رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
- رفع
الاشتباه عن معنى العبادة والإله وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله
- مقدمة التحقيق
- [ز 1] بابٌ في أصولٍ ينبغي تقديمها
- فصل حكم الجهل والغلط (1)
- فصل العرب بعد إسماعيل عليه السلام فريقان:
- [ز 37] فصل المنتسبون إلى الإسلام أقسام:
- /فصل في تفسير أهل العلم للعبادة (1)
- [666] ذكر أمور ورد في الشريعة أنها شرك وأشكل تطبيقها على الشرك
- [668] الطِّيَرة
- [688] فصل في التِّولة والسحر
- [693] حكم السحر وتعليمه وتعلمه
- [696] طرق تحصيل قوة السحر
- فهرس مصادر التحقيق
رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله
للعلَّامة أبي عبد الله عبد الرحمن بن يحيى بن علي المعلِّميِّ اليمانيِّ المكِّيِّ (1312 - 1387 هـ) تحقيق عثمان بن معلِّم محمود بن شيخ علي
(مقدمة 2/1)
مقدمة التحقيق
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71]. أما بعد .. فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار (1). _________ (1) هذه خطبة الحاجة، وقد وردت من حديث ابن مسعود، أخرجه أحمد (1/ 392) وأبو داود (2/ 238 ح 2118) والترمذي (3/ 404 ح 1105) والنسائي (3/ 85) وابن ماجه (1/ 609 ح 1892)، وأخرجه مسلم (3/ 11 - 12 ح 867، 868) من حديثي جابر وابن عباس مختصرًا. وقد أفردها العلَّامة الألباني برسالة مستقلة.
(مقدمة 2/5)
هذه رسالة العبادة للعلَّامة عبد الرحمن بن يحيى المعلِّمي، وهي عظيمة القدر لجلالة الغرض الذي أُلِّفت من أجله، وهو تحديد معنى العبادة التي يكون صارفها لله وحده مسلمًا موحِّدًا، وجاعل شيء منها لغيره مشركًا مندِّدًا، وقد اقتضى ذلك من المؤلِّف أن يستقرئ كتابَ الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكتبَ التفسير والحديث واللغة والتاريخ وغيرها. وقد جمع فيها المؤلِّف علمًا جمًّا، وحرَّر المسائل التي بحثها تحريرًا بالغًا. والمعلِّمي ممن أوتي فهمًا في الكتاب والسنة، وحاز أدوات البحث والتحقيق، فإن يمَّمت شطر علم التوحيد بفروعه ألفيتَه قائد لوائه، ويشهد على ذلك كتابه «القائد إلى تصحيح العقائد» و «دين العجائز أو يسر العقيدة الإسلامية»، و «رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله»، وهو مشهور بكتاب «العبادة»، وهو الذي أقدِّم له هنا, و «عمارة القبور» و «التأويل» , ورسائل كثيرة. وإن نظرت إلى علوم الحديث روايته ودرايته، فهو حامل رايته، ومرصّع جواهره، وقد كتب رسالة «أحكام الجرح والتعديل وخبر الواحد» , و «الاستبصار في نقد الأخبار» , و «العمل بالحديث الضعيف» , وحرَّر رسالة «علم الرجال وأهميته» , وألّف «الأنوار الكاشفة لما في كتاب (أضواء على السنة) من الزلل والتضليل والمجازفة»، فدافع فيه عن السنة النبوية دفاعًا مجيدًا. وصنّف كتابه البديع «التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل» الذي طبقت شهرته الآفاق. وحقَّق «التاريخ الكبير» للبخاري, و «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم الرَّازيِّ، و «الأنساب» للسمعاني, و «الإكمال» لابن ماكولا.
(مقدمة 2/6)
فلا غَرْوَ أن وَصَفَه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني بأنه من أهل التحقيق في هذا العلم الشريف (1) (يعني علم الحديث). وظهرت ملكته الفقهية فيما درسه من مسائل فقهية شائكة، سواء في كتابه التنكيل، أو بحوثه المفردة، كرسالة الربا ورسالة المواريث في نحو ثلاثين رسالة فقهية, إضافة إلى فتاوى كثيرة في مسائل متفرقة. وله جهود جيِّدة في التفسير برزت في تفسيره لسورٍ وآيات أفردها بالتفسير، مثل تفسيره للبسملة والفاتحة، وتفسيره لسورة البقرة، وتفسيره لسورة الفيل، وآيات متفرِّقة في كثير من السور، وأفرد بعضها بتأليف مستقلٍّ مثل: تفسير قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ}، وتفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا}. وأما العربية فهو ابن بجدتها ومالك ناصيتها، سهَّل الله له التعبير عن المعاني التي يريدها بأسلوب جمع بين جزالة اللفظ وجماله، وسلامة المعنى ووضوحه، وله كتب في النحو، وبحوث في البلاغة ومنشأ اللغات. وقد درس حياته العلمية عددٌ من طلبة العلم، فكتب الأخ منصور بن عبد العزيز السماري رسالة ماجستير مقدَّمة إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية بعنوان «الشيخ عبد الرحمن المعلمي وجهوده في السنة ورجالها» وطُبعت عام 1418 هـ. وأعدَّ الأخ أحمد بن علي يحيى محمد بيْه رسالة ماجستير مقدَّمة إلى الجامعة نفسها بعنوان «منهج المعلِّمي وجهوده في تقرير عقيدة السلف» ونوقشت في 25/ 7/ 1416 هـ. _________ (1) التنكيل 1/ 438 - الطبعة القديمة (التعليق).
(مقدمة 2/7)
وكتبتْ هدى بنت خالد بالي رسالة ماجستير بعنوان: «عبد الرحمن المعلمي وجهوده في السنة» وهي مقدَّمة إلى قسم الدراسات الإسلامية في كلية التربية للبنات بمكة المكرمة. وأفرده الأخ أحمد بن غانم الأسدي بترجمة سمّاها: (الإمام عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني حياته وآثاره). وفي مقدمة هذه الموسوعة ترجمة حافلة للشيخ. وقد حبَّب الله إليَّ هذا العالم، وحبَّب إليَّ كتاباته، فاستفدتُّ منها في دروسي وبحوثي، منذ نحو ربع قرن، ولم أفكر في تحقيق شيء من كتبه إلَّا قريبًا. ومن الكتب التي طال انتظارُ أهل العلم لها رسالة «العبادة»، واسمها الكامل «رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله، وتحقيقُ معنى التوحيد والشرك بالله». فأحببت إخراجها للناس أقربَ ما تكون إلى ما أراده المؤلِّف، لكنَّني اصطدمت بعائق النقص الكبير الموجود في الكتاب، فيسَّر الله بمنِّه وفضله تكميل معظم النقص، وسأشرح ذلك بإذن الله عند الحديث عن طبعتنا. وقد مهَّدتُ للرسالة بدراسة تضمَّنت التعريف برسالة العبادة، وبيان منهج التحقيق، ووصف النسخ. * * * *
(مقدمة 2/8)
التعريف برسالة العبادة * أوّلًا: عنوان الكتاب: اسم الكتاب كاملًا: «رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله». كذا ذكره المؤلف في مقدمة رسالة «حقيقة البدعة» (1). وقد يختصره أحيانًا إلى «رسالة العبادة» (2)، وهو الأكثر استعمالًا. * ثانيا: تحقيق نسبة الكتاب إلى المعلِّمي رحمه الله: ثمَّة أمور تؤكد ثبوت نسبة هذا الكتاب للمعلِّمي، من ذلك: 1 - أنه قلَّما يخلو كتاب من كتب المعلِّمي المطبوعة والمخطوطة من الإشارة إلى رسالته هذه، والإحالة عليها. فمن ذلك كتابه «التنكيل» (3)، قال فيه عن رسالة العبادة: «هو كتاب من تأليفي، استقرأت فيه الآيات القرآنية ودلائل السنة والسيرة وغيرها؛ لتحقيق ما هي العبادة، ثم تحقيق ما هو عبادة لله مما هو عبادة لغيره». _________ (1) ضمن مجموع رسائل العقيدة، ص 87. (2) المصدر السابق ص 108 - 113 أحال فيها على رسالة العبادة أربع مرَّات، وانظر: رسالة «تفسير سورة الفاتحة»، فقد أكثر فيها من الإحالة على رسالة العبادة، فقد وجدت في ص 90 - 92 منها ستَّ إحالات إلى رسالة العبادة. (3) التنكيل 2/ 435 - ضمن هذه الموسوعة، وانظر: الحاشية السابقة أيضًا.
(مقدمة 2/9)
2 - الكتاب كثير منه بخطِّ المعلِّمي. ومَنْ له أُنس بكتب الشيخ المخطوطة لا يرتاب في خطِّ الشيخ، مع قرب العهد، وتسلسل هذه المعلومة بطريق الثقات. ومسوَّدات الكتاب دالَّة على ذلك. 3 - وقد ذكره له جُلُّ مَن ترجم له (1). 4 - وذكره المؤلف في إحدى محاضراته في دائرة المعارف في حيدراباد (2)، ولخص فيها الباعث له على جمع ذلك الكتاب والطريقة التي سلكها. 5 - وقد أشار في هذا الكتاب إلى أن له رسالة مستقلة في حكم العمل بالحديث الضعيف (3). 6 - في الرسالة إشارات إلى أمور شاهدها في اليمن وفي الهند، وهما البلدان اللذان قضى فيهما أكثر حياته (4). * ثالثًا: تاريخ تأليف المعلِّمي لكتابه العبادة: أشار المؤلف إلى هذا الكتاب في كتابه التنكيل، مما يؤذن بتقدُّمه عليه أو مقارنته له، وقد كان المعلِّميُّ أثناء تأليفه للتنكيل في الهند، ويؤكّد ذلك ما نقله زكريا عبد الله بيلا عن المعلمي من قوله وهو يتحدَّث عن الطليعة: _________ (1) انظر مثلًا: مجلَّة العرب 1/ 245 مقال خير الدين الزركلي، والأعلام 3/ 342 له. (2) كما في دفتر مسودات صور برقم 4930 في مكتبة الحرم المكي. (3) انظر ص 249. (4) انظر ص 256، 752، 923 لذكر اليمن، و 264، 683 - 684 لذكر الهند.
(مقدمة 2/10)
«فإني لما أرسلت من الهند إليه الكتاب للاطلاع عليه ... » (1). ثم وقفت في إحدى مسوَّدات الشيخ بالرقم العام 4930 على مسوَّدة محاضرة أعدَّها المؤلف لإلقائها في المؤتمر العلمي الذي تعقده دائرة المعارف العثمانية في حيدراباد في الهند كل سنة، قال في بداية المحاضرة: «كان وكنت مشغولًا منذ مدة بجمع كتاب في تحقيق معنى الإله والعبادة في الإسلام فاقتطعت منه فصلًا أعرض ملخصه على مسامعكم». فقطعت جهيزةُ قولَ كلِّ خطيب، وثبت بذلك أنَّ تأليف الكتاب كان والشيخ في حيدراباد الدَّكَن من الهند؛ وقد كان خروجه من الهند أوَّل أوْ ثاني ذي القعدة من عام 1371 هـ (2)، فيكون تأليف الكتاب قبل هذا التأريخ؛ إلَّا أنَّ المؤلِّف لم يزل يعيد النظر في كتابه ويضيف إليه ويحذف منه، كما تدلُّ على ذلك مبيَّضة الكتاب الأولى وما تلاها. * رابعا: أهمِّية الكتاب وقيمته العلمية: تكمن أهمية الكتاب في كونه يعالج أمرًا مهمًّا يتعلَّق بأصل الدين، ألا وهو تفسير كلمتي العبادة والإله، اللَّتين على فهمهما يتوقَّف فَهمُ معنى كلمة التوحيد التي هي أساس الإسلام وقاعدته، وقد وقع في الكلمتين اشتباه عريض وغفل أكثر العلماء المتأخِّرين عن دفع هذا الاشتباه لأسباب ذكرها المؤلف (3)، «والشأن إنما هو في تحقيق ما غُفل عنه» (4). _________ (1) انظر: الجواهر الحسان في ترجمة الفضلاء والأعيان من أساتذة وخُلَّان 2/ 564. (2) كما في حديثه عن رحلته إلى الجزيرة (المخطوط رقم 4721). (3) انظر: رسالة «تفسير سورة الفاتحة» ص 107. (4) انظر: رسالة «تفسير سورة الفاتحة» ص 108.
(مقدمة 2/11)
وأما قيمة الكتاب العلمية فتتَّضح من مكانة مؤلِّفه الإمام المعلمي، وتضلُّعه من مختلف الفنون التي لا بدَّ منها في خوض غمار مثل هذا الأمر العظيم. ثم مما أبداه من التحقيق العلمي والتدقيق الجليِّ في هذا الكتاب، وقد قال عنه: «استقرأتُ فيه الآيات القرآنية ودلائل السنة والسيرة وغيرها لتحقيق ما هي العبادة، ثم تحقيق ما هو عبادة لله مما هو عبادة لغيره» (1). ثم من كونه لم يسلّم زمامه لأحد من الأئمة فضلًا عن غيرهم، بل (2) كما قال عن نفسه يستقي مسائله من عين الأدلة غير مقلِّد لأحد في هذا الأمر. هذا مع كونه لا يُغفل أقوال الجهابذة، بل يجمع شتاتها وما تفرَّق منها في هذا الأمر العظيم، فاستخرج من أقوالهم جملة من الدُّرَر، منها ما هو صريح فيما توصَّل إليه، ومنها ما هو مستلزم له قطعًا، «ولكنها خبايا في الزوايا وشذرات في الفلوات» (3). والمعلِّمي ذو اطِّلاعٍ واسع فلا غرو أن يأتي باللآلئ الخفيَّات من بطون المحيطات. فتبيَّن مما ذكرنا أنَّ الكتاب مهمٌ في مسائله، قيِّمٌ في تحقيقاته, فريدٌ في بابه، حريٌّ بالنشر والمطالعة والمدارسة. _________ (1) التنكيل 2/ 435. (2) انظر نسخة (س) من كتاب العبادة 24 ب. (3) انظر: رسالة «تفسير سورة الفاتحة» ص 107.
(مقدمة 2/12)
* خامسًا: موضوع الكتاب ومنهج المصنِّف فيه: أ- أما موضوعه فيكفينا في الدَّلالة عليه عنوانه؛ إذ هو «رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله، وتحقيقُ معنى التوحيد والشرك بالله». ولم يُحْوِجْنا المؤلِّف إلى تتبُّع سطور كتابه للتَّهَدِّي إلى موضوع رسالة العبادة، بل صرّح به في عدّة مناسبات، في الكتاب نفسه، وفي غيره من كتبه، ولا يسعنا إلا أن ننقل شيئًا من ذلك، فمنها: قوله في رسالة العبادة (1): «واعلم أنَّ موضوع هذه الرسالة هو البحث عن حقيقة التوحيد، ووزنُه بهذه الكلمة الطيبة [يعني: لا إله إلا الله] التي جعلها الشرع عَلَمًا له ليتضح شأن الأمور المختلف فيها، أمنافية هي للتوحيد أم لا؟ والغالب أن الجاهل بمعنى لا إله إلا الله يكون جاهلًا بحقيقة التوحيد، ومَن كان كذلك يُخْشَى عليه أن يكون مشركًا وهو لا يشعر, أو أن يَعْرِضَ له الشرك فيقبله وهو لا يدري، أو أن يرمي غيره من المسلمين بالشرك بغير بيِّنة، وكلا الأمرين خطر شديد». وقوله في رسالة الشفاعة (2): «قد جمعتُ رسالة مطوَّلة في تحقيق العبادة المطلقة، أي: أعمّ من أن تكون لله عزّ وجلّ أو لغيره، فوجدتُ عبادة غيره تشابك مسألة الشفاعة بحيث لا يمكن تحديد العبادة ما لم تتحدَّدْ الشفاعة وما يتعلَّق بها». _________ (1) ص 22 من نسخة (أ). (2) ضمن مجموع رسائل العقيدة، ص 301.
(مقدمة 2/13)
وقوله في خطبة نخب الفوائد من الأصول والقواعد: «جمعتُ رسالة في تحقيق معنى العبادة ومعنى الإله لينكشف بذلك معنى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) ويتضح ما يكون تأليهًا وعبادةً لغير الله تعالى وشركًا به ممَّا ليس كذلك، وحاولتُ استيفاء النظر في ذلك» (1). هذا موضوع الكتاب الإجمالي، ومحوره الذي يدور عليه. وأرى ألَّا أترك موضوعات الكتاب التفصيليَّة التي تناولها بالشرح والبيان دون إعطاء القارئ نُبذًا دالَّة عليها، كاشفة حجابها، فأقول ملخِّصًا (2): * بدأ المؤلِّف رسالته ببيان الباعث له على الكتابة في هذا الموضوع، ثم عقد بابًا عنونه بـ «تحتُّم العلم بمعنى لا إله إلا الله، وفيه شرائط الاعتداد بقولها» بيَّن فيه أهمَّ شروط لا إله إلا الله، ومن أعظم تلك الشروط: شرط العلم بمعناها؛ إذْ مَنْ لا يعرف معناها لا يُؤْمَنُ عليه أنْ يقع فيما يَنْقُضُها. وأن يكون قولها على سبيل الاعتراف والتصديق والتسليم والرضا. وأهمُّ تلك الشروط على الإطلاق: شرطُ التزام الشاهد مدَّة حياته أن يعبد الله ولا يشرك به شيئًا؛ لأن الشهادة إعلان بقبول ما أرسل اللهُ به رسولنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - مِن تصديق أخباره والانقياد للأمر والنهي، وأوَّل ذلك الأمر بعبادة الله وحده واجتناب الشرك أسوة بما أُرسلت به سائر الرسل، قال تعالى لنبيه: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64]. _________ (1) صفحة ملحقة برسالة البسملة والفاتحة. (2) ومن أراد التوثُّق من صفحات ما سأسرده فليستعن بفهرس الموضوعات.
(مقدمة 2/14)
* ثم عقد الشيخ بابًا ثانيًا عنونه بـ «باب في أنَّ الشرك هلاك الأبد حتمًا وأنَّ تكفير المسلم كفر» بيَّن فيه أنه لا ينبغي للمسلم أن يتهاون بهذا الأمر لأنه أصل الدِّين، وأورد الآيات والأحاديثَ المتعلِّقة بهاتين المسألتين: مسألة خطورة الشرك، وقضية رمي المسلم بالشرك من غير بيِّنة، وأوضحُ دليل من السنة على المسألة الأخيرة قولُه - صلى الله عليه وسلم -: «مَن قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدُهما»، وعَقد له البخاري بابًا سماه: باب بيان حال إيمان مَنْ قال لأخيه المسلم: يا كافر. * ثُمَّ عقد المؤلف بابًا ثالثًا في أصول ينبغي تقديمها: الأصل الأول: حجج الحق شريفة عزيزة كريمة، بيَّن فيه أن الله خلق الخلق لعبادته، وخلقهم قابلين للكمال، ومكَّنهم من العمل؛ لكنهم لا ينالون الجنة والدرجات العالية إلا بمقاساة عناء ومشقة، وهو الابتلاء، ومِنْ لازم الابتلاء الاختلافُ، ومن لازم الاختلاف استحقاقُ بعضهم الجنة وبعضهم النار. وطلبُ حجج الحق من جملة العبادة، ولا بد أن يكون دون منالها عناء ومشقَّة. الأصل الثاني: الحجج والشبهات. بيَّن فيه أنَّ الحجج العلمية تَعْتَوِرُها بواعث على الخيانة فيها، وموانع من الخيانة فيها، وأساس ذلك الهوى الذي يتفاوت قوَّة وضعفًا، والتشبُّث بالشبهات الكثيرة. ويعارضها المانع الدنيوي؛ وهو الخوف من الفضيحة بين الناس إذا عاند الشخص وردَّ الحجج بالشبهات الساقطة. الأصل الثالث: إصابة الحق فيما يمكن اشتباهه.
(مقدمة 2/15)
وهي تتوقف على ثلاثة أمور: - التوفيق للحق. - الإخلاص الخالي من الهوى. - بذل الوسع في تعرُّف الهوى وتطهير النفس منه، ولزوم التقوى، مع طلب العلم الضروري في العقائد والأحكام من أهله الراسخين فيه. * ثم دَلَف إلى فصل في حكم الجهل والغلط بناه على قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وردَّ على الذين فسَّروا لفظ الرسول في الآية بالعقل، وبيَّن أنَّ الله ناط التكليف باجتماع ثلاثة أمور: - بلوغ الحلم. - مع سلامة العقل. - مع بلوغ الدعوة. ثم أوضح أنَّ شريعة إبراهيم وإسماعيل ــ عليهما السلام ــ بلغت مشركي العرب قبل بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وحافظوا عليها أمدًا طويلًا حتى بدَّلها عَمرو بن لُحَيٍّ، بعد رَفْع عيسى عليه السلام بنحو مائتي سنة، فالحجَّة قائمة عليهم في الجملة. ثم قسم الناس إلى ثلاث طبقات: - مَنْ لم يبلغه خبر دعوةٍ أصلًا. - مَنْ بلغه الخبر. - مَنْ أسلم.
(مقدمة 2/16)
ثم فصَّل ما يلزم كلَّ طبقة من الجِدِّ في طلب الحقِّ وتحرِّيه، وترك التقصير. ثم أتى بأمثلة وشواهد تثبت العذر بالجهل والغلط، وجَمَعَ بين النصوص التي يُظنُّ تعارضُها في ذلك. ومما أورده في الأعذار حديث الرجل الذي أوصى أولاده بحرقه إذا مات، وحديث المقداد إذ منعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - مِن قتْل مَن قال: أسلمت لله؛ فيُحتج به للدخول في الإسلام بكلِّ ما يدلُّ على الدخول فيه، من قولٍ أو فعلٍ ما يتنزَّل منزلة النطق بالشهادتين. وقد حكم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بإسلام بني جَذيمة الذين لم يُحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، وجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا. وحَكَمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بإسلام الرجل الذي قتله أسامة بعد ما قال: لا إله إلا الله؛ لأن الظاهر من قوله: لا إله إلا الله، أنه أراد بها الدخول في الإسلام. * ثم تحدَّث الشيخ عن المنتسبين إلى الإسلام وقَصَرَ الكلام على من يكفِّره بعضُ قرَّاء كتابه، أو يتردَّدون فيه، بسبب الشرك، فبيَّن الشيخ أنَّ كلَّ مكلَّف من هؤلاء لا بدَّ أن يكون قد ثبت له حكم الإسلام، إما بدخول الشخص في الإسلام مع كون آبائه كفارًا، أو حُكِم له بالإسلام تبعًا لأبويه، أو لأحدهما، فإن كان القارئ يُسلِّم بصحة إسلام التابع فلا كلام، وإن كان يقول: آباؤه متلبِّسون بالشرك وإن ادَّعوا الإسلام، فالجواب أنَّ أوَّل جَدٍّ تلبَّس بالمحْدَثات إمَّا أن يكون هو الذي دخل في الإسلام، وإمَّا أن يكون ابنَ رجل مسلم لم يتلبَّس بها. وعلى كلا الحالين قد ثبت لهذا الجدِّ حكم الإسلام اتِّفاقا، ومن ثبت له حكم الإسلام فالأصل بقاؤه عليه، ولا يخرج عنه إلا بحجة واضحة، وأنت لا تعلم قيام الحجة على ذلك الجدِّ الذي
(مقدمة 2/17)
تلبَّس بتلك المحدثات، فبقي على إسلامه، فتبعه ابنه في الإسلام، فيبقى له حكم الإسلام, إلى آخر نقاشه القويِّ المفحم (1). ثم أفاض في أحوال الكفار الذين لم يدخلوا في الإسلام، وفصَّل أحكامهم بما ينبغي مطالعته. * وبعد فراغه من هذا الفصل شرع في الكلام على الباب الرابع الذي عقده لبيان أمور يستند إليها بعض الناس، ويستدلُّون بها على إثبات هذه الأمور المحدثة في العقيدة، وهي غير صالحة للاستناد إليها. ومنها: التقليد، وقد بيَّن الشيخ عدم كفايته في بناء أصول الاعتقاد عليه، بدلالة الأدلَّة التي اشترطت العلم بمعنى لا إله إلا الله، كقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، وحديث سؤال القبر الذي فيه: «وأما المنافق والكافر ــ وفي بعض الروايات: المرتاب ــ فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول كما يقول الناس, وأما المؤمن فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدَّقت» ولا يخفى أيُّ الرجلين المقلِّد. والمعنى الدقيق للتقليد هو العمل بقول مَن ليس قولُه إحدى الحجج بلا حجَّة (2). ولم يقصد الشيخ مِن منع التقليد إيجاب النظر على طريقة المتكلمين، بل يرى النظر على طريقة السلف، وهو أمر متيسِّر لكل أحد، حتى العامَّة. _________ (1) انظر ص 157 - 163. (2) تيسير التحرير 4/ 241.
(مقدمة 2/18)
وعلى طالب الحق إذا اختلف عليه العلماء أن ينصب نفسه منصب القاضي، فيسمع قول كل واحد منهم وحجَّته، ثم يقضي بالقسط. وأكثر العلماء المنتسبين إلى المذاهب لم ينصبوا أنفسهم منصب القضاة، بل نصبوا أنفسهم منصب المحامين، فلا يسمع من أحد منهم إلا كما يسمع القاضي من المحامي. قال الشيخ: إذا كان الأمر كما علمت في تقليد العلماء، فما بالك بتقليد المنسوبين إلى الخير والصلاح بدون أن يكونوا أئمة في العلم؟ والحامل للناس على تقليد مَن يُنسب إلى الخير والصلاح اعتقادُ العصمة فيهم، وسببُ اعتقادهم العصمة فيهم اعتقادُ الولاية فيهم، والباعثُ على اعتقاد الولاية فيهم ظهورُ الخوارق على أيديهم، ثم برهن الشيخ على أن ظهور الخوارق لا يدلُّ على ولاية مَن ظهرت على يده. وأكثر ما يُنقل من تلك الخوارق اخترعها مريدوهم زاعمين أنَّ ذلك يُقرِّبهم إلى الله وإليهم. ثمَّ ذكر أقسام الخوارق وأنَّ منها معجزة للأنبياء، وكرامة للأولياء, ومنها إهانة للدَّجَّالين، واستدراج لبعض الدَّجَّالين كالدَّجَّال الأعور ليمتاز المؤمن عن علمٍ ومعرفةٍ مِن غيره. وذكر الشيخ من الخوارق الشعبذة، وقوَّة نفسيَّة تُكتَسبُ بالرياضة التي أساسها الجوع والسَّهَر والخلوة وجمع الفكر، وما يُسمَّى بالكشف، وهو لا يعدو أن يكون نوعًا من الرؤيا في أحسن أحواله. * وأما الأمر الثاني الذي يستند إليه كثير من أهل زماننا في الاعتقاد هو أنهم يحتجُّون بآيات من كتاب الله تعالى، ويفسِّرونها برأيهم بما لم يُنْقل عن السلف ولا تساعده اللغة العربية ولا البلاغة القرآنية، وهكذا يصنعون
(مقدمة 2/19)
بالأحاديث الثابتة، فينبغي للمسلمين ألَّا يغترُّوا بأحد يحتجُّ بالكتاب والسنة على الأمور المشتبهة. * والأمر الثالث الذي يستند إليه كثير من الناس هو الاحتجاج بالأحاديث الموضوعة والضعيفة، وكذلك بالآثار المكذوبة عن السلف، أو التي لم تصحَّ. ويحتجُّ بعضهم بالضعيف مع اعترافهم بضعفه قائلين بأن فضائل الأعمال يُتسامح فيها، مُغْفِلين أنَّ الفضائل إنما تُتَلقَّى من الشارع فإثباتها بالحديث الضعيف اختراع عبادة، وشرعٌ في الدين لما لم يأذن به الله. * وذكر المؤلِّف من الأمور التي يستند إليها بعض الناس في باب العقائد: مجرَّد العقل والقياس, مع أنَّ للعقل حدًّا ينتهي إليه كما أن للبصر حدًّا ينتهي إليه, وللعقل أغلاط دقيقة وخفيَّة أشدّ من أغلاط الحواسِّ الأخرى. وقد حكى الله عن طوائف من المشركين استنادهم إلى مجرَّد رأيهم وقياسهم في عبادتهم غير الله زاعمين أنهم بشركهم معظِّمون لله، وأنهم ليسوا بأهلٍ أن يعبدوا لله مباشرة لحقارتهم، ولا بدَّ من واسطة يتوسَّطون بها. ويحتجُّ بعض الناس بآيات من كتاب الله أو سنة ثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - , ويغفل أو يتغافل عن عدَّة آيات أو سنن أخرى تعارض استدلاله؛ فإنَّ الكتاب والسنَّة كالكلام الواحد. ومن الناس مَن تغلب عليه العصبيَّة للرأي الذي نشأ عليه, ويستغني بمحبته لذلك الرأي عن أن يتطلَّب له حجَّة, ويمتنع من أن يُصغي إلى الأدلَّة التي يتمسَّك بها مخالفُه.
(مقدمة 2/20)
* وقد خاض في مسألة التوحيد مَنْ لم يكن له علم راسخ بالقواعد, ويقع اللَّوم على مَن صدَّره ونَحَلَه العلمَ والإمامة بغير استحقاق, مع أننا نجد أفرادًا لا يؤتَون من جَهْل بالقواعد وإنما يؤتَون من مخالفتها. والقواعد هي ما تشتمل عليه علوم الاجتهاد من إتقان اللغة العربية وطول الممارسة لها, ومعرفة أصول الفقه على وجه التحقيق لا التقليد, ومعرفة مصطلح الحديث وطرفٍ صالح من معرفة الرجال ومراتبهم وأحوالهم، وكثرة مطالعة كتب الحديث حتى تكون له مَلَكَة صحيحة في معرفة العِلل والترجيح بين المتعارضات, ومعرفة السيرة النبوية وأحوال العرب قبل الإسلام. وكذلك معرفة العلماء ومراتبهم, وكثرة تدبُّر كتاب الله. ولْيَكُنْ فهمه مطابقا للقواعد العلميَّة, مع الإخلاص ومجانبة الهوى والتعصب وحبِّ الجاه والشهرة, مع المحافظة على الطاعات والتنزُّه عن المعاصي بقدر الاستطاعة, والإكثار من دعاء الله أن يوفِّقه للحق. ويلتزم باحترام العلماء والصالحين, وإن خالف بعضَهم لدليلٍ فلا يحتقرهم. * ونبَّه المؤلِّف على قاعدة مهمَّة وهي: وجوب حمل النصوص على ظاهرها, والظاهر قد يترقَّى إلى القطع إذا عَضَدَتْه ظواهر أخرى. * ومن الناس مَن يتهاون بقضيَّة الفصل بين التوحيد والشرك قائلًا: «إنما الأعمال بالنيات» , والحديث إنما تعرَّض للفصل بين الأعمال الشرعية التكليفيَّة وبين غيرها, فأما أحكام تلك الأعمال فإنما تؤخذ من الأدلَّة الأخرى, والكافر إذا زعم أنه يتمسَّك بكفره طاعةً لله وتعظيمًا له فإنَّ قصده ذلك لا ينفي عنه اسم الكفر ولا حكمه, بل يغلِّظه عليه ويكون كفرًا على كفر.
(مقدمة 2/21)
ثم ختم هذا الفصلَ بقوله: «وبالجملة فتحقيق ما هو شرك وما ليس بشرك متوقف على تحقيق معنى كلمة التوحيد». فذكر أنه يظهر من صنيع بعض علماء الكلام أنَّ معنى (إله) هو المعنى الذي يعبِّرون عنه بـ (واجب الوجود). و «الأمم كلها لا تشرك في وجوب الوجود حتَّى الثَّنَوِيَّة, وقد حكى القرآن عن الأمم المشركين ابتداء من قوم نوح وانتهاء بمشركي العرب الذين بعث فيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - أنهم يعترفون بتفرد الله بالخلق والرَّزْق والإحياء والإماتة والتدبير». قال المؤلِّف: ومن العجائب أنك تجد في هذا العصر كثيرًا من طلبة العلم ــ إن لم أقل من العلماء ــ يتوهَّمون أن المشركين يعتقدون في الأصنام وغيرها أنها واجبة الوجود قادرة على كلِّ شيء، خالقة، رازقة، مدبِّرة للعالَم. * وتبيَّن مِن بحث الشيخ وتحقيقه في هذه المسألة أنَّ اتخاذ الشيء إلهًا لا يتوقَّف على اعتقاد كونه واجب الوجود، ولا اعتقاد كونه مستغنيًا عمَّا سواه، ولا كونه مدبِّرًا مستقلًّا، بل ولا غير مستقلٍّ؛ فإنَّ الذين ألَّهوا الأصنام لم يعتقدوا لها شيئًا من التدبير. قال العزُّ في قوله تعالى: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 - 98]: «وما سوَّوهم به إلَّا في العبادة والمحبة دون أوصاف الكمال ونعوت الجلال». * ثمَّ قرَّر المؤلِّف برهان التمانع الذي دلَّت عليه بعض آيات القرآن فقال: «تقرير هذا البرهان أنه لو كان مع الله تعالى أحياء يدبِّرُ كلٌّ منهم الخلق والرزق ونحوهما من الأمور العظمى في العالم تدبيرًا مستقلًّا لاختلفوا،
(مقدمة 2/22)
وإذا اختلفوا فسدت السموات والأرض. كما أن الأمور الصغيرة التي يدبِّرها الناس مستمرة الفساد. ولا ريب أن قدرة الناس لو تتناول نحو إنزال المطر ومنعِه، وإرسال الرياح وحبسها، وتيسير الهواء ورفعه، وتحريك الزلازل ونحو ذلك, لكان الفساد أظهر. ومعلوم بالمشاهدة أن الأمور العظمى لا يتطرَّق إليها الفساد، وما قد يظهر في بعضها مما يُتَوهَّم فسادًا تُعْلَم مصلحته عند التدبُّر، فعلم بذلك أنه ليس في العالم مع الله تعالى أحياء كلٌّ منهم يدبِّر تدبيرًا مستقلًّا .... » إلخ. * وذكر المؤلِّف أنَّ برهان التمانع يجتثُّ شُبَه المشركين من أصلها، فلا يثبت للروحانيِّين ما يزعمه بعضهم من أنَّ لها تدبيرًا ما، وأنَّ الملائكة والجنَّ وأرواح الموتى كذلك. * وذكر المؤلِّف بعض الأمور التي قد يفهم منها بعضُ الناس أن الملائكة غيرُ معصومين كقصَّة هاروت وماروت، وأطال في الجواب عن ذلك. * وعَنْوَن لتفسير الإله بالمعبود، ونقل عن علماء التوحيد قولهم: إن حقيقة معنى الإله: المعبود بحقٍّ، وفسَّره بعضهم بالمستحقِّ للعبادة، ونقل ألفاظ عدد من المفسِّرين معبِّرة عن هذا المعنى، وأن الألوهيَّة هي العبادة وأن الإله هو المعبود الذي لا تنبغي العبودية إلا له، لا شريك له فيما يستوجب على خلقه من العبادة. * والقول بوجود إله غير الله تعالى إن كان بمعنى مستحق للعبادة فشركٌ، وإن كان بمعنى معبود بالفعل غير مستحقٍّ فلا، فأمَّا اتِّخاذ إله غير الله تعالى فشرك مطلقًا، وهذا ممَّا لا خلاف فيه بين المسلمين.
(مقدمة 2/23)
* ثمَّ عرَّج على إيضاح معنى العبادة في اللغة والاصطلاح فنقل عن أهل اللغة ما حاصله أربعة تعريفات: 1 - الطاعة. 2 - الطاعة التي يُخْضَع معها. 3 - غاية التَذَلُّل، أو أقصى درجات الخضوع. 4 - التَألُّه أو الطاعة مع اعتقاد أن المُطاعَ إله. فناقش هذه التعريفات واحدًا بعد آخر، ثم عقد بابًا في تحقيق معنى كلمة (إله) ومعنى كلمة (العبادة) وما يلحق ذلك، وبيَّن أنَّ هاتين الكلمتين تكرَّرتا في القرآن كثيرًا، وباستقراء مواضعهما وتدبُّر مواقعهما تنجلي حقيقة معناهما. قال: أمَّا إطلاق كلمة (إله) على الله تبارك وتعالى، و (العبادة) على طاعته، وكلِّ ما يُتقرَّب به إليه، فأمر لا يحتاج إلى بيان. قال: وأما غير الله فقد حكى الله عن المشركين اتخاذهم بعض المخلوقات آلهة كالأصنام والعجل والهوى والشياطين والأحبار والرهبان والمسيح وأمِّه عليهما السلام والملائكة وأشخاص خياليَّة لا وجود لها. وأما العبادة فأخبر الله عزَّ وجلَّ أنها وقعت للأصنام والشياطين والشمس والأحبار والرهبان والمسيح وأمِّه عليهما السلام والملائكة وأشخاصٍ متخيَّلةٍ. فاتَّخذ قوم نوحٍ الأصنام آلهةً وعبدوها, واتَّخذوا جماعةً من الصالحين الذين ماتوا قبلهم آلهةً.
(مقدمة 2/24)
واتَّخذ قوم هودٍ عليه السلام أشخاصًا متوهَّمةً آلهةً وعبدوها. وعبد قوم صالحٍ مع الله تعالى غيره, واتَّخذ قوم إبراهيم عليه السلام الأصنام آلهةً وعبدوها, وعبدوا الشيطان، وعظَّموا الكواكب. واتَّخذ أهل مصر في عهد يوسف عليه السلام أشخاصًا متوهَّمةً وعبدوها, وادَّعى فرعون أنه إلهٌ وأطاعه قومه. واتَّخذ القوم الذين مرَّ بهم قوم موسى أصنامًا وعكفوا عليها, وسمَّاها أصحاب موسى آلهةً، وسألوه أن يجعل لهم إلهًا مثلها, واتَّخذ بعض قوم موسى العجل إلهًا, ثم اتَّخذوا الأحبار آلهةً وعبدوهم. واتَّخذ النصارى عيسى وأمَّه عليهما السلام إلهين من دون الله وعبدوهما, واتَّخذوا رهبانهم آلهة من دون الله وعبدوهم. واتَّخذ مشركو العرب الأصنام والملائكة والشياطين وأشخاصًا متخيَّلةً آلهةً وعبدوها. قال المؤلِّف: فطريق البحث أن ننظر فيما كان هؤلاء القوم يعتقدونه في تلك الأشياء وما كانوا يعظِّمونها به, فإذا تبيَّن لنا ذلك علمنا أنَّ ذلك الاعتقاد والتعظيم هو التأليه والعبادة. ثم أفاض الشيخ في تفصيل ما كان يفعله هؤلاء الأقوام مع معبوداتهم , وإلامَ كانت أنبياؤهم تدعوهم, وبَرْهَن على أنهم لم يكونوا ينكرون وجود الله, مستدلًّا بالآيات القرآنيَّة على وجهٍ رئيسٍ ومثنِّيًا بأحاديث وآثارٍ تدلُّ على ذلك, وأدلُّ دليلٍ على ذلك أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ
(مقدمة 2/25)
مَلَائِكَةً} [المؤمنون: 24]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]. وقولُ الرسل لأقوامهم: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [فصلت: 14] ظاهره أنهم كانوا يعبدون الله في الجملة ولكنهم يشركون به. وابتداء الرسل بهذا يدلُّ أن المرسَل إليهم لم يكونوا يجحدون وجود الله عزَّ وجلّ, بل قولهم: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} [فصلت: 14] نصٌّ في أنهم كانوا يعترفون بربوبيَّة الله عزَّ وجلّ وأنه لا ربَّ غيره، ويعترفون بوجود الملائكة عليهم السلام. وذكر الله عن المشركين أنهم دعوا آلهتهم ونادوها واتَّخذوها أربابًا وشركاء وأندادًا، وذكر أدلَّة ذلك وشرحَها بما يحسن الرجوع إليه. وأورد على نفسه سؤالًا مضمونه: كيف تسمِّي مَن لا يعبد الله بل يقتصر على عبادة غير الله مشركًا؟ فأجاب بأنه: قد وُجد معبودان من حيث الواقع, أحدهما: معبود ذلك الشخص, والآخر: المعبود بحقٍّ الذي يعبده الملائكة ومَن شاء الله من خلقه, فصحَّ أن يُسمَّى ذلك المعبود بالباطل شريكًا، وأن يُسمَّى عابده مشركًا. قال: وأما قول المؤمن: (لا إله إله الله وحده لا شريك له) فإنه يريد ــ والله أعلم ــ لا شريك له في الألوهيَّة، أي في المعبوديَّة بحقٍّ. * وقرَّر الشيخ أنَّ المشركين كانوا يقصدون بعبادتهم الإناثَ الخياليّات التي زعموا أنها بناتُ الله، وأنها هي الملائكة، وأنَّه إذا جاء ذكرُ معبوداتهم غيرَ مُبَيَّن، فالأَولى أن يُفسَّر بها؛ لأنَّ ذلك هو صريح اعتقادهم، فأمَّا الملائكة فإنما عبدوهم على زَعْم أنهم هم الإناث الخياليَّة، ولم يكونوا يقصدون عبادة الشياطين، وأمَّا الأصنام فإنما كانوا يعظِّمونها تعظيمًا لتلك
(مقدمة 2/26)
الإناث على أنها تماثيل لها. * ثم دلف المؤلف إلى بيان اعتقاد المشركين في الأصنام، وبين أنهم إنما عظموها على أنها تماثيل أو رموز للإناث الوهميات التي هي في زعمهم بنات الله عز وجلَّ، وهي عندهم الملائكة، ثم أورد الآيات التي يستدل بها بعض أهل العلم لتقرير خلاف ما قرَّره المؤلف وأجاب عن استدلالاتهم. * ثم أطال بوجهٍ خاصٍّ الكلام على قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [غافر: 43 - 44]. * ثم أورد المؤلف على نفسه سؤالين قبل الخروج من بحث الأصنام، أولهما: أنه جاءت آثار كثيرة في شأن اللات تخالف ما قرَّره في اعتقاد المشركين في الأصنام. والسؤال الثاني: أن لهم أصناماً مذكَّرة الأسماء كهبل ومناف، فكيف يكون هذا المذكَّر رمزاً للإناث التي هي الملائكة في زعمهم؟ . ثم أجاب عن السؤالين بعد تقديمه كلام أهل اللغة والتفسير في اللات عن اشتقاقها، وأين كانت، ومن كان يعبدها؟ * ثم ذكر الشيخ أن المشركين كانوا يتمسحون بالأصنام ويعكفون عليها ويضمِّخونها بالطيب ويتقاسمون بالأزلام عندها، ولم يجد الشيخ نصًّا صريحًا في أنهم كانوا يسجدون للأصنام ولا أنهم كانوا يدعونها، ثم أبدى احتمال أنهم كانوا يدعونها في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ
(مقدمة 2/27)
فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا ... } الآيات [الحج: 73 - 76]، وحقَّق تفسيرها. * ثم انتقل المؤلف إلى بحث اعتقاد المشركين في الملائكة وذكر أنه يتلخَّص في طمعهم في أن الملائكة يشفعون لمن يعبدهم وأن الشفاعة تنفعهم، ومعلوم أن الملائكة لا يرضون أن يُعبدوا من دون الله، فالمشركون إنما عبدوا الشيطان الذي زيَّن لهم عبادة الملائكة. وأطال المؤلِّف في بيان بطلان اعتقاد المشركين في الملائكة. قال المؤلِّف: فلم يبق أمام المشركين إلا شبهتان، إحداهما: التشبُّث بالقدر. الثانية: التقليد، وجلَّى الشيخ المقام بإيراد الآيات الدالَّة على إبطال هاتين الشبهتين. * ثم بيَّن الشيخ كيف كان تأليههم للملائكة، فذكر أن المشركين كانوا يشركون في التلبية في الحج بالإناث الخياليات التي هي الملائكة في زعمهم. وكانوا يتخذون الأصنام تماثيل أو رموزاً لتلك الإناث، وكانوا يسمون عبد اللات، عبد العزى، عبد مناة، وكانوا يُقْسمون بهذه الأسماء ويذكرونها عند الذبح، وكانوا يجعلون لهم نصيباً من أموالهم يصرفونه في تطييب الأصنام. * ثم تكلم الشيخ عن اعتقاد المشركين في أهوائهم، وأنهم أطاعوا أهواءهم لما أطاعوا رؤساءهم في شرع الدين. قال الشيخ: وإنما لم يكثر هذا المعنى في القرآن استغناءً بذكر تأليههم للشياطين، فإن تأليه الهوى يلزمه تأليه الشيطان؛ لأنه المتلاعب بالهوى.
(مقدمة 2/28)
* ثم تعرَّض لبيان اعتقاد المشركين في الشياطين وأنهم كانوا يعتقدون أنَّ ما يوحونه إليهم في شرع الدين حقٌّ، ولكن لم يعلموا أنَّ ذلك من وحي الشياطين، بل يظنُّونه من رأيهم واجتهادهم. وفيما يتعلَّق بأعمالهم ألزمهم الله بأنهم يعبدون الشياطين لكونهم يأخذون دينهم عن غير حجة ولا برهان، بل بمجرَّد التخرُّص والتخمين. * وبيَّن الشيخ أن العكوف على الصنم هو المكث عنده بهيئة الأدب زاعمين أنَّ ذلك تعظيم لمن جُعل الصنم تمثالاً له، بل يعدُّون ذلك عبادة لله عزَّ وجلَّ؛ لأنه في زعمهم يحب ذلك ويرضاه، ولذلك نرى مشركي الهند يتحرَّون لدعاء الله عزَّ وجلَّ أن يكون عند الأصنام. * ثم فسر آيات النجم {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)}. واختار تفسيرها بقول ابن زيد: جعلوا لله عز وجل بنات، وجعلوا الملائكة لله بنات، وعبدوهم وقرأ: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ} الآية، وقرأ: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} الآية، وقال: دعوا لله ولدًا، كما دعت اليهود والنصارى، وقرأ: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}. * ثم تكلم عن قصة الغرانيق، وبيَّن أن الكلمات التي ألقاها الشيطان لم تكن من القرآن، بل القرآن يبطل هذا لقوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} فبيَّن أن تلك الكلمات ــ إن صحَّت ــ من إلقاء الشيطان، ولكن قد يجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كلمات أثنى بها على الملائكة، وقد أثنى الله
(مقدمة 2/29)
تعالى على الملائكة في مواضع كقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}. فالذي يظهر من هذه العبارة أنهم لم يفهموا من تلك الكلمات إلا ما أراده - صلى الله عليه وسلم - من الثناء على الملائكة ولكنهم زعموا أن ذلك الثناء يدل على جواز اتِّخاذ الملائكة آلهة. فالعرب إنما كانوا يعظمون هذه الأصنام الثلاثة تعظيمًا لأشخاص معظمين، وليست هذه الأصنام إلا تماثيل أو تذكارات لأولئك الأشخاص كما هو شأن عَبَدَة الأوثان في كلِّ أمة، وبذلك صرَّح المحققون. والأقرب فيما نحن فيه أن المشركين لما كانوا يعبدون إناثًا غيبيات، قالت الشياطين: ليست هناك إناث غيبيَّات إلَّا منّا، أما الملائكة فليسوا بإناث، فكلما قال المشركون: فلانة بنت الله ــ تعالى الله عما يقولون ــ وعبدوها، عيَّنت الشياطين واحدة من إناثهم كأنها هي تلك الأنثى التي يعبدها المشركون. ونجد القرآن مملوء بمحاجة المشركين في تأليه الملائكة وقلَّما نجده حاجَّهم في تأليه الجمادات. * ثم تكلم عن عبادة الشياطين وأوضح أن الأشخاص الغيبية التي عبدها العرب ليست هي الملائكة لأنها إناث والملائكة ليست كذلك، ولأنها بنات الله في زعمهم وليست الملائكة كذلك. فعبادتهم في الحقيقة إنما هي عبادة للشياطين، أوَّلًا: لما تقدم مرارًا أنهم أطاعوا الشياطين الطاعة التي هي عبادة.
(مقدمة 2/30)
ثانيا: أن الشياطين أنفسهم تصدَّوا لهذه العبادة قائلين: إن هؤلاء يعبدون إناثا غيبيات وليس هناك إناث غيبيات إلا من الشياطين فعرَّضوا إناثهم لتلك العبادة. * ثم انتقل إلى الكلام على عبادة الهوى وفسره بأن يطيعه ويبني عليه دينه، لا يسمع حجة ولا ينظر دليلاً. * ثم شرع في تفسير عبادة الأصنام, فذكر أنهم كانوا يعبدون الأصنام على أنها تماثيل للإناث الخياليات، أعني ما زعموه أن لله بنات وأنهن هن الملائكة، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. * ثم ذكر أسباب تعظيم المجوس للنار. وعبادةَ بني إسرائيل العجل، هل كانت بدعوى أن الله حل في العجل، أو أن العجل رمز لله؟ وناقش المسألة من جوانب عدَّة. * ثم دلف إلى الكلام على عبادة الأناسي الأحياء وأرواح الموتى, وبيَّن أنهم كانوا يزعمون أن أولئك الموتى يشفعون لمن يعبدهم، أو أن الله عز وجل يثيب من يعبد أولئك الموتى لما كانوا عليه من الصلاح. * ثم تحدث عن تأليه المسيح وأمه, وذكر أن النصارى يؤلِّهون مريم ويعبدونها كما يؤلِّهون عيسى ويعبدونه، وقد عُلم أنهم لم يقولوا في مريم إنها واجبة الوجود ولا قديمة ولا أنها جزء من الله تعالى، ولا أنها تخلق وترزق وتنفع وتضرُّ وتغفرالذنوب، فثبت بذلك أن التأليه والعبادة لا يتوقفان على اعتقاد شيء من هذه الصفات في المعبود وأن اعتقادهم هذه الصفات في عيسى أمر زائد على التأليه والعبادة.
(مقدمة 2/31)
ومن عبادتهم عيسى عليه السلام إشراكُهم إياه في كلِّ عبادة تكون لله تعالى لزعمهم أنه جزء منه وتعظيمهم لصورته ولصورة الصليب لمشابهتها للصليب الذي صُلِب عليه فيما زعموا. ومن تعظيمهم لأمه تعظيمُ صورتها والاستغاثة بها. * ثم استفاض في الكلام على قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ}. وحاصل المعنى: أنَّ مَن علم الله منه الأمر بالشرك لم يؤته النبوة، ومَن آتاه النبوة عصمه عن الأمر بالشرك. * ثم عقد عنوانا في تأليه الأحبار والرهبان وبيَّن أن اتِّخاذهم بعضهم بعضاً أربابا هو ما كان بطاعة الأتباع الرؤساءَ فيما أمروهم به من معاصي الله وتركهم ما نهوهم عنه من طاعة الله. * ثم فسَّر عبادة الأحبار والرهبان كيف تكون؟ وبيَّن أنَّ شرع الدين خاصٌّ بالربِّ, فمن ادَّعى أنَّ له حقًّا أن يشرع وأنَّ ما شرع يكون دينا فقد ادَّعى الربوبية, ومَن قال في شخص إنَّ له حقًّا أن يشرع وأنَّ ما شرعه يكون دينًا فقد اتخذه ربًّا وجعله شريكًا لله عزَّ وجلَّ. * ثم تناوَل المؤلِّف تفسير عبادة القبور والآثار بإيجاز, مبيِّنًا أنها عُبِدت تعظيمًا للأشخاص التي هي تماثيل لهم. * وفَسَّر عبادة الجنِّ، وأنها تقع بالاستعاذة بهم والنذر لهم والذبح لأجلهم زعمًا أنَّ مَن قرَّب للجن شيئًا فإنهم ينفعونه ويكفُّون عنه أذيَّته أو يدفعون عنه ضرر بعضهم أو يبيِّنون لهم شيئًا مغيَّبًا بواسطة الكُهَّان.
(مقدمة 2/32)
* وبيَّن الشيخ أن الذين عبدوا الكواكب إنما عبدوها لأنها بمثابة الأجسام للملائكة التي هي أرواح, ومثّل بعضُهم الكواكب بصور معينة تخيّلوها ويعبدون تلك التماثيل. * وأوضح الشيخ أنَّ قوم هود كانوا يعبدون أشخاصًا لا وجود لها, وكانوا يعتقدون في آلهتهم نوعًا من القدرة على النفع والضر, ولعلَّ ذلك كان على معنى أنَّ آلهتهم يسألون الله أن ينفع أو يضرَّ. * ثم تحدَّث الشيخ عن ديانة المصريِّين وعبادتهم في عهود إبراهيم ويوسف وموسى عليهم السلام, وفصَّل الشيخ تفصيلًا بديعًا في دعوى فرعون الإلهيّة وحقيقتها, وأنه شرع لقومه أن يعبدوه, وهو يعبد الملائكة. * ثم تعرَّض الشيخ لبيان تأليه العرب الإناثَ الخياليَّات, وقد وبَّخ الله هؤلاء المشركين على قولهم: إن لله ولدًا, ثم على قولهم: إن ذلك الولد إناث, ثم على قولهم: الملائكة إناث, ثم على قولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} فدلّ أنَّ كلّ أمر من هذه الأمور منكر على حِدَة, وتأليهُ الشيء وعبادته لا يتوقَّف على زَعْمِ أنه واجب الوجود أو أنه الخالق, أو خالق آخر, أو ابن الخالق, أو نحو ذلك. * ثم فسَّر الشيخ كيف كانت عبادة الملائكة, وبيّن أن عُبَّاد الملائكة ما عدا أتباع أرسطو فريقان: فريق يزعمون أن الملائكة يتصرَّفون باختيارهم, وفريق لا يثبتون للملائكة اختيارًا إلَّا في الشفاعة, ومنهم مشركو العرب. * ثم عقد عنوانًا سماه: (تفسير عبادة الشيطان) , وذكر لها وجوهًا: أولها: طاعة الشياطين في شرع الدين على نحو ما مرّ في الأحبار والرهبان.
(مقدمة 2/33)
والوجه الثاني: أن الشياطين رأت أنه لا وجود لما يدّعيه المشركون من الإناث الغيبيات بزعم أنهن بنات الله وأنهن الملائكة, فعمدت شيطانة فتسمَّت بالعزّى ولزمت الصنم المجعول للعُزَّى, وقس على ذلك. * ثم بيّن الشيخُ أنَّ عبادة الهوى: طاعته فيما لا ينبغي أن يُطاع فيه إلا الربّ, وأنها من قبيل عبادة الأحبار والرهبان. * وبعد شرحه المستفيض لعبادات أصناف المشركين والكفار ابتداء من قوم نوح وانتهاء بقوم عيسى عليهما السلام؛ عقد عنوانا سماه: (تنقيح المناط) (1) , وهو بيت القصيد في كتابه, أراد به تحديد ما يدخل في العبادة وما لا يدخل فيها, فقال: «مدار التأليه والعبادة على أمرين: الأول: الطاعة في شرع الدين, والمراد بالدين: الأقوال والأفعال التي يُطلَب بها النفع الغيبي, والمراد بالنفع الغيبي ما كان على خلاف العادة المبنيَّة على الحسّ والمشاهدة. والأمر الثاني: الخضوع أو التعظيم على وجه التديُّن .. ». إلى أن قال: «وتحرير العبارة في تعريف العبادة أن يقال: خضوع اختياري يُطلَب به نفع غيبي, أي من شأنه أن يُطْلَب به نفع غيبي, سواء كان الخاضع طالبًا بالفعل بأن يكون له اعتقاد أو ظنّ واحتمال أن ذلك الخضوع سبب لنفع غيبي, أو يكون في حكم الطالب بأن يكون المعهود في ذلك _________ (1) تنقيح المناط: هو الاجتهاد في تحصيل العلَّة التي ربط بها الشارع الحكمَ وإلغاء ما لا يصلح للاعتبار. انظر: شرح المحلي على جمع الجوامع بحاشية البناني 2/ 292, وشرح الكوكب المنير 4/ 131.
(مقدمة 2/34)
الفعل أنه يُطلَب به نفع غيبي, كالسجود للصنم إذا فعله الخاضع عنادًا أو خوفًا من ضرر لا يبلغ به حدَّ الإكراه, أو مداهنةً, أو طمعًا في نفع دنيوي كمن يُجعَل له مال عظيم على أن يسجد لصنم, أو هزلًا ولعبًا». قال: «وهذا تعريف للعبادة من حيث هي, فإن أريد تعريف عبادة الله عز وجل زِيد: (بسلطان) , أو أريد تعريف عبادة غير الله زِيد: (بغير سلطان) .. ». * ثم فسَّر الإله بالمعبود, فمَن عبد شيئًا فقد اتخذه إلهًا وإن لم يزعم أنه مستحق للعبادة, ومَن زعم أنه مستحق للعبادة فقد عبده بهذا الزعم, وهكذا من أثبت لشيء تدبيرًا مستقلًّا بالخلق والرزق ونحوهما, فإنَّ هذا التدبير هو مناط استحقاق العبادة, وكذا مَن أثبت لشيء أنه يشفع بلا إذن وأنَّ شفاعته لا تردُّ ألبتة؛ لأنَّ ذلك في معنى التدبير المستقلّ. والحاصل أن الخضوع لغير الله عز وجل طلبًا لنفعٍ غيبيٍّ إن كان بسلطانٍ من الله عزَّ وجلَّ فذلك عبادة لله عز وجل, قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] , وإن كان بغير سلطان من الله عز وجل فذلك عبادة لغير الله عز وجل. ثم استطرد في ذكر ما يؤيِّد به كلامه من كلام أهل العلم. * ثم عقد فصلًا في القيام الذي هو في حقيقته قريب من السجود في المعنى, وبيّن ما يجوز منه وما لا يجوز, وقَرَّر أن القيام إلى الشخص القادم لاستقباله والترحيب به ليس مثلَ القيام له الذي هو تعظيم له بنفس القيام, وهو يشبه القيام لله عزَّ وجلَّ في الصلاة. * ثم عقد فصلًا طويلًا في الدعاء, وذكر أنه ألجأه إلى الإطالة ما رآه من اضطراب المفسرين وغيرهم في تفسير الدعاء وتوجيه كونه شركًا.
(مقدمة 2/35)
وقد اتَّفق أهل اللغة على أنَّ أصل الدعاء بمعنى النداء, وذكر آيات كثيرة تفيد أنَّ الدعاء فيها بمعنى السؤال والاستعانة, ولاسيَّما في الآيات التي فيها ذكرُ الاستجابة. * ثم وضع عنوانًا في أحكام الطلب, ومتى يكون دعاء؟ وبيَّن فيه أنَّ دعاء الحيّ الحاضر ما لا يقدر عليه ودعاء الأموات والغائبين مطلقًا شرك بالله. * وتعرَّض لبيان مسألة التوسُّل, والأحاديث الواردة فيها. * وأجاب عن الأحاديث والآثار التي يستدلُّ بها مَن يدَّعي سماع الموتى لمن خاطبهم, وقال: مَن قاس الأموات على الأحياء فهو كمَن قاس الملائكة على البشر. ولو كانت أرواح الموتى تتصرَّف بهواها لفسد الكون, بل ولهاجت الفتن بين الأرواح. قال: ولو لم يكن في اجتناب ما قيل إنه شرك إلا سدُّ باب الاختلاف بين الأمَّة في هذا الأمر لكان من أعظم القربات عند الله عزَّ وجلَّ. * ثم عقد فصلًا في الشبهات وردِّها, تضمَّن بيان شُبه عُبَّاد الأصنام وعُبَّاد الأشخاص الأحياء, والنصارى في عبادتهم الصليب, وشبهة للنصارى واليهود في شأن الأحبار والرهبان, وشُبه عَبَدَة الملائكة, ثم أجاب الشيخ على هذه الشُّبَه بكلام قويٍّ متين. * ثم عقد فصلًا في السلطان الفاصل بين ما هو عبادة لله وما هو عبادة لغيره. قال: الفرق بين عبادة الله تعالى وعبادة غيره هو السلطان، فكلُّ عبادة
(مقدمة 2/36)
كان عند صاحبها سلطان بها من الله تعالى فهي عبادة لله عزّ وجلّ، وكلُّ عبادة ليست كذلك فهي عبادة لغير الله تعالى، والسلطان هو الحجة، وقد تكون الحجة يقينيَّة وقد تكون ظنيَّة، وفصَّل في أنواع الأدلَّة. ثمَّ ذكر أنَّ القطع بـ «لا إله إلا الله» يستدعي القطع بثلاثة أمور: الأول: أنه لا مدبِّر في الكون استقلالًا إلَّا الله عزّ وجلّ. الأمر الثاني: القطع بأنه لا مستحقَّ للعبادة إلَّا الله عزّ وجلّ. الأمر الثالث: العلم بحقيقة العبادة. * ثمَّ بيّن أن التديُّن بشيء لا دليل عليه، أو عليه دليل باطل, شركٌ. ولا يُستثنى من ذلك المبتدعُ الذي قامت عليه الحجة فأصرّ على التديُّن بها. ونقلَ نقلًا طويلًا عن الشاطبي يوضِّح فيه مقتضى فعل المبتدع وما يلزم من كلامه من لوازم خطيرة. ثم نقل نقلًا آخر طويلًا عن الصارم المسلول, بيَّن فيه حكم مَنْ يكذب على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - . ثم قال: «والحاصل أنَّ السلطان هو الحجة التي يُحتجُّ بها في فروع الفقه. وينبغي للمقلِّد أن يحتاط في مواضع الاختلاف. والقرآن يقسم الكفر إلى ضربين: الكذب على الله، والتكذيب بآياته. والتكذيب قد يكون باللفظ فقط، كمن يقول: إنَّ الله لم يفرض صلاة الظهر، وهو نفسه يصلِّيها, وقد يكون بالفعل فقط كمن ألقى مصحفًا في قاذورة, وقد يكون بالاعتقاد فقط كأن يعتقد أنَّ الله لم يفرض الظهر, وقد يكون بالثلاثة معًا، أو باثنين منها معًا».
(مقدمة 2/37)
* ثم عقد فصلًا تحدَّث فيه عن أحوال مَن يُعذر بالجهل أو الخطأ أو التأويل, والآيات والأحاديث الدَّالَّة على ذلك, وذكر أنَّ مدار العذر على الجهل يكون مع عدم التقصير في النظر. وقال: «مَن رضي بالإسلام دينًا ولو إجمالًا فالأصل فيه أنَّه معذور في خطئه وغلطه, ومَن لم يرض بالإسلام دينًا فالأصل فيه أنَّه غير معذور, ولا يخرج أحدُهما عن أصله إلا ببيان واضح. وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحكم فيمن أسلم أنه على إسلامه, وإن ظهر منه خلاف ذلك, ما لم يتضح أمره». * ثم عقد بابًا في ذكر أمور ورد في الشريعة أنها شرك وأشكل تطبيقها على الشرك, وبدأ بتمهيد أوضح فيه أنَّ كون الشيء سببًا أو علامة قد يكون تديُّنًا، وهو ما يرجع إلى اعتقاد بأمر غيبي, وقد لا يكون تديُّنًا وهو ما يرجع إلى أصل عاديٍّ مبنيٍّ على الحسّ والمشاهدة, وقد يُتردَّد في بعض الظنون: أمن الضرب الأول هو، أم من الثاني؟ * ثم تحدَّث عن الطِّيَرة, وأورد الأحاديث التي تفيد أنها شرك, ثم علَّل ذلك بأنها تديُّن بما لم يشرعه الله؛ لأن المتطيِّر يظنُّ أن الطائر سبب أو علامة, وهذا الظنُّ لا يُعرف له توجيه من الأصول العاديَّة المبنيَّة على الحسّ والمشاهدة, فيكون من قسم التديّن. وجعل الشارع ضابط حصول الظن هو العمل به. قال معاوية بن الحكم: «ومنَّا رجال يتطيَّرون» , فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدَّنّهم». ثم ذكر تفريعات وتفصيلات في العلاقة بين التطير والتفاؤل.
(مقدمة 2/38)
* ثم عقد مبحثًا في الرقى, أورد فيه أحاديث يدل بعضها أن مِن الرقى ما هو شرك, وفي بعضٍ آخر منها الإذن بالرقى. قال: «وتفسير ذلك أنَّ الرُّقى على ثلاثة أضرب: الضرب الأول: الرقية بكتاب الله تعالى وذكره ودعائه اللَّذَين أُذن في مثلهما، فهذا حق وإيمان، ولكن الأولى بالمؤمن ألَّا يسأل غيره أن يرقيَه، كما تقدَّم إيضاحه في الدعاء. الضرب الثاني: ما كان فيه تعظيم لغير الله عزّ وجلّ، فهذا إن كان مما أنزل الله تعالى به سلطانًا فهو كالأوَّل، وإلَّا فهو شرك ... الضرب الثالث: ما كان من الرقى كلمات عربية ليس فيها تعظيم ولا مدح، فإن كان يرى أو يجوِّز أنَّ لتلك الكلمات أثرًا يستند إلى غيبيٍّ كالروحانيين والجنِّ والكواكب ونحوها، فحكمه كالقسم الثاني، والله أعلم. وإن كان لا يجوِّز ذلك ... فالحكم في هذا مشتبه ... والذي أختاره الآن المنعُ من هذا، والله أعلم». * ثم انتقل من ذلك إلى عقد عنوان في التمائم, وبيّن أن التميمة خرزة مخصوصة, وهي ممنوع منها مطلقًا. وقيل: بل كلُّ ما يُعلَّق رجاء للنفع. وأورد آثارًا عن السلف أنهم كانوا يكرهون التمائم كلَّها من القرآن وغير القرآن, وفصَّل آخرون في تعليق ما يُكتب من القرآن والدعاء, فقالوا: إن عُلِّق قبل البلاء فهو تميمة منهيٌّ عنها, وإن عُلِّق بعد البلاء فلا حرج فيه, ونقل عن عائشة ما يدلُّ على ذلك. ومال المؤلف إلى هذا التفصيل بشرط ألّا يكتب إلا ما ثبت من الشرع
(مقدمة 2/39)
التبرك به من القرآن والدعاء الخالي عما لم يأذن به الله تعالى, وبشرط ألّا يتحرَّى شيئًا لا سلطان من الله تعالى على تحرِّيه مِن مكان أو زمان أو هيئة مخصوصة, فإذا تحرَّى شيئًا لم يجئ به سلطان من الله كانت المعاذة في معنى الخرزة. قال: «وعامَّة كتب العزائم والتعاويذ على خلاف الشريعة, وفي كثير منها الكفر البواح والشرك الصُّراح». * ثم عقد فصلًا في التِّوَلة والسحر, أورد فيه حديث ابن مسعودٍ الذي فيه أن التِّوَلة شركٌ, وهي ما يحبِّب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره. فإن تحبَّبت المرأة إلى زوجها بما لم تجر به العادة, بل بما هو مستندٌ إلى قوَّةٍ غيبيَّةٍ ففيه تفصيلٌ؛ فإن جاء سلطانٌ من الله بالإذن فيه فذاك, وإلا فهو من التِّوَلة. وإنما جاء السلطان بالإذن في الدعاء المجرَّد عن البدع والخرافات وفي كلِّ ما هو طاعةٌ لله عزَّ وجلَّ كالصلاة والصيام والصدقة. وكلُّ ما لم يجئ به سلطانٌ فهو من التِّوَلة, وهي شركٌ؛ لأنها تتضمَّن خضوعًا يطلب به نفعٌ غيبيٌّ لم يُنزل الله به سلطانًا, وتتضمَّن طاعةً للشيطان والمعزِّمين والعجائز ونحوهم فيما يطلب به نفعٌ غيبيٌّ ولم ينزل الله تعالى به سلطانًا. ونقل عن ابن حجرٍ الهيتميِّ أنَّ السحر إن اشتمل على عبادة مخلوقٍ أو اعتقاد أنَّ له تأثيرًا بذاته أو تنقيص نبيِّ أو ملَكٍ, أو اعتقد الساحر إباحة السحر بجميع أنواعه, كان كفرًا وردَّةً. ثم عرَّج ابن حجرٍ على بيان مذاهب الأئمَّة في السحر والسحرة. ثم فصَّل المؤلِّف مضامين ما نقله عن ابن حجرٍ وناقشه في بعضه. ثم عقد مبحثًا مطوَّلًا في حكم السحر وتعليمه وتعلُّمه وتوابع ذلك.
(مقدمة 2/40)
ثم انتقل إلى المسألة الأخيرة في هذا الباب الكبير, وهي مسألة القَسَم بغير الله, وأورد الأحاديث الناهية عن الحلف بغير الله وكفارة مَن حلف بغير الله. ومال الشيخ إلى التشديد في هذه المسألة, وأنَّ مَن حلف بغير الله غيرَ جاهلٍ ولا ذاهلٍ أنَّه يخرج من الملَّة, وذكر أنه يؤخذ من تبويب البخاريِّ لهذه المسألة واحتجاجه بحديث عمر «مَن حلف بغير الله فقد أشرك» أنه يرى هذا الرأي. * ثم عقد عنوانًا في حقيقة القَسَم وأنَّ أصل المقصود منه التوكيد اتِّفاقًا, ولذلك سمِّي يمينًا أخذًا من اليمين بمعنى القوَّة, ويمكن أن يكون من اليد اليمين لما جرت به العادة من الصَّفْق باليمين عند المحالفة. * وبيَّن المؤلِّف أن التوكيد في الحلف يستفاد من اعتقاد الحالف ومخاطَبيه في المقسَم به أنه ذو قدرةٍ غيبيَّةٍ, فمعنى الحلف به جَعْلُه كفيلًا وشاهدًا على الحالف بألَّا يُخْلِف ولا يَكْذب. وإنما يثق المحلوف له باليمين لأنه يعلم أن الحالف يُجِلُّ المحلوف به ويخاف سطوته الغيبيَّة, فيبعُد أن يجعله كفيلًا ثم لا يفي له أو شهيدًا على الكذب, وعلى فرض أن الحالف يجترئ على ذلك فالمحلوف به يعاقبه ويوفي المحلوف له حقَّه من عنده. * ثم وجَّه المؤلف لفظ: (وأبيه) أو (وأبيك) الوارد في بعض الأحاديث, ورجَّح أنه مقحمٌ, قال: وكأن الباعث على الإقحام أنَّ واو القسم لا تدخل على الضمير، فتُوُصِّل إليه بإقحام لفظ الأب, وباعثٌ آخر معنويٌّ, وهو تبعيد إيهام التعظيم, فإنه يتوهَّم تعظيم المخاطَبين لأنهم مسلمون,
(مقدمة 2/41)
بخلاف آبائهم المشركين. ثم تعرَّض لتوجيه لفظ: (لعمري) أو (لعمرك) أو (لعمر الله)، وذكر تفاصيل أخرى مهمَّةً. ب- منهج المصنف في كتابه: 1 - بنى منهجه على الاستقراء والتتبُّع، قال في وصفه: «هو كتاب من تأليفي، استقرأت فيه الآيات القرآنية ودلائل السنة والسيرة وغيرها لتحقيق ما هي العبادة، ثم تحقيق ما هو عبادة لله مما هو عبادة لغيره» (1). وفصَّل هذا المنهج الاستقرائي في محاضرة أعدَّها لإلقائها في مؤتمر دائرة المعارف السنوي فقال: «فرأيت أنه لا طريق لتحقيق معنى الكلمتين «إله وعبادة» إلّا بتتبع مواردهما في القرآن مع ما قصَّه عمن أخبر عنهم أنهم اتخذوا الأصنام أو غيرها آلهة, وأستعين مع ذلك بالسنة والتاريخ، فإذا وجدت القرآن قد أخبر عن مشركي العرب أنهم اتخذوا الأصنام آلهة وعبدوها جهدت أن أعرف ماذا كانوا يعتقدون في الأصنام وماذا كانوا يعملون لها، فإذا تيسَّر لي ذلك علمت أن ذلك الاعتقاد والعمل مشتمل على التأليه والعبادة، ثم أَكُرُّ على ذلك بأن أخرج منه ما يُقطع بأنه لا دخل له في ذلك مثل اعتقاد أن الأصنام أحجار، ثم أصنع ذلك في أمَّةٍ أمَّةٍ من الأمم التي قصَّ القرآن بعض أخبارها، وفي كل نوعٍ نوعٍ من الأشياء التي نصَّ القرآن على أنها اتُّخِذت آلهة وعُبدت من دونه، ثم أستخلص القدر المشترك بين الأمم فهو الشرك والعبادة. هذه صورة إجمالية لطريقتي في الكتاب المذكور» (2). _________ (1) «التنكيل» 2/ 435. (2) دفتر مسوَّدات محاضرة ... ص 33 ويحمل الرقم العام 4930 في مكتبة الحرم المكي الشريف.
(مقدمة 2/42)
2 - انتهج فيه اتِّباع الكتاب والسنة دون تقليد لأحد، قال في ختام مقدمته لكتاب العبادة (س 24 ب): «مستقيًا لها من عين الأدلَّة، غير مقلِّد لأحد في هذا الأمر». 3 - مع اهتمامه بنقد بعض القواعد والأصول التي يستند إليها بعض الناس في عقائدهم كالتقليد والحديث الضعيف والكشف والإلهام، حرص على استثمار الأصول العلمية المبنيَّة على المقدِّمات الصحيحة التي تفضي إلى نتائج سليمة فعلًا وتركًا، فقد قال في بيانه للأصل الثاني: «الصراط المستقيم» من نسخة (ب) غير المرقَّمة: «فالأمر بقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} يتضمّن الأمر بلزوم الصراط المستقيم وتعرُّفه بما أمكن من الأسباب، وتجنُّب ما يخالفه، ثم أعلمنا سبحانه أن الصراط المستقيم هو صراط الذين أنعم عليهم، والمُنْعَم عليهم من هذه الأمة يقينًا هم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فكل شيء علمنا أنه من صراط النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فهو من الصراط المستقيم، وكل ما خالف ذلك فهو من السبل المخالفة لسبيله، قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، وفي الحديث: «عليكم بسنتي» ثم قال تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}. إلى أن قال: والحكم بأنَّ هذا الأمر من صراط النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لا بدَّ له من نَقْلٍ ثابت، وأما الحكم بالنفي فيكفيه عدمُ النقل على ما أوضحناه في رسالة «بيان البدعة»، حيث قرَّرنا هذا الأصل مبسوطًا، وإنما نبَّهتُ عليه هنا لأنه قد يجيء في الرسالة الاحتجاج على بعض الأمور بأنها لم تُعْرَف في عهد الصحابة رضي الله عنهم، فإذا رأيت ذلك فينبغي أن تعلم أنه برهان متين لا ينبغي
(مقدمة 2/43)
للمسلم أن يتهاون به قائلًا: (قال فلان من العلماء كذا) أو (قال فلان من الأولياء كذا) ونحو ذلك». 4 - التزم المؤلف في الكتاب الدلالة على مواضع الآيات التي يسوقها، ويخرِّج الأحاديث من دواوين السنة، ويعزو الأقوال إلى مصادرها. * سادسًا: موارد الكتاب بنى المؤلِّف كتابه على جملة كبيرة من كتب أئمَّة العلم، وأحسن توظيفها واستعمالها. فاعتمد في التفسير وعلوم القرآن في المقام الأوَّل على تفسير الطبري، يليه روح المعاني للآلوسي، ثم حواشي الشيخ زاده على تفسير البيضاوي. ورجع إلى الكشَّاف في مواضع قليلة وبخاصَّة في القضايا اللغويَّة، كما استفاد من تفاسير البغوي والبيضاوي وابن كثير وأبي السعود والخازن والبقاعي وطنطاوي جوهري. ونقل من الإمعان في أقسام القرآن للفراهي. واستقى من متون كتب السنة بكثرة كالموطَّأ، والصحيحين، وجامع الترمذي، وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه، ومسند أحمد، ومسند أبي داود الطيالسي، ومستدرك الحاكم، وسنن البيهقي، وسنن الدارمي، والدارقطني، والمصنَّف لابن أبي شيبة، وشرح السنة للبغوي، ومعاجم الطبراني، والحلية لأبي نعيم، ومشكاة المصابيح، وبلوغ المرام للعسقلاني. ومن شروح الحديث: فتح الباري بشرح صحيح البخاري, وشرح مسلم للأبِّيِّ والسنوسي، وفيض القدير شرح الجامع الصغير، والتيسير كلاهما للمناوي, وحواشي ابن ماجه للسندي.
(مقدمة 2/44)
ومن كتب السيرة: سيرة ابن هشام، والدلائل لأبي نعيم، والشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض، والروض الأنف للسهيلي، وشرح الشفا للقاري, والهدي النبوي لابن قيم الجوزية. ومن كتب علوم الحديث والتراجم والتخريج: علوم الحديث لابن الصلاح، وفتح المغيث للسخاوي، وشروط الأئمة الخمسة للحازمي، والقول المسدَّد (في الذَّبِّ عن مسند أحمد) لابن حجر، والضعفاء للعقيلي، وطبقات ابن سعد، والثقات لابن حبان، وميزان الاعتدال للذهبيِّ، ولسان الميزان، وتعجيل المنفعة، وتهذيب التهذيب، والإصابة في تمييز الصحابة، أربعتها لابن حجر العسقلاني، والمقاصد الحسنة للسخاوي، وصفة الصفوة لابن الجوزي، والتلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، وتوالي التأسيس في معالي ابن إدريس، كلاهما لابن حجر العسقلاني. ومن كتب الآداب والأخلاق: مختصر جامع بيان العلم للمحمصاني، والزواجر لابن حجر الهيتمي, والبدور البازغة لولي الله الدهلوي. ومن كتب الفلسفة وغلاة الصوفية: الفتوحات المكِّيَّة لابن عربي الطائيِّ، والذخيرة لعلاء الدين الطوسي، والإنسان الكامل للجيلي، وتنبيه المغترِّين للشعراني. ورجع في متن اللغة وغريب القرآن والحديث والمصطلحات إلى المخصَّص لابن سيده, والمفردات للراغب الأصفهاني, والمصباح المنير للفيُّومي, ولسان العرب لابن منظور, والقاموس المحيط للفيروزابادي, وتاج العروس شرح القاموس للزبيدي, والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير, ودستور العلماء لعبد ربِّ النبي الأحمَد نَكَري.
(مقدمة 2/45)
ورجع إلى مغني اللبيب لابن هشام في الأدوات. ورجع في أصول الفقه إلى: الرسالة للشافعي، والمستصفى للغزالي، والموافقات للشاطبي، وشرح المحلِّي على جمع الجوامع، مع حاشيتي البناني والعطَّار، وإحكام الأحكام للآمدي، وإعلام الموقعين لابن قيم الجوزية. ومن كتب الفقه: الأمُّ للشافعي، والأنوار للأردبيلي، بواسطة الهيتمي، وحواشي الشرواني على التحفة، وإبطال الاستحسان (من الأم)، والمغني (مغني المحتاج إلى معرفة المنهاج) للشربيني، والهداية للمرغيناني، والعناية شرح الهداية للبابرتي، وردُّ المحتار (حاشية ابن عابدين) على الدُّرِّ المختار للحصكفي. ومن كتب السنَّة والاعتقاد وعلم الكلام والأديان والفِرق: نهاية الإقدام للشهرستاني، والنونية لابن القيم، وشرح المقاصد للتفتازاني، وشرح المواقف للسيد الشريف، وشرح جوهرة التوحيد لابن الناظم، وحواشي الأمير على شرح الجوهرة، وحواشي البيجوري على الجوهرة، و (الفصل في) الملل والنحل لابن حزم، وكتاب ابن وضَّاح (البدع)، والصارم المسلول لابن تيمية، نقل عنه نقلًا طويلًا يتعلَّق بحكم الكذب على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، والاعتصام للشاطبي، والملل والنحل للشهرستاني، والمواقف للعضد الإيجي، وحاشية حسن جلبي على المواقف، وسِفر التكوين من أسفار التوراة. هذه هي أهمُّ الكتب التي نهل منها وانتفع بها، أو ناقش مؤلفيها ولا يلزم من النقل عن بعض تلك الكتب تزكية لها، بل قد يكون ذلك للرَّدِّ على ما
(مقدمة 2/46)
ينقله، أو إقامة الحجَّة على مَن يعظِّم أصحاب تلك الكتب إذا نقل منها ما يؤيِّد الحقَّ. * سابعًا: طبعات الكتاب: للكتاب طبعتان فيما علمتُ: 1 ــ طُبع مائة صفحة من أوَّل مخطوطة الكتاب عام 1423 هـ عن المكتبة العصريَّة بتحقيق الداني بن منير آل زهوي، وبذل فيه جهدًا مشكورًا في التخريج والتوثيق، ولم تتيسَّرْ له القراءة الصحيحة للنصِّ في بعض المواضع، ومن أمثلة ذلك: thالصفحة /thth السطر /thth المخطوطة /thth الخطأ /thth الصواب/th 51 ... 9 ... ... فالأمر في هذا ربما يستغرب ... بالقاف لا بالغين، وهي واضحة في المخطوط، والمعنى لا يستقيم بهذا التصحيف. 64 ... 1 ... ... ما يُعلم منه أن الضمائر على. . . ... ما يُعلم منه أن الضمائر للملائكة 64 ... 7 ... ... بعد نقل تبويبٍ بوَّبه البخاري: (ففي صحيحه إشارة واضحة) ... ففي صنيعه إشارة واضحة. 64 ... 8 ... ... الإنكار ... إلى الملائكة 64 ... 9 ... ... سقط ما في خانة الصواب ... ورأيتُ في بعض تعاليقي نَقْلَ مِثل قولِ مقاتل عن ابن عباس رضي الله عنه، ولم أستحضر الآن من أين نقلته.
(مقدمة 2/47)
thالصفحة /thth السطر /thth المخطوطة /thth الخطأ /thth الصواب/th 115 ... 3 ... ... في تصديقها إلَّا ناله ما يكره ... في صحتها إلَّا ناله بما يكره 144 ... 4 ... ... نقول لمن لا يقدر لنا على ضر ... نَذِلُّ لمن لا يقدر لنا على ضرٍّ 2 - طبعة دار العاصمة لكتاب «العبادة»: اشتريت هذه الطبعة يوم الأربعاء الموافق 11/ 4/1432 هـ بعد أن صحَّحتُ تجربتين للكتاب وخدمتُه خدمة يسيرة، وعملتُ له فهارس ومقدِّمة لم تُحرَّرْ، فتصفَّحتُه فعرفتُ أنه نَشْر للدفاتر الأربعة المعروفة منذ أكثر من ربع قرن عند المهتمِّين بتراث المعلِّمي. وقد كان اشتهر عند طلبة العلم أنَّ الكتاب تنقصه ثلاثة دفاتر تلي الدفتر الأوَّل، وكانت هذه المعلومة دقيقة وصحيحة، وكان ذلك من أسباب عزوف أهل العلم وطلبة الدراسات العليا عن القيام بتحقيقه للنقص الكبير فيه. قام بتحقيق هذه الطبعة الشبراوي بن أبي المعاطي وقدَّم له الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن السعد. وهذه الطبعة جيِّدة، لولا ما شابها من الدعوى العريضة أنَّه يُطبع لأوَّل مرَّة كاملًا. بالإضافة إلى ملاحظات أخرى سأذكرها بعد مناقشة دعوى طبع الكتاب كاملًا. والدليل المقدَّم على طبعه كاملًا ما قاله المحقِّق في حاشية ص 77 أثناء
(مقدمة 2/48)
وصفه للنسخة الخطِّية للكتاب: «سقط من ص 91 - 397، وذلك عند ما تكلَّم الشيخ المعلمي على الحديث الضعيف، وهذا الجزء استلَّه الشيخ رحمه الله من الكتاب، وجعله في جزء مفرد، وذلك لأنَّ الشيخ توسَّع في هذا المبحث جدًّا»، ثم قوَّى حجَّته بما نقله عن المؤلف من قوله في رسالة (بيان البدعة): «فإني ألَّفت رسالة في «رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله، وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله»، ونبهتُ في مقدِّمتها على الأمور التي يحتجُّ بها الناس ويستندون إليها وهي غير صالحة، فجاء في ضمن ذلك الحديث الضعيف، فرأيت الكلام فيه يطول، فأفردتُه في رسالة» إلى آخر ما نقله من كلامٍ آخر لا تعلُّق له بمسألتنا. والظاهر أنَّ المحقِّق يفهم من إفراد أحكام الحديث الضعيف برسالة خاصَّة أنَّ ذلك استلالٌ لها من الكتاب، وليس ذلك بلازم؛ فإن المؤلِّف بصدد الكلام على أمور يستند إليها بعض الناس وهي ليست صالحة للاستناد، فذكر منها التقليد، والرأي المجرد، وتفسير الكتاب والسنة بغير علم، والرؤى والمنامات، والكشف، وخوارق العادات، والحديث الضعيف، وقد فصَّل في حكم الحديث الضعيف بما يناسب المقام فكتب فيه تسع صفحات بحسب المطبوع، فكيف يقال: إنه استلَّ هذا الجزء؟ وكونه ذَكَر في كتابٍ آخر له أنه أراد إفراد هذا المبحث بتأليف مستقلٍّ لا يُسوِّغ لنا دعوى أنَّ ثلاثمائة الصفحة المفقودة من الكتاب كلُّها في الحديث الضعيف، وأنَّ المؤلف استلَّها وجعلها هي نفسها كتابًا آخر، كيف والجزء المُدَّعى استلالُه قد وصلت إلينا مخطوطته، وهي لا تكاد تزيد على ثمانين صفحة إن سَلِمتْ من التكرار.
(مقدمة 2/49)
وتأمَّلْ أيُّها القارئ مقدِّمة رسالة العمل بالحديث الضعيف لترى هل هي رسالة مستقلَّة أو هي مستلَّة من كتاب العبادة: «بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد: فهذه رسالة في أحكام الحديث الضعيف، جمعتها لما رأيت ما وقع للمتأخرين من الاضطراب فيه، فنسب بعضهم إلى كبار الأئمة الاحتجاج به، ونسب غيره إلى الإجماع استحباب العمل به في فضائل الأعمال ونحوها، وتوسع كثير من الناس في العمل به حتى بنوا عليه كثيرًا من المحدثات وأكدوا العمل بها، وحافظوا عليها أبلغ جدًّا من محافظتهم على السنن الثابتات، بل والفرائض القطعيات، بل كثيرًا ما بنوا عليه عقائد مخالفة للبراهين القطعية من الكتاب والسنة والمعقول، ولم يقتصروا على الضعاف بل تناولوا الموضوعات، وأنكر جماعة جواز العمل بالضعيف مطلقًا، .... ومن المانعين القاضي أبو بكر بن العربي والمحقق الشاطبي صاحب كتاب الموافقات في أصول الفقه وغيره. ثم نصَّ بعض الفقهاء الشافعية كالزركشي في مقدمة «الذهب الإبريز» (1) والخطيب الشربيني في شرح المنهاج، أنَّ العمل بالضعيف في الفضائل جائز فقط، لا مستحب، وردَّه بعضهم كابن قاسم في حواشيه على التحفة، وأثبت الاستحباب. _________ (1) في تخريج أحاديث العزيز، والعزيز هو الشرح الكبير للرافعي على الوجيز للغزالي.
(مقدمة 2/50)
هذا، وقد نصَّ النووي نفسه في كتاب الأذكار على الاستحباب. واستشكل جماعة القول بالجواز أو الاستحباب مع الإجماع على أن الضعيف لا يثبت به حكم، والجوازُ والاستحبابُ من الأحكام الخمسة. وأُجيبَ من طرف القائلين بالجواز والاستحباب بأجوبة عامَّتُها من قبيل ما عُرف في الجدليَّات من المطاولة، وتشتيت ذهن الناظر ليقنع بالتقليد الصِّرف. وتلك المطاولة هي التي ألجأتني إلى تأليف رسالة مستقلَّة، وذلك أنني ألَّفت كتابًا نبَّهت في مقدمته على الأمور التي يسلكها كثير من المتأخرين في الاحتجاج وهي غير صالحة لذلك، وذكرتُ مِن جملتها العمل بالضعيف وحاولت أن أحقِّق الكلام فيه، فطال الكلام جدًّا، قبل أن أستوفي البحث كما أحبُّ، فآثرت إفراده برسالة مستقلة» (1). فقد قال المؤلِّف عن الرسالة: «جمعتها لما رأيت ما وقع للمتأخرين من الاضطراب فيه»، ولم يقل: استللتها، ولا قال: إنها كانت في الأصل من كتاب العبادة ثم أفردتُها منه، وإنما آثر إفراد الحديث الضعيف برسالة مستقلَّة لحاجة مباحثه إلى التطويل الذي لا يتناسب مع موضوع رسالة العبادة. وقد قال المؤلف في ص 249 من كتاب العبادة بعد ذكره كلامًا مقتضبًا حول العمل بالحديث الضعيف: «وقد حقَّقت هذا البحث في رسالة مستقلة». أفيعقل أن يقول المؤلف هذا الكلام هنا ثم يأتي بعد نحو خمسين صفحة فيكتب ثلاثمائة صفحة في الحديث الضعيف ثم يستلُّها كما زعم المحقق؟ وأمرٌ آخر يدلُّ على تهافت دعوى الاستلال وهو: أنَّ تسلسل المعاني مفقود بين ما وقف عنده الكلام في الدفتر الأوَّل وبين ما بدأ به الكلامُ في _________ (1) انظر: رسالة العمل بالحديث الضعيف.
(مقدمة 2/51)
الدفتر الخامس. فقد كان الكلام في الحديث الضعيف ثم تحوَّل فجأة إلى كلام يتعلَّق بـ «عبادة الأحبار والرهبان» أو «كفر اليهود والنصارى»، بدايته: «يجيء في القرآن بهذا المعنى أنَّ المراد الرؤساء الذين يطيعونهم ويتديَّنون بما يخترعون لهم» إلى آخر هذا المبحث الذي بقيتْ منه ثلاث صفحات (1). وأمرٌ ثالث يدلُّ على عدم صحة ما ادَّعاه المحقِّق من الاستلال، وهو إحالات المؤلف على صفحات معيَّنة من الصفحات المفقودة، وما يحيله المؤلِّف معانٍ ومباحثُ لا علاقة لها بالحديث الضعيف. انظر مثلًا ص 286 من مطبوعة دار العاصمة وص 397 من المخطوط (ص 659 من طبعتنا) قولَ المؤلف: «وقد مرَّ قول الزجاج فيما نقله ابن هشام [في] المغني أنَّ المعنى في قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151] قال: «الأصل: أبيِّن لكم لئلا تشركوا، وذلك لأنهم إذا حرَّم عليهم رؤساؤهم ما أحلَّه الله سبحانه وتعالى فأطاعوهم أشركوا؛ لأنهم جعلوا غير الله بمنزلته». وقد وضع المؤلِّف الرقم (1) على قوله: «مرّ»، وكتب في الحاشية 326؛ إحالة على تلك الصفحة من كتابه. وهذا النقل لا يمتُّ إلى بحث الحديث الضعيف بصلة، ولم نعثر عليه كذلك في مخطوطة العمل بالحديث الضعيف, لكنه موجود عندنا في هذه الطبعة (ص 598) , وهو من الدفتر الرابع الذي أعثرني الله عليه. وانظر أيضًا في ص 342 من مطبوعة دار العاصمة و 460 من المخطوط قول المؤلف: _________ (1) هذا قبل اكتشاف الدفتر الرابع.
(مقدمة 2/52)
«وقد أدحض الله تعالى شبهة هؤلاء، وبرهن على بطلان ما زعموه بقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وقد تقدَّم إيضاح ذلك فارجع إليه»، وكتب المؤلف إحالة على ص 129 - 130. وطالِعْ في ص 365 من مطبوعة دار العاصمة و (480 و) من المخطوط قولَ المؤلف: «ومما يوافق ما تقدَّم أيضًا ما مرَّ في الكلام على آيات النجم». وأحال المؤلِّف في الحاشية على ص 287 من كتابه. وانظر مثالًا رابعًا في ص 387 من طبعة دار العاصمة وص 496 من المخطوط قول المؤلف: «كما قدَّمناه في الكلام على قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}، وأحال المؤلف في الهامش على ص 125 من كتابه. وهذه الإحالات الأربع بالصفحات حذفها المحقِّق، وكذلك حذف غيرها (1) مما لم أذكره هنا، وهناك إحالات أخرى لم يحدِّد المؤلِّف صفحاتها (2)، وقد كان ينبغي أن تنبِّهه هذه الإحالات إلى طبيعة الصفحات الساقطة وحقيقتها، وأنها ليست في الحديث الضعيف، وستجد هذه الإحالات في مواضعها من طبعتنا هذه كما حدّدها المؤلف، ما عدا الموضع الثالث, فسقط بذلك ما طُرِّز على غلاف طبعة دار العاصمة من أنَّ الكتاب _________ (1) كما في ص 391 من طبعة دار العاصمة وص 499 من المخطوط. (2) كما في ص 368 من طبعة دار العاصمة، وص 480 ط من المخطوط من قوله: «وقد مرَّ الكلام على هذه الآيات في الكلام على تفسير تأليه المسيح»، وقد وجدت ذلك في ص 383 فما بعدها بعد أن وضع لها عنوانًا فرعيًّا خاصًّا بها. وفي ص 333 من طبعة دار العاصمة، وص 451 من المخطوط «وقد مضى طرف من هذا في شأن قوم نوح». وانظر ذلك في ص (س 54/ب) من رسالة العبادة. ومن المواضع أيضًا ص 361.
(مقدمة 2/53)
«يُطبع لأول مرة كاملًا». ملاحظات أخرى على طبعة دار العاصمة: من الملاحظات: وقوع بعض السقط في الطبعة. انظر ص 514 - 515 من طبعة دار العاصمة، وص 617 من المخطوط (ص 892 - 893 من طبعتنا) فقد سقطت ثلاث حواشٍ مهمة للمؤلف. وفي ص 227 من طبعة دار العاصمة: «فوجدته الولاية»، صوابه: «فوجدته اعتقاد الولاية»، كما في المخطوط ص 56. وفي ص 217 من طبعة دار العاصمة، : «بحديث الطائفة وغيره»، صوابه: «بحديث الطائفة وغيره مما مرَّ» , كما في ص 50 من المخطوط. وسقط الكلام الآتي «لقلنا: المسلمون إنما يكرمون من يظنّون به الصلاح» من السطر الرابع من ص 457 من طبعة دار العاصمة، وهو في المخطوط ص 570. وفي ص 248 من طبعة دار العاصمة: «عنها لمن يصعق» , صوابه: «عنهما وغيرهما من قولهم لمن يصعق» كما في ص 74 من المخطوط. وفي ص 370 من طبعة دار العاصمة: «آيات القرآن في أن آدم»، صوابه: «آيات القرآن ظاهرة في أن آدم» كما في ملحق ص 481 من المخطوط. وفي ص 270 س 11 من طبعة دار العاصمة: «ولكن ليس المراد»، صوابه: «ولكن قد تقدَّم عن يوسف بن أسباط تفسير التواضع. وليس المراد» كما في ص 81 من المخطوط. وفي ص 659 من طبعة دار العاصمة: «فإذا وقع بغير الله عزَّ وجلَّ كان
(مقدمة 2/54)
مما أنزل الله تعالى به سلطانًا بأنه عبادة لله عزَّ وجلَّ، فهو عبادة للمحلوف به، فكيف والمحلوف به يستحقُّ هذا التعظيم». صوابه كما في آخر ص 737 من المخطوط: «فإذا وقع بغير الله عزَّ وجلَّ فإن كان مما أنزل الله تعالى به سلطانًا فهو عبادة لله عزَّ وجلَّ وإلَّا فهو عبادة للمحلوف به، فكيف والمحلوف به لا يستحقُّ هذا التعظيم». وسقط على المحقق صفحتان كاملتان من المخطوط هما 740 و 741. ومنها: الإخلال بترتيب بعض فقرات الكتاب: انظر ص 227 من طبعة دار العاصمة، وص 57 من المخطوط (ص 243 - 244 من طبعتنا): جعل المحقق بداية صفحة المخطوط: «اعلم أولا أنني بحمد الله ... » إلى قوله: «وهو أبعد الناس عنهم». ثم أعقبها بفقرة «فصل: واعلم أن الباعث على تقليد الصوفية». إلى قوله: «فأقول مستعينًا بالله: اعلم أن الخوارق المنقولة ... » إلخ. والصواب: أنَّ بداية الصفحة هي الفقرة المؤخرة عند المحقق، التي تبدأ بـ «فصل»، ثم يأتي بعد قوله: «فأقول مستعينًا بالله» فقرةُ: «اعلم أوَّلًا أنني بحمد الله»، ثم فقرة: «ثم اعلم أن الخوارق المنقولة ... ». ومن التحريفات والتصحيفات والأسقاط والتطبيعات: thالصفحة /thth السطر /thth المخطوطة /thth الخطأ /thth الصواب/th 226 ... ... 65 ... اعتقادهم نية الصلاح ... اعتقادهم فينا الصلاح 229 ... ... 58 ... اخترعها متبوعوهم ... في الأصل: متبعوهم، وفي نسخة (ب): تابعوهم
(مقدمة 2/55)
thالصفحة /thth السطر /thth المخطوطة /thth الخطأ /thth الصواب/th 223 ... ... 52 ... عبد الواحد بن زيد البصري ... القاصّ، بدل البصري 217 ... ... 49 ... بنقله عن زيد جماعة ... ينقله عن زيد جماعة 217 ... ... 50 ... لا يخرج ... لا مخرج 210 ... ... 47 ... مما لا مجال للرأي فيه ... مما لا يقال بالرأي 243 ... ... 70 ... يتجه ... نتيجة 243 ... ... 70 ... دين ... بدين 247 ... ... 73 ... فيه وبال عليه ... فهي وبال عليه 247 ... ... 74 ... مرتبة السحر الحال ... مرتبة السحر العال. وانظر معنى ذلك في طبعتنا ص 263. 167 ... 4 ... 20 ... وسلم «عليم حليم» ... وسلم في آخرها «عليم حليم» 171 ... 16 ... ملحق 22 ... وقع في الحرام ... ضرب عليها المؤلف في الأصل. 160 ... الحاشية ... 15 ... قال في الشرح (3674): إسناد حسن. وزعم وضعه الصغاني. حسب نسخة (أ) ... قال في الشرح: بإسناد حسن، وزَعْمُ وَضْعِهِ رُدَّ. انتهى. والذي أوقعه في هذا الخطأ هو ظنه أن الشرح هو فيض القدير، فعدَّل كلام المؤلِّف على ضوء ما استخلصه من فيض القدير. والحقيقة أنَّ الشرح: هو التيسير بشرح الجامع الصغير 1/ 1002.
(مقدمة 2/56)
thالصفحة /thth السطر /thth المخطوطة /thth الخطأ /thth الصواب/th 298 ... 12 ... 411 ... تقدير الأمر ... تقدير الصور 303 ... 8 ... 418 ... وارجع إلى ... وارجع بنا إلى 304 ... 14 ... 419 ... والملائكة يعلمون ... والملائكة يعملون 305 ... 13 ... 420 ... الخلف يتأولنه ... الخلف يتأولونه 330 ... 4 ... 448 ... مواجهة له، ومعرفة به ... ومواجهته له، ومعرفته به 331 ... 1 ... 449 ... أنه رسول ... أنه رسول الله 331 ... 3 ... 449 ... فشبهة لأهل الجهل ... فشنشنة لأهل الجهل 332 ... 6 ... 451 ... متكئ على ... متكئا على 332 ... 7 ... 451 ... أهبة ... آهبة بالمدِّ كما ضبطها الشيخ، وإن كان ضبط المحقق ليس خطأ، لكن ينبغي احترام رأي الشيخ. 332 ... 8 ... 451 ... والروم وسع ... والروم قد وسع 332 ... 10 ... 451 ... أولئك ... إن أولئك
(مقدمة 2/57)
thالصفحة /thth السطر /thth المخطوطة /thth الخطأ /thth الصواب/th 332 ... 16 ... 451 ... أُفَيْقٌ ... أَفِيْقٌ بوزن عظيم كما اتفق عليه شُرَّاح الحديث: النووي، وابن حجر، والعيني، ولم أجد في المعاجم إلا ما يوافق ذلك. 333 ... 8 ... 451 ... لذو وجد ... لذو حظ 334 ... 11 ... 452 ... قدرة تزيله ... قدرة تزيد 344 ... 6 ... 462 ... الحكيم ... العليم 358 ... 13 ... 478 ... يشرعوه ... يشرعون 358 ... 16 ... 478 ... ومن طاعة ... ومنه طاعة 354 ... الحاشية ... 474 ... البخاري ومسلم ... البخاري ومسلم بنحوه 364 ... 2 ... 480 هـ ... ثابتا ... ثباتا 364 ... 7 ... 480 هـ ... إنما يرجع إلى الاعتقاد ولا يتغير ... أن ما يرجع إلى الاعتقاد لا يتغير 366 ... 15 ... 480 ز ... خضوع لغير الله ... كأنها تشريك له مع الله 370 ... 13 ... 481 ملحق ... آيات القرآن في أن آدم ... آيات القرآن ظاهرة في أن آدم 375 ... 9 ... 483 ... لا يقرب ... أنه لا يقرب 418 ... 1 ... 530 ... وكذلك سؤال ... ولا كذلك سؤال
(مقدمة 2/58)
thالصفحة /thth السطر /thth المخطوطة /thth الخطأ /thth الصواب/th 426 ... 2 ... 540 ... عن المنبر، هو واضح ... عن المنبر، كما هو واضح 428 ... 12 ... 543 ... فالمصلي يعلم أنه ... فالمصلي يقول 430 ... 8 ... 544 ... وإلى المشتكى ... وإلى الله المشتكى 432 ... 3 ... 546 ... حق، كأنه ... حتى كأنه 441 ... 17 ... 554 ... تكون تلك الخصوصية ... تكون تلك خصوصية 450 ... 3 ... 563 ... يا ملائكة ... يا ملائكتي 453 ... بين 3 و 4 ... 567 ... سقط من هنا ملحق ص 567 من المخطوط، وتحوَّل إلى ص 455 ... وَضْعُ الملحق بين السطر 3 والسطر 4 من ص 453 469 ... 11 ... 583 ... يوهما أن القصة ... توهَّما أن القصة 597 ... 12 ... 688 ... كالتزين والتذلل ... كالتزين والتدلُّل 536 ... الحاشية ... 634 ... البخاري (1292) ... هذا الرقم ليس هو الذي يريده المؤلف، ولو رجع إلى الطبعة التي نقل منها المؤلف لما وقع في هذا الخطأ؛ لأن الحديث ورد في البخاري خمس مرات، فاختار المحقق أول موضع، والمؤلف يريد الموضع الأخير.
(مقدمة 2/59)
thالصفحة /thth السطر /thth المخطوطة /thth الخطأ /thth الصواب/th 257 ... 15 ... 80 ... لرسول (يوحى إليه مع ملك وحفظة) ... ما بعد «لرسول» ليس في النسخة 257 - 258 ... 16 ... 80 ... وليسوا في ذلك كالأنبياء ... لا توجد هذه الزيادة في المخطوط 261 ... 9 ... 81 ب ... في الطبقات ... في ترجمة ابن عمر من الطبقات ولا أبرئ عملي من الخطأ والنقصان، وأستغفر الله من كلِّ خطأ، وأرى أن عملي يتميَّز بمحاولة تكميل النقص الذي طال انتظارُ إتمامه. وأيضًا: الإضافات المأخوذة من نسخة (ب) مما زاده المؤلِّف على المبيَّضة الأولى المشهورة عند طلبة العلم. * ثامنًا: وصف النُّسَخ الخطِّيَّة: النسخة الأولى: (أجزاء مفرقة من كتاب العبادة) محفوظة بمكتبة الحرم المكِّيِّ بالرقم العامّ 4781. وعدد أوراقها 445 مع زيادة عدة صفحات هي ملاحق، وهي عبارة عن أربعة دفاتر، كلُّ دفتر نحو مئة صفحة. مقاسها: 20×15 سم. مسطرتها: ما بين 14 - 16 سطرًا في كلِّ صفحة.
(مقدمة 2/60)
وخطها واضح جميل, وهي بخط أحد النسّاخ في الأغلب, ثم راجعها المؤلف فصحّح وأضاف, وألحق سطورًا بل صفحات كاملة بخطه المعروف. وعليها ضرب في بعض المواضع. وبها نقص من ص 93 إلى ص 396. وقد رمزت لها بالحرف (أ). النسخة الثانية: (أوراق مفرَّقة أغلبها في العقيدة وفنون مختلفة) محفوظة بمكتبة الحرم المكِّيِّ بالرقم العامّ 4249 (منوَّعات). عدد أوراقها 95 ورقة، من ص 85 إلى 180 مقاسها: مثل السابق. مسطرتها: 15 سطرًا في كلِّ صفحة. وهي بخط المؤلِّف، وعليها تصويبات وإلحاقات، غير أنها أقلُّ مما في الدفتر الأول. ولا تحتاج إلى أن يُرْمز لها برمز لأنها الدفتر الثاني، وهي في مكانها الطبيعي، والصفحات متسلسلة. النسخة الثالثة: الدفتر الرابع من دفاتر مخطوط العبادة، محفوظ في مكتبة الحرم المكِّيِّ بالرقم العامّ 4937. وعدد صفحاتها 108، تبدأ من ص 289، وتنتهي بـ ص 396. وهي كذلك لا تحتاج إلى أن يرمز لها برمز؛ لأنها في موضعها الطبيعي. والصفحات متسلسلة حتى تتصل بالدفتر الخامس الذي يبدأ بـ ص 397. وهي بخط المؤلف.
(مقدمة 2/61)
النسخة الرابعة: (كتاب العبادة) محفوظة بمكتبة الحرم المكِّيِّ بالرقم العامّ 4689. وعدد أوراقها 220 ورقة، والصفحات الأولى مطابقة تقريبًا للنسخة المشهورة لكتاب العبادة مع زيادات تقلُّ أو تكثر أحيانًا. مقاسها: 32×20 سم. مسطرتها: 25 - 29 سطرًا. وهي في مجلَّد كبير، مشوَّشة الأوراق، ولم تُرَقَّم. وهي بخط المؤلف. وفيها عدَّة صفحات من نصوص الدفتر الأول، وشيء من الأصل الثاني: «الحجج والشبهات» الذي عندنا، وأصول أخرى لم نجدها في قطعة (ز) ولا في نسخة (أ)، وكثير من فصل حكم الجهل والغلط، وصفحات من محتوى الدفترين الثاني والثالث، وطغى عليها ما يتعلَّق بالرياضة الصوفية، والخوارق، والغرائب. وقد رمزت لها بالحرف (ب). النسخة الخامسة: قطعة مؤلَّفة من ثلاث رسائل بحسب الفهرسة في مكتبة الحرم المكي. عنوان الأولى: (أصول ينبغي تقديمها)، وعنوان الثانية: (معنى قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا})، وعنوان الثالثة: (رسالة في العقيدة). ثلاثتها محفوظة بمكتبة الحرم المكِّيِّ بالأرقام العامَّة (4679، و 4655، و 4672). والحقيقة أنها قطعة واحدة من كتاب العبادة, دل على ذلك الترقيم المتتابع (1 - 52) , وترابط الكلام, وحجم الورق. وعدد أوراقها 53 ورقة من القطع الكبير، وهذه القطع الثلاث مرقَّمة
(مقدمة 2/62)
بترقيم المؤلِّف من ص 1 إلى ص 52، وهي مبيَّضة تبييضًا نهائيًّا. وقد وضعتُها في موضعها الذي حدَّده المؤلِّف، كما بَيّنته في فقرة «الطريقة التي سلكتها في تكميل النقص» ص 64 وما بعدها. مقاسها: 34×21 سم. مسطرتها: الأولى والثانية: 30 سطرًا، والثالثة مختلفة الأسطر. وأغلب الظن أنها بخط المؤلف. وقد رمزت لها بالحرف (ز) النسخة السادسة: (رسالة في معنى كلمة التوحيد) محفوظة بمكتبة الحرم المكِّيِّ بالرقم العامّ 4713. عدد صفحاتها: مئة وأربع عشرة صفحة. مقاسها: 15×9 سم. مسطرتها: 15 سطرًا مع تفاوت يسير يقع بينها أحيانًا. وهذه النسخة تمثِّل نصف الكتاب تقريبًا في مرحلته الأولى. وأغلب الظنِّ أنها المسوَّدة الأولى للكتاب. وهي بخط المؤلف. وترتيب الأوراق مشوَّش تشويشًا كبيرًا، فبينا ترى الكلام يتَّجه اتِّجاهًا مستقيمًا إذا به يرجع القهقرى عدَّة صفحات، وكتب المؤلِّف كثيرًا من الكلام بين السطور بالخط الأحمر. واستفدتُ منها فائدة كبيرة في تكميل النقص الحاصل في الكتاب بسبب الدفتر الثالث الذي لم أعثر عليه بعد. وقد رمزتُ لها بالحرف (س). النسخة السابعة: دفتر صغير لم يفهرس بعدُ، مقاساته ومسطرته مثل السابق، ويغلب على ظني أنه يأتي بعد الدفتر السابق. وقد كتب كله بحبر
(مقدمة 2/63)
أحمر, وفيه مادة من الدفترين الثالث والرابع. والنسخة بخط المؤلف. وقد رمزت لها بالحرف (س) أيضًا، إلا أن ترقيمه يبدأ من حيث انتهى الدفتر الذي قبله. النسخة الثامنة: (رسالة في الكلام في الحكم بغير ما أنزل الله، وتفسير آية {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الآية) محفوظة بمكتبة الحرم المكِّيِّ بالرقم العامّ 4658/ 8. وهي صفحة واحدة. مقاسها: 20×16 سم. مسطرتها: 16 سطرًا. وهي بخط المؤلف. ولهذه الصفحة صلة بتفسير عبادة الأحبار والرهبان .. * تاسعًا: الطريقة التي سلكتها في تكملة نقص الكتاب: قد عُلم مما سبق النقصُ الكبير الذي وقع في نسخة (أ)، ولا بدَّ لمن أراد تكميل نقص الكتاب أن يعرف ترتيب الكتاب وبناءه، وأفضل طريق لمعرفة ما نقص من نسخة (أ) ومعرفة ترتيب الكتاب هو تتبُّع إشارات المؤلِّف وإحالاته فهي التي تحدِّد لك الموضوعات التي تناولها مع ترتيبها عنده. فخذ مثالًا على ذلك قوله في ص 115 من نسخة (أ) أثناء كلامه على تفسير لفظ (إله) في كتب العقائد: «وسيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح ذلك مفصَّلًا في الكلام على شرك قوم نوح، وقوم إبراهيم، وقوم هود، وقوم صالح، والمصريِّين في عهد إبراهيم، ثم في عهد يوسف، ثم في عهد موسى».
(مقدمة 2/64)
والكلام على شرك قوم نوح وقوم إبراهيم وقوم هود وقوم صالح لا تجده في نسخة (أ)؛ لأنه فُقد منها الدفتر الثالث، ولكنك واجدٌ ذلك في نسخة (س) التي تسلسل الكلام فيها من أول الكتاب إلى شرك المصريِّين وموضوعات أخرى، والكلام على شرك المصريِّين موجود في نسخة (أ)، فيسهِّل عليك ذلك معرفةَ تسلسُل الكتاب. وقال أيضًا في ص 34 من المخطوط: «وستعلم عند تحقيق معنى الإله والعبادة أنَّ معرفة المعنى ... »، وكرَّر هذه الإشارات في مواضع أخرى. وتحليل لفظَي الإله والعبادة من حيث اللغة والمعنى وكلام أهل العلم في ذلك وتحقيق شأنهما ليس موجودًا في نسخة (أ)، ولكن تجده في أواخر الدفتر الثاني وتكملته في نسختي (ب) و (س)، ثم تجد في الدفتر الخامس تحرير العبارة في تعريف العبادة. وبيان الطريق التي سلكتها في تكملة النقص وترتيب القِطَع في صُلْب الكتاب على النحو التالي: أوَّلًا: نسخة (ب) من كتاب العبادة. بالرقم 4689. وهي تمثِّل المرحلة الأخيرة من تأليف كتاب العبادة، وفيها زيادات في صُلْب المتن في حين هي ملاحق في حواشي نسخة (أ) المشهورة عند طلبة العلم، ويُعلم ذلك بالمقارنة بينهما. ومن الأدلَّة على تأخُّر نسخة (ب) عن نسخة الأصل إحالة المؤلِّف في نسخة (ب) على نسخة الأصل، انظر: مثلًا: قوله في ص 104 بترقيمي: وأما الخوارق فاعلم أن الخوارق ...... وكتب المؤلِّف فوق النُّقَط عبارة
(مقدمة 2/65)
«دفتر صغير ص 57»، كأنه يقول: أكمل من هناك، ويعدُّها مادَّة جاهزة يستفاد منها في هذه النسخة المتأخرِّة بدل كتابة الكلام مرَّة أخرى. وقال في ص 105 من نسخة (ب) بترقيمي: «وقد يكون الشيخ» وكتب بعدها فوق السطر ص 59 - 77، إشارة إلى ما في ص 59 من نسخة (أ) من قوله: «وقد يكون الشيخ المنسوب إليه الخارق خيِّرًا في نفسه، ولكنه ابتُلِي بأولاد وأتباع يحبون أن يأكلوا بسببه الدنيا فيخترعون الخوارق، ويدّعونها له ويلبِّسون على الشيخ نفسه ... ». فاعتمدت على هذه النسخة ــ نسخة (ب) من أوَّل الرسالة إلى أثناء ص 27 من هذه النسخة بترقيمي، وهي تقابل ص 34 من نسخة (أ)، وإنما فعلتُ ذلك لأنه ترجَّح عندي بقرائن كثيرة أنها نسخة محرَّرة مزيدة بعد نسخة (أ)، ونسخة (أ) مضمَّنة في نسخة (ب)، فلم أر فائدة في إثقال الحواشي بذكر فروق النسخ بينهما. وقد أثبتُ بداية صفحات كلتا النسختين، وميزت أرقام صفحات نسخة (ب) بوضع هذا الرمز أمام الرقم. وأخذتُ من هذه النسخة أيضًا ثلاث صفحات غير مرقمة، هي «فصل في تفسير أهل العلم للعبادة» الذي يقع فاصلًا بين نهاية الدفتر الثاني وبداية نسخة (س). ثانيًا: رسالة «أصول ينبغي تقديمها» (1). بالرقم 4679. ثالثا: رسالة في معنى قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} _________ (1) وهذه التسمية وما سيأتي بحسب ما كُتب عليها في فهرس مكتبة الحرم المكي الشريف.
(مقدمة 2/66)
بالرقم 4655. رابعًا: رسالة في العقيدة، ناقصة الأخير. بالرقم 4672. وهذه القِطع الثلاث أعانني الله على اكتشاف تسلسُلها وكونها تمثِّل قطعة واحدة. فرسالة «أصول ينبغي تقديمها» وُجِدت بخطِّ المؤلِّف بعنوان «باب في أصول ينبغي تقديمها»، وهي ثلاثة أصول، ولما انتهى من الأصل الثاني كتب: الأصل الثالث: حكم الجهل والغلط، وكتب عدّة أسطر، ثم ضرب على هذا الأصل مع الأسطر التي تحته، لكنه كتب في موضع آخر عنوان «حكم الجهل والغلط» وأعاد كتابة الأسطر التي ضرب عليها من قبلُ بعد كتابة عنوان «فصل» في آخر الأصول الثلاثة، وقد استوفى في هذا الفصل الكلام على حكم الجهل والغلط، ولعلَّه لم يجعلْه أصلًا من الأصول لطوله. لكنَّ المفهرسين جعلوا «الأصول» رسالة مستقلَّة، وتجزَّأ فصلُ حكم الجهل والغلط إلى رسالتين أخريين: «رسالة في معنى قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}»، وما أسموه: «رسالة في العقيدة، ناقصة الأخير» فصار عندنا ثلاث رسائل مقطَّعة الأوصال لا يربط بينها رابط إلا كون مؤلِّفها جميعًا هو عبد الرحمن المعلِّمي. وبعد الفحص تبيَّن أنَّ رسالة في معنى قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}» جزء من فصل حكم الجهل والغلط، ذهبت عدَّة أسطر من أوَّلها (وهي التي ضرب عليها من قبلُ بعنوان: الأصل الثالث) فكُتبت في
(مقدمة 2/67)
أسفل صفحة مستقلَّة، فجاء المفهرسون وكتبوا فوق هذه الأسطر عنوان «أصول ينبغي تقديمها» فصارت هذه الأسطر بداية رسالة «أصول ينبغي تقديمها»، وبعد وضع هذه الأسطر الشاردة في بداية «رسالة في معنى قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}» استقام الكلام. فاقرأ الكلام الآتي واحكم بنفسك. قال المؤلِّف: « ... خلط الناس في معنى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، فزعم بعضهم أن الرسول هنا إنما أريد به العقل، وهذا تحريفٌ تغني حكايته عن ردِّه. وقال بعضهم: أما الرسول فهو الرسول المعروف، ولكن المراد بالعذاب عذابٌ خاصٌّ هو العذاب الدنيوي المستأصل كإهلاك قوم نوح وعاد وثمود». هذا الكلام الذي قرأتَه متصل بعضه ببعض، لكن قوله: «خلط الناس» إلى قوله: «تغني حكايته عن ردِّه» هو عبارة عن آخر الأسطر الشاردة التي كُتِب فوقها عنوان رسالة «أصول ينبغي تقديمها»، وقوله بعد ذلك: «وقال بعضهم: أما الرسول» أوَّلُ «رسالة في معنى قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}» (1)، ثم تنتهي هذه القطعة بقوله: «وأما القول بأن شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قد كانت اندرست قبل بعثة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فخطأ القائلين به من وجهين: _________ (1) ثم وقفت على مسوَّدة للمؤلف فيها بداية أصل (حكم الجهل والغلط) متصلة بأول رسالة: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وذلك في دفتر يحمل الرقم العام 4930، في مكتبة الحرم المكي، بعنوان: دفتر مسودات محاضرة ...
(مقدمة 2/68)
الأول: أنهم يطلقون القول بعذر المشركين الذين هلكوا قبيل بعثة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وآبائهم وأجدادهم فصاعدًا، وقضية ذلك: أن شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام اندرست قبل أن يشرك أحد من العرب، وهذا قول لا دليل عليه، بل الدليل قائمٌ على خلافه». انتهت هذه القطعة بهذه العبارات، ومن حقِّك أن تسأل ما هذا الدليل الذي يريد الشيخ أن يذكره؟ وأين الوجه الثاني من الوجهين اللذين ذُكِر الأوَّل منهما؟ والجواب تجده في بداية «رسالة في العقيدة، ناقصة الأخير»، إذ يذكر الشيخ الدليلَ القائمَ على بقاء شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وعدم اندراسها حتى غيَّرها عمرو بن لُحَيٍّ، ثمَّ يذكر الوجه الثاني من وجهي خطأ القائلين باندراس تلك الشريعة، قال الشيخ: «فقد ثبت عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه قال: «رأيتُ عمرو بن لُحَيِّ بن قَمَعة بن خِندِفَ أخا بني كعبٍ هؤلاء يجرُّ قُصْبه في النار»، وفي روايةٍ: «وكان أول من سيب السيوب». .. الوجه الثاني: أنهم يطلقون العذر فشمل العذر في الشرك والعذر في المعاصي وذلك يقتضي أحد أمرين: إما أنهم يرون أن الشريعة إذا اندرس بعضها سقط التكليف بباقيها، وإما أن يزعموا أن شريعة إبراهيم عليه السلام كانت قد اندرست بجميع فروعها، ولا أرى عاقلا يُقْدِمُ على الأول ولا عارفًا يُقْدِمُ على الثاني». وبعد أن وقفتَ على التسلسل والترابط المنطقي بين هذه القطع الثلاث أزيدك أنها متسلسلة الأرقام من ص 1 إلى ص 52 بترقيم المؤلِّف. ووضعتُ هذه الرسائل الثلاث بعد نهاية الباب الثاني «باب في أنَّ
(مقدمة 2/69)
الشرك هلاك الأبد حتمًا وأنَّ تكفير المسلم كفر». وقد يتساءل القارئ: لِم أقحمتَ هذه الرسائل الثلاث في الكتاب مع عدم ورودها في نسخة (أ) المشهورة؟ والجواب: أنني وجدت في هذه القطعة أكثر من خمس عشرة إحالة إلى مواضع سبقت أو ستأتي من نسخة (أ) لكتاب العبادة (1)، مما لم يَدَعْ عندي مجالًا للشكِّ في أنَّ هذه القطعة جزء من كتاب العبادة. _________ (1) منها ما في ص (ز 7): «فتستعين النفس بالشبهات وهي لا تحصى كثرةً، وسيأتي ذكر طائفةٍ منها في بابٍ على حِدَةٍ». وقد عقد المؤلف في كتاب العبادة عنوانًا مستقلًّا خاصًّا بالشبهات. انظر ص 567 من المخطوط. وقال في ص (ز 28): «وبهذا يجمع بين ما تقدَّم هنا وما تقدَّم في أوائل الرسالة من اشتراط اليقين.». وتجد هذا في المخطوط ص 2. وقال أيضًا في ص (ز 31): «ما تقدَّم في الكلام على اشتراط العلم بمعنى: لا إله إلا الله من قصة أُبَيِّ بن كعب وغيره». وتجد هذا الكلام في ص 15 من المخطوط. ومن ذلك: ما في ص (ز 32): «وسيأتي في ذكر الأمور التي ورد في الشرع أنها شرك عدة أحاديث وآثار». انظر ص 666 من المخطوط. وما في ص (ز 33): فاليهود أطاعوا الأحبار والشياطين والهوى الطاعة الخاصة التي هي تأليه وعبادة لغير الله على ما يأتي تفسيره. وقد عقد مبحثًا في تأليه الأحبار والرهبان في ص 391 فما بعدها من المخطوط. وما في ص (ز 40): «أما الأول فبيانه متوقِّف على تحقيق معنى الإله والعبادة، وسيأتي إن شاء الله تعالى». وبيان ذلك هو لبُّ الرسالة. انظر من ص 165 إلى ص 480 ب من رسالة العبادة فما بعدها. وما في ص (ز 33): «قد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} في آيات أخرى تقدَّمت في أوائل الرسالة». وقد تقدَّمت فعلًا في أوائل الرسالة. انظر ص 17 من المخطوط، باب في أنَّ الشرك هلاك الأبد.
(مقدمة 2/70)
وترجَّح عندي أن أضعها في الموضع الذي وضعتُها فيه من الكتاب بسبب قوله في ص (ز 51) من هذه القطعة: «ما تقدَّم في الأصل الثاني، ومنها ما سيأتي في الكلام على التقليد». والكلام على التقليد من فصول «باب في أمور يستند إليها بعضُ الناس في إثبات العقائد، وهي غير صالحة للاستناد إليها»، وهو الباب الرابع من الكتاب فلم يمكن أن أضع هذا الباب المكتَشَف بعد الباب المحال عليه، ولا أن أضعه في أوَّل الكتاب؛ لأنَّ في القطعة عدَّة إحالات على الباب الأوَّل وهو الذي فيه شروط لا إله إلا الله. والباب الثاني «باب في أن الشرك هلاك الأبد، وأن تكفير المسلم كفر» لصيق بالباب الأول، فتعيَّن جعلُ هذه القطعة الباب الثالثَ للكتاب. والبديل عن صنيعي هو أن أجعله ملحقًا بآخر الكتاب، أو أن أنشره مفردًا، وكلا الأمرين يقلِّل الفائدة ويزيد اختلال الكتاب. ولعلَّ مما يُسوِّغ صنيعنا وتصرُّفنا هذا أنَّنا لم نحصل على النسخة النهائيَّة التي أرادها المؤلِّف بدليل ما ورد في نسخة (ب) (وقد صاغها بعد المبيَّضة الأولى) من الإشارات التي تدلُّ على تقديم وتأخير في بعض فصول الكتاب. ومن الأدلَّة القويَّة على كون هذه القطعة من صُلْب الكتاب: قولُ المؤلف في ص (ز 32) من هذه القطعة التي ألحقتُها بالكتاب: «وتقدَّم في أواخر الباب الذي قبل هذا: اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل». فإذا الباب الذي أشار إليه هو «باب في أنَّ الشرك هلاك الأبد، وأنَّ تكفير المسلم كفر»، وهو الباب الثاني، ووقع ذكرُ هذا الحديث الذي أحاله
(مقدمة 2/71)
المؤلِّف في آخر هذا الباب، وخرَّجه المؤلِّف تخريجًا مختصرًا مع ذكر الطرق والشواهد (1)، فتعيَّن موضعُ هذه القطعة وأنَّها من صُلْب «رسالة العبادة» بنصِّ المؤلِّف لا باجتهادي، والحمد لله على نِعَمِه. ومما يؤكِّد ما سبق ويزيده وضوحًا قولُ المؤلف عن هذا الحديث في رسالة البسملة والفاتحة ص (8 ب): «وقد ذكرتُ هذا الحديث في رسالة العبادة بطرقه وشواهده»، ولا شكَّ أنَّ رسالة البسملة والفاتحة متأخرِّة التأليف عن رسالة العبادة؛ إذ ضمّنها زبدة رسالة العبادة بطريقة رائعة وأكْثَرَ من الإحالات فيها على رسالة العبادة. خامسًا: أجزاء مفرَّقة من كتاب العبادة. بالرقم 4781. وهي المبيَّضة الأولى الناقصة للرسالة، وهي المشهورة في أوساط طلبة العلم، وهي أربعة دفاتر، رمزت لها بالحرف (أ)، وترقيمها هو المعتمد ما عدا مواضع القِطَع الزائدة، فتُميَّز أرقامُها بحروف خاصَّة. سادسًا: أوراق مفرقة أغلبها في العقيدة. بالرقم 4249. وهي تمثل الدفتر الثاني من دفاتر نسخة (أ) السبعة، ووصل إلينا كاملًا غير منقوص، ويبدأ من ص 85، والسبب في ذلك أنَّ المؤلِّف قال في أواخر ص 84 من نسخة (أ): «ومن الناس مَن يحتجُّ في هذا الأمر العظيم بمجرَّد العقل والقياس، وفي ذلك ما فيه»، ثمَّ ضرب على هذا السطر، وزاد فصلين: أولهما في الرَّدِّ على احتجاج بعض أهل زمان المؤلِّف وما قرُب منه بآيات من كتاب الله تعالى ويفسرونها برأيهم بما لم يُنقلْ عن السلف ولا تساعده _________ (1) انظر ص 27 من رسالة العبادة نسخة (ب).
(مقدمة 2/72)
اللغة العربية، ولا البلاغة القرآنية، والفصل الثاني في احتجاج بعضهم بالحديث الضعيف، واستغرق ذلك سبع صفحات، ثم عاد المؤلِّف فأثبت الكلام الذي حذفه سابقًا في بداية الدفتر الثاني الذي عثرتُ عليه بتوفيق الله، واستمرَّ ترقيم الدفتر الثاني من حيث انتهى الدفتر الأول قبل زيادة سبع الصفحات، ولا يُشوِّشْ عليك تكرُّر الترقيم من ص (85) إلى ص (91) في الدفتر الثاني مرَّةً أخرى؛ لأنه الموافق للأصل الأصيل قبل الزيادة، فلزم بقاؤه كما كان. ومن الأدلَّة على صحَّة موضع هذا الدفتر أنَّ المؤلِّف أحال على عدَّة مواضع منه، وتأكَّدتُّ من مطابقة أرقام الصفحات المحال عليها فإذا فيها المعلومات المُشار إليها سواء بسواء. سابعًا: ثم رسالة في معنى كلمة التوحيد. بالرقم 4713. وأظنها المسوَّدة الأولى للكتاب. واستفدتُّ منها فائدة كبيرة في تكميل النقص الحاصل في الكتاب بسبب الدَّفترين المفقودَيْن بعد الدفترَيْن الأوَّلين. وموضعها بعد الدفتر الثاني مع الفاصل الذي أشرنا إليه عند الحديث عن نسخة (ب)، ورمزت لها بالحرف (س). ثامنًا: قطعة غير مرقمة ولا مفهرسة، ورمزت لها بالحرف (س) أيضًا، لكن يبدأ ترقيمها بـ (س 115/أ) من حيث انتهى الدفتر الذي قبله. تاسعًا: رسالة في الكلام في الحكم بغير ما أنزل الله وتفسير آية {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الآية، بالرقم 4658/ 8، وهي صفحة واحدة. وموضعها قبل بداية الدفتر الرابع من نسخة (أ).
(مقدمة 2/73)
عاشرًا: الدفتر الرابع من كتاب العبادة. وهو محفوظ في مكتبة الحرم المكي بالرقم العام 4937. وهو متسلسل الصفحات بدءًا بـ ص 289 وانتهاء بـ ص 396، ثم تتصل ببقية صفحات نسخة (أ) ابتداءً بـ ص 397 إلى ص 741، وهي آخر ما عُرف من الكتاب. * عاشرًا: عملي في الكتاب، ومنهج التحقيق. 1 - قمت بنسخ الرسالة، ووضعتُ رقم صفحة المخطوط بين معقوفين أمام بداية كلِّ صفحة من صفحات المخطوط. 2 - ميَّزتُ بالحرف (ز) أرقامَ صفحات المخطوط التي زدتُّها من القطع الثلاث التي وضعتُها في أوائل الكتاب، وعلَّمتُ بالحرف (س) أرقامَ صفحات المخطوط التي أضفتُها من نسخة (س) ورديفتها غير المرقمة، تمييزًا بين الأرقام المتشابهة، كما ميَّزتُ بالحرف (ب) أرقام صفحات نسخة (ب). 3 - قابلت الرسالة بعد نسخها بالأصل مرتين. 4 - قام المؤلف بعزو الآيات إلى سورها، وتخريج الأحاديث وتوثيق الأقوال غالبًا، واستكملت النقص في القضايا الثلاث عند الحاجة، وعلَّقت على ما رأيته بحاجة إلى تعليق. 5 - ترجمتُ للأعلام الواردين في الرسالة ممن رأيته يحتاج إلى التعريف به. 6 - أثبت تعليقات المؤلف في الحاشية وختمتها بـ (المؤلف). 7 - عرَّفت بالبلدان المغمورة غير المشهورة. 8 - خرَّجت الأبيات الشعريَّة. 9 - شرحت الألفاظ الغريبة.
(مقدمة 2/74)
10 - أمّا ما يتعلَّق بتخريج الأحاديث، فقد التزمت ذكر الكتاب والباب ورقم الحديث، وكذلك رقم الجزء والصفحة إذا أغفلهما المؤلِّف دون تمييز لزياداتي على المؤلِّف لكثرة ذلك، ولأن المؤلف مال أخيرًا إلى الاكتفاء بذكر الكتاب والباب دون ذكر الجزء والصفحة كما صنع في نسختَيْ (ب) و (ز). 11 - في إصلاح الخطأ وإكمال النقص سلكت الآتي: أقمت بتصحيح ما كان مخالفًا لقواعد العربية مع التنبيه عليه. ب أصلحتُ ما وقع من الأخطاء في نصوص الآيات القرآنية وإحالاتها، دون تنبيه. ت للمؤلِّف بعض الرموز والاختصارات، مثل: (هـ) و (اهـ)، اختصارًا للفظ (انتهى)، وقد يكتبها كاملة، وذلك في آخر النصوص التي ينقلها أحيانًا، فأبقيت ذلك كلَّه عدا الأول، فقد جعلته هكذا: (اهـ). وقد يجرِّد اسم السورة من أداة التعريف عند عزو الآيات إلى سورها، ويخلي أحيانًا اسم الكتاب من أداة التعريف كذلك، فأكملت ذلك كلَّه دون تنبيه، اكتفاء بما ذكرته هنا. 12 - قدَّمت للرسالة بمقدِّمة تضمَّنت تحديد عنوان الكتاب وتحقيق نسبته إلى المؤلف، مع ذكر تاريخ تأليفه له، وبيان أهمية الكتاب وقيمته العلمية، وبيان منهج المصنف، وموارده وطبعات الكتاب ووصفًا للنسخ المخطوطة، وبيان موضوع الرسالة وموضوعاتها.
(مقدمة 2/75)
13 - ذيَّلْتُ الرسالة بفهارس للآيات والأحاديث والأعلام والأشعار والمصادر والموضوعات.
(مقدمة 2/76)
نماذج النسخ المخطوطة
(مقدمة 2/77)
الصفحة الأولى والثانية من نسخة (أ) المشهورة
(مقدمة 2/79)
ص 57 - 58 من نسخة (أ)
(مقدمة 2/80)
آخر صفحة من الدفتر الأول من نسخة (أ)
(مقدمة 2/81)
بداية الدفتر الثاني
(مقدمة 2/82)
بداية الدفتر الرابع من نسخة (أ)
(مقدمة 2/83)
صفحة (326 - 327) من الدفتر الرابع من نسخة (أ)
(مقدمة 2/84)
نهاية الدفتر الرابع من نسخة (أ)
(مقدمة 2/85)
أول الدفتر الخامس من نسخة (أ)
(مقدمة 2/86)
صفحة (450 - 451) من نسخة (أ)
(مقدمة 2/87)
صفحة (567) وملحقها من نسخة (أ)
(مقدمة 2/88)
بداية "أصول ينبغي تقديمها"
(مقدمة 2/89)
أول رسالة "وما كنا معذبين"
(مقدمة 2/90)
آخر صفحة من رسالة "وما كنا معذبين"
(مقدمة 2/91)
أول صفحة من رسالة في العقيدة
(مقدمة 2/92)
آخر صفحة من رسالة في العقيدة
(مقدمة 2/93)
صفحتان من أواسط نسخة (ب) غير المرقمة
(مقدمة 2/94)
صفحة أخرى من أواسط نسخة (ب) غير المرقمة
(مقدمة 2/95)
آخر مقدمة نسخة (س)
(مقدمة 2/96)
بداية الباب الثاني من نسخة (س)
(مقدمة 2/97)
صفحة (98) من نسخة (س)
(مقدمة 2/98)
رسالة العبادة (رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله والفرق بين التوحيد والشرك بالله) للعلَّامة أبي عبد الله عبد الرحمن بن يحيى بن علي المعلِّميِّ اليمانيِّ المكِّيِّ 1312 - 1387 هـ تحقيق عثمان بن معلِّم محمود بن شيخ علي
(2/1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي خلق الجنَّ والإنس ليعبدوه، وبعث إليهم رسله ليوحِّدوه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمَّدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمَّدٍ وعلى آل محمَّدٍ، كما صلَّيت على آل إبراهيم، وبارك على محمَّدٍ وعلى آل محمَّدٍ، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ، وسلِّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فإني تدبَّرت الخلاف المستطير بين الأمَّة في القرون المتأخِّرة في شأن الاستعانة بالصالحين الموتى، وتعظيم قبورهم ومشاهدهم، وتعظيم بعض المشايخ الأحياء، وزَعْم بعض الأمَّة في كثيرٍ من ذلك أنه شركٌ، وبعضِها أنه بدعةٌ، وبعضِها أنه من الحقِّ، ورأيتُ كثيرًا من الناس قد وقعوا في تعظيم الكواكب والروحانيِّين والجنِّ بما يطول شرحه، وبعضه موجودٌ في كتب التنجيم والتعزيم كـ"شمس المعارف" (1) وغيره، وعلمتُ أن مسلمًا من المسلمين لا يُقْدِمُ على ما يعلم أنه شركٌ، ولا على تكفير مَن يعلمُ أنه غير كافرٍ، ولكنه وقع الاختلاف في حقيقة الشرك، فنظرتُ في حقيقة الشرك؛ فإذا هو ــ بالاتِّفاق ــ: اتِّخاذ غير الله عزَّ وجلَّ إلهًا من دونه، أو عبادة غير الله عزَّ وجلَّ، فاتَّجه النظرُ إلى معنى الإله والعبادة؛ فإذا فيه اشتباهٌ شديدٌ؛ فإنَّ المعروف في تفسير (إله) قولهم: (معبود)، أو: (معبود بحق)، ومعنى العبادة _________ (1) شمس المعارف ولطائف العوارف كتابٌ لأحمد بن عليِّ بن يوسف البُوني، المتوفَّى سنة 622 هـ. انظر: كشف الظنون 2/ 1062.
(2/3)
مشتبهٌ جدًّا ــ كما ستراه إن شاء الله تعالى ــ، فعلمتُ أن ذلك [2] الاشتباه هو سبب الخلاف، وإذا الخطر أشدُّ مما يُظَنُّ؛ لأن الجهل بمعنى (إله) يلزمه الجهل بمعنى كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله)، وهي أساس الإسلام وأساس جميع الشرائع الحقَّة من قبل، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وقد دلَّ الكتاب والسنة والإجماع والمعقول على أنَّه لا يكفي النطق بها بدون معرفة معناها. وإيضاح ذلك أن الاعتداد بالنطق بها له شروطٌ: منها: أن يكون على سبيل الاعتراف؛ للقطع بأن المشرك إذا نطق بها حكايةً عن غيره لا يُعْتَدُّ بذلك؛ كالمسلم إذا نطق بكلمة الكفر حكايةً عن غيره، وأنت خبير أن العبارة لا يُحْكَم بكونها اعترافًا حتى يُعْلَم أن المتكلِّم بها يعرف معناها، فلو أثبت زيدٌ على إنسانٍ أعجميٍّ أنه قال: أنا رقيقٌ لزيدٍ، ووجدنا هذا الأعجميَّ لا يعرف العربيَّة ولا يعرف معنى هذه العبارة، وإنما لقَّنوه إيَّاها بدون إعلامه بمعناها، لم يُعْتَدَّ باعترافه، وهذا مما لا خلاف فيه أصلًا. [ب 2] ومنها: العلم بمضمونها، والعلم هو الذي يُعَبِّرُ عنه أهل الكلام بالتصديق، وقيل: التصديق أخصُّ، قال الله تبارك وتعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]. [3] وقال عزَّ وجلَّ: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]. فقيَّد نفع الشهادة, قيَّده بالعلم بالمشهود به.
(2/4)
قال ابن جريرٍ في تفسيرها: "اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ولا يملك عيسى وعزيرٌ والملائكة الذين يعبدهم هؤلاء المشركون بالله (1) الشفاعة عند الله لأحدٍ إلا مَن شهد بالحق فوحَّد الله وأطاعه على علمٍ (2) منه بتوحيد الله وصحَّة ما (3) جاءت به رسله". ثم أسند نحوه عن مجاهد، وفيه: "إلا مَن شهد بالحقِّ، وهو يعلم الحقَّ". ثم قال: "وقال آخرون: عُنِيَ بذلك: ولا تملك الآلهة التي يدعوها المشركون ويعبدونها من دون الله الشفاعة، إلا عيسى وعزيرٌ وذووهما والملائكة الذين شهدوا بالحقِّ فأقروا به وهم يعلمون حقيقة ما شهدوا به". ثم أسند نحوه عن قتادة، ثم قال: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يُقال: إن الله تعالى ذِكْره أخبر أنه لا يملك الذين يعبدهم المشركون من دون الله الشفاعة عنده لأحدٍ إلا مَن شهد بالحق، وشهادته بالحق هو إقراره بتوحيد الله، يعني: إلا مَن آمن بالله وهم يعلمون حقيقة توحيده" (4). _________ (1) في الأصل تبعًا للطبعة التي ينقل منها المؤلف: (بالساعة)، والتصحيح من طبعة دار هجر (20/ 661). (2) كتب المؤلِّف هنا لفظ: (كذا)؛ إشارة إلى الخلل في العبارة. ولفظ (على) زيادةٌ من الطبعة المذكورة. (3) في الأصل: "بتوحيد وصحة بما"، والتصحيح من الطبعة المشار إليها. (4) تفسير ابن جريرٍ، الطبعة الأولى، 25/ 56 - 57. [المؤلف]. وقد أشار المؤلف في نسخة (أ) إلى الخلل الوارد في النسخة بقوله: "نقلت هذه العبارة كما هي في النسخة المطبوعة". وقد وضعتُ الصواب في المتن، وأشرت في الهامش إلى ما كان في الأصل.
(2/5)
وقال الله تبارك وتعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ [4] لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 14]. وقال عزَّ وجلَّ: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41]. وفي القرآن آياتٌ كثيرةٌ في المنافقين تبيِّن هذا المعنى. وفي صحيح مسلمٍ عن عثمان قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "مَن مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة" (1). وفيه عن عمر قال: كنا مع النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في مسيرٍ، فذكر الحديث، وفيه: فقال ــ يعني النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ــ عند ذلك: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنِّي رسول الله، لا يلقى الله عزَّ وجلَّ بهما عبد غير شاكٍّ فيهما إلا دخل الجنة" (2). وفيه عن أبي هريرة عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من حديث طويل: "فَمَنْ لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشره بالجنة" (3). _________ (1) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب 10 [مَن لقي الله بالإيمان وهو غير شاكٍّ فيه ... ]، 1/ 41، ح 26. [المؤلف] (2) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب 10 [مَن لقي الله بالإيمان وهو غير شاكٍّ فيه ... ]، 1/ 41 - 42، ح 27. [المؤلف] (3) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب 10 [مَن لقي الله بالإيمان وهو غير شاكٍّ فيه ... ]، 1/ 44، ح 31. [المؤلف]
(2/6)
وفي صحيح البخاريِّ عن أبي هريرة عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: "أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة مَن قال: لا إله إلا الله، خالصًا من قلبه أو نفسه" (1). [ب 3] وفيه عن معاذٍ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله [5] وسلَّم قال: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّدًا رسول الله صدقًا من قلبه إلا حَرَّمه الله على النار" (2). وأصل الحديث في صحيح مسلمٍ (3). وحديث الصحيحين وغيرهما في سؤال القبر سيأتي في الكلام على التقليد (4) إن شاء الله تعالى. واعلم أن هذا الشرط مجمعٌ عليه أيضًا، فأما ما نُقِل عن الكرّامية من أن الإيمان هو النطق بالشهادتين فقط، وأن المنافق مؤمنٌ حقيقةً، فهو نزاع لفظي؛ لأنهم يقولون: إن هذا الإيمان الذي هو النطق إنما هو بالنظر إلى الأحكام الدنيوية (5)، فأما النجاة من النار فلا بدَّ فيها من التصديق القلبيِّ. _________ (1) صحيح البخاريِّ، كتاب العلم، باب 32 [الحرص على الحديث]، 1/ 31، ح 99. [المؤلف] (2) صحيح البخاريِّ، كتاب العلم، باب 47 [مَن خصَّ بالعلم قومًا دون قومٍ]، 1/ 37 - 38، ح 128. [المؤلف] (3) كتاب الإيمان، باب 10 [مَن لقي الله بالإيمان وهو غير شاكٍّ فيه ... ]، 1/ 43، ح 30. [المؤلف] (4) ص 200 - 203. (5) يعني الإيمان الذي يعصم الدم والمال في الدنيا ويصير به من جملة المسلمين.
(2/7)
هكذا نقله عنهم الشهرستاني (1)، والسعد التفتازاني (2) وغيرهما. هذا، مع مخالفة قولهم للنصوص القرآنية والنبويَّة والإجماع السابق قبلهم. إذا تقرَّر ما ذُكِر فلا ريب أن الجاهل بمعنى (لا إله إلا الله) لا علم له بمضمونها، ولا يصحُّ أن يُقال: شهد بها "وهو يعلم"، "مؤمنًا بها قلبه"، "غير شاكٍّ"، "مستيقنًا بها قلبه"، "خالصًا من قلبه أو نفسه"، "صدقًا من قلبه"، فتدبَّرْ. وفي فتح الباري عن الحليميِّ (3): "لو قال الوثنيُّ: "لا إله إلا الله" وكان يزعم أن الصنم يقرِّبه إلى الله لم يكن مؤمنًا حتى يتبرّأ من عبادة الصنم" (4). ومنها: التسليم، ويُعَبَّر عنه بالرضا، واكتفى جماعة عنه بالتصديق، زاعمين أنه يتضمنه. قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا [6] فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. وفي صحيح مسلمٍ من حديث العباس بن عبد المطلب قال: قال _________ (1) الملل والنحل 1/ 154 بهامش الملل والنحل لابن حزمٍ، الطبعة الأولى سنة 1320. [المؤلف] (2) شرح المقاصد 1/ 248. [المؤلف] (3) أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاري الشافعي، القاضي العلامة، أحد أصحاب الوجوه في المذهب الشافعي، وكان متفننًا، وله مصنفات نفيسة، توفي سنة ثلاث وأربعمائة. السير 17/ 231 (4) فتح الباري، طبعة الخيريَّة، 13/ 280. [المؤلف]. وهو في كتاب المنهاج في شعب الإيمان للحليميّ 1/ 136.
(2/8)
رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "ذاق طعم الإيمان مَن رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمَّد رسولًا" (1)، وقال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 101 - 102]. وقال سبحانه: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} إلى أن قال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 12 - 14]. فعُلِم من هذه الآيات أن فرعون وقومه كانوا عالمين مستيقنين، ولم ينفعهم ذلك لعنادهم؛ إذ لم يعترفوا ولم يُسَلِّموا ولم يرضوا. ومَنْ لا يعلم معنى (لا إله إلا الله) لا يدلُّ تسليمه ورضاه بقولها على تسليمه ورضاه بمدلولها. ومنها: أن يكون النطق بها على وجه الالتزام، أعني: التزام أن يعمل طول عمره بمقتضاها، وألا يخالفه. وأدلَّته أكثر من أن تحصى. [ب 4] قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]. اتَّفق المفسِّرون على أن قوله: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} إلخ تفسيرٌ لقوله: _________ (1) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب 11 [مَن رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمَّدٍ رسولًا]، 1/ 46 ح 34. [المؤلف]
(2/9)
{كَلِمَةٍ}. وقال ابن جريرٍ: "وقال آخرون: هو قول "لا إله إلا الله"". ثم أسند عن أبي العالية قال: "كلمة السواء: لا إله إلا الله" (1). أقول: ويبيِّنه أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان يدعو إلى (لا إله إلا الله). وفي قوله تعالى في الآية: {كَلِمَةٍ} ما يرشد إلى ذلك. فيتحصَّل مما ذُكِر أن قوله تعالى: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} بسطٌ لمعنى (لا إله إلا الله). وقد تضمَّن قوله: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} إلخ الالتزام، فاتَّضح بذلك أن (لا إله إلا الله) تتضمَّن الالتزام، وهو المطلوب. [7] وقال عزَّ وجلَّ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وقد فُسِّر قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} في آياتٍ أخرى. قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} إلى أن قال: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} الآيات [الأعراف: 64 - 70]. وجاء نحو هذا في قصة صالحٍ (2)، وشعيبٍ (3)، _________ (1) تفسير ابن جريرٍ 3/ 195. [المؤلف] (2) الأعراف: 73. [المؤلف] (3) الأعراف: 85. [المؤلف]
(2/10)
وجاء نحوه في سورة هودٍ، ونحوه عن نوحٍ (1). ودلالة هذه الآيات على الالتزام واضحةٌ، وهي مفسِّرةٌ لقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} في الأنبياء. فظهر من ذلك تضمُّن الكلمة الطيِّبة للالتزام، وأن المطلوب من الخلق أن يقولوها على سبيل الالتزام. وإيضاحه: أن هذه الآيات تصرِّح بأن إرسال الرسل إلى قومهم كان لدعوتهم إلى أن يعبدوا الله ويذروا عبادة غيره، وإجابة الرسل معناها قبول ما أُرسِلوا به. ولما جُعِلَت الشهادة إعلانًا بقبول ما أُرسِل به الرسل كانت متضمِّنةً التزامَ الشاهد أن يعبد الله ولا يشرك به شيئًا. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة في حديث جبريل عليه السلام، إذ سأل النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن الإيمان والإسلام، قال: "الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به" (2). وفي صحيح مسلمٍ حديث عمر في هذه القصة: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّدًا رسول الله" (3). _________ (1) المؤمنون: 23. [المؤلف] (2) البخاريّ، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل، 1/ 19، ح 50. مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسلام ما هو؟ [وفي بعض النسخ: باب بيان الإسلام والإيمان والإحسان]، 1/ 30، ح 9. [المؤلف] (3) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، [باب بيان الإسلام والإيمان والإحسان]، 1/ 29، ح 8. [المؤلف]
(2/11)
قال في الفتح: "ولما عَبَّر الراوي بالعبادة احتاج أن يوضِّحها بقوله: "ولا تشرك به شيئًا"، ولم يحتج إليها في رواية عمر؛ لاستلزامها ذلك" (1). [8] وفي الصحيحين أيضًا حديث ابن عبَّاسٍ في قصَّة وفد عبد القيس، وفيه: أمرهم بأربعٍ، ونهاهم عن أربعٍ. أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: "أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمَّدًا رسول الله ... " (2). [ب 5] وفي صحيح مسلمٍ من حديث أبي سعيدٍ في هذه القصة: "آمركم بأربع: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا ... " (3). فيُعلَم بما تقدَّم أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرون اتِّحاد معنى شهادة أن لا إله إلا الله ومعنى التزام عبادة الله وعدم الشرك به، وهو المطلوب، والله أعلم. هذا، ومَن تدبَّر تبيَّن له أن الشروط السابقة ــ وهي الاعتراف والتصديق والتسليم والرضا ــ إنما هي بمثابة الوسيلة للالتزام، وكأنه المقصود. بل لو قيل بأن جانب الالتزام هو المغلَّب في شهادة أن لا إله إلا الله لما كان بعيدًا، بدلالة الاكتفاء بها من المشرك المحارب وإن لم يسمع شيئًا من البراهين المبطلة للشرك. _________ (1) فتح الباري 1/ 88. [المؤلف] (2) البخاريّ، كتاب الإيمان، بابٌ أداء الخمس، 1/ 21، ح 53. مسلم، كتاب الإيمان، باب [الأمر] بالإيمان إلخ، 1/ 35 - 36، ح 17. [المؤلف] (3) مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان إلخ، 1/ 36، ح 18. [المؤلف]
(2/12)
وفي حديث أسامة قال: بعثنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى الحُرَقة من جهينة، قال: فصبَّحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجلٌ من الأنصار رجلًا منهم، قال: فلما غشيناه قال: (لا إله إلا الله)، قال: فكفَّ عنه الأنصاريُّ، فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: فقال لي: "يا أسامة، أقتلته بعد ما قال: (لا إله إلا الله)؟ " قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوِّذًا، قال: "أقتلته بعد أن قال: (لا إله إلا الله)؟ " قال: فما زال يكرِّرها عليَّ حتى تمنَّيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم (1). وفي حديث المقداد أنه قال: يا رسول الله، إن لقيتُ كافرًا فاقتتلنا، فضرب يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ بشجرةٍ، وقال: أسلمتُ لله، آقتله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "لا تقتله". قال: يا رسول الله، فإنه طرح إحدى يديَّ ثم قال ذلك بعد ما قطعها، آقتله؟ قال: "لا تقتله؛ فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال" (2). وفي حديث ابن عمر "قال: بعث النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى بني _________ (1) صحيح البخاريِّ، كتاب الديات، باب 2 [قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا}]. صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال (لا إله إلا الله)، 1/ 68، ح 96 (159). [المؤلف] (2) صحيح البخاريِّ، كتاب الديات، باب 1 [قول الله تعالى: "ومَن يقتل مؤمنًا متعمِّدًا فجزاؤه جهنَّم"]. صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال (لا إله إلا الله)، 1/ 66، ح 95. [المؤلف]
(2/13)
جَذِيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: (أسلمنا)، فجعلوا يقولون: (صبأنا) فجعل خالدٌ يقتل ويأسر" الحديث، وفي آخره: فرفع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يده، فقال: "اللهمَّ إني أبرأ إليك مما صنع خالدٌ" (1). وفي حديث أنسٍ: ... فجاء أبو طلحة فخطب أمَّ سُلَيمٍ، وهي أمُّ أنس، فكلَّمها في ذلك، فقالت: يا أبا طلحة، ما مثلُك يُرَدُّ، ولكنك امرؤٌ كافرٌ، وأنا امرأةٌ مسلمةٌ، لا يصلح لي أن أتزوَّجك. فذكر الحديث، وفيه: فانطلق أبو طلحة يريد النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ورسول الله جالس في أصحابه، [ب 6] فلما رآه [9] قال: "جاءكم أبو طلحة، غُرَّة الإسلام بين عينيه" الحديث (2). بل قال الله تبارك وتعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 14]. فهؤلاء شهدوا أن لا إله إلا الله على سبيل الالتزام وقُبِلَتْ منهم مع شهادة الله تعالى عليهم بأنه لم يدخل الإيمان في قلوبهم، وبذلك انتفى صدقُ الاعتراف، وانتفى التصديقُ، وانتفى الرضا الحقيقي، فلم يبق إلَّا الالتزام، فتدبَّرْ. وقد قال العلماء: إن (لمَّا) النافية تشعر بأن المنفيَّ سيقع بعدُ، وعلى _________ (1) صحيح البخاريِّ، كتاب المغازي، باب بعث النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم خالد بن الوليد إلخ، 5/ 160، ح 4339. [المؤلف] (2) رواه أبو داود الطيالسيّ في مسنده، حديث 2056 [وفي طبعة التركي 3/ 533، ح 2168]، وسنده صحيحٌ. [المؤلف]
(2/14)
هذا ففي الآية وَعْدٌ من الله عزَّ وجلَّ لهؤلاء القوم بأنه سيدخل الإيمان في قلوبهم، وقد وعدهم صريحًا بقوله: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية، فيُعلَم من هذا أن هؤلاء لم يكونوا من المنافقين؛ فإن الله تعالى وعد هؤلاء بما سمعت، وأوعد المنافقين بأن يُضِلَّهم ويزيدَهم مرضًا ورِجْسًا. والفرق بين الفريقين أنَّ المنافقين التزموا بألسنتهم وكانوا ينقضونه في السرِّ بالتكذيب والطعن والعدوان والسعي بالفساد وكيد الإسلام وأهله. وأما هؤلاء الأعراب فإنهم التزموا ووفَوْا بما التزموه وإن لم يكن قد دخل الإيمان في قلوبهم، فتدبَّرْ. ثم رأيت الإمام الشافعيَّ رحمه الله تعالى قد ألمَّ بهذا في كتاب (إبطال الاستحسان)، قال: "ثم أَطْلَع الله رسولَه على قومٍ يظهرون الإسلام ويُسِرُّون غيره .... فقال لنبيِّه: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ... } [الحجرات: 14]. قال الشافعيُّ: {أَسْلَمْنَا}، يعني: أسلمنا بالقول بالإيمان مخافة القتل والسِّباء، ثم أخبر أنه يجزيهم إن أطاعوا الله ورسوله، يعني: إن أحدثوا طاعة الله ورسوله، وقال له في المنافقين وهم صنفٌ ثانٍ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ ... } [المنافقون: 1] " (1). محلُّ الشاهد قوله في المنافقين: "وهم قسم ثانٍ" (2). والمقصود أن الأحكام الدنيويَّة بُنِيت على الالتزام وحده، ولو ممن عُلِم أنه لم يؤمن قلبه. وبهذا يُعلَم أنَّ ما جاء في بعض روايات حديث أسامة من _________ (1) كتاب الأمّ 7/ 268. [المؤلف] (2) كذا في الأصل.
(2/15)
قول النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "فهلَّا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا" ليس المراد منه: آمن قلبه أم لا، بل المراد ــ والله أعلم ــ: آلتزم الإسلام بقلبه كما التزمه بلسانه أم لا؟ لأنَّ حرمة القتل لا تتوقَّف على الإيمان بالقلب كما سمعت. وقال الله عزَّ وجلَّ: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]. [ب 7] استثناؤه مَن أُكرِه وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان يدلُّ أن المستثنى منه وهو قوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} يعمُّ مَن تظاهر بالكفر وإن لم يكفر قلبه، وإنما استثنى مَن تظاهر بالكفر مكرهًا. وعلى هذا فقوله: {مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} يعمُّ مَن تظاهر به مختارًا غير مكرهٍ وإن لم يكفر بقلبه؛ فإن تظاهره بالكفر مختارًا كافٍ في شرح الصدر بالكفر، وذلك أنه بتظاهره بالكفر قد نقض التزامه. وظاهر الآية أن المكرَه إذا كفر وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان قد كفر بعد إيمانه، ولكن لما كان معذورًا وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان عذره الله تعالى، فالعذر مبنيٌّ على الأمرين معًا: الإكراه، واطمئنان القلب بالإيمان، فلا يكفي أحدهما، والله أعلم. [10] ويشهد لهذا قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ
(2/16)
عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 97 - 99]. أخرج البخاريُّ عن ابن عبَّاسٍ أن ناسًا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثِّرون سواد المشركين على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، يأتي السهم فيصيب أحدهم فيقتله، أو يُضرب فيُقتل، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ} الآية (1). وأخرج البخاريُّ عن ابن عبَّاسٍ أيضًا أنه تلا: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ}، قال: كنتُ أنا وأمِّي ممن عذر الله (2). وهذا الأثر الثاني يدلُّ أن ابن عبَّاسٍ لم يرد بالأثر الأوَّل أن الآية خاصَّةٌ بمن كان يكثِّر السواد في الحرب، بل تعمُّ المتخلِّفين عن الهجرة. وجاء عن بعض السلف أن هؤلاء المتخلِّفين غيرَ المعذورين كفروا بعد إيمانهم، واستبعده بعض المتأخِّرين ظنًّا أنه لم يقع منهم إلَّا التخلُّف عن الهجرة. والذي تدلُّ عليه الآثار أن المتخلِّفين كانوا يُكرَهون على الكفر، [11] وعلى هذا فمُكْثُ مَن مكث منهم مع استطاعته الهجرة وعلمِه أنه إن لم يهاجر أُكرِه على الكفر= ضربٌ من الاختيار؛ فلذلك ــ والله أعلم ــ لم يُعذَروا. ثم رأيت في سنن البيهقيِّ ما لفظه: "قال الله جَلَّ ثناؤه في الذي يُفْتَن عن _________ (1) صحيح البخاريِّ، كتاب التفسير، تفسير هذه الآية [باب: "إن الذين توفَّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ... "]، 6/ 48، ح 4596. [المؤلف] (2) الصحيح، كتاب التفسير، باب: "وما لكم لا تقاتلون" إلخ، 6/ 46، ح 4588. [المؤلف]
(2/17)
دينه، قَدَر (1) على الهجرة فلم يهاجر حتى توفي: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} الآية [النساء: 97] " (2). وهذا صريحٌ فيما ظهر لي، ولله الحمد. هذا، وقوله تعالى في الذين لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلًا: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} فيه دلالةٌ على [أن] مَن أُكرِه منهم على الكفر فتظاهَر به فقد أساء، وإن كان معفوًّا عنه، أي ــ والله أعلم ــ: لأنه كان الأولى لهم أن يصبروا [ب 8] على العذاب أو القتل ولا يتظاهروا بالكفر. وقد كان جماعةٌ من أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قبل أن يُؤذَن لهم بالهجرة يعذَّبون فصبر أكثرهم، وقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لعمَّارٍ وأبيه وأمِّه وهم يعذَّبون: "صبرًا آل ياسر؛ فإنَّ موعدكم الجنَّة" (3). ومما يدلُّ على الالتزام قول الله جلَّ ثناؤه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ}، إلى قوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ}، إلى قوله: {فَبَايِعْهُنَّ} [الممتحنة: 10 - 12]. _________ (1) كذا في الأصل والسنن الكبرى للبيهقيِّ. (2) سنن البيهقي 9/ 12. [المؤلف] (3) أخرجه الحاكم في كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب عمَّار بن ياسرٍ رضي الله عنه، إيذاء الكفَّار آل ياسرٍ، 3/ 383، من طريق ابن إسحاق مرسلًا. ثم أخرجه في الكتاب المذكور، ذكر مناقب عمَّار بن ياسرٍ رضي الله عنه، "ما خُيِّر عمَّارٌ بين أمرين إلا اختار أرشدهما"، 3/ 388 - 389، من طريق أبي الزُّبير عن جابرٍ رضي الله عنه، نحوه، وقال: "صحيحٌ على شرط مسلمٍ ولم يخرجاه"، ولم يتعقَّبْه الذهبيُّ.
