخ ... » هو الأمر الثاني ..

(4/392)


الثاني: أن يكونوا أناسًا من أهل الإسلام، ولكن تلاعَب بهم الشيطان، فصوّر، وزوَّر، وخيَّل، وهوّل؛ فأراهم الحق باطلًا والباطل حقًّا. الثالث: أن يكونوا من أهل الخير والفضل والصلاح، ولكنهم أرادوا أن يتكلّموا بتلك الكلمات التي ظاهرها كفر وجحود وإلحاد في الدين استدعاءً لتكفير الناس لهم وذمّهم إياهم؛ ليكتسبوا بذلك كسرَ نفوسهم، والأجرَ باعتداءِ الناسِ عليهم. ولهم مثل ذلك حكايات ثابتة في كتبهم؛ كذلك الرجلِ الذي دخل بلادًا، فاعتقد أهلُها فيه، وأجلّوه وعظّموه، فَكِره ذلك، فاختار أن يذهب إلى الحمّام فيأخذ ثياب الناس منه ويخرج بها ليعتقدوا أنه سارق، فيضربوه ويشتموه ويسيئوا الظنَّ به، فكان ذلك. الرابع: أن يكون لهم في كلامهم مرادات صحيحة، ولكنهم عمَّوها على الناس، فجعلوه من قبيل الإلغاز، كما هو شائع في كلامهم، كقول بعضهم: «إن الله لا يعلم الغيبَ» مستندًا إلى أنه لا غيبَ بالنسبة إلى الله تعالى. وكقول بعضهم: «بذكر الله تزداد الذنوب». [121] يعني بالذّكر التذكُّر، وأن التذكُّر يستلزم النسيان، كأنه أخذه من قول الشاعر (1): حلفتُ بالله أني لست أذكره ... وكيف يذكره مَن ليس ينساه؟ ومثل هذا في كلامهم كثير. ومَن يحسن الظن بهم يختار هذا الأخير، ولكنه ليس كافيًا في الذبّ عنهم إلا أنه يخفف الأمر. _________ (1) هو عبد الصمد بن المعذّل في أبيات له. انظر «عيون الأخبار» (3/ 27)، و «العقد»: (2/ 305). وغير منسوب في عدة مصادر. واختلفت المصادر في مطلعه عما في الأصل.

(4/393)


* حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض (1) * فإنها تبقى عليهم اللائمة من حيث إنهم عرَّضوا أنفسهم للتهمة، وعرّضوا الناس للوقوع في أعراضهم، وأشدّ من ذلك أنهم عرّضوا من يعتقد فيهم إلى الضلال باعتقاد ظواهر تلك الأقوال. والذي يظهر أنّ كلّ أمرٍ من هذه الأمور يوجد عند طائفة منهم، وقد نشأ بعدهم ناس ليسوا على شيء من ذلك، وإنما اغترّوا بكلام مَن سَبَقهم، فأخذوا يقلّدونه ويمثّلونه ليحرزوا لأنفسهم مثل منازل أولئك في قلوب الناس، ويجتلبوا بها الشهرة والحطام، وهذا فاشٍ في كل جهة. وإذا طالعتَ كتاب الشَّعْراني الذي سماه «تنبيه المغترّين» علمت كثرةَ هؤلاء المقلدين المتشبّهين في زمانه وقبل زمانه. والذي ندين الله تعالى به حُسْن الظن بأشخاصهم أنهم لا يعتقدون ما تدلّ عليه مقالاتهم، وإنما قالوها لغرضٍ من الأغراض التي ظنوها حَسَنة، أو كُذِبت عليهم أو غير ذلك. ولا يمنعنا ذلك من انتقاد كلامهم، وإنكار المنكر منه، والتصريح بما تقتضيه الحال، مِن أنّ اعتقاد المعنى الظاهر منه كفر أو فسق أو خطأ أو جهل، أو سوء أدب، بحسب رُتْبَته في ذلك. فهذا دين الله تعالى الذي لا سلامة إلا فيه، وننصح لجميع المسلمين بأن يعرضوا عن تلك الكتب والمؤلفات في أخبارهم وأحوالهم. _________ (1) عجز بيت لطرفة بن العبد. «ديوانه» (ص 180). وصدره: *أبا منذرٍ أفنيتَ فاستبقِ بعضنا*

(4/394)


[120] والقومُ أنفسُهم مصرِّحون أنه قد تلبّس بطريقتهم مَن ليس من أهلها، وإنما قصد بذلك التستّر بجلبابها لإظهار دسائسه وتنفيذ أغراضه. وبذلك يتبين لك أنه إن كان في كلامهم حق فقد التبس بالباطل خصوصًا مع قول بعضهم كالشعراني: إن القوم ابتلوا بأعداء ينسبون إليهم ما لم يقولوه، ويزيدون في كتبهم وينقصون ويحرّفون ويبدّلون ويُغيّرون، وأنه نفسه فُعِل في كتبه ذلك كثيرًا. وبما ذُكِر تصير كتبهم أشبه بالكتب التي بأيدي النصارى واليهود، بل هي أضرّ منها؛ لأن المسلمين جميعًا عارفون بأن كتب النصارى واليهود محرَّفة مبدّلة، وقلوبهم نافرة عنها، ولا كذلك كتب هؤلاء القوم، فافهم. [123] وهذه من الشبهات التي رابتِ الناسَ في الصوفية؛ لأن الحق كله معروف واضح، وفي الحديث: «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها» (1). وإن كان هناك أمور قد تخفى عن الجُهّال، فلن تخفى على العلماء، والعلماء هم العارفون بكتاب الله تعالى وسنة رسوله، وإن لم يكونوا كثيري العبادات والمجاهدات. وإن سُلِّم أن ثَمَّ أسرارًا غامضة تدِقّ عن فهم غالب الناس إلا مَن اختصه الله تعالى بالولاية، فالواجب كتمان مثل هذه الأمور، فمَن أبدى لنا صفحتَه أنكرنا عليه. وكثير من المتأخرين ألَّفوا كتبًا فيها كلام يضادّ ظواهر الشريعة كلَّ المضادّة، وسَعوا في إماتة إنكار المنكر، وتحسين تحسين الظنّ بأقصى _________ (1) قطعة من حديث العرباض بن سارية: «وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... » وتقدم تخريجه.

(4/395)


جهدهم، فأبدوا فصولًا طويلة في ذمِّ سوء الظن، وجمعوا أقاصيص فيما يلحق المنكِر على أمثالهم من الضرر! وهب أن مثل ذلك يقع، فإنه محمول على السحر، وقد ثبت في «الصحيحين» (1) أن لبيد بن الأعصم اليهودي سَحَر رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى كان يُخيّل إليه أنه فَعَل الشيء ولم يفعله، أي من أمر دنياه، فأما أمر الدين فإنه معصومٌ فيه قطعًا. وادّعوا أن لهم اصطلاحات وأذواقًا لا يعرفها غيرهم، وأن لهم شطحات وإطلاقات تجري على ألسنتهم حال الفَناء لا يُراد بها ظاهرها. والحاصل أنهم بنوا خُطّتهم على نظام محكم، وأعَدّوا لكلِّ شيءٍ عُدَّته قائلين: إن مقالاتنا هذه لا تصادف إلا أحد رجلين؛ رجلًا مغفّلًا يتمسّك بها ويعتقدها، وهذا هو مرادنا. ورجلًا ثابتًا في دينه يعلم أنها منكر، فقد أعددنا له عدّته بما يمنعه عن قصدنا بالشرِّ. ثم لا تزال دعوتنا تفشوا وتشيع في الناس على هذا المنوال. وقد صدّقوا على الناسِ ظنَّهم، فإنه لما شاعت تلك الكتب بين الناس لم تَلْقَ إلا قليلًا من المنكرين، والجمهور على عدم الإنكار، منهم من حَسَّن الظن، ومنهم من خاف المضرّة، ومنهم من افتتن بها فعمل بظاهرها، حتى كان منهم من يدّعي ارتفاع التكليف، ومَن يزعم أن الولي قد يكون أفضل من النبي، إلى غير ذلك مما إن كنت سمعتَ به فقد سمعتَ، وإلا فخيرٌ لك أن لا تسمع. ولا شك أن أوائل هؤلاء القوم كالجنيد وأصحابِه أئمةُ هدى وصلاح _________ (1) البخاري (3268)، ومسلم (2189) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(4/396)


وتقى وعملٍ بدين الله الأعلى، واتباعٍ لسنة نبيّه المصطفى. وجاء بعدهم مَن علمتَ. [119] ومع هذا فإننا لا ننفي أن تكون لبعض الصالحين في حال حياتهم كرامات، وإن كثرت بعد القرون الأولى، بخلاف عهد الصحابة وما بعده؛ فإنه قد يُقال: لما كانت كرامات الأولياء تفارق معجزات الأنبياء من حيث إن المعجزات لا تشتبه بالباطل من السِّحْر وغيره بخلاف الكرامات= كانت المصلحة أن لا توجد الكرامات في الصحابة ومَن بعدهم بكثرة، إذ لو وُجدت فيهم بكثرة، وهي مشابهة لما يجري على أيدي السَّحَرة لقالت الأمم: إنْ هؤلاء إلا سَحَرة تعلّموا السحرَ مِن صاحبهم، وإذًا لارتاب المبطلون، ولكن لما رأت الأممُ الصحابةَ مِن أبعد الناس عن السِّحْر وما يُشاكله ويشابهه= علموا أن هذا الدين دين حقٍّ لا ريب فيه. ولكني مع هذا لا أقول: إن كل ما يدّعيه القصاصون صحيح، كيف وأكثرها حكايات منقطعة عن مجاهيل لا يُدرَى ما حالهم؟ ومنها ما هو محال لا يمكن وقوعُه بحال، وإنما هو من وَضْع بعض أهل الضلال أو المغفّلين الجُهَّال، ومنها ما لم يقع وحكايته كذب محض، ومنها ما هو سِحْر وشعوذة، ومنها ما هو صحيح. وعلى كل حال فإنه لا يتعلق به حكم من أحكام الإسلام غير حُسْن الظن أو سوئه. وهذا ينبغي وزنُه بميزان الاعتدال، فإن كان الشخصُ ملازمًا للطاعات، عاملًا بالكتاب والسنة، مُعظِّمًا لهما، وذلك أن الأحكام الشرعية ليس لها طريق إلا كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بما يدلّان عليه دلالةً معتبرة، من جنس ما كان يستدلّ به الرسولُ صلى الله عليه

(4/397)


وآله وسلم، ثم أصحابه مِن بعده، ثم العلماء المجتهدون، كالأئمة الأربعة وغيرهم= فالظاهر أن الخارقَة الواقعة على يده كرامة فينبغي احترامُه القدرَ المشروع، وسؤالُ الدعاء منه. وإن كان بخلاف ذلك فالأمر بالعكس. والمراد بأحكام كتاب الله تعالى وسنة رسوله: الأحكامُ الظاهرة منهما، المدلول عليها بإحدى الدلالات المعتبرة في اللسان العربي والشرع المحمدي، فلا عبرة بدعوى فهمٍ غامضٍ من الكتاب أو السنة بدلالةٍ غير معتبرة. نعم، إن كان ما ادّعوا فهمه لا يخالف شيئًا من الظاهر مع تصديقهم بالظاهر فالأمر سهل. والله الموفق لا ربّ غيره.

(4/398)


 [ص 110] المقام الثالث النداء والطلب

قد تبيّن مما مضى أن المخلوق لا يعلم الغيب ولا يطلعه الله عليه، إلا أن يكون نبيًّا، فيطلعه الله تعالى على بعضٍ من الغيب، لا على جميعه، وذلك في حال حياتهم، فأما بعد وفاتهم فإنهم في الرفيق الأعلى مشغولون بما هو خير وأبقى. وعُلِم أن المخلوق لا يملك شيئًا من الأشياء إلا ما كان يقدر عليه البشر بما جرت به العادة، وأما غير ذلك فإنما يملك الدعاء به في حال حياته الأولى في الدنيا أو الثانية يوم القيامة؛ وعليه فنداء الغائب: إن كان باعتقادِ أنه يسمع فهو اعتقاد باطل قطعًا؛ لأن فيه اعتقادًا أنه يعلم الغيب، وهذا تكذيبٌ لكتاب الله تعالى وردّ للسنن الصحيحة. أو باعتقاد أنه يُبلّغ في كل شيء فكذلك؛ لأنه إن كان نبيًّا فقد يُبلَّغ وقد لا يُبلَّغ، وإن كان غير نبيّ فإنه لا يبلّغ حتى لو كان محدَّثًا، لما مرّ أنه إنما يُقْذَف في خاطره في بعض الأشياء، ولا يحصل له بذلك إلا مجرّد الظن. أو مع الإيمان بأنه إنما يُبلَّغ في بعض الأشياء، فإن كان نبيًّا فمسلَّم أنه قد يبلَّغ، ولكن ذلك لا يُسوّغ النداء؛ لأن النداء لا يكون إلا لمن يترجّح أنه يسمعه، وإن كان غير نبيّ ففيه تكذيب بكتاب الله تعالى كما مرّ. وكذا الميت مع البُعْد عن القبر على نحو ما مرّ في الغالب، ويختص هذا بزيادة أنه لم يثبت التبليغ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته إلا في الصلاة عليه، وأما مع القُرب من القبر، فكذلك عند من ينفي سماع الموتى، كما دلّ عليه القرآن. ومَن يجوِّز سماعَهم فإنه لا يجوّز نداءهم، وهو عنده

(4/399)


من أقبح البدع إلا ما ورد من السلام في زيارة القبور فلا بأس به اتفاقًا، وهو مؤول بنحو قوله: «يا أرض ربي وربك الله» (1). وأما الطلب فإن كان لشيءٍ يملكه المطلوب منه، فإن كان مما يقدر عليه مثلُه بالأسباب العادية، فهو جائز ما لم يرد الشرع بمنعه، كالطلب من الساحر أن يسحر، فإنه حرام. وإن كان لما لا يملكه المطلوب منه، أي بأن كان مما لا يقدر عليه مثله بالأسباب العادية، فلا يسوغ طلبه منه وإن كان نبيًّا أو محدَّثًا لما مرَّ أنه إنما يملك من ذلك الدعاء لا غير. هذا في حال إحدى حياتَيه، فأما حال وفاته (2) ففي «صحيح البخاري» (3) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: وارأساه! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ذاك لو كان وأنا حيّ، فأستغفرُ لكِ وأدعو لكِ ... » الحديث. وأما الشفاعة يوم القيامة فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم موعود بها، وإنما يملكها يوم القيامة. ومع هذا فإن الدعاء قد لا يُستجاب لسَبْق الكتاب، قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]. وفي معناها آيات كثيرة. [ص 111] وفي «صحيح مسلم» (4) عن سعد أن _________ (1) أخرجه أحمد (6161)، وأبو داود (2603)، والحاكم: (1/ 447 و 2/ 100) وصححه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا أو سافر فأدركه الليل قال: يا أرض ربي وربكِ الله، أعوذ بالله من شرِّكِ وشرِّ ما فيك ... ». (2) كتب المصنف هذه العبارة عدة مرات لكن ضرب عليها وأبقى ما أثبت. (3) (5666). (4) (2890).

(4/400)


رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرَّ بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين وصلّينا معه ودعا ربَّه طويلًا ثم انصرف فقال: «سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني اثنتين ومَنَعني واحدة؛ سألتُ ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة، فأعطانيها، وسألت أن لا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها». وقال تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 80]. وقال تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون: 6]. وقد ثبت في «الصحيح» (1) ما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعبد الله بن أُبيّ مِن إخراجه من قبره ووضعه له على ركبتيه الشريفتين، وتفلِه عليه من ريقه من قرنه إلى قدمه، وتكفينه له في قميصه، وصلاته عليه. ولم ينفعه ذلك شيئًا. وفي «صحيح البخاري» (2) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يلقى إبراهيمُ أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قَتَرة وغَبَرة فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك: لا تعصني؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: يا ربّ إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يُبعثون، وأيّ خِزْي _________ (1) سبق تخريجه (ص 233). (2) (3350).

(4/401)


أخْزَى من أبي الأبعد، فيقول الله: إني حرّمتُ الجنة على الكافرين. ثم يُقال لإبراهيم: ما تحت رجلك؟ فينظر فإذا هو بذيِخ متلطِّخ فيؤخذ بقوائمه فيُلقَى في النار». وفي «الصحيحين» (1) عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إني فَرَطكم على الحوض، مَن مَرَّ عليَّ شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا، لَيَرِدَنّ عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم ... فأقول: إنهم منّي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: سُحْقًا سُحْقًا لمن غيّر بعدي». [ص 112] وفي «مشكاة المصابيح» (2) عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذاتَ يوم فذَكَر الغلولَ فعظَّم أمره ثم قال: «لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رُغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملكُ لكَ شيئًا قد أبلغتك، لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرسٌ له حَمْحَمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتُك، لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثُغاء، يقول: يا رسول الله أغِثْني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك، لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك، لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك، لا ألفينَّ أحدكم يوم القيامة على رقبته صامت فيقول: يا _________ (1) البخاري (6583)، ومسلم (2290). (2) (2/ 408).