(2/18)
يعني ــ والله أعلم ــ: فبايعهنَّ على ذلك عند قدومهنَّ من دار الكفر، على أن هذه المبايعة كانت غير خاصَّةٍ بهنَّ؛ ففي الصحيحين عن عبادة بن الصامت أحد النقباء أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال وحوله عصابةٌ من أصحابه: "بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا" الحديث، كما في بيعة النساء (1). وجاء نحوه عن جرير بن عبد الله وعبد الله بن عمرو بن العاص (2). وهذه المبايعة كالتفسير للشهادتين وبعض ما يتعلَّق بهما؛ ولذلك ــ والله أعلم ــ ترك أئمَّةُ الصحابة ومن بعدهم مبايعةَ مَنْ يُسلم مثل المبايعة المذكورة اكتفاء بالشهادتين، وبأنَّ معناهما وما يتعلَّق به [12] قد اشتهر بين الناس. وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} الآية [البقرة: 83]. فأَخَذَ الميثاق منهم لا يعبدون إلا الله على وجه الالتزام، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله. ومما يوضِّح اشتراط الالتزام أنَّ الكافر لو قال: أنا أعلم أن دين الإسلام حقٌّ ولكن لا أدع ديني، أو قال: أنا أعلم أن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمَّدًا رسول الله حقٌّ ولكني لا أحبُّ الدخول في الإسلام، أو قال: أنا لا أدع ديني أبدًا مع أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّدًا رسول الله؛ فإنه لا _________ (1) البخاريّ، كتاب الإيمان، باب 11، 1/ 12، ح 18. مسلم، كتاب الحدود، بابٌ الحدود كفَّارةٌ لأهلها، 5/ 127، ح 1709. [المؤلف] (2) انظر: فتح الباري 1/ 51. [المؤلف]
(2/19)
يصير بشيءٍ من ذلك مسلمًا، ولا تلزمه أحكام الإسلام. وقد وردت في معنى هذا آثارٌ كثيرةٌ، منها قصة أبي طالبٍ (1) ومنها قصَّة ابن صُوريا (2) وغيره من اليهود كانوا يعترفون ولكنهم أبَوْا الدخول في الإسلام، فلم يَعُدَّ النبي صَلّى الله عليه وآله [13] وسلَّم اعترافَهم إسلامًا، ولا تمسُّكَهم بعده بدينهم ردَّة. ومنها قصة هرقل (3) والأعشى ميمون (4) وغير ذلك. _________ (1) انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب مناقب الأنصار، باب قصَّة أبي طالبٍ، 5/ 52، ح 3884. وصحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب صحَّة إسلام مَن حضره الموت ما لم يُشرع في النزع، 1/ 40، ح 24. (2) هو عبد الله بن صوريا اليهوديّ، أعلم بني إسرائيل. رُوِي أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال له: "يا ابن صوريا، أنشدك الله وأذكِّرك أيَّامه عند بني إسرائيل، هل تعلم أنَّ الله حكم فيمَن زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة؟ " فقال: اللهمَّ نعم، أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعرفون أنك نبيٌّ مرسل ولكنهم يحسدونك. أخرجه البيهقي في كتاب الحدود، باب ما جاء في حدِّ الذمِّيِّين ... ، 8/ 245، من حديث أبي هريرة. وأصل القصَّة في الصحيحين من حديث ابن عمر. انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب المناقب، باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، 4/ 206، ح 3635. وصحيح مسلمٍ، كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهلِ الذمَّة في الزنى، 5/ 121، ح 1699. (3) هو ملك الروم، وهرقل اسمه، ولقبه قيصر. وقصَّته مع أبي سفيان مشهورةٌ، وفيها أنه قال له بعدما سأله عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: (فإن كان ما تقول حقًّا فسيملك موضع قدميَّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارجٌ، لم أكن أظنُّ أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشَّمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه). انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب بدء الوحي، 1/ 8، ح 7. وصحيح مسلمٍ، كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل، 5/ 163، ح 1773. (4) هو ميمون بن قيس بن ثعلبة الشاعر الجاهليُّ المشهور، ذُكِر أنه خرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد الإسلام، فأنشأ قصيدةً يمدح بها النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ومِن ضمنها أبيات يقرُّ فيها بأن محمَّدًا نبيُّ الإله، ويحضُّ على فرائض الإسلام، وينهى عن المحرَّمات المشهورة، فمرَّ بمكَّة في الفترة التي هادن فيها النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قريشًا، فصدَّه بعضُ المشركين عن نيَّته. انظر: السيرة النبويَّة لابن هشام 2/ 29 - 32، وديوان الأعشى 185 - 187
(2/20)
وقد أطلت في بيان هذا الشرط لأنني لم أره مشروحًا فيما وقفت عليه. ثم رأيت صاحب "الهَدْي" ذكر قصَّةً وقعت لبعض النصارى في العهد النبويِّ، ثم قال: [ب 9]: "وفيها: أن إقرار الكاهن الكتابي لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بأنه نبي لا يُدْخِلُه في الإسلام ما لم يلتزم طاعته ومتابعته، فإذا تمسَّكَ بدينه بعد هذا الإقرار لا يكون ردّة منه، ونظير هذا قول الحَبْرَين له وقد سألاه عن ثلاث مسائل، فلما أجابهما قالا: نشهد أنك نَبِيٌّ، قال: فما يمنعكما من اتِّباعي؟ قالا: نخاف أن تقتلنا اليهود (1)، ولم يَلْزَمْهُما بذلك الإسلامَ، ونظير ذلك شهادةُ عمِّه أبي طالبٍ له بأنه صادقٌ وأنّ دينه من خير أديان البريّة دينًا (2)، ولم تدخله هذه الشهادة في الإسلام. ومَن تأمَّل ما في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بالرسالة، وأنه صادق، فلم تُدخلهم هذه الشهادة في الإسلام، عَلِمَ أن الإسلام أَمْرٌ وراء ذلك، وأنه ليس هو المعرفة فقط، ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفةَ والإقرار والانقياد _________ (1) أخرجه التِّرمِذيّ في كتاب التفسير، بابٌ ومن سورة بني إسرائيل، ، ح 3144، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. والنَّسائيُّ في كتاب تحريم الدم، السحر، 7/ 102 - 103. (2) قال ذلك في قصيدةٍ له، أورد بعضها ابن إسحاق في سيرته ص 136.
(2/21)
والتزام طاعته ودينه ظاهرًا وباطنًا" (1). وبعد ذلك رأيت في حاشية عبد الحكيم على شرح المواقف ما لفظه: " .... من حصل له تصديقٌ بلا اختيارٍ إذا التزم العمل بموجبه يكون إيمانًا اتِّفاقًا. ولو صدَّق النبيَّ بالنظر إلى معجزاته اختيارًا ولم يلتزم العمل بموجبه بل عانده فهو كافرٌ اتِّفاقًا. فعُلم أن المعتبَر في الإيمان الشرعيِّ هو الاختيار في التزام موجب التصديق لا في نفسه، وهذا هو التسليم الذي اعتبره بعض الفضلاء أمرًا زائدًا على التصديق" (2). وإذ قد تبيَّن أن من شرط الاعتداد بشهادة أن لا إله إلا الله أن تقع على وجه الالتزام، فمن الواضح أنه لا بدَّ من معرفة معناها كسائر صيغ العقود التي يلتزم بها المكلَّف ما لم يكن ملتزمًا له قبل. ثم إذا وقعَتْ كلمة الشهادة مستكملة للشروط فشرط استمرار حكمها ألا يحدث من صاحبها ما يخلُّ بموجَبها، وهذا هو المقصود الحقيقي والثمرة المطلوبة، ولذلك وقع الاتِّفاق على أنَّ السجود للصنم أو الشمس أو نحوهما ردَّةٌ تخرج من الإسلام إلا المكرَه بشرطه، ولم يشترط في الحكم برِدَّة الساجد للصنم أو الشمس أن يُسَمِّي ما سجد له إلهًا أو يُسَمِّي سجوده عبادةً، بل لو كان حال السجود معلنًا بثباته على شهادة أن لا إله إلا الله وكانت هناك قرينةٌ تدلُّ أن سجوده إنما كان لغرضٍ عارضٍ، كأن جُعِلَ له مالٌ _________ (1) الهدي بهامش سيرة ابن هشامٍ 2/ 39. [المؤلف]. وهو في طبعة مؤسسة الرسالة 3/ 638. (2) حواشي شرح المواقف، موقف 6، مرصد 3، مقصد. [المؤلف]. 8/ 322 والنص المنقول لحسن جلبي في حاشيته لا لعبد الحكيم السيالكوتي.
(2/22)
عظيمٌ على السجود فسجد، لم يُفِدْه ذلك ظاهرًا ولا باطنًا. والسرُّ في ذلك: أنَّ سبب الكفر ها هنا ليس محصورًا فيما يدلُّ عليه السجود من الاعتقاد في الشمس، بل له وجه آخر وهو الإقدام على ما عُلم أنه في حكم الشرع كفرٌ، فالإقدام عليه بغير إكراهٍ دليلٌ واضحٌ على رضاه بأن يكون كافرًا، وسيأتي لهذا مزيدٌ إن شاء الله تعالى. وإذا علمت أن المقصود الحقيقيَّ هو الاستمرار على مقتضى الشهادة حتى لا يقع من الشاهد ما ينقضها علمت أنه لا بدَّ من معرفة معناها؛ إذ مَن لا يعرف معناها لا يؤمَن عليه أن يقع فيما ينقضها، وهذا بغاية الوضوح. [ب 10] شبهةٌ وجوابها فإن قيل: أفلا يكفي الإنسان أن يكون معترفًا بصدق الرسول في جميع [14] ما جاء به مصدِّقًا به مسلِّمًا راضيًا ملتزمًا العمل بموجَب ذلك عازمًا عليه، فلما سمع كلمة أن لا إله إلا الله وعلم أنَّ الرسول جاء بها اعترف بها وصدّق وسلّم ورضي والتزم وعزم على العمل بموجَبها مع جهله بمعناها كما يكفيه نحو هذا في الآيات القرآنيَّة والأحاديث المتواترة، وإذا وقع منه عملٌ يخالف موجَبها عُذِرَ بالجهل؟ قلت: الأدلَّة التي قدَّمناها صريحةٌ في أن المطلوب في الشهادة الاعترافُ والتصديق والتسليم والرضا والالتزام والعمل بالموجَب على وجه التحقيق في كلِّ واحد منها، وذلك لا يكون إلا مع العلم بالمعنى كما قدَّمنا. فأمَّا حصول هذه الأمور بمجرَّد خبر المعصوم مع جهل المعنى، فلا يكون على وجه التحقيق كما هو ظاهر. وقد يجمع الجاهل بالمعنى بين الاعتراف بلا إله إلا الله على الوجه المذكور وبين الاعتراف بما يناقض معناها، أعني
(2/23)
الشركَ، وإنكارَ حقيقة معناها، أعني التوحيد، وهكذا يُقال في التصديق وبقيَّة الأمور. وحينئذٍ فلم يحصل له شيء من المقصود وهو أن يعبد الله ولا يشرك به شيئًا، وما يدرينا لَعَلَّ هذا الرجل لو عَلِمَ حقيقة معناها لما اعترف ولا صدَّق، وهكذا الباقي. ووجه ذلك: أنه قد تقوم لديه شبهاتٌ تعارض عنده ما يعتقده من صدق الرسول أو يكون ذلك الأمر مخالفًا لهواه. وللهوى سلطان عظيم على النفوس، فربما عُرِضَت الحقيقة البينة على النفس وهي غير مخالفة لهواها فتقبلها، ثم تُعرض عليها حقيقة مثل تلك في الوضوح أو أبين، ولكنها مخالفة لهواها فتردّها. وهل كذّب المشركون رسلهم إلا لمجيئهم بما يخالف أهواءهم؟ وفي الحديث: "حُبُّك للشيء يُعْمي ويُصِمّ" (1). ومن تتبع مناظرات أهل النحل المختلفة وتأويلاتهم البراهينَ الواضحةَ تبين له ما ذكرناه، بل من تتبع مناظرات الفرق الإسلامية وما تحتجُّ به كلُّ فرقةٍ منها، [ب 11] وتردُّ ما يخالفها من الأدلَّة أو تتأوَّله عرف ما للهوى من عظمة السلطان، على أن كثيرًا من أولئك المتأوِّلين التأويلات التي لا يشكُّ البريء من الهوى في بطلانها هم ممن ثبتت معرفته وأمانته وأنه لا يتعمَّد الباطل، ولكن الهوى أعماه وأصمَّه فقاتل الحقَّ وهو يظنُّ أنه يقاتل عن الحقِّ. _________ (1) مسند أحمد 5/ 194. سنن أبي داود، كتاب الأدب، بابٌ في الهوى، 2/ 344، ح 5130. كلاهما من حديث أبي الدرداء مرفوعًا، وفي سنده مقالٌ، ورجَّح بعض الحفاظ وقفه، وفي الجامع الصغير أن ابن عساكر أخرجه من حديث عبد الله بن أُنَيْس، قال في الشرح [التيسير بشرح الجامع الصغير 1/ 1002]: "وسنده حسنٌ"، وقد رُوِي من حديث معاوية. [المؤلف] وفي نسخة أ: "وسنده حسن، وزَعْمُ وَضْعه رُدَّ".
(2/24)
ولله درُّ البُرَيق الهذلي في قوله (1): أَبِنْ لي ما ترى والمرء تأبى (2) ... عزيمته ويغلبه هواه [16] فيعمى ما يرى فيه عليه ... ويحسب ما يراه لا يراه وكما أن الإنسان قد يجتهد في الطاعة في العمل ولكنه لو كُلِّفَ عملًا شديد المشقة لم يُطِع، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد: 36 - 37]، وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66]، وقال تبارك وتعالى لرسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] = فكذلك قد يجتهد الإنسان في التصديق فإذا كُلِّف التصديق بما يخالف هواه لم يُصَدِّق، فربما أُخْبِر بخبر لا يفهمه فصدَّق على عادته، ولو تبيَّن له معناه وكان مخالفًا لرأيه وهواه لكذَّب أو ارتاب أو توقَّف؛ فقد كان مشركو قريشٍ يعلمون أمانة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حتى خصُّوه بلقب الأمين، ولما سأل هرقل أبا سفيان عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: هل كنتم تتَّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: لا (3). وأبو سفيان يومئذ رأسُ المشركين وأشدُّهم عداوةً لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. _________ (1) انظر: شرح أشعار الهذليِّين 2/ 758. (2) في شرح أشعار الهذليِّين: يأتي، ولعله أنسب. (3) صحيح البخاريِّ، في أوائله، بابٌ كيف كان بدء الوحي إلخ، 1/ 8 - 9، ح 7. [المؤلف]
(2/25)
وأخرج الحاكم في المستدرك عن ناجية بن كعبٍ (1)، عن عليِّ بن أبي طالبٍ، قال: قال أبو جهلٍ: "قد نعلم يا محمَّد أنك تصل الرحم وتَصْدُق الحديث، ولا نُكذِّبك، ولكن نُكذِّب الذي جئت به"، فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} الآية [الأنعام: 33]. قال الحاكم: "صحيحٌ على شرط الشيخين"، تعقَّبه الذهبي، فقال: "ما خرَّجا لناجية شيئًا" (2). [ب 12] أقول: أجل، لم يخرجا له، ولكن قد وثَّقه العجليُّ وابن حِبَّان، وقال ابن مَعين: "صالحٌ". فأما قول ابن المدينيِّ: "ما روى عنه غيرُ أبي إسحاق، وهو مجهولٌ"، فقد قال السخاوي في فتح المغيث ــ بعد ذكر مَن يقبل المجهول ــ: "وخصَّ بعضهم القَبول بمن يزكِّيه مع رواية الواحد أحدٌ من أئمة الجرح والتعديل، واختاره ابن القطَّان في بيان الوهم والإيهام، وصحَّحه شيخنا، وعليه يتمشَّى تخريج الشيخين في الصحيحين لجماعةٍ ... " (3). أقول: وبهذا الاعتبار يصحُّ قول الحاكم: "على شرط الشيخين". فأما قول الجوزجاني في ناجية: "مذمومٌ"، فالجوزجانيُّ كان فيه نصبٌ وانحرافٌ شديد عن عليٍّ عليه السلام، يرى محبَّة عليٍّ جرحًا؛ ولهذا لم يلتفت العلماء إلى كلامه في أصحاب عليٍّ ومحبِّيه، وقد صرَّح بذلك ابن _________ (1) انظر ترجمته في ميزان الاعتدال 4/ 155. [المؤلف] (2) المستدرك، كتاب التفسير، تفسير سورة الأنعام، سورة الأنعام شيَّعها من الملائكة ما سدَّ الأفق، 2/ 315. [المؤلف] (3) فتح المغيث ص 135. [المؤلف]
(2/26)
حجرٍ وغيره في مواضع. وعليه فقوله في ناجية: "مذمومٌ" معناه أنه كان يحب عليًّا، "وتلك شكاةٌ ظاهرٌ عنك عارها" (1). نعم، أخرج الترمذي الحديث في جامعه من طريق معاوية بن هشام، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناجية، عن عليٍّ. ثم أخرجه من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناجية، أنَّ أبا جهل ... قال الترمذي: "فذكر نحوه ولم يذكر فيه: عن عليٍّ. وهذا أصحُّ" (2). أقول: ابن مهديٍّ أثبت من معاوية، ولكن رواية المستدرك من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن ناجية، عن عليّ. وقد قال ابن مهدي نفسه: إسرائيل في أبي إسحاق أثبت من شعبة والثوريِّ. أقول: ولعلم مشركي قريشٍ بمنزلة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من الصدق والأمانة فزعوا إلى قولهم: (مسحورٌ)، (مجنونٌ)، ونحو ذلك. والمقصود أنه - صلى الله عليه وسلم - لو جاءهم بخبرٍ لا يخالف هواهم أو لا يعرفون معناه لصدَّقوه، ولكنه لما جاءهم بـ (لا إله إلا الله) وهم يعرفون معناها بما يخالف هواهم أنكروا. _________ (1) هذا عجز بيتٍ صدره: وعيَّرها الواشون أني أحبُّها وهو لأبي ذُؤيبٍ الهذلي، وظاهرٌ عنك، أي: زائلٌ عنك، لا يَعْلَق بك. انظر: شرح أشعار الهذليِّين 1/ 70. (2) جامع الترمذي، تفسير سورة الأنعام، 2/ 678، ح 3064. [المؤلف].
(2/27)
وفي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم جمع قريشًا [17] ثم قال لهم: "أرأيتكم لو أخبرتُكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدِّقيَّ؟ " قالوا: نعم، ما جرّبنا عليك إلَّا صدقًا، قال: "فإني [ب 13] نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديدٍ". فقال أبو لهبٍ: تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنَزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (1) [المسد: 1]. وقال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]. وقال جلَّ ثناؤه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 20]. وقد تقدَّم بيان أن فرعون وقومه كانوا مستيقنين بصدق موسى عليه السلام، ومع ذلك كان منهم ما كان. وكان عمرو بن عبيد من زُهَّاد المسلمين وعُبَّادهم يُضْرَب به المثل في ذلك، حتى قال الخليفة المنصور العباسي في العُبّاد: كلُّكم طالب صيد كلُّكم يمشي رويد غير عمرو بن عبيد _________ (1) صحيح البخاريِّ، [كتاب التفسير]، تفسير سورة الشعراء، [باب قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}]، 6/ 111، ح 4770. صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، بابٌ في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ}، 1/ 134، ح 208. [المؤلف]
(2/28)
ورثاه لما مات بأبياتٍ مشهورةٍ. ومع ذلك فإنها أخذته فتنةٌ في القَدَر غلا فيها حتى قال: "إن كان {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} في اللَّوح المحفوظ فما لله على ابن آدم حجَّةٌ". وسُئل مرَّةً عن {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} كانت في اللوح المحفوظ؟ فقال: "ليس هكذا كانت"، قيل: وكيف كانت؟ فقال: "تبَّت يدا مَن عمل بمثل ما عمل أبو لهبٍ"، كأنه يريد أنها كانت: "تبَّت يدا مَن أشرك بالله وكذَّب رسوله" مثلًا، ثم لما أشرك أبو لهب وكذَّب علم الله تعالى ذلك منه، فجعل بدل هذا {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}؛ لأنَّ مقصود عمرٍو نفي علم الله بأن فلانًا سيكفر وفلانًا سيفجر، وإنما يَعلم ذلك بعد وقوعه. ورُوِي له عن الأعمش، عن زيد بن وهبٍ، عن ابن مسعودٍ، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حديثٌ (1) رآه مخالفًا لهواه، فقال: لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذَّبته، ولو سمعته من زيد بن وهبٍ لما صدَّقته، ولو سمعت ابن مسعودٍ يقوله لما قبلته، ولو سمعتُ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (2) لرددته، ولو سمعت الله يقول هذا [18] لقلت: ليس على هذا أخذت ميثاقنا! ونُقِلَت عنه أشياء أخرى من هذا الباب. وجاء عنه أنه قال: "لو أن عليًّا _________ (1) هو حديث: "إن أحدكم يُجمع خلقه في بطْن أمه أربعين يومًا" إلخ، وهو في الصحيحين، انظر: صحيح البخاري، كتاب القدر، باب 1، 8/ 122 ح 6594، وصحيح مسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه 8/ 44 ح 2643 (2) زاد في تاريخ بغداد 12/ 172 هنا: (يقول هذا)، وهو أوضح.
(2/29)
وعثمان وطلحة والزُّبير شهدوا عندي على شِراك نعلٍ ما أجزته" (1). وليس هذا رأي عمرٍو وحده، بل كلُّ مَن يعتقد عقيدةً مستندًا فيها إلى عقله يزعم أنها يقينيَّةٌ عنده، بحيث يستحيل أن يجيء يقينٌ بخلافها. قال الغزالي: "أمَّا اليقين فشرحه أنَّ النفس إذا أذعنت للتصديق بقضية من القضايا وسكنت إليها فلها ثلاثة أحوال: أحدها: أن تتيقَّن وتقطع به .... بل حيث لو حُكي لها عن نبي من الأنبياء أنه أقام معجزة وادَّعى ما يناقضها فلا تتوقف في تكذيب الناقل، بل تقطع بأنه كاذب، أو تقطع بأن القائل ليس بنبي، وأنَّ ما ظن [ب 14] أنه معجزة فهي مخرقة (2)، وبالجملة فلا يؤثِّر هذا في تشكيكها بل تضحك من قائله وناقله .... " (3). وقد عرّفتك أن كلَّ معتقد عقيدة مسندًا لها إلى العقل يزعم أنها يقينية. ومعنى ذلك أنه لو لقي النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فشافهه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بما يخالف تلك العقيدة لكذّبه، والعياذ بالله. [19] فلا تحسبنْ هندًا لها الغدر وحدها ... سجيةَ نفسٍ، كلُّ غانيةٍ هندُ (4) ولكن القوم إذا جاء دليل شرعي يخالف عقيدتهم فتارة ينكرون ثبوته _________ (1) انظر ترجمته من: تهذيب التهذيب وغيره، وانظر: الاعتصام 1/ 309 - 313، وتاريخ الخطيب 12/ 170 - 188. [المؤلف] (2) ما عُمِل بتمويهٍ وخداعٍ. انظر: تاج العروس، مادَّة (مخرق). (3) المستصفى 1/ 43. [المؤلف] (4) البيت لأبي تمام، ديوانه 2/ 81.
(2/30)
عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، بل يزعمون أن ثبوته محال، وتارة يستكرهونه على التأويل، وقد مرَّ مثال ذلك عن عمرو بن عُبيدٍ. وقد علمنا أنهم مختلفون في العقائد؛ فهذا يعتقد أمرًا ويزعم أنه يقينيٌّ، وذاك يعتقد نقيضه ويزعم أنه يقينيٌّ. وبهذا يُعلَم أن من العقائد التي يزعم أصحابها أنها يقينيَّةٌ ما هو باطلٌ قطعًا، فلو فرضنا أن أصحابها لقوا النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فأخبرهم ببطلان عقيدتهم فماذا يكون حالهم؟ أيردُّون قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ويكذِّبونه ويقطعون بأنه ليس بنبيٍّ وأن معجزاته مخرقةٌ ويضحكون منه وممن يتَّبعه، أم يتردَّدون، أم يرجعون عن عقيدتهم التي زعموا أنها يقينيَّةٌ يستحيل أن يجيء يقينٌ بخلافها؟ ومَنْ تأمل تأويلاتهم المستكْرَهة للآيات القرآنيَّة وما وقع فيه شجعانهم كابن سينا وابن رشدٍ وغيرهما لم يجزم بحسن الظنِّ بهم. إنَّ مَن غَرَّه النساء بودٍّ ... بعد هندٍ لجاهلٌ مغرورُ كلُّ أنثى وإن بدا لك منها ... آية الحبّ حبُّها خيتعورُ (1) (2) هذا مع أن هؤلاء ــ وعمرٌو في مقدمتهم ــ إذا سمعوا آية من القرآن لم يفهموا معناها لم يتردَّدوا في تصديقها، وكذلك إذا كانت مخالفةً لعقيدتهم فإنهم يصدِّقونها بعد تأوُّلها على ما يوافق عقيدتهم، ولكن لو فُرِض [20] أنَّ آيةً جاءت قطعيَّة الدلالة على خلاف قولهم فما ندري ماذا يصنعون؟ وقد _________ (1) هو كلُّ شيءٍ يتغيَّر ويضمحلُّ ولا يدوم على حالٍ، والسراب المضمحِلُّ، وشيءٌ كنسيج العنكبوت يظهر في الحرِّ كالخيوط في الهواء. المعجم الوسيط 454. (2) البيتان لآكل المرار حجر بن مطاوية. البيان والتبيين للجاحظ: 3/ 328، والأغاني: 16/ 380 - 381.
(2/31)
نُقِل عن عمرٍو أنه جحد أن تكون {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] السورة، وقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] الآيات، من القرآن. وذهب بعض المنتسبين إلى الإسلام من المتفلسفين إلى أنَّ [ب 15] في القرآن والأحاديث الثابتة كذبًا كثيرًا، ويقولون: هو كذبٌ حسن للمصلحة. وذهب بعضهم إلى إنكار أن يكون القرآن من عند الله، وإنكار أن يكون الأنبياء معصومين عن الكذب، قالوا: وإنما هم رجالٌ صالحون مصلحون تكلَّموا بمقدار فهمهم وعلمهم فغلطوا كثيرًا. وفي قصة ابن أبي سرحٍ أنه كان يكتب للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فربَّما أملى عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "عليمٌ حليمٌ"، فيقول: أو: "عزيزٌ حكيمٌ"، فيقول النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "كلاهما سواءٌ"، فارتدَّ ابن أبي سرحٍ (1). هذا ضربٌ. والضرب الثاني، من أمثلته: ما في صحيح مسلمٍ من حديث أبيِّ بن كعبٍ في اختلاف القراءة، وفيه: قال أُبيٌّ: "فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ما قد غشيني ضرب في صدري، فَفِضْت عَرَقًا، وكأنما أنظر إلى الله فَرَقًا" (2). وفي خبر الرجل الذي قاتل مع النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أشدَّ _________ (1) انظر الروايات وتوجيه القصَّة في الصارم المسلول ص 118 وما بعدها. [المؤلف] (2) صحيح مسلمٍ، كتاب الصلاة [وفي بعض النسخ: كتاب صلاة المسافرين وقصرها]، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرفٍ، 2/ 203، ح 820. [المؤلف]
(2/32)
القتال، وقال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "هو من أهل النار"، فكاد بعض المسلمين يرتاب (1). [21] وفي قصَّة الحديبية، ويوم أحدٍ، ووفاة النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ما يشبه ذلك. والمقصود أن الإيمان الإجماليَّ لا يؤمَن تزلزله أو زواله إذا جاء في التفصيل ما يخالف الرأي والهوى، ولكنَّ أُبيًّا وأضرابه كان الله تبارك وتعالى يتداركهم فورًا ويخرجهم من الظلمات إلى النور. [22] وإنما لم يكلِّف الله عزَّ وجلَّ العباد بالإيمان التفصيليِّ بجميع ما جاء به الرسول بحيث لا يُقبَل إيمان العبد حتى يعلم الشريعة من أوَّلها إلى آخرها؛ لما في ذلك من المشقَّة الشديدة، بل عدم الإمكان، فلو كلَّفهم بذلك لم يكد يصحُّ إيمان أحدٍ، فاكتُفي بالعلم التحقيقيِّ بمعنى الشهادتين مع الإيمان الإجماليِّ، ثم كُلِّف الناس بعد ذلك ما يطيقون. والتوحيد رأس الدين وعماده، فلا يلزم من الاكتفاء بالإيمان الإجماليِّ بالقرآن والسنَّة بدون معرفة المعاني كلِّها أن يُكتفى بمثل ذلك في الشهادتين. [ب 16] فإن قيل: فما القول في صبيان المسلمين: أمسلمون أم لا؟ وفيمَن كبر منهم وبلغ ولم يعلم معنى الشهادتين تحقيقًا أمسلمٌ أم لا؟ وفيمَن قبل الإسلام من الأعاجم ونحوهم وهو لا يعلم معنى الشهادتين أيصحُّ إسلامه أم لا؟ _________ (1) صحيح البخاريِّ، كتاب القدر، باب العمل بالخواتيم، 8/ 124، ح 6606. صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، 1/ 74، ح 112. [المؤلف]
(2/33)
قلت: هؤلاء كلُّهم مسلمون، وإنما الكلام في الإيمان المنجي؛ فالصبيُّ ومَن بلغ مجنونًا ينجوان لعدم التكليف؛ فإن الأعراب وإن كانوا يعلمون معنى الشهادتين إلَّا أنهم لم يصدِّقوا به بقلوبهم، وهؤلاء لم يعلموا معنى الشهادتين حتى يُعلَم أيصدِّقون أم لا، ولكن الشريعة قد قبلت إسلام هؤلاء وهؤلاء وأجرت عليهم أحكام المسلمين. فإن قلت: فإذا كان رجلٌ عارفٌ بالتوحيد الذي تدلُّ عليه (لا إله إلا الله) تحقيقًا مصدِّقًا به مسلِّمًا راضيًا ملتزمًا عالمًا بموجَبه ولكنه لا يعلم معنى (لا إله إلا الله)، ومع ذلك يقولها امتثالًا مؤمنًا بها إجمالًا؟ قلت: أمَّا هذا فالأمر فيه قريبٌ، ولكن الغالب أن الجاهل بمعنى (لا إله إلا الله) يكون جاهلًا بحقيقة التوحيد، ومَن كان كذلك يُخشى عليه أن يكون مشركًا وهو لا يشعر، [23] أو أن يعرض له الشرك فيقبله وهو لا يدري، أو أن يرمي غيره من المسلمين بالشرك، [ب 17] وكلا الأمرين خطرٌ شديدٌ.
(2/34)
بابٌ في أن الشرك هلاك الأبد حتمًا، وأن تكفير المسلم كفرٌ أما الشرك ــ نعوذ بالله منه ــ فهلاك الأبد، لا هوادة فيه لأحدٍ، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116]. وقال تعالى: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)} أي: الملائكة، {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 26 - 29]. وقال تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
(2/35)
(88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الأنعام: 83 - 89]. وقال جلَّ ثناؤه: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) [24] وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 64 - 65]. وقال تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22]. [ب 18] وقال سبحانه: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39]. وقال عزَّ وجلَّ: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 213 - 214]. وقال جلَّ ثناؤه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. وقال تبارك وتعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [المؤمن: 18]. هذا مع أن الله عزَّ وجلَّ قد عصم ملائكته وأنبياءه وخاتمهم عليهم الصلاة والسلام من الشرك ومما هو دونه, ولكن نَبَّه بما تقدَّم من الآيات المتعلقة بهم على عِظَمِ أمر الشرك وخطره، مع أنَّ التعليم والتحذير هو من جملة العصمة.
(2/36)
فصلٌ ومما يبيِّن فظاعة الشرك وشدَّة بغض الله عزَّ وجلَّ له: النظر فيما ورد في تعظيم شأن ضدِّه وهو التوحيد. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. جاء عن ابن عبَّاسٍ وغيره تفسير العبادة بالتوحيد (1). ووَجْه ذلك: أن الله عزَّ وجلَّ يحبُّ أن يُعبد العبادة التي يقبلها، وهو لا يقبل إلا العبادة الخالصة التي لا شرك معها. [25] ومما يبيِّن عظمة شأن التوحيد وشدَّة خطر الشرك: أن أعظم سورة في القرآن، والسورة التي تعدل ثلثه، وإنما هي بضع عشرة كلمة، والسورة التي ورد أنها تعدل ربعه، وأعظم آية في القرآن= كلُّها مبنيَّةٌ على توحيد العبادة. أما أعظم سورة في القرآن فأمُّ الكتاب. روى البخاريُّ وغيره عن أبي سعيد بن المعلَّى أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال له: "ألا أعلِّمك أعظم سورةٍ في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟ "، فأخذ بيدي، فلما أردنا أن نخرج، قلت: يا رسول الله، إنك قلت: لأعلِّمنَّك أعظم سورةٍ من القرآن، قال: " {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته" (2). _________ (1) أخرجه الطبري في تفسيره 1/ 385، وابن أبي حاتم في تفسيره 1/ 59 - 60 كلاهما من طريق ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (اعبدوا ربكم) أي: وحِّدوا ربكم .. (2) صحيح البخاريِّ، [كتاب] فضائل القرآن، باب [فضل] فاتحة الكتاب، 6/ 187، ح 5006. [المؤلف]
(2/37)
أشار صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]. وجاء نحوه من حديث أُبَيِّ بن كعبٍ وأبي هريرة (1). وصحَّ في عدَّة أحاديث تسميتها أمَّ الكتاب وأمَّ القرآن. وفي ذلك أوضح الدَّلالة على أنها أعظم السور؛ لأن أمَّ الشيء في اللغة أعظم ما فيه، يُقال للدِّماغ: أمُّ الرأس. [ب 19] ومما يدل على عظمتها: أن الله تبارك وتعالى فرض قراءتها في كلِّ ركعةٍ من الصلاة، فانظر كم شُرِع تكرارها كلَّ يومٍ، والصلاة أعظم الفرائض الدينيَّة. وجاء أن الفاتحة هي الصلاة؛ ففي صحيح مسلمٍ وغيره من حديث أبي هريرة عن النبيِّ صلَّى الله تعالى عليه وآله وسلَّم: "قال الله تعالى: قَسَمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، قال الله تعالى: حمدني [26] عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي" الحديث، فصَّل فيه الفاتحة فقط فجعلها هي الصلاة (2). ويشهد لذلك تسمية الصلاة صلاةً، فإن الصلاة في اللغة: الدعاء، وليس في الصلاة دعاءٌ أعظم من الفاتحة، والشيء إنما يسمَّى باسم جزئه إذا كان ذلك الجزء كأنه كلُّه. _________ (1) المستدرك، [كتاب فضائل القرآن، "ما أُنزِلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثل فاتحة الكتاب"]، 1/ 557 - 558. [المؤلف] (2) صحيح مسلمٍ، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة، 2/ 9، ح 395. [المؤلف]
(2/38)
وبيان كون الفاتحة مبنيَّةً على توحيد العبادة: أن صدر السورة تمهيدٌ لقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. فقوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] معناه كما حقَّقه المفسِّرون وغيرهم: لا نبتدئ بشيءٍ مستعينين به أو متبرِّكين إلا باسم الله الرحمن الرحيم، وتَضَمُّنُ هذا للتوحيد ظاهر. {الْحَمْدُ لِلَّهِ} معناه على ما حقَّقه المفسرون وغيرهم: كلُّ حمدٍ فهو مستحَقٌّ لله وحده، أي ليس معه تعالى أحدٌ يستحقُّ شيئًا من الحمد، وإيضاحه: أنَّ الكمالات التي يُسْتَحَقُّ عليها الحمد كلُّها لله عزَّ وجلَّ؛ فإنَّ ما يُنْسَب إلى غيره من الكمالات فهو أثرٌ من آثار خلقه تعالى وفضله {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]. رُوِي عن جعفر بن محمَّد بن عليِّ بن الحسين بن عليٍّ عليهم السلام قال: فَقَدَ أبي بغلة له فقال: لئن ردَّها الله عزَّ وجلَّ لأحمدنَّه بمحامد يرضاها، فما لبث أن أُتِيَ بها بسرجها ولجامها، فركبها، فلما استوى عليها وضَمَّ عليه ثيابه، رفع رأسه إلى السماء وقال: الحمد لله، لم يزد عليها، فقيل له في ذلك، فقال: وهل تركتُ أو أبقيتُ شيئًا؟ جعلتُ الحمد كلَّه لله عزَّ وجلَّ (1). وإذا كان لا يستحق شيئًا من الحمد إلا الله عزَّ وجلَّ، فقد بان من ذلك أنه لا يَستحق غيرُه تعالى شيئًا من العبادة. _________ (1) صفة الصفوة 2/ 62. [المؤلف]. وقد رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر ص 54، ح 106. ومن طريقه أبو نعيم في حلية الأولياء 3/ 186، وفي إسناده محمد بن مسعر، لم نجد فيه جرحًا ولا تعديلًا.
(2/39)
قال ابن جريرٍ: " {الْحَمْدُ لِلَّهِ} الشكر خالصًا لله جَلَّ ثناؤه دون سائر ما يُعبد من دونه ودون كُلِّ ما يُرَى من خلقه" (1). [ب 20] {رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي مالكهم ومدبِّرهم، بيده ملكوت كلِّ شيءٍ، يدبِّر الأمر كلَّه، فكيف يعبد أحدٌ من عباده المخلوقين المربوبين عبدًا مخلوقًا مربوبًا مثله؟ ! [27] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} هذا إبطالٌ لما توهَّمه بعض المشركين بل جميعهم كما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى في بيان اعتقاد قدماء المصريِّين (2)، توهَّموا أن الناس لحقارتهم وجهلهم وفجورهم لا ينبغي لهم أو لا يغنيهم التوجُّه إلى مَن له الكبرياء والجلال والعظمة تبارك وتعالى، بل لا بدَّ لهم أن يتوجَّهوا إلى المقرَّبين عنده كالروحانيِّين والصالحين ليكونوا شفعاءهم عند الله ويقرِّبوهم إليه زُلفى؛ لأنهم متوسِّطون بين الجبار عزَّ وجلَّ وبين سائر الخلق، فدرجتهم لا ترفعهم عن الالتفات إلى العامَّة ولا تضعهم عن نظر الجبَّار تعالى إليهم وقبول شفاعتهم. ويقول بعضهم: إذا كثرت ذنوب الإنسان كان حريًّا بألَّا تناله رحمة العزيز الجبَّار إلا أن يشفع له أحد المقرَّبين، وهذا جهلٌ برحمة الله تعالى التي قال فيها: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، وقال جلَّ ثناؤه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ}، إلى قوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [المؤمن: 7]. وسيأتي بسط هذا المعنى إن شاء الله تعالى. _________ (1) تفسير ابن جرير 1/ 45. [المؤلف] (2) انظر ص 700 فما بعدها.
(2/40)
[28] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فيه ردٌّ على مَن يقول: أما الدنيا فإن الله تبارك وتعالى يوسِّع فيها على البرِّ والفاجر؛ فيمكن ألَّا يحتاج المخلوق فيها إلى شفاعةٍ، وأما الآخرة فلا غنى فيها عن الشفاعة؛ فأخبر الله تعالى أنه مالك يوم الدِّين بما فيه، فهو الذي يملك الشفاعة والشافعَ والمشفوعَ له، {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 43]، وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]. فمَن تدبَّر الآيات المتقدِّمة من الفاتحة واستحضر ما تضمنته من دلائل التوحيد لم يبقَ عنده ريب في أنَّ الله عزَّ وجلَّ هو وحده المستحق للعبادة، فإذا كان مع ذلك مستحضرًا أنه قائمٌ بين يدي ربِّ العالمين يثني عليه ويتضرَّع إليه، لم يتمالك نفسه أن يقول بلسانه وقلبه وعقله: [ب 21] {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، ومعنى ذلك كما أطبق عليه المفسرون وأهل العربية وأهل المعاني: نَخُصُّك اللَّهمَّ بعبادتنا ونَخُصُّك باستعانتنا، أي: لا نعبد غيرك، ولا نستعين أحدًا سواك. وعبارة ابن جريرٍ: "وتأويل قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لك اللهم نخشع ونذلّ ونستكين إقرارًا لك يا ربنا بالربوبيَّة". ثم روى بسنده عن ابن عبَّاسٍ قال: "قال جبريل لمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: قل يا محمَّد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} نُوَحِّد ونخاف ونرجو يا ربَّنا لا غيرك"، إلى أن قال ابن جريرٍ: "ومعنى قوله: {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: وإيَّاك ربنا نستعين على عبادتنا إياك وطاعتنا لك وفي أمورنا كلها لا أحدًا سواك، إذ كان مَنْ يكفر [29] بك يستعين بسواك، ونحن
(2/41)
بك نستعين في جميع أمورنا مخلصين لك العبادة". ثم روى بسنده عن ابن عبَّاسٍ: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: "إيَّاك نستعين على طاعتك وعلى أمورنا كلِّها" (1). وعلاقة بقيَّة السورة بالتوحيد تظهر بالتدبُّر. ثم رأيت في نظم الدرر للعلامة البقاعيِّ تلميذ الحافظ ابن حجرٍ في الكلام على الفاتحة ما لفظه: "فالغرض الذي سيقت له الفاتحة هو: إثبات استحقاق الله تعالى لجميع المحامد وصفات الكمال واختصاصه بملك الدنيا والآخرة وباستحقاق العبادة .... ، ومدار ذلك كله مراقبة العباد لربهم. والمقصود من جَمْعهم تعريفهم بالمَلِكِ وبما يرضيه وهو إفراده بالعبادة، وهو مقصود القرآن الذي انتظمته الفاتحة لإفراده بالعبادة فهو مقصود الفاتحة بالذات، وغيره وسائل إليه ..... ؛ لأن [المقصود من] (2) إرسال الرسل وإنزال الكتب: نصبُ الشرائع، والمقصود من نصب الشرائع: جمع الخلق على الحق، والمقصود من جمعهم: تعريفهم بالملِك وبما يرضيه، وهو إفراده بالعبادة، وهو مقصود القرآن الذي انتظمته الفاتحة بالقصد الأوَّل" (3). أقول: ويتلخَّص من كلامه بإيضاحٍ أنَّ مقصود الشرائع مجموعٌ في _________ (1) تفسير ابن جريرٍ 1/ 52. [المؤلف] (2) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل، وأضفته من المطبوع. (3) كذا نقلته من أوراقٍ مأخوذةٍ بالتصوير عن نسخةٍ قلميَّةٍ محفوظةٍ بدار الكتب المصريَّة أو بإحدى مكاتب إسلامبول. [المؤلف]. وهو في المطبوع 1/ 20 - 22. وقد وضع المؤلف هنا في نسخة (أ) كلمة (ملحق). واستوفى في هذا الملحق المستقلِّ الكلامَ على سورتي الإخلاص والكافرون.
(2/42)
الإسلام، ومقصود الإسلام مضمَّنٌ في القرآن، ومقصود القرآن منتظمٌ في الفاتحة، ومقصود الفاتحة في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}. وتقرير هذا يُحْوِج إلى إطالةٍ، ويكفي في إثباته قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. [ب 22] وأما السورة التي تعدل ثلث القرآن، فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، ففي صحيح البخاري "عن أبي سعيد الخدري أن رجلًا سمع رجلًا يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، يردِّدها فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر ذلك له، وكأَن الرجل يتقالُّها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "والذي نفسي بيده، إنها لتعدِل ثلثَ القرآن"" (1). وفي صحيح مسلم "عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلته ثلث القرآن؟ قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن". وفيه: "عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: احشُدوا (2) فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، فحشَد مَن حشَد، ثم خرج نبيُّ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، فقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. ثم دخل فقال بعضنا لبعض: إني أرى هذا خبرٌ (3) جاءه من السماء فذاك الذي أدخله، ثم خرج نبيُّ الله صلى الله عليه _________ (1) صحيح البخاري، فضائل القرآن، فضل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، 6/ 189، ح 5013. [المؤلف] (2) يعني: اجتمِعوا واستحضروا الناس. النهاية 1/ 388. (3) كذا في الأصل وصحيح مسلم، وفي إحدى نُسخ صحيح مسلم بالنصب.
(2/43)
وآله وسلم فقال: إني قلت لكم سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا إنها تعدل ثلث القرآن" (1). وفي الصحيحين وغيرهما أحاديث أخرى في هذا المعنى وفي فضلها. فأما بناؤها على توحيد العبادة فإن قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} معناه عند السلف ما لخَّصه ابن جرير في قوله: "هو الله الذي له عبادة كل شيء، لا تنبغي العبادة إلا له ولا تصلح لشيء سواه" (2). ومَن حمله على أَحديَّة الذات أو على ما يشمل الأمرين فالمراد بأحديَّة الذات، والله أعلم، الرَّدُّ على النصارى في قولهم: (ثلاثة أقانيم)، وانجرُّوا بذلك إلى القول بأن عيسى إله يستحق العبادة، وسيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح ذلك، وعلى هذا فإثبات أحديَّة الذات مقصود منه إثبات الأحديَّة في استحقاق العبادة. {اللَّهُ الصَّمَدُ (2)}، ساق ابن جرير آثارًا في تفسيره ثم قال: "قال أبو جعفر: الصمد عند العرب هو السيد الذي يُصْمَد إليه، الذي لا أحد فوقه، وكذلك تسمِّي أشرافَها، ومنه قول الشاعر (3): _________ (1) صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب فضائل القرآن، باب فضل قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. [المؤلف] (2) تفسيره 3/ 195. [المؤلف] (3) نُسب البيت إلى (هند) بنت معبد الأسدية. انظر: سيرة ابن هشام 2/ 254، ومعجم ما استعجم 2/ 996، والبيان والتبيين 1/ 180، وخزانة الأدب 11/ 269. ونُسب أيضًا إلى سبرة بن عمرو الأسدي. انظر: شرح أبيات إصلاح المنطق 151، وسمط اللآلي 2/ 933، ولسان العرب مادة (خير).
(2/44)
ألا بكَّر الناعي بخيري بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيِّد الصَّمَد وقال الزِّبْرِقان (1): ولا رهينة إلا سيِّد صمد فإذا كان كذلك فالذي هو أولى بتأويل الكلمة المعنى المعروف من كلام مَن نزل القرآن بلسانه" (2). [ب 23] وفي الكشاف (3): "الصمد فَعَل بمعنى مفعول من صمد إليه إذا قصده وهو السيد المصمود إليه في الحوائج". أقول: وإنما زاد ابن جرير قوله: "الذي لا أحد فوقه" لما فهمه والله أعلم من الحصر في قوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ}، أي: لا صَمَد إلَّا الله، وقد نص غيره على الحصر وأنه لأجله عُرِّف (الصمد) دون (أحد)؛ لأن المشركين لم يدَّعوا الأحديَّة لغير الله عز وجل، وإنما ادَّعوا الصمدية فأتى بالحصر ردًّا عليهم. وقد نص أهل البلاغة في بحث المسند أنَّ نحو "زيد الأمير" قد يفيد القصر، أي: لا أمير إلا زيد. وكأن ابن جرير رأى أن غير الله تعالى قد يصمد الناس إليه كالملوك والرؤساء وأن الصمْد إليهم قد يكون مباحًا، فرأى أنه لا يتأتَّى الحصرُ إلا مع _________ (1) مجاز القرآن 2/ 316. انظر: الأمالي لابي علي القالي 2/ 288، وفرحة الأديب للغندجاني 177. وصدره: ساروا إلينا جميعًا فاحتملوا (2) تفسيره 30/ 197. [المؤلف] (3) 4/ 242.
(2/45)
الزيادة المذكورة "الذي لا أحد فوقه"، والصواب: أنه لا حاجة إليها، ولكن الصمد في الآية صمد خاص تعيِّنه القرائن، وسيأتي بيانه في تحقيق الدعاء إن شاء الله تعالى، وهذا الصَّمْد الخاصُّ عبادة لا يستحقه إلَّا الله تعالى. {لَمْ يَلِدْ} ردٌّ على من زعم أن لله تعالى ولدًا، ومنهم مشركو العرب في قولهم: (الملائكة بنات الله)، والنصارى في شأن عيسى وغيرهم، وهؤلاء زعموا لله تعالى ولدًا ثم أشركوا ذلك المزعوم أنه ولد في العبادة، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى. {وَلَمْ يُولَدْ} فيه رد على النصارى في قولهم: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17، 72]، ثم عبدوه مع أنه مولود. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} فيه [ردٌّ] (1) على جميع أصناف المشركين الذين يؤلهون غير الله، فإنهم يجعلونهم أكفاءً له من حيث استحقاق العبادة وإن كانوا لا يسوُّونهم به في كل شيء، وسيأتي إيضاح هذا إن شاء الله تعالى. ولبناء هذه السورة على توحيد العبادة سميت سورة الإخلاص، والله أعلم. وأما السورة التي ورد فيها أنها تعدل ربع القرآن فـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، ففي روح المعاني (2): "وجاء في حديث أخرجه الطبراني في الأوسط (3) عن ابن عمر مرفوعًا، وفي آخر أخرجه في _________ (1) زيادة يحتِّمها السياق. (2) 30/ 249. (3) 1/ 61، ح 186، وفي إسناده: عُبَيد الله بن زحرٍ، وفيه مقالٌ. وأخرجه الحاكم في كتاب فضائل القرآن، " {إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدل نصف القرآن، و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ربع القرآن"، 1/ 566 (سقط من الأصل وهو في التلخيص). وقال: "صحيحٌ"، فتعقَّبه الذهبي فقال: "بل جعفر بن ميسرة منكر الحديث جدًّا، قاله أبو حاتمٍ. وغسَّان ــ يعني ابن الربيع ــ ضعَّفه الدارقطنيُّ". وانظر الآتي.
(2/46)
الصغير (1) عن سعد بن أبي وقاص كذلك أنها تعدل ربع القرآن". وأخرج أبو داود والترمذي والحاكم وغيرهم من طريق فروة بن نوفل الأشجعي، عن أبيه أنه أتى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله علِّمني شيئًا أقوله إذا أويت إلى فراشي، قال: "اقرأ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فإنها براءة من الشرك". قال الحاكم: "صحيح الإسناد" وأقره الذهبي (2). _________ (1) 1/ 114، وفي إسناده: زكريا بن عطية. قال أبو حاتم: "منكر الحديث". وقال العُقيلي في حديثه هذا: "لا يتابع عليه". انظر: الجرح والتعديل 3/ 599، الضعفاء 2/ 85. وورد من حديث أنس، أخرجه الترمذي في كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في {إِذَا زُلْزِلَتِ} 5/ 166، ح 2895. وأحمد 3/ 146 و 221. من طريق سلمة بن وردان عنه. قال الترمذي: "حديث حسن". وأخرجه الترمذي أيضًا في الموضع السابق 5/ 165 - 166، ح 2893. من طريق ثابتٍ عنه. وقال: "حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث هذا الشيخ: الحسن بن سلم". ومن حديث ابن عباس. أخرجه الترمذي في الموضع السابق 5/ 166، ح 2894. والحاكم في كتاب فضائل القرآن، " {إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدل نصف القرآن و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ربع القرآن". قال الترمذي: "هذا حديثٌ غريبٌ لا نعرفه إلا من حديث يمان بن مغيرة". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، فتعقَّبه الذهبي فقال: "بل يمان ضعَّفوه". (2) المستدرك، كتاب فضائل القرآن، قراءة {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} براءةٌ من الشرك، 1/ 565. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ولم يتعقَّبه الذهبي. [المؤلف]. قلت: وانظر: سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب ما يقول عند النوم، 4/ 313، ح 5055. وجامع الترمذي. كتاب الدعوات، باب 22، 5/ 474، ح 3403. وقال: "وقد اضطرب أصحاب أبي إسحاق في هذا الحديث ... ". وعمل اليوم والليلة للنسائي، قراءة {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} عند النوم ... ، ص 468 - 469، ح 801 - 804. وصحيح ابن حبان (الإحسان)، كتاب الرقائق، باب قراءة القرآن، ذكر الأمر بقراءة {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} لمن أراد أن يأخذ مضجعه، 3/ 69 - 70، ح 789 - 790].
(2/47)
وجاء نحوه من حديث جَبَلة بن حارثة (1)، وهو كما في الإصابة في ترجمته: "حديث متصل صحيح الإسناد" (2). [ب 24] وورد نحوه من حديث أنس، أخرجه البيهقي في الشعب (3)، ومن حديث خبَّاب أخرجه البزار وابن مردويه (4)، ذكرهما في روح _________ (1) أخرجه أحمد 5/ 457، والنسائي في عمل اليوم والليلة، الموضع السابق، ص 467، ح 800، والطبراني في الكبير 2/ 287، ح 2195، وفي الأوسط 1/ 272، ح 888، و 2/ 275، ح 1968. قال الهيثمي: "ورجاله وُثِّقوا". مجمع الزوائد 10/ 166. وفي إسناده اختلافٌ بيَّنه النسائي في الموضع المذكور، وانظر: العلل للدارقطني 13/ 277، س 3174. (2) الإصابة 2/ 159. (3) انظر: شعب الإيمان، باب في تعظيم القرآن، فصل في فضائل السور والآيات، ذكر سورة {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 5/ 461 - 462، ح 2291. قال البيهقي: "هو بهذا الإسناد منكر". (4) انظر: مختصر زوائد البزَّار 2/ 416، ح 2122. والمعجم الكبير للطبراني 4/ 81، ح 3708. وليس فيه: "فإنها براءةٌ من الشرك". والدر المنثور 8/ 657 - 658. وفي إسناده شريك بن عبد الله، وهو صدوق اختلط. وجابرٌ الجعفيُّ، وهو ضعيف.
(2/48)
المعاني (1) قال: "وأخرج أبو يعلى والطبراني عن ابن عباس مرفوعًا: "ألا أدلُّكم على كلمة تنجيكم من الإشراك بالله؟ تقرؤون: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} عند منامكم" (2). فأما بناؤها على توحيد العبادة فظاهر. وأما الآية فآية الكرسي؛ ففي صحيح مسلم وغيره "عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله تعالى معك أعظم؟ قال: قلت: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، قال: فضرب في صدري: وقال: والله ليَهْنِك العلمُ، أبا المنذر" (3). وقد وردت في فضلها أحاديث أخرى لا حاجة إلى ذكرها هنا. وأما بيان بنائها على توحيد العبادة فهاكه: _________ (1) 30/ 249. (2) أخرجه أبو يعلى، كما في المطالب العالية 15/ 452، ح 3786، والطبراني في المعجم الكبير 12/ 241، ح 12993. قال الهيثمي: "وفيه جبارة بن المغلس، وهو ضعيف جدًّا". مجمع الزوائد 10/ 167. (3) صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب فضائل القرآن، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي. [المؤلف]
(2/49)
قال تعالى في الآية التي قبلها: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]. المراد، والله أعلم، بنفي الخلَّة: ما لم يكن في طاعته، كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، وهذه الآية تقدَّمها في سورة الزخرف ذكر شأن مشركي العرب في عبادتهم الملائكة، وقولهم: "بنات الله"، وذكر شأن النصارى في عبادتهم عيسى وقولهم: "ابن الله"، فيظهر من هذا أن قوله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ} الآية فيه إشارة إلى ذلك، أي أن مشركي العرب يحبون الملائكة ويعبدونهم، والنصارى يحبون المسيح ويعبدونه، فإذا كان يوم القيامة كان الملائكة والمسيح أعداء لمن عبدهم من دون الله، وقد بين الله عز وجل ذلك في مواضع من القرآن كما يأتي إن شاء الله تعالى. وهكذا قوله: {وَلَا شَفَاعَةٌ} المراد بها، والله أعلم، الشفاعة التي يطمع فيها المشركون من الملائكة وعيسى ونحوهم، فأمر الله عز وجل المؤمنين ألَّا يتَّكلوا على الشفاعة التي يتَّكل عليها المشركون، ونبَّه على ذلك بقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. ثم رد الله تعالى على الكافرين زعمهم وبيَّن حقيقة الشفاعة بقوله: [30] {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} خبرٌ برهن عليه بما [ب 25] يعترف به المشركون وغيرهم، وهو أنه عز وجل:
(2/50)
{الْحَيُّ} وحياته عز وجل حياة ذاتية تامة كاملة، نسبة حياة الملائكة والجن والإنس إليها أضعف من نسبة موتهم إلى حياتهم. وإلى هذا ــ والله أعلم ــ أشار سبحانه بقوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 20 - 21]. المدعوُّون هنا الملائكة أو هُم وغيرهم، وصفهم سبحانه بأنهم أموات غير أحياء، أي بالنظر إلى الحياة الكاملة، وهي حياته سبحانه وتعالى. وسيأتي الكلام على هذه الآية إن شاء الله تعالى. {الْقَيُّومُ} قال الراغب (1): "أي القائم الحافظ لكل شيءٍ والمعطي له ما به قوامه، وذلك هو المعنى المذكور في قوله: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، وقوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ} [الرعد: 33] "، ولا أحد سواه تعالى يشاركه في ذلك ولا يقاربه. {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}، فيه توضيح لكمال حياته وقيُّوميَّته. {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}، بما فيه الداعون من دونه والمدعوون وغيرهم، وكل خير وشر يحتاج المخلوق إلى جلبه أو دفعه. فهذه الصفات يعترف بها المشركون لله عز وجل ويعترفون باختصاصه بها؛ فثبت بها أنه سبحانه هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له؛ لأن العبادة إن كانت إجلالًا فالله هو الجليل على الحقيقة، وإن كانت شكرًا فهو المنعم على الحقيقة، وإن كانت استجلابًا لنفعٍ أو استدفاعًا لضرٍّ فهو سبحانه _________ (1) المفردات 691.
(2/51)
الذي بيده ملكوت كلِّ شيءٍ، والمشركون يعترفون بهذا كلِّه، إلا أنهم يقولون: الذين نعبدهم من دون الله هم مقربون لديه يشفعون إليه، فلما ثبت أنَّه سبحانه وتعالى قرّبهم وجعل لهم أن يشفعوا إليه لزم من ذلك أن لا يمنع غيرهم من عبادتهم طلبًا لشفاعتهم؛ لأن ذلك ينفع العابد ولا يضرُّ الله تعالى. وعلى ذلك قولهم فيما حكاه الله عز وجل عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقولهم: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، فأبطل الله تعالى شبهتهم بقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} الاستفهام بمعنى النفي، كما قال تعالى في موضع آخر: [31] {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3]. والمشركون يسلِّمون أنه لا يشفع أحد عنده بغير إذنه، ولكنهم يتوهَّمون أنه سبحانه قد أذن للمقرَّبين في الشفاعة إذنًا عامًّا، فدفع سبحانه وتعالى ذلك بقوله: [ب 26] {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}، فهو سبحانه العالم بكل شيءٍ بالمشفوع له وما قُدِّر له، وبالشافع وشفاعته وغير ذلك، والمقرَّبون لا يحيطون بشيءٍ من علمه إلَّا بما شاء، فلا يعلمون بالمشفوع له ولا بحقيقة عمله ولا حقيقة ما يستحقه ولا ما قدر له ولا بأن الشفاعة له صواب يشاؤه الله ويرتضيه، لا يعلمون شيئًا من هذا إلا إذا شاء الله تعالى أن يعلموا، وقد ثبت أنهم مملوكون لله عز وجل مبالغون في طاعته، فيُعْلَم من هذا أنهم لا يشفعون لأحدٍ إلَّا بعد أن يأذن الله تعالى لهم أن يشفعوا له، وأنه سبحانه لا يأذن لهم إلا بعد أن يشاء شفاعتهم لذلك الشخص ويرتضيها ويعلم أنها صواب، كما قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ
(2/52)
فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]، وقال عز وجل: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38]، [32] وقال تبارك وتعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26 - 28]. ومَن تدبَّر هذا كلَّه علم أنَّ شفاعة المقرَّبين لا تقع إلَّا لمن أراد الله عز وجل أن ينفعه، ومَن أراد الله عز وجل أن ينفعه فلا بد أن ينفعه، فإن كان قد قضى أن ذلك النفع يكون بعد شفاعة فإنه سبحانه يأمر بها الشفيع فيشفع طاعة لربه ومسارعة في مرضاته. وإذا كان الأمر كذلك فلا معنى لطلب الشفاعة من المقربين، ولا لتعظيمهم لكي يشفعوا. فإذا كان الطلب والتعظيم عبادة فهو مع ذلك موجِبٌ لغضب الله عز وجل على فاعله، لأنه أشرك به غيره، فكيف يرجو منه أن يجازيه على ذلك بأن يرتضيه ويرضى له النفع، ويأذن في الشفاعة له ويرضاها؟ بل وموجِبٌ لغضب المقربين على الفاعل؛ لأنهم ما تقرَّبوا إلا بطاعتهم لربهم وحبهم لرضاه حبًّا أفناهم عن غيره من الحظوظ والأغراض. فأما ما ثبت بسلطان أن الله عز وجل أمر به وأذن فيه مما فيه توقير للمقربين فإنه عبادة لله تعالى، كما سيأتي تحقيقه بأدلته، والحق على الناس أن يقتصروا عليه، والله الموفق. [ب 27] {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ
(2/53)
الْعَظِيمُ}. في هذا وفيما قبله إبطال لما يتوهَّمه بعض الأمم من أن الله عز وجل يَكِلُ كثيرًا من تدبير العالم إلى الرُّوحانيِّين والأرواح، فيدبِّرون كما يريدون، ويزيد بعضهم فيتوهَّم أنَّ الله تبارك وتعالى لا يقدر على التدبير بغير معونة الرُّوحانيين والأرواح، ويغلو بعضهم فيجحد علم الله تعالى بالجزئيات، أو يشكُّ فيه. وسيأتي بسط الكلام على هذا وذكر الآيات الصريحة في إبطاله إن شاء الله تعالى. [33] هذا، والآيات المبيِّنة خطر الشرك كثيرة جدًّا، وفيما تقدَّم كفاية إن شاء الله تعالى. وأمَّا رمي المسلم بالشرك من غير بيِّنة، فحسبك من خطره ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من طرق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ مَن كفَّر مسلمًا فقد كفر (1). على أنَّ مَن لم يحط علمًا بمعنى لا إله إلا الله على سبيل التحقيق فهو نفسه على خطر أن يكون مشركًا، أو يعرض له الشرك فيقبله وهو لا يشعر، فالأَولى به أن يبادر إلى تخليص نفسه. وقد جاء من حديث أبي موسى: "خطبنا النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ذات يوم فقال: أيها الناس، اتقوا هذا الشرك فإنه أخْفَى من دبيب النمل". _________ (1) انظر: صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب مَن كفَّر أخاه ... ، 8/ 26، والباب الذي يليه. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم يا كافر، 1/ 56. [المؤلف]
(2/54)
الحديث، رواه الإمام أحمد (1)، وجاء مثله من حديث عائشة، رواه الحاكم في المستدرك (2). ونحوه من حديث أبي بكر الصديق وابن عباس (3). وسيأتي (4) إن شاء الله تفصيل هذه الأحاديث، والكلام على أسانيدها (5)، وبيان أن في سياقها ما يدل أنه أريد بها الشرك الحقيقي كما هو الظاهر، لا الشرك الأصغر الذي هو الرئاء. _________ (1) المسند 4/ 403. [المؤلف] (2) 3/ 391. [المؤلف] (3) انظر: كنز العمال 2/ 97 و 98 و 169. [المؤلف] (4) 641. [المؤلف]. وانظر ص 989 فما بعدها في كلامه عن القسم بغير الله. (5) انظر ص 143 فما بعدها.
(2/55)
[ز 1] بابٌ في أصولٍ ينبغي تقديمها
الأصل الأول حجج الحقِّ شريفةٌ عزيزةٌ كريمةٌ
ليست كالهَلُوك (1) تعرض نفسها، ولا كأمِّ خارجة ــ يُقال لها: خِطْبٌ، فتقول: نِكْحٌ ــ (2)، ولا كميٍّ في وقاحتها ولجاجها؛ إذ قال صاحبها (3): على وجهِ مَيٍّ مسحةٌ من مَلاحةٍ ... وتحت الثياب العارُ لو كان باديا فكشفت ثيابها، وقالت: هل ترى عارًا؟ وإنما شأنها أن تدعو الناس إلى طلبها، فمن جدَّ في طلبها وبذل وسعه في التقرُّب منها، ولم يكن له هوًى في سواها، أو كان له ولكنه يؤثرها على ما عداها، كشفت عن وجهها وعرَّفته بنفسها؛ ومن فسد طبعه فلم يُعْنَ بشأنها أو قعدت به همَّته عن الجهاد في سبيل الوصول إليها قالت له (4): دَعِ المكارم لا ترحل لبُغيتها ... واقعد فإنَّك أنت الطاعم الكاسي ومَن حمله الجهل بها والغرام بغيرها على أن يعيبها وينفر عنها ازدادت _________ (1) هي الفاجرة الشبِقَة المتساقطة على الرجال. انظر: تاج العروس 27/ 404. (2) هي أم خارجة البجلية، يقال في المثل: أسرع من نكاح أم خارجة. انظر: الكامل 2/ 580 ومجمع الأمثال 1/ 348. (3) نُسِب في خزانة الأدب (1/ 109) إلى ذي الرُّمَّة، وكان يحلف أنه ما قاله. وفي المصدر نفسه أن ابنة عمٍّ لمَيَّ قالته على لسانه. (4) البيت للحطيئة. انظر: ديوانه 108، والكامل للمبرِّد (2/ 720)، والطاعم: الحسن الحال في المطعم، أي: إنك ترضى بأن تشبع وتلبس.
(2/56)
عنه بعدًا واحتجابًا، وقالت: حسبه ذاك عقابًا. ارض لمن غاب عنك غيبتَه ... ذلك ذنبٌ عقابه فيه (1) ومَن كانت حاله بينَ بينَ أشارت إليه تشوِّقه، فإما أن يرقى به الشوق إلى درجة الأوَّل، وإما أن يحطَّه اليأس إلى درجة الثاني، وإما أن يبقى معلَّقًا فيوشك أن تَعْرِض له إحدى البغايا فتذهب به إلى حيث ألقت رَحْلَها أُمُّ قَشْعَمٍ (2). فإن قيل: هذا تمثيلٌ لا يُقنِع، فارجع بنا إلى التحقيق؛ فقد يتراءَى للناظر أنه لو كانت حجج الحقِّ ظاهرةً مكشوفةً لكان أولى. قلتُ: الجواب عن هذا يتوقَّف على معرفة حكمة الخلق، فأستعين الله تعالى، وأقول: فصلٌ قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. الكمال يقتضي التكميل، فالعالم الكامل يقتضي كمالُه أن يكون له تلامذةٌ يجتهد في تكميلهم، وهكذا الطبيب والصانع والزاهد وغيرهم، حتى إن العالم الكامل إذا لم يكن له تلامذةٌ يجتهد في تكميلهم يُرْمَى بالبخل _________ (1) ديوان ابن نباتة: 574، وفيه: "أرضى"، و "فذاك". (2) كنية الموت، أي: بمَضْيَعَة حيث الهلاك والموت. انظر القاموس المحيط، مادة قشعم، وشرح شعر زهير بن أبي سُلْمى ص 30 عند البيت الذي يقول فيه: لدى حيث ألقت رحلها أمُّ قَشْعم، من معلَّقته المشهورة.
(2/57)
والحسد وغير ذلك، ولله تبارك وتعالى الأسماء الحسنى وهو الغنيُّ الحميد، فاقتضى جوده سبحانه وتعالى أن يكمِّل غيره إلى الحدِّ الممكن، ولما لم يكن معه غيره خلق الخلق ليكمِّلهم إلى الحدِّ الممكن، وليس من الممكن خلقهم كاملين؛ لأن الذي يمكن خلقهم عليه من الكمال يكون كلُّه بمنزلة كمالِ خلقِهم في صُوَرهم، وليس ذلك بكمالٍ يُحْمَدُ عليه المخلوقُ إذ لا إصبع له فيه، فكان لا بدَّ أن يُخْلَقُوا صالحين لأن يَكْمُلوا. ثم كمال العبد المملوك إنما هو في طاعة ربِّه. ويتأكَّد هذا في فهمك إذا لاحظت أن الربَّ هو الله عزَّ وجلَّ، وهو لا يأمر إلا بالخير الذي يكون كمالًا يُحْمَدُ عليه فاعلُه، ولا ينهى إلا عن الشرِّ الذي ينافي الكمال والحمد، ويقتضي النقص والذمَّ. ويزداد ذلك وضوحًا إذا لاحظت أنه سبحانه الغنيُّ الحميد، فما كان فيما أمرهم به من خيرٍ فهو لهم، فعبادة ربِّهم هي كمالهم. ولا يحصل المقصود بأن يخلقهم قابلين للكمال ثم يجبرهم عليه؛ لأنه إذا جبرهم على الخير كان كما لو خلقهم عليه، وقد سبق أن ذلك ليس بكمالٍ يُحْمَدُون عليه, [ز 2] ولا بأن يخلقهم ويجعل لهم اختيارًا ثم لا يُمَكِّنَهُمْ من العمل؛ لأنهم إذا لم يعملوا لم يَكْمُلُوا. فإن قيل: ألا يُكْتَفَى بعزمهم؟ قلتُ: إنهم لو سئلوا لأجابوا كُلُّهُم بالعَزم على الطاعة. فإن قيل: فبعلم الله تعالى فيهم؟ قلتُ: عِلْمُ الله عزَّ وجلَّ بأنه لو مكَّن هذا لكَمُلَ ولو مكَّن هذا لرَذُلَ لا يكفي في حقيقة الكمال؛ فلا يكون الأوَّل كاملًا بمجرَّد العلم، ولو أخبر المعصوم أن هذا الذي مات كافرًا لو عاش لآمن، وهذا الذي مات مؤمنًا لو عاش لكفر= لما اقتضى أن يحكم
(2/58)
عليهما في الحال بغير ما ماتا عليه. ولا بأن يخلقهم (1) ويجعل لهم اختيارًا ويمكِّنَهم من العمل، ولكنه يجعل الخير بحيث يُنَال بلا عناءٍ ولا مشقَّةٍ البتَّة؛ لأن مَن يُتَصَوَّرُ في حقِّه العناءُ والمشقَّة لا يُحْمَدُ على اختيار الخير والعمل به إلا بمقدار ما تحمَّلَهُ في سبيله من العناء والمشقَّة. فلو أن جماعة جاد كلٌّ منهم بدينارٍ، وكان أحدهم لا يملك إلا ذلك الدينار وهو محتاجٌ إليه، والآخر يملك عشرةً، ولا يحتاج إليها كلِّها، والثالث: يملك مائةً، ولا يحتاج إلا إلى نصفها، والرابع: يملك القناطير المقنطرة من الذهب، ولا يحتاج إلا إلى عُشْرِ مِعْشَارِها= لكانوا متفاوتين في الحمد، وقد قال الشاعر (2): ليس العطاء من الفضول سماحةً ... حتى تجود وما لديك قليلُ فأما قول الآخر (3): لولا المشقَّة ساد الناس كلُّهم ... الجود يُفْقِر والإقدام قَتَّالُ فمعنى قوله: "ساد الناس": عملوا ما هو ــ لولا عدم المشقَّة ــ من أسباب السيادة، فالحقيقة أنه لولا المشقَّة ما ساد أحدٌ من الناس. هذا, والعبد إنما يَعْتَدُّ من طاعته بما كان عليه فيه عناءٌ ومشقَّةٌ, وإنما يُحمَد عليها على قدر ذلك. افرض أن رجلًا أثنى على عبده بالطاعة، فقلتَ له: ماذا بلغ في ذلك؟ فدعا العبد، وقال له: امسس أذنك اليمنى ولا تمسَّ _________ (1) معطوف على قوله: "ولا يحصل المقصود بأن يخلقهم قابلين للكمال". (2) هو المقنَّع الكندي، والبيت في حماسة أبي تمام. انظر شرحها للشنتمري 2/ 919. (3) هو أبو الطيب المتنبئ. انظر ديوانه مع الشرح المنسوب للعكبري 3/ 287.
(2/59)
اليسرى، ففعل، فقال لك: أرأيت؟ ألست تستحمق هذا الرجل. وإذ كان لا بُدَّ في الكمال في العبادة أن يُخْلَقُوا قابلين للكمال، ويُجْعَلَ لهم اختيارٌ، ويُمَكَّنُوا من العمل، ويكون الخلق والأمر بحيث يكون دون الخير عناءٌ ومشقَّةٌ= اقتضت الحكمة أن يكون ذلك، وهذا هو الابتلاء، وعليه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]. ومن لازمِ الابتلاء ــ وقد عرفتَ تفصيله ــ أن يختلفوا في تَحَمُّل العناء والمشقَّة. فأما الملائكة فإن الله عزَّ وجلَّ اصطفاهم وعصمهم، فانحصر اختلافهم في تفاوت درجاتهم في الكمال، ومع ذلك فخوفهم من ربِّهم عزَّ وجلَّ شديدٌ، قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50]. وقال سبحانه: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57]. الصحيح أن هذا صفةٌ للملائكة كما يأتي بعد إن شاء الله تعالى. وفي العذاب الذي يخافه الملائكة وجهان: الأول: أنه نقص درجات القرب، وأما النُزول [ز 3] إلى دركات المقت فقد أَمِنُوه لإخبار الله عزَّ وجلَّ أنهم معصومون. الثاني: أنه أَعَمُّ من ذلك، وأنهم لعلوِّ درجتهم في العلم بالله وشدَّة خشيتهم إياه يعلمون ما لا نعلم، وربما يُؤَدِّيهم ذلك إلى تجويز ما نراه غيرَ
(2/60)
جائز. وقد يأتي نحوُ هذا في حقِّ الأنبياء عليهم السلام، جاء عن بعض السلف أن الذي أوتي الآيات فانسلخ منها كان قد أوتي النبوة (1). وجاء في قصة قتل زكريَّا عليه السلام ما قد يدلُّ على إمكان سَلْبِ النبوة (2). وقال جماعة: قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف: 88 - 89] = قالوا: "إلا أن يشاء الله ربُّنا أن نعود في ملَّتكم". وعن السُّدِّيِّ: " ... {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا}، فالله لا يشاء الشرك، ولكن يقول: إلا أن يكون الله قد عَلِمَ شيئًا فإنه وسع كلَّ شيء عِلْمًا" (3). أقول: هذا على مذهب مَنْ لا يُجَوِّزُ أن يقالَ: إن الله تعالى يشاء الشرك. ومن الناس من يُجَوِّز إطلاق ذلك إلا أنهم يختلفون في تفسير المشيئة. _________ (1) انظر: تفسير ابن جرير 9/ 78. [المؤلف]. قال ابن كثير: ولا يصح. وقال ابن الجوزي: فيه بُعد. انظر: تفسير ابن كثير 3/ 509، وزاد المسير 3/ 288. (2) جاء في تلك القصة "أن المنشار لما بلغ رأس زكريا أنَّ منه أنَّةً، فقال الله له: لئن صعِدتْ إليّ منك أنَّة ثانية لأمحونَّك من ديوان النبوة". ولم أجد ما يدلُّ على هذا إلَّا ما حكاه أبو الخير التيناتي الأقطع المتوفى سنة 349 هـ عن قاصٍّ سمعه بمصر. انظر: تاريخ دمشق 66/ 165. (3) تفسير ابن جرير 9/ 3. [المؤلف]
(2/61)
وأقرب ما يقال هنا أن المعنى: إلا أن يشاء الله خذلاننا أو خذلان بعضنا، فيكلنا إلى أنفسنا فنعجز، وقد نقع في الشرك، ولذلك قال بعد هذا: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا}. وقد يقال: إن الاستثناء إنما هو بالنسبة إلى الذين آمنوا مع شعيب ولم يكونوا أنبياء ولا معصومين. وقد قال جماعة: إن إبليس وهاروت وماروت كانوا ملائكة. وأجابوا عن العصمة بأن الملك معصوم مادام ملكًا، وقد يُحَوِّلُهُ الله عزَّ وجلَّ عن الملكيَّة إلى خَلْقٍ آخر فتزولُ العصمة. كذا قالوا، وقد يقول مَن زعم أن المنسلخ عن الآيات كان نبيًّا بأنَّ النبيَّ معصومٌ مادام نبيًّا، ثم إن قُدِّر أن الله عزَّ وجلَّ سَلَبَ نبيًّا النبوة زالت العصمة. وقد يجيبون عما يلزم ذلك من عدم الوثوق بإخبار من ثبتت نبوته لاحتمال السَّلْب لو جاز بأن يقولوا: إنْ قُدِّر وقوعُ ذلك فلا بدَّ أن يقيمَ الله عزَّ وجلَّ حجة قاطعة تُعْرَفُ بها الحقيقة. وبالجملة فهذا قول مرغوب عنه، منفورٌ منه، وإنما المقصود أن عصمة الملائكة عليهم السلام لا تنافي شدَّة خشيتهم لله وخوفهم من عذابه. وأما الجنُّ والإنس فإنهم حملوا الأمانة، كما يأتي، فكان الابتلاء في حَقِّهِمْ أتمَّ والاختلاف أعمَّ. وإذ كانوا خُلِقُوا للابتلاء، ومن لازم الابتلاء الاختلاف، صَحَّ أن يقال: خُلِقُوا للاختلاف. قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 118 - 119].
(2/62)
اختلف السلف والخلف في تفسير الآية، والأَوْلَى بظاهر التنزيل ما رُوِيَ عن مجاهد قال: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}: "أهل الحقِّ وأهل الباطل"، {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}، قال: "أهل الحقِّ" (1). وعن الحسن البصري قال: "وللاختلاف خَلَقَهُمْ" (2). أقول: فالاستثناء منقطع، أي: ولكن مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ يُهْدَى للحق. وتَأَوَّلَ ابنُ جريرٍ الخَلْقَ للاختلاف بقوله: "فإن قال قائلٌ: فإن كان تأويل ذلك كما ذَكَرْتَ فقد ينبغي أن يكون المختلفون غَيْرَ ملومين على اختلافهم؛ إذ كان لذلك خلقهم ربُّهم ... قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذَهَبْتَ، وإنما معنى الكلام ..... ولعِلمه، وعلى عِلمه النافذ فيهم قبل أن يخلقهم ــ أنه قد يكون فيهم المؤمن والكافر والشَّقِيُّ والسعيد ــ خلقهم، فمعنى اللام في قوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} بمعنى على ... " (3). أقول: وهذا يلاقي ما قَدَّمْتُه إلا أنه لا يخلو عن تَكَلُّفٍ ولما كان الكمالُ في العبادة صَعْبَ الحصول لما فيه من العناء والمشقة كان لا بُدَّ مِنْ باعثٍ للخلق يُهَوِّنُ عليهم ذلك، وليس إلا وعد المطيع بما تَعْظُمُ فيه اللَّذَّةُ وإيعاد العاصي بما يَعْظُمُ فيه الألم. [ز 4] والناسُ في هذه النشأة المبْنِيَّةِ على الابتلاء لا يكادون يتصوَّرون اللَّذَّة والألم إلا فيما يناسب ما _________ (1) تفسير ابن جرير 12/ 80. [المؤلف] (2) المصدر السابق. (3) تفسير ابن جرير 12/ 81. [المؤلف]
(2/63)
عرفوه منهما. ومن جهةٍ أخرى فعدلُ الله عزَّ وجلَّ ورحمته يقتضي أن يكافئ كلًّا بما يستحقُّه، فلذلك خلق الله عزَّ وجلَّ الجنَّة والنار، وذكر من وصفهما لعباده ما يناسب أفهامَهُمْ حتى يدركوا أن في الجنَّة غاية اللَّذَّة، وفي النار غاية الألم. ولما كانوا على كلِّ حالٍ لا بدَّ أن يختلفوا كما تقدَّم، وإذا اختلفوا استحقَّ بعضهم الجنَّة، وبعضهم النار، وقد أحاط علمُ الله عزَّ وجلَّ وقَضَاؤُه وقَدَرُه بتفصيل ذلك قبل خَلْقِهِمْ، صَحَّ أن يقال: إن الله عزَّ وجلَّ خلق هؤلاء سعداءَ للجنَّة، وهؤلاء أشقياءَ للنار، كما جاء في أحاديث. فقد عَلِمْتَ بحمد الله عزَّ وجلَّ أنه لا منافاة بين العقل الصريح والنقل الصحيح، ولا بين النصوص، فالله عزَّ وجلَّ خلق الخلق ليَكْمُلُوا، وكمالهم في عبادته، فقد خلقهم لعبادته، ولا يكون الكمالُ والعبادةُ إلا بطريق الابتلاء، فقد خلقهم لِيَبْلُوَهُمْ، والابتلاء يؤدِّي إلى الاختلاف ولا بدَّ، فقد خلقهم ليختلفوا، والاختلاف يقتضي مصير هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار، فقد خلق هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار. فصلٌ وإذ قد علمتَ هذا فنبني الجواب على الابتلاء، فنقول: إن الله عزَّ وجلَّ إنما أنشأ الناس هذه النشأة للابتلاء، كما قال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]. وإذ كانت للابتلاء فالأمر فيها كالخلق لا بُدَّ أن يكون مناسبًا للابتلاء، وذلك بأن تكون حُجَجُ الحق دون منالها عناءٌ ومشقَّةٌ، وكيف لا وطَلَبُهَا من جملة العبادة، والعبادة كما تقدَّم تستدعي العناءَ
(2/64)
والمشقَّةَ، وإذا كان لا بُدَّ أن يكون دون منالها عناءٌ ومشقة لزم أن لا تكون ظاهرة مكشوفة كما اقْتَرَحْتَ. ثم رأيتُ في أوائل الرسالة (1) للإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "ومنها ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه وابتلى طاعتهم في الاجتهاد، كما ابتلى طاعتهم في غيره ممَّا فرض عليهم، فإنه يقول جل ثناؤه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]، وقال تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 154] ". * * * * _________ (1) 22 - 23.
(2/65)
الأصل الثاني الحجج والشبهات
إن قال قائلٌ: قد عرفنا اقتضاء الحكمة أن لا تكون حجج الحق ظاهرةً مكشوفةً، وبقي أمرٌ آخر وهو أنه قد يتراءى للناظر أنه لو كانت حجج الحقِّ كلُّها بحيث يَعْرِفُ يقينًا مَنْ وَصَلَ إليها أنه قد وصل، ويَعْرِفُ يقينًا مَنْ لم يصل إليها أنه لم يصل، لكان أولى. قلت: حاصلُ هذا أن تكون حجج الحقِّ كلها يقينيَّةً، لا تشتبه على أحد. فالجواب: أنه مَنَعَ مِنْ ذلك موانعُ، نكتفي هنا بذكر واحدٍ منها، وهو أنه قد سبق أن هذه الدار مبنيَّة على الابتلاء، وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]. فكلُّ ما يجري من الإنسان في هذه الدار تَصَرُّفٌ في الأمانة، ولا يتمُّ الابتلاء إلا بأن يُمَكَّنَ من الخيانة، والخيانةُ لها درجات كثيرة، فلا بدَّ أن يكون الابتلاء بحيث يتناول الدرجات كلَّها. فلو عَمَدْتَ إلى عشرة رجالٍ قد أُودِعَ كلٌّ منهم وديعةً وجدتهم متفاوتين في الأمانة والخيانة بحسب تفاوتهم في ثلاثة أمورٍ: الأوَّل: الباعث على الخيانة. الثاني: المانع الدنيويُّ. الثالث: المانع الدينيُّ.
(2/66)
أما الأوَّل، فمن البواعث: الحاجة، وأن تكون الوديعة ثمينةً، وإرادة الإضرار بالمودِع، قال الله تبارك وتعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75]. [ز 5] وحُبُّ السمعة إذا كان الناس يمقتون المودِعَ، وكلُّ واحدٍ من هذه يتفاوت. وأما الثاني فمن الموانع الدنيويَّة: ظَنُّهُ أنه ستُقَام عليه البيِّنةُ، ويؤخذُ منه المال، أو أنه سَيُعَاقَبُ بأخذ ماله أو بحبسه أو ضَرْبِه أو نحو ذلك، أو أنه يُحْرَمُ من فوائد أخرى، أو أنه يفتضح بين الناس, وكلٌّ من هذه يتفاوت. مثال التفاوت في الأخير: أن من الناس مَن لا يبالي بالفضيحة البتَّة, ومنهم مَن لا يبالي بالفضيحة إذا رأى أن كثيرًا من الناس سيشكُّون في أمره، ومنهم مَنْ لا يبالي بها إذا رأى أن كثيرًا مَن الناس سيحسنون الظنَّ به، ومنهم من يأبى الفضيحة ولا يبالي بالرِّيبة كأن رأى أن الناس إذا سمعوا بالقصَّة يرتابون ولا يجزمون بأنه خانَ، ومنهم مَن يأبى الرِّيبة العامَّة ولا يخون إلا إذا ظنَّ أن كثيرًا من النَّاس سيحسنون الظنَّ به، ومنهم مَنْ يأبى الريبة ولا يخون إلا إذا رأى أن النَّاس سيحسنون الظنَّ به. ومنهم مَنْ يزيد على هذا فيأبى أن يفتضح عند المودِعِ فلا يخونُه إلا إذا رأى أنه سيجوِّز براءته, ومنهم مَنْ لا يخون إلا إذا رأى أن المودِع سيحسن الظنَّ به كأن يحترق بيته ومتاعه فيزعم أن الوديعة احترقت فيما احترق. ومنهم مَنْ يزيد على هذا فلا يأمن سوء الظنِّ، ولكنه يخون إذا رأى أن المودِعَ نَسِيَ الوديعة. ومنهم مَنْ لا يخونُ إلا إذا أَمِنَ التهمةَ البتَّة، كأن يموت المودِعُ ولم يَعْلَمْ أحدٌ غيرهما بالوديعة. وأما الثالث: فالمانع الديني رقيب الإيمان في قلب الإنسان، وقد يَقْوَى
(2/67)
بحيث لا يغلبه شيء، وقد يضعف بحيث تغلبه شبهةٌ من الشُّبَه، ثم يتفاوت الحال بتفاوت قوَّة الرقيب، وقوَّة الشبهة. فمن الشبهات أن يقول: الله غفور رحيم، قال الله عزَّ وجلَّ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 169]. ومنها أن يقول: سيشفع لي فلانٌ. المودِع غنيٌّ فإذا خنتُه في هذه لم يضرَّه. هو فاجرٌ، وأخْذُ مال الفاجر فيه مصلحةٌ. هو كافرٌ، والإضرار بالكافر مطلوبٌ. قد ظلمني زيدٌ فأظلم عمرًا، فيتكافأ الذي لي بالذي عَلَيَّ. قد ظلمني ابنُ عَمِّهِ أو أخوه فأظلمه استيفاءً لحقِّي. قد كنتُ أَوْدَعْتُهُ شيئًا فادَّعى أنه سُرِقَ، وما أُرَاهُ إلا كاذبًا فأخونه كما خانني. هو غنيُّ وأنا محتاجٌ، فهذا من جملة حقِّ المحتاج في مال الغنيِّ. هو غنيٌّ ولا أراه يؤدِّي الزكاة ولي حَقٌّ في الزكاة، فهذا منه. لي حسناتٌ كثيرةٌ تُكَفِّرُ هذه السيِّئة. سوف أتوب. مضت مُدَّةٌ ولم يطالبني بالوديعة فلعلَّه قد سمح لي بها. قد قلتُ له: ألا تأخذ وديعتك؟ فتبسَّم فكأنَّه أراد أن يُفْهِمَنِي أنه وهبها لي. قد قلتُ له: إني أريد أن أستمتع بالوديعة فسكت، والسكوت يدلُّ على الإذن. قد نفعته مرَّةً فلم يكافئني. قد سَبَّني مرةً فصار لي حقٌّ عليه. إلى غير ذلك. وقد يَقْوَى الرقيبُ حتى لا ينقاد إلا لنحو قوله: قد كنتُ أودعتُه مثلَ هذا المال أو أكثر فجحدني فقد ظفرتُ بحقِّي، وقد يكون أقوى من هذا فيقول: ورد في الحديث: "أدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك، ولا تخن مَن خانك" (1). _________ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الإجارة، بابٌ في الرجل يأخذ حقَّه مَن تحت يده، 3/ 290، ح 3535. والترمذيّ في كتاب البيوع، باب 38، 3/ 555، ح 1264، من حديث أبي هريرة. وقال: "حسنٌ غريبٌ". وأخرجه الحاكم في كتاب البيوع، "أدِّ الأمانة ... "، 2/ 46، وقال: "صحيحٌ على شرط مسلمٍ ولم يخرجاه، وله شاهدٌ عن أنسٍ ... "، فذكره.
(2/68)
هذا، والباعث على الخيانة من أنصار الشبهة، والمانع الدنيوي من أنصار الحجة، والحكمة تقتضي أن يكون الابتلاء بحيث تظهر به الخيانة في أيِّ درجةٍ كانت. [ز 6] وعلى هذا القياس يكون النظر في الحجج العلمية؛ فالبواعث على الخيانة فيها كثيرة متفاوتة يجمعها كلمة (الهوى)، فقد تَهْوَى القولَ لأن في مقابله مشقَّةً كعدم وجوب الجماعة، أو إخراجَ مالٍ كجواز الحيل لإسقاط الزكاة، أو تحصيلَ مال كجواز العينة، أو شهوةً كاستحلال النبيذ والملاهي، أو موافقةً لهوى مَنْ تُحِبُّ أو مخالفةً لهوى مَنْ تُبْغِضُ كأن يُطَلِّقَ رجلٌ، ثم يَنْدَم فيستفتيك فَتَهْوَىْ عدمَ الوقوع إن كان صديقَكَ، والوقوعَ إن كان بغيضَك. وقد تَهْوَى القولَ لأنك ترى ذهابك إليه، وانتصارك له يُكْسِبُكَ جاهًا وقبولًا وشهرةً؛ كأن يكونَ موافقًا لهوى الأمراء والأغنياء والعامَّة، وهذا من أَضَرِّ الأهواء وأهدمها للدِّين. وقد تهواه لأنك ترى في ظهور صحَّته فخرًا لك، وفي ظهور بطلانه غضاضةً عليك، فَتَهْوَى القولَ الذي سبق أن قلتَ به وعرفهُ الناسُ، والقولَ الذي مضى عليه آباؤُك أو مشايخُك أو إمامك، أو أي رجل أو فريق تنتسب إليه؛ لأنك ترى أن ما يثبت لمن تنتسب إليه من مدحٍ بإصابة أو نقص بغلطٍ يَسْرِي إليك.
(2/69)
وقد تَهْوَى القول لمناسبةٍ مَّا بينك وبين قائله، كأن تكون حنبليًّا فَتَهْوَى قول مالك إن كنت مدنيًّا أو قول أبي حنيفة إن كنت فارسيًّا أو قول الشافعي إن كنت قرشيًّا، حتى لقد نجد المرأة في عصرنا تميل إلى قول يُرْوَى عن عائشة. وقد تهواه لأن في ظهور صحته نقصًا على من ينافسك من أقرانك ومعاصريك؛ لأنك تحبُّ ظهور نقصهم وظهورَ فَضْلِكَ عليهم. وكذلك تهواه إذا كان في ظهور صحته تخطئةٌ لمن كان ينافس أباك أو شيخك أو إمامك أو أيَّ رجل أو فريق تنتسب إليه؛ لأنك ترى أن في ظهور نقص ذاك رجحانًا لمن تنتسب إليه يسري إليك، حتى لقد يسمع الحنفي شعرًا منسوبًا إلى الإمام الشافعيِّ فيحرص على أن يقدح في فصاحته. وقد تَهْوَى القولَ لأن فيه فضيلةً لك أو لمن تنتسب إليه أو توافقه في أمرٍ مَّا، أو لأن في مقابله نقصًا لمن يخالفك أو يخالف مَنْ تنتسب إليه، أو توافقه فتهوى القول بأنَّ الأعجميَّ كفءٌ للعربيَّة إن كُنْتَ عجميًّا، ومقابله إن كُنْتَ عربيًّا، وتَهْوَى صحةَ ما رُوِيَ في فضل العربِ دون ما رُوِيَ في فضل فارسٍ إن كنت عربيًّا، وعكسه إن كنت فارسيًّا. وقد بلغ الأمر ببعض الجهلة من العرب والفرس إلى وَضْع كُلٍّ من الفريقين أحاديث في فضل قومه، وذمِّ الآخرين، وكذلك وضع بعض جهلة أهل الحديث أحاديث في فضل أصحابه وذَمِّ أهل الرأي، وَوَضَعَ بعضُ جهلة أهل الرَّأْيِ أحاديثَ في فضل أبي حنيفة وذمِّ الشافعيِّ، وجرت معارك بين القادريَّةِ والرفاعيَّة كلٌّ من الفرقتين تضع القصص والحكايات لإطراء شيخها وتنقيص الآخر.
(2/70)
وقد تهوى القول لأنه يُطْمِعُكَ في النجاة في الأخرى وإن ساء عملك، كالإرجاء المحض والغلوِّ في إثبات الشفاعة، وكالميل إلى صحة ما رُوِيَ من الأحاديث والآثار في الفضائل الخطيرة على الأعمال اليسيرة، وفي نجاة مَنْ مات بأحد الحرمين إن كنت تُؤَمِّلُ ذلك؛ وفي أن أهل البيت مغفورٌ لهم إن كُنْتَ منهم، وغير ذلك. ويشتدُّ الهوى جدًّا في الأمور التي نشأ عليها الرجل وأَلِفَهَا وافتخر بها ومضى عليها آباؤه وأجداده وأحبَّاؤه وشيوخه ومَنْ يقتدي بهم، ويرجو النجاة بحبِّهم وشفاعتهم، إذا قيل له في كثير من تلك الأمور إنها بدع، وإن منها ما هو كفر أو شرك، ذلك أنه يرى أن من لازم صحة ذلك أن يظهر أنه كان مبتدعًا ضالًّا أو كافرًا مشركًا، وأنَّ كثيرًا من آبائه وأجداده وشيوخه وفقهائه وأقطابه وأوتاده كانوا مبتدعين [ز 7] ضالِّين أو كفَّارًا مشركين وأنهم مخلَّدون في النار، وأنه إذا تدبَّر الحجج فتبيَّن له بطلانُ ما كان عليه هو وأسلافه فرجع إلى الحق كان رجوعُه بدعوة أناسٍ لم يزل يمقُتُهُم ويُسَفِّهُهُمْ. هذا، وسيأتي الكلام على الأعذار، وفيه ما يُهَوِّن هذا الأمر ويعين الناظر على هواه إن شاء الله تعالى. وقد ينعكس الهوى فَيَهْوَى الإنسانُ أن ينقض قولَهُ السابقَ وأن يخالفَ آباءه وأجدادَه وشيوخَه وأئمّتَه وسائرَ ما تقدَّم، يَهْوَى ذلك حرصًا على أن يقال: حرُّ الفكر بريءٌ من التعصُّب، وطمعًا أن يُعَدَّ مجدِّدًا يُؤْخَذُ عنه، وإمامًا يُقْتَدَى به، وعلى الأقلِّ يرى أنه إذا خالف الأكابر فقد صار قِرنًا لهم. وقد كان أصاغرُ الشعراءِ يَتَعَرَّضون لِهَجْوِ أكابرهم كجرير والفرزدق وبَشَّار، كل ذلك ليرتفعوا بذلك فيقال: إن فلانًا ممن هاجى جريرًا، ولهذا كان الأكابرُ
(2/71)
يترفَّعُون عن إجابة هؤلاء المتعرِّضين. وبالجملة فمسالك الهوى كثيرة، وفيها ما يَدِقُّ ويَغْمُضُ فيخفى على صاحبه، وكثيرًا ما يتفق ذلك لأكابرَ لا يُرْتَاب في علمهم وفضلهم وورعهم. {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. واعلم أن الهوى يتفاوت قوَّةً وضعفًا، ويعارضه المانع الدنيويُّ وهو خشية الفضيحة بين الناس وأن يقال: كثير الغلط، يتشبَّثُ بالشبهات الساقطة ويُعْرِضُ عن الحجج النيِّرَة، معاندٌ مكابرٌ لا يخاف الله تعالى، ونحو ذلك. فتستعين النفس بالشبهات وهي لا تحصى كثرةً، وسيأتي ذكر طائفةٍ منها في بابٍ على حِدَةٍ، وهي في نفسها متفاوتةٌ في القوَّة والضعف، ثم يكون الحكم لرقيب الإيمان، فقد يقوى الرقيبُ حتى لا يكاد يبقى للهوى أثرٌ البتَّة، ولا يبقى في المعركة إلا الحجَّة والشبهة، وقد يَضْعُفُ الرقيب على تفاوتٍ، والتوفيق بيد الله. فلو كانت حجج الحقِّ كما اقْتَرَحْتَ كلُّها يقينيَّةً لا تشتبه على أحدٍ لتعذَّرت الخيانةُ فيها، وبذلك يَنْسدُّ أعظمُ بابٍ من أبواب الابتلاء، وهو الابتلاء في العلم والنظر، ثم يَجُرُّ ذلك إلى الخَلَلِ في الابتلاء في العمل، وذلك مخالفٌ لحكمة الخلق كما تقدَّم، والله سبحانه أعلم وأحكم. * * * *
(2/72)
[ز 8] الأصل الثالث إصابة الحقِّ فيما يمكن اشتباهه تتوقَّف على ثلاثة أمورٍ: التوفيق، والإخلاص، وبذل الوسع.
أما التوفيق، فالتوقُّف عليه ظاهرٌ، وإنما الشأن في سبب حصوله، وقد بيَّنه الله تبارك وتعالى بقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [خاتمة العنكبوت]. والجهاد فيه عزَّ وجلَّ يتضمَّن الأمرين الآخرين، أعني الإخلاص وبذل الوسع، فَعُلِمَ أن حصولَهما سببٌ لحصول التوفيق، وعلى ذلك حجج أخرى، وسيأتي بعضها. وأما الإخلاص، فهو رغبة صادقة في إصابة الحق لا يعارضها هوًى مُتَّبَعٌ، ومسالك الهوى لا تحصى قد تقدَّم بعضها في الأصل الثاني. وعلى الناظر في مسألة من المسائل أن يفتِّش نفسه قبل البحث فيها، ثم في أثنائه، مثلًا إذا أردت النظر في حكم الماء القليل تقع فيه نجاسة لا تُغَيِّرُه ففتِّش نفسك قبل البحث فإنها لا تخلو عن حالين، إما أن تودَّ وتشتهيَ واحدًا معيَّنًا مِن الطرفين: التنجُّس وعدمه، وإما أن لا يكون لها ميلٌ إلى ذا ولا ذاك، وإنما تودُّ معرفة الراجح منهما شرعًا، فإن وجدتَها على الحال الثانية فهي حينئذ بريئة من الهوى، وإلَّا كأنْ تجدها تَهْوَى عدم التنجُّس، ففتِّش عن سبب ذلك الميل, وقَوِّمْ نفسك إن استطعت. فإن وجدتَ السبب هو الرأي المحض كأن تقول: إن النجاسة إذا لامست الماء ولم ينحلّ منها فيه شيء كبعرة مُس بها الماء فأبْعِدَتْ عنه فورًا،
(2/73)
أو كانت يسيرةً جدًّا على (1) لا يظهر منها أثرٌ مَّا على الماء، فإنه بعيد في النظر أن تنجسه، فاستَحْضِرْ أن الله تبارك وتعالى أعلمُ منك وأحكمُ؛ فلعلَّه سبحانه عَلِمَ حِكْمَةً خَفِيَتْ عنك. وإن وجدته حبَّ التيسير على نفسك فعِظْهَا واستحضر فناء الدنيا وبقاء الآخرة وغير ذلك. وإن وجدته حبَّ التيسير على الناس فاستحضر أن ربهم أرحمُ بهم منك، وأن الخير لهم إنما هو في طاعة ربهم في العسر واليسر. وإن وجدته حبَّكَ لإمامك أو شيخك لأن مذهبه عدم التنجس فاستحضر عدم عصمته، وأنك إنما كُلِّفْتَ بطاعة الله ورسوله، وإنما ينبغي لك البحث لتعرف ما هو أقرب إلى طاعة الله ورسوله فتتبعه. فإن استطعت أن تردَّ نفسك إلى الاعتدال فانظر في المسألة ولا تنس مراقبة نفسك أثناء البحث فإنه قد يَعْرِضُ لها هوىً لم يكن قبلُ. وإن لم تستطع فعلى الأقلِّ تَعَرَّفْ هواها وعامِلْها معاملة الخصم الأَلدِّ، فإذا لم يحصل لك من البحث إلا الرجحان النفسيُّ فلا تثق به، وإذا ظهر لك دليلٌ يوافق هواك فأمعن في تأمُّلِه والتفكُّر فيما يخدش فيه أو يعارضه كما تصنع في دليل خصمك، واستعن بمراجعة مَن يخالفك. وتَفَقَّد المسائل الخلافية التي قد استقرَّ في نفسك الحكمُ فيها وترى أنه إنما استقرّ للحجة، فتدبَّرْ تلك الحجة، فإن وجدتها قاطعة كَنَصٍّ قاطعٍ يكون القدحُ فيه قدحًا في الشارع، أو كإجماع محقَّقٍ، كفاك ذلك، وإن وجدتَها _________ (1) كذا في الأصل، ولعلّها: "على ألّا"، أو "على" مقحمة.
(2/74)
دون ذلك فإنك لا تأمَنُ أن تكون شبهةً رجَّحَها عندك الهوى. ومن علامات الهوى أن تجد نفسك تضيق وتنقبضُ إذا سمعت آية أو حديثًا احتجَّ به مخالفك وتتمنَّى أن تظفر بما تردُّ به احتجاجه، ومما تعرف به ميلك مع الهوى أن تنظر في نظائر حجتك وتأويلك فلعلَّك قد رَدَدْتَ مثلَ ذلك أو أقوى منه على مخالفك في تلك المسألة أو غيرها، وتنظر في نظائر حجة خصمك وتأويله فلعلَّك قد اعْتَمَدتَ على مثله أو دونه، والله الموفق. وأما بذل الوسع ففي ثلاثة أمور: الأول: تَعَرُّفُ الهوى، وتطهيرُ النفس منه، أو التحرُّزُ من اتِّباعه، وقد مضى. الثاني: تقوى الله عزَّ وجلَّ والاستكثارُ من الطاعات واجتناب المعاصي والمكروهات، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4]، {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [أوائل البقرة]، والأدلَّة على هذا كثيرةٌ، وهذا الأمر متضمِّنٌ للأمر الأوَّل، وإنما أفردت الأوَّل لدقَّته وغلبة التقصير فيه، ومتضمِّنٌ للثالث كما يأتي. الثالث: طلب العلم، وهو على درجاتٍ. الدرجة الأولى: تحصيل الضروري من العقائد، وهو ما لا يكون الإنسان مؤمنًا إلا إذا كان معتقدًا له. وهذا أمرٌ ميسَّرٌ في الإسلام لولا ما كَدَّرَهُ من إذاعة الشُّبَه وإشاعة البدع حتى أصبح الخلاص منها صعبًا على العلماء فضلًا عن العامة.
(2/75)
الدرجة الثانية: الضروريُّ من الأحكام، وهذا أيضًا مُيَسَّر؛ لأنه متواترٌ كفرض الصلوات الخمس وأعدادها. الدرجة الثالثة: العقائد التي يَصِحُّ أصلُ الإيمان مع خُلُوِّ الذهن عنها، ولكنَّ اعتقادَ الحقِّ فيها مشروع، واعتقاد الباطل فيها قد ينافي أصل الإيمان أو يخدشُ فيه. والأمر في هذا سهل أيضًا على مَن وفَّقه الله تعالى، وذلك بأن يستمرَّ على ما يقتضيه خُلُوُّ الذهن، فإن أراد المعرفة أعدَّ لها عُدَّتها، ثمَّ يبذل وسعَه حتى تقهرهُ الحجَّةُ. الرابعة: الأحكام الفرعية، والأمر فيها سهلٌ أيضًا، فإنه يكفي العاميَّ فتوى العالمِ والأخذُ بالأحوط ما استطاع، فإن أراد المعرفة أعدّ لها عُدَّتها ثمَّ نظر. وبالجملة فالصعوبة في الدرجة الأولى إنما جاءت من إشاعة الشُّبَهِ والبدع، فمتى رُزِقَ العامَّةُ دولةَ حقٍّ تَسُدُّ عنهم ذلك استراحوا كما كان في أوائل الإسلام، وقصة عمر مع صبيغ بن عسل معروفة (1)، فإن لم يكن ذلك _________ (1) يعني صَبِيغ بن عِسْلٍ الحنظليَّ. وقصَّته مع عمر رضي الله عنه وردت من طرقٍ متعدِّدةٍ وبألفاظٍ مختلفةٍ. منها: ما أخرجه الدارميُّ من طريق سليمان بن يسارٍ، أن رجلًا يُقال له صَبِيغٌ قدم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر رضي الله عنه ــ وقد أعدَّ له عراجين النخل ــ، فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صَبِيغٌ، فأخذ عمر عرجونًا من تلك العراجين فضربه، وقال: أنا عبد الله عمر، فجعل له ضربًا حتى دمي رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين حسبك، قد ذهب الذي كنتُ أجد في رأسي. وأخرجه أيضًا من طريق نافعٍ بسياقٍ أتمَّ. سنن الدارميِّ، المقدِّمة، باب مَن هاب الفتيا وكره التنطُّع والتبدُّع، 1/ 252 و 254، ح 146 و 150. وانظر: الشريعة للآجرِّيِّ 1/ 481 - 484، ح 152 - 153، الإبانة لابن بطَّة 1/ 414 - 415، ح 329 - 330، اعتقاد أهل السنَّة للالكائيِّ 4/ 634 - 636، ح 1136 - 1140، ذم الكلام للهرويِّ 4/ 242 - 244، ح 706 - 707، الإصابة 5/ 306 - 307، الدر المنثور 2/ 152 - 153.
(2/76)
فإنما يهوِّنُ عنهم الشر تمييزُهم بين علماء الحق وغيرهم، فيقتدون بعلماء الحق ويهجرون غيرهم، ويَسُدُّون آذانهم عن سماع الشُّبَه وقَبُولِ البدع، وقد كان هذا في القرون الأولى. وأما بعد ذلك فاختلط الأمر بل انعكس، فَمَنْ رزقه الله تعالى من العامَّة معرفةَ عالمٍ من علماء الحق فاقتصر عليه وهجر سماسرة الشُّبَه وأنصارَ البدع فقد فاز. وأما الدرجة الثانية فلا صعوبة فيها على مَنْ سَلِمَت له الأولى. وأما الثالثة فكالأولى، فإن العامِّيَّ بعد شيوع الكلام فيها لا يكاد يستطيع الاستمرار على ما يقتضيه خُلُوُّ الذهن إلا أن يقيَّض (1) له عالِمٌ من علماء الحق فيلزمه ويدع مَنْ سواه. وأما الرابعة فإن ما حدث من غلو الناس في مذاهبهم والتعصب على مخالفها حال بينهم وبين الأخذ بالأحوط والوقوف عند الحدِّ. وعلى كل حال فالأمر على العامي أسهل؛ لأن إعداد العُدَّة للعلم إنما يحصل بطلب العلوم من أهلها الراسخين فيها، ولا تجد علمًا من العلوم إلا قد شاركت فيها البدع والأهواء، ولا تكاد تجد عالمًا راسخًا في هذه الأزمنة فإن وجد فخاملٌ غير معروفٍ، فإن عُرِف فمرميٌّ بالضلال عند الجمهور. وطالب العلم لا بُدَّ أن يقلد شيخه والكتاب الذي يقرؤه؛ لأنه لا يكاد يستطيع أن يبقى على ما يقتضيه خُلُوُّ الذهن حتى تقهره الحجة، فإنها تَعْتَوِرُه _________ (1) في الأصل بالظاء المشالة.
(2/77)
شبهاتٌ وأهواءٌ تخيِّل إليه أنه قد عقل الحجَّة واتَّضحت له في كثير من المسائل، ثم ينشأ على الهوى لتلك المسائل وعلى الهوى لشيخه ومذهبه وعلى تَوَهُّم أن الحقَّ محصورٌ فيه، فإن فرض أنه بلغ رتبة العلم الحقيقيَّة لم يكد ينتفع بها، ولكنَّه مع هذا كلِّه إذا ناقش نفسه الحساب وألزمها صدق النظر وصحَّت نيَّته أن يجاهد في الله حقَّ الجهاد فلا بدَّ أن يهديه الله تبارك وتعالى سبله، والله الموفق. * * * *
(2/78)
فصل حكم الجهل والغلط (1)
خفاء الكثير من حجج الحق يلزمه وقوع الجهل والغلط، والناس في ذلك ثلاث طبقات، الطبقة الأولى: من لم تبلغه دعوة نبي أصلًا، قال الله تبارك وتعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 13 - 16]. خلط الناس في معنى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، فزعم بعضهم أن الرسول هنا إنما أريد به العقل (2)، وهذا تحريفٌ تغني حكايته عن ردِّه. [ز 8] (3) وقال بعضهم: أما الرسول فهو الرسول المعروف، ولكن المراد _________ (1) قوله: (فصلٌ) جاء متَّصلًا بالكلام السابق. والعنوان الجديد (حكم الجهل والغلط) وما بعده إلى قوله: (تغني حكايته عن ردِّه) كان ملحقًا بصفحة عنوان القطعة السابقة (أصول ينبغي تقديمها). (2) انظر: روح المعاني 15/ 37. (3) من هنا تبدأ القطعة المسمّاة (رسالة في معنى قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا})، وهي متَّصلةٌ بما قبلها كما ترى، لكن تكرَّر عند المؤلِّف وضع الرقم (8) على هذه الورقة، فتبعته على ذلك.
(2/79)
بالعذاب عذابٌ خاصٌّ هو العذاب الدنيوي المستأصل (1) كإهلاك قوم نوح وعاد وثمود، واحتجوا على ذلك بقوله عقب هذه الآية: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} الآية، فنظروا إلى ما بعدها وغفلوا عما قبلها. والحق أن الرسول هو الرسول المعروف، وأن العذاب على إطلاقه، فيتناول الأخروي والدنيوي، وترتبط الآية بما قبلها وما بعدها، ولله الحمد. ولا يشكل على الآية ما يشاهَد من عموم الهلاك للصبيان والمجانين وما يتفق من هلاك مَنْ لم تبلغه دعوة؛ فإنه ليس كلُّ هلاكٍ عذابًا، ألا ترى إلى الطاعون هو رجز على الكفار وشهادة للمؤمنين، وإنما يكون الهلاك عذابًا إذا كان عقوبة على ذنب. هذا وفي القرآن آيات أخرى تشهد لهذا المعنى، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا}، إلى قوله: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 128 - 131]. وقوله عزَّ وجلَّ: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى} [الزمر: 71]. _________ (1) انظر: متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار الهمذاني المعتزلي 2/ 68. ونسب هذا القولَ القرطبيُّ (10/ 231) وأبو حيان (6/ 10) والشوكاني (3/ 306) إلى الجمهور، مع ترجيح الأخيرين ما رجَّحه المؤلِّف.
(2/80)
وقال سبحانه: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ}، إلى أن قال: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 6 - 9]، وهذه الآيات صريحة في أن جميع الذين يدخلون النار من الكفار قد جاءتهم نذرٌ منهم فكذبوهم، وقوله: {فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} صريح في أن المراد بالنذير النبي، فاندفع ما يزعمه بعضهم من حمل النذير على العقل (1). وذكر سبحانه وتعالى الرسل، ثم قال: {رُسُلًا ... الرُّسُلِ} [النساء: 165]. أوضح تبارك وتعالى بهذه الآيات أن من عدله وحكمته ورحمته ألا يعذب حتى يرسل رسولًا، فأخطأ قوم فقالوا ما سبق من أن المراد بالرسول في الآية هو العقل، فلا مع الشرع وقفوا، ولا عدل الله وحكمته عرفوا. والحامل لهم على ذلك: أنهم زعموا أن العقل مستقل بإدراك وجود الخالق وأنه قادر عليم حكيم، وبإدراك أن الحكمة تقتضي المنع من القبيح وتقتضي تعذيب مرتكبه بشرطه، وبإدراك قبح كثير من الأعمال. قالوا: فمن لم تبلغه دعوة أصلًا إذا أدرك ما تقدم ومع ذلك ارتكب القبيح فقد استحق العذاب، وإن قَصَّر في إدراك ما تقدم أو بعضه فكذلك يستحق العذاب على التقصير وعلى ارتكاب القبيح. أقول: كأن القوم قاسوا من لم تبلغه دعوة أصلًا على أنفسهم، فظنوا أنه _________ (1) الحرف الأخير لم يظهر في الصورة.
(2/81)
يكون كواحدٍ منهم في سرعة الانتقال، وسهولة الاستدلال، وتيسُّر دَفْع الشبه في الجملة، وغير ذلك. ولو فكَّروا قليلًا لعلموا أن البون شاسع؛ فإنهم تلقَّنوا العقائد صغارًا ونشؤوا على قبولها والسكون إليها، وعامَّة الناس حولهم مطبقون عليها، وبَلَغتْهم الشرائع وما نبَّهتْ عليه من الحجج ودفع الشبهات, وبلغهم كلامُ العقلاء الذي تلقَّوه من الشرائع وفسَّروا به ما نبَّهتْ عليه من الحجج وفرَّعوا عليها. ومَنْ لم تبلغه دعوة أصلًا بعيدٌ عن هذا كله، ونحن نجد من المنهمكين في العقليات المقصِّرين في الشرعيَّات من تكون عاقبتُه الإلحادَ أو الارتيابَ مع أنهم قد تلقَّوا كلام العقلاء في الحجج التي اقتبسوها من الشرائع أو فَرَّعوها عليها [ز 9] فما بالك بمن لم تبلغه دعوة أصلًا؟ وهَبْ أن النظر العقلي يستطيع أن يُثْبِتَ على مَنْ لم تبلغه دعوة إجرامًا أو تقصيرًا، فقد بقي وراء ذلك عفو الرؤوف الرحيم. فإن قيل: إن غلاة هؤلاء يجحدون العفو ويزعمون أنه قبيح؛ لأنه خلاف الحكمة! فالجواب: أن تلك منهم مكابرة للعقل والشرع، ثم ما عساهم يقولون في الأطفال رُفِعَ عنهم القلم حتى يبلغوا الحلم؟ فإن قيل: إن الطفل يكون تمييزه ضعيفًا. قلت: ذاك في أول أمره، وقد لا يبلغ الغلام إلّا لتمام خمس عشرة سنة، أو ثماني عشرة على الخلاف في ذلك، وقد يكون ابنُ ثلاث عشرة أو أربع عشرة أعقلَ من كثير من الرجال، فأما إذا كان من قوم بلغتهم الدعوة واتبعوها فقد يتعلَّم ويتدرَّب وينظر ويتدبَّر، فيكون أَقْوَمَ بمعرفة الحجج من أُمَّة بكمالها لم تبلغها دعوة أصلًا.
(2/82)
هذا، وإذا كان المدار على التمييز فما بال الغلام يكون الآن غير مكلف, ثم يبلغ بعد ساعة فيصير مكلَّفًا، والبلوغ لا يزيد في العقل شيئًا؟ بل لو قال قائل: إنه ينقصه لما يطرأ من قوَّة الشهوة التي تغالب العقل لَمَا أَبْعَدَ. فإن قيل: المناط في الحقيقة هو التمييز، ولكنه غير منضبط، فضبطه الشارع بالبلوغ، على ما تَقَرَّر في أصول الفقه في بيان العلَّة، ويمثِّلونه بعلَّة قَصْر الصلاة أنها في الأصل المشقةُ، ولكن لعدم انضباطها ضبطها الشارع بالسفر بشرطه, واغتفر ما قد يترتب على ذلك من الإخلال بأصل الحكمة في بعض الجزئيات مراعاة لحكمة الضبط التي هي أهمُّ. قلت: فقد يقال: إن ضبط المناط إنما يُحتاج إليه في إقامة الأحكام الدنيوية على المكلَّف كالحدود ونحوها، فأما الجزاء الأخروي فالله عزَّ وجلَّ لا تخفى عليه خافية، فقد كان يمكن أن يُقال للناس: أما أنتم فلا تُجْرُوا على الصبي حكم المكلَّف حتى يبلغ, وأما الصبي في نفسه فينبغي له إذا حصل له أصل التمييز أن يعامِلَ نفسه معاملة المكلَّف؛ لأنه قد يكون حصل له في علم الله تعالى نصاب التمييز فيكون في علم الله تعالى مكلَّفًا يستحق العقوبة في الآخرة على إجرامه وتقصيره. وهذا ــ مع ما يظهر من مطابقته للحكمة ــ فيه مصلحة ظاهرة ومعونة لوليِّ الصبي على ما أُمِر به من تعويد الصبي المحافظة على الفرائض واجتناب القبائح وتأديبه على الإخلال بذلك. أقول: لا أعرف لهم جوابًا ينفعهم، وأما نحن فنقول: إن الله تعالى عَفُوٌّ كريم، فعفا عن الصبيِّ حتى يبلغ. ومع ذلك فقد دلَّتنا الشريعة على الحكمة في ذلك، وهي أنه كما يُحتاج إلى ضبط مناط التكليف لتعريف الناس متى يعامِلون الإنسان معاملة المكلَّف، فإنه يُحتاج إلى ذلك لأمرين آخرين:
(2/83)
أحدهما: تعريف الملائكة الموكَّلين بكتابة الأعمال وغيرها، ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن نبي الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: "كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعةً وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فَدُلَّ على راهب فأتاه، فقال: إنه قتل تسعةً وتسعين نفسًا فهل له من توبةٍ؟ فقال: لا، فقتله فَكَمَّل به مئة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فَدُلَّ على رجل عالم، فقال له: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومَنْ يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا؛ فإن بها أناسًا يعبدون الله [ز 10] فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء. فَانْطَلَقَ حتى إذا نَصَفَ الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ... "، الحديث (1). الأمر الثاني ــ وهو الأعظم ــ: معرفة الأشهاد ليشهدوا يوم القيامة، وذلك أن الناس يجادلون عن أنفسهم هناك، قال الله عزَّ وجلَّ: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111]. والله تبارك وتعالى هو الحكم العدل، فاقتضى كرمه وعفوه وفضله وكمال عدله ألَّا يقطع جدال المجادل هناك بقوله: "أنا أعلم"، بل يقيم عليه الشهادة من الرسل والملائكة حتى تشهد عليه أعضاؤه، فَيُعْذِر من نفسه، قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ _________ (1) وهذا لفظ مسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل إلخ، 8/ 103، ح 2766. ونحوه في صحيح البخاريِّ في ترجمة "باب" قبل باب المناقب. [المؤلف]. يعني كتاب أحاديث الأنبياء، باب 54، 4/ 174، ح 3470.
(2/84)
شَهِيدًا} [النساء: 41] (1). وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. وقال سبحانه: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [خاتمة الحج]. وفي مسند أحمد وغيره عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، وأكثر من ذلك، فَيُدْعى قومُه فيقال لهم: هل بَلَّغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: هل بَلَّغْتَ قومَك؟ فيقول: نعم، فيقال له: مَنْ يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيُدْعى محمد وأمته، فيقال لهم: هل بلَّغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فيقال: وما عِلْمُكُم؟ فيقولون: جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرُّسُلَ قد بَلَّغوا، فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، قال: يقول: عدلًا، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} " (2). وأصل الحديث في تفسير هذه الآية من صحيح البخاريِّ (3) وفيه: "والوسط: العدل". وقال الله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا _________ (1) ونحوها في سورة النحل: 89، والقصص: 75. [المؤلف] (2) مسند أحمد 3/ 58. [المؤلف] (3) كتاب التفسير، باب قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ ... } 6/ 21، ح 4487.
(2/85)
تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12]. وآياتٌ أخرى في إثبات ذلك. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 19 - 23]. وقال سبحانه: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65]. وفي صحيح مسلمٍ من حديث أنس قال: كنا عند رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فضحك، فقال: "هل تدرون مِمَّ أضحك؟ " قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "مِنْ مخاطبة العبد ربَّه عزَّ وجلَّ، يقول: يا رب، ألم تُجِرْني من الظلم؟ قال: فيقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بُعدًا لكُنّ فعنكُنَّ كنت أناضل" (1). _________ (1) صحيح مسلمٍ، كتاب الزهد والرقائق، 8/ 216، ح 2969. [المؤلف]
(2/86)
وفيه من حديث أبي هريرة: " .... فيَلْقَى العبدَ، فيقول: أي فُل (1)، ألم أكرمك وأُسَوِّدْك (2) وأزوجك وأسخِّرْ لك الخيل والإبل وأَذَرْكَ تَرْأس (3) وتَرْبَع (4)؟ فيقول: بلى أي رب! فيقول: أفظننت أنك ملاقيَّ؟ فيقول: لا، [ز 11] فيقول: فإني أنساك كما نسيتني"، ثم ذكر الثاني كذلك، ثم قال: "ثم يَلْقى الثالث فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصلَّيت وصمت وتصدَّقْت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول: هاهنا إذًا (5)، قال: ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك، ويتفكَّر في نفسه: مَنْ ذا الذي يشهد عليَّ، فيُختم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي، فتنطق فخِذُه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك لِيُعْذِرَ من نفسه (6)، وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط الله عليه" (7). أقول: ظاهر الآيات في شهادة الرسل أنهم يشهدون على مَنْ أدركوه وبلَّغوه. ويؤيِّده ما أخبر الله تعالى به عن عيسى عليه السلام من قوله: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117]. ثم من الناس من يجحد شهادة الرسل، فيشهد لهم نبينا صلَّى الله عليه _________ (1) يا فلان. (2) أجْعَلْكَ سيّدًا على غيرك. (3) أَلَمْ أَدَعْكَ تكون رئيسًا على قومك. (4) أي تأخذ مِرْباعَهم وهو رُبْعُ الغنيمة. (5) إذا أثنيت على نفسك بما أثنيت فاثبُتْ هنا إذًا كي نُرِيَك أعمالك. (6) ليقطع الله عُذْرَه وتقوم الحجة على العبد بشهادة أعضائه عليه. (7) صحيح مسلمٍ، كتاب الزهد والرقائق، 8/ 216، ح 2968. [المؤلف]
(2/87)
وآله وسلَّم وأمته. والسِّرُّ في ذلك والله أعلم ــ مع ما له صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأمته من الفضائل ــ أنه يكون قد سبق تقديم أهل المحشر كلِّهم له صلَّى الله عليه وآله وسلَّم للشفاعة العظمى، وظهر لهم بذلك عُلوُّ منزلته وسعيه فيما ينفعهم، فكأنهم في ضمن ذلك قد عرفوا واعترفوا بأنه أهلٌ لأن تُقْبَلَ شهادته، وأمتُه تبعٌ له. ثم من الناس من لا يقنع بهذه الشهادة وشهادة غير الأنبياء من الناس كشهادة الصحابة على التابعين، فيُشْهِدُ الله عليهم الملائكةَ وغيرهم مما ورد في الآثار من شهادة الأماكن والأحجار والأشجار وغيرها. ثم منهم مَنْ يَرُدُّ هذه أيضًا، ويقول كما تقدَّم في الحديث: "لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا منّي"، فيُنْطِق الله تبارك وتعالى أعضاءَه فتشهد، فيُعْذِرُ من نفسه. فلو كان الله عزَّ وجلَّ يكتفي في قطع العذر يوم القيامة بأن يقول: "أنا أعلم" لَما اقتضت الحكمة كتابة الحَفَظَة ولا إقامةَ ما تقدَّم من الشهادات، لكنه تبارك وتعالى اقتضى كرمه وفضله وعفوه وكمال عدله ألَّا يكتفي بذلك. فلهذا نقول: اقتضى كرم الله تعالى وعفوه وكمال عدله أن يُرفع القلم عن الصبي حتى يبلغ، ولا يُكتفى باستكماله نصاب التمييز قبل بلوغه، إذ لو اكتُفي به فاعتذر يوم القيامة بقوله: "كنت صبيًّا لم أستكمل التمييز" لَما أمكن إقامة الشهادة عليه، لِما تقدَّم أن التمييز لا ينضبط، فلا يعلمه الناس ولا الملائكة ولا الأعضاء؛ بخلاف مَنْ بلغ سليمَ العقل، فإنهم يشهدون عليه أنه كان قد بلغ سليم العقل، ومعلوم أن مَنْ بلغ سليم العقل يكون قد استكمل نصاب التمييز. ثم نعود إلى مسألتنا فنقول: الاكتفاء في تكليف مَنْ بلغته الدعوة ببلوغه سليمَ العقل لا يلزم مثلُه فيمن لم تبلُغْه دعوةٌ أصلًا؛ لوضوح الفرق؛ فإن مَنْ
(2/88)
بلغته الدعوة قد نبَّهه الشرع وقَرَّب له الحججَ وعبَّد له طرقَ الاستدلال ودَفْعَ الشبه، ومَكَّنه من سؤال الرسول أو العلماء، وغير ذلك؛ ومَنْ لم تبلغه دعوة أصلًا محرومٌ من هذا كلِّه. فإذا فكَّرنا فيما تقتضي الحكمة أن يكون مناطًا لتكليفه في نفس الأمر لم يكن بُدٌّ من أن نعتبر مع التمييز الذي يكون لمن بلغ سليمَ العقل أمرًا آخر كسلامة الفطرة وقوَّة الفطنة، وهذا الأمر الآخر لا ينضبط فلا يعلمه الناس ولا الملائكة ولا هو نفسه، [ز 12] فاقتضى كرمُ الله تبارك وتعالى وعفوُه وكمالُ عدله وحكمته أن ينوط الحكم ببلوغ الدعوة، فيكون مناطُ التكليف هو بلوغ الحلم مع سلامة العقل وبلوغ الدعوة، وقد صرَّحت الآيات السابقة بإقامة الحجة ببلوغ الدعوة، وفيها: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130]، {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الزمر: 71]، وأنه لو أهلكهم قبل الرسول لاعتذروا هناك بقولهم: {لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} [طه: 134، القصص: 47]. فقد اتَّضح بحمد الله تبارك وتعالى تطابق العقل والنقل على أن مَنْ لم تبلغه دعوة أصلًا ليس بمكلَّف، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. فصل وأخطأ آخرون فزعموا أن الآية (1) تتناول العرب قبل بعثة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فليسوا بمعذَّبين على ما كان منهم من الشرك وغيره (2)، _________ (1) يعني قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}. (2) انظر: روح المعاني 15/ 40 - 41.
(2/89)
وقد ردَّ النووي في شرح مسلم (1) هذا القول فأجاد. وكأن هؤلاء القوم توهَّموا أن معنى الآية: وما كنا معذِّبين أحدًا من أمَّةٍ حتى نرسل إليها رسولًا، ثم توهَّموا أنه لم يُرْسَلْ إلى العرب رسولٌ قبل محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أو أن الرسول أو الرسل الذين أرسلوا إلى العرب قبل محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كانت قد اندرست شرائعهم، فصار العربُ كمَنْ لم يُرْسَلْ إليهم رسول حتى أرسل الله محمدًا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. وقد أخطؤوا في كلا الأمرين، أما الأول فإن الآية مطلقة، فمعناها: وما كنا معذِّبين أحدًا حتى نرسل رسولًا، فتتناول كلَّ أحد وكلَّ رسول سواء مَنْ كان من أمَّة الرسول ومَن كان من غيرها، وإنما الشرط بلوغ الدعوة فقط، على ما تقدَّم، مع قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. والغلط في هذا مبنيٌّ على الغلط في فَهْمِ ما أشار إليه القرآن وصرَّحت به السُّنَّة من أن الرسل قبل محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان أحدُهم يُرسل إلى قومه خاصة، فتوهَّموا أنه إذا أُرسل إلى قومه خاصَّة لم يكن له بغيرهم عُلْقَة. والحقُّ أنَّ معنى إرساله إلى قومه خاصَّة أنه لم يؤمر بالتجَرُّدِ لتبليغ غيرهم وبَذْلِ المجهود فيه كما أُمِرَ بذلك في قومه، بل يكفيه في غير قومه ما تيسَّر له من أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر إذا لقيهم وأَمِنَ من شرِّهم ونحو ذلك. _________ (1) 3/ 79.
(2/90)
فلما أُرْسِلَ هود إلى عاد كان غيرُهم من الأقوام الذين بلغتهم دعوتُه على قسمين: أمَّة فيها رسول حيٌّ أو قد مات ولكن شريعته باقيةٌ محفوظة، فهؤلاء يكفيهم رسولُهم ولا يلزمهم أن يأتوا هودًا، وأمَّة لم يُبعث إليها رسول أو بُعِث ثم مات واندرستْ شريعتُه أو بعضُها، فهؤلاء يلزمُهم أن يأتوا هودًا ويطيعوه. قال الحَليمي في منهاجه: "إن العاقل المميز إذا سمع أيّة دعوة كانت إلى الله تعالى، فترَك الاستدلال بعقله على صحَّتها وهو من أهل الاستدلال والنظر، كان بذلك معرضًا عن الدعوة، فيكفر"، نقله في روح المعاني (1). ولا ريب أنهم إذا جاؤوه لم يقل لهم: لا شأن لي بكم إنما أُرْسِلْتُ إلى غيركم. وفي الفتح في الرَّدِّ على من زعم أن رسالة نوح كانت عامَّة بدليل أنه دعا على جميع أهل الأرض فأُغرقوا: "ويحتمل أن يكون دعاؤه قومَه إلى التوحيد بَلغ بقيَّة الناس فتمادوا على الشرك فاستحقُّوا العقاب، وإلى هذا نحا ابن عطيَّة في تفسير سورة هود. قال: وغيرُ ممكن أن تكون نُبوَّته لم تبلغ القريب والبعيد لطول مُّدَّته" (2). أقول: وكان نوح قريبَ العهد من آدم، فكأنَّ أهل الأرض كانوا في عهده قليلًا متقاربين لم ينتشروا في الأرض كلها، وإنما هم في إقليم واحد، ولم يثبت بدليل صحيح ما يخالف ذلك، وليس في الإسلام ما ينص على أن آدم _________ (1) 4/ 495. [المؤلف]. وهو في المنهاج في شعب الإيمان للحليمي 1/ 175. (2) فتح الباري، أوائل كتاب التيمم، 1/ 298. [المؤلف]. وانظر: المحرر الوجيز لابن عطية 4/ 572.
(2/91)
كان قبل ستة آلاف سنة ولا أكثر ولا أقلَّ، وكذلك نوح، وإنما عندنا قوله تعالى: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان: 38]، وما في الكتاب الذي يزعم اليهود أو النصارى أنه التوراة من تحديد المُدَّة لا نقول بصحته، وقد أبطله الأوربيون أنفسهم. [ز 13] وقد كان موسى رسولًا في الأصل إلى قومه بني إسرائيل، ولم يكن عليه بمقتضى أصل الرسالة أن يتجرَّد لتبليغ فرعون وآله، وإنما أُمِر بالذهاب إلى فرعون ليستخلص منه بني إسرائيل، فإنه كان يستعبدهم، ولا يمكن تبليغهم كما يجب وإقامةُ الشريعة فيهم حتى يخلصوا من الاستعباد ويصيروا إلى بلد لا معارِض فيها لإقامة الشريعة. قال الله عزَّ وجلَّ: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ}، إلى أن قال: {وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 103 - 105]. وقال تعالى لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} إلى قوله: {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ} [طه: 43 - 47]. وقال سبحانه: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ} إلى قوله: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 10 - 17]. فظهر بما ذكر أن جِدّ موسى عليه السلام في تبليغ فرعون كان مداره
(2/92)
على أن يرسل معه بني إسرائيل، فلو أن فرعون أرسل معه بني إسرائيل لذهب معهم ولم يتشاغل بتبليغ فرعون وملئه؛ لأنه في الأصل لم يرسل إليهم. ومع هذا فقد لزمهم الإيمان به وقامت عليهم الحجة وبلّغهم هو من أصل الدين ما دعت إليه الحاجة. ولو أرسلوا معه بني إسرائيل لكان عليهم بعد ذلك أن يأتوه حيث كان ويؤمنوا به ويتعلَّموا منه، وقد قَبِلَ الله تعالى إيمان مَنْ آمن منهم، كمؤمن آل فرعون وامرأة فرعون والسحرة؛ وعَذَّب الباقين. وكذلك قاتَل موسى وخلفاؤه الأقوامَ الذين كانوا مستولين على الأرض المكتوبة لبني إسرائيل، ولا نشكُّ أنهم دعوهم إلى الإيمان ولزمتهم الحجة وإن لم يكونوا من قوم موسى الذين أرسل إليهم. وكذلك نجد موسى أنكر على الخضر ما فعله مما ظاهره المنكر ولم يمنعه من ذلك أنه ليس من قومه الذين أرسل إليهم. وهكذا نجد سليمان عليه السلام لَمَّا تيسَّر له أن يدعو سبأ دعاهم وتَوَعَّدَهم بأن يغزوهم، فجاؤوه وأسلموا معه. وكذلك نجد الإسلام وجد جماعة من العرب قد تهوَّدُوا وآخرين منهم ومن الروم والحبش وغيرهم قد تنصَّروا فعاملهم معاملة أهل الكتاب ولم يقل لهم: إن موسى وعيسى لم يُرْسَلا إليكم. وهذا يوسف عليه السلام تدلُّ قصته أنه لم يكن رسولًا إلى أهل مصر، فإنه لما قابل الملِك لم يَدْعُهُ، بل سأله أن يولِّيه الخزائن فتولَّاها منه، ثم كان إذا جرى بينه وبين آخر نزاعٌ يكون الحكم على دين الملك، كما يدلُّ عليه قوله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76].
(2/93)
ثم نراه لمَّا كان في السجن وسأله الرجلان عن حلمهما فآنس منهما الإقبالَ عليه وحسنَ الظن به، تلطَّف في دعائهما إلى الإيمان، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 36 - 40]، ثم فسّر لهما رؤياهما. ولا بُدَّ أنه بعد أن تولَّى الخزانة كان يدعو الناس بحسب ما تيسَّر، كما يصنعه النبي مع مَنْ لم يؤمر بالتجرُّد لتبليغه أو قُلْ مع غير قومه الذين أُرْسِلَ إليهم. وهكذا ينبغي أن يكون فَعَلَ أبوه يعقوب عليه السلام بعد ورود مصر. ومما يدلُّ على هذا ما أخبرنا الله تعالى به عن مؤمن آل فرعون قوله لقومه: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [المؤمن: 34]. زعم بعضهم أن يوسف هذا غير ابن يعقوب (1)، كأن هذا الزاعم فَهِمَ _________ (1) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير 7/ 221، وقال: ليس بشيء. وانظر: الإتقان 5/ 1970.
(2/94)
من هذه الآية أن يوسف هذا كان رسولًا إلى المصريِّين الرسالة الخاصَّة، كما أُرْسِلَ هود إلى عاد، وعلم أن هذا لا ينطبق على يوسف بن يعقوب لما مَرَّ. والصواب أن الآية لا تدلُّ على ما ذكر، بل تدل أن يوسف كان رسولًا أي إلى أهل بيته ومن لعله تبعهم من قومهم، ولكنه تيسر له أن يدعو المصريين ففعل. والله أعلم. وهكذا ما اشتهر بين أهل العلم أن من الأنبياء مَنْ لم يكن رسولًا، ويفسرون ذلك بأنه لم يؤمر بالتبليغ، لا أرى هذا التفسير على إطلاقه، وإنما معناه الصحيح أنه لم يؤمر بالتجرد للتبليغ والجِدِّ فيه لا لقومه ولا لغيرهم، وإنما يؤمر بما تيسر له من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأهله وجيرانه ومن يأنس به، فيكون حاله مع الناس كلهم كحال هود مع غير قومه الذين أرسل إليهم على ما تقدم. وعلى هذا فمن بلغه وجود نبيٍّ غير رسول يكون حاله كمن بلغه وجود رسولٍ في قيام الحجة إذ لا يظهر فرق، وعلى هذا فكلمة (رسول) في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} المراد بها ــ والله أعلم ــ ما يَعُمُّ النبي، ولا حاجة لدعوى المجاز، ولا إلى ما قيل: إن كل نبي فهو رسول إلى نفسه، بل كل نبي يصدق عليه أنه رسول؛ لأنه لا بُدَّ أن يؤمر بالتبليغ وإن لم يؤمر بالتجرُّد له والجِدِّ فيه. وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} [الحج: 52]، فدلت الآية أن كلًّا من الرسول والنبي مرسل. نعم إذا أطلق الرسول فالظاهر منه أنه المأمور بالتجرُّد للتبليغ والجِدِّ فيه، لأن معنى الإرسال فيه أقوى، ولكن ذلك لا يمنع من حمل (رسول) في بعض الموارد
(2/95)
على ما يعمُّ النبي الذي لم يؤمر بالتجرد للتبليغ والجد فيه إذا دل دليل على العموم، والدليل هنا ما مر؛ إذ لا يظهر فرق بين من بلغه إرسال رسول ومن بلغه إرسال نبي في قيام الحجة. والله أعلم. فصل وأما القول بأنه لم يبعث إلى العرب رسول قبل محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فيردُّه أن مَنْ كان منهم من نسل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام فقد دخلوا في رسالتهما؛ إذ لا شبهة أنهما كانا مرسلين إلى أبنائهما، ومَن كان مرسلًا إلى قوم فهو مرسلٌ إلى ذرِّيَّتهم ما تناسلوا، وأما الباقون فقد دخلوا في رسالة إسماعيل، كما جاء أنه أرسل إلى جُرْهُم (1)، وجاء أن عادًا وثمود من العرب، وقد أرسل إليهم هودٌ وصالحٌ. فأما قوله تعالى: {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الجرز [السجدة]: 3]، فالمراد بالقوم كما هو الظاهر مَن بلغتهم بعثته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من أهل مكة وغيرهم، وهؤلاء لم يأتهم أنفسهم رسول نذير قبله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ولا يفهم من ذلك أنه لم يأت أسلافهم نذير، كيف ومن أسلافهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهما نبيّان مرسلان، ومن أسلافهم أبناء إسماعيل لصلبه، وقد أنذرهم أبوهم إنذارًا مباشرًا، وهكذا يُقال في آيات أخر (2). _________ (1) جُرْهُم: حيٌّ من اليمن نزلوا مكَّة وتزوَّج فيهم إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وهم أصهاره، ثمَّ ألحدوا في الحرم فأبادهم الله. لسان العرب 12/ 97. (2) كالآية (44) من سورة سبأ، و (46) من سورة القصص. [المؤلف]
(2/96)
وأما قوله تعالى في أوائل سورة يس: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6]، فالمراد آباؤهم الأدنون، كما هو الحقيقة، فإن حُمِل على ما يعمُّ الأجداد وإن عَلَوا فلا بُدَّ من قصره على بعض الطبقات لما تقدم. وأما القول بأن شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قد كانت اندرست قبل بعثة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فخطأ القائلين به من وجهين: الأول: أنهم يطلقون القول بعذر المشركين الذين هلكوا قبيل بعثة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وآبائهم وأجدادهم فصاعدًا، وقضية ذلك: أن شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام اندرست قبل أن يشرك أحد من العرب، وهذا قول لا دليل عليه، بل الدليل قائمٌ على خلافه. [ز 15] (1) فقد ثبت عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه قال: "رأيتُ عمرو بن لُحَيِّ بن قَمَعة بن خِندِفَ أخا بني كعبٍ هؤلاء يجرُّ قُصْبه في النار"، وفي روايةٍ: "وكان أول من سيَّب السُّيوب" (2). والحديث في المستدرك وفيه: "هو أول من حمل العرب على عبادة الأصنام"، وفي رواية: "هو أوَّل من سيَّب السوائب وغيَّر دين إبراهيم عليه _________ (1) من هنا تبدأ القطعة المسمّاة في فهرس المكتبة (رسالة في العقيدة)، وهي متَّصلةٌ بما قبلها كما ترى. (2) صحيح مسلمٍ، كتاب الجنة إلخ، بابٌ النار يدخلها الجبَّارون إلخ، 8/ 155، ح 2856. ونحوه في صحيح البخاريِّ، كتاب المناقب، باب قصَّة خزاعة، 4/ 184، ح 3521. [المؤلف]
(2/97)
السلام"، وفي أخرى: "أول مَن غيَّر عهد إبراهيم ... ونصب الأوثان" (1). وقد وردت آثار في سبب نصبه للأوثان وسبب إشراكه في التلبية سنذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى. الوجه الثاني: أنهم يطلقون العذر، فشمل العذر في الشرك والعذر في المعاصي، وذلك يقتضي أحد أمرين: إما أنهم يرون أن الشريعة إذا اندرس بعضها سقط التكليف بباقيها، وإما أن يزعموا أن شريعة إبراهيم عليه السلام كانت قد اندرست بجميع فروعها. ولا أرى عاقلا يُقْدِمُ على الأول، ولا عارفًا يقدم على الثاني. فأما قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 47]، وقوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]، فالمعنى أنه لو لم يرسل إليهم رسول لقالوا ذلك على جهة الاعتذار، فقطع الله عذرهم، ولا يفهم من ذلك أنه لو لم يرسل الرسول فقالوا ذلك لقُبِل منهم وعُدَّ عذرًا لهم. وقد دل قوله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أنهم مؤاخذون بأعمالهم، على فرض عدم الإرسال وإظهار الاعتذار، فكذلك يقال فيمن هلك قبل البعثة. _________ (1) راجع المستدرك، كتاب الأهوال، ذكر أوَّل مَن حمل العرب على عبادة الأصنام، 4/ 605. والإصابة، ترجمة أكثم بن الجون، [1/ 214 - 215]. وفتح الباري، باب قصَّة خزاعة، 6/ 354. [المؤلف]
(2/98)
وقد قال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة: 19]، وليس المعنى أنه لم يأت أسلافهم كما هو واضح، ولا يُفهم منه أنه لو لم يُبعث رسول فقالوا ذلك كان عذرًا مقبولًا. فكذلك لا يكون مَن هلك من أهل الكتاب قبل بعثة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم معذورًا على الإطلاق، فكذلك العرب. وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ} إلى قوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [طه: 155 - 157]، فهذا اعتذار قطعه الله تعالى، مع العلم بأنه لو أُرْسِل إليهم رسول بلا كتاب لقامت عليهم الحجة وإن كان ذاك الاعتذار باقيًا، فكذلك مَن هلك منهم قبل بعثة الرسول وإنزال الكتاب بالنسبة إلى ما قامت عليه الحجَّة. وأما قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} إلى قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} [القصص: 59]، فالمراد بالإهلاك هنا التدمير الدنيوي المستأصل كما يرشد إليه السياق، ثم إما أن يكون (أل) في {الْقُرَى} للاستغراق، والكلامُ على سلب العموم، وأمُّ القرى مكَّة، والمعنى: ما كان ربُّك ليدمِّر على جميع القرى حتى يبعث رسولًا في مكَّة، فَأَنْتَ ذلك الرسول. وهذا التدمير هو الموعود به عند قيام الساعة. فحاصل المعنى: ما كان ربك ليقيم الساعة حتى يبعث رسولًا في مكَّة فأنت هو. وهذا معنى صحيح لا غبار عليه.
(2/99)
وإما أن تكون (أل) للجنس، وأمُّ القرى أعظمها، والمعنى: ما كان ربُّك ليدمِّر على طائفةٍ من القرى حتى يبعث في أعظمها رسولًا, كما بعث في القرية العظمى من قرى عادٍ هودًا فلما كذَّبوه دمَّر الله تعالى على تلك القرى وهكذا، وهذا معنًى صحيحٌ أيضًا. وبقيت احتمالاتٌ أخرى ما بين باطلٍ وضعيفٍ فلا حاجة للإطالة بها. والمقصود أنه ليس في الآية ما يدلُّ على أن المشركين كانوا قبل بعثة محمَّدٍ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم معذورين مطلقًا. ودونك تحقيق حال العرب.
(2/100)
فصل العرب بعد إسماعيل عليه السلام فريقان:
الفريق الأول: ذُرِّيَّته، ومنهم بنو عدنان. والفريق الثاني: مَن عداهم. فأما ذُرِّيَّته فإنها لزمتهم شريعة أبويهم إبراهيم وإسماعيل والتزموها، وأما مَن عداهم فإنها لزمتهم ببلوغ الدعوة، فمنهم مَن التزمها، ومنهم مَن أبى، والذين أبوا منهم مَن تهوَّد بعد ذلك كسبأ الذين اتَّبعوا سليمان عليه السلام مع مَلِكَتِهم كما قصَّه الله تعالى في كتابه في سورة النمل، ومنهم مَن تنصَّر كأهل نجران، ومنهم مَن بقي على شركه. وكلامنا الآن في الذين اتبعوا شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فنقول: إنهم بقوا محافظين عليها أمدًا طويلًا، ففي كتاب أرميا، الإصحاح الثاني: " [9] (1) لذلك أخاصمكم بعد يقول الرب وبني بنيكم أخاصم ــ 10 ــ فاعبروا جزائر كِتِّيم (2) وانظروا وأرسلوا إلى قيدار وانتبهوا جدًّا وانظروا هل صار مثل هذا ــ 11 ــ هل بدَّلت أمَّةٌ آلهةً وهي ليست بآلهةٍ، أما شعبي فقد بدَّل مجده بما لا ينفع ــ 12 ــ" (3). _________ (1) لم يكتب المؤلف رقم الفقرة. (2) هو اسمٌ قديمٌ لقبرص. انظر: قاموس ــ ما يُسمَّى ــ الكتاب المقدَّس، في مدخليْ كِتِّيم وقبرس. (3) لم ينقل المؤلف الفقرة الثانية عشرة، ولعله أشار بكتابة الرقم إلى انتهاء الفقرة الحادية عشرة.
(2/101)
قيدار ــ ويُقال: قيذار ــ هو اسم ابن إسماعيل، كما هو مذكورٌ في الإصحاح الخامس والعشرين من سفر التكوين. وذكر معه نبايوت، وأكثر النسابين من العرب أن نابتًا ــ ويقال: نبت ــ هو ابن قيذار بن إسماعيل، وإليه نُسب عدنان، ولا مانع أن يكون لإسماعيل ابن اسمه نبايوت ونابت أو نبت، ثم سمي ابنُ قيذار نابتًا أو نبتًا باسم عمِّه. وما وقع لبعض النسابين من قولهم في نسب عدنان: نابت أو نبت بن إسماعيل، فكأنهم أسقطوا قيذار اغترارًا بما حكي عن التوراة أو غير ذلك. وأنشد ابن إسحاق لقصيِّ بن كلاب جدِّ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أبياتًا فيها (1): فلست لغالبٍ إن لم تَأثَّل ... بها أولادُ قَيذَرَ والنَّبيتُ أراد بالنبيت أبناء نابتٍ. والله أعلم (2). فمعنى قوله: "وأرسلوا إلى قيدار" أي: أرسلوا إلى بلاد بني قيدار، وهي الحجاز وما حولها. وقوله: "وانتبهوا جدًّا" يشير به ــ والله أعلم ــ إلى تدبُّرِ الفَرْقِ بين بني إسرائيل وبني قيدار، بنو قيدار محافظون على شريعة إبراهيم لم يبدِّلوا ولم يغيِّروا مع مرور الزمان، وبنو إسرائيل قد بدَّلوا شريعة موسى، وكان بعد إبراهيم بزمانٍ، ومع ذلك كانت عندهم التوراة، ثم تسلسل فيهم الأنبياء كداود وسليمان ومَنْ بعدهما. وقوله: "هل بدَّلت أمة آلهة" إلخ يُعْلَمُ _________ (1) سيرة ابن هشام 1/ 128. انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 1/ 57 وفيه: لحاضن بدل غالب. (2) راجع فتح الباري، كتاب المناقب، باب نسبة اليمن إلى إسماعيل، 6/ 346. وراجع تاريخ ابن جريرٍ 2/ 192؛ فإن أكثر الأقوال المختلفة في نسب عدنان تقول: نابتٌ، أو نبتٌ، أو النبيت بن قيذار بن إسماعيل. [المؤلف]
(2/102)
منه مع ما تقدَّم أن بني قيدار لم يبدِّلوا كما بدَّل بنو إسرائيل. والسِّفْر المذكور يصرِّح بأن بني إسرائيل عبدوا الأصنام ونصبوها في بيت المقدس، فراجعه إن شئت. واستمرَّ بنو إسماعيل ومن وافقهم في اتِّباع شريعة إبراهيم عليه السلام على المحافظة عليها, فبُعث عيسى عليه السلام وهم على ذلك, ورُفع وبُدِّلَتْ شريعته وهم على ذلك, حتى بدَّلها ذلك الخبيث عمرو بن لحيٍّ. وقد تأمَّلتُ أنساب الصحابة الذين أسلموا من ذرِّية عمرو بن لحيٍّ كأكثم بن الجون، وسليمان [ز 16] بن صُرَد، وعمرو بن سالم، وبُدَيل بن وَرْقاء، وعمرو بن الحَمِق، وجويرية أمِّ المؤمنين، وغيرهم, فإذا بين كلٍّ منهم وبين عمرو بن لحيٍّ تسعة آباءٍ، وربَّما زاد أبًا أو نقص. وبين عمرو بن لحيٍّ وبين معدِّ بن عدنان خمسة آباء عند من يقول: هو من ذريته كما هو ظاهر الحديث الصحيح المتقدِّم، فإن خِندِفَ هي زوج الياس بن مضر بن نِزار بن مَعَدٍّ، وأما على المشهور أن لُحيًّا لقبٌ واسمه ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد, وأنه إنما نسب إلى قَمَعة بالتبنِّي أو غيره، فإنه يكون في عهد النضر بن كنانة بن مدركة بن إلياس أو قبله، وهو أظهر؛ فقد كان لكنانة ابنٌ اسمه عبد مناةٍ ولأُدِّ بن طابخة بن إلياس ابنٌ اسمه عبد مناة أيضًا، والظاهر أن هذا الاسم إنما سمَّوا به بعد التبديل، ومثله زيد مناة، وعبد اللات، وتيم اللات، وعبد العُزَّى، وغيرها، والله أعلم. وقد حكى ابن الكلبي وغيره أنَّ معدَّ بن عدنان كان على عهد عيسى
(2/103)
عليه السلام (1)، وبين مولد عيسى ومولد محمد عليهما الصلاة والسلام نحو ستمائة سنةٍ، فعلى هذا يكون بين عيسى عليه السلام وبين تبديل عمرو بن لحيٍّ نحو مائتي سنةٍ. ومن تتبَّع تاريخ النصرانية علم أنها لم تكد تمضي مائة سنة بعد رفع عيسى عليه السلام حتى بدَّل جمهورُ أتباعه أشنع تبديلٍ، وظهر بما تقدَّم أن شريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بقيت محفوظةً في ذريتهما العرب ومن وافقهم حتى بُدِّلت شريعةُ موسى والأنبياء بعده وشريعة عيسى، وكانت آخر الشرائع تبديلًا. فصل أما مَن كان من العرب على شريعة إبراهيم قبل تبديل عمرو بن لحيٍّ أو بعده وبقي متمسكًا بها فلا ريب في نجاتهم؛ لأنهم كانوا على شريعة صحيحةٍ لم تُبدَّلْ ولم تُنسَخْ ولم يلزم أهلَها إجابةُ أحدٍ من الأنبياء الذين بُعِثُوا بعد إسماعيل؛ لأنه لم يُبعث أحد منهم إلى ذرية إسماعيل ومن وافقهم في اتباع شريعة إبراهيم. وقد قدَّمنا أنه إذا بُعث رسول إلى أمة وكانت هناك أمة أخرى على شريعة لم تبدَّلْ لم يلزمها اتباع ذلك الرسول. وأما عمرو بن لحي ومن وافقه على التبديل وكذا من جاء بعده فاتبعه مع علمه بالتبديل فهؤلاء هالكون لا محالة. وأما مَن بعد هؤلاء إلى بعثة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فالكلام _________ (1) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 1/ 57.
(2/104)
فيهم يستدعي بعض البسط، فأقول: إن القوم كانت قد بلغتهم أصل دعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فلم يزالوا يعرفون أن إبراهيم رسولُ الله وأنه جاء بشريعة من عند الله, وكانوا يدَّعون أنهم على دينه. ذكر ابن إسحاق اجتماع زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل ورجلين آخرين ونجواهم, قال: "فقال بعضهم لبعض: تَعَلَّموا والله ما قومكم على شيءٍ، لقد أخطؤوا دين أبيهم إبراهيم ... يا قوم التمسوا لأنفسكم فإنكم والله ما أنتم على شيء، فتفرَّقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم ... وأما زيد بن عمرو بن نفيل فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية وفارق دين قومه، فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان، ونهى عن قتل الموءودة، وقال: أعبد رب إبراهيم، وبادى قومَه بعيب ما هم عليه. قال ابن إسحاق: حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن أمه أسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله عنهما قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيلٍ شيخًا كبيرًا [ز 17] يسند ظهره إلى الكعبة وهو يقول: "يا معشر قريشٍ، والذي نفس زيد بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري"، ثم يقول: "اللهم لو أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به، ولكن لا أعلمه"، ثم يسجد على راحته. ثم قال: وحُدِّثت عن بعض أهل زيد بن عمرو بن نفيل أن زيدًا كان إذا استقبل الكعبة داخل المسجد قال: "لبيك حقًّا حقًّا تعبُّدًا ورقًّا" عُذتُ بما عاذ به إبراهمُ ... مستقبلَ الكعبة وهو قائمُ إذ قال: أَنْفِي لك اللهم عانٍ راغمُ ... مهما تُجَشِّمْنِي فإني جاشِمُ
(2/105)
إلى أن قال: ثم خرج يطلب دين إبراهيم عليه السلام ويسأل الرهبان والأحبار حتى بلغ الموصل والجزيرة كلها، ثم أقبل فجال الشام كلها حتى انتهى إلى راهب بميفعةٍ (1) من أرض البلقاء كان ينتهي إليه علم النصرانية فيما يزعمون, فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم، فقال: إنك لتطلب دينًا ما أنت بواجِدٍ مَنْ يحملك عليه اليوم، ولكن قد أظلَّ زمان نبيٍّ يخرج من بلادك (2). أقول: وأثر أسماء بنت أبي بكر أخرجه البخاري في صحيحه. وأخرج عن ابن عمر قصة زيد في مساءلته لعلماء اليهود والنصارى، وذكر ابن عمر أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بَلْدَحَ (3) قبل أن ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي فقُدِّمت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - سُفرة فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: "إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه" (4). وذكر في الفتح شاهدًا لقصة السُّفرة من حديث سعيد بن زيدٍ وفيه: فمرَّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وزيد بن حارثة وهما يأكلان من سُفرة لهما فَدَعَيَاهُ فقال: "يا ابن أخي لا آكل مما ذُبِحَ على النُّصب، قال: فما رُئِيَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يأكل مما ذُبِح على النصب من يومه ذلك" (5). أقول: وهذا الحديث في مسند أحمد (6). _________ (1) أي: بمرتفعٍ. (2) راجع سيرة ابن هشام، ذكر ورقة بن نوفلٍ إلخ، 1/ 222 - 231. [المؤلف] (3) بَلدَح: وادٍ قبل مكة من جهة المغرب. معجم البلدان 1/ 480. (4) صحيح البخاريِّ، كتاب المناقب [وفي السلطانيَّة: كتاب مناقب الأنصار]، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيلٍ، 5/ 40، ح 3826. [المؤلف] (5) فتح الباري 7/ 98. (6) 1/ 189. [المؤلف]
(2/106)
وذكر الحافظ حديث زيد بن حارثة، وسأذكره بعد إن شاء الله تعالى. وذكر ابن إسحاق اتخاذ قريش الأصنام ثم قال: "وهي تعرف فضل الكعبة عليها؛ لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم الخليل ومسجده". أقول: ولعلمهم بأن احترامها من دين إبراهيم الذي بلَّغه عن ربه عزَّ وجلَّ لم ينعتوها بالألوهية كما نعتوا أصنامهم، ولم يصفوا احترامهم لها بأنه عبادة لها كما قالوا في أصنامهم، بل كانوا يرون أن احترامهم لها عبادة لله عزَّ وجلَّ، وسيأتي إيضاح هذا إن شاء الله تعالى. وذكر ابن إسحاق شأن زمزم وتجديد عبد المطلب لها وقول قريش: "إنها بئر أبينا إسماعيل" (1). وبالجملة فالشواهد على ما ذكرت من معرفتهم بأصل دعوة إبراهيم وإسماعيل ودعواهم أنهم على دين إبراهيم كثيرة، وفيما ذكرت كفاية إن شاء الله تعالى. ومع ذلك فقد كان بقي فيهم من شريعة إبراهيم عليه السلام أشياء: [ز 18] منها: في العقائد: علمهم بأن الله هو الحق، قال قائلهم ــ وأنشده بين ظهرانيهم فلم ينكروه ــ: ألا كل شيء ما خلا الله باطل (2) _________ (1) سيرة ابن إسحاق ص 3. (2) راجع صحيح البخاريِّ، كتاب بدء الخلق [وفي السلطانيَّة: كتاب مناقب الأنصار]، باب أيَّام الجاهليَّة، 5/ 42، ح 3841. وصحيح مسلمٍ، كتاب الشعر، 7/ 49، ح 2256. [المؤلف]
(2/107)
وذِكْرُ الله تعالى والثناءُ عليه والقَسَمُ به في كلامهم أكثرُ من أن يُحْصَى، بل شهد الله تبارك وتعالى عليهم في كتابه بأنهم يعترفون بربوبيته، وأنه الذي يرزق من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويدبر الأمر، له الأرض وما فيها، رب السموات السبع ورب العرش العظيم، بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر له، ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض، خلق السموات والأرض وهو العزيز العليم. وسيأتي سياق الآيات في ذلك (1) وما يتعلق به من كلام المفسرين (2). ومنها في الأحكام: احترام البيت والحرم، ومشروعية الختان، والوفاء بالنذر وباليمين وبالعهد، وتحريم الظلم والغدر والزنا والربا والكذب، وتحريم نكاح الأمهات والبنات والأخوات، إلى غير ذلك. ولما بنوا الكعبة قبل البعثة تواصوا أن لا يجعلوا فيها إلا مالًا طيبًا، ولا يجعلوا فيها مالًا أُخِذَ غصبًا ولا قُطِعت فيه رحم ولا انتُهِكت فيه ذمة ولا مهر بغيٍّ ولا بيع ربًا ولا مظلمة أحد من الناس (3). _________ (1) اقرأ من سورة يونس الآية: 31، ومن سورة قد أفلح المؤمنون، الآية: 84 - 89، ومن سورة العنكبوت، الآية: 61 - 63، ومن سورة الزمر، الآية: 38، ومن سورة الزخرف، الآية: 9، والآية: 87. [المؤلف] (2) يشير إلى ما ذكره في تفسير عبادة الملائكة في ص 715 - 724. (3) راجع: سيرة ابن هشام، حديث بنيان الكعبة، 1/ 194. وراجع: فتح الباري، كتاب المناقب، باب بنيان الكعبة 7/ 100. وكتاب الحجِّ، باب فضل مكَّة إلخ، 3/ 286. [المؤلف]
(2/108)
وقال في شرح قول النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لعائشة: "ألم تري قومك قَصُرَتْ بهم النفقة" قال في الفتح: "أي النفقة الطيبة التي أخرجوها لذلك كما جزم به الأزرقي وغيره .... وروى سفيان بن عيينة في جامعه عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه أنه شهد عمر بن الخطاب أرسل إلى شيخ من بنى زهرة أدرك ذلك فسأله عمر عن بناء الكعبة فقال: إن قريشًا تقرَّبت لبناء الكعبة، أي بالنفقة الطيبة، فعجزت فتركوا بعض البيت في الحِجْر, فقال عمر: صدقت". أقول: قولهم: "بيع ربا" صورته أن أحدهم كان يبيع بنسيئة فإذا حلَّ الأجل قال لغريمه: تقضي أم تربي؟ قال جماعة من أهل العلم: هذا هو المعروف من الربا في الجاهلية، ولم يُنْقَلْ عنهم ربا القرض. أقول: كأنهم ــ والله أعلم ــ تنزَّهوا عن ربا القرض لأنه كان مقطوعًا بتحريمه عندهم. ونظير هذا كلمة "العِينَة" وردت في الحديث (1) ولم ينقل أنَّ الصحابة سألوا عن تفسيرها, فيظهر من ذلك أنها كانت معروفة من قبل, فكأنَّ أهل الجاهلية كانوا يتعاملون بها احتيالًا على ربا القرض لحرمته عندهم. والله أعلم. مُحْدَثاتهم منها: زعمهم أن الملائكة بنات الله، سبحانه وتعالى عما قالوا علوًّا كبيرًا. ومنها: عبادتهم الملائكة بالدعاء وغيره، على ما يأتي تفصيله. ومنها: ارتيابهم في البعث مع أنه قد كان بلغهم. قال الله تبارك وتعالى: _________ (1) انظر: سنن أبي داود، كتاب البيوع، باب في النهي عن العينة، 3/ 274، ح 3462.
(2/109)
{قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 82 - 83] (1). وقد كان منهم من يصدِّق به، قال لبيد (2) في الجاهلية: [ز 19] وكل امرئٍ يومًا سيعلم سعيه ... إذا كُشِفت عند الإله المَحاصِلُ وقال زهير بن أبي سلمى في معلقته (3): فلا تكتمُنَّ الله ما في نفوسكم ... ليخفى ومهما يُكتَم اللهُ يعلم يؤخَّر فيوضع في كتابٍ فَيُدَّخر ... ليوم الحساب أو يُعَجَّل فيُنْقَم ومنها: نصبهم الأوثان في جوف الكعبة وفوقها وحواليها وفي مواضع أخرى، وتسميتها آلهة، وعبادتهم إياها. ومنها: الاستقسام بالأزلام والذبح للأنصاب. ومنها: ما شرعه لهم عمرو بن لحي من البَحِيرة والسائبة والوَصِيلة والحامي. ومنها: النسيء، وفيه تحريم بعض أشهر الحلّ وتحليل بعض الأشهر الحرم وتقديم أو تأخير الحجِّ عن ميقاته. ومنها: ما أحدثوه في الحجِّ من امتناع قريش ومَنْ إليها من الوقوف بعرفة مع الناس، بل كانوا يقفون بالمزدلفة، ومِنْ مَنْعِ مَنْ ليس من أهل _________ (1) ونحوها في سورة النمل 67 - 68. [المؤلف] (2) انظر: شرح ديوانه 257. (3) انظر شرح شعر زهير بن أبي سُلمى ص 26.
(2/110)
الحرم أن يطوف في ثياب الحلِّ، بل إن حصل له من ثياب أهل الحرم وإلا طاف عريانًا. فصل ثبت بما تقدم أن القوم كانوا يعلمون وجود الله تعالى وأنه الرب الخالق الرازق المدبر القادر العليم الحكيم، وأنه أرسل إبراهيمَ بدينٍ فبلَّغه إبراهيمُ، وأنه لازمٌ لهم. فقد بان بهذا أن الحجَّة قائمة عليهم في الجملة. أما التفصيل، فما بلغهم أنه من شريعة إبراهيم فلا ريب في لزومه لهم وسقوط عذر مَن خالفه منهم، وكذلك ما لم يبلغهم ولكنهم لو ساءلوا أو بحثوا ونظروا لعرفوه، إلا أنه قد يُعْذَرُ في هذا مَنْ لم يتنبَّهْ ولم يُنبَّهْ، أو تنبَّه وتعسَّر عليه البحثُ فاحتاط، فلندع هذا وننظر في محدثاتهم. يمكن أن تجعل محدثاتهم على ثلاثة أضربٍ: الضرب الأوَّل: ما كانوا يرونه من شريعة إبراهيم. الضرب الثاني: ما كانوا يجهلون أمنها هو أم لا؟ الضرب الثالث: ما كانوا يعلمون أنه ليس منها. فأما الضرب الأوَّل فلم أجد له مثالًا صريحًا، وقد قرعهم الإسلام بالحجَّة والبرهان، ثم بالسيف والسنان، مع إعلانه أنَّما يدعو إلى ملة إبراهيم، فلم نسمع بقول قائلٍ منهم: هذا من دين إبراهيم فكيف تتركه يا محمد وتعيبه وتنهى عنه مع زعمك أنك متَّبعٌ ملَّة إبراهيم؟ فلو كان الضرب
(2/111)
الأول موجودًا لكانت هذه أقوى حجة في يدهم وأسرعها خطورًا في بال أحدهم، فمن المحال عادة أن يسكتوا عنها وهم يرون سبيلًا إليها. وقد أطبق أهل العلم على إثبات إعجاز القرآن بتركهم معارضته، وحُجَّتنا هذه لا تقلُّ عن ذلك. فأما ما حكاه الله تعالى عنهم من قولهم: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} فسياق الآية هكذا: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]. [ز 20] فعلم أن كلمتهم تلك ليست مبنية على شبهة تورث اعتقادًا أو ظنًّا وإنما هي من القول بلا علم وهو التخرُّص والرجم بالغيب، وقد عرفوا من صفات الله تبارك وتعالى ما يَثْبُتُ به أنه سبحانه لا يأمر بالفحشاء، وعلموا حرمة الكذب وقبحه في أخبار الناس بعضهم عن بعض فما الظن بالكذب على الله عزَّ وجلَّ. فتلك الكلمة إما افتراء محض وإما قولٌ بلا علم، وهو إما كذب وإما في حكم الكذب. ولعلمهم ببطلان تلك الكلمة قدَّموا عليها ما هو عمدتهم وهو اتباع آبائهم؛ فإن كانوا تحذلقوا في تلك الكلمة فكأنهم نحوا بها منحى قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]، وهذه شبهة أخرى كانوا هم يعلمون بطلانها قطعًا كما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. فإن قيل: أما قولهم "الملائكة بنات الله" تعالى الله عن ذلك، فالظاهر أنهم كانوا ينسبونه إلى دين إبراهيم؛ إذ لو لم ينسبوه إليه لنسبوا إليه نقيضه، وهم يزعمون أن نقيضه باطل ويعترفون بأن دين إبراهيم حق.
(2/112)
قلت: كلامنا إنما هو في ظنٍّ يستند إلى نقلٍ أو ما يقرُب منه؛ فإن هذا هو الذي قد يصلح عذرًا لهم ويمكنهم به المدافعة بأن يقولوا: هذا من دين إبراهيم فكيف تنكره؟ فالنقل أن يخبرهم آباؤهم عن آبائهم عن آبائهم وهكذا إلى إسماعيل، والذي يقرب منه أن يكون مضى عليه أسلافهم، وهم ــ أعني الأسلاف ــ حريصون على المحافظة على شريعة إبراهيم والوقوف عند حدودها، فيقول الأخلاف: كان أسلافنا يتدينون بهذا وقد عرفنا مِنْ أحوالهم ما جَعَلَنا نثق بأنهم لا يتدينون إلا بما ثبت عندهم أنه من شريعة إبراهيم. فهذا الذي نفيناه، فلم يكن عند القوم بمقالتهم في الملائكة نقلٌ ولا كانوا واثقين بأسلافهم، بل كانوا يعلمون أن الأسلاف بدَّلوا وغَيَّروا وزادوا ونقصوا بمحض التخرُّص. فأما ظنٌّ يستند إلى شبهة غير ما ذكر بأن تكون عندهم شبهة عقلية فيذكرونها ثم يقولون: ثبت أن هذا حقٌّ فهو من دين إبراهيم= فلم ننفِه، على أنه في هذه المقالة لم يكن عندهم إلا قولهم: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} [الأعراف: 28] وهم أنفسهم يعلمون وَهَنَ هذه الشبهة بل بطلانَها؛ لأنهم يعلمون أن آباءهم لم يكونوا معصومين، بل كانوا يتقوَّلون بالخرص والرجم بالغيب. ويحتمل أن تكون لهم شبهة أخرى واهية أيضًا سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى. فإن قلت: قد يمكن في بعض تلك المحدثات أن يخفى حاله عليهم فيحسبونه من شريعة إبراهيم, ولكن لما نبههم الإسلام وقرَّعهم تفكروا فتبين لهم أن حسبانهم لم يكن عن دليل، فذاك الذي كَفَّهم عن المعارضة. قلت: إن هذا لمحتمل؛ فإن بَعُدَ أن يخفى بعضُها عليهم جميعًا لم يَبْعُدْ
(2/113)
أن يخفى على بعضهم، بل إذا نظرنا إلى العادة كِدْنا نقطع بأنه لا بدَّ أن يخفى بعضها على بعضهم. والله أعلم. وأما الضرب الثاني فلم أجد له مثالًا صريحًا، ولكن لا بدَّ من ثبوته في الجملة بأن يكون بعضهم كان يشك في بعض تلك المحدثات أمن شريعة إبراهيم هي أم محدثة؟ وأما الضرب الثالث: فمن أمثلته الصريحة: الاستقسام بالأزلام، ففي صحيح البخاريِّ [ز 21] من حديث ابن عبَّاسٍ: قال: إن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لما قدم أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت، فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "قاتلهم الله، أَمَ (1) والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط" (2). ومن هذا الضرب فيما يظهر: نصب الأوثان واتخاذها آلهة وعبادتها، فإن إحداث عمرو بن لحي لذلك واقعةٌ أكبر وأظهر من إحداث الأزلام فعلمهم بها أولى، وكان العرب معروفين بحفظ الوقائع وتناقلها إلى مئات السنين، وقد اتَّصل بعض أخبارهم في إحداث الأصنام بمؤرخي الإسلام كما سنذكره فيما يأتي، وكذلك اتَّصل بهم شيءٌ من أخبار عمرو بن لحيٍّ، _________ (1) أصلها: "أمَا" وهي كلمةٌ لافتتاح الكلام، وقيل: هي بمعنى "حقًّا"، وحُذِفت ألفها للتخفيف. انظر: عمدة القاري 9/ 355. وأُثْبِتَت الألف في بعض روايات البخاري. انظر: فتح الباري 3/ 305. (2) صحيح البخاريِّ، كتاب الحجِّ، باب مَن كَبَّر في نواحي الكعبة، 2/ 150، ح 1601. [المؤلف]
(2/114)
ومن أخبار معاصريه ومن كان قبله. هذا ولو كانوا يزعمون أنهم إنما يستندون في اتخاذ الأوثان وتعظيمها إلى شريعة إبراهيم أو شريعة نبيٍّ آخر لما سمَّوها آلهة ولا سمَّوا تعظيمها عبادة لها. والحجة على هذا الامتناع ستأتي فيما بعد (1)؛ لأنها نتيجةٌ لمقدِّماتٍ وتمهيداتٍ كثيرةٍ لم نستوفها بعد. ونكتفي هنا بما إذا تدبرته حق تدبره أرشدك إليها، وهو أن القوم كانوا يحترمون الكعبة أبلغ من احترام الأصنام كما تقدم، ومع ذلك لم يسموها إلهًا ولا قالوا في احترامها أنه عبادة لها، ولا قال أحد ممن كان يشغب منهم على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "كيف يعيب محمَّد علينا عبادتنا للأوثان وهو وأصحابه يعبدون الكعبة والحجر الأسود معنا"، بل كانوا يقولون: الكعبة بيت الله، واحترامها عبادة لله، وإنما ذلك لعلمهم بأن بناءها واحترامها مما أمر الله تعالى به على لسان رسوله إبراهيم عليه السلام. وهكذا يُقال في عبادتهم الملائكة، فإنهم كانوا يطلقون أن الملائكة آلهة وأنهم يعبدونهم كما يأتي. ومن هذا الضرب الثالث: وقوف قريش بالمزدلفة. قال جبير بن مطعم: "كانت قريش إنما تدفع من المزدلفة ويقولون: نحن الحُمس فلا نخرج من الحرم" (2). وقريشٌ لم يكن لها في عهد إبراهيم وجودٌ مستقلٌّ، وإنما هي من ذُرِّيَّته _________ (1) انظر: ص 831 - 832. (2) انظر: فتح الباري، كتاب الحج، باب الوقوف بعرفة، 3/ 334. [المؤلف]
(2/115)
وُجِدت بعد قرونٍ، فلا يُتوهَّم أنها خُصَّتْ بحكم دون الناس قبل وجودها، وكانوا يعلمون أنهم إنما أحدثوا ذلك برأيهم، قال سفيان بن عيينة: "كان الشيطان قد استهواهم فقال لهم: إنكم إن عظَّمتم غير حرمكم استخفّ الناس بحرمكم" (1). إذا تقرر هذا، فيمكن أن يقال بعذرهم في الضرب الأول في الجملة. وأما الضرب الثاني فكان الواجب عليهم فيه السؤال والبحث والنظر، فمن فعل ذلك فتبين له فقد خرج من هذا الضرب، وإلَّا كان عليه الاحتياط، ومَنْ لم يعمل ما عليه من ذلك فلا أرى له عذرًا. وأما الضرب الثالث فقيام الحجة عليهم فيه أوضح. تنبيه: اختلف أهل العلم في حال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قبل البعثة أكان متعبَّدًا بشرعٍ أم لا؟ والقائلون بالتعبد اختلفوا في تعيين الشرع الذي كان متعبَّدًا به. وأنت إذا تدبَّرت ما تقدَّم علمت أنه كان متعبَّدًا بشرع أبيه إبراهيم عليه السلام، وكان صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قائمًا بما يلزمه بحيث لو أن رجلًا آخر كان على مثل حاله ومات قبل البعثة لكان ناجيًا. [ز 22] فمن المنقول في ذلك: اجتنابه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الأوثان، صحَّ ذلك من حديث زيد بن حارثة كما سيأتي، وفيه كفاية عما في الدلائل لأبي نُعَيمٍ بسند واهٍ إلى أمِّ أيمن وآخر واهٍ إلى ابن عبَّاسٍ. _________ (1) فتح الباري أيضًا. [المؤلف]
(2/116)
ومن ذلك: أنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان يقف بعرفة مخالفًا لقومه، ثبت ذلك في الصحيحين من حديث جبير بن مطعمٍ (1). وفي رواية لابن خزيمة وإسحاق بن راهويه من حديث جبير "قال: كانت قريش إنما تدفع من المزدلفة يقولون: نحن الحُمس فلا نخرج من الحرم، وقد تركوا الموقف بعرفة، قال: فرأيت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على جمل له ثم يصبح مع قومه بالمزدلفة فيقف معهم ويدفع إذا دفعوا" (2). ومن ذلك: اجتنابه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الذبح على النصب والأكل مما ذُبِح عليها. قد مَرَّ طرف من ذلك في قصة زيد بن عمرو بن نفيل، وأخرج الحاكم في المستدرك وأبو يعلى والبزار وغيرهما من طريق أبي أسامة، ثنا محمد بن عمرو هو ابن علقمة، عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أسامة بن زيد، عن زيد بن حارثة رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وهو مُرْدِفي إلى نُصب من الأنصاب، فذبحنا له شاة ووضعناها في التنور حتى إذا نضجت استخرجناها فجعلناها في سفرتنا، ثم أقبل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يسير وهو مُرْدِفي في أيام الحَرِّ من أيام مكة، حتى إذا كنا بأعلى الوادي _________ (1) راجع صحيح البخاريِّ، كتاب الحجِّ، باب الوقوف بعرفة، 2/ 162، ح 1664. وصحيح مسلمٍ، كتاب الحجِّ، بابٌ في الوقوف، 4/ 44، ح 1220. [المؤلف] (2) ذكره في فتح الباري 3/ 334. [المؤلف]. وانظر: صحيح ابن خُزيمة، كتاب المناسك، باب الوقوف بعرفة على الرواحل، 2/ 1332، ح 2823. والمعجم الكبير للطبرانيِّ 2/ 136، ح 1579.
(2/117)
لقي فيه زيد بن عمرو بن نفيل فحيّا أحدهما الآخر بتحية الجاهلية (1)، فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: ما لي أرى قومك قد شَنَفُوكَ (2)؟ قال: أما والله إنَّ ذلك لغير نائرةٍ (3) كانت منِّي إليهم، ولكني أراهم على ضلالةٍ، قال: فخرجت أبتغي هذا الدين حتى قَدِمْتُ على أحبار يثرب، فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به (4)، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي، فخرجت حتى أقدم على أحبار خيبر فوجدتهم كذلك، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي، فقال لي حبر من أحبار الشام: إنك تسأل عن دينٍ ما نعلم أحدًا يعبد الله به إلا شيخًا بالجزيرة، فخرجت حتى قَدِمْتُ إليه فأخبرته الذي خرجت له فقال: إن كل مَنْ رأيته في ضلالة، إنك تسأل عن دينٍ هو دين الله وملائكته، وقد خرج في أرضك نبيٌّ أو هو خارج يدعو إليه، ارجع إليه وصدِّقه واتَّبِعْهُ وآمن بما جاء به، فرجعت فلم أحس شيئًا بعد، فَأَنَاخَ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم البعير الذي كان تحته، ثم قدمنا إليه السفرة التي كان فيها الشواء، فقال: ما هذه؟ فقلنا: هذه شاةٌ ذبحناها لنصب كذا وكذا، فقال: إني لا أكل ما ذُبِح لغير الله. قال: وكان صنمٌ من نحاسٍ يُقال له إساف ونائلة يتمسح به المشركون _________ (1) يعني قولهم: "عِمْ صباحًا" أو نحوها. [المؤلف] (2) أي أبغضوك. [المؤلف]. وفي بعض المصادر: "شنفوا لك"، وكلاهما مذكور في كتب اللغة. (3) أي: عداوة. انظر: النهاية: نور. (4) هذا لفظ الذهبي في تلخيص المستدرك، وفي المستدرك بدلها: " ... على أحبار أيلة، فوجدتهم يعبدون الله ولا يشركون به" كذا، والظاهر أن كلمة (لا) من زيادة النسَّاخ. [المؤلف]
(2/118)
إذا طافوا، فطاف رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وطفت معه فلما مررت مسحت به فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "لا تَمَسَّهُ"، قال زيد: فطفنا، فقلت في نفسي: لأمسَّنَّهُ حتى أنظر ما يقول، فمسحته، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "ألم تُنْهَ؟ " قال زيد: فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما استلمت صنمًا حتى أكرمه الله بالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب، ومات زيد بن عمرو بن نفيل قبل أن يبعث، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "يأتي يوم القيامة أمةً وحده"، قال الحاكم: "صحيحٌ على شرط مسلمٍ"، وأقرَّه الذهبي (1). [ز 23] أقول: أبو أسامة إمام حجة، قيل: إنه كان يدلس، فإن صح ذلك فقد صرَّح هنا بالسماع، وحكى الأزدي عن سفيان بن وكيع كلامًا يوهن به أبا أسامة، وردَّه ابن حجر في مقدمة الفتح (2) بضعف الأزدي وسفيان بن وكيع. وأقول: لو صحّ ذلك لكان محمله التدليس وقد علمت اندفاعه هنا، وإنما الكلام في محمد بن عمرو بن علقمة فأطلق بعض الأئمة توثيقه وغمزه بعضهم بما حاصله أنه لم يكن بالحافظ، ومجموع كلامهم يقتضي أنَّ حديثه دُوَيْن الصحيح وفوق الحسن، ذكر ابن حجر في المقدمة (3) أنَّ البخاري أخرج له في الصحيح مقرونًا بغيره، وتعليقًا، وأنَّ مسلمًا أخرج له _________ (1) المستدرك، كتاب معرفة الصحابة، ذكر قصَّة إسلام زيد بن حارثة ... ، 3/ 216 - 217. [المؤلف]. والسنن الكبرى للنسائي، كتاب المناقب، زيد بن عمرو بن نفيل، 7/ 325، ح 8132، ومسند البزار 4/ 165 ح 1331، ومسند أبي يعلى 13/ 137، ح 7212. (2) ص 399. (3) ص 441.
(2/119)
في الصحيح في المتابعات. أقول: قال ابن المديني عن يحيى القطان: "محمد بن عمرو أعلى من سهيل". وقال أيضًا: "محمد بن عمرو أحبُّ إلي من ابن أبي حرملة" (1)، وفضَّلَه ابن معين على سهيل والعلاء ومحمد بن إسحاق (2)، وقد احتجَّ مسلم بهؤلاء كلهم في الصحيح ووافقه البخاري فأخرج لمحمد بن أبي حرملة. وقضية السُّفرة قد وردت من حديث ابن عمر عند البخاريِّ في صحيحه، ولكنها مختصرةٌ تحتمل بعض التأويل (3). وجاءت أيضًا من حديث سعيد بن زيد عند الإمام أحمد وغيره، كما تقدم، وأخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مرفوعًا: "سمعت زيد بن عمرو بن نفيلٍ يعيب أكل ما ذبح لغير الله، فما ذقت شيئًا ذبح على النصب حتى أكرمني الله عزَّ وجلَّ بما أكرمني به من رسالته" (4). _________ (1) الجرح والتعديل 8/ 31، وسهيل هو ابن أبي صالح إلَّا أن الإمام أحمد تعقَّب يحيى بن سعيد فقال: "وما صنع شيئًا، سهيل أثبت عندهم من محمد بن عمرو". الجرح والتعديل 4/ 247. (2) انظر: تهذيب التهذيب 9/ 376 - 377. (3) راجع صحيح البخاريِّ [5/ 40، ح 3826]- مع فتح الباري [7/ 97 - 99]-، كتاب المناقب [وفي السلطانيَّة: كتاب مناقب الأنصار]، باب حديث زيد بن عمرو بن نُفَيلٍ. [المؤلف] (4) دلائل النبوة لأبي نُعيمٍ، الفصل الثالث عشر، ذكر ما خصه الله عزَّ وجلَّ به من العصمة ... ، ص 59. [المؤلف]. وهو في ط: دار النفائس ص 188، ح 131.
(2/120)
وعبد الله بن محمَّدٍ هذا ضعيف جدًّا، وقد تقدَّم في حديث سعيد بن زيد قوله: "فما رُئِيَ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يأكل مما ذبح على النصب من يومه ذلك" (1). وذكر الحافظ في الفتح (2) تأويلاتٍ لم يَقْنَعْ بها، ثم قال: "قوله: ذبحنا شاة على بعض الأنصاب يعني الحجارة التي ليست بأصنام ولا معبودة، وإنما هي من آلات الجزَّار التي يذبح عليها؛ لأن النصب في الأصل حجر كبير، فمنها ما يكون عندهم من جملة الأصنام فيذبحون له وعلى اسمه، ومنها ما لا يُعبد، بل يكون من آلات الذبح ... ". أقول: لا أراك تقنع بهذا، ولا بما حكاه ابن الأثير في النهاية (3) عن إبراهيم الحربي، فالصواب إن شاء الله تعالى أنَّ الأنصاب كانت عندهم غير الأصنام، فكانت الأصنام تعظَّم بوجوه مختلفة، كالعكوف عندها والتمسُّح بها وغير ذلك، وأما الأنصاب فكانت مختصَّة بالذبح عليها، ولعلهم لم يكونوا يطلقون على الذبح عليها أنه عبادة لها، ولما كان الأمر كذلك وكان معروفًا من شريعة إبراهيم عليه السلام تحريم الحرم واحترامه في الجملة، وكانت تلك الأنصاب من جملة حجارة الحرم، كان ذلك مظنَّة أن يحسب الناشئ فيهم أنه من بقايا شريعة إبراهيم عليه السلام، فإذا ذبح عليها بهذه النية وهو مع ذلك حريص على اتِّباع شريعة إبراهيم والوقوف عندها واجتناب ما بان له أنه ليس منها كان معذورًا إن لم نقل مأجورًا. _________ (1) انظر: ص 106. (2) 7/ 144 ط. دار المعرفة. (3) 5/ 60 - 61.
(2/121)
وهذه كانت حال النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ولعل سِنَّه حينئذٍ دون الثلاثين؛ فإنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تزوج خديجة رضي الله عنها وهو في الخامسة وعشرين (1) من عمره، فوهبت له زيد بن حارثة، فلعلَّ هذه القصة كانت بعد ذلك بقليل. والله أعلم. ولما سمع صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كلام زيد بن عمرو بن نفيلٍ تبيَّن له خلاف ما كان يحسب في الذبح [ز 24] على الأنصاب، فاجتنبه واجتنب الأكل مما ذبح عليها. ومن ذلك ما صحَّ من حديث جابرٍ قال: "لما بُنِيَت الكعبة ذهب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وعباس ينقلان الحجارة فقال عباس للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: اجعل إزارك على رقبتك يَقِك من الحجارة، فخرَّ إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء، ثم أفاق فقال: إزاري إزاري فَشُدَّ عليه إزاره" (2). وذكر الحافظ له شواهد في هذا الباب، وفي كتاب الحج، باب فضل مكة، منها: عن العباس قال: "لما بنت قريشٌ الكعبة انفَرَدَتْ رجلين رجلين ينقلون الحجارة، فكنت أنا وابن أخي فجعلنا نأخذ أُزُرَنا فنضعها على مناكبنا ونجعل عليها الحجارة، فإذا دنونا من الناس لبسنا أُزُرَنا، فبينما هو أمامي إذ صرع فسعيت وهو شاخص ببصره إلى السماء، قال: فقلت لابن _________ (1) كذا في الأصل، وانظر: سيرة ابن هشام 1/ 178. (2) صحيح البخاريِّ، كتاب المناقب [وفي السلطانيَّة: كتاب مناقب الأنصار]، باب بنيان الكعبة، 5/ 41، ح 3829. [المؤلف]
(2/122)
أخي: ما شأنك؟ قال: نهيت أن أمشي عريانًا" (1). فبان بهذا أنه لم يكن هناك إلا هو وعَمُّه وهما على عزم أن يستترا إذا دَنَوَا من الناس، فكأنه لم يكن معروفًا عندهم من شريعة إبراهيم تحريم كشف العورة عند الحاجة إذا لم يكن هناك إلا الأب أو العم أو نحوهما، ومع ذلك أدَّب الله تعالى رسوله فمنعه من ذلك. وفي الصحيحين وغيرهما في حديث بدء الوحي: "ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه ــ وهو التعبد الليالي ذوات العدد ــ قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوَّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها" (2). قال الحافظ في الفتح: "قوله: "فيتحنَّث"، هي بمعنى يتحنَّف، أي: يتَّبع الحنيفيَّة، وهي دين إبراهيم، والفاء تبدل ثاءً (3) في كثيرٍ من كلامهم، وقد روي في رواية ابن هشامٍ في السيرة: يتحنَّف بالفاء؛ أو التحنُّث: إلقاء الحنث، وهو الإثم، كما قيل: يتأثَّم ويتحرُّج ونحوهما". ولفظ البخاري في التفسير " ... فيتحنَّث فيه، قال: والتحنُّث: التعبُّد". استظهر الحافظ في الفتح أن هذا من تفسير عروة أو الزهريِّ، ثم قال: "ولم يأت التصريح بصفة تعبُّده, لكن في رواية عبيد بن عميرٍ عند ابن إسحاق: فيطعم من يرد عليه من المساكين. وجاء عن بعض المشايخ أنه كان _________ (1) أخرجه ابن إسحاق (79)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (354)، والبزار (1295) وغيرهم بإسناد ضعيف، وأصل القصة ثابت صحيح كما تقدم. (2) صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، باب 1، 1/ 7، ح 3. وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي، 1/ 97، ح 160. (3) في الأصل: "فاء"، سبق قلم.
(2/123)
يتعبد بالتفكر. ويحتمل أن تكون عائشة أطلقت على الخلوة بمجرَّدها تعبُّدًا؛ فإن الانعزال عن الناس ولا سيَّما مَن كان على باطلٍ من جُمْلة العبادة، كما وقع للخليل عليه السلام حيث قال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99]. ثم ذكر مسألة تعبُّده صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قبل البعثة بشرعٍ، وذكر قول مَن قال: لم يكن متعبَّدًا بشريعة نبيٍّ قبله، ثم ذكر شبهتهم "لأنه لو كان تابعًا لاستبعد أن يكون متبوعًا، ولأنه لو كان لنُقِل مَنْ كان يُنْسَبُ إليه" (1). أقول: الأوَّل خيالٌ فاسدٌ، وكأن قائله لم ينظر في أحوال الأنبياء الماضين ولم يعلم ما يلزم قوله من الفساد، وهو أن مَنْ أراد الله تعالى إرساله يبقى أربعين سنة غير مكلف. وأما الثاني فقد نُقِل كما علمت. ثم ذكر القول بتعبُّده بشرع نبيٍّ قبله، وذكر الأقوال في ذلك إلى أن قال: "الثالث: إبراهيم، ذهب إليه جماعةٌ، واستدلُّوا بقوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123]، إلى أن قال: "ولا يخفى قوة الثالث ولا سيَّما مع ما نقل من ملازمته للحج والطواف ونحو ذلك مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم، والله أعلم" (2). أقول: قد جاء عن زيد بن عمرو بن نفيل قوله: "إني خالفت قومي واتبعت ملة إبراهيم وإسماعيل وما كانا يعبدان وكان يصليان إلى هذه القبلة" ذكره في الفتح في باب حديث زيدٍ (3). _________ (1) فتح الباري 8/ 506. (2) فتح الباري 8/ 506 - 507. (3) 7/ 97. وأخرجه ابن سعد في الطبقات 3/ 379، والفاكهي في أخبار مكة 4/ 85 - 86، ح 2419، وأبو نعيم في الدلائل ص 100، ح 52 من رواية عامر بن ربيعة العدوي عنه.
(2/124)
وفي صحيح مسلمٍ (1) في قصَّة إسلام أبي ذرٍّ قوله: "وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بثلاث سنين"، قال ابن أخيه: "قلت: لمن؟ قال: لله، قلت: فأين توجَّه؟ قال: حيث يوجهني ربي، أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل أُلْقِيتُ كأني خِفَاءٌ" (2). ففي هذا ما يدل أنه كان قد بقي من شريعة إبراهيم ما يسمى صلاة وإن لم نعلم صفتها، إلا أنه [ز 25] كان فيها سجود كما تقدم في قصة زيد بن عمرو بن نفيل "ثم يسجد على راحته"، وذكره في الفتح بلفظ: "ثم يسجد على الأرض براحته" (3). هذا بعض ما ورد به النقل، وفيه كفاية. وقد بان أن الله تبارك وتعالى وفَّق نبيه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قبل النبوة لما كان يلزمه، فمن ذلك ما أدركه بنظره، ومنه ما يسَّر له مَنْ ساءله فأخبره كزيد بن عمرو بن نفيل، ومنه ما نُبِّه عليه بأمرٍ غير عاديٍّ كقضية الستر. وقد كان بلغه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تبديلُ اليهود والنصارى بالتواتر وبأخبار من يثق به كزيد بن عمرو بن نفيل فأيْأسَهُ ذلك أن يجد عندهم من الحق ما يوثق به، فسقط عنه سؤالهم، مع أن الله عزَّ وجلَّ جنَّبه ذلك للحكمة التي نبه عليها بقوله سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} _________ (1) في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي ذرٍّ رضي الله عنه، 7/ 153، ح 2473. (2) كغطاءٍ وزنًا ومعنىً، والمعنى: كأني ثوبٌ مطروحٌ. مشارق الأنوار (ج ف و) 1/ 160. (3) فتح الباري 7/ 100.
(2/125)
[العنكبوت: 48]. فبالنظر إلى هداية الله تعالى له إلى الطرف الذي كان يلزمه قبل النبوة ثم إكماله له الهداية بالنبوة خاطبه عزَّ وجلَّ بقوله في سورة الضحى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)}، فالهداية شاملة للأمرين. والله أعلم. وبالنظر إلى أن معظم شريعة إبراهيم قد كان اندرس فلم تمكن الهداية إليه إلا بالنبوة خاطبه عزَّ وجلَّ بقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52]. ونبه سبحانه على عذره فيما لم يكن يدريه بقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3]. ونصَّ سبحانه على عذر مَن كان غافلًا هذه الغفلة، وقد تقدم ذلك في الآيات الدالة على عذر مَن لم تبلغه الدعوة، وفيها: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131]. فصل إنك إذا تدبرت الآيات السابقة في أنه سبحانه لا يعذب حتى يبعث رسولًا تبين لك أن بعث الرسول لا يكفي، بل لا بدَّ من بلوغ دعوته وغير ذلك مما يعبِّر عنه أهل العلم بقيام الحجة. وإيضاح ذلك أن الناس على ثلاث طبقات:
(2/126)
الطبقة الأولى: مَنْ لم يبلغه خَبَرُ دعوةٍ أصلًا. الثانية: من بلغه الخبر. الثالثة: مَنْ أَسْلَمَ. أما الطبقة الأولى: فأهلها ثلاثة، رجل غافل البتَّة، ورجل متحيِّر قد تنبَّه بفطرته وعقله ونظره في آيات الآفاق والأنفس فاعترضه بعض الشبهات فبقي حائرًا، ورجل مستيقن قد بلغ بنظره إلى استيقان أن للعالم ربًّا هو الخالق المدبر القادر العليم الحكيم. وأما الطبقة الثانية: فإنَّ الرجل أوَّل ما يبلغه خبر دعوة يكون إمّا متردِّدًا، وإما مستيقنًا؛ لأنَّ الغافل يتنبَّه فيتردَّد أو يستيقن، والمتردِّد يدرك أنَّه إذا كان للعالم ربٌّ وأرسل رسولًا وجبت طاعته، والمستيقن يدرك أنَّ الربَّ إذا أرسل رسولًا وجبت طاعته، فكلاهما تلزمه في الجملة الحجَّة ببلوغ الخبر. وأما التفصيل فلا يخفى أنه بمجرد بلوغ الخبر لا تقوم الحجة في جميع العقائد والأحكام، والآيات التي قدمناها في عذر من لم تبلغه الدعوة تبيِّن هذا، فإذًا لا بدَّ من تحديد أمر يكون هو اللازم لمن بلغه الخبر إنْ تهاون به استحقَّ العقاب وإنْ أدَّاه بقي معذورًا فيما عداه حتى يتجدَّد ما يُلْزِمُه به. [ز 26] وهذا يختلف باختلاف الأحوال، فقد يكون المخبر معروفًا بالكذب، وقد يكون مجهولًا، وقد يكون معروفًا بالصدق، وقد يتواتر الخبر، وقد يكون هناك ما يوقع في النفس أنَّ المدعيَ كاذب، وقد لا يكون ما يدلُّ على كذبه ولا صدقه، وقد يكون ما يدلُّ على صدقه؛ وقد يكون بلده بعيدًا عمن بلغه الخبر، وقد يتوسط، وقد يقرب، وقد لا يمكن من بلغه الخبر أن
(2/127)
يذهب إلى الداعي، وقد يمكنه بمشقة شديدة، وقد يمكنه بمشقَّة عاديَّة، وقد يمكنه بغير مشقَّة، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [خواتيم البقرة]. فقد يُقال: إنَّ من بلغه الخبر ولم يظهر له صدقه أو ظهر له صدقه ولكن كان هناك ما يظهر منه كذب المدعي كفاه أن يتبين ويتثبت، فيسائل كُلَّ من يَقْدَمُ من الجهة التي أُخْبِرَ بأنَّ الداعي فيها ويأمر مَنْ يذهب إليها أن يبحث ويسأل؛ فإذا قوي الخبر ولم يظهر ما يظهر منه كذب المدَّعي لزم مَن بلغه الخبر أن يبادر إلى التبيُّن كأن يرسل رسولًا إن شقَّ عليه ذهابه بنفسه؛ فإذا تحقق الخبر وظهر ما يدلُّ على صدق المدَّعي لَزِمَتِ المبادرة إليه، إلَّا أنه فيما يظهر يكفي القبيلةَ وأهلَ البلدة أن يوفدوا وفدًا ممن عُرِفَ بالعقل والحلم وقبول الحق. وإذا كان المدَّعي نبيًّا حقًّا فلا بدَّ أن يظهر للذين يجتمعون به راغبين في الحق أنه صادق، أو على الأقلِّ يترجَّح لهم صدقُه، ويعلمون أن الذي يدعو إليه خير مما هم عليه، فيلزمهم إجابته حتمًا، وكذلك القبيلة إذا رجع إليها وفدُها، فإن الأخذ بالراجح واجب، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 16]. فإنه إذا استجاب جماعة لمدَّعي النبوة في حين إمكانها كان ذلك مما يدل على صدقه، فيتحتَّم على مَن سمع به الاجتماعُ به أو إيفاد الوفد كما تقدَّم، فإذا اجتمعوا به راغبين في الحق فهم مجاهدون في الله محسنون؛ فلا
(2/128)
بدَّ أن يهديهم الله بأن يهيِّئ لهم ما يفيدهم اليقين أو الرجحان، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [خاتمة العنكبوت]. وأنت ترى أن بين بلوغ الخبر ووجوب الإسلام مسافةً قد يموت الإنسان في أثنائها، أعني بعد أن أدَّى ما يلزمه من البحث عن صحة الخبر وما بعده، وقبل أن يلزمه الإسلام. والظاهر أن حكمه فيها كحكمه قبل بلوغ الخبر؛ فإن بلوغ الخبر إنما أوجب عليه البحث وما بعده كما مر، وقد فعل ذلك، فيبقى فيما عداه على ما كان عليه، فإن كان معذورًا كمن لم تبلغه قبلُ دعوةٌ أصلًا استمرَّ عذره. وكذلك من كان قد بلغته دعوة فأخذ بما يلزمه منها واستمرَّ على ذلك عند بلوغ خبر الدعوة الأخرى مع القيام بما لزمه من البحث ونحوه، فمات قبل أن يلزمه الإسلام، والله أعلم. وأما الطبقة الثالثة: فإنَّ من الذين يسلمون من يكون قد حصل له اليقين قبل قبول الإسلام أو معه فيجتمع له الإسلام والإيمان، ومنهم من يسلم قبل أن يدخل الإيمان في قلبه، [ز 27] كالأعراب الذين أنزل الله تعالى في شأنهم: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} الآيات [خاتمة الحجرات]. فهذا الضرب عليهم الطاعة والمتابعة وتحري مجالسة الرسول أو علماء دينه ونحو ذلك مما من شأنه أن يَكْسِبَهم الإيمانَ كتدبُّر القرآن والسنَّة والسيرة. ومعاملةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم للأعراب تدلُّ أنه إنما
(2/129)
يلزمهم من هذا ما ليس فيه مشقَّةٌ شديدةٌ، والله أعلم. فمن قام بما عليه من ذلك فعاجله الموت قبل أن يدخل الإيمانُ في قلبه، لم يَلِتْهُ الله من عمله شيئًا كما نصَّت عليه الآية. ومن جهة النظر لا يخفى أنه مع أصل العذر أحسن حالًا ممن هلك قبل بلوغ الدعوة، وممن بلغه الخبر فقام بما عليه فعاجله الموت قبل أن يلزمه الإسلام، فلا ينبغي التوقُّف في نجاته. ومَن قَصَّر من هؤلاء؛ فإن بلغ في التقصير إلى أن يأتي في السرِّ ما أخبره الرسول بأنه كفر ويناجي أصحابه بتكذيب الرسول ونحو ذلك فهذا منافق هالك. وبهذا عُلِمَ الفرقُ بين الأعراب المذكورين في الآية وبين المنافقين، ولذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله: إن الأعراب المذكورين صنف آخر غير المنافقين كما تقدم في أوائل الرسالة (1). وانظر صفة المنافقين في أوائل سورة البقرة يتضح لك الحال. وإن كان تقصيره بدون ذلك ففيه نظر، والظاهر أنه إذا لم يقصِّر فيما لزمه مما يكسبه الإيمان عادةً، وإنما قَصَّر بترك واجبٍ آخر أو ارتكاب حرامٍ، ثم عاجله الموت قبل أن يتوب وقبل أن يدخل الإيمان في قلبه= استحقَّ المؤاخذة بذنبه ولم يُخَلَّد في العذاب. والله أعلم. وقد يتَّفق مَوْتُ هذا بعد أن حصل له جزءٌ من الإيمان دون النصاب الشرعيِّ أو قبل أن يحصل له شيءٌ وإنما معه قول: لا إله إلا الله، وعسى أن يكون هؤلاء داخلين فيمن ورد في الأحاديث الصحيحة أنهم يخرجون من النار، فإن فيها أنه يخرج من النار "مَن في قلبه مثقال شعيرةٍ من إيمان"، ثم "مَن كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان". ثم "مَن كان في قلبه أدنى _________ (1) انظر ص 15.
(2/130)
أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان"، وفي رواية: "أدنى شيء"، وفي رواية قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، قال: ليس ذاك لك، أو قال: ليس ذاك إليك، ولكن وعزَّتي وكبريائي وعظمتي وجبريائي لأُخْرِجَنَّ من النار مَنْ قال: لا إله إلا الله". وذكر في روايةٍ شفاعة الشفعاء وإخراجهم مَنْ أذن لهم بإخراجهم ثم قال: "فيقولون: ربنا لم نذر فيها خيرًا" ثم يتفضَّلُ الله عزَّ وجلَّ "فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط"، وفي رواية في ذكر هؤلاء: "يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الجنة بغير عملٍ عملوه ولا خيرٍ قدَّموه" (1). فدخول هؤلاء النار إما أن يكون بذنوبٍ وخطايا، وإما أن يكون بتقصيرٍ في تحصيل الإيمان [ز 28] تقصيرًا لا يهدم لا إله إلا الله، ولا يهدم الجزء الذي قد حصل لمن حصل له منهم. والله أعلم. وفي بحث زيادة الإيمان ونقصانه من المواقف العَضُدِيَّة وشرحها للسيد الشريف: "والظاهر أن الظنَّ الغالب الذي لا يخطر معه احتمال النقيض بالبال حكمُه حكمُ اليقين ــ في كونه إيمانًا حقيقيًّا ــ؛ فإن إيمان أكثر العوامِّ من هذا القبيل" (2). _________ (1) راجع صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين إلخ، والأبواب بعده، 1/ 116 - 117 و 126 - 127، ح 183 (302) و 193 (326). والأحاديث في صحيح البخاريِّ مفرَّقةٌ. [المؤلف]. انظر: كتاب الإيمان، باب زيادة الإيمان ونقصانه، 1/ 17، ح 44. وكتاب التوحيد، باب كلام الربِّ عزَّ وجلَّ يوم القيامة ... ، 9/ 146، ح 7509 - 7510. (2) شرح المواقف العضديَّة 3/ 544.
(2/131)
أقول: قد قَدَّمْتُ ما يوافقه في الجملة ويزيد عليه، ولكن بشرط عدم التقصير الهادم، وبهذا يجمع بين ما تقدَّم هنا وما تقدَّم في أوائل الرسالة من اشتراط اليقين. والله أعلم. فصل ومما ورد في الأعذار ما ثبت عن جماعة من الصحابة فيما قصَّه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، قال: "أسرف رجل على نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال: إذا أنا متُّ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم اذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر عليَّ [ربِّي] (1) ليعذبَنِّي عذابًا ما عذَّبه أحدًا. قال: ففعلوا ذلك به، فقال للأرض: أَدِّي ما أَخَذْتِ، فإذا هو قائم فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: خشيتك يا رب، أو قال: مخافتك، فغفر له بذلك" (2). وجاء في بعض الروايات من قول الرجل: "لعلِّي أَضِلُّ (3) الله"، قال الحافظ في الفتح: "قوله: (لئن قدر الله عليَّ)، في رواية الكُشمِيهَنيِّ: (لئن قدر عليَّ ربِّي)، قال الخطابيُّ ... إنه لم ينكر البعث، إنما جهل فظنَّ أنه إذا فُعِل به ذلك لا يُعاد ... قال ابن قتيبة: قد يَغْلَطُ في بعض الصفات قومٌ من _________ (1) هذه الزيادة من الصحيحين. (2) راجع صحيح مسلمٍ، كتاب التوبة، باب سعة رحمة الله، 8/ 97، ح 2756 (25). وصحيح البخاريِّ، قُبَيل كتاب المناقب. [المؤلف]. يعني كتاب فضائل الأنبياء، باب 54، 4/ 176، ح 3478. (3) يُقال: ضلَّ فلانًا، أي: فاته وذهب عنه فلم يقدر عليه. انظر: النهاية 3/ 98. المعجم الوسيط 1/ 542.
(2/132)
المسلمين فلا يكفرون بذلك" (1)، ثم ذكر تأويلات أخرى. وللسنوسيِّ في شرح مسلمٍ كلامٌ لا بأس به، حاصله أن الرجل لم يجحد أن لله قدرة ولم يشك في ذلك، وإنما شك في إعادة الجسم إذا فُعِلَ به كما أمر، فطمع أن تكون من المحال الذي لا تتعلق به القدرة (2). أقول: أما قول الخطابيِّ: (إن الرجل لم ينكر البعث) فحقٌّ، ولكنه شكَّ فيه. أما البعث في القبر بمعنى إعادة الإحساس بحيث يحس بالعذاب فشكَّ فيه فيمن فُرِّق جسده تلك التفرقة، وأما البعث للقيامة فالرجل إما جاهلٌ به البتَّة، وإما شاكٌّ فيه مطلقًا، لأن الأبدان لا بدَّ أن تتفرَّق تلك التفرقة أو أشدَّ منها، وإن لم تحرق وتسحق وتذرى (3). وأما قول ابن قتيبة: (قد يغلط) إلخ، فإن أراد أنهم لا يكفرون البتَّة فمردودٌ عليه، وإن أراد أنه قد يكون منهم الجاهل الذي لم تقم عليه الحجَّة، ولم يقصِّر تقصيرًا هادمًا، فهذا حقٌّ على ما سمعت وتسمع. وأما أن الرجل لم يجحد القدرة جملةً ولم يشكَّ فيها مِنْ أصلها فحقٌّ، ولكنه قد شكَّ في تناولها لإعادة البدن الذي يفرَّق مثل تلك التفرقة، وفي شكه هذا تجويز للعجز على الربِّ عزَّ وجلَّ، وتجويزه أن تكون تلك الإعادة من المحال الذي لا تتناوله القدرة لا يَدْفَعُ تجويزَه العجز. وإيضاح ذلك أن الإنسان قد يشاء أن يقتل الأمير فلا يقدر عليه، وقد لا _________ (1) تأويل مختلف الحديث 81. والعبارة فيه: "ولا يحكم عليهم بالنار". (2) راجع شرح مسلم للأُبِّي والسنوسي 7/ 160. [المؤلف] (3) كذا في الأصل، والصواب حذف الألف آخره.
(2/133)
يشاء وهو يقدر، وقد لا يشاء وهو لا يقدر، فالأول هو العاجز ولا يدفع عنه اسم العجز إعراضه عن المشيئة لعلمه بعدم قدرته، بل المدار في انتفاء المشيئة على انتفاء الباعث عليها، أو وجود مانع غير العجز. فالمحالات التي لا تتعلق بها قدرة الباري عزَّ وجلَّ كلها من قبيل الضرب الثالث، ولكن لا يجوز أن يصرَّح فيها بنفي [ز 29] القدرة، كأن يُقال: "لا يقدر على كذا"؛ لأن هذه العبارة توهم الضرب الأول، ولأن العقل مما يخطئ فيزعم ما ليس بمحالٍ محالًا، بل يُقال: إنه على ما يشاء قدير، فلو شاء كذا وكذا قدر عليه. يُقال: هل يقدر الله عزَّ وجلَّ بعد تعذيب ثمود أن يرفع ذلك العذاب فيجعله لم يقع؟ فنقول: إنه على ما يشاء قدير، فلو شاءه قدر عليه. فيقال: ولماذا لا يشاؤه؟ فنقول: لا حكمة تدعو إليه، قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)} [خاتمة سورة الشمس]، أي لا يخاف عقبى تلك القضية وهي تعذيبهم. قال بعض المتأخرين: فيه إشارة إلى الردِّ على اليهود الذين يقع في كتبهم نسبة الندم إلى الله تبارك وتعالى. أقول: حاصله أنه سبحانه لا يخاف أن يبدو بعد ذلك أن الحكمة تقتضي عدم تعذيبهم؛ فإنه سبحانه عالم الغيب والشهادة، فهو يعلم أن الحكمة في الحال والمآل تقتضي تعذيبهم. إذا علمت هذا فتجويز عدم القدرة على إعادة الأبدان بعد تفرُّق أجزائها هو من الضرب الأول؛ لأنَّ عدل الله تعالى وحكمته يقتضي الجزاء، وذلك يقتضي أن يشاء الجزاء، وإذا كان الجزاء يتوقف على الإعادة (1) اقتضى ذلك _________ (1) في الأصل: "العبادة" سبق قلم.
(2/134)
أن يشاءها الله تعالى، فمَن جَوَّزَ مع ذلك أن لا تتعلَّق بها القدرة كان مُجوِّزًا للعجز لا محالة. فالحقُّ أن هذا رجل كان عنده جهل بالبعث والقدرة ولم يُقَصِّرْ تقصيرًا هادمًا فعذره الله تعالى. وقريبٌ من هذا ما قصَّه الله تبارك وتعالى عن الحواريين، قال سبحانه: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} إلى قوله: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)} [المائدة: 111 - 115]. فالآية ظاهرةٌ في أن القوم كانوا قد أسلموا، وأخذوا بحظٍّ من الإيمان، ولكن بقي في قلوبهم شيءٌ من الجهل والشكِّ، ولم يوجب هذا أن يُعَدُّوا كفَّارًا أو مرتدِّين، ألا ترى إلى قول عيسى: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 112]، ومثل هذا إنما يخاطَب به مَن عنده إيمانٌ في الجملة، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278]. وقد اضطرب الناس في قضية الحواريين؛ لعلمهم أنهم كانوا قد أسلموا وأن مقالتهم لم تخرجهم من الدين، فمن الناس مَنْ شَذَّ فقرأ "هل تستطيع
(2/135)
ربَّك" على معنى هل تستطيع سؤال ربِّك (1)، ومنهم من أغرب فحمل (يستطيع) على معنى (يريد) أو (يجيب). وقد تردَّد ابن جريرٍ في ذلك، ثم قرَّر "أنَّ القوم كانوا قد خالط قلوبهم مرض وشك في دينهم وتصديق رسولهم" (2). أقول: وأنا لا أرتضي قوله: "مرضٌ" فإن مجرَّد الشكِّ والتردُّد وضعف اليقين لا يسمى مرضًا حتى يكون معه خبثٌ وعنادٌ وبغضٌ للحقِّ، ومثل هذا يمنع الاهتداء، كما قال تعالى في المنافقين: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]. قال الراغب: "ويُشبَّه النفاق والكفر ونحوهما من الرذائل بالمرض إما لكونها مانعةً عن إدراك الفضائل كالمرض المانع للبدن من التصرُّف الكامل ... " (3). [ز 30] ومن الناس من تأوَّل الآية (4)، ثم قال: إنما أراد القوم الطمأنينة كحال إبراهيم عليه السلام فيما قصَّه الله تبارك وتعالى من حاله بقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ _________ (1) هذه القراءة ليست شاذَّةً، بل قرأ بذلك الكسائيُّ من القرَّاء السبعة، وهي قراءةٌ متواترةٌ. انظر: السبعة لابن مجاهدٍ 249، النشر في القراءات العشر لابن الجزريِّ 2/ 256. (2) تفسيره 7/ 78 - 79. [المؤلف] (3) المفردات ص 765. (4) يعني قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
(2/136)
قَلْبِي} [البقرة: 260] (1). أقول: قد أبعد المرمى؛ فإن الخليل عليه السلام إنما سأل أن يرى الكيفيَّة ليطمئنَّ قلبه من الخواطر. وإيضاح ذلك أن المدركات على أربعة أضربٍ: ما يدركه الإنسان بالحسِّ المحقَّق ويعرف له بالحسِّ نظائر ولو في الجملة، كأن ترى رجلًا في إحدى يديه أو في كلٍّ منهما إصبع زائدة، فهذا إذا رأيته رؤية محققة لم تَرْتَبْ في إدراكك إلا أن تكون سوفسطائيًا. الثاني: ما يدركه بدليلٍ غير الحسِّ ويعرف له بالحسِّ نظائرَ، كأن يتواتر عندك أن فلانًا الذي سمعت به في إحدى يديه أو في كل منهما أصبع زائدة، وهذا أيضًا تحصل به الطمأنينة. الثالث: ما يدركه بالحس ولكن لا يعرف له نظيرًا، كأن ترى مشعوذًا أمامه إناء مغطًّى فيكشف الإناء فترى فيه ثلاثة عصافير ولا ترى فيه غيرها، ثم يعيد الغطاء، ثم يكشفه فلا ترى في الإناء إلا ثلاث بيضات. فإذ كنت لا تعرف نظيرًا لانقلاب العصفور بيضة تجد نفسك تشكك في إبصارك أعصافير في الإناء ولم تحقق النظر ثانيًا، أم بيضات فيه ولم تحقق النظر أولًا، أم ماذا؟ قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجرات: 14 - 15]. _________ (1) انظر: تفسير أبي السعود 3/ 97 - 98.
(2/137)
الرابع: ما تدركه بدليل غير الحس ولا تعرف له نظيرًا، كهذا المثال السابق لو لم تشاهد الواقعة. فمَن لم يشاهد المشعوذين ويَكْثُرْ سماعُه لقصصهم إذا أخبره جماعةٌ يحصل بخبرهم القطع عادة بهذه الواقعة لا يزال يجد نفسه كأنها تتردَّد في قبول خبرهم. وأوضح من هذا أن تفرض أنَّ إنسانًا ولد أعمى وعاش حتى كبر وأهله يتحامون أن يشعروه بأن الناس يبصرون فعاش لا يشعر بذلك البتة، ثم تعمِد أنت فتقول له: إني أبصر الأجسام البعيدة منِّي، فإنه يقول: ما معنى قولك أُبْصِرُ؟ أتريد أنك تلمسها أو تسمع حسَّها؟ ولنفرض أنك استطعت أخيرًا أن تُفْهِمه أنَّ الإبصار قوَّةٌ في العينين يدرك بها الأجسام من بُعْدٍ فيعرف قربها وبعدها وحجمها ويعرف أن ذاك فلان وذاك فلان، فإنه يقول: وما لي لا أدرك أنا؟ فتقول: لم تُخْلَقْ لك هذه القوة، فلا تجده يصدِّقك، فتقول له: فإذا جاء أحد فاسأله، فيجيء رجل فيسأله فيوافقك، ثم ثالث ورابع وخامس إلى أن يبلغ العدد مبلغًا يحصل بخبرهم القطع عادة، فإن الأعمى يصدِّقكم، ثم تنازعه نفسه فيتطلب نظيرًا للإبصار يعرف به كيفيته في الجملة، فلا يجد، فيكاد يرتاب في الخبر، ثم يقول: من المحال أن يتوارد هؤلاء كلُّهم على الكذب، ثم تنازعه نفسه ويتخيَّل كأنَّه مرتابٌ في الخبر. واعلم أنَّ صفات الله تبارك وتعالى وكثيرًا مما أخبر به الشرع من هذا القبيل. ومن ذلك حشر الأجساد، فالإنسان يعلم بأنَّ الجسم يبلى وتتفرق أجزاؤه شذر مذر، ثم يخبره الشرع [ز 31] بأن الله تعالى يعيد الأبدان بعد موتها وبلائها وتفرُّق ذراتها، ويوضح له ذلك بأن الله تعالى عالم بمواقع تلك
(2/138)
الأجزاء المتفرقة وقادر على جمعها، فتتطلب نفسه مما تعرفه بالحس نظيرًا لذلك العلم وتلك القدرة فلا تجد، فأما المؤمن فإنه يوقن بصدق الخبر ولكنَّ نفسه قد لا تكفُّ عن نزاعها اشتياقًا إلى معرفة الكيفية، فإذا لم تجد نظيرًا عادت تنظر في الخبر فتجده قاطعًا فترجع إلى تطلُّب النظير وهكذا. فإذا أحسَّ الإنسان من نفسه بهذا خشي ألَّا يكون موقنًا، فالنفس تضطرب اشتياقًا إلى معرفة الكيفية، والقلب يضطرب خشية من ضعف اليقين، وقوة اليقين لا تدفع هذا الاضطراب بل تزيده؛ لأنه كلما قَويَ اليقين قويت الخشية فاشتدَّ الاضطراب. فهذه والله أعلم كانت حال الخليل عليه السلام، ففزع إلى ربه عزَّ وجلَّ أن يريه كيف يحيي الموتى فتسكن نفسه ويطمئن قلبه من ذلك الاضطراب المؤلم. وما حُكِيَ عن بعض الصِّدِّيقين من قوله: "لو كُشِفَ الغطاء ما ازددتُ يقينًا" (1)، إن صحَّ فلا إشكال فيه؛ إذ قد يُقال: إن الخليل عليه السلام لم يطلب زيادة اليقين ولا ازداد بالرؤية يقينًا وإنما سكنت نفسه واطمأن قلبه من ذلك الاضطراب الذي لا ينافي كمال اليقين بل يناسبه كما مرَّ، بل قد يكون في هذه المقالة دلالة على أن حال قائلها دون حال الخليل عليه السلام؛ لما قدَّمنا أن قوَّة اليقين تثمر قوَّة الخشية، وقريبٌ من هذا حال أبي بكرٍ مع النبيِّ _________ (1) اشتهرت نسبة هذا القول إلى عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه، قال الآلوسي: "موضوع لا أصل له في كتب الحديث الصحيحة عند الفريقين" يعني: السنة والشيعة. ونسبه أبو طالب المكي إلى عامر بن عبد الله بن عبد قيس. انظر: قوت القلوب 2/ 169، وانظر: المصنوع في معرفة الحديث الموضوع ص 149، ومختصر التحفة الاثني عشرية ص 39.
(2/139)
صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في عريش بدر، وقد شرحتها في موضعٍ آخر. وقد يقال: إن قائل تلك الكلمة أراد اليقين بوجود الله عزَّ وجلَّ، والخليل عليه السلام لم يَعْرِضْ لهذا؛ فإن قلبه مطمئن به غاية الطمأنينة، وإنما نظره في إحياء الموتى. وعلى كل حال فحال الخليل عليه السلام حال عالية، ولذلك قال نبينا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "نحْن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: رب أرني كيف تحيي الموتى" (1). فأما الخليل فقد أراه الله تعالى فاطمأن قلبه، وأما سائر المؤمنين فقد ضرب الله تعالى لهم أمثالًا محسوسة على جهة التقريب، كخلقهم أول مرة وإحياء الأرض بعد موتها. هذا في حشر الأجساد، وأما صفات الله عزَّ وجلَّ فإن الشارع أرشد إلى قطع التفكر، ففي الصحيحين: "يأتي الشيطانُ أَحَدَكُمْ، فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربَّك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته" (2). وفي صحيح مسلم (3) أن بعض الصحابة قالوا للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله _________ (1) صحيح البخاريِّ، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله: "ونبِّئهم" إلخ، 4/ 147، ح 3372. صحيح مسلمٍ، كتاب الفضائل، بابٌ من فضائل إبراهيم الخليل، 7/ 97، ح 151 (بعد 2370). [المؤلف] (2) صحيح البخاريِّ، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، 4/ 123، ح 3276. صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، بابٌ في الوسوسة، 1/ 84، ح 134 (214). [المؤلف] (3) في الباب المذكور [في الهامش السابق، 1/ 83، ح 132]. [المؤلف].
(2/140)
وسلَّم: "إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: أَوَ قد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان". فصل ومما ورد في الأعذار ما تقدَّم في الكلام على اشتراط العلم بمعنى: لا إله إلا الله، من قصة أُبَيِّ بن كعب وغيره، فراجعه. وقد اختلفت فرق من المسلمين في أشياء من صفات الله تعالى، ولا يخفى أن في الأقوال المختلفة ما يلزمه الكفر بالكذب على الله عزَّ وجلَّ ونسبة النقص إليه، وتكذيب آياته، [ز 32] كلُّ ذلك أو أكثره عن جهلٍ وخطأ، ومن الذاهبين إلى ذلك مَنْ لم يحمله عليه إلا اتِّباع الرؤساء والشياطين والهوى فيلزمه الشرك باتخاذ هذه الأشياء أربابًا وآلهة، كما ألزم الله تعالى أهل الكتاب وغيرهم بذلك كما يأتي مبسوطًا. ومع هذا اتفق المحققون من علماء الفرق الإسلامية على عدم الكفر الحقيقي على من أُلزِم بالكفر على الوجه المذكور مادام ملتزمًا أصول الإسلام الضرورية وزاعمًا أنه لا يلزمه ما أُلزِم به، على تفصيلٍ يؤخذ من مظانِّه، وَمَنْ شدَّد فحكم بالكفر على بعض مَنْ تقدَّم إنما حكم به على مَنْ يرى أنه قد قامت عليه الحجَّة فعاند، لا على الأتباع من العوامِّ ونحوهم. ومما ورد في الأعذار قول الله عزَّ وجلَّ: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 138 - 140].
(2/141)
يظهر من جواب موسى عليه السلام أنه وإن أنكر عليهم وجَهَّلَهُمْ لم يجعل طلبهم ارتدادًا عن الدين. ويشهد لذلك أنهم لم يؤاخذوا هنا بنحو ما أوخذوا به عند اتخاذهم العجل، فكأنهم هنا ــ والله أعلم ــ عُذِرُوا بقرب عهدهم. وقد مرَّ جماعة من المسلمين مع النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على شجرةٍ يعكف عليها المشركون، فسألوا النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن يجعل لهم مثلها، فقال: "قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (1)، ولم يعدَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كلمتهم ردَّةً، فكأنه عذرهم لقرب العهد. وسيأتي في ذكر الأمور التي ورد في الشرع أنها شرك عدة أحاديث وآثار فيها أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مع حكمه على تلك الأمور أنها شرك لم يحكم على من فعلها من المسلمين قبل البيان أنه أشرك وارتدَّ. وكذلك تأتي آثارٌ عن أصحابه أنهم كانوا يرون الشيء من ذلك فيغيِّرونه وينكرونه ويُبَيِّنون أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أخبر أنه شركٌ ولا يحكمون على مَنْ فعله من المسلمين قبل أن يبيِّنوا له بأنه أشرك وارتدَّ. وتقدَّم في أواخر الباب الذي قبل هذا "اتَّقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل" (2)، وسيأتي الكلام عليه مبسوطًا، وفي روايةٍ للإمام أحمد وغيره: "فقال له مَن شاء الله أن يقول: وكيف نتَّقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله قال: قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا _________ (1) المسند للإمام أحمد 5/ 218 [وفي الأصل 118]، وسيأتي تصحيحه وشواهده [ص 230]. [المؤلف] (2) انظر ص 54 - 55.
(2/142)
نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم" (1). وسيأتي أنَّ في سياق الأحاديث ما يؤيد ظاهرَها من أنَّ المراد بهذا الشرك: الشرك الحقيقيُّ، لا ما يحمله عليه بعض الناس من الرئاء، إلَّا أنَّه وإن كان شركًا حقيقيًّا في نفسه فقد دلَّت الأحاديث على أن مَنْ وَقَعَ منه وهو لا يعلم أنه شركٌ فهو معذورٌ، أي ــ والله أعلم ــ بشرط ألَّا يكون مقصِّرًا تقصيرًا هادمًا. وسيتَّضح لك ــ عندما تعلم حقيقة معنى الإله ومعنى العبادة، ومعنى الشرك ــ أَنَّ كثيرًا من الآراء والأقوال والأفعال التي لا يكاد يسلم منها أحدٌ غير من عصمه الله يَصْدُقُ عليها لولا العذر أنها شركٌ. اللهمَّ إنَّا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلم. [(2) ومما يدل على هذا ما أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي علي الكاهلي قال: خطبنا أبو موسى الأشعري، فقال: يا أيها الناس، اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل. فقام إليه عبد الله بن حزن وقيس بن المضاب، فقالا: لتخرجَنَّ مما قلت أو لنأتينَّ عمر مأذون (3) لنا أو غير مأذون، قال: بل أخرج مما قلتُ. خطبنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ذات يومٍ، فقال: "أيها الناس، اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل"، فقال له مَن شاء الله أن يقول: وكيف نتَّقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: "قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا _________ (1) مسند أحمد 4/ 403. [المؤلف]، وفي إسناده: أبو علي رجل من بني كاهل، لم يوثقه إلا ابن حبان. (2) من هنا إلى نهاية الفصل ملحق ص 32 من المخطوط. (3) كذا في الأصل والمسند، وفي التاريخ الكبير ومجمع الزوائد: (مأذونًا)، وهو الوجه.
(2/143)
نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم" (1). أبو علي الكاهلي ذكره ابن حبان في الثقات (2). وأخرج الحاكم في المستدرك من طريق عبد الأعلى بن أعْيَن، عن يحيى بن أبي كثير، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "الشرك أخفى من دبيب الذَّرِّ على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحبَّ على شيءٍ من الجور وتبغض على شيءٍ من العدل، وهل الدين إلا الحبُّ والبغض، قال الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] ". قال الحاكم: "هذا حديثٌ صحيح الإسناد ... "، تعقَّبه الذهبيُّ، فقال: "قلتُ: عبد الأعلى قال الدارقطنيُّ: ليس بثقةٍ" (3). أقول: ولكن للحديث شواهد؛ ففي كنز العمال نحوه عن معقل بن _________ (1) مسند أحمد 4/ 403 [المؤلف]. وأخرجه ابن أبي شيبة، كتاب الدعاء، في التعوُّذ من الشرك ... ، 15/ 279 - 280، ح 30163. وعنه البخاري في التاريخ الكبير 9/ 58. وأخرجه الطبرانيُّ في الأوسط 4/ 10، ح 3479. قال الهيثميُّ: (ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي علي، وقد وثَّقه ابن حبان). مجمع الزوائد 10/ 384. (2) 5/ 562. وانظر: الجرح والتعديل 9/ 409. (3) المستدرك 2/ 291 [المؤلف]. وهو في مسند البزَّار (كما في كشف الأستار) 4/ 217، ح 3566. والضعفاء للعقيلي 3/ 60. والحلية لأبي نعيم 8/ 368 و 9/ 253. قال الهيثمي: (وفيه عبد الأعلى بن أعين، وهو ضعيف). مجمع الزوائد 10/ 384. وانظر ترجمة عبد الأعلى بن أعين في ميزان الاعتدال 2/ 529، وتهذيب التهذيب 6/ 93.
(2/144)
يسارٍ، عن أبي بكر الصِّدِّيق، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونسبه إلى إسحاق بن راهويه وأبي يعلى، قال: "وسنده ضعيفٌ". ونحوه عن قيس بن أبي حازمٍ، عن أبي بكر الصِّدِّيق، عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ونسبه إلى الحسن بن سفيان، والبغوي (1). /وذكر أيضًا نحوه عن ابن عباسٍ، ونسبه إلى الحكيم الترمذي والحلية لأبي نعيمٍ" (2). ووجه الدلالة أمران: - الأول: أن الحديث صريح في أنَّ من الشرك ما هو خفيٌّ جدًّا وأنَّ كلَّ أحد معرَّض للوقوع فيه، ومثل هذا لا يليق بيسر الدين ونفي الحرج عنه المؤاخذةُ به. - الأمر الثاني: أنه أرشدهم إلى الدعاء المذكور، وفيه: "ونستغفرك لما لا نعلم" أي: من الشرك، كما هو ظاهر، فعُلم منه أن الشرك الذي لا يُعلم قابل للمغفرة. فإن عورض هذا بقول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] فسيأتي الجواب (3) عن ذلك إن شاء الله تعالى. _________ (1) انظر: كنز العمَّال 2/ 169 [المؤلف]. ورواية معقل بن يسارٍ عن أبي بكرٍ في مسند أبي يعلى 1/ 61 - 62، ح 59 - 61. (2) كنز العمَّال 2/ 97 و 98 [المؤلف]. وانظر: الحلية 3/ 36 - 37. (3) صفحة 650 [المؤلِّف]. ص 924.
(2/145)
ولكن لا بدَّ من تقييد الشرك الذي يقبل المغفرة لكون فاعله لم يعلم به بأن يكون فاعله معذورًا في جهله على ما مرَّ. فإن قلت: إنما يصح الاستدلال بقوله: "ونستغفرك لما لا نعلم" إذا حُمل على معنى: لا نعلم أنه شرك، وقد تعمَّدنا فعله، وقد يحتمل معنًى آخر وهو أن يقال: أي: لا نعلم أننا نفعله أي: لم نتعمَّد فعله أصلًا، بل وقع سهوًا كالقائل: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك". قلت: المعنى الأول هو المتعيِّن لدلالة السياق على أنَّ الذي لا يُعلم هو الخفيُّ، فإنما لم يُعلم لخفائه لا لعدم تعمُّده، ولدلالة التمثيل بالحب على جورٍ والبغض على عدلٍ، ومعناه: أن تحبَّ رجلًا لجورٍ جارَه من حيث هو جور، وتبغض رجلًا لعدلٍ عدَله من حيث هو عدْل، فلا يدخل في هذا حبك حاكمًا حكم لك بمالٍ جورًا وتبغض آخر حكم عليك بعدلٍ إذا أحببت ذاك من حيث نفعك نفعًا دنيويًّا وأبغضت هذا من حيث ضرَّك ضررًا دنيويًّا. فأما قول الله عزَّ وجلَّ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. /فقد قيل: إنَّ المعنى: لا يؤمنون إيمانًا كاملًا، وفيه نظر، والأولى أن يقال: المراد بالحرج الحرجُ الذي يصحبه نسبة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى الجور والظلم، فأما مَن حكم عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم بمالٍ يدفعه إلى صاحبه فدفعه موقنًا بأن الحكم حق وعدل ولكن نفسه كارهة للدفع حبًّا للدنيا وحرصًا عليها، فمثل هذه الكراهة لا تنافي أصل الإيمان.
(2/146)
نعم، مَن حملته هذه الكراهة على مشاقَّة الرسول في حياته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم والامتناع منه بالفرار أو بالقوَّة، بحيث لو بعث إليه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مَن يستوفي منه الحقَّ لقاتلهم، فالذي يظهر أنَّ ذلك ينافي الإيمان، ولكن هذا خاصٌّ بحكم النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في حياته، فأما بعد وفاته فإنما يكفر مَن ثبت عنده حكم النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فزعم أنَّ الحقَّ خلافه، والله أعلم]. فصل [ز 33] وهاهنا اعتراضان، أحدهما: أن يقال قد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] في آيات أخرى تقدمت في أوائل الرسالة (1)، فكيف التوفيق بينها وبين ما ذُكِرَ هنا من الأعذار؟ والجواب: أنه إذا قام الدليل على العذر في بعض الصور فالتوفيق سهل بحمد الله تبارك وتعالى بأحد وجهين: الأوَّل: أن يقال في تلك الصور: إنها ليست بشرك ولا كفر، ثم نطلب للشرك والكفر تعريفًا لا يتناول تلك الصور وما في معناها، فإن كان هناك تعريف مشهور نظرنا فيه، فإما أن نبيِّن أنه لا يتناول تلك الصور، وإما أن نزيد فيه قيدًا أو أكثر لإخراج تلك الصور التي قام الدليل على العذر فيها. فإذا قيل: الشرك اتِّخاذ إلهٍ من دون الله أو عبادة غير الله، فإما أن نبيِّن معنى الإله والعبادة بألَّا يشمل تلك الصور، وإما أن نقول: لا بدَّ من زيادة قيدٍ، كأن يُقال _________ (1) انظر ص 35 - 36.
(2/147)
"بلا عذرٍ"، والمدار على الحجَّة؛ فليس لأحدٍ أن يفسِّر ويقيِّد بمجرَّد هواه، ولا لأحدٍ أن يَرُدَّ ما قامت عليه الحجَّة. الوجه الثاني: أن يُقال: إن الشرك في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} من العامِّ المراد به الخصوص أو العامِّ المخصوص، فتخرج تلك الصور بأدلَّتها. وربَّما يتعيَّن الوجه الأوَّل أو يترجَّح في بعض الصور، والثاني في باقيها. ومما يُستأنَس به للوجه الأوَّل: أن القرآن خصَّ اسم المشركين غالبًا بما عدا أهل الكتاب من كفَّار العرب ونحوهم مع أن أهل الكتاب {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، فاليهود أطاعوا الأحبار والشياطين والهوى الطاعة الخاصَّة التي هي تأليه وعبادة لغير الله على ما يأتي تفسيره (1)، والنصارى فعلوا مثل ذلك وزادوا فألَّهوا عيسى وأمه والصليب وغيره وعبدوهم من دون الله، ولكن أهل الكتاب يجحدون أن يكونوا اتخذوا مع الله إلهًا أو عبدوا غيره، فيجحدون أن تكون طاعتهم للأحبار والرهبان والشياطين والهوى تأليهًا وعبادة لغير الله تعالى، والنصارى يجحدون أن يكون ما يعملونه لمريم والصليب وغيرهما تأليهًا وعبادة. نعم يقولون: إنهم يؤلِّهون عيسى ويعبدونه، ولكنهم يقولون: ليس هو غير الله، وهذا الجهل والجحود لا _________ (1) انظر ص 654 - 657 وص 731.
(2/148)
ينفعهم؛ لأن الحجة كانت قائمة عليهم قبل البعثة، وتَمَّ قيامها ببعثة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وما جاء به من الآيات. لكنه مع ذلك خصَّ القرآنُ اسمَ المشركين بغيرهم ممن كانوا يسمون غير الله تعالى آلهةً ومعبوداتٍ وشركاء، على ما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى. ومما يُستأنَس به للثاني قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} [النحل: 106]، إذا بنينا على أن الاستثناء متَّصلٌ كما هو الأصل ثبت بذلك أن مَن أُكْرِه على الكفر ففَعَلَه وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان فقد صدق عليه في الجملة أنه كفر بعد إيمانه، ولكنه مستثنىً من عموم الأدلَّة المشدِّدة في الكفر مطلقًا. وحديث: "اتَّقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل ... "، قد يُستأنَس به للوجه الثاني، لأنه سمَّاه شركًا مع خفائه وأمر بالاستغفار مما يقع منه بغير علمٍ. والأقرب الاستئناس به للأوَّل، لأنه قال: "قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لما [لا] نعلم". فأبهم في الثانية فأشعر بأن عدم العلم يمنع تسميته شركًا. والله أعلم. [ز 34] الاعتراض الثاني: إن قيل: كيف هذا، وقد تقدَّم في أوائل الرسالة اشتراط العلم بمعنى: "لا إله إلا الله"، وعليه فَمَنْ يُحْكَم له بالإسلام تبعًا يلزمه الإتيان بالشهادتين عند بلوغه مع معرفة معناهما، فإن فَعَل لم يشتبه عليه الشرك بعد ذلك، وإن لم يفعل كان مقصِّرًا، فكيف يُعْذَر؟ وأما الكافر إذا أراد الدخول في الإسلام
(2/149)
فلا يدخل إلا بالشهادتين مع معرفته لمعناهما، فإن فعل لم يشتبه عليه الشرك بعد ذلك، وإلا فلم يصحَّ إسلامه من أصله. فالجواب: أن الأوَّل وهو من يُحْكَم له بالإسلام تبعًا قد لا يكون مقصِّرًا، كمن ينشأ ببادية بعيدة عن العلماء، فيعلم بوجوب الإتيان بالشهادتين، ولا يعلم أنه يجب عليه تحقيق معناهما، وإذا علم فقد يرى أنه قد عرف معناهما، ويكون في نفس الأمر لم يحقِّق المعنى، وقد يحقِّق المعنى ثم يغفل عنه أو يشتبه عليه في بعض الجزئيَّات. وستعلم عند تحقيق معنى الإله والعبادة أن معرفة المعنى جملة لا تضمن عدم الاشتباه في بعض الجزئيات، حتى لقد يقع الاشتباه للمتبحر في العلم فضلًا عن العالم الذي لم يتبحر فضلًا عن العامي، وذلك أن معنى الإله والعبادة كما ستعلم يرتبط بسائر فروع الشريعة، فالخطأ في فرعٍ منها يلزمه خطأٌ مّا في تطبيق معنى لا إله إلا الله، وذلك مصداق الحديث السابق أن الشرك أخفى من دبيب النمل. هذا وقد قام الإجماع أن الإسلام لا يوجب على كلِّ فردٍ أن يكون عالمًا فضلًا عن أن يكون متبحرًا. وأما الثاني وهو مَنْ كان كافرًا ثم أسلم فالذين يشترطون للدخول أن يأتي بالشهادتين مع معرفته معناهما يكتفون فيما يظهر بمعرفة معناهما إجمالًا. يدلُّك على ذلك أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان يكتفي من الناس بشهادة ألا إله إلا الله مع أنهم لم يكونوا يفهمون من كلمة (إله) إلا معنىً إجماليًّا لا يضمن ألَّا يشتبه عليهم، فلم يكونوا يعلمون أن من طاعة الرؤساء ما يكون تأليهًا لهم، وأن من طاعة الشيطان ما يكون تأليهًا له، وأن من اتِّباع الهوى ما هو تأليهٌ له، وأن من الطيرة وتعليق التمائم والقسم بغير الله
(2/150)
تعالى ما هو تأليهٌ لغير الله تعالى، وسيأتي بسط ذلك كلِّه إن شاء الله تعالى. والمتنصِّرون منهم لم يكونوا يعلمون أن تعليق الصليب تأليه له، في أشياء أخر ستأتي فيما بعد. والظاهر أن الذين قالوا للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "اجعل لنا ذات أنواط" (1) لم يكونوا يعلمون أن اتخاذها من اتخاذ إله مع الله تعالى. هذا مع أنَّ من أهل العلم من لا يشترط للدخول في الإسلام الإتيان بالشهادتين أصلًا، بل يقولون: يكفي كلُّ ما يؤدِّي معنى الدخول في الإسلام كقوله: أسلمت لله، ونحو ذلك. كما حكى الله عزَّ وجلَّ عن ملكة سبأ: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44]. وقال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} إلى أن قال: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 131 - 132]. ومما يدلُّ على صحَّة هذا المذهب حديث الصحيحين عن المقداد أنه قال: يا رسول الله، إن لقيتُ كافرًا فاقتتلنا فضرب يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ بشجرةٍ، وقال: أسلمت لله، أأقتله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "لا تقتله"، قال: يا رسول الله، قد طرح إحدى يديَّ، ثم قال [ز 35] ذلك بعد ما قطعها أأقتله؟ فقال: "لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل _________ (1) سيأتي تخريجه عند المؤلف في ص 230.
(2/151)
أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال" (1). هكذا رواه الجماعة عن الزُّهري: ابن جُرَيجٍ ويونُس بن يزيد في الصحيحين، وابن أخي الزُّهري عند البخاري، والليث بن سعدٍ والأوزاعي وابن عُيَينة (2) عند مسلمٍ، وغيرهم. ووقع في رواية عبد الرزَّاق عن معمرٍ عن الزُّهري عند مسلمٍ: "فقال: لا إله إلا الله"، ورواية الأكثر أثبت، على أن الإمام أحمد أخرج الحديث من طريق ابن جُرَيجٍ: "أخبرني الزُّهري" فذكره، وفيه: "فقال: أسلمت لله، أقاتله يا رسول الله؟ "، فذكر الحديث. ثم قال أحمد: "ثنا عبد الرزَّاق، ثنا معمرٌ"، فذكر أوَّل الحديث، ثم قال: "فذكر الحديث، إلا أنه قال: أقتله أم أدعه؟ " (3). فظهر بهذا أن في رواية أحمد عن عبد الرزاق عن معمر "فقال: أسلمت لله" كما في رواية ابن جريج قبلها؛ إذ لم يستثن أحمد إلا قوله "أقتله أم أدعه"، فعُلِم أن الباقي سواءٌ، ولو كان في حديثه "لا إله إلا الله" لكان ذكر ذلك أهمَّ من ذكر "أقتله أم أدعه" كما لا يخفى، فقد اختلفت الرواية عن معمرٍ، ولا خفاء أن الترجيح فيها لما يوافق رواية الجمهور. _________ (1) صحيح البخاريِّ، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}، 9/ 3، ح 6865 [وفي كتاب المغازي، باب 12، 5/ 85، ح 4019]. صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله [وفي الأصل: باب الدليل على أن مَن مات لا يشرك إلخ]، 1/ 66، ح 95. [المؤلف] (2) لم أجد رواية ابن عيينة عن الزهري عند مسلم، ولم يذكرها المزي في تحفة الأشراف 8/ 502، (11547). (3) المسند 6/ 5 - 6. [المؤلف]
(2/152)
وفي شرح مسلمٍ للأُبِّيِّ عن القرطبيِّ: فيحتجُّ به للدخول في الإسلام بكلِّ ما يدلُّ على الدخول فيه من قولٍ أو فعلٍ ما يتنزَّل منزلة النطق بالشهادتين، وقد حكم النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بإسلام بني جَذِيمة الذين قتلهم خالدٌ وهم يقولون: "صبأنا صبأنا"، ولم يحسنوا أن يقولوا: "أسلمنا"، فلما بلغ ذلك النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رفع يديه إلى السماء، وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالدٌ"، ثم وداهم صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (1). قال الأُبِّيُّ: "وكان الشيخ ــ يعني شيخه أبا عبد الله محمد بن عرفة ــ يقول: كلمة: "أسلمت لله" إنما توجب الكفَّ عن القتل ثم يستَفهم بعد ذلك"، قال الأُبِّيُّ: "وهو خلاف ما دلَّ عليه الحديث" (2). أقول: وذلك من وجهين، الأول: أنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أطلق النهي ولم يقل: لا تقتله حتى تستفهمه وتعرض عليه النطق بالشهادتين، فإن أبى فاقتله، أو نحو ذلك. الثاني: قوله: "فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله" والمعنى الظاهر من هذا أنه مسلم، والظاهر حجة. فائدة: اختلف في معنى قوله: "وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته". ولا نزاع أن الظاهر "وأنت كافر"، ولكن الجمهور أبوا هذا؛ لأن من أصلهم أن ارتكاب _________ (1) انظر: المفهم 1/ 293 - 294. (2) شرح الأُبِّي لصحيح مسلمٍ 1/ 204. [المؤلف]
(2/153)
الكبيرة ليس بكفر. وأجيب بأن المعنى: إن قتلته مستحلًّا لقتله، ولا نزاع أن استحلال الحرام القطعي كفر. ولم يرتضوا هذا؛ يرون أنه ليس في الكلام ما يدل على هذا القيد. وأنت إذا تأملت وجدت الدلالة واضحة فإن سؤال المقداد إنما قصد به معرفة الحلِّ أو الحرمة لعلمه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إذا أذن في القتل كان حلالًا، فقوله: أأقتله؟ في قوَّة قوله: أيحلُّ لي قتله؟ أو: أأستحلُّ قتله؟ وبحسب هذا يكون الجواب (1) قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "فإن قتلته" في قوَّة قوله: "فإن استحلَلْت قتله"، والله أعلم. وقصَّة بني جَذِيمة التي أشار إليها القرطبيُّ هي في صحيح البخاريِّ (2). وفيها من قول ابن عمر: "فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا وجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا"، وهذا ظاهرٌ أنهم لو قالوا: (أسلمنا) ما اشتبه الأمر على خالدٍ. [ز 36] وفي الصحيحين في حديث أسامة لما صمد في الجهاد لرجل ليقتله فقال الرجل: لا إله إلا الله، فقتله أسامة فَلامَه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، قال أسامة: "حتى تمنَّيت أني لم أكن أسلمتُ قبل ذلك اليوم" (3). _________ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: "وبحسب هذا الجواب يكون قوله ... " فوقع تقديم وتأخير من سبق القلم، أو يتمُّ الكلام عند قوله: "الجواب"، ويُستأنف: "فقوله ... ". (2) كتاب المغازي، باب بعث النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم خالد إلخ، 5/ 160 - 161، ح 4339. [المؤلف] (3) صحيح البخاريِّ، كتاب الديات، باب [قول الله تعالى]: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} إلخ، 9/ 4، ح 6872. صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله [باب الدليل على أن مَن مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنَّة]، 1/ 68، ح 96 (159). [المؤلف]
(2/154)
وفي رواية لمسلمٍ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال لأسامة: "كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا أتتك يوم القيامة؟ " وكرَّر ذلك، وهذا ظاهرٌ في حكمه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بإسلام الرجل مع أنه لم يأت بلفظ: "أشهد" ولا بشهادة أن محمَّدًا رسول الله، ما ذاك إلا أن الظاهر من قوله: لا إله إلا الله، أنه أراد بها الدخول في الإسلام. وفي صحيح مسلمٍ من حديث عائشة في قصَّة المشرك الذي اتَّبع النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في طريقه عند خروجه إلى بدر "قال له رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك"، وفيه أنه رجع ثم عاد كذلك قالت: "ثم رجع فأدركه بالبيداء فقال له كما قال أول مرة: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم، فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: فانطلق" (1). وفيه في قصة العقيليِّ: أسره المسلمون وأوثقوه، فمرَّ به النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فناداه: يا محمَّد، يا محمَّد، فرجع النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فكلَّمه، ثم مضى. فناداه ثانيًا، فرجع إليه، فقال: إني مسلمٌ، قال: "لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كلَّ الفلاح" (2). _________ (1) صحيح مسلمٍ، قُبَيل كتاب الإمارة. [المؤلف]. يعني كتاب الجهاد والسير، باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافرٍ، 5/ 200، ح 1817. (2) مشكاة المصابيح، كتاب الجهاد، باب حكم الأسرى، الفصل الأول، 2/ 1161 - 1162، ح 3969. [المؤلف]. وهو في صحيح مسلمٍ، كتاب النذر، بابٌ: "لا وفاء لنذرٍ في معصية الله"، 5/ 78، ح 1641.
(2/155)
وفيه أن تلك الكلمة ضامنةٌ لأن يفلح كلَّ الفلاح لولا أنه قالها وهو لا يملك أمره، والفلاح كلُّ الفلاح هو النجاة في الآخرة، فثبت أن تلك الكلمة إسلامٌ لو قالها وهو يملك أمره. فإن قيل: يمكن أن يكون النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إنما كان يكتفي بنحو "أسلمتُ لله" بعد أن اشتهر أمر الإسلام وأنه يدعو إلى الشهادتين، وكان العرب يعرفون معناهما، فقام قولُ أحدهم: "أسلمتُ لله" ــ مع معرفته لما ذُكِر ــ مقامَ إتيانه بالشهادتين عارفًا بمعناهما. قلت: يكفي في ردِّ هذا قصة بني جذيمة، فإنها كانت في أواخر السنة الثامنة للهجرة، ومع ذلك لم يحسنوا أن يقولوا: "أسلمنا"، فكيف يُظَنُّ بهم معرفة ما هو أخفى من ذلك؟ على أنه قد سلف أن العرب مع معرفتهم أصل معنى الإله كانت تشتبه عليهم أشياء، فلم يكونوا يعلمون أن من طاعة الرؤساء وقبول وسوسة الشيطان واتِّباع الهوى ما هو تأليهٌ لهذه الأشياء، وكذلك ما يقع في الرقى والتِّوَلة والقسم بغير الله عزَّ وجلَّ مما كان يشتبه على الصحابة حتى بَيَّنَهُ لهم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وعلى بعض التابعين حتى بَيَّنَهُ لهم الصحابة، ومن ذلك قصَّة ذات أنواطٍ وغيرها. فالذي يقتضيه ما مرَّ أنه يكفي لدخول الكافر في الإسلام أن يتقبَّله مع معرفة أنه دينٌ مشتملٌ على عقائد وأحكامٍ وأنه ملتزمٌ لها سواءٌ أوافقت ما كان عليه أم خالفته، فإنه بذلك يَنْسَلِخُ عن كفره ويُسَلِّم نفسه للإسلام ويلتزمه جملةً؛ والله الموفق.
(2/156)
[ز 37] فصل المنتسبون إلى الإسلام أقسام:
الأوَّل: مَن تحكم له أيَّها القارئ بالإسلام، فلا كلام فيه. الثاني: مَن تكفِّره أو تتردَّد فيه لعلَّةٍ غير الشرك، وهذا لا كلام فيه هنا. الثالث: مَن تكفِّره أو تتردَّد فيه لعلَّة الشرك خاصة، وكلامُنا في هذا. فاعلم أن كلَّ مكلَّفٍ مَنْ هؤلاء لا بدَّ أن يكون قد ثبت له حكم الإسلام؛ لأنه لا يخلو أن يكون هو الذي دخل في الإسلام وكان آباؤه على ملَّةٍ أخرى كاليهوديَّة والنصرانيَّة، أو يكون نُسِبَ إلى الإسلام على سبيل التبعيَّة، أَوْ لا. فالذي أسلم هو نفسه قد ثبت له حكم الإسلام. فإذا قلنا: إنه يكفي للدخول في الإسلام كلُّ ما يؤدِّي معنى التزامه فذاك، وإن قلنا: لا بدَّ من الإتيان بالشهادتين مع معرفة معناهما فقد عرفت أن المراد معرفته في الجملة، والعادة مستمرة إلى الآن أن الكافر إذا أراد الدخول في الإسلام يلقِّنُه الناس الشهادتين ويفسِّرون له معناهما فيعرفه في الجملة، يعرف أنه لا مدبِّر بقوَّته الذاتيَّة إلا الله ولا معبود بحقٍّ إلا الله، ويعرف من العبادة الصلاة والصيام فيعرف أنه لا يستحقُّ أن يُصَلَّى ويُصام له إلا الله، وأن تعظيم الأوثان والسجود لها أو للشمس أو القمر أو الصليب عبادةٌ لغير الله، إلى غير ذلك، مع التزامه للإسلام جملةً. وهذا كافٍ للدخول في الإسلام وثبوت حكمه كما تقدَّم. والمنسوب تبعًا إما أن تكون موافقًا على ثبوت الإسلام له بالتبعيَّة أو
(2/157)
غير موافقٍ، فالأوَّل قد ثبت له حكم الإسلام اتِّفاقًا. والثاني الذي يكثر وجوده من صوره هو مَنْ كان آباؤه متلبِّسين بتلك الأمور التي تراها شركًا، فتقول: آباؤه مشركون فكيف يُحكم له بالإسلام تبعًا لهم؟ فاعلم أن هذا لا بدَّ أن يكون أحدُ أجداده كان كافرًا فأسلم فثبت له حكم الإسلام كما مرّ، وقد يكون هذا الجدُّ تلبَّس بتلك المحدثات، وسيأتي، وقد لا يكون تلبَّس بها فكان مسلمًا اتِّفاقًا، وتبعه ابنه في الإسلام ثم ابن ابنه، وهكذا إلى أوَّل جدٍّ تلبَّس بالمحْدَثات. فأوَّلُ جَدٍّ تلبَّس بالمحْدَثات إما أن يكون هو الذي دخل في الإسلام، وإما أن يكون ابن رجل مسلم لم يتلبس بها، وعلى كلا الحالين قد ثبت لهذا الجدِّ حُكْمُ الإسلام اتفاقًا، ومَنْ ثبت له حكم الإسلام فالأصل بقاؤه عليه ولا يخرج عنه إلا بحجَّةٍ واضحةٍ. وقد علمت أن من قَبِلَ الإسلام ثم جهل وأخطأ بما هو شرك قد يُعْذَرُ، ولا يظهر حَدٌّ لذلك إلا قيام الحجَّة كما سيأتي. فذلك الجدُّ الذي ثبت له حكم الإسلام لا يخرجه عنه تلبُّسه بتلك المحدثات ما لم تعلم قيام الحجة عليه، وأنت لا تعلم ذلك، فبقي على إسلامه، فيتبعه ابنه في الإسلام، فيبقى له حكمه وإن تلبس بتلك المحدثات، وهكذا. وهبك أثبتَّ قيام الحجَّة على أحد الآباء فإنَّك لا تعلم قيامها على الأمِّ فَبَقِيَتْ على حكم الإسلام فتبعها ولدها. وهَبْكَ أثبتَّ قيامها على الأبوين فلعلَّها إنما قامت عليهما بعد العلوق بالولد وثبوت حكم الإسلام له، وهَبْكَ أثبتَّ قيامها على الأبوين قبل العلوق بالولد فقد قال بعض أهل العلم كالشافعيَّة: إنه إذا كان في أصول الطفل المعروفة سلسلةُ نسبِه إليهم مسلمٌ حُكِمَ للطفل بالإسلام وإن كان ذلك الأصلُ قد مات قبل زمانٍ طويلٍ وكان
(2/158)
الأقرب حيًّا (1)، فإن لم ترض هذا فقد قال بعض أهل العلم ــ وهو الذي [ز 38] حكاه ابن المنذر (2) عن الشافعيِّ وبه أخذ أكثر أصحابه وصحَّحه الرافعيُّ وخالفه النوويُّ، لكن تعقَّبه ... (3) فصوَّب تصحيح الرافعيِّ، وأطال البلقينيُّ في تصويب ما قال الرافعيُّ ... (4) ــ: إن ولد المرتدَّيْنِ محكومٌ بإسلامه وإن كان العلوق به بعد ردَّتهما. والذي يخالف في هذا إنما يقوى قوله إذا كانت الردَّة مكشوفة يُصَرِّح صاحبها بأنه قد بدَّل دينه وترك الإسلام. وإيضاح هذا أن المدْرَك فيما يظهر في الحكم بإسلام الطفل أو كفره قبل أن يعرب عن نفسه هو النظر فيما يظهر أنه يختاره إذا بلغ، وأظهرُ أسباب الاختيار أمران: وضوح الحجة واتباع الآباء. والأول وهو وضوح الحجة خاصٌّ بالإسلام فإن وافقه الثاني بأن كان الآباء كلهم المعروفة سلسلة النسب إليهم مسلمين فالحكم بالإسلام بغاية الوضوح. وإن خالفه البتة بأن كان الآباء كلهم المعروفة سلسلة النسب إليهم كفارًا أصليين فالحكم بالكفر ظاهر؛ لأن الغرام باتِّباع الآباء شديدٌ، كما تشاهده في اليهود والنصارى وقلَّةِ مَن يُسْلِمُ منهم. وإن وافقه مِن وجهٍ وخالفه مِنْ وجهٍ نُظِرَ في الراجح فيوضع مثلًا إسلام الأب والأمر الأوَّل وهو وضوح حجة الإسلام في كفَّةٍ، وكفر الأم والأصول من الطرفين في كفَّةٍ، فيرجح أنه يختار الإسلام، وقس على ذلك. وموضع التفصيل كتب الفقه، _________ (1) انظر: روضة الطالبين 5/ 430. (2) الأوسط 13/ 508. (3) هنا بياضٌ بقدر كلمةٍ، والظاهر أن المؤلف بيَّض لاسم العالم الذي تعقَّبَ النوويَّ. (4) هنا بياضٌ بقدر نصف سطرٍ، وانظر منتقى الينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع للسيوطي بهامش روضة الطالبين 7/ 297.
(2/159)
ونقتصر هنا على النظر في مسألتنا. الطفل إذا بلغ فعرف أنَّ أسلافه كانوا مسلمين حتى تنصَّر أبواه مثلًا فإن غرامه بالنصرانيَّة لا يكون كغرام من عرف أن أسلافه مضوا عليها من قرونٍ كثيرةٍ، فهذا يحتمل أن يميل إلى النصرانيَّة؛ لأن أبويه صارا إليها ويحتمل أن يميل إلى الإسلام؛ لأنَّ أسلافه مضوا عليه حتى صار أبواه إلى خلافه، فله شبه بمن كان أحد أبويه مسلمًا والآخر كافرًا. هذا في الرِّدَّة المكشوفة، ودونها درجات. فأما مسألتنا وهي أن يعرف أنَّ أسلافه مضوا على الإسلام، وأنَّ أبويه عاشا ينتسبان إلى الإسلام مغتبطَين به يعتقدان أنه هو الدين الحق ويبذلان أنفسهما في سبيله، ويُعَظِّمان القرآنَ ويعتقدان أنَّ كلَّ ما فيه حقٌّ، ويحبَّان النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ويعتقدان أن كلَّ ما جاء به حقٌّ، ويحترمان سلف الأمة وعلماءها، ويتمسكان بشعائر الإسلام، ويعتقدان حقًّا عليهما أن لا يخالفاه، ويحكمان على أنفسهما أنهما إن خالفاه ولم يعذرهما الله عزَّ وجلَّ هلكا، ولكنهما وقعا في شيء كانا يزعمان أنه لا يخالف الإسلام وجماعة من أهل العلم يقولون إنه مخالف. فهذا الغلام إن لم توضح له الحجة على أنَّ تلك المخالفة كفرٌ فالظاهر أنه يتبع أبويه عليها، ولكن هذا لا يكفي للحكم عليه من طفوليَّته بعدم الإسلام؛ فإن النظر في هذا الباب مبني على فرض قيام الحجة، ألا ترى أنه يحكم بالإسلام للطفل الذي أبوه وأسلافه كلهم نصارى وأمه مسلمة مع العلم بأنه إذا لم توضح له حجة الإسلام إنما يتبع أباه وأسلافه. وإذا أوضحت له الحجة فأمامه طرقٌ:
(2/160)
الأولى: أن يتَّبع أبويه على تلك المخالفة تعصُّبًا لهما ويرضى لنفسه بأمورٍ: منها: ترك الإسلام الذي اتَّضح له أنه الحق ومضى عليه أسلافه ومضى أبواه أنفسهما على الانتساب إليه والاغتباط به كما مر، ونشأ هو نفسه على حبه والاغتباط به والافتخار بالانتساب إليه. ومنها: اختيار الكفر الذي مضى أسلافه وأبواه أنفسهما ونشأ هو نفسه على بغضه ومقته وشدة النفور عنه والعلم بأنه هلاك أبدي. [ز 39] ومنها: عداوة الله ورسله والمؤمنين، وقد مضى أسلافه وأبواه أنفسهما ونشأ هو نفسه على محبتهم وتعظيمهم والاغتباط باتِّباعهم. ومنها: غضب الله عزَّ وجلَّ والخلود في نار جهنم. الطريق الثانية: أن يتبع الحق ويشهد على أبويه بالكفر. الطريق الثالثة: أن يتبع الحق ويرجو العذر لأبويه. أفلا ترى سلوكه الطريق الأولى أبعد جدًّا من اختيار مَن كان أبوه وأسلافه نصارى وأمُّه مسلمةً للنصرانيَّة؟ فبقي النظر في الطريقين الأخريين، فإن لم تتَّضح له الحجَّة على هلاكهما وعلى أن الشكَّ في هلاكهما كفرٌ فلا ريب أنه يختار الطريق الثالثة، ولكن هذا لا ينافي الحكم بإسلامه؛ لوجوه: الأوَّل: أن النظر في هذا الباب مُرَتَّبٌ على فرض قيام الحجة كما مرَّ. الثاني: أنه إذا لم تقم عليه الحجة القاطعة بهلاكهما لا يكون رجاؤه العذر لهما كفرًا.
(2/161)
الثالث: أن كفر المتلبِّس بالمحدثات التي الكلام فيها ليس في هذه الأزمنة من الأمور الواضحة التي يكفر مَن شكَّ أنها كفرٌ مطلقًا، فكيف مَنْ لم يشكَّ أنها كفرٌ ولكنَّه يرجو العذر لبعض مَن تلبَّس بها؟ وعلى فرض أنك أثبتَّ قيام الحجة على أحد الأجداد وامرأته وإصرارهما قبل العلوق بالولد وأنه لم يُقْنِعْكَ ما تقدَّم من الاستدلال على أن ذلك لا يمنع الحكم للولد بالإسلام فبماذا تحكم للولد في صغره؟ إن قلتَ: أحكم أنه مرتد قيل لك: أنَّى يكون مرتدًّا ولم يُحْكَم له بالإسلام قطُّ؟ وأصل معنى الارتداد هو الرجوع، فكيف يُقال: إنه رجع عن الإسلام مَنْ لم يكن عليه قطُّ؟ وقد جاء عن الصحابة أنهم سَبَوْا أولاد المرتدِّين (1)، والمرتدُّ لا يُسْبَى. وقد كان خطر لي أن أحتجّ بمعاملة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مشركي العرب معاملة الكفَّار الأصليين مع أن أسلافهم كعمرو بن لُحَيٍّ وأقرانه كانوا مرتدِّين عن شريعة إبراهيم عليه السلام، وكانت الأنساب إليهم معروفةً. ثم ظهر لي أنه قد يجاب عن هذا بأن الإسلام شريعةٌ جديدةٌ يطالبهم باتِّباعه، حتى لو رجعوا إلى شريعة إبراهيم ولم يتَّبعوا الإسلام لم يخرجوا من الكفر، فلا يلزم من عدم حكمه عليهم حكم المرتدين أنهم لم يكونوا في حكم المرتدِّين عن شريعة إبراهيم. ويمكن أن يناقش في هذا _________ (1) ورد عن أبي الطفيل أنه كان في جيش عليٍّ الذين أرسلهم إلى المرتدين من بني ناجية، قال: فقتلوا المقاتلة وسبوا الذَّراري. أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب السير، ما قالوا في الرجل يسلم ثم يرتد ... 17/ 434 - 435، ح 33407. ومن طريقه: البيهقي في كتاب المرتد، باب ما جاء في سبي ذرية المرتدين 8/ 208.
(2/162)
الجواب ولكن فيما تقدَّم كفاية إن شاء الله تعالى. فلم يبق إلا أن تقول: أحكم لذلك الولد بأنه كافرٌ أصليٌّ، فيُقال لك: أنت خبيرٌ أن كلامنا إنما هو في المنتسبين إلى الإسلام الذين لا ترميهم بالكفر إلا لتلبُّسهم بتلك المحدثات التي تراها شركًا ويزعمون أنها مما أذن الله تعالى فيه، وتعلم أن هؤلاء القوم لا يميز الولد منهم إلا وقد تلقن الشهادتين وأحبَّ الإسلام واغتبط به وعزم أن يدين به حتى يموت، فإن فرضت أنه في صغره محكوم له بالكفر الأصلي فإنه يسلم قبل أن يبلغ، وإذا بلغ استمرَّ على ذلك، وقد تقدَّم (1) أنه يكفي الكافر للدخول في الإسلام والحكم له به ما هو أقلُّ من ذلك. فقد اتضح بحمد الله سبحانه أنه ما مِنْ منتسبٍ إلى الإسلام ممن ترميه بالكفر لتلبُّسه بتلك المحدثات فقط إلا وقد ثبت له حكم الإسلام، وهذا ما أردنا بيانه. فصلٌ مَن ثبت له حكم الإسلام ثم أعلن عن نفسه أنه قد رغب عن الإسلام وتركه فأمره واضحٌ، وهذه هي الردَّة المكشوفة. وأما مَن يدَّعى أنه مستمرٌّ على الإسلام فإنه لا يُحْكَم عليه بالردَّة إلا بحجَّةٍ واضحةٍ؛ إذ الأصل بقاء ما كان على ما كان. وإذ كان كلامنا إنما هو في العبادة فالمثال الواضح فيها أن يصرِّح بأنه يتَّخذ مع الله إلهًا أو يعبد غيره على الحقيقة، [ز 40] وهذه الدرجة هي حال أهل الجاهليَّة كما تقدَّم، ويليها أن يتلبَّس بما هو تأليهٌ وعبادةٌ لغير _________ (1) ص 151 فما بعدها.
(2/163)
الله تعالى مع قيام الحجَّة بأنه يعلم ذلك وإن لم يعترف به. هذا طرفٌ. ويقابله الطرف الذي يتَّضح فيه أن ما تلبَّس به مما صورته صورة التأليه والعبادة لغير الله تعالى ليس في نفس الأمر كذلك، أو أنه وإن كان في نفس الأمر كذلك فصاحبه معذور. أما الأول فبيانه متوقف على تحقيق معنى الإله والعبادة، وسيأتي إن شاء الله تعالى (1). وأما الثاني فينبغي لمن أراد التحقيق أن يستحضر أمورًا: الأوَّل: ما قدمناه في الأعذار (2). الثاني: قول الله تبارك وتعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [خواتيم البقرة]، {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 233]، {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152، والأعراف: 42، والمؤمنون: 62]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]. قال المحقِّق الشاطبيُّ: "قد ثبت في الأصول العلميَّة أن كلَّ قاعدةٍ كلِّيَّةٍ أو دليلٍ شرعيٍّ كلِّيٍّ إذا تكرَّرت في مواضع كثيرةٍ وأُتِيَ بها شواهدَ على معانٍ أصوليَّةٍ أو فروعيَّةٍ ولم يقترن بها تقييدٌ ولا تخصيصٌ مع تكرُّرِها وإعادة تقرُّرها فذلك دليلٌ على بقائها على مقتضى لفظها من العموم ... " (3). _________ (1) ص 387 فما بعدها. (2) أواخر ص 132 فما بعدها. (3) الاعتصام 1/ 180. [المؤلف]
(2/164)
ويظهر من كلام ابن جرير في بعض المواضع محاولة تخصيصها، واحتجَّ بقوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء: 48، والفرقان: 9] (1). أقول: في قوله: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} أوجهٌ: أحدها: ما أشار إليه. الثاني: ما اختاره في آية الفرقان، قال: "يقول: فلا يجدون سبيلًا إلى الحقِّ إلَّا فيما بعثتك به"، وروى نحوه عن ابن عبَّاسٍ (2). الثالث: فلا يستطيعون سبيلًا إلى ما حاولوه من الطعن في نُبُوَّتك. والسياق يقتضيه، وفي آثار السلف ما يوافقه. فعلى الوجهين الأخيرين لا كلام، وأما على الأوَّل فالآية كما يدلُّ عليه السياق والآثار إنما وردت في أفرادٍ عاندوا وتمرَّدوا فختم الله على قلوبهم، وسيأتي الكلام على ذلك. وقد تقدَّم في الأصل الأول (3) عن ابن جرير تأويله (4) قولَه تعالى: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 119]، ما ينفي قول الجبرية، وتقدَّم هناك (5) ما رواه عن السُّدِّيّ في تأويل قوله تعالى: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} _________ (1) راجع تفسيره 2/ 283. [المؤلف] (2) راجع تفسيره 8/ 126. [المؤلف] (3) ص 63. (4) كذا في الأصل، ولعله سقط "عند" أو "في". (5) ص 61.
(2/165)
[الأعراف: 89]، وفيه: "فالله لا يشاء الشرك". وقد تقدَّم في الأصل الأوَّل (1) حكمة الخلق بما عُلِمَ به يقينًا أن الله تعالى لم يخلق الخلق عبثًا، ولا ليُعْنِتَهُم. وقال تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 108]، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [المؤمن: 31]، في آياتٍ كثيرةٍ ينفي الله تبارك وتعالى عن نفسه الظلم. وقد تقدَّم في هذا الأصل (2) كمال عدل الله سبحانه حتى إنه يوم القيامة لا يحكم بمجرد علمه، وفي الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ... " إلى أن قال: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفِّيكم إيَّاها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه" (3). واختلف الناس في معنى الظلم الذي ينفيه الله تبارك وتعالى عن نفسه، فقال الجبريَّة ومَن تابعهم: هو "أن يتصرَّف في غير ملكه" (4). قال عبد الرحمن: مَن نظر إلى كثرة الآيات في القرآن وتدبَّرها اتَّضح له بطلان هذا التفسير، وعليك أن تعتبر ذلك بأن تجعل التفسير مكان المفسَّر في الآيات كأن تجعل مكان قوله في الآيتين السابقتين "ظلمًا" قولك: _________ (1) ص 58 فما بعدها. (2) ص 64. (3) صحيح مسلمٍ، كتاب البرِّ والصلة، باب تحريم الظلم، 8/ 16، ح 2577. [المؤلف] (4) التبصير في الدين للإسفراييني 169، والذين اتبعوا الجبريَّة هم الأشاعرة، انظر: شفاء العليل، الباب 16، ص 241.
(2/166)
"تصرفًا في غير ملكه" وانظر كيف يصير الكلام، وراجع ما قدَّمناه في كمال عدل الله تعالى يوم القيامة. وقال غيرهم: هو: "أن ينقص عبده من حاقِّ ثوابه أو يعذبه بغير ذنب" (1)، قالوا: وما يُشَاهَدُ في الدنيا من إيلام الأطفال والمعتوهين والبهائم، فكل ذلك مطابق لحكمة الله عزَّ وجلَّ وعدله، فإن لم نعرف وَجْهَ ذلك في بعضها فعدم العلم ليس علمًا بالعدم {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]. وغلت القدرية وتجارت بها أهواؤها حتى جحدت علم الله تعالى بالحوادث قبل حدوثها (2)، وربما ضاق الأمر على بعضها فأنكر آيات من القرآن كما سلف عن عمرو بن عبيد (3)، وأحجمت المعتزلة عن هذا الغلوِّ ولكنها تطرَّفت من جهاتٍ: منها: قولهم: إن العقل يحكم بأن الظلم قبيحٌ محرَّمٌ على الله تعالى، ويحكم بأنه سبحانه ليس له أن يتصرَّف في ملكه إلا بالعدل (4)، وغير ذلك _________ (1) وهو قول أهل السنَّة، انظر: شرح الطحاويَّة 2/ 679 - 681، وقد قال ابن عباس في قوله تعالى: {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} قال: لا يخاف ابن آدم يوم القيامة أن يُظْلَم فيُزاد عليه في سيئاته، ولا يُظْلَم فيُهْضَم في حسناته. أخرجه الطبريُّ في تفسيره (18/ 379) من طريق علي بن أبي طلحة عنه. وورد نحوه عن مجاهد وقتادة والحسن. انظر: تفسير الطبري (18/ 380)، الدُّرّ المنثور 5/ 601. (2) انظر: مجموع الفتاوى 8/ 450، شفاء العليل، الباب 21، ص 393. (3) ص 29، 32. (4) انظر: مجموع الفتاوى 8/ 91.
(2/167)
من الألفاظ التي يتبادر [ز 41] إلى الفهم منها أنهم يزعمون أن العقل حاكمٌ على الله عزَّ وجلَّ يوجب عليه ويحرِّم ويسأله عمَّا يفعل ويناقشه الحساب. وأهل الحقِّ أغنياء عن تلك المقالات بما تقدَّم في الحديث القدسيِّ "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي" إلى قوله: "فمن وجد خيرًا فليحمد الله" (1). ومنها: تحريف الآيات الواردة في القضاء والقدر، وردّ الأحاديث الثابتة في ذلك. وعارضهم المُجْبِرة فادَّعوا صراحتها في الجبر، وآل بهم الأمر إلى أن حرَّفوا أضعاف أضعافها من الآيات والأحاديث وجحدوا حكمة الله وعدله، وسمّوا الحكمة غرضًا والعبث اختيارًا والعدلَ عجزًا، وجعلوا خلق الله تعالى وأمره كله لهوًا ولعبًا (2)، بل شرًّا من ذلك؛ فإنَّ اللاهي واللاعب له فائدةٌ مَّا مِنْ لهوه ولعبه. وأهل الحقِّ أغنياء عن ذلك كلِّه بقول النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه" (3). وما صحَّ عن عبد الله بن عمرٍو قال: هجَّرت إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يومًا، قال: فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج علينا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يُعْرَفُ في وجهه الغضب فقال: "إنما _________ (1) تقدم تخريجه قبل قليل. (2) انظر: شفاء العليل، الباب 22، ص 435 فما بعدها. (3) صحيح البخاريِّ، آخر كتاب فضائل القرآن، [بابٌ: "اقرأوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم"]، 6/ 198، ح 5060. صحيح مسلمٍ، أوائل كتاب العلم، [باب النهي عن اتَّباع متشابه القرآن]، 8/ 57، ح 2667. [المؤلف]
(2/168)
هلك مَنْ كان قبلكم باختلافهم في الكتاب" (1). وتلك الآية التي اختلفا فيها كانت متعلقة بالقدر، فقد أخرج ابن ماجه بسندٍ صحيحٍ عن عمرو بن شُعَيبٍ عن أبيه عن جدِّه، وجدُّه هو عبد الله بن عمروٍ قال: خرج رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على أصحابه وهم يختصمون في القدر فكأنما يُفْقَأُ في وجهه حَبُّ الرُّمَّان من الغضب، فقال: "بهذا أُمرتم أو لهذا خُلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض، بهذا هلكت الأمم قبلكم" (2). فهم يقبلون كلَّ ما ثبت عن الله ورسوله، ويأخذون بالواضح معناه من ذلك ويتفهَّمون ما عداه، فإذا فهموا نظروا فإن كان إظهار ذلك مما تدعو إليه ضرورةٌ أو لا تترتَّب عليه مفسدةٌ أظهروه، وإن لم يروا لإظهاره ضرورة وخافوا من إظهاره اختلافًا وافتراقًا في الدين وسعهم السكوت. وقد كان كلام الراسخين في العلم من السلف مجملًا تبعًا لإجمال الكتاب والسنة، وكانوا ينكرون على من حدث من القدرية وجرَّه هواه إلى ما جرَّه كما تقدَّم، فربَّما كان في إنكارهم ما يوهم طرفًا من الجبر، فأراد إمام التابعين الحسن البصريُّ رحمه الله تعالى أن يشرح الأمر، فلامه أهل العلم؛ لأنهم ــ والله أعلم ــ خافوا أن يكون في ذلك تقويةٌ مَّا لبدعة القدريَّة مما يجرُّ كثيرًا من الناس إلى مقالتهم، وفوق ذلك رأوا أن في الشرح والتفسير مخالفةً لصنيع الكتاب والسنَّة من الإجمال، وأنه ربَّما أَدَّى إلى الاختلاف والافتراق في الدين، فَكَفَّ رحمه الله تعالى عن ذلك. _________ (1) صحيح مسلم، أوائل كتاب العلم، [باب النهي عن اتَّباع متشابه القرآن]، 8/ 57، ح 2666. [المؤلف] (2) سنن ابن ماجه، في أوائله، بابٌ في القدر، 1/ 33، ح 85. [المؤلف]
(2/169)
ثم صار الناس يقولون في كلِّ من شَمُّوا منه رائحة الميل إلى الشرح والتفسير: "كان يرى القدر"، قالوا ذلك في الحسن البصريِّ وقتادة وسعيد بن أبي عروبة وابن أبي ذئبٍ ــ الذي قال فيه أحمد بن حنبلٍ: "ابن أبي ذئبٍ أصلح في بدنه وأورع وأقوم بالحقِّ من مالكٍ" (1) ــ، وكذلك قالوا في ابن إسحاق وعبد الوارث بن سعيدٍ وحسَّان بن عطيَّة في خلقٍ كثيرٍ. ولم يكن هؤلاء الأعلام من القدريَّة الذين عُرِفَ عنهم الغلوُّ ولا يقولون مقالات المعتزلة، ولا كان المنكرون عليهم الذين ينسبونهم إلى القدر جبريَّةً، حاشاهم، وإنما الفرق بين الفريقين أن هؤلاء مالوا إلى إظهار شيءٍ من الشرح والتفسير، وهؤلاء يرون أن الصواب أن لا يُظْهَرَ إلا الإجمالُ كما جاءت به السنَّة. ولكن بعد أن ظهرت بدعة الجبريَّة وجَرَّتْ إلى ما جَرَّتْ إليه كما تقدَّم حَقَّ على أهل العلم أن ينكروا عليهم وينزِّهوا السلف الصالح عن بدعتهم، فذلك الذي دعاني إلى بيان ما سمعتَ، وأسأل الله التوفيق. وإن لم يفهموا (2) عملوا بما أمرهم الله تعالى به في قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ [ز 42] مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 7 - 8]. واعلم أن الذي استقرَّ عليه قول علماء الأصول من الأشعريَّة وغيرهم منع التكليف بما ليس في الوُسْعِ، ويسمُّونه التكليف بالمحال والتكليف بما _________ (1) المعرفة والتاريخ 1/ 686، وفي تاريخ بغداد 2/ 302: أصلح في دينه. (2) معطوف على قوله في الصفحة السابقة: فإذا فهموا نظروا ...
(2/170)
لا يُطاق، وإنما يستثنون صورةً واحدةً هي ما عَلِمَ الله تعالى أنه لا يكون، قالوا: قد علم الله تعالى أن أبا جهلٍ لا يؤمن؛ فإيمانه محالٌ، ومع ذلك كان مكلَّفًا بالإيمان (1). قال عبد الرحمن: هذه الصورة لا يُحْتَاج إلى استثنائها من قول الله عزَّ وجلَّ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، ولا من قولهم: لا يكلِّف الله تعالى أحدًا بما لا يطيق؛ لأن علم الله تعالى بعدم إيمان أبي جهلٍ لا ينافي أنه كان في وسعه الإيمان وأنه كان يطيقه ويقدر عليه (2)، ألا ترى أنك تقول: لم أفعل كذا وكان في وسعي أن أفعله أو وكنت أطيقه أو وكنت أقدر على فعله. ولو ضرب رجلٌ ابنك وأنت غائب فلما حضرت قلت له: لو كُنْتُ حاضرًا ما قَدَرْتَ على ضربه، فقال: لم يكن في وسع أحد ولا قدرته حتى رب العالمين (على) (3) منعي من ضربه، لبادَرَ الناس بحقٍّ إلى تكفيره. ومع نصهم أنه لا يستثنى إلا هذه الصورة البعيدة ففي كلامهم ما يُشْعِرُ باستثناء أخرى هي التي جَرَّتْنا إلى هذا البحث. قال العضد في مواقفه في الكلام على خلود الكفَّار في النار: "قال الجاحظ والعنبريُّ: هذا في الكافر المعاند (4)، وأما البالغ في اجتهاده إذا لم يهتد للإسلام ولم تَلُحْ له دلائل الحق فمعذورٌ، وكيف يُكَلَّف بما ليس في _________ (1) قال في تشنيف المسامع بجمع الجوامع 1/ 281 بعد ذكره القول بامتناع تكليف ما لا يطاق ونسبته إلى المعتزلة: "وساعدهم كثير من أئمتنا". (2) انظر: شرح العقيدة الطحاوية 2/ 674. (3) كذا في الأصل. (4) زاد السيِّد في شرحه "والمقصِّر"، وسياق المتن يدلُّ عليه. ع. [المؤلف]
(2/171)
وسعه ويعذَّب بما لم يقع فيه تقصيرٌ من قِبَله" (1). وحكى عياضٌ في الشفاء نحوه عن داود إمام أهل الظاهر وثمامة (2)، قال: "وقد نحا الغزاليُّ قريبًا من هذا المنحى في كتاب التفرقة (3)، وقائل هذا كلِّه كافرٌ بالإجماع على كفر من لم يكِّفر أحدًا من النصارى واليهود وكلِّ مَن فارق دين المسلمين أو وقف أو شكَّ" (4). قال عبد الرحمن: في نظم عبارة عياضٍ ما فيه على أنه لم يحك عن العنبري ولا عن أحد ممن ذكر معه أنه لا يُكَفِّر أحدًا ممن لم يلتزم الإسلام من النصارى وغيرهم، بل ولا أنه إنما يكفر بعضهم دون بعض، ولا أنه يقول بعذرهم جميعًا. وأما القول بعذر بعضهم (5) فهو في الجملة حق، والعذر لا يستلزم عدم الكفر كما أن الكفر لا يستلزم عدم العذر، ألا ترانا نقول بعذر صبيان الكفار ومجانينهم مع قولنا بكفرهم، وحُكْمِنا عليهم حُكْمَ الكفار في _________ (1) المواقف: موقف 6، مرصد 2، مقصد 6، مبحث 2.8/ 308 [المؤلف] (2) هو ثمامة بن أشرس النميري أحد معتزلة البصرة، كان له اتصال بالمأمون، وتنسب إليه الثمامية من المعتزلة، هلك سنة 213 هـ. انظر: تاريخ بغداد 7/ 147، الأعلام 2/ 100. (3) فيصل التفرقة 87. (4) الشفاء، في أواخره، فصلٌ في تحقيق القول في إكفار المتأوِّلين [2/ 280 - 281]. [المؤلف]. (5) كالذين لم يسمعوا بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فهم كفَّارٌ، ولكن لا يعذَّب إلا مَن بلغته بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم لم يؤمن به، فالمقصود بعذرهم عدم التعذيب في الآخرة لا نفي الكفر عنهم كما سيبيِّنه المؤلِّف بعد قليلٍ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والنصوص الدالة على أن الله لا يعذب إلا بعد الرسالة كثيرةٌ تردُّ على مَن قال من أهل التحسين والتقبيح: إن الخلق يعذبون في الأرض بدون رسول أرسل إليهم) مجموع الفتاوى 8/ 435.
(2/172)
المناكحة والتوريث والدية والكفارة وما يصنع بالميت وغير ذلك؟ وفي المواقف عَقِبَ ما مرَّ: "واعلم أن الكتاب والسنّة والإجماع يُبْطِلُ ذلك، إذ يعلم قطعًا أن كفار عهد الرسول الذين قتلوا وحكم بخلودهم في النار لم يكونوا عن آخرهم معاندين، بل منهم من يعتقد الكفر بعد بذل المجهود، ومنهم من بقي على الشكِّ بعد إفراغ الوسع لكن ختم الله على قلوبهم ولم يشرح صدورهم للإسلام، ولم يُنْقَلْ عن أحدٍ قبلَ المخالفين هذا الفرقُ" (1). قال عبد الرحمن: إن كان مراده بدلالة الكتاب والسنة والإجماع ما فيها من أن الكفار مُخَلَّدُون في العذاب فقد بيَّنتها الحجج الدالَّة على أن الله تعالى لا يعذب حتى يقيم الحجة، ولا يكلف نفسًا إلا وسعها، وغير ذلك مما سلف، [ز 43] فإما أن يكون المراد بالكفر في أدلَّة التعذيب كفرًا خاصًّا هو الكفر الحقيقيُّ فلا يدخل فيها الكفر الحكميُّ، كالكفر المحكوم به على صبيان الكفار ومجانينهم وسائر المعذورين، وإما أن تكون (2) من العامِّ المراد به الخصوص أو العامِّ المخصوص، وأدلَّةُ العذر صريحةٌ محكمةٌ فلا بدَّ من حمل ما يوهم خلافها على ما يوافقها. وإن كان مراده أن الكتاب والسنة والإجماع تدلُّ على أن مَنْ قُتِلَ في عهد النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من الكفار مُخَلَّدُون جميعهم في النار، فالجواب أن ما كان فيها من دلالة خاصة كما ورد في أبي جهل وأصحاب القليب قليب بدر، فمحمولٌ على أنهم كانوا معاندين أو مقصِّرين، والآثار تدلُّ على ذلك. وما كان فيها من دلالة عامَّة فقد يُقال: تُبَيِّنُها حُجَجُ العذر _________ (1) المواقف 8/ 308. (2) أي: أدلة التعذيب.
(2/173)
على ما سمعت آنفًا، ويزاد على ذلك احتمال أن يكون ما في السنَّة والإجماع مَبْنِيًّا على الظاهر أن مَن أصرَّ على الكفر بعد بلوغ الدعوة وطول الإنذار مع ظهور حجج الحق وضعف شبهات الكفار فهو إما معاندٌ أو مقصِّرٌ. وقول العضد: "إذ يُعْلَمُ قطعًا إلخ" مردودٌ عليه، بل لنا أن نقول: المعلوم خلافه، ولنا على ذلك حجج: منها: ما أسلفنا أنهم كانوا قائمة عليهم الحجة قبل البعثة لتقصيرهم، فما ظنك بهم بعدها؟ ومنها: ما أسلفناه (1) فيما يلزم مَنْ بلغه بعثة نبيٍّ. ومنها: أن شبهات الكفار كانت ضعيفةً، مَنْ تأمَّلَهَا عَرَفَ أنه لا يتفكر فيها عاقل إلا بان له بطلانها أو ضعفها، فَمَنْ لم يكن منهم تفكَّر فيها قبل البعثة فلا ريب أن خبر البعثة يدعوه إلى التفكُّر فيها، فإن لم يفعل فهو مقصِّرٌ؛ وإن تفكَّر فلا بدَّ أن يظهر له ضعفها إلا أن يُقَصِّر في النظر لما غلب عليه من الغرام بما أَلِفَ واعتاد وأدرك عليه الآباء والأجداد فهو مقصِّرٌ. ومَن نظر ولم يقصِّر ظهر له ضعفها فلا بدَّ أن يرجو أن يجد عند النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ما هو خير منها. هذا إن لم يبلغه هنا ما يورث علمًا أو ظنًّا بصدقه، فإن لم يَسْعَ ليعرف ما عند النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فهو مقصِّر، وإن تعرَّض لمعرفتها ولكن هواه وغرامه بما كان عليه هو وآباؤه واستكباره عن أن يقبل الحق حالت بينه وبين أن ينظر حق النظر فهو معاندٌ مقصِّرٌ أخذ من كلٍّ منهما طرفًا. وإن نظر مخلصًا للحق راغبًا فيه حريصًا على إصابته فإننا بما نعلم من ظهور حجج الحق وَوَهَنِ شبهات الشرك نعلم أنه لا بدَّ أن يتبيَّن له صدقُ الرسول أو على الأقلِّ يتبين له أنَّ ما يدعو إليه الرسول خيرٌ من الكفر، فإن لم _________ (1) ص 128.
(2/174)
يتَّبعه فهو معاندٌ أو معاندٌ ومقصِّرٌ معًا. هذا وقد مكث النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قبل القتال نحو خمس عشرة سنةً يدعو الناس ويعرض نفسه عليهم، واتَّبعه على ذلك مَنْ اتَّبعه، حتى اتَّبعه الأنصار وهم مِنْ أقرب الناس إلى معرفة الدِّين لمجاورتهم أهلَ الكتاب. بل واتبعه بعض علماء أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وشاع عنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قبل النبوَّة ما شاع من شرف المحتد وكرم الأخلاق وغير ذلك، ثم شاع عنه بعد النبوَّة ما يدعو إليه من تعظيم الله عزَّ وجلَّ والأمر بالعدل والإحسان وصلة الرحم والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وشاع عنه أشياء من المعجزات وغير ذلك. فَمَنْ أصرّ من الكفار بعد ذلك كلِّه على الكفر وغضب له فقاتل عليه حتى قُتِل فلا يكون إلا معاندًا أو مقصّرًا، وحسبك في عنادهم قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]. وقد أوضح الله تبارك وتعالى حال الكفار الذين يستحقُّون النار بقوله سبحانه: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [ز 44] أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)} [خواتيم الجاثية]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا
(2/175)
فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} [الملك: 6 - 11]. ومن الحجج: أننا قد علمنا من النصوص القاطعة التي تقدَّم بعضها أن الله تبارك وتعالى لا يعذب إلا معاندًا أو مقصِّرًا، فإذا ثبت بحجة واضحة أن كلَّ مَنْ قُتِلَ مِنَ الكفار في عهد النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يُعَذَّبون عَلِمْنَا أنهم كانوا بين معانِدٍ ومقصِّرٍ. ومنها: قول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [خواتيم العنكبوت]. السورة مكِّيَّةٌ كما نصُّوا عليه (1) ونقلوه عن ابن عبَّاسٍ (2) وابن الزُّبير (3) _________ (1) انظر: تفسير الكشَّاف 3/ 182، وأنوار التنزيل 524، وتفسير النسفي 3/ 360، وتفسير الجلالين 407، وتفسير أبي السعود 7/ 29. وحكى الخلاف في ذلك ابن الجوزي في زاد المسير 6/ 253، وأبو المظفر السمعاني في تفسيره 4/ 165، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن 16/ 333، والآلوسي في روح المعاني 20/ 132، والشوكاني في فتح القدير 4/ 191. ولا يخفى رجحان القول بمكِّيَّة السورة لثبوت ذلك عن ابن عبَّاسٍ كما سيأتي. (2) أخرجه النحَّاس في الناسخ والمنسوخ 2/ 316، ح 465، من طريق مجاهدٍ عنه بسندٍ حسنٍ. (3) رواه ابن مردويه كما في الدُّرِّ المنثور 6/ 449.
(2/176)
وجماعة من التابعين (1)، وتَدَبُّرها يقضي بذلك، واستثنى بعضهم آيات من أوائلها وأثنائها (2)، فعلى كلِّ حال هاتان الآياتان مَكِّيَّتَان، والقتال إنما شُرِعَ بالمدينة. وتفسير (جاهدوا) بـ (قاتلوا) يُخِلُّ بحُسْن الكلام وبديع نظمه، بل الذي يقتضيه النظم أن يكون المراد بالجهاد هنا هو دفاع الهوى والشبهات. لَمّا قضى في الآية الأولى بهلاك مَنْ افترى على الله كذبًا أو كذَّب بالحق لما جاءه، وكِلا هذين مما يدعو إليه الهوى والشبهات، فقابل ذلك في الآية الثانية بمن جاهد الهوى والشبهات في سبيل الحقِّ فرارًا من الافتراء والتكذيب، وتكفَّل الله سبحانه وتعالى لمن فعل ذلك أن يهديه سبله. والله أعلم. وقد اعترف العضد بأن مِن قَتْلَى الكفار مَن كان معاندًا ومَن كان مقصِّرًا، ثم زعم أن فيهم مَن بذل المجهود واستفرغ الوسع فبقي معتقدًا للكفر أو على الشكِّ (3). ومعلوم أنَّ مَنْ نظر وهو مستكبرٌ عن الحق متعصِّبٌ لما أَلِفَهُ وأدرك عليه سلفه فلم يبذل المجهود ولا استفرغ الوسع. وعليه فالمدَّعى أنَّ منهم مَنْ بذل المجهود واستفرغ الوسع راغبًا في الحق حريصًا على إصابته، فنقول: صاحب هذه الصفة مجتهد ليعرف الحق عند الله فيتبعه، فهو مجاهد في الله وهو آتٍ بما أوجبه الله عليه، فهو محسن، ومن كان كذلك فلا بدَّ أن _________ (1) منهم: عكرمة والحسن البصري. أخرجه البيهقي في دلائل النبوَّة، باب ذكر السور التي نزلت بمكَّة والتي نزلت بالمدينة، 7/ 143، من طريق يزيد النحويِّ عنهما بسندٍ حسنٍ. ومنهم: قتادة. أخرجه ابن الأنباري كما في الإتقان 1/ 57. (2) انظر: الإتقان في علوم القرآن 1/ 95 - 96. (3) انظر شرح المواقف 8/ 207 - 208.
(2/177)
يهديه الله تعالى كما صرحت به الآية. ومن قُتِلَ كافرًا فلم يهده الله تعالى، فلم يكن مجاهدًا محسنًا، فلم يكن ممن بذل مجهوده واستفرغ وسعه راغبًا في الحق حريصًا على إصابته، فانكسر ساعد العضد واتَّضح أن قوله "إذ يُعْلَمُ قطعًا إلخ" دعوى باطلة. أما قول العضد: "ولكن ختم الله على قلوبهم ولم يشرح صدورهم للإسلام"، فهذه مسألة القدر وقد تقدَّم طرفٌ منها، ويكفينا هنا أن نقول: قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [خواتيم العنكبوت]. بيَّنت هذه الآية وآياتٌ أخرى في معناها أن الله تعالى إنما يُضِلُّ مَنْ سَبَقَ منه ما يستحقُّ به العذاب، وآية الختم نفسها تدلُّ على هذا، قال تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}، إلى أن قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [ز 45] لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 1 - 7]؛ فأخبر بسبق كفرهم. وقوله: {لَا يُؤْمِنُونَ} مما يُسْتَشْكَل؛ لأن كثيرًا من الكفار نفعهم الإنذار فآمنوا. وحَلُّه فيما يظهر لي: أن المراد بالكفر في قوله {كَفَرُوا} كفرٌ خاصٌّ هو أشدُّ أنواع الكفر وهو ما يكون عن عنادٍ واستكبارٍ وتمرُّدٍ شديدٍ. وما روي عن بعض السلف أن المراد أحبار يهود الذين علموا أن محمَّدًا رسول الله، ثم جحدوا وأصرُّوا على الجحود، وعن بعضهم أن
(2/178)
المراد جبابرة المشركين الذين أُلْقُوا في قليب بدر لا يخالف ما ظهر لي؛ فإن كثيرًا من تفاسير السلف يخرج مخرج التمثيل كما نبَّه عليه أهل العلم (1). هذا، وسياق الآية يدلُّ أن الختم وما معه ضربٌ من العقاب، ولهذا عطف عليها قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. وفي روح المعاني: "إسناد الختم إليه عزَّ وجلَّ باعتبار الخلق، والذمُّ والتشنيع الذي تشير إليه الآية باعتبار كون ذلك مسبَّبًا عما كسبه الكفار من المعاصي كما يدل عليه قوله تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]، وإلا أشكل التشنيع والذمُّ على ما ليس فعلهم. هكذا قاله مفسرو أهل السنة عن آخرهم فيما أعلم" (2). وأما آية الشرح فهي قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} إلى قوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 124 - 125]. ففي الآية الأولى مثالٌ مِنْ عنادهم، وفي الآية الثانية أن الإضلال _________ (1) انظر: مقدِّمة في أصول التفسير 43، إذ تبيِّن أن غالب ما يثبت عن السلف من الخلاف في التفسير هو اختلاف تنوُّع، وهو نوعان، أحدهما: أن يعبِّر كلٌّ منهم عن المراد بعبارةٍ غيرِ عبارة صاحبه تدلُّ على معنىً في المسمَّى غيرِ المعنى الآخر مع اتِّحاد المسمَّى. والنوع الثاني: أن يذكر كلٌّ منهم من الاسم العامِّ بعض أنواعه على سبيل التمثيل. (2) روح المعاني 1/ 132.
(2/179)
وتحريج الصدر إنما يجعله الله تعالى على الذين لا يؤمنون. وقد قصَّ الله تعالى دعاء موسى وهارون على فرعون وملئه، وفيه: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 88 - 89] لَمَّا عَلِمَا عناد فرعون وملئه ــ كما قال تعالى بعد ذكر ما أراهم من الآيات: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]ــ عَلِمَا أنهم قد استحقُّوا العذاب الأليم وأحبَّا أن ينالهم البتَّة. فالختم والشَّدُّ على القلب عقوبةٌ يعجِّلها الله عزَّ وجلَّ لمن كفر واستكبر وعاند وتمرَّد. فإن قيل: فالمختوم على قلبه هل يبقى مكلَّفًا؟ قلت: نعم، أمَّا بترك الأقوال والأفعال التي هي فجورٌ أو كفرٌ فظاهرٌ؛ إذ الختم على القلب لا يمنع مِن تركها، وأمَّا بأصل الإيمان فللتكليف أثران: الدعوة والمؤاخذة، فالدعوة قد يقال: لا فائدة لها؛ إذ قد عُلِمَ أنه لا يؤمن ولم يقع الختم حتى قامت الحجة على أَتَمِّ ما يكون، وقد قال الله تعالى لرسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} [النجم: 29] في وقت الصعق والجنون والختم على القلب. [ز 46] وقال سبحانه: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [خاتمة سورة ق]، وقال تبارك وتعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9]. وقد يقال: دلالة هذه الآيات غير واضحة ولا يخلو تجديد الدَّعوة عن فائدةٍ، والله أعلم.
(2/180)
وأمَّا المؤاخذة فهو مؤاخَذٌ على أقواله وأفعاله كما علمْتَ، وعلى عدم الإيمان؛ إذ المانع عن الإيمان ليس هو الختم فحسب بل الهوى وبغض الحق والاستكبار الذي منعه قبل الختم باقٍ وهو بعد الختم المانعُ في الظاهر، وهو مانعٌ آخر في الباطن. فمؤاخذته بالنظر إلى هذا المانع لا إشكال فيها وإنما هو كمن كان ممتنعًا عن أداء الزكاة بُخْلًا ثم عرض له ذو سطوة فَوَكَّلَ به مَنْ يلازمه قائلًا: إن أدَّيت الزكاة قتلتك، فما دام المانع الذي في نفسه وهو البخل قائمًا فهو آثم ولا ينفعه وجود المانع الآخر وهو الإكراه. ومع ذلك فإن مانعيَّةَ الختم هي أثر الختم، والختم أثر عناده الذي كان باختياره. واختيارُ الأمر المنهيِّ عنه يُعَدُّ اختيارًا لما يترتَّب عليه من المفاسد ولو مع الجهل والعجز؛ فإن الله تبارك وتعالى إذا نهى عن أمرٍ عُلم أنه يترتَّب عليه مفاسد إن عَرَف الإنسان بعضها خفي عنه بعضها، وإنما يحيط بها الحكيم العليم جَلَّ وعلا، فإذا اختاره الإنسان كان مختارًا لكلِّ ما يترتب عليه من المفاسد على وجه الإجمال. قال الله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25]. وقصَّ سبحانه قصَّة قتل ابن آدم أخاه، ثم قال: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]. وفي الحديث: " ... ومَنْ سنَّ في الإسلام سنَّةً سيِّئَةً فَعُمِلَ بها بعده كُتِب عليه مثلُ وِزر مَن عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيءٌ" (1). _________ (1) صحيح مسلمٍ، كتاب العلم، باب مَن سنَّ سنَّةً إلخ، 8/ 61، ح 1017. [المؤلف]
(2/181)
ورواه غيره بلفظ: " ... ومَنْ سنَّ سنَّةً سيِّئَةً فَعُمِلَ بها كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئًا" (1). وقوله في الرواية الأولى: "في الإسلام" ليس بقيدٍ، وإنما فائدته ــ والله أعلم ــ التنصيص؛ لئلا يتوهَّم أن هذا الحكم خاصٌّ بمن قبلنا وأنه من الإصر المرفوع عنا، فتدبَّرْ. وفي الحديث: "لا تُقتل نفسٌ ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها؛ لأنه كان أوَّلَ مَن سَنَّ القتل" (2). وليس هذا من التكليف بما لا يُطاق، وإنما هو أثر التكليف بالأمر الأوَّل. فالإنسان منهيٌّ عن الإحداث في الدين، قائمةٌ عليه الحجَّة بأن الله عزَّ وجلَّ إذا نهى عن شيءٍ فإنه تترتَّب عليه مفاسد لا يحيط بعلمها إلا هو، فإذا أقدم على الإحداث فقد اختار كلَّ ما يترتَّب عليه كما مرَّ. وعقوبة الذنب على مقدار ما تحقَّق من شرِّه، فكلَّما عَمِل عاملٌ بتلك المحدثة تحقَّق لإحداث المُحْدِث الأوَّل شرٌّ جديد، فلا تزال تضاعف عليه العقوبة بمقدار ما يتضاعفُ من الشَّرِّ والعياذ بالله. هذا، وقد قال أهل العلم: إن المتعدِّيَ بسُكْرِه مؤاخَذٌ بما يقع منه وهو سَكْران (3). والعقل لا ينكر هذا، ألا ترى لو أن ثلاثة نفرٍ سَكِرُوا؛ أما أحدهم _________ (1) سنن ابن ماجه، باب مَن سنَّ سنَّةً إلخ، 1/ 74، ح 203. [المؤلف] (2) صحيح مسلمٍ، كتاب القسامة، باب بيان إثم مَن سنَّ القتل، 5/ 106، ح 1677. صحيح البخاريِّ، كتاب الاعتصام [بالكتاب والسنَّة]، باب إثم مَن دعا إلى ضلالةٍ أو سنَّ سنَّةً سيِّئةً، 9/ 103، ح 7321. [المؤلف] (3) انظر: الأم للشافعي 6/ 646، والأشباه والنظائر للسيوطي 216.
(2/182)
فسقاه الطبيب دواءً لا يدري أنه مسكرٌ، وأما الآخران فتعمَّدا شرب [ز 47] الخمر. فأما الأوَّل فاشتدَّ به السكر وعَرْبَد حتى وقع على أخته وقتل أمَّه وكذلك وقع لأحد المتعمِّدين. وأما الثالث فضُبِطَ وأُغْلق عليه بيت حتى أفاق، أفلا ترى أن جُرْم الثالث في صدور الناس دون جرم الثاني بكثيرٍ، وأما الأوَّل فلا يرون له جرمًا، وإن نَفَرَتْ منه الطباع عَذَرَتْهُ العقول. ولو أنَّ ثلاثة نفر عَمَد كلٌّ منهم إلى رجلٍ مصوِّبًا بندقيته إليه ورماه عامدًا لقتله، فأخطأ أحدهم، وأصاب الثاني فجرح، وأصاب الثالث فقتل، لكانت أجرامهم متفاوتةً في حكم الله عزَّ وجلَّ وفي عقول الناس مع أن أصل فعلهم الذي وقع بأصل اختيارهم واحدٌ. بقي قول العضد: "ولم يُنْقَلْ عن أحد قبل المخالفين هذا الفرقُ"، وقد يجاب بمنع عدم النقل، كيف وقد نقل القول بمنع التكليف بما لا يطاق، وهذه المسألة من فروعه وإن لم تُنْقَلْ بخصوصها. ولعلَّهم إنما سكتوا عنها لأنه لا يُعْلَم صدق اليهودي مثلًا في قوله: "قد تدبَّرتُ حجج الإسلام وبذلتُ المجهود واستفرغتُ الوُسْع راغبًا في الحقِّ حريصًا على اتِّباعه فتبيَّن لي بطلان الإسلام". ولم يُفَرِّق الشرعُ بين مَن يَدَّعي هذه الدعوى وغيره من الكفَّار المصرِّحين، فرأوا أن البحث في نجاته في الآخرة إن صدق بحثٌ قليل الجدوى وتنشأ عنه مفاسد لا تحصى. قال عبد الرحمن: الصواب ما قدَّمته أن حجج الإسلام واضحةٌ، وشبهات الكفر واهيةٌ، وقد تكفَّل الله تعالى لمن جاهد فيه محسنًا أن يهديه ويكون معه، فإطلاق السلف أن كلَّ مَن بلغته الدعوة وأمكنه النظر فلم يُسْلِمْ هالكٌ، حقٌّ واضحٌ؛ فإن مَن كان كذلك لا يكون إلا مُقَصِّرًا أو معاندًا. ومَن
(2/183)
قال: "إن مَن استوفى مجهوده مخلصًا للحقِّ فظهر له أن الحقَّ في غير الإسلام فلم يُسْلِمْ فهو معذور عند الله تعالى"، فليس في هذا القول شناعة ولا مخالفة للسلف إلا في تَوَهُّمِ الإمكان. فأمَّا مَنْ قال بالإمكان أو قضى بالوقوع كما صنع العضد ثم قضى بعدم العذر فهو المخطئ. والله المستعان. فإن قال قائلٌ: إن آية الجهاد على ما فسَّرْتَها به تَسُدُّ باب الأعذار كلِّها لحَصْرها الأقسام في مهديٍّ ومعاندٍ ومقِّصرٍ، والمهديُّ مصيبٌ والمقصِّرُ لا يستحقُّ العذر. فعن هذا أجوبةٌ: أخصرها: أن قوله تعالى: {سُبُلَنَا} المراد بها سبل النجاة عنده سبحانه، كما قال سبحانه في صفة القرآن: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16]، والسَّلام هو السَّلامة كما نصَّ عليه أهل التفسير (1). ومما يبيِّن ما قلناه جمعُ السبل في الآيتين، وسبيل الحقِّ في نفس الأمر واحدٌ، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]. فللحقِّ في نفس الأمر سبيلٌ واحدٌ، وللنجاة والسلامة سبلٌ، أوَّلها: سبيل الحقِّ في نفس الأمر وهو المتعين بالنظر إلى أصل الدين في حقِّ المكلَّف الذي بلغته الدعوة، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]. _________ (1) انظر الجامع لأحكام القرآن 7/ 386، تفسير القرآن العظيم 3/ 63.
(2/184)
وثانيها: سبيل بَذْلِ الوسع. وثالثها: سبيل الإتيان بما كُلِّفَ به من البحث وهو دون الوسع. وهذا قد يكون مع حرمة الاستقصاء أو كراهيته أو إباحته أو استحبابه، كالقاضي يتَّجِه له الحكم بدليلٍ ظنِّيٍّ فيحرم عليه أن يقول: لا أقضي حتى أراسل علماء الأرض كلَّهم، فلعلَّ عند بعضهم دليلًا يخالف ما ظهر لي، ويُكْرَه له التأخير حتى يُسَائِلَ علماء البلدان القريبة، وقد يُباح له أن يؤخِّر حتى يُسائِل علماء البلد إذا كانت القضيَّة متوسِّطةً، ويُستحبُّ له إذا كانت كبيرةً كالقتل. ويمكن تعداد سبلٍ أخرى، وفيما ذُكِرَ كفايةٌ إن شاء الله تعالى. [ز 48] فإن قيل: فإن الآية الأولى (1) ونظائرها من القرآن تنصُّ على هلاك مَن كذب على الله تعالى أو كذَّب بالحقِّ، والخطأ في الدِّين لا يخرج عن ذلك، فمن أخطأ في النبيذ المسكر يقول: إن الله أَحَلَّه، وهذا خبرٌ عن الله تعالى، فإذا كان غيرَ مطابق للواقع فهو كذبٌ، ويردُّ قولَ مخالفه، فإذا كان حقًّا ففي ردِّه إياه تكذيبٌ له، ويَرُدُّ الأدلَّة التي يستدلُّ بها مخالفه وهي من جملة حجج الله وآياته، ففي ردِّه لها تكذيبٌ لها، أفلا يكون كاذبًا على الله تعالى مُكَذِّبًا بالحقِّ والآيات؟ فالجواب: أن الحكم الأول هو أنه لا أظلم ممن افترى على الله كذبًا. وافتراء الكذب هو اختلاقه، وذلك أن الخبر يتضمَّن خبرًا آخر، فالقائل "أحلَّ الله النبيذ المسكر". يتضمَّنُ خبرُه خبرًا آخر صورته: "وأنا أعتقد أن الله تعالى أحلَّ النبيذ المسكر"، فافتراء الكذب هو عدم مطابقة كلٍّ من الخبرين _________ (1) 68 من سورة العنكبوت.
(2/185)
للواقع بأن يكون الله تعالى لم يُحِلَّ ويكون المخبر لا يعتقد أن الله أحلَّ. فأما إذا كان الله تعالى لم يُحِلَّ ولكنَّ المخبر يعتقد أنه أَحَلَّ فليس بمفترٍ، ومن أهل العلم مَن يقول: وليس هو بكاذب أيضًا. فإنْ بَنَيْنَا على قول الجمهور ــ أنه يَصْدُق على مثل ذلك أنه كذبٌ ــ فإننا نقول: الحكم في الآية منصبٌّ على الافتراء لا على مطلق الكذب، وكذلك في نظائرها من الآيات. فأما قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32]، فهذه الآية وإن لم تقيَّدْ بالافتراء لكنها عطفت التكذيب بالواو، فأفهمت أن الحكم منصبٌّ على مَنْ جَمَعَ بين الكذب والتكذيب بخلاف بقيّة الآيات، فإنها لَمَّا قيدت بالافتراء عطفت التكذيب بأو، فأفهمت أن الحكم منصبٌّ على كلٍّ من الرجلين أعني مَن انفرد بافتراء الكذب على الله، ومَن انفرد بالتكذيب بالحق لما جاءه أو بآيات الله. وبعض الآيات تقتصر على أحد الأمرين، كقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف: 15]، وقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} [الأنعام: 157]، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [الجُرُز: 22]. وأمَّا قوله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)} [هود: 18]، فواضحٌ أن المعنيَّ بقولهم: {كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} أُريدَ به: افترَوْا عليه الكذب، كما تصرِّح به أوَّلُ الآية.
(2/186)
وأما قوله تبارك وتعالى: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 59 - 60]، فلا يخفى أن قوله {كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ} هو في قومٍ جمعوا بين الكذب والتكذيب بالآيات استكبارًا كما يُبيِّنُه أوَّلُ الآية وآخرُها. وأما الحكم الثاني فهو أنه لا أظلم ممن كذَّب بالحقِّ لما جاءه، فالتكذيب هو نسبة الخبر إلى الكذب بأن يقول: هذا كذبٌ، وفي معناه أن يُعْرِضَ عنه ويستمرَّ على خلافه كما نَبَّهَتْ عليه آية الجُرُز. والحقُّ والصدق المراد به ــ والله أعلم ــ ما هو حقٌّ وصدقٌ في دين الله في نفس الأمر وإن لم تقم الحجَّة بأنه حقٌّ؛ فإن الآيتين لم تُفَصِّلا ولكن التكذيب مُقَيَّدٌ بوقوعه وقت مجيء الحق بقوله في الأولى: {لَمَّا جَاءَهُ} وفي الثانية: {إِذْ جَاءَهُ}. والمعنى أنه لم يَكَدْ يسمع الحقَّ حتى بادر إلى تكذيبه بدون نظرٍ ولا تفكُّرٍ ولا تأمُّلٍ ولا تدبُّرٍ، فهو كالحاكم الذي يجيئه المتظلِّمُ فلا يكاد يَعْرِفُ أنه متظلِّمٌ حتى يُكَذِّبَه بدون نظرٍ في شكواه، وهذا من أشدِّ الظلم في الناس؛ لأنه [ز 49] ظَلَمَه بعدم إنصافه وبعدم سماع شكواه وبتكذيبه، فمَنْ فعل مثل هذا بالحق الجائي عن الربِّ عزَّ وجلَّ فذاك الذي لا أظلم منه. وأما مَنْ كذَّبَ بالحق في دين الله وقد قامت به الحجة فهو المعبَّرُ عنه بالتكذيب بآيات الله، وهي حججه الظاهرة كما يقال لأعلام الطريق الظاهرة: آيات. وهذا أيضًا لا أظلم منه، فإن الآيات التي عبَّرت بالتكذيب بآيات الله لم تُقَيِّد التكذيب بكونه وقت المجيء، بل تقدَّم في آية الجُرز: {ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا}. وهذا إن كان المكذِّبُ بالحق أظلم منه من جهة أنه كذَّبه ولم ينظر فهذا أظلم من جهة
(2/187)
أنه كذَّب وقد بان له الصدق. فتحصَّل من الآية أنه لا أظلم من اثنين: أحدهما: مَن افترى على الله كذبًا. الثاني: مَن كذَّب بالحق في دين الله وقت ما جاءه، وعُلِمَ من بقيَّة الآيات أن مِثْلَه مَن كذَّب بآيات الله وهي حججه الواضحة أو أعرض عنها. وخرج عن الآية مَنْ أخبر عن الله عزَّ وجلَّ بما يعتقده واقعًا وهو في نفس الأمر غير واقع، ومن جاءه الحقُّ في دين الله فنظر وتدبَّر فلم تتبيَّن الحجة فكذَّبه أو أعرض عنه. فتبيَّن بحمد الله عزَّ وجلَّ أن الآية لا تَسُدُّ باب العذر على المخطئين. فإن قلت: خروج هذين عن الآية إنما معناه خروجهما عن الأظلميَّة، ولا يلزم من ذلك خروجهما من الظلم، قلت: نعم، ولا يستلزم دخولَهما في الظُّلم. فإن قلت: فما حالهما؟ قلت: المخطئ إن دخل في الآية الثانية فهو على سبيلٍ مِنْ سُبُل النجاة كما عَرَفْتَ، وإلا فهو المقصِّر، فإن أدَّاه تقصيره إلى عدم التزام الإسلام فهالكٌ لا محالة كما سلف، وأمَّا إذا كان ملتزمًا للإسلام فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. الأمر الثالث (1): قال ابن جرير: "الوُسْع: الفُعْلُ، من قول القائل: وَسِعَني هذا الأمر فهو يسعني سعةً، ويُقال: هذا الذي أعطيتك وُسْعِي، أي: ما يَتَّسِع لي أن أعطيك فلا يضيق عليَّ إعطاؤكَه، وأعطيتك من جهدي إذا _________ (1) مما ينبغي أن يستحضره مَن أراد التحقيق في مسألة الحكم بالردة، وتقدم الأمران الأول والثاني ص 164.
(2/188)
أعطيتَه ما يجهدك فيضيق عليك إعطاؤه، فمعنى قوله {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 233] هو ما وَصَفْتُ من أنها لا تُكَلَّف إلا ما يَتَّسِعُ لها بذلُ ما كُلِّفَتْ بَذْلَه فلا يضيق عليها ولا يجهدها" (1). وروى في موضعٍ آخر عن ابن عبَّاسٍ "قوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] قال: هم المؤمنون، وسَّع الله عليهم أَمْرَ دينهم فقال الله جلَّ ثناؤه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 87]، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] (2). قال عبد الرحمن: المقصود هنا معرفة معنى الوُسْعِ، فأمَّا العموم والخصوص فقد مضى الكلام فيه. وقال الراغب: "والوُسْعُ من القدرة ما يَفْضُلُ عن قَدْرِ المكلَّف، قال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} تنبيهًا أنه يُكَلِّف عبده دُوَيْنَ ما ينوء به قدرته" (3). وفي الشريعة مواضع توضِّح ذلك، منها: أن الله تعالى لم يكلِّف الأعراب الذين أسلموا ولَمَّا يدخل الإيمان في قلوبهم لزومَ المسجد وسماعَ القرآن ونحو ذلك مما من شأنه أن يكسبهم الإيمان. _________ (1) تفسيره: 2/ 283. [المؤلف] (2) تفسيره: 3/ 95. [المؤلف]. (3) المفردات 870.
(2/189)
ومنها: ما سبق أنه كان يخفى على العرب شيء من دقائق معنى الإله والعبادة، ولم يكن النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم [ز 50] يُلْزِمُ مَن أسلم أن يتعلَّم جميعَ ذلك على الفور، بل رُبَّما كان أحدُهم يُسْلِم فيأمره لوقته أن يذهب للجهاد. ومنها: حديث "اتَّقُوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل" (1)، ولم يأمرهم النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن يستفرغوا أوقاتهم في التعلُّم، بل أرشدهم أن يقولوا: "اللهم إنا نعوذ بك مَن أن نشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم". ومنها: أن المسلمين مِنْ عهد الصحابة وهَلُمَّ جرًّا كانوا يكتفون ممن يقبل الإسلام من الأعاجم بأن يُلَقِّنَهُ مسلمٌ الشهادتين ويُفَسِّرَ له معناهما كما تيسَّر، ولا يُلْزِمونه أن يسائل كلَّ مَن لقيه من أهل العلم، ولا أن يرتحِل إليهم فيسائلهم حتى يعلم اتفاقهم، ولا أن يبادر إلى تعلُّم العربية والقرآن وتفسيره والسنَّة حتى يحصل له المعرفة التامَّة، بل لا نعلمهم أوجبوا أن يتعلَّم من القرآن إلا ما لا بدَّ منه لصحَّة الصلاة ولا نعلمهم أوجبوا معرفة تفسير ذلك. وقريبٌ من كلمة الوُسْعِ كلمتا الاستطاعة والطَّاقة، وقد فُسِّر قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] بوجدان الزاد والراحلة، وذلك دون المجهود. وفي الصحيحين وغيرهما من طرقٍ حديث المعراج وفيه قول موسى لمحمَّدٍ عليهما الصلاة والسلام في المراجعة في فرض الصلوات: "إن أمَّتك _________ (1) سبق تخريجه في ص 54 - 55، 143 فما بعدها.
(2/190)
لا تستطيع ذلك" (1)، وفي رواياتٍ: "لا تطيق ذلك" (2) حتى قال له ذلك في خمس صلواتٍ. وقال الراغب: "فقوله: {مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} أي ما يصعب علينا مزاولته، وليس المعنى: لا تُحَمِّلْنا ما لا قدرة لنا به" (3). وفي الصحيح من حديث عمران بن الحصين، قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن الصلاة، فقال: "صَلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبٍ" (4). قال أهل العلم: المراد بنفي الاستطاعة وجود المشقَّة الشديدة. راجع فتح الباري، شرح الحديث المذكور (5). وفيه أن عند الطبرانيِّ من حديث ابن عبَّاسٍ: "يصلِّي قائمًا، فإن نالته مشقَّةٌ فجالسًا، فإن نالته مشقَّةٌ صلَّى نائمًا" (6). _________ (1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الصلاة، بابٌ كيف فُرِضت الصلاة في الإسراء؟ 1/ 79، ح 349. ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب الإسراء بالرسول، 1/ 103، ح 163، من طريق ابن شهابٍ، عن أنسٍ، عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريُّ في كتاب التوحيد، بابٌ: "وكلَّم الله موسى تكليمًا"، 9/ 150، ح 7517. من طريق شريك بن عبد الله بن أبي نمرٍ، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه. (3) المفردات 532. (4) صحيح البخاريِّ، [أبواب تقصير الصلاة]، بابٌ إذا لم يُطِقْ قاعدًا صلَّى على جنبٍ، 2/ 48، ح 1117. [المؤلف]. (5) 2/ 397. (6) انظر: المعجم الأوسط 4/ 210، ح 3997، وقال: "لم يروِ هذا الحديثَ عن ابن جريجٍ إلا حَلْبَس ... " يعني: ابنَ محمَّدٍ الضُّبَعيّ. قال الهيثميّ: "ولم أجدْ مَن ترجمه، وبقيَّة رجاله ثقاتٌ". مجمع الزوائد 2/ 348. وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 555: في إسناده ضعف.
(2/191)
وفي صحيح مسلمٍ من حديث أبي سعيد الخدريِّ، سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: "مَن رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه (1)، وذلك أضعف الإيمان" (2). المراد بعدم الاستطاعة في الحديث أن يخاف على نفسه ضررًا، ولذلك عُدَّ الاقتصار على الإنكار بالقلب أضعف الإيمان، فإنَّ قويَّ الإيمان لا يَصُدُّه خوفُ الضرر عن أن ينهى عن المنكر. فأما العاجز البتَّة كمن كان مقعدًا أخرس ورأى منكرًا بعيدًا عنه فأنكره بقلبه فلا يتعيّن أن يكون هذا من أضعف الإيمان، بل إذا صمّم بقلبه على أنه لو كان يمكنه المشي لمشى إلى ذلك المنكر حتى يغيِّره بيده كان ذلك من أقوى الإيمان. والله أعلم. وقد يُعْتَرَضُ ما تقدَّم بوجهين: الأول: أن حَمْل الوُسْع والطاقة والاستطاعة على ما فيه مشقَّةٌ شديدةٌ يقضي على تلك النصوص بالإجمال، وذلك أن المشقَّة الشديدة لا تنضبط كما اعترفوا به في تقرير عِلَّة قَصْرِ الصَّلاة، قالوا: إنَّ أصل الباعث على ذلك المشقَّة لكن لعدم انضباطها ضبطها [ز 51] الشارع بالسفر (3)، ولا يمكن _________ (1) في الأصل: "فإن لم يستطع فبقلبه، فإن لم يستطع فبلسانه". (2) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان ... [وفي الأصل: باب تغيير المنكر إلخ]، 1/ 50، ح 49. [المؤلف] (3) انظر: شرح المحلِّي على جمع الجوامع مع حاشية العطار 2/ 279.
(2/192)
ضبطها بالعرف لاضطرابه، وقد دلَّت مسألة القصر على عدم اعتباره، ولا يُقال: كلُّ إنسان فقيهُ نفسه؛ لأن ذلك يؤدِّي إلى تساهل أكثر الناس وتسامحهم. الوجه الثاني: أن من المشاقِّ الشديدة ما ألغاه الشارع وكَلَّف بما هو فيه، مِنْ ذلك تكليفُ الكافر بالإسلام مع أنه يشقُّ عليه مشقَّةً شديدةً أن يَدَعَ دينًا قد أَلِفَهُ واعتاده وأدرك عليه آباءه وأجداده. ومِنْ ذلك تكليف مَنْ هام بامرأة وصادفها في خلوةٍ وتمكَّن منها أن لا يَقْرَبَها مع أنه يشقُّ عليه الانكفاف عنها مشقَّةً شديدةً. ومِنْ ذلك تكليفُ مَنْ أدمن الخمر في كفره ثم أسلم بأن يجتنبها، واجتنابها بدون تدريجٍ يشقُّ عليه مشقَّةً شديدةً. والجواب عن الوجه الأوَّل بتسليم الإجمال في الجملة، ولكن الشريعة قد تضمَّنَتْ ما يُرْشِد إلى التفسير، ولكنها ترَكت مجالًا للاختلاف لحِكَمٍ عديدةٍ، منها: ما تقدم في الأصل الثاني. ومنها: ما سيأتي في الكلام على التقليد. ومنها: توسعة المجال لاجتهاد أهل العلم ليعظم ثوابهم. ومنها: تركُ مُتَّسَعٍ لاحتياط أهل التقوى من أقوياء المؤمنين ليأخذوا أنفسهم بالورع والتوقِّي فيعظم أجرهم ويُعْرَف فضلهم، وللضعفاء ليمكن لهم الترخُّص بدون المعصية، ولو شُدِّد عليهم لرموا بأنفسهم في المعصية. ومنها: تهيئة سبيلٍ لحسن ظنِّ المسلمين بعضهم ببعضٍ فيرى المتشدِّد أن للمترخِّصِ وجهًا وسبيلًا. والجواب عن الوجه الثاني: أن المشقَّة في الأمثلة المذكورة ونحوها ليست بشديدةٍ إلى حدِّ الخروج عن الوُسْع، نعم إنها تقارب ذلك وربَّما اعتدَّ الشارع بأخفَّ منها، ولكن الشارع قد يُلْغِي المشقَّة التي ربَّما يظهر أنها
(2/193)
شديدةٌ لأسبابٍ، منها: أن يكون اتِّفاقها نادرًا، والفقهاء يلاحظون هذا، قالوا: لو أخطأ الحُجَّاج فوقفوا عاشر ذي الحجَّة أجزأهم حجُّهم، ولو أخطؤوا فوقفوا حادي عشره كان عليهم القضاء لندرة الخطأ بيومين (1). والثلاثة الأمثلة مما يندر، فما كلُّ أحدٍ يشقُّ عليه ترك دين آبائه ولا يتَّفق له ذلك إلا مرَّةً في عمره، والعاشق يندر أن يصادف معشوقته في خلوةٍ بدون تحرِّيه ذلك، ومدمن الخمر إذا أسلم فعزم على تركها إن شقَّ عليه ذلك فأيَّامًا معدودةً ثم ينساها أبدًا. ومنها: أن تكون المفسدة التي تترتَّب على الفعل عظيمة، ولهذا قالوا: لو أكره على قتل مؤمنٍ لم يجز له، وعظم المفسدة في الأمثلة ظاهرٌ. ومنها: أن لا تنضبط المشقَّة وتترتَّب على الفعل مفسدةٌ عظيمةٌ، كمن أُغْضِبَ فجنى على إنسان وادَّعى أن المجنيَّ عليه أغضبه فلم يَتَمالَكْ نفسه أن جنى عليه. فإنه لا دليل على أن الغضب بلغ ذلك المبلغ، ولو رُخِّصَ له لادَّعى أكثرُ الجناة مثلَ ذلك؛ إذ أكثر ما يقع القتل عند الغضب، بل لربما استحلَّ المغْضَبُ القتلَ لتوهُّمِه أنه قد بلغ به الغضبُ ذلك الحدِّ. ويأتي هذا في تلك الأمثلة، فإن المفسدة فيها عظيمة كما مرّ، ولو رُخِّصَ لهم لاستحلَّ الكافر المتبصِّر البقاءَ على دين آبائه لتوهُّمه أن المشقَّة شديدةٌ، وأن الله تعالى لا يكلِّفه بتحمُّلها. وكذلك الآخران، وإذًا لأوشك أن يدَّعيَ كلُّ زانٍ وكلُّ شاربِ خمرٍ نحوَ تلك الدعوى. ومنها: أن تكون المشقة ناشئة عن مخالفة من المكلَّف لولاها لم يقع في المشقة، بل ربما ألغى الشارع هذه المشقَّةَ ولو خرجت عن الوُسْعِ بل _________ (1) انظر: منح الجليل 1/ 476، شرح المحلِّي على المنهاج 2/ 185.