(4/402)


رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك» متفق عليه (1)، وهذا لفظ مسلم وهو أتمّ. أقول: ولا منافاة بين هذا الحديث وأحاديث الشفاعة كما يُعْلَم مِن مراجعتها. وفي «صحيح البخاري» (2) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة مَن قال: لا إله إلا الله خالصًا مِن قلبه أو نفسه». [ص 113] ومَن كان له اطلاع على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عَلِم أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا ينادونه غائبًا، وإنما قال قائلهم: «اللهم أخبر عنّا رسولك» (3). ولم يكونوا يطلبون منه فيما (4) لا يمكنه تحصيله بالأسباب العادية المشتركة بين الناس، وإنما كانوا يسألونه في ذلك الدعاء. ومن ذلك ما في «الصحيحين» (5) عن أنس رضي الله عنه قال: أصابت الناس سَنَةٌ على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فبينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب في يوم جمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المالُ وجاع العيالُ، فادع الله لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قَزَعة، _________ (1) البخاري (3073)، ومسلم (1831). (2) (99). (3) أخرجه البخاري (3045) في قصة عاصم بن ثابت ورفاقه رضي الله عنهم. (4) غير محررة في الأصل. (5) البخاري (933)، ومسلم (897).

(4/403)


فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته فمُطِرْنا يومنا ذلك، ومن الغد، وبعد الغد حتى الجمعة الأخرى. وقام ذلك الأعرابي ــ أو غيره ــ فقال: يا رسول الله، تَهدَّم البناء وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه، فقال: «اللهم حوالينا، ولا علينا» الحديث. وفي «صحيح مسلم» (1) عن أبي هريرة قال: لما كان يوم غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، فقال عمر: ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع الله لهم عليها بالبركة، فقال: نعم، فدعا بنِطْع فبُسِط ثم دعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة، حتى اجتمع على النطع شيء يسير، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالبركة ... الحديث. [ص 114] وفي «الصحيحين» (2) أيضًا حديث ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومًا فقال: «عُرِضت عليَّ الأمم، فجعل يمرّ النبيُّ ومعه الرجل، والنبيُّ معه الرجلان ... » الحديث. وفيه ذِكر السبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب. وفيه: فقام عُكّاشة بن مِحْصن، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: «اللهمَّ اجعله منهم». ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: «سبقك بها عُكّاشة». وفي «صحيح مسلم» (3) عن ربيعة بن كعب قال: كنت أبيت مع _________ (1) (27). (2) البخاري (6541)، ومسلم (220). وساقه المصنف مختصرًا. (3) (489).

(4/404)


رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتيته بوَضوئه وحاجته فقال لي: «سَل»، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة. قال: «أوَ غيرَ ذلك؟» قلت: هو ذاك. قال: «فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود». وهذا الحديث وإن لم يصرّح في السؤال بسؤال الدعاء فإنّ ذلك ظاهر من الجواب كما تراه. وفي «الصحيحين» (1) عن أم سُلَيم أنها قالت: يا رسول الله، أنس خادمك، ادع الله له، فقال: «اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته». قال أنس: فوالله إن مالي لكثير وإن ولدي وولد ولدي ليتعادّون على نحو المائة اليوم. والأحاديث في هذا الباب أكثر من أن تُحْصَى. [ص 115] وأما بعد موته فلم يُنقل عن أحدٍ منهم ولا من التابعين أنه طلب منه شيئًا البتة، بل كان غاية أمرهم إذا حضر أحدهم عند قبره الشريف أن يسلّم عليه وعلى صاحبيه. ولم يكن هذا إعراضًا منهم وتهاونًا بالخير، فإنهم رضي الله عنهم أسرع الناس إلى اغتنام الخير والاستكثار من أنواع البر، فلم يكونوا ليتركوا ذلك إلّا لأمرٍ ما. وأَصْرح من ذلك حديث البخاري في استسقاء الصحابة رضي الله عنهم بالعبّاس، وقول عمر: اللهم إنّا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك برسولك فتسقينا، وإنّا نتوسّل بعمّ نبيك. وقد مرَّ شرحه في بحث التوسل فراجعه (2). _________ (1) البخاري (6334)، ومسلم (2480). (2) (ص 271، 279 وما بعدها).

(4/405)


وهو صريح أنهم رضي الله عنهم كانوا يرون أن طلب الدعاء ونحوه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان جائزًا ما دام حيًّا بين أظهرهم، فأما بعد قبضه فلا، ولكنهم لحرصهم على طاعة الرسول وتعظيمه وعلمهم بعظم جاهه فعلوا أقصى ما يمكنهم وهو سؤال الدعاء من عمِّه. وأيضًا لم يُنقل أنَّ أحدًا من الصحابة سأل صحابيًا أفضل منه أمرًا من الأمور إلا إن كان مما يمكن تحصيله بسبب عادي، فإن لم يكن كذلك سأله الدعاء فقط. وهكذا التابعون مع الصحابة، وصغار التابعين مع كبارهم، وهلمّ جرًّا. حتى عمّ الجهل وفشت البدع، وصار الدينُ غريبًا، فوجد الشيطان الفرصةَ إلى إضلال الناس، فأخذ كلّ منهم يشرِّع من الدين ما لم يأذن به الله، ويتحكم في الدين بفعله، ويقضي فيه بحكمه، فوقع الناس فيما وقعوا فيه، فإنا لله وإنّا إليه راجعون! فهب أنّ أحدًا من بني آدم يتصرّف في الأرض والسموات ــ كما يقولون ــ فإن الشرع لم يُبِحْ لنا سؤاله شيئًا من الأمور إلا ما هو من الأشياء العادية. وهب أن بعض الغائبين والموتى يسمع كلام مَن كلّمه حيثما كان، فإن الشرع لم يُبح لنا أن نخاطب ميتًا ولا غائبًا. وهؤلاء الملائكة الكرام الذين هم متصرّفون في كثير من الأشياء قطعًا لم يُشْرَع لنا سؤالهم ولا خطابهم. ويا ترى لو أن إنسانًا أخذ يخاطب الملكين الحافظين، ويتلطّف بهما أن يكتبا حسناته ويؤخّرا كتابة سيئاته، ماذا يقول له الناس؟ ! ويا ترى لو أن إنسانًا أخذ يصيح: يا ملائكة ربي أكثروا من الاستغفار لي! [ص 116] مع أن استغفار الملائكة لبني آدم ثابت بكتاب الله تعالى، قال الله

(4/406)


سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر: 7 - 9]. وقال تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى: 5]. [ص 97] قال المجيزون: فإن فينا مَن يقول: إننا نرى المَلِك من ملوك الدنيا لا بُدّ في قضاء الحوائج لديه من التوسُّل بوزرائه وجلسائه والوجهاء لديه، وقد يكون صاحب الحاجة من المجرمين الذين غضب عليهم الملك، فهو يستحي أن يسأل المَلِك بنفسه، ويعلم أنه لو سأله بنفسه لم يَنَلْ منه حاجته بخلاف ما إذا استشفع بأحد الوجهاء والمقرّبين. وقد أمر الله تعالى عبادَه بطلب الاستغفار من رسوله وسؤال الدعاء من جميع المسلمين ولاسيَّما من أهل الخير والصلاح. وأحاديث الشفاعة يوم القيامة متواترة. قال المانعون: الله أعلى وأجلّ، أما ضرب المثل بالملوك فهو من الجهل بالله جلّ ذكره، وذلك أن ملوك الأرض لهم أسباب تدعوهم إلى الانقباض عن العامة ــ تنزّه الله سبحانه وتعالى عنها ــ كالخوف، فالملك يرى أنه لو برز للناس دائمًا تمكّن أعداؤه من اغتياله. والكبر، فهو يرى أنه لو

(4/407)


برز للناس دائمًا لسقط من أعينهم واجترءوا عليه. والبخل، فهو يرى أنه لو برز للناس دائمًا وقضى حوائجهم فني بما بيده. والعجز، فهو يرى أنّ بروزه للناس دائمًا يشق عليه ويتعبه. فلهذه الأسباب ونحوها احتاجوا إلى جعل وزراء وحُجّاب يكونون وسائط بينهم وبين الناس. ولهم أسباب تمنعهم عن الإقبال على من أساء إليهم؛ كالجَوْر وعدم التخلُّق بالعفو، فإنه يحول بينهم وبين قبول توبة المسيء، ويمنعهم من قبول (1) حوائجه. وإذا تأملت هذه الأسباب وجدتها جميعها محالًا على الله تعالى، فهو سبحانه وتعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]. وجاء في الحديث: «إن الدعاء هو مخّ العبادة». وفي رواية: «هو العبادة» (2). فالله سبحانه وتعالى أمر خلقه بسؤاله والالتجاء إليه، وأخبر أن الذي يمتنع عن سؤاله يستحقّ العقاب. _________ (1) كذا في الأصل، ولعلها «قضاء». (2) بهذا اللفظ أخرجه أبو داود (1479)، والترمذي (2969)، وابن ماجه (3828) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما. قال الترمذي: حسن صحيح. وباللفظ الأول أخرجه الترمذي (3371) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال: غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة.

(4/408)


وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]. وأمر عباده في أم كتابه أن يقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. [ص 98] ومعناه: لا نعبد إلا إيّاك، ولا نستعين إلا إياك. وفي «الصحيحين» (1) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيبَ له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له». وفي «صحيح مسلم» (2) عن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يروي عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديتُه فاستهدوني أهدِكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي لن تبلغوا ضرِّي فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص _________ (1) البخاري (1145)، ومسلم (758). (2) (2577).

(4/409)


ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثم أوفيكم إياها، فمَن وجد خيرًا فليحمد الله، ومَن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه». وفي «صحيح مسلم» (1) عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان [على] راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال ــ من شدة الفرح ــ: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح». وأخرجه البخاري موقوفًا على عبد الله (2) بلفظ: «لله أفرح بتوبة عبده _________ (1) (2747). (2) كذا فهم المؤلف من كلام التبريزي في «المشكاة»: (2/ 31) ــ وهو ينقل لفظ الحديث منها ــ إذ قال بعد نقله لفظ حديث ابن مسعود: «روى مسلم المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه فحسب، وروى البخاري الموقوف على ابن مسعود أيضًا». ففهم المؤلف أن البخاري أخرج هذا الحديث موقوفًا، وأخرجه مسلم مرفوعًا، وليس كذلك، وإنما أراد أن راوي الحديث عن ابن مسعود وهو الحارث بن سويد قال: حدثنا عبد الله (يعني ابن مسعود) حديثين، أحدهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والآخر عن نفسه ... ثم ذكرهما. فالبخاري (6308) أخرج المرفوع والموقوف، وأما مسلم (2744) فأخرج المرفوع فقط، وهو حديث الباب. أما الموقوف فلفظ البخاري: «إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه فقال به هكذا ... ».

(4/410)


المؤمن من رجل نزل في أرض دوِّيَّة مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه. [ص 99] فالله أشدّ فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده». وفي «صحيح مسلم» (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يُستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثمٍ أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل». قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: «يقول: قد دعوت قد دعوت فلمْ أرَ يُستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويَدَع الدعاء». وفي «سنن الترمذي» (2) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من لم يسأل الله يغضب [عليه]». وفي «سنن الترمذي» (3) عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ليسأل أحدكم ربّه حاجته كلها، حتى يسأل شِسْع نعله إذا انقطع». _________ (1) (2735) وهذا لفظه. وهو في البخاري بنحوه (6340). (2) (3373). (3) أخرجه الترمذي في الدعوات كما في «تحفة الأشراف»: (1/ 107) وقد ألحق بمطبوعة جامع الترمذي (5/ 782) استدراكًا من «التحفة» وسنده ضعيف.

(4/411)


وأخرج الإمام أحمد في «مسنده» (1) عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدّخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها». قالوا: إذًا نُكْثِر، قال: «الله أكثر». فمن تأمل هذه الدلائل وغيرها عرف بطلان تلك الأوهام، وعلم أن الإعراض عن الله سبحانه وتعالى والعدول عن دعائه وسؤاله موجب للعقوبة. وأما طلب الدعاء من الأحياء ولاسيَّما الصالحين فهو مستحبّ، ولكن بشرط ألّا يقصر الإنسان من الدعاء لنفسه، بل يبتهل إلى الله تعالى بالدعاء مع طلبه من غيره. ونحن لا ندفعُ هذا وإنما ندفع الاستغاثة بالموتى والغائبين، فإنها إن كانت مع اعتقاد علمهم الغيب وقدرتهم على الإغاثة= كان في هذا من الشرك ما مرّ بيانُه، وإن كانت مع اعتقاد أن الله تعالى يُبلّغهم ويُجيب دعاءهم فنحو ذلك. وإذا كان العبد لا يثق باستجابة دعائه لنفسه بتلك الحاجة فكيف يثق باستجابة دعائه أن يُبلّغهم الله تعالى طلبه منهم الدعاء؟! على أنَّ هذه الأشياء مما لم ينزل الله به سلطانًا ــ بل هي مضادة لدلائل كتاب الله تعالى وسنة رسوله كما علمت مما مرَّ. _________ (1) (11149). وأخرجه ابن أبي شيبة (29780)، والحاكم: (1/ 493)، والطبراني في «الأوسط» (4368) وغيرهم. وصححه الحاكم، وقال البوصيري: إسناده جيد. انظر «إتحاف الخيرة»: (6/ 147).

(4/412)


[ص 100] وأما استشفاعهم يوم القيامة فإنما هو طلب الدعاء من الأحياء يومئذٍ، وليس في هذا ما يدلّ على جواز نداء الغائبين والموتى والاستغاثة بهم، على أن الشفاعة ملك لله تعالى، قال سبحانه وتعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44]. وقال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]. والآيات في هذا كثيرة. وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمن طلبها منه: «أعنّي على نفسك بكثرة السجود» (1). [ص 101] قال المجيزون: فإننا نرى كثيرًا أن أحدنا يجهد في دعاء الله تعالى فلا يُستجاب له حتى إذا ذهب إلى قبرٍ من قبور الصالحين فزاره واعتقد تعظيمه، ودعا بما يحبّ استُجِيب له. ونرى كثيرًا من أصحاب الحاجات والعاهات إذا استغاث بأحدٍ من الصالحين حصل له الفَرَج، ولو اقتصر على الدعاء لم يحصل له ذلك! وقد ينذر الإنسان بشيء لأحدِ الصالحين بنيّة حصول شيء، فيحصل ذلك الشيء قريبًا، فإذا أخّر النذرَ عاد ذلك الشيء كما كان أو أُحدثت بدله عقوبة أخرى، فإذا بادَرَ الناذر ووفّى بنذره رُفعت عنه العقوبة. ونرى بعض أهل الجهات جرت عادتهم أنهم إذا احتاجوا إلى المطر ذهبوا إلى قبر بعض الصالحين، فذبحوا عنده وتوسّلوا به، فيسقون. وإذا _________ (1) سبق تخريجه (ص 400).

(4/413)


أخروا بعض السنين تأخر المطر، وربما قصّروا في بعض حقوق الزيارة فتأخّر المطر. ونرى بعض النساء لا تحمل أو لا يعيش لها ولد أو تولد لها البنات، فإذا تمسكت بأحد المقابر حصل مطلوبها. وكثيرًا ما نرى ناسًا يتعرّضون لبعض الصالحين بإيذاء أولاده أو إخوانه المعتقدين فيه، فلا يلبث أن يُصاب ببلاء، حتى إذا ذهب وزار ذلك القبر واستعفى سدنته ذهب عنه ما يكره! ونرى كثيرًا من الخوارق عند قبور بعض الصالحين تدلّ على رضاهم وحبهم لمن يزورهم ويتقرّب إليهم وتبرّك بقبورهم. وكثيرًا ما ينذر الإنسان لأحد أصحاب القبور بشيء فلا يشعر إلا وقد جاءه أحد أتباعهم يطلب منه ذلك النذر مع أنه لم يُعلِم بالنذر أحد، وقد يرى ذلك الوليّ في نومه يأمره بأداء ذلك النذر ونحو ذلك. [ص 102] وكثيرًا ما نرى المجانين إذا زاروا بهم القبور ذهب جنونهم (1). ومن جملة الخوارق المرئية عند القبور: اتساع القُبَّة للزائرين ولو بلغوا آلافًا، مع أنها لا تسع بحسب العادة إلا نحو المائتين. ومنها خروج دراهم جديدة رمي بها للمجاذيب. ومنها اختلاف أحوال الناس في تناول التراب من الطاقات التي تكون في توابيتهم، فينال بعض الناس التراب بمجرّد إدخال يده، ويأتي من هو أطول منه يدًّا، فيمدّ يده ويطاولها ويجهد نفسه فلا ينال التراب، فيجيء _________ (1) كتب المؤلف بعدها «و» وترك مقدار ثلاث كلمات.