(2/194)
وعن القدرة، كالمتعدِّي بِسُكْرِه يؤاخَذُ بما يقع منه، وسيأتي توجيه ذلك في المختوم على قلبه. [ز 52] ومَنْ أَدْرَكَ آباءه على الكفر ثم نُبِّهَ على ذلك كان عليه أن يبحث وينظر ويحقِّق، وهذا لا يشقُّ عليه مشقَّة تُذْكَر، فلو قام به لهداه الله تعالى فعرف بطلان دينهم وأن البقاء عليه مُوجِبٌ لغضب الجبار والخلود في عذاب النار، وإذًا لهان عليه ترك دينهم بل لما استطاع البقاء عليه. والعاشق قد كان عليه أن يسعى في تقوية إيمانه وتحصيل الإيقان بأنَّ ربَّه عزَّ وجلَّ معه أبدًا، وأن الكرام الكاتبين لا يفارقونه، ودوام استحضار ذلك، ولو قام بهذا لما شقَّ عليه تركُ الزنا؛ فإننا نعلم أنه لو كان حين صادف معشوقته يرى أن إنسانًا ينظر إليهما ويخاف أن يحقره ويمقته ويُفْشِيَ سرَّه ويسيء سمعته لمنعه ذلك من مقاربتها، بل لو قيل لَما استطاع أن يقع بها لم يَبْعُد. ومُدْمِن الخمر لو قَوِيَ إيمانه لصحَّ عزمُه على تركها، وإذًا لهان عليه تركُها، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يعتادون شربها فلما حُرِّمَتْ أعرضوا عنها البتَّة، وهكذا عامَّة مَنْ أسلم بعد تحريمها. وإنما يشقُّ تركها على مَنْ لم يصحَّ عزمه فتبقى نفسه تنازعه إليها، وعن ذلك يكون تضرُّره في بدنه إن صدق الأطباء، فأما مَنْ صَحَّ عزمه فبإذن الله تعالى لا ينالُه إلا كلُّ خيرٍ. هذا، والمشقَّة في تلك الأمثلة ونحوها وإن لم يعتدَّ بها الشارع في رفع التكليف فقد اعتدّ بها إلى حدٍّ ما من جهة أخرى، أما من نشأ على كفر آبائه فخَفَّفَ عنه بقبول العهد والذمَّة والأمان ولم يشدِّدْ عليه كما شدَّد على مَن
(2/195)
كان آباؤه مسلمين ونشأ هو على الكفر؛ فإن هذا مرتد لا يُقْبَل منه إلا الإسلام، وهكذا يكون التخفيف في الآخرة، فعذاب المرتدِّ أشدُّ من عذاب الكافر الأصليِّ، والله أعلم. وأما العاشق الذي صادف صاحبته في خلوة فلعلَّ الله عزَّ وجلَّ أن يلطف به فيحجزه عنها أو يستره ويتوب عليه أو يخفِّف عنه من العذاب. ونحو هذا يقال في مدمن الخمر، وفي قصَّة النعيمان (1) ما يشهد لذلك. والله أعلم. الأمر الرابع: أن الذي جرى عليه العمل في عهد الصحابة والتابعين هو التوسعة على العامَّة في عِلْم الدين، فيُكْتَفَى للعامِّيِّ بأن يعمل ما يرى عليه المسلمين، فإن عرضت له قضيَّة سأل مَن يتفق له ممن يُعْرَف بالعلم، ولما نشأت البدع كان العلماء يُنَفِّرُون العامَّة عن المبتدع لئلَّا يعتمدوا عليه، وربما كان يشتهر العالِمُ في جهة فتميل عامَّة تلك الجهة إلى الاعتماد عليه دون مَنْ يخالفه ما لم يظهر لهم خطؤه. والعامَّة في القرون المتأخِّرة لم يزالوا في الظاهر على تلك الطريق، وإنما الفرق أن الذين كانوا يشتهرون في عهد السلف بأنهم علماء هم علماء حقًّا، والذي كان يُنَفِّر عنه العلماء بأنه مبتدع ضالٌّ كان مبتدعًا ضالًّا حقيقة، والحال في العصور المتأخرة على خلاف ذلك، فإن الذين يشتهرون فيها بأنهم علماء عامَّتُهم مقلِّدون لمذاهبهم، وكلُّ مذهب منها قد ضُمَّ إليه _________ (1) هو النعيمان بن عمرٍو بن رفاعة بن الحارث الأنصاري، شهد بدرًا، واشتهر بالمزاح، ووُصِف بشرب الخمر، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقيم عليه الحدَّ، فلعنه رجل، فمنع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من لعنه. الإصابة في تمييز الصحابة 11/ 112 - 117.
(2/196)
أضعافٌ مضاعفةٌ. مثال ذلك: مذهب الإمام الشافعيِّ رحمه الله تعالى، كان له أصحابٌ جمعوا كلامه وقاسوا على أقواله وفَرَّعُوا وضمُّوا جميع ذلك إلى المذهب، ثم جاءت طبقةٌ بعدهم جمعوا كلام مَنْ تَقَدَّمَهُم وقاسوا عليه وفَرَّعوا وضمُّوا جميع ذلك إلى المذهب، وهكذا طبقةً فطبقةً. ولما ظهر كلام الأشعريِّ في العقائد مال إليه بعضُ فقهائهم وأنكره بعضهم، ثم غلب عليهم فصار عامَّةُ الشافعيَّة أشاعرةً، وصار عند المتأخِّرين كأنه جزءٌ من المذهب، حتى إنه كان يستغرب في القرن الخامس والسادس فضلًا عما بعدهما أن يُقال: إن فلان (1) فقيهٌ شافعيٌّ ولكنه ليس بأشعريِّ، ويرى طلبة العلم والعامَّة أن هذا قريبٌ من المحال لتوهُّمِهِم أن رأيَ الأشعريِّ قطعةٌ من مذهب الشافعيِّ، فكيف يكون الرجلُ شافعيًّا وليس بأشعريٍّ؟ ! (2). /وكانت تظهر المقالة والرأي فيتكلَّم فيها بعض فقهاء المذهب غير مستندٍ إلى المذهب بل متأثِّرًا بآثارٍ خارجيَّةٍ، وقد يحاول هو إلصاقها بالمذهب أو يحاول مَنْ بعده ذلك فلا تلبث أن تَلْصَقَ بالمذهب ثم تصبح أصلًا يُقاس عليه. وربما ظهرت البدعة فقصَّرت طبقةٌ في إنكارها، فشارك فيها بعضُ الطبقة التي تليها فَضَمَّتْها الثالثة إلى المذهب ثم تصبح أصلًا يقاس عليه. على أنه في القرون المتأخرة صار كثير من المحدثات متفقًا عليه بين _________ (1) كذا في الأصل. (2) هنا انتهى ما كان مسمًّى (رسالة في العقيدة)، وقد وجدت صفحةً غير مرقَّمةٍ ملحقةً بآخر الرسالة المسمّاة (أصول ينبغي تقديمها)، وهذا هو الموضع المناسب لها.
(2/197)
فقهاء المذاهب, فصار المعروف بين الناس أنها مذهب أهل السنة. وقضيَّة ذلك أنها مما أجمع عليه سلف الأمة، على أنها إذا ألصقت بمذاهب أهل السنة فبقية المذاهب أولى بها، بل إن غالب المحدثات إنما هو من نتائج بعض مذاهب أهل البدع، أو مما لَصِقَ بها من ضلالات الديانات الباطلة كاليهودية والنصرانية والمجوسية وغيرها، وإنما سرى إلى أن أُلْصِقَ بمذاهب أهل السنة فأصبح بحيث يُظَنُّ إجماعًا، ومَنْ وُجِدَ مِنْ علماء الحقِّ في هذه القرون المتأخِّرة رُمِي بالابتداع ومخالفة الإجماع. فالعامَّة في هذه القرون شبيهون بالعامة في القرون الأولى في اتِّباعهم مَنْ يرونهم علماء السنة ونفورهم عمن يرونه مبتدعًا. (1) واعلم أن كثيرًا من الناس يستندون في هذه الأمور ــ أعني معرفة معنى (لا إله إلا الله) وما يتفرَّع عنه من الاعتقاد في بعض الأعمال أنها شركٌ أو ليست بشركٍ ــ إلى أمورٍ لا يُعتَدُّ بها شرعًا؛ فأرى أن أنبِّه عليها. _________ (1) هنا رجعنا إلى تكملة ص 27 من نسخة ب.
(2/198)
بابٌ في أمورٍ يُستنَد إليها في بناء الاعتقاد وهي غير صالحةٍ للاستناد فمن تلك الأمور: التقليد، وقد دلَّ الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم أن التقليد في أصول العقائد لا يكفي، ومعرفة معنى (لا إله إلا الله) أصل الأصول. أما دلالة القرآن، فقد تقدَّم أدلَّة اشتراط العلم (1)، وفيها قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، وقوله عزَّ وجلَّ: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]، وما قاله ابن جريرٍ في تفسيرها، وما رواه عن مجاهدٍ وقتادة. والتقليد ليس بعلمٍ؛ لأن العلم عند أهله هو: حكم الذهن [ب 28] الجازم المطابق؛ لموجبٍ، أي لحجَّةٍ قاطعةٍ. قالوا: خرج بقوله: (لموجِبٍ) اعتقاد المقلِّد ونحوه؛ فإنه قد يكون جازمًا ومطابقًا، ولكنه ليس لحجَّةٍ قاطعةٍ. أقول: فالاعتقاد ضربٌ من الظنِّ، وقد ردَّ الله عزَّ وجلَّ على المشركين ما كانوا يعتقدونه، ثم قال: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، في آياتٍ أخرى بهذا المعنى. قال جماعةٌ من أهل العلم: هذه الآيات واردةٌ فيما يُطلَب فيه العلم كالعقائد، فأما فروع الأحكام العمليَّة فقد ثبت بالحجج القطعيَّة وجوب العمل فيها بأنواعٍ من الظنِّ، كالظنِّ _________ (1) انظر: ص 4 - 8.
(2/199)
الحاصل من خبر الواحد بشرطه. وقال بعضهم: الآيات على عمومها، وما قامت الحجَّة القطعيَّة على وجوب العمل به من الأدلَّة الظنِّيَّة كخبر الواحد بشرطه في الأحكام الفرعيَّة فالعمل به اتِّباعٌ لتلك الحجَّة القطعيَّة، وهي مفيدةٌ للعلم، فالعمل به اتِّباعٌ للعلم لا اتِّباعٌ للظنِّ. ألا ترى لو أن النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم شافه بعض أصحابه بقوله: (إذا جاءك رجلٌ تظنُّه ثقة فأخبرك عنِّي بخبرٍ وجب عليك أن تعمل بخبره)، أليس وجوب العمل على ذلك الصحابيِّ بخبر من يظنُّه ثقةً واجبًا عليه قطعًا؟ أوليس إذا عمل به فإنما يستند إلى الأمر الذي تلقَّاه مواجهةً وهو قطعيٌّ معلومٌ له؟ أفلا ترى أنه متَّبعٌ للعلم لا متَّبعٌ للظنِّ؟ تدبَّر. /وأما السنة فقد مرَّ (1) في أدلّة اشتراط العلم قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنَّة»، وقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: « .... فمَن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشِّره بالجنَّة». وفي الصحيحين من حديث هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكرٍ، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في صلاة الكسوف، وفيه: فلما انصرف رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «ما من شيءٍ كنت لم أره إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنَّة والنار، ولقد أُوحِي إليَّ أنكم تفتنون في القبور مثل ــ أو قريبًا من ــ فتنة _________ (1) ص 6.
(2/200)
الدجَّال ــ لا أدري أيَّهما قالت أسماء ــ يُؤتى أحدكم، فيُقال له: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن ــ أو الموقن، لا أدري أيَّ ذلك قالت أسماء ــ فيقول: محمَّدٌ رسول الله، جاءنا بالبيِّنات والهدى، فأجبنا وآمنَّا واتَّبعنا، فيُقال له: نم صالحًا، فقد علمنا إن كنت لموقنًا. [ب 29] وأما المنافق ــ أو المرتاب، لا أدري أيَّتهما قالت أسماء ــ فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته» (1). وقد رُوِي نحو هذا الحديث في سؤال القبر عن أم المؤمنين عائشة، وعن أنسٍ، وعن البراء، وعن أبي سعيدٍ، وعن جابرٍ، وعن أبي هريرة، وعن غيرهم من الصحابة من طرقٍ كثيرةٍ بعضها في الصحيحين. انظر: فتح الباري (2). _________ (1) صحيح البخاريِّ، كتاب الكسوف، باب صلاة الرجال مع النساء في الكسوف، 2/ 37، ح 1053. هذه روايته من طريق مالكٍ عن هشامٍ. ورواه في مواضع أخرى من طرقٍ أخرى. ورواه مسلمٌ من طريق ابن نُمَيرٍ عن هشامٍ. صحيح مسلمٍ، كتاب الصلاة، باب ما عُرِض على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في صلاة الكسوف إلخ، 3/ 32، ح 905. [المؤلف] (2) كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، ... [المؤلف]. والحديث أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، 2/ 98 - 99، ح 1374. ومسلمٌ في كتاب الجنَّة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميِّت من الجنَّة أو النار، 8/ 161 - 162، ح 2870، من حديث أنسٍ. وأخرجه البخاريُّ أيضًا في الموضع السابق، 2/ 98، ح 1369. ومسلمٌ في الموضع السابق، 8/ 162، ح 2871، من حديث البراء ــ وهو في مسند أحمد 4/ 287 - 288 و 4/ 295 - 297. والمستدرك، كتاب الإيمان، مجيء ملك الموت عند قبض الروح ... ، 1/ 37 - 40، مطوَّلًا، وصحَّحه الحاكم على شرط الشيخين، ولم يتعقَّبه الذهبيُّ ــ. وأخرجه البخاريُّ في الموضع السابق، 2/ 98، ح 1373، من حديث أسماء. وأحمد 6/ 139 - 140، من حديث عائشة. و 3/ 3 - 4، من حديث أبي سعيدٍ. و 3/ 331، من حديث جابرٍ. والترمذيُّ في كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، 3/ 374، ح 1071. وابن حِبَّان (الإحسان) في كتاب الجنائز، فصلٌ في أحوال الميِّت في قبره، ذكر الإخبار عن اسم الملكين ... ، 7/ 386، ح 3117، من حديث أبي هريرة، وقال الترمذيُّ: «حديثٌ حسنٌ غريبٌ». وهو معدودٌ في الأحاديث المتواترة. انظر: قطف الأزهار المتناثرة ص 294، ح 109.
(2/201)
وفيه: «ولابن حِبَّان وابن ماجه من حديث أبي هريرة، وأحمد من حديث عائشة: «ويُقال له: على اليقين كنتَ، وعليه متَّ، وعليه تُبعث إن شاء الله»». وفيه أيضًا: (وله ــ أي: لأحمد ــ من حديث أبي سعيدٍ (1): «فإن كان مؤمنًا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّدًا عبده ورسوله»». وفيه عند الكلام على حديث البراء الذي في الصحيحين في هذا المعنى: «وقد رواه زاذان أبو عمر عن البراء مطوَّلًا مبيَّنًا، أخرجه أصحاب السنن، وصحَّحه أبو عوانة وغيره، وفيه من الزيادة ... : «فيقولان له: مَن ربُّك؟ فيقول: ربِّي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعِث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: وما يدريك؟ فيقول: قرأتُ القرآن كتابَ الله فآمنتُ به وصدَّقتُ، فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27]»» (2). وقوله: «وقرأتُ القرآن» إلخ، يريد أنه قرأه فعرف ما فيه من البراهين _________ (1) في الأصل: (عائشة)، والتصويب من فتح الباري. (2) فتح الباري 3/ 151 - 152.
(2/202)
فحصل له اليقين. «وأما المرتاب فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته»، ولا يخفى أيُّ الرجلين المقلِّد؟ وقد دلَّت هذه الأحاديث على توُّقف النجاة على اليقين، واليقين هو العلم القطعيُّ اتِّفاقًا. قال الراغب: «اليقين من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وأخواتها» (1). وبالغ الغزاليُّ في المستصفى فخصَّه، فقال في صفة النفس الموقنة [ب 30]: « ... بل حيث لو حُكي لها عن نبيٍّ من الأنبياء أنه أقام معجزة وادَّعى ما يناقضها، فلا تتوقَّف في تكذيب الناقل، بل تقطع بأنه كاذبٌ أو تقطع بأن القائل ليس بنبيٍّ، وأنَّ ما ظنَّ أنه معجزة فهي مَخْرَقَة (2). وبالجملة/فلا يؤثر هذا في تشكيكها، بل تضحك من قائله وناقله. وإن خطر ببالها إمكان أن يكون الله قد أطلع نبيًّا على سرٍّ به انكشف له نقيضُ اعتقادِها فليس اعتقادها يقينًا، مثاله: قولنا: الثلاثة أقلُّ من الستة، وشخصٌ واحد لا يكون في مكانين، والشيء الواحد لا يكون قديمًا حادثًا موجودًا معدومًا ساكنًا متحرِّكًا في حالة واحدة». ثم قال: «الحالة الثانية: أن تصدِّق بها تصديقًا جازمًا ولا تشعر بنقيضها البتة، ولو أُشعرت بنقيضها تعسَّر إذعانها للإصغاء إليه، ولكنها لو ثبتت وأصغت وحُكي لها نقيض معتقدها عمَّن هو أعلم الناس عندها كنبيٍّ أو صِدِّيق أورث ذلك فيها توقُّفًا، ولْنُسَمِّ هذا الجنس اعتقادًا جزمًا، وهو أكثر اعتقادات عوامِّ المسلمين واليهود والنصارى في معتقداتهم وأديانهم، بل _________ (1) مفردات ألفاظ القرآن 892. (2) ما عُمِل بتمويهٍ وخداعٍ. انظر: تاج العروس، مادَّة (مخرق).
(2/203)
اعتقاد أكثر المتكلمين في نصرة مذاهبهم؛ فإنهم قبلوا المذهب والدليل جميعًا بحسن الظن في الصِّبا، فوقع عليه نشؤهم؛ فإنَّ المستقلَّ بالنظر ــ الذي يستوي ميلُه في نظره إلى الكفر والإسلام ــ عزيزٌ. الحالة الثالثة: أن يكون لها سكونٌ إلى الشيء والتصديق به وهي تشعر بنقيضه، أو لا تشعر ولكن لو أُشعِرت به لم ينفر طبعها عن قبوله، وهذا يُسمَّى ظنًّا، وله درجاتٌ .... » (1). أقول: وفيما قاله نظرٌ؛ فإنَّ الحسَّ والمشاهدة تفيد العلم اليقين، ومع ذلك فقد تشكَّك فيها الحكماء السوفسطائيُّون (2) كما هو معروفٌ، ومن تأمَّل شُبَههم قد يعرض [له] توقُّفٌ ما. وقال تعالى: ... (3) وجلُّ أو كلُّ البراهين على الأصول الدينيَّة مبنيَّةٌ على المحسوسات، ومع ذلك يرد على البناء شبهاتٌ عديدةٌ. ولوصحَّ ما قاله لما وُجِد مؤمنٌ موقنٌ إلَّا أن يكون من الملائكة والنبيِّين، وهذا باطلٌ قطعًا. والحقُّ أن اليقين لا يختصُّ بما ذكره، بل يعمُّ كلَّ اعتقادٍ جازمٍ عن دليلٍ قاطعٍ كالحسِّ والمشاهدة وما ينبني عليهما انبناءً واضحًا، وأنَّ إمكان التشكيك لا يدلُّ على عدم سبق اليقين. وقد قدَّمنا تحت عنوان: (شبهةٌ وجوابها) ما يصحُّ إيراده ها هنا. ونحن نرى كثيرًا من الناس يتعقَّلون البراهين القطعيَّة، ومع ذلك لا يزالون مرتابين لغلبة الهوى والتقليد عليهم. فالحقُّ أنَّ مَن تعقَّل البرهان _________ (1) المستصفى 1/ 43 - 44. [المؤلف] (2) هم أهل السفسطة القائمة على مبدأ الشك في الموجودات. انظر الموسوعة الفلسفية العربية 1/ 480، المعجم الفلسفي 1/ 660. (3) وضعُ النُّقَط من المؤلِّف.
(2/204)
القطعيَّ وأذعن وانقاد ظاهرًا وباطنًا فهو موقنٌ، وأنه إن عرض له بعدُ شكٌّ (1) أو شبهةٌ فإن دفعها فورًا فهو موقنٌ، وما عرض له وسوسةٌ في (2) حكم الشرع. وإن استقرَّت في نفسه وأورثته ريبةً أو جحودًا زال يقينه السابق، وهو العلم الحقيقيُّ. والحقُّ أنه ليس بين اليقين وبين الظنِّ منزلةٌ. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]، [ب 31] إلى قوله جلَّ ثناؤه: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32]. وكأن الغزاليَّ يشير بهذا الاصطلاح إلى تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] بأن المراد الظنُّ الذي ليس بجازمٍ. وهبه تمَّ له هذا، فما يصنع بالآيات والأحاديث الناصَّة على اشتراط العلم واليقين وقد تقدَّمت؟ والحقُّ أنَّ التقليد لا يفيد إلا الظنَّ غير الجازم، وما يظهر من جزم مَن نراه مقلِّدًا لا يخلو عن ثلاثة أحوالٍ: الأولى: ألَّا يكون مقلِّدًا في الواقع، بل قد يعقل برهانًا قطعيًّا، وهذا حال عوامِّ المسلمين غالبًا في إيمانهم بالله ورسوله. الثانية: أن يكون قد قام عنده ما توهَّمه برهانًا قاطعًا؛ إما على العقيدة نفسها، وإما على عصمة إمامه، وقد يجتمع الأمران كما وقع لبعض مقلِّدي _________ (1) غير واضحة في الصورة. (2) الحرف غير واضح في الصورة.
(2/205)
أرسطو من المتفلسفة. الثالثة: أن يكون غلب عليه الهوى والعصبيَّة. وقد تقدَّم الكلام في الهوى، ويأتي له مزيدٌ إن شاء الله تعالى (1). وقال الآمديُّ: «اختلفوا في جواز التقليد في المسائل الأصوليَّة المتعلِّقة بالاعتقاد في وجود الله تعالى، وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه، وما يجب له وما يستحيل عليه. فذهب عُبَيد الله بن الحسن العنبريُّ والحشويَّة والتعليميَّة (2) إلى جوازه .... وذهب الباقون إلى المنع، وهو المختار؛ لوجوهٍ: الأول: أن النظر واجبٌ .... ، ودليل وجوبه أنه لما نزل قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 190]، الآية، قال عليه السلام: «ويل لمن لاكها بين لَحْيَيه ولم يتفكَّر فيها»». أقول: أخرجه جماعةٌ، منهم ابن حِبَّان في صحيحه (3). قال (4): «توعَّد على ترك النظر والتفكُّر فيها، فدلَّ على وجوبه». _________ (1) انظر: ص 24 فما بعدها، والأصل الثاني في باب أصول ينبغي تقديمها، وص 911 فما بعدها. (2) من ألقاب الباطنيَّة الذين يزعمون أنهم أصحاب التعليم والمخصوصون بالاقتباس من الإمام المعصوم، وبهذا الاسم اشتهروا في خراسان قديمًا وبالملحدة، كما كانوا يُسمَّون بالعراق: الباطنيَّة والقرامطة والمزدكيَّة. انظر: فضائح الباطنيَّة 17، الملل والنحل 1/ 190. (3) انظر: صحيح ابن حبان (الإحسان)، كتاب الرقائق، باب التوبة، 2/ 386، ح 620. (4) يعني: الآمدي.
(2/206)
الثاني: الإجماع من السلف منعقد على وجوب معرفة الله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز، فالتقليد إما أن يقال: إنه محصِّل للمعرفة أو غير محصِّل لها. القول بأنه محصل للمعرفة ممتنع لوجوهٍ: الأول: أن المفتي بذلك غير معصوم، ومَنْ لا يكون معصومًا لا يكون خبره واجب الصدق، فخبره لا يفيد العلم. الثاني: أنه لو كان التقليد يفيد العلم لكان العلم حاصلًا لمن قلَّد في حدوث العالَم ولمن قلد في قِدَمه وهو محال لإفضائه إلى الجمع بين كون العالَم حادثًا وقديمًا. الثالث: أنه لو كان التقليد مفيدًا للعلم فالعلم بذلك إمَّا أن يكون ضروريًّا أو نظريًّا، لا جائز أن يكون ضروريًّا وإلا لما خالف فيه أكثر العقلاء، ولأنه لو خُلِّي الإنسان ودواعي نفسه من مبدأ نشئه لم يجد ذلك من نفسه أصلًا، [ب 32] والأصل عدم الدليل المفضي إليه فمن ادّعاه لا بدَّ له من بيانه. الوجه الثالث ــ من الوجوه الأُوَل ــ: أن التقليد مذمومٌ شرعًا، فلا يكون جائزًا، غير أنَّا خالفنا ذلك في وجوب اتِّباع العامِّيِّ للمجتهد فيما ذكرناه (1) من الصور فيما سبق» يعني: فروع الفقه «لقيام الدليل على ذلك، والأصل عدم الدليل الموجب للاتِّباع فيما نحن فيه، فنبقى على مقتضى الأصل. وبيان ذمِّ التقليد قوله تعالى حكايةً عن قومٍ: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]، ذكر ذلك في معرض الذمِّ (2) لهم». _________ (1) في الأصل: ذكره، والتصحيح من نسخة أ. (2) سقطت الكلمة من الأصل، وأضفتها من نسخة أ.
(2/207)
أقول: والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ، ثم ذكر المعارضات وأجاب عنها، إلى أن قال: «قولهم: إن التقليد عليه الأكثر والسواد الأعظم، قلنا: ذلك لا يدلُّ على أنه أقرب إلى السلامة؛ لأن التقليد في العقائد المضلَّة أكثر من الصحيحة، على ما قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]، وقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]، وقال عليه السلام: «تفترق أمَّتي ثلاثًا وسبعين فرقةً، واحدةٌ ناجيةٌ، والباقي في النار» (1) ... ) (2). أقول: والذي يقع لي: أن القول بالاكتفاء بالتقليد إنما جرى على الألسنة لما لجَّ النزاع بين السلفيِّين والمتكلِّمين، كأنه لما بالغ بعض السلفيِّين فكفَّر مَن يخوض في علم الكلام بالغ بعض المتكلِّمين فزعم أنَّ مَن لا يعرف الكلام فهو مقلِّدٌ؛ ولا إيمان لمقلِّدٍ، فقال بعض السلفيِّين: التقليد كافٍ في الإيمان، يريدون إن كان الاقتصار في النظر على الطريقة التي درج عليها السلف تقليدًا فالتقليد كافٍ في الإيمان، ولم يريدوا أنَّ التقليد الحقيقيَّ يكفي. فأما حكاية الآمديِّ عن العنبريِّ والحشويَّة والتعليميَّة الجواز _________ (1) أخرجه ــ بمعناه ــ أبو داود في كتاب السنَّة، بابٌ في شرح السنَّة، 4/ 197 - 198، ح 4596 - 4597. والحاكم في كتاب العلم، «تفترق هذه الأمَّة على ثلاثٍ وسبعين ملَّةً ... »، 1/ 128، من حديث أبي هريرة ومعاوية رضي الله عنهما. قال الحاكم بعد أن أورد له طرقًا وشواهد: «هذه أسانيد تُقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث». وانظر: السلسلة الصحيحة (204). (2) إحكام الأحكام 4/ 300 - 306. [المؤلف]
(2/208)
فالمشهور عن العنبريِّ أنه كان يرى أنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ سواء في العقائد أو في الفروع. فقيل: إنه إنما كان يقول هذا في المجتهدين من المسلمين ــ أعني في الضرب الثاني من العقائد ــ فيصوِّب مَن يثبت القدر ومَن ينفيه، ومَن يثبت الرؤية ومَن ينفيها، ونحو ذلك، ويقول: «هؤلاء عظَّموا الله، وهؤلاء نزَّهوا الله»، يريد أن المخطئ منهم مصيبٌ، على نحو ما يقوله غيره في المجتهدين في الفروع، وبهذا لا يكون الخلاف فيها اختلافًا في الدين ولا افتراقًا بين المسلمين. وقيل: بل كان يقول بهذا في غير المسلمين أيضًا؛ فيرى أنَّ الكافر إذا بذل مجهوده في البحث والنظر يريد الحقَّ ويحرص عليه فأدَّاه نظره إلى أنَّ الإسلام ليس بحقٍّ فهو معذورٌ، وحُكِي عنه الرجوع عن ذلك. انظر: الاعتصام (1) [ب 33] وانظر ترجمة عُبيد الله في تهذيب التهذيب (2) وغيره. وقد حكوا القول بعذر الكافر إذا بذل مجهوده كما تقدَّم عن الـ (3) أيضًا. قال بعض العلماء: ومال إليه الغزاليُّ في فيصل التفرقة (4). أقول: وهذه مسألةٌ أخرى، والحقُّ فيها أنه لا يوجد إنسانٌ يبذل مجهوده في البحث والنظر مريدًا للحقِّ حريصًا عليه مخلصًا في قصده ثم يظهر له أنَّ _________ (1) 1/ 189 - 190. [المؤلف]. وانظر ط دار ابن الجوزي 1/ 257. (2) 7/ 8. وفيه «ونقل محمد بن إسماعيل الأزدي في ثقاته أنه رجع عن المسألة التي ذُكرت عنه لما تبيّن له الصواب». (3) بيَّض له المؤلِّف، ولعله الجاحظ كما مرَّ في ص 171 مقرونًا بالعنبري. (4) ص 87.
(2/209)
الإسلام ليس بحقٍّ؛ لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا} [العنكبوت: 69]، فهذا الإنسان مجاهدٌ في الحقِّ محسنٌ فكيف لا يهديه الله تعالى؟ (1). فإن فُرِضت المسألة فرضًا، فإن (2) قال قائلٌ: إنه لو وُجِد إنسانٌ بهذه الصفة لكان حكمه في الشرع حكمَ غيره من الكفَّار، وأمَّا في الآخرة فيكون في الذين يُمتحَنون فتُرفَع لهم نار، إلى آخر ما جاء في الأحاديث. فليس هذا القول بخروجٍ عن الإسلام، ولكن مثل هذا مما تواصى العلماء بالسكوت عنه لما قد يترتَّب على إظهاره من المفاسد. وبالجملة فذلك النقل عن العنبريِّ ليس بنصٍّ في جواز التقليد في أصول الدين، مع أنه قد نُقِل عنه الرجوع عن مقالته. _________ (1) قال المؤلِّف في ص 908 - 909: «وأما اليهود والنصارى والمشركون فهم في سُبل أخرى ليست من سُبُل الله تعالى؛ لأنها لا ترجع إلى سبيله الأعظم وصراطه المستقيم، فمَن جاهد منهم في الله فلا بدَّ أن يهديه الله إلى سبيله الذي يرضاه وهو الإسلام، كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}». وانظر كلام المؤلِّف في السياق نفسه (ص 913) إلى أن قال: «ومن هنا يُعْلَم أنَّ قوله تعالى: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} لا يقتصر معنى الهداية فيه على تيسير البرهان القاطع، بل يحصل بذلك وبتيسير الدليل الذي يتبين به للناظر أن اتِّباع الإسلام أحوط له، ولكنه إذا عمل بالأحوط ودخل في الإسلام يسَّر الله تعالى له بعد ذلك ما يُثْلِج صدرَه إن شاء الله تعالى، كما مرّ في تفسير قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}». (2) كذا في الأصل، ولعلَّه: بأن.
(2/210)
وأما الحشويَّة فإن أراد بهم أهل الحديث المتَّبعين للسلف فقد سبق الجواب عنهم، وأنهم إنما ينكرون النظر على الطريق الفلسفيَّة ويوجبون النظر على الطريق السلفيَّة. وأما التعليميَّة (1) فهم عند عامَّة المسلمين مبتدعةٌ، ومن المسلمين مَن يكفِّرهم. والمعروف عنهم أنهم إنما يرون الاتِّباع للإمام؛ لأنه عندهم معصومٌ، فاتِّباعه في زعمهم ليس بتقليدٍ بالمعنى المتعارَف. وبالجملة فالأصول الضروريَّة من العقائد التي لا يكون المؤمن مؤمنًا إلا بها لا نعلم أحدًا يقول: يكفي فيها التقليد الحقيقيُّ، والله أعلم (2). واعلم أنه لا فرق في التقليد بين أن يكون لعالم واحد وأن يكون لجماعة من العلماء / (3) وإن اشتهر أنهم أهل السنة وأن مخالفهم من أهل البدعة. أولًا: لأن اشتهار أن هذا قول أهل السنة جميعهم قد يكون غير صحيح، ويكون جماعة من أئمة السنة على خلافه. بل قد يكون القول الذي زعموا لك أنه قول أهل السنة إنما هو قول طائفة من المتأخرين، ويكون قول سلف هذه الأمة الذين هم أهل السنة في الحقيقة (4) على خلافه، وسيأتي قريبًا قول ابن مسعود وحذيفة وغيرهما: إنها ستنتشر البدع ويألفها الناس حتى إذا تُرِكَ منها شيء قالوا: قد تُرِكَت السنة، وأن ذلك في حكم المرفوع، على أنها _________ (1) من ألقاب الباطنية، وسبق التعريف بهم قريبًا. وقد كفَّرهم الغزالي وغيره. راجع: الإسماعيلية لإحسان إلهي ظهير، وفضائح الباطنية للغزالي. وانظر: مجموع الفتاوى 19/ 186 - 187. (2) هنا ينتهي ما أخذناه من النسخة ب. (3) من هنا يبدأ ملحق ص: 43، وهو سبع ورقاتٍ. (4) ولا يخرج الحق عما يجتمعون عليه. انظر منهاج السنة النبوية 5/ 166.
(2/211)
ستأتي أحاديث كثيرة تفيد هذا المعنى. ثانيًا: أن قول أهل السنة وحدهم ليس بإجماع، فلا يكون حجة كما هو مقرَّر في أصول الفقه، قال الإمام الغزالي: «المبتدع إذا خالف لم ينعقد الإجماع دونه، إذا لم يكفر، بل هو كمجتهد فاسق، وخلاف المجتهد الفاسق معتبر ... والمبتدع ثقة يقبل قوله؛ فإنه ليس يدري أنه فاسق ... » (1). وإذا لم يكن حجة مطلقًا فكيف يكون حجة في العقائد التي لا يصح بناؤها إلا على الحجج القطعية المفيدة لليقين؟ ثالثًا: أن أهل السنة إنما حصل لهم الشرف باتباع الكتاب والسنة، فإنما يكون تقليدهم فيما يجوز فيه التقليد أولى لأن الظاهر أن قولهم موافق للكتاب والسنة، فإذا فُرِضَ أنه تبيَّن بالبحث والتحقيق أنهم قالوا في مسألة خلاف ما يدل عليه الكتاب والسنة فلا قيمة لقولهم فيها. وإنما ننبِّهك على هذا؛ لأنَّ مِنْ طَبْع الإنسان أنه إذا عرف في طائفة أنهم على الحق في كثير من المسائل، وعرف في طائفة أخرى أنهم على باطل في كثير من المسائل، ثم ذكرت له مسألة اختلفت الطائفتان فيها، فإنه يتسرَّع إلى الحكم بأن الحقَّ فيها مع الطائفة الأولى، ولو لم يعرف لهم حجَّة، بل قد تُتْلى عليه الحجج الموافقة للطائفة الثانية، وتكون قويَّة ولا يعرف حجَّة للطائفة الأولى، ولكنه لا يستطيع دفع ذلك الوهم عنه، وهذا من أشنع الغلط. وفي الحديث: «الكلمة الحكمة ضالَّة المؤمن، حيثما وجدها فهو أحقُّ _________ (1) المستصفى 1/ 183. [المؤلف]
(2/212)
بها»، أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعًا (1). وأخرج الديلمي وابن عساكر نحوه من حديث علي عليه السلام كما «في المقاصد الحسنة» للسخاوي. أقول: ومعناه صحيح يشهد له الكتاب والسنة. ومما يشهد له من السنة حديث أحمد وغيره في اليهوديّ الذي جاء إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: إنكم تشركون وتندِّدون، تقولون ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فنهى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أصحابه عن ذلك (2)، وسيأتي هذا الحديث وما في معناه إن شاء الله تعالى. وحديث الحكمة يُشير إلى أمور: منها: أن الحق كثيرًا ما يوجد عند مَنْ ليس من أهله فضلًا عمن أسيئت سمعته، ولهذا قال: «فهو أحق بها» يريد: فهو أحق بها ممن وجدها عنده، وذلك صريح في أنه وجدها عند من ليس من أهلها. بل قوله: «ضالة المؤمن» إلخ صريح في أنه قد توجد الحكمة عند كافر. ولهذا يكون المؤمن أحق بها ممن وجدها عنده؛ إذ لو وجدها عند مؤمن لكان كلٌّ منهما حقيقًا بها، وإذا أمكن وجودها عند كافر فإمكان وجودها عند مبتدعٍ أو فاسقٍ أولى. _________ (1) جامع الترمذيّ، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، 2/ 115، ح 2687. سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الحكمة، 2/ 281، ح 4169. قال الترمذيّ: «هذا حديثٌ غريبٌ لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن الفضل المدني المخزومي يُضَعَّفُ في الحديث من قِبَل حفظه». اهـ. [المؤلف] (2) انظر: المسند 6/ 371 - 372، سنن النسائيّ، كتاب الأيمان والنذور، الحلف بالكعبة، 7/ 7. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في صحيح سنن النسائيّ، برقم 3773.
(2/213)
ومنها: أنه قد لا يوجد الحق في بعض المسائل عند من اشتهر بالحق؛ لأن من شأن الضالة أنها تقع في محلٍّ غير مناسب لها فلا توجد إلا فيه، ولا توجد في المحلِّ المناسب لها، فمن اقتصر على طلبها في المواضع المناسبة لها لم يظفر بها. ومنها: أنه لا ينبغي للمؤمن أن يستنكف عن طلب الحق عند من اشتهر بخلاف الحق ولا عن قبوله منه، فإن من ضلّ خاتمه مثلًا فوجده في كُنَاسَة أو بيد مشرك أو مبتدع أو من يلابس القاذورات مثلًا لم يمنعه ذلك من أخذه، ولو امتنع لعُدَّ أحمق. ومنها: أنه ينبغي للمؤمن أن يتعرَّف الحق من حيث هو حق، ولا يلتفت إلى حال من قاله، حتى لو اختلف عليه وليٌّ وفاجر أو إمام وجاهل لم يحمله ذلك على تلقّي كلام الوليِّ أو العالم بالقبول بدون تحقُّق أنه الحق، كما أن من ضلّ خاتمه مثلًا فلقيه وليٌّ وفاجر أو إمام وجاهل بيد كلٍّ منهما خاتم يقول له: أرى أن هذا خاتمك لم يلتفت إلى جلالة الوليّ أو الإمام ودناءة الفاجر أو الجاهل، بل يتأمَّل الخاتمين فأيُّهما عرف أنه خاتمه أَخَذَه، وإن كان هو الذي بيد الفاجر أو الجاهل. ومنها: أن ترك الأخذ بقول وليٍّ أو إمام لا يكون تحقيرًا له ولا استخفافًا بحقه؛ فإن من عرف أن خاتمه هو الذي بيد الفاجر أو الجاهل، فأخذه وترك الذي بيد الوليِّ أو الإمام لم يُعَدَّ مُهينًا لهذين ولا مُسيئًا إليهما كما أنه لا يُعَدُّ معظِّمًا مبجلًا لذلك الفاجر أو الجاهل، وإن كان عليه شكره. ومن أمعن في تدبُّر الحديث ظهر له أكثر مما ذكرنا.
(2/214)
ومما يحسن ذكره هنا قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]. تقول العرب: جَرَمَه بُغْضِي أن يظلمني أو على أن يظلمني أي: جعله بغضي يكسب ظلمي الذي هو جُرْمٌ، أي: ذنب. ومن العدوان وترك العدل أن تردَّ قول العالم بدون حجة، ولكن لأنك تسيء الظنّ به أو لأن كثيرًا من الناس أو أكثرهم يخالفونه ويدَّعون عليه أنه يخالف الحقَّ في بعض المسائل. وكما أن هذا عدوان على ذلك العالم، فهو عدوان على الحق أيضًا؛ لأن عليك أن تطلبه بالحجة والبرهان، فَتَرَكْتَ ذلك، وعدوانٌ على نفسك أيضًا؛ لأنك ظالم لها. والحاصل: أن طالب الحق إذا اختلف عليه العلماء كان عليه أن ينصب نفسه منصب القاضي فيسمع قولَ كلِّ واحد منهم وحجته، ثم يقضي بالقسط، فكما أن القاضي إذا اختصم إليه وليٌّ وفاجر أو مؤمن وكافر ليس له أن يقضي للوليِّ أو المؤمن بدون حجة، ولا أن يسمع منه ويُعْرِضَ عن خصمه، ولا أن يمتنع عن الحكم للفاجر أو الكافر إذا توجَّه له الحق، فكذلك طالب الحق في المسائل المختلف فيها. ولعلك قد بلغك ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في أيام خلافته أنه رافع يهوديًا إلى القاضي شريح وبيد اليهودي درعٌ،
(2/215)
فادَّعى أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام: «إنها درعي»، فأنكر اليهودي، ولم يكن لأمير المؤمنين بينة، فقضى القاضي لليهودي، فلما رأى اليهوديّ ذلك أسلم واعترف بأن الدرع درع أمير المؤمنين، فلما رأى أمير المؤمنين إسلامه واعترافه وهب له الدِّرْعَ. والقصة ثابتة في كتب الحديث والتاريخ (1). وبعض الناس يتوهَّم أنَّ مثل هذا الحكم إنما هو من باب طرد القواعد، وإلَّا فلا ريب في صحة قول أمير المؤمنين وبطلان قول اليهوديّ. وفيه أنه يجوز خلاف ذلك لجواز أن يكون أمير المؤمنين وَهَبَها أو باعها ثم نسي أو اشتبهت عليه درع بدرع أو نحو ذلك، فتدبَّرْ. والله أعلم. واعلم أن أكثر العلماء المنتسبين إلى المذاهب لم ينصبوا أنفسهم منصب القضاة، وإنما نصبوا أنفسهم منصب المحامين، كلٌّ عن المذهب المنتسِب إليه (2). فعلى طالب الحق أن ينزلهم منازلهم فلا يعدّهم قضاة يُقْبل قولهم في تأييد المذهب المنتسبين إليه وتخطئة غيره، بل عليه أن يعرف أنهم محامون عن مذاهبهم، فلا يسمع من أحد منهم إلا كما يسمع القاضي من المحامي. ورُوِّينا من حديث عليٍّ بن أبي طالبٍ عليه السلام أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال له: «إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر؛ فسوف تدري كيف تقضي». قال عليٌّ: «فما زلت قاضيًا _________ (1) انظر: سنن البيهقيّ، كتاب آداب القاضي، باب إنصاف الخصمين ... 10/ 136. [المؤلف] (2) كذا في الأصل، والجادَّة إظهار الفاعل، فيُقال: المنتسِب هو إليه.
(2/216)
بَعْدُ». رواه أحمد، والترمذيّ وحسَّنه، وأبو داود، وقوَّاه ابن المدينيّ، وصحَّحه ابن حِبَّان (1). وله شاهدٌ عند الحاكم من حديث ابن عبَّاسٍ (2). كذا في بلوغ المرام (3). واشتهر من قول أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام: «لا تنظر إلى مَنْ قال وانظر إلى ما قال» (4)، وسيأتي كثيرٌ مما يؤيِّد هذا المعنى. وقال الإمام الغزالي: «الغلطة الثالثة: سببها سَبْقُ الوهم إلى العكس، فإنَّ ما يُرَى مقرونًا بالشيء يُظَنُّ أنَّ الشيء أيضًا لا محالة مقرون به مطلقًا، ولا يُدْرَى أنَّ الأخصَّ أبدًا مقرون بالأعمِّ، والأعمُّ لا يلزم أن يكون مقرونًا بالأخص. ومثله نُفْرَة نفس السَّلِيم وهو الذي نهشته الحيَّة عن الحبل _________ (1) انظر: المسند 1/ 90. وسنن أبي داود، كتاب الأقضية، بابٌ كيف القضاء، 3/ 301، ح 3582. وجامع الترمذيّ، كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي لا يقضي بين الخصمين حتى يسمع كلامهما، 3/ 609، ح 1331، وقال: «هذا حديث حسنٌ». وصحيح ابن حبَّان (الإحسان)، كتاب القضاء، ذكر أدب القاضي عند إمضائه الحكم ... ، 11/ 451، ح 5065. وأعلَّه ابن حزم وغيره بسماك بن حرب. انظر: المحلى 8/ 436، والبدر المنير 9/ 533، وإرواء الغليل 8/ 226. (2) انظر: المستدرك، كتاب الأحكام، استماع بيان الخصمين واجبٌ على القاضي، 4/ 93، من حديث عليٍّ رضي الله عنه، وقال: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه»، ولم يتعقَّبه الذهبيّ. أما حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما فقد رواه في أوَّل كتاب الأحكام 4/ 88، وقال: «صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه»، ولم يتعقَّبه الذهبيّ، لكن ليس فيه ذكر الاستماع إلى الخصمين. (3) كتاب القضاء، 2/ 188، ح 1388. (4) انظر: المصنوع في معرفة الحديث الموضوع ص 206، ح 397، وكشف الخفاء 2/ 362.
(2/217)
المبرقَش اللَّون؛ لأنه وجد الأذى مقرونًا بهذه الصورة، فتوهم أنَّ هذه الصورة مقرونة بالأذى. وكذلك تنفر النفس عن العسل، إذا شُبِّه بالعَذِرة؛ لأنه وجد الأذى والاستقذار مقرونًا بالرَّطْب الأصفر، فتوهَّم أنَّ الرَّطْبَ الأصفر مقرون به الاستقذار، ويغلب الوهم حتى يتعذَّر الأكل وإن حكم العقل بكذب الوهم، لكن خُلِقَتْ قُوَى النفس مطيعة للأوهام وإن كانت كاذبة، حتى إنَّ الطبع لينفر عن حسناء سمِّيت اسم اليهود إذا وجد الاسم مقرونًا بالقبح، فظنَّ أنَّ القبح أيضًا ملازم للاسم. ولذا تُوْرَد على بعض العوامِّ مسألة عقلية جليلة فيقبلها، فإذا قلت: هذا مذهب الأشعري أو الحنبلي أو المعتزلي نفر عنه إن كان يسيء الاعتقاد فيمن نَسَبْتَه إليه، وليس هذا طبعَ العامِّيِّ خاصَّة، بل طبعُ أكثر العقلاء المُتَّسمين بالعلوم، إلا العلماء الراسخين الذين أراهم الله تعالى الحقَّ حقًّا، وقوَّاهم على اتِّباعه .... » (1). أقول: ومما يوضح ما قاله الغزالي أنك قد ترى من يشبه صديقًا لك فتميل إليه نفسك، مع أنك لم تره قبل ذلك، وترى من يشبه بغيضًا لك، فتنفر نفسك عنه، وترى من يشبه مخوفًا لك فتخافه، وقس على هذا. حتى إن الإنسان ليميل إلى سَمِيِّ صديقه، وينفر عن سميِّ بغيضه، ونحو ذلك، وقد يكون عهدك بصديقك أو بغيضك أو مخوفك بعيدًا، أو تكون مشابهة هذا له غير واضحة، فيخفى عنك السبب، فتبقى متعجبًا ما بال نفسي مالت إلى هذا الشخص مع أني لم أره قبل الآن. وما لها نفرت عن هذا مع أني لم أره قبل الآن، وأكثر الناس يوجِّهون ذلك بتعارف الأرواح أو تناكرها، وهذا وإن كان صحيحًا في الجملة إلَّا أنَّ الغالب ما تقدّم، وأنت إذا تذكّرت وتفكَّرْت _________ (1) المستصفى 1/ 59. [المؤلف]
(2/218)
عرفت صحَّة ما ذكرنا. وهذا الباب واسع حتى لقد ترى الشخص فتظنُّه عالمًا، وما ذلك إلا لمشابهةٍ بينه وبين رجلٍ عالمٍ قد عرفته قبل ذلك. فأمَّا ما ذكره الغزاليُّ أنَّ الإنسان قد تُذْكَر له مسألة عقلية جليلة فيقبلها، فإذا قيل له: هذا قول الأشعرية وكان يسيء الظن بهم نفر عنها، فقد يكون لما ذكر بأن يكون هذا الإنسان طالب علم، وقد عرف مسائل أخطأ فيها الأشعرية، فلما نُسِبَتْ هذه المسألة إليهم نفرت نفسه عنها لمشابهتها لتلك المسائل في أنَّ الجميع من قول الأشعرية، فتوهَّم أنَّ المشابهة في هذا الأمر تشعربالمشابهة في الخطأ، وقَوِيَ هذا المعنى في وهمه حتى غلب ما قام لديه من دليلٍ على صحَّة قولهم في تلك المسألة. وقد يكون طالع مذهب الأشاعرة فظهر له أنَّ الغالب فيما يخالفون فيه المعتزلة الخطأ، فاجتمع عنده القياس الوهميُّ السابق مع الحمل على الغالب. وقد يكون سمع كثيرًا ممن يحسن الظن بهم يذمّون الأشعرية، وقد يكون وجد آباءه وأشياخه على الاعتزال ونشأ عليه، فصار يكره أن يُنْسَب الغلط إلى مذهبه ومذهب آبائه وأشياخه. وهذا هو التعصب، وهو أوْخَم هذه الأمور، فلقد بلغ بكثير من الناس إلى ما يظهر منه اعتقاد العصمة في فرد من أفراد الأمة؛ فإنك تجد كثيرًا من المقلدين للشافعيِّ مثلًا لا يجوِّزون الخطأ عليه. فإن قيل: إنهم لا يصرِّحون باعتقاد العصمة. قلت: نعم، ولكن ألا تراهم كلما عُرِضَ عليهم قولٌ من أقوال الشافعي اعتقدوا أنه الحق، ولا يتردَّدون فيه، ولو خالف القرآن أو خالف الأحاديث الصحيحة أو خالف أكابر الصحابة أو خالف جمهور الأمة؟ فلولا أنهم يعتقدون له العصمة لكانوا إذا بُيِّنَتْ لهم الحجة على خلافه خضعوا لها.
(2/219)
ولقد كثر اعتقاد العصمة في كثير من أفراد الأمة فضلًا عن الطوائف كالأشعرية والمعتزلة ونحوها، ومع هذا فلا نقول فيمن لم يصرِّح باعتقاد العصمة إنه يعتقدها، وإنما وقعوا فيما وقعوا فيه بالتعصب ومحبة النفس، فإنَّ أحدهم يحب نفسه حتى لا تطاوعه نفسه إلى الاعتراف بأنَّ آباءه أو مشايخه أو أهل مذهبه أخطؤوا، فلذلك تجده لا يميل إلى الاعتراف بأن إمامه أخطأ، وإن قامت الحجة عليه، بل يذهب يحرِّف الحجج ويؤوِّلها. وليس هذا بالتقليد الذي أجازه العلماء في الفروع وأنكره بعضهم، وإنما التقليد المجوَّز أن تأخذ بقول مجتهد لا تعلم حجَّته، ولكن قد قام عندك دليل يفيد الظن بأنَّ قوله صواب، فإذا أُخْبِرْتَ بدليل أقوى من الدليل الأول يدلُّ على أنَّ ذلك المجتهد أخطأ، وأنَّ الصواب قول مجتهد آخر، لزمك أن ترجع إلى قول الآخر، فإن منعك التعصُّب فعليك أن تكتفي بقول: «لعلّ لإمامي جوابًا عن هذا الدليل». واعلم أنَّ هذا لا أراه ينجيك؛ لما تقرَّر في الأصول من وجوب اعتقاد أنَّ الدليل الظاهر على ظاهره، والعمل بمقتضى ذلك حتى يتمَّ البحث، فإن ظهر بالبحث أنَّ هناك دليلًا آخر يوجب تخصيص الأول أو تأويله عُمِلَ به من حين ظهوره. ذَكَرَ أهلُ الأصول هذه المسألة في بحث الأمر وبحث العامِّ (1). ولا فرق بين المقلِّد وغيره؛ لأنَّ قول إمامه وإن كان شبه قرينة على أن لذلك الدليل مخالفًا، فهذه القرينة معارَضَةٌ بقول مَنْ قال من المجتهدين بظاهر ذلك الدليل، والتفاوت بين المجتهدين يسير لا يقاوِم الدليلَ الظاهرَ _________ (1) انظر: قواطع الأدلَّة للسمعانيّ 1/ 308، وتشنيف المسامع للزركشيّ 2/ 599 و 728.
(2/220)
من الكتاب والسنة. والمقصود أنَّ قولك: «لعلَّ لإمامي جوابًا عن هذا الدليل» لا ينجيك، ولكنه أهون من أن تَعْمِد إلى الأدلَّة المخالفة لمذهبك فتحرِّفها وتؤوِّلها وتبدلها، والعياذ بالله. هذا مع أن التقليد المجوَّز إنما هو في فروع الفقه، فأمَّا أصول الدين فلا يغني فيها التقليد المحض (1). /ولو جاز التقليد في أصول الدين، لكان سلف الأمة أولى بأن يقلِّدهم الناس، فإنَّ لهم مزايا يعزُّ وجودها فيمن بعدهم. منها: قربهم من عهد النبوَّة. ومنها: بعدهم عن التقليد لغير المعصوم. فكان الصحابة رضي الله عنهم لما علموا أن أمور الدنيا ربما يرى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رأيًا يكون غيرُه أولى منه لا يمنعهم علمهم بعظيم قدره صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وتفانيهم في محبته وتوقيره، عن الإشارة عليه بخلاف رأيه. وهذا كثير في الأحاديث، وثبت في حديث جابر في شأن الجمل الذي اشتراه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم منه، قال جابر: «كنا نراجعه مرَّتين في الأمر إذا أَمَرَنَا به، فإذا أَمَرَنَا الثالثة لم نراجعه» (2). ومن كان له اطِّلاع على الحديث وجد المراجعة ثلاثًا موجودة في أحاديث كثيرة يكفي بعضها في تواتر هذا المعنى. فأمَّا في أمور الدين فكانوا يعلمون عصمته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فيها فلم يكونوا يراجعونه في شيء منها إلَّا نادرًا، حيث يعلمون أنه صلَّى الله _________ (1) هنا انتهى ملحق ص 43. (2) مسند أحمد 3/ 358 - 359. [المؤلف]
(2/221)
عليه وآله وسلَّم استند إلى اجتهاده، كما راجعه عمر رضي الله عنه في الصلاة على ابن أبيٍّ المنافق (1)؛ لأنَّ عمر فَهِم أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إنما استند في ذلك إلى رأيه. ثم كان أصاغرهم يخالفون أكابرهم في أمور الدين مع احترامهم لهم، وهكذا التابعون وأتباعهم والأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المشهورة وغيرهم يخالفون أكابر الصحابة فضلًا عن غيرهم. ولم يكن يخطر ببال العالم منهم أنَّ مخالفته مَنْ تَقَدَّمَه فيها احتقار أو سوء أدب في حقِّه، بل كان أحدهم يعترف بأنَّ مَنْ فوقه أفضلُ وأعلم منه، ولا يمنعه ذلك من مخالفته إذا ترجَّح له خلافُ قوله. ومنها: الإخلاص، فكان أحدهم إذا سئل عما لا يعلمه حقَّ العلم لم يتوقف عن قول: لا أدري، وإذا أخطأ في شيء ثم وُقِفَ عليه لم يتوقَّف عن قوله: أخطأتُ، ولا يتكلَّم في علم لم يتقِنه، بل يقول: لا خبرة [44] لي بهذا العلم، ولا يبالي بأنَّ ذلك قد ينقص مكانته في قلوب الناس ويعظم مكانة غيره من معاصريه ومخالفيه. وحسبك ما كان بين أمير المؤمنين عليٍّ وبين معاوية من النزاع، ولم يمنع ذلك معاوية أن يستفتي أمير المؤمنين عما أشكل عليه من الأحكام، كما في قضية الرجل الذي قتل آخر زاعمًا أنه وجده مع امرأته، وغير ذلك (2). والعلوم كالصنائع، قد يكون الرجل نَجَّارًا ولا يحسن من الصنائع _________ (1) انظر: البخاريّ، كتاب الجنائز، باب ما يُكره من الصلاة على المنافقين ... ، 2/ 97، ح 1366. وصحيح مسلمٍ، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، 8/ 120، ح 2774. [المؤلف] (2) انظر: سنن البيهقيّ، كتاب الحدود، باب الشهود في الزنى، 8/ 231. [المؤلف].
(2/222)
غيرها، ولا يمنعه ذلك أن يقال: إنه صانع ماهر، فهكذا قد يكون الرجل ماهرًا في العربية فقط كسيبويه، ولا يمنعه ذلك أن يقال: إنه عالم علَّامة إمام. وكان أهل القرون الأولى من الورع والمعرفة بحيث إن العالم بفنٍّ لا يتعاطى الكلام في غيره، والعامَّة لا يسألون في كلِّ علمٍ إلَّا من عُرِفَتْ له الإمامةُ فيه. فكان الناس في بغداد في زمن المأمون وما بعده مَنْ أحب أن يسأل عن شيء من الحديث وفقهه سأل الإمام أحمد وأضرابه، ومَنْ أحب أن يسأل عن شيء من الرأي والقياس سأل أصحاب الإمام أبي حنيفة، ومَنْ أحبّ أن يسأل عن شيء من العربية سأل أصحاب الكسائي وأضرابهم، ومَنْ أحبَّ أن يسأل عن شيء من الورع وأمراض القلب سأل أضراب بشر الحافي وأصحابه، ومَنْ أحبَّ أن يسأل عن شي من [45] المغازي والأخبار سأل أصحاب الواقدي وأمثالهم، وقس على ذلك. وقد كان جماعة من أئمة الحديث المضروب بهم المثل إذا سئل أحدهم عن مسألة فقهية يقول للسائل: سَل الفقهاء. ولكن في العصور الوسطى تغيَّر الحال، فكم من عارف بفنٍّ خاصٍّ تعاطى الكلام في غيره، واغترَّت العامة بشهرته فقلَّدوه في جميع العلوم. وبالجملة فمزايا السلف كثيرة، وحسبك قول النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «خير أمتي القرن الذين يلوني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته». والحديث في الصحيحين وغيرهما عن جماعةٍ من الصحابة (1)، وفي _________ (1) منهم: ابن مسعودٍ رضي الله عنه. أخرج حديثه البخاريّ في كتاب الشهادات، بابٌ لا يشهد على جَوْرٍ إذا أُشْهِد، 3/ 171، ح 2652. ومسلمٌ ــ كما سيأتي ــ. ومنهم: عمران بن حُصَينٍ رضي الله عنه. أخرج حديثه البخاريّ في الموضع السابق، 3/ 171، ح 2651. ومسلمٌ في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة، 7/ 185، ح 2535. ومنهم: أبو هريرة رضي الله عنه. أخرج حديثه مسلمٌ في الموضع السابق، 7/ 185، ح 2534.
(2/223)
ألفاظه اختلافٌ، واللفظ الذي ذكرناه لمسلمٍ في صحيحه عن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه (1). وفي مسند أحمد وسنن أبي داود وغيرها عن عرباض بن سارية رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ذات يوم ثم أقبل علينا بوجهه فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مُوَدّع فأوصنا، فقال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًّا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديِّين، تمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة» (2). _________ (1) صحيح مسلمٍ، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة، 7/ 184، ح 2533. [المؤلف] (2) مسند أحمد 4/ 126. سنن أبي داود، كتاب السنَّة، بابٌ في لزوم السنَّة، 2/ 165، ح 4607. سنن ابن ماجه، كتاب السنَّة (المقدِّمة)، باب اتِّباع سنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، 1/ 10 - 11، ح 42 - 44. سنن الدارميّ، (المقدِّمة)، باب اتِّباع السنَّة، 1/ 44، ح 96. جامع الترمذيّ، كتاب العلم، باب الأخذ بالسنَّة واجتناب البدع، 2/ 113، ح 2676، وقال: «حسنٌ صحيحٌ». والحاكم في المستدرك، كتاب العلم، «عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين»، 1/ 94 - 98، من طرقٍ، قال في بعضها: «صحيحٌ ليس له علَّةٌ»، وقال في بعضها: «صحيحٌ على شرطهما جميعًا، ولا أعرف له علَّةً»، وأقرَّه الذهبيّ. وقد صحَّحه ابن حِبَّان أيضًا (الإحسان)، في (المقدَّمة)، باب الاعتصام بالسنَّة ... ، 1/ 178، ح 5. [المؤلف]
(2/224)
[46] وفي سنن أبي داود وسنن الدارمي وغيرهما عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: «يُفتح القرآن على الناس حتى يقرأه المرأة والصبيُّ والرجل، فيقول الرجل: قد قرأتُ القرآن فلم أُتَّبَع، والله لأقومنَّ به فيهم لعلي أُتَّبع، فيقوم به فيهم فلا يُتَّبَع، فيقول: قد قرأتُ القرآن فلم أُتَّبَع، وقد قمت به فيهم فلم أُتَّبَع، لأحتظرنَّ في بيتي مسجدًا لعلي أُتَّبَع، فيحتظر في بيته مسجدًا فلا يُتَّبَع، فيقول: قد قرأتُ القرآن فلم أُتَّبَعْ، وقمتُ به فيهم فلم أُتَّبَع، وقد احتظرتُ في بيتي مسجدًا فلم أُتَّبَع، والله لآتينَّهم بحديث لا يجدونه في كتاب الله ولم يسمعوه عن رسول الله لعلِّي أُتَّبَع، قال معاذ: فإياكم وما جاء به؛ فإنَّ ما جاء به ضلالة» (1). وفي سنن الدارمي أيضًا عن الحسن قال: «سننكم، والله الذي لا إله إلا هو، بينهما: بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى وهم أقل الناس فيما بقي .... » (2). وفيها أيضًا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير إذا تُرِكَ منها شيء [47] قيل: تُرِكَت السنَّة ... » (3). _________ (1) سنن أبي داود، كتاب السنَّة، بابٌ في لزوم السنَّة، 2/ 272، ح 4611. سنن الدارميّ، (المقدِّمة)، باب تغيُّر الزمان وما يحدث فيه، 1/ 66 - 67، ح 205. [المؤلف] (2) سنن الدارميّ، (المقدِّمة)، بابٌ في كراهية أخذ الرأي، 1/ 72، ح 222. [المؤلف] (3) سنن الدارميّ، (المقدِّمة)، باب تغيُّر الزمان وما يحدث فيه، 1/ 64، ح 191. ونحوه في المستدرك، كتاب الفتن والملاحم، ذكر فتنةٍ يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير، 4/ 514 - 515. قال الذهبيّ في تلخيصه: «قلت: (خ م)»، يعني أنه على شرط الشيخين. [المؤلف]
(2/225)
أقول: وهذا الموقوف له حكم المرفوع؛ لأنه مما لا يُقال بالرأي. وفي كتاب ابن وضاح (1) عن حذيفة رضي الله عنه: «أنه أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر ثم قال لأصحابه: هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟ قالوا: يا أبا عبد الله! ما نرى بينهما من النور إلَّا قليلًا، قال: والذي نفسي بيده لتظهرنَّ البدع حتى لا يُرى من الحق إلا قَدْر ما بين هذين الحجرين من النور، والله لتفشُونَّ البدع حتى إذا تُرِكَ منها شيء قالوا: تُرِكت السنة ... ». وهذا الموقوف له حكم المرفوع أيضًا؛ لأنه لا مجال للرأي فيه. ومن أعظم مزايا السلف: ما نبَّه عليه ابن الحاج (2) رحمه الله, قال ما معناه: كان في عهد السلف إذا ابتدعت العامّة بدعة قام العلماء في إبطالها، وأما علماء الخلف فإنهم إذا ابتدع أحد من العامَّة والأمراء والأغنياء بدعةً قام العلماء في الترغيب فيها والانتصار لها وتوجيهها. أقول: وقد صدق وبرَّ، ومَن أراد من أمرائنا وأغنيائنا فليجرِّب بأن يُحْدِثَ بدعة، ثم يستعين بالعلماء والمتصوِّفين فسيجدهم أسرع ما يكون إلى الترغيب فيها وتحريف الكتاب والسنة في سبيل تحسينها وتضليل أو _________ (1) ما جاء في البدع 124 ح 162. (2) أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد العبدري القبيلي الفاسي المالكي المشهور بابن الحاج، من تصانيفه: «المدخل إلى تنمية الأعمال»، قال فيه ابن حجر: (كثير الفوائد، كشف فيه عن معايب وبدعٍ يفعلها الناس)، توفي سنة 737 هـ. انظر: الدرر الكامنة 4/ 355 - 356. ولم أقف على هذا النقل في المدخل.
(2/226)
تكفير مَن قد يتعرّض لردِّها، [48] ولعلَّ الأعلم الأتقى منهم هو الذي يُلزم نفسه السكوت، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. وبهذا هلكت الأمم السابقة، وقد قصّ الله تعالى في كتابه عن اليهود والنصارى ما فيه أعظم العبر. وفي الكتب الموجودة بيد اليهود والنصارى الآن ويسمونها بالتوراة أشياء كثيرة من هذا القبيل، وأما النصرانية فمَن تتبع تاريخها منذ رفع عيسى عليه السلام تبيَّن له أنه كان لا يزال في القرون الأولى عارفون بالحق، ولكنهم مغلوبون على أمرهم، وكانت العامَّة والملوك والأئمة المضلُّون يحدثون المقالات فيجدون من العلماء والرهبان مَنْ ينصرها، ويكفّر أو يضلِّل مَنْ يخالفها، وهذا حال جميع الأمم. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريُّون وأصحابٌ يأخذون بسنته ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوفٌ يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمَنْ جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومَنْ جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردلٍ» (1). [49] وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «لتتبعن سنن مَن كان قبلكم شبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراعٍ، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ تبعتموهم»، قلنا: يا رسول الله! اليهود _________ (1) مسلم، كتاب الإيمان، بابٌ النهي عن المنكر من الإيمان، 1/ 50 - 51، ح 50. [المؤلف]
(2/227)
والنصارى؟ قال: «فمن؟ » (1). وروى البخاري نحوه عن أبي هريرة، وفيه: فقيل: يا رسول الله! كفارس والروم؟ فقال: «ومَن الناس إلا أولئك» (2). وروى الشافعي بسندٍ صحيحٍ ــ كما في الفتح ــ عن عبد الله بن عمرٍو عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لتركَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كان قبلكم حُلوَها ومُرَّها» (3). وفي الفتح: وأخرج الطبرانيّ من حديث المستورد بن شدَّادٍ ـ رفعه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ــ: «لا تترك هذه الأمَّة شيئًا من سنن الأوَّلين حتى تأتيه» (4). قال في الفتح: قلت: وقد وقع معظم ما أنذر به صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وسيقع بقية ذلك (5). _________ (1) البخاريّ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنَّة، باب قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لتتَّبعنَّ سنن مَن كان قبلكم»، 9/ 103، ح 7320. مسلم، كتاب العلم، باب اتِّباع سنن اليهود والنصارى، 8/ 57، ح 2669. [المؤلف] (2) البخاري، الموضع السابق، 9/ 102 - 103، ح 7319. [المؤلف] (3) الفتح 13/ 235. [المؤلف]. كذا, وليس في الفتح أنه مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. والحديث موقوف على ابن عمرو كما نصَّ عليه البيهقي في معرفة السنن والآثار 1/ 186. وانظر: السنن المأثورة للشافعي ص 137 - 138 ح 398. وأخرجه كذلك ابن أبي شيبة ومحمد بن نصر في السنة وغيرهما. (4) الفتح 13/ 235. [المؤلف]. قال الطبرانيّ: «لا يُروى هذا الحديث عن المستورد إلا بهذا الإسناد، تفرَّد به ابن لهيعة».انظر: المعجم الأوسط 1/ 101، ح 313. (5) الفتح 13/ 235. [المؤلف]
(2/228)
وفي المستدرك عن حذيفة رضي الله عنه قال: «أوَّلُ ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ولتُنْقَضَنَّ عرى الإسلام عروة عروة، وليصلينَّ نساء وهنَّ حيّض، ولتسلكُنَّ طريق مَن كان قبلكم حذوَ القذة بالقذة، وحذوَ النعل بالنعل، لا تخطئون طريقهم ولا يخطئنكم (1)، حتى تبقى فرقتان من فرقٍ كثيرة، فتقول إحداهما: ما بال الصلوات الخمس، لقد ضَلَّ مَنْ كان قبلنا، إنما قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 115] لا تصلُّوا إلَّا ثلاثًا، وتقول الأخرى: إيمان المؤمنين بالله كإيمان الملائكة، ما فينا كافرٌ ولا منافقٌ، حقٌّ على الله أن يحشرهما مع الدَّجَال». قال الحاكم: «صحيح الإسناد»، وأقرَّه الذهبيّ (2). أقول: وقد وُجِدَت الطائفتان؛ فإنَّ بالهند طائفة يسمُّون أنفسهم أهل القرآن (3)، يقولون: إنما الواجب ثلاث صلوات أو صلاتان، وأما الطائفة الأخرى فغلاة المرجئة. والله أعلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن _________ (1) كذا في الأصل، ولعلَّ الضمير يرجع إلى الطرق المفهومة من «طريق»، ورُسمت الكلمة في المستدرك: «ولا يخطأنكم» على لغة «خَطِئ يخطأ». وفي مسند الشاميِّين للطبرانيّ 2/ 100، ح 987: «ولا يُخْطَأُ لكم». (2) المستدرك، كتاب الفتن والملاحم، «أوَّل ما تفقدون من دينكم الخشوع»، 4/ 469. [المؤلف] (3) انظر رسالتي في الرَّدِّ على «شبهات القرآنيِّين» وقد طُبعت مرّتين في مجمَّع الملك فهدٍ لطباعة المصحف الشريف.
(2/229)
سنان بن أبي سنان الديلي، عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قِبَلَ حنينٍ، فمررنا بسدرةٍ، فقلت: يا نبي الله! اجعل لنا هذه ذات أنواطٍ، كما للكفار ذات أنواطٍ، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرةٍ ويعكفون حولها، فقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: [49 ب] «الله أكبر! هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم». وقال أيضًا: حدَّثنا حجَّاج، حدَّثنا ليث يعني ابن سعد، حدثني عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن سنان بن أبي سنان الدؤلي ثم الجندعي، عن أبي واقدٍ الليثيِّ، فذكره. وفيه: فقلنا يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، فقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}، إنها السنن، لتركبن سنن مَن كان قبلكم سنَّةً سنَّةً» (1). وكلا السندين رجاله رجال الصحيحين، وأخرجه الترمذيّ، وقال: «حسنٌ صحيحٌ» (2). وأخرج الطبرانيُّ عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوفٍ، عن أبيه، عن جدِّه، نحوه (3). _________ (1) المسند 5/ 218 [وفي الأصل: 118]. [المؤلف] (2) جامع الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء «لتركبنَّ سنن مَن كان قبلكم»، 2/ 27 - 28، ح 2180. [المؤلف] (3) المعجم الكبير 17/ 21، ح 13715.
(2/230)
وفي المستدرك «عن حذيفة: ذكروا عنده {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، فقال رجلٌ: إنَّ هذا في بني إسرائيل، فقال حذيفة: نِعْمَ الإخوة بنو إسرائيل، إن كان لكم الحلو ولهم المرُّ. كلَّا والذي نفسي بيده حتى تحذوا السنَّةَ بالسنَّةَ حذو القذَّة بالقذَّة». قال الحاكم: «صحيحٌ على شرط الشيخين»، وأقرَّه الذهبي (1). وفي صحيح مسلم عن ابن عمر، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود [غريبًا] كما بدأ، ويَأرِزُ بين المسجدين كما تأرز الحيَّة في جُحرها» (2). وقد رُوِي نحوه من حديث ابن مسعودٍ وأنسٍ وأبي هريرة وعمرو بن عوف المزنيّ وسعد بن أبي وقَّاصٍ وغيرهم (3). _________ (1) المستدرك، كتاب التفسير، تفسير سورة المائدة، «ابن أمِّ عبد من أقربهم إلى الله وسيلةً»، 2/ 312. [المؤلف] (2) مسلم، كتاب الإيمان، بابٌ الإسلام بدأ غريبًا، 1/ 90، ح 146. [المؤلف] (3) حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه مسلمٌ في الموضع السابق، 1/ 90، ح 145. وحديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه أخرجه أحمد 1/ 398. والترمذيّ في كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، 5/ 18، ح 2629، وقال: «حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ». وحديث سعد بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه أخرجه أحمد 1/ 184. وحديث أبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالكٍ رضي الله عنهم أخرجه الطبرانيّ 8/ 152، ح 7659، وقال الهيثميّ: «وفيه كثير بن مروان، وهو ضعيفٌ جدًّا». مجمع الزوائد 7/ 513 - 514. وحديث عمرو بن عوفٍ رضي الله عنه أخرجه الترمذيّ في الموضع السابق، 5/ 18، ح 2630، وقال: «حديث حسنٌ صحيحٌ». وانظر: مجمع الزوائد 1/ 297 و 7/ 545 - 547.
(2/231)
وأخرج الحاكم في المستدرك ــ وقال: «صحيحٌ على شرط الشيخين»، وأقرَّه الذهبيّ ــ عن عبد الله بن عمرٍو، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «يأتي على الناس زمانٌ يجتمعون في المساجد ليس فيهم مؤمنٌ» (1). والأحاديث في هذا المعنى كثيرةٌ. وفي فتح الباري: «قال ابن بطَّال: أعلم صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن أمَّته ستتبع المحدثات من الأمور والأهواء، كما وقع للأمم قبلهم، وقد أنذر في أحاديث كثيرةٍ بأن الآخِرَ شرٌّ، والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس، وأن الدين إنما يبقى قائمًا عند خاصَّةٍ من الناس» (2). أقول: يشير [49 ج] إلى الحديث المشهور: «لا تزال طائفة من أمَّتي ظاهرين على الحقِّ، لا يضرُّهم مَن خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك». وهو في الصحيحين وغيرهما من رواية جماعةٍ من الصحابة رضي الله عنهم، منهم: ثوبان ــ واللفظ له عند مسلمٍ ــ، وجابر بن عبد الله، ومعاذٌ، وأبو أمامة، وأبو هريرة، وسعد بن أبي وقَّاصٍ، وجابر بن سَمُرة، وعقبة بن عامرٍ، وسلمة بن نُفَيلٍ، وقرَّة بن إياسٍ، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية بن أبي سفيان (3). _________ (1) المستدرك، كتاب الفتن والملاحم، «يأتي على الناس زمانٌ يجتمعون في المساجد ليس فيهم مؤمنٌ»، 4/ 442. [المؤلف]. وهو موقوفٌ على عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما. (2) الفتح 13/ 235. [المؤلف] (3) انظر: البخاريّ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنَّة، باب قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفةٌ من أمَّتي ظاهرين»، 9/ 101، ح 7311، [من حديث المغيرة بن شعبة]. وصحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب نزول عيسى بن مريم، 1/ 95، ح 156، [من حديث جابر بن عبد الله]. وكتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفةٌ من أمَّتي ظاهرين على الحقِّ»، 6/ 52 - 54، ح 1920 - 1925، [من حديث ثوبان، والمغيرة بن شعبة، وجابر بن سَمُرة، وجابر بن عبد الله، ومعاوية بن أبي سفيان، وعقبة بن عامرٍ، وسعد بن أبي وقَّاصٍ. وسنن أبي داود، كتاب الجهاد، بابٌ في دوام الجهاد، 3/ 4، ح 2484، من حديث عمران بن حُصَينٍ. وجامع الترمذيّ، كتاب الفتن، باب ما جاء في الشام، 4/ 485، ح 2192، من حديث قرَّة بن إياسٍ، وقال: «هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ». وسنن ابن ماجه، كتاب السنَّة (المقدِّمة)، باب اتِّباع سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، 1/ 5، ح 7. والمسند 4/ 104 و 5/ 269، من حديث سلمة بن نُفَيلٍ وأبي أمامة]. وانظر: فتح الباري 13/ 229 - 230. [المؤلف]. وهو معدودٌ في الأحاديث المتواترة. انظر: قطف الأزهار المتناثرة ص 216، ح 81.
(2/232)
قال البخاريّ في صحيحه: «وهم أهل العلم». وقال ابن المدينيّ: «وهم أصحاب الحديث». وقال الإمام أحمد: «إن لم يكونوا أهل الحديث، فلا أدري مَنْ هم؟ »، وكذا قال يزيد بن هارون (1). وقد استُدِلَّ به وبغيره على عصمة مجموع الأمة, فبني على ذلك حجِّيةُ الإجماع، وفيها نزاع كثير. وعلى كلِّ حال، فأصول العقائد إنما تُبْنَى على الحجج القطعية، وقلَّما يتفق ذلك في الإجماعات المعروفة إلَّا ما كان منها على وفق ظواهر الكتاب والسنة، كما يأتي. بل قيل: إنَّ الإجماع ــ أي وحده ــ لا يكون حجَّةً قطعيَّةً أصلًا. _________ (1) انظر: فتح الباري 13/ 229. [المؤلف]
(2/233)
والقائلون بأنه قد يكون حجَّةً قطعيَّةً يشترطون أن يُعْلَم بالعلم القطعي أنَّ أهل العصر محصورون في عدد كذا، ثم يُنقل ذلك القول عن كلِّ فرد منهم بالتواتر، أي: ينقله عن زيد جماعةٌ يستحيل عادةً تواطؤُهم على الكذب وحصوله منهم اتفاقًا، فيحصل العلم القطعي بأنَّ ذلك الرجل قاله، كعلم المطَّلِع على أخبار العالم في هذا العصر أنَّ (باريس) اسم مدينة للفرنسيس، وينقله عن عمرٍو جماعة كذلك، وعن خالد كذلك، حتى يستغرق جميع أفراد ذلك العصر، ويُعْلمَ قطعًا أنهم استمرُّوا على ذلك القول إلى أن ماتوا، وأنَّ كل واحد منهم قاله غير مكرَه، ويعلم قطعًا أنه لم يخالفهم أحد قبل انقراض عصرهم، وأنه لم يكن قبلهم في الأمة مَنْ يقول بخلاف قولهم، وأن يتسلسل النقلُ إلينا بالتواتر [50] التفصيليّ القطعيِّ في كل درجة، إلى غير ذلك من الشرائط المسطورة في كتب الأصول (1)، فإن لم تجتمع فغايته أن يكون حجَّة ظنيَّة بشرطه. فلا يصلح للتمسك في أصول العقائد إلَّا إذا انضمَّ إليه أدلَّةٌ أخرى من ظواهر القرآن وعِدَّة من الأحاديث، بحيث يكون كلُّ فرد منها مفيدًا للظن، ولكن مجموعها يفيد القطع. وإذا كان هذا حال الإجماع، فما بالك بقول الأكثر؟ فإن قيل: فأين الأحاديث الآمرة بالتمسك بالجماعة والسواد الأعظم؟ قلت: فما تصنع أنت بحديث الطائفة وغيره مما مرّ؟ وقد مرّ كلام ابن بطَّالٍ. ثم ما تصنع إذا دلّ كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على معنىً، وقولُ الأكثر على خلافه؟ وهذا كثيرٌ. _________ (1) انظر: قواطع الأدلَّة 3/ 250، 270،، 296، 303، 310، ونهاية السول 3/ 303 فما بعدها.
(2/234)
لا مخرج إلا أحد أمرين: الأول: أن يقال: إن أحاديث الجماعة والسواد الأعظم خاصة بما إذا لم يوجد دليل من الكتاب ولا من السنة، وعلى هذا يدل قول الله عزَّ وجلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. والأدلَّة في هذا من الكتاب والسنَّة كثيرةٌ. وعلى [51] ذلك كان عمل الصحابة، فقد جاء عن أبي بكرٍ رضي الله عنه أنه كان إذا عرضت حادثةٌ يقضي بالكتاب، فإن لم يجد فبالسنَّة، فإن لم يجد شاور الناس (1). وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يقضي بالكتاب، فإن لم يجد فبالسنَّة، فإن لم يجد فبما قضى به أبو بكرٍ، فإن لم يكن شاور الناس (2). وعلى هذا يدلُّ كتابه إلى شريح (3). وروي نحو ذلك عن ابن مسعود (4). _________ (1) انظر: سنن الدارميّ، (المقدِّمة)، باب الفتيا وما فيها من الشدَّة، 1/ 58، ح 163. وإعلام الموقعين 1/ 74 - 75. [المؤلف] (2) انظر: إعلام الموقعين 1/ 74 - 75. [المؤلف] (3) انظر: سنن النسائيّ، كتاب آداب القضاة، الحكم باتِّفاق أهل العلم، 2/ 360، ح 5414. وسنن الدارميّ، الموضع السابق، 1/ 60، ح 169. وانظر: إعلام الموقعين 1/ 61 - 62. (4) انظر: المستدرك، كتاب الأحكام، الخصمان يقعدان بين يدي الحاكم، 4/ 94، سنن النسائيّ، الموضع السابق، 2/ 306، ح 5412. سنن الدارميّ، الموضع السابق، 1/ 59، ح 167. [المؤلف]
(2/235)
وعن ابن عباس أنه كان إذا سئل عن الأمر فكان في القرآن أخبر به، وإن لم يكن في القرآن وكان عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أخبر به، فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر، فإن لم يكن قال فيه برأيه (1). وفي طبقات ابن سعد: «أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: كان ابن عباس» فذكر نحوه (2). وفي سنن البيهقي من طريق ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن بكير بن عبد الله أخبره، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مسلمة بن مخلد، أنه قام على زيد بن ثابت فقال: يا ابن عم: أُكرِهْنا على القضاء، فقال زيد: اقض بكتاب الله عزَّ وجلَّ، فإن لم يكن في كتاب الله ففي سنة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فإن لم يكن في سنة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فادع أهل الرأي، ثم اجتهد، واختر لنفسك، ولا حرج (3). وعلى هذا كان عمل أئمة التابعين وعلماء السلف، كالأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المشهورة، ترى أحدهم إذا ظفر بدلالة من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال بها، وإن كان جمهور الأمة على خلافها. _________ (1) سنن الدارميّ، الموضع السابق، 1/ 59، ح 168. ونحوه في المستدرك، كتاب العلم، الناس كانوا لا يكذبون في عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، 1/ 127. قال الحاكم: «صحيحٌ على شرط الشيخين»، وأقرَّه الذهبيّ. [المؤلف] (2) الطبقات 2/ 101. (3) سنن البيهقي، كتاب آداب القاضي، باب ما يقضي به القاضي ... ، 10/ 115. [المؤلف]
(2/236)
الأمر الثاني: ما نقله الشاطبي في الاعتصام (1) عن ابن جرير الطبري، وحاصله: أن أحاديث السواد الأعظم خاصَّة بمسألة الإمارة، والمعنى أنه إذا اجتمع أكثر المسلمين على تأمير أحدهم وجب عليهم وعلى غيرهم طاعته. أقول: وهذا هو الذي يدلُّ عليه سياق تلك الأحاديث، وقد بُيِّنَ في بعضها أن المراد الطاعة في غير معصية الله تعالى، وقد دلّت على ذلك الآية السابقة، وبَيَّن في بعض الأحاديث أنَّ الخروج على الأمير لا يجوز إلَّا أن يكفر كفرًا بواحًا أو يترك الصلاة. وعلى هذا أو ما في معناه يُحْمَل عمل الحسين بن علي عليهما السلام، ثم خلاف ابن الزبير وأهل المدينة ثم ابن الأشعث ومن خرج معه من الأئمة كسعيد بن جبير والشعبي وغيرهما. وبالجملة، فالنظر في هذه المسألة مبنيٌّ على الأصل الإسلامي المشهور، وهو أنه إذا تعارضت مفسدتان ولم يكن بدٌّ من ارتكاب إحداهما وجب ارتكاب الصغرى لدرء الكبرى. وَمِنْ هنا يُعْلَمُ عُذْرُ أهلِ السنة بعد القرن الأول في حظر الخروج على السلطان مادام مسلمًا، فإنَّ التجارب علّمتهم أنَّ نتيجة الخروج تكون أعظم فسادًا وشرًّا وضرًّا مما كان قبله. والمقصود أنَّ أحاديث الجماعة والسواد الأعظم لا حجة فيها على أنَّ قول الأكثر يكون حجة شرعية في المسائل العلمية، ولا سيَّما فيما يُطْلَبُ فيه العلم القطعيُّ من أصول الدين. هذا مع أنَّه إذا فُرض ضلالُ الأكثر في أصلٍ من أصول الدِّين الكلِّيَّة، فقد _________ (1) 3/ 140. نقل في الاعتصام أقوالًا أخرى فراجعها إن أحببت. [المؤلف]
(2/237)
خرجوا بذلك عن رسم الأمة فلا يصدق عليهم الجماعة ولا السواد الأعظم؛ لأنَّ المراد جماعة المسلمين, والسواد الأعظم منهم، كما هو ظاهر، والله أعلم. وليس غرضي مما تقدَّم الحكمَ على أكثر الأمَّة بالضلال، وإنما مقصودي أن يعلم الناظر أنَّ ذلك أمر محتمل في نفسه، فلا يصُدُّه حسن الظن عن تدبُّر كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وما كان عليه سلف الأمة. (1) فأما حديث البخاري وغيره عن عقبة بن عامرٍ في صلاة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على شهداء أحد وخطبته بعد ذلك وقوله: «وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي» (2)، فقال الحافظ في الفتح: أي على مجموعكم؛ لأنَّ ذلك قد وقع من البعض، أعاذنا الله تعالى (3). وأشار في موضعٍ آخر إلى أنه خاصٌّ بالصحابة؛ لأنهم المخاطَبون، وعبارته: «ووقع من ذلك في هذا الحديث إخباره .... وبأنَّ أصحابه لا يشركون بعده، فكان كذلك» (4). وفي صحيح مسلمٍ من طريق أبي سفيان عن جابرٍ قال: سمعت النبي _________ (1) من هنا يبدأ ملحق 52. (2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الجنائز، باب الصلاة على الشهيد، 2/ 91، ح 1344، ومواضع أخرى. ومسلمٌ في كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - وصفاته، 7/ 67، ح 2296، من حديث عقبة بن عامرٍ رضي الله عنه. (3) الفتح 3/ 139. [المؤلف] (4) الفتح 6/ 400. [المؤلف]
(2/238)
صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «إنَّ الشيطان قد أيس أن يعبده المصلُّون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم». قال الأُبِّيُّ: «يعارضه ما يأتي في الأشراط من أمر دوسٍ، ويُجاب أنَّ الإياس المذكور هو قبل قرب قيام الساعة، وعبادة دوسٍ من الأشراط، أو يقال: إن ذلك الإياس إنما هو من الشيطان، ولا يضره عدم صدقه» (1). ويعني بأمر دوسٍ ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أَلَيَاتُ نساء دوسٍ على ذي الخَلَصَة»، وذو الخَلَصَة: طاغية دوسٍ التي كانوا يعبدونها في الجاهلية (2). وأخرج مسلمٌ وغيره من حديث عائشة قالت: سمعت النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «لا يذهب الليل والنهار حتى تُعبد اللات والعزَّى»، فقلت: يا رسول الله! إن كنتُ لأظنُّ حين أَنْزَلَ الله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33، والصف: 9] أن ذلك تامًّا (3)، قال: «إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحًا طيبة فتَوَفَّى كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، _________ (1) إكمال إكمال المعلم 7/ 206. [المؤلف] (2) البخاريّ، كتاب الفتن، باب تغيير الزمان حتى يعبدوا الأوثان، 9/ 58، ح 7116. مسلم، كتاب الفتن ... ، بابٌ لا تقوم الساعة حتى تعبد دوسٌ ذا الخلَصة، 8/ 182، ح 2906. [المؤلف] (3) كذا في الأصل وفي صحيح مسلمٍ، والتقدير: يكون تامًّا, كما في الطبريّ 23/ 361، والمستدرك 4/ 447 وتلخيصه.
(2/239)
فيبقى مَنْ لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم» (1). أقول: هو صريح في أنه بعد بعث الريح يعمّ الكفر وتُعبد اللات والعزى، وأما قبل ذلك فلا يَعُمُّ ولا تعبد اللات والعزى، ولكنه يقع من بعض الناس الكفر بغير ذلك، كما بيّنته الأحاديث الأخرى، والله أعلم. وأما حديث أحمد عن شدَّاد بن أوس، وفيه: « ... قلت: يا رسول الله: أتشرك أمتك من بعدك؟ قال: «نعم، أما إنهم لا يعبدون شمسًا ولا قمرًا ولا حجرًا ولا وثنًا، ولكن يراؤون بأعمالهم، والشهوة الخفية» (2)، ففي سنده (3) عبد الواحد بن زيدٍ القاصّ وهو مجمع على ضعفه، كما في تعجيل المنفعة ولسان الميزان. والله أعلم (4). فصل [53] وإذا كان الأمر كما علمت في تقليد العلماء؛ فما بالك بتقليد المنسوبين إلى الخير والصلاح بدون أن يكونوا أئمة في العلم؟ وقد كان في السلف الصالح كثير من الزهاد والعباد، فلم يكن الناس يرجعون إليهم ولا إلى أقوالهم في الأمور العلمية، وإنما كانوا يرجعون إليهم في دقائق الورع، وترقيق القلوب، ومداوة النفوس، ونحو ذلك. وأنت خبير أنَّ التقليد في المسائل الظنيات شرطه أن يكون لمجتهد _________ (1) مسلم، الموضع السابق، 8/ 182، ح 2907. [المؤلف] (2) المسند 4/ 123. (3) أصاب هاتين الكلمتين بللٌ فلم تظهرا كاملتين، والمثبَت اجتهادٌ منِّي. (4) انتهى ملحق ص 52.
(2/240)
مُسَلَّمٍ له الاجتهاد، وأنَّ عامَّة الأولياء الذين شاع بين الأمة تقليدهم كانوا مقلِّدين، ومَنْ قيل: إنه بلغ رتبة الاجتهاد منهم لم يعترف له أهل عصره بذلك. ولما بحثت عن أسباب تقليد الناس لمن يظنون به الخير والصلاح، وجدتُ أنه قد سرى إلى أذهانهم اعتقاد العصمة لكثير من أولئك، حتى لقد يغلو بعضهم فيُثْبِت لبعض الأولياء كمالات لا يثبتها للأنبياء، وينزهه عن أشياء لا ينزه عنها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, ولقد يُنْقَل له نقلًا (1) صحيحًا أو متواترًا أو يشاهِد بعينيه أنَّ فلانًا الذي يعتقد فيه يترك الصلاة ويشرب الخمر ويفعل ويفعل، فيقول: نعوذ بالله من فساد العقيدة ومن حرمان بركة الصالحين، إنما كان [54] سيدي فلان يتستر من الناس لئلا يعلموا منزلته عند الله، أو يختبر الناس ليظهر الموفَّق الذي لا تَزَلْزَلُ عقيدتُه من المحروم الذي يغترُّ بالظواهر، فكان يظهر للناس أنه عندهم ولم يصلّ، مع أنه في الحقيقة بمكة أو بالمدينة أو بجبل قاف أو نحو ذلك، ويظهر لهم أنه يشرب الخمر والواقع أنَّ الخمر كانت تستحيل في يده إلى شراب طهور. ومنهم من يعترف بفعل سيده فلان بعضَ تلك الأعمال، ويقول: فَعَلَها وفَعَلَ غيرَها؛ لأنه قد وصل إلى الله تعالى، وتخلَّص من حيطة التكليف، فإنَّ الشريعة إنما فُرِضَتْ لأجل الوصول، فَمَنْ وَصَلَ ارتفعت عنه التكاليف. وأحْسَنُ الغلاةِ حالًا مَنْ يقول: فَعَلَ ذلك الولي هذه الأمور لِحِكَمٍ لا نعلمها، أو لعلَّه ألهمه الله عزَّ وجلَّ إباحتها له، أو رأى النبيَّ صلَّى الله عليه _________ (1) كذا في الأصل، وهو مفعول مطلقٌ. وقوله: (أنَّ فلانًا) نائب فاعلٍ لـ (يُنقَل)، أو مفعولٌ لـ (يشاهِد).
(2/241)
وآله وسلَّم فأذن له فيها، أو أمره بها. وأقربهم مَنْ يقول: لعلّ ذلك الصالحَ فَعَلَ هذه الأمور وهو في حال الغيبوبة عن هذا الكون، والاستغراق في أنوار التجلِّيات. وأضرُّهم على الإسلام والمسلمين مَنْ يقول: فِعْلُ ذلك القطب لهذه الأمور يدلُّ على مشروعيتها، وأن فعلها يُقَرِّب إلى الله تبارك وتعالى [55] وما خالف ذلك من ظواهر الكتاب والسنة له تأويل يعلمه أولياء الله تعالى. كيف لا وهم أعرف بالله وبكتابه ورسوله، وهم دائمًا حاضرون عند الله تعالى يُعَلِّمُهم ما لا يعلم غيرهم، ومشاهدون للوح المحفوظ, والملائكة تنزل عليهم، ويجتمعون بالنبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم متى شاؤوا. وقد يتعدَّى بعضهم هذا الحدَّ فيقول: إن الوليَّ إذا استحسن شيئًا كان عند الله تعالى حسنًا؛ لأن الله تعالى يحبه، فيحبُّ كل ما أحبَّه. وفي طبقات الصوفية ومناقب الأولياء قصص كثيرة مما قدَّمنا الإشارة إليه، وتجدهم عند ذكر شيء منها يُعْقِبُونه بالتعوذ بالله تعالى من سوء الاعتقاد في الصالحين ومن حرمان بركتهم، ويتأولون فعلهم بشيء مما تقدم. واغتنم الفساقُ هذا الأمر، فصار بعضهم يتظاهر بِزِيِّ المتصوفة، ثم يفعل ما بدا له. بل اغتنم ذلك أعداء الإسلام الملحدون فصاروا يتظاهرون بِزِيِّ المتصوفة، ويستعملون الألفاظ الشائعة بين المتصوفة، ثم يصرِّحون بكفرهم وإلحادهم جهارًا، قائلين في أنفسهم: مَنْ ضل بهذا الكلام فقد اصطدناه، [56] ومَنْ لم يضلَّ به فلا علينا؛ لأن من كان راسخ العقيدة في الإسلام سيحمل كلامنا على تأويلات بعيدة، أو يقتصر على زَعْم أن كلامنا على غير ظاهره، وأنه إنما يفهمه أهل الذوق والمعرفة؛ وعلى كلِّ حال فإن
(2/242)
اعتقادهم فينا الصلاح لا يتزلزل، وتبقى كتبنا متداوَلةً بينهم، يضلُّ بها في كل يوم جماعة. أقول: وقد صدق ظنهم، فصار الضلال بكتبهم كثيرًا، ولا يستطيع أحد الإنكار عليهم؛ إما خوفًا من سطوتهم الروحية إن كان يعتقد فيهم، وإما خوفًا من أكثر الناس، وهكذا أُميت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله المستعان. وقد قال الله تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]. فقوله: {تَأْمُرُونَ} إلخ، في معنى بيان السبب في الخيرية، فدلّ ذلك على أن مَنْ تَرَكَ ذلك فلا نصيب له في الخيرية. وقد نظرت في الأمر الباعث للغلاة على اعتقاد العصمة في غير الأنبياء، فوجدته اعتقاد الولاية فيهم، ونظرت في سبب اعتقاد الولاية, فإذا هو ما شاع بينهم من ظهور بعض الغرائب على أيدي أولئك، فأحببت أن أُبَيِّن لك حال الخوارق، هل تدل على ولاية مَنْ ظهرت على يده؟ ثم أبيِّنُ لك حال الولاية. [57] فصل واعلم أن الباعث على تقليد الصوفية والغُلوِّ فيهم أمران: الأول: ما ينقل عن أحدهم من الخوارق. الثاني: اعتقاد أنهم يطَّلعون على الغيب.
(2/243)
فأما الثاني فسيأتي الكلام عليه في الطريق الرابع (1). وأما الأول فتقرير ما قام بأنفس العامة من الاحتجاج به أن يُقال: كما أن الخارقة إذا وقعت على يد مدّعي النبوة دلت على صدقه، فكذلك إذا وقعت على يد الصالح دلت على ولايته. وإذا ثبتت ولايته ثبت أنه كان على حق، فثبت أنّ كلَّ ما جاء عنه حق. فأقول مستعينًا بالله عزَّ وجلَّ: اعلم أولًا أنني بحمد الله تعالى لا أنكر الولاية ولا الكرامات، وأني بفضل الله عزَّ وجلَّ أحب كلَّ من عُرِف بالخير والصلاح والولاية، وأرجو الله تبارك وتعالى أن ينفعني بمحبتي لهم. واعلم أيضًا أنني على يقين بأن ما أكتبه هاهنا مرضي عند أولياء الله تعالى؛ لأن فيه تبرئة لهم عما يظنه بهم الجاهلون وينسبه إليهم الغافلون، وتمييزًا لهم عمن يتستر بدعوى أنه منهم وهو أبعد الناس عنهم. ثم اعلم أن الخوارق المنقولة عن صُلحاء المسلمين إذا وزنّاها بما توزن به سنة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وجدنا غالبها لا يثبت. ولا تَسْتَبْعِدَنَّ الكذب في اختلاق الكرامات، فإن الناس قد كذبوا على ربهم، فنسبوا إليه الابن والبنات والشركاء، وادعى بعضهم الألوهية، وبعضهم النبوة، وبعضهم أنه يوحى إليه. وكذبوا على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كما تقدَّم، مع أن الكذب عليه كذب على الله عزَّ وجلَّ، لقوله تعالى: _________ (1) وهو بحث «الاطلاع على الغيب» الذي يشمل الإلهام والكشف كما يتضح من نسخة (ب) المشوَّشة.
(2/244)
{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. والكذب على الله عزَّ وجلَّ كفر بواح، قال الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32]. وقد صرَّح بعض أهل العلم بأن الكذب على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كفر، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى (1). وقال أهل العلم ــ والعبارة لابن الصلاح في مقدمته ــ: «والواضعون للحديث أصناف، وأعظمهم ضررًا قوم من المنسوبين إلى الزهد، وضعوا الحديث احتسابًا [أي: طلبًا للأجر والثواب] زعموا، فتقبل الناس موضوعاتهم ثقة منهم بهم وركونًا إليهم، ثم نهضت جهابذة الحديث بكشف عوارها ومحو عارها، والحمد لله» (2). وفي صحيح مسلمٍ عن الإمام يحيى بن سعيدٍ القطّان قال: «لم نر أهل الخير في شيءٍ أكذب منهم في الحديث» (3). وذكر غيره أن أكثر الأحاديث المكذوبة على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وضعها أصحابها تعصُّبًا لمذاهبهم. أقول: فهكذا كثير من الخوارق المنقولة عن الصالحين اخترعها متبعوهم زاعمين أن ذلك يقرِّبهم إلى الله عزَّ وجلَّ وإليهم، بل قد يقول بعضهم: إن الولي الفلاني أهلٌ لأن تجري على يده جميع الخوارق، فكلُّ _________ (1) انظر: ص 889 فما بعدها. (2) مقدِّمة ابن الصلاح (علوم الحديث)، النوع الحادي والعشرون، ص 279 - 280. (3) مسلم، (المقدِّمة)، باب بيان أن الإسناد من الدين، 1/ 13 - 14. [المؤلف]
(2/245)
خارقة [59] تخيَّلتها صحّ لك أن تنسبها إليه، ولا يكون ذلك كذبًا؛ ويقول: إن لذلك الولي الحظَّ الكامل من وراثة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم, وقد قال صاحب البردة: دع ما ادَّعته النصارى في نبيِّهمُ ... واحكم بما شئت مدحًا فيه واحْتَكِم وانْسُب إلى ذاته ما شئت من شرف ... وانْسُبْ إلى قدره ما شئت مِنْ عِظَمِ فإن قَدْر رسول الله ليس له ... حدٌّ فيُعْرِب عنه ناطق بفم (1) زاعمًا أن هذا حجة على أن للإنسان أن ينسب إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ما شاء من الخوارق سواء رويت أم لم ترو. وقد يكون الشيخ المنسوب إليه الخارق خيِّرًا في نفسه، ولكنه ابتُلِي بأولاد وأتباع يحبون أن يأكلوا بسببه الدنيا, فيخترعون الخوارق ويدّعونها له ويلبِّسون على الشيخ نفسه، فيقول له هذا: رأيتك يا سيدي في المنام كذا وكذا، ويقول له الآخر: وقعت لي شدة فاستغثت بك فجئت وأنقذتني منها، وهكذا لا يزالون به حتى يعتقد في نفسه أنه من أهل الكرامات. وفي المثل الفارسي: «بِيرانْ نَمِي بَرَنْد ومُرِيدَانْ مِيْ بَرَانَنْدْ». ومعناه: المشايخ لا يطيرون، ولكن المريدين يُطَيِّرُونهم. [60] فأما إذا كان الشيخ نفسه يميل إلى الشهرة وبعد الصيت ومحبة الدنيا فالأمر أوضح، وهذه أمور قد شاهدنا بعضها. وقد يتعصب المريد لشيخه على شيخ آخر في عصره، فيحرص على أن ينسب لشيخه الخوارق والكرامات. وكثيرًا ما يفعل المريدون ذلك بعد _________ (1) ديوان البوصيريّ ص 8 - 9.
(2/246)
موت الشيخ ليكون لهم بذلك جاه وشهرة، وليحملوا الناس على كثرة زيارة ضريحه، وبذل أموالهم على سبيل النذر وغيره، فيتمتع بها أولئك الفجار، ومَنْ وقف على كتب القادرية والرفاعية عرف إلى أي حدٍّ يصل التعصب بين أتباع المشايخ. وكثيرًا ما تكون الغرائب المنقولة حِيَلًا دَبَّرها أتباع الشيخ بحضرته أو عند قبره، وقد وقفنا على بعض ذلك. وأما سبب انتشارها بين الناس فهو أنَّ للطباع البشرية وُلُوعًا (1) بذكر العجائب والغرائب, كما تراه منتشرًا بينهم من أخبار الجن والغِيلان والكيمياء وعجائب المخلوقات. وغالب ذلك مما لا أصل له، وإنما يختلق الإنسان شيئًا من ذلك مدحًا لنفسه أو لمن له علاقة به، [61] أو تكون جرت له قصة توهَّم فيها خارقًا، كمن يخيل له بعض الخيالات في النوم ويستيقظ بسرعة فيتوهم أنه لم يزل مستيقظًا، وأن الأمر الذي تخيَّل له كان يقظة؛ أو كان في ظلمة وخوف، فتوهَّم شيئًا، فذهب يحكيه على أنه أمر واقع، أو يكون احتال عليه بعض الناس بحيلة أوهمته تلك الواقعة. والغالب في هؤلاء أنهم إذا حكوا الحكاية وأراد بعض العقلاء أن يناقش فيها حملهم ذلك على أن يسدِّدوا مواضع الخلل والاحتمال فيها بالكذب. ثم يتلقَّى الناس تلك الحكايات وينشرونها لحرصهم على الإغراب والتعجيب، وكثيرًا ما يكملها الحاكي بالكذب إذا رآها غير وافية بالتعجيب ويدافع عنها إذا قوبلت بالتكذيب، فيزعم أن الذي أخبره ثقة، أو أن الحكاية متواترة أو نحو ذلك. _________ (1) هكذا ضبطه المؤلف بضم الواو، ونصّت عامَّة المعاجم على أنَّ هذا المصدر من المصادر القليلة التي تأتي على فَعول.
(2/247)
فأما إن حكيت تلك الغريبة على أنها كرامة فإن الدواعي إلى نقلها ونشرها أشدُّ؛ لما تقدَّم، ومقابلتها بالشك أو التردد بعيد جدًّا عند العامة وكثيرٍ من المنتسبين إلى العلم؛ لأنهم يعتقدون أنَّ الشك في مثل ذلك شكٌّ في قدرة الله عزَّ وجلَّ وفساد عقيدة، فترى أحدهم يُكْرِهُ نفسه على التصديق بذلك خوفًا من الكفر وفساد العقيدة ولا يسمع أحدًا يُكَذِّبها أو يستبعدها أو يتردَّد في صِحَّتها [62] إلا ناله بما يكره. ولما صار أكثر المنتسبين إلى العلم في القرون المتأخرة يتزلَّفون إلى العامة وإلى مَن تعتقد فيه العامة جَارَوْهُم على هواهم، وأحسنهم حالًا مَنْ يعتصم بالسكوت. والحاصل أنَّ من أراد أن يعلم في شيء من تلك الخوارق المحكية عن بعض المعتقَد فيهم أثابتة هي أم لا؟ فعليه أن يختبرها بما تُخْتَبَرُ به سنة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ومعجزاته. ومَن كان له اطِّلاع على علم الحديث وكلام أهله والكتب التي أُلِّفَتْ في الموضوعات علم أنَّ كثيرًا من الموضوعات قد اغترَّ بها أئمة أكابر كالغزالي وإمام الحرمين والزمخشري والبيضاوي وغيرهم، فأدرجوها في كتهبم، بل إنَّ أئمة الحديث ليوردون في كتبهم التي لم يلتزموا فيها الصحة كثيرًا من الأحاديث الموضوعة ولا يُنَبِّهون على وضعها مكتفين بأنهم لم يلتزموا الصحة، وأن على من رأى حديثًا في كتبهم ينبغي له أن يبحث عن درجته. ويقع هذا كثيرًا في مؤلفات ابن منده وأبي نعيم والخطيب وابن عساكر وغيرهم. بل وقع بعضه في الكتب التي قيل إنها خاصة بالصحاح، ولا سيَّما المستدرك، ولم يَعُدَّ أحدٌ من العلماء ذلك دليلًا على
(2/248)
صحَّتها، بل صرَّحوا بوضعها واعتذروا عن أولئك الأكابر. فكذلك لا ينبغي أن يُسْتَدَلَّ على صحة شيء من هذه الغرائب بإدراج بعض العلماء المشهورين لها في كتبهم، على أنَّ كثيرًا منهم يتسامحون في ذلك؛ لزعمهم أن ما كان من باب المناقب والفضائل يجوز التساهل في روايته؛ لأنه لا يبنى عليه حكم شرعيٌّ لا قطعيٌّ ولا ظنِّيٌّ. [63] وقد نُقِلَ نحوُ هذا عن الأئمة المتقدمين وشرطوا ألّا يشتمل على شيء من الأحكام، وألّا يبنى عليه شيء من الأحكام، وقد حققت هذا البحث في رسالة مستقلة (1). والحمد لله. فصل فإذا صحَّ وثبت وقوع شيء من الغرائب عن رجل من المسلمين (2) كان عليك حينئذٍ أن تعرف من أيّ الأقسام هو، فقد قسم أهل العلم الغرائب إلى قسمين: خوارق وغيرها. وذكروا أن الخوارق على أربعة أضرب: معجزة, وكرامة, واستدراج, وإهانة. فالمعجزة مخصوصة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام. والكرامة بالأولياء والصالحين, وأنكرها المعتزلة والأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني من كبار أئمة أهل السنة، قال: كل ما جاز تقديره معجزة لنبيٍّ لا يجوز ظهور مثله كرامةً لوليٍّ، وإنما مَبَالِغُ الكرامات إجابة دعوة أو موافاةُ _________ (1) هي: رسالة «حكم العمل بالحديث الضعيف». (2) هنا لَحَق بقدر ثمان كلمات، ظهر منها: (لزم ... النظر فيها أخارق هي أم لا؟)، مع أنَّ الكلام يستقيم بدونها.
(2/249)
ماءٍ في بادية من غير توقُّع المياه، أو نحو ذلك مما ينحطُّ عن خرق العادات. وقال الإمام القشيريّ ــ وهو من أئمَّة أهل السنَّة العارفين بالتصوُّف ــ: لا تنتهي الكرامة إلى نحو ولدٍ دون والدٍ، وقلب جمادٍ بهيمةً. قال التاج السبكي: وهذا حق يخصص قول غيره: ما جاز أن يكون معجزة لنبيٍّ جاز أن يكون كرامة لوليٍّ (1). وقال الحافظ ابن حجرٍ في فتح الباري في باب غزوة الرجيع، في الكلام على مقتل خُبَيبٍ رضي الله عنه وقول المرأة: «لقد رأيتُه يأكل من قِطْف عنبٍ وما بمكَّة يومئذٍ ثمرةٌ، وإنه لموثقٌ في الحديد، وما كان إلا رزقٌ رزقه الله خُبَيبًا». قال الحافظ: «قال ابن بطَّالٍ: هذا يمكن أن يكون الله جعله آيةً على الكفار وبرهانًا لنبيِّه لتصحيح رسالته، قال: فأما مَن يدَّعى وقوع ذلك له اليوم بين ظهراني المسلمين فلا وجه له؛ إذ المسلمون قد دخلوا في الدين وأيقنوا بالنبوَّة، فأيُّ معنىً لإظهار الآية عندهم؟ ولو لم يكن في تجويز ذلك إلا أن يقول جاهلٌ: إذا جاز ظهور هذه الآيات على يد غير نبيٍّ فكيف نصدِّقها من نبيٍّ والفرض أن غيره يأتي بها؟ لكان في إنكار ذلك قطعًا (2) للذريعة، إلى أن قال: إلا أن يكون وقوع ذلك مما لا يخرق عادةً ولا يقلب عينًا، مثل أن يكرم الله عبدًا بإجابة دعوةٍ في الحين ونحو ذلك مما يظهر فيه فضل الفاضل وكرامة الوليِّ، ومن ذلك حماية الله تعالى عاصمًا لئلا ينتهك عدوُّه حرمته، انتهى. _________ (1) انظر: شرح المحلِّي على جمع الجوامع مع حاشية البناني 2/ 262 - 263. [المؤلف] (2) كذا في الأصل وفتح الباري.
(2/250)
والحاصل أن ابن بطَّالٍ توسَّط بين مَن يثبت الكرامة ومَن ينفيها، فجعل الذي يُثبَت ما قد تجري به العادة لآحاد الناس أحيانًا، والممتنعَ ما يقلب الأعيان مثلًا. والمشهور عن أهل السنَّة إثبات الكرامات مطلقًا، واستثنى بعض المحقِّقين منهم كأبي القاسم القشيريِّ ما وقع به التحدِّي لبعض الأنبياء، فقال: ولا يصلون إلى مثل إيجاد ولدٍ من غير أبٍ ونحو ذلك. وهذا أعدل المذاهب في ذلك؛ فإن إجابةَ الدعوة في الحال وتكثيرَ الطعام والماء والمكاشفةَ بما يغيب عن العين والإخبارَ بما سيأتي ونحو ذلك قد كثر جدًّا حتى صار وقوع ذلك ممن ينسب إلى الصلاح كالعادة، فانحصر الخارق الآن فيما قاله القشيريُّ، وتعيَّن تقييد قول مَن أطلق أن كلَّ معجزةٍ وُجِدَتْ لنبيٍّ يجوز أن تقع كرامةً لوليٍّ» (1). وفي شرح المقاصد: ثمَّ المجوزون ذهب بعضهم إلى امتناع كون الكرامة على قضيّة الدعوى، حتى لو ادّعى الوليّ الولاية واعتقد بخوارق العادات لم يجز ولم يقع، بل ربما يسقط عن مرتبة الولاية. وبعضهم إلى امتناع كونها من جنس ما وقع معجزة لنبي, كانفلاق البحر وانقلاب العصا وإحياء الموتى، قالوا: وبهذه الجهات تمتاز عن المعجزات. وقال الإمام: هذه الطرق غير سديدة، والمرضي عندنا تجويز جملة خوارق العادات في معرض الكرامات، وإنما تمتاز عن المعجزات بخلوِّها _________ (1) فتح الباري 7/ 268 - 269. [المؤلف]
(2/251)
عن دعوى النبوة، حتى لو ادَّعى الولي النبوة صار عدوًّا لله، لا يستحق الكرامة، بل اللعنة والإهانة (1). والاستدراج: ما يجريه الله عزَّ وجلَّ لبعض الدجّالين، كالدجّال الأكبر، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عدَّة عجائب تقع معه، وذلك فتنة وابتلاء وامتحان واختبار من الله عزَّ وجلَّ لخلقه, ليمتاز المؤمن الموقن عن علمٍ ومعرفةٍ من غيره، فإن المؤمن الموقن عن علمٍ ومعرفةٍ يميِّزُ ما هو حجة حقيقية يرتضيها الشرع والعقل، وما ليس كذلك، فتلك العجائب لا تخدش في يقينه؛ للبراهين القاطعة على كذب الدجال، فيعلم المؤمن حينئذٍ أن تلك العجائب من قَبِيل الاستدراج. وأما غيره فإن العجيبة عنده [64] هي أقوى الحجج، فإذا رآها خضع لها، والعياذ بالله تعالى. فإن قيل: فما الفرق بين المعجزة والاستدراج، حيث قلتم: إن المعجزة توجب العلم اليقينيَّ بصدق صاحبها، وأن الاستدراج لا يدل على صدقه، بل قد يدلُّ على كذبه؟ قلت: قد تولّى الإمام الغزالي رحمه الله وغيره من علماء الأمة بيانَ الفرق. وحاصله: أن المعجزة إنما تفيد الصدق بمعونة القرائن، مثل أن تكون سلسلة النبوة لم تختم، وأن يكون مدَّعي النبوة محمود السيرة، وألّا يأتي بما يكذبه العقل تكذيبًا قاطعًا, ولا يأتي بما يكذب خبرًا ثابتًا عن الله عزَّ وجلَّ ثبوتًا قطعيًّا، وأن يكون عامّة ما يأتي به مما تتضافر الفطر والعقول والشرائع على الشهادة بأنه حق، إلى غير ذلك؛ بخلاف الاستدراج فإنه يصحبه براهين قطعية على كذب الدجّال إذا ادّعى دعوى يستشهد عليها بالعجيبة، فأما إن لم _________ (1) شرح المقاصد 2/ 203. [المؤلف]
(2/252)
يدَّعِ ولم يستشهد فلا إشكال أصلًا. والله أعلم. والإهانة: ما يجريه الله تعالى تكذيبًا للدجّال, كما نقل أن مسيلمة الكذاب بلغه أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مسح بيده على رأس أقرع فنبت شعره، وتفل في بئر كان ماؤها ملحًا فعَذُب، ففعل مسيلمة مثل ذلك فازداد رأس ممسوحه قرعًا وماء بئره ملوحة (1). وقد بقي ضرب خامس, وهو الابتلاء, أعني ما يجريه الله عزَّ وجلَّ ليبتلي به المؤمنين ويختبرهم أيغترُّون به ويركنون إليه، فيقول أحدهم: أنا وليٌّ لله تعالى محبوب له؛ بدليل أنه أجرى على يدي الكرامة، أم يثبت على ما يقتضيه (2) الشريعة؟ وكما يكون ابتلاء لمن وقع على يده فهو كذلك ابتلاء لغيره، والله أعلم. ومن أعظم الابتلاء أن يُمَكِّن الله تعالى الدجَّال من استعمال غرائبه في نفع مَنْ يوافقه والإضرار بمن يخالفه مع أن المخالف على الحق، ولكن ليتبين حالُ المخالف أعلى يقين هو من أمره أم لا؟ ويتبيَّن حال غيره أيعتصمون بالحجج الحقيقيَّة أم يغترُّون بتلك الظواهر؟ وفي أحوال الدجَّال الأكبر كثير من هذا, فاحفظه وتدبَّره، فإنه مهمٌّ جدًّا. ومما يشهد له قصة لبيد بن الأعصم اليهودي في إضراره بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان ذلك سبب نزول المعوذتين (3). والله أعلم. _________ (1) تاريخ الطبري 3/ 284 - 285، الروض الأنف 4/ 225. (2) كذا في الأصل. (3) صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده 4/ 122، ح 3268، ومواضع أخرى، وصحيح مسلم، كتاب الأدب، باب السحر، 7/ 14، ح 5832.
(2/253)
[65] فصل وأما القسم الثاني من الغرائب: فيقع بكسب الإنسان وتَسَبُّبه، وقد تُسمَّى خوارق؛ لخفاء أسبابها وجهل غالب الناس بها. فمنها: الشعبذة, وهي: عبارة عن أعمال تُظَنُّ أوَّلَ الأمر خارقة، فإذا عُرِفَتْ أسبابُها تبين أنها حِيَلٌ بمعونة خاصيَّةٍ يجهلها أكثر الناس، أو خفَّة اليد وسرعة الحركة إلى حدٍّ لا يثبته الناظر، أو بآلة يخفيها المشعوذ، أو عملٍ خفي قد أعدَّه من قبل، أو مساعدة شخص آخر مختبئٍ أو ظاهرٍ، والنظَّارة (1) لا يحسبون له علاقة بالمشعوذ، أو غير ذلك. وللمشَعْبِذ مهارةٌ في تغليط النظارة، وصرف ظنونهم وأبصارهم إلى غير ما يريده. [66] (2) وقريب من الشعبذة ما يسمى الآن بالألعاب الرياضية، كرفع _________ (1) النَّظَّارة هم القوم ينظرون إلى الشيء. انظر: المعجم الوسيط، ص 923. (2) من منتصف ص 65 إلى آخرها مع ثلاثة أسطر من ص 66 كلامٌ مضروبٌ عليه وهو: (وبالجملة، فالشعبذة في الأعمال كالتعمية والإلغاز في الكلام، كقولي: والله الذي لا إله إلا هو إني أستطيع أن أخطو خطوة واحدة تكون إحدى رجليّ في الهند والأخرى في صعيد مصر، وأشير عند الكلام إشارات تناسب المقام. فكلُّ مَنْ عَلِم بُعْدَ ما بين الهند وبين مصر وصعيدها يعلم أن قطع ذلك بخطوة واحدة محال، وإذا سمعني أُقْسِم على ذلك، وهو يعلم أني مسلم متحرِّز عن إظهار الكذب والفجور عَلِمَ أني لا أحلف إلا على صدق، فيتحيَّر في ذلك، فإن كان يظن بي القدرة على خرق العادة صدَّقني على ظاهر قولي، وإن أساء بي الظن كذَّبني بلا تأمُّل. والعاقل الفَطِن: الذي يتأمَّل كلامي، فإن ظَفِر له بمحمل صحيح يخرجه من المعنى المحال عرف أنه المقصود، وإلا قال: لا بدَّ له من محمل صحيح غير ما يتبادر منه، ولم يتردَّدْ في أن المتبادر من ذلك الكلام أمر محال، وأني إن أردت ظاهره فأنا كذَّاب دجَّال). [المؤلف] إلى هنا انتهى الكلام المضروب عليه، لكن المؤلف قد عاد ووضع كلمة (صح) أربع مرات فوق آخر سطرين.
(2/254)
الأثقال العظيمة, والمشي على سلك دقيق ممدود بين جدارين، أو نحوها، والإمساك عن التنفس مدة طويلة، وغير ذلك مما لا يستطيع الإنسان فعله ابتداء، ولكن أصحابه تمرَّنوا عليه زمانًا حتى سَهُلَ لهم. ومن هذا القبيل: الإمساك عن الأكل مدة طويلة, وتناول بعض السموم, وإدخال حديدة في موضعٍ خاصٍّ من البدن. وقد رأيت فقراء يزعمون أنهم رفاعية زعموا أنهم يأتون بالخوارق، فكان أحدهم يُدخل حديدة في طرف عينه اليمنى ثم يرفع بها حدقته رفعًا يسيرًا، وهذا عمل بسيط، وهو يأبى أن يغرز الحديدة في نفس الحدقة أو يبرز الحدقة أكثر مما كان يبرزها. فأخبرناهم أن هذا ليس بشيء، فتقدَّم آخر وجعل يجذب جلد بطنه ثم يغرز فيما انجذب من الجلد مسلّة (1)، ولكنه يأبى أن يغرزها في حشاه بحيث تخرق الصِّفاق (2)، بل يأبى أن يغرزها في موضع آخر من جلده. ثم تقدَّم الثالث ــ وكان أهمَّهم ــ[67] فأبرز حنجرته وحلقومه إلى الأمام إبرازًا فاحشًا، ثم غرز حديدة في جانب عنقه الأيمن، ومرت وراء الحلقوم حتى نفذت من الجانب الأيسر، ولكن لحقته صعوبة شديدة وساعده أصحابه وبعد نفاذها سال دم وتأَلَّم الرجل. وحاول أصحابه أن يكتموا ذلك ولكن كان ظاهرًا، فقيل لهم: إن كان هذا كرامة فَلِمَ هذا _________ (1) هي بمعنى الإبرة. (2) الصِّفاق: غشاء ما بين الجلد والأمعاء. انظر: المعجم الوسيط، ص 517.
(2/255)
العناءُ كلُّه؟ فزعموا أنه كان في النَّظَّارة امرأة حائض! وسئلوا: هل يمكن هذا أن يغرز حديدة في بطنه أو في ثغرة نحره أو غير ذلك؟ فأجابوا: أنه ليس له إجازة في غير ما فعل. وفي اليمن فقراء كثيرون هذه صناعتهم. أن يطوفوا البلاد للسؤال، ويعملون بعض أعمالٍ. يوهم أحدهم أنه يغرز الحديدة في عينه أو في حلقه أو بطنه أو نحو ذلك، ويوهم الناس أنه يتحامل على الحديدة بأقصى قوَّته، وتتمُّ حِيَلُهُم على النساء والصبيان ونحوهم، ومنهم من يضرب كتفه بالسيف، ولكنه يقيس قوَّة يده بالضرب بقدر أن يدنو السيف من كتفه أو يلامسه ملامسة خفيفة، وقد يجاوز بعضهم هذا إلى حدِّ أنه يشق أعلى الجلد فيسيل الدم. والحاصل: أن العاقل إذا تأمَّل صنيعهم، وأمعن النظر تبين له أن عملهم كله مغالطة. [68] ومن الغرائب ما يكون عن قوة غريبة للنفس, فأشهر ذلك الإصابة بالعين، وقد تكون قوة الإصابة بالعين اكتسابية. قال في شرح المقاصد: «وقالوا: إن كان العين في بني أسد (1) , وكان الرجل يتجوَّع ثلاثة أيام فلا يمرُّ به شيء يقول فيه: لم أر كاليوم؛ إلّا عانه» (2). وفوق الإصابة بالعين درجات كثيرة تكتسب بالرياضة، فإنه كما أن القوى الجسمية يمكن تربيتها بالرياضة حتى تصير للمرتاض قوَّة لم تكن له من قبل ولا تكون لغير المرتاض، كما مرّ في الشعبذة والألعاب، فكذلك _________ (1) كذا في الأصل بتذكير العين وحذف اللام الفارقة من الخبر. (2) شرح المقاصد 2/ 207. [المؤلف]
(2/256)
القوى النفسية يمكن تربيتها بالرياضة المختصة بها. وهذا الأمر معروف من القِدَم بين اليونان وأهل الهند والصين وغيرهم. والفلاسفة القدماء فريقان: فريق يذهبون إلى اكتساب العلوم والمعارف بإعمال العقل والفكر، ويقال لهم: المشَّاؤون. وفريق يذهبون إلى اكتسابه برياضة النفس وترقيتها، ويقال لهم: الإشراقيون. قال غير واحد: فالمشَّاؤون كالمتكلمين من المسلمين، والإشراقيون كالمتصوِّفين. وفي رسائل ابن سينا وغيره كثير من طريق الإشراقيين، ويسميها هو تصوفًا. وقال البيروني (1): إن اشتقاق التصوف من كلمة يونانية هي سوفا، ومعناه: الحكمة، ومنها قيل: فيلسوف، وأصله باليونانية فيلا سوفا، أي: محبّ الحكمة، فعُرِّبت هذه الكلمة بالصاد، ونسب إليها الصوفي (2). أقول: واعلم أن أهل الرياضة من الأمم تختلف أغراضهم، فالحكماء _________ (1) هو أبو الريحان أحمد بن محمد -وقيل محمد بن أحمد- الخوارزمي العلامة المنجم الطبيب، اللغوي، من مؤلفاته: «الآثار الباقية عن القرون الخالية»، توفي سنة 440 هـ. انظر: عيون الأنباء في طبقات الأطبَّاء 2/ 20 - 21، ومعجم الأدباء 17/ 180. (2) تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة ص 24.
(2/257)
إنما يقصدون أن تصفو أنفسهم، وتنكشف لهم بعض الحقائق الكونية والمعارف الربانية، رغبة في العلم والمعرفة، [69] فإذا حصلت لهم قوى غريبة لم يأنسوا بها، ولا يلتفتون إلَّا إلى ما يرونه معينًا لهم على مطلوبهم. ولكنَّ كثيرًا من الناس إنما يرتاضون طلبًا لتحصيل القوة الغريبة، ومنهم من يكون نيته أوَّلًا تحصيل المعرفة، ولكن إذا حصلت له القوة الغريبة اغترّ بها وعكف عليها. وأساس هذه الرياضات عندهم الجوع والسهر والعزوبة والخلوة وقطع الشواغل وجمع الفكر في شيء واحد، وأن لا يأكل روحًا ولا ما خرج من روح، كالبيض، والسمن، واللبن، وغير ذلك، وإتعاب الجسد وأعمال أخرى لها قواعد مخصوصة عندهم كرياضة التنفُّس، فينظِّم الطالب تنفُّسه على كيفية مخصوصة يواظب عليها حتى تصير له عادة. ومنها: أن يوجِّه همته عند استنشاق الهواء إلى أن يمرَّ به على طريق مخصوص يمرُّ على أعضاء مخصوصة، وغير ذلك. ثم إنهم يزيدون على هذا المقدار أشياء تناسب غرض الطالب وعقيدته، فمن كان غرضه تحصيل المعرفة وتصفية النفس يضيف إلى ذلك المحافظة على الشريعة التي يعتقدها حقًّا، فالصابئة يضيفون تعظيم الكواكب ودعاءَها والتبخير بالبخورات الخاصة وغير ذلك، والوثنيون تعظيمَ الأصنام [70] والعكوف عليها، ونحو ذلك؛ وهكذا كل فريق بحسب اعتقاده. ومن كان غرضه تحصيل القوة الغريبة فإنه يقتصر على ما يظنه كافيًا في تحصيلها، حتى إن منهم مَنْ يستعجل حصول تلك القوة ويرى أنها لا تحصل له إلا إذا أصلح نيته، ولكنه قد يحصل له مثلها بمعونة الشياطين،
(2/258)
فيسعى في الأعمال الخبيثة في اعتقاده، ويبالغ فيها، فربما حصل له شيء من القوة بسبب الرياضة إن كان ارتاض، ولكنه يظنها ما حصلت له إلا بتلك الأعمال الخبيثة، وأنه إن ترك تلك الأعمال سُلِبَ تلك القوة. ومنهم من تستولي عليه الشياطين حقيقة، فيساعدوه (1) على بعض ما يريد ليطيعهم، ويعمل على تطويع الناس لهم، والعياذ بالله. والمقصود أن حصول تلك الآثار إنما هو في الغالب نتيجة لما قدَّمنا ذكره من الجوع والسهر ونحوهما، فإذا صَحِبَ ذلك نوعٌ ما مما يراه المرتاض عبادة فإنما يساعد على حصول تلك الآثار من حيث هو رياضة. ولذلك لا يختص حصول تلك الآثار بدين من الأديان، ولكن الناس لجهلهم بالأسباب الحقيقية يستدلون على صحة الدين بحصول تلك الآثار للمرتاضين العاملين به، بل قد يستدل المرتاض نفسه بذلك، وهو خطأ كما علمتَ. والله أعلم. [71] واعلم أن هذه الرياضة ليست بمذمومة على الإطلاق، فقد جاء الإسلام بالنهي عن الإسراف في الأكل والشرب، وبمشروعية الصيام، وقيام الليل، والتفكر, والاعتكاف, وغير ذلك مما يتضمن طرفًا من الرياضة وإن لم تكن الرياضة هي المقصود من ذلك، على أنه لا يبعد أن تكون مقصودة في الجملة. وعلى كل حال فإن القدر الذي تضمنته العبادات المشروعة في الإسلام من الرياضة مفيد في تهذيب الأخلاق، وتقوية العزم، وتصفية النفس، وغير _________ (1) كذا في الأصل.
(2/259)
ذلك إلى حدٍّ لا يبلغ القوى الغريبة. بل جاءت أحاديث كثيرة في النهي عن الغلوِّ في العبادات؛ فثبت النهي عن مواصلة الصوم، وعن صوم الدهر، وعن قيام جميع الليل أبدًا، وأخرى في النهي عن الغلو، وعن التشديد على النفس ومجاوزة ما كان عليه أصحاب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على عهده. فكان الصحابة رضي الله عنهم وعامَّة التابعين واقفين عند الحدود الشرعية في ذلك، ولكنه بعد ذلك نشأ أفرادٌ لهم رغبة في الخير وفي عبادة الله عزَّ وجلَّ, يتأوّلون ما ثبت عن الشارع من النهي عن الزيادة في العبادات بأن ذلك كان شفقة منه على الناس لئلا يشق عليهم, أو خشية أن يكون الإمعان في العبادة داعيًا إلى السآمة والملل، أو لئلا تضعف أجسامهم عن الجهاد والعمل في إعزاز الإسلام، ونحو ذلك من التأويلات. وربما بالغ بعضهم [72] في العبادات ونحوها مما ورد في الشرع استحبابُ طرفٍ منه، حتى يبلغ بهم الحالُ إلى مشابهة أهل الرياضات, كما كانوا يبالغون في تجويع أنفسهم؛ لأنهم لا يجدون طعامًا حلالًا صِرْفًا لا شبهة فيه، وفي مناقب الزهاد أشياء من ذلك. وفي القرن الثاني والثالث بدأ هؤلاء المبالغون يذكرون أن للجوع فائدة في تصفية النفس. ثم اطَّلع المسلمون على فلسفة اليونان ووجدوها على طريقين: إعمال العقل، ورياضة النفس؛ فنقلوا ذلك وعملوا به. وقد عورضوا في الأولى معارضة شديدة يعلمها من له إلمام بتاريخ الإسلام. وأما الثاني فلم يَلْقَ كبيرَ معارضة؛ لأن أصحابه ألحقوا كلَّ طَرَفٍ منه بما يشابهه في الإسلام، وقد قدَّمنا أن الإسلام تضمَّن طرفًا من الرياضة، وأن
(2/260)
بعض الراغبين في الخير بالغوا في ذلك. ولم تبق على الناقلين صعوبة إلا في بعض الأمور؛ كالعزوبة، وأن لا يأكل من روح ولا ما خرج من روح، ورياضة التنفس، فألحقوها بالإسلام بضربٍ من التَّمَحُّل، فقالوا: إن الزواج يشغل عن أداء الحقوق، ويحمل على الحرص على الدنيا من حلِّها وغير حلِّها، ولا سيَّما على أمثالنا من الضعفاء، فأما النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأصحابه فكانت عندهم قوة ليست عندنا، وذكروا حديثًا نسبوه إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «خيركم بعد الـ ... (1) مَن لا زوجة له ولا ولد». وأما منع الأكل من روح أو ما خرج من روح فاستشهدوا له بما نقل عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إن لهذا اللحم ضراوة كضراوة الخمر (2) , [73] وغير ذلك. وأما رياضة التنفس فاخترعوا لها نوعًا من الذكر بقولهم: (هو الله، الله _________ (1) كذا في الأصل. ولعلَّه أراد حديث: «خيركم في المائتين كلُّ خفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد». أخرجه أبو يعلى في مسنده - كما في إتحاف الخيرة المهرة 4/ 3، ح 3584 - وغيره، من طريق روَّاد بن الجرَّاح عن سفيان الثوريّ، ولم يتابَع عليه. ولذلك قال أبو حاتمٍ: «باطلٌ»، وقال مرَّةً: «منكرٌ». انظر: العلل س 1890 و 2765. وقال الدارقطنيّ: «تفرَّد به روَّادٌ، وهو ضعيفٌ». انظر: العلل المتناهية 2/ 146 - 147، ح 1051 - 1052. وقال السخاويّ: «وعلَّته روَّادٌ، ولذا قال الخليليّ: ضعَّفه الحفَّاظ فيه وخطَّؤوه. انتهى. فإن صحَّ فهو محمولٌ على جواز الترهُّب أيَّام الفتن. وفي معناه أحاديث كثيرةٌ كلُّها واهيةٌ». المقاصد الحسنة ص 203، ح 452. وقال الألبانيّ: «باطلٌ»، وقال أيضًا: «موضوعٌ». انظر: السلسلة الضعيفة 8/ 71، ح 3580، ضعيف الجامع الصغير ح 2919. (2) أخرجه مالك في الموطأ 2/ 524 - 525 ح 2702, وأبو داود في الزهد (47) , وغيرهما.
(2/261)
هو)، على نظام مخصوص، واخترعوا بدل جمع الهمة وحصر الفكر في شيء معيّن حصر المريد هَّمته في تصوُّر الشيخ، ونحو ذلك. واعلم أن العاملين بالرياضة من المسلمين على أقسام: فقسم منهم يرى أنها علم من العلوم، وصناعة من الصنائع, تختلف أحكامها في الشريعة باختلاف الغرض منها. فمَنْ كان غرضه منها تهذيب نفسه وتقوية إدراكه وتحصيل قوة يستعين بها على معرفة ربِّه فلا بأس بها عند هؤلاء. ومَنْ كان غرضُه تحصيلَ قوة يستعين بها على أغراضه الدنيوية من الجاه والشهرة ونحو ذلك فهي وبال عليه. وقسم منهم تَوَهَّم أنها عبادات، إما بناء على ما تقدّم من أن الشريعة جاءت بشيء مما يشبهها، وأن أفرادًا من الراغبين في الخير بالغوا في ذلك إلى أن قربوا منها. وإما استنادًا إلى كلام المتأخرين من المتصوفين الذين يزعمون أن تلك الأعمال عبادة إسلامية بدون تأويل. وقسم ليس لهم اعتقاد ثابت في الشريعة، ورأوا أن هذه الرياضة طريقة من طرق الحكماء تُوْصِل إلى زيادة المعرفة والقوة الغريبة، ولكنهم يراؤون الناس بزعم أنهم يعتقدون [74] أنها عبادة. ثم لما كان مقرَّرًا عند جمهور الأمة أن الله عزَّ وجلَّ يكرم صالحي عباده بأن يخرق لهم العادة أحيانًا، وقد نقل شيء من ذلك عن بعض الصحابة والتابعين، وكان أكثر الناس يجهلون أن الرياضة من شأنها ترقية قُوَى الناس إلى حدِّ الغرائب= صاروا يسمُّون كلَّ ما يظهر أو ينسب إلى المرتاضين من الغرائب: كراماتٍ, مع أنها محتملة لذلك، ومحتملة أن تكون من آثار الرياضة. والله أعلم.
(2/262)
وقد قال الصوفية أنفسهم بأن السالك يمر على مرتبة السحر العال (1) يكون صاحبها بحيث لا يريد شيئًا إلا كان في الحال، وأنه إن وقف عليها هلك. ذكره غير واحدٍ، منهم: عبد الكريم الجيليّ (2) في «الإنسان الكامل»، في الباب السادس والثلاثين (3)، وفي كتب الغزاليّ نحو ذلك. ومن الغرائب ما يكون بمساعدة الشياطين، إما لمشاكلة بينهم وبين نفس ذلك الإنسان, كابن صَيَّاد الثابتة قصته في الصحيحين وغيرهما (4). وإما بسعي ذلك الإنسان فيما يرضي الشياطين حتى يساعدوه, كما في كُهَّان العرب. وكان في زمن الحجاج رجل يقال له عبد الله بن هلال، ويلقَّبُ «صديق إبليس»؛ كان يعمل الغرائب، وكان يترك صلاة العصر إرضاء لإبليس حتى يساعده (5). _________ (1) كذا في الأصل بحذف ياء المنقوص، وفسَّره الجيليّ في الإنسان الكامل (1/ 71) بأنه شيءٌ يشبه الكرامات، قال: «لأنه بلا أدويةٍ ولا عملٍ ولا تلفُّظٍ بشيءٍ، بل بمجرَّد قوىً سحريَّةٍ في الإنسان تُجْري الأمور على حسب ما اقتضاه الساحر». (2) عبد الكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم الجيلي القادري، قطب الدين، صوفي، من تصانيفه الكثيرة: الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل، الإسفار عن رسالة الأنوار فيما يتجلَّى لأهل الذكر من الأنوار لابن عربي، توفي سنة 832 هـ. الأعلام 4/ 50 - 51 ومعجم المؤلفين 5/ 313. (3) 1/ 71. (4) انظر: البخاريّ، كتاب الجهاد والسير، بابٌ كيف يعرض الإسلام على الصبيّ؟ 4/ 70 - 71، ح 3055. وصحيح مسلمٍ، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صيَّادٍ، 8/ 189 - 194، ح 2924. [المؤلف] (5) انظر ترجمته في: لسان الميزان [3/ 372 - 374]. [المؤلف]
(2/263)
وكثير من الناس في الهند وغيرها في عصرنا هذا يسلكون هذه الطريقة، أي التقرب إلى الشياطين. وإما لقصد الشياطين أن يُضِلُّوا ذلك الإنسان ويُضِلُّوا به، وقصة الشيخ عبد القادر الجيلي رحمه الله وتعرُّض الشيطان له مشهورة، وأشباهها كثيرة. قال ابن قتيبة في عيون الأخبار (1): حدثني محمد بن داود، قال: حدثنا أبو الربيع الزهراني، قال: حدثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن إبراهيم في الرجل يرى الضوء في الليل قال: هو من الشيطان، لو كان فضلًا لأوثر به أهل بدر. وعن السلف آثار أخرى في هذا المعنى، كما روي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما وغيرها، من قولهم لِمَنْ يُصْعَقُ عند سماع القرآن: من الشيطان، وغير ذلك (2). وفي مقابلها آثار كثيرة عن التابعين فمن بعدهم في تحسين الظنِّ بمن ظهر على يده شيء من الغرائب، وكان واقفًا عند حدود الله تعالى، متحقِّقًا بالكتاب والسنة، بلا تحريف ولا تأويل يخالف به العلماء. والله أعلم. فأما السحر، فمنه ما يكون بالرياضة، ومنه ما يكون بالتقرُّب من الشياطين، ومنه ما يكون بغير ذلك، وسنتكلم عليه في ما يأتي إن شاء الله. [75] فصل واعلم أن الخوارق والغرائب متقاربة يلتبس بعضها ببعض غير أن المعجزة تمتاز بما قدمنا، وكذلك الإهانة ممتازة كما مرّ. _________ (1) 4/ 301. [المؤلف] (2) انظر: سنن سعيد بن منصور، كتاب فضائل القرآن 2/ 330 ح 95، وانظر آثارًا أخرى في هذا المعنى في الدر المنثور 7/ 221 - 222.
(2/264)
فأما الكرامة فذكر أهل العلم أنها تمتاز بوقوعها على يد المسلم العالم بالشريعة العامل بها. قال الشعراني في كتابه «تنبيه المغترِّين»: «من أخلاق السلف الصالح رضي الله عنهم ملازمة الكتاب والسنة كلزوم الظلِّ للشاخص، ولا يتصدَّر أحدهم للإرشاد إلا بعد تبحره في علوم الشريعة المطهرة بحيث يطلع على جميع أدلة المذاهب المندرسة والمستعملة، ويصير يقطع العلماء في مجالس المناظرة بالحجج القاطعة أو الراجحة الواضحة، وكتب القوم مشحونة بذلك، كما يظهر من أقوالهم وأفعالهم. وقد كان سيد الطائفة الإمام أبو القاسم الجنيد رضي الله عنه يقول: كتابنا هذا ــ يعني القرآن ــ سيد الكتب وأجمعها، وشريعتنا أوضح الشرائع وأدقُّها, وطريقتنا ــ يعنى طريق أهل التصوف ــ مشيدة بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويحفظ السنة ويفهم معانيها لا يصح الاقتداء به. وكان رضي الله عنه يقول: ما نزل من السماء علم وجعل الله لغير [76] نبيٍّ إليه سبيلًا إلا وجعل لي فيه حظًّا ونصيبًا. وكان رضي الله عنه يقول لأصحابه: لو رأيتم رجلًا قد تربَّع في الهواء فلا تقتدوا به حتى تروا صنعه عند الأمر والنهي، فإن رأيتموه ممتثلًا لجميع الأوامر الإلهيّة مجتنبًا لجميع المناهي فاعتقدوه واقتدوا به، وإن رأيتموه يخلُّ بالأوامر ولا يجتنب المناهي فاجتنبوه. انتهى» (1). وفي الأنوار: «ومن ادَّعى الكرامات لنفسه بلا غرض ديني فكاذب _________ (1) تنبيه المغترين ص: 6. [المؤلف]
(2/265)
يلعب به الشيطان» (1). وقال الشاطبي: «وقال أبو يزيد البسطامي: لو نظرتم إلى رجل أُعْطِيَ من الكرامات حتى يرتقي في الهواء فلا تغترُّوا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وآداب الشريعة» (2). وقال الحافظ ابن حجر في الكلام على غزوة الرجيع من فتح الباري: «ووراء ذلك كله أن الذي استقر عند العامة أن خرق العادة يدلّ على أنّ من وقع له ذلك من أولياء الله تعالى، وهو غلط ممن يقوله؛ فإن الخارق قد يظهر على يد المبطل من ساحرٍ وكاهن وراهب، فيحتاج مَنْ يستدلُّ بذلك على ولاية أولياء الله تعالى إلى فارقٍ، وأولى ما ذكروه أن يُخْتبر حالُ مَنْ وقع له ذلك، فإن كان متمسِّكًا بالأوامر الشرعية كان ذلك علامة ولايته، ومَنْ لا فلا» (3). أقول: والتمييز بين الكرامة والابتلاء والغرائب التي قدَّمناها صعب جدًّا، كثيرًا ما يشتبه على من جرت الواقعة على يده فضلًا عن غيره. وأقصى ما يمكن: أن تمتحن تلك الواقعة مع النظر في جميع ما يتعلق بها، وتوزن بالكتاب والسنة، فإن وُجِد فيها مخالفةٌ ما لظاهرٍ من ظواهر الشريعة كان الظاهر أنها ليست بكرامة، وإلا كانت محتملة. وهذا ــ والله أعلم ــ مراد الجنيد وأبي يزيد. فأما أمرهما بالاعتقاد والاقتداء فإنما ذلك لكون ذلك الرجل عالمًا عاملًا [77] بحسب الظاهر، _________ (1) نقله ابن حجر ص: 54 وأقرّه في الإعلام [بهامش الزواجر 2/ 161]. [المؤلف]. (2) الاعتصام 1/ 113 - 114. (3) فتح الباري 7/ 269. [المؤلف]
(2/266)
ومن كان كذلك كان أهلًا أن يُعْتَقَد فيه ويُقْتَدى به وإن لم يظهر على يده شيء، فظهور تلك الواقعة مع سلامتها عن الدلالة على مخالفته للشريعة إن لم يزده لم ينقصه، فتدبَّرْ. وعلينا إذا رأينا مَنْ ظهر على يده شيء من ذلك، وهو معتصم بالشريعة واقف عند حدودها، ولم يتعاط شيئًا من أسباب الغرائب، أن نظن تلك الظاهرة كرامة، وهذا مجرد ظن لا يكون حجة على القطع بأنه وليٌّ لله تعالى. وقد تقدّم في الطريق الثالث (1) ما فيه كفاية، والحمد لله. [وفي الصحيحين عن أبي بكرة قال: أثنى رجل على رجل عند النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «ويحك قطعت عنق صاحبك»، يقولها مرارًا: «إن كان أحدكم مادحًا لا محالة، فليقل: أحسب كذا وكذا، إن كان يرى أنه كذلك، وحسيبه الله، ولا يزكِّي على الله أحدًا» (2). وفي صحيح البخاريِّ وغيره حديث سعد بن أبي وقاص وقوله في رجل: إنه لمؤمن، فقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أو مسلم»، الحديث (3). _________ (1) لعله يشير إلى استناد بعضهم إلى تقليد الصوفية المعتَقَد فيهم العصمة. (2) البخاريّ، كتاب الأدب، باب ما يُكرَه من التمادح، 8/ 18، ح 6061. ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراطٌ، 8/ 227 - 228، ح 3000. [المؤلف] (3) البخاريّ، كتاب الإيمان، بابٌ إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، 1/ 14، ح 27. [المؤلف]. وهو في صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب تألُّف مَن يُخاف على إيمانه، 1/ 91، ح 150.
(2/267)
وحديث الأنصارية التي قالت في عثمان بن مظعون بعد وفاته: فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «وما يدريكِ أن الله أكرمه؟ » الحديث. وفيه: «والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به» (1). وفي مسند أحمد وغيره عن شقيق، ومسروق، عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «إن من أصحابي مَنْ لا يراني بعد أن أفارقه»، فبلغ عمرَ رضي الله عنه، فجاء عمرُ فدخل عليها فقال لها: بالله منهم أنا؟ فقالت: لا، ولن أبرِّئ أحدًا بعدك (2)] (3). [78] وبالجملة، الأدلة في هذا كثيرة، وحاصلها: النهي عن القطع، فأما الظن وما يتبعه من الثناء المبني على الظاهر بدون نصٍّ على القطع، فلا حرج فيه. وإذا ظننا في إنسان أنه وليٌّ لله تعالى بما ظهر لنا من علمه وعمله، واستقامته على الصراط الشرعي؛ فلا يلزم من ذلك أن نجعل قوله حجة؛ لأن ولايته لم تثبت بالقطع، ولو ثبتت فهي لا تقتضي العصمة. وقد سئل الجنيد: أيزني العارف؟ فسكت قليلًا، ثم قال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38] (4). وهب أننا ظننا برجل أنه معصوم أو كالمعصوم، فإنما ذلك عن التعمُّد، فأمَّا عن الخطأ فلا شبهة في عدم عصمته؛ إذ لا تمنعه تقواه وورعه أن يخطئ _________ (1) البخاريّ، كتاب الشهادات، باب القرعة في المشكلات، 3/ 182، ح 2687. [المؤلف] (2) المسند 6/ 290، وص 298، وص 307، وص 312، وص 317. [المؤلف] (3) ما بين المعقوفتين رأينا عليه خطًّا معترضًا، يحتمل أن يكون للضرب عليه. (4) انظر: الرسالة القشيرية ص 187.
(2/268)
فيقول أو يعمل ما يظنه حقًّا وهو في نفس الأمر باطل. وكذلك لا يمنعنا اعتقاد أنه أخطأ مِنْ حُسْنِ الظن به، وظنِّ أنه كان صالحًا فاضلًا أو وليًّا لله عزَّ وجلَّ؛ فإن المجتهد إذا أخطأ لم يأثم، بل هو مأجور، كما ورد في الحديث (1)، وأشار إليه القرآن في قصة داود وسليمان، فقال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]. واعلم أن كثيرًا من مسائل العقائد لا تخرج عن هذا؛ فإن كثيرًا من الأعمال والأقوال يُعَدُّ كفرًا، ومع ذلك يُنْقل شيء منه عن بعض الأكابر، ولا يمنع ذلك من اعتقاد فضلهم وصلاحهم وولايتهم؛ فإن إنكار آية من القرآن كفر، ومع ذلك فقد قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه: إن المعوذتين ليستا من القرآن، ولم يقدح ذلك في جلالته، لما كان له من العذر. وأمثلة ذلك كثيرةٌ، لعلَّنا نفرد لها فصلًا، وقد قدَّمنا (2) ما يتعلَّق بهذا. وحاصله: أنه ليس كل ما ثبت في العمل أنه كفر أو شرك ثبت أن كلَّ مَنْ عَمِله يكون كافرًا أو مشركًا، بل ربما يكون العمل كفرًا أو شركًا ويكون بعضُ عامليه من أولياء الله عزَّ وجلَّ؛ لأنه كان معذورًا في عمله. وبهذا يندفع عنك ما تتوهَّمه؛ إذ تقول لك نفسك: لو كان هذا كفرًا أو شركًا لكان فلان وفلان وآبائي ومشايخي كفارًا، وأنت لا تستطيع أن تتصوَّر ذلك, وبهذا التوهم تتجنَّب النظر إلى الأدلة بالعدل والإنصاف. _________ (1) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام, باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ, 9/ 108, ح 7352. ومسلم في كتاب الأقضية, باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ, 5/ 131, ح 1716, من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه. (2) في ص 132 - 147.
(2/269)
وقد غلط كثير من الناس فصاروا إذا ظهر لهم في أمرٍ أنه كفر تعدَّوا الحدود وأعلنوا بتكفير جماعة من أئمة الدين والأولياء الصالحين، وهذه حماقة شيطانية. نعم لا يلزم من عذر بعض العاملين أن يُعْذَر جميعهم؛ فإن للعذر شرائط، فلا يخدعنَّك الشيطان، فتقول: إذا كان أولئك معذورين فأنا معذور على فرض أن هذا العمل كفر أو شرك؛ فإنك إنما تعذر إذا بحثت وحقَّقْت وبذلت وُسْعَك ثم تبيَّن لك أنه ليس ذلك العمل بكفر ولا شرك، بشرط أن تكون أهلًا للبحث والنظر، وإلَّا فإنه يتعين عليك الاحتياط. ولعلَّنا نوضح هذا المعنى, وإنما قدَّمنا هنا الإشارة إليه مخافة أن يمنعك التوهُّمُ المذكور عن النظر في رسالتنا هذه نظر الطالب للحقِّ من حيث هو حقٌّ. والله الموفق. وأنت خبير أن سادة الأولياء هم الصحابة رضي الله عنهم، ولم يُجْعَل قولُ أحد منهم حجة كما تقدَّم. وكثيرًا ما نجد المنسوبين إلى الولاية يختلفون فيما بينهم، ويخطِّئ بعضهم بعضًا، وقد يَنْسُبُ كلٌّ منهما رأيَه إلى الكشف، وقد يقول أحدهم قولًا ينسبه إلى الكشف ثم يرجع عنه، وينسب رجوعه إلى الكشف أيضًا، وفي ذلك دلالة على أن الكشف يخطئ. وفي أبيات لابن عربي (1): واعتصم بالشرع في الكشف فقد ... فاز بالخير عُبيدٌ قد عُصِم _________ (1) نقلها الآلوسيُّ في روح المعاني (1/ 141 - 142) عن الفتوحات لابن عربيّ. وستأتي بقيَّة الأبيات في ص 307.
(2/270)
وسبب الخطأ في الكشف يُعْلَم مما قدمنا في الخوارق والغرائب. وأزيدك هاهنا فائدة جليلة. [79] اعلم أن الكشف، وإن ثبت أنه صحيح، فالأغلب أنه يكون له تأويل كتأويل الرؤيا، يوكل ذلك التأويل إلى فهم المكلَّف. والبرهان على ذلك مكاشفات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فإنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رأى ليلة أُسْرِي به الفطرة في صورة اللبن، والشهوات في صورة الخمر، وأشياء كثيرة رآها (1)، وهي من باب التمثيل تحتاج إلى تأويلٍ. وكذلك رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فقد رأى يوسف عليه السلام الكواكب والشمس والقمر ساجدين له، وكان تأويلُ ذلك سجودَ أبويه وإخوته. وقال الله تعالى لنبيه محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ ... } [الأنفال: 43]. فرآهم قليلًا وليسوا في الواقع قليلًا، ولكن ذلك كناية عن الذلَّة، وأنهم سيُغلبون. ورأى أنه في درع حصينة فأوَّلها المدينة. ورأى بقرًا تُنْحَرُ، فأوّلها بمن يقتل من أصحابه. ورأى سوارين من ذهب، فأولهما بالكذَّابَيْنِ: مسيلمة والأسود. وأمثال ذلك كثير (2). وإنما يكون الظاهر حجة في الأوامر التكليفية التي كلف الله العباد أن _________ (1) سيأتي تخريج هذه الأحاديث بعد أسطر. (2) انظر: باب التعبير في صحيح البخاريِّ 9/ 29 - 46، [ح 6982، وما بعده]. وكتاب الرؤيا في صحيح مسلمٍ 7/ 50 - 58، [ح 2261، وما بعده]. [المؤلف].
(2/271)
يتدبروها ويعملوا بما فيها، فأمّا ما عدا ذلك فهو على ما وصَفْتُ. هذا مع أن رؤيا الأنبياء وحي، فأما رؤيا غيرهم فإنها كما جاء [80] في الحديث محتملة أن تكون صادقة، وأن تكون من حديث النفس، وأن تكون من الشيطان. والكشفُ عند التحقيق ضرب من الرؤيا، غاية الأمر أن الروح إذا قويت وضعف الجسد صارت الروح تعمل في اليقظة مثل ما تعمل غيرها من الأرواح في النوم. والبرهان على هذا حديث البخاري وغيره عن أبي هريرة قال: قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لم يبق من النبوَّة إلا المبشِّرات»، قالوا: وما المبشِّرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة» (1). فلو كان الكشف أقوى من الرؤيا لكان أولى بأن يستثنيه. ثم رأيت في فتح الباري نقلًا عن الطيبي: « ... فلا يظهر على غيبه إظهارًا تامًّا وكشفًا جليًّا إلا لرسول ... وأما الكرامات فهي من قبيل التلويح واللمحات» (2). فأما حديث الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «ولقد كان فيما قبلكم من الأمم محدَّثون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر»، وفي روايةٍ: «فإن عمر بن الخطَّاب منهم» (3). فقد تتبعنا _________ (1) البخاريّ، كتاب التعبير، باب المبشِّرات، 9/ 31، ح 6990. [المؤلف] (2) انظر: فتح الباري 13/ 284. [المؤلف] (3) البخاريّ، كتاب فضائل أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، باب مناقب عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، 5/ 13، ح 3689، [من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]. ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، بابٌ من فضائل عمر رضي الله عنه، 7/ 115، ح 2398، [من حديث عائشة رضي الله عنها]. [المؤلف].
(2/272)
سيرة عمر رضي الله عنه فلم نجد له من هذا القبيل إلا الفراسة وصدق الظن. ولم يكن ذلك مطَّرِدًا له، بل كان ربما أخطأ، ولم يكن يحتج في الشريعة بمجرد ظنه، بل كان يقضي القضاء ثم يرجع عنه لحديث يبلغه، أو لرأي يبدو له أو غير ذلك. وهكذا لم يقل أحد من الصحابة ولا مَن بَعْدَهُم: إن قول عمر يكون حجة لحديث التحديث، وقد وجدنا صغار الصحابة وأئمة التابعين والأئمة الأربعة المجتهدين وأضرابهم كثيرًا ما يخالفون عمر لأدلَّة ظنية، بل لم يكن أحد من الصحابة يحتجّ في قليل ولا كثير [81] بالكشف، بل لا يكاد يصحُّ، بل لا يصحُّ عن أحد منهم دعوى الكشف لنفسه أو لغيره منهم، والله المستعان. وقصَّة: (يا سارية الجبل) لم تصحَّ، وإن قال بعض المتأخِّرين: إن لها طرقًا تبلغ بها درجة الحسن لغيره (1)، ومع ذلك ففيها: أن عمر سُئل بعد أن قال: «يا سارية الجبل»، فأجاب أنه شيءٌ جرى على لسانه لم يُلْقِ له بالًا، وسيأتي بقية الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى (2). وهكذا نجد نقل الكرامات عنهم قليلًا، والنادرَ من ذلك القليل صحيحًا، مع أنهم خير الأمة وأقربها من الله تعالى ورسوله، وأولاها بكل _________ (1) لعلَّه يعني الحافظ ابن كثيرٍ؛ فإنه قال بعدما ذكر طرقًا لهذه القصَّة: (فهذه طرقٌ يشدُّ بعضها بعضًا). انظر: البداية والنهاية 10/ 176. أو الحافظ ابن حجرٍ؛ فإنه حسَّن إسنادها في الإصابة، ترجمة سارية بن زنيم بن عبد الله الدؤليِّ، 4/ 177. (2) انظر: ص 799.
(2/273)
فضل، ولا يبلغ أحد ممن بعدهم مُدَّ أحدهم ولا نصيفه، عَمِلَ ما عَمِل. ولقد ينقل لواحد من أفراد الأمة بعد القرون الفاضلة أضعاف أضعاف ما نُقِلَ عن مجموع الصحابة رضي الله عنهم وأكثر من ذلك، وأنت إذا كنت قد تدبَّرت ما قدَّمنا فقد علمت السبب الحقيقيَّ في ذلك. والله أعلم. وأغرب من ذلك أنك تجد الصحابة وخيار التابعين ومَنْ يليهم من العارفين كانوا شديدي الخوف من الله عزَّ وجلَّ، والمقت لأنفسهم، واتهامها بالغرور والرئاء وغير ذلك، مع أن منهم مَنْ مدحه الله عزَّ وجلَّ في كتابه وبشره بالجنة على لسان رسوله، وكثر ثناء النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عليه، وكان ممن ورد فيهم: «اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم» (1)، فلا تجد أحدا منهم ادّعى لنفسه الخير والصلاح، وأن الله يحبه، وأنه من المقربين، ونحو ذلك. [81 ب] وفي الصحيحين عن عائشة قالت: صنع النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم شيئًا ترخص (2) وتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فحمد الله ثم قال: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟! فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشيةً» (3). _________ (1) صحيح البخاري كتاب الجهاد، باب الجاسوس ... ، 4/ 59 ح 3007، وصحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر 7/ 167 ح 2494 من حديث عليٍّ رضي الله عنه. (2) في بعض نسخ البخاريِّ: ترخَّص فيه. (3) البخاريّ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنَّة، باب ما يُكرَه من التعمُّق والتنازع، 9/ 97، ح 7301، مسلم، كتاب الفضائل، باب علمه - صلى الله عليه وسلم - بالله تعالى وشدَّة خشيته، 7/ 90، ح 2356، وفي رواية له: «فغضب حتى بان الغضب في وجهه». [المؤلف]
(2/274)
وفي معنى ذلك أحاديث أخرى. وفي الموطأ عن زيد بن أسلم، عن أبيه أنَّ عمر بن الخطَّاب دخل على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وهو يجبذ لسانه، فقال له عمر: مه! غفر الله لك، فقال له أبو بكر: إن هذا أوردني الموارد (1). وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه أخذ تِبْنَة من الأرض، فقال: ليتني كنت هذه التبنة، ليتني لم أُخْلَق، ليتني لم أكن شيئًا، ليتني كنت نسيًا منسيًّا (2). وفي مسند أحمد وغيره عن مسروقٍ (3). وعن علي عليه السلام أنه كان يقول في مناجاته بالليل: «آه من قلة الزاد وبُعد السفر ووحشة الطريق» (4). وقال ابن سعد (5): وعن ابن مسعود أنه قال رجل عنده: ما أحب أن أكون من أصحاب _________ (1) الموطَّأ بهامش شرحه المنتقى للباجي 7/ 312. [المؤلف]. وهو في كتاب الجامع، باب ما جاء فيما يُخاف من اللسان، 2/ 586، ح 2825 - ط: دار الغرب-. (2) انظر: الزهد لابن المبارك ص 79، ح 234، الطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 360، مصنَّف ابن أبي شيبة، كتاب الزهد، كلام عمر بن الخطَّاب، 19/ 149، ح 35621. وفي إسناده: عاصم بن عُبَيد الله، وهو ضعيفٌ. (3) بيَّض له المؤلِّف. (4) انظر: حلية الأولياء 1/ 85، تاريخ دمشق 24/ 401. وفي إسناده: محمد بن السائب الكلبي، وهو متهم بالكذب. وله طريق آخر عند ابن عبد البر في الاستيعاب 3/ 44 (بهامش الإصابة)، وفيه رجل مبهم. (5) بيَّض له المؤلِّف.
(2/275)
اليمين، أكون من المقربين أحب إليَّ. فقال عبد الله بن مسعود: لكن هاهنا رجل ودّ أنه إذا مات لا يُبْعَث، يعني نفسه (1). وعنه قال: لو تعلمون ما أعلم من نفسي حثيتم عليّ التراب (2). وعنه قال: لو وقفت بين الجنة والنار فقيل لي: اختر نخيِّرْك، من أيهما تكون أحب إليك، أو تكون رمادًا؛ لأحببت أن أكون رمادًا (3). يريد أن يخيّر بين أمرين: أحدهما: أن يكون رمادًا. الثاني: أن يُقْضَى له بما يستحقه من الجنة أو النار، فهو يختار الأول، أي: أن يكون رمادًا، لأنه لو اختار الثاني لا يدري لعله يقضى له بالنار. وعن ابن عمر قال: لو علمت أن الله يقبل مني سجدة واحدة وصدقة درهم لم يكن غائبٌ أحبَّ إليَّ من الموت، ثم تلا: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] (4). _________ (1) انظر: الزهد للإمام أحمد ص 195 و 198، حلية الأولياء 1/ 133، صفة الصفوة 1/ 405. (2) انظر: الزهد لأبي داود، ص 144، ح 148، المعرفة والتاريخ 2/ 549، المستدرك، كتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب عبد الله بن مسعودٍ، 3/ 316، حلية الأولياء 1/ 133، صفة الصفوة 1/ 406 - 407. (3) انظر: مصنَّف ابن أبي شيبة، كتاب الزهد، كلام ابن مسعود، 19/ 165، ح 35683، المعجم الكبير للطبراني 9/ 105، ح 8535، حلية الأولياء 1/ 133، صفة الصفوة 1/ 406. قال الهيثمي: (ورجاله ثقاتٌ، إلَّا أني لم أجد للحسن سماعاً من ابن مسعود). مجمع الزوائد 10/ 407. (4) انظر: تاريخ دمشق 31/ 146، صفة الصفوة 1/ 576.
(2/276)
وروى ابن سعد في ترجمة ابن عمر من الطبقات عن أبي الوازع أنه قال: قلت لابن عمر: لا يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم. قال: فغضب وقال: إني لأحسبك عراقيًّا، وما يدريك ما يُغْلق عليه ابن أمّك بابه؟ (1). وعن أبي ذرٍّ قال: والله لوددت أن الله عزَّ وجلَّ خلقني يوم خلقني شجرة تُعْضَد، ويؤكل ثمرها (2). [81 ج] وعن أبي الدرداء قال: أخوف ما أخاف أنْ يقال لي يوم القيامة: أعَلِمْتَ أم جَهِلْتَ؟ فإن قلتُ: علمتُ لا تبقى آية آمرة أو زاجرة إلا أُخِذْتُّ بفريضتها، الآمرة هل ائتمرت، والزاجرة هل ازدجرت (3). _________ (1) الطبقات الكبرى 4/ 161. وانظر: الزهد لابن المبارك (زيادات نُعَيم بن حمَّادٍ) ص 14، ح 54، المعرفة والتاريخ 3/ 191، المدخل للبيهقيِّ 2/ 91، ح 542، تاريخ دمشق 31/ 157 - 158، صفة الصفوة 1/ 572. (2) انظر: مسند أحمد 5/ 173، مصنَّف ابن أبي شيبة، كتاب الزهد، كلام أبي ذرٍّ، 19/ 209، ح 35827، الزهد لأبي داود، ص 186 - 187، ح 203، الزهد لوكيعٍ 1/ 393، ح 159، المستدرك، كتاب الأهوال، بشارة النبيِّ للمؤمنين أن يكونوا شطر أهل الجنَّة، 4/ 579. الزهد لهناد ص 259، ح 450، الزهد لابن أبي عاصم، ص 42، ح 66، حلية الأولياء 1/ 164، صفة الصفوة 1/ 595. وروي مرفوعاً، أخرجه الترمذيُّ في كتاب الزهد، باب قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً»، 4/ 556، ح 2312، وقال: (هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ). وابن ماجه في كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء، 2/ 1402، ح 4190، والحاكم في المستدرك، الموضع السابق، 4/ 579، وقال: (هذا حديثٌ صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه)، ولم يتعقَّبه الذهبيُّ. والموقوف هو الأشبه، كما قال الألباني في السلسلة الضعيفة 4/ 261، ح 1780، والسلسلة الصحيحة 4/ 299، ح 1722. (3) انظر: حلية الأولياء 1/ 214، صفة الصفوة 1/ 630. وورد نحوه في الزهد للإمام أحمد ص 170، وشعب الإيمان للبيهقيِّ 4/ 411، ح 1646، وجامع بيان العلم 1/ 549، ح 1201. ورُوِي مرفوعاً، وأوَّله: «كيف أنت يا عُوَيمر إذا قيل لك يوم القيامة: أعلمتَ أم جهلتَ ... ». أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده، كما في بغية الباحث 2/ 1004، ح 1124، والخطيب في اقتضاء العلم العمل ص 19، ح 5، وابن عساكر في تاريخه 67/ 181. وضعَّفه الألبانيُّ في السلسلة الضعيفة 9/ 179، ح 4157.