(4/414)


بعض سدَنة القبر فيقول له: انذر بكذا، فإذا نَذَر بذلك ومدّ يده، نال التراب بسهولة! ومنها أن الزائرين يضعون أسلحتهم ونحوها على باب القُبَّة فلا يقدر أحدٌ على سرقتها، وقد تتراكم الأسلحة بكثرة، فيخرج الزائر فيجد سلاحه ظاهرًا، وكلما خرج أحدٌ منهم وجد سلاحه فوق تلك الأسلحة حتى لا يتعب في البحث عنه. وقد يكون هو أول من وضع سلاحه تحت جميع الأسلحة. ومنها أن يجيء المجذوب فينحر نفسه أو يبعج بطنه، ثم يعود في الحال سالمًا، وقد يضع أحدهم الرمح في ثغرة نحره حتى ينجم من قفاه أو في بطنه حتى ينجم من ظهره. بل قد يذبح أحد المجاذيب صاحبه حتى يُرى الرأس مفصولًا عن الجسد، ثم يردّه فيقوم المذبوح سالمًا. والحاصل أنها تظهر خوارق كثيرة، ومَن أراد مراجعتها فليراجع الكتب الموضوعة في كرامات الأولياء. [ص 103] قال المانعون: قد أسلفنا أول بحث التبرّك: أن كل ما يُراد تحصيله بسبب غير عاديّ لا يكون سببه إلّا شرعيًّا، والشرعيّ ما ثبت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله. ولا ريب أن الدعاء سبب شرعي. وقد عُلِمَ من حال السلف الأول أنهم لم يكونوا يقصدون القبور للدعاء، بل ثبت عن الصحابة العدولُ عن الاستسقاء بقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى طلب الدعاء من عمّه، ومرّ (1) ذِكْر الحديث الصحيح، قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تتخذوا قبري عيدًا ... » إلخ، ونَهْي زينِ العابدين لذلك الرجلِ الذي كان يعتاد قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم للدعاء، وذِكْره لهذا الحديث. _________ (1) (ص 215 - 216).

(4/415)


وإذا كان هذا في قبره صلى الله عليه وآله وسلم فغيره أولى، فحينئذٍ فجميع ما ذكرتموه من الدعاء عند القبور والاستغاثة بالصالحين والنذر لهم والذبح عند القبور، وتمسّك النساء بهم لأجل الولد، وغير ذلك= كلها محظورة في الشرع كما يعلمه من له مسكة بالكتاب والسنة. ولا يلزم من كونها محظورة في الشرع أن لا يحصل بها نفع كما لا يلزم من حصول النفع بها كونه مأذونًا بها في الشرع؛ فهذا السحر ينتفع به صاحبه، وهذه الكهانة والتنجيم، واستخدام الجن والرقى التي فيها كفر= كلها تنفع صاحبها، وهو حرام أو كفر. وهذه صفة الدجّال في الأحاديث الصحيحة ينتفع أصحابه بالمطر ورغد العيش وحياة أقربائهم الموتى ــ فيما يرون ــ وغير ذلك، واتّباعُه أشدُّ الكفر. وإذا كانت الأسباب العادية ــ مع أن الأصل في الشرع إباحتها ــ وفيها الحرام والكفر كالزنا والربا والسرقة ونحوها مما لا يُحْصَى، وأصحابها ينتفعون بها بلا شكّ، فما بالك بالأسباب غير العادية، والأصل في الشرع حظرها؟ والحاصل أن خوارق العادة قد قسمها العلماء إلى أقسام: أولها: معجزات الأنبياء، وهذه قد مضت بمضيّهم، وبقي بعض معجزات خاتمهم صلى الله عليه وآله وسلم، وأعظمها كتاب الله تعالى. الثاني: كرامات الأولياء، والعلماء مختلفون فيها، فمن العلماء مَن ينكرها رأسًا، وينسب كل مَن ظهر على يده ما يُشبه الخارقة إلى أحد الأقسام الآتية. [ص 104] والباقون يثبتونها ويفرّقون بينها وبين الأقسام الآتية بوقوع الكرامة على يد عالم عامل محافظ على ظواهر الكتاب والسنة، متنزّه عن مخالفتهما، هذا في حال حياته، وأما بعد وفاته فإنما تُعرَف بقرائن الأحوال.

(4/416)


وذلك أنه إن وقع شيء من الخوارق لأحد الموتى، نظرنا الأحوال الحاضرة حينئذٍ، فإن كانت موافقة للكتاب والسنة، وكانت تلك الخارقة صادرة لتأييد الكتاب والسنة= جاز تسميتها كرامة، وإلا فهي من بعض الأقسام الآتية. مثاله: أن يؤذى ولدٌ لبعض الصالحين الموتى، فيصاب المؤذي ببلاء، فالواجب أن ننظر، فإن كانت الأذية بغير حق، والمؤذي ظالم لولد ذلك الصالح= جاز أن تسمّى هذه كرامة. وإن كانت الأذية بحق مؤيَّد بدليل شرعي قطعنا أنها ليست بكرامة، وإنما هي من أحد الأقسام الآتية. إذا تقرّر هذا لديك عرفتَ أن مجرّد الخارقة من حيث هي لا تصلح دليلًا لشيء، فإن أدلة الشرع محصورة وليست الخارقة منها، إلا المعجزة فليس الكلام فيها. وبهذا التقرير يندفع كل ما أوردتموه، ولنبيِّن أقسام الخوارق بعد المعجزة والكرامة فنقول: منها: الاستدراج، وهذا ما يجريه الله تعالى عند بعض الأفعال ابتلاءً للناس؛ هل يثبتون على دينهم الثابت بالكتاب والسنة أم يضلون. ويصلح أن يكون منه ما يقع للدجال من الخوارق. ومن هذا ما ابتلى الله تعالى به الصحابة يوم أُحدٍ كما دلَّ على ذلك القرآن. ومنها: السحر والشعبذة والاستعانة بالجن وأعمال الشياطين، يقصدون بها تضليل المسلمين وإزاغتهم عن السراط المستقيم، كما كانوا يفعلون في الجاهلية في الأصنام، وكما يفعلونه مع عباد الأوثان، ومثله كثير جدًّا. وقد مرَّ شيءٌ من هذا أواخر الكلام على علم الغيب، فارجع إليه (1). _________ (1) (ص 361 فما بعدها).

(4/417)


و [منها]: الكهانة والتنجيم وغير ذلك مما مرَّ في بحث الاطلاع على المغيِّبات. [ص 105] إذا تقرر ما ذكر، فالكلام على هذه الخوارق التي زعمتم وقوعها من وجهين: الأول: إنكار وقوعها أصلًا، وأنه لا يجوز القول بوقوعها إلا عن مشاهدة أو تواتر بإخبارِ عددٍ يحصل بإخبارهم القطعُ بوقوعها، كما يقطع مَن باليمن أن أرض الهند موجودة. وعلى فرض صحة وقوعها، فإنها محتملة لأن تكون من الشعبذة، ولأن تكون من السحر، ولأن تكون من أعمال الشياطين، ولأن تكون استدراجًا يبتلي الله بها عباده، ولأن تكون كرامةً. وإذا كان الأمر كذلك لم يكن من الممكن تعيين كونها من أحد الأقسام، وإنما المتيسِّر أن توزَن بميزان الشرع، فإن كان صاحبها ثابتًا على كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وكانت الخارقة مؤيِّدة لأحكام كتاب الله تعالى وسنة رسوله= كان الواجب إحسان الظن بصاحبها أن الله تعالى أكرمه. ومع ذلك فليست دالةً على أنه معصوم من المعاصي، بل ولا تمكن العصمة لغير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ثم إذا وقعت لذلك الشخص خارقة أخرى، كان حظّها حظّ صاحبتها، وهكذا أبدًا. فإن رأينا خارقةً تؤيد خلاف أحكام كتاب الله تعالى وسنة رسوله، حَكَمْنا عليها أنها من أحد الأنواع الأخرى. والمقصود أن أصول الأحكام في شريعة الإسلام هي الكتاب والسنة لا غير، والعالم هو العالم بأحكامهما، والوليّ هو العامل بما عَلِمه منهما، والخوارق بعد المعجزة ليست بحجّة ولا دليل ولا يُسْتند إليها في قليل ولا

(4/418)


كثير، وإنما تفيد مجرَّد حُسن الظن لا غير، ولهذا كان سيّد الطائفة الجُنيد رضي الله عنه يقول لأصحابه: لو رأيتم رجلًا قد تربّع في الهواء فلا تقتدوا به حتى تروا صنيعَه عند الأمر والنهي، فإن رأيتموه ممتثِلًا لجميع الأوامر الإلهية مجتنبًا لجميع المناهي، فاعتقدوه واقتدوا به. وإن رأيتموه يخلُّ [106] بالأوامر ولا يجتنب المناهي فاجتنبوه (1). فجَعَل الدليل على كون الخارق كرامة هو الثبات على جميع الأوامر، واجتناب جميع المناهي، فكان من المحال أن يجعل الخارق دليلًا على الثبات، أو على كون فعلٍ من الأفعال هو من الدين وإلا لكان دورًا، فتأمّل. مع أن هذا الأمر من المعلوم بالضرورة لكل مسلم، فإن أركان الإيمان إنما هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والقَدَر خيره وشرّه. ومِن لازم الإيمان بالله ورسوله الإيمانُ بالكتاب والسنة والاهتداءُ بهديهما. والخارقُ بعد المعجزة خارج عن ذلك كله، اللهم إلا أن يختار أحدٌ لنفسه الكفر بهما والإيمانَ بالخارق، فهو وما تولّى، أعاذنا الله وجميع المسلمين من الخذلان! الوجه الثاني في الكلام على هذه الخوارق: بيانها تفصيلًا: أولًا: قولكم: إن أحدكم يجهد في دعاء الله تعالى ... إلخ. جوابه: أنه إن صحَّ ولم يتكرّر فهو مجرّد موافقة. فإن تكرر حتى حصل لصاحبه القطعُ بمقتضاه، فهو من الاستدراج، أو مما يصلح له من بقية الأنواع، فإن الله تعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، ويقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ _________ (1) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (1719) من قول أبي يزيد البِسْطامي.

(4/419)


عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]. الثاني: قولكم: ونرى كثيرًا ... إلخ. والجواب عنه كالذي قبله. الثالث: قولكم: وقد ينذر الإنسان ... إلخ والجواب عنه كالذي قبله، وقد يكون البلاء الذي أصابه بسبب تأخير النذر من الشياطين، ولذلك إذا أطاعهم بأداء ما نذر به كفُّوا عنه. وقد مرَّ في التبرّك قول زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنها له أنها كانت تقذف عينها فتذهب إلى يهودي يرقي، فإذا رقاها سكنت، فقال عبد الله رضي الله عنه: إنما ذلك الشيطان ينخسها بيده ... (1) إلخ. الرابع: قولكم: ونرى بعض أهل الجهات ... والجواب عنه: أن هذا مجرّد موافقة، فإن تتابعَتْ وتكررت حتى حصل العلم بذلك، فهو من الاستدراج ــ والعياذ بالله ــ كما يقع مع الدجّال. والغالب أن هذا مجرّد موافقة يصير أهلُ الجهة إلى الوقت الذي جرت العادة بنزول المطر فيه، فإذا أبطأ أسبوعًا أو نحوه ذهبوا ففعلوا تلك الأفعال، ثم ينزل الله تعالى المطر على جاري العادة في نزوله في ذلك الفصل، وقد يكفّون في بعض السنين عن فعلهم [107] فيتفق تأخّر المطر تلك السنة، فيجد الشيطان الفرصة إلى تثبيت تلك العقيدة في صدورهم. وقد أخرج النسائي (2) عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لو _________ (1) تقدم (ص 227). (2) (1526) وفي «الكبرى» (1849). وأخرجه أحمد (11042)، والحميدي (751) وابن حبان (6130) وغيرهم بلفظ: «سبع سنين». وأخرجه غيرهم بلفظ «عشر سنين».

(4/420)


أمسك الله القَطْر عن عباده خمس سنين ثم أرسله لأصبحتْ طائفة من الناس كافرين، يقولون: سُقينا بنوء المِجدَح». وعلى كل حال فلا يخلو عن استدراج، نعوذ بالله من غضبه و (1). الخامس: قولكم: ونرى بعضَ النساء ... إلخ. والجواب: أن هذا مجرَّد اتفاق، فإن تواتر وتكرر حتى حصل العلم بمقتضاه فهو استدراج والعياذ بالله. السادس: قولكم: وكثيرًا ما نرى أُناسًا ... إلخ. والجواب: أنه قد مرّ أن المؤذي لولد ذلك الصالح إن آذاه ظلمًا وعدوانًا، وبغير حق ثابت في أحكام الكتاب والسنة، فيجوز أن يكون ما ناله كرامة للصالح. وإن كان بالعكس، كأن أنكر مسلمٌ البناء على القبر ونحوه، فابْتُلي بشيءٍ فهذا من أعمال الشياطين. والغالب أن هذا لم يقع ولا يقع وإنما هو من ظنون هؤلاء الجهال كما قال قوم: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54]. وعلى فرض أنّ شيئًا من ذلك وقع فهو إما مجرّد اتفاق، وإما من أعمال الشياطين الذين اتخذوا ذلك القبر شبكةً لاصطياد الجهّال، والعياذ بالله. وإما من سِحْر أولئك السَّدَنة، فإن وافقهم ذلك المنكر على باطلهم كفوا عنه، وإذا كان المنكر ثابتَ العقيدة صحيحَها لم يُصِبْه ما يكره أبدًا. السابع: قولكم: ونرى كثيرًا من الخوارق ... إلخ. _________ (1) كذا في الأصل.

(4/421)


والجواب: أن أصحاب القبور موتى لا يسمعون ولا يُبصرون على ما تقدّم، وليس لهم تصرّف في شيءٍ من الدنيا، وإنما يحضر عند قبورهم بعضُ الشياطين يضلون بني آدم، ليهلكوهم ويُرْدوهم، وربما كان ذلك من الاستدراج والعياذ بالله، فاتقوا الله في أنفسكم وارجعوا إلى دينكم. الثامن: قولكم: وكثيرًا ما ينذر ... إلخ. والجواب: أن هذا ــ إن صحّ ــ فهو من أعمال الشياطين يوحون إلى ذلك الولي من أوليائهم ذلك الخبر بعد أن سمعوا الناذِرَ يذكره، أو أخبرهم به وسواسه. وقولكم: وقد يرى ذلك الوليَّ في نومه ... إلخ. الجواب: أنه إنما رأى الشيطان، والشيطان يتصوّر بكل أحدٍ إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، على أن العلماء رضي الله عنهم صرّحوا أنه لو رأى الإنسانُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمره بشيء لم يجُزْ له أن يعمله إن كان غير جائز في الشرع، وقد مرَّ إيضاح ذلك (1). [ص 108] التاسع: قولكم: وكثيرًا ما نرى المجانين ..... الجواب: أن هذا من أوضح الواضح من عمل الشيطان، كما مرَّ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. العاشر: قولكم: ومن جملة الخوراق ..... إلخ. والجواب: أن اتساع القبة لا يصح، فإن فُرِض أنه صحّ بمشاهدةٍ أو _________ (1) (ص 335).

(4/422)


تواتر يفيد العلم القطعي، فهو استدراج. وخروج الدراهم هو حيلة من حيل السَّدَنة؛ يدخل أحدهم إلى التابوت ويقف فيه، وعنده دراهم مجلوّة، فإذا أريد التمويه تكلّم بعض السَّدَنة الذين خارج التابوت بما يفهم منه الداخل، فيرمي بشيءٍ من تلك الدراهم. وقد بلغنا عن بعض القبور أن أحد السَّدَنة يدخل في ذلك التابوت، ويُدخل معه دراهم مجلوّة ونارًا، فإذا أريد التمويه وضع بعض الدراهم على النار حتى يحمى ثم أخذه ورماه إلى الخارج، ويموّهوا على الناس أنَّ الوليّ أحضره من البلاد التي تُطبَع فيها الدراهم. وبهذه الحيلة يضع ذلك السادن حجرًا عريضة فيجعل عليها ترابًا، فإذا أريد التمويه أبعدها عن قرب الطاقة التي يتناول منها التراب، فإذا مد الزائرُ يده لم تصل إلى الأرض لبعدها، فإذا جاء بعض السَّدَنة وأخبره أن ينذر فنذر، تكلم بما يفهم به صاحبه، فيرفع تلك الحجر إلى حيث تنالها يد الرجل بسهولة. وأمثال هذه الحيل كثيرة جدًّا عند هذه المشاهد، وكثيرًا ما تساعدهم الشياطين فيها، فتذهب الشياطين في البلاد توسوس للناس، وتسمع ما يكون منهم من نذور ونحوها، وترجع تخبر أصحابها، وإذا كانت الشياطين تخبر أصحابها بما استرقته من خبر السماء فما بالك بخبر الأرض؟ الحادي عشر: قولكم: ومنها أن الزائرين يضعون أسلحتهم ... إلخ. والجواب: أن هذا باطل لا يصحّ، فإن صحّ يقينًا فقد يكون من عمل الشياطين، فيكون قرين كلِّ إنسان يعرف سلاحه، فينظر أين وضَعَه ويعلم

(4/423)


ذلك، فيبقى يحرسه يرقب صاحبه، حتى إذا أراد الخروجَ أسرع فقدَّم له سلاحَه. وقد يكون ذلك من الاستدراج والعياذ بالله. [ص 109] الثاني عشر: قولكم: ومنها أن يجيء المجذوب ... إلخ. والجواب: أن هذا من سِحْر الشياطين، يسحرون المجذوب حتى لا يدري ماذا يصنع، ثم يسحرون عيون الناس، فيخيلون إليهم هذه الأشياء. وها نحن قد بينّا لكم المحامل التي تُحمل عليها هذه الخوارق المدّعاة، وما كان من الاطلاع على المغيّبات قد ذكرنا محاملَها في ما مضى، لتعلموا أنه ما من خارقةٍ ــ غير المعجزات ــ إلا وهي إلى الباطل أقرب، وأن الحجة هي كتاب الله تعالى وسنة رسوله فقط. فإن قلتم: إنّ فَتْح هذا الباب من تجويز أعمال الشياطين يؤدّي إلى مُحالات كثيرة، فلا يثق الإنسان بما يرى ولا بما يسمع، إذ كل شيء من ذلك محتمل لمثل ما ذُكِر، فقد يخيّل إليه الشيطان أنه يطأ زوجته وهو إنما يطأ بنته، مع تخييله لبنته أنه إنما يطأها زوجُها. وأشباه ذلك مما لا يُحْصَى. فالجواب: أننا لأجل ذلك قدّمنا إنكار هذه الخوارق المدّعاة، وقلنا: إنها لا تثبت أصلًا، وإن فُرِض أنه ثبت شيءٌ منها بطريق القطع عرضناها على حكم كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فإن قضى الكتاب والسنة ببطلانها عَلِمنا قطعًا أنها من تلك الأنواع الباطلة. والقولُ بأن شيئًا من هذه الخوارق يجوز أن يُستدلّ به ولو خالف الكتاب والسنة قولٌ لا ينبغي أن يصدر من مسلم.

(4/424)


تنبيه قد يستبعد بعضُ الناس وجود الشياطين عند قبور الصالحين. والجواب: أن الشياطين مأذون لهم فيما هو أشدّ من هذا، ففي «الصحيحين» (1) عن أنسٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم». وفي «صحيح مسلم» (2) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما منكم من أحدٍ إلا وقد وُكِلَ به قرينه من الجنّ وقرينه من الملائكة» قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: «وإياي، ولكن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير» ولمسلم (3) أيضًا نحوه عن عائشة. وفي «الصحيحين» (4) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن عفريتًا من الجن تفلّت البارحة ليقطع عليَّ صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته ... » الحديث. وقد أخرجه مسلم (5) عن أبي الدرداء قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي فسمعناه يقول: «أعوذ بالله منك»، ثم قال: «ألعنك بلعنة الله» ثلاثًا، وبسط يدَه كأنه يتناول شيئًا، فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله، قد سمعناك تقول في الصلاة شيئًا لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك _________ (1) البخاري (3281) ومسلم (2175) عن صفية بنت حُيي رضي الله عنها، وأخرجه مسلم (2174) عن أنس رضي الله عنه. (2) (2814). (3) (2815). (4) البخاري (3423)، ومسلم (541). (5) (542).

(4/425)


بسطت يدك؟ قال: «إنّ عدوَّ الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة، فلم يستأخر ثلاث مرات، ثم أردت أخذه. والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقًا يلعب به ولدان أهل المدينة». وفي «سنن أبي داود» (1) عن أنسٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «رصّوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق، فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصفّ كأنها الحذف». وفي «صحيح مسلم» (2) عن ابن مسعود قال: «إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل، فيأتي القومَ فيحدّثهم الحديث من الكذب، فيتفرقون، فيقول الرجل منهم: سمعت رجلًا أعرف وجهه ولا أدري ما اسمه يحدّث». ولا يخفى أن الشياطين بالصالح أشدّ اهتمامًا، وهذه المشاهد حريّة بأن تكون محضورة بالشياطين؛ لأنه إما أن يكون صاحب القبر صالحًا لم تتمكّن منه الشياطين في حياته، فهم حريصون على أن يعتاضوا عما فاتهم منه بما ينالونه بواسطة قبره. وإما أن يكون طالحًا فهو صاحبهم حيًّا وميّتًا؛ ولهذا نرى حرم الله تعالى وحرم رسوله منزّهين عما ذكرتم، وإن كان شياطين الإنس والجن ربما انتهكوا حرمتهما بحِيَل يتلاعبون بها بعقول الجهّال مما يعلّمهم إيّاها الشيطان، كما كانت الأصنام والأوثان في الجاهلية داخل الكعبة وخارجها. نسأل الله تعالى التوفيق. _________ (1) (665). وأخرجه النسائي (815)، وأحمد (13735). وصححه ابن خزيمة (1545) وابن حبان (2166). (2) (7).

(4/426)


[78] قال المجيزون: أما بعد هذا فلا طاقة لنا بجدالكم، ولكنّا نكتفي بما هو مثبت في دواوين الإسلام من المؤلفات التي لا تُحصى، بل وبإجماع المسلمين على النداء والاستغاثة بالأنبياء والصالحين، حتى إن الظاهر أن ذلك أمر فَطَرهم الله تعالى عليه، وإنكم وإن أتعبتم أنفسكم ولجَجْتُم في الخطاب فلن تقدروا على تغيير ذلك ولا تبديله، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32]. وإنما نسألكم عن أمر واحد وهو أن المسلمين في هذا الأمر فِرَق: الفريق الأول: مَن يُثبت للأنبياء والصالحين الكشف الصادق في السموات والأرض، ويثبت لهم التصرّف فيما بين ذلك مُسْنِدًا ذلك إلى الإذن الربّاني. الفريق الثاني: مَن لا يثبت لهم ذلك وإنما يقول: إن الله تعالى يبلغهم ويجيب دعاءهم. الفريق الثالث: مَن لا يقول بهذا ولا بهذا، ولكنه يثبت التوسّل، ويجعل الطلب منهم والاستغاثة بهم حاضرين في معنى طلب الدعاء، ويجعل خطابهم عند قبورهم بناء على أنهم يسمعون الكلام، كما ثبت ذلك في أحاديث صحيحة، وأنهم قادرون على الدعاء وإن كانوا موتى، كما ثبت من وقوع العبادات من بعض الموتى. ويجعل نداءهم والطلب منهم والاستغاثة بهم غائبين في معنى التوسّل. وليس من هذه الفِرَق من يدّعي لمخلوقٍ الاستقلال بالقدرة من دون الله تعالى، ولا مشاركته في القدرة، وإنما يقولون: إن الله سبحانه وتعالى يُسْمِع مَن يكرمه من خلقه ما غاب عنه من المسموعات، ويُطْلِعُه على ما غاب من

(4/427)


المعلومات، ويُجري على يده ما شاء من خوارق العادات. ويبنون على ذلك جواز النداء والطلب على ما مرّ. وكلٌّ منهم متمسّك بدليل شرعيّ، فلم تتمسكوا معهم بالأدب الواجب بين العلماء، بل بادرتم إلى تفسيقهم وتكفيرهم وتضليلهم، وإخراجهم من الدين رأسًا [79] فجعلتم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم محصورةً فيكم، وسائر الأمة مرتدون، فما سمعنا بضلال أضلّ من هذا! وما دام الأمر على هذا فالكلام معكم ضائع، لأنكم تعتبروننا مرتدين كفّارًا نحن وجميع هذه الأمة إلا أفرادًا يُعدّون بالأصابع. وهذا القول يكفي في ردّه حكايتُه. قال المانعون: إنا والحمد لله أنصار الحقّ لا عداوةَ بيننا وبين الحق، وقد تدبّرنا كتاب الله تعالى وسنة رسوله وآثار سلف هذه الأمة، فوجدنا السبيل واضحًا، والمنار بيّنًا، والهدى معروفًا. وقد سردنا في هذه الرسالة من أدلة الكتاب والسنة ما يغني عن سواه، ولا تجهل أن هناك أحاديث ضعيفة وآثارًا سخيفة لا يصحّ الاستناد إليها ولا الاعتماد عليها ولو لم يعارضها شيءٌ، فكيف وقد عارضها القرآن والسنن المتواترة. وأما دعوى الإجماع فباطلة، فإنه لم يزل في كل زمان قائم لله بحجة، ومع ذلك فإنه قد سبق (1) عن ابن حجر قوله: إن الإجماع لا يكون حجة في هذه الأعصار لتغيّر الناس وغَلَبة الفساد. ومع هذا فالإجماع إنما يكون حجة إذا عُلِم يقينًا، وليس عندكم فيه هنا إلا الاحتمال، بل ليس ــ والحمد لله ــ (2) _________ (1) لم يسبق هنا شيء، ولعله مما لم نعثر عليه من مباحث الكتاب. وقد ذكره المؤلف في رسالة «عمارة القبور». (2) تحتمل قراءتها: «ليس فيه بحمد الله ... » وما أثبته أقرب إلى الرسم.

(4/428)


احتمال أصلًا ــ كما مرّ ــ. وهذه الأدلة القواطع من آيات الكتاب، والأحاديث المتواترة الصحيحة، فما معنى دعوى الإجماع بمناقضتها ومعارضتها؟ وإنّا لله وإنّا إليه راجعون. وعليكم أن تراجعوا كلام الإمام الشافعي في الإجماع، وكلام الإمام أحمد، وقد مرَّ بعضُه. وأما قولكم: إن الناس مفطورون على ذلك، فهذا جهل بيّن، فإن الفطرة إنما هي معرفة الله وحده، وما خرج عنها فهو ليس من الفطرة، وإنما هو التقليد المحض، كما ينشأ أولاد الكفار كفّارًا، يظنون الحق ما عاش عليه آباؤهم وأجدادهم وألِفُوه واعتادوه، فيقول قائلهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]. ويُنشد: بلادٌ بها عقَّ الشبابُ تمائمي ... وأوّل أرضٍ مسّ جلدي ترابُها (1) ويردّد: أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جَمَعَتْنا يا جريرُ المجامع (2) ويقول أحدهم: واعجباه! أيمضي آباؤنا وأجدادنا وفيهم العلماء والعُبّاد والأمراء على هذه العقيدة وتكون باطلة، إن هذا لشيء عجيب! أوَ يسوغ لنا أن نخالفهم في ذلك ويفوز هؤلاء النّفَر القليل بالحق دونهم؟ لو كان خيرًا ما سبقوهم إليه. _________ (1) البيت في «الأمالي» (1/ 84) للقالي، وتخريجه في «سمط اللآلي» (ص 272) ونُسب لغير واحد. وانظر «الكامل»: (2/ 842). (2) البيت للفرزدق في «ديوانه» (1/ 418).

(4/429)


ثم يوحي بعضهم إلى بعض أن اثبتوا على ما وجدتم عليه آباءكم وأشياخكم، وأعرضوا عن كلام من يريد أن يصدكم عن ذلك والغَوا فيه، ولا تتفكّروا فيه، ولا تتدبروه، ولا تطالعوا رسائلهم فإنها مضلّة. وهكذا تمضي أعمارُهم في مناصبة الحق ومعارضته ومحاربته ومناقضته والإعراض عنه والتحذير منه، [ص 80] كأنهم لا يقرؤون كتاب الله تعالى، فيعلمون أن الدين هو ما جاء من عند الله تعالى بكتابه وسنة رسوله الصحيحة، فيتدبرون القرآن ويراجعون السنة. وهب أنّ آباءهم وأجدادهم وأشياخَهم كلهم على الحق، أفلا يجب على هؤلاء أن يعرفوا الحق بعينه، ويأخذوه من معدنه، حتى يكونوا على يقين منه لا على مجرد التقليد والظن المتردّد؟ وإننا لا نطلب منكم إلا أن تتبعوا الحق وتعملوا بموجبه مع قطع النظر عما كان عليه الآباء والمشايخ وغيرهم، فإنكم مكلّفون كما هم مكلّفون، والحُجَج قائمة عليكم كما كانت عليهم. ولو رجعتم إلى أنفسكم لعلمتم أنه إنما يحملكم على معارضة الحق مجرّد الهوى والتعصّب والإلْفَة لأنفسكم ولآبائكم ولأشياخكم. وهذه هي صفة أهل الضلال كما تعلمون، فاتقوا الله في أنفسكم، وجرّدوها عن الأهواء، واعمدوا إلى الحق تجدوه واضحًا لا غبار عليه. إن الفتى من يقول: هانا ذا ... ليس الفتى مَن يقول: كان أبي (1) _________ (1) يُنسب إلى علي بن أبي طالب، وهو في «الجليس الصالح»: (1/ 109)، و «غُرر الخصائص» (ص 74) بلا نسبة.

(4/430)


فإن آباءنا وآباءكم ليسوا بمعصومين عن الخطأ، ولا ندري ما هو الذي أخطأوا فيه مما أصابوا، وإنما يُعرف ذلك بالحجة، وهي كتاب الله تعالى وسنة رسوله الصحيحة، فعليكم بهما ترشدوا إن شاء الله تعالى. ولاسيّما والخطأ في مسائل التوحيد والجهل بها لا يُعذَر صاحبه، كما لا يسوغ التقليد فيها اتفاقًا. واعلموا أن الله تعالى لم يحفظ علينا كتابه وسنة رسوله إلا لتقوم علينا الحجةُ بهما لئلّا نتمسّك بشبهة التقليد ونقول: لم نجد متمسّكًا غيرها، لذلك حفظ الله تعالى علينا كتابَه وسنةَ رسوله حتى لا تبقى لنا شُبهة. وكيف بكَ يا ابنَ آدم إذا قال الله تعالى لك: ألم تعلم أن من شرط الإيمان أن تؤمن بكتابي وبرسولي؟ قلتَ: بلى يا رب. قال: أوَ لم تعلم أن كتابي وسنة رسولي كانت موجودة في حياتك؟ قلت: بلى يا رب. قال: أوَ لم يكن يمكنك أن تفهم معانيهما؟ قلت: بلى يا ربّ. قال: فلماذا أعرضتَ عنهما واتبعتَ ما يقول الناس؟ ثم يقول لك: ألم تعلم أني أنزلتُ كتابي مخاطبًا به جميع بني آدم قائلًا: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21]. فيقول: بلى يا ربّ. فيقول: أوَ لستَ من الناس المخاطَبين. فتقول: بلى يا ربّ.

(4/431)


فيقول لك: أوَ لم تقرأ فيه أنه {عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]. فتقول: بلى يا ربّ. فيقول لك: أوَ لم تقرأ هذه الآية؟ فتقول: بلى يا رب. فيقول: أوَ لم تفهم معناها بالأسلوب العربي؟ فتقول: بلى يا رب. فيقول: وكيف اعتقدتَ ما يناقضها؟ فلا يسعك إلا السكوت، إذ لا يمكنك أن تقول: عملتُ بقول آبائي وأشياخي، فتعترف على نفسك أنك قدمتَ قولَ آبائك وأشياخك على كلام ربك جلّ جلاله! [81] فصل وأما شكواكم من التكفير والتفسيق فهي شكوى لا معنى لها، وإنما عليكم أن تتجرَّدوا عن الأهواء، وتنظروا بعين الإنصاف وحب الحق حتى تقفوا على ما وقف عليه المكفِّرون والمُفَسِّقون؛ فإن تبين لكم أن لهم حجة في ذلك فلا تلوموهم على أن عملوا بها. وإن لم تجدوا لهم حجة ووجدتموهم متأوّلين، فاعلموا أنهم معذورون في ذلك. وقد مرّ في هذه الرسالة ما يتعلق بهذا (1). وإن اتضح لكم أنهم لا حجة لهم ولا تأويل، وإنما قالوا ما قالوه _________ (1) لم نره فيما سبق.