(2/277)
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ دخل عليها ابن عباس وهي محتضَرة فبشرها، وذكر فضائلها. فقالت: دعني عنك يا ابن عباس، فوالذي نفسي بيده، لوددت أني كنت نسيًا منسيًّا (1). وعن زين العابدين علي بن الحسين بن علي عليهم السلام أنه حجَّ فلما أحرم واستوت به راحلته اصْفَرَّ لونه، وانتفض، ووقع عليه الرِّعْدة ولم يستطع أن يلبي فقيل له: مالك لا تلبي؟ فقال: أخشى أن أقول: لبيك فيقال لي: لا لبيك، فقيل له: لا بدَّ من هذا، فلما لَبَّى غُشِيَ عليه، وسقط عن راحلته، فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجَّه (2). وعن محمد بن عليِّ بن الحسين أنه كان يقول في جوف الليل: إلهي أمرتني فلم آتَمِرْ، وزجرتني فلم أزدجر، هذا عبدك بين يديك ولا أعتذر (3). _________ (1) انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب التفسير، سورة النور، باب: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا ... }، 6/ 106، ح 4753، حلية الأولياء 2/ 45، صفة الصفوة 2/ 37 - 38. (2) ذُكِرَتْ هذه القصة في ترجمة علي بن الحسين من تهذيب التهذيب [7/ 306]. [المؤلف]. وانظر: المجالسة وجواهر العلم 3/ 154، تاريخ دمشق 41/ 378. قال الذهبي: (إسنادها مرسلٌ). سير أعلام النبلاء 4/ 392. (3) انظر: التوبة لابن أبي الدنيا، ص 92، ح 101، حلية الأولياء 3/ 186، صفة الصفوة 2/ 111.
(2/278)
وعن الفضيل بن عياضٍ قال: لو خيرت بين أن أعيش كلبًا أو أموت كلبًا ولا أرى القيامة لاخترت أن أعيش كلبًا أو أموت كلبًا ولا أرى القيامة (1). وعنه قال: أخذت على يد سفيان بن عيينة في هذا الوادي، فقلت: إن كنت تظن أنه بقي على وجه الأرض شر مني ومنك؛ فبئس ما تظن (2). [81 د] وعن بشرٍ الحافي أنه قال: شهرني ربي في الدنيا فليته لا يفضحني في القيامة، ما أقبح بمثلي يُظَنُّ بي ظنٌّ وأنا على خلافه، إنما ينبغي لي أن يكون أكثر ما يُظَنُّ بي أني أكره الموت، وما يكره الموت إلا مريب، ولولا أني مريب لأيِّ شيء أكره الموت (3). وعنه: لقيه سكران وجعل يقبِّله ويقول: يا سيّدي، فلما ولّى تغرغرت عينا بشر بالدموع، وقال: رجل أحبَّ رجلًا على خيرٍ توهَّمه، لعلَّ المحبّ قد نجا، والمحبوب لا يدري ما حاله (4). وعنه قال: ربما رفعت يدي في الدعاء فأردُّها أو قال: فأستلها، أقول: إنما يعمل هذا من كان له عنده وجه (5). _________ (1) انظر: حلية الأولياء 8/ 84، صفة الصفوة 2/ 238 - 239. (2) انظر: حلية الأولياء 8/ 101، صفة الصفوة 2/ 239 - 240. ونحوه في تاريخ دمشق 48/ 418. (3) انظر: طبقات الصوفية ص 50، صفة الصفوة 2/ 326. (4) انظر: تاريخ دمشق 10/ 203 - 204، صفة الصفوة 2/ 327. (5) انظر: صفة الصفوة 2/ 330.
(2/279)
وعن السَّريِّ السقطي (1) فيما حكاه الجنيد عنه، قال: ما أرى لي على أحد فضلًا، قيل: ولا على المخنثين، قال: ولا على المخنثين (2). وعنه فيما حكاه الجنيد أيضًا عنه قال: ما أحب أن أموت بحيث أُعْرَف، أخاف أن تقذفني الأرض، فأفتضح (3). قال الجنيد: وسمعت سَريًّا يقول: إني لأنظر إلى أنفي كلَّ يوم مرتين مخافة أن يكون قد أسودَّ وجهي (4). وعن أبي عبد الله البراثي (5) قال: حملتنا المطامع على سوء الصنائع، نذلّ لمن لا يقدر لنا على ضرٍّ ولا نفع، ونخضع لمن لا يملك لنا رزقًا، ولا موتًا ولا حياة، ولا نشورًا، وكيف أزعم أني أعرف ربي حق معرفته، وأنا أصنع ذلك، هيهات هيهات (6). _________ (1) السري بن المغلس السقطي، أبو الحسن البغدادي، الإمام القدوة شيخ الإسلام، ولد في حدود الستين ومائة، وتوفي في رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائتين، وقيل: إحدى وخمسين، وقيل: سبع وخمسين. انظر: تاريخ بغداد 9/ 187، سير أعلام النبلاء 12/ 185. (2) انظر: طبقات الصوفية ص 53، حلية الأولياء 10/ 124، صفة الصفوة 2/ 375. (3) انظر: شعب الإيمان 3/ 169، ح 692، حلية الأولياء 10/ 116، صفة الصفوة 2/ 376. (4) انظر: شعب الإيمان 3/ 169، ح 691، حلية الأولياء 10/ 116، صفة الصفوة 2/ 376. (5) محمد بن خالد بن يزيد بن غزوان البراثي، كان كثير البر والإحسان، وكان صديق بشر بن الحارث. اللباب 1/ 131. (6) انظر: حلية الأولياء 10/ 323، صفة الصفوة 2/ 389.
(2/280)
وعن الجنيد قال: كنت بين يدي السَّرِيِّ السقطي ألعب وأنا ابن سبع سنين، وبين يديه جماعة [81 هـ] يتكلّمون في الشكر فقال لي: يا غلام! ما الشكر؟ فقلت: ألاّ تعصي الله بنعمه، فقال لي: أخشى أن يكون حظُّك من الله لسانَكَ. قال الجنيد: فأنا أبكي على هذه الكلمة التي قالها السريُّ لي (1). وعن الربيع بن خُثَيْم أنه كان إذا قيل له: كيف أصبحت قال: أصبحنا ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا وننتظر آجالنا (2). وقال: أدركنا أقوامًا كنا في جنوبهم لصوصًا (3). وعن داود الطائي أنه وعظ رجلًا ثم قال: إني لأقول لك هذا، وما أعلم أحدًا أشدَّ تضييعًا مني (4). وعن سفيان الثوري رآه رجل يكثر البكاء فقال له: يا أبا عبد الله أراك كثير الذنوب فرفع شيئًا من الأرض، فقال: والله لذنوبي أهون عندي من ذا، إني أخاف أن أسلب الإيمان قبل أن أموت (5). _________ (1) انظر: الرسالة القشيرية ص 95، تاريخ بغداد 7/ 244 - 245، صفة الصفوة 2/ 417. (2) انظر: الزهد لابن المبارك (زيادات نعيم بن حماد) ص 38، ح 151، الزهد لهنَّاد بن السريِّ ص 293، ح 513، مصنَّف ابن أبي شيبة، كتاب الزهد، كلام ربيع بن خُثَيمٍ 19/ 266 - 267، ح 35987، الطبقات الكبرى 6/ 185، المعرفة والتاريخ 2/ 564، الدعاء للطبراني 1/ 541، ح 1940، حلية الأولياء 2/ 109، صفة الصفوة 3/ 67. (3) انظر: الطبقات الكبرى 6/ 189، الرقَّة والبكاء لابن أبي الدنيا، ص 163، ح 218، حلية الأولياء 2/ 109، صفة الصفوة 3/ 68. (4) انظر: الزهد لابن أبي الدنيا، ص 190، ح 490، حلية الأولياء 7/ 346، اقتضاء العلم العمل، ص 110 - 111، ح 193، صفة الصفوة 3/ 138. (5) انظر: شعب الإيمان 3/ 133 - 134، ح 839، حلية الأولياء 7/ 12، صفة الصفوة 3/ 150.
(2/281)
وعن هرم بن حيان (1) قال: والله لوددت أني شجرة من هذه الشجر، أكلتني هذه الراحلة، ثم قذفتني بَعْرًا، ولم أكابد الحساب، إني أخاف الداهية الكبرى؛ إما إلى الجنة وإما إلى النار (2). وعن الحسن البصري؛ بكى مرة، فقيل: ما يبكيك؟ فقال: أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي (3). وعنه قال: لقد أدركت أقوامًا ما أنا عندهم إلا لصٌّ (4). وعن مالك بن دينار قال: رأيت أبا عبد الله مسلم بن يسار في منامي بعد موته، فسلّمت عليه فلم يردَّ السلام، فقلت: ما يمنعك أن تردّ عليّ السلام؟ فقال: أنا ميِّت، فكيف أرد عليك السلام، قال: قلت له: فماذا لقيت بعد الموت؟ قال: فدمعت عينا مالك عند ذلك، وقال: لقيت والله أهوالًا زلازل (5) عظامًا شدادًا، [81 و] قال: فقلت: فما كان بعد ذلك؟ قال: وما تراه يكون من الكريم؟ قبل منا الحسنات وعفا لنا عن السيِّئات، وضمن عنا التبعات، قال: ثم شهق مالك شهقة خرّ مغشيًّا عليه، قال: فلبث بعد ذلك _________ (1) هو العبدي الأزديُّ البصريُّ، أحد العُبَّاد، قال ابن سعدٍ: كان عاملاً لعمر، وكان ثقةً، له فضلٌ وعبادةٌ. سير أعلام النبلاء 4/ 48. وانظر: الطبقات الكبرى 7/ 131 - 132، حلية الأولياء 2/ 119. (2) انظر: الزهد للإمام أحمد ص 284 - 285، المتمنِّين لابن أبي الدنيا ص 36 - 37، ح 37، حلية الأولياء 2/ 120، صفة الصفوة 3/ 214. (3) انظر: صفة الصفوة 3/ 223. (4) انظر: شعب الإيمان 9/ 285، ح 4673، حلية الأولياء 8/ 240، صفة الصفوة 3/ 234. (5) كذا في الأصل، وفي المصادر: وزلازل.
(2/282)
أيامًا مريضًا من غشيته، ثم مات (1). وقال صالح المرِّي: وقف مُطرِّف بن عبد الله بن الشخِّير وبكر بن عبد الله المزني بعرفة، فقال مطرِّف: اللهم لا تردَّهم اليوم من أجلي. وقال بكر: ما أشرفه من مقام وأرجاه لأهله لولا أني فيهم (2). وعن العلاء بن زياد أنه قال: إنما نحن قوم وضعنا أنفسنا في النار، فإن شاء الله أن يخرجنا منها أخرجَنا (3). وعن محمد بن واسع أنه قال: لو كان يوجد للذنوب ريح ما قدرتم أن تدنوا مني من نتن ريحي (4). وعنه أنه لما مرض كثر عُوَّاده فقال لرجل: أخبرني ما يغني هؤلاء إذا أُخِذَ بناصيتي وقدمي غدًا وأُلْقِيتُ في النار؟ ! ثم تلا هذه الآية: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن: 41] (5). وعن مالك بن دينار أنه قال له محمد بن واسع: يا أبا يحيى! إن كنت _________ (1) انظر: المنامات لابن أبي الدنيا ص 39، ح 30، حسن الظن بالله لابن أبي الدنيا ص 114، ح 131، المجالسة وجواهر العلم 1/ 452، ح 140، حلية الأولياء 2/ 295، صفة الصفوة 3/ 241. (2) انظر: الزهد للإمام أحمد ص 298، صفة الصفوة 3/ 248. (3) انظر: الزهد للإمام أحمد ص 312، شعب الإيمان 3/ 211، ح 953، حلية الأولياء 2/ 245، صفة الصفوة 3/ 254. (4) انظر: حلية الأولياء 2/ 349، صفة الصفوة 3/ 268. (5) انظر: المحتضرين لابن أبي الدنيا ص 142 - 143، ح 183 - 184، حلية الأولياء 2/ 348، صفة الصفوة 3/ 271.
(2/283)
من أهل الجنة فهنيئًا لك، فقال مالك: ينبغي لنا إذا ذكرنا الجنة أن نخزى (1). وعنه قال: والله لو وقف ملك بباب المسجد وقال: يخرج شرّ مَنْ في المسجد لبادرتكم إليه (2). وعنه أنه قال له رجل: يا مرائي! فقال: متى عرفت اسمي، ما عَرَفَ اسمي غيرُك (3). وعنه لما حضرته الوفاة قال: لولا أني أكره أن أصنع شيئًا لم يصنعه أحد قبلي [81 ز] لأوصيت أهلي إذا أنا متُّ أن يقيِّدوني، وأن يجمعوا يديَّ إلى عنقي، وأن ينطلقوا بي على تلك الحال حتى أُدْفَن، كما يُصْنَع بالعبد الآبق (4). وقال عبد الواحد بن زيدٍ: إن حبيبًا أبا محمدٍ وهو العجميُّ جزع جزعًا شديدًا عند الموت، فجعل يقول بالفارسية: أريد أن أسافر سفرًا ما سافرته قطُّ ... ثم أُوْقَف بين يدي الله فأخاف أن يقول لي: يا حبيب هات تسبيحةً واحدةً سبَّحتني في ستِّين سنةً، لم يظفر بك الشيطان فيها بشيءٍ، فماذا أقول وليس لي حيلةٌ؟ أقول: يا ربِّ قد أتيتك مقبوض اليدين إلى عنقي. قال عبد الواحد: هذا قد عبد الله ستِّين سنةً مشتغلاً به، ولم يشتغل من الدنيا _________ (1) انظر: تاريخ دمشق 56/ 422، صفة الصفوة 3/ 279. (2) انظر: صفة الصفوة 3/ 281 - 282. (3) انظر: شعب الإيمان 14/ 515، ح 8108، حلية الأولياء 8/ 339، تاريخ دمشق 56/ 420، صفة الصفوة 3/ 287. (4) انظر: المنتخب من كتاب الزهد والرقائق للخطيب البغدايِّ ص 101، ح 71، صفة الصفوة 3/ 288.
(2/284)
بشيءٍ قطُّ، فأيُّ شيءٍ حالنا؟ واغوثاه بالله! (1). وعن بشر بن منصورٍ (2) قال: كنت أوقد نارًا بين يدي عطاءٍ السلمي (3) في غداةٍ باردةٍ، فقلت له: يا عطاء، يَسُرُّك الساعة لو أنك أُمِرْتَ أن تُلْقِيَ نفسك في هذه النار ولا تبعث إلى الحساب؟ فقال لي: إي ورب الكعبة. قال: ثم قال: والله مع ذلك لو أُمِرْتُ لخشيت أن تخرج نفسي فرحًا قبل أن أصل إليها (4). وقال عبد الواحد بن زيدٍ: ربما سهرت مفكِّرًا في طول حزن عُتبة (الغلام) (5)، ولقد كلَّمته ليرفق بنفسه، فبكى، وقال: إنما أبكي على تقصيري (6). وعن سهل التستري أنه قال: أول الحجاب الدَّعْوَى، فإذا أخذوا في الدعوى حُرِمُوا (7). _________ (1) انظر: المجالسة وجواهر العلم 4/ 399 - 400، ح 1594، صفة الصفوة 3/ 321. (2) السَّليمي، أبي محمد الأزدي البصري، عابد زاهد. توفي سنة 180 هـ. انظر: التاريخ الكبير 2/ 2/84 برقم 1770، سير أعلام النبلاء 8/ 359 - 361. (3) من صغار التابعين، نُقلت عنه أشياء في الخوف فيها غلو. توفي بعد الأربعين ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء 6/ 86 - 88. (4) انظر: شعب الإيمان 3/ 168 - 169، ح 890، حلية الأولياء 6/ 216، صفة الصفوة 3/ 325. (5) هو عتبة بن أبان بن صمعة، من عباد أهل البصرة وزهادهم ممن جالس الحسن. روى عنه البصريون الحكايات. مات غازيًا. الثقات لابن حبان 7/ 270، السير 7/ 62. (6) انظر: حلية الأولياء 6/ 236، صفة الصفوة 3/ 372 - 373. (7) انظر: حلية الأولياء 10/ 202، صفة الصفوة 4/ 65.
(2/285)
وعنه أنه قال: ليس بين العبد وبين الله حجاب أغلظ من الدَّعْوَى، ولا طريق أقرب من الافتقار (1). [81 ح] وعن شاه بن شجاعٍ الكرماني (2) أنه قال: لأهل الفضل فضلٌ ما لم يروه، فإذا رأوه فلا فضل لهم، ولأهل الولاية ولايةٌ ما لم يروها، فإذا رأوها فلا ولاية لهم (3). وعن يحيى بن معاذ الرازي (4) أنه قال: ليس بعارفٍ مَنْ لم يكن غاية أمله من ربه العفو (5). وعنه أنه قال: لا يفلح مَنْ شمِمْتَ منه رائحة الرياسة (6). وقال: ذنوب مزدحمة على عاقبة مبهمة، ثم قال: إلهي! سلامة إن لم يكن كرامة (7). _________ (1) انظر: المنتخب من كتاب الزهد والرقائق للخطيب البغداديِّ ص 123، ح 101، صفة الصفوة 4/ 65. (2) هو شاه بن شجاع بن محمد بن المظفر، جلال الدين، أبو الفوارس، كان من أولاد الملوك، فتزهَّد، وصحب أبا تراب النخشبي، قال السُّلَميُّ: كان من علماء هذه الطبقة، وله رسالاتٌ مشهورةٌ، توفِّي قبل الثلاثمائة. انظر: طبقات الصوفيَّة للسلميِّ 192، الوافي بالوفيات 16/ 91. (3) انظر: طبقات الصوفية للسلميِّ 193، صفة الصفوة 4/ 68. (4) زاهدٌ، له كلامٌ جيِّدٌ، ومواعظ مشهورةٌ. توفِّي بنيسابور سنة ثمانٍ وخمسين ومائتين. انظر: طبقات الصوفيَّة 107 - 114، سير أعلام النبلاء 13/ 15. (5) انظر: القصَّاص والمذكِّرين ص 272، ح 134، صفة الصفوة 4/ 93. (6) انظر: حلية الأولياء 10/ 53، صفة الصفوة 4/ 94. (7) انظر: صفة الصفوة 4/ 96.
(2/286)
وعن محمد بن أسلم الطوسي أنه كان يقول: والله الذي لا إله إلا الله هو ما رأيت نفسًا تصلِّي إلى القبلة شرًّا عندي من نفسي (1). وعن إبراهيم بن أدهم أنه كان ناطورًا في كَرْمٍ، فمرَّ به رجل، فقال: ناوِلْنا من هذا العنب، قال إبراهيم: ما أذن لي صاحبه. فقَلَب الرجل السوط فجعل يُقنِّعُ (2) رأس إبراهيم، فطأطأ إبراهيم رأسه، وقال: اضرب رأسًا طالما عصى الله (3). وعن رَابِعَة العدوية أنه قال لها رجل: ادعي، فالتصقت بالحائط، وقالت: مَنْ أنا يرحمك الله، أَطِع ربك وادعه؛ فإنه يجيب المضطرَّ (4). وعن شقيق البلخي (5) أنه قال: مَثَلُ المؤمن كمثل رجل غرس نخلة وهو يخاف أن تحمل شوكًا، ومَثَل المنافق كمَثَل رجل زرع شوكًا وهو يطمع أن يحصد تمرًا (6). وعن أبي سليمان الداراني أنه قال: من حَسَّن ظنَّه بالله ثم لا يخاف الله فهو مخدوع (7). _________ (1) انظر: حلية الأولياء 9/ 244، صفة الصفوة 4/ 127. (2) قنَّع رأسه بالسوط: علاه به. (3) انظر: حلية الأولياء 7/ 379، تاريخ دمشق 6/ 316. (4) انظر: صفة الصفوة 4/ 28. (5) الإمام الزاهد شقيق بن إبراهيم الأزدي البلخي، أبو علي، صاحب إبراهيم بن أدهم، قُتل في غزاة كولان سنة 194 هـ. حلية الأولياء 8/ 58، سير أعلام النبلاء 9/ 313. (6) انظر: حلية الأولياء 8/ 71، صفة الصفوة 4/ 160. (7) انظر: حلية الأولياء 9/ 272، صفة الصفوة 4/ 226.
(2/287)
وعنه أنه قال: ربّما مثل لي رأسي بين جبلين من نار، وربما رأيتُني أهوي فيها حتى أبلغ قرارها، وكيف تهنأ الدنيا مَنْ كانت هذه صفته (1). وعنه أنه قال: إنما ارتفعوا بالخوف، فإن ضيَّعوا نزلوا، وينبغي للعاقل وإن بلغ أعلى درجة [81 ط] أن يُفَزِّع (2) قلبَه بأسفل درجة من ذكر الموت في المقابر والبعث (3). وعنه أنه قال: ليس العبادة عندنا أن تَصُفَّ قدميك وغيرُك يَفُتُّ لك، ولكن ابدأ برغيفيك فأحرزهما ثم تعبَّد، ولا خير في قلب يتوقَّع قَرْعَ الباب يتوقَّع إنسانًا يجيئه يعطيه شيئًا (4). وقال أحمد بن أبي الحواري (5): قلت لأبي سليمان: إن فلانًا وفلانًا لا يقعان على قلبي، قال: ولا على قلبي، ولكن لعلّنا أُتِينا من قلبي وقلبك، فليس فينا خير، وليس نحبُّ الصالحين (6). وعن الجنيد أنه قال: لولا أنه يُروى أنه يكون في آخر الزمان زعيم القوم أرذلهم؛ ما تكلَّمت عليكم (7). _________ (1) انظر: حلية الأولياء 9/ 261، صفة الصفوة 4/ 227. (2) أي: يخوِّف. (3) انظر: صفة الصفوة 4/ 227. (4) انظر: حلية الأولياء 9/ 264، صفة الصفوة 4/ 230. (5) هو أحمد بن عبد الله بن ميمون، شيخ أهل الشام، إمام زاهد عالم، توفي سنة 246 هـ. حلية الأولياء 10/ 5، سير أعلام النبلاء 12/ 85. (6) انظر: حلية الأولياء 9/ 262 - 263، صفة الصفوة 4/ 232. (7) انظر: حلية الأولياء 10/ 263، صفة الصفوة 2/ 420. وعبارة: «وكان زعيم القوم أرذلهم» وردت في حديثٍ ضعيفٍ أخرجه التِّرمِذيِّ في كتاب الفتن، باب ما جاء في علامة حلول المسخ والخسف، 4/ 494، ح 2210، ضمن خمس عشرة خصلةً إذا فعلتها الأمَّة حلَّ بها البلاء، وقال التِّرمِذيُّ: (هذا حديثٌ غريبٌ لا نعرفه من حديث عليِّ بن أبي طالبٍ إلَّا من هذا الوجه، ولا نعلم أحدًا رواه عن يحيى بن سعيدٍ الأنصاريِّ غير الفرج بن فضالة، والفرج بن فضالة قد تكلَّم فيه بعض أهل الحديث وضعَّفه من قبل حفظه ... ). وانظر كلام الأئمَّة في تضعيفه في السلسلة الضعيفة 3/ 312 - 313، ح 1170.
(2/288)
الزعيم: هو الرئيس، يعني: أني إذا تكلمت عليكم أجعل نفسي رئيسكم فأنا أخاف من ذلك أن يلزم منه تزكيتي لنفسي، ولكن هذه الرواية دفعت الخوف؛ لأنها تُشْعِر بأني إذا تكلّمت عليكم فأنا أرذلكم. وعن ذي النون المصري (1) أنه قال: من تطأطأ لقط رُطَبًا ومن تعالى لقي عطبًا (2). وعن أبي يزيد البسطامي أنه قال: لو صَفَتْ لي تهليلةٌ ما باليت بعدها بشيء (3). وعنه أنه قال: ما دام العبد يظنّ أن في الخلق من هو شرٌّ منه فهو متكبِّر (4). _________ (1) هو ثوبان بن إبراهيم، وقيل في اسمه غير ذلك، الإخميميُّ النوبيُّ، يكنى أبا الفيض أو الفياض، الزاهد، كان عالمًا واعظًا فصيحًا حكيمًا، توفي سنة 245 هـ. تاريخ بغداد 8/ 393، سير أعلام النبلاء 11/ 532 - 533. (2) انظر: حلية الأولياء 9/ 376، صفة الصفوة 4/ 319. (3) انظر: حلية الأولياء 10/ 40، صفة الصفوة 4/ 108. (4) انظر: حلية الأولياء 10/ 36، صفة الصفوة 4/ 109.
(2/289)
وعن أبي بكرٍ الهلالي (1) أنه قال: رَمَوا بِهِمَمِهم إلى أعلى الفضائل وضيّعوا الفرائض، فلا إلى هممهم وصلوا ولا قاموا بقليلٍ ما به وُكِلُوا، ومَن قام بقليل ما وُكِل به اؤتمن على الكثير، ومن لم يقم بقليل ما وُكِلَ به لم يؤتمن على قليلٍ ولا كثيرٍ (2). وسئل يوسف بن أسباط عن غاية (التواضع) فقال: أن تخرج من بيتك فلا تلقى أحدًا إلا رأيت أنه خيرٌ منك (3). وعنه أنه قال: خرجت سَحَرًا لأؤذِّن فإذا عليّ ليلٌ، فقعدت فإذا أَسْوَد في يده حجرٌ يريد أن يضربني، ووراءه شيءٌ أبيض بيده حجرٌ يريد أن يصرفه عني، فقلت: هذان شيطانان يريدان أن يُرِيَاني أني رجلٌ صالحٌ، فقلت: كلاكما شيطان؛ فطارا (4). وعن حذيفة بن قتادة المرعشي (5) أنه قال: إن لم تخش أن يعذِّبك الله على أفضل عملك، فأنت هالك (6). وقال: لو جاءني رجلٌ، فقال لي: والله الذي لا إله إلا هو، ما عَمَلُك _________ (1) هو محمد بن معمر، من أهل طبرية. تاريخ دمشق 56/ 16. (2) انظر: صفة الصفوة 4/ 243 - 244. (3) انظر: حلية الأولياء 8/ 238، صفة الصفوة 4/ 265. (4) انظر: صفة الصفوة 4/ 265. (5) من العُبَّاد، صحب سفيان الثوري، وروى عنه. مات سنة 207 هـ، الثقات لابن حبان 8/ 215 - 216، حلية الأولياء 8/ 267، سير أعلام النبلاء 9/ 283. (6) انظر: حلية الأولياء 8/ 268، صفة الصفوة 4/ 268. قال الذهبي تعليقًا على هذا الكلام: يعني: لما يعتوِرُه من الآفات. انظر: تاريخ الإسلام 5/ 47.
(2/290)
عملَ من يؤمن بيوم الحساب؛ لقلت له: يا هذا! لا تكفِّر عن يمينك، فإنك لم تحنث (1). وجاء سعيد بن عبد العزيز (2) إلى سليمان الخوَّاص (3) بِصُرَّةٍ، وقال له: تنفق هذا وأنا أحلف لك بين يدي الله تعالى أنه حلالٌ، فقال: لا حاجة لي فيها، فقال له: ما ترى ما الناس فيه؟ دعوةً، فصرخ سليمان صرخةً، ثم قال: ما لك يا سعيد، فتنتني بالدنيا وتَفْتِنُني بالدين، مالي والدعاء؟ مَن أنا؟ ! (4). وعن فتح الموصلي (5) قال: كبرت عليَّ خطاياي وكثرت، حتى لقد آيسَتْني من عظيم عفو الله، ثم قال: وأَنى آيَسُ منك، وأنت الذي جُدْتَ على السَّحَرة بعد أن غدوا كفرةً فجرةً؟ ... ولم يزل يقول: وأنى آيسُ منك؟ حتى سقط مغشيًّا عليه (6). ما لم أنسبه من هذه الآثار فهو من كتاب صفة الصفوة، وعامَّتها في الحلية لأبي نعيم بأسانيدها. _________ (1) انظر: حلية الأولياء 8/ 268، صفة الصفوة 4/ 268. (2) أبو محمد التنوخي، الدمشقي، مفتيها، مات سنة 167 هـ. حلية الأولياء 6/ 124، سير أعلام النبلاء 8/ 32. (3) من العابدين الكبار، المرابطين في الثغر في الشام، وكان لا يأكل إلَّا الحلال المحض، وما له حديثٌ مستقيمٌ يرجع إليه. الثقات لابن حبان 8/ 277، سير أعلام النبلاء 8/ 178. (4) انظر: حلية الأولياء 8/ 277 (طرفه الأوَّل)، صفة الصفوة 4/ 273 - 274. (5) هو فتح بن سعيد الموصلي، أبو نصر، كان شريفاً زاهداً، مات سنة 220 هـ. حلية الأولياء 8/ 292، تاريخ بغداد 12/ 381 - 383. (6) انظر: حسن الظن بالله لابن أبي الدنيا، ص 114، ح 130، صفة الصفوة 4/ 186.
(2/291)
فأما مَنْ ذُكِر من أهل البيت والصحابة فمقامه معروف, وأما من ذُكِرَ من غيرهم فعامَّتهم ممَّن عُرِفَ بالعلم والعمل والزهد والصلاح واشتهر بالولاية، ونُقِلَتْ عنهم كرامات كثيرة. وكثير من الناس يقول في الآثار المتقدمة: إنها من باب التواضع. وهذا حقٌّ، ولكن قد تقدَّم عن يوسف بن أسباط تفسير التواضع. وليس المراد بالتواضع أن يخبر المرء عن نفسه بخلاف ما يعتقده؛ فإن هذا كذب، وقد كان السلف أبعد الناس عن الكذب مطلقًا. وفي ترجمة القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق من «تهذيب التهذيب» (1): وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: رأيت القاسم يصلِّي فجاء إليه أعرابي [81 ي] فقال له: أيما أعلم أنت أو سالم؟ فقال: سبحان الله، فكرَّر عليه، فقال: ذاك سالم فاسأله. قال ابن إسحاق: كره أن يقول: أنا أعلم من سالم، فيزكِّي نفسه, وكره أن يقول: سالم أعلم مني، فيكذب. قال: وكان القاسم أعلمهما». وأنت ترى في هذه الآثار المتقدمة أن منهم من أقسم بالله تعالى وأكَّد اليمين. وفي الآثار المتقدمة الحكم على الناس بأن المدَّعِيَ محروم، ومن رأى لنفسه فضلًا فلا فضل له، ومن رأى لنفسه ولاية فلا ولاية له، ومن حسَّن ظنه بالله ثم لا يخاف الله فهو مخدوع، وأن الذين ارتفعوا إنما ارتفعوا بالخوف، فإذا ضيَّعوا نزلوا، وأن من تعالى لقي عَطَبًا، وأنه مادام العبد يظنُّ أن في _________ (1) تهذيب التهذيب 8/ 334. وانظر: حلية الأولياء 2/ 184.
(2/292)
الخلق من هو شرٌّ منه فهو متكبِّر، وأن التواضع أن تخرج من بيتك فلا تلقى أحدًا إلا رأيت أنه خير منك، وأنه من لم يخش أن يعذِّبه الله تعالى على أفضل عمله فهو هالك، وقول فضيل بن عياض لسفيان بن عيينة: إن كنت تظن أنه بقي على وجه الأرض شر مني ومنك فبئس ما تظن. فهذه الآثار تصرِّح بأن على كل إنسان أن يعتقد في نفسه النقص والتقصير, ويُظهر ذلك، ويطهِّر نفسه من العُجْب وظنِّ أنه صالح أو فاضل، وأنَّ من لم يصنع ذلك فهو متكبر، والمتكبر هالك. فكيف بمن تعدَّى حسن الظن بنفسه إلى الدعوى والشَّطح؟ فانظر حال السلف وحال من بعدهم. [82] فقد جاء بعد ذلك أقوام يتغالون في مدح أنفسهم وإطرائها حتى إن بعضهم ليفضِّل نفسه على الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرَّبين، ومنهم من يتجاوز ذلك فيزعم أنه ربُّ العالمين، أو أن ربَّ العالمين لا يقدر على مخالفته، ونحو ذلك مما يسمُّونه الشَّطح، ويعدُّونه من علامات الولاية. وأقلُّ ما يدلُّ عليه هذا فضل علم السلف على علم الخلف، فإن ميزان العلم الخشية، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. وفي كتب الزهد والرقائق كلمات كثيرة عن السادة الصوفية في وجوب مقت النفس وسوء الظنِّ بها، وذمِّ مَنْ يزكِّي نفسه أو يظن بها خيرًا, ولكن أكثر هذه الكتب تشتمل على أدوية وسموم، وإلى الله المشتكى. وليس مقصودي الطعنَ في أحدٍ من أولياء الله تعالى والعلماء به، أعوذ بالله من ذلك، وإنما المقصود بيان فضل السلف على الخلف، وإذا لم تثبت
(2/293)
العصمة للسلف كما مرَّ، فأولى من ذلك أن لا تثبت للخلف، فإذا لم يكف في أصول العقائد تقليدُ أحد من السلف فتقليد الخلف أولى ألا يكفي. واعلم أن الله تعالى قد يوقع بعض المخلصين في شيء من الخطأ ابتلاء لغيره أيتبعون الحق ويدَعون قوله أم يغترُّون بفضله وجلالته؟ وهو معذور بل مأجور؛ لاجتهاده وقصده الخير وعدم تقصيره؛ ولكن من تبعه مغترًّا بعظمته بدون التفات إلى الحجج الحقيقية من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فلا يكون معذورًا، بل هو على خطر عظيم. [83] ولما ذهبت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى البصرة قبل وقعة الجمل, أتبعها أمير المؤمنين علي عليه السلام ابنه الحسن وعمار بن ياسر رضي الله عنهما لينصحا الناس، فكان من كلام عمَّار لأهل البصرة أن قال: والله إنها لزوجة نبيكم صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في الدنيا والآخرة، ولكنَّ الله تبارك وتعالى ابتلاكم بها ليعلم إيَّاه تطيعون أم هي (1). ومن أعظم الأمثلة في هذا المعنى مطالبة فاطمة عليها السلام بميراثها من أبيها صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (2)، وهذا ابتلاء عظيم للصِّدِّيق رضي الله عنه، ثبَّته الله عزَّ وجلَّ فيه. وأهل العلم إذا بلغَهُم خَطَأ العالم أو الصالح وخافوا أن يغترَّ الناس _________ (1) البخاريّ، كتاب الفتن، باب 18، 9/ 56، ح 7100. [المؤلف] (2) أخرجه البخاري في كتاب فرض الخمس, باب فرض الخمس, 4/ 79, ح 3092. ومسلم في كتاب الجهاد والسير, باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا نورث ما تركنا فهو صدقة» 5/ 153, ح 1759.
(2/294)
بجلالته ربما وَضَعوا مِنْ فَضله وغبَّروا في وجه شهرته، مع محبتهم له ومعرفتهم بمنزلته؛ ولكن يظهرون تحقيره لئلا يفتتن به الناس. ومن ذلك ما ترى في مقدمة صحيح مسلم من الحطِّ الشديد على البخاري في صدد الردِّ عليه في اشتراط ثبوت لقاء الراوي لمن فوقه، حتى لقد يخيل إلى القارئ ما يخيل إليه، مع أن منزلة البخاري في صدر مسلم رفيعة، ومحبته له وإجلاله أمر معلوم في التاريخ وأسماء الرجال. وقد يكون من هذا كثير من طعن المحدثين في أبي حنيفة رحمه الله تعالى. [84] ولعلَّ مما حملهم على هذا علمهم بأن العامَّة وأشباه العامَّة يغترُّون بفضل القائل في نفسه، فإذا قال لهم العلماء: إنه أخطأ مع جلالته وفضله، قالوا: قد خالفتموه وشهدتم له بالجلالة والفضل، فقوله عندنا أرجح من قولكم بشهادتكم. وهكذا قال بعض الناس لعمَّار رضي الله عنه لما قال مقالته المتقدمة آنفًا: «فنحن مع الذي شهدتَ له بالجنة يا عمَّار» , يعنُون أمَّ المؤمنين (1). وبالجملة؛ فمن علم القاعدة الشرعية في تعارض المفاسد لم يعذل العلماء في انتقاصهم مَنْ يخافون ضلال الناس بسببه، ولو علم محبُّو المطعون فيه هذا المعنى لما وقعوا فيما وقعوا فيه من ثَلْبِ أولئك الأكابر حميَّة وعصبيَّة، والله المستعان. _________ (1) انظر: تاريخ الأمم والملوك 4/ 485.
(2/295)
فصل وكثيرًا ما يحتج أهل زماننا وما قرب منه بآيات من كتاب الله تعالى ويفسرونها برأيهم بما لم ينقل عن السلف ولا تساعده اللغة العربية ولا البلاغة القرآنية. وقد عظم البلاء بذلك, حتى إنك لتجد العجميَّ الذي لا يعرف من العربية إلا بعض المفردات، ولا يستطيع أن يكتب سطرين أو ثلاثة بدون لحن، وهو يفسر القرآن [85] برأيه. وهكذا يصنعون بالأحاديث الثابتة, مع أنهم يشددون النكير على مخالفهم إذا احتجَّ عليهم بآية أو حديث، وأوضح تفسيرها بالحجج الصحيحة، ونقل عن تفسير السلف ما يوافق قوله أو يشهد له، ويقولون: إن الفهم من الكتاب والسنة خاصٌّ بالمجتهدين. فأما إذا خالف أحد قول إنسان يعتقدون فيه الإمامة أو الولاية؛ فإنهم يكفِّرونه أو يضلِّلونه، ويشدِّدون عليه النكير، ويقولون: انظروا إلى هذا الضالِّ المضلِّ يزعم أنه فهم من الكتاب أو السنة ما لم يفهمه الإمام فلان أو الشيخ فلان أو نحو ذلك. ومن البلاء العظيم أن هؤلاء الجهال هم في نظر العامة هم الرؤساء في الدين. وذلك مصداق حديث الصحيحين عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضَلُّوا وأضلُّوا» (1). _________ (1) البخاريّ، كتاب العلم، بابٌ كيف يُقبَض العلم، 1/ 32، ح 100. ومسلم، كتاب العلم، باب رفع العلم، 8/ 60، ح 2673. [المؤلف]
(2/296)
نعم، قد بقي في الناس أفراد من العلماء؛ مصداقًا لحديث الصحيحين: [86] «لا تزال طائفةٌ من أمَّتي قائمةً على الحقِّ» (1)، وهو مبيِّن لحديث ابن عمرٍو، والله أعلم. ولكن يكاد يكون وجود أولئك الأفراد كعدمهم؛ لأنهم غرباء، لا ترى العامَّةُ إلا أنهم مبتدعون ضُلَّال، والرياسة الدينيَّة بيد غيرهم. والمقصود هاهنا النصيحة للمسلمين أن لا يغترَّ أحد منهم بأحد ممن يحتج بالكتاب والسنة على الأمور المشتبهة، وعليه أن ينظر لنفسه إن كان أهلًا, أو يطلب العلم لتصير له أهلية، أو يعمل بالاحتياط؛ فإنه لا عسر فيه. والله أعلم. فصل وكثيرًا ما يحتجون بالأحاديث الموضوعة والضعيفة، وكذلك بالآثار المكذوبة عن السلف، أو التي لم تصحَّ؛ فمنهم من يكتفي بذكر الحديث أو الأثر ونقله عن كتاب معروف ولا يبين حاله من صحة وعدمها، إما لجهله بهذا العلم الجليل، وهو معرفة علوم الحديث، وإما لأنه لما رأى ذلك الحديث أو الأثر موافقًا لهواه اعتقد صحته، وإما لغير ذلك. ومنهم من يحكي عن بعض [87] المتأخرين، كالسبكي وابن حجر وابن الهمام والسيوطي ونحوهم، أنهم صحَّحوا ذلك الحديث أو الأثر أو حسَّنوه، ويكون جهابذة العلم من السلف قد ضعّفوا ذلك الحديث أو حكموا بوضعه، وهم أجلّ وأكمل من المتأخرين، وإن كان بعض المتأخرين أولي علم وفضل وتبحُّر، ولكننا رأيناهم يتساهلون في التصحيح والتحسين، _________ (1) سبق تخريجه ص 232.
(2/297)
ويراعون فيه بعض أصول الفن، ويغفلون عما يعارضها من الأصول الأخرى، وفوق ذلك أن السلف كانوا أبعد عن الهوى. ومن هنا قال ابن الصلاح: إن باب التصحيح والتحسين قد انسدَّ، ولم يبق فيهما إلا النقل عن السلف. وهذا القول خطأ، ولكنه يعين على ما نريده، وهو وجوب الاحتياط فيما يصحِّحه المتأخرون أو يحسِّنونه. وهكذا جماعة من المتقدمين لا يُغْترُّ بتصحيحهم, كالحاكم وابن حبان، بل والترمذي، ولا سيَّما تحسينه. وهؤلاء أئمة كبار، ولكن الحاكم كان هَمُّه في كثرة الجمع ليردَّ على مَنْ قال من المبتدعة: إنه لم يصح عند أهل الحديث إلا ما في صحيحي البخاري ومسلم، كما ذكر هذا في مقدمة مستدركه، فجمع ولم يحقِّق ولم ينتقد. وكان عَزْمُه أن ينظر في الكتاب مرة [88] أخرى ليُخرج منه ما ليس من شرطه، ولكنه لم يتمكن من ذلك، كما ذكره السخاوي في فتح المغيث (1). وقد انتقد أحاديثه الذهبي وابن دقيق العيد، وطبع كتاب الذهبي مع المستدرك، ولكني وجدته يتسامح أيضًا، فكثيرًا ما يكون في الحديث رجلٌ مدلِّس ولم يصرِّح بالسماع، أو رجل اختلط بأخرة، وربما أخرج له الشيخان أو أحدهما مما سُمِع منه قبل الاختلاط، أو رجل ضعيف قد انتقد الأئمة مسلمًا أو البخاري في الرواية له في الصحيح، أو رجل عن رجل كان يُضَعَّف في روايته عنه، وإنما يروي له الشيخان مما رواه عن غيره، أو رجل كان يُضَعَّف في حفظه وإنما أخرج له الشيخان أو أحدهما مما حدَّث به من _________ (1) ص 13. [المؤلف]. وفي الطبعة الهنديَّة بتحقيق علي حسين علي 1/ 40 - 41.
(2/298)
كتابه، أو رجل ضعيف وإنما أخرج له الشيخان أو أحدهما في المتابعات والشواهد، إلى غير ذلك. وفي شروط الأئمة الخمسة للحازمي بسنده إلى سعيد بن عمرو ــ هو البرذعي ــ قال: شهدت أبا زرعة الرازي ... وأتاه ذات يوم، وأنا شاهد، رجل بكتاب الصحيح من رواية مسلم, فجعل ينظر فيه، فإذا حديث عن أسباط بن نصر، فقال لي أبو زرعة: ما أبعد هذا عن الصحيح! يُدخل في كتابه أسباط بن نصر؟ ! ثم رأى قطن بن نسير وصل أحاديث عن ثابت فجعلها عن أنس، ثم نظر، فقال: يروي عن أحمد بن عيسى المصري في كتاب الصحيح؟ قال أبو زرعة: ما رأيت أهل مصر يَشُكُّون في أن أحمد بن عيسى ـ وأشار أبو زرعة بيده إلى لسانه ــ كأنه يقول: الكذب ... فلما رجعت إلى نيسابور في المرة الثانية ذكرت لمسلم بن الحجَّاج ... فقال لي: إنَّ ما قلت صحيح، وإنما أدخلت من حديث أسباط بن نصر وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم إلا أنه ربما وقع لي عنهم بارتفاع ... (1). أقول: وقد وافقه البخاري على الإخراج لأحمد بن عيسى، وعُذْرُه عُذْرُه. وقد قال أبو داود: كان ابن معين يحلف أنه كذَّاب. وقد تأوَّل ابنُ حجر في تهذيب التهذيب ذلك بما حاصله: أنه كان يكذب في السماع لا أنه يضع الحديث اختلاقًا (2). وهذا لا يدفع الجرح، والله أعلم. _________ (1) شروط الأئمَّة الخمسة ص 23 - 24. [المؤلف] قلت: وهو في كتاب الضعفاء لأبي زرعة الرازي المنشور ضمن رسالة (أبو زرعة الرازي وجهوده في السنة النبوية) 2/ 674 - 676. (2) انظر: تهذيب التهذيب 1/ 65.
(2/299)
ومع هذا يسكت الذهبيُّ عن بيان ذلك، وهكذا يسكت عن علل أخرى تكون في الأحاديث، والله المستعان. وأما ابن حِبَّان فمِن أصله ــ كما نبَّه عليه في كتابه الثقات ــ أن المجهول إذا روى عن ثقةٍ وروى عنه ثقةٌ، ولم يكن حديثه منكرًا؛ فهو ثقةٌ، يذكره في ثقاته، ويخرج حديثه في صحاحه. ووافقه على هذا شيخه ابن خزيمة، إلا أنه أشدُّ احتياطًا منه، وكذلك الدارقطنيُّ. ويظهر لي أن الكعبيَّ (1) صاحب الثقات كذلك. وهذا قولٌ واهٍ مخالف لما عليه جمهور الأئمَّة والأئمَّةُ المجتهدون وجهابذة الفنِّ، والنظر الصحيح يأباه. وأما الترمذيُّ فله اصطلاحٌ في التحسين والتصحيح، وهو أن الحديث إذا روي من طريقين ضعيفين يسمِّيه حسنًا، والأئمَّة المجتهدون وغيرهم [89] من الجهابذة لا يعملون بهذا الإطلاق، بل يشترطون أن تحصل من تعدُّد الطرق مع قوة رواتها غلبةُ ظنٍّ للمجتهد بثبوت الحديث، فإن لم تحصل هذه الغلبة فلا أثر لتعدد الطرق وإن كثرت. والمتأخِّرون يعرفون هذا الشرط، ولكنهم كثيرًا ما يتغافلون عنه. وربما توهَّم أحدهم أنه قد حصلت له غلبة ظنٍّ، وإنما حصلت له من جهة موافقة ذلك الحديث لمذهبه أو لمقصوده، والله المستعان. بل إن في الصحيحين أو أحدهما أحاديث قد انتقدها الحفاظ، مثل حديث البخاري: حدّثنا محمد بن عثمان, حدثنا خالد بن مَخْلَد, حدثنا سليمان بن بلال, حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر, عن عطاء, عن أبي _________ (1) كذا في الأصل، ولم يتبيَّن لي مَنْ هو، ولعلَّه يريد العجليّ.
(2/300)
هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إن الله قال: مَنْ عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب, وما تَقَرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه, ولا يزال عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها, ورجله التي يمشي بها, ولئن سألني لأعطينَّه, ولئن استعاذ بي لأُعيذنَّه, وما تردَّدْتُ عن شيء أنا فاعله تردُّدِي عن نفس المؤمن؛ يكره الموت وأنا أكره مَسَاءتَه» (1). فهذا الحديث قد تكلَّم فيه الذهبي في الميزان في ترجمة خالد بن مخلد، ولم يخرجه الإمام أحمد في المسند. وخالد بن مخلد ... (2) قال فيه الإمام أحمد: له أحاديث مناكير. وقال ابن سعد: كان متشيِّعًا, منكر الحديث، في التشيُّع مفرطًا، وكتبوا عنه للضرورة. وقال صالح جَزَرَة: كان ثقة في الحديث إلا أنه كان مُتَّهَمًا بالغلوّ. وقال الأعين (3): قلت له: عندك أحاديث في مناقب الصحابة؟ قال: قل: في المثالب والمثاقب. _________ (1) البخاريّ، كتاب الرقاق، باب التواضع، 8/ 105، ح 6502. [المؤلف] (2) هنا كلمةٌ غير واضحةٍ، تشبه: (ضعيفٌ) أو (ضُعِّف). (3) هو محمد بن الحسن بن طريف، أبو بكر البغدادي الحافظ، روى عنه مسلم في المقدمة وأبو داود خارج سننه، وحدّث عن يزيد بن هارون وغيره، وثقه ابن حبان والخطيب البغدادي، وأثنى عليه الإمام أحمد، توفي سنة 240 هـ. انظر: الثقات لابن حبان 9/ 95، وتاريخ بغداد 2/ 183، وسير أعلام النبلاء 12/ 119 - 120.
(2/301)
وقال (1) أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتجُّ به. وذكره الساجي والعقيلي في الضعفاء. وقال ابن معين: ما به بأس (2). وحاصل القول فيه أنه صدوق يهم ويخطئ ويأتي بالمناكير، ولا سيما في التشيع، فإنه كان غاليًا فيه. ومثل هذا يتوقف عما انفرد به، ويُرَدُّ ما انفرد به مما فيه تهمة تأييدٍ لمذهبه. وقد تفرد بهذا الحديث كما ذكره الذهبي (3)، وكذا الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح (4). وفي هذا الحديث تهمة تأييد مذهب غلاة الرافضة في الاتحاد والحلول، وإن لم يُنْقَلْ مثل ذلك عن خالد. وقد أُسْنِدت إلى هذا الحديث بدع وضلالات تصطكُّ منها المسامع، والله المستعان. وفي سنده أيضًا شريك بن عبد الله بن أبي نمر، وحاصل كلامهم فيه أنه صدوق يخطئ (5). وقال الحافظ في الفتح بعد أن نقل كلام الذهبي والكلام في شريك: «ولكنْ للحديث طرق أخرى يدلُّ مجموعُها على أن له أصلًا» (6). _________ (1) من قوله: «وقال أبو حاتم» إلى قوله: «والله الموفِّق» ملحق. (2) انظر هذه الأقوال في تهذيب التهذيب 3/ 117 - 118. (3) ميزان الاعتدال 1/ 640 - 641. (4) هدي الساري: 400. (5) وهو ما قاله ابن حجر في التقريب ص 266. (6) فتح الباري 11/ 270. [المؤلف]
(2/302)
ثم ذكر الحافظ تلك الطرق، وعامَّتها ضعاف، إلا أنه ذكر أن الطبرانيَّ أخرجه من طريق يعقوب بن مجاهد، عن عروة، عن عائشة، وأن الطبراني أخرجه عن حذيفة مختصرًا، قال: «وسنده حسن غريب». أقول: أما رواية حذيفة فمع الغرابة هو مختصر، وكأنه ليس فيه تلك الألفاظ المنكرة، وينبغي النظر في سنده؛ فإن الحافظ ربما تسامح في التحسين. وكذا ينبغي النظر في سند الطبراني إلى يعقوب بن مجاهد؛ فأخشى أن يكون فيه وهم؛ فإن المشهور رواية عبد الواحد بن ميمون عن عروة، وعبد الواحد متروك الحديث. وبالجملة، فاقتصار الحافظ على قوله: «إن تلك الطرق يدلُّ مجموعها على أنَّ له أصلا»، ظاهرٌ في أنه ليس في شيء منها ما يصلح للحجَّة. ودلالة مجموعها على أنَّ له أصلًا لا يكفي في إثبات هذه الألفاظ المنكرة. ولو فهم البخاري رحمه الله من تلك الألفاظ ما يزعمه الملحدون لما ذكر هذا الحديث في صحيحه. وهذا من المهمَّات؛ فإن كثيرًا من الأئمة قد يقبل الحديث؛ لأنه يحمله على معنىً له شواهد وعواضِد بمعونتها يستحقُّ القبول، فيجيء بعض الناس يحتجُّ بالحديث على معنىً منكر، قائلًا: قد قبله فلان من الأئمة، فليُتنبَّه لهذا. ومما ينبغي التنبه له أيضًا: أن الشيخين أو أحدهما قد يوردان في الصحيح حديثًا ليس بحجَّة في نفسه، وإنما يوردانه لأنه شاهد لحديث آخر ثابت، ثم قد يكون في هذا الحديث الذي ذكراه شاهدًا زيادةٌ لا شاهد لها، فيجيء مَنْ بعدهما يحتجُّ به بالنسبة لتلك الزيادة، وربما حمل الحديث على
(2/303)
معنىً آخر غير المعنى الذي فهمه صاحب الصحيح، وبنى عليه أنه شاهد للحديث الآخر. وبالجملة، فمَن أراد الاحتجاج بالحديث لا يستغني عن النظر في إسناده، بعد أن يكون له من المعرفة ما يؤهِّله لهذا الأمر، وإلَّا أوشك أن يَضِلَّ ويُضِلَّ. والله الموفق. ومن أهل زماننا وما قرب منه من يترقَّى فيذكر الراوي وبعض ما قيل فيه من جرح أو تعديل، ولكنَّ كثيرًا منهم أو أكثرهم يكون زمامه بيد الهوى، فإن كان الحديث موافقًا له نقل ما قيل في الرجل من الثناء، وأعرض عما قيل من الجرح، وإن كان مخالفًا لهواه نقل ما قيل فيه من الجرح وسكت عن الثناء. وأكثرهم ليس عندهم من التبحر في العلم، وممارسة الفن ما يؤهلهم للترجيح ومعرفة العلل، وأعظم ما عند أحدهم أن يتمسك بظاهر قاعدة من قواعد الفن؛ فإن كان الحديث موافقًا له تمسك بقولهم: «إن الجرح لا يُقْبل إلا مفسَّرًا»، أو: «إن كلام الأقران بعضهم في بعض لا يُلْتفت إليه»، أو: «إنَّ [90] المتصلِّب في مذهبٍ يجب التأنِّي في قبول كلامه في أهل المذهب الآخر»، أو نحو ذلك. وإن كان مخالفًا له تمسَّك بقولهم: «الجرح مقدَّمٌ على التعديل»، ونحوها. فأما جهلهم بالعلل فحدِّث عنه ولا حرج. وغاية أحدهم أن ينقل عن بعض أهل العلم تعليل الحديث أو يتنبه هو للعلَّة إن تنبَّه، ثم يعمل في ذلك عمله في الجرح والتعديل؛ فإن كان الحديث موافقًا له تمسَّك بقولهم: «المثبِت مقدَّم على النافي»، أو: «زيادة الثقة مقبولةٌ»، أو: «إن من الأئمَّة مَن يقبل المرسل والمنقطع مطلقًا»، أو: «إن تصحيح بعض العلماء للحديث
(2/304)
يدلُّ أنه علم أن المدلِّس قد سمع الحديث ممن عنعنه عنه»، أو: «يدلُّ أن الراوي سمع هذا الحديث من شيخه قبل الاختلاط». وإن كان مخالفًا له قال: «إن النافي كان أحفظ من المثبت»، و «الساكتين جماعةٌ، والذي زادَ واحدٌ»، و «أُعِلَّ بالإرسال والانقطاع، وبعنعنة المدلِّس، واختلاط الشيخ»، ولم يعرِّج على ما يخالف ذلك، أو أشار إليه، ونقل ردَّه عن بعض العلماء، وهكذا. وهذه القواعد منها ما هو ضعيفٌ، ومنها ما ليس بكلِّيٍّ، ومنها المختلف فيه. والعالم المتبحر الممارس [91] للفنِّ هو الذي يصلح أن يحكم في ذلك، بشرط براءته عن الهوى، والتجائه إلى الله تعالى دائمًا أن يوفِّقه لإصابة الحقِّ. وكثيرًا ما يحتجُّ المتأخرون بالحديث مع اعترافهم بضعفه، ولكن يستندون إلى ما قاله النوويُّ ــ وتبعه كثير ممن بعده من الشافعيَّة والحنفيَّة وغيرهم ــ أن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال ــ بشروطٍ ذكرها الحافظ ابن حجر وغيره ــ، وقد عارضه القاضي أبو بكر ابن العربيِّ ــ مؤلِّف أحكام القرآن وشرح الترمذيِّ وغيرهما ــ بأن الفضائل إنما تُتَلقَّى من الشارع، فإثباتها بالضعيف اختراع عبادة، وشرعٌ في الدين لما لم يأذن به الله (1). ومما شُرط لجواز العمل أن لا يعتقد السُّنِّيَّة، أي الاستحباب، ذكره _________ (1) وضع المؤلِّف هنا علامة إلحاقٍ، لكنه لم يكتب شيئًا، ولعلَّه أراد الإحالة إلى الفتح المبين بشرح الأربعين لابن حجر الهيتمي: 36، فإنه أورد نصَّ هذه العبارة، ونسبها إلى بعضٍ مبهم لم يفصح عنه، وجوَّز المعلِّمي في رسالة العمل بالحديث الضعيف أن يكون الهيتمي أراد بالبعض المبهم ابنَ العربي.
(2/305)
الخطيب الشربيني في شرح المنهاج (1)، وردَّه ابن قاسم بأنه لا معنى لجواز العمل في فضائل الأعمال إلا أنه يكون مطلوبًا طلبًا غير جازم، وكلُّ ما كان كذلك فهو سنَّةٌ (2). [85] (3) فصل ومن الناس مَن يحتجُّ في هذا الأمر العظيم بمجرَّد العقل والقياس، وفي ذلك ما فيه. أما العقل؛ فإنما يصحُّ الاستناد إليه إذا كان قاطعًا، والوجوه التي يحتجُّون بها غير قاطعةٍ، اللهم إلا ما أُشِير إليه في آية الكرسيِّ كما تقدَّم (4). وليعلم العاقل أن عقله قوَّةٌ من قواه المخلوقة له، كالسمع والبصر _________ (1) المغني 1/ 67. [المؤلف] (2) انظر: حواشي الشرواني على التحفة 1/ 251. [المؤلف] (3) من هنا تبدأ تكملة السقط في مخطوطة الحرم المكِّي (رقم: 4781)؛ بدليل أن المؤلِّف كتب السطر الأوَّل من هذا الفصل أثناء ص (84) من الدفتر الأوَّل، ثم ضرب عليه، وزاد فصلًا كاملًا استغرق سبع صفحاتٍ، وجعل هذا الفصل الذي ضرب على أوَّل سطرٍ منه بداية الدفتر الثاني من دفاتر الكتاب الذي عثرت عليه بتوفيق الله، واستمرَّ ترقيم الدفتر الثاني من حيث انتهى الدفتر الأول قبل زيادة سبع الصفحات. ولا يُشوِّشْ عليك تكرُّر الترقيم من ص (85) إلى ص (91) في الدفتر الثاني مرَّةً أخرى؛ لأنه الموافق للأصل الأصيل قبل الزيادة، فلزم بقاؤه كما كان. ومن الأدلَّة على صحَّة موضع هذا الدفتر أنَّ المؤلِّف أحال إلى عدَّة مواضع منه، ثم وُجدت الأرقام المحالة مطابقةلأرقام الصفحات المُحال إليها، وفيها المعلومات المُشار إليها سواء بسواء. (4) في ص 53.
(2/306)
والشمِّ والذوق وغيرها. فكما أن كلَّ قوَّةٍ من هذه لها حدٌّ لا تتجاوزه، فكذلك العقل. وكما أن للحواسِّ أغلاطًا معروفةً كرؤية الواحد اثنين والصغير كبيرًا وعكسه، وَتَوَهُّمِ بعض الناس أنه يسمع كلامًا في حال أن الذين بجنبه لا يسمعون شيئًا, واستطابة الروائح الكريهة في بعض الأمراض، وطعم الماء العذب مرًّا في بعضها وطعمه كأنما مُزِجَ بالسكر بعد تناول بعض الأدوية المُرَّة؛ فكذلك للعقل أغلاطٌ أدقُّ وأخفى. وقد روي عن الإمام الشافعيِّ رحمه الله تعالى أنه قال: إنَّ للعقل حدًّا ينتهي إليه كما أن للبصر حدًّا ينتهي إليه (1). ولابن عربيٍّ الصوفيِّ في الباب الثاني والسبعين بعد أربعمائةٍ من فتوحاته (2): على السمع عَوَّلْنا فكنا أولي النهى ... ولا علم فيما لا يكون عن السمع وله في الباب الثامن والخمسين بعد ثلاثمائةٍ: كيف للعقل دليلٌ والذي ... قد بناه العقل بالكشف انهدم [86] فنجاة النفس في الشرع فلا ... تك إنسانًا رأى ثم حُرِم واعتصم بالشرع في الكشف فقد ... فاز بالخير عُبَيْدٌ قد عُصِم كلُّ علمٍ يشهد الشرع له ... فهو علمٌ فبه فلتعتصم وإذا خالفه العقل فقل ... طَوْرَكَ الْزَمْ ما لكم فيه قَدَم _________ (1) توالي التأسيس في معالي ابن إدريس ص 72. [المؤلف]. وانظر: مناقب الشافعي للبيهقي 2/ 187. (2) 5/ 468. [المؤلف]
(2/307)
والخلاصة أن العقل القاطع إذا لم يوجد فما بقي إلا الخرص والتخمين، وهو سبيل المشركين، فلا ينبغي لمسلم اقتفاؤهم فيه. وأما القياس؛ فإنه لا يفيد القطع كما حققه الغزالي والفخر الرازي (1) وغيرهما، ومسألتنا تستدعي الدليل القاطع. بل اختلفت الأمة في القياس أدليلٌ ظنِّيٌّ هو أم ليس بدليلٍ أصلًا؟ ومن قال بدلالته شرط له عدة شرائط، منها: ألَّا يعارض شيئًا من ظواهر الكتاب والسنة، ومنها: عدم الفارق، وقد يخفى الفارق على أكابر النُّظَّار. وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 73 - 74]. وجاء عن بعض الصحابة أنه قال لمن كان ربما توقَّف في الحديث وذكر أقيسة [87] تعارضه: «إذا حدَّثتك عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حديثًا فلا تضرب له الأمثال» (2). وهذا المتوقِّف من الأكابر، وإنما كان يتوقف تَثَبُّتًا لاحتمال غلط الذي أخبره بالحديث أو نحو ذلك، فقد كان إذا لم يظهر له دليل على غلط المخبر يصير إلى الحديث، ولا يبالي بما خالفه، وقد نُقِل عنه من ذلك كثير. _________ (1) انظر: المستصفى للغزالي 1/ 31 والمحصول للرازي 5/ 123 - 124. (2) رواه الترمذي في كتاب الطهارة، باب الوضوء مما غيَّرت النار، 1/ 114، ح 79، مطولًا. وابن ماجه في كتاب السنَّة (المقدِّمة)، باب تعظيم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، 1/ 10، ح 22، مختصرًا. وفي كتاب الطهارة وسننها، باب الوضوء مما غيَّرت النار، 1/ 163، ح 485، مطوَّلًا.
(2/308)
وقال الله عزَّ وجلَّ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. هؤلاء القوم رأوا أن البيع والربا شبيهان, في كلٍّ منهما أخذ زيادة على رأس المال؛ فرأوا أن أخذ الزيادة إما أن يحرم في الموضعين، وإما أن يحلَّ فيهما، وهذا هو القياس، فردَّ الله عزَّ وجلَّ عليهم بأنَّ من الفرق بينهما أن الله تعالى أحلَّ أحدهما وحرَّم الآخر, أي فإن كانوا عَبِيدَه فليطيعوه ويكتفوا بذلك. وليس في هذا نفيُ أن يكون هناك فرقٌ آخر، وإنما فيه أن فريضةَ العبد طاعةُ ربه، وإن لم يفهم الحكمة. وروى الدارميُّ عن الحسن أنه تلا هذه الآية: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12، ص: 76] قال: «قاس إبليس، وهو أوَّل مَن قاس». وعن ابن سيرين أنه قال: «أوَّل مَن قاس إبليس، وإنما عُبِدَت الشمس والقمر بالمقاييس» (1). وصدق؛ فإن عامَّة دين المشركين مبنيٌّ على المقاييس والرأي. [88] فمن ذلك: نسبتهم إلى الله سبحانه الولد، واتخاذهم بعض المقربين عنده آلهةً من دونه ليشفعوا لهم إليه. _________ (1) سنن الدارميّ، (المقدِّمة)، باب تغيُّر الزمان وما يحدث فيه، 1/ 65، ح 195 - 196. [المؤلف]. قلت: وأثر الحسن في إسناده محمَّد بن كثيرٍ الصنعانيُّ، ومطرٌ الورَّاق، وفي كلٍّ منهما مقالٌ. أما أثر ابن سيرين ففي إسناده يحيى بن سُلَيمٍ الطائفيُّ، وهو صدوقٌ سيء الحفظ.
(2/309)
وقال الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 19 - 20]. وقال سبحانه: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35]. وقال تبارك وتعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]. ومن ذلك: ما أحدثوا في أعمال الحجِّ، وما حرَّموه في (1) البحيرة والسائبة وغيرهما. وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136]. _________ (1) كذا في الأصل.
(2/310)
جاء في تفسيرها روايات يجمعها أنهم كانوا يجعلون ما سمَّوه لله تعالى أو بعضه لشركائهم ولا يعكسون، محتجِّين بأن الله تعالى غنيٌّ وشركاءهم فقراء. ومن ذلك: قولهم: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} [المؤمنون: 24]. {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان: 7 - 8]. {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]. وهكذا عامة ديانتهم، وسيأتي كثير من ذلك مع إيضاحه إن شاء الله تعالى. وفي تفسير الخازن عند قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] ما لفظه: «قال أهل المعاني: توهَّموا أن عبادتها أشدُّ في تعظيم الله من عبادتهم إيَّاه، وقالوا: لسنا بأهلٍ أن نعبد الله، ولكن نشتغل بعبادة هذه الأصنام؛ فإنها تكون شافعة لنا عند الله» (1). [89] وكان من المنتسبين إلى الإسلام مَن يجحد علم الله عزَّ وجلَّ بالأشياء قبل كونها، دعاه إلى ذلك أنه لم يقدر على تقرير عدل الله تعالى _________ (1) تفسير الخازن 3/ 180.
(2/311)
وحكمته مع إثبات علمه السابق سبحانه وتعالى. ومن الفلاسفة مَن يجحد علم الله تعالى بالجزئيَّات، زاعمين أَنهم بذلك ينزِّهونه عزَّ وجلَّ عن التغيُّر. وقد توسَّط أبو البركات البغدادي (1) في كتاب المعتبر فاعترف بعلم الله عزَّ وجلَّ لبعض الجزئيَّات ونفاه عن الاتفاقيَّات، زاعمًا أن العقل ينفي أن يسع علم الله تعالى جميع الجزئيَّات مع كثرتها، وأن الثواب والعقاب الذي جاءت به الشرائع لا يسوِّغه العدل والحكمة إلا إذا كان الله عزَّ وجلَّ لا يعلم الأعمال قبل وقوعها، وحاول أن يلطِّف العبارة جهده (2). وبعض المجوس قالوا بوجود قديم غير الله عزَّ وجلَّ هو خالق الشرِّ، أدَّاهم إلى ذلك تنزيه الله عزَّ وجلَّ عن الشرِّ، زعموا أنه لا يمكن تنزيهه عنه إلا بذلك القول، ومع ذلك فهم يبغضون خالق الشرِّ ويوجبون مخالفته ويقولون: إن مصيره مع مَن تبعه إلى جهنَّم، وأكثرهم يقول: إن خالق الشر وهو الشيطان مخلوق من خلق الله تعالى، ثم يتحيرون كيف يمكن أن يخلقه الله تعالى مع علمه بخبثه، حتى التزم بعضهم أنه قديم كما سبق. وهكذا جميع أمم المشركين وطوائف المبتدعين يزعمون أنهم بشركهم أو بدعهم معظِّمون لله عزَّ وجلَّ، حتى فرعون وقومه كما سيأتي إيضاح ذلك إن شاء الله تعالى. ولعل أكثرهم كالصادقين في قصدهم، وإنما أُتُوا من قبل اعتمادهم على عقولهم وقياسهم وإعراضهم عن كتب الله ورسله فلم يقنعوا _________ (1) هبة الله بن علي بن ملكا البلدي، أبو البركات البغدادي، العلامة الفيلسوف، شيخ الطب، أوحد الزمان، كان يهوديًّا ثم أسلم، من تصانيفه: المعتبر في الحكمة (أي المنطق والفلسفة)، توفي عام نيِّفٍ وخمسين وخمسمائة. انظر: عيون الأنباء في طبقات الأطباء 374 - 376، وسير أعلام النبلاء 20/ 419. (2) انظر: المعتبر 3/ 93 - 99، 187 - 195.
(2/312)
بما جاءت به الرسل ويسلِّموا له ويدَعوا خَرْصَهم وتخمينَهم وأهواءَهم وظنونَهم. [90] ولقد بلغ الاعتماد على العقل والقياس بل الخرص والتخمين بكثير من نظار المسلمين إلى أن زعموا أن كثيرًا من آيات الكتاب وكثيرًا من الأخبار الثابتة عن الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مصروفة عن ظواهرها بدون قرينة تمنع المخاطَبين عن فهم الظاهر، بل صرَّحت طائفة بأن الله تعالى ورسوله قصد من المخاطَبين أن يفهموا ذلك الظاهر المخالف للحقيقة، فقيل لهم: فهذا كذب، فأجابوا أن الكذب للمصلحة جائز على الله تعالى وعلى رسله. فيقال لهم: فإن كثيرًا من تلك الآيات والأحاديث لا ملجئ إلى الإخبار بها على ظاهرها, ولا تتوقف على ذلك مصلحة ضرورية على فرض أن ظاهرها غير مراد، وقد تكرَّرَتْ وكَثُرَتْ وتضافرت إلى حدٍّ يقْطَع مَنْ تأمّله بأنه لا يمكن أن تكون إنما أُتي بها على تلك الصفة للضرورة التي زعموها. ولهذا ذهب بعض أئمة الفلسفة من المنتسبين إلى الإسلام إلى أن الرسل مصلحون فقط، ولا علم لهم بالحقائق الغيبية والدقائق العقلية. قالوا: فالفيلسوف أعلم من الرسول، وسموا الأنبياء: فلاسفة العامة، والفلاسفة أنبياء الخاصة، فلم يتحاش أحدهم أن يقول: أنا أعلم بالله من أنبيائه ورسله، بل ويقول بعضهم: أنا أعلم بالله من نفسه، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا. وإذا تتبعت كلامهم وجدتهم يزعمون أنه ما أدَّاهم إلى تلك الأقوال إلا تنزيه الله عزَّ وجلَّ وتعظيم رسله. والله المستعان.
(2/313)
[91] فصل ومن الناس مَن يحتج في هذا الباب بآية من كتاب الله عزَّ وجلَّ أو سنة ثابتة عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ويغفل أو يتغافل عن عِدَّة آيات أو سنن أخرى تعارض استدلاله. وهذا غلط شنيع؛ فإن الكتاب والسنة كالكلام الواحد، بمعنى أن الاستدلال على مطلب من المطالب بآية أو حديث لا يتم الوثوق به إلا بعد العلم بأنه ليس في آية أخرى من آيات القرآن ولا حديث آخر من الأحاديث الثابتة ما يخالفه. فكما أنه ليس لعاقلٍ أن يحتجَّ على حرمة الصلاة بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] ويقف على الصلاة, ولا على انتقاص النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بقول الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] ويحذف {لَئِنْ أَشْرَكْتَ} , وأمثال ذلك= فكذلك ليس له أن يحتجَّ بقول الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92] على نفي قتل القاتل والزاني المحصن ودفع الصائل والباغي؛ لأن على هذه أدلَّةً خاصَّةً من الكتاب والسنَّة تبيِّن المراد بتلك الآية. وهذا أمرٌ واضحٌ، وإن أعرض عنه كثيرٌ من الباحثين في مسألتنا. [92] فصل ومن الناس مَن تغلب عليه العصبيَّة للرأي الذي نشأ عليه وقَبِلَه من آبائه أو مشايخه، ويستغني بمحبته لذلك الرأي عن أن يتطلب له حجة، ويحول ذلك بينه وبين أن يصغي إلى الأدلة التي يتمسك بها مخالفه أو يتدبَّرَها، فإن
(2/314)
تعدى هذه المنزلة أخذ يتطلب الأدلة لرأيه، فيجمع كل ما يظن فيه دلالة بدون تصحيح ولا تنقيح ولا نظر في الأدلة المعارضة له. فإن جاوز هذه الدرجة تصفَّح أدلة مخالفيه وانتقى منها ما يسهل عليه تأويله، وأعرض عن الباقي. فإن ترقى عن هذه المرتبة جَهَدَ نفسه في الكلام على ما يجده لمخالفه من الأدلة، وإن اضطر إلى التعسف والتحريف ومخالفة القواعد القطعية. فأما من لم يكن له علم راسخ بالقواعد وما أكثرهم في المتكلمين في مسألتنا وغيرها في القرون الأخيرة فهو أقرب إلى العذر عند الناس، وعُظْمُ اللوم على من صدَّره ونحله العلم والإمامة بغير استحقاق. ولكننا نجد أفرادًا لا يُؤْتَون مِنْ جهلٍ بالقواعد وإنما يُؤْتَونَ من مخالفتها، والله المستعان. وأريد بالقواعد ما تشتمل عليه علوم الاجتهاد. فلا ينبغي للعاقل أن يزجَّ بنفسه في بحر الاستدلال حتى يجمع أمورًا: الأوَّل: إتقانُ [93] العربية وطولُ ممارستها؛ فإننا نجد من علماء العجم من يغلط في فهم آية أو حديث غلطًا لا نشك فيه. ومع ذلك يصعب علينا أن نقنعه بقاعدة معيَّنة من القواعد المذكورة في كتب النحو وغيرها، وما ذلك إلا لأنه قد بقي من قواعد فهم اللغة ما لا يُعْرَف إلا بالممارسة التامة وتربية الذوق الصادق، بل إن القواعد المبسوطة المحرَّرة لا يُسْتَطاع تطبيقُ أكثرها بدون ممارسةٍ وحسن ذوق. وليس هذا خاصًّا بعلم العربية، بل الأمر كذلك في بقية العلوم، ألا ترى أن من الأئمة المجتهدين من يحتجُّ بالاستحسان وفسَّروه بدليل ينقدح في نفس المجتهد ولا يستطيع التعبير عنه. ونحو هذا يقول أئمة الحديث في معرفة علل الحديث حتى قال الإمام
(2/315)
عبد الرحمن بن مهدي: هي إلهام، لو قلتَ للقيِّم بالعلل: من أين لك هذا؟ لم تكن له حجة (1). وذكر السخاوي في فتح المغيث (2) قصصًا في ذلك ومثلوه بالصيرفيِّ والجوهريِّ. (3) /ومما يشبه ذلك أنَّ من خالط أهل الصين واليابان ثم رأى شخصين صينيًّا ويابانيًّا يميز أحدهما من الآخر بأوَّلِ نظرةٍ، ولو سئل عن سبب تمييزه ما استطاع أن يذكره حينئذٍ (4). الثاني: المعرفة بالمعاني والبيان مع حظٍّ من معرفة أشعار العرب وفهم معانيها ولطائفها وتطبيقها على قواعد المعاني والبيان ممارسًا لذلك. [94] الثالث: معرفة أصول الفقه والتمكن فيها على وجه التحقيق لا التقليد، وكثرة الممارسة لتطبيق الفروع على الأصول. الرابع: معرفة مصطلح الحديث والتمكُّنُ فيه، وطرفٌ صالحٌ من معرفة الرجال ومراتبهم وأحوالهم. الخامس: كثرة مطالعة كتب الحديث، وتَفَهُّم معانيه، ومعرفة صحيحه من سقيمه, والممارسة لذلك إلى أن تكون له ملكة صحيحة في معرفة العلل والتوفيق بين المختلفات والترجيح بين المتعارضات. ويلحق بذلك معرفة السيرة النبوية وأحوال العرب قبل الإسلام وأحوال الصحابة وعلماء التابعين وتابعيهم. _________ (1) انظر: العلل لابن أبي حاتم 1/ 388, ومعرفة علوم الحديث للحاكم ص 360. (2) 1/ 273. (3) هنا بداية ملحق ص 93 وهو ثلاث صفحات وبضعة أسطر. (4) لفظ «حينئذٍ» مكرَّرٌ في الأصل.
(2/316)
السادس: معرفة العلماء ومراتبهم في العلم ومزاياهم الخاصة التي يتفاوتون فيها, كشدَّة الاعتصام بالكتاب والسنة والورع وتجنب الأهواء والبدع والإخلاص وعدم العصبية وغير ذلك، ولا يقتصر على ما هو مشهور بين الناس من الفضائل والمناقب فإن كثيرًا من [95] ذلك نشأ عن التعصب للمتبوعين والمغالاة فيهم وتنقيص مخالفيهم. السابع ــ وهو الأوَّل في الرتبة والأَوْلَى بالعناية ــ: كثرةُ تدبر كتاب الله عزَّ وجلَّ وتفهم معانيه، وليختبر فهمه له ويكرر امتحان نفسه حتى يحصل له الوثوق التام بأن فهمه فهم العلماء، وليكن اعتماده على الفهم المطابق للقواعد العلمية ولا يقتصر على «قال فلان وقال فلان». الثامن: الإخلاص ومحبة الحق وتطهير النفس من الهوى والتعصب وحب الجاه والشهرة والغلبة، وأن يكون أعظم همِّه موافقةَ الحق وإن خالف آباءَه ومشايخه وعاداه أكثر الناس, ويكون مع ذلك محافظًا على الطاعات متنزِّهًا عن المعاصي بقدر الاستطاعة، ويبتهل إلى الله عزَّ وجلَّ في كلِّ وقت أن يهديه ويرشده ويوفِّقه ويسدده. ويكثر من قول «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»، و «اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك»، اللهم يا من بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه, أجرني من شر نفسي ومن شر ما خَلَقْتَ، ونحو ذلك. ويُكْثِرُ من الصلاة والسلام على [96] النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم والمحبة له ولأهل بيته عليهم السلام ولأصحابه الكرام رضوان الله عليهم، والاحترام للعلماء والصالحين؛ فإن ألزمه الدليل مخالفة بعضهم فلا يحمله ذلك على احتقارهم والطعن فيهم, وليعرف لهم حقهم ويعتذر لهم بما استطاع مع المحافظة على الحق أينما كان.
(2/317)
ولعل قائلًا يقول: وهل كاتب هذه الرسالة جامع للأمور المتقدمة؟ فأقول: لست هنالك ولا قريبًا من ذلك. ولكنَّ البلاد إذا اقْشَعَرَّتْ ... وصَوَّحَ نَبْتُها رُعِيَ الهَشِيمُ (1) ومَن طالع هذه الرسالة فسيعرف منزلة كاتبها، والله تعالى الموفق. ولنختم هذا الفصل بالتنبيه على قاعدة من القواعد التي تقدَّمت الإشارة إليها وهي وجوب حمل النصوص على ظاهرها، وهي قاعدة قطعية متفق عليها بين المسلمين بل بين العقلاء. والمراد بالظاهر ما يكون ظاهرًا من النص بعد أن يُضَمَّ إليه ما يبينه من النصوص الأخرى، فالنصُّ العام ظاهره العموم فإذا قامت حجة ثابتة على تخصيصه لم يبق ظاهرًا إلا فيما بقي بعد التخصيص. [97] واعلم أن الظاهر الواحد لا يفيد وحده إلا الظن، ولكنه قد يترقى إلى القطع إذا عضدته ظواهر أخرى، أو عُلِمَ من حال السلف الصالح أنهم كانوا يحملونه على ظاهره أو غير ذلك. ونقل ابن حجر الهيتمي في كتابه الإعلام بقواطع الإسلام عن كتاب الأنوار ما لفظه: «وأن من دافع نص الكتاب أو السنة المقطوع بها المحمول على ظاهره فهو كافر بالإجماع». _________ (1) البيت لأبي عليٍّ البصير، الفضل بن جعفرٍ الكوفيِّ. انظر: أمالي القالي 2/ 287، والوساطة بين المتنبِّي وخصومه ص 221, ومعجم الأدباء 3/ 89، ترجمة أحمد بن أبي طاهرٍ ونسبه لدعبل أيضًا، واقشعرت: أجدبت، وصوّح أي جفَّ، والهشيم الكلأ الجافّ.
(2/318)
وأقرَّه ابن حجر إلا أنه قال: «والظاهر أيضًا أن معنى قوله: المحمول على ظاهره, أي بالإجماع» (1). أقول: ومن الإجماع عندهم أن يُنْقَلَ قولٌ عن بعض السلف ولا يعلم له مخالف منهم (2). والله أعلم. وبالجملة، فالظاهر إذا لم يعتضد بشيء فإنه حجة في غير العقائد، فأما في العقائد فإنه يوجب الاحتياط، والاحتياط فيما يتعلق بالاعتقاد أصل عظيم نَبَّه عليه القرآن في مواضع قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 52] , وقال عزَّ وجلَّ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10]. ويدخل في هذا المعنى كثير من الآيات التي يُطالَبُ المشركون فيها بالحجة والسلطان على دعواهم, أو يُنْفَى أن يكون عندهم شيء من ذلك, أو يُنْعَى عليهم الاعتماد على الظن والخرص والتقليد؛ فإن من المقصود في ذلك أن يبين لهم أنه على فرض أن حجج الأنبياء وبيناتهم لا تفيد عندكم [98] القطع بصدقهم فأنتم ليس عندكم براهين قاطعة على شرككم، وحينئذٍ فالواجب عليكم الاحتياط وترجيح جانب السلامة، ولا ريب أنها ترك الشرك. _________ (1) الإعلام ص 44. [المؤلف] (2) انظر: الإحكام لابن حزم 4/ 219 إذ نسب هذا القول إلى بعض الشافعيِّين وجمهور الحنفيين والمالكيين, والسلف عنده: واحد أو أكثر من الصحابة.
(2/319)
والحكماء الربانيون يسلكون هذه الطريقة لقربها، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)} إلى أن قال: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 28 - 35]. وروي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنَّ دَهْرِيًّا (1) نازعه في البعث فقال أمير المؤمنين: «يا هذا إن كان الأمر كما أقول نجوتُ أنا وهلكتَ أنت، وإن كان كما تقول نجونا جميعًا» أو كما قال (2). يعني: فعليك أن تحتاط لنفسك فتُسْلِمَ فتكون ناجيًا بيقينٍ. وجاء عن ابن عمرو وابن عباس أنهما قالا لمن كان يرى أنه كما لا ينفع مع الكفر عمل لا يضرُّ مع الإيمان عمل، قالا له: عَشِّ ولا تَغْتَرَّ (3)، وهذا مثل _________ (1) في تاج العروس 11/ 349: «والدَّهريُّ - بالفتح، ويُضمُّ -: الملحد الذي لا يؤمن بالآخرة القائل ببقاء الدهر». وانظر: الفصل في الملل والنحل لابن حزم 1/ 47. (2) لم أعثر عليه. (3) أخرجه أبو عبيد في غريب الحديث 4/ 253, وورد أيضًا بمعناه جوابًا لسؤال معبد الجهني القدري لما قال: رجل لم يدع من الشر شيئًا إلا عمله غير أنه يشهد أن لا إله إلا الله. انظر: الجامع لمعمر 11/ 285 ح 20553, والزهد لابن المبارك ص 324 - 325 ح 922 - 923, ومسند ابن الجعد 2/ 1167 ح 3506 - 3507, وحلية الأولياء 1/ 311, وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 6/ 1073 - 1074 ح 2002 - 2003.
(2/320)
أصله أن رجلا أراد أن يقطع بإبله مفازة فأراد أن لا يعشِّيها اتِّكالًا على ما في المفازة من الكلأ (1). وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بهذا المعنى في الكلام على بيان شرك العرب الذين بُعِثَ فيهم محمد - صلى الله عليه وسلم -. [99] فإن قيل: فهلا أغنى الله عزَّ وجلَّ رسله عليهم الصلاة والسلام عن هذه الطريقة بآيات قاطعة؟ فالجواب أن الحجج القاطعة على ضربين: الضرب الأول: ما لا يستطيع المعاند إنكاره، ولو أنكره لمقته الناس جميعًا ولم تكن هناك أدنى شبهة يجوز أن يعتذر بها عنه، كأن يكون بصيرًا في مكان مكشوف, وحوله أمة من الناس, والشمس وسط السماء ليس دونها سحاب؛ فإنه لا يقدر أن ينكر كون الشمس في ذلك الوقت طالعة على ذلك المكان. الثاني: ما يستطيع المعاند إنكاره؛ لظنه أنه لا يعدم عذرًا عند الناس, كأن يكون العلم بتلك الحجة متوقفًا على التدبر والتأمل، فيقال: لعل هذا لم يتدبر ولم يتفكر, بل قد يكون الواقع كذلك, أعني أنه لم يتدبر ولم يتفكر، إما لأنه قد أَلِفَ ذلك القول الباطل ووجد عليه آباءه ومشايخه ويصعب عليه أن يتبين بطلانه, فهو يَصُدُّ نَفْسَه عن التدبر والتفكر ويغالطها ويقنعها بأن ما هو عليه هو الحق، وإما لأنه أخذ ما هو عليه تقليدًا عن مُعَظَّم عنده يغلو في اعتقاده فيه، وإما لأنه يتوهم أن ما هو عليه هو الحق، ويخشى أن يوقعه _________ (1) انظر: نهاية ابن الأثير، مادة (عشا). [المؤلف]. ومجمع الأمثال 2/ 16.
(2/321)
التدبر والتفكر في خلاف الحق [100] أو نحو ذلك، وهذه الأعذار وشبهها تمنع الناس أن يسخروا منه كما يسخرون من المنكر للضرب الأول. إذا علمت ذلك فاعلم أن عامة الحجج الدينية من الضرب الثاني. ومن الحكمة في ذلك ــ والله أعلم ــ أن الله عزَّ وجلَّ أنشأ الجن والإنس هذه النشأة في الحياة الدنيا لحكم يعلمها، منها: أن يبرز فعلًا ما انطوت عليه نفوسهم من الخضوع للحق أو الاستكبار عنه، فتكون مجازاتهم على أمرٍ قد وقع وَوُجِدَ ما ينشأ عنه من المفاسد، وشَاهَدَهُ الخلق وشهدوا به حتى تشهد به أعضاء الفاعل؛ إذ لو أراد سبحانه أن يجازيهم على ما علمه من نفوسهم لأنكروا ذلك. وقد قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 22 - 23]. ولعلَّ الأرواح في عالَمِها لا يقع منها كفر ولا معصية, إما لأن الحق في ذلك العالم واضح من الضرب الأول وإما لغير ذلك، والله أعلم. وعلى كلِّ حالٍ فإن عدل الله عزَّ وجلَّ اقتضى ما قدمنا ألا يجازيهم على مجرد ما علمه من نفوسهم حتى تبرز آثار ذلك إلى الخارج وتشهد به الخلائق. إذا تقرَّر هذا فالحكمة المذكورة لا تتمُّ إلا إذا كانت حجج الحق وبراهينه من الضرب الثاني؛ ليتمكَّن من إنكارها مَنْ انطوت نفسه على العناد [101] والاستكبار, ويتبين في مَنْ قَبِلَها أن نفسه منطوية على حبِّ الحق وقَبوله والخضوع له.
(2/322)
ومثال هذا: أنك إذا أردت امتحان رجل أأمين هو أم لا؟ فإنك لا تمتحنه بأن تودعه مالًا بمحضر أمة من الناس، ثم تطالبه به في المجلس, وإنما تمتحنه بأن تودعه سرًّا مالًا له خطر، ثم تطالبه بعد أيام مثلًا, فإنه إن أدَّاه كان ذلك دليلًا على أمانته. ثم اعلم أن الخيانة على درجات: فمن الناس مَنْ يرتكبها وهو يعلم قطعًا أنها خيانة. ومنهم من لا يرتكبها إلا إذا كانت هناك شبهة يغالط بها نفسه, كأن يزعم أنه محتاج وأن المودِعَ لا يؤدِّي الزكاة أو نحو ذلك، فهكذا المخالف لظواهر الأدلة قد يكون يعلم من نفسه أنه على باطل وإنما يعتني بالتأويل والمغالطة كراهية أن يعترف بأنه على باطل. ومنهم من يغالط نفسه أيضًا كما تجده في كثير من المقلدين فإن أحدهم لشدة محبته لإمامه وحسن ظنه به يعمد إلى الأدلة الظاهرة المخالفة لمذهبه فيؤولها التأويلاتِ البعيدةَ في حين أنه يشنع على مخالفه إذا فعل مثل ذلك أو أقلَّ منه. والمقصود أن الحكماء الربانيين يسلكون الطريقة المتقدمة؛ لقربها، [102] ولأن المخالف إذا قَبِلَها لم يلبث أن تزول عنه تلك الحواجز التي كانت تحول بينه وبين معرفة الحقّ فيعرفه يقينًا. والله أعلم. فصل ومن الناس مَن يتهاون بهذا الأصل العظيم ــ الفصل بين التوحيد والشرك ــ قائلًا: «إنما الأعمال بالنيات»، زاعمين أن هذا الحديث حجة على أن المدار في البر والإثم, والطاعة والمعصية، والإيمان والكفر، وكل خير
(2/323)
وشر على مقصود العامل، فأيُّ عمل عمله قاصدًا به التقرب إلى الله عزَّ وجلَّ فحُكْم الشرع في حقِّه أنه متقرب يُرْجى له الثواب. فبعض هؤلاء يجعل هذا الحديث على تأويله له حجةً يتحجَّرُها لنفسه ولا يقبلها لمخالفه، وكفى بذلك تناقضًا. وبعضهم يسمح بالمشاركة ولكنه يجحد أَنَّ مخالفيه قصدوا الخير ويكذِّبهم في ذلك. وبعضهم يضطرب ويرتبك. وبعضهم يتسامح فلا ينكر على أحد. وهذا رأي فيه قيراط حق وقنطار باطل. فأما الحديث فلفظه كما في الصحيحين: «إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (1). فالمراد بالأعمال الأعمال الشرعية التكليفية بقرينة أن المتكلمَ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم, وأن كلامه هذا من باب تبليغ الشريعة, وأنه مَثَّلَ [103] بالهجرة وهي عمل شرعي تكليفي. وقال الحافظ ابن حجر: «والتقدير: الأعمال الصادرة من المكلفين ... _________ (1) البخاريّ، كتاب الأيمان والنذور، باب النيَّة في الأيمان، 8/ 140، ح 6689. ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيَّة»، 6/ 48، ح 1907. [المؤلف]
(2/324)
قال الطيِّبِي: كلام الشارع محمول على بيان الشرع» (1). وقوله: «إنما الأعمال بالنيات» ظاهره اتفاقًا نفي وجود الأعمال بدون النيات. وتوهم بعض أهل العلم أن النفي لا يصح إذ قد توجد صورة الصلاة بدون نية، والصواب صحة النفي؛ فإن الكلام في الأعمال الشرعية كما علمت، والموجود في الخارج بدون النية ليس هو العمل الشرعي، وقد قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم للمسيء صلاته: «ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ» (2). ولا خفاء أنَّ مَنْ اتفق له عدمُ الأكل والشرب والجماع يومًا كاملًا بغير نية صيام يصدق عليه حقيقة أنه لم يقع منه صيام. فهذه الجملة «إنما الأعمال بالنيات» دلَّت أنه لا يوجد عملٌ شرعيٌّ تكليفيٌّ (3) إلا بنيَّةٍ، والمراد بها ــ والله أعلم ــ إخراج الأعمال الصورية التي لم تقع بنية عن أن تكون شرعية تكليفية, مثل أن يكون إنسان نائمًا أو مغمى عليه فيُحْمَلَ بغير رضًا منه سابقٍ من دار الكفر إلى دار الإسلام، فهذا لم يوجد منه عمل شرعي تكليفيٌّ أصلًا. والجملة الثانية «وإنما لامرئ ما نوى» أريد بها ــ والله أعلم ــ التمييز بين الأعمال الشرعية التكليفية المشتبهة صورة، فأفاد أنَّ الذي يوجد منها هو ما _________ (1) الفتح: 1/ 9. [المؤلف]. وقد تكرَّر في الأصل قوله: «كلام الشارع» مرَّتين سهوًا. (2) البخاريّ، كتاب الأذان، باب أمر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتمُّ ركوعه بالإعادة، 1/ 158، ح 793. ومسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة، 2/ 11، ح 397. [المؤلف] (3) في الأصل: تكليفيَّةٌ، وهو سبق قلمٍ.
(2/325)
نواه، ومَثَّلَ له بالهجرة؛ فإنَّ الخارج من دار الكفر إلى دار الإسلام [104] قاصدًا قد وُجِدَ منه عَمَلٌ شرعي تكليفيٌّ في الجملة، وهذا العمل الشرعي التكليفي يحتمل أن يكون الهجرةَ إلى الله ورسوله وحكمُه الوجوب، أو الهجرة إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها وله حكم آخر, فتعيين أحدهما بخصوصه موكول إلى نيته الخاصة. وهاهنا انتهى معنى الحديث (1). فأنت ترى أن الحديث إنما تعرَّض للفصل بين الأعمال الشرعية التكليفية وبين غيرها، فأما أحكام تلك الأعمال فلم يتعرَّضْ لها وإنما تؤخذ من الأدلَّة الأخرى. ولنوضح ذلك بمثال: أربعة وقعوا على أمهاتهم, فأحدهم مجنون، والثاني ظنها زوجته، والثالث يعلم أنها أمه ولكن غلبته الشهوة، والرابع يعلم أنها أمه وقصد بِرَّها ورضاها تقربًا إلى الله تعالى في زعمه. فالأوَّل: ليس له قصد معتدٌّ به شرعًا. «وإنما الأعمال بالنيات»، فلم يوجَدْ مِنْه عمل شرعي تكليفي أصلًا، فلا يقال لعمله: حرام ولا مكروه ولا مباح ولا مندوب ولا واجب، والآخرون قصدوا الوقوع فوُجِدَ مِنْ كلٍّ منهم عملٌ شرعيٌّ (2) تكليفي. ثم يقال: الثاني (3) إنما نوى الوقوع على زوجته، _________ (1) هنا كان مكتوبًا: «ولنضرب مثلًا يتَّضح به المعنى»، وهو تكرارٌ لما سيأتي بعد سطرين من قوله: «ولنوضِّح ذلك بمثالٍ»، لأنه ضرب على صفحةٍ ونصف صفحة ثم أعاد تبييضهما، فنسي أن يضرب على هذا القدر. (2) أي للشرع فيه حكمٌ، ولا يعني أنه مشروعٌ. (3) لعله: «الأوَّل» أي: في عدد الآخرين خلا المجنون، بدليل ما يأتي من الثاني والثالث.
(2/326)
«وإنما لامرئ ما نوى»، فالعمل الشرعي التكليفي الذي وُجِد منه هو الوقوع على زوجته. والثاني نوى الوقوع على أمه شهوة فالعمل الشرعي الذي وُجِدَ منه هو الزنا بأمِّه. والثالث: نوى الوقوع على أمه تقربًا إلى الله تعالى في زعمه، فالعمل الذي وجد منه هو الزنا بأمه تقربًا إلى الله تعالى في زعمه. وهاهنا انتهى معنى الحديث, فأما الأحكام فتطلب من غيره, فحكم الثاني أنه مندوب أو مباح, وحكم الثالث أنه حرام من أكبر الكبائر، عليه التفسيق والحد، وحكم الرابع من جهة كالثالث, ومن جهة أنه كفر لاستحلاله الحرام المقطوع به وكذبه على الله تعالى، وتكذيبه بآياته وتكذيبه لرسوله، ولو كان المعنى ما توهَّمه الجهال لكان عمل الرابع يكون قربة يرجى لصاحبه الثواب. وذلك قريب مما توهّمه المشركون فيما حكى الله تعالى عنهم من قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. والحاصل أن مَن نوى التقرُّب إلى الله تعالى بعملٍ لا بدَّ من النظر في الأدلَّة الشرعيَّة، فإذا دلَّت على أن ذلك العمل بذلك القصد قربة فهو قربة، وإذا دلَّت على أنه ليس بقربة ففعلُه له بنيَّة التقرب وبالٌ عليه؛ لما فيه من الكذب على الله تعالى والتكذيب بآياته وغير ذلك ... (1). فإن قيل: فقد عُلِمَ من الشريعة أن المباح يصير قربة بالنية الصالحة، بل بعض المكروهات، وكذا بعض المحرمات إذا تعينت طريقًا لدفع مفسدة أعظم منها. قلت: نحن لم ننف ذلك، وإنما قلنا: لا بدَّ من دليل شرعيٍّ على أن هذا _________ (1) هنا نحو كلمتين لم تظهرا في الأصل، وكلمة: (ففعله) لم تظهر كاملةً.
(2/327)
العمل يكون قربةً بالنية، ولا يكفي في ذلك مجرد النية كما في الزاني بأمِّه تقرُّبًا في زعمه، وشاربِ الخمر تقوِّيًا على قيام الليل، والساجد للشمس احترامًا لها لأنها آية من آيات الله، وقس على ذلك، ولعلّك قد وقفت على الحكاية التي وُضِعَتْ على مؤذن حمص ومسجدها وإمامها وقاضيها، فإنها من هذا القبيل (1). واعلم أن سائر الكفار من أهل الكتاب والمشركين كلهم يزعمون أنهم إنما يتمسكون بكفرهم طاعة لله عزَّ وجلَّ وتعظيمًا له، كما تقدم بعض ذلك، وقد علمنا أن قصدهم ذلك لا ينفي عنهم اسم الكفر ولا حكمه بل يغلِّظه عليهم ويكون كفرًا على كفرٍ. وأما ما في ذلك الرأي (2) من الحق فهو في رمي المسلم غَيْرَهُ بالكفر عند ظنه ذلك بعد اجتهادٍ يُعْتَدُّ به، كما قال عمر في حاطب, وأسيدُ بن حضير في سعد بن عبادة, وجلساء عتبان بن مالك [107] في مالك بن الدخشم رضي الله عنهم، وسيأتي توضيح ذلك في أواخر الرسالة (3)، إن شاء الله تعالى. وقد قال الإمام أحمد وغيره بكفر تارك الصلاة كسلًا، ولم يُنْكَرْ عليهم ذلك، وإن خولفوا فيه فكما خولفوا في بعض أحكام البيع مثلًا، ومَنْ طالع أبواب الردة في كتب الفقهاء وجد من ذلك كثيرًا. _________ (1) الحكاية في المستطرف 2/ 305, وهي من الحكايات الماجنة المكذوبة. (2) أي: عدم الإنكار على أحد، وقد مرَّ في مطلع هذا الفصل. (3) في باب الأعذار ص 935 - 941.
(2/328)
ولكنَّ كثيرًا من الذين يكفِّرون بَعْضَ المصلِّين في هذا الزمان ليس عندهم شبهة قويَّة يُعْذَرُون بها، ولا هم أهلٌ للاجتهاد والنظر. والله المستعان. فإن قلت: فهل يتصور أن يُعْذَرَ الإنسان في الكفر كما قد يعذر في التكفير؟ قلت: أما من أقدم على الكفر مختارًا وهو يعلم أو يظن أنه كفر, أو كان عنده احتمال لكون ذلك كفرًا ولم يبحث ولم ينظر, أو بحث ونظر بغير تحقيق ولا إنصاف, بل كان غرضه من البحث نصرَ هواه والردَّ على مخالفيه, أو جاهلًا أنه كفر وهو مقصِّر بجهله= فإنه لا يُعْذَر. وأما من أقدم مكرهًا وقلبه مطمئن بالإيمان, أو جاهلًا غير مقصِّر, كمن نشأ في رأس جبل= فمعذور. وأما مَنْ أقدم عليه يعتقد أنه ليس بكفر، وقد نظر وبحث باذلًا أقصى جهده في ذلك حريصًا على إصابة [108] الحق مخلصًا في هذا القصد، فأدَّاه اجتهاده إلى أن ذلك الأمر ليس بكفر بل هو حق؛ فإن كان مسلمًا ملتزمًا بالأصول الإسلامية العظمى، وإنما كان خلافه فيما دونها, فسيأتي الكلام عليه في الأعذار، إن شاء الله. وإن كان خلافه في أصول الإسلام العظمى فقد نُقِلَ عن رجل أو رجلين من المتقدمين أن هذا معذور، وجمهور العلماء على أنه غير معذور، وزاد بعضهم فكفَّر من يقول إنه معذور (1). وظهر لي أن مثل هذا الشخص لا يوجد؛ لأنه قد فُرِضَ مجاهدًا في سبيل الحق مخلصًا في جهاده, فيمتنع _________ (1) مضى الكلام على هذا المبحث في الصفحات 171 - 172، 206 - 210.
(2/329)
ألا يُهْدى؛ فإن الله تبارك وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]؛ فثبت من هذا أن من كان على كفر ويزعم أنه أداه إليه اجتهاده فلم يكن اجتهاده صادقًا خالصًا لوجه الحق، فثبت أنه ليس بمعذور اتفاقًا. والتكفير دون الكفر قطعًا، ولا سيما الشرك, فقد قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116] , وقد مرَّ في المقدمة ما يتعلق بهذا. ويشتد الخطر على من فهم من دلالة الكتاب أو السنة في عمل من الأعمال أنه شرك، فعارضها بمجرد التقليد وغيره مما مرَّ. وكذلك من أمكنه تدبر الكتاب والسنة فلم يفعل واكتفى بالتقليد أو غيره. وكذا من لم تمكنه المراجعة ولكنّه قد علم أن من أهل العلم مَنْ يقول في عمل من الأعمال إنه شرك فلم يجتنبه؛ [109] فإن الاحتياط واجب كما تقدم. وفي الحديث الصحيح: «الحلال بيِّن والحرام بَيِّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراعٍ يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه» (1). وشبهات الشرك أشدُّ من شبهات الحرام. وفي حديثٍ آخر: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة» (2). _________ (1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه 1/ 20 ح 52، ومسلم في كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات 5/ 50 ح 4178. (2) المسند 3/ 153.
(2/330)
وفي حديثٍ ثالثٍ: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا لما به بأس» (1). وبالجملة فتحقيق ما هو شرك وما ليس بشرك متوقف على تحقيق معنى كلمة التوحيد (أشهد أن لا إله إلا الله)، فعلى المسلم السعي في ذلك، وعليه أن يلتزم قبل تحقيق معناها الاحتياط، ولا يكفيه الاحتياط مع الإعراض عن الاجتهاد في تحقيق معناها. ولما كان معظم الاشتباه في معناها إنما جاء من الاشتباه في معنى الإلاهة والعبادة، فلنشرع في تحقيق معناهما، وأرجو الله تبارك وتعالى أن يهديني والمسلمين لما اختلف فيه من الحق بإذنه ويحفظنا من الزيغ والزلل بفضله ومَنِّه، آمين. * * * * _________ (1) أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق، باب 19، 4/ 634 ح 2451، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب الورع والتقوى 2/ 1409 ح 4215، وضعَّفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي.
(2/331)
[110] تفسير لفظ «إله» في كتب العقائد يظهر من صنيع بعض المتكلمين ــ أعني علم الكلام أو علم العقائد أو علم التوحيد ــ أن معنى (إله) هو المعنى الذي يُعِبِّرون عنه بواجب الوجود, ولكنَّ في عباراتهم اضطرابًا. قال العضد في مواقفه: «المرصد الثالث في توحيده تعالى، وهو مقصد واحد, وهو أنه يمتنع وجود إلهين. أما الحكماء (1) فقالوا: يمتنع وجود موجودَين كلُّ واحدٍ منهما واجب لذاته ... وأما المتكلمون فقالوا: يمتنع وجود إلهين مستجمعين لشرائط الإلهية, لوجهين: الأول: لو وُجِد إلهان قادران ... واعلم أنه لا مخالف في هذه المسألة إلا الثنوية». قال المحشِّي حسن جلبي (2): «قوله: (في توحيده تعالى) التوحيد يطلق بالاشتراك على معانٍ، من جملتها: اعتقاد الوحدانية أي عدم مشاركة الغير له في الألوهية، وهذا هو المقصود هاهنا، والمشاركة فيها تستلزم الاشتراك في الوجوب الذي هو معدن كلِّ كمال ومُبْعِد كل نقصان ... ». وقال الشارح السيد الشريف بعد قول المتن: (إلا الثنوية): «دون الوثنية فإنهم لا يقولون بوجود إلهين واجبي الوجود، ولا يصفون [111] الأوثان بصفات الإلهية وإن أطلقوا عليها اسم الآلهة, بل اتخذوها على أنها تماثيل الأنبياء أو الزهَّاد أو الملائكة أو الكواكب, واشتغلوا بتعظيمها على وجه العبادة توصُّلًا بها إلى ما هو إله حقيقةً». _________ (1) يعني: الفلاسفة. (2) ابن محمد شاه الفناري، توفي سنة 886 هـ. انظر: شذرات الذهب 8/ 3.
(2/332)
قال حسن جلبي: «فعدَّهم [أي الوثنية] من المشركين لقولهم بتعدُّد المستحق للعبادة لا لقولهم بواجبي الوجود» (1). فهذه العبارات كما ترى. وفي مسألة التوحيد من المقاصد وشرحها بنى الكلام على توحيد وجوب الوجود أيضًا، ولكن قال في الشرح: «حقيقة التوحيد اعتقاد عدم الشريك في الألوهية وخواصِّها، ولا نزاع لأهل الإسلام في أنَّ تدبير العالم وخلق الأجسام واستحقاق العبادة وقِدَم ما يقوم بنفسه كُلُّها من الخواصِّ ... ». ثم عدَّدَ أصناف المشركين, إلى أن قال بعد ذكر الثنويَّة والمجوس: «ومنهم عَبَدَة الملائكة وعبدة الكواكب وعبدة الأصنام، أما الملائكة والكواكب فيمكن أنهم اعتقدوا كونها مؤثِّرة في عالم العناصر مدبِّرة لأمور قديمة بالزمان (2) شفعاء للعباد عند الله تعالى مقرِّبة إياهم إليه تعالى. وأما الأصنام فلا خفاء أنَّ العاقل لا يعتقد فيها شيئًا من ذلك، قال الإمام رحمه الله: فلهم في ذلك تأويلات باطلة: الأول: أنها صور أرواحٍ تدبِّر أمرهم وتعتني بإصلاح حالهم على ما سبق. الثاني: أنها صور الكواكب. _________ (1) شرح المواقف 3/ 32 - 36. [المؤلف] (2) سيأتي ما فيه، إن شاء الله تعالى. [المؤلف]
(2/333)
الثالث: أن الأوقات الصالحة للطِّلَّسْمات (1) القويَّة الآثار [112] لا توجد إلا أحيانًا من أزمنة متطاولة جدًّا، فعملوا في ذلك الوقت طِلَّسْمًا لمطلوب خاصٍّ يعظمونه ويرجعون إليه عند طلبه. الرابع: أنهم اعتقدوا أن الله تعالى جسم على أحسن ما يكون من الصورة، وكذا الملائكة, فاتخذوا صورًا وبالغوا في تحسينها وتزيينها وعبدوها لذلك. الخامس: أنه لما مات منهم مَنْ هو كامل المرتبة عند الله تعالى اتخذوا تمثالًا على صورته وعظَّموه تَشَفُّعًا إلى الله تعالى وتوسُّلًا ... وبالجملة فنفي الشركة في الألوهية ثابت عقلًا وشرعًا وفي استحقاق العبادة شرعًا، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]» (2). أقول: وهذه العبارة الأخيرة مفهمة أنَّ عَبَدَة الملائكة وعبدة الكواكب وعبدة الأصنام لم يشركوا في وجوب الوجود وإنما أشركوا في استحقاق العبادة، وقد جعل استحقاق العبادة غير الألوهية، وإنما يعني الألوهية بالمعنى الذي يريده المتكلِّمون منها في هذا البحث، وهو وجوب الوجود، وهو غير استحقاق العبادة قطعًا، فلا تَفْهَمْ من كلامه أنَّ المشركين الذين _________ (1) الطِّلَّسْم ــ بكسر الطاء وفتح اللام المشدَّدة وحُكِي تخفيفها ــ: خطوطٌ وأعدادٌ يزعم كاتبها أنه يربط بها روحانيَّات الكواكب العلويَّة بالطبائع السفليَّة لجلب محبوبٍ أو دفع أذًى. انظر: مفتاح السعادة ومصباح السيادة 1/ 316، المعجم الوسيط 562. (2) شرح المقاصد 2/ 64 - 65. [المؤلف]
(2/334)
حكى فيما سبق أنهم يشركون في استحقاق العبادة غيرُ مشركين في الألوهية، كيف والقرآن مملوء بالإخبار عنهم أنهم اتخذوا الأوثان آلهة، وقد قال هو نفسه في المطوَّل (1) في بحث تعريف المسند إليه بالعَلَمِيَّة ما لفظه: «ألا ترى أنَّ قولنا: (لا إله إلا الله) كلمة توحيد بالاتفاق ... فيجب أن يكون إله بمعنى المعبود بحق، والله تعالى عَلَمًا للفرد الموجود منه، والمعنى: لا مستحق للعبودية له في الوجود أو موجود إلا الفرد الذي هو خالق العالم، وهذا معنى قول صاحب الكشاف: «إن الله تعالى يختصُّ بالمعبود بالحق لم يُطْلَقْ على غيره»، أي بالفَرْدِ الموجود الذي يُعبد بالحق تعالى وتقدَّس». ونقلوا نحوه عن السعد في شرح الكشاف (2). فأما زعمه أنَّ نفي الشركة في استحقاق العبادة غير ثابت بالعقل، فيبطله القرآن كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وفي شرح الجوهرة لابن الناظم: «وحقيقة الألوهية وجوب الوجود والقدم الذاتي، ويلزم منه استغناؤه عن كل ما سواه وافتقارُ كلِّ ما سواه إليه». تعقَّبه المحشِّى الأمير فقال: «قوله: (وجوب الوجود) هذا من اللوازم، وحقيقة الألوهية كونه معبودًا بحق. قوله: (ويلزم منه استغناؤه إلخ) السنوسي فسَّر الألوهية بهذين الشيئين، وأخذ ما عداهما منهما، والشارح فَعَلَ ما فَعَلَ ولم يظهر له وجه» (3). وقال البيجوري في حواشيه على الجوهرة: «فحقيقة الإله المعبودُ _________ (1) المطول: (ص 216) نشرة د. عبد الحميد هنداوي. (2) ما زال مخطوطًا. (3) شرح عبد السلام للجوهرة لوالده ص 117. [المؤلف]
(2/335)
بحق، ويلزم منه أنه مستغنٍ عن كلِّ ما سواه، ومفتقر إليه كلُّ ما عداه ... فتفسير السنوسي الذي ذكره في الصغرى باللازم لا بالحقيقة» (1). أقول وأسأل الله التوفيق: أما وجوب الوجود فالأمم كلُّها لا تشرك فيه حتى الثنويَّة، والنقل عنهم مضطرب، وغالبهم يقول بحدوث الذي يقولون بأنه خالق الشر، ومَن قال منهم بقدمه فالقِدَم عندهم لا يستلزم وجوب الوجود. وفي نهاية الإقدام للشهرستاني المطبوع بإسلامبول: «القاعدة الثالثة في التوحيد ... وهذه المسألة مقصورة على استحالة وجود إلهين يثبت لكلِّ واحدٍ منهما من خصائص الإلهية ما ثبت للثاني، ولست أعرف صاحب مقالة صار إلى هذا المذهب؛ [114] لأن الثنويَّة وإن صارت إلى إثبات قديمين لم تثبت لأحدهما ما ثبت للثاني من كلِّ وجه. والفلاسفة وإن قضوا بكون العقل والنفس أزليَّيْن، وقضوا بكون الحركات سرمديَّة, لم يُثْبِتُوا للمعلول خصائص العلَّة, كيف وأحدهما علّة والثاني معلول. والصابئة وإن أثبتوا كون الروحانيين والهياكل أزليَّة سرمديَّة (2) مدبِّرة لهذا العالم وسمَّوها أربابًا وآلهة فلم يثبتوا فيها خصائص رب الأرباب. ودلالة التمانع في القرآن مسرودة على من يُثْبِت خالقًا من دون الله سبحانه وتعالى, قال الله تعالى: {إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون: 91]. وعن هذا صار أبو الحسن [الأشعري] رحمه الله إلى أنَّ أخصَّ وصف الإله هو القدرة على _________ (1) حواشي البيجوري على الجوهرة ص 68. [المؤلف]. وانظر: أم البراهين ضمن مجموع المتون 7 - 8. (2) سيأتي في عبارة الشهرستاني نفسه في الملل والنحل أنَّ القوم لم يعتقدوا قِدَم الروحانيات. [المؤلف]
(2/336)
الاختراع فلا يشاركه فيه غيره، ومَن أثبت فيه شركة فقد أثبت إلهين» (1). وسيأتي ما فيه قريبًا إن شاء الله تعالى. نعم مَنْ قال من النصارى: إن الله ــ تعالى عما يقولون ــ عبارة عن ثلاثة أقانيم انفصل أحدها حتى حلَّ في جسد عيسى عليه السلام، يلزمه الشرك في وجوب الوجود، ولكنْ لهم خبط شديد لعلَّه يأتي بعضه. ورأيت في ترجمة الكِنْدِيِّ الفيلسوف [115] أن له رسالة في بيان أن الأمم جميعها موحِّدون، كأنه يريد توحيد وجوب الوجود. وكتابُ الله تعالى مع شهادته على كثير من الأمم بالشرك ينفي عنهم الشرك في وجوب الوجود. وسيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح ذلك مفصَّلًا في الكلام على شرك قوم نوح وقوم إبراهيم وقوم هود وقوم صالح، والمصريين في عهد إبراهيم، ثم في عهد يوسف، ثم في عهد موسى, حتى إن فرعون نفسه لم يشرك في وجوب الوجود. وكذلك مشركو العرب الذين بُعِثَ فيهم خاتم الأنبياء ــ عليه وعلى إخوانه من النبيين وآل كلٍّ منهم صلوات الله وسلامه ــ شهد عليهم القرآن باعترافهم بأن الله عزَّ وجلَّ هو الذي يرزقهم من السماء والأرض, والذي يملك السمع والأبصار, والذي يخرج الحي من الميت والذي يخرج الميت من الحي, والذي يدبر الأمر, والذي له السموات والأرض، وأنه رب السموات السبع ورب العرش العظيم، وأنه بيده ملكوت كل شيء وأنه هو _________ (1) نهاية الإقدام 1/ 90 - 91. [المؤلف]
(2/337)
يجير ولا يجار عليه، وأنه هو الذي خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر, وأنه هو الذي ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها، وأنه العزيز العليم، إلى غير ذلك، وسيأتي ــ إن شاء الله تعالى ــ سياق الآيات في ذلك. [116] وأخبر الله تعالى عنهم بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: 35]، وآيات أخرى بهذا المعنى سيأتي ــ إن شاء الله تعالى ــ ذكرها مع بيان حجة الله البالغة في رَدِّ شبهتهم. وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]. وقال عزَّ وجلَّ: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3]. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} [الأحقاف: 27 - 28]. ذكر الراغب وغيره أن القربان هو من يتقرب بخدمته إلى الْمَلِك يستوي فيه الواحد والجمع (1) ــ أي لأنه في الأصل مصدر ــ, فيكون هذا كقولهم: _________ (1) المفردات 664.
(2/338)
{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. فهذه الأمم التي ثبت أنها لم تكن تشرك في وجوب الوجود هي التي [117] ملئ القرآن بالإخبار عنها أنها كانت تشرك في الألوهية وتتخذ من دون الله آلهة، وعنهم أخبر الله تعالى بأنه أرسل إليهم رسله يدعونهم إلى لا إله إلا الله، فاستكبروا عن ذلك وأعظموه، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35] , وقال عزَّ وجلَّ: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 4، 5]. وكانت الرسل تكتفي منهم بلا إله إلا الله، فمن قاله فقد برئ من الشرك، فأيُّ ريب يبقى في أن توحيد الألوهية غير توحيد وجوب الوجود، وأن معنى (إله) غير معنى واجب الوجود؟ وكيف يُعْقَل أن يكون معنى (إله) هو معنى واجب الوجود, وهم يؤلِّهون أحجارًا ينحتونها بأيديهم، وأشجارًا قد علموا أنها لم تكن قبلُ نابتةً ثم نَبَتَتْ، ومعادن تصاغ أمام أعينهم؟! وأما قول السنوسي: إن معنى (إله): المستغني عن كلِّ ما سواه المفتقر إليه كلُّ ما عداه، فقد تقدَّم أنه تفسير باللازم؛ على أن في كلام السَّعْد المتقدِّم ما يدلُّ على إنكاره هذا اللزوم. وفيما تقدَّم في الكلام على إبطال أن يكون معنى (إله) هو معنى واجب الوجود ما يُعْلَمُ منه إبطالُ أن يكون [118] معنى (إله): المستغني عن كلِّ ما سواه المفتقر إليه كلُّ ما عداه. فأما كون هذا المعنى ملازمًا له فحقٌّ ولكن المشركين لا يعترفون بهذه الملازمة، وسيأتي قريبًا نصُّ ابن عبد السلام وغيره على ذلك، ولذلك يؤلِّهون المخلوقات والجمادات مع علمهم باحتياجها وافتقارها واعترافهم بذلك.
(2/339)
واعلم أن المتكلمين تبعوا الحكماء في الكلام على توحيد وجوب الوجود, وأرادوا أن يعبِّروا بعبارة شرعية فاختاروا كلمة (إله)؛ لأنَّ الشارع جعلها عَلَمًا للتوحيد الآخر في لا إله إلا الله، وبنى الملازمة عليها في قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وغيرها ممّا سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. ورأوا أن الشرع خصَّ الألوهية بالله عزَّ وجلَّ، وكثيرًا ما يحتجّ على ذلك بالعقل، فدلَّهم ذلك على أن بَيْنَ الألوهية ووجوب الوجود ملازمةً، وهذا حقٌّ في نفسه، وكذلك الملازمة بين الألوهية والاستغناء المطلق كما مرَّ. ولا يلزم من التلازم في نفس الأمر اتحاد المعنى ولا التلازم في الاعتقاد، فإن عدم الألوهية ملازم لغير الله عزَّ وجلَّ في نفس الأمر, مع أن المشركين يعتقدون في أوثانهم مثلًا أنها آلهة ولا يعتقدون أنها هي الله. وإطلاق أحد المتلازمين على الآخر شائع ذائع. ولكن المتكلمين سكتوا عن إيضاح توحيد الألوهية الحقيقيِّ مع أن الضرورة إليه أشدُّ؛ لِمَا تقدَّم أنَّ عامَّة الأمم تعترف بوحدانية وجوب الوجود وإنما تنكر توحيد الألوهية، والأمم التي بعثت إليها الرسل كذلك، وعلى ذلك الأمم الباقية على الشرك إلى يومنا هذا، ومعلوم أن تلك الأمم لا تعترف باستلزام وحدانيَّة وجوب الوجود لوحدانية الألوهية, فكان على المتكلمين أن يُبَيِّنوا وجه الملازمة، [119] ويُمْعِنُوا فيه، كيف لا وعليهم اتِّكَال أكثرِ الأمَّة في بيان العقائد، وقد جعلوا التوحيد عَلَمًا لهم حتى سُمِّيَ علمُ الكلام علمَ التوحيد، فكيف لا تتَّكِل الأمَّة في بيان التوحيد على علماء التوحيد؟ ولكنهم ويا للأسف أغفلوا التوحيد الذي بُنِيَتْ عليه الشرائع وبه
(2/340)
أُرْسِلت الرسل، والمسلمون بغاية الضرورة إلى معرفته، وهو محور الخلاف والنزاع والقتال والجدال= أغفلوا هذا واشتغلوا بغيره. نعم فَسَّر بعضُهم الألوهية باستحقاق العبادة، ولكن العبادة أيضًا كلمة مشتبهة فلم يبيِّنوا معناها ولا تكلّموا في بيان اختصاص الله عزَّ وجلَّ باستحقاقها. ولعلَّ السبب في إهمالهم الكلامَ على توحيد الألوهية الحقيقيِّ أنهم لم يجدوا للفلاسفة كلامًا فيه، كيف وعامَّة الفلاسفة مشركون يعبدون الأرواح والكواكب والأوثان، وظنَّ المتكلمون كما صرَّح به بعضهم وتقدَّم في آخر ما نقلناه عن شرح المقاصد أن وحدانية استحقاق العبادة لا يدلُّ عليه العقل وإنما هو (1) شرعيٌّ محض. [120] فتقصير المتكلمين في هذه المسألة من أعظم أسباب الاشتباه فيها؛ لأن مَنْ أراد البحث عنها فَزِعَ إلى ما سَمَّوْهُ علمَ التوحيد؛ لاعتقاده أنه متكفِّل بمسائل العقائد، ولا سيما مسألة التوحيد, فوجد فيه الكلام في وحدانية وجوب الوجود مُعَنْوَنَة بوحدانية الألوهية، ووجد بعضَهم قد صرَّح بأنَّ معنى الإله هو معنى واجب الوجود أو نحوه، فظنَّ أن ذلك معنى الإله حقيقة. فإن شكَّكه في ذلك قول بعضهم: إن معنى الإله هو: المستحق للعبادة، توهَّم أن العمل لا يكون عبادة إلا مع اعتقاد أن المعبود واجب الوجود أو نحو ذلك، وإلَّا لَما أهمل علماءُ التوحيد الكلامَ عليها. ومن العجائب أنك تجد في هذا العصر كثيرًا من طلبة العلم ــ إن لم أقل _________ (1) أي الاستحقاق.
(2/341)
مِنَ العلماء ــ يتوهَّمون أن المشركين يعتقدون في الأصنام من أشجار وأحجار وغيرها أنها واجبة الوجود قادرة على كلِّ شيء خالقة رازقة مدبِّرة للعالَم. ولقد كَلَّمْتُ بعضهم في شأن الوثنيِّين من أهل الهند وقولهم في الأصنام, فقال: إذا كان هذا قولهم في الأصنام فليسوا بمشركين! ! وحجته أنهم لم يخالفوا التوحيد الذي حقَّقه علماء التوحيد، وهكذا غلب [121] الجهلُ بمعنى لا إله إلا الله، والغلطُ فيه وفي حقيقة الشرك الذي بعث الله عزَّ وجلَّ رسله لإبطاله، فإنا لله وإنا إليه راجعون. واعلم أن كلمة «واجب الوجود» لم ترد في الشرع، وأقربُ ما يؤدِّي معناها من الأسماء الحسنى اسمه تعالى: «الحق». وفي الحديث الصحيح: «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطل» (1) والمراد بالباطل هنا ــ والله أعلم ــ ما يُعَبِّر عنه المتكلمون بجائز الوجود أو ممكن الوجود فيكون ضدُّه الحقَّ بمعنى واجب الوجود. ثم رأيت كلام الحافظ ابن حجر على هذا الحديث فرأيت فيه ما لفظه: «والحقُّ على الحقيقة مَنْ لا يجوز عليه الزوال» (2). وتمام البيت: وكلُّ نعيم لا محالة زائل _________ (1) البخاريّ، كتاب مناقب الأنصار، باب أيَّام الجاهليَّة، 5/ 43، ح 2841. ومسلم، كتاب الشِّعر، 7/ 49، ح 2256 (3). [المؤلف] (2) فتح الباري 7/ 104. [المؤلف]
(2/342)
والبيت من قصيدةٍ قالها لبيد في شركه (1)، وأنشدها مشركي قريش بعد بعثة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وكان حاضرهم عثمان بن مظعون بعد إسلامه, فلما أنشد لبيد الشطر الأول قال عثمان: صدقت، ولما أنشد الشطر الثاني قال عثمان: كذبت، إلا نعيمَ الجنة فإنه لا يزول، فغضب لبيد لقوله: كذبت، وغضب له المشركون, وآذوا عثمان رضي الله عنه، ولم ينكر أحد من المشركين قول لبيد: ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطل مع قول عثمان: صدقت (2). وقد يؤخذ من كلام بعضهم أن المعنى الحقيقي لـ (إله) هو المدبِّر استقلالًا, وإليه يرجع فيما يظهر ما نقله الشهرستاني في نهاية الإقدام عن الأشعري، وقد مرَّ. [122] ولا يخفى أن الاستقلال التامَّ إنما يكون لواجب الوجود، وقد مرَّ الكلام عليه. فأما ما دون ذلك فمنه ما يقوله بعض الثنوية في الشيطان: إنه يعمل ما يعمل ولا يستطيع الله ــ تعالى الله عما يقولون ــ مَنْعَه في كثير من الأحوال. ولا أدري ما صحَّةُ هذا النقل عنهم، فإن مقالتهم مضطربة. _________ (1) انظر: ديوانه (254 - 266) نشرة إحسان عباس. (2) انظر: سيرة ابن هشام 1/ 200 - 201، وفتح الباري 7/ 104 - 105. [المؤلف]. وأخرجه الطبراني في الكبير 9/ 24 من مرسل عروة. وأبو نعيم في معرفة الصحابة 4/ 1954 - 1956 ح 4915 من مرسل الزهري.
(2/343)
ومنه قول بعض الفلاسفة: إن في العالم موجودات يُسَمُّونها العقول العليا, وإنها تدبر الكون بدون علم من الله عزَّ وجلَّ؛ لزعمهم أنه سبحانه لا يعلم الجزئيات. وفي صحة هذا عنهم مقال، ففي كلام ابن رشد الحفيد آخِرَ كتابه تهافت التهافت إنكارُ كون هذا اعتقادَ الفلاسفة (1). ومنه ما يُحْكى عن الصابئة، قال الشهرستاني في كتابه الملل والنحل: «فإن عندهم أن الإبداع الخاصَّ بالرب تعالى هو اختراع الروحانيات ثم تفويض أمور العالم العلوي إليها، والفعل الخاص بالروحانيات هو تحريك الهياكل (الكواكب) ثم تفويض العالم السفلي إليها, كمن يبني معملة وينصب أركانًا للعمل من الفاعل والمادَّة والآلة والصورة وتفويض العمل إلى التلامذة» (2). فأما الأولان فلم يقل بهما أحد عن الأمم التي أخبر الله عزَّ وجلَّ بأنها أشركت في الألوهيَّة وبعث إليها رُسُلَه بـ «لا إله إلا الله»، وقد مرَّ شيء من بيان ذلك. [123] وسيأتي إيضاحه مفصّلًا إن شاء الله تعالى. وأما الثالث ــ أعني ما حكي عن الصابئة ــ فالحكايات عنهم مضطربة، وقد حكى الشهرستاني عنهم في موضع آخر ما يخالف ما تقدَّم أو يُبَيِّنه. قال في أول الكلام على الصابئة: «ومذهب هؤلاء أن للعالم صانعًا فاطرًا حكيمًا مقدَّسًا عن سمات الحدثان, والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله, وإنما يتقرب إليه بالمتوسطات المقربين لديه، وهم الروحانيون المطهَّرون المقدَّسون جوهرًا وفعلًا وحالة ... وقد جُبِلوا على _________ (1) انظر: تهافت التهافت ص 110 (ط الحلبي). (2) الملل والنحل 2/ 128. [المؤلف]
(2/344)
الطهارة وفُطِرُوا على التقديس والتسبيح لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ... فنحن نتقرَّب إليهم ونتوكَّلُ عليهم، فَهُمْ أربابنا وآلهتنا ووسائلنا ... حتى يحصل مناسبةٌ ما بيننا وبين الروحانيات، فنسأل حاجاتنا منهم ونَعرض أحوالنا عليهم ونصبو في جميع أمورنا إليهم، فيشفعون لنا إلى خالقنا وخالقهم ورازقنا ورازقهم ... وأما الفعل فقالوا: الروحانيات هم الأسباب المتوسطون في الاختراع والإيجاد وتصريف الأمور من حالٍ إلى حالٍ، وتوجيه المخلوقات من مبدأ إلى كمال، يستمدون القوة من الحضرة الإلهية القدسية، ويُفِيْضون الفيض على [124] الموجودات السفلية ... وأما الحالة فأحوال الروحانيات ... ثم طعامهم وشرابهم التسبيح والتقديس والتمجيد والتهليل وأنسهم بذكر الله تعالى وطاعته، فمِن قائمٍ ومِن راكع ومن ساجد ... {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]» (1). فيظهر مما ذكر هنا أن القوم لم يدَّعوا للروحانيين تدبيرًا مستقلًّا. وبعدُ، فقد علمت شهادة الله عزَّ وجلَّ على المشركين بأنهم يعترفون بأن الله عزَّ وجلَّ هو الذي يدبِّر الأمر والذي يرزقهم من السماء والأرض وغير ذلك، وقد أخبر الله تعالى عن كثير من الأمم أنهم اتخذوا الأصنام آلهة، واتخذوا الشياطين آلهة، واتخذوا الهوى إلهًا، واتخذوا الأحبار والرهبان أربابًا وآلهة, مع أنهم لم يعتقدوا لشيء من ذلك التدبير المستقل. وسيأتي إيضاح ذلك مفصَّلًا إن شاء الله تعالى. _________ (1) الملل والنحل 2/ 95 - 98 بهامش الفصل في الملل والنحل لابن حزم.
(2/345)
ولعلَّ مراد الشهرستاني والأشعريِّ مِن قبله ومَن يؤخذ من كلامه موافقتُهما أن الخلق والتدبير استقلالًا مناط الألوهية, بمعنى أن الموجود إذا كان متصفًا بذلك استحق أن يكون إلهًا، ومَن وصف شيئًا بذلك لزمه إثبات الألوهية له. وعليه فلا يُفْهَمْ من كلامهم أن ذلك معنى الألوهية، ولا أنَّ مَنْ لم يعتقد في شيء أنه كذلك لا يمكن أن يعتقد له الألوهية، فتدبَّر. فقد ثبت بما تقدم أن اتخاذ الشيء إلهًا لا يتوقف على اعتقاد كونه واجبَ الوجود، ولا اعتقاد كونه مستغنيًا عما سواه، ولا كونه مدبِّرًا مستقلًّا، بل ولا غير مستقلٍّ؛ فإن الذين ألَّهوا الأصنام لم يعتقدوا لها شيئًا من التدبير كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، واتضح لك أن عبارات المتكلمين التي تُوهِم خلاف ما ذكرنا لا تخالفه في الحقيقة، ولله الحمد. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في كتابه (الإشارة والإيجاز إلى أنواع المجاز) عند ذكر قول الله عزَّ وجلَّ حكاية عن قول المشركين يوم القيامة لآلهتهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 - 98] ما لفظه: «وما سَوَّوهم به إلا في العبادة والمحبة دون أوصاف الكمال ونعوت الجلال» (1). وقال أبو السعود الرومي (2) في قوله الله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [النمل: 64]: «أي هاتوا برهانًا عقليًّا أو نقليًّا يدلُّ على أن معه تعالى إلهًا, لا على أن غيره تعالى يقدر على شيء مما ذُكِرَ من أفعاله تعالى _________ (1) الإشارة ص 55. [المؤلف] (2) تفسير أبي السعود 6/ 296.
(2/346)
كما قيل, فإنهم لا يدَّعونه صريحًا، ولا يلتزمون كونه من لوازم الألوهية وإن كان منها في الحقيقة، فمطالبتهم بالبرهان عليه لا على صريح دعواهم مما لا وجه له». [125] الذي يدل عليه القرآن أن التدبير بالخلق والرزق ونحوهما على سبيل الاستقلال هو الذي ينبغي أن يكون مناطًا للألوهية، فمَن لم يكن كذلك لم يَنْبَغِ أن يُتَّخَذَ إلهًا، وأعني بالتدبير المستقلِّ: أن يكون المدبِّر ذا قدرة مطلقة، بحيث لا يكون فوقه قادرٌ محيط به علمًا وقدرة، يعلم جميع أحواله ويمنعه إذا أحبَّ ويغني عنه إذا أراد, أو يكون فوقه قادر كذلك ولكنَّ الأعلى فَوَّضَ الأمرَ إلى الأدنى مطلقًا يتصرَّف كيف يشاء. قال الله تبارك وتعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف: 191 - 192]. وقال عزَّ وجلَّ: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ... وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 17 - 20]. وقال سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73]. وقال جلّ ذكره: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [126] وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} [الفرقان: 3].
(2/347)
وقال عزَّ من قائل: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16]. وقال سبحانه: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [لقمان: 11]. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} [فاطر: 40]. وقال جلَّ ذكره: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4]. والآيات في هذا المعنى كثيرة، وفي أكثرها ما يزيدك بصيرة بما قدَّمناه [127] أنَّ عامَّة المشركين لا يعتقدون لشركائهم تدبيرًا مستقلًّا، ولذلك قامت عليهم الحجة بهذه الآيات. ولكن من الأمم مَنْ يُشْرِكُ الروحانيين زاعمًا أنه كما أن للبشر قدرة يتصرفون بها على حسب اختيارهم فينفعون ويضرون ويغيثون ويعينون ويقتلون ويستحيون ونحو ذلك مما هو مشاهد، فللروحانيين قدرة يتصرفون بها على حسب اختيارهم وهي أعظم وأكمل من قدرة البشر. قالوا: وكلا (1) القدرتين مخلوقة لله عزَّ وجلَّ وممنوحة منه، وإذا _________ (1) كذا في الأصل، والوجه: كلتا.
(2/348)
شاء سَلْبَ القدرة من بعض الروحانيين فَعَلَ، كما إذا شاء سَلْبَ القدرة مِنْ بعض البشر. قالوا: فنحن نؤلِّه الروحانيين ونعبدهم لينفعونا بهذه القدرة الموهوبة لهم من الله عزَّ وجلَّ، كما أن البشر يعظِّم بعضُهم بعضًا ويخضعُ بعضُهم لبعض رغبةً في منفعة أو خشيةً من مضرَّة مع العلم بأن قدرة البشر موهوبة لهم من الله عزَّ وجلَّ. ومِنْ هؤلاء عامَّةُ وَثَنِيِّي الهند وغيرهم. [128] فاحتجَّ القرآن على هؤلاء وغيرهم بقوله عزَّ وجلَّ: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 19 - 29]. وقوله جل ذكره: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) [129] بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا
(2/349)
كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 84 - 91]. وقوله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 39 - 44]. وتقرير هذا البرهان: أنه لو كان مع الله تعالى أحياء يدبِّرُ كلٌّ منهم الخلق والرزق ونحوهما من الأمور العظمى في العالم تدبيرًا مستقلًّا [130] لاختلفوا، وإذا اختلفوا فسدت السموات والأرض، كما أن الأمور الصغيرة التي يدبِّرها الناس مستمرة الفساد. ولا ريب أن قدرة الناس لو تتناول نحو إنزال المطر ومنعِه، وإرسال الرياح وحبسها، وتيسير (1) الهواء ورفعه، وتحريك الزلازل ونحو ذلك؛ لكان الفساد أظهر، ومعلوم بالمشاهدة أن الأمور العظمى لا يتطرَّق إليها الفساد، وما قد يظهر في بعضها مما يُتَوهَّم فسادًا تُعْلَم مصلحته عند التدبُّر. فعلم بذلك أنه ليس في العالم مع الله تعالى أحياء كلٌّ منهم يدبِّر تدبيرًا مستقلًّا. والمراد بالآلهة هنا الجنس، أي واحد مع الله فأكثر؛ لأن الفساد كما يلزم من وجود ثلاثة مثلًا مع الله يَلْزَمُ من وجود اثنين وواحدٍ أيضًا. _________ (1) كذا في الأصل، ولعله: «تسيير».
(2/350)
وقد علم من هذا البرهان إبطالُ ما يزعمه المشركون من أن الملائكة متمكِّنون من التصرُّف بهواهم واختيارهم كالبشر، وبيان ذلك: أن الفساد كما يلزم من تصرُّفهم بهواهم واختيارهم بناءً على أنهم مدبِّرون استقلالًا، فكذلك يلزم من تصرُّفهم بهواهم واختيارهم بناء على أن الله عزَّ وجلَّ مَكَّن لهم في ذلك كما مكَّن للبشر في الأرض؛ فإنّ تصرُّف البشر يَحْدُثُ منه الفسادُ قطعًا، وذلك معلومٌ بالمشاهدة, ولو تناولت قدرتُهم الأمورَ العظمى ومُكِّنوا من التصرُّف فيها تمكينَهم من الصغرى لظهر الفساد فيها حتمًا. وبهذا التقرير اجْتُثَّتْ شبهةُ المشركين من أصلها, فلم يبق حاجةٌ إلى بيان أنه لو فُرِضَ أنَّ الملائكة مُمَكَّنون من التصرف تمكين البشر لم يستحقُّوا أن يُعْبَدُوا, مع أن القرآن قد بَيَّنَ هذا في مواضع, منها قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 36 - 38]. وتقريره: أنه إذا ثبت أن الله عزَّ وجلَّ محيطٌ بالملائكة قدرةً وعلمًا ومهيمنٌ عليهم في جميع أعمالهم, فلا يستطيعون نفع أحد يقضي الله ضرَّه ولا ضرَّ أحد يقضي الله نفعَه، ولا أن ينالوا أحدًا بشيء لا يقضيه الله تعالى له، فلم يبق معنىً لإشراكهم معه سبحانه في العبادة. فأما عدم التشديد على الناس في خضوع بعضهم لبعض فإنما ذلك فيما لم يكن عبادة على ما يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
(2/351)
والناس في هذه الدار مغمورون بالحسِّيات والعاديَّات، حتى إنَّ الإنسان يجد بحسب الظاهر أن سؤاله إنسانًا مثله أقربُ إلى حصول غرضه من الاقتصار على سؤال الله عزَّ وجلَّ، وتوجيهُ ذلك معروفٌ في العقل والدين، ولكن الإنسان يصعب عليه أن يقتصر في أعماله على مقتضى العقل والدين لغلبة الحسّ والعادة عليه. هذا مع أن كثيرًا من الأحكام الشرعية أو أكثرها كالمبنيِّ على هذه الأمور العادية، ألا ترى أنه ليس للإنسان أن يتناول السُّمَّ أو يمتنع من الطعام والشراب أو يمتنع من العمل بطاعة الله تعالى والكفِّ عن معاصيه قائلًا: ما سبق في علم الله فهو كائن لا محالة ففيم العناء؟ فأما حال الملائكة فإنه مخالف لحال البشر؛ فليس هناك حسٌّ ولا عادة يوهم بظاهره أن الالتجاء إلى الملائكة أقربُ في حصول المقصود من الالتجاء إلى الله عزَّ وجلَّ، بل الأمر بالعكس، كما يدلُّ عليه حالُ المشركين حيث كانوا عند الشدائد يدعون الله عزَّ وجلَّ وحده، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى. وبهذا التقرير يُعْلَمُ أن الجنَّ وأرواح الموتى كالملائكة, ولا سيما إذا ثبت أن دعاء الجن وأرواح الموتى عبادة، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. هذا مع أن ما أشرنا إليه من عدم التشديد على الناس في خضوع بعضهم لبعض ليس معناه أن ذلك مباح لهم مطلقًا، بل فيه تفصيلٌ سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. واعلم أن البرهان المتقدِّم ــ أي: لو كان مع الله تعالى أحياء إلخ ــ هو برهان التمانع المشهور بين المتكلمين، ولهم في تقريره خبط طويل، والذي
(2/352)
ذكرته هو الذي يقتضيه القرآن. وعلى هذا البرهان تشكيكاتٌ ترجع إلى التحيُّر في وجه لزوم الاختلاف على سبيل القطع؛ لأنه لِمَ لا يجوز اتفاق الآلهة؟ كيف والمفروض أنهم كاملون في العلم والحكمة، والعدل والرحمة، والأمورُ التي تقتضيها هذه الصفات لا يُتَصَوَّرُ اختلافُها؟ والجواب: أن هذا البرهان مَسُوقٌ في مقابلة الأمم التي تَدَّعِي للروحانيين تدبيرًا كما مرَّ، وسياق الآيات واضح في ذلك. وهذه الأمم كما يُعْلَم [131] من ديانة اليونان والهند وغيرهم تثبت للروحانيين الاختلاف بينهم والنزاع وعدم إحاطة العلم، بل لا تكاد تميزهم عن البشر إلا بأنهم أعظم قدرةً، فثبت بذلك لزوم الفساد قطعًا. بل وثبت لزوم الفساد من جهةٍ أخرى، وهي: أن الصفات التي تثبتها تلك الأمم للروحانيين لا تكفي لإتقان تدبير العالم على مقتضى العدل والحكمة، فلو كان واحدٌ منهم فقط هو المدبر باختياره لفسد العالم، وهكذا لو كان واحد منهم يدبر العالم مع الله تعالى والله تعالى مُطْلِقٌ له العنان يفعل ما يشاء ويهوى، فإن تدبير الله تعالى يقتضي الإحكام وإتقان النظام, وتدبير ذلك الروحاني يقتضي الفساد على ما علمت, فيصبح العالَمُ كما قال عَبِيد بن الأبرص: عيُّوا بأمرهم كما ... عيَّتْ ببيضتها الحمامه جعلت لها عودين من ... نَشَمٍ وآخر مِنْ ثمامه (1) [132] ولعله قد تبيَّن بهذا معنى قوله تعالى: {إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ _________ (1) ديوان عبيد بن الأبرص 126.
(2/353)
سَبِيلًا} [الإسراء: 42] على القول بأن هذا إشارة إلى التمانع كالآيتين الأخريين، فيكون المعنى ــ والله أعلم ــ: لابتغوا إلى تدبير ذي العرش المقتضي للإحكام والإتقان سبيلًا بالإفساد, فيقع الفساد. والراجح في تفسير الآية ما قاله ابن جرير: «يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين جعلوا مع الله إلهًا آخر: لو كان الأمر كما تقولون من أن معه آلهة ــ وليس ذلك كما تقولون ــ إذًا لابتغت تلك الآلهة القربة من الله ذي العرش العظيم, والتمست الزلفة إليه والمرتبة منه، كما حدثنا بشر قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42]، يقول: لو كان معه آلهة إذًا لعرفوا فضله ومرتبته ومنزلته عليهم فابتغوا ما يقرِّبهم إليه، حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، {إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}، قال: لابتغوا القرب إليه مع أنه ليس كما يقولون» (1). وروى غيره نحوه عن مجاهد، وروى عن سعيد بن جبير ما يوافق الأول. ويحتمل أن يقال: لو كان مع الله [133] آلهة كائنة كما يقولون من أنهم بنات الله وغير ذلك من الصفات التي يصفون شركاءهم بها, إذًا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلًا، بأن ينازعوه في ملكه؛ لأن الولد تكون له خصائص أبيه وإن تأخر وجوده عنه. _________ (1) تفسير ابن جرير 15/ 61. [المؤلف]
(2/354)
وهذا معنىً آخر غير برهان التمانع المتقدِّم، وإنما هو تنبيهٌ لمشركي العرب على عظم غلطهم؛ فإنهم كانوا يلتزمون أنه لا يجوز أن يكون لله عزَّ وجلَّ منازع, وكأنهم إنما نسبوا لله تعالى الولد لما استقرَّ في أذهانهم من أن العقم عيب. قال علقمة بن علاثة لعامر بن الطفيل يفخر عليه: «إني لولودٌ، وإنك لعاقرٌ» (1). وقال عامرٌ نفسه: لبئس الفتى إن كنتُ أعور عاقرًا ... جبانًا فلا أغني لدى كلِّ مشهد (2) وأمرهم في ذلك معروفٌ، فقاسوا رب العزة على الناس في أن العقم يكون عيبًا في حقه, فأثبتوا له الولد لينزهوه بزعمهم، ولما علموا أن إثبات الولد يلزم منه إثبات المنازع جعلوا ذلك الولد إناثًا بناء على ما أَلِفوه واعتادوه أن الإناث ضعاف عواجز، وفاتهم أن ضعفهن وعجزهن لا يبلغ أن يمنعهنَّ من النزاع البتة. ولعلَّ المعنى الذي تقدَّم عن قتادة ومجاهد ولم يذكر ابن جرير غيره أقربُ؛ فإن قوله: [134] {إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}، يتبادر منه الطاعة، وقد جاء نحوه في القرآن بمعنى الطاعة، وهو قوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الفرقان: 57] , وقوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل: 19، والإنسان: 29]. _________ (1) انظر: صبح الأعشى للقلقشندي 1/ 438، وخزانة الأدب للبغدادي 8/ 260. (2) ديوانه ص 64، المفضليات 362، أنساب الخيل في الجاهلية والإسلام وأخبارها لابن الكلبي ص 64، الشِّعر والشعراء 1/ 334. والرواية في الديوان والمصادر الأخرى: فما عذري لدى كلِّ محضر، والقصيدة رائية، فلعلَّ ما هنا سهو.
(2/355)
فإن قيل: فإن القرآن نفسه يثبت للملائكة قدرة وتصريفًا في الكون، فالجواب: نعم، ولكنه بيَّن أنهم ليسوا كما يزعم بعض الأمم يتصرفون باختيارهم كتصرف الناس، فقد مرَّ في سياق آية التمانع قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)}. إلى قوله سبحانه: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 19 - 27]. وقال جلَّ ذكره: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 49 - 50]. وقال تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ [135] مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. وأخرج الحاكم في المستدرك وقال: «صحيح»، وأقره الذهبي, عن ابن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: يا رسول الله أيُّ البقاع خير؟ قال: «لا أدري»، قال: أيُّ البقاع شرٌّ؟ قال: «لا أدري»، فأتاه جبريل فقال: سل ربك، فقال: ما نسأله عن شيء. فانتفض جبريل انتفاضةً كاد أن يُصعَق منها محمدٌ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فلما صعد جبريل قال الله تعالى: سألك محمد أيُّ البقاع خير وشرٌّ؟ فقال: نعم، قال: فحدِّثه أن خير البقاع المساجد وأن شر البقاع الأسواق (1). _________ (1) المستدرك، كتاب البيوع، «إن من أشراط الساعة أن يفيض المال ويكثر الجهل»، 2/ 7 - 8، ورواه البيهقي في السنن مطوَّلًا. سنن البيهقيّ، كتاب النكاح، بابٌ كان لا ينطق عن الهوى ... ، 7/ 50 - 51. [المؤلف]. وصححه ابن حبان (1599) , وقال الذهبي في العلو ص 99 ح 238: حديث غريب صالح الإسناد, وقال البوصيري في إتحاف الخيرة 2/ 28 ح 969: في الحكم بصحته نظر ... ». وروي من وجوه أخرى.
(2/356)
[136] ويكفي في هذا المعنى قوله تعالى: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27]؛ فإن (يسبقون) فعلٌ في سياق النفي فيعمُّ، وفاعله ضمير جمع فيعمُّ، و (القول) اسم جنس معرَّف فيعمُّ، وتقديم (بأمره) على (يعملون) يقتضي الحصر، والحصر يستلزم العموم، وتقدير الحصر هكذا: (لا يعملون إلا بأمره)، فيكون (يعملون) عامًّا لما مرّ في (يسبقون). وفيه دليل آخر على العموم وهو حذف المعمول. فتلخيص المعنى هكذا: لا ينبسُ أحدٌ منهم بكلمةٍ إلا بَعْدَ أن يأذن له الله تعالى، ولا يكون مِنْ أحدٍ منهم شيءٌ من العمل إلا بأمر الله تعالى. وربما يخطر للقارئ احتمال أن يكون هذا من نمط القَدَرِ. وهو غلط. أما في قوله: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} فظاهرٌ؛ إذ الأمر غير القَدَر، ولا قائل بأنه لا يكون من الناس عملٌ إلا بأمر الله تعالى كما يقال بقدر الله تعالى، وأما الإذن فإنما أردنا منه الإذن الخاص (1) وهو الذي في نحو قوله تعالى: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]. وإنما قدَّرناه اقتداء بقول الله تعالى في آية الكرسي: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، والشفاعة قولٌ، والمغزى من القول في قوله: _________ (1) سيأتي بيان الفرق بين الإذن الخاص والإذن العام إن شاء الله تعالى. [المؤلف]. انظر ص 818 - 823.
(2/357)
{لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} الشفاعة، ولدفع هذا الاشتباه [137] قال تعالى: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 27 - 28]. فاتضح بذلك أن المراد الإذن المصحوب بالارتضاء. هذا, والقول عمل على رأي بعض أهل العلم, فهو داخل في عموم قوله: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}. وإنما خصَّ القول والشفاعة بالذكر بعد دخول ذلك في عموم الفعل لأن مشركي العرب وبعض الأمم الأخرى يعترفون بموجب برهان التمانع كما مرَّ قبل آية التمانع الثانية، وإنما يَتَشَبَّثُونَ بأن الملائكة يشفعون إلى الله تعالى ويقرِّبون إليه بالشفاعة عنده، ويقولون: إن ذلك كافٍ أن يكون مناطًا للألوهية، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]. وقال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر: 3 - 4]. [138] وقال عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ
(2/358)
وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف: 27 - 28]. قال الراغب وغيره (1): القربان الذي يتقرَّب بطاعته إلى المَلِك يستوي فيه الواحد والجمع. واعلم أن برهان التمانع وإن سبق تقريره على وجهٍ لا يظهر منه إبطال تمكن الملائكة من الشفاعة بدون إذن, فالحق أنه يدل على ذلك، وتقرير الدلالة أن يقال: قد ثبت ببرهان التمانع أن الملائكة لا يعملون شيئًا بغير أمر الله تعالى، فلا يخلو أن يكون ذلك لعجزهم بأن لا تكون لهم قدرة ذاتية ولا قدرة مودَعة، وإنما يُقْدِرُهم الله تعالى على ما يأمرهم به، أو يكون للعصمة التامة بأن تكون لهم قدرة أودعها الله تعالى فيهم بحيث يمكنهم أن يعملوا ولكنهم لحفظ الله تعالى إياهم وإجلالهم لربهم ومحبتهم له وخوفهم منه لا يعملون شيئًا إلا بأمره، وأَ يًّا ما كان من الاحتمالين فيلزم مثلُ ذلك في القول. فإن قيل: قد يجوز أن يمنعهم ربهم عزَّ وجلَّ من الفعل إلا بأمره, لئلَّا يترتب على فعلهم فساد الكون كما ثبت ببرهان التمانع، ويأذن لهم في [139] القول إذنًا مطلقًا إذ لا يترتب عليه الفساد. فأقول: أفيقبل الله تعالى شفاعتهم حتمًا أم إذا شاء ورضي؟ ولا سبيل إلى الأول وإلّا لَزِمَ فساد الكون؛ إذ لا فرق بين أن يكونوا مدبِّرين باختيارهم بالفعل أو بالتحكُّم على ربهم, كما أنه لا فرق بين أن يكون في البلدة رؤساء متعددون غير كاملين في العلم والعدل والحكمة, كلُّ واحد منهم يحكم فيها برأيه، وأن يكون في البلدة ملك واحد عالم عادل حكيم هو الذي يحكم _________ (1) المفردات: 664، تفسير القرطبي 18/ 218.
(2/359)
ولكن حوله مقربون غير كاملين في العلم والعدل والحكمة يتحكَّمون عليه في تدبير البلدة وهو يوافق كلًّا منهم على هواه، بل إن هذا الفعل ينفي عن الملك نفسه صفتي العدل والحكمة. وأما الثاني ــ أعني: أن يكونوا مأذونًا لهم في القول إذنًا مطلقًا والله عزَّ وجلَّ يقبل شفاعتهم إذا شاء ويردُّها إذا شاء ــ فهَبْ أنه لا برهان على بطلان هذا، فإنه لا برهان على أنه الواقع، ومجرد احتمال أنه الواقع لا يصلح مسوِّغًا لاتخاذهم آلهة من دون الله تعالى، بل لو فُرِضَ ثبوت أنه الواقع فإنه لا يكفي مُسوِّغًا لاتخاذهم آلهة، والفرق بين تعظيم المقربين من ملوك الدنيا ليشفعوا إلى الملوك وبين اتخاذ الملائكة آلهة سيأتي إن شاء الله تعالى. على أننا نقول: قد ثبت ببرهان التمانع أن الملائكة مربوبون والله عزَّ وجلَّ ربهم, [140] ومنصب الربوبية يقتضي ألا يكون للمربوب شيء من الاختيار، وإنما خولف هذا في الجن والإنس في حياتهم الدنيا لأنهم في دور ابتلاء واختبار ولغير ذلك مما يُعْلَم بالتأمل، وفي المحشر لأنهم لما أعيدوا كما كانوا في الحياة الدنيا أعيد لهم ضرب من الاختيار، وفي الجنة لأنها دار كرامة محضة تقتضي إطلاقهم من كل قيد, ونحوُه ما جاء في أرواح الشهداء أنها في أجواف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت (1) , وإكرامها بهذا الضرب من الاختيار لا يستلزم منحها الاختيار المطلق. فأما الملائكة فهم باقون على الأصل. _________ (1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة, باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة ... , 6/ 38, ح 1887, من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(2/360)
هب أن هذا الاستدلال لا يفيد القطع، فإن الظن في مثل هذا يوجب التوقُّف، بل إن الشك يقتضي التوقف, بل الوهم كذلك، فأما بعد أن جاء الرسول بما يوافق ذلك الاستدلال فقد اتضح الحق، والحمد لله. واعلم أن الاختيار الممنوح للإنس والجن ليس معناه أن الله عزَّ وجلَّ لا يكفُّهم عن شيءٍ أصلًا. أمَّا على رأي القائلين بأن الله تعالى هو الذي يخلق أفعال العباد كلها فواضح، وأمَّا على رأي المعتزلة ومن وافقهم فلأنهم يقولون: إن الله عزَّ وجلَّ يمنع العبد عن كثير من الأعمال التي تتعلَّق بغيره من العبيد ويحول بينه وبينها، والقرآن مملوء بالدلالة على ذلك، وقد قال تعالى في السحر والسحرة: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102] , وقال تعالى لرسوله والمؤمنين فيما أصابهم يوم أحد: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 166]. وعلى هذا فكل إنسان مستغنٍ عن التذلُّل لغيره من الناس بالالتجاء إلى الله عزَّ وجلَّ، إلا أنَّ تصرُّف بعضِ الإنس في بعضٍ لمَّا غلب على الحسِّ والعادة وامتزج بالتكليف أقيم له وزنٌ ما في الشرع كما تقدَّمت الإشارة إليه، ولعلَّه يأتي له مزيد في الكلام على الدُّعاء. وأما تصرُّف الجن في الإنس فبخلاف ذلك، ولذلك لم يرخِّص الشرع في شيء من دعاء الجن والتذلل لهم البتة، ومثلهم أرواح الموتى إن قلنا إن لها تصرفًا ما، وسيأتي توضيح المقام في فصل الدعاء إن شاء الله تعالى. والله أعلم. * * * *
(2/361)
[141] ذكر ما قد يعارَضُ به ما تقدَّم في شأن الملائكة عليهم السلام والجواب عنه من ذلك قول الله عزَّ وجلَّ في سياق آية التمانع: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 29]. ومنها ما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} إلى قوله سبحانه: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 30 - 33]. ومنها ما جاء أن إبليس كان من الملائكة. ومنها قصَّة هاروت وماروت. ومنها ما روي أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: "لما أغرق الله فرعون قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، فقال جبريل: يا محمد! فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر (1) فأدُسُّه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة" (2). والجواب عن الأوَّل: أن ذلك من باب الفرض، ولا دلالة فيه على الجواز فضلًا عن الوقوع. ونظير الآية قوله تعالى لخاتم أنبيائه صلَّى الله عليه _________ (1) أي: طين البحر. (2) سيأتي تخريجه.
(2/362)
وآله وسلَّم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ [142] مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، مع آيات أخر قد مر بعضها في أوائل الرسالة. وقد نُقِلَ عن بعض السلف في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ} قال: هو إبليس. كذا قال، وسيأتي قريبًا تبرئة الملائكة عليهم السلام من اللعين. والجواب عن الثاني: أن قولهم عليهم السلام: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} كان بعد إذن الله تعالى لهم بأن يقولوا، والإذن مفهوم من إخباره لهم. ألا ترى أن الطبيب الماهر قد يقول لتلميذه المطيع الخاضع العارف بقصور نفسه وكمال الطبيب: سأركِّب من لحوم الحيات معجونًا، فيقول التلميذ: كيف تركِّب معجونًا من هذا السمِّ القاتل، والأدوية الخالية عن السمِّ موجودة؟ فهل تشكُّ أيها الناظر في أنَّ الطبيب إنما أراد بإخبار التلميذ أمره بأن يسأل عن الحكمة فيفيده إياها؟ أو تشك أنَّ التلميذ فَهِمَ هذا الأمر؟ أو أنه إنما أراد بسؤاله استكشاف الحكمة؟ [143] وقد أخرج ابن جرير بسند صحيح عن قتادة قال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فاستشار الملائكة في خلق آدم فقالوا {أَتَجْعَلُ ... } (1). مراد قتادة بقوله: "فاستشار" لازمه من الإذن بإبداء الرأي. وقال ابن جرير بعد كلام: "وأما دعوى مَنْ زعم أن الله جلَّ ثناؤه كان _________ (1) تفسير ابن جرير 1/ 158. [المؤلف]
(2/363)
أَذن لها بالسؤال عن ذلك فَسَأَلَتْهُ على وجه التعجُّب, فدعوى لا دلالة عليها في ظاهر التنزيل ولا خبر لها من الحجة يقطع العذر" (1). أقول: قد علمت الدلالة, ولو لم يكن إلا قوله تعالى: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} وقول جبريل: "ما نسأله عن شيء" لكفى. فأما وصفهم الخليقة الأرضية بالفساد وسفك الدماء فقد جاء عن جماعة من السلف أن الله تعالى كان قد أخبر الملائكة بذلك. وفي هذا نظر. والظاهر ما جاء عن بعض السلف أيضًا أن الملائكة فهموا ذلك بالاستدلال، إما بالقياس على خلقٍ كانوا في الأرض من قبل، وإما لمعرفتهم بطبيعة الأرض وأن الخليقة التي تجعل فيها يكون من شأنها ذلك، أو غير ذلك. وسياق القصة وقرائنها ظاهرة في أن الملائكة إنما أخبروا عن ظنهم, فكأنهم قالوا: إننا نظن كذا، وعلى هذا فلا يضرُّهم استنادهم إلى دليلٍ ظنِّيٍّ، بل ولا يضرُّهم أن [144] يتبيَّن خطأ ظنِّهم. ألا ترى إلى ما رواه مسلمٌ في صحيحه وغيره عن طلحة، قال: مررت مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بقومٍ على رؤوس النخل، فقال: "ما يصنع هؤلاء؟ " فقالوا: يُلَقِّحُونَه، يجعلون الذَّكَرَ في الأنثى فَيَلْقَحُ (2) , فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "ما أظن يغني ذلك شيئًا"، قال: فأُخْبِرُوا بذلك فتركوه، فأُخبر رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بذلك، فقال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن، _________ (1) تفسير ابن جرير 1/ 161. [المؤلف] (2) أي: يقبل اللقاح فينعقد طلعه.
(2/364)
ولكن إذا حدَّثْتُكُم عن الله شيئًا فخذوا به؛ فإني لَنْ أَكْذِبَ على الله". وأخرجه مسلمٌ أيضًا عن رافع بن خَدِيجٍ، وفيه: "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا"، قال: فتركوه، فنفضت أو فنقصت ... الحديث. وأخرجه مسلمٌ أيضًا من حديث أنسٍ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مَرَّ بقوم يلقحون فقال: "لو لم تفعلوا لصلح"، قال: فخرج شيصًا، فمرَّ بهم، فقال: "ما لِنَخْلِكُم؟ " قالوا: قلت كذا وكذا، قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" (1). فالنبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يكن من أهل النخل، وقد عَلِمَ أنَّ عامّة الأشجار تثمر بدون تلقيح, فقاس النخلَ عليها وأخبر بظنه، وصدق [145] صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في إخباره عن ظنه ولا يضرُّه خطأ الظَّنِّ. ومثل ذلك حديث الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة في صلاة النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بالناس الظهر أو العصر وتسليمه من ركعتين، قال فيه: "وفي القوم رجلٌ في يديه طولٌ يُقال له ذو اليدين، قال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: "لم أنس، ولم تقصر"، وفي رواية: "كلُّ ذلك لم يكن" الحديث (2). مراده صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بقوله: "لم أنس ولم تقصر" أو "كُلُّ ذلك لم يكن": الإخبار عن ظنِّه لا عن الواقع، فكأنه قال: (في ظنِّي) وإنما _________ (1) صحيح مسلمٍ، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعًا ... ، 7/ 95، ح 2361 - 2363. [المؤلف] (2) اللفظ الأوَّل أخرجه البخاريُّ في كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، 1/ 103، ح 482. واللفظ الثاني أخرجه مسلمٌ في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، 2/ 87، ح 573 (99).