(4/432)


بالهوى والعناد، فحينئذٍ فلوموهم عن يقين. وقد قسّمتم الناس على فِرَق، فنبني الكلام عليها، فنقول: أما الفرقة الثالثة، وهم الذين يجيزون التوسّل، ويجيزون الطلب من الصالحين الحاضرين الأحياء، لا على أنهم قادرون على تحصيل المطلوب بأنفسهم، بل على أنهم قادرون على تحصيل سببه، وهو الدعاء. فمعنى قولهم: «يا سيدي فلان أغِثْني أو أدركني أو الغارة» = أغثني بالدعاء، وأدركني بالدعاء، والغارة بالدعاء. ويخاطبون الموتى عند قبورهم بناءً على أنهم يسمعون الكلامَ ويقدرون على الدعاء، وينادون الغائبين ويستغيثون بهم لا على معنى أنهم يسمعون ويُغيثون بل على معنى التوسّل. فقولهم: «يا بدوي الغاره» يريدون به: اللهم إنا نسألك بجاه البدوي الإغاثة= فمسألة التوسّل قد مرّ ما فيها. وخلاصة القول فيها: أنه خلاف السنة، وطلب الدعاء ثابت بالكتاب والسنة، وطلب الفعل من الحيّ الحاضر بمعنى طلب الدعاء لا بأس به إذا قامت القرينةُ على المراد، فأما إذا لم تقم قرينة فالعمل على الظاهر، وهو أن الطالب يعتقد أن المطلوب منه يقدر على تحصيل المطلوب. وسيأتي ما في هذا. ثم إن قول ما ظاهره كفر محظور في الشرع وإن كان القائل لم يرد به ظاهره. وأما خطاب الموتى عند قبورهم وسؤال الدعاء منهم صريحًا، فإنه يدلّ على اعتقاد أنهم يَسْمعون أو يُبلّغون ويَدْعون.

(4/433)


وقد مرت الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة على عدم سماعهم وعدم دعائهم فراجعْها (1). ولا ريب أن فاعل ذلك مخالف لتلك الأدلّة، وبمراجعتها يتبيّن حكم مخالفها. وأما إن طلب منهم غير الدعاء فالأمر أشدّ، وفيه نحو ما سبق قريبًا. وأما الفرقة الثانية، وهم الذين يعتقدون أن الله تعالى يبلّغ الصالحين غائبين أو موتى، فهؤلاء مكذّبون لصريح الكتاب والسنة، فإن التبليغ إنما يقع للأنبياء في حال حياتهم في بعض الوقائع لا في جميعها. [82] ومع ذلك فإنما يجوز في حال حياتهم أو غيبتهم أن يقال كما قال عاصم: «اللهم أخبر عنا رسولك» (2). وأما أن الله تعالى يقبل رجاءهم، فهذا صحيح في حقّ الأنبياء عليهم السلام غالبًا لما مرّ، ومع ذلك فالطريق في سؤالهم ذلك: أن يُسأل منهم الدعاءَ حال حياتهم. وأما إذا كانوا غائبين أو قد ماتوا فإنما يقال: اللهم شفِّع نبيّك صلى الله عليه وآله وسلم فينا، ونحوه مما ثبت بالدليل. وأما غير الأنبياء فإنما المشروع أن يُسأل منهم الدعاء في حال حياتهم، وأما بعد موتهم فإنما الجائز أن يسأل من الله تعالى أن يجعله مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقًا. وأما الفرقة الأولى، وهم الذين يثبتون للأنبياء والصالحين الكشفَ الصادق في السموات والأرض عمومًا، ويثبتون لهم التصرّف فيما بين ذلك، مُسْنِدين ذلك إلى الإذن الربّاني، فهؤلاء في إثباتهم للأنبياء الكشفَ في ما _________ (1) (ص 399 وما بعدها). (2) سبق تخريجه (ص 403).

(4/434)


بين السموات والأرض عمومًا مكذّبون لكتاب الله تعالى وسنة رسوله، لما مرّ بيانُه في المقام الأول، وفي إثباته للصالحين أشدّ تكذيبًا للكتاب والسنة. وفي إثبات التصرُّف فيما بينهما عمومًا مكذّبون لكتاب الله تعالى وسنة رسوله لما مرّ بيانه في المقام الثاني. ثم إن ما خالف كتاب الله وسنة رسوله فهو باطل، والمبطل في العقائد غير معذور عند الجمهور. وفوق ذلك فمخالفة كتاب الله تعالى في الاعتقاد لا تخلو أن تكون صريحة أو غير صريحة، فغير الصريحة تكذيبٌ له غير صريح، وهذا خطأ في الاعتقاد، وقد مرّ أن صاحبه غير معذور عند الجمهور. وأما الصريحة فهي تكذيب صريح لكتاب الله تعالى، [ص 83] وتكذيبه الصريح كفر صريح. وهذا كتاب الله تعالى بين أيديكم، وهذه اعتقاداتكم، فانظروا أين منزلتكم؟ ثم إن الاستعانة والاستغاثة والاستعاذة ونحوها من أقسام الطلب إن كانت مما جرت به العادةُ المشتركة بين سائر البشر، فالأصل جوازها حتى يرد الشرع بالمنع. وإن كانت فيما لم تَجْرِ به العادة؛ بأن يطلب من مخلوق ما لا يقدر عليه البشر عادة، فهذه من العبادة، قال الله عزَّ وجلَّ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ... } الآية [غافر: 60]. وفي الحديث عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الدعاء هو العبادة» ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه (1). وفي رواية للترمذي عن أنس _________ (1) سبق تخريجه (ص 408).

(4/435)


قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الدعاء مخ العبادة» (1). ولا شك أن مَن طلب من المخلوق ما لا يقدر عليه البَشَر عادةً، فقد عمل معه ما لا يُعْمَل إلا مع الله، أي: دعاه وعَبَدَه. وعبادة غير الله تعالى كفر بلا شكّ. ولا شكَّ أن مَن يعمل هذا مع المخلوقين معتقد استحقاقَهم لمثله. وبذلك الفعل والاعتقاد يَنْقض شهادته بوجهيها، فإن من شهد أن لا إله إلا الله فقد أخبر أنه يعتقد أن لا معبود بحقّ في الوجود إلا الله، والتَزَم أنه لا يعبد إلا الله. فمتى أخلّ بأحدِ الأمرين كفر، فكيف بمن أخلّ بهما معًا؟ والله أعلم. قال المجيزون: فهمنا هذا وبقي أن كثيرًا من المانعين يرموننا بكفر أهل الجاهلية وأشدّ منه، فما وجه ذلك؟ قال المانعون: وجهه أنكم تعتقدون في غير الله تعالى أنه يضر وينفع، وهذا هو الذي كانوا يعتقدونه في أصنامهم، وكانوا عند الشدائد يوحّدون الله تعالى، كما دلّ عليه القرآن في عدة مواضع: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 63 - 64]. إلى غير ذلك من الآيات الدالة أن القومَ كانوا يوحّدون الله تعالى عند الشدائد، وأنتم بخلاف ذلك، بل كلما اشتدت عليكم الشدائد ازددتم غفلةً عن الله تعالى وذكرًا (2) للذين تدعون من دونه! _________ (1) سبق تخريجه (ص 408). (2) الأصل: «وذكر» سهو.

(4/436)


قال المجيزون: لا سواء، فإن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون في أصنامهم أنها تضرّ وتنفع من دون الله أو معه، ونحن إذا اعتقدنا في الصالحين أنهم يضرون وينفعون [ص 84] فإنما نعتقد أن ذلك بإذن الله تعالى، لا من دونه ولا معه. قال المانعون: وهكذا كان الجاهليون يقولون، كما يدلّ عليه قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، وقوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 43 - 44]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 - 89]، وقوله جلّ ذكره: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 31 - 32]. وقوله عزَّ وجلَّ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ

(4/437)


لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 61 - 63]. وقوله سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9]. وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87]. وقوله عزَّ وجلَّ: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ... } الآية [يونس: 22]. وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67]. وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]. وفي «صحيح مسلم» (1) عن ابن عبّاس قال: «كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك». يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت. وكفى بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، فإنهم حصروا السببَ الحاملَ لهم على عبادتهم في إرادة أن يقرِّبوهم إلى الله زُلْفى. _________ (1) (1185).

(4/438)


[ص 85] قال المجيزون: هذه الآيات التي ذكرتم وغيرها تدلُّ على أن المشركين سمّوا أصنامهم آلهة، وعبدوها، واعتقدوا أنها تستحقُّ العبادة، واعتقدوا أنها تشفع عند الله تعالى وتقرب إليه بغير إذنه، وكذّبوا القرآن والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، وليس منّا أحدٌ يعبد الصالحين، ولا يعتقد أنهم يستحقون العبادة، ولا يعتقد أنهم يشفعون ويقرِّبون إلى الله تعالى بغير إذنه. قال المانعون: أما مطلق التسمية فإنه لا يتعلّق بمجرّد لفظها حقّ، وإنما يتعلّق بها من حيث معناها، ومعنى الإله: المعبود بحق، وسيأتي مثل هذا عنكم. وأما العبادة فإن فيكم من يعبد الصالحين، وذلك أنكم تدعونهم وتستيغيثون بهم كما مرّ، والدعاء مخّ العبادة أو هو العبادة، كما ورد في الحديث (1)، ويدلُّ عليه قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] وفيكم من يتمسّح بأضرحتهم ويذبح عندها، وينذر النذور للموتى، ونحو ذلك. وكلُّ هذا من العبادة. ولا شكّ أنكم تعتقدون أنهم يستحقّون ذلك، وهذا معنى الإلهية. وأما قولكم: إن المشركين كانوا يعتقدون في الأصنام أنها تشفع عند الله من غير إذنه، ففيه نظر، كيف وهم يقولون في تلبيتهم: إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك؟ وقد مرَّ قوله تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88]. مع أن فيكم من يعتقد في الصالحين قريبًا من _________ (1) سبق تخريجه (ص 408).

(4/439)


ذلك ويستدلّ بقوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الشورى: 22]. غافلًا عن كون ذلك إنما هو في الجنة التي كلّ من دخلَها كان له ما يشاء، وأن الله تعالى يحفظ نفوس أهل الجنة أن تشتهي ما سبق في علمه خلافُه، فلا يشتهي أهل الجنة خروج أقربائهم الكفار من النار. وأما في الدنيا فقد سبقت الدلائل من الكتاب والسنة أن الأنبياء يُمنعون بعض ما يشاؤون فضلًا عن غيرهم، والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]. وكذا في المحشر قد يُمنعون بعض ما يشاؤون كما مرّ في حديث شفاعة الخليل لأبيه (1). وأما كون المشركين كذَّبوا القرآن والنبي، فقد شاركتموهم في هذا، فكذّبتم دلائل القرآن ودلائل سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وغاية الأمر أن تكذيبهم أصرح من تكذيبكم. [ص 86] قال المجيزون: أما كون دعاء الله تعالى من عبادته فمسلّم، ولكن لا نسلِّم أن ما يقع منّا من نذر الصالحين والاستغاثة بهم، كدعاء الله تعالى، فإن دعاء المرء لله تعالى دعاءُ مَن يعلم أنه سبحانه وتعالى الفاعل المختار، فهو يطلب منه العفو والمغفرة والرحمة والرزق والشفاء وغير ذلك، ودعاء أحدنا للصالح إنما هو كما يدعو الإنسانُ صاحبه ويطلب منه ما يقدر عليه. وأما التمسّح بالأضرحة، فإنما يفعله من يفعله منا تبرّكًا بأثر ذلك الصالح. وقد ثبت التبرّك بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فثبت أن _________ (1) تقدم تخريجه (ص 401).

(4/440)


التبرّك بآثار الصالحين إن لم يكن مستحبًّا فليس بكفر قطعًا. وأما النذر والذبح، فإن الناذر إما أن يتصدّق بالمنذور، ويعطيه من يقرأ إلى روح ذلك الصالح، أو يجمع عليه الناس لذكر الله تعالى، أو نحو ذلك. وإما أن يعطيه أقارب ذلك الصالح وأتباعه. فهو في الحالة الأولى إنما يريد النذر بثواب تلك الصدقة أو تلك القراءة أو الذكر ونحوه. وفي الثاني إنما أراد النذر على أتباعه، وهذا من باب البرّ والصِّلَة المستحبّة في الشرع. كما أن الإنسان يبرّ قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويعتقد أن ذلك من برِّه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]. فهذا الرجل في نذره على ذلك الميت وإعطاء المنذور به لأتباعه إنما يعني النذر على أتباعه بنيّة البرِّ له. وكذلك الذبح، فلا نعلمَ أحدًا يذبح باسم أحدٍ من الصالحين، وإنما يذبح على اسم الله تعالى قائلًا: بسم الله، والله أكبر. وإنما قد ينذرون بالشاة ونحوها على الولي قاصدين النذر بثواب الصدقة بها أو غير ذلك مما مرَّ. وإذ قد ثبت أنه لا بأس بهذه الأشياء، فلا بأس باعتقادنا أنهم يستحقّونها. وأما أننا نعتقد أن لهم ما يشاؤون في الدنيا والآخرة فلسنا نطلق ذلك، وإنما نعتقد أن دعاءهم أقرب إلى الإجابة، وهذا لا ينازع فيه أحد. [ص 87] قال المانعون: إننا ــ كما يعلم الله تعالى ــ نحبّ أن تكون جميع أفراد الأمة على هدى وسراط مستقيم، ولا غرض لنا في أن يكون أحدٌ منهم ضالًّا، وإنما غرضنا في تحقيق الحقّ.

(4/441)


أما قولكم: إنّ نداءكم للصالحين والاستغاثة بهم ليس كدعاء الله تعالى ... إلخ، فنداء الصالح على ضربين: الأول: أن يكون حاضرًا، وهذا معلوم بالضرورة أن مجرّد ندائه لا حرجَ فيه على كل حال. والثاني: أن يكون غائبًا أو ميّتًا. والاستغاثةُ على ضربين: الأول: الاستغاثة بحيّ حاضرٍ بِطَلبِ ما يقدر عليه المخلوقون عادةً، كقولك للطبيب: أغثني بالدواء، ولصاحب الماء: أغثني بالسقي، وللقويّ: أغثني من هذا العدو، وللصالح: أغثني بالدعاء، فهذا من المعلوم بالضرورة أنه لا حرج فيه. والثاني: الاستغاثة بالحيّ الحاضر بما لا يقدر عليه المخلوقون عادةً، كقولك له: أطلبُ منكَ المطر. وبالميت أو الغائب بأي شيءٍ كان. فنداء الميت أو الغائب والاستغاثة بهما مطلقًا أو بالحيّ الحاضر فيما لا يقدر عليه المخلوقون عادة= عبادةٌ. وهذه حالة الكفّار مع أصنامهم، ومع عيسى والملائكة، ولا يفيدكم اعتقاد تبليغ الغائب والميت، كما لا يفيد الكفار اعتقاد حياة تلك الأحجار؛ لأن كلًّا منهما وإن كان ممكنًا في القدرة إلا أنه مِن خَرْق العادة، وما كان من خَرْق العادة لم يَسُغ الاستناد إليه إلا أن يخرقها بالفعل بأن يصير مُشاهَدًا أو نحوه، كأن يُحيي الله ميتًا بالفعل. وعليه بنى بعضُ العلماء خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحاب قليب بدر، قالوا: إن الله تعالى ردّ عليهم أرواحهم وأعْلَمَ نبيَّه بذلك فخاطبهم.

(4/442)


وأما التمسُّح بالأضرحة، فقد مرّ في بحث التبرّك ما يُغني عن الإعادة (1)، وقد علمتم أن سلفَ الأمة وعلماءها مجمعون على المنع من ذلك، وأنه من أفعال المشركين. ومرّ هناك أيضًا التبرك بآثار الصالحين والخلاف فيه. وأما النذر فهو على وجهين: النذر لله تعالى، والنذر للمخلوق. فالنذر لله تعالى هو: أن يلزم الإنسان نفسه لله تعالى حقًّا في عملٍ من الأعمال كالصلاة والصيام ونحوها، وقد يتعلّق بالمخلوق تَبَعًا، كأن ينذر لله تعالى أن يتصدق على زيد، ويُعرف هذا بالنذر على المخلوق. والثاني: النذر للمخلوق، بمعنى التقرّب إليه بالنذر. [ص 88] فالنذر لله تعالى بالصدقة على زيد صحيح، فالنذر لله عبادة، وعلى زيد صدقة. وأنتم تنذرون للصالحين كما ينذر لله تعالى، فيقول أحدهم: هذه الناقة لفلان بِنِيّة سلامة الإبل، وهذا الثور لفلان بِنِيَّة سلامتي أو سلامة ولدي. ويقول: يا بدوي هذا الكبش لك على شفاء ولدي، ونحو ذلك. ثم إذا سُئل أحدكُم عن تلك الناقة أو الثور أو الكبش قال: هذه حق الولي الفلاني، ويسمونها: ناقة فلان، وثور فلان وكبش فلان، ويعتبرونها ملكًا له، حتى إذا رأى أحدهم في منامه شخصًا يتسمّى له باسم ذلك الولي ويقول: أعط الناقة حقي لفلان، أعطاها إياه، كائنًا مَن كان! ومَن مارس أحوال هؤلاء العوام عَرف أنهم لا يريدون بشيءٍ من ذلك أنه لله تعالى، وإنما ينوون به التقرّب إلى الولي الذي هو في زعمهم على كل _________ (1) (ص 222 وما بعدها).

(4/443)


شيء قدير، فإن (1) لاحظوا قَصْدَ وجه الله تعالى فإنما هو تَبَعًا، أي: أنهم يتقرّبون إلى ذلك الوليِّ، والوليُّ يقربهم إلى الله تعالى زُلْفَى، وله من الله ما يشاء وهو شفيع لا يُردّ. وأما الذبح، فإنهم ينوون به التقرّب إلى الولي، حتى إن منهم مَن يحضرون للاستسقاء بقبرٍ معروف عندهم بأنه قبر ولي، فيقدِّمون الثورَ ليُذْبح عند القبر، ويعتقدون أنه لو ذُبح بعيدًا عن قبره لم يُجْزِ، كما يعتقدون أنهم إذا لم يُمْطَروا أن في ذلك الثور نقصًا، فينظرون ثورًا أجود منه، ويذهبون به، فيذبحونه عند القبر. بل ربما اعتاد عوام بعض الجهات أن يطوفوا بالثور قبل ذبحه على القبر، ثم يذبحونه بعد ذلك، وربما لطخوا القبر بشيء من دمه، فأين إرادة الصدقة لوجه الله تعالى؟ ! قال المجيزون: إننا لا ننكر أن يكون بعض العامة غلاةً في الاعتقاد إلى نحو ما ذكرتم، ولكنهم في دعاءِ الغائب والميت مع اعتقاد أنه يسمع، والطلبِ منه مع اعتقاد أن الله تعالى أعطاه التصرّف في الكون، والنذرِ له على ما وصفتم، والذبحِ عند قبره كذلك= جُهّال، وهؤلاء معذورون بجهلهم. وكان ينبغي لكم أن تعملوا معهم بما أمر الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، [ص 89] ولاسيَّما وإطلاقكم التكفير بهذه الأفكار يستلزم ردّ أحاديث كثيرة، كحديث: «إن الله تعالى يغفر في ليلة النصف من شهر شعبان لأكثر من عدد شعر غنم كلب» (2). وأنتم إذا _________ (1) كأنها مضروب عليها، ولا يستقيم الكلام بدونها. (2) أخرجه الترمذي (739)، وابن ماجه (1389)، وأحمد (26018) وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها. وقد ضعَّفه الترمذي والبخاري، وذكره ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (915).

(4/444)


عددتم مَن على وجه الأرض من المسلمين وجدتم جمهورهم متمسّكين بهذه الأشياء، فإن قلتم بكفرهم لم يبق إلّا عددٌ قليل! قال المانعون: أما حديث: «عدد شعر غنم كلب» فهو ضعيف. قال الترمذي: سمعتُ محمدًا ــ يعني البخاري ــ يُضعِّف هذا الحديث. وإن صحّ حديثٌ بنحو ذلك فهو محمول على ما إذا وجد هذا العدد (1) ممن تمكن له المغفرة؛ لأننا نعلم أن نبيّ الله صلى الله عليه وآله وسلم مكث زمانًا لا يبلغ أصحابه المائة، وأخبر أن أمته ستتبع سَنن من قبلها إلا طائفة منها، وأخبر أنه آخر الزمان لا يبقى على الأرض من يقول: اللهَ اللهَ. فمن هم الذين غفر الله تعالى لهم في بدء أيام رسوله قبل كثرة أصحابه، بل وبعد كثرتهم؟ ومَن هم الذين يغفر الله تعالى لهم آخر الزمان؟ فجوابكم هو جوابنا. وأما قولكم: إن المعتقدين جُهّال، فهم جُهّال ولا شكّ، ولكن ليس الجهل عُذرًا في أمور الاعتقاد، بل ولا غيرها حيث أمكن التعلّم. وهؤلاء الناس جميعهم قد بلغتهم دعوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولزم كلًّا منهم أن يعرف حقيقة الدين الذي جاء به، ويعرف معنى هذه الكلمة التي هي كلمة الشهادة حقَّ معرفتها، وإلا جاء يوم القيامة مع القائلين: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} الآيات [الأحزاب: 67 - 68]. على أننا نلزم أنفسَنا تحسين الظنّ ما أمكن قائلين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ _________ (1) رسمها في الأصل: «الحدد».

(4/445)


رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. [90] تنبيه: قد يتمسك بعض الناس في إبطال التكفير بأحاديث النُّطق بالشهادتين، كحديث الشيخين (1) عن ابن عمر رضي الله عنه: «أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم، وأموالَهم، إلّا بحقّ الإسلام». زاد في رواية البخاري: «وحسابهم على الله». وحديث البخاري (2) عن أنس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن صلّى صلاتنا، واستقبل قبلَتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله، وذمة رسوله، فلا تَخْفِروا الله في ذمته». والجواب عن هذا على وجهين: إجمالي وتفصيلي. أما الإجمالي فيقال لهم: قد نصّ علماؤكم جميعًا على كفر من أهان المصحف، أو أنكر بعض آيات القرآن غير البسملة، ونحو ذلك، فكيف ترون في رجل يفعل شيئًا من ذلك وهو يكرر الشهادتين؟ وأما التفصيلي: فتتضمنه قصة جرت لي وأنا يومئذٍ بمجلس المرحوم الإمام الإدريسي، وذلك أني حضرت لديه مرةً وهناك رجل من أهل نجد وجماعة من علماء الشناقطة، فقام المرحوم وتركَنا، فسأل بعضُ الشناقطة ذلك الرجل النجديّ قائلًا: كيف تكفِّرون قومًا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن _________ (1) البخاري (25)، ومسلم (22). (2) (391).

(4/446)


محمدًا رسول الله، وتستحلّون دماءَهم وأموالَهم؟ وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم كيتَ وكيتَ؟ فأجابه ذلك الرجل قائلًا: إن شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله لا تكفي في الإسلام، ثم طال النزاعُ حول هذا الحديث، وتداخل بقية الشناقطة في الكلام وأنا ساكت، فرجع المرحوم فسكتوا، فقال: ما هذا النزاع؟ فأخذ كلّ منهم يخبره بقوله. فابتدرتُ وقلتُ: إني لم أتداخل في نزاعهم، فالحقّ لي أن أخبركم بالحقيقة. فقال: هات، فقلت: إنه في الحقيقة لا خلافَ ولا اختلاف، فالفريقان متفقان، وإنما هو كما يقول المولَّدون: سوء تفاهم. وذلك أن هؤلاء المشايخ أعني الشناقطة [91] قالوا للأخ: كيتَ وكيتَ، فأجاب عليهم بكيت وكيت. والواقع أن الأخ لا ينكر أنّ مَن نطق بالشهادتين عارفًا بمعناهما يصير مسلمًا، والمشايخ لا ينكرون أن مَن اعتقد ما يخالف شيئًا من مقتضى الشهادتين صريحًا يعدُّ مرتدًّا حلالَ الدم والمال، وإن استمر على النطق بالشهادتين زاعمًا أن ذلك لا يخالف مقتضاهما، ولكنّ المشايخ تمسّكوا بالنطق بالشهادتين وفهموا أن الأخ يقول: لا يُكتفى بالنطق بها ولو مع فهم معناهما والمحافظة على مقتضاهما. والأخ تمسك بأنه لا يكفي مجرّد النطق بالشهادتين أي: بدون فهم معناهما والمحافظة على مقتضاهما، وفَهِم أن المشايخ يقولون: إنه يكفي مجرّد النطق، أي: ولو بدون ذلك. انتهى. وأقول الآن بيانًا لذلك: إن المقصود الأهم إنما هو اعتقاد معنى هذه الكلمة على ما يفيده الوضع العربي، والاعتقاد غيب لا يعلمه إلا الله تعالى، فاكتفى الشارع بأقوى الأدلة عليه، وهو النطق على الوجه القاطع، ولذلك لو لقِّن مشرك أعجمي ذمي الشهادتين، ولم يعلم معناهما، فنطق بهما لم يَصِر بذلك مسلمًا، كما إذا لقِّن صيغة الطلاق ولم يعلم معناها، فنطق بها لم يقع.

(4/447)


إذا تقرر ذلك فمعنى الحديث أنه أُمِرَ أن يقاتلهم حتى يشهدوا ... إلخ فإذا فعلوا عصموا ... إلخ. بقي ما إذا نقضوا شهادتهم إما بجحد الشهادتين معًا أو الاتيان بما يخالف شيئًا من مقتضاهما، وذلك كأن يعتقد إنسانٌ أن الله جل جلاله قد يكذب ــ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا ــ مثلًا، وكذا تجويزه أن الأنبياء أو أحدًا منهم يكذبون. ومن هذا ما نص عليه الفقهاء من إنكار آية من كتاب الله تعالى أو زيادة آية فيه غير البسملة فيهما. وهذا كثير مفصل في باب الردة من كتب الفروع، وإنما قد يقع الاختلاف في بعض الجزئيات هل هو مخالف لشيءٍ من مقتضى الشهادتين، فمن ذلك قول الإمام أحمد: إن ترك الصلاة ــ[ص 92] والعياذ بالله ــ كفر ولو مع عدم جحد وجوبها. وقال غيره ــ كالإمام الشافعي ــ: ليس الكفر إلا جحد الوجوب، فالإمام أحمد رحمه الله رأى أن مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وجوب امثال أمره، وأنه من البعيد أن يشهد الإنسان أن لا إله إلا الله شهادةَ حقٍّ ثم يخالف أمره، فكان يقتضي ذلك أن مَن خالف أمر الله تعالى فقد برهن على أن شهادته مدخولة، وبعبارةٍ أصرح فقد خالف مقتضى الشهادة. ولكن عَلِمَ الله سبحانه وتعالى ضَعْف ابن آدم وأنه معرّض لعدة عوامل (1)، كالشهوة والخوف والغضب وغيرها، فعفَا عما عفا عنه، فوجب أن نتبع الأدلة لنعلم ما عفا الله عنه وما لم يعفُ عنه، فلما تتبَّعْنا الأدلة وجدنا العفو عن اللمم قبل كلِّ شيء، ثم نظرنا في بقية الأشياء، فوجدنا من حيث _________ (1) بعده كلمة لم تتبين.

(4/448)


العقل أن الإنسان قد يذنب مع سلامة عقيدته، قال تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} (1) [التوبة: 102] إلى غير ذلك. والنقص الذي يعتري العقيدة غير منضبط، فوجب الرجوع إلى النقل، فما وجدناه حكم فيه بالكفر عَلِمْنا أن نقص العقيدة بفعله يبلغ حدًّا يعدّ نقضًا للشهادة، فوجدنا حديث بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، كما في «المشكاة» (2). ووجدنا أيضًا حديث الترمذي (3) عن عبد الله بن شقيق ــ من ثقات التابعين ــ قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. وفوق ذلك فالعقل يؤيد هذا، وذلك أن هذه الصلوات الخمس هي أهم أمور الدين، فتَرْك بعضِها أول دليلٍ على التهاون، ومع ذلك فالأمر في فِعْلها _________ (1) في الأصل: (وآخرون خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يعفو عنهم) سبق قلم. (2) (1/ 126). والحديث أخرجه الترمذي (2621)، والنسائي (463)، وابن ماجه (1079)، وأحمد (22937)، وابن حبان (1454)، والحاكم: (1/ 6) وغيرهم. قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، وصححه ابن حبان والحاكم، وصححه النووي في «الخلاصة»: (1/ 245)، وابن القيم في «الصلاة» (ص 68) على شرط مسلم. (3) (2622). وأخرجه الحاكم: (1/ 7)، والمروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (948).

(4/449)


يسير، والمشقة فيه خفيفة جدًّا، ولاسيّما مع التسهيل بالسفر والخوف والمرض والعذر بالنوم والنسيان [93] لا جَرَم كان ترك بعضها من أحرى الأشياء أن يُعدّ نقضًا للشهادة. وقد توسّع الخوارج في هذا الباب فتمسّكوا بظاهر ما مرّ مع عدة أحاديث تنص على بعض الأعمال أنها كفر، كالزنا والسرقة وشرب الخمر والانتهاب والغلول وقتال المسلم وغيره، وخالفهم غيرهم. وليس هذا موضع البحث وإنما الذي يهمّنا أن دعاء الغائب والميت والاستغاثة به وبالحاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى واعتقادَ مقتضى ذلك هي أظهر في نقض الشهادة من ترك إحدى الصلوات؛ لأن فيها عبادة غير الله تعالى واعتقاد استحقاقه لذلك، وهذا هو معنى اتخاذه إلاها، فيكون ذلك مناقضًا لشهادة أن لا إله إلا الله. وعلى كل حال فلا يحسن بالمنصف أن يلوم مَن قال بتكفير الداعي والمستغيث والمعتقد على الوجه المذكور، وإن لزم على قولهم تكفير أكثر الأمة، كما أنه لا يجترئ مسلم على القدح في الإمام أحمد بن حنبل في قوله: إن مَن تَرَك صلاةً من الفرائض فقد ارتدّ، وإن كان يعترف بوجوبها مع أنه يلزم على هذا القول أن أكثر الأمة مرتدون؛ لأنه ما من مدينة من المدن التي يسكنها المسلمون إلا وتاركوا الصلاة منهم أكثر من المصلين، وإذا عطفت النظر إلى المصلين وجدت كثيرًا منهم لا يصححون صلاتهم مع إمكان التعلم، فهم مع ذلك غير معذورين، فيلتحقون بالتاركين بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم للمسيء صلاته: «صلّ فإنك لم تصلِّ» (1). _________ (1) أخرجه البخاري (757)، ومسلم (397) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4/450)


وقد اختلف الأئمة في أشياء كثيرة عدَّها بعضهم رِدّة كالسِّحر وغيره، ولم يطعن فيه مَن خالفَه حيث كان مجتهدًا مستندًا إلى الدليل، وقد رمى عمرُ رضي الله عنه حاطب بن أبي بلتعة بالنفاق، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، بل نبَّهه على خطأه فقط، ومثل هذا كثير في الصحابة. وقد قال لي قائل: إن هؤلاء الوهابية كفّار، فقلتُ له: لماذا؟ فقال: لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من كفّر مسلمًا فقد كفر» (1). [ص 94] فقلت له: فإن الوهابية لا يكفِّرون أحدًا من المسلمين. قال: كيف وهم يكفّرون مَن قال: يا ستّنا خديجة، ويا ... ويا ... ؟ فقلت له: إن هذا عندهم كافر لا مسلم، فلم يصدق عليهم الحديث، لأن الحديث يقول: «من كفر مسلمًا» وهم يقولون: إنما كفّرنا كافرًا. فقال: لكن العبرة بالقول الصحيح لا بما في زعمهم. فقلت: فإنهم يعتقدون أن القولَ الصحيح هو الذي قالوه. وما ترى لو أن رجلًا مرَّ بك فظننته يهوديًا فناديته: يا يهودي، أليس قد كفّرته؟ قال: بلى. قلت: فإذا بان مسلمًا، هل يحق لنا أن نقول: إنك كافر؟ قال: لا، لأني إنما قلت له ذلك بناءً على ما وقع في ظني. فقلت له: فإن الوهّابية على فرض خطئهم في التكفير يقولون مثلك، وعذرهم أبلغ من عذرك، وأدلتهم أقوى من مجرد ظنّك. قال: فما هو معنى الحديث إذًا؟ _________ (1) سيأتي بلفظه في الصفحة الآتية.

(4/451)


قلت: هو ــ والله أعلم ــ أن تقول لأخيك المسلم: «يا كافر» على جهة السبّ من غير أن يكون هناك دليل يدلّ على كفره، كما يفسِّره حديث «الصحيحين» (1) عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أيما رجلٍ قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما». وحديث البخاري (2) عن أبي ذرٍّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يرمي رجلٌ رجلًا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك». قال: فما وجه كفر القائل؟ قلت: هو ــ والله أعلم ــ إلزامٌ له بلازم قوله حيث أطلق أن صاحبه كافر، فكان ظاهر ذلك أن الدين الذي عليه صاحبه كُفْر، وحيث كان الدينُ الذي عليه صاحبُه هو الإسلام، فكأنه قال: إن الإسلام كُفْرٌ، أي: أنّ الإسلام دينٌ باطل. وأسْتَغْفِر الله تعالى من حكاية هذا. وهذا بخلاف مَن قال لتارك الصلاة: يا كافر، مستندًا إلى أدلة الإمام أحمد؛ وذلك أنه لم يُطْلِق عليه: «يا كافر» إلا بالنظر إلى بعض أعماله، وهو ترك الصلاة، فلم يلزم على قوله أن جميع أعمال ذلك الشخص (3) كالنُّطق بالشهادتين كفر. [ص 95] ثم الحكم على بعض الأعمال أنه كفر لا يسوغ إلا بعد اجتهادٍ ونَظَر في الأدلة حتى يغلب على الظنّ كونه كفرًا. فمن قال في شيءٍ من الأعمال إنه كفر بدون تثبّت ولا نظر في الأدلة، فهو غير معذور لتقصيره، وحينئذٍ فهو حريّ بالدخول في الوعيد المذكور. _________ (1) البخاري (6103)، ومسلم (60). (2) (6045). (3) كلمتان شبه مطموستين، ولعلهما ما أثبت.