(2/365)
لم يُصَرِّح بذلك لدلالة الحال عليه. والله أعلم. وبما قرَّرناه عَلِمْتَ الفَرْقَ بين قياس الملائكة وقياس إبليس؛ فإن قياس الملائكة لم يعارض نصًّا بخلاف قياس إبليس؛ فلذلك قال الحسن وابن سيرين: إن أول من قاس إبليس, كما تقدم. والله أعلم. وأما ما توهَّمه بعض الناس أن قول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} من الغيبة المحرمة, فمِنْ ضِيقِ عَطَنه، وقد صحَّت عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أخبارٌ كثيرةٌ عما سترتكبه أمَّته من بعده من الفجور، فهل يكون ذلك غيبة؟ ! وأما قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فإنهم لما أرسلوا الوصف كان على العموم, فنبَّههم الله تعالى أن تعميم الحكم لا ينبغي إلا بعد العلم بجميع [146] الأفراد وخصائصهم، فإذا كانوا يجهلون أسماءهم فهم لغيرها أجهل. وقد عَلِمْتَ أن الملائكة إنما أخبروا عن ظنهم، وليس في خطأ الظن ما ينافي العصمة. وأما قوله تعالى: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ} فهو تذكير بقوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} قصد به التنبيه على حصول البرهان الحسي على ذلك ليتقرر ذلك عندهم بعين اليقين, فلا ينافي أن يكونوا قبل ذلك عالمين علم اليقين، والله تبارك وتعالى أعلم. والجواب عن الثالث ــ وهو ما قيل: إن إبليس كان من الملائكة ــ: فالقرآن يكذِّب ذلك، قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي
(2/366)
وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50]. فقوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} نصٌّ على أنه لم يكن من الملائكة، وَزَعْمُ أن من الملائكة طائفة يقال لهم: جن، وهم غير الجن المعروفين, دعوى لا دليل عليها. والاستدلال بقوله تعالى: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ: 41] ساقطٌ، بل المراد الجنُّ المعروفون كما تفصح به (بل)؛ لأنها تقتضي نفي المسؤول عنه وهو ما في قوله تعالى: {أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] , فالمعنى حينئذٍ: كلاَّ، لم يكونوا يعبدوننا، بل كانوا يعبدون الجن. وسيأتي توجيه نَفْيِهم عبادة المشركين لهم. وكذلك الاستدلال بقوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] ليس بشيءٍ، بل المراد الجنُّ المعروفون كما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. وقوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} يؤيد أن المراد الجن المعروفون؛ فإن الفاء للسببية، [147] يريد ــ والله أعلم ــ فبسبب كونه من الجن فَسَقَ، أي: لأنه لو كان من الملائكة لما تأتَّى منه الفسق. ونحوها قوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34، ص: 74]. قال أبو السعود: "أي في علم الله تعالى إذ (ا) (1) كان أصله من كفرة _________ (1) وضع المؤلِّف الألف بين قوسين إشارة إلى أنها خطأٌ في الأصل.
(2/367)
الجن, فلذلك ارتكب ما ارتكبه, على ما أفصح عنه قوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] " (1). فأما دخوله في الأمر بالسجود فلأن أمر الله تعالى لما وقع للملائكة وهو معهم دخل في عموم الخطاب، وقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ}؛ فالخطاب موجَّه إليهم, والأمر لهم ولمن كان معهم, كما في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، فالخطاب موجَّه إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، والأمر له ولأمته. وأما استثناء اللَّعين من الملائكة فكالحمار يُسْتَثْنَى من القوم، تقول: جاء القوم إلا حمارًا، ومنه قول الله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157]. ويجوز أن يكون الاستثناء متصلًا على أن لفظ الملائكة تناول إبليس تبعًا, كما تقول: جاءت بنو تميم إلا المواليَ، تريد بقولك (بنو تميم) ما هو أعمُّ مِنْ التميميِّ صَلِيبة (2) والتميميِّ بالولاء. وقال تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]. وقد قال تعالى مخاطبًا الجنَّ والإنس: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا _________ (1) تفسير أبي السعود 1/ 63. (2) أي: خالص النسب عريقه، وفي الأصل بتقديم الباء على الياء، سبق قلم.
(2/368)
تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 14 - 16]. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 26 - 27]. وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: "خُلِقَتِ الملائكةُ من نورٍ، وخُلِقَ الجانُّ من مارجٍ من نارٍ، وخُلِقَ آدم مِمَّا وُصِفَ لكم" (1). وما اشتهر بين الجهال أن إبليس أراد أن يقول (من نور) فأجرى الله تعالى على لسانه (من نار) لا أصل له، والأدلة [148] على أن اللَّعين لم يكن من الملائكة حقيقة قطُّ كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية إن شاء الله تعالى. وأما الجواب عن الرابع ــ وهو قصَّة هاروت وماروت ــ فنقول: قال الله تبارك وتعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102]. _________ (1) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، بابٌ في أحاديث متفرِّقةٍ، 8/ 226، ح 2996. [المؤلف]
(2/369)
اختلف العلماء في تفسير هذه الآية, فالقول المنصور أن (ما) في {وَمَا أُنْزِلَ} موصولة عطف على السحر من عطف الخاصِّ على العامِّ أو على (ما) الأولى في قوله: {مَا تَتْلُو}، و {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} مَلَكَان أذن الله تبارك وتعالى لهما في تعليم السحر بعد أن يقولا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}. قالوا: وتعليم السِّحر وتعلُّمُه ليس كفرًا ولا حرامًا، وإنما المحظور العملُ به, كما لا يحرم أن يخبر الإنسان غيره بكيفية صناعة الخمر وإن حَرُمَ عصرُها وبيعُها وغير ذلك، وعلى فرض حرمة تعلُّمه وتعليمه في شريعتنا لا يلزم من ذلك حرمته في جميع الشرائع، وعلى فرض أنه حرام في جميع الشرائع فلا يلزم ذلك في حق الملائكة؛ فإن القتل حرام في كل الشرائع، وهذا ملك [149] الموت يقبض نفوس الخلق أجمعين والأنبياءِ والمرسلين، وإن فرضنا أن تعلُّمَه كفر فلا يلزم من تعليمه مع كراهيته وبغضه والزجر عنه الكفر, فلو أن جماعة من المشركين جعلوا مالًا عظيما لمن يسجد لصنم فجاء رجل يريد السجود له وكان هناك مسلم فسأله هذا عن الصنم فزجره هذا ووعظه ونهاه فأصرَّ فأشار له إلى الصنم= لم يظهر من هذا كفر المشير, بل إن السائل لما أصرَّ على عمل الكفرِ صار كافرًا وإن لم يسجد، فعلى هذا فلا فرق بينه وبين المشرك الأصلي إذا سأل مسلمًا عن الطريق إلى بيت الصنم فدلّه. هذا أقصى ما يُسْتَدَلُّ به لهذا القول، وفي بعضه نظر. والله أعلم. وقيل: إن (ما) نافيةٌ، والباقي كما مرّ. والمعنى: أنه لم يكن سليمان ساحرًا, ولم ينزل الله تعالى السحرَ على الملكين, فإن السحر أَخسُّ من ذلك، أي وإنما عَلِمه الملكان بطريق أرضيَّة وإن كان ذلك بإذن الله تعالى.
(2/370)
وذهب بعضهم إلى أن (ما) نافية, والمراد بالملكين رجلان صالحان هما هاروت وماروت، واستدلَّ بالقراءة الشاذة (الملِكين) بكسر اللام، والباقي نحو ما مرَّ. وقال جماعة: (ما) نافية, والمراد بالملكين جبريل وميكائيل أو داود وسليمان. قالوا: وهاروت وماروت بدلٌ إمَّا من {الشَّيَاطِينَ} فهما اسما شيطانين أو قبيلتين من الشياطين، وإما من {النَّاسَ} فهما اسما رجلين، وعلى هذا فلا إشكال [150] من جهة أن تعلُّم السحر وتعليمه كفر أو حرام. واعتُرِضَ على هذا القول بأنه كيف تقول الشياطين أو الكفار {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}؟ وأجابوا بأنه لا مانع أن يأخذ الله تعالى على الشياطين هذا القول حتى لا يقدروا على التعليم بدون قوله، وكذا لا يمتنع أن يكون الإنسانان تأوَّلا جواز التعلُّم والتعليم واحتاطا بمنع التعليم حتى يقولا ذلك. ويُبْعِدُ هذا القولَ ما فيه من التعسُّف في تقدير الكلام. وقد يؤخذ من بعض الآثار أن (ما) موصولة والمراد بالمُنَزَّل الاسمُ الأعظم، وعلى هذا فلا إشكال في جواز تعليمه وتعلُّمه وإن كان المتعلِّم قد يعمل بواسطته ما يكون كفرًا، كما يجوز أن تعطيَ مسلمًا مصحفًا وإن احتمل أن يكفر بإلقائه في نجاسة مثلًا، ويَرِدُ على هذا القول أن فيه كون الشياطين يَعْلَمون الاسم الأعظم ويُعَلِّمُونه، وهو كما ترى. وقد أخرج ابن جرير وغيره عن عائشة أمِّ المؤمنين قالت: قدمت عليَّ امرأة من أهل دومة الجندل جاءت تبتغي رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بعد موته حداثة ذلك تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به،
(2/371)
قالت عائشة لعروة: يا ابن أختي فرأيتها تبكي حين لم تجد [151] رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فيشفيها، كانت تبكي حتى إني لأرحمها وتقول: إني أخاف أن أكون قد هلكتُ، كان لي زوج فغاب فدخلتُ على عجوز فشكوت ذلك إليها فقالت: إن فَعَلْتِ ما آمرُكِ فأجعله يأتيك, فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخر فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل فإذا برجلين مُعَلَّقين بأرجلهما فقالا: ما جاء بك؟ فقلت: أتعلّم السحر، فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري، وارجعي, فأبيت وقلت: لا، فقالا: اذهبي إلى ذلك التنُّور فبُولي فيه فذهبت ففزعت، فلم أفعل فرجعت إليهما، فقالا: أفعلت؟ قلت: نعم، فقالا: فهل رأيتِ شيئًا؟ قلت: لم أر شيئًا، فقالا لي: لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري، فأبيت فقالا: اذهبي إلى ذلك التنُّور فبُولي فيه، فذهبت فاقشعررت وخفت، ثم رجعت إليهما، فقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ فقلت: لم أر شيئًا، فقالا: كذبتِ، لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فإنك على رأس أمرك، فأبيت، فقالا: اذهبي إلى ذلك التنُّور فبُولي فيه، فذهبت إليه فبُلْت، فرأيت فارسًا مُتَقَنِّعًا بحديد خرج مني حتى ذهب في السماء وغاب عنِّي حتى ما أراه, فجئتهما فقالا: صدقْتِ، ذلكِ إيمانكِ خرج منكِ، اذهبي. فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئًا وما قالا لي شيئًا، فقالت: بلى لن تريدي شيئًا إلا كان، خذي [152] هذا القمح فابذري، فبذرتُ، فقلت: اطْلُعِي فطَلَعَتْ، وقلت: أَحْقِلي فأَحْقَلَتْ، ثم قلت: أَفْرِكي فأَفْرَكَتْ، ثم قلت: أَيْبِسِي فأَيْبَسَتْ، ثم قلت: أطحني فأطحنت، ثم قلت: أخبزي فأخبزت، فلما رأيت أني لا أريد شيئًا إلا كان أُسْقِطَ في يدي وندمتُ والله يا أمَّ المؤمنين، والله ما فعلت شيئًا قطُّ، ولا أفعله أبدًا، فسَأَلَتْ أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حداثة وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وهم
(2/372)
يومئذ متوافرون، فما دروا ما يقولون لها، وكلُّهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلم إلا أنهم قالوا: لو كان أبواك حَيَّين أو أحدهما لكانا يكفيانك. انتهى حديث ابن جريرٍ عند قولها: "ولا أفعله أبدًا"، والزيادة من المستدرك وسنن البيهقي، قال الحاكم: صحيح وأقرَّه الذهبيّ (1). أقول: أما السند فلا كلام فيه، وإنما الشأن في هذه المرأة الدُّومِيَّة. ومَن تأمل القصة ومناسبتها للآية وسكوت الصحابة عن إنكارها علم أنه ليس من الإنصاف تكذيبها. وفيها بقاء الملكين إلى ذلك الوقت، وقد يشهد له قول الله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ} بصيغة المضارع المشعرة بالاستمرار, ولم يقل: وما علَّما، أو: وما كانا يعلِّمان، أو نحو ذلك. وقد أنكر أبو محمَّد بن حزمٍ رحمه الله [135] بقاءهما، واحتجَّ بأن بابل موجودةٌ على وجه الأرض والناس يطوفون فيها ولا يرونهما، ومَنْ كان يؤمن بوجود الجنِّ والملائكة وإمكان أن يراهم بعض الناس بإذن الله تعالى لم يَخْفَ عليه الجوابُ (2). وقد يُحتجُّ على عدم بقائهما بقلَّة السِّحر على وجه الأرض، وبأنه لو كان الأمر كما زعمت الدُّوميَّة ــ أنَّ مَن تعلَّم لم يُرِدْ شيئًا إلا كان ــ لفسدت السماوات والأرض. والجواب: أنه لا مانع أن يقال: إن الله عزَّ وجلَّ يمنع الناس من الوصول _________ (1) تفسير ابن جريرٍ 1/ 347. المستدرك، كتاب البرِّ والصلة، حكاية امرأةٍ فزعت من عمل السِّحر، 4/ 155. سنن البيهقيّ، كتاب القسامة، باب قبول توبة الساحر ... ، 8/ 137. [المؤلف] (2) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/ 64.
(2/373)
إليهما إلا مَنْ ندر، ويمنع مَنْ تَعَلَّمَ ذلك مِنْ عَمَل ما يَخْتَلُّ به شيء من قوانين الخلق والأمر, كما يمنع الشياطين من ذلك، وقد بيَّنَ هذا في الآيات بقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}، هذا والسياق يدلُّ أن قولها: "لا أريد شيئًا إلا كان" محمول على المُحَقَّرَات فقط. على أن هذا التعميم إنما وقع من قول العجوز الفاجرة، ومِنْ ظن هذه الدُّوميّة لما رأت قصَّة القمح. وفي القصة أنها رأت الرجلين أو قُل (الملَكَين) معلَّقَيْنِ بأرجلهما، فإن فُهِمَ من التعليق العذابُ فلا يجوز أن يكون هذا العذاب على التعليم؛ إذ كيف يُصِرَّان على المعصية مع أنهما يعذَّبان عليها ومع ذلك يقولان: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} ويؤكِّدان ذلك غاية التأكيد مع أن في الآثار التي سيأتي الكلام عليها [154] أنهما تابا وأنابا. فإن قيل: لعلَّ العذاب على ذنبٍ آخر كما تدلُّ عليه الآثار الأخرى, فكذلك يبعد أن يصرّا على معصية مع تعذيبهما على أخرى ويقولان مقالتهما. والأقرب إن صدقت المرأة أنهما مُثِّلا لها كذلك ليكون أَبْلَغَ للتنفير, ولا عذاب ولا تعليقَ في نفس الأمر. وموضعُ الفائدة في هذه القصَّة أنهما لا يُعَلِّمان شيئًا وإنما يقولان: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}، فإذا أصرَّ الطالبُ قالا له: اذهب فبُلْ في ذلك التنور فيذهب فَيَعْرِضُ له خوف ورعب، فإن صَمَّم وبال فما هو إلا أن يبولَ فيخرجَ منه إيمانه ويَعْلَمَ السِّحْر. فإن صحَّ هذا فلا إشكال في الآية أصلًا، بل المعنى: ولم ينزل السِّحر
(2/374)
على الملكين ببابل، وإنما هما فتنة يفتنان مَنْ طلب تعلُّم السحر ليتبيّن تصميمه على الكفر أو عدمه, فيعظانه ويحذِّرانه، فإن أصرَّ امتحناه بأن يبول فيعرض له ذلك الخوف والرعب، فإن صمَّم وبال تبيَّن أنه قد صمَّم على الكفر فَيُنْزَعُ منه التوفيقُ، ويُخَلَّى بين الشياطين وبينه، فيحصل له السحر من صحبة الشياطين، فليس في فعل الملكين رضًا بكفر ولا تعليمُ سحر؛ وذلك أن البول في التنُّور ليس كفرًا في نفسه، بل الطالب إذا أصرَّ على التعلُّم بعد أَن يقولا له: [155] {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} فقد صار كافرًا، وإنما البول في التنُّور دليل على تصميمه على الكفر وإصراره عليه وشدة حرصه على التعلُّم الذي هو كفر بجرأته على البول مع ما يعرض له من الرعب، ولكن لما كان البول في التنُّور يقع بإشارتهما وعِلْمُ السحر يَحْصُلُ عقِبه، وكان ذلك في صورة التعليم أطلق في الآية {يُعَلِّمَانِ} {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا}، وذلك على سبيل المجاز، والله أعلم، والقرينة الصارفة عن الحقيقة أمور: الأوَّل: أنه قد بيَّن في الآية أن تعليم السحر كفر وأن تعلُّمه كفر، وأنهما ملكان، وقد قامت الدلائل على عصمة الملائكة. أما بيان أن تعليم السحر كفر، فقوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}. وأما بيان أن تعلُّمَه كفر ففي قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}، وقوله: {لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، واشتراؤه تعلُّمه, ونفي النصيب في الآخرة البتة إنما يكون على الكفر، وقوله: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ}، أي: باعوا، وبيع النفس عبارة عن إيقاعها في الهلاك التامّ، وذلك إنما يكون بالكفر.
(2/375)
وأما دلائل عصمة الملائكة فقد تقدَّمَتْ. الأمر الثاني: أنه لو صرف النظر عن العصمة وجُوِّزَ عليهما الكفر فكيف يقولان: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}، فينهيان عن الكفر مع تلبسهما به؟ [156] الأمر الثالث: قولهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} و {إِنَّمَا} للحصر، أي: ما نحن إلا فتنة، فيُفْهَم من ذلك نَفْيُ كونهما معلِّمين على الحقيقة، وعلى هذا المعنى فـ (ما) في قوله: {وَمَا أُنْزِلَ} نافية. والله أعلم. وإذ قد اتضح بحمد الله تعالى معنى الآية فلننظر في الآثار الواردة عن قصَّة هاروت وماروت مع الزُّهَرَةِ, فأقول: ساق الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى في تفسيره (1) الآثار المذكورة ولم يعرض لها مع جزمه بعصمة الملائكة عليهم السلام، وقد ردَّها جماعة كالقاضي عياض والفخر الرازي، نقله الآلوسي في تفسيره قال: "ونصَّ الشهاب العراقي على أن مَنْ اعتقد في هاروت وماروت أنهما مَلَكَان يُعَذَّبان على خطيئتهما مع الزُّهَرَةِ فهو كافر بالله تعالى العظيم؛ فإنَّ الملائكة معصومون، {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19 - 20]، والزُّهَرَة كانت يوم خلق الله تعالى السموات والأرض، والقول بأنها تمثَّلت لهما فكان ما كان وَرُدَّتْ إلى مكانها غير معقول ولا مقبول". _________ (1) 1/ 343 - 348. [المؤلف]
(2/376)
قال الآلوسي: "واعترض الإمام السيوطي على مَن أنكر القصَّة بأن الإمام أحمد وابن حبان والبيهقي وغيرهم رووها مرفوعة وموقوفة على عليٍّ وابن عباس [157] وابن عمر وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم بأسانيد عديدة صحيحة، يكاد الواقف عليها يقطع بصحتها؛ لكثرتها وقوَّة مُخْرِجِيها. وذهب بعض المحققين [إلى] أن ما رُوِيَ مرويٌّ حكايةً لما قاله اليهود، وهو باطل في نفسه، وبطلانه في نفسه لا ينافي صحة الرواية، ولا يَرِدُ ما قاله الإمام السيوطي عليه، إنما يَرِدُ على المنكرين بالكلِّيَّة، ولعلَّ ذلك من باب الرموز والإشارات ... " (1). وفي القول المسدَّد للحافظ ابن حجر: "قلت: وله طرق كثيرة جمعتها في جزء مفرد يكاد الواقف عليه يقطع بوقوع هذه القصة لكثرة الطرق الواردة فيها وقوة مخارج أكثرها. والله أعلم" (2). أقول: أما رواية القصة عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ففي مسند الإمام أحمد: عن يحيى بن أبي بكير، عن زهير بن محمد، عن موسى بن جبير، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا (3)، وموسى هو الأنصاري مجهول الحال لم يوثِّقه أحد إلا أن ابن حبان ذكره في ثقاته، وقال: "يخطئ ويخالف" (4). قلت: وقد عُرِفَ من مذهب ابن حِبَّان أنه يذكر المجاهيل في ثقاته فيذكر مَن روى عن ثقةٍ وروى عنه ثقةٌ ولم يكن حديثه منكرًا، نبَّه على ذلك _________ (1) روح المعاني 1/ 279. [المؤلف] (2) القول المسدد، ص 41. [المؤلف] (3) المسند 2/ 134. [المؤلف] (4) انظر: الثقات 7/ 451.
(2/377)
في كتاب الثقات نفسه (1)، وكذلك يخرج ابن حِبَّان لمن كان كذلك في صحيحه، نبَّه عليه الحافظ ابن حجر وغيره (2)، فعُلِمَ من ذلك أن ذِكْرَ ابن حبان لرجلٍ في الثقات وإخراجه له في صحيحه لا يرفع عنه اسم الجهالة. هذا مع أن قوله في موسى: "يخطئ ويخالف" جرحٌ ينزل به موسى عن درجة المستور. وهذا الحديث من جملة خطئه ومخالفته؛ فإنَّ الناس رووا القصة عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن كعب الأحبار، كذا أخرجه ابن جرير من طريق موسى بن عقبة عن سالم ومن طريق محمد بن عقبة ــ أراه أخا موسى وهو ثقة ــ عن سالم (3). والعجب من ابن حبان كيف أخرج الحديث في صحيحه (4) من طريق موسى بن جبير المذكور؟ ! وذكر القاري في شرح الشفاء عند الكلام على هذا الحديث كلام الأئمة في زهير، وفيه: "وقال الترمذي في العلل: سألت البخاري عن حديث زهير هذا فقال: أنا أتقي هذا الشيخ كأن حديثه موضوع، وليس هذا عندي بزهير بن محمد، قال: وكان أحمد بن حنبل يضعِّف هذا الشيخ ويقول: هذا الشيخ ينبغي أن يكونوا قلبوا اسمه" (5). كذا قال، ولينظر (6). _________ (1) انظر: الثقات 1/ 11 - 12. (2) انظر: النكت على كتاب ابن الصلاح 1/ 290 - 291, فتح المغيث 1/ 42 - 43. وراجع: صحيح ابن حبان (الإحسان) 1/ 151 - 152. (3) انظر: تفسير الطبري 2/ 343 - 344. (4) صحيح ابن حبان (الإحسان) , كتاب التاريخ, باب بدء الخلق, ذكر قول الملائكة عند هبوط آدم إلى الأرض ... , 14/ 63 - 64, ح 6186. (5) 4/ 231. [المؤلف] (6) انظر: العلل الكبير ص 381, ح 713.
(2/378)
وقد أخرج ابن جرير (1) طرفًا من القصة من طريق فرج بن فضالة عن معاوية بن صالح، عن نافع، عن ابن عمر فرفعه إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، [158] وذكره الذهبي في الميزان (2) في ترجمة سنيد بن داود. والفرج بن فضالة ضعيف، وفي القول المسدَّد للحافظ ابن حجر عند ذكر هذه القصَّة: "أورده ابن الجوزي ــ يعني في الموضوعات ــ من طريق الفرج بن فضالة، عن معاوية بن صالح، عن نافع وقال: لا يصحُّ، والفرج بن فضالة ضعَّفه يحيى، وقال ابن حبان: يقلب الأسانيد، ويلزق المتون الواهية بالأسانيد الصحيحة" (3). وفي تذكرة الموضوعات عند ذكر القصَّة: "فيه موسى بن جُبَيرٍ، مختلفٌ فيه، ولكن قد توبع، ولأبي نعيم عن علي، قال: لعن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الزُّهَرَة لأنها فتنت المَلَكَينِ، وقيل: الصحيح وَقْفُهُ على كعب، وكذا قال البيهقي" (4). أقول: إن كان المراد بقوله: (قد توبع) رواية فرج بن فضالة عن معاوية بن صالح فليست مما يُفْرَح به، وأما رواية أبي نعيم فلم أقف عليها، وأبو نعيم معروف بتتبُّع الواهيات. والحق ما ذكره البيهقي أن ابن عمر إنما سمع القصة من كعب الأحبار، والله أعلم. _________ (1) انظر: تفسير الطبري 2/ 347 - 348. (2) 2/ 236. (3) القول المسدد، ص 41. [المؤلف]. وانظر: الموضوعات 1/ 295 - 297، ح 389. (4) تذكرة الموضوعات، ص 110. [المؤلف]
(2/379)
وأما الرواية في ذلك عن أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام، فقد ثبت عن عمير بن سعيدٍ النخعيّ أنه قال: سمعت عليًّا يقول: فذكر القصة، لم يذكر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، أخرجه الحاكم في المستدرك (1) وغيره. وعمير ثقة عندهم، لم يطعن فيه أحد إلا أن أبا محمد بن حزم ذكر في الملل والنحل هذه الرواية وقال: "رويناه من طريق عمير بن سعيد وهو مجهول، مرَّة يُقال له: النخعيّ، ومرَّةً يُقال له: الحنفي، ما نعلم له رواية إلا هذه الكذبة، وليس أيضًا عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ولكنه أوقفها على عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، وكذبةً أخرى في أنَّ حدَّ الخمر ليس سنَّةَ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وإنما هو شيءٌ فعلوه، وحاشا لهم رضي الله عنهم من هذا" (2). [159] وقد شنَّع الحافظ ابن حجر في ترجمة عمير من تهذيب التهذيب على ابن حزم فيما قال (3). وأقول: لعلَّ أمير المؤمنين حكى هذه القصَّة عقب قوله مثلًا: تزعم اليهود أو زعم كعب أو نحو ذلك, ولم يسمع عمير تلك الكلمة وسمع القصة. والله أعلم. وأما الرواية عن ابن عباس فذكرها الحاكم في المستدرك وغيره من قوله، لم يرفعه، ولفظه: "عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت الزُّهَرَة _________ (1) كتاب التفسير، من سورة البقرة، قصَّة الزهرة وكونها كوكبًا، 2/ 265. [المؤلف] (2) الملل والنحل: 4/ 32. [المؤلف] (3) انظر: تهذيب التهذيب 8/ 146 - 147.
(2/380)
امرأة في قومها، يقال لها: بيدحة" (1)، وسبيله سبيل ما ذكرنا في الرواية عن أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام. وأما ابن مسعود فأخرج ابن جرير من طريق علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي، عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا: لما كثر ... , فذكر القصة من قولهما (2)، وعلي بن زيد واهٍ، فإن صحّ فسبيل ابن مسعود سبيل ما تقدَّم. والله أعلم. والحاصل: أن رواية سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قد أنارت الطريق وبيَّنَتْ أن القصة من أساطير كعب، والله المستعان. فإن قيل: لكن من حكى القصة من الصحابة رضوان الله عليهم لم يبيِّنوا فسادها فيؤخذ من ذلك على الأقلِّ أنهم كانوا يرون جواز صحَّتها. قلت: يجوز أن يكونوا بَيَّنُوا ولم يُنْقَل كما تقدَّم، ويجوز أن يكونوا إنما حكوها على وجه التعجُّب واستغنوا عن بيان بطلانها بوضوحه شرعًا وعقلًا، [160] ويجوز أن يكونوا تأوَّلوا في الزُّهَرَة تأوُّلًا معقولًا، كما أخرج ابن جرير بسنده إلى الربيع ــ هو ابن أنسٍ ــ وفيه: "وفي ذلك الزمان امرأة حُسْنُها في سائر الناس كحسن الزُّهَرة في سائر الكواكب"، فذكر القصَّة (3) وتأوَّلوا في الملكين أنه بعد أن سُلِخَا من المَلَكِيَّةِ زال حكمُ العصمة, وأن ذلك لا ينافي ما ثبت من عصمة الملائكة وإن كان فيه ما فيه، وقد رُوِيَتْ _________ (1) المستدرك، كتاب التفسير، من سورة البقرة، كانت الزهرة امرأةً، 2/ 266. وليس فيه ذكر لهاروت وماروت كما ترى. [المؤلف] (2) تفسير الطبري 2/ 342. (3) تفسير الطبري 2/ 345 - 346.
(2/381)
القصة عمَّن بعد الصحابة كمجاهد وقتادة والسدي وغيرهم، والأمر في ذلك سهل. والله تبارك وتعالى أعلم. والجواب عن الخامس ــ وهو ما رُوِي من دَسِّ جبريل الحمأة في في فرعون ــ: أن العلماء أنكروا ذلك أشدَّ الإنكار، ففي الكشاف أنَّ ذلك من زيادات الباهتين لله تعالى وملائكته عليهم السلام، وفيه جهالتان: إحداهما: أن الإيمان يصحُّ بالقلب كإيمان الأخرس, فحالُ البحر لا يمنعه. والأخرى: أنَّ مَن كره إيمان الكافر وأحبَّ بقاءه على الكفر فهو كافر؛ لأن الرضا بالكفر كفر. ووافقه ابن المنيِّر مع تحرِّيه مخالفته في كل ما له مساس بالقَدَر. قال ابن المنيِّر: "لقد أنكر منكرًا وغضب لله تعالى وملائكته عليهم السلام كما يجب لهم". اهـ (1). أقول: أما الخبر في ذلك فرواه الإمام أحمد والترمذي وحَسَّنه من [161] طريق عليِّ بن زيد بن جُدْعَان، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس مرفوعًا (2). ورواه الترمذي والإمام أحمد أيضًا من طريق شعبة، أخبرني عدي بن ثابت وعطاء بن السائب، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباس, ذكر أحدهما عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه ذكر أن جبريل صلَّى الله عليه وسلم جعل في في فرعون الطين خشية أن يقول: "لا إله إلا الله" فيرحمه الله أو خشية أن يرحمه الله. قال أبو عيسى: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من _________ (1) 1/ 431 - 432. [المؤلف] (2) جامع الترمذيّ، كتاب التفسير، بابٌ ومن سورة يونس، 2/ 188، ح 3107. مسند الإمام أحمد 1/ 245. [المؤلف]
(2/382)
هذا الوجه" (1). وأخرجه الحاكم من طريق شعبة، عن عدي بن ثابت قال: سمعت سعيد بن جبير يحدِّث عن ابن عباس عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فذكره، ثم قال: "حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه، إلا (2) أكثر أصحاب شعبة أوقفوه على ابن عبَّاسٍ". قال الذهبي في تلخيصه بعد ذكر هذا الحديث: " (خ م)، وعامَّة أصحاب شعبة أوقفوه" (3). أقول: الصواب وقفه؛ فإن عليَّ بن زيدٍ ضعَّفه الجمهور، وقال فيه شعبة وغيره: كان رفّاعًا أي يَرْفَعُ ما يَقِفُه غيره. والذي رفعه من الرجلين في رواية الترمذي هو عدي بن ثابت كما بيَّنَتْه روايةُ الحاكم، وقد قال شعبة نفسه [162] في عدي بن ثابت: كان من الرفَّاعين أي الذين يرفعون الموقوفات غلطًا. وفي عديٍّ هذا كلام كثير غير هذا. على أن عطاء بن السائب فيه كلام، وقد قال فيه الإمام أحمد: "مَنْ سمع منه قديمًا فسماعه صحيح، ومَنْ سمع منه حديثًا لم يكن بشيء، سمع منه قديمًا سفيان وشعبة وسمع منه حديثًا جرير وخالد ... وكان يرفع عن سعيد بن جبير أشياء لم يكن يرفعها". _________ (1) المسند 1/ 240. [المؤلف]. وجامع الترمذيّ، الموضع السابق، 5/ 287، ح 3108. (2) كذا، ولعل الصواب: لأن. [المؤلف] (3) المستدرك، كتاب التفسير، تفسير سورة يونس، شرح آية: "لهم البشرى ... "، 2/ 340. [المؤلف]
(2/383)
فهذا أقوى ما رُوي في هذه القصة، وهو موقوف على ابن عباس كما رأيت. فإن قيل: إنه وإن كان الراجح روايةً أنه موقوف فله حكم المرفوع؛ لأنه مما لا مسرح للرأي فيه، ولم يكن ابن عباس مُولَعًا بالإسرائيليات، كيف وهو القائل: "كيف تسألون أهل الكتاب عن شيءٍ، وكتابكم الذي أُنزل على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أحدث، تقرؤونه محضًا لم يُشَبْ، وقد حدَّثكم أن أهل الكتاب بدَّلوا كتاب الله وغيَّروه وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: {هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 79]، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ لا والله ما رأينا منهم رجلًا يسألكم عن الذي أُنزِل عليكم" (1). قلت: لعلَّه رضي الله عنه إنما أراد نهي المسلمين عن سؤال مَن لم يَزَلْ على كفره من أهل الكتاب, بدليل قوله: فوالله لا يسألكم أحد منهم عن الذي أنزل [163] عليكم، فإنهم هم الذين لا يسألون المسلمين، فأما مَن أسلم منهم فإنه يسألنا كما لا يخفى. أو لعلَّه إنما نهى من لم يرسخ الإيمان والعلم في قلبه خوفًا عليه من الضلال. وأظهر من ذلك أن يكون إنما نهى عن سؤالهم للاحتجاج في الدين بما يحكونه، فأما ما كان من قَبِيل الوقائع التاريخية التي تتعلق بما في القرآن فلم _________ (1) البخاريّ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنَّة، باب قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شيءٍ"، 9/ 111، ح 7363. [المؤلف]
(2/384)
يكن هو ولا غيره يرى في ذلك حرجًا، كيف وقد صحَّ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه قال: "بلِّغوا عني ولو آية، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومَن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"، رواه البخاريُّ وغيره (1). ومَن تَتَبَّع ما يُرْوَى عن ابن عبَّاسٍ وغيره من الصحابة رضي الله عنهم من التفسير عَلِمَ صحَّة ما قلناه. وفي تفسير ابن جريرٍ عدَّة آثارٍ في سؤال ابن عبَّاسٍ كعبَ الأحبار عن أشياء من القرآن، وسؤاله غير كعبٍ من أحبار اليهود. والله أعلم. فإن قيل: إن هذه القصة تتعلَّق بالدين تَعَلُّقًا عظيمًا؛ فإن فيها نسبة جبريل عليه السلام إلى ما علمت، فكيف يحكيها ابن عبَّاسٍ ولا يشير إلى بطلانها إن كانت باطلة؟ قلت: ارجع إلى الاحتمالات التي مرَّت في جواب الأمر الرابع (2)، وقد يكون الحبر رأى أن القصة إن صحَّت فإنما فعل جبريل عليه السلام ما فعل بأمر الله تعالى تنفيذًا لما علمه عزَّ وجلَّ وقضاه وسبق به دعاء موسى وهارون عليهما السلام وإجابة الله تعالى دعوتهما. ودونك الآيات: [164] {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ _________ (1) صحيح البخاريِّ، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذُكِر عن بني إسرائيل، 4/ 170، ح 3461. [المؤلف]. وانظر: جامع الترمذيّ، كتاب العلم، باب ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل، 5/ 40، ح 2669، من حديث ابن عمرٍو رضي الله عنهما. (2) وهو ما يتعلَّق بقصَّة هاروت وماروت.
(2/385)
عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 88 - 91]. فإن قيل: وكيف يأمر الله تعالى بالمنع من الإيمان؟ قلت: كما دعا به موسى وهارون عليهما السلام، وأجاب سبحانه دعوتهما. وإذا انتهى البحث إلى القَدَرِ وَجَبَ الإمساك. فأما قول جار الله: "إن الإيمان يصحُّ بالقلب فحالُ البحر لا يمنعه"، فالجواب: أنه ليس المرادُ من إيجاره (1) الحمأة مَنْعَهُ عن النطق كما تُوهِمُه بعضُ الروايات، بل تعجيل حال الغرغرة قبل أن يعقد قلبه على الإيمان. هذا كلُّه إيضاح لعذر ابن عباس رضي الله عنهما في حكايته الواقعة ساكتًا عن اعتراضها. والله أعلم. * * * * _________ (1) مصدر أَوْجَرَهُ: أي جعله في فيه. وأكثر ما يستعمل في الدواء.
(2/386)
[165] تفسير الإله بالمعبود الآيات القرآنيَّة الدالَّة على ذلك كثيرةٌ، قد تقدَّم بعضها في أوائل الرسالة في بيان اشتراط أن يكون التشهد على سبيل الالتزام، فراجعه. فأما أقوال أهل العلم، فقد سبق عن بعض علماء التوحيد أن حقيقة معنى الإله: المعبود بحق، وفسره بعضهم بالمستحق للعبادة، وبينَّا بحمد الله تعالى أن تعبير المتكلمين عن واجب الوجود بالإله وقول السنوسى: "إن معنى الإله: المستغني عن كلِّ ما سواه" إلخ، وما يؤخذ من كلام جماعة أن الإله هو الخالق أو المدبِّر استقلالًا، لا ينافي ذلك. وهذا المعنى هو المعروف عند المفسرين والمحدِّثين والفقهاء وأهل اللغة وغيرهم. قال الإمام أبو جعفر بن جرير في تفسيره: "وأما تأويل قول الله: (الله) فإنه على معنى ما روي لنا عن عبد الله بن عباس: هو الذي يألهه كلُّ شيء ويعبده كلُّ خَلْق، وذلك أن أبا كريب حدثنا ... عن عبد الله بن عباس قال: (الله) ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين ... فإن قال: وما دلَّ على أن الألوهية هي العبادة وأن الإله هو المعبود وأن له أصلًا في فعل ويفعل؟ قيل: لا تَمَانُعَ بين العرب في الحكم لقول قائلٍ يصف رجلًا بعبادة ويطلب مما (1) عند الله جلَّ ذكره: يأله [تأَلَّه] (2) فلان، بالصحة [ولا] (3) خلاف. ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج: _________ (1) في طبعة محمود شاكر 1/ 123: "وبِطَلَبِ ما"، وهو أجود. (2) تصحيح من المؤلِّف للنسخة التي نقل منها. (3) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة كتاب العبادة، واستدركتها من تفسير ابن جرير بتحقيق محمود شاكر.
(2/387)
لله دَرُّ الغانيات المُدَّهِ ... سبَّحْن واسترجعن من تألُّهي (1) يعني: مِن تعبد وطلبِ الله بعمل (2)، ولا شك أن التألُّه: التفعُّلُ من أَلَه يألَه، [166] وأن معنى أله إذا نُطق به: عَبدَ اللهَ، وقد جاء منه مصدر يدلُّ على أن العرب قد نطقت [منه] (3) بفعل يفعل بغير زيادة، وذلك ما حدثنا ... عن ابن عباس أنه قرأ: (ويذرك وإلاهتك)، قال: عبادتك، ويقول: إنه كان يُعبد ولا يَعبُد ... عن مجاهد قوله: (ويذرك وإلاهتك) قال: وعبادتك ... , فقد بيَّن قولُ ابن عباس ومجاهد هذا أن أَلَه عَبدَ وأن الإلاهة مصدره" (4). وقال في تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]: "قد بينا فيما مضى معنى الألوهية وأنها اعتباد الخلق، فمعنى قوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} والذي يستحق عليكم أيها الناس الطاعة ويستوجب منكم العبادة معبودٌ واحدٌ وربٌّ واحدٌ، فلا تعبدوا غيره ولا تشركوا معه سواه؛ فإن من تشركونه معه في عبادتكم إياه هو خلقٌ من خَلْقِ إلهكم مثلكم, {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} لا مثل له ولا نظير ... _________ (1) ديوانه 165. والمدَّه: جمع مادهٍ، كالمدَّح: جمع مادحٍ، أُبدِلت الحاء هاءً على لغةٍ لبعض العرب. انظر: الكامل 2/ 1051 - 1052. (2) في طبعة محمود شاكر: "يعني: مِن تعبُّدي وطلبي اللهَ بعملي"، وهو الصواب. (3) زيادة من النسخة التي حقَّقها محمود شاكر. (4) 1/ 40 - 41. [المؤلف]
(2/388)
وأما قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، فإنه خبرٌ منه ــ تعالى ذكره ــ أنه لا رب للعالمين غيره، ولا يستوجب على العباد العبادة سواه، وأن كل ما سواه فَهُمْ خَلْقُه، والواجب على جميعهم طاعته والانقياد لأمره وترك عبادة ما سواه من الأنداد والآلهة، وهجرُ الأوثان والأصنام؛ لأن جميع ذلك خلقه، وعلى جميعهم [167] الدينونة له بالوحدانية والألوهة، ولا تنبغي الألوهة إلا له؛ إذ كان ما بهم من نعمة في الدنيا فمنه دون ما يعبدونه من الأوثان ويشركون معه من الأشراك ... ثم عَرَّفَهُمْ تعالى بالآية التي تتلوها ... فقال تعالى ذكره: أيها المشركون إن جهلتم أو شككتم في حقيقة ما أخبرتكم من الخبر من أن إلهكم إله واحد دون ما تدَّعون ألوهيته من الأنداد والأوثان فتدبَّروا حججي وفكِّروا فيها، فإن مِنْ حججي خَلْقَ السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ... فإن كان ما تعبدونه من الأوثان والآلهة والأنداد وسائر ما تشركون به ــ إذا اجتمع جميعه فتظاهر أو انفرد بعضه دون بعضٍ ــ يقدر على أن يخلق نظير شيءٍ من خلقي ــ الذي سَمَّيْتُ لكم ــ فلكم بعبادتكم ما تعبدون من دوني حينئذٍ عذرٌ، وإلَّا فلا عذر لكم ... " (1). وقال في تفسير آية الكرسي {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}: "قد دللنا فيما مضى على تأويل قوله: {اللَّهُ}، وأما تأويل قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} فإن معناه: النهي عن أن يُعبد شيء غير الله الحي القيوم الذي صفته ما وصف به نفسه تعالى ذكره في هذه الآية، يقول: الله الذي له عبادة الخلق، الحيُّ _________ (1) 2/ 35. [المؤلف]
(2/389)
القيوم، لا إله سواه، لا معبود سواه، يعني: ولا تعبدوا شيئًا سواه" (1). وقال في تفسير قول: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ} [النساء: 87]: "المعبود الذي لا تنبغي العبودة [168] إلا له هو الذي له عبادة كلِّ شيءٍ وطاعة كلِّ طائعٍ" (2). وقال في تفسير قول الله سبحانه: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى} [الأنعام: 19]: "يقول: تشهدون أن معه معبودات غيره من الأوثان والأصنام ... {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} يقول: إنما هو معبود واحد لا شريك له فيما يستوجب على خلقه من العبادة" (3). وفي الكشاف: "والإله من أسماء الأجناس كالرجل والفرس, اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق، كما أن النجم اسم كوكب ثم غلب على الثُّرَيَّا، وكذلك السَّنَة على عام القحط ... " (4). وفي تفسير البيضاوي: "والإله في أصله لكل معبود ثم غلب على المعبود بالحقِّ، واشتقاقه من أَلَه إلاهة وألوهة وألوهية ــ بمعنى: عَبَد ــ، ومنه: تألَّه واسْتَأْلَه" (5). وفي مفردات القرآن للراغب: "و (إله) جعلوه اسمًا لكل معبوديهم _________ (1) 3/ 4. [المؤلف] (2) 5/ 112. [المؤلف] (3) 7/ 97. [المؤلف] (4) 1/ 5. [المؤلف] (5) هامش حواشي الشيخ زاده 1/ 22. [المؤلف]
(2/390)
وكذا الذات (1) وسموا الشمس إلاهة لاتخاذهم إياها معبودة, وأله يأله: عبد ... و (إله) حقُّه ألا يُجْمَعَ إذ لا معبود سواه، لكن العرب لاعتقادهم أن هاهنا معبوداتٍ جمعوه، فقالوا: الآلهة". [169] وفي حواشي الشيخ زاده على تفسير البيضاوي: "قوله: (إلَّا أنَّه يختصُّ بالمعبود بالحقِّ) استدراكٌ بمعنى (لكنه) , وضمير (أنه) للفظ الجلالة المذكور سابقًا، ووجه الاستدراك أنه لما ذكر أن أصل لفظ الجلالة إله وهو اسم جنس يُطْلَقُ على كلِّ معبودٍ حقًّا كان أو باطلًا كما في قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} [طه: 97]، وقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] نشأ من ذلك تَوَهُّمُ أن لفظ الجلالة أيضًا اسم جنس يَصِحُّ إطلاقُه على غير المعبود بالحق فاحتيج إلى رفع هذا الوَهْم، فَرَفَعَه بقوله: (إلا أنه يختص بالمعبود) يعني أن الإله المُحَلَّى باللام قبل أن يغلب استعماله في فردٍ معين من أفراد جنس إله يطلق على كلِّ معبود سواء كان معبودًا بالحق أو لا؛ لأنه ليس عَلَمًا قصديًّا موضوعًا لذاته المخصوصة ابتداء، بل هو عَلَمٌ اتِّفاقيٌّ عرضت له العَلَمِية بأنْ كثر استعماله حال كونه مُحَلًّى بلام العهد في فردٍ معيَّنٍ من أفراد جنسه يكون ذلك الفرد معهودًا للمخاطب بسبب شهرة ذلك الفرد المعهود من بين أفراد جنسه بكونه فردًا لذلك الجنس وأن إلاهًا المُنَكَّر اسم جنسٍ يقع على كل معبود, فإذا كان فردٌ من أفراده أيَّ فردٍ كان معهودًا للمخاطب وأشرت إليه بلفظ (الإله) المحلَّى بلام العهد صحّت الإشارة إليه [170] وإن لم يكن معبودًا بالحق، وإذا كان ذلك الفرد المعهود معبودًا بالحق وكثر استعمال لفظ _________ (1) يعني المعبود بحق. وفي (ط: دار القلم) ص 82: اللات.
(2/391)
(الإله) المحلَّى بلام العهد فيه لكونه أشهر أفراد ذلك الجنس بكونه فردًا له بحيث صار ما عدا ذلك الفرد كأنه ليس فردًا يصير لفظ (الإله) عَلَمًا له بغلبته عليه وإن كان في أصله أَيْ مَعَ قطع النظر عن غلبته عليه يصحُّ إطلاقه على كلِّ فَرْدٍ من أفراد المعبود" (1). وفي تفسير العلامة أبي السعود: "الإله في الأصل اسم جنس يقع على كلِّ معبود بحق أو باطل, أي مع قطع النظر عن وصف الحقية والبطلان لا مع اعتبار أحدهما لا بعينه, ثم غلب على المعبود بالحق كالنجم والصعق. وأما (الله) بحذف الهمزة فَعَلَمٌ مختصٌّ بالمعبود بالحقِّ لم يُطْلَقْ على غيره أَصْلًا, واشتقاقه من الإلاهة والألوهة والألوهية بمعنى العبادة حسبما نص عليه الجوهري على أنه اسم منها بمعنى المألوه كالكتاب بمعنى المكتوب لا على أنه صفة منها، بدليل أنه يوصف ولا يوصف به حيث يقال: إله واحد، ولا يقال: شيء إله كما يقال: كتاب مرقوم، ولا يقال: شيء كتاب ... واعلم أن المراد بالمنكَّر في كلمة التوحيد هو المعبود بالحقِّ" (2). [171] وفي لسان العرب: " (الإله) الله عزَّ وجلَّ وكلُّ ما اتخذ من دونه معبودًا إله عند مُتَّخِذِه، والجمع آلهة، والآلهة: الأصنام, سموا بذلك لاعتقادهم أن العبادة تحق لها وأسماؤهم تتبع اعتقاداتهم لا ما عليه الشيء في نفسه. وقال أبو الهيثم: فالله أصله إله، قال الله عزَّ وجلَّ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا _________ (1) 1/ 24. [المؤلف] (2) 1/ 7. [المؤلف]
(2/392)
كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون: 91]، قال: ولا يكون إلهًاحتى يكون معبودًا وحتى يكون لعابده خالقًا ورازقًا ومدبِّرًا وعليه مقتدرًا [سيأتي بيان مراده]، فمَن لم يكن كذلك فليس بإلهٍ [سيأتي بيان مراده] وإن عُبِد ظلمًا, بل هو مخلوقٌ ومتعبِّدٌ. قال: وأصل إلاه وِلاه، فقُلِبت الواو همزةً، كما قالوا: للوِشاح إشاح وللوِجاح ــ وهو السترُ ــ إجاح، ومعنى (إله) أن الخلق يَوْلَهون إليه في حوائجهم ... وقد سمَّت العرب الشمس لما عبدوها إلاهة ... قال ابن سيده: ... فكأنهم سمَّوها إلاهة لتعظيمهم لها وعبادتهم إياها فإنهم كانوا يعظمونها ويعبدونها, وقد أوجدنا الله عزَّ وجلَّ ذلك في كتابه حين قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37]. والإلاهة والألوهة والألوهية العبادة، وقد قرئ: (ويذرك وإلاهتك) أي وعبادتك, وهذه الأخيرة [172] عند ثعلب كأنها هي المختارة، قال: لأن فرعون كان يُعبد ولا يعبد [فيه كلام سيأتي] ... قال ابن بَرِّي: يقوِّي ما ذهب إليه ابن عبَّاسٍ في قراءته: (ويذرك وإلاهتك) قول فرعون: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، [سيأتي الجمع الصحيح بين الآيات] ويقال: إله بيِّن الإلاهة والأُلْهَانيَّة, وكانت العرب في الجاهلية يدعون معبوداتهم من الأوثان والأصنام آلهة وهي جمع إلاهة [فيه نظر] قال الله عزَّ وجلَّ: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127]، هي
(2/393)
أصنام عبدها قوم فرعون معه، [هذا تخرُّصٌ وستأتي حقيقة الأمر إن شاء الله تعالى]. والله أصله إلاه على فعال بمعنى مفعول، لأنه مألوه أي معبود ... قال ابن بَرِّي: ... فإذا قيل: الإله انطلق على الله سبحانه وعلى ما يعبد من الأصنام، وإذا قلت: الله لم ينطلق إلا عليه سبحانه وتعالى" (1). وفي القاموس (2): "أله إلاهة وألوهة وألوهية عبد عبادة ... ومنه لفظ الجلالة ... وأصله إلاه كفِعال بمعنى مألوه، وكلُّ ما اتُّخِذ معبودًا إله عند متَّخِذِه بَيِّن الإلاهة ... ". [173] وفي المصباح (3): "أَلِهَ يَأْلَه من باب تعب [سيأتي ما فيه] إلاهة بمعنى عبد عبادة، وتألَّه تعبَّد، والإله المعبود، وهو الله سبحانه وتعالى، ثم استعاره المشركون لما عبدوه من دون الله تعالى، والجمع آلهة، فالإله فِعَال بمعنى مفعول، مثل كتاب بمعنى مكتوب وبساط بمعنى مبسوط". وفي دستور العلماء (4): "والإله بمعنى المعبود المطلق حقًّا أو باطلًا". واستيفاء النقل مما لا مطمع فيه، فقد تعرَّض له الفقهاء من جميع المذاهب وغيرهم من أهل الفنون في أوائل الشروح في الكلام على البسملة، والنحاة في الكلام على المعرَّف بالعَلَمية والمعرَّف بأل، وباب _________ (1) لسان العرب 13/ 467 - 469. (2) ص 1603. (3) ص 19. (4) 1/ 10.
(2/394)
النداء، وأهل المعاني في ذكر تعريف المسند إليه. والمرجع الحقيقيُّ هو التفسير واللغة وقد نقلنا عنهما ما يكفي، أو علم الكلام وقد مرَّ النقل عنه. وتلخيص كلامهم المتقدم مع زيادةٍ: أنهم اتفقوا على أن لفظ (إله) مشتقٌّ، ثم اختلفوا فيما اشتقُّ منه، فالأكثر أنه من أله يأله إلاهةً ــ بمعنى عبد يعبد عبادةً ــ، والماضي بفتح اللام، وقول صاحب المصباح: (من باب تعب) سهوٌ. وقيل: من أَلِه كفرح، بمعنى: تحيَّر أو غيره. وقيل: من أَلَهَه كمنعه إذا أجاره. [174] وقيل: من وَلِه كفرح ــ بمعنى تحيَّر أو غيره ــ، والأصل وِلاه قلبت الواو همزة كإشاح وإجاح. ويؤخذ من كلام بعضهم أن الخلاف مختصٌّ بالإله الذي هو أصل كلمة الجلالة، فأما إله المستعمل بلفظه فلا خلاف أنه من أله بمعنى عبد، ومن كلام آخرين أن الخلاف جارٍ في المستعمل بلفظه أيضًا. وحجَّة الأكثر: الاتفاق على أن لفظ إله بمعنى معبود أو معبود بحق أو مستحق للعبادة وهو مناسب لمادة أله بمعنى عبد لفظًا ومعنى، وكأن المخالف يعتذر عن الاختلاف المعنوي بين معنى إله ومعنى متحَيَّر فيه مثلًا بأن الاسم قد يكون أخصَّ مما يقتضيه اشتقاقه كعِطاف خاص في اللغة بالثوب الذي يرتدى به مع أن اشتقاقه يقتضي أن يعمَّ كل معطوف، وهذا حق، ولكن الأصل في المشتق بقاؤه على ما يقتضيه اشتقاقه، والمناسبة بين
(2/395)
المعبود والتحيُّر ضعيفة، ومادة أله بمعنى عبد مستعملة متصرفة فكيف يعدل عنها؟ ويختص قول من قال: وِلاه بأن فيه مخالفةً أخرى للأصل بلا حجَّةٍ ولا حاجةٍ، وبأن قلب واو نحو وشاح همزة جائز غير لازم، وأكثر العرب يقولون: وشاح ولم يُسْمَعْ عنهم وِلاه، وبما ذكره البيضاوي وغيره [175] أن جمع إله آلهة ولو كان الأصل ولاه لقيل: أولهة إذ التكسير يردُّ إلى الأصل. وبعد، فلا يهمنا الخلاف في الاشتقاق بعد الاتفاق على المعنى الراهن, فإنه كما أن أهل اللغة يفسِّرون العطاف بالرداء فكذا المخالف في إله يفسره بالمعبود أو المعبود بحق أو المستحق للعبادة، ومدار فهم المعنى على هذا لا على الأصل الاشتقاقي، والله أعلم. فأما ما مرَّ في عبارة اللسان عن أبي الهيثم من قوله: "ولا يكون إلها حتى يكون معبودًا وحتى يكون لعابده خالقًا ... " فمراده أن معنى إله: معبودٌ بحقٍّ، ولا يكون معبودًا بحقٍّ حتى يكون خالقًا إلخ، بدليل قوله بعد ذلك: "وإن عُبِد ظلمًا"، أي: فإن عابده وإن كان بزعمه أنه معبودٌ بحقٍّ قد زعم أنه إلهٌ، لكنه ليس في حكم العقل والدين بمعبودٍ بحقٍّ، فليس بإلهٍ في نفس الأمر. والله أعلم. الاختلاف الثاني: في (إله)، أهو بمعنى: معبودٌ بحقٍّ، أم: مستحقٌّ للعبادة، أم معبودٌ. فأما العبارتان الأوليان فلا فرق بينهما، إلا أن قولنا معبود بحق يفهم منه اشتراط أن يكون معبودًا بالفعل، وليس هذا [176] بمراد اتفاقًا؛ للاتفاق على أن من اعتقد في شيء أنه مستحق للعبادة فقد اعتقد أنه إله وإن لم يعبده هو
(2/396)
ولا غيره. واللغة لا تأبى هذا, فإن فِعالًا بمعنى مفعول قد يطلق على ما مِن شأنه أن يكون مفعولًا وإن لم يكن كذلك بالفعل كما يسمون البساط بساطًا وإن لم يكن قد بُسِط. ولو كان معنى إله معبودًا بحق أي معبودًا بالفعل لكان النفي في كلمة التوحيد خاصًّا بذلك، لا يتناول المستحق للعبادة ولم يُعبد بالفعل، وعليه فلا تكون الكلمة الشريفة توحيدًا, وهذا باطل قطعًا. فقد علم أن العبارتين الأوليين متفقتان، وقولنا: "مستحقٌّ للعبادة" أجودهما؛ لسلامتها من الإيهام، فيبقى النظر بينها وبين الثالثة. فأقول: في القرآن آيات كثيرة تدلُّ على أن معنى (إله) مستحق للعبادة لا معبود فقط، منها قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، وقوله سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وقوله عزَّ وجلَّ: {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} [الأنبياء: 99]. وفي القرآن آيات كثيرة تدل على عكس ذلك منها قوله عزَّ وجلَّ: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [هود: 101]. [177] وقوله سبحانه في قصة الخليل عليه السلام: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} [الصافات: 91]. وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} [الأنعام: 74]. وقوله جل ذكره: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81 - 82].
(2/397)
وقوله تبارك وتعالى في حكاية توبيخ موسى عليه السلام للسامري: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} [طه: 97]. وقوله سبحانه: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39]. وقوله عز اسمه: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 213]. وأهل العلم مختلفون، فمنهم مَن يختار أنه بمعنى معبودٌ فقط ويتأوَّل أدلَّة القول الآخر، ومنهم من يعكس. والصواب ــ إن شاء الله تعالى ــ: إبقاء الآيات على ظواهرها، وأنه قد يجيء بمعنى: ما من شأنه أن يُعْبَد، فيؤخذ من ذلك قيد الاستحقاق، فمعناه حينئذٍ: مستحق للعبادة، وقد يجيء بمعنى معبود، أي بالفعل، ومعناه حينئذٍ: معبود، بلا قيد. [178] فحاصل ما تدلُّ عليه الآيات أن القول بوجود إله غير الله تعالى إن كان بمعنى مستحق للعبادة فشرك وإن كان بمعنى معبود بالفعل غير مستحق فلا. فأما اتخاذ إله غير الله تعالى فشرك مطلقًا، وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين، أما الأول فظاهر، وأما الثاني فإنهم مجمعون أن عبادة غير الله تعالى شرك بل هذا من ضروريَّات الإسلام. وكلمة الشهادة تتضمن الأمرين أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلما قدمنا في أوائل الرسالة أن النطق بكلمة الشهادة على سبيل الالتزام يتضمن التزام ألَّا يعبد إلا الله. وإيضاح ذلك: أن لفظ (إله) في كلمة الشهادة بمعنى مستحق للعبادة، وإذا
(2/398)
شهد المرء أنه لا مستحق للعبادة إلا الله عزَّ وجلَّ ثم اعتقد أو ادَّعى أو جوَّز أن غير الله تعالى مستحق للعبادة فقد نقض الشهادة، ثم قد علم من شهادته بذلك اعترافه بأنه إن عبد غير الله تعالى فقد عبد ما لا يستحق العبادة. وقد علم المشركون أن دعوة المسلمين هي إلى ترك الشرك ومنه عبادة غير الله تعالى، وإلى توحيد الله تعالى بأن يعبده ولا يشرك به شيئًا، وأنهم يكتفون من المشرك بأن يشهد ألَّا إله إلا الله [179] وأن محمدًا عبده ورسوله على سبيل البراءة من الشرك كلِّه والتزام التوحيد كلِّه، بل الإسلام كلِّه. أولا ترى أننا لا نطالب الكافر بإقامة الصلاة وأداء الزكاة وترك الخمر وغير ذلك، فإذا أسلم طالبناه وقتلناه إن لم يُصَلِّ, وقاتلناه إن لم يزكِّ, وحَدَدْناه إن شرب الخمر. وهل ذلك إلا لأن الكافر لم يلتزم أحكام الإسلام, فإذا تشهَّد على سبيل التزام الإسلام فقد التزم ورضي بجميع الأحكام. وفي لفظ الإسلام ما يومئ إلى ذلك أي أنه أسلم نفسه لكلِّ ما يَحْكُمُ به الدين, فإن قتلناه أو قاتلناه أو حَدَدْنَاه فبمقتضى رضاه. ولهذا إذا حكَّمَنَا الكفار في قضية حكَمْنَا بينهم بحكم (1) ديننا ونفَّذْناه عليهم لرضاهم بذلك حين حكَّمونا، وهذا (1) يوضح لك أن النطق بالشهادة على سبيل الالتزام يتضمن التزام (1) جميع أحكام الإسلام، فإذا خالف بعد الشهادة شيئًا من (1) الأحكام فقد أَخَلَّ بالشهادة, إلا أن الإخلال قد يكون نقضًا لأصل (1) الشهادة كزعم أن غير الله تعالى مستحق للعبادة [180] _________ (1) هذه بدايات خمسة أسطر في المخطوط، وقد تآكلت الورقة فلم تظهر بعض حروف هذه الكلمات، والمثبت اجتهاد منِّي.
(2/399)
وكتكذيب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أو إهانته، وقد يكون نقضًا لما تقتضيه بمعونة القرائن القطعية كما تقدَّم مع دلالة المنطوق عليه، كأن يعبد غير الله تعالى مع اعترافه أن ذلك الشيء لا يستحق العبادة؛ فإن منطوق الشهادة أنه لا مستحق للعبادة إلا الله تعالى، وعلم منه أن عبادة غيره تعالى شرك، وقد يكون الإخلال تقصيرًا دون ذلك كشرب الخمر. فخلاصة ما تقدَّم: أن لفظ (إله) قد يأتي بمعنى مستحق للعبادة، وقد يأتي بمعنى (معبود)، وأن كلمة الشهادة تتضمن التوحيد في الأمرين, وأن الإخلال بأحدهما شرك. ولكن الاشتباه الذي نشكوه لا يزول إلا بمعرفة معنى العبادة، فنقول (1): "أصل العبادة في اللغة التذليل (2) ... والعبادة والخضوع والتذلُّل والاستكانة قرائب في المعاني، يقال: تعبد فلانٌ لفلانٍ إذا تذلَّل له، وكلُّ خضوعٍ ليس فوقه خضوعٌ فهو عبادةٌ طاعةً كان للمعبود أو غيرَ طاعةٍ، وكلُّ طاعةٍ لله على جهة الخضوع والتذلُّل فهي عبادةٌ، والعبادة نوعٌ من الخضوع لا يستحقُّه إلا المنعم بأعلى أجناس النعم كالحياة ... والعبادة لا تستحقُّ إلا بالنعمة؛ لأن العبادة تنفرد بأعلى أجناس النعم، لأن أقلَّ القليل من العبادة يَكْبُرُ عن أن يستحقه إلا مَن كان له أعلى جنسٍ من النعمة [؟ ] (3) إلا الله سبحانه، فلذلك لا يستحق العبادة إلا الله". _________ (1) المخصَّص. [المؤلف]. لابن سيده، المجلَّد الرابع (13/ 96). (2) كذا في الأصل، والوجه التذلُّل. ونقل في موضع آخر عن أبي عليٍّ: "وأصل التعبيد: التذليل". انظر المجلد الأول 3/ 143. (3) كذا في الأصل، إشارة إلى الخلل في العبارة؛ لأن الاستثناء هنا لا مناسبة له، إلا أن يكون بدلًا من الاستثناء الأوَّل.
(2/400)
/فصل في تفسير أهل العلم للعبادة (1)
أما المتكلمون وأهل العقائد المسمّى بعلم التوحيد فلم أقف لهم على كلام بيِّن في تفسير العبادة، وكأنهم يرون أن الكلام عليها خارج عن فنِّهم، بل صرّح به السعد في شرح المقاصد ــ كما تقدم ــ، وكذلك الفقهاء مع حكمهم بالردّة على من عظّم غير الله تعالى أو تذلَّل له على سبيل العبادة. وهذا عجيب؛ يبنون الأحكام على العبادة ويهملون تفسيرها! , ولو قال قائل: إن أكثر الفقهاء بعد القرون الأولى لم يكونوا يعرفون معنى العبادة على وجه التحديد لما وجدنا حجّة ظاهرة تردّ قوله. وأما المفسِّرون؛ فقال ابن جرير: "تأويل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لك اللهمّ نخشع ونذلّ ونستكين إقرارًا لك يا ربّنا بالربوبيّة لا لغيرك" (2). وفي الكشّاف: [والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلّل، ومنه: ثوب ذو عَبْدَةٍ، إذا كان في غاية الصفاقة وقوّة النسج؛ ولذلك لم تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى؛ لأنه مولي أعظم النعم، فكان حقيقًا بأقصى غاية الخضوع] (3). وأما أهل اللغة؛ ففي لسان العرب (4): "قال الأزهري: ... ولا يقال عبد يعبد عبادة إلا لمن يعبد الله، ومن عبد دونه إلهًا فهو من الخاسرين. _________ (1) هذا الفصل ثلاث صفحات غير مرقمة من نسخة (ب). (2) تفسير الطبري 1/ 159. (3) الكشّاف 1/ 10، وقد بيّض المؤلِّف لكلام الزمخشري فأضفته. (4) 3/ 271 - 274.
(2/401)
قال: وأمَّا عبدٌ خَدَم مولاه فلا يقال: عَبَده. قال الليث: ويقال للمشركين: عبدة الطاغوت، ويقال للمسلمين: عباد الله يعبدون الله، والعابد الموحِّد ... وعبد الله يعبده عبادة ومعبدًا ومعبدة: تألّه له؛ /والتعبد التنسك، والعبادة الطاعة، وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60] ... وقال الزجاج .... قال: تأويل (عبد الطاغوتَ) أي: أطاعه، يعني الشيطانَ فيما سوَّل له وأغواه. قال: والطاغوت هو الشيطان. وقال في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، أي نطيع الطاعة التي يُخْضَع معها. وقيل: إياك نوحِّد، قال: ومعنى العبادة في اللغة الطاعة مع الخضوع، ومنه طريق مُعبَّد إذا كان مُذلَّلًا بكثرة الوطء ... وقال ابن الأنباري: فلان عابد، هو الخاضع لربِّه المستسلم المنقاد لأمره. وقوله عزَّ وجلَّ: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] أي: أطيعوا ربَّكم". وفي القاموس (1): "والعبادة: الطاعة". قال في شرحه تاج العروس (2): أما عَبَد اللهَ فمصدره عبادة وعبودة وعبودية، أي: أطاعه ... قال ابن الأثير: ومعنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع (3). _________ (1) ص 378. (2) 8/ 330. (3) تقدم قريبًا نقل هذه العبارة عن الزجاج, ولم أجدها في كتاب النهاية لابن الأثير.
(2/402)
وفي المصباح (1): "عبدت الله أعبده عبادة وهي الانقياد والخضوع، والفاعل: عابد ... ثم استُعْمِل فيمن اتخذ إلهًا غير الله، وتقرَّب إليه، فقيل: عابد الوثن والشمس، وغير ذلك". وقال الراغب: "العبودية: إظهار التذلُّل، والعبادة أبلغ منها، ولا يستحقها إلا مَنْ له غاية الإفضال، وهو الله تعالى، ولهذا قال: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف: 40] " (2). وتحرير هذه النقول أن لهم في تفسير العبادة عبارات: 1 - الطاعة. 2 - الطاعة التي يُخْضَع معها. 3 - غاية التَذَلُّل، أو أقصى درجات الخضوع. 4 - التَألُّه أو الطاعة مع اعتقاد أن المُطاعَ إله. فأقول: أما العبارة الأولى فقصورها واضح، وقد مرَّ (3) عن الأزهري قوله: "وأما عبدٌ خَدَم مولاه فلا يقال: عَبَدَه". وقد جاء في الكتاب والسنة في مواضع لا تحصى النهيُ عن عبادة غير الله تعالى، وأن ذلك شرك، وهذا من ضروريّات الدين. وجاء في الكتاب والسنة الأمر بطاعة الرسول وأولي الأمر والوالدين، وهو /من ضروريات الدين أيضًا. _________ (1) ص 389. (2) انظر: المفردات ص 542. (3) ص 402.
(2/403)
فإن قيل: فلعلَّ للعبادة استعمالين: أحدهما بمعنى الطاعة مطلقًا. قلت: لم ترد العبادة في الكتاب والسنة وكلام أهل العلم لغير الله تعالى إلا مَنْهِيًّا عنها، ومطلق الطاعة منها المأمور به والمستحبُّ والجائز، وقد مرّ عن الأزهري قوله: فأمّا عبد خدم مولاه فلا يقال: عَبَده. والحاصل أن قصور تلك العبارة أمر يقينيّ. وأما العبارة الثانية؛ فالخضوع إن كان هو التذلُّلَ كما هو المعروف فهو غير منهيٍّ عنه مطلقًا، فقد قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24]، وقال سبحانه: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 54]. وإن كان غيره فما هو؟ وأيضًا فلا يرتاب أحد أن العبد يطيع مولاه خاضعًا له. وقد مرّ (1) عن الأزهري أن طاعة العبد لمولاه لا تسمَّى عبادة. وزاد بعض الأئمة في هذه العبارة قيد المحبَّة (2) , ولم يصنع شيئًا؛ فإن العبد قد يطيع مولاه ويخضع له مع محبته إيّاه، وليس هذا بعبادة، والولد مأمور بطاعة والديه والخضوع لهما ومحبتهما, إلى غير ذلك. وأما العبارة الثالثة ــ وهي المشهورة بين العلماء ــ فمجملة؛ للجهل بالحدِّ الفاصل بين ما يُعَدُّ من الغاية وما لا يُعَدُّ منها. وأيضًا، فإن أريد بالتذلّل والخضوع ما يظهر للنظر فالأمور المعلوم بأنها _________ (1) ص 402. (2) انظر: مجموع الفتاوى 15/ 162، 16/ 202، وإغاثة اللهفان 2/ 852.
(2/404)
عبادة تختلف في درجات التذلّل والخضوع, كاستلام ركن الكعبة بمحجنٍ، ولمسه باليد، وتقبيله، ووضع الجبهة عليه، وكالقيام في الصلاة والركوع والسجود، وهذه كلها عبادات، فهي بمقتضى العبارة الثالثة من غاية التذلّل وأقصى درجات الخضوع. وإذًا فالغاية وأقصى الدرجات لها في نفسها درجات؛ فالأمور التي لم يُنَصَّ على أنها عبادات كيف نعلم أنها من الغاية، أو من أقصى الدرجات ما دامت درجات الغاية متصلة بدرجات ما قبل الغاية؟ ومَثَل ذلك مِرْقاة لها خمسون درجة مثلًا، فقال رجل لمملوكه: اصْعَدْ هذه المرقاة ولا تَبْلُغ أقصى الدرجات، وأراد بالأقصى عدّة درجات من أعلى، فمن أين يعلم المملوك عدّة الدرجات التي جعلها السّيّد غاية؟ وأوضح من ذلك أنَّ كثيرًا من الأفعال قد يكون تارة عبادة قطعًا، ثم يكون مثله ليس قطعًا بعبادة, كالسجود لله تعالى وسجود المشرك للصنم مع سجود الملائكة لآدم وآل يعقوب ليوسف عليهم السلام. وأما العبارة الرابعة, ففهمها متوقف على فهم معنى كلمة (إله). وقد تقدَّم أن معنى (إله) معبود، وأن معرفة معنى (معبود) تتوقَّف على معرفة معنى العبادة، وهذا دور وتفسير مجهول بمجهول. سألنا ما معنى إله؟ قالوا: معبود، قلنا: نحن لا نعرف معنى (معبود) فما معناه؟ قالوا: (إله). وهذا كما تراه. وإنما (1) التفسير الصحيح أن يُفَسَّر المجهول بمعلوم، فنستعين الله عزَّ وجلَّ في تحقيق ذلك ونقول: _________ (1) من هنا تكملة مأخوذة من المسوَّدة (س) من ص 33/أ، وسأثبت ترقيم صفحاتها الخاصَّ بها مسبوقًا بحرف س.
(2/405)
[س 34/أ] الباب الثاني في تحقيق معنى كلمة (إله) ومعنى (العبادة) وما يلحق ذلك لا مفزع للباحث عن حقيقة هاتين الكلمتين إلا إلى كتاب الله عزَّ وجلَّ، وهو القول الفصل والحَكَم العدل، وقد تكرَّرت فيه هاتان الكلمتان كثيرًا، وباستقراء مواضعهما وتدبُّر مواقعهما تنجلي حقيقة معناهما إن شاء الله تعالى. فأقول: أما إطلاق كلمة (إله) على الله تبارك وتعالى، و (العبادة) على طاعته وكلِّ ما يتقرب به إليه، فأمر لا يحتاج إلى بيان. وأما غير الله فقد حكى الله عزَّ وجلَّ عن المشركين اتخاذهم بعض المخلوقات آلهة. فمن ذلك: 1) الأصنام. حكاه الله تعالى عن قوم نوح، قال تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]، وفي هذا احتمال؛ لأن المنقول عن ابن عباس وغيره كما في البخاري وغيره: أن هذه أسماء رجال صالحين ماتوا، فمُثِّلت تماثيلهم، وسمّيت بأسمائهم وعُبِدت، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام القصَّة. والظاهر أن التماثيل إنما عُبدت تعظيمًا للمُمَثَّلين ليقرِّبوا إلى الله زلفى، كشأن قريش في حق الملائكة كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. ويبيّنه أن قوم نوح عليه السلام كانوا يعرفون الله عزَّ وجلَّ، فقد قالوا لنوح عليه السلام: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} [المؤمنون: 24] ونحو ذلك.
(2/406)
فإذًا يحتمل أن يريدوا بقولهم: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} الأصنام، ويحتمل أن يريدوا أولئك الصالحين، وسيأتي أن قريشًا اتخذوا الملائكة آلهة، وهم إنما صنعوا في حقِّهم ما صنعه قوم نوح في حقِّ أولئك الصالحين، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وكذلك قولهم: {وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا}، يحتمل أن يريدوا الأصنام أو أولئك الأشخاص الذين مُثِّلَتْ على صُورهم وسميت بأسمائهم. ولعلّ جَعْلَ (آلهة) لأحد الشيئين, أعني: الأصنام، والأشخاص, و (ودًّا) وغيره للآخر= أولى؛ لما يقتضيه ظاهر العطف من المغايرة، أو يريدون بالآلهة ما يعمُّ الجميع، وبـ (ودٍّ) وما معه أحد الفريقين، ولعلَّ هذا أقرب، والله أعلم. وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 23 - 24]. فقوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} صريح في أنهم اتخذوا آلهة من دون الله، ولكن لم يظهر أأراد الأصنام أم الأشخاص التي صُوِّرت على صورهم وسُمِّيت بأسمائهم وعُبِدت تعظيمًا [لهم]، أم ما يعمُّ الاثنين؟
(2/407)
وحكى الله تعالى (1) عن قوم إبراهيم في عدَّة آيات، منها قول إبراهيم في محاورة أبيه: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} [الأنعام: 74]. [س 34/ب] وفي شأن بني إسرائيل والقوم الذين أتوا عليهم قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]. 2) العجل. ومنه قوله تعالى: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طه: 87 - 89]. 3) الهوى. [قال تعالى]: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43]، وقال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]. 4) الشياطين. يظهر ذلك في قوله تعالى في سورة الأنبياء: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء: 97 - 100]، فقوله: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} عامٌّ في جميع الكفار، والسياق يؤيده، وهذا يدفع تأويل الموصول في قوله: {وَمَا تَعْبُدُونَ} بما _________ (1) أي تأليه الأصنام.
(2/408)
عبده بعض الكفار دون بعض حيث أمكن تأويله بما يطابق العموم. ودخول النار يمنع إرادة ما يعمُّ عيسى وعزيرًا والملائكة ونحوهم. والإشارة بـ {هَؤُلَاءِ} دون هذه، وقوله: {وَرَدُوهَا} دون (وردتها)، وقوله: {خَالِدُونَ}، و {لَهُمْ} {وَهُمْ} و {لَا يَسْمَعُونَ} يمنع من تفسيرها بالأشخاص الخياليّة؛ لأن الأشخاص الخياليَّة معدومة، وهؤلاء موجودون. ويُبْعِدُ إرادة الأصنام؛ لأنها لا تعقل، واحتمال تنزيلها منزلة العقلاء أو التغليب خلاف الأصل. وعموم قوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} يُبْعِد إرادة الأصنام أيضًا؛ لأن الزفير من عوارض الحياة، وليست كذلك. واحتمال أن يخلق الله عزَّ وجلَّ لها حياة خلاف الأصل، ويمنعه أنه لو خُلِق لها حياة لصارت حينئذٍ معذَّبة حقيقة أي تجد ألم العذاب، ولذلك يكون منها الزفير، وهذا لا يجوز؛ لأن الأصنام لا ذنب لها، فلماذا تُعذَّب؟ ومثله عموم قوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ}، إذ لا يُنفى الشيء إلا عما يُتَوهَّم ثبوته له، وليس في المقام ما يدلّ أن هناك توهّم سماع التماثيل في النار. فما بقي إلا تأويله بالمتبوعين من الإنس, كالأحبار والرهبان وغيرهم، أو بالشياطين، وسيأتي في العبادة أن الكفار جميعًا عابدون للشياطين, ونصوص القرآن كثيرة في ذلك، فاحتمالهم أقرب. ويؤيِّده أن الخطاب للذين كفروا عمومًا، وهو يشمل المتبوعين، فيكون
(2/409)
الظاهر أن المعطوف عليهم وهو قوله: {وَمَا تَعْبُدُونَ} غيرهم، والمتبوعون من الإنس ليسوا كذلك، والشياطين وإن كانوا داخلين في الذين كفروا إلا أنه يمكن أن يُخَصّ {الَّذِينَ كَفَرُوا} في الآية بالإنس، وهو وإن كان أيضًا خلاف الظاهر إلا أنه أقرب من تخصيصه بالتابعين من الإنس. [س 35/ب] ويشهد له ما رواه ابن مردويه والواحدي عن ابن عباس أن قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} الآية، لما نزلت قال ابن الزبعرى: أليس اليهود عبدوا عزيرًا والنصارى عبدوا المسيح وبنو مُليح عبدوا الملائكة؟ فأجابه بقوله: بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك (1). وأصل القصة مرويٌّ من طرق (2). فأما ما شاع من أنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أجابه بقوله: يا غلام ما أجهلك بلغة قومك؛ لأني قلت: (وما تعبدون) و (ما) لما لم يعقل، ولم أقل: (ومن تعبدون)؛ ففي تفسير الآلوسي (3) أنَّ ابن حجر تعقَّبه في تخريج _________ (1) أسباب النزول للواحدي ص 305 - 306، من طريق أبي يحيى عن ابن عباس. وانظر: الدر المنثور 5/ 679 - 680. (2) أخرجها الطبري 16/ 418، من طريق سعيد بن جبير، والطبراني 12/ 153 - 154، ح 12739 - 12740، من طريقي أبي رزين وأبي يحيى. والحاكم في كتاب التفسير، تفسير سورة الأنبياء، 2/ 384 - 385، من طريق عكرمة. وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ولم يتعقبه الذهبي. وانظر: مشكل الآثار، باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المراد بقول الله عز وجل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} الآية، 3/ 15. (3) روح المعاني 17/ 94.
(2/410)
أحاديث الكشاف (1) بأنه اشتهر على ألسنة كثير من علماء العجم في كتبهم، وهو لا أصل له، ولم يوجد في شيء من كتب الحديث مسندًا ولا غير مسند، والوضع عليه ظاهر، والعجب ممن نقله من المحدِّثين، انتهى. أما قولهم: إنَّ (ما) لما لا يعقل, فقد ردَّه الجمهور. نعم، قيل: إنَّ الغالب ذلك، ولكن قوله تعالى: {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} يوضح أنها استعملت هنا في العقلاء، [س 36/أ] وقد قيل: إن السر في ذلك تحقير الشياطين، أي: وأما ترك ذلك في قوله: {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} فجاء على الأصل، فلا يدفع تلك النكتة، واستشهد لمراعاة تلك النكتة بما في الحديث: "التي أمرتْهم" ولم يقل: الذين أمروهم. نعم، قال الآلوسي عند قوله تعالى: {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} ما لفظه: "وهذا ظاهر في أن المراد مما يعبدون الأصنام لا الشياطين؛ لأن المراد به إثبات نقيض ما يدَّعونه، وهم يدَّعون إلهيَّة الأصنام لا إلهيتها (الشياطين) حتى يحتجَّ بورودها النار على عدمها. نعم، الشياطين التي تعبد داخلة في حكم النص بطريق الدلالة, فلا تغفُل". اهـ (2). والجواب: أنهم وإن لم يدَّعوا كون الشياطين آلهة فقد اتخذوها آلهة؛ _________ (1) الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف 111 - 112، والجملتان الأخيرتان لم أجدهما في هذا المختصر المطبوع في آخر الكشاف، ولا المطبوع مع تخريج أحاديث وآثار الكشاف للزيلعي (2/ 371). (2) روح المعاني 17/ 96.
(2/411)
لعبادتهم لها, كما شهد به القرآن في مواضع كثيرة، ويأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. ومثله إلزامهم كونهم عبدوا الشياطين وإن كانوا لا يعترفون بذلك بل لا يقصدونه. [س 36/ب] وبما قرَّرناه عُلم سقوط اعتراض ابن الزبعرى بدون احتياج إلى تخصيص ولا تأويل، ولله الحمد. ويشهد لما تقدم قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} [مريم: 68] , وقوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) [س 37/أ] قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الصافات: 22 - 33]. فسر بعض أهل العلم الموصول في قوله تعالى: {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} بالشياطين، وهو الذي يُعيِّنه السياق. نعم، قيل: إنه غير مناسب إذا حُمِل قوله تعالى: {وَأَزْوَاجَهُمْ} على قرنائهم من الشياطين، كما روي عن الضحاك. والجواب: أن أكثر المفسرين على أن المراد بـ (أزواجهم) نظراؤهم في السيرة. أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن منيع في مسنده والحاكم
(2/412)
وصححه وغيرهم من طريق النعمان بن بشير عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (أزواجهم) أمثالهم الذين هم مثلهم يُحْشَرُ أصحاب الربا مع أصحاب الربا، وأصحاب الزنا مع أصحاب الزنا، وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر (1). وجاء نحوه عن ابن عباس وتلامذته سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة (2). نعم، يرد عليه أن النظراء داخلون في عموم الذين ظلموا فكيف يعطفون عليهم بلا مزيَّة؟ واختيار كون الواو للمعيَّة لا يُفيد، وقد يجاب باختيار عدم الدخول، ويكون المراد بـ (الذين ظلموا) المشركين، وبـ (أزواجهم) نظراؤهم من سائر الكفار، أو (الذين ظلموا) الكفار مطلقًا، و (أزواجهم) نظراؤهم من فسَّاق المسلمين، وظاهر كلام عمر يساعده، أو (الذين ظلموا) كفار الإنس، و (أزواجهم) نظراؤهم من كفار الجنِّ. وقيل: إن المراد بالأزواج الأعوان، ويستدل له بالحديث: "الظلمة وأعوانهم في النار" (3). _________ (1) أخرجه عبد الرزاق 2/ 148 (من قول النعمان بن بشير)، وأحمد بن منيع كما في المطالب العالية 15/ 147، ح 3693، قال ابن حجر: "إسناده صحيح". والطبري 19/ 519. والحاكم في كتاب التفسير، تفسير سورة الصافات، 2/ 430، وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ولم يتعقبه الذهبي. وانظر: الدر المنثور 7/ 83. (2) انظر: تفسير الطبري 19/ 519 - 521، الدر المنثور 7/ 84. (3) أخرجه الديلمي 2/ 470، من حديث حذيفة، وحكم عليه الألباني بالوضع. انظر: السلسلة الضعيفة 8/ 305، ح 3845.
(2/413)
والصواب إن شاء الله تعالى أن المراد بـ (أزواجهم) أخلَّاؤهم, أعمُّ من أن يكونوا من الإنس أوالجنِّ، فقد قال تعالى في آية أخرى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف: 67 - 70]، والمراد بالأزواج هنا الأخلاَّء, فكذا هناك، وبه تتَّفق غالب الأقوال في الآية، والله أعلم. وقد رُوي عن ابن عباس أن المراد بـ (أزواجهم) نساؤهم (1)، والمراد الكافرات, أي أنه من العام المخصوص أو المراد به الخصوص. والله أعلم. وعلى فرض أن المراد القرناء فقط فيقال [س 37/ب]: الشياطين المعبودون أعمُّ من القرناء، ويقرب منه قوله تعالى: {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 92 - 98]. ولعله إنما لم يكثر هذا الاستعمال لأن غالب الكفار لا يسمُّون الشياطين آلهة، بل ولا يعترفون بأنهم يعبدونها، وإنما ألزمهم الله تعالى ذلك لأنهم أطاعوها الطاعة المخصوصة التي تسمَّى عبادة كما سيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى. 5) الأحبار والرهبان. قال الله تبارك وتعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا _________ (1) انظر: روح المعاني 23/ 80. قال: ورجحه الرماني.
(2/414)
لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]. [س 38/أ] فقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} بيان لبطلان اتخاذهم المتقدم. واتخاذهم المتقدم متناول للأحبار والرهبان والمسيح عليه السلام، فظهر منه أنهم اتخذوهم أيضًا آلهة، وإلا لما كان إبطالًا لاتخاذهم، وظهر منه أنهم لم يقتصروا على اتخاذ المسيح وحده إلهًا، وإلا لما كان إبطالًا لاتخاذهم بطرفيه، والله أعلم. 6) المسيح وأمّه عليهما السلام. في الآية المارَّة قريبًا ذكر المسيح عليه السلام. وقال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116]. وقال عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ ... مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 73 - 75] , والمراد ثالث ثلاثة آلهة بدليل قوله في الرَّدِّ عليهم: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ}، والمراد بالثلاثة: الله عزَّ وجلَّ، وعيسى, وأمه، بدليل قوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ... وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}. 7) فرعون. حكى الله تعالى عنه قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38].
(2/415)
8) أشخاص يُتوهَّم وجودها ولا وجود لها. ولعلَّ من هذا ما في سورة الأعراف: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) ... قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [الأعراف: 65 - 71]. فإنكارهم عليه قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ظاهر في أنهم كانوا يطلقون على معبوداتهم من دون الله تعالى: آلهة، وقوله: {فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا} ظاهر في أنها لا وجود لها، وإنما يوجد منها في الخارج الأسماء. [س 38/ب] وذلك كما لو سئل رجل عن العنقاء فيقول: لا يوجد منها إلا اسمها، أي: إنه اسم بلا مسمًّى، لأن العنقاء اسم لطائر وهميٍّ، أي يتوهَّمه الناس موجودًا ولا وجود له. ومن هذا ــ والله أعلم ــ ما في قوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 84 - 92].
(2/416)
عدّد الله تعالى عليهم الصفات التي هي من موجبات الألوهية ولوازمها، وقرَّرهم أنها خاصّة به، ثم قال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ}، فلو لم يكن المغزى مما تقدَّم نفيَ ألوهية تلك الأشخاص التي يزعم المشركون أنها بنات الله لما ظهرت للكلام مناسبة، والله أعلم. وأكثر آلهة أمم الشرك من هذا القبيل، وسيأتي إيضاح هذا في الكلام على العبادة إن شاء الله تعالى. 9) الملائكة. قال الله تبارك وتعالى في سورة الإسراء: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) ... قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) ... وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ [39/أ] وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) ... قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 39 - 57]. وختم هذه السورة بقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111]. [س 39/ب] فقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} مورده الإطلاق
(2/417)
ولكن تعقيبه بقوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ} يدل أنه لوحظ في ذلك الإطلاق حالُ أهل مكة في عبادتهم الملائكةَ، وكأن قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ} وقع على سبيل التعريض بهم من باب "إياكِ أعني واسمعي يا جارة" (1) , فكأن الخطاب في المعنى لهم, فكأنه قال: ولا تجعلوا يا أهل مكة مع الله إلها آخر، وأنتم تجعلون الملائكة, ولم تكتفوا بذلك حتى جعلتموهم إناثًا، ولم تكتفوا بذلك حتى قلتم بنات الله ــ تعالى الله عن قولهم ــ {أَفَأَصْفَاكُمْ} إلخ، وبهذا يتمُّ الارتباط. إلى أن قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} , وهذا يحتمل وجهين: الأول: أن يكون المراد: لو كان معه آلهة متصفون بالصفة التي يقول المشركون مِنْ كونهم ينتسبون إلى الله تعالى بالبنوَّة، [س 40/أ] {إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}؛ لأنهم يكونون مثله سبحانه؛ لأن الولد يشبه أباه سواء كان ذكرًا أو أنثى، فإذا كانوا مثله كانوا أكفاءه في القدرة فتسمو نفوسهم إلى منازعته الأمر؛ لأن كلًّا منهم له إرادة مستقلة، والإرادات تختلف. ولا يرد على هذا الوجه أنَّ جَعْلَ {كَمَا يَقُولُونَ} قيدًا يوهم أنه لو كان هناك آلهة لكن ليسوا كما يقولون لما ابتغوا؛ فيُعارِضُ قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}. _________ (1) مثل يضرب لمن يتكلم بكلام ويريد به شيئًا غيره، وأول مَن قاله سهل بن مالك الفزاري. مجمع الأمثال 1/ 49.
(2/418)
لأنا نقول: غاية ما ذُكر أن يكون مفهومًا، والمفهوم لا يُعتدُّ به إذا قام الدليل على عدم إرادته، وزَعْمُ المشركين أنَّ الأنثى ليست كذلك فِعْلًا باطلٌ. أو يقال: لعلَّه أريد بقوله {آلِهَةٌ} مطلقُ معبودين، لا معبودون بحق، فكأنه قال: لو كان معه معبودون بالصفة التي يقول المشركون. وعليه فيكون المفهوم: أنه لو كان معه معبودون لكن بغير تلك الصفة لما لَزِمَ أن يبتغوا إلى ذي العرش سبيلًا. وهذا صحيح؛ فإن [س 40/ب] الشياطين قد عُبِدت والأصنامَ وبعضَ بني آدم بل والملائكةَ أيضًا، وكلُّهم ليسوا بالصفة التي زعمها المشركون، ولم يلزم من وجودهم أن يبتغوا إلى ذي العرش سبيلًا؛ لأنهم كلهم عبيده مقهورون لإرادته. الوجه الثاني: أن يكون المعنى: لو كان معه آلهة كما يقولون ذلك أي كما يزعمون. [س 41/أ] وقوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} يريد ــ والله أعلم ــ وأولئك الذين تجعلونهم آلهة يسبحونه، فهم عبيده لا بناته ولا شركاؤه. ثم قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ ... } واضح في أنه أراد الملائكة. وأما قول: إنهم طائفة من الجن على ما مرّ فضعيف جدًّا؛ لأن الكلام على العموم، وليس كلُّ الشياطين أسلموا، وأباه أكثر المفسرين، وإن صحّ عن بعض الصحابة (1)، وكفى بالسياق دليلًا على بطلانه، وما رُوي عن _________ (1) منهم ابن مسعود. أخرجه البخاري في كتاب التفسير، سورة الإسراء، باب {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} الآية، 6/ 85 - 86، ح 4713 - 4715، وانظر تفسير الطبري 14/ 627 وما بعدها.
(2/419)
الصحابيِّ يحتمل التأويل. واعلم أن المشركين كانوا يقولون ما معناه: بنات الله التي (1) يقال لهن: "ملائكة" آلهتنا يشفعن لنا, كما سيَبِينُ لك من تدبُّر هذه الآيات، وسنوضحه إن شاء الله تعالى في الكلام على العبادة. وتلك مقالة متضمِّنة خمسة أشياء: الأول: اتخاذ إله من دون الله. الثاني: نسبة الولد إلى الله. الثالث: جعل ذلك الولد أنثى. الرابع: زَعْمُ أن الملائكة إناث. الخامس: دعوى أن لهم شفعاء يشفعون لهم. ولهذا قلَّما ينعى الله تعالى عليهم شيئًا من هذه الأمور إلا أردفه بالباقي. فتحقَّقْ هذا المعنى تتضحْ لك الآيات على وجهٍ يتَّفق مع بلاغة القرآن إن شاء الله تعالى. [س 41/ب] وقال تعالى في سورة مريم: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) ... يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) ... إِنْ _________ (1) كذا في الأصل.
(2/420)
كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 81 - 93]. فقوله تعالى: {لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} يدلُّ أنه لم يرد الشياطين؛ لأن المشركين لم يقصدوا تأليه الشياطين حتى يقال: أمَّلوا فيهم أن يكونوا لهم عزًّا، وإنما أمَّلوا العزّ من الملائكة، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، و {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، [س 42/أ] ويوضح هذا ما جاء في هذا السياق من قوله تعالى: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ}. وقوله تعالى: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)} ظاهر في أنه لم يرد الأصنام، وإنما حكى الله تعالى هذا عن الملائكة في قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ ... فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} [الفرقان: 17 - 19]. فكفرُهم بعبادتهم هو تبرُّؤهم منها، أي: إنهم لم يأمروا بها ولم يرضوها وكانوا غافلين عنها، كما سيأتي في فصل العبادة إن شاء الله. وكونهم {عَلَيْهِمْ ضِدًّا} هو شهادتهم عليهم بأنهم كانوا يعبدون الجن وغير ذلك كما يأتي إن شاء الله. [س 43/أ] وقال تعالى في سورة الأنبياء: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)
(2/421)
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ [س 43/ب] أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) ... أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [16 - 43]. وتفسير هذه الآيات ظاهر لمن تدبَّره وراعى قوانين البلاغة، [س 44/أ] ولكن نُنَبِّه على أمرين: الأول: قوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا}، عن ابن عباس وغيره تفسيره بالولد، وعن آخرين تفسيره بالمرأة، وفسره آخرون باللعب (1)، ورُجِّح الأول لموافقته ما بعده، ورُجِّح الثالث لموافقته ما قبله. والصواب ــ والله أعلم ــ أنه لوحظ فيه ما يعمُّ الأمرين ليناسب ما قبله وما بعده. الأمر الثاني: قوله {مِنَ الْأَرْضِ}، اختلف في متعلَّقه، قيل: إنه متعلق _________ (1) انظر: تفسير الطبري 16/ 238 وما بعدها، تفسير البغوي 5/ 313، زاد المسير 5/ 343 - 344.
(2/422)
بـ {اتَّخَذُوا}، وقيل: بمحذوف صفة لآلهة. وعلى هذين فالمراد الأصنام. والأشبه بالسياق أنه متعلِّقٌ ــ والله أعلم ــ بـ {يُنْشِرُونَ}. والمعنى: أم اتخذوا آلهة هم ينشرون من الأرض. وعليه يكون المراد ــ والله أعلم ــ الملائكة، وهو الموافق للسياق. [س 45/أ] وقال تعالى في سورة الفرقان: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) ... وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [1 - 3، 17 - 19]. فقوله تعالى: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} يشعر بأن المراد بقوله بعد ذلك: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} إلخ، الملائكة؛ لأنه اجتمع فيهم ادّعاء الولديّة والشرك، وبذلك حَسُن التمهيد، ويؤيّد ذلك قوله: {لَا يَخْلُقُونَ} فجاء بضمير العقلاء، ثم جاء في السياق قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ} إلخ، وهو ظاهر جدًّا أن المراد بـ (مَا يَعْبُدُونَ) الملائكة، وقد تقدّم نظير ذلك. والله [أعلم].
(2/423)
[س 45/ب] وقال جلّ ثناؤه: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [يس: 74 - 75]. وهذا كما مرَّ في قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) ... وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)} [مريم: 81 - 82]. ومعنى {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} ــ والله أعلم ــ: والملائكة جند محضرون للمشركين، أي لعذابهم وتنفيذ أمر الله فيهم. وقال تعالى في سورة الزخرف: [س 46/أ] {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)} إلى أن قال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)} [س 46/ب] إلى أن قال: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ}. ثم بيَّن الله تعالى حال عيسى وبراءته مما تقوَّلوا عليه، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ
(2/424)
هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)} [47/أ] إلى أن قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} إلى أن قال: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (1). فتدبَّرْ أنت معاني هذه الآيات، وسأنبهك على بعض ذلك فأقول: قد قدَّمت لك أن مقالة المشركين تتضمَّن خمسة أمورٍ (2)، فارجع إلى ذلك. وستعلم إن شاء الله تعالى أن مرادهم بآلهتهم في قولهم: {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} الملائكة، وأن مرادهم بذلك الاحتجاج على مقالتهم في الملائكة أنهم ولد الله تعالى، وأنهم آلهة، كأنهم سمعوا بعض الآيات التي ذكر فيها شأن عيسى ممَّا أنزله الله تعالى على سبيل ضرب المثل لهم [مقصودًا به بيان أن الله تعالى لا ندَّ ولا شريك له] (3)، وأن مَن قال ذلك مبطل كافر مخذول, فتعاموا عن المقصود وأخذوا من الآية مجرَّد أن عيسى قد قيل فيه: إنه ابن الله، وإله من دون الله، فكأنهم قالوا: إن عيسى قد قيل فيه: إنه ابن الله، وعبدته أمَّة عظيمة كما اعترفْتَ أنت يا محمد بذلك، وتلوته فيما تدَّعي أنه كتاب _________ (1) سورة الزخرف 15، 22، 45، 57 - 60، 64 - 67، 81، 86. [المؤلف] (2) هي كما سبق قريبًا للمؤلِّف: "الأول: اتخاذ إله من دون الله. الثاني: نسبة الولد إلى الله. الثالث: جَعْل ذلك الولد أنثى. الرابع: زَعْمُ أن الملائكة إناث. الخامس: دعوى أن لهم شفعاء يشفعون لهم". (3) ما بين المعقوفتين لم تظهر بعض كلماته بسبب بللٍ أصاب نسخة الأصل.
(2/425)
منزل عليك, هذا وهو مولود من امرأة، وكان متصفًا بالصفات البشرية, ونحن إنما قلنا مثل هذه المقالة في الملائكة المقرَّبين الذي ليسوا بشرًا ولا وُلدوا من بشريّات، فهم خير من عيسى، فهم أولى بالولديَّة والألوهيَّة منه، فكيف تنكر علينا؟ ثمَّ وجدتُ ابن جرير قال في تفسيره: حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ} قال: عبد هؤلاء عيسى ونحن نعبد الملائكة (1). وهو عين ما فهمتُه، ولله الحمد. [س 47/ب] فقال الله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}، والمعنى في ذلك ــ والله أعلم ــ أنه لا متمسَّك لهم فيما أُنزل عليك في عيسى؛ لأن الذي أُنزل عليك في شأنه من كونه قيل فيه: إنه ولد الله، وإلهٌ من دونه, ليس فيه إثبات ذلك ولا تصديقه حتى يكون لهم في ذلك متمسَّك. مع أنَّ الآيات ظاهرة صريحة في إبطال ذلك، ولم تُسَقْ [إلا مساق الإبطال] (2)، وإنما [ضربه] مثلًا [قصد به] بطلان [ذلك]، وهم يعلمون ذلك، وإنما يتعامون. {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} أي لم يحملهم على ذلك القول إلا إرادة الجدل، وإرادة الجدل لذاته مذمومة غاية الذم؛ لأن صاحبها لا يبالي أهو محقٌّ أم مبطل، وإنما غرضه أن يغلب. {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} والخصيم هو كثير الخصومة، لا يبالي أكانت _________ (1) تفسير الطبري 20/ 627. (2) ما بين المعقوفتين هنا وما بعده في الفقرة لم يظهر بسبب بلل في أعلى الصفحة.
(2/426)
بحق أم بباطل، بشبهة أم بغير شبهة، وهذا هو الذي يقال له: العناد والمكابرة والشَّغَب. وإنما بينت هذا لأن من الناس مَن يتوهَّم أن في الآية دليلًا على قوة شبهتهم وعلى مهارتهم في استخراج الشبه. ثم بيَّن الله تعالى حال عيسى وأنه مُبَرَّأ مما قال النصارى فيه، ثم وَهَّن الله تعالى الأولويّة التي جعلوها للملائكة بقوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ}، أي ــ والله أعلم ــ لولَّدْنا منكم ملائكة يخلفون في الأرض، وعليه كثير من المفسرين (1)، أي فالملائكة مخلوقون كما أن عيسى [س 48/أ] وسائر البشر مخلوقون، فليس فيهم صفة تتعالى عن أن تكون مخلوقة. وقوله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} أريد به ــ والله أعلم ــ أن يعُمَّ شأن النصارى في محبتهم عيسى عليه السلام وسائر المشركين في محبتهم الملائكة عليهم السلام، وفي ذلك إيذان أن عيسى عليه السلام يكون يوم القيامة عدوًّا لعابديه. وقد ذكر الله تعالى بعض ذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ... } , وفي قوله: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} , وغيرها مما تقدَّم بعضه. ويشبه ما هنا قولُه تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ... } [النساء: 172]. _________ (1) انظر: الكشاف 3/ 424، مفاتيح الغيب 27/ 223، أنوار التنزيل 652، البحر المحيط 8/ 25، الدر المصون 9/ 602 - 603.
(2/427)
[س 48/ب] فقوله: {وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} ردٌّ على قريش. والله أعلم. [س 49/أ] وقال تعالى (1): {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)}، إلى أن ذكر الله تعالى قصة هود عليه السلام وقومه وقولهم: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا .. }، إلى أن قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}. [س 49/ب] فالإتيان بـ (مَن) الخاصة غالبًا بما يعقل والصيغ الخاصة بهم أيضًا ظاهرٌ في أنه لم يُرِد الأصنامَ. ويوضحه قوله تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} , وهو من قبيل قوله تعالى: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}، وغيره مما تقدم. ويوضحه ما جاء في السياق من قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً}، ولا يأبى هذا قولُه تعالى: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}؛ لأن الملائكة عليهم السلام غافلون عن دعاء المشركين إياهم؛ لأنهم عليهم _________ (1) في سورة الأحقاف: 4 - 6، 22، 27 - 28. [المؤلف]
(2/428)
السلام لا يعلمون الغيب، وإذا علموا شيئًا من ذلك فإنما يعلمونه بإطلاع الله تعالى إياهم، وذلك مع كونه إطلاعًا جزئيًّا مجملًا لا يخرجهم عن صدق كونهم غافلين عن دعاء المشركين، لأنهم إنما اطَّلعوا على بعض ذلك بواسطة إطلاع الله تعالى إيّاهم. [س 50/أ] وذلك كالمعدوم في هذا المقام، أعني: مقام اتخاذهم آلهة؛ فإن مَنْ لا يعلم دعاء داعيه إلَّا أن يُعلمه غيرُه، لم يخرج عن الغفلة التي تَنَزَّه عنها الإله. على أنه يمكن أن تكون الغفلة هنا مجازًا عن عدم الإجابة كالنسيان في قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ ...... }. ومثل هذا ــ والله أعلم ــ قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس: 28 - 29]، وتفسيرها بالأصنام أو الشياطين خلاف الظاهر. وإنما هي مثل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) .... }. [س 50/ب] فإن قلت: كيف هذا والملائكة يقولون: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}، وهذا ينافي أن يكون الملائكة غافلين. فالجواب: أنه لا منافاة لما تقدَّم قريبًا في معنى (غافلين)، وإنما شهدوا عليهم بإطلاع الله تعالى إياهم وبإقرار المشركين أنفسهم أنهم كانوا يعبدون الملائكة، وسيأتي تقرير أن كلّ من عبد من دون الله شيئًا فقد عبد الشيطان.
(2/429)
وجاء في الصحيح أن أمة محمد تشهد لنوح عليه السلام بالبلاغ (1)، وهم إنما يشهدون لإعلام الله تعالى لهم في كتابه وعلى لسان نبيهم صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. ثم إن ذكره عزَّ وجلَّ في السياق قصة هود عليه السلام وفيها ذكر الآلهة، وقوله تعالى بعد ذلك: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى ... فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)} ظاهر في أن حال المشركين المذكور قبل ذلك هو من هذا القبيل. أي: إنهم اتخذوا الملائكة آلهة، ولهذا ذكرنا هذه الآيات في هذا الفصل. وقد تقدَّم تفسير القربان (2) وأنه اسم لمن يتقرب إلى الملِك يستوي فيه الواحد والجمع، والله أعلم. [س 56/أ] فصل وأما العبادة فأخبر الله عزَّ وجلَّ أنها وقعت: 1) للأصنام. وعامَّة ما جاء صريحًا في ذلك عن قوم الخليل عليه السلام. فمن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 35 - 36]. _________ (1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، سورة البقرة، باب {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، 6/ 21، ح 4487، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه. (2) انظر: ص 338.
(2/430)
وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 41 - 42]. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 51 - 53]. وجاء بعد قصة تكسيره عليه السلام الأصنام قوله: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66 - 67]. [س 56/ب] وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء: 69 - 71]. ومثله قوله عزَّ وجلَّ: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 16 - 17]. وقوله عزَّ وجلَّ: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) ... قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 83 - 96]. فهذه المواضع المارَّة كلها في قوم إبراهيم عليه السلام، وبقي غيرها فيهم أيضًا. فأما غيرهم فلم أر ذلك صريحًا، وقد يكون منه ما جاء عن قوم نوحٍ كما
(2/431)
تقدَّم في فصل التأليه، وكذا ما في قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]. [س 57/أ] فإن لفظ {هَؤُلَاءِ} إشارةٌ للقريب, وهذا يأبى أن يكون المراد الملائكة أو الأشخاص الخيالية أو الشياطين، وأيضًا فقوله: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} يأبى أن يكون المراد الشياطين؛ لما قدمنا أن المشركين لم يكونوا يقصدون عبادة الشياطين، وأيضًا لم يكونوا يعتقدون في الشياطين الخير ولا القرب من الله عزَّ وجلَّ. ولكن ربما يجاب عن الأول بأن الملائكة أو الأشخاص الخيالية قريب بالنظر إلى الذكر؛ لتقدُّم قوله: {وَيَعْبُدُونَ} فكأنهم كانوا عند عبادة الملائكة أو الأشخاص الخيالية يذكرون بعض أسمائهم أو صفاتهم ثم يقولون {هَؤُلَاءِ} يعنون المذكورين. ويؤيده ما يأتي تقريره في تفصيل شرك العرب أنهم لم يكونوا يزعمون للأصنام نفعًا ولا ضرًّا، وإنما يعبدونها على أنها تماثيل أو رموز لأشخاص عُلويِّين يرجون شفاعتهم (1)، وأما نفي الضر والنفع فالمراد ــ والله أعلم ــ نفي ملكه، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ... مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ _________ (1) انظر ص 590 - 591، 627 فما بعدها.
(2/432)
كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ... } [المائدة: 73 - 77] , وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق الكلام في الآية في بحث اعتقاد المشركين في الأصنام (1). [س 58/أ] 2) الشمس. قال تعالى حكاية عن الهدهد: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى أن قال تعالى: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل: 24 - 43]. وقال تعالى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [السجدة: 37]. [س 58/ب] 3) الشياطين. من ذلك ما مرَّ في الفصل قبله في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]. وقوله عزَّ وجلَّ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 22 - 23]. وقوله جلَّ شأنه: {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ _________ (1) انظر ص 500 - 501.
(2/433)
يَنْتَصِرُونَ} [الشعراء: 92 - 93]. وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40 - 41]. وقال تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60]. قد مرَّ (1) في تفسير أهل العلم للفظ العبادة قول الزجاج: تأويل {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} يعني: أطاعهُ فيما سوَّل له وأغواه، قال: والطاغوت هو الشيطان، وهو قول ابن عباس والحسن, وقد قرئ: (وعابد الشيطان)، والشيطان طاغوت بلا شك، ولعل من ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]. ولكن الأقرب أن المراد بالطاغوت في قوله تعالى: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} قول من قال: هم كهنتهم وكلُّ من أطاعوه من دون الله، ويدخل الشيطان في ذلك؛ ليوافق الآيات الواردة في تربيبهم الأحبار وتأليههم وعبادتهم، وقد ذُكِرَت في مواضعها. وقد جاء تسمية الكاهن طاغوتًا في قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ}. _________ (1) ص 402.
(2/434)
وقد روى ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح كما في أسباب النزول عن ابن عباس قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهنًا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المسلمين، فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا} إلى قوله: {إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 60 - 62] (1). وهنالك روايات أخرى قريب من هذا المعنى. [س 59/أ] وقال تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام: {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم: 44]. وقال تعالى إخبارًا بما يخاطب به يوم القيامة: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} [يس: 60 - 62]. وقال تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 161 - 163]. [س 59/ب] 4) الأحبار والرهبان. قال الله تبارك وتعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]. وقد _________ (1) انظر: تفسير ابن أبي حاتم 3/ 991، ح 5547, والمعجم الكبير 11/ 373، ح 12045, ولباب النقول 64, والدرّ المنثور 2/ 580.
(2/435)
مرَّت الآية في فصل الألوهيَّة، وإيضاحُ دلالتها هنا يُعلم مما هنالك. ومنه قوله تعالى: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}، وقد مرّ الكلام عليها آنفًا. وقال الله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ ... وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا} [آل عمران: 64]. 5) المسيح وأمه عليهما السلام. في الآية المارَّة قريبًا ذِكْرُ المسيح عليه السلام، وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ... مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: 73 - 76]. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ... } [المائدة: 116 - 117]. [س 60/أ] 6) أشخاص متخيَّلة. ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ... قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ... قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا
(2/436)
أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [الأعراف: 65 - 71]. وقال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ... } [يوسف: 39 - 40]. [س 60/ب] 7) الملائكة. من ذلك ما مرّ في فصل الألوهية عن سورة الفرقان، وفيه: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ ... } [الفرقان: 17 - 18]. وفي سورة سبأ: { ... وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)}. واعلم أن المشركين كانوا يزعمون أنهم يعبدون الملائكة، ولكن سيأتي في تحقيق العبادة أنّ لها إطلاقين: تطلق على طاعة مخصوصة، [س 61/أ] وعلى تعظيم مخصوص. فبالنظر إلى الإطلاق الأوَّل لم يكن المشركون يعبدون الملائكة؛ لأن الملائكة لم يأمروهم بذلك، وإنما أمرتهم الشياطين فأطاعوها. وبالنظر إلى الثاني لم يكونوا يعبدون الملائكة أيضًا؛ لأنهم كانوا يعبدون ملائكة هم بنات الله، وليس الملائكة كذلك.
(2/437)
ولما لم يكن هناك ما يَتَوَجَّه التعظيم إليه كان الأولى بأن يتوجه إليه مَنْ أمرهم بذلك، وهم الشياطين، فتنبَّه. ومرَّ في فصل الألوهية عن سورة يونس: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)}. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر: 3 - 4]. [س 61/ب] وقال عزَّ وجلَّ: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 19 - 20]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس: 28 - 29]. وهذا مثل ما تقدَّم في آيتي الفرقان وسبأ. وما اعتُرِضَ به من أن قوله تعالى: {مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} تهديد، وهو لا يناسب مقام الملائكة، غفلة عما يقتضيه المقام؛ فإن المقام يقتضي تأكيد الوحدانية، وأنه لا هَوادة فيه للملائكة ولا غيرهم، وذلك كقوله تعالى
(2/438)
لعيسى عليه السلام: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] فإنه لا يخفى ما في هذا السؤال من صورة التهديد، ولذلك جاء عن السلف أن عيسى عليه السلام يعتريه من خشية الله عزَّ وجلَّ عند السؤال أمر عظيم (1). ومن هذا الباب قوله تعالى في حق الملائكة عليهم السلام: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 29]. وقال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]. وقال تعالى بعد تعداد ثمانية عشر نبيًّا: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 87 - 88]. [س 57/ب] فصل ملخَّص ما تقدم أن الله عزَّ وجلَّ حكى تأليه غيره وعبادة غيره عن أممٍ: 1) قوم نوحٍ عليه السلام, اتَّخذوا الأصنام آلهةً وعبدوها، واتَّخذوا جماعة من الصالحين الذين ماتوا قبلهم آلهةً. _________ (1) ورد عن ميسرة أنه أرعدت مفاصله. وعن الحسن بن صالح أنه زال كل مفصل له من مكانه خيفة. انظر: تفسير الطبري 9/ 134, تفسير ابن أبي حاتم 4/ 1252, ح 7048 - 7049. وانظر أيضًا: الدر المنثور 3/ 238, وروح المعاني 7/ 65 - 66.
(2/439)
2) قوم هودٍ عليه السلام، اتَّخذوا أشخاصًا متوهَّمةً آلهةً وعبدوها. 3) قوم صالحٍ، عبدوا مع الله تعالى غيره. 4) قوم إبراهيم عليه السلام، اتخذوا الأصنام آلهة وعبدوها، وعبدوا الشيطان، وعظَّموا الكواكب كما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى. 5) أهل مصر الذين دعاهم يوسف عليه السلام اتخذوا أشخاصًا متوهمة وعبدوها. 6) فرعون ادّعى أنه إله وأطاعه قومه. 7) القوم الذين أتى عليهم أصحاب موسى اتخذوا أصنامًا وعكفوا عليها وسماها أصحاب موسى آلهة وسألوه أن يجعل لهم إلهًا مثلها. 8) قوم موسى فيما مرَّ. واتخذ بعضهم العجل إلهًا وعبدوه، ثم اتخذوا أحبارهم آلهة وعبدوهم. 9) النصارى اتخذوا عيسى وأمه عليهما السلام إلهين من دون الله تعالى، وعبدوهما, واتخذوا رهبانهم آلهة من دون الله تعالى، وعبدوهم. 10) (1) مشركو العرب اتخذوا الأصنام آلهة وعبدوها. [س 55/ج] وهذا وإن لم أره صريحًا في القرآن فهو معروف في السنة والتاريخ وكتب اللغة أنهم كانوا يسمُّون أصنامهم آلهة ويعبدونها. واتخذوا الملائكة آلهة وعبدوهم. واتخذوا أشخاصًا متخيَّلة زعموا أنها بنات الله ــ تعالى الله عن قولهم ــ اتخذوها آلهة وعبدوها. واتخذوا الشياطين آلهة وعبدوهم. _________ (1) تكرّر هنا الرقم (9) عند الشيخ.
(2/440)
فطريق البحث أن ننظر فيما كان هؤلاء الأقوام يعتقدونه في تلك الأشياء وما كانوا يعظِّمونها به؛ فإذا تبين لنا ذلك علمنا أن ذلك الاعتقاد والتعظيم هو التأليه والعبادة. فأقول: أما قوم نوح عليه السلام ففي "روح المعاني": "أخرج البخاريّ (1) وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح عليه السلام في العرب بعدُ، أمَّا وَدٌّ فكانت [س 55/أ] لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمْدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، وكانت هذه الأسماء أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إليهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ودَرَس العلمُ عُبِدَتْ. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: كان لآدم عليه السلام خمسة بنين: ودّ وسواع ... إلخ، فكانوا عبّادًا، فمات رجل منهم فحزنوا عليه حزنًا شديدًا فجاءهم الشيطان فقال: حزنتم على صاحبكم هذا؟ قالوا: نعم، قال: هل لكم أن أُصوِّر لكم مثله في قبلتكم إذا نظرتم إليه ذكرتموه؟ قالوا: نكره أن تجعل لنا في قبلتنا شيئًا نصلي إليه (2)، قال: فأجعله في مؤخر المسجد, قالوا: نعم، فصوَّره لهم، حتى مات خمستهم فصوَّر _________ (1) صحيح البخاريِّ، كتاب التفسير، سورة نوحٍ، باب: "ودًّا ولا سواعًا ولا يغوث ويعوق"، 6/ 160، ح 4920. (2) في الأصل: عليه، والتصويب من العظمة 5/ 1590 والدرّ المنثور 8/ 294.
(2/441)
صورهم في مؤخَّر المسجد، فنقصت الأشياء حتى تركوا عبادة الله تعالى وعبدوا هؤلاء, فبعث الله تعالى نوحًا عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله [س 55/ب] وحده وترك عبادتها, فقالوا ما قالوا. وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير أن وَدًّا كان أكبرهم وأبرَّهم، وكانوا كلهم أبناء آدم عليه السلام. وروي أن وَدًّا أوّلُ معبود من دون الله سبحانه وتعالى. أخرج عبد بن حميد عن أبي مطهر قال: ذكروا عند أبي جعفر يزيدَ بن المهلب فقال: أما إنه قتل في أوّل أرضٍ عبد فيها غير الله تعالى. ثم ذكر وَدًّا وقال: كان رجلًا مسلمًا وكان مُحبَّبًا في قومه, فلما مات عسكروا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه, فلما رأى إبليس جزعهم تصوّر في صورة إنسان ثم قال: أرى جزعكم على هذا، فهل لكم أن أصوِّر لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه؟ قالوا: نعم، فصوَّر لهم مثله فوضعوه في ناديهم، فجعلوا يذكرونه به. فلما رأى ما بهم من ذِكْرِه قال: هل لكم أن أجعل لكم في منزل كلِّ رجلٍ منكم تمثالًا مثله، فيكون في بيته فيذكر به؟ فقالوا: نعم، ففعل، فأقبلوا يذكرونه، وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به، وتناسلوا ودرس أمر ذكرهم إياه حتى اتخذوه إلهًا يعبدونه من دون الله، فكان أوَّلُ مَنْ عُبِدَ غيرَ الله تعالى في الأرض وَدًّا" (1). [س 54/أ] أقول: والقرآن يدل أن قوم نوح لم يكونوا ينكرون وجود الله عزَّ وجلَّ. يدلُّ عليه قول الله عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ _________ (1) روح المعاني 29/ 77. وانظر: الدرّ المنثور 8/ 293 - 295.
(2/442)
نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} [هود: 26 - 27]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 23 - 24]. فيظهر أنهم لو كانوا يجحدون الله عزَّ وجلَّ لبدأ بإثبات ذلك أو لأجابوه بجحد الله عزَّ وجلَّ. [س 54/ب] وقولهم: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} إنكار أن يترقى البشر إلى أن يكون رسولًا لله عزَّ وجلَّ. وقولهم: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} ظاهرٌ في اعترافِهم بالله عزَّ وجلَّ وبالملائكة، وزَعْمِ (1) أن الله عزَّ وجلَّ لو أراد الإرسال لما أرسل إلا مَلَكًا؛ لأن البشر لا يتأهَّل لمرتبة الرسالة في زعمهم، فيبعد أن ينكروا أهلية البشر للرسالة وهم يعتقدون في بعض البشر الربوبية المشتملة على الاستقلال بالخلق والرزق والتدبير، فكيف بالجمادات؟ بل كانوا يرون أن الرسالة أَعْلَى وأجلُّ من الألوهية, فيرون الألوهية مستحقة لبعض البشر أو الجماد ويستبعدون أو يحيلون تأهُّلَ البشر للرسالة, فاعرف هذا واحفظه وتدبَّرْ واعتبر. وقال عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ [س 53/أ] اعْبُدُوا _________ (1) معطوفٌ على "اعترافِهم".
(2/443)
اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ... أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 59 - 63]. فتدبّر أيها القارئ. ومن السهل أن تقول: إن القوم لم يكونوا يجرون على مقتضى المعقول إما جهلًا وإما عنادا، ولكن ليس من السهل وأنت بريء من هذين الأمرين: الجهل والعناد، أن يطمئنَّ قلبك إلى صحة هذا القول. وأزيدك أنه لو كان الأمر كما قلت لقال لهم نوح عليه السلام: كيف تستعظمون الرسالة على البشر وأنتم تعتقدون فيهم أو في ما هو أخسُّ منهم من الجمادات ما لا تنكرون أنه أعلى منها بمراحل، ولكانت هذه من أبين الحجج وأوضحها. فإن قلت: لعلَّه قال لهم. قلتُ لك: هذا بعيد؛ إذ لو كان كذلك لقصّها الله تعالى علينا؛ لأنه عزَّ وجلَّ إنما قصَّ القصص في القرآن لبيان ما فيها من حججه وحجج أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، وغير ذلك. فإن قلت: فإن الألوهية أعظم من الرسالة فلماذا لم تبن الحجة عليها؟ قلت: قد مرَّ أن الظاهر أنهم كانوا يرون الألوهية دون الرسالة، وأنت إذا تدبرت تبيّن لك الأمر إن شاء الله تعالى. [س 53/ب] والحاصل أنهم كانوا يعظِّمون الأصنام تقربًا إلى الله عزَّ وجلَّ لاعتقاد أن الله تعالى أمر بتعظيمها بناء على أنهم رأوا أسلافهم يعظمونها تقربًا إلى الله عزَّ وجلَّ، وزعمهم أن أسلافهم لم يكونوا ليفعلوا ذلك إلا عن بينة، وإما على سبيل الاحترام للأشخاص الذين جُعِلت الأصنام تماثيل لهم اعتقادًا بأن احترامَ تماثيلهم احترامٌ لهم، واحترامهم يرضيهم
(2/444)
فيقربوا (1) المحترم إلى الله عزَّ وجلَّ، لقربهم منه لما عرفوا به من الصلاح والخير. وهذا الاحتمال الثاني هو الأقرب والله أعلم, وهو الذي علّل به أهل العلم عبادة الأصنام كما يأتي نقل كلامهم. بقي أن في القصة أن الآباء الأولين هم الذين اتخذوا التماثيل ليتذكروا بها أولئك الموتى، وأن الذين عبدوها إنما هم الخلف، فماذا كان يصنع بها الأولون؟ أقول: في القصة أنهم إنما صنعوها لتذكر إيمانهم إذا رأوا التمثال ذكروا صاحبه وما كان عليه من الخير والصلاح وكثرة العبادة, فيبعثهم تذكره على النشاط في عبادة الله عزَّ وجلَّ, كما أن أحدنا ينظر في سيرة أحد صالحينا كسلمان الفارسي وأبي الدرداء وكالربيع بن خثيم وداود الطائي فينشِّطه ذلك لفعل الخير. وقد يُقال: إنَّ هذا في نفسه خيرٌ ومعونةٌ على الخير [س 52/أ] إذا صرفنا النظر عن التصوير واتِّخاذ الصور، ولا سيَّما وقد تحرَّزوا عن جَعْل التمثال في القبلة، ولكن الشيطان لا يحب الخير ولا يعين عليه، وإنما قصد أن يكون ذلك ذريعة لإضلال خَلَفِهم حيث رقَّاهم من مجرَّد التذكُّر إلى التبرك والعبادة. ونصب التماثيل للذكرى أمر معروف الآن عند الغربيّين ومقلِّديهم من الشرقيّين، فلا تكاد تدخل بيتًا إلا وجدتَ فيه تماثيل أسلاف أهل ذلك البيت، بل لم [يزل ذلك عادة لغير المسلمين قديمًا، ولكنه في] (2) هذا العصر أكثر. _________ (1) كذا في الأصل. (2) ما بين المعقوفتين لم تظهر أكثر كلماته، واستعنت في تقديره بكلام مضروب عليه في نهاية يمين الصفحة.
(2/445)
هذا ما يتعلق باعتقاد قوم نوح، وخلاصته: أنهم اعتقدوا أن تعظيم تماثيل الرجال الصالحين دين يقرِّب إلى الله عزَّ وجلَّ، فأما ما كانوا يعملون فلم أجد فيه نصًّا. والله أعلم. وأما قوم هود وقوم صالح فقد قال الله عزَّ وجلَّ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت: 13 - 14]، فقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} ظاهره أنهم كانوا يعبدون الله في الجملة ولكنهم يشركون به، وابتداء الرسل بهذا يدلّ أن المرسَل إليهم لم يكونوا يجحدون وجود الله عزَّ وجلَّ، بل قولهم: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} [س 51/ب] نصٌّ في أنهم كانوا يعترفون بربوبية الله عزَّ وجلَّ وأنه لا رب غيره، ويعترفون بوجود الملائكة عليهم السلام، وفي القصص التاريخية ما يوافق هذا المعنى. وقال الله تعالى: {قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 53 - 54]. ففي هذا أنهم كانوا يعتقدون في آلهتهم القدرة على الضرر ويلحق به النفع، وهو بقرينة ما تقدَّم يدلُّ أنهم يعتقدون لتلك الآلهة قدرة منحها الله عزَّ وجلَّ إيَّاها، فهي تتصرَّف فيها بحسب إرادتها كما يتصرَّف الإنسان بالقدرة التي مُنِحها بحسب إرادته (1). _________ (1) هنا كلمات نحو ثلاثة أسطر مضروب عليها، هي: " الوجه الثاني: أنهم لا يعتقدون لها قدرة على النفع والضر مباشرة، ولكن إذا حقرها أحدٌ سألت الله عزَّ وجلَّ أن يعتريه بسوء فيعتريه به، فنسب الاعتراء إليها مجازًا، والأول هو الظاهر" وبقي سطر آخر لم يضرب عليه، وهو: "والثاني هو المتعيِّن لما مرّ من قولهم: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} ". ولا وجه لبقائه مع حذف الوجه الثاني كلِّه.
(2/446)
وقد ذكر الله تعالى في سورة الأحقاف خبر عاد ثم قال: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} [الأحقاف: 27 - 28]. وذكر المفسِّرون أنَّ المراد بمن حولهم عاد وثمود وغيرهم (1) (2)، وهو صحيح؛ فإن بلاد عاد وثمود من أرض العرب. وقد سبق في المقدِّمة أن القربان هنا من يتقرَّب بتعظيمه إلى الله عزَّ وجلَّ. وقد تقدَّم أنَّ آلهة عاد كانت أشياء خياليَّة، فأمَّا كيفيَّة عبادتهم فلم أجد فيه شيئًا. وكذلك آلهة ثمود وعبادتهم لم أجد بيانها. وقد يقال: قد دلّ قولهم: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} (3) أنهم كانوا يعتقدون بوجود الملائكة، فهلَّا يقال: إن تلك الأشخاص التي كانوا يؤلِّهونها ملائكة؟ قلت: قد تقدَّم أنَّ الآية قوله تعالى: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا} تدلُّ أنَّ تلك الأشخاص لا وجود لها، فكأنهم كانوا ينعتونها _________ (1) انظر: تفسير الطبري 21/ 161، وزاد المسير 7/ 386. (2) في نهاية الصفحة سطر أصابه بلل، وبقي منه: ويظهر أنه ... الناس والآلهة في القدرة. (3) سورة المؤمنون: 24.
(2/447)
بنعوت لا [تنطبق] على الملائكة كما نعتت قريش آلهتها بأنهم بنات الله [تعالى الله عن ذلك] , ولعلَّهم كانوا يزعمون الأنبياء عليهم السلام بتلك الصفة التي تخيَّلوها كما هو شأن قريش، وكذلك المصريُّون القدماء على ما يأتي. (1) /وجاء في الآثار أنهم كان لهم أصنام، فإذا صحَّ هذا فإنَّ تلك الأصنام كانوا يتخذونها تماثيل لتلك الأشخاص، كما هو حال جميع المشركين، كما مرَّ في قوم نوح، وكما يأتي في غيرهم. ويدلُّ عليه هنا أن الله عزَّ وجلَّ أخبر عن مجادلة هودٍ لقومه في الأشخاص المتخيّلة أعني قوله: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}، ولم يذكر شأن الأصنام لأنها إنما كانت تبعًا لتلك الأشخاص، والله أعلم. خلاصة اعتقادهم: يعتقدون وجود أشخاص علوية ينعتونها بنعوت لا تنطبق على الملائكة, ويقولون: إنها تتصرَّف في الكون بقدرة ممنوحة لها من الله عزَّ وجلَّ، ولا تفعل إلا ما يرضاه، وإنها تقرِّب إليه، ويظهر أنهم كانوا يَدْعون تلك الأشخاص ويتضرَّعون إليها ويسألون منها حوائجهم، ويعتقدون أن ذلك من الدِّين الذي يرضاه الله عزَّ وجلَّ، وإذا صحَّ ما جاء في الآثار فيضاف إلى هذا أنهم كانوا يعتقدون أن تعظيم الأصنام يقرِّب إلى أولئك الأشخاص الذين هي تماثيل لهم، وأنَّ ذلك من الدِّين الذي يقرِّب إلى الله عزَّ وجلَّ. _________ (1) ورقة محبوكة بدبُّوس صغير, ولعلَّ ذلك من المؤلف, ولها ظهر ووجه.
(2/448)
وأمَّا قوم إبراهيم عليه السلام فأمرهم مشتبه، [س 50/ب] قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) ... فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 74 - 82]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 69 - 78]. وقال عَّز مِنْ قائل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ
(2/449)
مِنَ الشَّاهِدِينَ ... قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ} [الأنبياء: 51 - 66]. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26 - 27]. وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ... وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... } [مريم: 41 - 49]. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ... } [البقرة: 258]. فالذي يظهر من مجموع هذه الآيات أن إبراهيم عليه السلام أنكر أولًا على أبيه عبادة الأصنام، ولم يرها أهلًا أن تعبد لأنها لا تضر ولا تنفع، ثم طلب الرب الذي يستحق العبادة فوقع بصره على الكوكب ثم بدا له نقصه, فانتقل إلى القمر فبدا له نقصه، فانتقل إلى الشمس فبدا له نقصها، فانتقل إلى رب العالمين ثم أخذ يحاج قومه. واختلف أهل العلم في قوله: {هَذَا رَبِّي}، أهو على ظاهره، وكان هذا
(2/450)
منه حال صباه وقبل أن يؤتى النبوة، وهذا رأي كثير من السلف، واختاره ابن جرير (1)؟ أم كان على سبيل الاستدراج لقومه وأضمر في نفسه الاستفهام: أو هذا ربي في زعمكم؟ وكلٌّ من القولين له مرجِّحات ليس هذا موضع بسطها. والمقصود هنا هل في ذلك دلالة على أن قومه كانوا يعبدون الكوكب؟ فإن من المفسرين من قال ذلك، قال: وإنما كانت عبادتهم الأصنام (2). [س 86/أ] فالقوم ألَّهوا الأصنام وعبدوها ودعوها وجعلوها شركاء. وهل كانوا يعتقدون فيها ذواتها قدرة على النفع والضُّر؟ الظاهر عدم ذلك، فإنه لما سألهم الخليل عليه السلام: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 72 - 74]، وظاهرٌ أنهم لو كانوا يعتقدون أنها تضرُّ وتنفع لما فرُّوا إلى الاعتصام بالتقليد، بل ربما يُفهم من تعبيرهم بـ (بل) تسليم أنها لا تسمع ولا تضر ولا تنفع. ويؤيد ذلك أن إبراهيم عليه السلام لما كسرها وهم غائبون، وأُخبروا بأنه سُمِع يذكرها من قبلُ, لم يَستبعدوا قدرته على تكسيرها. ولما قال لهم: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ ... لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63 - 65]. ثم لمّا قال لهم: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ} عدلوا عن الجواب إلى أن: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ}. [س 86/ب] ويشهد لذلك أيضًا أن إبراهيم عليه السلام قال لأبيه: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42]، فلم يجبه أبوه بشيء كأن يقول: بل يغني عني، بل {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46]. إذن فلماذا كانوا يعبدونها؟ يظهر من جوابهم بقولهم: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 74]، مع ما تقدَّم أنهم إنما كانوا يعبدونها محافظة على عادتهم وعادة آبائهم أنفةً مِنْ أن يتركوا ذلك، كما روي عن بعض مشركي قريش أنهم تيقَّنوا بطلان ما هم عليه، ولكن شقَّ عليهم أن يعترفوا بأنهم كانوا هم وآباؤهم على ضلال. ويؤيِّده أن إبراهيم عليه السلام لما كسر الأصنام: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا _________ (1) تفسيره 9/ 361. (2) كذا في الأصل، وتعليق المؤلِّف على الآيات من قوله: "فالذي يظهر" إلى هذا الموضع عليه خطٌّ معترض، ولم يتبيَّنْ لي هل قصد به الضرب على الكلام أو لم يقصد به.
(2/451)
يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء: 63 - 64]، ففي هذا اعتراف بأن الأصنام لا تضرُّ ولا تنفع، وإنما نُكسوا على رؤوسهم لمجرد المحافظة على العادة فقط. ولو كانوا يعبدونها على أنها تماثيل لأشياء أُخر لانتقلوا في الموضعين
(2/452)
ــ والله أعلم ــ إلى تلك الأشياء، بأن يقولوا: نحن لا نعبدها لذاتها وإنما نعبدها تعظيمًا للأشخاص التي هي تماثيل لهم مثلًا. وأيضًا، لو كانوا يعبدون التماثيل بهذا القصد لكانوا يعبدون تلك الأشخاص التي هي تماثيل لهم، وإذًا لجاء في محاجَّة إبراهيم عليه السلام ذِكْرُ ذلك كما جاء عن نبينا عليه الصلاة والسلام وغيره من الأنبياء، بحيث إن غالب ما جاء عن نبينا عليه الصلاة والسلام في القرآن لا يكاد يوجد فيه ذكر الأصنام، وإنما كلامه مع المشركين في الملائكة والبنات الخياليَّات. وقد قيل: إن قوم إبراهيم عليه السلام كانوا يعبدون التماثيل على أنها تماثيل أو تذاكر أو رموز [س 87/ب] للكواكب، واحتُجَّ له بقصَّة إبراهيم عليه السلام في الكواكب وقوله: {هَذَا رَبِّي} وتعقيبه ذلك بقوله: {يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78]، فدلَّ بذلك أن شركهم له علاقة بالكواكب. وقال بعد ذلك: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا}، فدلَّ هذا أنهم كانوا يخافون شركاءهم ويخوِّفون إبراهيم عليه السلام إيَّاهم، ويَبْعد هذا أو يَمْتَنِع في حق الأصنام؛ لأنهم كما تقدَّم اعترفوا أو كادوا بأنها لا تضرُّ ولا تنفع. ويشهد لهذا أنه قد عُرِف الآن من دين البابِليِّين القدماء وهم الصابئة ـ وإلى أهل بابل بُعث إبراهيم عليه السلام ــ أنهم كانوا يؤلِّهون زُحَل والمشتري والمِرِّيخ والزُّهَرة وعُطارِد، وعندهم أن لزُحَل صورةً تُصَوَّر برأس إنسان وجناحي طائر، وللمِرِّيخ صورة أسد برأس إنسان وجناحي طائر، وقِس [س 89/أ] الباقي، ثمَّ يمثلون لها تماثيل بتلك الصور التي تخيَّلوها أي:
(2/453)
بدن حيوان برأس إنسان وجناحي طائر، ويعبدون تلك التماثيل (1). ويؤيد أن [هذا] (2) كان اعتقادَ قوم إبراهيم عليه السلام ما قد أخبر الله عزَّ وجلَّ عنه في قوله: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)}، فإنه أوهمهم بنظره في النجوم أنه عرف من دلالتها أنه سيَسْقَم، فقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} أراد به: إني سأسقم. وقرينة ذلك نظرُه في النجوم، وإيهامه المذكور. وصدق عليه السلام في قوله: إنه سيَسْقَم؛ فإنَّ كلَّ إنسان مُعرَّضٌ لسقَم. وما ورد من [أنه] من المعاريض هو ــ والله أعلم ــ نظره في النجوم؛ فإنه أوهمهم أنه عرف من دلالتها أنه سَيَسْقَم، وهو لم يعرف (منها) ذلك، وإنما [أوهمهم]، فهذا الإيهام هو الذي من المعاريض، والله أعلم. وقد دلّت الآية على أن النظر في النجوم والاستدلال بها على ما سيحدث كان معروفًا عند القوم، ومن هنا ــ والله أعلم ــ ألَّهوها. وعلى هذا الوجه فلماذا كانوا يؤلِّهون الكواكب؟ جاء في التفسير المذكور (3) أيضًا أنهم كانوا يصفون المشتري بالرِّب العظيم، والملك، وملِك الآلهة، والإله المجيد، والقاضي، والقديم، وقاضي الآلهة، ورب الحروب، وملِك السماء، ورب الأبديَّة العظيم، ورب الكائنات، ورئيس الآلهة، وإله الآلهة. _________ (1) انظر: تفسير الجواهر 10/ 206. [المؤلف] (2) ما بين المعقوفين لم يظهر في الأصل بسبب بلل أصاب طرف الورقة (3) تفسير الجواهر 10/ 206. [المؤلف]
(2/454)
والمرِّيخ بإله الحرب والصيد، الرجل العظيم، البطل القدير، ملك الحرب، المهلك، جبَّار الآلهة. [س 89/ب] ومن صفاتهم للزُّهَرة ملكة الآلهة والآلهات. ولعطارد ربّ الأرباب الذي لا مثيل له. واستدلّ صاحب التفسير بهذه الأوصاف المتناقضة الظاهر بأنهم كانوا يصفونها على سبيل المبالغة في المدح. أقول: وعلى كلِّ حال فوصفهم لتلك الكواكب صريحٌ في أنهم يعتقدون لها التدبير والتصرُّف، وبقي علينا أن نفهم بأيِّ كيفية تدبِّر وتتصرَّف في زعمهم؟ جاء في الملل والنحل (1) للشهرستاني: ["فإن عندهم [أي الصابئة] أن الإبداع الخاصَّ بالرَّبّ تعالى هو اختراع الروحانيات ثم تفويض أمور العالم العلوي إليها والفعل الخاصّ بالروحانيات هو تحريك الهياكل (الكواكب) ثم تفويض العالم السفلي إليها, كمن يبني معْمَلة وينصب أركانًا للعمل من الفاعل والمادَّة والصورة وتفويض العمل إلى التلاميذ" (2)]. وفي شرح المقاصد: [" (قال: وزعموا أن لكل فلك روحًا) يشير إلى ما ذهب إليه أصحاب الطِّلَّسمات (3) من أن لكل فلك روحًا كليًّا يدبر أمره وتتشعب منه أرواح كثيرة, مثلًا للعرش ــ أعني الفلك الأعظم ــ روح يدبر _________ (1) بيض المؤلف للنقلين فأضفتهما من الكتابين اللذين ذكرهما. (2) الملل والنحل 2/ 128. (3) سبق التعريف بها في ص 334.
(2/455)
أمره في جميع ما في جوفه يسمى بالنفس الكلية والروح الأعظم وتتشعب منه أرواح كثيرة متعلقة بأجزاء العرش وأطرافه, كما أن النفس الناطقة تدبر أمر بدن الإنسان ولها قوة طبيعية وحيوانية ونفسانية بحسب كل عضو، وعلى هذا يُحمل قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38]، وقوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر: 75]، وهكذا سائر الأفلاك. وأثبتوا لكلِّ درجة روحًا يظهر أثره عند حلول الشمس تلك الدرجة, وكذا لكل يوم من الأيام والساعات والبحار والجبال والمفاوز والعمران وأنواع النباتات والحيوانات وغير ذلك, على ما ورد في لسان الشرع من ملَك الأرزاق وملَك الجبال وملَك البحار وملَك الأمطار وملَك الموت ونحو ذلك. وبالجملة فكما ثبت لكل من الأبدان البشرية نفس مدبرة فقد أثبتوا لكل نوع من الأنواع بل لكل صنف روحًا يدبّره يُسمَّى بالطباع التام لذلك النوع تحفظه من الآفات والمخافات وتظهر أثره في النوع ظهور أثر النفس الإنسانية في الشخص "] (1). أقول: الظاهر أنهم كانوا يعتقدون حياتها كما هو رأي الفلاسفة أنَّ للكواكب أنفسًا، وهل أرواح الكواكب عندهم من الملائكة أم غيرهم؟ الله أعلم. وعلى كلِّ حال فهم يعتقدون أن تلك الأرواح مقرَّبة عند الله عزَّ وجلَّ، _________ (1) 2/ 54.
(2/456)
ومقرِّبة إليه، فكانوا يعبدون الكواكب على أنها أحياء تنفعهم فيما يدخل تحت تدبيرها، وتشفع لهم إلى الله عزَّ وجلَّ في غير ذلك. قال صاحب التفسير المذكور (1): "وقصارى الأمر وحماداه (2) أن هؤلاء الصابئين كانوا أوَّلًا يعبدون الله، ولله ملائكة موكَّلون بالكواكب، فالله هو المعبود، والملائكة يعملون [س 90/أ] بأمره، والكواكب كأنها أجسام تلك الأرواح، فعبادة الملك يتقربون بها إلى الله، والكوكب حجابه أو جسمه أو نحو ذلك، فهو رمزه، والتماثيل في الأرض مذكِّرات بالكواكب إذا غابت عنهم؛ إذًا العبادة (3) في نظرهم كلها راجعات إلى الله كما قال تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] , فإذا عبدوا زُحَلًا (4) أو المشتري فقد أرادوا بذلك أنهما ملكان ثم اعتبروا الكواكب ثم التماثيل. اهـ. وبَعَثَه على هذا القول أن القوم كانوا يعترفون بالله عزَّ وجلَّ، واسمه عندهم: (إل) (5). وقد جاء عن السلف أن (إيل) بالسريانيَّة ــ وهي لغة القوم ــ اسمٌ لله عزَّ وجلَّ. وجاء عن ابن عبَّاسٍ أن معناه: الرحمن (6). وربما يساعد هذا قولُ [س 90/ب] إبراهيم عليه السلام لأبيه: {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ _________ (1) 10/ 208. [المؤلف] (2) قصارى الأمر وحماداه: غايته. انظر: القاموس المحيط: 355. (3) كذا في الأصل، ونقله المؤلف في موضع آخر بلفظ الجمع، وهو الصواب. (4) كذا في الأصل. (5) ذكره [طنطاوي جوهري] في [تفسيره الجواهر، ج 10] ص 205. [المؤلف] (6) انظر ما سيأتي ص 678.
(2/457)
لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 44 - 45]. وعلى ذلك سمي الملائكة بجبرائيل وميكائيل وإسرافيل، وسمي يعقوب بإسرائيل. وجاء في التوراة والإنجيل بأيدي أهل الكتاب الآن أن إيل اسم الله تعالى ... (1). والمقصود أن قوم إبراهيم كانوا يعترفون بـ (إيل) وأنه أكبر من بقية آلهتهم على الحقيقة، وينزهونه عما اعتقدوه في بقيَّة آلهتهم من اتِّخاذ الزوجة. وأثبت الله وأنبياؤه أن إيل اسم الله، فثبت بذلك أن قوم إبراهيم كانوا يعترفون بالله عزَّ وجلَّ ويعظِّمونه في الجملة. وقد يرشدنا إلى ذلك محاورات إبراهيم عليه السلام معهم؛ فإنه ينازعهم في عبادة غير الله دون وجود الله عزَّ وجلَّ وربوبيته، وذلك ظاهر في أن وجوده تعالى وربوبيَّته كان مسلَّمًا عندهم. فمن ذلك الآيتان المارَّتان آنفًا، وأظهر من هذا قولُ إبراهيم عليه السلام: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77]، والأصل في الاستثناء الاتصال, و (ما) وإن كانت أكثر ما تجيء لما لا يعقل فكثيرًا ما تجيء لما يعقل. [س 91/أ] _________ (1) كلمة لم تظهر في الأصل، يمكن أن تُقرأ: حي قيوم
(2/458)
وعليه، فالآية ظاهرة في أنهم كانوا يعبدون الله عزَّ وجلَّ في الجملة. ومما يؤيِّد ما قاله صاحب تفسير الجواهر في ترتيب اعتقاد البابليِّين وأن ذلك كان اعتقادهم حتى بُعث إليهم إبراهيم عليه السلام ما حكاه الله عزَّ وجلَّ عن إبراهيم عليه السلام في قضية الكوكب والقمر والشمس، فلنذكرها هنا مع تفسيرٍ يوافق ظاهرها، وهو مطابق لما ذكره صاحب التفسير. قال الله عزَّ وجلَّ في سورة الأنعام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} أي ــ والله أعلم ــ في أوَّل أمره قبل أن يصرِّح بإبطال دين قومه {لِأَبِيهِ} أي ــ والله أعلم ــ بحضرة قومه كما نص عليه في سورة الشعراء {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً}، أجمل القصَّة هنا وفصَّلها في سورة الشعراء حيث قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 69 - 74]، فكأنه والله [أعلم] قال لهم أوَّلًا ما ذُكر هنا. [س 91/ب] أي: لأن نوره في حِسِّنا أعظم من نور الكوكب، ونفعه المحسوس أعظم، {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: 77]، كأنه يقول: إن القمر بقوَّة نوره وظهور نفعه قد يغرُّ الناظر ويشغله عن استحضار كونه يأفل أيضًا، فلا يستحضر ذلك إلا عند رؤيته آفلًا. وفي كلامه هنا غاية اللطف والحكمة حيث ارتفع عن قوله في الكوكب: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} إلى ذكر الرب الحقيقي وأنه وحده الهادي، ومَن لم يهده فهو ضال، وفي ذلك أن عبادة القمر ضلال، ويلزم من ذلك أن عبادة الكوكب أشدُّ ضلالًا، ولكن لم يواجه قومه بقوله: أنتم ضالُّون؛ رغبةً في بقائهم
(2/459)
معه حتى النهاية. {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} أي من القمر حجمًا ونورًا ونفعًا. [س 93/أ] وحينئذ كأن لسان حال قومه يقول: إن الشمس أيضًا ستأفل، فهب أن هذا الفتى بهره نور القمر فغفل عن كونه سيأفل، فهل غفل عن أفول الشمس أيضًا؟ إن ضياء الشمس وبهجتها ونفعها لمما يبهر الناظر، ولكن يبعد ألَّا يستحضر ما تقدَّم له في القمر. وأعجب من ذلك أنه قبل هذا اليوم كان يرى الكواكب والقمر تطلع وتأفل, فكيف غفل كلَّ الغفلة عن أفولها حتى رآه هذا اليوم؟ لا بدَّ من أحد أمرين: الأول: أن يكون حريصًا على عبادة الكواكب مستغرقًا في عظمتها، فشغله ذلك عن استحضار كون الكوكب يأفل [س 93/ب] حتى رآه الآن، وكذلك القمر. الأمر الثاني: أن يكون مستدرجًا لنا وفي نفسه شيء آخر. وعلى كلا الحالين فنراه يبحث بحث خالٍ عن الغرض، بل بحث حريص على عبادة الكواكب حتى إنه يغفل أو يتغافل عما يقتضي بطلان عبادتها حتى يقع ذلك بالفعل. لننتظر النتيجة. {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ} قد رأيتم بطلان عبادة الكواكب وما هو أعظم منها وأنفع وهو القمر، وها أنتم رأيتم بطلان عبادة ما هو أشدُّ عِظَمًا ونفعًا
(2/460)
وهو الشمس، ولم يبق إلَّا الله عزَّ وجلَّ الذي هو بالاتفاق ربُّ كل شيء وخالق كل شيء ومدبِّر كلِّ شيء وبيده الخلق والأمر والنفع والضَّر, [س 94/أ] {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. وأنت ترى أنه لم يجر ذكرٌ للملائكة، فكأنهم كانوا يرون أنَّ الكواكب أجسام حقيقيَّة للملائكة، أو أن الملائكة لا عمل لهم إلا تدبير الكواكب، وبواسطتها يدبِّرون غيرها. وعلى كلٍّ، فببطلان عبادة الكواكب بطلت عبادة الملائكة. والله أعلم. {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} أي ــ والله أعلم ــ في توحيد الله وفي الكواكب فقالوا له مثلًا: إن الله عزَّ وجلَّ يرضى لخلقه عبادة الكواكب ويسخط عليهم إذا تركوها، وإن الكواكب نفسها تنتقم ممن لا يعبدها. {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ}، أي ــ والله أعلم ــ وهو سبحانه وتعالى الذي هداني لتوحيده فلا معنى [س 94/ب] لمحاجَّتكم. {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}، أي ــ والله أعلم ــ أنها مربوبات لله عزَّ وجلَّ باعترافكم، فهي إذًا عاجزة عن ضَرِّي، وإنما يمكن أن تضرني إذا أذن الله تعالى لها، فإذًا الأمر كله لله وحده، وهو الذي هداني لتوحيده، فكيف يأذن لها بضرِّي عقوبةً على طاعتي له؟ {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ}. ثم عطف عليهم فقال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ}، مع ما قدَّمت, {وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ}، وأنتم معترفون بأنه ربُّ كلِّ شيء وخالق كل
(2/461)
شيء، والقائم على كل شيء، أشركتم به {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا}، أي ــ والله أعلم ــ أن كونه تعالى منفردًا بالربوبية الحقيقية وغيرها من الصفات التي لا تنكرونها يقتضي أن لا يعبد غيره، فإن توهَّم متوهم أنه يجوز عبادة غيره فإنه لا يتوهَّم أن يجوز ذلك إلا بعد إذنه عزَّ وجلَّ، وهو لم يأذن لكم بعبادة الكواكب؛ لأن إذنه تعالى إنما يُعلم بأن ينزل سلطانًا، [س 95/أ] وهو لم ينزل سلطانًا بالإذن بعبادة ما تعبدون. {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}، أي ــ والله أعلم ــ بشرك؛ لأن الكلام إنما هو فيه، وبذلك ورد التفسير عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (1)، {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}. وأمَّا ما قصَّه الله عزَّ وجلَّ في الذي حاجَّ إبراهيم في ربه، فقول إبراهيم عليه السلام: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}، يحتمل وجهين: إمَّا أن يكون جوابًا عن سؤال المحاجِّ له مَنْ ربُّك؟ كما حكى الله عزَّ وجلَّ عن موسى وفرعون: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}. وإمَّا أن يكون المحاجُّ هدَّد إبراهيم عليه السلام بالقتل إن لم يطعه، ووَعده _________ (1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير, سورة الأنعام, باب: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} , 6/ 56 - 57, ح 4629. ومسلم في كتاب الإيمان, باب صدق الإيمان وإخلاصه, 1/ 80, ح 124, من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(2/462)
بالاستحياء إن أطاعه, فأجابه الخليل عليه السلام بذلك، أي إنك لستَ إلَّا عبدًا من عباد الله، إن شاء حياتي لم تقدر على قتلي (1)، وإن شاء قتلي لم تقدر على استحيائي, فالأمر لله عزَّ وجلَّ وحده. واستعمال الإحياء بمعنى التسبُّب في بقاء الحياة معروف. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]. ويَرِدُ على الأول أنه يقتضي أن المحاجّ زعم أنه هو الذي يحيي ويميت في العالم كلِّه، وهذا باطل. أوَّلًا: لما تقدَّم أن قومه كانوا يعترفون بالله في الجملة، ثمَّ يؤلِّهون الكواكب ويعظِّمون الأصنام. وثانيًا: لو كان ملكهم يدَّعي الربوبية العظمى لما تركهم يعبدون غيره. [وإنما أقصى] ما رُوي أنه دعا برجلٍ فقتله، ودعا برجلٍ يستحقُّ القتلَ فأطلقه. وهذا ليس فيه أدنى شبهة تدلُّ على أن الذي يفعل ذلك هو الذي يحيي ويميت في العالم. ورمي الرجل بالبلادة إلى هذه الدرجة يكاد يكون بلادة. والله أعلم. وثالثًا: لو كان الأمر كذلك ما كان هناك داعٍ للخليل عليه السلام إلى _________ (1) اخترتُ هذه العبارة لأن القرآن استعمل نحوها في هذا المعنى، كقوله تعالى: " ... "، ولأنها لا تخالف مذهبًا من مذاهب المسلمين في القدر. [المؤلِّف]. ولعلَّ الآية التي بيَّض لها المؤلِّف هي قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]؛ لأن فيها ذكرَ القتل مقابل الإحياء في حقِّ المخلوق.
(2/463)
[الانتقال] إلى الشمس، [بل] يقول له: هذا النوع من [أنواع] الإحياء والإماتة، [فمن] الذي يخلق الأجنَّة في بطون أمهاتهم ويحييهم ويميت أكثر الناس على فُرُشهم بدون قتل؟ فإن قال: أنا. قال له: فكم أحييت هذه الساعة في مدينتك هذه، وكم أَمَتَّ؟ فإنه يستحيل أن تفعل ذلك وأنت لا تعلم. [فإن قيل: لعلَّ الرجل إنما أراد دعوى أنه يحيي ويميت في الجملة لا مطلقًا] (1)؟ قلت: يردُّه: أوَّلًا: أنه لو أراد ذلك لكان حق العبارة أن يقول: وأنا أحيي وأميت، بواو العطف. وثانيًا: لو أراد ذلك لانحصر جواب الخليل، والله أعلم، في أمرين: الأول: أن يبيِّن له أن هذا القتل والإطلاق الواقع على يديه هو من فعل الله عزَّ وجلَّ بقضائه وقدره، فيرجع هذا إلى المعنى الثاني فليكن هو المراد من أوَّل مرَّة. الأمر الثاني: أن يبين الخليل أنه إن كان في هذا شبهة فكيف بإحياء الأجنَّة وإماتة الناس على فُرُشهم، والمحاجُّ لا يدَّعي ذلك كما مرَّ، وإن ادَّعاه أجابه بما مرَّ. وثالثًا: لو كان المحاجُّ إنما ادَّعى الإحياء والإماتة في الجملة, فإما أن يريد بذلك إثبات الربوبية العامَّة له، فهذا ما لا يُعقل، وإما أن يريد إثبات ربوبية خاصة فالاحتجاج عليه بعجزه عن الإتيان بالشمس من مغربها لا _________ (1) ما بين المعقوفين مضروب عليه في الأصل، والسياق يقتضي إثباته فيما يظهر.
(2/464)
يفيد؛ لأنه يقول: أنا لم أدَّع أنِّي ربُّ الشمس. فالوجه الثاني (1) ــ والله أعلم ــ هو الصواب. وعليه، فالنزاع إنما وقع في الإحياء والإماتة اللَّذين يتَسَبَّب فيهما المحاجُّ من القتل أو الاستحياء، فالخليل عليه السلام يقول ما تقدَّم أو نحوه، والمحاجُّ يقول: بل أفعل ذلك بمشيئتي وإرادتي وقدرتي ولا يحول بيني وبين ذلك أحد, كأنه كان يزعم أن الله عزَّ وجلَّ مهمِل للناس في الحال يعملون ما يشاؤون, أو أنه فوَّض إليه التدبير الذي تصل إليه قدرته ولا يعترض في شيء منه، وهذا أقرب؛ لأن الله تعالى علَّل محاجَّته لإبراهيم بقوله: {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}. وكثير من المغترِّين يحتجُّون على رضوان الله عنهم وحبه لهم ومكانتهم عنده بأنه أنعم عليهم في الدنيا، وسيأتي إيضاح ذلك في الكلام على فرعون (2)، فكأن المحاجَّ يزعم أن الله تعالى فوَّض إليه التدبير الذي تصل إليه قدرته ولا يعارضه في شيء بدليل أن آتاه الملك. والله أعلم. فانحصر الجواب ــ والله أعلم ــ في أمرين: الأول: أن يقول الخليل عليه السلام: فأحضِرْ إنسانًا تريد قتله فاقتله، وآخر تريد أن تطلقه فأطلقه، فيحضرهما، ويأمر بقتل الأول، فيحُول الله عزَّ وجلَّ بينه وبينه، ويأمر بإطلاق الآخر فيميته الله عزَّ وجلَّ. _________ (1) يعني: كون المحاجِّ هدَّد إبراهيم عليه السلام بالقتل إن لم يطعه، ووَعده بالاستحياء إن أطاعه. (2) انظر: ص 703 - 704.
(2/465)
[س 96/أ] الأمر الثاني: أن يعدل به إلى أمرٍ آخر لا تصله يد المحاجِّ. ولا شك أن الأوَّل كان مقتضى الظاهر؛ ولكن عدل عنه الخليل عليه السلام لأنه أوَّلًا: يحتاج إلى إظهار خارق، وإظهار الخارق إنما يلجأ إليه الأنبياء عليهم السلام في الأمور التي لا يتيسَّر الاحتجاج عليها ببرهان عقليٍّ؛ كإثبات رسالتهم. والحِكم في ذلك كثيرة: منها: أن الدليل العقليَّ أبعد عن الشبه التي يحتمل إثارتها على الخارق. ومنها: أن في استنباط الحجَّة أجرًا عظيمًا للأنبياء، وليس كذلك الخارق؛ لأنه ليس من سعيهم. ومنها: أن في المحاجَّة بالعقل [إرشادًا] لأتباع الأنبياء ممن [لا] تظهر على أيديهم الخوارق [أنَّ عدم] ذلك [أولى] (1). وقد أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] قال: أقتل مَن شئت، وأستحيي مَن شئت أدَعه حيًّا فلا أقتله. وأخرج نحوه عن قتادة والربيع والسُّدِّي وابن جريج وابن إسحاق. وأخرج عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: أنا أحيي وأميت، إن شئتُ قتلتك فأمتُّك، وإن شئت استحييتُك (2). _________ (1) ما بين المعقوفات لم تظهر أكثرحروفه، وكلمة (أولى) تقدير منِّي، ويظهر أن بعض الكلمات بعد ذلك لم تظهر بسبب آثار الرطوبة، والله أعلم. وفي ص 639: "ومنها: أن في المحاجة بالحجج العادية إرشادًا لأتباع الأنبياء ممن لا يظهر على يده الخارق". (2) تفسير ابن جرير 4/ 571 - 576.
(2/466)
(وهذه) الآثار صريحة بأن الرَّجل لم يدَّع الإحياء والإماتة المختصَّين بالله عزَّ وجلَّ. فإن قيل: سلَّمنا أنه إنما ادَّعى هذا النوع من الإحياء والإماتة, ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون النزاع إنما وقع في ذلك، بل الظاهر أنه أراد: كما أنَّ الله يحيي ويميت فأنا أحيي وأميت أيضًا في الجملة، ومقصوده بذلك ادِّعاء أنه مساوٍ لله تعالى في الجملة. وثانيًا: الغالب أنَّ الله عزَّ وجلَّ إذا أظهر الخارق لقومٍ ولم يؤمنوا عقّبه بالعذاب، ولم يكن الخليل عليه السلام يريد تعجيل العذاب رجاء أن تفيد المطاولة إيمانَ القوم أو بعضِهم، أو يخرجَ من أصلابهم مَنْ يؤمن. ثالثًا: يحتمل أن الخليل عليه السلام لم يكن حينئذٍ قد نُبِّئ، والله أعلم، وإنما محاجَّته مع قومه ومع هذا المحاجِّ بإيمانه الذي وصل إليه بتوفيق الله عزَّ وجلَّ له، [س 96/ب] وهدايته إيَّاه من طريق عقله ونظره. وربما يشهد لهذا قول قومه لما كسر الأصنام: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}، والفتى: الشابُّ، وقد اشتهر أنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يبعث نبيًّا إلا بعد الأربعين (1). رابعًا: لو اختار الأمر الأول ربما يلجأ المحاجُّ إلى العناد فيقول: أنا الآن لا أريد قتل أحد ولا إطلاق أحد، ويكفيني أنِّي طول عمري فعلت ذلك مرارًا ولم يَعُقْني عائق، ولو قال هذا لم يتبين لقومه عناده، بخلاف قصَّة الشمس؛ فإن قومه يعرفون عجزه عن التصرُّف فيها. فلو قال: أنا لا أريد _________ (1) ورد في ذلك حديث: "ما من نبيٍّ نبِّئ إلا بعد الأربعين". قال ابن الجوزي: موضوع، نقله السخاوي في المقاصد الحسنة 373، والسندروسي في الكشف الإلهي عن شديد الضعف والموضوع والواهي 2/ 668.
(2/467)
الإتيان بها من المغرب لما أفاده ذلك عندهم، بل هو ــ والله أعلم ــ لا يدَّعي ذلك، وإنما ألزمه إيَّاه الخليل عليه السلام. بقي علينا أن نبيِّن دلالة عجزه عن الإتيان بالشمس من مغربها على عجزه عن قتل إنسانٍ أو إطلاقه بدون قضاء الله تبارك وتعالى، فأستعين الله وأستهديه وأقول: إن العاقل إذا تفكَّر في خلق الله عزَّ وجلَّ الشمس جارية بمصالح عباده, وأنشأ بها التغيُّرات الجويَّة والأرضيَّة التي لها دخل عظيم في حياة الحيوان وطعامه وشرابه وتنفُّسه. وغير ذلك ممَّا لا يحصى، وبعض ذلك يعرفه الناس جميعًا، ومَن كان له إلمام بعلم الطبيعة كانت معرفته بذلك أوسع، وقد كان لقوم إبراهيم معرفة بأحوال الكواكب؛ لأنهم كانوا يعبدونها، وعبادتها تدعوهم إلى تعرُّف شؤونها، وكذلك كانوا يستدلُّون بأحوالها على الحوادث [كما مرَّ بيانه في] (1) قوله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 88 - 89]. أقول: إذا تفكَّر العاقل في ذلك علم شدَّة عناية الله عزَّ وجلَّ بالخلق، وإذ كانت عنايته عزَّ وجلَّ بخلقه بهذه الدرجة فكيف يَدَعُهم مع ذلك هملًا يعمل بهم بعضُهم ما يشاء في غير مصلحةٍ يعلمها الله عزَّ وجلَّ ويقدرها، وأَبْعَدُ من ذلك أن يدَعَ مَن يوحِّده فريسة لمن يشرك به بدون قضاء منه عزَّ وجلَّ وحكمة يعلمها. فالإنسان الذي يزعم أنه يفعل في الخلق ما يشاء بدون قَدَر _________ (1) ما بين المعقوفين غير واضح في الأصل، والمثبت اجتهادٌ مني. وفي ص 740: "على الحوادث الأرضية, كما يدل عليه قوله عز وجل في إبراهيم: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} أي: أوهمهم أنه استدل بأحوال النجوم على أنه سيسقم, وإنما يعني عليه السلام بهذا الخبر أن كل إنسان معرَّض للسقم, والله أعلم".
(2/468)
من الله عزَّ وجلَّ ولا قضاءٍ كأنه ينكر [س 97/ب] وجود الشمس وجريانها بمصالح العباد، أو يزعم أنه هو الذي يجريها، فأمَّا الأول فلا سبيل إليه، فلم يبق إلا زَعْم أنه هو الذي يجريها. وعلى هذا، فإنما بُهِت الذي كفر لقيام الحجة على عجزه عن قتل أحدٍ أو إطلاق أحدٍ بغير قضاء الله عزَّ وجلَّ وقَدَره، لا لأنه أعني الذي كفر عاجزٌ عن الإتيان بالشمس من المغرب، فإنه لم يدَّع ذلك, والله أعلم. وهناك معانٍ أُخر حُمِلت عليها القصَّة لا يطمئن القلب إلى شيء منها. والله أعلم. وقد رُوي أن المحاجَّة كانت قُبيل إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار؛ فإن صحَّ فيكون الله عزَّ وجلَّ جعل في ذلك جوابًا فعليًّا قريبًا لإبطال شبهة الذي كفر، والله أعلم. بقي أن قول إبراهيم عليه السلام للأصنام: {أَلَا تَأْكُلُونَ} يدلُّ أنَّ القوم كانوا يضعون عندها الأطعمة، فعلامَ يدلُّ ذلك؟ أقول: يظهر أنهم كانوا يَعُدُّون ذلك نوعًا من عبادتها مع علمهم أنها لا تأكل، وإنما يأكل ذلك الطعام [س 98/أ] سَدَنتها، ومثل هذا جارٍ إلى الآن عند بعض أمم الشرك، وبعض المسلمين يفعلون مثل ذلك عند القبور يجيئون بالسمن والبيض وغير ذلك ويضعونها عند القبر وهم يعلمون أن ذلك إنما يأخذه خَدَمة القبر وينتفعون به. فخلاصة ما تقدَّم أن قوم إبراهيم عليه السلام لم يكونوا يعتقدون في الأصنام نفسها (1) نفعًا ولا ضرًّا، وإنما عبدوها على أنها تماثيل للكواكب. _________ (1) كذا في الأصل.
(2/469)
ويعتقدون في الكواكب أن فيها أرواحًا عُلويَّة تدبِّرها وتدبِّر الكون بواسطتها, وأن تلك الأرواح من خلق الله عزَّ وجلَّ وفي ملكه، ولكنه فوَّض إليها التدبير، فهي تتصرف بإرادتها فتنفع مَن يتقرَّب إليها وتضرُّ مَن ينهى عن التقرُّب إليها, كما يرون أن الإنسان كذلك بحسب ما عنده من الاستطاعة [س 98/ب] كما علمته من قصة المحاجِّ. فأما اعتقادهم في الشيطان فلم يظهر شيء يخالف اعتقاد الناس. وقول الخليل عليه السَّلام: {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} إنما يدلُّ على أنهم عبدوا الشيطان، وعبادة الشيطان سيأتي تحقيقها في فصلٍ مستقلٍّ، إن شاء الله تعالى (1). وأهمُّها: طاعته فيما يسوِّل به للإنسان من شرع دينٍ لم يأذن به الله أو طاعة مَن يشرع ذلك. أما أعمالهم فالذي دلَّ عليه القرآن أنهم كانوا يعكفون للأصنام، حيث قالوا: {نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}، وقال إبراهيم: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}، ويقرِّبون لها الأطعمة كما تقدَّم آنفًا، ويدعونها على ما يظهر من قوله تعالى في سورة مريم حكاية عن خليله عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، والآيات التي قبلها في شأن الأصنام, [س 99/أ] وقد يحتمل أن المراد بـ {مَا تَدْعُونَ} الكواكب، واعتزالُه إيَّاها مستلزم اعتزاله الأصنام؛ إذ ليست إلا تماثيل للكواكب ووسيلة إليها. _________ (1) انظر ص 725.
(2/470)
وقال تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}، وهذه الآية كالظَّاهرة في أنهم كانوا يدعون الأصنام أنفسها. وعليه، فكأنهم كانوا في الأصل يريدون بدعائها دعاء الكواكب، وإنما يوجهون الخطاب في الصورة إليها تخيُّلًا أنها هي الكواكب أنفسها، أو أرواحها؛ ليكون ذلك أدعى إلى الخشوع وقوَّة الهمَّة وصِدْق التَّوجُّه. وأما زعم أن الشياطين تدخل الأصنام وتخاطبهم فيردُّه قولهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65]. وهذا المعنى موجود في ديانة الهنود؛ فإنهم عند حضورهم عند الأصنام يبالغون في تخيُّل أنها هي الأرواح التي جعلت تماثيل لها حتى يقال: [إنّ] بعضهم ربما ظهر له أن الصنم قد تحوَّل إنسانًا حيًّا بشكل الروح التي جُعل تمثالًا لها، وجهلتهم يعتقدون أنه ذلك الروح حقيقة قد حلَّ في الصنم. وأظنُّ هذا من وصايا المرتاضين منهم، يوهمون العامَّة أن الروح الذي جُعِل الصنم تمثالًا له قد يحلُّ في [الأصنام]، فيرى أن الصنم قد صار شخصًا حيًّا يتكلَّم ويتحرَّك، إلى غير ذلك. ومقصودهم بهذا حمل العامَّة على قوَّة التخيُّل وحصرالذِّكر؛ فإن ذلك أساس رياضتهم. والله أعلم. وقد دلَّ التاريخ والآثار الموجودة ببابل أنهم كانوا يمدحون الكواكب ويسألون منها. والله أعلم.
(2/471)
[س 99/ب] ولما سألهم إبراهيم سؤال مسترشد، وذلك قبل أن يظهر خلافه لهم كما تقدَّم في ذكر الكوكب والشمس والقمر, أجابوه بما يفيد أنهم لا يعتقدون أنها تسمع أو تنفع أو تضرُّ، وإنما وجدوا آباءهم كذلك يفعلون. ويحتمل أن يكونوا قد جهلوا ما حمل أسلافهم على توجيه الدعاء في الصورة إلى الأصنام على ما تقدَّم، أو لم يجهلوه ولكن كانوا مرتابين في فائدته، أو لعلهم ذكروا ذلك فانتقل بهم الخليل إلى الكواكب كما تقدَّم، وطُوِيَ ذلك في بعض الآيات، فالله أعلم. [س 62/أ] فصل وقد بقيت ألفاظ أُخر نسبها الله عزَّ وجلَّ إلى المشركين في حقِّ من اتخذوه من دون الله تبارك وتعالى، وهي بمعنى التأليه والعبادة. منها: الدعاء واتخاذهم شركاء وأربابًا وأندادًا. وقبل ذكر مواضعها من الآيات التي ذُكرت فيها نبين أنها بمعنى التأليه والعبادة، فأقول: أما الدعاء فالأصل على ما قاله أهل اللغة: النداء، وفرَّق بينهما الراغب (1) بأن الغالب في النداء هو ما يكون معه حرف النداء، والدعاء بخلافه. وفي هذا الفرق نظر، فقد سمى الله تعالى الأذان نداء، فقال تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 58] , وقال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ} [الجمعة: 9]، ومواضع كثيرة في القرآن جاء فيها لفظ النداء مفسَّرًا بكلام ليس فيه _________ (1) في المفردات 315.
(2/472)
حرف نداء. ونُقل عن مجاهد في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} أنهما بمعنىً واحد (1). قال المفسرون (2): وسوَّغ العطف تغايُر اللفظين، يعنون ــ والله أعلم ــ مع إرادة الدلالة على التكرار, أي أن المنعوق به لا يسمع إلَّا الدُّعاء المتكرِّر، وذلك إيضاح لعدم الفهم؛ إذ الذي من شأنه أن يفهم قد لا يفهم مقصود النداء إذا لم يتكرَّر لغفلةٍ كان فيها أو نحو ذلك، فأما إذا تكرَّر فإنه يفهم المنعوق به ما لم يكن مجرَّدَه أي الفهم (3). وقريب من هذا ما جاء في الحديث (4) أن رجلًا (5) سأل النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من يَبَرُّ؟ ، فقال: أمَّك، ثم أمَّك، ثم أمَّك، ثم أباك. أراد: كرِّر برَّ أمِّك ثلاثًا، ثم برَّ أباك واحدةً. يعني ــ والله أعلم ــ بالغ في برِّ أمِّك أعظم من برِّأبيك وقدِّمها عليه في ذلك. ولهذا لما جعلوا قول الشاعر (6): _________ (1) لعله يعني ما ورد عنه أنه قال: "كمثل البهيمة تسمع النعيق ولا تعقل". أخرجه ابن جرير 3/ 45. (2) انظر: حاشية الجمل على تفسير الجلالين، المسماة: الفتوحات الإلهية، 1/ 138. (3) أي جُرِّد عنه الفهم. (4) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، بابٌ في برِّ الوالدين، 4/ 336، ح 5139. والترمذيّ في كتاب البرِّ والصلة، باب ما جاء في برِّ الوالدين، 4/ 309، ح 1897. من حديث بهز بن حكيمٍ عن أبيه عن جدِّه. وقال الترمذيّ: "حديثٌ حسنٌ". (5) في الأصل: رجل. (6) هو عدي بن زيد العبادي، انظر ديوانه ص 183 نشرة محمد جبار المعيبد, وصدر البيت: وقدَّمت الأديم لراهشيه.
(2/473)
وألفى قولها كذبًا ومينًا قبيحًا، واحتُمل أن يجاب بأنه توكيد، قالوا: إنَّ التوكيد لا يحسن في البيت؛ لأن المقصود فيه بيان القصد فقط. وفي جوابهم نظر، ولكن المقصود دفعُ ما قد يُقال: جَعْلُ الدعاء والنداء بمعنًى واحد منافٍ لبلاغة القرآن، والله أعلم. قالوا: واستعمل الدعاء في سؤال الله تعالى, أي طلب الحوائج منه، كما في قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وغير ذلك من الآيات الكثيرة، وهذا صحيح كثير في القرآن والسنة وعلى ألسنة المسلمين، ولم أره استُعمِل في السؤال من غير الله تعالى إلَّا أن يُعَدَّ منه دعاء المشركين آلهتهم كما في قوله تعالى: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] وغيرها, ولكن أهل اللغة وأكثر المفسرين يجعلون هذا معنىً ثالثًا فيقولون: إنَّ الدعاء في هذه الآية بمعنى العبادة، قال بعضهم: وهو من التعبير عن العامِّ بالخاصِّ، فالدعاء الثاني وهو سؤال الخير نوع من العبادة، فاستعمل لفظه في الآية ونحوها في مطلق العبادة، فجَعَله مجازًا على مجاز. وعندي في هذا وقفة؛ إذ مع كونه مجازًا على مجاز فلا دليل عليه، وإنما حملهم عليه أن القرآن [يخاطب بالعبادة كما يخاطب بالدعاء] (1). فأما الدعاء فجاء في حق الأصنام على احتمالٍ فيه، وذلك في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا _________ (1) ما بين المعقوفين غير واضح في الأصل، والمثبت اجتهاد مني.
(2/474)
صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ [س 62/ب] سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [س 63/أ] إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 189 - 202]. وقد اضطربت الآراء في تفسير هذه الآيات، وجاءت الآثار (1) أن المراد بالنفس الواحدة وزوجها آدم وحوَّاء عليهما السَّلام، وأنهما انخدعا لإبليس عليه اللعنة، فسمَّيا ولدهما عبد الحارث، والحارث اسم لإبليس. وطُعن في هذا بأن آدم عليه السلام نبيٌّ مُكَلَّم، والأنبياء عليهم السلام معصومون عن المعاصي فضلًا عن الشرك. [س 63/ب] وأجيب بأن الذي وقع منهما ليس هو شركًا منافيًا للتوحيد، وإنما هو بمجرد التسمية، والأسماء كثيرًا ما يُقطع فيها النظر عن معناها. _________ (1) انظرها في تفسير الطبري 10/ 623 - 628.
(2/475)
وهذا كما ترى، وسياق الآيات ظاهر في أن ما وقع من النفس وزوجها شركٌ منافٍ للتوحيد. فإن كنت ممن يُجوِّز على الأنبياء عليهم السلام قبل النبوة ما يجوز على غيرهم ويقصر وجوب العصمة على ما بعد النبوة فذاك، وإلَّا فقد قيل وقيل. والأقرب ما قيل: إن المراد بالنفس وزوجها الجنس. أي: خلقكم من رجالٍ متَّحدين في الجنس، وجعل من جنس الرجال أزواجهم. وقوله: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} يريد الرَّجل والمرأة، أي الجنس، ولا يلزم أن كل رجل وامرأة هكذا, [س 64/أ] وإنما هو من باب قولهم: الرجل خير من المرأة. والموصول في قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا} [الأعراف: 191]، قالوا: المراد به الأصنام، بدليل ما بعده، وعندي في هذا وقفة؛ لوُجوهٍ: الأول: التعبير عن المدعوِّين بالعبارة الخاصَّة بالعقلاء، والأصنام ليست بعقلاء، وإن كان قد عُبِّر عنها في بعض الآيات بذلك فهو على كلِّ حالٍ خلاف الأصل. الثاني: قوله في موضعين: {وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}، والأحجار لا تتألَّم ولا تتأذَّى حتى تفتقر إلى الانتصار. الثالث: قوله: {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}، والأحجار لا توصف بهذا. [س 64/ب] الرابع: (1) إن أوَّل الآيات على ما جاءت به الآثار وقع _________ (1) هنا كان مكتوبًا "قوله تعالى" دون ذكر جزء من آية, ولعله كان يريد الضرب عليها فنسي.
(2/476)
الإشراك فيها بالشيطان، وأواخر الآيات من قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ} يوافقه، فيترجَّح بهذا أن المراد بالمدعوِّين الشياطين. أمَّا ما في الآيات مما فُهم منه أنه لا يصلح إلا للأصنام فهاك جوابَه: قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} يريد ــ والله أعلم ــ الشياطين؛ فإن الكفار أشركوهم كما مرَّ تقريره، ويأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. وقوله: {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} يريد: الشياطين لا يستطيعون نصرَ المشركين مما يريده الله تعالى بهم، [س 65/أ] ولا نصرَ أنفسهم مما يريده عزَّ وجلَّ بهم. وقوله: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ}، ذهب بعض المفسرين إلى أن الخطاب للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأصحابه، والمعنى: وإن تدعو المشركين. واعتُرِض عليه بأنه لو كان المراد كذلك لكان الوجه أن يقال: سواء عليهم. وهذا الاعتراض غير قوي. وأقوى منه أن (إنْ) لفرض المستبعد، ودُعاء النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأصحابه إلى الهدى واقعٌ كثيرٌ، فلو أريد لكان الوجه أن يعبَّر بـ (إذا)، ولكنَّ القاعدة أغلبيّة. وكثيرًا ما تجيء (إنْ) في غير المستبعد، وقد قال الله تعالى خطابًا لنبيِّه صلى الله عليه وسلَّم: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 57]. فالنكتة في هذه هي النكتة في تلك، والله أعلم. وبهذا يعلم الجواب.
(2/477)
وممَّا يُرجَّح به كونُ الخطاب للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأصحابه أن الدعاء إلى الهدى لا يناسب أن يكون من المشركين. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ [س 65/ب] فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف: 194] التفاتٌ إلى خطاب المشركين، يريد ــ والله أعلم ــ أن الشياطين عبادٌ أمثالكم. ومن حكمة العدول إلى الموصول أن المشركين لم يكونوا يقصدون دعاء الشياطين، وإنما كانوا يقصدون دعاء الملائكة، مع زعم أنهم بنات الله، تعالى الله عن قولهم، وإنما ألزمهم الله تعالى أنهم إنما يدعون الشياطين لأنه ليس في الوجود بناتٌ لله تعالى، والملائكة مع كونهم ليسوا بناتٍ لله تعالى لم يأمروهم بدعائهم ولا رَضُوه, فالأولى حينئذٍ بأن يكون المدعُوَّ هو الذي أمر بالدعاء، وهم الشياطين. [س 66/أ] وقوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ... }. هذا أقوى دليل في الآيات على أن المراد الأصنام، ولكن يأباه ما تقدَّم، فتأمَّل هل يحتمل أن يقال: الضمائر في ذلك للمشركين؟ أي: أللمشركين أرجل يمشون بها؟ والمعنى في ذلك إما التقرير، أي: إنَّ لهم أرجلًا يمشون بها إلخ، فهلَّا يتفكَّرون فيها فيعلمون أن خالقها والمنعِم عليهم بها هو الله عزَّ وجلَّ فيعرفوا أنه لا تنبغي العبادة إلَّا له، فيكون هذا مبنيًّا على نحو قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، وإمَّا الإنكار، والمقصود أن حال المشركين في جهلهم المفرط حالُ الموتى أو الجمادات، بحيث يحسن أن تُنْكَر حياتهم، فيكون هذا مبنيًّا على مثل قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}
(2/478)
[النمل: 80] أو قوله: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} من قوله: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان: 44]. فإذا كان هذا محتمَلًا فقد انتفى إرادة الأصنام، وعليه فقوله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198] الخطاب فيه للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، والمعنى: وترى المشركين ينظرون إليك وهم لا يبصرون، وهذا قول كثير من المفسرين، [س 66/ب] أي: إنهم ينظرون إليك حقيقة، ولكن لا يتدبَّرون ولا يتفكَّرون فيستدلُّون بأحوالك على ما تدلُّ عليه من الصدق والأمانة والنصيحة وحقيَّة النبوَّة. وإذا كان كذلك فنظرهم معطَّل عن الفائدة المقصودة؛ لأنَّ النظر إنما خلقه الله تعالى لينقل إلى العقل صُور الموجودات فيستفيد منها، وإذا خلا الشيء عن الفائدة التي كان لأجلها فهو في معنى المعدوم، وهذا المعنى شائع ذائع في العربيَّة كثيرٌ في القرآن. وقوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} الآيات [الأعراف: 200]، جوابٌ ــ والله أعلم ــ عما كان يزعمه المشركون أن مَدْعُوَّاتهم ستنتقم من النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كما أشير إليه بقوله: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ} [الأعراف: 195]، والمعنى أن مدعوَّاتهم في الحقيقة هي الشياطين، والشياطين ليس لها قدرة ذاتيَّة، [س 67/أ] وأما قدرتها التي يسلِّطها الله تعالى بها فإنها تُدفع بالاستعاذة به عزَّ وجلَّ وتذكُّر هُداه والاعتصام به. وعليه فإنها لا تضرُّ المؤمنين وإنما تضرُّ المشركين أنفسهم؛ لأنهم لا يستعيذون بالله عزَّ وجلَّ ولا يذكرون هداه فيعتصمون به، بل يمدُّون الشياطين في الغيِّ ثم لا يقصرون، فكيدُ
(2/479)
مدعوَّاتهم الذي يهدِّدونكم به مقصورٌ عليهم. ومثل هذا قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 98 - 100]. [س 68/أ] (1) وأما الشركاء فجاء في ذكر أشياء. (1) الأصنام. فيما يظهر من قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 74 - 82]، [س 68/ب] فهذه الآيات وغيرها مما ورد في قصة الخليل إبراهيم عليه السلام صريح في أنهم كانوا يعبدون الأصنام، فبدأ إبراهيم عليه السلام _________ (1) (س 67/ب) كُتِب فيها تتمَّة لَحَق جاء من (س 62/أ) واستمرَّ حتى انتهى إلى هنا.
(2/480)
بإبطال عبادة الأصنام، ثم ترقَّى مخالفًا لقومه إلى ما هو أعظم منها، وهو الكوكب، ثم القمر، ثم الشمس. وقوله: {هَذَا أَكْبَرُ} يريد ــ والله أعلم ــ أكبرُ مما مضى ومن سائر ما نشاهده، فهي أولى بأن تكون ربًّا إن كان في المشاهَدات ربٌّ، ثم جحد ربوبيتها عند تبين نقصانها, وصرَّح بصريح الإيمان. ومن المفسرين من يقول: إن قوم إبراهيم عليه السلام كانوا يعبدون الكوكب والقمر والشمس، وإنما كانوا يعبدون الأصنام على أنها أرصاد للكواكب كما هو حال كثير من الأمم المشركة، يتخذون بيتًا للشمس، وهكذا لعطارد وزُحَل والمشتري، ويصورون في كل بيت صورة ذلك الكوكب، تارة بصورته [س 69/أ] المشاهَدة، وتارة بصورة خياليَّة، كما هو موجود في كتب التنجيم. ثم منهم من يقول: إن تلك الصورة رمزية فقط، ومنهم من يقول: بل هي صورة الروح المدبِّر لذلك الكوكب. وعلى كل حال، فإنهم يعبدون ذلك التمثال، ويعبدون معه ذلك الكوكب. فمشركو الهند لهم صنم للشمس يعظِّمونه، ويعظِّمون الشمس أيضًا. وأقول: أمَّا كون هذا معروفًا عن كثير من الأمم المشركة فصحيح، وأمَّا أنَّ قوم إبراهيم عليه السلام كانوا كذلك فلا أراه؛ فقد تكرَّرت قصتهم في مواضع من القرآن، وليس فيها إلا عبادتهم الأصنام أو الشيطان، فأما عبادة الشيطان فأمر مشترك بين جميع الكفار، فلم يبق لهم إلا عبادة الأصنام.
(2/481)
[س 69/ب] ولو كان شيء غير ذلك لكان الظاهر أن يقصَّه الله عزَّ وجلَّ ويخبرنا بمحاجَّة الخليل عليه السلام فيه، كما بيَّن في حق قريش عبادة الملائكة وعبادة الأشخاص المتخيَّلة, وحكى عن هود عليه السلام قوله: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا} [الأعراف: 71]، وعن يوسف عليه السلام قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} [النجم: 23] وغير ذلك, وحكى الله تعالى عن كثير من الأمم ما يدلُّ على اعتقادهم بوجود الله تعالى وبالملائكة، ولم يجئ عن قوم إبراهيم عليه السلام شيء من ذلك. نعم، الظاهر أنه كان قبل قوم إبراهيم عليه السلام أمّة تعبد الأصنام بنوع من التعليل، إمَّا كونها تماثيل للكواكب أو لأشخاص من الإنس أو الملائكة أو غيرهم, كما كان قبلهم قومُ نوح يعبدونها على أنها تماثيل لقوم صالحين كانوا قبلهم، [س 70/أ] فاتَّصلت الوثنية بقوم إبراهيم عليه السلام فأخذوها تقليدًا محضًا بلا تعليل ولا تأويل. ويدلُّ على هذا قول الله تبارك وتعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 69 - 74]، ولو كان عندهم تعليل لذكروه ولما قنعوا بالتقليد المحض، وهذا بخلاف بقية الأمم فإنهم يُحاجُّون كثيرًا ولا يعتصمون بالتقليد إلا بعد نزاع وخصام. فإن قلت: فإذا كان الأمر هكذا فلماذا سمي فعلهم شركًا، والمفهوم من الشرك أنه عبادة غير الله تعالى معه، أي أن يعبد الله تعالى ويعبد معه غيره، فأما الاقتصار على عبادة غيره عزَّ وجلَّ فلا يَبِين أن تُسمَّى شركًا؟
(2/482)
[س 70/ب] قلت: الشرك أن يعبد المرء غيرَ الله تعالى سواء أعبد الله تعالى معه أم لا. وتسميته شركًا في الصورة الثانية وجهها: أن الله تعالى معبود في الكون، يعبده ملائكته ومَن شاء من خلقه، فلما جاء هذا الشخص وعبد غيره فقد وُجد معبودان: أحدهما المعبود بحق، وهو الله عزَّ وجلَّ، والآخر المعبود بباطل، أعني معبود [س 71/أ] ذلك الشخص، فهما شريكان في العبادة بالنظر إلى الوقوع في الجملة، فصحَّ أن يُسمَّى ذلك المعبود الآخر شريكًا، وعابدُه مشركًا (1). وأما قول المؤمن: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له)، فإنه يريد ــ والله أعلم ــ لا شريك له في (2) الألوهيَّة أي في المعبوديَّة بحق. فأما قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} [الرعد: 33] فلا أراها في الأصنام، وذلك أنَّ (ما) مِن قوله {بِمَا لَا يَعْلَمُ} لم يُرَدْ بها ــ والله أعلم ــ ذوات الشركاء، وإنما أريد بها العلمُ بأن له شركاء. [س 71/ب] والباء في قوله تعالى: {بِمَا} تحتمل وجهين: الأوَّل: أن تكون هي المعدِّية لـ (نبّأ)، وعليه فلا يكون المراد بلفظ (ما) الشركاء؛ لأن المنبَّأ به لا يكون إلا نبأً أي خبرًا وأمرًا من الأمور، لا ذاتًا من الذوات، كما قال تعالى: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 36]، {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} _________ (1) انظر توجيه حسين بن محمد النعمي لمثل هذا الإشكال في معارج الألباب 2/ 660 - 662. (2) تكرَّرت "في" في الأصل.
(2/483)
[التحريم: 3]، {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} [التوبة: 94]، فإن جاء خلاف هذا ففيه حذف، كقول الحاجب للمستأذن: قد نبَّأْتُ الأميرَ بك، فإن أصله قد نبَّأتُ الأمير بوقوفك أو بحضورك أو نحو ذلك. وعلى هذا فالمنبَّأ به في الآية هو العلم بأن له تعالى شركاء، فالمعنى: أتنبِّؤون الله بالعلم بأنَّ له شركاء، وهو لا يعلم هذا العلم موجودًا في الأرض عندكم ولا عند غيركم، كما إذا قيل لك: متى تقوم الساعة؟ فتقول: هذا العلمُ لا يعلمه الله تعالى في الأرض، تريد أنه لا يوجد في الأرض. الوجه الثاني للباء: أن تكون هي التي بمعنى (مع) أي أتنبِّئون الله بأن له شركاء مع علمٍ. فهذا العلم غير موجود في الأرض عندكم، ولا عند غيركم، {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} أي بمجرد ما قاله آباؤكم، والآية من باب قوله تعالى: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 143]، ولعلَّ هذا الوجه أولى، وعلى كلٍّ فليس في الآية دليل على أن المراد بالشركاء هنا الأصنام. ويؤيد هذا قوله {قُلْ سَمُّوهُمْ}، والمراد به ــ فيما قيل ــ تعجيزهم، أي: إنه لا أسماء لهم، والأصنام معروفة الأسماء عندهم. فإن قلت: سيأتي في تفسير آيات النجم ما ينافي هذا. قلت: المعنى هنا ــ والله أعلم ــ سمُّوهم تسمية مستندة إلى علمٍ، وما في آيات النجم تسمية خَرْصيَّة. وعلى هذا، فالظاهر أنَّ (1) المراد بالشركاء في الآية الأشخاص الخيالية. والله أعلم. _________ (1) كُتب في الأصل بعد هذا علامة إلحاق، ثم كتب "وعليه فالظاهر أنّ"، وهو تكرار لما سبق.
(2/484)
[س 72/أ] (2) الشياطين. قال الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ...... } [الأنعام: 100 - 101] , ومن يقول: إن الملائكة يقال لهم جنٌّ أيضًا، يحتمل عنده أن يكونوا هم المراد هنا. وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] , ففي هذا أن طاعة الشياطين في هذا الموضع شرك، ويلزم من ذلك جَعْلُ الشياطين شركاء. [س 72/ب] وقال عزَّ وجلَّ: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ ............... } [الأنعام: 137]. وقال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ................ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22]. وقال سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 98 - 100]. [س 73/أ] فأما قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ
(2/485)
تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} [القصص: 62 - 64]. فقد قيل: إنها عامَّة تشمل الشياطين، وأن الذين حق عليهم القول هم الشياطين ومن يشبههم في رضاه بأن يُعبد من دون الله تعالى. وأقول: لا أراها تشمل الشياطين: (1) لأن المشركين لم يكونوا يزعمون أن الشياطين شركاء ولا يقصدون الشرك بهم، وإنما اتخذوهم شركاء من حيث لا يشعرون، كما تقدَّم. وثانيًا: فيها [أمر] (1) المشركين بدعاء الشركاء، فلا يستجيبون لهم، وإنما جاء معنى هذا في حق الملائكة، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} [النحل: 86]. وأما المراد بالذين حق عليهم القول فليسوا من الشركاء؛ لأن السؤال واقعٌ من الله عزَّ وجلَّ للمشركين، [س 73/ب] فكيف يكون الجواب من الشركاء؟ وإنما الجواب من بعض المشركين وهم المتبوعون. وعلى هذا فالمراد بالشركاء في الآية الأشخاص الخيالية أو الملائكة؛ فإن الآية في مشركي قريش، وذلك كان شركَهم. _________ (1) هكذا كانت في الأصل، ثم ضرب عليها المؤلِّف، وكتب فوقها (أن) ولعلّه كان يريد تغيير الأسلوب فنسي.
(2/486)
وربما يرجح الثاني قوله: {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} فإنه ربما يفهم منه أن المدعوِّين موجودون وإلا لما اقتُصِر على بيان أنهم لم يستجيبوا، بل كان يجاء بما يدلُّ على أنهم غير موجودين. والله أعلم. وقوله: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ}، إما خطاب للجميع مع الإعراض عن جواب المتبوعين، وهو الظاهر، وإمَّا خطاب للأتباع، والله أعلم. وقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [الكهف: 50 - 52]. مقتضى السياق أن يكون المراد بالشركاء الشياطين، [س 74/ب] ولكن المعنى ظاهر في أن المراد الأشخاص الخيالية أو الملائكة: أوَّلًا وثانيًا: لما مرَّ قبل هذا في الكلام على آية القصص. وثالثًا: لقوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} , فإنه صريح في التفريق بين المشركين والشركاء، وإنما جاء مثل هذا في الملائكة كما في قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} الآية [يونس: 28]، وستأتي قريبًا إن شاء الله تعالى. والموبق: المهلك، وفُسِّر بواد من أودية جهنم، فكأنه ــ والله أعلم ــ تَخْرُج شعبة من جهنم فتفرِّق بين الملائكة والمشركين، ويشهد له قوله بعد
(2/487)
ذلك: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف: 53]، أي رأوا تلك الشعبة قد حالت بينهم وبين المحشر، وصارت النار محيطة بهم لا مصرف لهم عنها، والعياذ بالله تعالى. (3) فرعون. وذلك فيما حكى الله عزَّ وجلَّ في سورة المؤمن من مراجعة مؤمن آل فرعون لقومه، وفيها: {وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} [المؤمن: 41 - 42]. [س 74/أ] (4) الأحبار والرهبان. قال الله تبارك وتعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، فقوله: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ظاهر في أنهم اتخذوا الأحبار والرهبان وعيسى شركاء، وانظر ما قدَّمناه في فصل الألوهية (1). (5) المسيح عليه السلام. يظهر ذلك من الآية المارَّة قريبًا. (6) الأشخاص الخيالية. قد تقدَّم قريبًا قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} [الرعد: 33]، وأنَّ الظاهر أن المراد بالشركاء فيها الأشخاص الخيالية. _________ (1) ص 415.
(2/488)
وكذا تقدَّم آنفًا قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ .... } [القصص: 62 - 63]، وأن الأقرب أن المراد بالشركاء فيها الأشخاص الخيالية. ومرَّ في ترجمة الأشخاص الخيالية من فصل الألوهية قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ ... فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 91 - 92]، وقال جلّ ذكره: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [يونس: 66]. [س 75/أ] (7) الملائكة. قد تقدَّم في فصل العبادة قوله تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس: 28 - 29]. وتقدَّم في فصل الدعاء قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} [النحل: 86]. [س 75/ب] ومرَّ في ذكر الملائكة من فصل الدعاء قول الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا ... وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة الملائكة: 1 - 14].
(2/489)
(1) [س 76/ب] وأما الأرباب فجاء في أشياء: (1) الأصنام. يحتمل ذلك في قول الله عزَّ وجلَّ: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي ... فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 75 - 79] , وقد تقدَّمت الآيات قريبًا. فقد يقال: إنَّ تعقيبه إبطال ربوبية الكواكب بقوله: {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} إلخ إن لم يدل على أن قومه كانوا يعبدون الكواكب على ما تقدَّم فإنه يكون ظاهرًا في أنهم اتخذوا الأصنام أربابًا. وكأنه عليه السلام قال لهم: إذا بطلت ربوبية الكواكب والشمس والقمر فبطلان ربوبية الأصنام أولى. ويشهد لهذا قوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا [س 77/أ] عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء: 51 - 56]. [س 77/ب] (2) الكواكب والشمس والقمر. وذلك بيِّن من الآيات المتقدمة قريبًا. _________ (1) (س 76/أ) لم يَكتُب فيها شيئًا.
(2/490)
(3) العجل. قال عزَّ وجلَّ: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ} [طه: 87 - 90]. وبعد ذلك في خطاب موسى عليه السلام للسامريِّ: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه: 97 - 98]. [س 78/أ] (1) (4) فرعون. حكاه الله تعالى عنه في قوله: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]. (5) النُّمروذ (2). يظهر ذلك من قول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]. _________ (1) (س 78/ب) لم يكتب فيها شيئًا، وكأنه بيَّض لرقمي 6 و 7 في تسلسل المُتَّخَذِين أربابًا. (2) بضمِّ النون وآخره ذالٌ معجمةٌ أو دالٌ مهملةٌ، يُطْلق على كلِّ مَنْ مَلك الصابئة الكَلْدانيين، الذين عاصمتهم بابل بالعراق، كما أُطلق فرعون على كلِّ مَنْ ملك مصر، فهو اسم جنسٍ لا اسم علمٍ. لكنّ المقصود به هنا هو النمروذ بن كنعان، بيّنه السُّدِّي في تفسيره لهذه الآية. انظر: تفسير الطبريّ 4/ 569.
(2/491)
[س 79/أ] (8) الأشخاص المتخيَّلة. من ذلك ــ والله أعلم ــ قوله عزَّ وجلَّ عن يوسف عليه السلام: {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 39 - 40]. وقد قدَّمنا أنَّ حصره معبوداتهم في الأسماء ظاهر في أنه لا يوجد منها إلا الأسماء (1). ومن ذلك ــ والله أعلم ــ ما يشير إليه قوله تعالى لنبيِّنا عليه الصلاة والسلام [س 79/ب]: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ .... قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ .... } [الأنعام: 159 - 164]. فإنه يدلُّ على أن المشركين كانوا يدعونه إلى أن يتخذ غيرَ الله ربًّا، وقد قدّمنا أنهم كانوا يقصدون بعبادتهم الإناث الخياليَّات التي زعموا أنها بنات الله، وأنها هي الملائكة، وأنه إذا جاء ذكر معبوداتهم غيرَ مُبَيَّن فالأولى أن يُفسَّر بها؛ لأن ذلك هو صريح اعتقادهم، فأما الملائكة فإنما عبدوهم على زَعْم [س 80/أ] أنهم هم الإناث الخياليَّة، ولم يكونوا يقصدون عبادة الشياطين، وأما الأصنام فإنما كانوا يعظِّمونها تعظيمًا لتلك الإناث على أنها تماثيل لها. _________ (1) انظر: ص 416.
(2/492)
هذا، ويحتمل أن الإشارة في الآية إلى اليهود والنصارى؛ لأنهم هم الذي فرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا، وقد جاء فيهم أنهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31]، فلا تكون هذه الآية دليلًا على تربيب مشركي قريش للإناث الخياليَّات. والأقرب أن الآية تشمل الأمرين. والله أعلم. والدَّليل الصريح في أن المشركين كانوا يتخذون ربًّا من دون الله تبارك وتعالى، [س 80/ب] قولُه عزَّ وجلَّ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ .... } [الحج: 39 - 40]، فيُحمل ذلك على الإناث الخياليَّات؛ لما تقدَّم. والله أعلم. وقد يقال: بل الأولى الحمل على الملائكة؛ لما تقدَّم من قوله تبارك وتعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} [آل عمران: 80]، وأن الإشارة فيه إلى المشركين، فتأمَّل. [س 81/أ] (9) الملائكة. قد تقدَّم آنفًا. [س 81/ب] وأما الأنداد فجاء في أشياء أيضًا: (1) المتديَّنُ بطاعتهم من البشر من دون الله تعالى. قال عزَّ وجلَّ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ
(2/493)
مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21 - 22]. قال ابن جريرٍ: حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدِّي في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناسٍ من أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: [س 82/أ] {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}، قال: أكْفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله (1). وذكر غير هذا، ولكن اخترت هذا (2) لأنه حكاه عن جماعة من الصحابة، ولأنه يوافق ما يأتي. وقد دلَّت هذه الآية على أن الأنداد هم المعبودون من دون الله. وقال تبارك وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا [س 82/ب] تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ _________ (1) تفسير الطبري 1/ 391. (2) هنا كان مكتوبًا "لموافقته لما يأتي"، فضرب الشيخ على "لما يأتي"، والظاهر أن الشيخ نسي أن يضرب على "لموافقته"؛ لأنه يغني عنه ما يأتي قريبًا.
(2/494)
مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 165 - 170]. قد كان ظهر لي أنَّ المراد بالأنداد هنا الشياطين؛ لما جاء في السياق من قوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ... }. ولأن ابن جرير أخرج عن السُّدِّي في قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا}، قال: هم الشياطين تبرّؤوا من الإنس (1). ولِما أخبر الله تعالى به في قوله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ ... إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ .... } [إبراهيم: 22]. [س 83/أ] ثم ترجَّح لي أن المراد: المتبوعين (2) من البشر؛ لقوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، ولم يكن المشركون يحبون الشياطين. وفي الدر المنثور: وأخرج ابن جرير عن السدي في الآية قال: الأنداد من الرجال يطيعونهم كما يطيعون الله، إذا أمروهم أطاعوهم وعصوا الله (3). وفيه: وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا}، قال: هم الجبابرة والقادة والرؤوس في الشرِّ والشرك {مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} هم الأتباع والضعفاء (4). اهـ. _________ (1) تفسير الطبري 3/ 24. (2) كذا في الأصل بالنصب مطابقة للمفسَّر (أندادًا). (3) الدرّ المنثور: 1/ 401. (4) الدّرّ المنثور: 1/ 401.
(2/495)
أقول: وهو الظاهر والموافق لآيات أخرى في المعنى. وفي الدرّ المنثور: وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} أي: شركاء، {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} أي يحبون آلهتهم كحب المؤمنين لله إلخ (1). وفيه بيان ما قدَّمناه أن الأنداد بمعنى الآلهة من دون الله تعالى. [س 83/ب] (2) الأشخاص الخياليَّة. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [إبراهيم: 28 - 30]. لا يصلح هنا تفسير الأنداد بالمتبوعين من الإنس؛ لأن الجاعلين هم المتبوعون, كما يدلُّ عليه قوله: {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}، وقوله: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ}، وقد فسر عمر وعلي وابن عباس وغيرهم (الذين أحلُّوا) بصناديد المشركين من قريش (2)، وهو موافق لما قدَّمنا. نعم، يمكن [س 84/أ] أن يقال: إن صناديد المشركين من قريش جعلوا مَن تقدَّمهم من الناس كعمرو بن لحيٍّ وغيره من آبائهم أندادًا لله، يطيعونهم كطاعته، فلا مانع من أن يكون المراد بالأنداد في الآية المتبوعين من البشر أيضًا، والله أعلم. _________ (1) الدرّ المنثور: 1/ 401. (2) انظر: تفسير الطبري 13/ 669 وما بعدها.
(2/496)
وقال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت: 9]. لم أر في السياق ما يعيِّن المراد وأن معنى الأنداد الشركاء. وقد قدَّمت أنه عند الإطلاق يحمل على الأشخاص الخياليَّة لأنها هي التي كان يقصد المشركون عبادتها بالذات. والمقام محتمل. والله أعلم. [س 84/ب] (3) الملائكة (1). قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} [سبأ: 33]. وهذه الآية في سياق تأليه الملائكة. قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 22 - 23]. وقد تقدَّم تفسير الآيات. وقال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر: 8]. _________ (1) ص 85/أكتب فيها ما يتعلَّق بالملائكة ثمَّ كمَّله بما في 84/ب.
(2/497)
هذه الآية في سياق تأليه المشركين للملائكة، وقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] , وقد تقدَّم تفسير الآيات. وفي الآية دليل أن معنى الأنداد: المدعوُّون من دون الله تعالى. (1) / (2) {الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) ... } الآيات [المائدة: 44 - 50]. المعنى كما يفيده السياق: ومَن حكم فلم يحكم بما أنزل الله، بل حكم بغيره خشية من الناس أو اشتراء لغرض من الدنيا, زاعمًا أن ما حكم به حق وعدل؛ لأن أصل الحكم في اللغة القضاء بالعدل كما في اللسان وغيره، وإطلاقه على القضاء ولو بباطل توسُّع. قال الراغب: "فإذا قيل: حكم بالباطل فمعناه: أجرى الباطل مجرى الحكم" (3). والحكم بغير ما أنزل الله على وجوه: الأول: أن يقضي به زاعمًا أنه هو الذي أنزل الله مع علمه بكذبه، كما كان _________ (1) ص 85/ب فارغة. (2) من هنا آخر صفحة من كُرَّاس بخطِّ المؤلف تحمل الرقم العام 4658/ 8، وأغلب ظني أنها من فصل تفسير عبادة الأحبار والرهبان، ولم أعثر على بقيَّته. (3) المفردات: 249.
(2/498)
اليهود يقضون في الزنا بالجلد والتحميم زاعمين أنَّ ذلك هو حكم شريعتهم كاتمين لما في شريعتهم من أَنَّ حُكْمَهُ الرَّجْمُ. الثاني: أن يقضي به زاعمًا أنه حق وعدل مع علمه واعترافه بأنه خلاف ما أنزل الله، كأن يقضي مَنْ يدَّعي الإسلام بأن ميراث الأنثى من أبيها كميراث الذكر سواء. الثالث: أن يقضي برأيه ويزعمه حقًّا وعدلًا ولا يبالي أوافق الشرع أم خالفه. فالأول: كَذِبٌ على الله كما هو ظاهر، وتكذيب بآيات الله التي كتمها؛ لأنه يجحد أنَّ ما قضت به هو حكم الله، فإن استحلّ فِعْلَه ففي ذلك كذب وتكذيب آخر. وأما الثاني والثالث: فتكذيب بآيات الله عزَّ وجلَّ كما هو ظاهر، وفيها كذب على الله أيضًا من جهة وصفه بما لا يليق به من الحكم بما ليس بعدلٍ ولا حقٍّ، ومن جهة إثبات شريك معه يشرع الأحكام فتكون طاعته حقًّا وعدلًا بدون إذنٍ من الله. * * * *
(2/499)
[اعتقاد المشركين في الأصنام] (1) والمقصود أنهم إنما عظَّموا الأصنام على أنها تماثيل أو تذاكر للإناث الوهميَّات التي هي في زعمهم بنات الله عزَّ وجلَّ، وهي عندهم الملائكة, فلم يعتقدوا في الأصنام ذاتها نفعًا ولا ضرًّا، وإنما يعتقدون أنَّ تعظيمها ينفع من حيث هو تعظيم للأشخاص التي جُعِلَتْ تماثيل أو تذاكر لهم. وأمَّا قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]، فقد تقدَّم في فصل العبادة في فرع الأصنام احتمالٌ وجيه أنَّ المراد الملائكة، فارجع إليه (2). فإن لم يطمئن به قلبك [س 117/ب] فقل ما تقدَّم عن المفسرين أنَّ نسبة الشفاعة إلى الأصنام باعتبار السببيَّة. بقي قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} [الزمر: 43]، فإن قوله: {لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} يأبى أن يكون المراد: الإناث الخياليات؛ لأنهن معدومات أصلًا _________ (1) هذا العنوان من وضعي، اعتمادًا على إحالة سبقت للمؤلِّف (ص 433) قال فيها: "وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق الكلام في الآية في بحث اعتقاد المشركين في الأصنام"، ويعني الآية 18 من سورة يونس الآتية قريبًا، واعتمادًا أيضًا على ما سيقوله بعد ثلاث صفحات: " وقبل أن نخرج من بحث الأصنام". (2) انظر ص 432.
(2/500)
فكيف يقتصر على نفي الملك والعقل؟ وقوله: {وَلَا يَعْقِلُونَ} يأبى أن يكون المراد الملائكة، اللهم إلَّا أن يجاب عن الأوَّل بأنَّ الاقتصار على نفي الملك والعقل لا ينافي انتفاء الوجود، وقد أخبر الله عزَّ وجلَّ عن خليله إبراهيم [عليه] (1) السلام قوله لأبيه: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42] يريد الأصنام (2)، ومثل هذا كثير، واقتصر على نفي الملك والعقل للدلالة على أنَّ مجرد انتفائهما عن الشيء كافٍ في بطلان عبادته. وعن الثاني بأن المراد: لا يعقلون دعاءكم إيَّاهم أي لا يفهمونه؛ لأنهم غافلون عنه، وقد وصف الملائكة بكونهم غافلين عن دعاء المشركين في عدَّة آيات تقدَّم بعضها [س 118/أ] ويكون قوله: {لَا يَعْقِلُونَ} من باب نفي أحد المتلازمين بقصد انتفاء الآخر، كقوله في الآية المتقدمة آنفًا: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} يريد "بما ليس موجودًا"؛ لأنَّ ما لم يعلمه الله تعالى موجودًا فليس بموجود، فكذا في هذه الآية، المعنى على الاحتمال المذكور أي إذ كانوا لا يعقلون عبادتكم فهم لم يعلموا بها؛ إذ لو علموا بها لعقلوها، إلا أنَّ الإطلاق في قوله: {وَلَا يَعْقِلُونَ} ربما يوهن هذا الاحتمال, [س 118/ب] ولكن يمكن الجواب عنه بأنَّ حذف المفعول كثير في القرآن وغيره، والقرينة هنا قائمة، وهي أنَّ _________ (1) سقطت من الأصل. (2) بعد هذا بضع كلمات لم تظهر, ولعلها: (ولم يرد نفي انتفاء الحياة). بدلالة كلمات كتبها المؤلف بعد إيراد الآية ثم ضرب عليها لتحسين العبارة, وهي: (لم يناف انتفاء الحياة).
(2/501)
المشركين إنما كانوا يرجون شفاعة الملائكة، وقد بيَّن الله عزَّ وجلَّ في عدَّة آيات صفات الملائكة الشريفة، وبيَّن في عدَّة آيات أنهم لا يسمعون دعاء المشركين، وأنهم غافلون عنه، وبذلك تكون القرينة على الحذف ظاهرة. وهنا جواب آخر لعله أقوى من هذا, وهو أنَّ المراد لا يملكون شيئًا ملكًا ذاتيًّا، أي بغير تمليك الله سبحانه إيَّاهم ولا يعقلون عقلًا ذاتيًّا أي غير موهوب لهم من الله عزَّ وجلَّ، والملائكة كذلك. والمعنى يؤيِّده، فإنَّ المدار على إثبات أنهم لا يستحقُّون العبادة، واستحقاق العبادة إنما يكون بالقدرة الذاتيَّة، فأمَّا القدرة الموهوبة من الله فإنها لا تفيد في استحقاق العبادة، فإنَّ بني آدم أنفسهم يملكون ما ملَّكهم الله تعالى ويعقلون بعقلٍ موهوب لهم منه، ولم يستحقوا العبادة، ومثل هذا المعنى كثير في القرآن مِنْ نفي الملك (والضرِّ والنفع) (1) الذاتي. وبعد هذا قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ... قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة: 73 - 77]. وقال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي .... } [سبأ: 22 - 23] والسياق يدل (أن) (2) المراد الملائكة. _________ (1) لم تظهر هاتان الكلمتان والمثبت اجتهاد مني. (2) لم تظهر هذه الكلمة.
(2/502)
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 56 - 57]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (1) كما يأتي في بحث الدعاء إن شاء الله تعالى. أما المفسرون فقال الإمام الرازي وغيره عند [س 119/أ] قوله تعالى {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44]: هذا ردٌّ لما يجيبون به, وهو أنَّ الشفعاء ليست الأصنام أنفسَها بل أشخاص مقرَّبون هي تماثيلُهم (2). أقول: وهذا يحتاج إلى توجيهٍ وإيضاحٍ, فأستعين الله عزَّ وجلَّ وأقول: قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} على وِزان قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} [الأنبياء: 21] وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان معناها ومعنى ما بعدها من الآيات قريبًا (3). وحاصل معناها أنها استفهامٌ, أي: أم هل اتخذوا آلهة [س 119/ب] يعتقدون أنهم ينشرون من الأرض؟ فإن كان ذلك فهاك الجواب: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ..... } [الأنبياء: 22] مع أنَّ المشركين لم يعتقدوا في _________ (1) سورة الملائكة (فاطر): 13 - 14. [والتوضيح من المؤلف]. (2) انظر: تفسير الرازي 26/ 247 - 248، وروح المعاني 7/ 410. (3) في الصفحة الآتية وفي ص 517 - 521.
(2/503)
آلهتهم أنهم ينشرون من الأرض, كما نصَّ الله عزَّ وجلَّ على ذلك في آيات كثيرة، ويجمعها {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، ولكنَّ الآية تعريض بجهلهم كأنه يقول: لو اتخذوا آلهة يظنون أنها تنشر من الأرض لكان جهلُهم أخفَّ من أن يتخذوا آلهة ليسوا كذلك. أقول: فكذا قوله عزَّ وجلَّ: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} فهي استفهام عن شأنهم في عبادتهم الأصنام، أي: أم هل اتخذوا معبودات يعتقدون أنها تشفع لهم؟ فإن كان ذلك فهاك الجواب: {أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} والآية الثانية على ما قاله الإمام الرازي وغيره (1). وعلى هذا فليس في الآية أنَّ المشركين كانوا يزعمون أنَّ الأصنام [س 120/أ] شفعاء، وإنما الآية تعريض بهم أي أنهم لو عبدوا شيئًا يظنون أنه يشفع لهم لكان جهلهم أخفَّ من أن يعبدوا شيئًا لا يرجون منه شفاعة وهو الأصنام. فالمشركون يجيبون بأنهم وإن كانوا لا يرجون من الأصنام أنفسها شفاعة فإنهم يرجون من الأشخاص التي هي تماثيل أو تذاكر لهم، وعبادتهم لها إنما هي ذريعة لعبادة أولئك الأشخاص. فيُنْتَقَل إلى محاجَّتهم في أولئك الأشخاص. وقبل أن نخرج من بحث الأصنام نذكر سؤالين مهمَّين: الأول: قد جاءت آثار كثيرة في شأن اللاَّت تخالف ما تقدَّم، ففي صحيح البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كان اللات رجلًا يلتُّ سَويق _________ (1) راجع الصفحة السابقة.
(2/504)
الحاجِّ (1). وأخرج النسائي وغيره (2) عن مجاهد نحوه مطوَّلًا، وفيه: فلما مات عبدوه، وقالوا: هو اللات، وكان يقرأ: "اللاتَّ" مشددة. وأخرج الفاكهي (3) عن ابن عباس: أنَّ اللات لما مات قال لهم عمرو بن لحي: إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة فعبدوها وبنوا عليها بيتًا. [س 120/ب] وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ} قال: كان رجل من ثقيف يلتُّ السويق بالزيت فلما توفي جعلوا قبره وثنًا (4). وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19]، قال: اللات كان يلتُّ السويق بالطائف فاعتكفوا على قبره، والعُزَّى شجرات (5). وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي صالح قال: اللات الذي كان يقوم على آلهتهم، وكان يلتُّ لهم السويق، والعُزَّى بنخلة كانوا يعلِّقون عليها _________ (1) صحيح البخاريِّ، كتاب التفسير، سورة: "والنجم"، باب: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى}، 6/ 141، ح 4859. وانظر: تفسير الطبريِّ 22/ 48، الدرّ المنثور 7/ 652. (2) لم أجده في سنن النسائي, وعزاه السيوطي في الدرّ المنثور 7/ 652 إلى سعيد بن منصور والفاكهي. وانظر: سنن سعيد بن منصور, كتاب التفسير, سورة النجم, 7/ 455, ح 2084. وأخبار مكة للفاكهي, ذكر اللات وأصل عبادتها ومكانها, 5/ 164, ح 75. (3) أخبار مكَّة، الموضع السابق، 5/ 164، ح 76. وانظر: فتح الباري 8/ 612. (4) انظر: الدر المنثور 7/ 653. (5) انظر: تفسير الطبري 22/ 48 و 49، الدر المنثور 7/ 653.
(2/505)
الستور والعهن، ومناة حجر بقُديد (1). وأخرج عبد بن حميد عن أبي الجوزاء قال: اللات حجر كان يلتُّ السويق عليه، فسُمِّي اللات (2). السؤال الثاني: أنَّ لهم أصنامًا مذكَّرة الأسماء كهُبل ومناف، وهذا يدفع أن يكون هذا الضرب تماثيل أو تذاكر للملائكة؛ لأنهم كانوا يزعمون أنَّ الملائكة إناث؟ [س 121/أ] الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلَّى لله وسلَّم وبارك على خاتم أنبيائه وآله وصحبه. أما السؤال الأوَّل فعنه أجوبة، وقبل الشروع فيها نذكر كلام أهل اللغة والتفسير في اللات، قال بعضهم: هي على وزن باب وأصلها ليَت، وقيل: أصلها لَوَيَة والتاء فيها للعوض كهي في ذات، وقيل: أصلها لاهة، وقيل: إنهم اشتقوا هذا الاسم من لفظ الجلالة، قاله الواحدي وغيره، وقالوا نحوه في العزى ومناة. وقال أهل اللغة: إن من العرب من يقف عليها بالهاء ومنهم من يقف عليها بالتاء، والقراءات المشهورة كلُّها بتخفيف التاء إلَّا رواية عن ابن كثير فإنها بتشديد التاء، كما رُوي عن ابن عباس ومجاهد, والمعروف في اللغة الخفَّة، قال زيد بن عمرو بن نفيل (3): _________ (1) انظر: تفسير الطبري 22/ 48 (وفيه ذكر اللات فقط)، الدر المنثور 7/ 653. (2) انظر: الدر المنثور 7/ 653. (3) انظر: الأصنام لابن الكلبي 22.
(2/506)
عزلتُ اللات والعُزَّى جميعًا ... كذلك يفعل الجَلْدُ الصبور وأنشدوا لبعضهم (1) في بعض حروب النبي - صلى الله عليه وسلم -: غلبت خيلُ الله خيل اللَّات ... وخيلُه أحقُّ بالثبات وقال آخر (2): وفرَّت ثقيف إلى لاتها ... بمنقلب الخائب الخاسر وقال عمرو بن الجعيد (3): فإني وتركي وَصْل كأسٍ لكالَّذي ... تبرَّأ مِن لاتٍ، وكان يدينها ثم اختلفوا في موضعها ولمن كانت؟ فقال قتادة: كانت لثقيف بالطائف (4)، وقال أبو عبيدة وغيره: كان بالكعبة (5)، وقال ابن زيد: كان بنخلة [س 121/ب] عند سوق عكاظ تعبده قريش (6)، قال أبو حيان: يمكن الجمع بأن يكون المسمى بذلك أصنامًا فأخبر عن كلِّ صنم بمكانه (7). _________ (1) هي امرأة من المسلمين، قالت ذلك لما هزم الله المشركين من أهل هوازن. انظر: سيرة ابن هشام 2/ 449. (2) هو ضرار بن الخطَّاب الفهري. انظر: سيرة ابن هشام 1/ 47. (3) انظر: الأصنام لابن الكلبي 16. (4) انظر: تفسير عبد الرزاق 2/ 253، تفسير الطبري 22/ 47، وعزاه السيوطيُّ في الدرِّ المنثور (7/ 653) إلى عبد بن حميدٍ وابن المنذر. وهو في سيرة ابن هشام 1/ 79 (طبعة طه عبد الرؤوف سعد). (5) مجاز القرآن 2/ 236، وانظر: المحرَّر الوجيز 8/ 115 - 116. (6) انظر: تفسير الطبري 22/ 47، وتفسير البغوي 7/ 407. (7) البحر المحيط 10/ 15 (دار الفكر).
(2/507)
ثم إنَّ ما ذكره ابن عباس رضي الله عنه وتلامذته وتلامذتهم حاصله بعد الجمع بين الروايات أنه كان في الطائف رجل كان سادنًا لأصنامهم يلتُّ السويق للحاجِّ على صخرة معروفة، ويظهر أنها كانت بمحلِّ أصنامهم، فلما مات قال عمرو بن لُحَيٍّ: إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة، فالصخرة هي التي كان يلتُّ عليها السَّويق، وهي قبره الموهوم، إن لم يكن قُبِرَ تحتها ــ الله أعلم ــ فعُبدت الصخرة. إذا علمتَ هذا فأقول: الجواب الأول: قد يكون عَمْرُو بن لُحَيٍّ قال لهم: إنَّ تلك الصخرة مباركة لأنها كانت بقرب الأصنام وكان يلتُّ عليها السويق للحاجِّ، ثم إنها ابتلعت صاحبها مع أنَّ وصف ذلك السادن وهو لفظ اللاتّ مشدَّدًا يقارب اسم أحد الملائكة اللات مخفَّفة، اختلق لهم عَمرو هذا الاسم مروِّجًا لصحته بأنه مشتقٌّ من لفظ الجلالة كما ذكره الواحدي وغيره (1)، فينبغي أن تُجعل تذكارًا لهذا الملَك وتُسمَّى باسمه اللات، فقرأ ابن عباس ــ إن صحَّ عنه ــ وبعضُ تلامذته بالتشديد، كأنه والله أعلم تحاشيًا عن النطق بها مخفَّفة لما في [س 122/أ] وضْع هذا الاسم كذلك من الكفر والبَهْت، وقد يكون في ذلك نقلٌ عن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وهو الظاهر، وقرأها الجمهور بالتخفيف اتِّباعًا، ولأنَّ هذا الاسم كذا وُضع، وحاكي الكفر ليس بكافر. ومَنْ وقف عليها بالهاء نظر إلى أصل وضع الاسم، ومَنْ وقف عليها بالتاء حرص على ما قصده عَمْرو بن لُحيٍّ من موافقة الاسم لصفة ذلك _________ (1) انظر: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 1/ 423، وزاد المسير 8/ 72، وروح المعاني 27/ 55.
(2/508)
السادن. وعلى كلِّ حالٍ فهي مؤنَّثة، فقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لعروة بن مسعود الثقفيِّ يوم الحديبية: اُمْصُصْ بظر اللات. الجواب الثاني: قد لا يكون سُمِّيت اللات مخفَّفة من أوَّل الأمر وإنما سُمِّيت اللاتُّ مشدَّدة بصفة السادن ثم خفِّفت لكثرة الاستعمال، ثم تقادم العهدُ فنُسِيَتْ قصَّة السادن وظنُّوا أنَّ اللات اسمُ مَلَك من الملائكة، وتلك الصخرة تذكار له. الجواب الثالث: [س 122/ب] أنَّ اللاتَّ مشدَّدةً اسمُ الصخرة المذكورة ثم خُفِّفَتْ لكثرة الاستعمال فقد قال الشاعر (1): وفرَّت ثقيف إلى لاتها ... بمنقلب الخائب الخاسر وصار يُؤَنَّثُ باعتبار الصخرة، ولذلك قال الصِّدِّيق ما قال. وكان لقريش صنم آخر سمَّوه اللات مخففة مؤنَّثة زعموا أنه اسم لملَك اشتقاقًا من لفظ الجلالة. وفي هذا الجواب الثالث ضعف، والأوَّل قويٌّ, والثاني أسلم من التكلُّف وأشبه بطبيعة النشوء التي تكاد تكون عامَّة في الوثنيَّة. ثم رأيت في شرح القاموس (2) ما يؤيِّده، ثم رأيت في معجم البلدان (3) _________ (1) مر تخريجه قريبًا. (2) تاج العروس 5/ 75. (3) 5/ 4.
(2/509)
لياقوت ما لفظه: ودام أمرُ عَمرٍو وولدِه عليه نحو ثلاثمائة سنة، فلما مات استمرُّوا على عبادتها وخفَّفوا التاء، ثم قام عَمْرو بن لُحَيٍّ فقال لهم: إنَّ ربَّكم كان قد دخل في هذا الحَجَر يعني تلك الصخرةَ، ونصبها لهم صنمًا يعبدونها ... اهـ. وفي القصَّة تخليط شديد فراجِعْ. ويؤيِّد الجوابين الأوَّلين تعدُّد التماثيل أو التذاكر التي يسمُّونها اللات، وذلك أنَّ اللات عندهم هو اسم الملَك، فيمكن أن يجعلوا له عدَّة تماثيل أو تذاكر يُسمُّون كلَّ واحد منهم باسمه [س 123/أ] كما تقدَّم في قصَّة نوح (1) أنَّ الشيطان جعل لهم تماثيل لأولئك الرجال الصالحين وسمَّى كلَّ تمثالٍ باسم صاحبه، ووضعوها في مُصَلَّاهم ثم جعل مثل ذلك لكلِّ أحد في بيته، وهكذا نرى الوثنيِّين في الهند تتعدَّد تماثيلُ (2) لشخصٍ واحد. وإنما امتازت لاتُ ثقيفٍ لأنها الأُولى من نوعها لقصَّة السادن، والله أعلم. وأما السؤال الثاني, فعنه جوابان: الأول: أنَّ تلك الأصنام كأخواتها تماثيل للملائكة، ولكن كأن الشيطان لم يوحِ إليهم باسم ذلك الملَك فسمَّوا الأصنام أنفسها [س 123/ب] بأسماء مذكَّرة اعتبارًا بلفظ الصنم أو الوثن أو نحو ذلك. الجواب الثاني: يمكن أن يكون الشيطان أوحى إليهم أنهم كما جعلوا تماثيل للملائكة يعظِّمونها فالله عزَّ وجلَّ لا ينبغي أن يكون أقلَّ حظًّا فجعلوا _________ (1) ص 441 - 442. (2) كذا في الأصل.
(2/510)
لله عزَّ وجلَّ تماثيل أو تذاكر كما أوحى إليهم الشيطان، ولكنهم تحاشَوْا أنْ يسمُّوها باسمه فسمَّوها أنفسها بهبل ومناف وغير ذلك. ومما يساعد هذا أنَّ هبل كان عندهم أعلى من غيره، ولهذا قال أبو سفيان يوم أحد: اعْلُ هُبَل، فخصَّه بالذكر في ذلك المقام، فأمر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أصحابه أن يجيبوه: "الله أعلى وأجلُّ" (1). ويظهر أنَّ هذا الجواب يتضمَّن إبطال هُبل، إذا كان وُضع على أن يكون تمثالًا لله عزَّ وجلَّ؛ فإنَّ قوله: "الله أعلى وأجلُّ"، يبيِّن أنه أعلى وأجلُّ مِن أن يُجعل له تمثال، ولهذا عدل أبو سفيان إلى قوله: "لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم"، كأنه يقول: لنا شفيع ولا شفيع لكم. فأمرهم النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بأن يجيبوه: الله مولانا ولا مولى لكم [س 124/أ] أي: أن الله عزَّ وجلَّ نفسه مولانا وناصرُنا ومعينُنا ولا مولى لكم. خلاصة اعتقاد المشركين في الأصنام أنها تماثيل وتذاكر للملائكة، وقد يكون فيها تمثال أو تذكار لله عزَّ وجلَّ كما تقدَّم، وأنها أنفسها لا تضرُّ ولا تنفع، وإنما هي ذريعة إلى عبادة مَنْ جُعِلَتْ تمثالًا أو تذكارًا له. تعظيمهم للأصنام (2) كانوا يتمسَّحون بها ويعكُفون عليها ويُضَمِّخونها بالطيب ويتقاسمون بالأزلام عندها ولم أر نقلًا صريحًا في أنَّ المشركين كانوا يسجدون _________ (1) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة أحدٍ، 5/ 94، ح 4043. (2) قارن ما هنا بما في ص 630.
(2/511)
للأصنام، بل جاء ما ينفي ذلك، فأخرج مسلم في صحيحه (1) عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفِّر محمد وجهه بين أظهركم فقيل: نعم، الحديث، وهذا يدلُّ أنهم كانوا يستشنعون السجود، ولو كانوا يسجدون للأصنام ما أنكروا عليه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم السجود لله. ومما يُروى عن أبي طالب في أسباب توقُّفه عن الإسلام أنَّه استشنع السجود قائلًا: والله لا تعلوني استي أبدًا، والقصَّة في مسند أحمد وغيره (2). [س 124/ب] وهل جاء في القرآن أنهم كانوا يدعونها؟ لم أر ما هو صريح في ذلك إلَّا أن يكون قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [الحج: 73 - 76]. _________ (1) صحيح مسلمٍ، كتاب صفة القيامة والجنَّة والنار، باب قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}، 8/ 130، ح 2797. (2) المسند 1/ 99. [المؤلف]. وهو أيضًا في مسند الطيالسي 1/ 155، ح 184، ومسند البزَّار 2/ 319 - 320، ح 751. قال الهيثميُّ: "وإسناده حسنٌ". مجمع الزوائد 9/ 125. وقال الألبانيُّ: "ضعيفٌ جدًّا"، وتعقَّب الهيثميَّ في تحسينه، لأن في إسناده: يحيى بن سلمة بن كُهَيلٍ، وهو متروكٌ. انظر: السلسلة الضعيفة 9/ 147، ح 4139.
(2/512)
فإن هذه الصفة لا تقال في المعدوم وهي الإناث الخياليات (1)، ولا تصدُق على الملائكة أو الشياطين لأنهم قد يستطيعون الاستنقاذ من الذباب كالآدميِّين على الأقلِّ، اللهمَّ إلَّا أن يُقال: إنَّ المراد: لا يستنقذوه منه بقدرة ذاتيَّة لهم أي بغير إذن الله تعالى؛ لأنَّ الكلام إنما هو في قدرة تؤهِّلُهم لأَنْ يُدْعَوا من دون الله تعالى، ويؤيَّد هذا بأنَّ الضمائر ضمائرُ العقلاء. وقد جاءت آيات في الملائكة وفي المسيح عليه السلام وفي الشياطين أنهم لا ينفعون ولا يضرُّون، والمراد بغير إذن الله تعالى, فلماذا لا يُحْمَل ما هُنا على ذلك؟ بل إنَّ عمومَ سَلْبِ النفع والضر يتناول سَلْبَ الاستنقاذ من الذباب. وعلى هذا فقوله: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}، المراد به الضعف الذاتيُّ؛ فإنَّ الملائكة وغيرهم متَّصفون بالضَّعف الذاتيِّ، وما كان لهم مِن قدرة فليست ذاتيَّة، وإنما هي موهوبة من الله تعالى ومحصورة فيما يأذن به. ومما يؤيد أنّ المراد الملائكة/ (2) السياق: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ}، أي والله أعلم: أنَّ أكابر الملائكة ليسوا إلَّا رسلًا يصطفيهم الله تعالى كما يصطفى الرسل من الناس، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، كقوله في آية الكرسي: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}، والمراد سيأتي إن شاء الله تعالى. وقال صاحب روح المعاني (3) في تفسير الآية: "والآية وإن كانت نازلة _________ (1) هنا خط كأنه يشير إلى ملحق لم أهتد إليه، والكلام متَّصل. (2) هنا بداية ملحق متصل بالصفحة السابقة. (3) 17/ 202.
(2/513)
في الأصنام فقد كانوا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يطلونها بالزعفران (ورؤوسها بالعسل) ويغلقونه عليها, فيدخل الذباب من الكُوى ويأكله, إلَّا أنَّ الحكم عامٌّ لسائر المعبودات الباطلة". ونفي القدرة الذاتية يشترك فيه جميع المخلوقين. وقوله في الآية: "نزلت في الأصنام" لم تقم به حجة فيما أعلم، وفي صحته نظر، أوّلًا لأنَّ آيات الدعاء في القرآن في حق مشركي العرب منها ما هو صريح في أنَّ المراد الإناث الخياليَّة وما هو صريح في أنَّ المراد الشياطين، ومنها ما هو محتمل، فالأَوْلى حملُ المحتمِل على الصريح. ويوضحه الوجه الثاني وهو: أنَّ الدعاء على ما يأتي إن شاء الله هو الرغبة إلى المدعو والسؤال منه، وقد تقدَّم أنَّ المشركين لم يكونوا يعبدون الأصنام إلَّا على أنها تماثيل أو تذاكر للملائكة فكيف يسألونها؟ اللهمَّ إلَّا أنْ يقال: لعلَّهم كانوا يوجِّهون الدعاء إليها والمقصود دعاءُ الأشخاص الذين جُعلت تماثيلَ لهم وإنما وجَّهوا الدعاء ... (1). فأما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ... } [الأعراف: 194 - 195]، فسيأتي تفسيرها إن شاء الله تعالى في معنى الدعاء (2) (3). _________ (1) هنا كلمات لم تتضح. (2) انظر ص 759. (3) هنا كلام مضروب عليه وسهم لم أعرف وجهه، والكلام المضروب عليه: ومما كانوا يصنعون بالأصنام العكوف عليها والتمسح بها وتضميخها بالطيب والاستقسام بالأزلام عندها.
(2/514)
والأزلام قداح مُعَدَّة للقرعة والاستخارة، ولم يكن من شرطها أن تكون عند الأصنام، فقد جاء أنَّ ... خرج إلى حنين والأزلام معه يستقسم بها، وفي قصة سراقة بن مالك بن جُعْشُم أنه لما خرج يتبع أثر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حين هاجر كانت الأزلام معه يستقسم بها (1)، ولكن كانوا يرون أنَّ كونها عند الأصنام أنجح كما في قصة امرئ القيس ... للأخذ بثأر أبيه، فاستقسم عند ذي الخَلَصَة فخرج القِدْحُ الذي يفيد النهي عن الخروج فقال: لو كنت يا ذا الخلصة (2) الموتورا ... دوني وكان شيخك المقبورا لم تنه عن قتل العُداة زُورا (3) وكانوا يقترعون بها عند اختلافهم ويقضون بها، وقد جاء ذلك في قصة عبد المطلب عند نذره ذبح ولده عبد الله (4)، وكانوا عند القرعة أو الاستخارة بها يدعون آلهتهم أن يرشدوهم إلى الصواب. ومن الأصنام شجر ينوطون ... , ومنها ... أي حجارة يتحرَّون الذبح عليها ذاكرين أسماء آلهتهم، ولم يتبيَّن لي سبب ذلك عندهم. _________ (1) سيرة ابن هشام 1/ 489. (2) رواية البيت: "الخَلَص" بالترخيم. (3) انظر: الأصنام لابن الكلبي ص 35, سيرة ابن هشام 1/ 130 وملحق ديوان امرئ القيس 460. (4) انظر: سيرة ابن إسحاق ص 10 - 11, وسيرة ابن هشام 1/ 203.
(2/515)
وكانوا يزورون الأصنام من الأماكن البعيدة ويطوفون بها كما يطوفون بالكعبة (1)، وكانت الأوس والخزرج يُهِلُّون لمناة الطاغية ثم يجيئون إلى الصَّفا والمروة فيسعون بينهما (2). والله أعلم. [س 125/أ] اعتقادهم في الملائكة اعلم أنَّ أكثر الناس في غفلة عن كون مشركي العرب جميعهم أو غالبهم كانوا يعبدون الملائكة، وأنت إذا تدبَّرْتَ ما تقدَّم من الآيات في فَصْلَي التأليه والعبادة في الملائكة والإناث الخياليَّات فإنهما واحد عند المشركين [وأهل] (3) النحل المتقدمين, والآيات الآتية في فصل الدعاء إن شاء الله تعالى علمت ذلك قطعًا. وفي القرآن آيات أخرى, فنجد القرآن يفرد في بعض المواضع محاجَّتهم في نسبة الولد إليه، وفي بعضها في جعل الولد إناثًا وفي بعضها في جعل الملائكة إناثًا، وفي بعضها في عبادة الملائكة, فيمكننا أن نقول: إنَّ الأقسام أربعة: الثلاثة الأولى تتعلَّق بذوات الملائكة، والرابع بعبادتهم، وإفراد القرآن كلَّ واحد منها بالإنكار يَدُلُّ أنَّ كلَّ واحد من الأقسام بهتان على حِدة. وتخصيص الإناث بهتان آخر أي بحيث لو فُرض جواز نسبة الولد إليه عزَّ وجلَّ لكان جَعْلُ ذلك الولد إناثًا بهتانًا؛ لأنَّ اتِّخاذه تعالى ولدًا إناثًا أشدُّ امتناعًا من اتخاذه ولدًا ذكورًا. وجَعْلُ _________ (1) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 11/ 389. (2) انظر: صحيح البخاري, كتاب الحج, باب وجوب الصفا والمروة ... 2/ 158, ح 1643, وصحيح مسلم, كتاب الحج, باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن ... 4/ 69 - 70, ح 1277. (3) لم تظهر الكلمة في الأصل.
(2/516)
الملائكة إناثًا بهتان ثالث أي بحيث لو لم يقولوا هم: ولَدُ الله, بل اعترفوا بأنهم من خلقه عزَّ وجلَّ لكان جَعْلُهم إناثًا بهتانًا. والعبادة بهتان، أي بحيث لو قالوا: إنَّ الملائكة مِنْ خلق الله تعالى، ليسوا [س 125/ب] وَلَدَه، ولم يقولوا: إنهم إناث، ولكنهم أصرُّوا على عبادتهم لكانت عبادتهم بهتانًا، فتأَمَّلْ هذا وتدَبَّرْ آياتِ القرآن تجدْه بغاية الوضوح إن شاء الله تعالى. والذي يُهِمُّنا هنا إنما هو القسم الرابع فنقول: قد تقدَّم بيان القرآن بغاية الصراحة أنَّ المشركين كانوا يعترفون لله عزَّ وجلَّ بالانفراد بالخلق والرَّزْق وتدبير الأمر والقبض على ملكوت كل شيء وأنه يجير ولا يجار عليه، إذن فماذا أبقوا للملائكة؟ أبقَوا لهم الشفاعة فقط. أخبر الله عزَّ وجلَّ عنهم أنهم يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، وقالوا: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}. لعلَّهم كانوا يعتقدون أنَّ شفاعتهم تنفع وإن لم يرض الله عزَّ وجلَّ؟ [س 126/أ] كلَّا، فإنها حينئذ لا تكون شفاعة بل تكون أمرًا وإلزامًا. وأيضًا فاعترافهم بأنه سبحانه يجير ولا يجار عليه يُبْطِلُ هذا. فلعلَّهم يقولون: إنَّ البارئ عزَّ وجلَّ لا بدَّ أن يقبل إكرامًا للملائكة، وإن كان هو غيرَ راض؟ كلَّا، فإنهم يعترفون بأنه تعالى بيده ملكوت كلِّ شيء، ومَنْ بيده ملكوتُ كلِّ شيء لا يكون محتاجًا إلى أحد حتى يقبل شفاعته مُكْرَهًا، فإنَّ أهل الدنيا إنما يقبلون الشفاعة مُكْرَهين ممن هم محتاجون إليه، وقد كانوا يقولون في تلبيتهم كما في الصحيح: لبَّيك لا شريك لك إلَّا شريكًا هو لك تملكه وما ملك (1). _________ (1) أخرجه مسلم في كتاب الحج, باب التلبية وصفتها ووقتها, 4/ 8, ح 1185, من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2/517)
فلعلَّهم كانوا يقولون: إنَّه عزَّ وجلَّ لمحبته للملائكة لا بدَّ أن يقبل شفاعتهم برضاه؟ (1) ربما يدفعه اعترافهم بأنه عزَّ وجلَّ يجير ولا يجار عليه؛ فإن إطلاق "يجير" يشمل الملائكة بل إجارة الملائكة هي المقصودة بالذات في الآية، فإذا كانوا يعترفون بأنه سبحانه يجير من الملائكة لو فُرِضَ أنهم أرادوا إلحاق الضرر بأحد، فقد دلَّ هذا على اعترافهم بأنَّ الله تعالى ليس رَهْنَ إرادةِ الملائكة. [س 126/ب] لِنَدَعْ هذا، فالظاهر أنهم كانوا يقولون: إن البارئ تعالى يقبل غالب شفاعة الملائكة برضاه، أما هذا فنعم، وهل هذا القَدْرُ باطل حتى نرى معظم محاجَّة البارئ تعالى لهم في القرآن مع كثرتها تدور على الشفاعة؟ ليس المحاجَّةُ في هذا وإنما هي في طمعهم في أنَّ الملائكة يشفعون لمن يعبدهم وأن الشفاعة تنفعهم، وقد تفنَّن القرآن في إبطال هذا الزعم، ويجمع الكلامَ على ذلك مرتبتان: المرتبة الأولى: يُبيِّن سبحانه وتعالى أنَّ الملائكة لا يشفعون لهم، وذلك على درجات: الأولى: أنهم لم يعبدوا الملائكة، وذلك لوجهين: الأول: أنَّ عبادتهم في قصدهم موجَّهة بالذات إلى البنات الوهميّات، [س 127/أ] وهم وإن زعموا أنهنَّ هنَّ الملائكة فقد قامت الحجَّة بخلاف ذلك، وبعبارة أخرى: إنما يعبدون الملائكة بعنوان أنهم بنات الله، تعالى الله عن ذلك، بحيث لو اعترفوا أنهم ليسوا بنات الله لما عبدوهم، فالعبادة _________ (1) علامة الإستفهام وضعها المؤلف.
(2/518)
موجَّهة إلى صفة البنتيَّة وقد قام البرهان على عدمها. الوجه الثاني: أنَّ العمل إنما يُعدُّ تعظيمًا للشخص إذا كان يحبه ويرضاه، وليس عندهم دليل على أنَّ الملائكة يحبون ويرضون أنْ يُعْبَدوا؛ لأنهم لم يأمروا المشركين بعبادتهم، والدليل قائم على أنَّ الملائكة يَكْرَهون أنْ يُعْبَدُوا من دون الله عزَّ وجلَّ، إذ قد قامت الحجَّة أنهم ليسوا إلَّا عبادًا مخلصين، والعبد المخلص لا يحبُّ أنْ يُعَظَّم كما يُعظَّم ربُّه، فإنْ أحبَّ أن يُعظَّم تعظيمًا مَّا فبقَدْرِ ما يأذن به ربُّه. فإذا كان تعظيمُ المشركين للملائكة يضاهي تعظيمَ الله عزَّ وجلَّ فقد تبيَّن أنَّ الملائكة لا يرضَون ذلك، وإن كان دونه فليس عندهم بيِّنةٌ بأنَّ ذلك القَدْرَ يرضاه الله عزَّ وجلَّ وترضاه [س 127/ب] الملائكة، فكان العقل يقضي عليهم بأن يقفوا عند الحدِّ الذي تقوم الحجة على أنه مأذون به، ولم يفعلوا ذلك، فما هو الباعث لهم على هذا؟ هو الشيطان، فإذن ليس الباعث لهم على عبادة الملائكة محبَّتَهم إيَّاهم، لأنَّ المحبة شَرْطُها أنْ يقف المُحِبُّ مع رضا المحبوب، وإنما الباعث لهم طاعتهم للشيطان، فروحُ تلك العبادة موجَّه إلى رضا الشيطان. وقد بيَّن سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 117]، ولعلَّ مِنْ ذلك قولَه تعالى: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج: 12 - 13]، وقد تقدَّم في فَصْلَي التأليه والعبادة آيات أُخَر.
(2/519)
[س 128/أ] الدرجة الثانية: أن الله عزَّ وجلَّ إنما منح البشر قدرة محدودة يتصرَّفون فيها باختيارهم ظاهرًا ابتلاء لهم واختبارًا ليتبيَّن المطيع من العاصي، فأما الملائكة فلا حاجة لهم للابتلاء فهم مطهَّرون معصومون، وهذا يفيد أنَّ القدرة الممنوحة لهم إنما يتصرَّفون بها إذا أمرهم الله تبارك وتعالى، وقد بيَّن سبحانه وتعالى ذلك بقوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26 - 28]، {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}، معناه: لا يعملون إلا بأمره؛ لأنَّ تقديم الجارِّ والمجرور يفيد الحصر. فتفيد هذه الآية أنهم لا يعملون إلَّا إذا أمرهم ولا يفعلون إلَّا ما أمرهم. وقال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 49 - 50]. أقول: فإذا كان الملائكة لا يقولون إلَّا ما أمرهم الله ولا يفعلون إلا ما أمرهم, فما معنى الخضوع لهم وطلب الشفاعة منهم؟ لا أرى في ذلك إلا محاربةً الله عزَّ وجلَّ، ومطاوعةً الشيطان. [س 128/ب] الدرجة الثالثة: لنصرف النظر عن هذا، فقد قامت الحجة أن الملائكة ليسوا إلَّا عبادًا مخلصين، والعبد المخلص لا يفعل إلَّا ما يرضَى? ربُّه، فكيف إذا كان الربُّ هو الله عزَّ وجلَّ الذي يعترفون بعظمته وغناه عما سواه، والعبيد هم الملائكة المطَهَّرون المنزَّهون عن حظوظ النفس المستغرقون في محبة ربهم عزَّ وجلَّ.
(2/520)
فثبت بهذا أنَّ الملائكة لا يشفعون إلا لمن ارتضى ربهم عز وجل، إذن فالعاقل لا يوجِّه همَّته إلَّا إلى رضا الله عزَّ وجلَّ، وإذا حصل على ذلك لا يهمه غيره؛ لأنه إما أن يُنِيلَه سبحانه وتعالى مرادَه بدون شفاعة، وإمَّا أنْ يأذنَ للملائكة فيشفعوا له، وهم بطبيعتهم يشفعون لأنهم مستغرقون في محبة الله عز وجل، وقد علموا أنه سبحانه وتعالى ما أذن لهم في الشفاعة [س 129/أ] لهذا الشخص إلَّا وهو يحبها. لنفرض مُحالًا أنهم لا يحبُّون الشفاعة حينئذٍ أوْ لا يشفعون, أليس قد حصل المقصود وهو رضا الله عز وجل، وإنما يأذن للملائكة في الشفاعة إظهارًا لكرامتهم عنده ... (1). ألستم تعترفون أنَّ الله عزَّ وجلَّ بيده ملكوت كل شيء، ومن ذلك قلوبُ الملائكة خصوصًا, وقد ثبت أنهم ليسوا إلَّا عبادًا لله تعالى، فإن فُرِضَ أنهم قد يشفعون بدون أمر الله (2) فهو سبحانه وتعالى الذي يوجِّه قلوبَهم إلى الشفاعة أو عدمِها، وإذا كان الأمر هكذا فالمهمُّ هو رضا الله عزَّ وجلَّ. وإذا كان كذلك فرِضَا الله عزَّ وجلَّ إنما يُكْتَسَب بطاعته، فإنْ علم يقينًا أنه أمر بشيء اتَّبَع ويَتْرُك ما لا يعلم أطاعة هو أو معصية، ويكتفي بصدق القصد أنه لو علم كيف يطيعه لأطاعه, كما صحَّ عن زيد بن عمرو بن نفيل, فإنه تَرَكَ عبادةَ غير الله تعالى، وكان يقول: اللهم إني لو أعلم أحبَّ الوجوه إليك لعبدتُّك به، ولكني لا أعلم, ثم يسجد على راحته (3). والمشركون قَبْلَ بَعْثِ محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يفعلوا هكذا، وكذلك مَنْ أدركتْه _________ (1) هنا ملحق ذهب أوله بسبب البلل. (2) هنا نحو كلمتين لم تظهرا في الأصل, ولعلهما: فإنهم عباده. (3) مضى تخريجه ص 106.
(2/521)
البعثة لم يعملوا كذلك قبلها ولا بعدها، ولو أنهم [س 129/ب] خضعوا للحقِّ إلى هذا القَدْر لما تردَّدوا في تصديق النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وقبول الإسلام، لأنَّ الإسلامَ جارٍ على ذلك الأصل؛ إلا أنه فصَّل الطاعات بحججٍ بيِّنات قام البرهان أنها من عند الله عز وجل. فعلى كلِّ حالٍ قد ثبت أنَّ ما كان عليه المشركون يوجب غضبَ الله عزَّ وجلَّ حتى مع صرف النظر عن نبوَّة محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وقد تقدَّم إثباتُ أنَّ الملائكة لا يشفعون إلَّا لمن ارتضى، وهو لا يرتضي الشفاعة لمن أشرك به، فالملائكة لا يشفعون للمشركين. وأغلب آيات الشفاعة ــ وعليها مدار محاجَّته تعالى للمشركين ــ تدور على هذا الأمر، وهو أنهم لا يشفعون إلَّا لمن ارتضى، حتى إنَّ أعظم آية في القرآن وهي آية الكرسي مبنيَّة عليه, [س 130/أ] فإنَّ قبلها قولَه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]، أجمل في هذه الآية نَفْيَ الشفاعة وأراد بها ــ والله أعلم ــ الشفاعة المتعارَفَةَ بين الناس مِنْ أنَّ الشافع يُقْدِمُ على الشفاعة مِنْ دون إذنٍ من المشفوع إليه، وهذا تحذير للمؤمنين من الاتِّكال على الشفاعة إلى حدٍّ يتهاونون فيها بطاعة الله، ولم يقل هنا: "ولا شفاعة إلا بإذنه" أو نحو ذلك مبالغة في التحذير من الاتِّكال، ولكن نبَّه على المراد بالآية الثانية آية الكرسي، والخطاب وإن كان للمؤمنين فإنَّ فيه تعريضًا بالمشركين في اتِّكالهم على شفاعة الملائكة، ولذلك قال: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، ثم قال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وهذا رد على المشركين
(2/522)
في اتخاذهم آلهة من دونه، {الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [س 130/ب] هذه الصفات كان يعترف بها المشركون، ففي ذكرها استدلال على توحُّدِه عزَّ وجلَّ بالألوهية وعلى ما بعده وهو قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} أي ــ والله أعلم ــ: أنَّ اتِّصافه بالصفات المذكورة ــ والمشركون يعترفون بذلك ــ يُحيل أن يتجرَّأَ أحدٌ مِنْ عباده على الشفاعة عنده. أي ــ والله أعلم ــ: في الآخرة مطلقًا, وفي الدنيا بالنسبة إلى الذين عنده كالملائكة. ثم رأيت في الدُّرِّ المنثور ما لفظه: "وأخرج الطبراني في السنَّة عن ابن عباس {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} يريد الذي ليس معه شريك, فكلٌّ معبود من دونه فهو خلق من خلقه لا يضرُّون ولا ينفعون ولا يملكون رزقًا ولا حياة ولا نشورًا ... {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} يريد الملائكة مثل قوله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} يريد من السماء إلى الأرض {وَمَا خَلْفَهُمْ} يريد ما في السموات، {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} يريد مما أطلعهم على علمه ... " (1). والآية التي استشهد بها هذا سياقُها: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26 - 28]. _________ (1) انظر: الدرّ المنثور 2/ 9 و 19.
(2/523)
ثم أردفها الله تعالى بتمام الاستدلال على أنَّ الشفاعة عنده لا تكون إلا بإذنه فقال: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} الضمير للملائكة كما سمعتَ عن ابن عباس. وكذا قال مقاتل فَسَّر {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} بما بعد خلق الملائكة، {وَمَا خَلْفَهُمْ} بما قبل ذلك. وقد علمتَ أنَّ الملائكة مذكورون قبل ذلك (1)، فلا [س 131/أ] مانع من عود الضمير عليهم. {وَلَا يُحِيطُونَ} أي الملائكة {بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} عزَّ وجلَّ {إِلَّا بِمَا شَاءَ}، فلا يعلمون بعبادة المشركين لهم ولا بحاجاتهم ومقاصدهم إلا أن يشاء الله تعالى أنْ يُعْلِمَهم، (ويؤيِّد كونَ المراد الملائكة .... ) (2). فإذن الأمر كله لله، والذي ينبغي للعاقل الاهتمام به رضا الله تعالى، وفيه إشارة إلى أنَّ اتخاذهم وسائط بين العباد وربِّهم جهل؛ لأنهم لا يطَّلعون على شيء من أحوالهم إلَّا إذا أطْلَعَهم الله عزَّ وجلَّ، فكيف يكون الله عزَّ وجلَّ هو الذي يعلم بأحوالنا دون الملائكة، فيذهب العباد إلى أن يطلبوا منه تعالى أن يُطْلِع الملائكة أنهم يطلبون منهم أنْ يشفعوا لهم عند ربهم عزَّ وجلَّ؟ فليُرْضُوه تعالى من أوَّل الأمر ويطلبوا منه حاجاتهم. {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} بيان لعِظَمِ ملكه وكمال قدرته، وشمولها كلَّ شيء وأنَّه مدبِّر كلِّ شيء، وحافظ، ولا يشقُّ عليه ذلك، فإذن هو الغنيُّ لا يحتاج إلى معونة أحد من الملائكة أو غيرهم. _________ (1) هنا كلمة لم تظهر, ولعلها: صريحًا. (2) هذا ملحق ذهب البللُ بأكثره.
(2/524)
[س 131/ب] المرتبة الثانية: أنه لو فُرِضَ أنَّ الملائكة يشفعون لهم بدون إذنٍ لما نفعهم ذلك؛ فإنَّ الله تعالى هو الذي بيده ملكوت كلِّ شيء ويجير ولا يجار عليه باعتراف المشركين، فمِن ذلك قولُه تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)} [سبأ: 22 - 23]، قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} يعني الملائكة عندما يقضي الله عزَّ وجلَّ القضاء بالإذن لهم لشفاعة أو غيرها. أخرج البخاري في صحيحه والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة قال: إنَّ نبيَّ الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خُضْعانًا (1) لقوله كأنه سَلْسَلَة على صَفْوان، فإذا فُزِّع عن قلوبهم {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} قالوا للذي قال: الحقُّ {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} " الحديث (2). وفي صحيح مسلم والترمذي والنسائي عن ابن عباس قال: كان رسول _________ (1) بضمِّ أوَّله ويكسر، قيل: هو مصدرٌ، وقيل: جمع خاضعٍ. النهاية 2/ 43، هدي الساري 112. قال العينيُّ: "وهذا أولى، وانتصابه على الحاليَّة". عمدة القاري 25/ 229 - 230. (2) انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب التفسير، سورة سبأ، باب: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}، 6/ 122، ح 4800. جامع التِّرمِذيِّ، كتاب التفسير، باب ومن سورة سبأ، 5/ 362، ح 3223. سنن ابن ماجه، المقدِّمة (كتاب السنَّة)، باب فيما أنكرت الجهميَّة، 1/ 69 - 70، ح 194.
(2/525)
الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم جالسًا في نفر من أصحابه فرُمِيَ بنجم فاستنار، الحديث. وفيه (1) قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "ولكن ربنا إذا قضى أمرًا سبَّح حملة العرش ثم سبَّح أهل السماء الذين يلون حملة العرش فيقول الذين يلون حملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ويخبرُ أهلُ كلِّ سماء سماءً" الحديث (2). وفي سنن أبي داود عن ابن مسعودٍ [عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلَّم] قال: "إذا تكلم الله تعالى [بالوحي سمع أهل السماء الدنيا صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل ... ] (3) (4). _________ (1) كلمة غير واضحة، والمثبت اجتهاد منِّي. (2) انظر: صحيح مسلم، كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهَّان، 7/ 36، ح 2229. جامع التِّرمِذيِّ، كتاب التفسير، باب ومن سورة سبأ، 5/ 362، ح 3224. تفسير النسائيِّ، سورة الحجر، قوله تعالى: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ}، 1/ 629 - 630، ح 292. (3) ما بين المعقوفين غير واضحٍ في الأصل. (4) أخرجه البخاريُّ تعليقًا بصيغة الجزم في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}، 9/ 141. وأبو داود في كتاب السنة، باب في القرآن، 4/ 235، ح 4738. وابن خزيمة في كتاب التوحيد، باب من صفة تكلُّم الله عزَّ وجلَّ بالوحي، 1/ 350 - 354، ح 207 - 211. والآجُرِّيُّ في الشريعة، باب ذكر السنن التي دلَّت العقلاء على أنَّ الله عزَّ وجلَّ على عرشه ... ، 3/ 1094، ح 669. والبيهقي في الأسماء والصفات، باب ما جاء في إسماع الربِّ عزَّ وجلَّ بعض ملائكته كلامه، 1/ 506 - 511، ح 432 - 434. وصحَّحه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/ 282 - 283، ح 1293.
(2/526)
وأخرج ابن جرير وابن خزيمة وغيرهما [عن النوَّاس بن سمعان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أراد الله أن يوحي بأمرٍ تكلَّم] (1) بالوحي، فإذا تكلَّم بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله تعالى, فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا سجَّدًا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد فيمضي به جبريل عليه السلام على الملائكة كلما مرّ بسماءٍ سماءٍ سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل" الحديث (2). وفي هذا [المعنى] آثار ... (3) والله أعلم (4). والدليل النظري على أنَّ الشفاعة وقوعها بدون إذنٍ منه عزَّ وجلَّ لا تنفع [بل] [س 132/أ] تكون معصية له تعالى، وجرأة عليه؛ إذ المشركون معترفون بعظمة الله عزَّ وجلَّ وجلاله وكبريائه، وقد قامت الحجة عليهم أنَّ الملائكة ليسوا إلَّا خلقًا من خلقه, فلو اجترؤوا على أنْ يشفعوا لديه في حقِّ مَنْ سوَّاهم به تعالى في العبادة وعصاه بتعظيمهم لكان ظاهر ذلك رضاهم _________ (1) ما بين المعقوفين غير واضح في الأصل. (2) أخرجه الطبري في تفسيره 19/ 278. وابن خزيمة في كتاب التوحيد، باب صفة تكلُّم الله بالوحي ... ، 1/ 348 - 394، ح 206. وغيرهما كابن أبي عاصم في السنة، باب ذكر الكلام والصوت ... ، ص 226 - 227، ح 515. والآجرِّيُّ في الشريعة، الموضع السابق، 3/ 1092 - 1093، ح 668. والبيهقيُّ في الأسماء والصفات، الموضع السابق، 1/ 511 - 512، ح 435. وإسناده ضعيفٌ كما قال الألبانيُّ في تخريج السنة لابن أبي عاصم. (3) ما بين المعقوفين لم يظهر في الأصل، وهنا بضع كلمات أصابها بلل. (4) انظر بعض هذه الآثار في: تفسير الطبري 19/ 279 - 280.
(2/527)
بفعله، ورِضاهم بفعله محاربة لله عز وجل، وقد قال تعالى في الملائكة: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29]، وقد عصم الله الملائكة من الشفاعة بغير إذنه، وإنما هذا فرضٌ وتقدير حتى تقوم الحجة على العباد. [س 132/ب] فلم يبق أمام المشركين إلا شبهتان: إحداهما: التشبُّث بالقَدَر. الثانية: التقليد. أما الأولى فقال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} [الأنعام: 148 - 150]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [النحل: 35 - 37].
(2/528)
وقال سبحانه: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ [س 133/أ] مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزخرف: 20 - 25]. قوله تعالى عقب الآية الأولى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وفي سياق الآية الثانية {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} وفي سياق الثالثة: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} يدل أنهم أرادوا بالتشبث بالقدر تكذيب الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم. كأنهم أرادوا ــ والله أعلم ــ: أنت تقول: إن الله يأمرنا بترك الشرك وترك التحريم من عند أنفسنا، وهذا باطل؛ إذ لو كان الله عزَّ وجلَّ يأمر بذلك كما تقول لكان يشاؤه، ولو كان يشاؤه لما وقع خلافه. فأجابهم الله عزَّ وجلَّ بأمرهم أن يتفكَّروا في أحوال مَن تقدّمهم من الأمم التي (1) كانوا على مثل حالهم من الشرك والتقوُّل على الله تعالى، وجاءهم رسل منهم يبلِّغونهم أوامره ونواهيه كما جاء محمد عليه الصلاة والسلام هؤلاء [س 133/ب] يبلِّغهم عن الله أوامره ونواهيَه, فكذَّب فريق من أولئك كما يكذِّب فريق من هؤلاء فعذَّب الله عزَّ وجلَّ المكذبين أولئك (2)، فليعتبر هؤلاء ويعلموا أنهم _________ (1) كذا. (2) كذا.
(2/529)
إن أصرُّوا على التكذيب عذَّبهم الله تعالى كما عذَّب أولئك. وهذا وإن كان ظاهره مجردَ وعيد فقد تضمَّن حجَّة بيِّنة على صدق محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أوَّلًا وعلى سقوط شبهتهم ثانيًا. أما الدلالة على صدق محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فإنَّ حاله في نفسه وأخلاقِه وما يدعو إليه وما جاء به من الآيات كحال الأنبياء قبله إن لم يزد عليهم لم يَقِلَّ عنهم، وقد بان صدقُ أولئك واعترف المشركون بصدقهم أو أكثرُهم وبأنَّ مَن آمن بهم من قومهم نَجا ومَنْ كذَّبهم هلك، ولا تزال آثار عذاب المكذِّبين ماثلة أمام أعينهم، ذكَّرهم الله تعالى بها في غير موضع. فثبت بهذا أنَّ محمَّدًا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم صادق وأنَّ الإيمان به نجاة وتكذيبه هلكة. وأما سقوط شبهتهم فإنَّ حال أمم الأنبياء [الأولين] (1) عليهم السلام كحال هؤلاء سواء، وكانت [عين هذه الشبهة] (2) قائمة في حقهم، قالوها أم لم يقولوا، ومع [ذلك أهلكهم الله] (3) عز وجل باعتراف هؤلاء. فتبيَّن سقوط هذه الشبهة. [س 134/أ] وإيضاح هذا أنَّ المشركين كانوا يعترفون بنبوَّة الأنبياء الأوَّلين أو بعضهم، وبأنَّ الله تعالى بعثهم إلى أممٍ ضالَّة ليهدوهم، وأنَّ من كذبهم أو خالفهم ظالم فاجر, مع أنَّ هذه الشبهة قائمة في حقهم؛ إذ يقال: لو شاء الله ما كذَّبوا الأنبياء ولا عادَوْهم ولا قتلُوهم. _________ (1) غير واضحة في الأصل. (2) غير واضحة في الأصل. (3) غير واضحة في الأصل.
(2/530)
ونبَّه الله عزَّ وجلَّ على هذا بقوله: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]، كأنه قال: ويلزم المشركين باعتقادهم ضلالَ مَن كذَّب الأنبياء الماضين وعاداهم أن يكونوا معتقدين بأنَّ المكذبين كانوا متمكِّنين من التصديق والطاعة، ولو جاؤوا بهذه الشبهة لكانوا مناقضين لأنفسهم في معاداة الرسل؛ إذ يلزمهم إن اعتقدوا تلك الشبهة أن يعتقدوا أنَّ ما عليه الرسل حق؛ إذ لو شاء الله تعالى ما كان منهم (من تكذيب) (1) الرسل ما كان، وهكذا في شأن فاعلي المحرَّمات. فإذا وَزَنَ المشركون حالَهم بهذا الميزان تبيّن لهم قطعًا سقوط شبهتهم، أي أنها لا [تصلح] (2) لما قصدوه بها من تكذيب محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم [وإثبات] (3) أنَّ ما هم عليه حق يحبه الله ويرضاه ... (4) الأنبياء الماضين وأممهم، وثانيًا: تناقض اعتقادهم في المحرمات، وثالثًا: أن [القضية بعكس ظنهم] (5). فإذًا بان لهم سقوط الشبهة بهذا التقرير، ومع ذلك كان هذا راسخًا في فِطَرِهم [س 134/ب] أنَّ ما شاءه الله عزَّ وجلَّ كائن لا محالة، ولم يهتدوا إلى جامعٍ بين العقيدتين فليسترشدوا عقولَهم؛ فإن العقول تقول لهم: إذا كنتم مطمئنِّين بالعقيدتين فإنكم لا بدَّ أن تطمئنُّوا بأنَّ بينهما جامعًا يدفع ما يظهر _________ (1) غير واضحة في الأصل. (2) لم تظهر بعض حروفها في الأصل. (3) لم تظهر كاملة في الأصل. (4) هنا بضع كلمات لم تظهر في الأصل. (5) غير واضحة في الأصل.
(2/531)
من التناقض، وعِلْمُ ذلك الجامع لا يُهِمُّكُم، بل المهمُّ أن تسلكوا الطريق المنجيَ, فَدَعُوا (1) الشرك والتقوُّل على الله تعالى، واتَّبِعوا الرسول وأطيعوه فتكونوا عاملين بكلا (2) العقيدتين ناجين على كلِّ حال؛ لأنكم إذا فعلتم ذلك كنتم قد عملتم بعقيدتكم في صدق الأنبياء الماضين وما يترتَّب عليها، وبالبراهين القائمة على حقِّيَّة ما عليه محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وصحَّ مع ذلك أن يقال: إن الله عزَّ وجلَّ لو شاء ألَّا تتركوا الشرك لما تركتموه. [س 135/أ] فأما أن تبقوا على الشرك بعد علمكم بأن البقاء عليه ضلال موجب للهلاك والعذاب لمجرد جهلكم بالجامع بين العقيدتين, فهذه سفاهة بل جنون. فقد تبيَّن أنَّ إرشادهم إلى النظر في حال الأنبياء المتقدِّمين مع أممهم كان في إقامة الحجَّة وأنه لا حاجة إلى فتح باب القَدَر (3) إقراره، واكتَفَى بالإشارة إليه بقوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}، وقوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} والله أعلم. ثم ذكر الله عزَّ وجلَّ حجة أخرى لإسقاط تشبُّثهم بتلك الشبهة فقال تعالى في الموضع الأول: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} وفي الموضع الثالث: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)} يريد _________ (1) تحتمل: وتدَعوا. (2) كذا. (3) هنا نحو كلمتين لم تظهرا في الأصل.
(2/532)
ــ والله أعلم ــ أنَّ زعمكم أنَّ التشبُّث بتلك الشبهة يصلح (لإثبات) [س 135/ب] كون ما أنتم عليه حقًّا يحبه الله ويرضاه ليس إلا توهُّمًا وتخمينًا أو كذبًا لعلمكم ببطلان ذلك كما تقدَّم. وتركُ اليقين لمجرد التخرُّص والتخمين جهلٌ واضح، فدَعُوا ذلك وأخبروني: هل عندكم من دليل علميٍّ بأنَّ ما أنتم عليه من الشرك وتحريم بعض الأشياء حق يحبه الله ويرضاه؟، فلم يبق بيدهم إلَّا الشبهة الثانية وهي التقليد. قال تعالى في الموضع الثالث: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)}. فأبطل الله عزَّ وجلَّ شبهة التقليد بثلاثة أمور: [س 136/أ] الأول: ما سبق ذكره أنَّ ترك اليقين لمجرَّد التخرُّص والتخمين جهل، والتقليد مبنيٌّ على تخرُّص وتخمين، لأنَّ أساسه تعظيمهم لآبائهم واستبعادهم أن يكونوا على ضلال. الثاني: الإخبار بأنَّ الأمم الغابرة كانت تقول مثل هذا، أي: ومشركو العرب يعترفون بنبوَّة المتقدِّمين أو بعضهم، وضلالِ مكذِّبيهم، فإذا تأمَّلوا هذا عرفوا سقوط شبهة التقليد. الثالث (1): قوله: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ}، يريد _________ (1) في الأصل: (الثالثة) , وهو سبق قلم.
(2/533)
ــ والله أعلم ــ: لا تحصروا نظركم في حسن الظنِّ بآبائكم، بل مع ذلك انظروا فيما وجدتموهم عليه وفيما جئتكم به، ووازِنوا بينهما؛ فإنكم إذا فعلتم ذلك بإخلاصٍ تبيَّن لكم أنَّ ما جئتُكم به الحقُّ المبين، فحينئذٍ ينبغي لكم أن تَتَّبِعوا اليقين وتتركوا التوهُّم والتخمين. ثم أخبر الله تعالى عن الأمم السابقة بأنهم بعد هذا كلِّه [س 136/ب] لجؤوا إلى العناد البحت، وهو قولهم: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أي: على كلِّ حال وإن أقمتم من البراهين عدد نجوم السماء. قال عزَّ وجلَّ: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} يريد ــ والله أعلم ــ: فلما وقفوا هذا الموقف وهو العناد المحض بعد قيام الحجة ووضوح المحجَّة لم يبق إلَّا أن نعذِّبهم فعذَّبناهم. والمقصود ببيان هذه توعُّد المشركين بأنهم قد قامت عليهم الحجَّة ولم يبق لهم شبهة، فوقوفُهم موقف الأمم الغابرة من العناد البحت موجبٌ للعذاب، والله أعلم. وقد تسلسل هذا البحث وطال ولكنه لا يخلو عن فائدة في موضوع هذه الرسالة. ولنرجع إلى بيان اعتقاد المشركين في الملائكة فأقول مستعينًا بالله تبارك وتعالى: قد علمتَ مما تقدَّم أنَّ اعتقاد المشركين في الملائكة له طرفان: الأول: ما يتعلق بذوات الملائكة. الثاني: [س 137/أ] فيما يُرجى منهم.
(2/534)
فأما الأول: فكانوا يقولون: إنهم بنات الله, تعالى عن قولهم علوًّا كبيرًا. وأما الثاني فكانوا يقولون: إنهم يشفعون إلى الله عزَّ وجلَّ, والغالب أنه تعالى يقبل شفاعتهم. وإذا كان المقصود من هذه الرسالة هو تحقيق التأليه والعبادة فنقول: هل الاعتقاد في ذوات الملائكة أنهم بنات الله هو التأليه والعبادة أو ركن لهما؟ أقول: قد تقدَّم أنَّ القرآن عدّ عبادتهم للملائكة على حِدَة أي مع صرف النظر عن الاعتقاد في ذواتهم شركًا، ويشهد له قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، فجعلوا العبادة أمرًا (اختياريًّا) (1) يفعلونه طمعًا في الشفاعة, ولا يصح أن تفسَّر بالاعتقاد ولا بما يكون الاعتقاد ركنًا له؛ لأنهم كانوا يدَّعون أنَّ اعتقادهم في الملائكة ليس أمرًا اختياريًّا، أي: يمكنهم أن يفعلوه أو لا يفعلوه، وإنما هو كسائر الاعتقادات الاضطراريَّة كاعتقاد أنَّ لك رأسًا، ولو قالوا إنما نعتقد أنهم بنات الله ليشفعوا [س 137/ب] لنا لكان هذا اعترافًا منهم بأنهم لا يعتقدون أنهم بنات الله، وإنما يقولون ذلك بألسنتهم، وهم لم يعترفوا بهذا. وأيضًا فقد عبدوا الأصنام مع أنهم لم يعتقدوا في ذواتها شيئًا، وقد تقدَّم في ذِكْرِ الأمم الغابرة ما هو قاطع في هذا المعنى، ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} _________ (1) ظهرت منها الأحرف الثلاثة الأول.
(2/535)
[المائدة: 116]. [و] (1) قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} الآية [المائدة: 73]. وقد تقدَّم بيان أنَّ المراد ثلاثة آلهة، وأرادوا الله تعالى وعيسى ومريم عليهما السلام. [و] (2) النصارى لم يعتقدوا في مريم إلا أنها امرأة من البشر، وتقدَّم بيانه. وأوضحُ منه قولُ قومِ موسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]. إذن فهل اعتقادهم في الملائكة أنهم يشفعون هو التأليه والعبادة أو ركن لهما؟ كلَّا؛ فإنَّ هذا الاعتقاد باعث لهم على العبادة فكيف يكون هو العبادة؟ وأيضًا فهذا الاعتقاد يقال فيه ما تقدَّم في اعتقادهم في ذوات الملائكة أنهم كانوا يزعمون [س 138/أ] أنه اعتقاد راسخ في قلوبهم لا أنه من الأمور الاختياريَّة. وأيضًا فاعتقاد أن الملائكة يشفعون في الجملة أمرٌ يقرُّ عليه الشرع ويُثْبِته، والآيات في ذلك كثيرة كقوله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]. إذن فما هو التأليه وما هي العبادة؟ - أعمالهم التي فيها تعظيم للإناث الخياليَّات التي هي في زعمهم الملائكة. _________ (1) لم تظهر في الأصل لبلل في طرف الورقة. (2) لم تظهر في الأصل.
(2/536)
- كانوا يشركون في التلبية في الحجِّ كما صحَّ أنهم كانوا يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك" فيقول النبي صلَّى الله عليه وآله وسلم: ويلكم قَدْ قَدْ أو كما قال، يعني: لا تزيدوا على هذا، فيقولون: "إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك" (1). وقولهم: "لا شريك لك" أي: في التلبية. وقولهم: "إلا شريكًا" (2) والله أعلم. وقولهم: "هو لك" (3). وقولهم: "تملكه" (4). [س 138/ب] أرادوا الإناث الخياليات، والله أعلم. وكانوا أيضًا كما تقدَّم يتَّخذون الأصنام تماثيل أو تذاكر لتلك الإناث ثم يعظِّمونها بقصد التعظيم لتلك الإناث وكانوا يَدْعُونهنَّ، وسيأتي بيان الدعاء في فصلٍ مستقلٍّ. - وكانوا يسمُّون: عبد اللات، عبد العزى، عبد مناة، وقد تقدَّم أنَّ هذه في الأصل أسماء ــ فيما زعموه ــ لتلك الإناث الخياليَّات. - وكانوا يُقسمون بهذه الأسماء ويذكرونها عند الذبح. _________ (1) تقدم تخريجه. (2) هنا بضع كلمات لم تظهر بسبب البلل. (3) لم يظهر ما بعده في الأصل. (4) لم يظهر ما بعده في الأصل.
(2/537)
- وكانوا يجعلون لهم نصيبًا من أموالهم يصرفونه في تطييب الأصنام، يظهر هذا من قول الله تبارك وتعالى: [{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ ... } الآية [الأنعام: 136]] (1). [فهذه] (2) الآية [تدل] (3) على ما ظهر لي أنهم جعلوا نصيبًا لله تعالى ونصيبًا لشركائهم. [س 139/أ] (4) وقال تبارك وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)} [العنكبوت: 41 - 42]، فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} لا يصحُّ أن يكون نفيًا لأصل الدعاء كما تقول: لم أدْعُ بمعنى أنه لم يقع منك دعاء أصلًا، لأنَّ الله تعالى قد أثبت لهم الدعاء في آيات كثيرة تقدَّم بعضها، وإنما النفي مُنْصَبٌّ على {شَيْءٍ} (5) والمراد بالشيء هنا الثابت الموجود، والنفي منصبٌّ عليه كما في قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9] , {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 67]. _________ (1) بيَّض للآية نحو سطرين وربع سطر، ولعلها ما أثبتنا. (2) لم تظهر في الأصل. (3) لم تظهر في الأصل. (4) خمسة الأوراق ذات الوجهين الآتية محبوكة بدبوس على الورقة التي بعدهن، والظاهر أنه من صنيع المؤلف لأنها مقصوصة من دفتر. (5) كتبت في الأصل: (شيئًا) , وهو سبق قلم.
(2/538)
[س 139/ب] ويمكن أن يكون المراد شيئًا له بالٌ كما في قوله تعالى: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39]، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113]. والأوَّل أقرب. ومثلُ هذه الآية قولُه تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 70 - 75]. أم كانوا على ضلال فقال الله عزَّ وجلَّ: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ}، أي: أن ذلك الضلال الذي كنتم عليه أوجبه كفركم أوّلًا كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وكما هنا للتعليل أي: لعدم إيمانهم أول مرة عاقبهم الله عز وجل بالضلال، كما قال تعالى: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ}، وقال عزَّ وجلَّ: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}، وغالب ما في القرآن من نسبة الضلال إلى الله عز وجل جارٍ هذا المجرى، أي واقع عقوبة على عناد وتكبر يقع من الإنسان أولًا، ثم بين عز وجل ذلك بقوله: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ}، وكثير من المفسرين فسروا قولهم {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو
(2/539)
مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} بأن المراد منه نفي الدعاء أصلًا، وأنهم يجحدون شركهم، وقد يؤيد ذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}، {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 22 - 24]، والأول أرجح؛ لأن قولهم: {ضَلُّوا عَنَّا} اعتراف بأنهم كانوا يدعون، والإنكار عقب الاعتراف لا يخلو عن بُعد، بخلاف حَمْلِ قولهم: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا}، على (1)؛ إذ ليس فيه إنكار وإنما فيه اعتراف آخر، وكأنهم قالوا: إنَّ الذين كنا ندعوهم لا وجود لهم هنا، بل لا وجود لهم أصلًا. والله أعلم. [س 140/أ] وقال تبارك وتعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ... وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 35 - 38]. يعني والله أعلم: لو فُرض أنَّ تلك الإناث التي تزعمون موجودة هل في قدرتها إبطال مراد الله تعالى؟ والمقصود من هذا الفرض إلزامهم؛ فإنهم كانوا يعترفون بأنَّ الله تعالى هو الذي يجير ولا يجار عليه. فإذا اعترفوا بذلك بطل تخويفهم للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم, ... (2). [س 140/ب] مع أنه يلزم منه عدم استحقاق تلك الإناث للعبادة، فأما القصد إلى إبطال استحقاقهنَّ العبادة وإلى إبطال وجودهنَّ فقد بيَّنه الله تعالى _________ (1) كلمتان أو ثلاث أصابها بلل. (2) بعده سطر أصابه بلل ظهر منه: "هذا تعالى لهذا".
(2/540)
في مواضع أخرى، والله أعلم. [س 140/أ] ومن الثاني أي ذكر الدعاء بعنوان الملائكة قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 12 - 15]، قدَّم الله تعالى أنَّ الملائكة يسبِّحون من خيفته تمهيدًا لإبطال عبادتهم من دونه، وعقب بقوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ ... } تتميمًا لذلك. [س 141/ب] وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} [النحل: 86]. وقد تقدَّم أنَّ الملائكة هم الذين يكذِّبون المشركين يوم القيامة، ارجع إلى ذلك في ترجمة الملائكة من فصل العبادة. [س 142/أ] وقال عزَّ وجلَّ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ... } [الإسراء: 56 - 57]. وقد مرَّت هذه الآية في ترجمة الملائكة من فصل الألوهية فارجع إليها (1). _________ (1) ص 417، 419.
(2/541)
وقال تعالى في سورة الملائكة (فاطر) (1): {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)}، {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (2). [س 142/ب] فمهّد الله تبارك وتعالى بذكر الملائكة وأنهم رسله، لا يمسكون ما يفتح، ولا يرسلون ما أمسك، ثم عدَّد كثيرًا من آيات وحدانيَّته إلى أن قال: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ ......... }، فكان الظاهر أنه أراد الملائكة ليكون ذكرهم أوَّلًا أمكن في التمهيد. وأيضًا فقد مرَّ في ترجَمَتَي الملائكة من فَصْلَي الألوهية والعبادة آيات توافق هاتين الآيتين فارجع إليه (3)، ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 4 - 6]. _________ (1) التوضيح من المؤلف. (2) سورة فاطر: 13 - 14. (3) كذا في الأصل. وانظر ص 421 - 428.
(2/542)
[س 143/أ] وقال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ (1) مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 20 - 21]. اختار بعض المفسرين أن المراد الملائكة، وقوله: {أَمْوَاتٌ} يريد: صائرون إلى الموت كقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]. وقوله: {غَيْرُ أَحْيَاءٍ} يريد: الحياة التامَّة أو الدائمة لقوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]. [س 143/ب] اعتقادهم في أهوائهم قد مرّ في فصل التأليه آيتان في أنهم اتخذوا آلهتهم هواهم، ومعنى ذلك ظاهر، فإنهم شرعوا لأنفسهم الدِّين بمجرَّد هواهم، فقد أطاعوا هواهم في شرع الدين, فكما أنَّ اليهود والنصارى أطاعوا أحبارهم ورهبانهم في شرع الدين فالأحبار والرهبان أطاعوا أهواءهم، وهكذا مشركو العرب أطاعوا رؤساءهم في شرع الدين كما سيأتي قريبًا، إن شاء الله تعالى، والرؤساء أطاعوا أهواءهم. وإنما لم يكثر هذا المعنى في القرآن استغناء بذكر تأليهم للشياطين؛ فإنَّ تأليه الهوى يلزمه تأليهُ الشيطان؛ لأنه المتلاعب بالهوى. _________ (1) كتبها المؤلف بالخطاب على قراءة غير يعقوب وعاصم. انظر: النشر في القراءات العشر 2/ 303.
(2/543)
[س 144/أ] اعتقادهم في الشياطين فأما اعتقاد المشركين في الشياطين فلم أجد لهم اعتقادًا يخالف الحقَّ. فأما استعاذتهم بالجنِّ الذي أخبر الله تعالى بها في قوله عن مسلمي الجنِّ {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] فذاك شيء لا يصحُّ أن يكون هو المراد بالآيات الكثيرة في عبادة الشياطين. نَعَم، كانوا يعتقدون أنَّ ما يوحونه إليهم في شرع الدين حقٌّ، ولكن لم يعلموا أنَّ ذلك من [وحي الشياطين] (1) بل يظنُّونه من رأيهم واجتهادهم. أعمالهم وأمَّا أعمالهم فكانوا يطيعونهم فيما يوسوسون [به إليهم] (2) , والأعمال التي يتخذونها دينًا يتقرَّبون به إلى الله [سبحانه] (3). هذا مع أنهم كانوا يجهلون أنهم [يعبدون] (4) الشياطين، ولكنَّ الله عزَّ وجلَّ ألزمهم ذلك لأنهم كانوا يأخذون دينهم عن غير حجَّة ولا برهان، بل بمجرَّد التخرُّص والتخمين، وذلك من وسوسة الشياطين, [س 144/ب] فقد ساوَوا اليهود والنصارى في أخذ دينهم عن غير بيِّنة من الله تعالى، وإنما الفرق أنَّ أولئك كانوا يعلمون أنهم يأخذون دينهم عن شرع الأحبار والرهبان، وهؤلاء لا يشعرون بأنهم إنما يأخذون عن شرع الشيطان. _________ (1) ما بين المعقوفين لم يظهر في الأصل. (2) لم تظهر في الأصل. (3) لم تظهر في الأصل. (4) لم تظهر في الأصل.
(2/544)
وأمرٌ آخر ألزمهم الله تعالى به وهو أنَّ عبادتهم للإناث الخياليَّات لما كانت لمعدومٍ ترجع إلى الآمر لهم بذلك وهو الشيطان. (ثم إنَّ) (1) عبادتهم للملائكة لما كان الملائكة لم يأمروا بها ولم يرضوها رجعت للآمر لهم وهو الشيطان. وثالث: وهو أنَّ الشيطان يعترض العبادات الباطلة بما يجعلها في الصورة كأنها له. ومن ذلك ما جاء في الصحيح أنَّ الشيطان يقارن الشمس عند ما يسجد لها المشركون (2)، أي: ليكون السجود في الصورة كأنه له. [س 145/أ] بل إنَّ الشيطان يعترض العبادات الحقَّة إذا قصَّر صاحبها، يريد الشيطان أن تكون في الصورة كأنها له، فقد جاء في الحديث: "مَنْ كانت له سُتْرة فليَدْنُ منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته" (3)، وهذا الحديث فيه مقال، _________ (1) لم تظهر الكلمتان في الأصل. (2) سيأتي تخريج هذا الحديث في ص 726 فصل تفسير عبادة الشياطين. (3) أخرجه أحمد 4/ 2. وأبو داود في كتاب الصلاة، باب الدنوِّ من السترة، 1/ 185، ح 695. والنسائي في كتاب القبلة، الأمر بالدُّنوِّ من السترة، 2/ 49. وابن خزيمة في كتاب الصلاة، باب الأمر بالدنوِّ من السترة ... ، 1/ 410، ح 803. وابن حبان (الإحسان)، كتاب الصلاة، باب ما يكره للمصلِّي وما لا يكره، ذكر العلَّة التي من أجلها أُمِر بالدنوِّ من السترة للمصلِّي، 6/ 136، ح 2373. والحاكم في كتاب الصلاة، "لا تصلُّوا إلا إلى سترة ... "، 1/ 251 - 252، من حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه. قال الحاكم: "هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ولم يتعقَّبه الذهبيُّ.
(2/545)
لكن تؤيِّده الأحاديث كأحاديث أنَّ المرأة والحمار والكلب الأسود تقطع الصلاة، وأن المرأة تُقبل بصورة شيطان, وأن الحمار إذا نهق فإنه رأى شيطانًا (1)، وعلَّل النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كونَ الكلب الأسود يقطع الصلاة [دون] (2) بقيَّة الكلاب بقوله: "الكلب الأسود شيطان". والأدلَّة في هذا كثيرة، ولتحقيق هذا البحث موضع آخر. المقصود أنَّ الشيطان يعترض العبادات لتكون في الصورة [له]. وقال الله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 117]، {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج: 13] ففي هذا إلزام المشركين بأنهم يدعون الشياطين. وفيه ما مرَّ قريبًا في الأمر الثاني والثالث، والله أعلم. [س 145/ب] فصل معاني أعمال المشركين التي تقدَّمت كلها ظاهرة إلَّا العكوف والدعاء، فأمَّا العكوف فهو المكث عند الصنم بهيئة الأدب زاعمين أنَّ ذلك تعظيم لمن جُعل الصنم تمثالًا له، بل يعدُّون ذلك عبادة لله عزَّ وجلَّ؛ لأنه في زعمهم يحب ذلك ويرضاه، ولذلك نرى مشركي الهند يتحرَّون لدعاء الله عزَّ وجلَّ أن يكون عند الأصنام (3). _________ (1) سيأتي تخريج الأحاديث الثلاثة في ص 428 - 429. (2) لم تظهر في الأصل. (3) جاء في المسوَّدة هنا قوله: " وأما الدعاء فهاك بيانه: أهل اللغة متفقون" ثم أورد المؤلِّف نحو صفحة مطابقة لما عندنا في مدخل فصل في الدعاء ص 754 - 755 إلى قوله: كما تقول: سألته أن يعطيني. ثم توقَّف الكلام عن الدعاء وقَطَع من الدفتر صفحات غير قليلة، ثم قال في صفحة جديدة: حاصلُ ما تقدَّم في هذا الباب.
(2/546)
[س 146/أ] حاصل ما تقدَّم في هذا الباب (1) تقدَّم ذكر قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم إبراهيم، والمصريِّين في عهد يوسف، وفي عهد موسى، وبني إسرائيل لما أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، واليهودِ والنصارى في شأن أحبارهم ورهبانهم، والنصارى في شأن عيسى وأمه، ومشركي العرب. وتَبَيَّن أنَّ هذه الأمم كلَّها تعترف بوجود الله عزَّ وجلَّ وربوبيَّته وأن (2) تاريخ الحكماء (3) لابن القفطي في ترجمة الكندي الفيلسوف (4) أنَّ له رسالة في إثبات أنَّ جميع الأمم كانوا موحِّدين (5)، وقد مرَّ في المقدِّمة نقلٌ عن المواقف وشرحها، فارجع إليه. وتبيَّن أيضًا أنَّ أكثرها أو جميعها تعبده تعالى وتعترف بوجود الملائكة. فأما شركهم: فقوم نوح كان فيهم رجال صالحون هلكوا فنحتوا لهم _________ (1) مضى نحو ما يأتي مختصرًا في ص 439 - 440. (2) كلمة غير واضحة. (3) طُبع باسم إخبار العلماء بأخبار الحكماء. (4) هو يعقوب بن إسحاق بن الصباح، أبو يوسف، من أبناء الملوك، متبحر في فنون الفلسفة اليونانية والفارسية والهنديَّة، متخصِّص بأحكام النجوم، له مصنفات كثيرة. انظر: إخبار العلماء بأخبار الحكماء 240 - 241. (5) انظر: المصدر السابق 244.
(2/547)
[تماثيل] (1) وسمَّوها بأسمائهم وعظَّموها تقرُّبًا إلى الله تعالى بواسطة أولئك الأشخاص فيما يظهر. وقوم هود عظّموا أشخاصًا غيبيين لا وجود لهم في [الحقيقة] (2). وفي التاريخ أنهم كان لهم أصنام, فكأنها رموز لأولئك [الأشخاص] (3)، وكذلك قوم صالح فيما يظهر. وقوم إبراهيم كانوا يعظِّمون بعض الكواكب ويدعونها وينصبون لها تماثيل ويعظِّمون تلك التماثيل بالعكوف [س 146/ب] عندها، ويدعونها في احتمالٍ قد تقدَّم، أي يسألون منها حوائجهم تخييلًا لأنفسهم أنها نفس الأرواح التي جُعِلت رموزًا لها. والمصريُّون في عهد يوسف عليه السلام يعظِّمون أشخاصًا غيبيِّين لا وجود لهم في الحقيقة وعندهم تماثيل لأولئك الأشخاص يعظِّمونها أيضًا. وقُبيل عهد موسى عليه السلام تركوا عبادة الله تعالى تعظيمًا له، زعموا، واقتصروا على تعظيم أولئك الأشخاص. وفي عهد موسى عليه السلام قصروا جواز تعظيم أولئك الأشخاص على مَلِكهم فرعون وحده، فليس لغيره أن يعظِّم أولئك الأشخاص، وأما العامَّة فإنما يعظِّمون فرعون نفسه جاعلين تعظيمه من الدِّين الذي يُقرِّب إلى الله تعالى في الغاية زعمًا أنه كريم عند الله تعالى بدليل أنه جعله مَلِكًا عزيزًا نافذ الكلمة. _________ (1) غير واضحة في الأصل. (2) لم تظهر بعض حروفها. (3) لم تظهر بعض حروفها.
(2/548)
فالعامَّة يعبدون فرعون، وفرعون يعبد الأشخاص الغيبيِّين وتماثيلهم، والأشخاص الغيبيّون يعبدون الله تعالى. وقوم موسى لما أتوا على قومٍ يعكفون على أصنام لهم طلبوا منه أن يجعل لهم صنمًا يعكفون عليه تقرُّبًا إلى الله تعالى، وفي شأن العجل [س 147/أ] زعموا أنَّ العكوفَ عليه عبادة لله عزَّ وجلَّ. واليهود والنصارى في شأن أحبارهم ورهبانهم أطاعوهم فيما يشرعونه من ذات أنفسهم على أن يكون دينًا، واتخذوه دينًا زعمًا منهم أنَّ ما شرعه الأحبارُ والرهبان فقد شرعه الله تعالى. والنصارى في شأن عيسى عليه السلام منهم مَنْ زعم أنه الله تعالى، ووجَّه إليه (1) جميعَ العبادات، ومنهم مَنْ زعم أنه ابنه بالمعنى المتبادر، ومنهم مَنْ زعم أنه أحدُ الآلهة الثلاثة التي مجموعها الرَّبُّ، وكلاهما يَشْركُه في جميع العبادات، والأخيرُ هو المعروف الآن، ويعظِّمون صورة عيسى عليه السلام وصورة الصليب بناء على زعمهم أنه صُلب. وفي شأن مريم عليها السلام يُحضرون صورتها في كنائسهم ويجعلونها أمامهم عند [الصلاة] (2) التي هي عبارة عن القيام والدعاء مع خفض الرؤوس، وينحنون لصورتها ويتمسَّحون بها ويستغيثون بمريم عليها السلام سائلين منها الشفاعة (3). _________ (1) تحتمل في الأصل أن تقرأ "الله". (2) غير واضحة في الأصل. (3) من هنا التصقت ورقتان، فهل هذا من المؤلف أو من أثر البلل؟
(2/549)
[س 147/ب] وأما مشركو العرب فكانوا مع اعترافهم بربوبيَّة الله عزَّ وجلَّ وأنه خالق كل شيء, ورازق كل حيٍّ، ومدبر الأمر، وبيده ملكوت كلِّ شيء وأنه يجير ولا يجار عليه؛ يعظِّمون الأصنام التي جعلوها رموزًا للملائكة مع زعمهم أنَّ الملائكة بنات الله ــ تعالى الله عن ذلك ــ ويرون تعظيم الأصنام تعظيمًا للملائكة، ويقصدون من تعظيم الملائكة أن يشفعوا لهم إلى الله عزَّ وجلَّ، فيعظِّمون الأصنام بالعكوف عليها والتمسُّح بها وتضميخها بالطيب ويزورونها من الأماكن البعيدة ونحو ذلك مما تقدم. وفي القرآن ما يُسْتَدَلُّ به أنهم كانوا يَدْعونها كما تقدَّم، فإن ثبت فحالهم في ذلك كما تقدَّم مِنْ حال قوم إبراهيم. ويعظِّمون الملائكة زاعمين أنهم بنات الله ــ تعالى الله عن ذلك ــ، ويُشْرِكونهم في التلبية قائلين: لبيك لا شريك لك ــ أي لا نُشرك معك في التلبية أحدًا ــ إلَّا شريك هو لك، تملكه وما ملك، ويذبحون بأسمائهم ويحلفون بها، ويسمُّون عَبْد اللات، عبد العزى، عبد مناة، وجعلوا لهم تماثيل ورموزًا، وهي الأصنام، وعظَّموها بما تقدَّم زاعمين أن تعظيمها تعظيم للملائكة؛ لأنها ليست إلَّا [س 148/أ] رموزًا لهم. ويجعلون للملائكة نصيبًا من أموالهم ويصرفونه في مصالح الأصنام كما يصرفون النصيب الذي يجعلونه لله تعالى في ذلك. وكانوا يدعونهم أي يسألون منهم حوائجهم بقصد أن يشفعوا إلى الله عزَّ وجلَّ في قضائها، وكانوا يطيعون أهواءهم فيما تستحسن شرعها من [دون إذنٍ من الله, زعمًا أن ذلك] (1) يُتقرَّب به إلى الله عزَّ وجلَّ أو إلى _________ (1) غير واضح في الأصل.
(2/550)
الملائكة، وألزمهم الله تعالى بطاعتهم أهواءهم أنهم مطيعون للشياطين؛ لأنَّ أهواءَهم متَّبَعَة عن وسوسة الشياطين. وكانوا يطيعون رؤساءهم فيما يشرعون لهم على أن يكون دينًا، والله أعلم. * * * *
(2/551)
[س 148/ب] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الخلاصة أنت خبير أننا إنما استعرضنا أديان الأمم التي أخبر الله عزَّ وجلَّ أنها ألَّهَتْ غيره وعبدت غيره وأشركت به لنستنتج منها تحقيق معنى التأليه والعبادة والشرك كما هو موضوع هذه الرسالة. وعند تدبُّر أديانهم تجدهم اتفقوا في معنًى واحدٍ وانفرد كلٌّ منهم بمعنًى, فكان بيِّنًا أنَّ المعنى المتَّفَقَ عليه عليه مَدارُ تأليهِ غير الله وعبادةِ غيره والشرك به، ضرورةَ أنَّ الله عزَّ وجلَّ أخبر عنهم جميعًا بذلك، وما ينفرد به كلٌّ منهم أمرٌ زائد على ذلك. وأكَّد عندنا هذا أنَّنا وجدنا القرآن يوبِّخ النصارى على تأليه غيره وعبادة غيره والشرك به مع صرف النظر عن قولهم في عيسى كما تقدَّم. وكذلك يوبِّخ مشركي العرب على تأليه غيره وعبادة غيره والشرك به مع صرف النظر عن قولهم: بنات الله كما تقدَّم أيضًا. وبعد التدبُّر والتأمُّل وجدنا القدر المشترك بين تلك الأمم هو: (زعم كلٍّ منهم في غير الله عزَّ وجلَّ أنه مستحقٌّ لِأَنْ يُعبد طلبًا للنفع الغيبيِّ (1) منه أو ممن يُخضَع له لأجله). _________ (1) هو على وِزان ما تقدّم في الدعاء ما يكون المخضوع له غيبيًّا أو يزعم الخاضع أنَّ له قدرة غيبيَّة أي غير عاديَّة، والنفع المطلوب يتعلق بها. [المؤلِّف]
(3/552)
[س 149/أ] وهذا هو الاعتقاد، وأما العمل فيجمعه: (الخضوع الذي يقتضيه ذلك الزَّعْمُ). الأصنام فقوم نوح وقوم هود والمصريُّون ومشركو العرب زعموا في الأصنام أنها أهلٌ لأن يُخضعَ لها طلبًا للشفاعة إلى الله عزَّ وجلَّ من الأشخاص الذين تُعظَّم الأصنام لأجلهم، وهم الرجال الصالحون في الأوَّل، والأشخاص الغيبيُّون الذين يزعمون أنهم هم الملائكة في الباقين. ومستندُهم في استحقاقها لذلك: الرأيُ وذلك يدلُّ على زعمهم أنَّ استحقاقها المذكور ثابت بحيث يستقلُّ العقل بإدراكه. وهكذا النصارى في الخضوع لصورة مريم عليها السلام التماسًا لشفاعتها. وقومُ إبراهيم زعموا أنَّ الأصنام [أهلٌ لِأَنْ يُخضع لها طلبًا لنفعٍ غيبِيٍّ بواسطة الأرواح المدبِّرة] (1) للكواكب، ومستَنَدُهم في ذلك الرأيُ. وبنو إسرائيل في العجل زعموا أنه أهلٌ لأن يُخضعَ له طلبًا للنفع الغيبِيِّ منه. وبنو إسرائيل في قولهم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، وبعضُ المسلمين في قولهم: "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط" (2)، _________ (1) غير واضح في الأصل. (2) سلف تخريجه عند المؤلِّف في ص 230.
(3/553)
ظنُّوا أنَّ الصنم والشجرة أهلٌ لأن يُخضع لهما طلبًا للنفع ممن يُخضع لهما لأجله، وهو الله عزَّ وجلَّ، ومستندُهم في ذلك الرأيُ، وإنما طَلَب أولئك من موسى وهؤلاء مِنْ محمد عليهما الصلاة والسلام لكونهما الرئيسين؛ ولم يقصدوا بذلك أنْ يسألا الله عزَّ وجلَّ أن يجعل لهم [س 149/ب] ذلك اعتقادًا أنَّ الجماد لا يستحقُّ التعظيم طلبًا للنفع الغيبِيِّ إلَّا إذا أمر الله عزَّ وجلَّ بذلك. الأشخاص المعظَّمون وقوم نوح زعموا في الرجال الصالحين أنهم أهلٌ لأن يُخضعَ لهم طلبًا لشفاعتهم إلى الله عزَّ وجلَّ، ومستندُهم في ذلك الرأيُ. والدليل على هذا أنهم خضعوا لهم بأشياء اخترعوها بآرائهم, كالخضوع لتماثيلهم، ولو كانوا يرون أنهم إنما يستحقون الخضوع لهم لأنَّ الله تعالى أمر به، لما خضعوا لهم إلَّا القدر (1) الذي أمر الله به. ومثلُهم قوم هود وقوم صالح والمصريُّون في الأشخاص الغيبيِّين الَّذين زعموهم وزعموا أنهم هم الملائكة كما تقدم، وكذا قوم فرعون زعموا أنَّ مَلِكَهم أهلٌ لأن يُخضع له طلبًا للشفاعة إلى الله عزَّ وجلَّ من الملائكة؛ لأنه محبوب عندهم بدليل أنهم شفعوا له إلى الله عزَّ وجلَّ حتى جعله مَلِكًا. وكذا النصارى في شأن مريم عليها السلام، وكذا مشركو العرب في الإناث الخياليَّات التي زعموا أنها بنات الله وأنهُنَّ هنَّ الملائكة. والنصارى زعموا أن عيسى عليه السلام أهلٌ لأن يُعظَّم طلبًا للنفع الغيبي منه أو من الله الذين يقولون إنه أبوه بواسطة شفاعته. _________ (1) كذا، ولعله: بالقدر.
(3/554)
[س 150/أ] الأشخاص المطاعون وجميع المشركين زعموا أنَّ أهواءهم المبنيَّة على مجرَّد الظن والتخمين أهلٌ لأنْ يُخضع لها بالطاعة في شرع الدين طلبًا للنفع الغيبِيِّ من الله عزَّ وجلَّ بلا واسطة إذا كان الأمر المتديَّن به موجَّها إلى الله تعالى رأسًا, كالقول في صفاته تعالى بغير علمٍ كقول مشركي العرب: إنَّ لله تعالى بنات, وكتحريمهم بعضَ الأشياء كما حكاه الله عزَّ وجلَّ وغير ذلك، وبواسطة الشفاعة إذا كان موجَّهًا إلى مَن دونه كمشركي العرب في اتخاذهم التماثيل للملائكة عليهم السلام وغير ذلك. ومستندهم الرأيُ. ولما كانت أهواؤهم بأيدي الشياطين عُدُّوا في ذلك خاضعين للشياطين. ويظهر أنَّ قوم فرعون زعموا أنه أهلٌ لأنْ يُخْضَع له بالطاعة في شرع الدين إلخ، واليهود والنصارى زعموا أنَّ أحبارهم ورهبانهم أهلٌ لأنْ يُخْضعَ لهم بالطاعة في شرع الدين إلخ. ومشركو العرب وغيرهم زعموا أنَّ رؤساءهم أهلٌ لأنْ يُخْضَعَ لهم بالطاعة في شرع الدين إلخ. والمراد بالدين هنا ما يُعْتَقَد أو يُعمل طلبًا للنفع الغيبيِّ، [س 150/ب] فيشمل القولَ في صفات الله عزَّ وجلَّ وملائكته وغير ذلك من عالَمِ الغيب، والقولَ في الأعمال والأحكام التي يتقرَّبون بها إلى الله عزَّ وجلَّ أو إلى مَن يرجون شفاعته لهم إليه سبحانه. [س 151/أ] ما دُعي من دون الله تعالى قد تقدَّم معنى الدعاء مفصَّلًا بحمد الله تعالى، فكلُّ مَن دعا شيئًا غير الله تعالى فقد زعم أنه مستحقٌّ لأن يُدعى، ومستنده في ذلك الرأيُ، والدعاء
(3/555)
متضمِّن للخضوع طلبًا للنفع الغيبي من المخضوع له كما تقدَّم، والله أعلم. [س 151/ب] النتيجة فيما تقدَّم عرفنا أنَّ الإله هو: المستحقُّ لأن يُخضع له طلبًا للنفع الغيبيِّ منه أو ممن يُخضع له لأجله استحقاقًا ثابتًا في نفسه بحيث يستقلُّ العقل بإدراكه. والعبادة هي ذلك الخضوع مع اعتقاد ذلك الاستحقاق. فالله تبارك وتعالى مستحقٌّ لأن يُخضع له طلبًا للنفع الغيبيِّ استحقاقًا ثابتًا في نفسه إلخ. والمشركون زعموا مثل ذلك في بعض شركائهم (1) , أعني ما يخضعون له طلبًا للنفع الغيبي من غيره بسبب خضوعه لأجله في الباقي. وباعتبار انقسام النفع الغيبيِّ إلى النفع المباشر وإلى الشفاعة تكون الأقسام أربعة: ما يُخضع له طلبًا للنفع الغيبي المباشر منه. ما يُخضع له طلبًا للنفع الغيبي الذي هو الشفاعة. ما يُخضع له طلبًا للنفع الغيبي المباشر ممن يخضع له لأجله. ما يُخضع له طلبًا للنفع الغيبي الذي هو الشفاعة ممن يخضع له لأجله. فالقسم الأول على ضربين: _________ (1) هنا كلمة غير واضحة, ظهر منها: (وقر ... ).
(3/556)
[س 152/أ] (1) ما يُنْسَب إليه القدرة على النفع الغيبيِّ كلِّه. ولم أجد في الأمم مَنْ يقول هذا في غير الله عزَّ وجلَّ إِلَّا أن يكون مَنْ قال من النصارى {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]. الضرب الثاني: ما يُنْسب إليه القدرةُ على بعض النفع الغيبيِّ فقط مع الاعتراف بأنَّ قدرته ممنوحة له من الله عزَّ وجلَّ. ولعلّ من هذا بعض عُباد الكواكب الزاعمون (1) بأنَّ لها قدرة تُصَرِّفها باختيارها. [س 152/ب] ومنه (2) الهنود في عبادتهم أشخاصًا غيبيِّين يصفونهم بصفات لا تنطبق على الملائكة, ولكننا نقول بأنهم يعبدون الملائكة كما قال الله تبارك وتعالى في مشركي العرب بأنهم يعبدون الملائكة وإن كانت الصفة التي يصفون بها معبوداتهم لا تنطبق على الملائكة. فالهنود يزعمون أنَّ لكلِّ جنس من المخلوقات الحسِّيَّة مدبِّرًا من الملائكة ويدعونهم ويخضعون لتماثيل ينصبونها لهم، ويخضعون للمخلوقات بنيَّة الخضوع لمدبِّرها، وهكذا يزعمون أنَّ كلَّ مَلَك يستطيع أن ينفع البشر بحسب المخلوق الذي يدبِّره، فمدبِّر البحر يستطيع إنفاذ [سؤاله] (3) مثلًا، وقد مرَّ [في بيان عبادة] (4) قوم إبراهيم أنهم كانوا يعبدون الكواكب بنيَّة العبادة للأرواح المدبِّرة لها، والله أعلم. _________ (1) كذا، والوجه: الزاعمين. (2) أي: من البعض. (3) غير واضحة في الأصل، وهكذا قدَّرتها. (4) غير واضحة في الأصل, وهكذا استظهرت.
(3/557)
(1) [289] وأخرج عبد بن حميدٍ (2) عن أبي جعفرٍ عليه السلام أنه ذكر ودًّا، فقال: كان رجلًا مسلمًا، وكان محبَّبًا في قومه، فلما مات عسكروا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه، فلما رأى إبليس جزعهم عليه تشبه في صورة إنسانٍ، ثم قال: أرى جزعكم على هذا فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه به؟ قالوا: نعم، فصور لهم مثله فوضعوه في ناديهم فجعلوا يذكرونه به, فلما رأى ما بهم من ذكره قال: هل لكم أن أجعل لكم في منزل كل رجل منكم تمثالًا مثله في بيته فيذكر به؟ فقالوا: نعم، ففعل، فأقبلوا يذكرونه به، وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به، وتناسلوا، ودرس أمر ذكرهم إياه حتى اتخذوه إلهًا (3). أقول: فيعلم من هذا الأثر والذي قبله أنه كان عندهم عدة تماثيل لودٍّ يطلقون على كلٍّ منها اسمَ ودّ، ونظير هذا معروف في وثنيي الهند، وقد يكون للمعبود الواحد ألوف من التماثيل يطلقون على كل تمثال منها اسم ذلك المعبود، ويقرب من ذلك صنيع النصارى في صور المسيح وأمه عليهما السلام. وأخرج ابن جريرٍ عن محمد [290] بن قيسٍ، قال: كانوا قومًا صالحين _________ (1) هنا بداية الدفتر الرابع من دفاتر كتاب العبادة، ويبدأ من أثناء المقدمة الثانية من مقدِّمتين قدَّمهما المؤلِّف قبل شروعه في تفسير آيات النجم من فصل اعتقاد المشركين في الملائكة. (2) عزاه إليه السيوطيُّ في الدرِّ المنثور 8/ 294 - 295، وأخرجه أيضًا ابن أبي حاتمٍ 10/ 3375 - 3376، ح 18997. (3) تتمَّته: يعبدونه من دون الله.
(3/558)
من بني آدم، وكان لهم أتباعٌ يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صوّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوّروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقون المطر, فعبدوهم (1). وفي دائرة المعارف للبستاني في ترجمة (سروج بن رعو)، وهو جدُّ (تارخ) والد إبراهيم الخليل، وكان عمره 130 سنةً لما وُلِد (ناحور)، وتوفي وله من العمر 230 سنةً: ذكر سويداس وبعض مؤرخين آخرين أنَّ (سروج) واضعُ عبادة الذين ماتوا من المفضَّلين على الجنس البشري، وتأليهَ (2) الأصنام وضعت بعد الزمان الذي وُجد فيه. وقال يوحنا الأنطاكي: إنه من نسل (يافث)، علَّم وجوب تكريم الفضلاء من الأموات إما بالصور وإما بالتماثيل وعبادتهم في بعض الأعياد السنوية كما لو كانوا [291] لا يزالون في قيد الحياة، وبحفظ سجلِّ أعمالهم في كتب الكهنة المقدَّسة, وتسميهم (3) آلهة لأنهم مفضَّلون على البشر، فتولَّد عن ذلك عبادة البشر (4) وديانة المشركين (5). وقال في ترجمة (طهمورث) (6): ملك من قدماء ملوك الفرس، قالوا _________ (1) تفسير ابن جرير 29/ 54. [المؤلف] (2) معطوف على (سروج). (3) كذا في الأصل, ولعل الصواب: وتسميتهم. (4) في دائرة المعارف: الأوثان. (5) انظر: دائرة المعارف 9/ 599. (6) هو طهمورث بن ويونجهان بن حبايداد بن أوشهنج، وقيل في نسبه غير ذلك، وزعم الفرس أنه ملَك الأقاليم السبعة وعقد على رأسه تاجًا، وكان محمودًا في ملكه مشفقًا على رعيّته، وأنه ابتنى سابور من فارس ونزلها وتنقل في البلدان. قال ابن الكلبي: أول ملوك الأرض من بابل: طهمورث، وكان لله مطيعًا، وكان ملكه أربعين سنة، وهو أوّل من كتب بالفارسية، وفي أيامه عُبدت الأصنام، وأول ما عرف الصوم في ملكه. انظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير 1/ 62.
(3/559)
[مؤرخو الفرس]: ولما كثر الموت بسبب المجاعة في أيامه جعل الناس يدفنون موتاهم ويتخذون لهم أمثلة لآبائهم وذوي قرباهم من الحجر والخشب والفضَّة والذهب، فكانت في أوَّل أمرها للذكرى ثم صارت للعبادة (1). (2) وقال أبو الريحان البيروني في كتاب الهند: "معلوم أن الطباع العامي نازع إلى المحسوس نافر عن المعقول الذي لا يعقله إلا العالمون الموصوفون في كل زمان ومكان بالقلة، ولسكونه إلى المثال عدل كثير من أهل الملل إلى التصوير في الكتب والهياكل كاليهود والنصارى ثم المنانية خاصة، وناهيك شاهدًا على ما قلته: أنك لو قدَّمت (3) صورة النبي صَلّى الله عليه وآله وسلم أو مكة أو الكعبة لعامي أو امرأة لوجدت من نتيجة الاستبشار فيه دواعي التقبيل وتعفير الخدِّ (4) والتمرُّغ كأنه شاهد المصوَّر وقضى بذلك مناسك الحج والعمرة. _________ (1) دائرة المعارف للبستاني 11/ 344. (2) من هنا إلى قوله: " أقول: واسم جدِّ أبي إبراهيم في التوراة ... والله أعلم" ص 566, كان ملحقًا عند المؤلف. (3) في ط دائرة المعارف: أبديت. (4) في ط دائرة المعارف: الخدَّين.
(3/560)
وهذا هو السبب الباعث على اتخاذ الأصنام بأسامي الأشخاص المعظَّمة من الأنبياء والعلماء [والملائكة مذكِّرة أمرهم] (1) عند الغيبة والموت مبقية آثار تعظيمهم في القلوب لدى الفوت إلى أن طال العهد بعامليها، ودارت القرون والأحقاب عليها، ونُسيت أسبابها ودواعيها، وصارت رسمًا وسنة مستعملة، ثم داخلهم أصحاب النواميس من بابها؛ إذ كان ذلك أشدَّ انطباعًا فيهم فأوجبوه عليهم، وهكذا وردت الأخبار فيمن تقدَّم عهد الطوفان وفيمن تأخر عنه، وحتى قيل: إن كون الناس قبل بعثة الرسل أمة واحدة هو على عبادة الأوثان (2). _________ (1) محله في الأصل بياض واستدرك من طبعة دائرة المعارف. (2) النصوص تشهد ببطلان هذا القول، فقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 19]. فتوعَّد الله على الاختلاف لا على الاجتماع، ولو كان اجتماعهم قبل الاختلاف كان على الكفر ثم آمن بعضهم لكان الوعد في ذلك الحال أولى بحكمة الله من الوعيد. ويمتنع أن يتوعَّد الله في حال الإيمان والتوبة دون حال اجتماع الجميع على الكفر والشرك. انظر: تفسير الطبري 3/ 626 وهذا القول مخالف لما صحَّ عن ابن عباس أنه قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله: {كان الناس أمةً واحدةً فاختلفوا}. رواه الحاكم في المستدرك 2/ 546 - 547 وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. ومخالف أيضًا لحديث عياض بن حمار في الحديث القدسي: "إِنِّى خَلقتُ عبادي حُنَفَاء كُلَّهُم وإِنَّهُم أَتَتهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجتَالَتهُم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بى ما لم أنزل به سلطانا". انظر صحيح مسلم، كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصّفات الّتي يعرف بها في الدّنيا أهل الجنّة وأهل النّار 8/ 158 ح 2865.
(3/561)
فأما أهل التوراة فقد عيَّنوا [أوَّل] (1) هذا الزمان بأيام ساروغ (2) جد أبي إبراهيم. وأما الروم فزعموا أن روملس ورومانوس الأخوين من أفرنجة لما مَلَكا بَنَيا رومية ثم قتل روملس أخاه وتواترت الزلازل والحروب بعده حتى تضرَّع روملس فأُرِي في المنام أنَّ ذلك لا يهدأ إلا بأن يُجلس أخاه على السرير فعمل صورته من ذهب وأجلسه معه، وكان يقول: أَمَرْنا بكذا، فجرت عادة الملوك بعده بهذه المخاطبة وسكنت الزلازل فاتخذ عيدًا وملعبًا يُلهي به ذوي الأحقاد من جهة الأخ. /ونصب للشمس أربعة تماثيل على أربعة أفراس أخضرها للأرض وأسمنجونها (3) للماء وأحمرها للنار، وأبيضها للهواء، وبقيت إلى الآن قائمة برومية. وإذ نحن في حكاية ما الهند عليه فإنا نحكي خرافاتهم في هذا الباب بعد أن نخبر أنَّ ذلك لعوامِّهم، فأمَّا مَن أمَّ نهج الخلاص أو طالع طرق الجدل والكلام ورام التحقيق الذي يسمونه (سار) فإنه يتنزَّه عن عبادة أحد مما دون الله تعالى فضلًا عن صورته المعمولة. فمن تلك القصص ما حدَّث به شونك الملك بريكش قال: كان فيما مضى من الأزمنة ملك يسمى أنبرش نال من المُلك مُناه فرغب عنه وزهد _________ (1) زيادة من ط دائرة المعارف. (2) سيأتي للمؤلف أنَّ اسمه في التوراة الموجودة الآن: سروج. (3) هو اللون الأزرق الخفيف.
(3/562)
في الدنيا وتخلَّى للعبادة والتسبيح زمانًا طويلًا حتى تجلَّى له المعبود في صورة (إندر) رئيس الملائكة راكبَ فِيل وقال: سل ما بدا لك لأعطيكه فأجابه بأني سُررت برؤيتك وشكرت ما بذلته من النجاح والإسعاف لكني لست أطلب منك بل ممن خلقك. قال (إندر): إنَّ الغرض في العبادة حسن المكافأة عليها فحصِّل الغرض ممن وجدته منه، ولا تنتقد قائلًا: لا منك بل من غيرك. قال الملِك: أما الدنيا فقد حصلت لي وقد رغبت عن جميع ما فيها، وإنما مقصودي من العبادة رؤية الرب وليست إليك فكيف أطلب [حاجتي] (1) منك قال (إندر): كل العالم ومَن فيه في طاعتي فمن أنت حتى تخالفني؟ قال الملِك: أنا كذلك سامع مطيع إلا أني أعبد مَن وجدت أنت هذه القوة من لدنه، وهو رب الكلِّ الذي حرسك من غوائل الملكين (بل) و (هرنَّكش) فخلِّني وما آثرته وارجع عني بسلام. قال (أندر): فإذا (2) أبيت إلا مخالفتي فإني قاتلُك ومهلكك. قال الملك: قد قيل: إنَّ الخير محسود والشر له ضد، ومَن تخلى عن الدنيا حسدته الملائكة فلم يخلُ من إضلالهم إياه، وأنا من جملة من أعرض عن الدنيا وأقبل على العبادة ولست بتاركها ما دمت حيّا ولا أعرف [لنفسي ذنبًا] (3) أستحق به منك قتلًا فإن كنت فاعله بلا جرم مني فشأنك وما تريد، على أنَّ نيتي إن خلصت لله ولم يشب يقيني شوبٌ لم تقدر على الإضرار بي وكفاني ما شغلتني به عن العبادة وقد رجعتُ إليها. _________ (1) زيادة من ط دائرة المعارف. (2) في طبعة دائرة المعارف: فإذْ. (3) ما بين المعقوفين بياض في الأصل، واستدرك من طبعة دائرة المعارف.
(3/563)
ولما أخذ فيها تجلَّى له الرب في صورة إنسان على لون النيلوفر الأكهب (1) بلباس أصفر راكب الطائر المسمى كَُرد فلما رآه الملك اقشعرَّ جلده من الهيبة وسجد وسبَّح كثيرًا فآنس وحشته وبشَّره بالظفر بمرامه فقال الملِك: كنت نلت ملكًا .... ولم أتمنَّ غير ما نلته الآن، ولست أريد غير التخلص من هذا الرباط. قال الرب: هو بالتخلي عن الدنيا بالوحدة .... فإن غلبك نسيان الإنسيَّة فاتخذ تمثالًا كما رأيتني عليه وتقرَّبْ بالطيب والأنوار إليه واجعله تذكارًا لي لئلا تنساني .... ثم غاب الشخص عن عينه ورجع الملِك إلى مقرِّه وفعل ما أُمر به قالوا: فمِن وقتئذ تُعمل الأصنام .... وأخبروا أيضًا بأنَّ لبراهم ابن (2) يسمَّى نارذ [لم تكن له همَّة غير رؤية] (3) الرب، وكان من رسمه في تردُّده إمساك عصا معه إذ كان يلقيها فتصير حيَّة ويعمل بها العجائب وكانت لا تفارقه. وبينما هو في فكره المأ [مول إذ رأى نورًا من بعيد] (4) فقصده ونودي منه أنَّ ما تسأله وتتمنَّاه ممتنع الكون فليس يمكنك أن تراني إلا [هكذا، ونظر فإذا شخص نورانيٌّ على مثال أشخاص] (5) الناس، ومن حينئذٍ _________ (1) النيلوفر: جنس نباتات مائية، فيه أنواع تنبت في الأنهار والمناقع، وأنواع تزرع في الأحواض لورقها وزهرها. والأكهب: هو الذي علته غبرة مشربة سوادًا. المعجم الوسيط 802، 967. (2) كذا في الأصل وفي طبعة دائرة المعارف. (3) هنا بياض بالأصل، واستدرك من طبعة دائرة المعارف. (4) ما بين المعقوفين بياض بالأصل، واستدرك من طبعة دائرة المعارف. (5) ما بين المعقوفين بياض بالأصل، واستدرك من طبعة دائرة المعارف.
(3/564)
وُضعت الأصنام والصور (1). ونحن نذكر جوامع [باب] من كتاب [سنكهت في عمل الأصنام] (2) تعين على معرفة ما نحن فيه. قال براهمر: إن الصورة المعمولة إذا كانت لرام بن دشرت أو ليل بن برو [جن فاجعل] القامة (3) مائة وعشرين أصبعا .... .... وصنم براهم ذو أربعة أوجه في الجهات الأربع .... وفي يد صنم إندر سلاح .... وصنم ريونت ابن الشمس .... وصنم الشمس أحمر الوجه .... فإذا حافظ الصانع عليها ولم يزد ولم ينقص عليها بعُد عن الإثم وأمِن مِن صاحب الصورة أن يصيبه بمكروه ... ولذلك قيل في كتاب كَيتا: إن كثيرًا من الناس يتقربون في مباغيهم إليَّ بغيري ويتوسَّلون بالصدقات والتسبيح والصلاة لسواي، فأقوِّيهم عليها وأوفِّقهم لها، وأوصلهم إلى إرادتهم لاستغنائي عنهم. وقال فيه أيضًا باسديو لأرجن: ألا ترى أن أكثر الطامعين يتصدَّون في القرابين والخدمة أجناس الروحانيين والشمس والقمر وسائر النيِّرين، فإذا لم يخيب الله آمالها لاستغنائه عنهم وزاد على سؤالهم /وآتاهم ذلك من الوجه الذي قصدوه أقبلوا على عبادة مقصوديهم لقصور معرفتهم [عنه، وهو] (4) _________ (1) في ط دائرة المعارف: بالصور، وبعده نحو صفحة وربع الصفحة لم ينقلها المؤلف. (2) ما بين المعقوفين بياض بالأصل، واستدرك من طبعة دائرة المعارف. (3) في الأصل: والقامة، والتصحيح من ط دائرة المعارف. (4) ما بين المعقوفين بياض في الأصل، واستُدرِك من ط دائرة المعارف.
(3/565)
المتمِّم لأمورهم على هذا الوجه من التوسيط ولا دوام لما نيل بالطمع والوسائط؛ إذ هو بحسب الاستحقاق، وإنما الدوام لما نيل بالله. وقد كان اليونانية في القديم يوسطون الأصنام بينهم وبين العلة الأولى ويعبدونها بأسماء الكواكب والجواهر العالية إذ لم يصفوا العلَّة الأولى بشيء من الإيجاب بل بسلب الأضداد تعظيمًا لها وتنزيهًا فكيف أن يقصدوها للعبادة .... وتوجد رسالة لأرسطوطالس في الجواب عن مسائل البراهمة (1) .... وفيها: "أما قولكم: [إنَّ] (2) مِن اليونانية مَن ذكر أنَّ الأصنام تنطق وأنهم يقرِّبون لها القرابين ويدَّعون لها الروحانية فلا علم لنا بشيء منه، ولا يجوز أن نقول فيما لا علم لنا به". فإنه ترفُّع منه عن رتبة الأغبياء والعوامِّ وإظهارٌ من نفسه أنه لا يشتغل بذلك. فقد علم أنَّ السبب الأول في هذه الآفة هو التذكير والتسلية ثم ازدادت إلى أن بلغت الرتبة الفاسدة المفسدة" (3). أقول: واسم جدِّ أبي إبراهيم في التوراة الموجودة الآن (سَرُوج) (4). وقد تقدَّم خبره فيما نقلناه عن دائرة المعارف. والله أعلم. وقال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن الحارث التيمي أنَّ أبا صالح حدَّثه أنه سمع أبا هريرة .... يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول _________ (1) في ط دائرة المعارف: للبراهمة. (2) هنا بياض بالأصل، واستدرك من ط دائرة المعارف. (3) كتاب الهند، ص 53 - 59. [المؤلِّف]. وفي طبعة دائرة المعارف العثمانية ص 84 - 96. (4) انظر: سفر التكوين، إصحاح 11. [المؤلف]. انظر ص 559.
(3/566)
لأكثم بن الجون الخزاعي (1): يا أكثم، رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار .... إنه كان أول من غيَّر دين إسماعيل فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي (2). وبعده قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء وهم يومئذ العماليق رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: أفلا تعطونني منها صنمًا فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه، فأعطوه صنمًا يقال له: هبل، فقدم به مكة [292] وأمر الناس بعبادته وتعظيمه (3). وفي روح المعاني في تفسير قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] (4) ما لفظه: "وتخصيصهم ــ أي الملائكة ــ بالذكر لأنهم أشرف شركاء المشركين الذين لا كتاب لهم، والصالحون عادة للخطاب، وعبادتُهم مبدأُ الشرك بناء على ما نقل ابن الوردي في تأريخه (5) من أنَّ سبب حدوث عبادة الأصنام في العرب أنَّ _________ (1) تقدَّمت ترجمته. (2) سيرة ابن هشام 1/ 47، [المؤلف]. والحديث سبق تخريجه في ص 97. (3) المصدر السابق. (4) هكذا كتب المؤلف الآية بالنون في (نحشرهم) و (نقول) على قراءة الجمهور عدا يعقوب وحفص، فإنهما قرآ بالياء. انظر: النشر 2/ 257. ولعل المؤلف كان يقرأ بقراءة أبي عمرو. (5) 1/ 65.
(3/567)
عمرو بن لُحَي مرَّ بقومٍ بالشام فرآهم يعبدون الأصنام فسألهم فقالوا: هذه أرباب نتخذها على شكل الهياكل العلوية فنستنصرها ونستسقي (1)، فتبعهم وأتى بصنم معه إلى الحجاز وسوَّل للعرب فعبدوه" (2). وقال البيضاوي في تفسير قول الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]: "وقيل: شركاؤهم أوثانهم وإضافتها إليهم لأنهم متخذوها شركاء، وإسناد الشرع إليها لأنها سبب ضلالتهم وافتتانهم بما تديَّنوا به، أو صور مَن سنَّه لهم" (3). قال الشيخ زاده في حواشيه: "فإنهم يزعمون أن الأصنام صُوَر الملائكة أو المسيح أو عزير أو غيرهم من العُبَّاد الصالحين فإنهم يزعمون أنَّ هؤلاء العُبَّاد سوَّلوا لهم ما هم عليه من الدين الباطل ودعوهم إليه" (4). هذا، وقد وقفت على أشياء كثيرة مما يتعلق بعبادة الأوثان في ديانة اليونان والمصريِّين القدماء ووثنيِّي الهند وغيرهم، فتبيَّن لي أنَّ الأوثان إنما تُعبد تعظيمًا [293] وتكريما للغائبين، وأنَّ منها ما يصوَّر بصورة ذلك الغائب إما متحقِّقة كما مرَّ في قوم نوح، وإما متخيَّلة كما في تماثيل الروحانيِّين. ومنها ما لا يصوَّر بصورة بل يُكتفى بجعله تذكارًا لشخص أو روح معيَّن كأن يقال: هذا الحجر أو هذا البيت أو هذه الشجرة يكون تذكارًا لفلان، إمَّا _________ (1) العبارة في تاريخ ابن الوردي: الهياكل العلوية والأشخاص البشريَّة، فنستسقي بها فنُسْقَى، ونستنصر بها فنُنْصَر، ونستشفي بها فنُشْفَى. (2) روح المعاني 7/ 150. [المؤلف] (3) تفسير البيضاوي 641. (4) حواشي الشيخ زاده 3/ 275. [المؤلف]
(3/568)
شخص معين وإما روح معينة بقصد أن يعظَّم هذا الحجر أو البيت أو الشجرة لذلك المعنى، وهو أنه قد صار خاصًّا بذلك الشخص أو تلك الروح. وقد يكون التذكار أثرًا من آثار المعظَّم كخشبة الصليب الأصليَّة عند النصارى، وقد يكون تمثالًا لذلك الأثر كشكل الصليب عندهم أيضا. ومن الوثنيِّين متفلسفون وسُذَّج, فمن المتفلسفين: الصابئةُ فإنهم يختارون المعدن الذي يُتخذ منه الصنم والكيفية والزمان والمكان وغير ذلك، وقريب منهم الوثنيُّون في الهند. ومن السُّذَّج: العربُ أيام جاهليتهم. والحامل على اتخاذ الأصنام أنهم يرون أنَّ التعظيم لا تظهر صورته ويُعلم اختصاصه بمن يُراد أن يكون له إلا إذا [294] كان المعظَّم مشاهَدًا، فلما كانت أرواح الموتى والروحانيُّون غيرَ مشاهَدين رأوا أن يجعلوا أشياء مجسَّمة فيعملون التمثال أو الشجرة أو الأثر أو صورة الأثر مثلًا قائلين: هذا فلان فينبغي تعظيم هذا الجماد بقصد أنَّ هذا التعظيم له إنما هو لأجل أنه قد صار مختصّا بتلك الروح أو بذلك الروحاني، وكثيرًا ما يسمُّون هذا الجماد باسم ذلك الغائب، كما مرَّ في قوم نوح. والمتفلسفون منهم يصنعون ذلك لتأكيد الاتصال بينهما وتحقيق أن تعظيم هذا المحسوس إنما هو تعظيم لذاك الغائب. والمتفلسفون منهم يحرصون على أن يتخيل القائم أمام الصنم أنه قائم أمام ذلك الغائب، ويُلقون بين العامة أن ذلك الغائب قد يحلُّ في ذلك الجماد الموضوع باسمه في بعض الأوقات، وكأن غرضهم من هذا أن يقوى تخيل الحاضر أمام الصنم ويشتد وهَمه وهمته، لأن للهمَّة عندهم أثرًا عظيمًا في قضاء الحوائج [295]. ولكثير من هذه الأمور مشابهات في هذا العصر، فالأمم المسيحية
(3/569)
تعمل تماثيل لعظماء رجالها وتنصبها في الشوارع العامة كتمثال ملكة الإنجليز (وَكْتُورية) (1) المنصوب في (لُندرة) (2). وربما ينصبون تماثيل لأشياء متخيلة كتمثال الحرية (3) في أمريكا، ولا يشكُّون أنه لو مرَّ رجل منهم على تمثال من تلك التماثيل فانحنى له مثلًا أنه إنما يعظم الذي جُعل تمثالًا له. وإطلاق اسم الشخص على صورته وتعظيمه بتعظيم صورته وأشباه ذلك أمر معروف بين الناس، ألا ترى أنها لو عُرضت عليك صور أناس معروفين وأشير لك إلى صورة منها، وقيل لك: مَن هذا؟ لأجبت باسم صاحب الصورة. أوَ لم تسمع أهل المنطق يمثِّلون للمغالطة بأن يُشار إلى صورة فرس على جدار مثلًا ويقال: هذا فرس، وكل فرس صهَّال، فينتج: هذا صهَّال؟ أوَلا ترى المؤلفين وأصحاب الجرائد إذا أثبتوا صورة شخص أو طائر أو حيوان أو شجرة أو مدينة أو غير ذلك كتبوا تحت الصورة اسم صاحبها؟ _________ (1) هي الملكة? ـكتوريا، ملكة المملكة المتحدة الشهيرة، عاشت في الفترة (1837 - 1901 م)، وازدهرت بلادها في فترة حكمها، وملوك بريطانيا بعدها من نسلها. انظر: دائرة معارف القرن العشرين 1/ 654. (2) اسمٌ قديمٌ لمدينة لندن عاصمة بريطانيا، من (londra) بالإيطالية؛ وهي بالفرنسية (londres). معجم الدخيل، للدكتور: ف. عبد الرحيم، ص 192. (3) طوله 93 مترًا, وهو عبارة عن امرأة تحمل شعلة في يمنى يديها, وفي يسراها لوحة مكتوب فيها تاريخ إعلان استقلال أمريكا, وهو في 4 يوليو 1776 م, صُنع هذا التمثال في فرنسا تخليدًا لذكرى الصداقة بين فرنسا وأمريكا, وشُحن إلى نيويورك فنصب فيها في 28 أكتوبر 1886 م. انظر الموسوعة البريطانية, النسخة الإلكترونية.