(4/452)


وعلى كل حال، فإن هذه الأشياء التي يقول الوهّابيّون إنها كفر ليس منها شيءٌ إلا وقد قام الدليل على المنع منه، فلو سُلّم أن الأدلة لا تدلّ أن ذلك كفر فلا أقلَّ من أن تفيد أن ذلك فسوق وضلالة؛ لأن جميع ذلك من المحدثات، وقد ورد: «كل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة» (1) إلى غير ذلك من الأحاديث التي قد مرّ بعضها، بل قد دلّ على ذلك القرآن كما مرّ بيان بعض ذلك. وحينئذٍ فما لكم وللتعصّب؟ تعالوا بنا نصطلح، ونَصِل ما أمر الله به أن يوصل، ونقطع ما أمر الله به أن يُقطع، ونحرص كل الحرص على جمع كلمة هذه الأمة، والتأليف بين أوصالها المقطعة، وأشلائها الممزّعة، وفقنا الله تعالى لرضاه آمين. _________ (1) أخرجه أبو داود (4607) والترمذي (2676)، وأحمد (17144) وابن حبان (5) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. وأخرجه النسائي (1578)، وأحمد (14984) وابن خزيمة (1785) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وهو عند مسلم (867) بلفظ: «شر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة».

(4/453)


[96] الميزان لو أنَّ علماء الفِرَق الإسلامية استيقظوا من سُباتهم، واجتمعوا على تأليف ميزان في مسائل الاعتقاد؛ ما كان متفَقًا عليه فأمْرُه واضح، وما كان مختَلَفًا فيه ردُّوه إلى الله ورسوله، فصدَّقوا بما جاء عن الله ورسوله بدون بحثٍ عن كيفية و ..... وغيرها، عاملين بما أمر الله عزَّ وجلَّ به في قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]. والتزموا الوقف عن الخوض فيه، وألزموا عامة المسلمين ذلك، ورموا بالأغلوطات العقلية وراء ظهورهم، وأرشدوا الأمة إلى ما كان عليه سلفها الصالح، من تعلُّم العربية وتدبُّر كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله، وترك الخوض في المضايق العقلية التي لا ثمرةَ لها إلا النزاع والجَدَل، والخلاف والفشل، والعداوة والبغضاء، وتجزئة الدين إلى أديان لا تُحْصَى. وهذه هي الطريقة الوحيدة في ضم شمل الإسلام وأهله، والتأليف بين قلوبهم. وكذلك يعملون فيما كان من العادات الحادثة بعد القرون الأولى، يرشد العلماء إلى تركها والاستغناء بما شرعه الله تعالى، والإقبال عليه، وهو الكثير الطيّب. ومتى وفّينا حقّ الفرائض المشروعات بصريح الشرع فضلًا عن المستحبّات، حتى نذهب إلى أشياء لم تثبت نحاول بها التقرّب إلى الله تعالى؟ وجِماع القول: أن الله عزَّ وجلَّ إنما يُعْبَد بما شرع، وهذه الأشياء المحدثة قد قامت الأدلة القطعية على بطلانها. وهب أنَّ بعض الأذهان

(4/454)


قاصرة عن فهم ذلك الشيء الواضح، أو أن بعض هذه الأشياء مما لم يتبيّن فيه الحق، ولم يترجّح جانب الحَظْر، فلا أقلّ مِن أن تكون عندهم مما لا حَرَج في تركه. وإذًا فالاحتياط يقضي بتركها، عملًا بالأحاديث الكثيرة، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من [الناس]» (1) فالسلامة منحصرة في اجتناب تلك الأشياء، فمن تركها سالم لا محالة، إذ ليس فيها شيءٌ يقول المجيزون إنه فرض واجب، بل غاية الأمر أنهم يزعمون أنها مستحبة أو مباحة. وإذا تأمّلوا ما بُيِّن من الأدلة تبيّن لهم ما فيها من الخطر، فإن لم يتبين لهم فعليهم تركها؛ لأنها إن كانت كما يقول المانعون فيها الكفر وفيها الحرام والمكروه، فقد اجتنبوها، وإن كانت مباحة أو مستحبّة فلهم في تركها أجرُ اجتناب الشُّبْهة، وليس منها شيء إلا وفي الشرع ما يُغني عنه. والمسلم مَن حَرَص على السلامة بأيّ تقديرٍ كان، ولا أسلم ولا أعلم ولا أفضل ولا أتمّ مما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وتابعوهم، والله يهدي من يشاء إلى سراط مستقيم. _________ (1) سبق تخريجه (ص 152).

(4/455)


ملحق ــ 1 ــ [ص 49] ... اتباع القطعي مطلقًا والظنّي في العمليات، واجتناب المرجوح مطلقًا، فلم يبقَ إلّا ... لا يفهم دلالة، بأن كان مستغلق المعنى أصلًا، وإلّا الظنّي في العقائد ... مطلقًا. وهذه الثلاثة يصدُق عليها التشابه، أما مستغلق المعنى ... أيضًا في الاستغلاق، وأما الظني في العقائد فلأن بعض آياته تشبه بعضًا .... كل آية من آياته متشابهة المعاني في احتمال الإرادة ..... يكفي فيها إلا الجزم، ... لا يفيد إلّا الظنّ ... يكفي الإيمان به وأن يُوكَلَ تأويلُه إلى الله تعالى. وإنما جاز العمل بالظن في العمليات لسهولة الأمر فيها وللاحتياج إليه فيها، وليس الحال كذلك في الاعتقاديات. [ثم] إن كلًّا من هذه الثلاثة على قسمين: الأول: ما يقع اختلاف حال الأشخاص فيه، بأن يكون بالنظر إلى شخصٍ متشابهًا وبالنظر إلى شخصٍ آخر محكمًا. الثاني: هو متشابهٌ مطلقًا. والثاني هو المراد في الآية، لأنَّ فيها ذمَّ ابتغاءِ تأويله ومدْحَ قول: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} الدالّ على التسليم والإيمان بدون تأويل، وجَعْلَ الأول نصيبَ الزائغين، والثاني نصيبَ الراسخين. وإذا كان غاية الراسخين الإيمان بها بدون تأويل فلا شك فيما ذكرناه.

(4/457)


ويؤيد ذلك حديث «الصحيحين» (1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ... } إلى {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]، فقال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله، فاحذروهم». الحديث صريح أن المتشابهات آيات مخصوصة من القرآن كان الصحابة رضي الله عنهم يعرفونها بأعيانها، وأن ... واتباعها زيغٌ يجب الحذرُ منه ومن أهله وبيانه، إذ قوله: «وإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه»، يدل على أن المتشابه آيات مخصوصة هي متشابهة مطلقًا، إذ لو كانت قد تكون متشابهةً بالنظر إلى شخصٍ غيرَ متشابهةٍ بالنظر إلى آخر، لما أمكنهم أن يُميِّزوا بين من يتبعها مع كونها متشابهةً في حقّه ومن يتبعها مع كونها غير متشابهةٍ في حقِّه، إذ كلُّ أحدٍ يدَّعي أنها ليست من المتشابه في حقِّه. ويدلُّ أيضًا على أن الصحابة كانوا يعرفونها، لأنه لا يمكنهم الحذرُ ممن يتبعها إلّا إذا كانوا يعرفونها. وقوله: «فأولئك الذين سماهم الله ـ أي الذين في قلوبهم زيغ ــ فاحذروهم». _________ (1) البخاري (4547)، ومسلم (2665).

(4/458)


ملحق ــ 2 ــ [ص 50] [يدلُّ] عليه، فينبغي تمييز القسم الأول من القسم الثاني. قد حصرنا التشابه في مستغلق المعنى، وفي الظنّي في العقائد وفي المشكوك ... فيه الاحتمالات. فأما مستغلق المعنى فهو قسمان: الأول فواتح السُّور، والثاني .... فرض وجوده، والأخير إما أن يكون في الاعتقاديات أو لا ... إما أن يكون في الاعتقاديات أو لا ... : (1) فواتح السور، (2) مستغلق المعنى في الاعتقاديات، (3) مستغلق المعنى في غيرها، (4) [مشكوك في الاعتقاديات]، (5) مشكوك في غيرها، (6) ظنّي في الاعتقاديات. [والقسم] الثالث والخامس الظاهر أنهما وإن كانا يصدُقُ عليهما التشابه، فليسا من المتشابه [المراد] في الآية، لأنهما إن كانا في العبادات أو المعاملات [فلا] يتم كونهما من المتشابه الذي لا مطمَع في علمه، إذ جميع أحكام العبادات والمعاملات كلها مبيَّنة [في] الشرع، فإن خفيتْ على واحدٍ وُفِّق لها الآخر. وإن كانا في القصص ونحوها فاتباعهما لا يظهر [دخولُه] في الزيغ المذموم المحذور منه. وأما القسم الثاني والرابع والسادس ــ وهي المستغلق والمشكوك والظني في الاعتقاديات ــ فتنقسم إلى قسمين: الأول: ما اختلف حالُ الناس فيه، بأن يكون مستغلقًا أو مشكوكًا أو ظنيًّا في حق شخصٍ، وقطعيًّا عند شخصٍ آخر لوقوفه على [دلائل] تبلِّغه درجةَ القطع.

(4/459)


الثاني: ما اتفق حالُ الناس فيه، بأن يكون مستغلقًا أو مشكوكًا أو ظنيًّا عند جميع الناس. فالأول وإن كان يصدُق عليه التشابه فليس من المتشابه المراد في الآية لحديث «الصحيحين» كما مرَّ بيانه (1). فلم يبقَ معنا إلَّا القسم الثاني، وهو ما يكون في الاعتقاد مستغلقًا أو مشكوكًا أو ظنيًّا، ولا يمكن علمه لأحدٍ من الخلق، وإلَّا فواتح السُّوَر. فأما فواتح السور فإنها وإن كان يصدُق عليها التشابه فقد رأينا بعض الصحابة ومَن بعدهم خاضوا في تأويلها، ولم يُنكَر عليهم. ومع ذلك فلا يظهر وجهٌ قويمٌ لأن يُعدَّ الخائض فيها [ص 51] [من الذين في قـ] لوبهم زيْغٌ المحذَّر منهم في الحديث. فلم يبقَ معنا إلَّا ما يكون في الاعتقاد [مستغلقًا أو مشكـ] وكًا أو ظنيًّا، ولا يمكن علمه لأحدٍ من الخلق [فهو] المراد في الآية. وأما تعيينُه فإن حديث الصحيحين [يدلُّ على أن] الصحابة كانوا يعرفون الآيات المتشابهات بأعيانها، وأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أخبرهم أنه ... وحذَّرهم منهم. ومن البيِّن أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا ليتبعوها .... مع كونهم كانوا خير القرون، فإن وُجِد من يتبعها فإنما هو بعدهم. [و] بتتبُّعِ أقوال الصحابة رضي الله عنهم في الاعتقاديات عرفنا أنهم لم يكونوا يتبعون [آيات] الصفات وكذا أحاديثها بتفسيرٍ ولا تأويل، وإنما كانوا يكتفون بالإيمان بها والتسليم لها. وقد نشأ بعدهم مَن ابتّعها واعتقد الملازمةَ بين ثبوتِ مطلق اليد والوجه _________ (1) (ص 458).

(4/460)


ونحوهما وثبوتِ الماهية والكيفية والكمية وغيرها من الحوادث، وهم فرقتان: فرقة تتبعها بأن تعتقدَ ظاهرَ آياتِ الصفات وأحاديثها، وتعتقد التلازم، فتستدل بها على صريح التشبيه ولوازمه، حتى قال بعضهم (1): [أعفو] ني من الفرج واللحية، وسلوني عما شئتم. وفرقة اعتقدوا التلازم وعلموا أن ثبوت الماهية وغيرها من الحوادث يقضي بتنزُّهِ الله تعالى عنه، فصرفوها كلَّها عن ظاهرها وأوَّلوها. وكلا الفرقتين ــ والله أعلم ــ هم الذين قال تعالى فيهم: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} وهؤلاء هم الفرقة الأولى {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} وهم الفرقة الثانية. هكذا ظهر لي أولًا، ثم رأيتُ الأَولى عدمَ التوزيع، بل الحق أن يُحمَل كلا الحكمين على كلا الفرقتين، فإن كلًّا منهما ابتغى الفتنة بخوضه فيما نُهِيَ عن الخوض فيه، وابتغى تأويل المتشابه، أي: بيان ما يؤول إليه معناه. وأما الصحابة رضي الله عنهم ومَن اتبعهم فهم الذين قال تعالى فيهم: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} ذلك هو المتشابه المراد في الآية. _________ (1) هو داود الجواربي من مشبّهة الروافض، كما سبق (ص 160).

(4/461)


ملحق ــ 3 ــ [ص 52] توقيفية، لا يجوز فعلُ شيء منها إلا ما ثبت به الدليل. وهي ثلاثة أنواع: فرائض معلومة من الدين بالضرورة، [ونفلٌ مقيَّد يكون] له اسمٌ خاص، فإحداث نفلٍ كذلك ــ كصلاة الرغائب ــ بدعة ضلالة، ونفلٌ مطلقٌ، وهو ..... ـفية، وهو أيضًا ثلاثة أنواع: فرض معلوم من الدين بالضرورة، ونفلٌ مقيد، وهو [ما كان في زمن] خاص، كست شوال وتسع ذي الحجة، .... والبيض، وصوم يومٍ وفطر يوم، فإحداثُ صومٍ كذلك بدعة ضلالة، [كالتزام الإ] نسان صيامَ أحد عشرَ يومًا من أول صفر كل سنة، ونفلٌ مطلق [وهو ما لم] يجئ به زمن خاصّ. [فالمطلو] ب في اتباعه في التطوع بالصلاة والصيام وقراءة القرآن هو ما ورد به دليلٌ خاص من السنة، وأن لا يُزاد على ذلك. [وفي الـ] صحيحين» (1) عن أنس قال: جاء ثلاثة رهطٍ إلى أزواج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، [فلما] أُخبِروا بها كأنهم تَقالُّوها، فقالوا: أين نحن من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وقد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر؟ فقال [أحدهم]: أما أنا فأصلِّي الليلَ أبدًا، [وقال آخر: أنا أصوم الدهرَ ولا أُفطِر، وقال آخر: أنا أعتزلُ النساءَ فلا أتزوَّج أبدًا]. فجاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إليهم، فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطر، وأصلِّي وأرقدُ، وأتزوج النساء، فمن رغبَ عن سنتي فليس منِّي». _________ (1) البخاري (5063) ومسلم (1401).

(4/462)


وفي «الصحيحين» (1) أيضًا عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يا عبد الله! ألم أُخبَرْ أنك تصوم النهار وتقوم الليلَ؟ » فقلتُ: بلى يا رسول الله! قال: «فلا تفعلْ، صُمْ وأفطِرْ، وقُمْ ونَمْ، فإنّ لجسدِك عليك حقًّا، وإنّ لعينِك عليك حقًّا، وإنّ لزوجِك عليك حقًّا، وإنّ لزَوْرِك عليك حقًّا. لا صامَ من صام الدّهرَ، صومُ ثلاثة أيام من كلِّ شهرٍ صومُ الدهر كلِّه. صُمْ كلَّ شهر ثلاثةَ أيام، واقرأ القرآن كلَّ شهر» قلت: فإني أطيقُ أكثر من ذلك، قال: «صُمْ أفضلَ الصوم صومَ داود: صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ في كل سبع ليالٍ مرةً، ولا تزِدْ على ذلك». _________ (1) البخاري (1153)، ومسلم (1159).

(4/463)


ملحق ــ 4 ــ . . . . الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. . . . . فنوعان: مقيَّد وغيره، فالمقيّد إما متعيِّن كتكبير الصلاة ... ، وإما غير متعيَّن كالأدعية عقبَ الصلاة وعند النوم والانتباه وغير ذلك. والمأثور في هذا أفضل، وكذا في سائر الأوقات التي لم [يُعيَّن فيها] ذكرٌ أو دعاءٌ مخصوص، فالأفضل اختيار ذكرٍ أو دعاءٍ من المأثور .... لو كان مقيدًا بغير ذلك. وأما إنشاء صيغة من صيغ الذكر أو الدعاء غير مأثورة ... .... عموم الأمر بالذكر والدعاء والصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. . [ثم] الذكر المأمور به هو ما تضمَّن ثناءً حسنًا وردَ في الشرع، فما خالفَ ذلك [فهو ممنوع] بدعةُ ضلالة. والدعاء المأذون فيه ما لم يكن فيه اعتداء، ومن الاعتداءِ الدعاءُ ... مكروه، وكالدعاء على مَن لم يظلمه، فما كان فيه اعتداءٌ فهو مخالفٌ للشرع. والصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - المأذون بها ما لم يكن فيها إطراءٌ محظورٌ ولا ارتكابٌ لمنهيٍّ ولا كذبٌ عليه - صلى الله عليه وسلم -. ومن الكذب عليه - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يُثنِيَ عليه بما لم يثبت، كأن يقول: اللهمَّ صلِّ على نبيك محمد الذي حمله جبريل على عاتقه، [فإن] ذلك كذبٌ عليه - صلى الله عليه وآله وسلم -. وقد تواتر عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «من كذبَ عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» (1). والمراد بالتعمُّد أن يكون القائل غيرَ عالمٍ بصحة ما قاله، ولهذا كان حاكي [الحديث] الضعيف بصيغة الجزم كاذبًا، على أن النبي صلى الله _________ (1) أخرجه البخاري (6197)، ومسلم (3) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وجاء من حديث جماعة كثيرة من الصحابة.

(4/464)


وسلم وبارك عليه غنيٌّ بما له من الفضائل والفواضل عن أن يغدق عليه أحدٌ بادعاءِ فضيلةٍ أخرى، وما مثلُه إلّا مثلَ ملِكٍ عظيم أمرَ طبَّاخَه أن يُصلِح له طعامًا، وأحضَر له من كل ما قد يحتاج إليه في الطبخ، فترك الطباخ ذلك وخرج إلى بيوت الجيران يسألهم للملك! فهل ترى هذه خدمةً للملك ومحبةً له أو إهانةً وإيهامًا أن الملك فقير؟ ! ومما يُنظر فيه زيادة «سيدنا» في الصلاة الإبراهيمية وفي التشهد وغيره، فإن بعضهم استحسن ذلك بحجة أنه زيادة إخبار بواقعٍ، مع أنه ليس في عدم ذكر ذلك في السنة ما يدلُّ على الكراهة، وقد قام الدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - [ص] سيِّد ولد آدم، وأن الثناء عليه وتوقيره من أعظم القُرَب. قال: وما رُوي من قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: [لا تُسيِّدوني في الصلاة] لا أصلَ له (1)، ولو ثبت حُمِل على مطلق الإذن عنه - صلى الله عليه وسلم - بعدم تسييده، كما فهم الصديق [من إشارته صلى الله عليه] وآله وسلم له بالثبات في الإمامة، حيث رجَّح حسنَ الأدب فتأخّر، فيتعارض هنا امتثال الأمر [مع حسن الأدب]، [وحسن] الأدب أولى اقتداءً بالصديق. وكذلك نقول في مخالفة الوارد، إذ لم يكن فيه التسييد، بل هو أولى مما مرَّ ... [فالجواب: ] .... هذه الزيادة يشعر أنها غير مشروعة؛ إذ لو كانت مشروعةً لأرشد إليها الشارع. وفي حديث [ابن مسعود] قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أيها الناس! ليس من شيء يُقرِّبكم إلى الجنة ويباعدكم من النار [إلا قد أمرتُكم به» (2)]. فإن كان - صلى الله عليه وآله وسلم - يمنعُه من ذلك الحياءُ والتواضع كما _________ (1) انظر «المصنوع» (ص 206) و «الأسرار المرفوعة» (ص 381) كلاهما للقاري. (2) أخرجه البغوي في «شرح السنة» (14/ 303). وفي إسناده انقطاع بين زبيد اليامي وابن مسعود رضي الله عنه. وفي الباب حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عند مسلم (1844).

(4/465)


يقولون فلابدَّ أن .... ويتحتم عليه - صلى الله عليه وآله وسلم - البيانُ، والله عزَّ وجلَّ يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... } [المائدة: 3]. [فإن قيل: ] فقد جاء في القرآن عمومات تقتضي ذلك، كقوله عز وجل: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ ... } [الأعراف: 157]، [وقوله: ] {لَا (1) تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] وغير ذلك. والتعزير: التوقير، وهو ... التعظيم بالتسييد، ويُقاس على دعاء الرسول ذِكْرُه، فلا ينبغي أن نذكره كما يذكر بعضنا بعضًا. [فالجواب] أن هذه التمسكات إنما تصلُح فيما لم يَرِدْ مبيَّنًا، فأما ما ورد مبينًا فالواجب الوقوف عنده، فكيف وقد مضى [عهدُ النبي]- صلى الله عليه وآله وسلم - وعهدُ أصحابه وتابعيهم ومَن بعدهم والأئمة الأربعة وغيرهم على عدم النطق بهذه [في] تلك المواضع؟ وقد عُلِم أن السنة تثبت بالترك كما تثبت بالفعل، ويتبعها في ذلك الإجماعُ. ثم إن ... أنه ينبغي اتباع الألفاظ في الأذكار والأدعية المأثورة، وأن لا يُزاد ولا يُنقَص، ولا يغيَّر ولا يُبدَّل، [ولا يُقدَّم] ولا يؤخَّر، لأن في التغيير لشيء من ذلك إخراجًا لها عن كونها مأثورةً، وفي ذلك ذهابُ بركتها من .... كيف بما إذا كانت واجبةً كالتشهد. ويقال لمن يرى ذلك: وهل ترى أن يُزاد ذلك في الأذان؟ [فإن قال: نعم] قال ما لم يقله أحدٌ، وجاء ببدعة منكرة خالف بها جميع الأمة، ويُرَدُّ عليه مع ذلك بما مرَّ وغيره. وإن قال: لا .... فلا يجيء بجوابٍ مقبول إلّا _________ (1) في الأصل: «يأيها الذين آمنوا لا ... » سهو.

(4/466)


ألزم مثله في التشهد ونحوه. وأما قولهم: «إن سلوك الأدب أولى من امتثال الأمر» [والاستدلال] بفعل الصديق، فهذا حيث كان المأمور به شيئًا يُخِلُّ بالأدب مع الأمر، وعُلِم أنه إنما أمر به تركًا لحقِّ نفسِه لا لمقتضٍ [آخر، فيكون] الأمر حينئذٍ لمجرد بيان الجواز، وحينئذٍ فيعارضُه حسنُ الأدب، فيتبين أن ذلك الفعل خلاف الأولى، وهذا هو الذي ... (1)، فإن فعله رضي الله عنه ليس حجةً، والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يُقِرَّه، بل قال عقِبَ ... بأنه يفعله. [وإن كان الأمر] لمقتضٍ آخر غير ترك حقِّ النفس، فإنه يتعيَّن امتثال الأمر جزمًا، سواء كان ذلك المقتضي يقتضي الوجوب أو .... فعدمُ امتثالِه مكروه أو خلاف الأولى، فيعارض حسن الأدب الذي تركه خلاف الأولى، مع أن مجرد عدم الامتثال ..... حينئذٍ، فيقابل سوء الأدب بسوء الأدب، ويترجَّح جانب الامتثال بالمقتضي الآخر. بل إذا تحقق المقتضي الآخر ... سوء الأدب أصلًا. إذا تقرَّر هذا فعدم التسييد في الصلاة الإبراهيمية ونحوها .... لأن المقام مقام دعاء الله سبحانه وتعالى، وهو يقتضي إفراد التعظيم له من كل وجه، مع ما يشير إليه حديث: [لا تسيِّدوني في] الصلاة، ويظهر من هذا أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أحبَّ أن لا يكون ذكره الملابس لذكر الله عزَّ وجلَّ كالصلاة ... عن أوصاف المدح الظاهرة، بل يُكتفَى فيه بما يكتفى به في ذكر سائر العباد. وهذا حسنُ أدبٍ منه وتواضعٌ لربه عزَّ وجلَّ .... لربه، ولم يتركه لنا حتى يسوغ لنا عدمُ الامتثال كما ساغ للصديق. فافهم الفرق. _________ (1) خرم في الأصل ولعله «فعله الصديق».

(4/467)


مع أن هذا الأدب منه مع ربه .... رضي لنفسه نحو ما رضيه الله له في أشرفِ مواطنه، قال عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]، وقال تعالى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30]. وذكر الله عزَّ وجلَّ أنبياءه في مقام المدح بقوله: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا} [ص: 17]، {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا} [ص: 41]. وقال عزَّ وجلَّ في ردّه على إبليس: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]. ومثل ذلك كثير. ثم إن قوله - صلى الله عليه وسلم - : «كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم» ... فزاد ذكر العبد عند الدعاء له ونحوه من أوصاف المدح مقتضيًا آخر غير مجرد التواضع؛ لأن التواضع إن أمكن في حق نفسه فكيف ... ، فلم يُعلِّمنا أن نقول: «كما صلَّيتَ على خليلك سيِّدنا إبراهيم» مثلًا. ولا ينافي هذا قولَه - صلى الله عليه وآله وسلم - في الدعاء للمدينة: « ... إبراهيم عبدك ونبيك وخليلك، وإني عبدك ونبيك» الحديث، فإن لكلِّ مقامٍ مقالًا، مع أنه قدَّم ذكر العبودية كما ترى. [وفي «المشـ] كاة» عن نافع أن رجلًا عطسَ إلى جَنْب ابن عمر، فقال: الحمد لله والسلام على رسول الله، قال ابن عمر: وأنا أقول: الحمد لله والسلام على رسول الله، وليس هكذا علَّمنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، [علَّمنا] أن نقول: الحمد لله على كلِّ حال. رواه الترمذي (1)، وقال: هذا [حديث] غريب. وفي حواشيه نقلًا عن «اللمعات»: قوله: «وليس هكذا» أي: ولكن ليس المسنون في هذه الحال هذا القول، وإنما الذي ... أن يقول: الحمد لله على كل حال فقط، من غير زيادة السلام فيه. على أنه ينبغي في الذكر والدعاء _________ (1) (2738).

(4/468)


الاقتصار على المأثور، من غير [زيادة] ونقص، فالزيادة في مثله نقصان في الحقيقة، كما لا يُزاد في الأذان بعد التهليل «محمد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -» ... وفصل الخطاب في هذه القضية أنه قد عُلِم أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - علَّم أصحابَه التشهدات ... بدون هذه الكلمة ونحوها، ونقلها أصحابه كذلك، ولم يرشدوا إلى الزيادة، ولا نُقِل فعلُها عنهم، وهكذا الحال فيمن بعدهم ... والسنة تثبُت بالترك كما تثبُت بالقول والفعل والتقرير، ويتبعها في ذلك الإجماعُ. قال الشوكاني [في «إرشاد الفحول» (1) عن ابن السمعاني: إذا] ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا وجبَ علينا متابعتُه فيه ... إلخ. وما اقتضته العمومات القرآنية .... الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - والثناء عليه، فيعمل بها فيما لم تكن السنة فيه عدمها، فإن الواجب في ... ما ورد. وبعد، فقد مضى السلف الصالح على ما علمتَ، وقد كانوا أعلم بالله ورسوله وأشدَّ ... _________ (1) (1/ 119).

(4/469)


ملحق ــ 5 ــ في معنى التأويل /وأما التأويل فهو تفعيل من آل يؤول أوْلًا، رجع رجوعًا معنويًّا مخصصًا، كما في قولك: طُبِخ الشراب فآل إلى قَدْر كذا، وجُفّف الرُّطب فآل إلى قَدْر كذا، واتَّجَر فلان وكان رأس ماله عشرة دَراهم فآل به الأمر إلى أن صار أغنى أهل بلده، وطلب فلانٌ العلم وكان من بيتٍ خامل فآل به الأمر إلى الشَّرَف والنباهة، وعهدي بفلان وهو يطلب العلم ولا أدري ما آل إليه أمره؟ والحاصل أن (آل) قريب من (صار) إلا أنه اعتُبر في (صار) التقدُّم وفي (آل) الرجوع، وقد يصلح أحدهما مكان الآخر لكن باعتبار آخر. تقول: جُفّف الرطب فآل إلى قَدْر كذا، أو فصار إلى قَدْر كذا، فتعتبر في الأول أن الرطب كان مقبلًا على النمو فلما جُفّف رجع إلى النقص، وتعتبر في الثاني أن الرطب لما شُرِع في تجفيفه أقبل على النقصان فما زال متقدّمًا فيه حتى صار إلى ذلك القَدْر. وكلما ضعف اعتبار الرجوع ضعف صلاحية (آل) تقول: صار الطفل شابًا، ولا تقل: آل. وتعدِّي (آل) بالتضعيف تقول: أوّلْتُ الشيء أي: جعلته آيلًا، تقول: جفّفتُ صاعًا من الرطب حتى أوّلته إلى نصف صاع. فتأويل الشيء هو جَعْله آيلًا. فإذا أطلق التأويل في شأن الكلام فقد يُراد به: تأويل اللفظ، أي: جعله آيلًا إلى أن يتّضِح معناه، كأنه اعْتُبِر مقبلًا على الخفاء والغموض، فإذا فسَّرته فقد أرْجَعْتَه إلى الوضوح، وهذا مرادف التفسير، وهو صادق على التفسير

(4/470)


بما يُناسب الظاهر، وعلى التفسير بما يخالف الظاهر. أما ما يُناسب الظاهر فإنه إنما احتاج للتفسير لخفاءٍ ما، فكأنَّه كان مقبلًا على ذلك الخفاء فأُرجع إلى الوضوح. وأما ما يخالف الظاهر فلأنّ المؤوِّل يدّعي أن المعنى الحقيقي هو خلاف الظاهر، فاعتَبَر اللفظ مُقبِلًا على الخفاء بالنسبة إلى المعنى الحقيقي، فأرْجَعَه إلى الوضوح بالنسبة إليه، وإن شِئت فقل: مقبلًا على الظهور بالنسبة إلى غير المعنى الحقيقي، فأرجعه إلى عدم ذلك. والأول أولى. ولا يُشترط لهذا معرفة الحقائق التي تضمّنها الكلام على وجه الإحاطة، بل يكفي من بعض الوجوه. وقد يُراد به: تأويل المعنى، أي: جَعْله آيلًا إلى أن تُعْلَم الحقائق التي تضمّنها على وجه الإحاطة، كأنه اعتُبر مقبلًا على خفاء تلك الحقائق فأُرْجِع إلى الوضوح. وقد يُراد به: تأويل الحقيقة، أي: جَعْلها آيلة إلى البروز والمشاهدة، كأنه اعتبر أنها كانت مقبلةً على الخفاء فأُرْجِعت إلى الظهور. وقد يُراد به: نفس الحقيقة، من باب إطلاق المصدر وإرادة المفعول. ومن الأول قول السلف: تأويل هذه الآية كذا وكذا، كما يقوله ابن جرير في «تفسيره». ومن الثاني قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 6]، وقوله: {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 21]. وقوله: {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 101].

(4/471)


فإن قول الملك: {إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} [يوسف: 43] واضح المعنى، وتأويلُها بقوله: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا ... } إلخ [يوسف: 47] إنما هو تأويل للمعنى، أي: جَعْله آيلًا إلى أن تُعْلَم حقيقته، فعُلِمَ أن حقيقة السبع السمان: سبع سنين خصبة، والعِجاف: جدبة، ومشى عليه. ومن الثالث قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} أي: جَعْل الحقائق التي تضمّنها الإخبار عنها آيلةً إلى البروز قال: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53]. [قال ابن عبا] س: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} تصديق ما وَعَد في القرآن. وعن قتادة: {تَأْوِيلُهُ}: ثوابه .... جزاؤه، وعن السُّدِّي: عاقبته، وعن ابن زيد: حقيقته. وقوله عزَّ وجلَّ: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39]. ومنه قوله تعالى ــ حكايةً عن يوسف ــ: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} في المنام {إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} [يوسف: 37] التأويل. ومنه قوله عزَّ وجلَّ: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. ومنه قول عائشة: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي يتأول القرآن» (1) جَعلتْ نفس دعائه هذا تأويلًا لقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3]. _________ (1) أخرجه البخاري (817)، ومسلم (484).

(4/472)


ومنه ما رُوي عن ابن مسعود: «إن القرآن نزل حيث نزل، فمنه آيٌ قد مضى تأويلهنّ قبل أن ينزل، ومنه آيٌ وقع تأويلهن على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومنه آيٌ وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيسير، ومنه آيٌ يقع تأويلهنّ في آخر الزمان، ومنه آيٌ يقع تأويلهنّ يوم القيامة، ما ذكر في الحساب والجنة والنار ... » (1) إلخ. ومنه ما رُوي عن سفيان بن عُيينة قال: السنة تأويل الأمر والنهي (2). ومن الرابع قوله تعالى ــ حكاية عن يوسف ــ: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100]. جعل نفس الحقيقة التي هي سجود أبويه وإخوته له هي تأويل رُؤياه. وإذا تقرّر هذا فلنعرض لفظ التأويل في آية المتشابه على كل واحدٍ من الأربعة المعاني فنقول: أما المعنى الأول ... _________ (1) أخرجه نعيم بن حماد في «الفتن» (38)، وذكره الثعلبي في «الكشف والبيان»: (4/ 117). (2) ذكره شيخ الإسلام في «الدرء»: (1/ 206) وفي «التدمرية» (ص 94).

(4/473)