(3/570)
[296] أوَ لا تعلم أن النصارى إذا عظَّموا صلبانهم لا يعتقدون في الصليب نفسه شيئًا أكثر من أنه تذكار للمسيح، فتعظيمه تعظيم للمسيح، وهكذا إذا عظَّموا صورة المسيح أو صورة مريم عليهما السلام؟ أوَلا ترى لو أن رجلًا رأى صورة رجل من العظماء كصورة الزعيم المصري الشهير سعد زغلول (1) فقبَّل الصورة أو وضعها على رأسه أن العامة يعدُّونه إنما يحترم سعد زغلول نفسه؟ أوَ لا ترى لو أن رجلًا رأى صورة نعلي النبي - صلى الله عليه وسلم - أو صورة البُراق فقبَّلها أو وضعها على عينيه ورأسه أو علَّقها في جدار بيته أو نحو ذلك أن العامة لا يرتابون أنه إنما يحترم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -؟ ولعلَّك قد وقفت على الأسطورة الحاكية أنَّ بعض الصحابة ذهب رسولًا من بعض الخلفاء إلى ملك الروم فأراه ملك الروم صور الأنبياء وفيها صورة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى تلك الصورة قبَّلها أو وضعها على رأسه أو نحو ذلك (2). _________ (1) هو سعد (باشا) بن إبراهيم زغلول، زعيم نهضة مصر السياسية، وأكبر خطبائها، لازم جمال الدين الأفغاني، واختير رئيس الوفد المصري للمطالبة باستقلال مصر عن الإنجليز، تولَّى عدَّة مناصب قياديَّة في بلاده قبل الاستقلال وبعده، توفِّي سنة 1346 هـ. انظر: الأعلام للزركلي 3/ 83. (2) لم أقف على هذه الأسطورة، ولكن رُوي أنَّ دحية الكلبي وجَّهه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بكتابٍ إلى ملك الروم، وأنه لما وصل إليه أدخله بيتًا عظيمًا فيه ثلاثمائة وثلاث عشرة صورة، فإذا هي صور الأنبياء المرسلين، قال: انظر أين صاحبكم من هؤلاء؟ قال: فرأيت صورة النبي - صلى الله عليه وسلم - كأنه ينظر. وفي حديث أبي بكرٍ: كأنه ينطق. قلت: هذا، قال: صدقت. أسند ذلك ابن عساكر في تاريخ دمشق 17/ 209 - 210، والرافعي في التدوين في تاريخ قزوين 4/ 24 - 25، وليس فيها تقبيل الصورة أو وضعها فوق الرأس، وإنما فيها أنَّ الملِك قبَّل خاتم الرسالة. وقد ضعَّف الشيخ الألباني القصَّة في سلسلة الأحاديث الضعيفة 7/ 310.
(3/571)
وقد شاع في هذا الزمان بين الشيعة اختلاق صور لأمير [297] المؤمنين عليٍّ وابنه الحسين وفرسه وغير ذلك، وعوامُّهم يعظِّمون تلك الصور. وقد مرَّ في فصل الآثار (1) أشياء من هذا القبيل، فلا أراك إذا تأمَّلت ما ذكرته لك في هذه المقدِّمة ترتاب أنَّ أوثان العرب إنما كانت تماثيل أو تذكارات لأشخاص معظَّمين عندهم، وأنهم إنما كانوا يعظِّمونها تعظيمًا لأولئك الأشخاص، وأن المظنون أن أسماءها هي أسماء أولئك الأشخاص. ولْنزِدْك بيانًا لذلك: أمّا اللَّات فقال قتادة: كانت لثقيف بالطائف (2)، وأنشدوا (3): وفرَّتْ ثقيف إلى لاتها ... بمنقلب الحائن (4) الخاسر وقال أبو عبيدة وغيره: كان بالكعبة (5). وقال ابن زيد: كان بنخلة عند _________ (1) هذا مما لم أعثر عليه بعدُ. (2) انظر: تفسير عبد الرزاق 2/ 253، تفسير الطبري 22/ 47، وعزاه السيوطيُّ في الدرِّ المنثور (7/ 653) إلى عبد بن حميدٍ وابن المنذر. (3) البيت لضرار بن الخطَّاب الفهري. انظر: سيرة ابن هشام 1/ 42، وقد مضى في بحث اعتقاد المشركين في الأصنام. (4) كذا رُسمت في الأصل, وهي بمعنى الأحمق. انظر: القاموس المحيط 1192. والرواية المشهورة: "الخائب". (5) مجاز القرآن 2/ 236، وانظر: المحرَّر الوجيز 8/ 115 - 116.
(3/572)
سوق عكاظ تعبده قريش (1). وقال أبو حيَّان: يمكن الجمع بأن يكون المسمى بذلك أصنامًا فأخبر عن كلِّ صنم بمكانه (2). أقول: وهذا ظاهر وهو نظير ما صنع قوم نوح بوَدٍّ كما مر مع نظائره. وهذا يدلُّ أن اللَّات في الأصل اسم شخص واحد، وتلك الأصنام أو التذكارات كلُّها له، أطلقوا على كلِّ واحد منها اسم ذلك الشخص. ومن المشاهَد في وثنيِّي الهند أن الأصنام [298] التي تكون لمعبود واحد يكون واحد منها هو الصنم الأعظم، وله مزيَّة على غيره، فكذا يقال في اللَّات، فكان أعظمُها لاتَ ثقيف التي كانت بالطائف كما يُعلم بتتبع الروايات في ذلك. وأما العُزَّى فالمشهور أنها كانت سَمُراتٍ وبيتًا بنخلة (3)، وفي ذلك حديث سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى (4). وقال ابن زيد: كانت العُزَّى بالطائف (5)، وقال أبو عبيدة: كانت بالكعبة، وأيَّده أبو حيَّان في البحر بقول أبي سفيان يوم أحدٍ للمسلمين: لنا عُزَّى ولا عُزَّى لكم، وذكر فيه أنه صنمٌ، وجمع بمثل ما تقدَّم (6). _________ (1) انظر: تفسير الطبري 22/ 47، وتفسير البغوي 7/ 407. (2) البحر المحيط 10/ 15. (3) انظر: سيرة ابن هشام 1/ 78. (4) في ص 575. (5) انظر: تفسير ابن جريرٍ 22/ 49. (6) في الصفحة السابقة. وتقدم تخريج قصة أبي سفيان في ص 511 و 629.
(3/573)
أقول: والكلام عليها كالكلام على اللات. وأما مناة، فقيل: صخرةٌ كانت لهذيلٍ وخزاعة (1)، وعن ابن عبَّاسٍ: لثقيف (2)، وعن قتادة: للأنصار بقديدٍ (3)، وقال أبو عبيدة: كانت بالكعبة أيضًا (4). أقول: ويجمع بالتعدُّد أيضًا، والكلام عليها كما مرَّ (5). فالعرب إنما كانوا يعظمون هذه الأصنام الثلاثة تعظيمًا لأشخاص معظَّمين، وليست هذه الأصنام إلا تماثيل أو [299] تذكارات لأولئك الأشخاص كما هو شأن عَبَدَة الأوثان في كلِّ أمة، وبذلك صرَّح المحققون كما علمت مما تقدَّم وإن لم ينصُّوا على شأن العرب خاصَّة. ومما يؤيِّد هذا ما ذكره الفخر الرازي في تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) _________ (1) قاله الضحَّاك. انظر: تفسير البغوي 7/ 408، زاد المسير 8/ 72. (2) ذكر ذلك الزمخشري في الكشاف 4/ 39، وأبو حيَّان في البحر المحيط 8/ 152، والآلوسي في روح المعاني 27/ 55. (3) انظر: تفسير عبد الرزاق 2/ 253، وزاد المسير 8/ 72، والدرّ المنثور 7/ 653. وفي تفسير ابن جرير 22/ 50، وتفسير البغوي 7/ 408 عن قتادة: أنها لخزاعة، وكانت بقديدٍ. ويمكن الجمع بينهما بما قاله ابن كثيرٍ: "وأما مناة فكانت بالمُشَلَّل عند قُدَيدٍ بين مكة والمدينة، وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها، ويُهلُّون منها للحجِّ إلى الكعبة". تفسيره 7/ 431. (4) مجاز القرآن 2/ 236. (5) قريبًا.
(3/574)
قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 43 - 44] فإنه قرر أن المراد بقوله {أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ} الآية: الأصنام، ثم ذكر أن قوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} ردٌّ لما يجيبون به وهو أن الشفعاء ليست الأصنام أنفسها بل أشخاص مقربون هي تماثيلهم (1). ويؤيده أيضًا ما أخرجه النسائي وابن مردويه عن أبي الطفيل قال: لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى، فأتاها خالد وكانت ثلاث سمُرات، فقطع السمُرات وهدم البيت الذي كان عليها ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال: "ارجع فإنك لم تصنع شيئًا" فرجع خالدٌ، فلما أبصرته السدنة مضوا وهم يقولون: يا عزى يا عزى [300] فأتاها فإذا امرأة عريانة ناشرةٌ شعرها تحثو على رأسها فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال عليه الصلاة والسلام: "تلك العزى ... ". وفي رواية: فقطعها فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها واضعة يدها على رأسها فضربها بالسيف حتى قتلها. ذكره في روح المعاني (2). _________ (1) انظر: روح المعاني 7/ 410. [المؤلف]. وتفسير الرازي 26/ 247 - 248. (2) 8/ 256 - 257. [المؤلف]. وانظر: الدرّ المنثور 7/ 652. وهو في تفسير النسائي، سورة النجم، قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى}، 2/ 357 - 359، ح 567. ومسند أبي يعلى 2/ 196 - 197، ح 902. ودلائل النبوَّة لأبي نُعيمٍ، الفصل الخامس والعشرون، قصَّة هدم بيت العزَّى، ص 535، ح 463، من طريق الطبراني. ودلائل النبوَّة للبيهقي، باب ما جاء في بعثة خالد بن الوليد إلى نخلةٍ كانت بها العزَّى، 5/ 77، من طريق أبي يعلى. والأحاديث المختارة، 8/ 219، من طريق الطبراني أيضًا. قال الهيثميُّ: "وفيه يحيى بن المنذر، وهو ضعيفٌ". مجمع الزوائد 6/ 258 - 259. كذا قال، وإنما هو: عليُّ بن المنذر، وهو ثقةٌ.
(3/575)
ففيه أن السدنة كانوا يدعون العزى بعد أن قُطعت السمُرات وهُدم البيت، فيظهر من ذلك أنهم يرون أن العزى شيءٌ آخر، ويوضحه قوله - صلى الله عليه وسلم - لخالدٍ: "لم تصنع شيئًا"، وقوله في الشيطانة: "تلك العزى ... ". فلننظر الآن مَنْ هم الأشخاص الذين كانت اللات والعُزَّى ومناة تماثيل أو تذكارات لهم. جاء عن ابن عباس ومجاهد وأبي صالح وغيرهم أنهم قرؤوا: {اللاتّ} بتشديد التاء (1). وفي روح المعاني: أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس: أنه كان يلتُّ السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سَمِن، فعبدوه (2). قال: وأخرج الفاكهي (3) أنه لما مات قال لهم عمرو بن لحي: إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة فعبدوها وبنوا [301] عليها بيتًا (4). _________ (1) انظر: تفسير ابن جرير 22/ 47، شواذّ القرآن ص 147، والمحتسب 2/ 294. وبها قرأ رُوَيسٌ عن يعقوب. انظر: إرشاد المبتدي ص 572، النشر 2/ 379. (2) انظر: فتح الباري 8/ 612. وأصله عند البخاريِّ في كتاب التفسير، سورة: "والنجم"، باب: "أفرأيتم اللات والعزَّى"، 6/ 141، ح 4859، بلفظ: "كان اللات رجلًا يلُتُّ سويق الحاجِّ". (3) أخبار مكَّة، ذكر اللات وأصل عبادتها ومكانها، 5/ 164، ح 76. وانظر: فتح الباري 8/ 612. (4) روح المعاني 8/ 256 [المؤلف]. وانظر: الدرّ المنثور 7/ 653.
(3/576)
وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: كان يلت السويق للحاج فمات فعكف على قبره. وأخرج أيضًا عن أبي صالح قال: اللات الذي كان يقوم على آلهتهم ويلت لهم السويق، وكان بالطائف. وقد أبى ابن جرير هذا القول فقال: "يقول تعالى ذكره: أفرأيتم أيها المشركون اللات وهي من (الله) أُلحقت فيه التاء فأنثت كما قيل: عمرو للذكر وللأنثى عمرة، وكما قيل للذكر عباس ثم قيل للأنثى عباسة، فكذلك سمى المشركون أوثانهم بأسماء الله تعالى ذِكْره وتقدَّست أسماؤه، فقالوا من الله: اللات، ومن العزيز: العزى، وزعموا أنهن بنات الله, تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، فقال جل ثناؤه لهم: أفرأيتم أيها الزاعمون أن اللات والعزى ومناة الثالثة بنات الله، ألكم الذكر ... ". ثم ذكر اختلاف القراءة والآثار في لَتِّ السويق، ثم قال: "وأولى القراءتين بالصواب عندنا في ذلك قراءة من قرأ بتخفيف التاء على المعنى الذي وصفت لقارئه كذلك؛ لإجماع الحجة من قراء الأمصار عليه" (1). [302] ولم يذكر اشتقاق مناة وقد ذكره غيره، ولكن الأنسب بما تقدَّم أن يقال: أصله من قولهم: مناه الله يمنيه منيًا: قدَّرَهُ، والاسم المَنَى كالفتى. وفي النهاية (2) ما لفظه: وفيه أنَّ منشدًا أنشد النبي - صلى الله عليه وسلم -: _________ (1) 27/ 31 - 32. [المؤلف] (2) 4/ 368. والبيتان ضمن أبيات لسويد بن عامر المصطلقي كما في مصادر تخريج الحديث الآتية.
(3/577)
لا تأمنن وإن أمسيت في حرمٍ ... حتى تلاقي ما يمني لك الماني فالخير والشر مقرونان في قَرَنٍ ... بكل ذلك يأتيك الجديدان فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو أدرك هذا الإسلام" (1) معناه: حتى تلاقي ما يقدره لك المقدِّرُ وهو الله عز وجل". فكأنهم ــ والله أعلم ــ قدَّروا أن المَنَى كالفتى اسم لله عز وجل من باب إطلاق المصدر بمعنى اسم الفاعل كما قالوا: رجلٌ عدلٌ، ثم زادوا التاء وسمَّوا به معبودَتهم، كما قالوا: عمرٌو وعمرةٌ، و (عَمْر) في الأصل مصدرٌ. فإن قيل: فإن صاحب القاموس ذكرها في مادة (م ن و) (2). قلت: لم أجد ما يدل على ذلك. فأما قولهم: منويٌّ في النسبة، فقاعدة النسبة: قلب الألف الثالثة واوًا مطلقًا، وإن كانت منقلبة عن (ياء) كقولهم (رحويٌّ) في النسبة إلى رحًى، وأصل هذه الألف ياء بدليل قولهم في التثنية: رَحَيان. _________ (1) أخرجه البزَّار (كشف الأستار)، 3/ 4 - 5، ح 2105. والطبراني 19/ 432، ح 1049. والدولابي في الكنى، (ترجمة أبي مسلمٍ الخزاعي)، 1/ 274، ح 486. والدينوري في المجالسة 2/ 383 - 385، ح 557. والبغوي في معجم الصحابة، (ترجمة مسلمٍ الخزاعيِّ المصطلقيِّ)، 4/ 368 - 369 ح 3104. وأبو نعيمٍ في معرفة الصحابة (كذلك)، 5/ 2484، ح 6043. وغيرهم. قال الهيثميُّ: "رواه الطبرانيُّ والبزَّار عن يعقوب بن محمَّدٍ الزهريِّ عن شيخٍ مجهولٍ، هو مردودٌ بلا خلافٍ". مجمع الزوائد 8/ 232. وقال الألبانيُّ: "منكرٌ". السلسلة الضعيفة 14/ 152، ح 6568. (2) ص 1336, ذكرها في (م ن ي) لا (م ن و).
(3/578)
وقد قُرئ: {مناءة} بالمد [303]، ويحتمل على هذا أن يكون مشتقًّا من النَّوْء وهو النهوض، كأنها تنهض بعابدها في زعمهم، والله أعلم. ثم رأيت ياقوتًا في "معجم البلدان" (1) ذكر وجوهًا لاشتقاق مناة، أوَّلها: أنها من المَنَى وهو القدَر، كما قلناه، والحمد لله. وقد يجوز أن يكون أصل اللات على ما روي عن ابن عباس ثم خُفِّفت التاء، وتُنوسي ذلك الأصل وصار المعروف بين العرب أنَّ اللات اسم لأنثى معظَّمة، وهذا الصنم أو الصخرة تذكار لها، ولعلَّ هذا أولى من غيره. وعلى كلِّ حالٍ فتأنيثهم أسماء هذه الأصنام يدلُّ مع ما مرَّ أنها عندهم تماثيل أو تذكارات لإناث معظَّمات، وعسى أن تقول: إنَّ الحديث المتقدِّم في شأن العُزَّى يدلُّ أنَّ تلك الإناث من الشياطين، فأقول: سيأتي في بحث عبادة الشياطين ما يوضح لك الحقيقة إن شاء الله تعالى. وتلخيصه: أنَّ عبادتهم للشياطين كانت من وجهين: الأول: طاعتهم لهم فيما يسوِّلون لهم متَّخذين ما يسوِّلونه لهم دينًا. الثاني: أنَّ الشياطين يعترضون العبادات لتكون في الصورة لهم، ومن ذلك قيام الشيطان دون الشمس عندما [304] يسجد لها الكفار ليكون السجود صورةً له، فقضية العُزَّى من هذا، والله أعلم. وانتظر تمام هذا قريبًا إن شاء الله تعالى. والحقيقة هي أنَّ الأوثان التي كان الكفار يطلقون عليها اسم اللات والعزى ومناة كانت عندهم تماثيل أو تذكارات للإناث المزعومات وهي قولهم: إنَّ لله بناتٍ هي ــ في زعمهم ــ الملائكة, وعبدوها كما تقدَّم بيانه بما _________ (1) 5/ 204.
(3/579)
لا مزيد عليه. وقال البيضاوي في قوله تعالى: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ: 41]: "أي الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير الله، وقيل: كانوا يتمثلون لهم ويخيِّلون إليهم أنهم الملائكة فيعبدونهم" (1). قال الشيخ زاده في "حواشيه": "جواب عما يقال: إن المشركين كانوا يقصدون بعبادة الأصنام عبادة الملائكة، ولا يخطر الشياطين ببالهم حين عبادتهم الأصنام فضلًا عن أن يعبدوا الشياطين، فما وجه قوله: {كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ}؟ وأجاب عنه بوجهين: الأول: أن الشياطين زيَّنوا لهم [305] عبادة الملائكة فأطاعوا الشياطين في عبادة الملائكة، فالمراد بقولهم: {يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} أنهم يطيعون الجن بعبادة غير الله تعالى، وأن العبادة هي الطاعة، وأنهم لما أطاعوهم فكأنهم عبدوهم. والثاني: أنهم عبدوا الجن حقيقة بناء على أنَّ الجن مثَّلوا لهم صورة قوم منهم وقالوا: هذه صور الملائكة فاعبدوها، فلما عبدها المشركون فقد عبدوا الجن حقيقة" (2). أقول: والأقرب فيما نحن فيه أن المشركين لما كانوا يعبدون إناثًا غيبيَّات، قالت الشياطين: ليس هناك إناث غيبيَّات إلَّا منّا، أما الملائكة فليسوا بإناث، فكلَّما قال المشركون: فلانة بنت الله ــ تعالى الله عما يقولون ــ _________ (1) تفسير البيضاوي ص 571. (2) حواشي الشيخ زاده 3/ 94. [المؤلف]
(3/580)
وعبدوها، عيَّنت الشياطين واحدة من إناثهم كأنها هي تلك الأنثى التي يعبدها المشركون. وقد مرَّ قول ابن جرير أنَّ المشركين كانوا يقولون: اللَّات والعُزَّى ومناة بنات الله (1). وفي "معجم البلدان" في ترجمة العُزَّى عن ابن الكلبي قال: وكانت قريش تطوف بالكعبة وتقول: واللات والعُزَّى ومناة الثالثة الأخرى، فإنهنَّ الغرانيق العُلى، وإنَّ شفاعتهنَّ لترتجى؛ وكانوا يقولون: بنات الله عزَّ وجلَّ وهنَّ يشفعن إليه (2). [306] وفي أسباب النزول للسيوطيِّ (3): أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن عثمان المخزومي أنَّ قريشًا قالت: قيِّضوا لكل رجل من أصحاب محمدٍ رجلًا يأخذه، فقيَّضوا لأبي بكر طلحةَ فأتاه وهو في القوم، فقال أبو بكر: إلامَ تدعوني؟ قال: أدعوك إلى عبادة اللات والعزى، قال أبو بكر: وما اللات؟ قال: ربنا، قال: وما العُزَّى؟ قال: بنات الله. قال أبو بكر: فمَن أُمُّهم؟ فسكت طلحة، فقال طلحة لأصحابه: أجيبوا الرجلَ، فسكت القومُ، فقال طلحة: قم يا أبا بكر أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} الآية (4) في سورة الزخرف 36. _________ (1) ص 301. [المؤلف] ص 577. (2) معجم البلدان 4/ 116، وهو في الأصنام لابن الكلبي 19. (3) لباب النقول ص 188، وانظر: الدرّ المنثور 7/ 377. (4) تفسير ابن أبي حاتم 10/ 3283، ح 18505.
(3/581)
وفي هذا الأثر ما يخالف ما نُقل أنَّ المشركين كانوا يقولون: أمَّهات الملائكة بنات سَرَوات الجن، وقد فُسِّر به قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 158]. وفي صحَّة ذلك نظر، وقد يدفعه قول الله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ [307] وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 100 - 101]، فقوله سبحانه: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} احتجاجٌ على مَن زعم أنَّ له ولدًا فيُعلم من ذلك أنَّ كونه لا صاحبة له قضيَّة مسلَّمة عند المشركين؛ إذ لو كانوا يزعمون أنَّ له صاحبة لما احتجَّ عليهم بذلك، والله أعلم. والذي يظهر لي في تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} أنَّ ذلك إلزام منه تعالى للمشركين، فإنهم زعموا أنَّ إناثًا غيبيَّاتٍ هنّ بنات الله تعالى، وليس هناك إناث غيبيَّاتٌ قد كانوا سمعوا بوجودهنَّ وصدَّقوا به (1) إلَّا من الجن فلزمهم أنهم جعلوا الجنِّيَّات بناتٍ لله عزَّ وجلَّ، وهذا الإلزام من جنس الإلزام الذي تقدَّم في عبادتهم الإناث من الشياطين، والله أعلم. ولنشرع الآن في تفسير الآيات. قال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ [308] وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 19 - 22]. _________ (1) هذا إخراج للحور العين. انتهى [المؤلف].
(3/582)
قال شيخ الإسلام أبو السعود الرومي في "تفسيره": "فالمعنى: أعَقِيبَ ما سمعتم من آثار كمال عظمة الله عز وجل في ملكه وملكوته وجلاله وجبروته وإحكام قدرته ونفاذ أمره في الملأ الأعلى وما تحت الثرى وما بينهما رأيتم هذه الأصنام مع غاية حقارتها وقماءتها بناتٍ له تعالى؟ وقيل المعنى: أفرأيتم هذه الأصنام مع حقارتها وذلتها شركاء الله تعالى مع ما تقدم من عظمته؟ وقيل: أخبروني عن آلهتكم هل لها شيء من القدرة والعظمة التي وُصف بها رب العزة في الآي السابقة؟ وقيل: المعنى أظننتم أن هذه الأصنام التي تعبدونها تنفعكم؟ وقيل: أظننتم أنها تشفع لكم في الآخرة؟ وقيل: أفرأيتم إلى هذه الأصنام إن عبدتموها لا تنفعكم وإن تركتموها لا تضركم؟ والأول هو الحق كما يشهد به قوله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} شهادة بينة؛ فإنه توبيخ مبنيٌّ على التوبيخ الأول. وحيث كان مداره تفضيل جانب [309] أنفسهم على جنابه تعالى بنسبتهم إليه تعالى الإناث مع اختيارهم لأنفسهم الذكور= وجب أن يكون مناط الأول نفس تلك النسبة حتى يتسنَّى بناءُ التوبيخ الثاني عليه. وظاهرٌ أن ليس في شيء من التقديرات المذكورة من تلك النسبة عينٌ ولا أثر، وأمَّا ما قيل من أنَّ هذه الجملة مفعولٌ ثانٍ للرؤية وخلوِّها عن العائد إلى المفعول الأول لِما أنَّ الأصل: أخبروني عن اللات والعُزَّى ومناة: ألكم الذكر وله هُنَّ أي: تلك الأصنام؟ وضع موضعها الأنثى لمراعاة الفواصل وتحقيق مناط التوبيخ، فمع ما فيه من التمحُّلات التي ينبغي تنزيه ساحة التنزيل عن أمثالها يقتضي اقتصار التوبيخ على ترجيح جانبهم الحقير على
(3/583)
جناب الله العزيز الجليل من غير تعرُّضٍ للتوبيخ على نسبة الولد إليه سبحانه" (1). أقول: أما ردُّه تلك التقديرات فحقٌّ لا غبار عليه، وسياق الآيات يؤيده كل التأييد، وأما اختياره تقدير بنات الله ففيه نظر، والظاهر أنه لا حاجة إلى التقدير أصلًا وأنَّ الكلام من النمط الذي أوضحناه في المقدمة الأولى، والمعنى: أعرفتم اللات والعزى [310] ومناة، وقد عرفت أنَّ الغرض من ذلك أن يُحضروها في أذهانهم ويحصروا أذهانهم فيها، ويترقَّبوا أمرًا مهمًّا يتعلق بها. ثم قال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} وهذه هي الجملة الاستفهامية المتعلقة بمفعول (أرأيت) على ما شرطوه، وإنما لم يقل: ألكم الذكر وهي لله على أن يكون المراد بقوله: " وهي": اللات والعزى ومناة، لركاكة هذا اللفظ، أي: قولنا: ألكم الذكر وهي لله؛ وللتصريح بموضع الشناعة المقصود في هذا الكلام؛ ولأنه ــ والله أعلم ــ أريدَ ما يعمُّ هذه الثلاث وغيرها، فإنهم كانوا يقولون في غيرها مثل مقالتهم فيها؛ ولمقابلة لفظ الذَّكر لمراعاة (2) الفواصل. وقول شيخ الإسلام: "إنَّ فيه تمحُّلات", إنما ذلك إذا جُعلت هذه الجملة مفعولًا ثانيًا لـ (أرأيت) وأما على ما اخترناه فلا تمحُّل أصلًا. وأما أنه لا يكون بالكلام تعرُّض للتوبيخ على نسبة الولد إليه سبحانه فلا حرج في _________ (1) تفسير أبي السعود 2/ 539 - 540. [المؤلف] (2) كذا في الأصل, ولعل الصواب: "ولمراعاة" عطفًا على قوله: "لركاكة هذا اللفظ", فيكون تعليلًا مستقلًا برأسه.
(3/584)
ذلك، مع أنه وارد على ما اختاره شيخ الإسلام أيضًا فإنَّ قوله: " {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ} بنات الله"، لا تصريح فيه بالتوبيخ [311] على نسبة الولد، وإنما فيه التوبيخ على جعل هذه الثلاث بناتٍ له، ولو قال قائل لآخر: أجعلت فلانة وفلانة وفلانة بنات لي؟ لما فُهِم من ذلك أنه ينكر أن يكون له ولد أصلًا، فتدبَّرْ. دعْ هذا، فإن ما اختاره شيخ الإسلام وتقدَّم عن ابن جرير (1) موافقٌ في المعنى لما اخترناه، وحاصله التوبيخ على قولهم: اللَّات والعُزَّى ومناة بنات الله. والمهمُّ أن نبحث عن وجه هذا التوبيخ: هل كانوا يقولون: إنَّ تلك الأحجار والأشجار والبيوت بنات الله حقيقةً؟ هذا لا يقوله أحد، ولو سقطوا إلى هذا الدرك من الحماقة لَكِدْتُ أقول: يسقط عنهم التكليف أصلًا، ولو كانوا يقولون ذلك لتكرَّر في القرآن توبيخهم عليه أكثر ممَّا تكرَّر توبيخهم على قولهم: الملائكة بنات الله، فما باله تكرَّر كثيرًا توبيخهم على قولهم: الملائكة بنات الله ولم يأت توبيخهم على قولهم: الجمادات بنات الله حقيقةً في موضع من المواضع إلا أن يُفرض ذلك في هذا الموضع مع دلالة [312] السياق على بطلان هذا الفرض كما يأتي إن شاء الله تعالى. ولأمرٍ مَّا نجد القرآن مملوءًا بمحاجَّتهم في تأليه الملائكة وقلَّما نجده حاجَّهم في تأليه الجمادات. ولو كانوا يقولون ذلك لما عجزوا أن يجيبوا أبا بكر إذ قال لهم: فمَن أُمُّهم؟ أن يقولوا: الأرض مثلًا، وقوم يتردَّدون في _________ (1) ص 301. [المؤلف]. ص 577.
(3/585)
كون البشر رسلًا لله عز وجل كيف يقولون: الجمادات بنات الله حقيقة؟ ولو كانوا يقولون ذلك لما بقي محلٌّ لتوبيخهم بقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} فإنَّ قومًا يقولون: الجمادات بنات الله حقيقة لا يَحسُن أن ينكر عليهم جعلهم الإناث لله عزَّ وجلَّ, على أنَّ الأنثوية في الجمادات ليست حقيقة. فإن قيل: لعلَّ المراد بالأنثى الجماد كما قيل بذلك في قوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} [النساء: 117]. قلت: يكفي في دفع ذلك أنه خلاف الظاهر مع أنه قوبل بالذَّكَر، وقوله: {إِلَّا إِنَاثًا} على حقيقته، وقد مرَّ أنَّ المراد الإناثُ الخياليَّات. [313] وقد علمتَ من المقدمة الثانية أنَّ القوم لم يكونوا يعبدون الجمادات إلَّا على أنها تذكارات للملائكة، وبالجملة فبطلان هذا الاحتمال ــ أعني احتمال أنهم كانوا يقولون في الجمادات إنها بنات الله حقيقة ــ أوضح من أن يحتاج إلى إطالة الكلام في تزييفه. بقي أن يقال: أرادوا بنات الله تعالى على المجاز أي أنها مقبولة عنده، أو على حذف مضاف كأنهم أرادوا: اللات والعزَّى ومناة تذكارات بناته اللَّاتي هن الملائكة. ويردُّه أنه لا يكون حينئذ موضع لقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} لأنهم لم يجعلوها بنات الله حقيقة، ولا هي إناث حقيقة. وقد حكى الله تعالى عن اليهود قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] ولم يوبِّخهم على قولهم: أبناء الله لأنهم إنما قالوها مجازًا، وإن كان هذا الإطلاق اللَّفظيُّ ممنوعًا سدًّا للذريعة، وها نحن نقول:
(3/586)
عزَّة الله وعظمة الله ونحو ذلك، ومكَّة حَرَم الله، والكعبة بيت الله, مع قولنا: جُود فلان، وحلم فلان، وتسميتنا بلداننا وبيوتنا أسماءً مذكَّرة، فهل يتوجَّه إلينا التوبيخ [314] أننا جعلنا لأنفسنا الذكور ولله تعالى الإناثَ؟ فإن قلت: فإذًا يتعيَّن أحد التقديرات التي ردَّها أبو السعود؟ قلت: هي باطلة أيضًا لأنها تُخرج الآيات عن قانون الكلام فضلًا عن الكلام البليغ، فضلًا عن بلاغة القرآن وبديع نظمه وصحَّة تأليفه وترصيفه. فإن قلت: فماذا تقول؟ قلت: لو تدبَّرت ما سقناه في المقدمة الثانية حقَّ تدبُّره لاتَّضحتْ لك الحقيقة. وقد قال ابن جرير: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} قال: جعلوا لله عز وجل بنات، وجعلوا الملائكة لله بنات، وعبدوهم, وقرأ: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ} الآية [الزخرف: 16 - 17]، وقرأ: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} الآية [النحل: 57]، وقال: دَعَوْا لله ولدًا، كما دَعَت اليهود والنصارى، وقرأ: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [البقرة: 118] قال: و"الضيزى" في كلام العرب المخالفة، وقرأ {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [النجم: 23] " (1). [315] ووردت عدَّة آثار في تفسير قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ _________ (1) 27/ 33. [المؤلف]
(3/587)
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 52 - 54] (1) يُعلم من تلك الآثار أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان لحرصه على هدى قومه يحرص على عدم تنفيرهم، فلما قرأ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} ألقى الشيطان: "تلك الغرانيق العلى، وإنَّ شفاعتهن لترتجى" ونحو ذلك، وقد ردّ أكثر العلماء هذه القصة (2)، وقبِلها بعضهم (3). ومما نُقل عن أهل العلم فيها قولُ بعضهم: كان هذا من القرآن، مرادًا بالغرانيق الملائكة، فألقى الشيطان في نفوس المشركين [316] أن يزعموا أنَّ المراد بذلك أصنامهم, فنسخه الله تعالى (4). _________ (1) منها ما رُوِي عن ابن عبَّاسٍ، وسعيد بن جبيرٍ، وأبي العالية، والضحَّاك، ومحمَّد بن كعبٍ. انظر: تفسير الطبري 16/ 603 - 608، تفسير ابن كثير 5/ 439 - 440، الدرّ المنثور 6/ 65 - 69. (2) قال ابن الجوزي: "قال العلماء المحقِّقون: وهذا لا يصحُّ". زاد المسير 5/ 441. وقال القرطبيُّ: "وليس منها شيءٌ يصحُّ". تفسيره 14/ 424. وقال ابن كثيرٍ: "ولكنها من طرقٍ كلُّها مرسلةٌ، ولم أرها مسندةً من وجهٍ صحيحٍ". تفسيره 5/ 438. وللشيخ الألباني رسالةٌ في تضعيفها، أسماها: "نصب المجانيق لنسف قصَّة الغرانيق". (3) قال ابن حجرٍ: "لكن كثرة الطرق تدلُّ على أنَّ للقصَّة أصلًا". فتح الباري 8/ 439. (4) انظر: الشفا 2/ 131، المواقف 3/ 443.
(3/588)
قال الحافظ في "الفتح": وقيل: المراد بالغرانيق العلى: الملائكة، وكان الكفار يقولون: الملائكة بنات الله ويعبدونها, فسبق ذكر الكل ليرد عليهم بقوله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} , فلما سمعه المشركون حملوه على الجميع وقالوا: قد عظَّم آلهتنا ورضوا بذلك، فنسخ الله تلك الكلمتين وأحكم آياته (1). أقول: أمَّا أنَّ تلك الكلمات كانت من القرآن فيُبطله قوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} فبيَّن أنَّ تلك الكلمات ــ إنْ صحَّت ــ من إلقاء الشيطان، ولكن قد يجوز أن يكون النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قال كلماتٍ أثنى بها على الملائكة، وقد أثنى الله تعالى على الملائكة في مواضعَ كقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} الآيات [الأنبياء: 26]. فإن قيل: وكيف يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كلمات ألقاها الشيطان؟ قلت: قد يكون الشيطان وسوس لبعض الناس أن يشير على النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه إذا قرأ آيات النجم ينبغي أن يخبرهم بكلماتٍ يثني بها على الملائكة حتى لا يتوهَّم المشركون أنه يشتم الملائكة فرأى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنه ليس في ذلك محذور فقاله، واغتنم الشيطان ذلك فوسوس للمشركين أن يحملوا تلك الكلمات على خلاف ما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. [317] وفي تفسير ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس ذكرا القصة إلى أن قال: فرضُوا بما تكلَّم به وقالوا: قد عرفنا أنَّ الله _________ (1) فتح الباري 8/ 307. [المؤلف]
(3/589)
يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده إذا جعلتَ لها نصيبًا فنحن معك (1). فالذي يظهر من هذه العبارة أنهم لم يفهموا من تلك الكلمات إلا ما أراده - صلى الله عليه وسلم - من الثناء على الملائكة, ولكنهم زعموا أن ذلك الثناء يدل على جواز اتِّخاذ الملائكة آلهة. بقي أن يقال: الآثار المذكورة كلها تصرِّح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال تلك الكلمات عقب قراءته: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} , فكيف تحمل تلك الكلمات على أنها ثناء على الملائكة؟ فدونك الحقيقة الآن: اعلم أنَّ شأن العرب كشأن قوم نوح وغيرهم جعلوا الأوثان تماثيل وتذكارات للأشخاص الغيبيَّة وسمَّوها بأسماء تلك الأشخاص على حسب ما مرّ في المقدمة الثانية، فلما زعموا أنَّ هناك إناثًا غيبيَّاتٍ هنَّ بنات [318] الله اختلقوا لها أسماء هي اللات والعُزَّى ومناة، اشتقُّوها من اسمه وصفاته كما تقدَّم، ثم أطلقوا على التذكار الذي جعلوه للَّات اسمَ اللَّات، وهكذا. فَلِمُسمَّيات هذه الأسماء ثلاثة وجوه: الأول: أن يُحكم عليها باعتبار أنها من الملائكة نظرًا إلى أنَّ المشركين إنما قصدوا وضع هذه الأسماء للملائكة وإن أخطؤوا في الصفات، وقد تقدَّمت الآيات الكثيرة في أنهم يعبدون الملائكة مع أنهم إنما كانوا يعبدونهم بصفة أنهم بنات الله. _________ (1) 17/ 117. [المؤلف]
(3/590)
الثاني: أن يُحكم عليها باعتبار أنها أشخاص متصفة بما يزعمه المشركون, فيُحكم عليها بالعدم؛ إذ ليس في الوجود بنات لله. الثالث: أن يُحكم عليها باعتبار أنَّ الشياطين اعترضوا هذه الأسماء فسمَّوا بها إناثهم كما تقدَّم, فيُحكم عليها بأنها من الشياطين. وهذا كما لو كان في قصر من القصور خادم للملك يتصرَّف في القصر بإذن الملك وفيها (1) حجَّام له بنت، فقيل لجماعة من الناس: إنَّ الشخص الذي يتصرَّف في هذه الدار هو بنت الملك، فسمُّوها وعظِّموها فقالوا: نسميها عزَّة، وأخذوا يبعثون التحف التي لا تصلح إلا للملوك إلى ذلك القصر قائلين: هذا لعَزَّة بنت الملك، فإذا قيل ذلك للخادم قال: ليست هذه التحف لي لأني لستُ أنثى، وليس الملِك أبي، وإنما أنا رجل من خَدمه ولا يصلُح أن أُسمَّى عَزَّة ولا تليق به (2) هذه التحف وإنما كان علىهم أن يبعثوها إلى سيِّدي الملك فلست بقابل لتحفهم ولا ينبغي لي ذلك، فاعترض الحجَّام قائلًا: أنا أُسمي بنتي عَزَّة وآخذ هذه التحف، وألعب بهؤلاء الحمقى ومهما يكن يكن، ثم أخذ يتناول تلك التحف قائلًا: ليس في القصر أنثى يقال لها عزة غير ابنتي، وشمَّر في ترغيب الناس في الإتحاف. إذا عرفت هذا فيصحُّ أن يقول مَن يعرف الحقيقة: أيها القوم إنَّ عَزَّة لَمقرَّبة عند الملك وإنها لتشفع عنده إذا أذن لها ولكنها ليست أنثى ولا بنت الملك ولا تستحقُّ تحف الملوك، وإنما هي رجل مِن خدم الملك مطيع له، فأطلق هذا الرجل الناصح عَزَّة على ذلك الخادم الذكر وأنَّث الضمائر أوَّلًا، _________ (1) كذا في الأصل, وسيعبر عن القصر بالدار بعد قليل. (2) كذا في الأصل, والضمير يعود على الخادم.
(3/591)
كلُّ ذلك بناء على ما في أذهان أولئك القوم، ويصحُّ أن يقول لهم: عَزَّة معدومة لا يوجد إلَّا اسمها, أي: لأنها فيما يحسبون بنتُ الملك وليس للملك بنت، ويصحُّ أن يقول لهم: إنما عَزَّة بنت الحجَّام. إذا تقرَّر هذا فالألفاظ التي رُويت في قصَّة الغرانيق إن صحَّت جارية على الاعتبار الأوَّل، وكان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إن كان قال ذلك رأى أنَّ قول الله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} الآيات يؤدِّي معنى ما ذكرنا في المثال من قول الناصح: ولكنها ليست أنثى ولا بنت الملك إلخ، ولكنَّ الشيطان لعب بالمشركين فلم يُصغوا إلى هذه الآيات. وبهذا تنحلُّ جميع المشكلات في تفسير الآيات ويتمُّ الجواب عن قصَّة الغرانيق ويتجلَّى ما في هذه الآيات من حُسن السبك وبَدَاعة النظم كما سيأتي تمامه. ولله الحمد. قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} هذا بناءً على الاعتبار الثاني، فالنفي على ظاهره لأنه ليس في الوجود بنات لله تعالى ولا يوجد منها إلا الأسماء التي اختلقوها، وهذا كما لو سُئلت عن العنقاء، فقلت: لا يوجد منها إلا اسمها، بخلاف ما لو جُعل الكلام في الأصنام أنفسها فإنها موجودة فلا يصدُق عليها أنها ليست إلَّا أسماء مع بقائه على ظاهره. وقوله تعالى: {أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} [النجم: 24] قال البيضاوي وغيره (1): (أم) منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار، والمعنى: ليس له [319] كل ما _________ (1) تفسير البيضاوي ص 698, وتفسير أبي السعود 8/ 159, وروح المعاني 27/ 58.
(3/592)
يتمناه، والمراد نفي طمعهم في شفاعة الآلهة. أقول: وإيضاحه أن المشركين ربما يقولون: إن لم يكن هناك إناث غيبيات هن بنات الله وهن الملائكة فإننا نعبد اللَّات والعُزَّى ومناة قائلين: إنهن هنَّ الملائكة فنحن بعبادتهن عابدون للملائكة, والملائكة مقرَّبون عند الله تعالى اتفاقًا فيشفعون لنا بعبادتنا إياهم، ولا يضرُّنا الخطأ في وصفهم بأنهم إناث وأنهم بنات الله، فردّ الله تعالى عليهم بأنَّ هذا تمنٍّ منهم وليس للإنسان ما يتمنَّى. وقوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25)} جواب والله أعلم عما يمكن أن يقوله المشركون وهو: ليس للإنسان كلُّ ما يتمنَّاه ولكن قد يحصل له بعضُ ما يتمناه, فكأنه قال: ولكن تمنِّيكم الشفاعة من الملائكة لا يحصل لكم منه شيء لأنه ليس للملائكة من الأمر شيء لا في الآخرة ولا في الأولى. وقوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)} فيه جواب ــ والله أعلم ــ عما يمكن أن يقوله المشركون، كأنهم يقولون: لا ريب أن لله الآخرة والأولى, ولكن الملائكة مقرَّبون عنده, فإذا شفعوا لأحد عنده [320] قبِل شفاعتهم, فكأنه تعالى قال: وكيف تغني شفاعتهم إن شفعوا بدون إذنٍ منه تعالى لهم، ولا رضًا بشفاعتهم؟ أي: وما الذي يضطرُّه عزَّ وجلَّ إلى قَبول شفاعتهم فيما لا يرضى وهم عبيده ومملوكون له, وبفضله ومَنِّه حصل لهم القرب منه, وهو الغنيُّ عنهم وعن غيرهم؟
(3/593)
وفي قوله: {إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ} إشارة إلى أنَّ الشفاعة عند الله تحتاج إلى الإذن، فيُفهم من هذا أنَّ الملائكة لا يشفعون بدون إذنه أصلًا لما عُلم من خوفهم من ربكم (1) عز وجل وإجلالهم له، وقد صرَّح بهذا في آية الكرسي وغيرها. ثمَّ قال عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27)} هذا صريح فيما قدَّمناه أنَّ اللات والعزى ومناة أسماء سمَّى بها المشركون الإناثَ الخياليَّات اللاتي يزعمون أنها الملائكة، وقد تمحَّل المفسِّرون لتأويل هذه الآية فقالوا: يعني قولهم: بنات، وهذا كما تراه. فإنه لو قيل لك: فلان يسمِّي أبناءه تسمية الإناث لما فهمتَ إلَّا أنه يضع لهم الأسماء المختصة بالإناث كأن يُسمِّي أحدهم سُعدى [321] والآخر ليلى، ونحو ذلك. وكأنه لعلم الله عزَّ وجلَّ ما سيقع في الآيات السابقة من الاشتباه أوضح المراد بهذه الآية، ولله الحمد. وفيما تقدَّم وبَّخهم بجعْلهم لأنفسهم الذكور وجعْلهم له الأنثى, ثم دفع شبههم في الشفاعة لأنها مقصودهم الأعظم وعليها يبنون شركهم, ثم وبَّخهم على تسمية الملائكة بأسماء الإناث. ولعله بقي شيء من لطائف هذه الآيات أدعه الآن لغيري. ولكلِّ متدبِّر في القرآن رزق مقسوم، ولا يخيب من اجتناء ثمراته إلا المحروم، نسأل الله ألَّا يحرمنا من فوائده بفضله وكرمه. _________ (1) كذا في الأصل.
(3/594)
هذا، واعلم أني لم أستوعب الآيات القرآنية في عبادة الملائكة بل بقي منها كثير, وقد علمتَ أن عبادة الملائكة هي أصل شرك العرب كما قاله البيضاوي وغيره (1)، والآيات الصريحة في الملائكة أكثر من الآيات الصريحة في غيرهم، وعلى هذا فكلُّ آية محتملة أن تكون في الملائكة أو في غيرهم يتعيَّن حملُها على الملائكة حملًا على ما هو الأصل والغالب، والله أعلم. [322] عبادة الشياطين قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 116 - 120]. وقال عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ... وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ... وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ _________ (1) تفسير البيضاوي ص 571 عند الآية 40 من سورة سبأ, ولفظه: "ولأن عبادتهم مبدأ الشرك وأصله", وانظر: تفسير أبي السعود 7/ 137, وروح المعاني 22/ 151.
(3/595)
بِغَيْرِ عِلْمٍ ... وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ .... فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ [323] اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) [ .... ] (1) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 93 - 121]. أخرج ابن جرير عن السُّدِّيِّ: أما أن قوله: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} فإن المشركين كانوا يزعمون أنهم كانوا يعبدون الآلهة لأنهم شفعاء لهم، يشفعون لهم عند الله تعالى، وأن هذه الآلهة شركاء لله. وأخرج عن عكرمة قال: قال النضر بن الحارث: سوف تشفع لي اللات والعزى (2). أقول: قد علمت أنَّ القوم كانوا يعبدون الإناث الخياليَّات التي يزعمون أنها بنات الله وأنها هي الملائكة ويسمُّونها اللات والعزى ومناة، ويزعمون أنها تشفع لهم، وهذه الآيات إلى قوله: {مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} تتعلَّق بذلك. وأما قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} فقال ابن جرير: "فتأويل [324] الكلام إذًا (3) وجعلوا لله الجن شركاء في عبادتهم إياه" (4). _________ (1) لم يضع الشيخ هنا نقاطًا مع أنه ترك آيتين لم ينقلهما. (2) 7/ 170. [المؤلف] (3) في الأصل: "مرادًا"، والتصحيح من الطبعات الأخرى للتفسير. (4) 7/ 181. [المؤلف]
(3/596)
أقول: وقد مرّ في الفصلين السابقين ما يفيدك هنا, وحاصله: أن القرآن يذكر عبادتهم الإناث الخياليات أو عبادتهم الملائكة ثم يحكم بأنها عبادةٌ للشياطين, وقد مرّ شيءٌ في تفسير ذلك وسيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. وأما قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فقد قيل: إن المسلمين كانوا يسبون الأصنام وأن الأصنام هي المراد بقوله: {الَّذِينَ يَدْعُونَ}. وفيه نظر لما يأتي تحقيقه أن المشركين لم يكونوا يدعون الأصنام أنفسها، وعليه فالصواب أن يكون المراد الإناث الخياليات أو الشياطين، ولا يجوز حملها على الملائكة أنفسهم؛ لأنَّ سبَّ الملائكة ممنوع مطلقًا, ولم يكن المسلمون ليسُبُّوا الملائكة. وأما قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ... وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ... } فأخرج [325] ابن جرير آثارًا كثيرة منها: حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد عن قتادة قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} الآية، يعني: عدو الله إبليس أوحى إلى أوليائه من أهل الضلالة فقال لهم: خاصموا أصحاب محمد في الميتة فقولوا لهم: أما ما ذبحتم وقتلتم فتأكلون، وأما ما قتل الله فلا تأكلون، وأنتم تزعمون أنكم تتبعون أمر الله، فأنزل الله على نبيه: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} وإنا والله ما نعلمه كان شركٌ قط إلا بإحدى ثلاث: أن يدعي (1) مع الله إلها آخر، أو يسجد لغير الله، أو يُسمِّي الذبائح لغير _________ (1) في ط هجر وط شاكر: أن يدعو, وهو الأنسب.
(3/597)
الله" (1). وأخرج عن السُّدِّيِّ: "وإن أطعتموهم فأكلتم الميتة، وأما قوله: {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} يعني إنكم إذًا مثلهم, إذ كان هؤلاء يأكلون الميتة استحلالًا فإذا أنتم أكلتموها كذلك فقد صرتم مثلهم مشركين" (2). أقول: وإيضاح ذلك أن الشياطين وسوسوا إلى أوليائهم أن يجادلوا المؤمنين بتلك الشبهة, أي: إنكم تأكلون ما قتلتموه بأيديكم أو قتله الصقر أو الكلب، ولا تأكلون مما قتله الله تعالى. ومن شأن هذه الشبهة إذا أثرت في إنسان فإما أن يمتنع [326] من أكل ما ذكَّاه بيده أو بصقره أو بكلبه وسمَّى الله عليه قائلًا: إذا حرم عليَّ ما قتله فَلَأَنْ يحرم عليَّ ما قتلته بيدي أو بصقري أو بكلبي أولى، وإما أن يأكل الميتة قائلًا: إذا حلَّ لي ما قتلته بيدي أو بصقري أو بكلبي فلأن يحلَّ لي ما قتله الله أولى، فبيَّن الله عز وجل أنَّ كلا الأمرين شرك منافٍ للإيمان بالله تعالى، لأن كلًّا منهما تديُّنٌ بما شرعه الشيطان، وذلك عبادةٌ للشيطان، كما يأتي تحقيقه في موضعه إن شاء الله تعالى. وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا .. } [الأنعام: 151] ذكر ابن هشام في فصل (لا) من المغني (3)، أنَّ (لا) في هذه الآية تحتمل وجوهًا، ومنها: ما حكاه عن الزَّجَّاج، وهو: "أن يكون الأصل: "أبيِّن لكم ذلك لئلا تشركوا"، وذلك لأنهم إذا حرَّم عليهم _________ (1) 8/ 13. [المؤلف] (2) 8/ 15. [المؤلف] (3) 1/ 250، وانظر: معاني القرآن للزجاج 2/ 303 - 304.
(3/598)
رؤساؤهم ما أحلَّه الله سبحانه وتعالى فأطاعوهم أشركوا لأنهم جعلوا غير الله بمنزلته". وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) ... فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ .... وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 98 - 116]. [327] قال ابن جرير: "يقول: إنما حجته على الذين يعبدونه والذين هم به مشركون"، وأخرج عن الربيع خبرًا فيه: اتَّخذوه وليًّا وأشركوه في أعمالهم. وأخرج عن قتادة قوله: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} يقول: الذين يطيعونه ويعبدونه. ثم قال: "وأما قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} فإنَّ أهل التأويل اختلفوا في تأويله, فقال بعضهم فيه بما قلناه: إنَّ معناه: الذين هم بالله مشركون". ثم أخرج عن مجاهد قوله {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} قال: يعدلون برب العالمين. وعن الضحَّاك: عدلوا إبليس بربهم؛ فإنهم بالله مشركون. ثم قال: "وقال آخرون: معنى ذلك {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} أشركوا
(3/599)
الشيطان في أعمالهم". ثم أخرج عن الربيع قال: أشركوه في أعمالهم. ثم قال: "والقول الأول ــ أعني قول مجاهد ــ أولى القولين في ذلك بالصواب، وذلك أن الذين يتولَّون الشيطان إنما يشركونه بالله في عبادتهم وذبائحهم ومطاعمهم ومشاربهم لا أنهم يشركون بالشيطان، ولو كان معنى الكلام ما قاله الربيع لكان التنزيل: (الذين هم مشركوه) [328] إلا أن يوجِّه موجِّه معنى الكلام إلى أن القوم كانوا يدينون بألوهيَّة الشيطان ويشركون بالله به (1) في عبادتهم إياه" (2). ثم أيَّد ما اختاره أوَّلًا بما حاصله: أنَّ المتكرر في القرآن ذِكْرُ إشراك غير الله بالله وليس فيه ذكر إشراك الله بغيره. أقول: وأقوى من هذا أنَّ المفهوم من الآية {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} ذمُّ الإشراك, ومعنى الإشراك بالله عبادة غيره معه، وعلى هذا فيكون معنى الإشراك بالشيطان عبادة غيره معه، وعبادة غير الشيطان معه لا تكون موردًا للذَّمِّ ولاسيما إذا قلنا: المراد عبادة الله تعالى مع الشيطان، ولكن حمل الآية على ما اختاره ابن جرير بعيد من جهة بُعد مرجع الضمير ومخالفة الضمائر التي قبله. ويظهر لي أن معنى الآية هكذا: إنما سلطان الشيطان على الذين يتولَّونه بأن يعبدوه وحده, وعلى الذين هم بالشيطان مشركون [329] بأن يعبدوا غيره _________ (1) الصواب: (ويشركون الله به) بحذف الباء منه [المؤلف]. (2) 14/ 107 - 108. [المؤلف]
(3/600)
معه. ويجاب عما أورده ابن جرير من أنه لا نظير لذلك في القرآن بأنه ليس في القرآن آية تشبه هذه فيما أريد منها من التفصيل, وعما أوردته أنا بأنَّ مورد الذَّمِّ هو الإشراك باعتبار ما يستلزمه من عبادة الشيطان، فتدبَّر. وفي "لسان العرب" (1): "وقال أبو العباس في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} معناه: الذين هم صاروا مشركين بطاعتهم للشيطان, وليس المعنى أنهم آمنوا بالله وأشركوا بالشيطان، ولكن عبدوا الله وعبدوا معه الشيطان فصاروا بذلك مشركين، ليس أنهم أشركوا بالشيطان وآمنوا بالله وحده. رواه عنه أبو عمر الزاهد قال: وعرضه على المبرد، فقال: مُتْلَئِبٌّ (2) صحيح". أقول: أبو العباس هو ثعلب، وكأنه أراد أن الباء في الآية للسببيَّة، وليست هي التي يعدَّى بها الإشراك في نحو قولنا: لا تشركْ بالله، وهذا قول حسن لسلامته مما اعتُرِض به على القولين الأوَّلين، ويؤيِّده أنَّني لم أر الشرك يُعدَّى بالباء إلا في الشرك [330] بالله. فأما قول الشاعر (3): شِرْكًا بِمَاءِ الذَّوْبِ يَجْمَعُهُ ... فِي طَوْدِ أَيْمَنَ في قُرَى قَسْر _________ (1) 10/ 449 - 450، والنصُّ في تهذيب اللغة للأزهري، 10/ 14 مادة (شرك). (2) اتلأبَّ الأمر اتْلئْبابًا: استقام وانتصب. القاموس المحيط: 79. (3) هو المسيَّب بن عَلَس بن عمرو بن قمامة بن زيد، واسم المسيَّب زهير، وإنما سُمِّى المسيَّبَ حين أوعد بنى عامر بن ذهل فقالت بنو ضبيعة: قد سيَّبناك والقومَ، وهو خالُ الأعشى. انظر: طبقات فحول الشعراء للجمحي 1/ 156.
(3/601)
فمعناه: شركًا في ماء الذوب، والشرك فيه بمعنى الشريك (1). وكذلك الإشراك، لم أر في كلامهم: أشركت فلانا بفلان، بمعنى: جعلته شريكا له، فكأن الشرك بالله والإشراك به ضمِّنا معنى الكفر فعدِّيا بما يعدَّى به، ولا يظهر معنى لأن يضمّن الإشراك مع الشيطان الكفرَ بالشيطان. ثم رأيت الشيخ عز الدين بن عبد السلام قال في "كتاب الإشارة والإيجاز إلى أنواع المجاز": "الفصل الثاني والأربعون في مجاز التضمين: .... وله أمثلة: أحدها: قوله {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} ضُمِّن {لَا تُشْرِكْ} معنى: لا تعدل، والعدل التسوية، أي لا تسوِّ بالله شيئا في العبادة والمحبة، فإنهم عبدوا الأصنام كعبادته وأحبوها كحبه، ولذلك قالوا في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 - 98]. وما سوَّوهم به إلا في العبادة والمحبة دون أوصاف الكمال ونعوت الجلال" (2). فإن قيل: فلماذا لا تكون الباء للمصاحبة؟ قلت: قولهم: إن باء المصاحبة بمعنى (مع) فيه تسامحٌ ما فإن بينهما فرقًا ما، وذلك أن (مع) تشعر بأن ما بعدها متبوع, تقول: ذهب الطفل مع أمه، أو ذهبت المرأة ومعها طفلها، أو طفلها معها؛ فإن قلت: ذهبت المرأة مع طفلها، لم يحسن إلا إذا كان ذهاب الطفل هو المقصود، وذهاب الأم تبع له، تدبّر. والباء بعكس ذلك أعنى أن ما بعدها هو التابع، تقول: ذهبت المرأة بطفلها، أي ذهبت هي وذهب تبعا لها. قال تعالى: {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ _________ (1) انظر شرح القاموس مادة (ش ر ك). [المؤلف] (2) الإشارة ص 54 - 55. [المؤلف]
(3/602)
وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} [المائدة: 61] والكفر تبع لهم في الدخول والخروج، ولا [331] يحسن أن يقال: دخل الكفر بهم وخرج بهم، على أن تكون الباء للمصاحبة، ولو كان بدل الباء (مع) لكان وجه الكلام: دخل الكفر معهم وخرج معهم. فتدبَّر فإنه لا يخلو عن دقَّة. إذا عرفت ذلك فالأصل في العبادة أن تكون لله عز وجل، والمشركون يشركون معه غيره كأنهم تبع، فيحسن أن يقال: أشركوا غيره معه، ولا يحسن أن يقال: أشركوه مع غيره. فلو كانت الباء التي تجيء مع الإشراك للمصاحبة لكان حق الكلام أن يقال: لا تشرك الله بغيره. فإن قلت: فعلى ما اختاره ابن جرير وما قاله ثعلب، لا يكون في الآية ذكر لعبادة الشيطان، وأنت إنما أوردتها شاهدًا على ذلك. قلت: ولكن في النقول التي سردناها ما يحصل به المقصود من أن المشركين كانوا يعبدون الشيطان، ويُعلم ذلك من قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} فإنَّ تقديم المفعول يفيد الحصر كما في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، فالمفهوم حينئذ: أنَّ مَن لم يفعل ما أُمر به فقد عبد غير الله تعالى، والمعنى أنه عبد الشيطان على ما تقدَّم في آيات الأنعام. [332] وقال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [الكهف: 50 - 52].
(3/603)
قال البيضاوي: " {نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أنهم شركائي أو شفعاؤكم ليمنعوكم من عذابي، وإضافة الشركاء على زعمهم للتوبيخ، والمراد ما عُبد من دونه. وقيل: إبليس وذريته" (1). وقال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ... يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم 41 - 46]. قال أبو السعود: "يا أبت لا تعبد الشيطان فإن عبادتك [333] الأصنامَ عبادةٌ له إذ هو الذي يسوِّلها لك ويغريك عليها" (2). قال تبارك وتعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 97 - 103]. _________ (1) هامش حواشي الشيخ زاده 2/ 260. [المؤلف] (2) تفسير أبي السعود 2/ 107. [المؤلف]
(3/604)
أخرج ابن جرير عن ابن إسحاق قال: جلس النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني يومًا مع الوليد بن المغيرة ... فقال عبد الله بن الزبعرى ... : أما والله لو وجدته لخصمته فسلوا محمدًا: أكلُّ مَن عُبد من دون الله في جهنم مع مَن عبده؟ فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيرًا والنصارى تعبد المسيح، فذُكر ذلك لرسول الله [334]- صلى الله عليه وسلم - من قول ابن الزبعرى, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم، كلُّ مَن أحبَّ أن يُعبد من دون الله فهو مع مَن عبده، إنما يعبدون الشياطين ومَن أمرهم بعبادته، فأنزل الله تعالى فيما ذكروا أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} الآيات إلى قوله: {نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 26 - 29] (1). أقول: ما تضمَّنه هذا الحديث هو الصواب في تفسير الآية، فأمَّا من قال: المراد الأصنامُ فلم يصنع شيئًا؛ لأنَّ كلمة (ما) وإن قيل: إنَّ الأكثر أن تكون لما لا يعقل، يعارضها هنا قوله: {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء: 99 - 100]. أولًا: لأن هذه الألفاظ ألفاظ العقلاء. وثانيًا: الأصنام جماد ولا ذنب لها فكيف تكون خالدة في النار لها زفير، وذلك عذاب قطعًا. وثالثًا: الكفار يعلمون أن الأصنام جمادات لا حياة لها، وإنما يعظمونها _________ (1) 17/ 68 - 69. [المؤلف]. وانظر: سيرة ابن هشام 2/ 8 - 9. والحديث سبق تخريجه من طرقٍ عن ابن عباس، راجع: ص 410.
(3/605)
تعظيمًا لمن هي تماثيل أو تذكارات لهم، فإلقاء الأصنام في النار لا تظهر منافاته للإلهية التي زعموها لها. [335] وأما من قال: لفظ (ما) عامٌّ يشمل الشياطين والأحبار والرهبان وغيرهم ممن عبد من دون الله, واستثني من ذلك الملائكة والمسيح ونحوهم بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] فهذا قول ضعيف: أوَّلًا: لأنَّ اللفظ ليس بلفظ الاستثناء. ثانيًا: إن في سياق ذلك قوله: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ... وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ}، فهذا يدل أنهم غير الملائكة. وثالثًا: ما رُوي أن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} متأخِّر النزول. فالحقُّ ما تضمنه الحديث أن المراد بكلمة (ما) الشياطين، لأنَّ الكلام مع قريش فلم يدخل عيسى ونحوه ممن عبده اليهود والنصارى وغيرهم من الأمم غير العرب. والعرب وإن كانت تزعم أنها تعبد الملائكة، فهي في الحقيقة إنما كانت تعبد إناثًا متوهَّمة تزعم أنها بنات الله وأنها الملائكة، وتلك الإناث ليست في الحقيقة الملائكة. وإلى هذا أشار بقوله: "فأنزل الله فيما ذكروا أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله". فثبت بهذا أنَّ الأشخاص الغيبيَّة التي عبدها العرب ليست هي الملائكة [336] لأنها إناث والملائكة ليست كذلك، ولأنها بنات الله في زعمهم وليست الملائكة كذلك.
(3/606)
فعبادتهم في الحقيقة إنما هي عبادة للشياطين، أوَّلًا: لما تقدَّم مرارًا أنهم أطاعوا الشياطين الطاعة التي هي عبادة، وسيأتي تحقيقها إن شاء الله تعالى. ثانيًا: أن الشياطين أنفسهم تصدَّوا لهذه العبادة قائلين: إن هؤلاء يعبدون إناثًا غيبيات وليس هناك إناث غيبيات إلا من الشياطين, فعرَّضوا إناثهم لتلك العبادة, كما أشرنا إليه في الكلام على العُزَّى، وسيأتي له مزيد إن شاء الله تعالى. وقد صرَّح القرآن بما ذكر في قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40 - 41] (1). وقد مرَّ الكلام عليها في أوائل فصل الملائكة. والله تبارك وتعالى أعلم. وقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى [337] وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج: 11 - 13]. وقد سبقت هذه الآيات في فصل الملائكة، ذكرنا هناك أن المراد بـ (مَن ضَره أقربُ من نفعه): أنه الشيطان، وأن الآية كنظائرها. ومنها قوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 117]. _________ (1) هكذا كتبها المؤلف برواية أبي عمرو، كما سبق في ص 567.
(3/607)
وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) .... وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا [338] فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)} [الشعراء: 69 - 98]. فكلمة (ما) من قوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} عامة في كل ما عبدوه من جماد وغيره، ولهذا استثنى من ذلك فقال: {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} لأنهم كانوا يعبدون الله عز وجل ويشركون معه غيره. وقال ابن جرير: "فتأويل الكلام: فكُبكِب هؤلاء الأنداد التي كانت تعبد من دون الله في الجحيم والغاوون. وذكر عن قتادة أنه كان يقول: الغاوون في هذا الموضع الشياطين. فتأويل الكلام على هذا القول الذي ذكرنا عن قتادة: فكُبكُب فيها الكفار الذين كانوا يعبدون من دون الله الأصنام والشياطين .... وقوله: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} يقول الغاوون للذين يعبدونهم من دون الله: تالله إن كنا لفي ذهاب [339] عن الحق حين نعدلكم برب العالمين فنعبدكم من دونه.
(3/608)
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} قال: لتلك الآلهة" (1). وقال الشيخ عزُّ الدين بن عبد السَّلام: "وما سوَّوهم به إلَّا في العبادة والمحبة دون أوصاف الكمال ونعوت الجلال" (2). أقول: أمَّا في العبادة فنعم، وأمَّا في المحبَّة فلا؛ لأنَّ المشركين لم يكونوا يحبُّون الشياطين. وقال سبحانه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: 60 - 62]. وقال عز وجل: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) ... احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا [340] مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ _________ (1) 19/ 50 - 51. [المؤلف]. والمراد أنهم وجَّهوا الخطاب لتلك الآلهة. (2) كتاب الإشارة ص 55. [المؤلف]
(3/609)
يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 1 - 35]. بدأ الله عز وجل فأقسم بفِرَق الملائكة المُجِدِّين في طاعة ربهم عز وجل على أنه لا إله غيره. والأقسام القرآنية من قبيل الاستشهاد كأنَّه هنا يقول: إنَّ فِرق الملائكة مع ما تقوم به من الأعمال في طاعة الله عز وجل مما يشهد على أنه لا إله إلَّا الله. وهذا كما قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ} [آل عمران: 18]. وفي ذلك أبلغ ردٍّ على المشركين الذين يقولون: إنَّ الملائكة تستحقُّ أن تتخذ آلهة. فقوله تعالى: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} جواب القسم، كما هو الظاهر. وفيه احتمالٌ آخر سأذكره بعد إن شاء الله تعالى. وفي ذكره الكواكب إشارة إلى الرَّدِّ على من يعبدها، وهكذا في ذكره الشياطين. [341] وطردُها إشارة إلى تقبيح شأن مَن يعبدها. وقوله: {وَأَزْوَاجَهُمْ}: أخرج ابن جرير عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قال: ضرباءهم. وعن ابن عباس قال: نظراءهم. وأخرج نحوه عن أبي العالية وقتادة والسدي وابن زيد ومجاهد (1). وقوله: {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} أخرج ابن جرير عن قتادة قال: الأصنام (2). وقال الشيخ زاده (3) في حواشيه على "البيضاوي": وقال مقاتل: المراد _________ (1) تفسير ابن جرير 19/ 519 - 520. (2) المصدر السابق 19/ 522. (3) كذا في الأصل بتعريف الشيخ, وهو في العجمية دون "ال".
(3/610)
بما يعبدون هو إبليس وجنوده. واحتجَّ بقوله تعالى: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} (1). أقول: والسياق ينصر قول مقاتل. وذهب جماعة إلى أنَّ المراد: وجميع ما كانوا يعبدون، ويخصُّ منهم الملائكة وعيسى ونحوهم. وأخرج ابن جرير عن قتادة قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} قال: الإنس على الجن (2). أقول: وهذا وما بعده يؤيِّد قول مقاتل. وأخرج ابن جرير أيضًا عن مجاهد في قوله: {تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} قال: عن الحق، الكفار تقوله للشياطين. وأخرج نحوه عن قتادة والسدي وابن زيد (3). وهذه المحاورة تشبه ما ذكره الله تعالى بقوله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [342] وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22]. _________ (1) حواشي الشيخ زاده 3/ 151. [المؤلف] (2) تفسير ابن جرير 19/ 524. (3) 23/ 28 - 30. [المؤلف]
(3/611)
وقال عز وجل: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات: 149 - 166]. [343] وقد سبق في أوائل الكلام على آيات النجم من فصل الملائكة أنَّ الوجه في معنى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] أنه إلزامٌ من الله عزَّ وجلَّ للمشركين؛ فإنهم زعموا أنَّ إناثًا غيبيَّات هنَّ بناتُ الله ــ تعالى الله عما يقولون ــ وليس هناك إناث غيبيَّات قد سمع المشركون بوجودهن (1) إلَّا من الجن فلزمهم أنهم جعلوا الجنِّيَّات بناتِ الله عزَّ وجلَّ، فهذا هو النسب. وقد مرَّ في أوائل فصل الملائكة قول قتادة في قوله عز وجل: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)} (2) قال: يقول: أكثرهم بالجنِّ مصدِّقون يزعمون أنهم بنات الله، تعالى عما يقولون علوًّا كبيرًا. _________ (1) المقصود من هذا القيد إخراج الحور العين. اهـ. [المؤلف]. (2) هكذا كتبها المؤلف برواية أبي عمرو، كما سبق.
(3/612)
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)} يريد والله أعلم: ولقد علم الجنُّ إنَّ عابديها لمحضرون العذاب. وقوله: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} قال في الكشاف: استثناء منقطع من المحضَرين، معناه: ولكنَّ المخلصين ناجون. و {سُبْحَانَ اللَّهِ} اعتراض بين الاستثناء وبين ما وقع منه. ويجوز أن يقع الاستثناء عن الواو في: {يَصِفُونَ}، أي يصفه هؤلاء بذلك، [344] ولكنَّ المخلصين براءٌ من أن يصفوه به (1). أقول: والأوَّل هو المختار والموافق لنظائر هذه الآية من هذه السورة وغيرها. منها قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}. وفي روح المعاني: "قال الطيبي: ويحسن كل الحسن إذا فُسِّر الجِنَّة بالشياطين، أي وضمير (إنهم) بالكفرة، ليرجع معناه إلى قوله تعالى حكايةً عن اللعين: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82 - 83] " (2). وقوله تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 161 - 163] تعليل ــ والله أعلم ــ لاستثناء المخلَصين. أي: فإنكم معشر المشركين أنتم والشياطين التي تعبدونها لا تفتنونهم أي المخلصين, وإنما تفتنون مَن سبق في علم الله تعالى أنه صال الجحيم, وليس المخلَصون كذلك. قال أبو السعود: " {وَمَا تَعْبُدُونَ} عبارةٌ عن الشَّياطينِ الذين أغوَوهم ... _________ (1) الكشاف 2/ 272. [المؤلف] (2) روح المعاني 7/ 320. [المؤلف]
(3/613)
و {ما} نافيةٌ، و {أنتُم} خطابٌ لهم ولمعبوديهم, والمعنى: إنَّكم ومعبوديكم ــ أيُّها المشركونَ ــ لستُم بفاتنينَ" (1). وأما قوله تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)} فحكاية عن الملائكة جزمًا، ولكن أشكل ارتباطه بما تقدَّم؛ فإنَّ تقدير نحو: (والملائكة يقولون) غيرُ هيِّنٍ؛ لأنَّ مثل ذلك لم تجرِ العادة بحذفه، كذا يُقال. [345] فإن لم تسلم دعوى الحذف فقد ظهر لي وجهٌ للربط فيه بُعْدٌ، ولكني أعرضه عليك لتعرفه: قال تعالى في أول السورة: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)} وهذه كلُّها صفات الملائكة، وقوله تعالى بعد ذلك: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) ... } تفصيلٌ لذلك الذِّكْر الذي يتلوه الملائكة، فكأنه قال: فالتاليات ذكرًا عظيمًا، هو: إنَّ إلهكم لواحد، فتكون (2) جملة: {إِنَّ إِلَهَكُمْ} إلخ خبر مبتدأ محذوف أو تكون الجملة بدلًا أو عطفَ بيان من {ذِكْرًا} مع احتمالاتٍ أُخَر لا حاجة لذكرها. ويكون جواب القسم محذوفًا، ولا بِدْع في حذفه. فالملائكة يتلون هذا الذكر، أي: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) ... إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)}، ويختمون ذلك بقولهم إخبارا عن أنفسهم: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)}. وقد يستأنس لهذا الاحتمال بقولهم: {الصَّافُّونَ} مع قوله تعالى في وصفهم أول السورة: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} والله أعلم. _________ (1) تفسير أبي السعود 2/ 413. [المؤلف] (2) في الأصل بالياء, ولعله سبق قلم, وإن كان له وجه.
(3/614)
[346] عبادة الهوى قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 41 - 44]. وقال عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]. أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}، قال: "ذلك الكافر، اتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان" (1). وفي الكشاف: "فإن قلت: لِمَ أخر {هَوَاهُ}، والأصل قولك: اتخذ الهوى إلهًا؟ قلت: ما هو إلَّا تقديم مفعوله الثاني على الأوَّل للعناية، كما تقول: علمت منطلقًا زيدًا؛ لفضل عنايتك [347] بالمنطلق". قال ابن المنيِّر في حواشيه: "وفيه نكتة حسنة، وهي إفادة الحصر؛ فإنَّ الكلام قبل دخول (أرأيت) مبتدأ وخبر، والمبتدأ (هواه) والخبر (إلهه) وتقديم الخبر كما علمت يفيد الحصر، فكأنه قال: أفرأيت من لم يتخذ معبوده إلا هواه" (2). _________ (1) 25/ 83. [المؤلف] (2) الكشاف 2/ 111. [المؤلف]
(3/615)
وقال البيضاوي: " {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} بأن أطاعه وبنى عليه دينه، لا يسمع حجة ولا ينظر دليلًا، وإنما قدم المفعول الثاني للعناية به" (1). وقال في آية الجاثية: "وترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى؛ فكأنه يعبده" (2). ونحوه في تفسير أبي السعود (3). وقد قال أبو السعود في آية الفرقان: " أرأيت مَن جعل هواه إلهًا لنفسه من غير أن يلاحظه وبنى عليه أمر دينه معرضًا عن استماع الحجة الباهرة والبرهان النيِّر بالكلِّيَّة" (4). وقد أخرج الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تحت ظلِّ السماء من إلهٍ يُعبَد من دون الله تعالى أعظم عند الله عزَّ وجلَّ من هوىً يتَّبع" (5). _________ (1) تفسير البيضاوي 481. (2) تفسير البيضاوي 662. (3) 2/ 494. [المؤلف] (4) تفسير أبي السعود 2/ 250. [المؤلف] (5) روح المعاني 6/ 155. [المؤلف]. والحديث أخرجه ابن أبي عاصمٍ في السنة، ذكر الأهواء المذمومة، 1/ 8، ح 3. وأبو يعلى، كما في المطالب العالية، 12/ 532، ح 2990. والطبراني في الكبير 8/ 122 - 123، ح 7502. وأبو نعيمٍ في الحلية، (ترجمة راشد بن سعد)، 6/ 118. وغيرهم. قال ابن الجوزيِّ: (هذا حديثٌ موضوعٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه جماعةٌ ضعافٌ، والحسن بن دينارٍ والخصيب [بن جحدرٍ] كذَّابان عند علماء النقل). الموضوعات 3/ 376، ح 1616. وقال الهيثميُّ: (وفيه الحسن بن دينارٍ، وهو متروك الحديث). مجمع الزوائد 1/ 447. وقال الألبانيُّ: (موضوعٌ). السلسلة الضعيفة 14/ 90، ح 6538.
(3/616)
وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا [348] قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 48 - 50]. قوله سبحانه: {وَمَنْ أَضَلُّ} استفهام إنكاري، معناه: لا أحد أضل، كما قاله المفسرون وغيرهم. وإذا لم يكن أحد أضل من هذا فهو مشرك لأنه لو لم يكن مشركًا لكان المشرك أضلَّ منه؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116]. النظر فيما كان يعتقده المشركون في آلهتهم ويعملونه تفسير عبادة الأصنام قد تقدَّم في الكلام على وجوب الوجود ثُمَّ في المقدمة الثانية [349] لتفسير آيات النجم من فصل الملائكة ما لا غنى بك عنه في هذا الباب فراجعه. وقد علمت أنَّ أوَّل مَن عبد الأصنام قومُ نوح، وقد تقدَّم أثر البخاري عن ابن عباس في أصل ذلك (1)، وفي معناه آثار أخرى، انظرها في الدُّرِّ المنثور أو في روح المعاني، وحاصلها: أنَّ ودًّا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا كانوا رجالًا صالحين؛ فلما ماتوا جعلت لهم تماثيل وسمِّيت _________ (1) انظر: س 55/ج.
(3/617)
بأسمائهم، وكان القصدُ من ذلك أن يُذكروا إذا رُئيت تماثيلهم فيذكر ما كانوا عليه من الخير والصلاح؛ فيكون ذلك أنشط لمن رآها أن يعبد الله عز وجل، كما أنَّ المسلم إذا قرأ سيرة بعض الصالحين أكسبه ذلك رقة في القلب ونشاطًا في العبادة وعمل الخير. وقد أخرج أبو الشيخ في العظمة عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: "كان لآدم خمسة بنين: ودٌّ وسواع [إلخ] (1)، فكانوا عُبَّادًا، فمات رجل منهم، فحزنوا عليه حزنًا شديدًا، فجاءهم الشيطان، فقال: حزنتم على صاحبكم هذا؟ قالوا: نعم، قال: هل لكم أن أصور لكم مثله في قبلتكم إذا نظرتم إليه ذكرتموه؟ قالوا: نكره أن تجعل لنا في قبلتنا شيئًا نصلي إليه (2)، قال: [350] فأجعله في مؤخر المسجد، قالوا: نعم، فصوَّره لهم، حتى ماتوا (3) خمستهم، فصور صورهم في مؤخر المسجد، فنقصت الأشياء حتى تركوا عبادة الله تعالى وعبدوا هؤلاء" (4). فلم يكن المتقدمون يعتقدون في تلك التماثيل ولا يعملون أكثر من أن يتذكروا برؤيتها فيتذكروا ما كان عليه أولئك الصالحون فينشطوا لعبادة الله تعالى، وقد احتاطوا حيث لم يجعلوا التماثيل في مقدَّم المسجد، ولكن ما الذي طرأ في متأخِّريهم؟ أمَّا أن يعتقدوا أنها تخلق وترزق فقد مرَّ إبطاله. _________ (1) ما بين المعقوفتين من روح المعاني، وقد سبق هذا النقل بهذه الزيادة في س 55/أ. (2) في الأصل والمصدر المنقول منه: "عليه", والتصحيح من العظمة. (3) في روح المعاني: مات. (4) روح المعاني 9/ 181. [المؤلف]. وانظر: الدرّ المنثور 8/ 294. وهو في كتاب العظمة، خلق آدم وحواء عليهما الصلاة والسلام، 5/ 1590 - 1591، ح 1054.
(3/618)
وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} [هود: 25 - 27]. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 23 - 24]. [351] فلولا أنَّ القوم كانوا يعترفون بالله عز وجل لما حسُن أن يُخاطَبوا بهذا الخطاب. وأوضح من ذلك قولهم: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} فإنَّ في هذا اعترافًا بوجود الله عز وجل وقدرته واعترافًا بوجود الملائكة، وفي كلامهم إنكار أن يكون البشر رسولًا لله تعالى، فكيف يعتقدون فيه أو فيما هو دونه من الجماد أن يكون مثل الله في الخلق والرزق؟ ولو كانوا يزعمون هذا جهلًا أو عنادًا لاحتجَّ عليهم نوح بما ذكرناه؛ فإنه أقرب الحجج، ولو احتجَّ به لذكره الله عز وجل في القرآن؛ لأنه سبحانه ذكر القصص في القرآن ليذكر ما فيها من حُجَجه وحُجَج أنبيائه عليهم السَّلام. فإن قلت: فإنَّ الألوهية أعظم من الرسالة، فكيف يستبعدون أن يكون البشر رسولًا لله تعالى ويزعمون أنه لا يتأهل للرسالة إلَّا الملائكة وهم مع ذلك يؤلِّهون الحجارة والموتى؟ قلت: تفكَّرْ أنت في وجه ذلك، وسأذكره بعدُ إن شاء الله تعالى (1). _________ (1) انظر ص 636 وص 701 - 702.
(3/619)
والمتأخرون الذين بُعث فيهم نوح عليه السلام لِم كانوا يعظِّمون تلك التماثيل؟ أتعظيمًا لأصحابها أولئك الرجال الصالحين؟ أم عبادة لله عز وجل زاعمين أنه يرضى لهم ذلك وينفعهم به؟ [352] الأول هو الظاهر كما مرَّ في أوائل فصل الأصنام من دلالة قوله عز وجل: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا} على أنهم كانوا يعظِّمونها ويعظِّمون أصحابها, فراجعه, ولأنه سبيل عبادة الأوثان في كلِّ زمانٍ، وقد مرَّ بيان ذلك وشهادة المحقِّقين به، والله أعلم. قوم هود وقوم صالح لم يأت في القرآن ما يدلُّ أنه كانت لهم أصنام، ولكن أهل التواريخ يثبتون ذلك، فإن صح فإنها كانت تماثيل للأشخاص الغيبيِّين التي كانوا يعبدونها, كما سيأتي عند ذكر الأشخاص المتخيَّلة والملائكة إن شاء الله تعالى. قوم إبراهيم غالب ما جاء في القرآن في التصريح بعبادة الأصنام هو في قوم إبراهيم, حتى إنه ظهر لي أوَّلًا أنه لم يكن لهم تأويلٌ في عبادتهم أكثر من التقليد لآبائهم، ثم تبيَّن لي خلاف ذلك. فقد جاء في محاورة إبراهيم لقومه: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77]. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26)
(3/620)
[353] إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26 - 27]. فالاستثناء في هاتين الآيتين يدلُّ على أنَّ القوم كانوا يعبدون الله تعالى ويعبدون غيره؛ إذ الأصل في الاستثناء الاتِّصال. وقال تعالى: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 63 - 68]، فقولهم: {مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} مثل قول أهل المعاني: ما أنا فعلت هذا. وقد صرَّحوا أنه يفيد الحصر، فيُفهم من مقالهم: بل فعله غيري (1)، فكذا يُفهم من قول قوم إبراهيم ــ {مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} ــ: بل الذي ينطق غيرهم. وهذه إشارة منهم ــ والله أعلم ــ إلى أشخاصٍ كانت الأصنام تماثيل لها بغير واسطة أو بواسطة على ما سيأتي. وقول إبراهيم: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66)} يتناول الأصنام والأشخاص التي أشاروا إليها، فتدبَّرْ. [354] وقال عزَّ وجلَّ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 69 - 74]. _________ (1) انظر: الإيضاح في علوم البلاغة للقزويني ص 57.
(3/621)
قال ابن جرير: "وفي الكلام متروك استُغنِي بدلالة ما ذُكر عما تُرك، وذلك جوابهم إبراهيم عن مسألته إياهم: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)}، فكان جوابهم إياه: لا، ما يسمعوننا إذا دعوناهم ولا ينفعوننا ولا يضرون، يدلُّ على أنهم بذلك أجابوه قولهم: {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}، وذلك أنَّ (بل) رجوعٌ عن مجحود، كقول القائل: ما كان كذا، بل كذا وكذا. ومعنى قولهم: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}: وجدنا مَن قبلنا مِن آباءنا يعبدونها ويعكفون عليها لخدمتها وعبادتها، فنحن نفعل ذلك اقتداءً بهم واتباعًا لمناهجهم" (1). وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ [355] قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 41 - 46]. قال الشيخ زاده في حواشيه على تفسير البيضاوي: "وعبدة الأوثان وإن كانوا يعتذرون في عبادتها بأنها تماثيل الكواكب المدبرة لهذا العالم أو أنها تماثيل أشخاص معظَّمة عند الله يصلحون أن يكونوا شفعاء ونحو ذلك من الأعذار الفاسدة، فما ذكره إبراهيم عليه الصلاة والسلام في حق التماثيل بأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عن عابدها شيئًا من الإغناء لا يُبطل _________ (1) 19/ 48. [المؤلف]
(3/622)
أعذارَهم بحسب الظاهر, إلا أنه عليه الصلاة والسلام احتجَّ عليهم بذلك بناءً على أنهم يزعمون أنَّ عبادتها تنفعهم وأنَّ طريقتهم مقبولة مستحسنة, فبيَّن لهم عليه الصلاة والسلام فسادَ زعمهم" (1). أقول: لا يخفى ما في هذا الجواب من الضعف. وعندي أجوبة أخر. [356] الأول: أن الأعذار التي ذكرها لا تدفع كون المشركين يعبدون الأصنام حقيقة، فإنه يقال لهم: لم تعبدون ما لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر؟ فيقولون: نعبده تقربًا إلى أشخاص يسمعون ويبصرون وينفعون ويضرون، فيقال لهم: لنفرضْ أنَّ هناك أشخاصًا بهذه الصفة، ولكن هل أمروكم بعبادة الأصنام؟ فيقولون: لا، ولو كانوا أمرونا بذلك لما أطلقنا على الأصنام آلهة، ولا قلنا: إننا نعبدها, وهذا كما كان مشركو العرب يعظِّمون الكعبة والحجر الأسود نحوًا مما يعظِّمون الأصنام، بل من بعض الوجوه أشدَّ من تعظيم الأصنام كما يأتي, ولم يسمُّوا الكعبة إلهًا، ولا قالوا: إننا نعبدها، وإنما ذلك لأنهم كانوا يعظِّمونها طاعة لله عزَّ وجلَّ لما علموه مِن أمره بذلك بما بلَّغه خليله إبراهيم ورسوله إسماعيل وتواتر إليهم، بخلاف الأصنام وغيرها مما كانوا يعبدونه فإنهم يعلمون أنهم اخترعوه بأهوائهم، وسيأتي تحقيق هذا وتوجيهه إن شاء الله تعالى. [357] وعلى هذا فإنهم يقرُّون بأنهم اتَّخذوا الأصنام آلهة وعبدوها، وبهذا الاعتبار قد سوَّوها برب العالمين، فكيف يسوَّى برب العالمين ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عن عابده شيئًا؟ وأعذارهم في عبادة الأصنام لا تدفع هذا. _________ (1) حواشي الشيخ زاده 2/ 286. [المؤلف]
(3/623)
الجواب الثاني: أن يقال: إنَّ في كلام إبراهيم إبطالًا لجميع أعذارهم. وبيان ذلك: أنَّ أباه إن اعتذر بأنَّ الأصنام تماثيل للكواكب فالكواكب أيضًا لا تسمع ولا تبصر ولا تغني شيئًا، وما فيها من المنافع الموجودة كالإضاءة ونحوها ليس باختياريٍّ منها، والناس في ذلك سواء، يستوي فيه مَن يعبدها ومَن يجحدها. فإن قال: لعلَّ للكواكب حياةً وتصرُّفًا, أو ذَكَر الروحانيين، قيل له: هذا كله تخرُّص بغير برهان، وقد نبَّه إبراهيم عليه السلام على هذا بقوله: {يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم: 43]. الثالث: أنه وقع إجمال في سورة مريم يبيِّنه ما في سورة الأنعام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ [358] فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [74 - 82]. قدَّم هنا إنكاره على أبيه
(3/624)
عبادة الأصنام، فكأنَّ أباه ذكر له علاقتها بالكواكب، فدعاه ذلك إلى النظر في الكواكب، فنظر فيها [359] وقال ما قال، ثم كأنَّهم ــ والله أعلم ــ ذكروا له شأن الروحانيِّين، وذلك قوله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ}، فأجابهم بما ذكره الله تعالى، وسيأتي الكلام على هذه الآيات عند ذكر الكواكب (1) إن شاء الله تعالى. وأمّا ما ذكره الله تعالى من قول إبراهيم للأصنام: {أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92)}، وما روي أن القوم كانوا يقرِّبون لها الأطعمة فلا دلالة فيه على أنهم كانوا يقولون: إنها تأكل، وإنما كانوا يقربون لها الأطعمة ثم يأكلها سدنتها، كما هو المعروف من حال المشركين لهذا العهد. وقال إبراهيم ما قال استهزاءً بالأصنام وبمن يعبدها، وقال: {مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ}، وقد علم أن قومه يعرفون أنها لا تنطق كما قالوا هم أنفسهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ}، فكذلك قال: {أَلَا تَأْكُلُونَ} مع علمه أن قومه يعرفون أنها لا تأكل، والله أعلم. المصريُّون في عهد يوسف عليه السلام الذي يدل عليه القرآن أنهم كانوا يعبدون الروحانيِّين وينعتونهم بنعوت باطلة، وآثارهم الموجودة تدلُّ أنهم كانوا يعبدون الأصنام وغيرها. وبعض البحاثين [360] يعلِّل ذلك بأنهم إنما كانوا يعبدون المخلوقات على أنها مظاهر للباري عز وجل. وهذا الرأي مجمل، وسيأتي الكلام على ديانتهم _________ (1) ص 675 فما بعدها.
(3/625)
عند ذكر الأشخاص المتخيَّلة إن شاء الله تعالى (1). فأما الأصنام فالظاهر أنها كانت عندهم تماثيل أو رموزًا للأشخاص المتخيلة، والله أعلم. المصريُّون في عهد موسى عليه السلام ذكر بعض المفسرين أنه كان لقوم فرعون أصنام يعبدونها معه، ذكروا ذلك في تفسير قوله تعالى: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}، وسيأتي تحقيق الحال في بيان تأليه الأناسي الأحياء إن شاء الله تعالى (2). بنو إسرائيل في قول الله عز وجل: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 138 - 140]. لا يخفى أنَّ القوم وإن بلغوا من الجهل أقصى غاياته لم يكونوا ليطلبوا من موسى أن يجعل لهم جمادًا من هذه الجمادات يكون هو واجب الوجود أو يكون خالقًا رازقًا، هذا ما لا سبيل إلى احتماله. [361] ولو كان الأمر كذلك لجاء في جواب موسى ما يدفع ذلك الظن, بل لا يبعد فيمن يجوِّز ذلك ألا يكون مكلَّفًا أصلًا. _________ (1) ص 692 - 693. (2) لم يتكلم المؤلف عن الآية ولا عن قوم فرعون هناك, وإنما أحال الكلام على مبحث "تأليه الأشخاص المتخيلة".
(3/626)
فالظاهر أحد احتمالين: الأول: أن يكونوا أرادوا التقليد المحض، واستحسنوا تلك الأفعال الظاهرة مع قطع النظر عن المقصود منها وما فائدتها. والاحتمال الثاني: أن يكونوا أرادوا: اجعل لنا جمادًا يكون رمزًا لله عزَّ وجلَّ فنعظِّمه تعظيمًا لله عزَّ وجلَّ كما يعظِّم هؤلاء أصنامهم على أنها رموز للروحانيِّين، وقد يُشعر بهذا قولهم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، ولم يقولوا: اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة، كأنهم قد علموا أن العبادة لا تكون إلا لله عز وجل، ولكن توهموا أن عبادة جماد من الجمادات على أنه رمز لله عز وجل وأنه إنما يعظم تعظيمًا لله عز وجل لا ينافي التوحيد. وقد تقدم (1) حديث الإمام أحمد وغيره، وفيه: فمررنا بسدرة، فقلت: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط، كان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الله أكبر! هذا كما قالت بنو [362] إسرائيل لموسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة". فلم يعتقد هذا القائل في السدرة شيئًا، ولكنه على أحد الاحتمالين السابقين، والله أعلم. العرب قد تقدَّم ما يتعلق بعبادتهم الأصنام عند سياق الآيات في ذلك، وفي المقدمة الثانية للكلام على آيات النجم. وعُلِم من ذلك أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام على أنها تماثيل للإناث الخياليات، أعني ما زعموه أنَّ لله بناتٍ وأنهنَّ هنَّ الملائكة، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا. _________ (1) ص 49 - 50. [المؤلف]. ص 230.
(3/627)
فإن قيل: قد قدَّمتَ أنَّ اللَّات والعُزَّى ومناة أسماء سمَّوا بها تلك الإناث ثم أطلقوا اسم اللَّات على التمثال أو التذكار الذي جعلوه باسم اللَّات وهكذا. وقد كان في أصنامهم ما يسمى باسمٍ مذكَّر، كهُبل ومناف وإساف، وهذه معروفة في أهل مكة، وأما بقية العرب فلهم أصنام كثيرة مسمَّاة بأسماء [363] مذكَّرة. قلت: لعلَّ تلك الأسماء ليست في الأصل أسماء للإناث الخياليات كاللَّات والعُزَّى ومناة، وإنما هي أسماء للأصنام أنفسها، فذكَّروا الاسم نظرًا لقولهم: صنم أو وثن أو تمثال أو حجر، وهذا لا ينافي أن يكونوا إنما يعبدونها على أنها تماثيل أو تذاكير للإناث الخياليَّات، ويجوز أن يكون الشيطان أوحى إليهم أنهم كما جعلوا تماثيل أو تذاكير للملائكة فالله عزَّ وجلَّ أولى بذلك، فجعلوا بعض تلك الأصنام رمزًا لله عز وجل ولم يطلقوا عليها اسم الله عز وجل تعظيمًا له أن يطلقوا اسمه على حجر. ومما يؤيِّد هذا في هُبل خاصة أنه لم يبلغنا أنهم سمَّوا عبد هُبل كما سمَّوا عبد اللَّات وعبد العُزَّى، كأنهم استغنوا عن ذلك بتسميتهم عبد الله، والله أعلم. ويؤيِّد ذلك أيضًا في هُبل أنه كان عندهم أعلى من غيره، ولهذا قال أبو سفيان يوم أحد: "اعلُ هبل"، فخصَّه بالذكر في ذلك المقام، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يجيبوه: "الله أعلى وأجلُّ". ويظهر أن هذا الجواب يتضمن إبطال هبل إذا كان وضع على أنه تمثال لله عز وجل، أي: إن الله عز وجل أعلى وأجل من أن يكون له تمثال من الحجر. وكأنه لهذا عدل أبو سفيان إلى قوله: "لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم". [364] كأنه يقول: لنا شفيع ولا شفيع
(3/628)
لكم. فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجيبوه: "الله مولانا ولا مولى لكم"، أي: إن الله تعالى مولانا وناصرنا ومعيننا، فلا حاجة بنا إلى الشفعاء، وأنتم لا ناصر لكم؛ لأنَّ تلك الإناث لا وجود لها، ولو فُرض وجودها فأنتم تعترفون أنه ليس لها من الأمر شيء وأنَّ الأمر كله لله عزَّ وجلَّ، {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 88 - 89]. وقصَّة أحد في صحيح البخاري (1). واتِّخاذ الأصنام على أنها تماثيل لله عز وجل معروف بين أمم الشرك في الهند وغيره (2). والنصارى يقولون: إن الله ــ تبارك وتعالى عن قولهم ــ ثلاثة أقانيم: الأب والابن وروح القدس. ويجعلون للأب صورة ويسجدون لها، والأب عندهم هو ذات الله تعالى. أما ما يحكى عن المشركين أنهم كانوا ربما يسمعون كلامًا من الأصنام فلم أقف على أثر صحيح يثبت أن ذلك كان يقع، ولا أنهم كانوا يزعمون ذلك. وقد كان قوم إبراهيم أهلك الناس في شأن [365] الأصنام، بدليل أن غالب ما جاء في القرآن في عبادة الأصنام وارد فيهم، ومع ذلك فقد حكى الله عز وجل عنهم قولهم لإبراهيم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ}، واعترافهم بأن الأصنام لا تنفع ولا تضر ولا تسمع، كما تقدَّم ذلك (3) في _________ (1) كتاب المغازي، باب غزوة أحدٍ، 5/ 94، ح 4043. (2) كذا في الأصل على إرادة البلد. (3) ص 354 [المؤلف]. ص 622.
(3/629)
الكلام على قوله تعالى حكاية عن خليله عليه السلام: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)}. ومثل هذه الحكايات شائعة بين جهلة الوثنيين في الهند، وعقلاؤهم ينكرونها. وذكر البيروني في كتابه "تحقيق ما للهند من مقوله مقبولة في العقل أو مرذوله" (1) أنَّ البراهمة كتبوا إلى أرسطو أنه بلغهم أن اليونانيين يزعمون أن الأصنام تكلِّمهم، فأجابهم أرسطو أنه لا يعلم بذلك. وقد تقدَّمت عبارة البيروني (2). والذي يزعم ذلك من الوثنيين يوجِّهونه بأنَّ الروحاني الذي جُعل الصنم تمثالًا له قد يتقمَّص ذلك الصنم ويتكلَّم منه، وليسوا يزعمون أنَّ الصنم نفسه يتكلَّم. والموحِّدون يحملون ذلك ــ على فرض صحته ــ بأنَّ الشيطان قد يدخل في جوف الصنم فيتكلَّم منه، وقد [366] علمت مما تقدَّم في الكلام على اللات والعزى ومناة أنَّ الشياطين يرون أنه ليس في الوجود إناث غيبيات إلَّا من الشياطين، فادَّعوا أنَّ المشركين إنما يعبدون إناثًا من الشياطين. فأما الأعمال الظاهرة التي يفعلها عُبَّاد الأصنام بها، فمنها: العكوف عليها. جاء في القرآن في قوم إبراهيم: {فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} , وفي القوم الذين مر عليهم بنو إسرائيل: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، وفي الحديث _________ (1) ص 95. (2) ملحق ص 91 [المؤلف]، وصواب الرقم 291. وهو في طبعتنا ص 566.
(3/630)
في ذات أنواط: "كان الكفار ينوطون أسلحتهم بها ويعكفون حولها" (1). ومنها: تقريب الزاد لها. يُفهم من قول إبراهيم عليه السلام للأصنام: {أَلَا تَأْكُلُونَ}. ومنها: التمسُّح بها. جاء في حديثٍ في المستدرك عن زيد بن حارثة أنه كان يطوف مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالبيت قبل النبوة، فمرَّ زيدٌ على بعض الأصنام فمسح بها، فنهاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم عاد فنهاه (2). وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلمٍ"، وأقرَّه الذهبيُّ (3). [367] ومنها: الذبح عندها. وَرَدَ أنَّ المشركين كانوا ينحرون عند مناة، وقد كان للعرب أنصاب يذبحون عليها ويرشُّون عليها الدَّم. قال الله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]. أخرج ابن جرير عن مجاهد قال: "حجارة كان يذبح عليها أهل الجاهلية". وعن ابن عباس قال: أنصاب كانوا يذبحون ويهلُّون عليها. وعن مجاهد قال: "كان حول الكعبة حجارة كان يذبح عليها أهل الجاهلية ويبدلونها إن شاؤوا بحجر هو أحبُّ إليهم منها" (4). وفي صحيح مسلم عن أبي ذر في قصة إسلامه ورجم المشركين له _________ (1) سبق تخريجه ص 230. (2) هذا من معنى الحديث، وانظره في المستدرك، [كتاب معرفة الصحابة، ذِكْر قصة إسلام زيد بن حارثة ... ]، 3/ 216 - 217 [المؤلف]. (3) انظر ما سبق في ص 119. (4) تفسير ابن جرير 7/ 42. [المؤلف]
(3/631)
بالحجارة: "فارتفعتُ حين ارتفعتُ كأني نُصُب أحمر" (1). يعني مما سال منه من الدماء. قال بعض أهل العلم: ولعلَّ ذبحهم عليها كان علامة لكونه لغير الله تعالى. أقول: وكانت من معالم دينهم، وكان ذبحُهم عليها عبادة، ولذلك كانوا يُقسمون بها وبما يُراق عليها من الدماء. قال المتلمِّس: أَطْرَدْتني حَذرَ الهجاء ولا ... والله والأنصاب لا تئل (2) وقال النابغة: فلا لعمر الذي مسَّحْت كعبته ... وما أريق على الأنصاب من جسد والجسد: الدم، كما في الصحاح (3). ومنها: تضميخها بالطيب. ذكره المفسرون في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73]. _________ (1) صحيح مسلمٍ، كتاب فضائل الصحابة، بابٌ من فضائل أبي ذرٍّ رضي الله عنه، 7/ 153، ح 2473. [المؤلف] (2) ديوان المتلمِّس 171. وفي الروايات الشائعة: واللات والأنصاب. انظر: الأصنام لابن الكلبي 16. (3) 2/ 456.
(3/632)
ومنها: [368] الدعاء. ورد ذكره في هذه الآية، وقد مرَّ الكلام عليها في سياق الآيات في الأصنام (1)، فراجعه. وجاء في قوم إبراهيم عليه السلام قوله عليه السلام لهم: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ... } ما ينفي ذلك، أي ينفي سماعها وما معه، كما تقدم (2). وعليه فكأنهم إنما كانوا يدعون الروحانيين، ولكن الخليل بنى على الصورة الظاهرة من دعائهم عند الأصنام، حتى إذا أجابوا بما هو قصدهم اتبعهم ببيان بطلانه أيضًا، وهكذا حتى ينقطعوا، وكأنهم كانوا يدعون الأصنام تجوُّزًا، إما على حذف مضاف وإما بغيره، فإذا قالوا: (أيها الصنم انفعنا)، أرادوا: يا صاحب الصنم، يريدون الروحاني الذي جعلوه رمزًا له، أو كما يقول الخائف لطفل في المهد: أجرني، يريد أن يسمع ذلك أبوه فيجيره. ومثل هذا يقال في دعاء مشركي العرب للأصنام إن ثبت، والله أعلم. ومنها: الانحناء لها والسجود. وهذا معروف بين الوثنيين إلى زماننا هذا. فأما مشركو العرب فلم أجد نقلًا بذلك، بل هناك ما يدلُّ على أنهم لم يكونوا يسجدون للأصنام. وفي صحيح مسلم عن [369] أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو _________ (1) ص 208 [المؤلِّف]. ولم أقف على هذا الدفتر بعدُ، ولكن وجدت مُسوَّدته، انظر: ص 512 - 514 مبحث تعظيمهم للأصنام. (2) ص 354. [المؤلف]. ص 622.
(3/633)
جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم, فقال: واللات والعزى! لئن رأيته فعل ذلك لأطأن على رقبته، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، زعم ليطأ على رقبته، فما فَجِئَهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، فقيل له: ما لَك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولًا وأجنحة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا" (1). يؤخذ من هذا الحديث أنهم كانوا ينكرون السجود، ولو كانوا يسجدون للأصنام لما أنكروا السجود لله عز وجل؛ لأنهم لم يكونوا ينكرون أن يعبد الله تعالى، وإنما كانوا يشركون به، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك. وقد روي عن بعض أكابر قريش أنه كان يعترف بأن الإسلام حقٌّ، ولكن كره أن تعلو استه رأسه، يعني السجود. رواه الإمام أحمد من حديث أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام، ولفظه: عن حَبَّة العُرني، قال: رأيت عليًّا رضي الله عنه ضحك على المنبر، لم أره ضحك ضحكًا أكثر منه حتى بدت نواجذه، ثم قال: ذكرت [قول] (2) أبي طالب، ظهر علينا أبو طالب وأنا مع رسول الله صلى الله وآله وسلم، ونحن نصلي ببطن نخلة، فقال: ماذا تصنعان يا ابن أخي؟ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام، فقال: ما بالذي تصنعان بأس، أو بالذي تقولان بأس، ولكن والله _________ (1) صحيح مسلمٍ، كتاب صفة القيامة والجنَّة والنار، باب قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)}، 8/ 130، ح 2797. [المؤلف] (2) ما بين المعقوفين سقط من المخطوط, واستدرك من نسخة المسند التي نقل عنها المؤلف.
(3/634)
لا تعلوني استي أبدًا! وضحك تعجُّبًا لقول أبيه ... (1). [370] وهذا أيضًا يدلُّ أنهم لم يكونوا يسجدون للأصنام. عُبَّاد النار قال الشهرستاني: "والمجوس إنما يعظِّمون النار لمعانٍ، منها: أنها جوهر شريف عُلْويٌّ. ومنها: أنها ما أحرقت إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام. ومنها: ظنهم أنَّ التعظيم ينجيهم في المعاد من عذاب النار. وبالجملة هي قبلة لهم ووسيلة وإشارة" (2). عجل السامري من الواضح بسياق الآيات أن القوم يعلمون أن العجل لم يكن شيئًا مذكورًا حتى ألقوا ما كان معهم من الحُليِّ فصاغ السامري منه العجلَ، فأنَّى يتسرَّب إلى أذهانهم أنَّ ذلك العجل هو الله الذي خلق العالم وخلقهم ويدبِّر العالم أجمع. هذا ما لا سبيل إليه، اللهم إلا أن يكون وسوس إليهم الشيطان [371] بأنَّ الله تبارك وتعالى حلَّ في ذلك العجل، تعالى الله عما يقولون. ولعل هذا أقرب إلى ظاهر الآيات من أن يقال: اتَّخذوا العجل على أنه رمزٌ لله عز وجل وظنوا أنَّ عبادته تقرِّب إلى الله عز وجل على نحو ما مرَّ في _________ (1) المسند 1/ 99. [المؤلف]. وهو أيضًا في مسند الطيالسي 1/ 155، ح 184، ومسند البزَّار 2/ 319 - 320، ح 751. قال الهيثميُّ: "وإسناده حسنٌ". مجمع الزوائد 9/ 125. وقال الألبانيُّ: "ضعيفٌ جدًّا"، وتعقَّب الهيثميَّ في تحسينه، لأن في إسناده: يحيى بن سلمة بن كُهَيلٍ، وهو متروكٌ. انظر: السلسلة الضعيفة 9/ 147، ح 4139. (2) الملل والنحل 2/ 93. [المؤلف]
(3/635)
قولهم لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}. وعلى هذا المعنى الثاني فالمعنى في قولهم في العجل: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه: 88]: فنسي موسى أن يتخذه لكم لمَّا طلبتم منه ذلك بقولكم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا}. وقولهم: {إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} ربما يؤيد الثاني؛ إذ لم يقولوا: ربكم ورب موسى. وكذا قول هارون في نصحهم: {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ} يأبى احتمال اعتقادهم الحلول؛ إذ لو اعتقدوه لما كان في ذلك ردٌّ عليهم؛ لأنهم يقولون: نعم، ربنا الرحمن، وهو حلَّ في هذا العجل. وكذلك قول موسى في توبيخهم: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ} فإنه قصر للألوهية على الله تعالى، أي: إن إلهكم الله لا غيره، فتدبَّرْ وتأمَّلْ. الأناسي الأحياء وأرواح الموتى قد تقدَّم الكلام على قوم نوح وأنهم كانوا يعبدون تماثيل أولئك الأشخاص الصالحين وأرواحهم، ولعلهم كانوا يعتقدون في أرواحهم قريبًا مما يعتقده عُبَّاد الملائكة في الملائكة على ما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى. ولكن استبعاد قوم نوح أن يكون البشر رسلًا، وقولهم: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} [المؤمنون: 24]. يدلُّ على أنَّ القوم لم يكونوا يرفعون أرواح الموتى إلى درجة الملائكة. وعلى كل حال فالظاهر أنهم كانوا يزعمون أنَّ أولئك الموتى يشفعون لمن يعبدهم، أو أنَّ الله عزَّ وجلَّ يثيب مَنْ يعبد أولئك الموتى لما كانوا عليه من الصلاح، والله أعلم.
(3/636)
[372] فأما فرعون فأخَّرنا البحث في شأنه إلى البحث في شرك أسلافه من المصريِّين، وسيرد ذلك في الكلام على تأليه الأشخاص المتخيَّلة إن شاء الله تعالى. وأما الذي حاجَّ إبراهيم في ربه فالمشهور أنه من قومه، وأنه كان ملِكَهم, وقوم إبراهيم كانوا يعبدون الأصنام والكواكب والروحانيين ويعترفون بوجود الله تعالى وربوبيته على ما مرَّ، وسيأتي بسطه في الكلام على عبادة الكواكب إن شاء الله. ومن البعيد أن يكون الملك يدَّعي الربوبية العظمى، أو أنه لا إله لرعيته إلا هو، ويكون رعيته كما سمعت. فأما قوله: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} فليس بنصٍّ في دعوى الإحياء والإماتة مطلقًا، بل يحتمل أنه إنما ادَّعى الإحياء الذي هو تخلية مَن يستحقُّ القتل والإماتة التي هي القتل، ويعيِّن هذا الاحتمال أمور: الأول: ما سمعت من ديانة قومه. الثاني: قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}، فقوله: {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} بيان لعلَّة محاجته لإبراهيم، والمُلْك إنما يكون علَّةً [373] لدعوى القدرة على تركه قتلَ مَن استحقَّ القتل وقتلِه مَن أراد قتلَه. الثالث: ما ورد في الآثار أنه برهن على دعواه بأنْ دعا رجلًا فقتله، ودعا آخر يستحقُّ القتل فأطلقه (1)، ولو كان إنما فعل هذا لإثبات أنه الذي يحيي _________ (1) رُوِي هذا المعنى عن ابن عبَّاسٍ، وقتادة، والربيع بن أنسٍ، وابن جريجٍ. انظر: تفسير ابن جرير 4/ 571 - 576. الدرّ المنثور 2/ 25.
(3/637)
ويميت مطلقًا لأجابه إبراهيم عليه السلام بما يثبت أنَّ ما صنعه لا يدلُّ على دعواه، كأن يقول له: إن الإحياء يكون بالتوليد، والإماتة تكون بغير القتل، فإن كنت أنت فاعلَ ذلك فامنع رعيَّتك أنْ يُولد فيهم مولود وأن يموت منهم ميت شهرًا مثلًا، أو: أخبِرْنا كَمْ مولودًا وُلد وكَمْ ميتًا مات في مدينتك اليوم، وسمِّهم بأسمائهم ومواضعهم؛ فإنه لا يجوز أن تكون أنت فاعل ذلك وأنت تجهله، فكيف ترك إبراهيم عليه السلام هذا القبيل وانتقل إلى الشمس؟ فالذي يظهر لي أنَّ هذا الطاغية كلَّم الخليل عليه السلام في أن يطيعه، وقال له: إن أطعتني فأنا أطلقك، وإن أبيتَ قتلتُك، فأجابه الخليل عليه السلام بقوله: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}، أي: إنك لا تقدر على قتلي ما لم يسلِّطك الله عليَّ، ولا على تركي حيًّا ما لم يكن الله عز وجل [374] يريد ذلك، فجحد الطاغية ذلك، كأنه يقول: إني طيلة ملكي أقتل من أريد وأطلق من أريد، ولا مانع يمنعني عما أريد من ذلك، وها أنا الآن أدعو هذا المستحق للقتل فأطلقه، وأدعو هذا الآخر فأقتله. وليس هذا بدليل على إنكار الطاغية ربوبية الله عز وجل، بل يجوز أن يكون يزعم أن الله عز وجل فوض أمر الرعيَّة إلى مَلِكهم يصنع فيهم ما أراد، فلم يكن للخليل عليه السلام في الجواب إلا طريقان: الأولى: أن يدعو الله عز وجل فيميت الذي أطلقه الطاغية فورًا ويحول بينه وبين الذي أراد قتله. الطريق الثانية: أن يعدل إلى أمر لا تتناوله قدرة الخلق، ولعله إنما عدل عن الأولى لوجوه:
(3/638)
الأول: أنه يحتاج إلى إظهار خارق، وإنما يلجأ الأنبياء عليهم السلام إلى الخارق فيما لا يتيسر الاحتجاج عليه ببرهان عاديٍّ، كإثبات رسالتهم. ومن الحكمة في ذلك: بُعد البراهين العادَّية عن الشبهة. ومنها: أن استنباط الحجة أعظم أجرًا للأنبياء من حدوث الخارق. ومنها: أن في المحاجة بالحجج العادية إرشادًا لأتباع [375] الأنبياء ممن لا يظهر على يده الخارق، وغير ذلك. الوجه الثاني: أن الغالب أن الله عز وجل إذا أظهر الخارق لقومٍ فلم يؤمنوا عقَّبه بالعذاب، ولم يكن الخليل عليه السلام يريد تعجيل العذاب رجاء أن تفيد المطاولة في القوم أو بعضهم أو يخرج من أصلابهم من يؤمن. الوجه الثالث: لعلَّ الخليل عليه السلام لم يكن حينئذ قد نُبِّئ، وإنما محاجته مع قومه ومع طاغيتهم بإيمانه الذي هداه له الله تعالى من طريق عقله ونظره، ويشهد لهذا قول قومه: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}، والفتى: الشاب (1)، وقد اشتهر أن الله عزَّ وجلَّ لم يبعث نبيًّا إلا بعد أربعين سنةً من عمره (2). بقي علينا أن نبين وجه دلالة عجزه عن الإتيان بالشمس من مغربها على أنه إنما يقتل ويطلق بإذن الله عز وجل، وأن الله عز وجل قد يأذن له وقد يمنعه، فأستعين الله عز وجل وأستهديه، ثم أقول: _________ (1) انظر: المصباح المنير 462. (2) مرَّ ذكره في ص 467، ولا أصل له.
(3/639)
[376] إن العاقل إذا تفكر في خلق الله تعالى الشمسَ جارية بمصالح عباده وأنشأ بها التغيرات الجوية والأرضية التي لها دخل عظيم في حياة الحيوان وطعامه وشرابه وتنفُّسه وغير ذلك مما لا يحصى، وبعضه يعرفه الناس جميعًا, ومن كان له إلمام بعلم الطبيعة كان علمه بذلك أوسع. وقد كان لقوم إبراهيم عليه السلام معرفة بأحوال الشمس وغيرها من الكواكب؛ لأنهم كانوا يعبدونها، وعبادتها تدعو إلى تعرف شؤونها، وكذلك كانوا يستدلون بأحوالها على الحوادث الأرضية كما يدل عليه قوله عز وجل في إبراهيم: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)}، أي: أوهمهم بأنه استدلَّ بأحوال النجوم على أنه سيسقم، وإنما يعني عليه السلام بهذا الخبر أنَّ كلَّ إنسان لا بدَّ أن يعتريَه السَّقَم، والله أعلم. أقول: إذا تفكَّر العاقل في ذلك عَلم شدَّة عناية الله تعالى بالخلق، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يدَعُهم مع ذلك هملًا يعمل فيهم بعضُهم ما يشاء في غير مصلحة يعلمها الله عز وجل ويُقدِّرها؟ وأبعدُ من ذلك أن يدَع مَن يوحِّده [377] فريسة لمن يشرك به بدون قضاء منه عزَّ وجلَّ لحكمة يعلمها. فالإنسان الذي يزعم أنه يفعل في الخلق ما يشاء بدون قدَرٍ من الله تعالى ولا قضاء كأنه ينكر وجود الشمس وجَرْيَها في مصالح العباد، أو يزعم أنه هو الذي يجريها. ومما يشبه هذا الاستدلال قولُ الله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2]. قال أبو السعود: "فإنَّ مَن تدبَّرها حقَّ التدبُّر أيقن ... , وأنَّ لهذه
(3/640)
التدبيرات المتينة عواقبَ وغاياتٍ لا بدَّ من وصولها .... " (1). أقول: وإيضاحه والله أعلم: أنكم إذا تدبرتم هذه الآيات علمتم أنَّ الخالق الذي دبَّر العالم هذا التدبير لم يكن ليخلقكم عبثًا ولا ليدَعَكم سُدى. وإذا كان الأمر كذلك فلا بدَّ من البعث، كما قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]. قال أبو السعود: "فإنَّ خلقكم بغير بعثٍ من قَبيل العبث" (2). وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) ... أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 36 - 40]. وعلى هذا فإنما بُهت الذي كفر لقيام الحجة على عجزه عن قتل أحد أو استحيائه بغير قضاء الله تعالى وقدَره، فأما الإتيان بالشمس من مغربها فإنه لم يدَّع القدرة عليه أصلًا، ولو كان يدَّعيه لأمكنه أن يعاند فيقول: لا أريد الإتيان بالشمس من المغرب؛ فإن ذلك منافٍ لحكمتي ومصالح رعيتي، وقد أقمت أنا الحجة على قدرتي على الإحياء والإماتة وأنت الجاحد لذلك، فأنت المطالَب بما يدفع حجتي، أو نحو ذلك، والله أعلم. وهناك معانٍ أخر حُملت عليها القصَّة ليس فيها أقرب مما مرَّ. وقد رُوي أن المحاجَّة كانت قبل (3) إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار (4)؛ فإن صحَّ فيكون الله عز وجل جعل في ذلك برهانًا حسِّيًّا [378] على _________ (1) تفسير أبي السعود 1/ 742. [المؤلف] (2) تفسيره 2/ 207. [المؤلف] (3) سبق في ص 469: قُبيل. (4) نُقِل هذا المعنى عن مقاتل. انظر غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري 2/ 22.
(3/641)
تكذيب الطاغية في زعمه أنه هو الذي يطلق من أراد إطلاقه ويقتل مَن أراد قتله، والله تبارك وتعالى أعلم. وعلى ما تقدَّم فلم يدَّع الطاغية الربوبية العظمى وإنما ادَّعى أن أمر رعيَّته مفوَّض إليه يصنع فيهم ما يشاء، لا يمنعه الله عز وجلَّ عما يريده بهم, فيرجع النزاع إلى ضرب من النزاع في القدر، والله أعلم. تفسير تأليه المسيح وأمه عليهما السلام رأيُ النصارى في المسيح عليه السلام مضطرب، ويظهر بالتأمُّل أن أول ما تخيَّله العامَّة أن عيسى هو ابن الله حقيقة، حملهم على ذلك أمور: منها: أنهم سمعوا أنه وُلد من غير أبٍ. ومنها: أنه كان يقال له: ابن الله، وقد كان هذا المجاز شائعًا في بني إسرائيل، وقد ورد في التوراة التي بأيدي أهل الكتاب الآن في داود أنه ابن الله البكر، وورد فيها نحوه في مواضع كثيرة. وقد قال تبارك وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]. [379] ومنها: أنهم سمعوا كثيرًا من الأمم يدَّعون في رجال منهم أنهم أبناء الله لأنهم وُلدوا من عذارى، وقد نبَّه الله عزَّ وجلَّ على هذا بقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30]. وفي كتاب "العقائد الوثنية في الديانة النصرانية" للتَّنِّير (1) بيان مَن قال _________ (1) ص 151 فما بعدها، والتَّنِّير هو: محمد طاهر بن عبد الوهاب بن سليم التَّنِّير البيروتي. توفِّي في دمَّر من ضواحي دمشق، عام 1352 هـ انظر: الأعلام للزركلي 6/ 173.
(3/642)
هذه المقالة من الأمم قبل النصارى، وكأن بعض رؤوس الضلال أشاعوا في عامَّة النصارى تلك العقيدة مروِّجين إفكهم بالأمور السابقة، وبما كان يجري على يد المسيح عليه السلام من الخوارق. ولعلَّ الذي تولَّى كِبر ذلك بولس (1)، وكان من مكره أن أعلن بالإباحة ورفع الأحكام التكليفية، فعل ذلك إفسادًا للدين وتقرُّبًا إلى العامة واجتذابًا لهم، وكان مَن بقي من أهل الحق يخافون على أنفسهم، ولا يكاد الناس يسمعون قولهم؛ لأنهم إذا جهروا بشيء قال الناس: هؤلاء يبغضون المسيح ويحقرونه ويجحدون فضائله ويطعنون على من يحبه ويعظمه، ورؤوس الضلال يصوِّبون قول العامَّة ويوجِّهون أقوالهم، وإذا حوققوا قالوا: إن العامة إنما يقولون في المسيح ما [380] يقولون على سبيل التجوُّز والاستعارة، وأيُّ عاقل يخفى عليه أن الله عزَّ وجلَّ لا يكون له ابن حقيقة؟ وكان بعض بقايا أهل الحق يجْبُن أن يصرِّح به خوفًا من أن يُفهم من كلامه تحقير للمسيح، ثم نشأ في القوم مَن أخذ بنصيب من الفلسفة وأحبَّ _________ (1) وُلد في طرسوس الواقعة الآن في تركيا عام 10 ميلادي، كان يهوديًّا ... من أشدِّ المعادين للنصارى، ثم دخل دينهم، وهو الذي سمح لغير اليهود أن يدخلوا في الديانة النصرانية بعد أن كانت مقصورة على اليهود، وهو الذي ألغى الختان، ويُنسب إليه في رسائله مشاركته في تحليل الخمر والخنزير والربا، قيل: إنه فعل ذلك لتقريب الوثنيِّين من النصرانية. انظر: الموسوعة البريطانية، مادة: Paul, the Apostle. وانظر: محاضرات في النصرانية، لمحمد أبو زهرة ص 70 - 75، 118 - 119.
(3/643)
أن يطبِّق تلك العقيدة على العقل فاستشنع ما كان يعتقده العامَّة من أنَّ الله تعالى وقع على مريم فأحبلها, تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًّا. فمنهم مَن زعم أن الله تعالى هو نفسه حلَّ في مريم لأنهم يجدون كثيرًا من الأمم قد تورَّطت في اعتقاد الحلول. ومنهم مَن زعم أن الذي حلَّ في بطن مريم بعضٌ من الله. والعاقل يعلم أن ما استشنعه المتفلسفون من قول العامة ليس بأشنع مما قالوه هم أعني المتفلسفين. والمقصود هنا إنما هو بيان معنى تأليههم المسيح وأمه عليهما السلام فأقول: قال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [381] وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [المائدة: 73 - 76]. ليس المراد بالثلاثة هنا ما اشتهر عن النصارى من أن الله تعالى ثلاثة أقانيم، وإنما المراد بالثلاثة: الله تعالى وعيسى وأمه. ويدلُّ على ذلك أمران:
(3/644)
الأوَّل: أنه قال: {ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} فدلَّ أن الاثنين الآخرين غيره، والنصارى لا يقولون ذلك في مسألة الأقانيم، بل يقولون: إن مجموع الثلاثة الأقانيم هو الله تعالى. الأمر الثاني: أنه ذكر في الرد عليهم حقيقة المسيح وحقيقة أمه، وليس لأمه دخل في الأقانيم، وإنما الأقانيم عندهم عبارة عن الأب والابن وروح القدس، فالأب هو الذات، والابن هو الصفة التي فارقته، ودخلت في بطن مريم فكانت المسيح، وروح القدس صفة ثانية نزلت على المسيح في صورة حمامة. وقال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ [382] لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} [المائدة: 116]. فعُلم بهاتين الآيتين أن النصارى يؤلِّهون مريم ويعبدونها كما يؤلِّهون عيسى ويعبدونه، وقد عُلم أنهم لم يقولوا في مريم إنها واجبة الوجود ولا قديمة ولا أنها جزء من الله تعالى، ولا أنها تخلق وترزق وتنفع وتضرُّ وتغفر الذنوب، فثبت بذلك أنَّ التأليه والعبادة لا يتوقَّفان على اعتقاد شيء من هذه الصفات في المعبود, وأنَّ اعتقادهم هذه الصفات في عيسى أمر زائد على التأليه والعبادة. (1) فأما قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا _________ (1) من هنا بداية ملحقٍ يزيد عن صفحتين قليلًا.
(3/645)
لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 171]، فأكثر المفسرين وغيرهم حمل قوله: {ثَلَاثَةٌ} على قولهم: الله وعيسى وأمُّه ثلاثة آلهة. قال السعد التفتازاني في المطوَّل: "أي: لا تقولوا: لنا أو في الوجود آلهة ثلاثة أو ثلاثة آلهة, فحُذِف الخبر ثم الموصوف أو المميَّز, أو لا تقولوا: الله والمسيح وأمه ثلاثة، أي: مستوون في استحقاق العبادة والتربية" (1). وقال المحقِّق عبد الحكيم في حواشيه على حواشي الخيالي على شرح العقائد النسفية في الكلمة (2) على تكفير النصارى: "فالعمدة في تكفيرهم ما ذكره بقوله: على أن قوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} يعني أنهم إنما كفروا لإثبات الآلهة الثلاثة لا لأنهم أثبتوا القدماء الثلاثة. ومعنى إثباتهم الآلهة الثلاثة أنهم سوَّوا الثلاثة في الرتبة واستحقاق العبادة على ماصرَّح به الشارح في بحث حذف المسند من شرح التلخيص، لا أنهم يثبتون وجوب وجودٍ لكلٍّ من الثلاثة، كيف وقد صرَّح في إلهيَّات المواقف أنه لا مخالف في مسألة توحيد واجب الوجود إلا الثنويَّة دون الوثنية ــ أي النصارى (؟ ) (3) فما ذكره المحشِّي: "كانوا يقولون بآلهة وذواتٍ ثلاثة" (4) محلُّ بحث؛ إذ الاشتراك في الألوهيَّة بمعنى استحقاق العبادة لا يدلُّ على كونها ذواتٍ مع أنه لا حاجة إليه؛ إذ القول بتعدُّد المعبود كافٍ في تكفيرهم، _________ (1) 3/ 14. [المؤلف]. وفي طبعة دار السعادة التركية ص 143: "في استحقاق العبادة والرتبة". (2) كذا. (3) علامة الاستفهام مِن وضع المؤلف. (4) حاشية الخيالي على شرح العقائد النسفية ص 59 - 60.
(3/646)
فالصواب ترك قوله: "وذوات". نقل عنه. قال الإمام الرازي: "فسر المتكلمون قول النصارى: {ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} بأنهم يقولون بأقنوم الأب وهو الذات، وأقنوم الابن وهو العلم، وأقنوم الروح القدس وهو الحياة. وهذا الجواب مبني على هذا التفسير". انتهى كلامه. يعني الجواب لقوله (1): "وجوابه إلخ مبنيٌّ على هذا التفسير". وأمَّا لو فسر قول النصارى: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} بأنَّ الله ثالث الآلهة الثلاثة: الله والمسيح ومريم، ويشهد عليه قوله تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فوجه تكفيرهم ظاهر لا سترة عليه" (2). أقول: وقوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ظاهرٌ في أن المراد بقوله: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} أي: ولا تقولوا: الله ثلاثة أقانيم, كما هو ظاهر لمن تأمَّله. والله أعلم (3). وقال عزَّ وجلَّ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]. دلَّت الآية على أنَّ القوم اتَّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا وآلهة وعبدوهم وأشركوهم كما قالوا ذلك في المسيح، فعُلم منها زيادة على ما مرَّ _________ (1) في مصدر النقل: "الجواب المذكور بقوله". (2) 3/ 10 [المؤلف]. و 2/ 241 من طبعة فرج الله زكي الكردي (3) هنا انتهى الملحق.
(3/647)
أن تأليههم لمريم وعبادتهم لها أمرٌ زائدٌ على قولهم: هي أمُّ ابنِ الله، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا. [383] فمن عبادتهم لعيسى عليه السلام إشراكُهم إياه في كلِّ عبادة تكون لله تعالى لزعمهم أنه جزء منه, وتعظيمهم لصورته ولصورة الصليب لمشابهتها للصليب الذي صُلِب عليه فيما زعموا. ومن تعظيمهم لأمِّه تعظيمُ صورتها والاستغاثة بها. وأما اتِّخاذهم الأحبار والرهبان أربابًا وآلهة وعبادتهم لهم وإشراكهم فسيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. الكلام على قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ [384] تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ
(3/648)
بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [385] وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64 - 80]. [386] قال ابن جرير: "حدثنا أبو كريب قال، ثنا يونس بن بكير قال، ثنا محمد بن إسحاق قال، ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، ثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي, فذكر نحوه" يعني نحو الحديث الذي تقدَّم قبله, ولفظه: "قال أبو رافع حين
(3/649)
اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودعاهم إلى الإسلام=: أتريد يا محمد أن نعبدك، كما تعبد النصارَى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرِّبِّيس (1): أوَ ذاك تريد منا يا محمد؟ ... (2) فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: معاذَ الله أن نَعبُد غيرَ الله، أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني, أو كما قال, فأنزل الله عزَّ وجلَّ في ذلك ... : {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} الآية إلى قوله: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} " (3). أقول: ابن إسحاق هو إمام أهل المغازي، وقد ذكر هذا الحديث في سيرته، وهو ثقة على الصحيح، وإنما يُخشى تدليسه، وقد صرَّح بالسماع، وشيخه ذكره ابن حبان في الثقات (4)، لكن قال الذهبي: [387] لا يُعرف (5). وفي أسباب النزول للسيوطي (6): وأخرج عبد الرزاق في تفسيره عن الحسن قال: بلغني أن رجلًا قال: يا رسول الله! نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال: لا، ولكن أكرموا نبيَّكم، واعرفوا الحق _________ (1) في الأصل: الرئيس, والتصحيح من طبعة محمود شاكر لتفسير ابن جرير. (2) وضع النقاط مني, وإنما وضع خطًا طويلا, ولعله يشير إلى سقم نسخته من تفسير الطبري, والذي تُرك هو: "وإليه تدعونا, أو كما قال". (3) 3/ 211. [المؤلف]. وأخرجه ابن المنذر 1/ 266، ح 642. وابن أبي حاتمٍ 2/ 693، ح 3756. والبيهقيُّ في الدلائل، باب وفد نجران ... ، 5/ 384. كلُّهم من طريق ابن إسحاق. وانظر: سيرة ابن هشام 2/ 145. (4) 7/ 392. (5) ميزان الاعتدال 4/ 26. (6) لباب النقول ص 51.
(3/650)
لأهله فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله, فأنزل الله تعالى {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} إلى قوله: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1). أقول: الآية عامَّة تتناول هذا وتتناول ــ كما يدلُّ عليه السياق ــ عيسى عليه السلام بالنظر إلى زعم النصارى أنَّه أمرهم باتِّخاذه ربًّا، وإبراهيم عليه السلام بالنظر إلى زعمهم أيضًا أنه كان نصرانيًّا يأمر باتِّخاذ عيسى ربًّا، وبالنظر إلى زعم المشركين من العرب أنهم على ملَّة إبراهيم عليه السلام مع عبادتهم للملائكة. وأما ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال: كان ناس من اليهود يتعبَّدون الناس من دون ربهم بتحريفهم كتاب الله [388] عن موضعه فقال الله عزَّ وجلَّ: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} الآيتين (2) = ففيه نظر؛ لأنَّ أولئك الأناس من اليهود لم يُؤْتَوا النبوة، اللَّهمَّ إلَّا أن يُرتكب المجاز فيقال: معنى كونهم أُوتوا النبوة أنهم من قومِ مَنْ أُوتي النبوة, أو نحو هذا، وهذا خروجٌ عن الظاهر بلا موجب. وقوله تعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ} قُرئ بالنصب والرفع؛ فأما النصب فبالعطف إما: _________ (1) لم أجده في تفسير عبد الرزاق. وقد نقله الواحدي في أسباب النزول ص 113. وعزاه في الدرّ المنثور (2/ 250) إلى عبد بن حميدٍ. قال الزيلعيُّ: (غريبٌ). وقال ابن حجرٍ: (لم أجد له إسنادًا). انظر: تخريج أحاديث الكشَّاف 1/ 192، ح 199. الكافي الشاف (الملحق بالكشَّاف) ص 26، ح 221. (2) تفسير ابن جرير 3/ 212، [المؤلف]. وتفسير ابن أبي حاتم 2/ 691، ح 3745.
(3/651)
- على {يَقُولَ} بالنظر إلى أن المعنى: ما كان لنبي أن يقول. - وإما على محذوف بعد قوله: {تَدْرُسُونَ} تقديره: ما كان له أن يقول. وعلى كلا الوجهين فالمعنى كما نص عليه ابن جرير: "ما كان له أن يقول .... ولا أن يأمركم" فكلمة (لا) صلة لتأكيد معنى النفي، وذلك شائع في الاستعمال، ولا سيما إذا طال الفصل كما هنا. وقيل: كلمة (لا) أصلية، والمعنى: "ما كان له أن يقول ولا يأمر" أي ما كان له أن يجمع بين القول وعدم الأمر، وهذا بعيد من حيث المعنى؛ إذ يصير النفي فيه منصبًّا على الجمع بين القول وعدم الأمر فيكون مفهومه أن له أن يقول ويأمر، وهو كما ترى. ويؤيِّد الأول قوله تعالى: {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فإنه يدلُّ على توجُّه النفي إلى كلٍّ من القول والأمر على حِدته، ويؤيِّده أيضًا الفصل [389] بقوله: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} ومثل هذا الفصل لا يحسن بين الأمرين اللَّذَين يُراد توجيه الحكم إلى اجتماعهما، والله أعلم. وفي الآية احتمالات أُخر ذكرها ابن هشام في المغني في فصل (لا) (1). والنفي في قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} نفيٌ ــ والله أعلم ــ للإمكان، كما في _________ (1) مغني اللبيب 3/ 351 - 353.
(3/652)
قوله تعالى: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل: 60] , وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 145] , أي: لا يمكن أن يجتمع في بشر الأمران: الأول: {أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}. الثاني: أن يأمرهم باتِّخاذه وغيره من الأنبياء والملائكة أربابًا. فحاصل المعنى: أنَّ مَن علم الله تعالى منه الأمر بالشرك لم يؤته النبوة، ومَن آتاه النبوة عصمه عن الأمر بالشرك. وإنما قلت: إن النفي نفيٌ للإمكان لا للجواز بمعنى الحِلِّ؛ لأمرين: الأول: أن قوله تعالى: {أَنْ يُؤْتِيَهُ} مما لا يدخل تحت قدرة العبد حتى يصحَّ أن يوصف بعدم الحلِّ. فإن قلت: الحكم في الآية [390] منصبٌّ على المجموع كما قدَّمتَ. قلت: صدقتَ، ولكن حُسْن التعبير في مثل هذا يستدعي إذا كان المنفيُّ الحلَّ أن يُفرَّق بين ما يكون الأمران من عمل مَن لا يحلُّ له المجموع وما يكون أحدهما من غير عمله، ففي الأول يوجَّه المنعُ إلى كلٍّ منهما في الصورة مع التنبيه على أنه موجَّه إلى الجمع, كأن يُقال: ما كان للمسلم أن يتزوَّج المرأة ثم يتزوَّج أمَّها، وفي الثاني يوجَّه المنع إلى ما هو من فعله مقيَّدًا بوجود الأمر الآخر, كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. [391] الأمر الثاني: أن نفي الإمكان أقطع للَجاج المفترين على إبراهيم
(3/653)
وعيسى عليهما السلام وأبلغ في تبرئتهما، ولو كان المنفيُّ الحلَّ لأمكن أن يقولوا: أما هما فقد أمرانا بما نحن عليه، وكونه يحل لهما أو لا يحل لا شأن لنا به. فإن قيل: إن نفي الحلِّ يستلزم نفي الإمكان لعصمة الأنبياء عليهم السلام، فيكون نفي الإمكان بطريقٍ استدلاليٍّ، وهو أبلغ. قلت: ولكن النصارى لا يعترفون بعصمة الأنبياء عليهم السلام. تأليه الأحبار والرهبان أخرج ابن جرير وغيره من طريق عبد السلام بن حرب قال: حدثنا غُطيف بن أعين، عن مصعب بن سعد، عن عدي بن حاتم، قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: "يا عدي، اطرح هذا الوثن من عنقك"، قال: فطرحته، وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة، فقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، قال: قلت: يا رسول الله، إنا لسنا [392] نعبدهم، فقال: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ " قال: قلت: بلى، قال: "فتلك عبادتهم" (1). وأخرجه الترمذي بألفاظ أخرى، ثم قال: "حسن غريب لا نعرفه إلا من _________ (1) لفظ ابن جرير 10/ 71. [المؤلف]. وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (ترجمة غُطيف بن أعين) 7/ 106. وابن أبي حاتم 6/ 1784، ح 10057. والطبراني 17/ 92، ح 218 - 219. والبيهقي، كتاب آداب القاضي، باب ما يقضي به القاضي ... ، 10/ 116. وغيرهم. وانظر: السلسلة الصحيحة 7/ 861، ح 3293.
(3/654)
حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث" (1). أقول: غطيف وثقه ابن حبان وضعفه الدارقطني (2). وقد روى ابن جرير وغيره نحو هذا التفسير موقوفًا على حذيفة رضي الله عنه. وبمعناه عن ابن عباس، ثم عن أبي العالية والحسن والضحاك (3). وقال ابن جرير في تفسير قوله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64] ما لفظه: "فإن اتِّخاذ بعضِهم بعضًا هو ما كان بطاعة الأتباع الرؤساء فيما أمروهم به من معاصي الله وتركهم ما نهوهم عنه من طاعة الله، كما قال جل ثناؤه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا [393] مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} ". ثم أخرج عن ابن جريج يقول: "لا يطع بعضنا بعضًا في معصية الله" (4). وأخرج في تفسير قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} _________ (1) جامع الترمذي، كتاب التفسير، باب ومن سورة التوبة، 2/ 184، ح 3095. [المؤلف] (2) انظر: الثقات 7/ 311، الضعفاء والمتروكون ص 324. (3) تفسير ابن جرير 11/ 418 - 421، تفسير ابن أبي حاتم 6/ 1784. (4) 3/ 195. [المؤلف]
(3/655)
[البقرة: 22]. عن ابن عباس وابن مسعود وناسٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} قال: "أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله". وقد مرَّ ذلك (1). وأخرج عن السدي في تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165]. قال: "الأنداد من الرجال، يطيعونهم كما يطيعون الله، إذا أمروهم أطاعوهم وعصوا الله". وقد مرَّ هذا أيضًا (2). وقد جاء في القرآن عَّدة آيات في ذكر عبادة الطاغوت لعلَّنا نذكرها في فصل عبادة الشياطين. وقد فسَّر جماعة من السلف الطاغوت بالكاهن والساحر وسادن الصنم الذي يأمر بعبادته وغيرها مما يتديَّن به المشركون، وبكعب بن الأشرف وحُييِّ بن أخطب [394] وغيرهما ممن كان اليهود يطيعونه في الدين. قال ابن جرير: "والصواب من القول في تأويل: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} أن يقال: يصدِّقون بمعبودَين من دون الله، يعبدونهما من دون الله، ويتخذونهما إلهين. وذلك أنَّ (الجبت) و (الطاغوت): اسمان لكل معظَّم بعبادةٍ من دون _________ (1) ص 494. (2) ص 495.
(3/656)
الله، أو طاعة، أو خضوع له، كائنًا ما كان ذلك المعظَّم، من حجر أو إنسان أو شيطان. وإذ كان ذلك كذلك، وكانت الأصنام التي كانت الجاهلية تعبدها كانت معظَّمة بالعبادة من دون الله فقد كانت جُبوتًا وطواغيت, وكذلك الشياطين التي كانت الكفار تطيعها في معصية الله، وكذلك الساحر والكاهن اللذان كان مقبولًا منهما ما قالا في أهل الشرك بالله, وكذلك حُيي بن أخطب وكعب بن الأشرف، لأنهما كانا مطاعَيْن في أهل ملّتهما من اليهود في معصية الله والكفر به وبرسوله، فكانا جبتين وطاغوتين" (1). [396] [395] وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ [396] بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ _________ (1) 5/ 79. [المؤلف]
(3/657)
الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 13 - 21]. قيل: إن المراد بقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ}: شركاء للمشركين في كفرهم. وقيل: المراد: شركاء يشركونهم بالله تعالى. ومَن قال هذا فسَّره بالأوثان، وتأوَّل نسبة الشرع إليها بأنها سبب له أو أنها تماثيل لمن شرع في زعمهم. وقد تقدَّم ذلك عن البيضاوي. والصواب إن شاء الله المعنى الثاني، أي أنَّ المراد: شركاء يشركونهم بالله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ عامَّة ما (1) [397] يجيء في القرآن بهذا المعنى، وأن المراد الرؤساء الذين يطيعونهم ويتديَّنون بما يخترعون لهم على أنه من الدين، فيُعلَم من هذه الآية ومما قبلها أن شرع الدين خاصٌّ بالربِّ، فمَن ادَّعى أن له حقًّا أن يشرع، وأن ما شرعه يكون دينًا؛ فقد ادَّعى الربوبيَّة، ومَن قال في شخصٍ: إن له حقًّا أن يشرع وأن ما شرعه يكون دينًا؛ فقد اتَّخذه ربًّا، وجعله شريكًا لله عزَّ وجلَّ، وذلك تأليهٌ له وعبادةٌ وشركٌ بالله تعالى. _________ (1) إلى هنا انتهى الدفتر الرابع، ويليه الدفتر الخامس، وأوَّله: يجيء في القرآن ....
(3/658)
وقد مرَّ (1) قول الزجَّاج ــ فيما نقله ابن هشامٍ (2) ــ أن المعنى في قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151]. قال: «الأصل: «أبيِّن لكم لئلا تشركوا»، وذلك لأنهم إذا حرَّم عليهم رؤساؤهم ما أحلَّه الله سبحانه وتعالى فأطاعوهم أشركوا؛ لأنهم جعلوا غير الله بمنزلته». وبعد؛ فقد ثبت أن اليهود كانوا يعلمون أن حدَّ الزاني المحصن الرجم، وأن ذلك في التوراة حقٌّ، فشرع لهم أحبارُهم الاكتفاءَ بالجلد والتحميم (3)، فاتَّخذوا ذلك دينًا يزعمون أن الله يحبه ويرضاه. وأما النصارى فأمرهم أظهر؛ فقد ثبت عندهم أن عيسى عليه السلام أخبرهم أنه لم يُبعَث لنسخ التوراة وإنما بُعِث لتثبيتها، [398] ثم خرج أحبارهم فأبطلوا أحكام التوراة التي كان عيسى نفسه يعمل بها، كالختان وتحريم لحم الخنزير وتحريم السبت وغيرها، زاعمين أنَّ ما شرعه بولس وغيره يكون دينًا يحبُّه الله ويرضاه. وهكذا مشركو العرب كانوا يزعمون أنَّ ما شرعه عمرو بن لُحَيٍّ وأضرابه دينٌ يحبُّه الله ويرضاه، ولما كان يوم الفتح أُخرِجت من الكعبة صورتا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وبأيديهما الأزلام يستقسمان بها، فقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «قاتلهم الله، أما والله لقد علموا أنهما _________ (1) ص 326. [المؤلف]. ص 598. (2) المغني. [المؤلف]. 1/ 250، وانظر: معاني القرآن للزجاج 2/ 303 - 304. (3) التحميم: تسويد الوجه بالحُمَم، وهو الفحم. انظر: غريب الحديث لأبي عُبَيدٍ 4/ 16، النهاية 1/ 444.
(3/659)
لم يستقسما بها قطُّ» (1). فقد زعم المشركون أن الاستقسام بالأزلام دينٌ يحبُّه الله ويرضاه، حتى صوَّروا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يستقسمان بالأزلام، مع علمهم بأنهما لم يستقسما بها قطُّ، وإنما أحدثها بعض الرؤساء. وقد قال تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [آل عمران: 93 - 94] , [399] وقال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103]. والقرآن يقسِّم الكفر إلى قسمين: الكذب على الله، والتكذيب بآياته. قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68]، وفي القرآن آياتٌ أخرى بمعناه. وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ} استفهامٌ إنكاريٌّ، أي: لا أحد أظلم منه، فعُلِم من ذلك أن ذلك يكون شركًا؛ لأنه لو لم يكن شركًا لكان الشرك أعظمَ منه؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]. _________ (1) البخاريّ، كتاب الحجِّ، باب مَن كبَّر في نواحي الكعبة، 2/ 150، ح 1601. [المؤلف]
(3/660)
فأما أرواح الموتى فعبادتها من جنس عبادة الجنِّ عند بعض الناس، ومن جنس عبادة الملائكة عند آخرين. وسيأتي الكلام على ذلك، إن شاء الله تعالى (1). * * * * _________ (1) انظر: ص 815 - 816.
(3/661)
[400] القبور والآثار عبادة القبور والآثار إنما تكون تعظيمًا للمقبور أو صاحب الأثر على نحو ما تقدَّم في شأن الأصنام (1)، حيث تُعبد تعظيمًا للأشخاص التي هي تماثيلُ لهم، فأما الفصل بين ما يكون شركًا من احترام القبور والآثار وما لا يكون شركًا بل قد يكون مشروعًا، فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى (2). الجنّ كان أهل الجاهليَّة يتعوَّذون برؤساء الجنِّ من شرِّ عامَّتهم ــ كما تقدَّم ــ، ونجد الآن كثيرًا من الناس ينذرون للجنِّ ويذبحون لأجلهم، ويصنعون لهم الأطعمة، ثم يضعونها في الصحارى بالليل، ويزعمون أن الجنَّ يأكلون ذلك، وينفعون مقرِّبه، أو يكفُّون عن الإضرار به، أو يدفعون عنه ضرر بعضهم، أو يبيِّنون لهم بواسطة الكاهن شيئًا مُغَيَّبًا كسرقةٍ، أو حال رجلٍ غائبٍ، أو حقيقة مرضٍ وعلاجه، أو نحو ذلك. والمعزِّمون كثيرًا ما يفزعون إلى ذلك إذا أُتُوا بمصابٍ، وربما يفزعون إلى عبادة الكواكب. [401] وأحسنهم حالًا مَنْ يعتمد الأوفاق (3) المبنيَّة على الحساب _________ (1) انظر ص 568 - 572. (2) انظر: فصل تحقيق السلطان الفاصل بين عبادة الله تعالى وعبادة غيره ص 873، وفصل الأعذار. (3) جمع وَفْق: هي جداول مربَّعةٌ لها بيوتٌ مربَّعةٌ، يوضع في تلك البيوت أرقامٌ عدديَّةٌ أو حروفٌ بدل الأرقام ... وذكروا أن لاعتدال الأعداد خواصَّ فائضةً من روحانيَّات تلك الأعداد أو الحروف، ويترتَّب عليها آثارٌ عجيبةٌ وتصرُّفاتٌ غريبةٌ، بشرط اختيار أوقاتٍ مناسبةٍ وساعاتٍ شريفةٍ. مفتاح السعادة ومصباح السيادة لطاش كبري زاده 1/ 373. وانظر: الفروق للقرافيِّ 4/ 142، الفرق: 242.
(3/662)
ومراعاة النجوم، ونحو ذلك، وسيأتي قول الشهرستانيِّ أن ذلك كلَّه مأخوذٌ عن الصابئة. وإنما يحمل المعزِّمين على ذلك أنه ليس لديهم من الإيمان والتقوى ما يرعب الشياطين ويطردها، فهم يلجؤون إلى تَرضِّي الشياطين والتقرُّب إليهم وفعل ما يحبُّونه، وإن كان في ذلك ذهاب الدين، والله المستعان. وقد رأيتُ مَن يعتقد أن التقرُّب إلى الجنِّ شركٌ بمثل ما مرَّ، ولكنه إذا مرضت زوجته أو ابنه وقال له المعزِّم يعمل كما يعمل الناس من التقريب للجنِّ؛ أقدَمَ على ذلك، إما مرتابًا في عقيدته وهو الغالب، وإما بائعًا دينه بما يرجوه من منفعةٍ عاجلةٍ بشفاء مصابه، وإما قائلًا: غلبتنا النساء! فأمَّا عامَّة الناس، فإنهم يزعمون أن حصول النفع حجَّةٌ للجواز، بل وللاستحباب، وقد يبالغ بعضهم فيدَّعي الوجوب، كأنهم لا يعلمون أن السحر تحصل بسببه منفعةٌ للساحر وغيره ممن يريد الساحر نفعَه، وهو مع ذلك كفرٌ. وعُبَّاد الأصنام يزعمون أنه يحصل لهم منافع بعبادتها، وهكذا عُبَّاد الشياطين تساعدهم الشياطين [402] بأعمالٍ كثيرةٍ، وتلك المنافع عارضةٌ سرعان ما تزول وتعقبها مضارُّ شديدةٌ، وعلى فرض أنها دامت للإنسان مدَّة حياته؛ فحسبه ما يلقاه من غضب الله عزَّ وجلَّ وعذابه بعد مماته.
(3/663)
ولعلَّك قد سمعت بمَن يترك الصلاة المفروضة من المسلمين، ثم يبدو له أن يحافظ عليها، فيصلي عدَّة صلواتٍ، ثم يَدَعُها زعمًا أنه عَرَضَتْ له مصائب ومضارُّ، فلما ترك الصلاة زالت تلك المضارُّ، حتى إن من هؤلاء مَن يقول: الصلاة نحسٌ. والسبب في هذا الأمر أن الله عزَّ وجلَّ غنيٌّ عن عباده، لا يقبل إلا طيِّبًا, وهؤلاء الجهَّال إنما يحملهم على الصلاة الرغبةُ في أن تحصل لهم منافع دنيويَّةٌ، فيُقدِمون عليه (1) على سبيل التجربة، بلا يقينٍ ولا إيمانٍ ولا إخلاصٍ، فيبتلي الله عزَّ وجلَّ إخلاصهم بما يصيبهم من الامتحان، فأمَّا مَن ثبت وكان عنده إيمانٌ وتصديقٌ؛ فإن تلك الأمور التي يراها مصائب تزول عنه، بل تنقلب منافع وفوائد، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [403] مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] , وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157]، والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ. وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ _________ (1) كذا في الأصل, ولعله يعيد الضمير إلى العمل والفعل.
(3/664)
فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران: 165 - 167]. نزلت هذه الآية فيما أصاب المسلمين يوم أحدٍ إذ قتل منهم حمزة عمُّ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم في سبعين، وقلَّ رجلٌ من سائر المسلمين إلا أصابه جرحٌ، حتى لقد جرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ــ بأبي هو وأمي ــ فكُسِرت رباعيته وجُرِحت [404] شفته وجبهته ووَجْنَته، ودخل فيها حلقتان من حَلَق المِغْفَر (1)، وقد أخبر تعالى أن ذلك بإذنه ليبلوهم. فكما كان الابتلاء هنالك بواسطة المشركين فهكذا قد يكون الابتلاء بواسطة الشياطين، كأن يشرع المسلم في عملٍ صالحٍ فتعدو عليه الشياطين بالإيذاء والإضرار، وكلُّ ذلك بإذن الله تعالى، فإذا ثبَّته الله تعالى وصبر جبر الله تعالى مصابه وأثابه عليه، وإن كفَّ عن ذلك العمل الصالح فقد تبيَّن كذبه، فإن اندفعت عنه تلك المصائب بعدُ فَلِهَوَانه على الله تعالى، وهكذا قد _________ (1) ورد في الصحيحين عن سهل بن سعدٍ رضي الله عنه قال: «جُرِح وجه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكُسِرت رباعيته وهُشِمت البيضة على رأسه». انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب الجهاد والسير، باب لبس البيضة، 4/ 40، ح 2911. وصحيح مسلمٍ، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحدٍ، 5/ 178، ح 1790. وفي روايةٍ للطيالسيِّ من حديث أبي بكرٍ رضي الله عنه: فانتهينا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كُسِرت رباعيته وشُجَّ في وجهه، وقد دخل في وَجْنَته حلقتان من حَلَق المِغْفَر. وأخرجها الحاكم، وقال: «صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه». لكن تعقَّبه الذهبيُّ، فقال: «ابن إسحاق متروكٌ». يعني محمَّد بن إسحاق بن يحيى بن طلحة. انظر: مسند الطيالسيِّ 1/ 9، ح 6. المستدرك، كتاب المغازي والسرايا، ذكر ما أُصِيب ثنايا أبي عُبَيدة ... ، 3/ 27. وكتاب معرفة الصحابة، ذكر مناقب أبي عُبَيدة بن الجرَّاح، كان أبو عُبَيدة أهتم الثنايا، 3/ 266.
(3/665)
يقدم على العمل السيِّئ فتناله منافع وفوائد دنيويَّةٌ، فإن تداركه الله عزَّ وجلَّ عَلِم أن ذلك ابتلاءٌ فكفَّ عنه، وزهد في تلك المنافع، وإلا فكما قال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178]. [405] ومن دقائق هذا الباب أن العبد إذا أراد الرجوع إلى طاعة الله تعالى أحبَّ الله تعالى أن يطهِّره مما سبق من ذنوبه، وأن يبتليه ليتبيَّن ثباته وصدقه، ويوافق ذلك طمع الشياطين في هذا الرجل أنهم إذا آذوه وأضرُّوا به ترك ذلك العمل الصالح، فعن هذا يناله ما يناله، فإذا وفَّقه الله تعالى وثبَّته كان ما أصابه من الشياطين تطهيرًا لما سبق من ذنوبه، وزيادةً له في رفع درجاته، وسرعان ما تزول تلك المضارُّ بزوال سببها، ويجبره الله تعالى ويرفعه، وإن جزع من تلك المضارِّ فترك ذلك العمل الصالح فقد ترتفع عنه المضارّ، وذلك شرٌّ له عاجلًا وآجلًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وربَّما تصيب تلك المضارُّ مَن لا ذنب له سابقًا ولا يُراد ابتلاؤه في نفسه، وإنما يُراد بذلك ابتلاء غيره، وهذا كما جرى للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحدٍ، إنما أُرِيد بذلك ابتلاء المسلمين ورفع درجات النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم. [406] ويُحكى أن رجالًا كانوا يضيِّعون الفرائض ويرتكبون المنكرات ويدَّعون مع ذلك أنهم من الصالحين، فيُنكِر عليهم رجالٌ من أهل العلم والدِّين، فتصيب هؤلاء المنكرين مصائب يعدُّها الناس كراماتٍ لمرتكبي المنكرات، وأنت إذا تدبَّرت ما سبق علمت الحقيقة، والله المستعان.
(3/666)
وفي قصَّة أيُّوب النبيِّ عليه السلام ما يعينك على فهم ما قدَّمناه. والمقصود هاهنا أن الدين كما يعرِّفه أهل العلم: «وضعٌ إلهي سائقٌ لذوي العقول إلى ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم» (1)، وشرعه خاصٌّ بالله تعالى. وأما ما جاء في بعض الآثار مما يوهم أن للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يشرع فليس على حقيقته، ولكن الله تعالى ربَّما يخيِّر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في أمرٍ بعينه ويُعلِمه أنه إذا اختار أن يكون شرعًا لأمته فقد شرعه الله عزَّ وجلَّ، وهذا كما في حديث الحجِّ، إذ قال صلى الله عليه وآله وسلم: «أيُّها الناس، قد فرض الله عليكم الحجَّ فحُجُّوا»، فقال رجلٌ: أكلَّ عامٍ يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لو قلت: نعم [407] لوجبت» الحديث (2) , وكما في الحديث الآخر: «لولا أن أشقَّ على أمَّتي لأمرتهم بالسواك عند كلِّ صلاةٍ» (3). وقد أكمل الله الدين، وأتمَّه في حياة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ونزل في عصر يوم النحر (4) من حجَّة الوداع قُبَيل وفاة النبيِّ صلى الله عليه _________ (1) انظر: مفاتيح الغيب 29/ 273. (2) صحيح مسلمٍ، كتاب الحجِّ، باب فرض الحجِّ مرَّةً في العمر، 4/ 102، ح 1337. [المؤلف] (3) صحيح مسلمٍ، كتاب الطهارة، باب السواك، 1/ 151، ح 252. [المؤلف] (4) كذا في الأصل، ولعلَّه سبق قلمٍ؛ فالذي في الصحيحين أنها نزلت يوم عرفة ــ كما سيأتي ــ.
(3/667)
وآله وسلم بنحو ثلاثة أشهرٍ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] (1). فما لم يكن دينًا في حياة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا يكون دينًا بعده، والكلام على هذه الآية وهذا المعنى ونقل كلام السلف من الصحابة والتابعين وأئمَّة الدين مبسوطٌ في موضعٍ آخرٍ (2). فالدين إنما يؤخذ من كتاب الله عزَّ وجلَّ وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقل أحدٌ من أهل العلم: إن الدين يُؤخذ بالتجربة، ولكن كثيرًا ممَّن يُظَنُّ بهم الصلاح وهم عن حقيقة الدين غافلون أخذوا يشرعون في دين الله عزَّ وجلَّ بغير إذنه، ويعتمدون في ذلك على التجربة. ولقد دار بيني وبين بعض الناس كلامٌ سأذكره مع زيادةٍ في جوابي، سألني عن وضعٍ أظفار الإبهامين على [408] الشفتين والعينين عندما يقول المؤذِّن: (أشهد أن محمَّدًا رسول الله)، فقلت: بدعةٌ، وقد علَّمنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ما نقوله عند سماع الأذان وبعده، فنجد أكثر الناس تاركين لذلك، محافظين على هذا الفعل، وهذا شأن البدع؛ لأن الشيطان يحرص على أن يشغل الناس بها، ويقنعهم بها عن العبادات، فقال السائل: فهل ورد حديثٌ في هذا الفعل؟ قلت: قد رُوِي في ذلك حديثٌ نصَّ الأئمة على أنه كذبٌ موضوعٌ ليس من قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. _________ (1) يشير إلى ما أخرجه البخاريُّ في كتاب الإيمان، باب زيادة الإيمان ونقصانه، 1/ 18 ح 45. ومسلمٌ في كتاب التفسير، 8/ 238، ح 3017، من حديث عمر رضي الله عنه، وفيه أنه قال: (نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفاتٍ في يوم جمعةٍ). (2) انظر: «تحقيق الكلام في المسائل الثلاث»، المسألة الثانية: السنة والبدعة ص 147 - 159.
(3/668)
على أنه لو لم يكن موضوعًا وكان ضعيفًا لما جاز العمل به إجماعًا، أمَّا على القول بأن العمل بالضعيف لا يجوز مطلقًا فواضحٌ ــ وهذا هو الحقّ، كما حقَّقناه في موضعٍ آخرٍ (1)، ونَقْلُ الإجماع على خلافه سهوٌ ــ، وأما على قول مَن زعم أن الضعيف يُعمَل به في فضائل الأعمال، فلجواز العمل عندهم شرائط، منها: اندراج ذلك الفعل تحت عمومٍ ثابتٍ، وهذا الفعل ليس كذلك. فقال السائل: إذا كان قد رُوي الحديث عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فينبغي أن يُقبَل. قلت: نعم، إذا كانت الرواية صالحةً [409] للاعتماد، فأما إذا لم تكن صالحةً فإنه يجب اطِّراحها، هذا حكم الإسلام؛ لأن الناس قد كذبوا على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عمدًا وخطأً. قال السائل: فقد كان رجلٌ يعتاد هذا الفعل، حتى قال رجلٌ من علماء الوهابيَّة (2): إن هذه بدعةٌ، فصدَّقه، وترك ذلك الفعل، ثم أصابه وجعٌ في عينيه، فاختلف إلى الأطبَّاء يداوي عينيه، ودام على ذلك مدَّةً والوجع باقٍ، حتى قُيِّض له رجلٌ من المتصوِّفة ساءله حتى أخبره أنه كان يعتاد هذا الفعل حتى نهاه عنه ذلك الوهابيُّ، فقال له: أخطأت بموافقة الوهابيِّ، ارجع إلى ما كنت تفعله، فعاد لذلك الفعل، فلم يلبث أن ذهب عنه الوجع. قلت: هذه تجربةٌ، والدين لا يُؤخذ بالتجربة. وقد أخرج أبو داود وغيره عن زينب امرأة عبد الله بن مسعودٍ، أن _________ (1) يشير إلى رسالة: حكم العمل بالحديث الضعيف. (2) تكلَّم المؤلِّف في موضعٍ آخر عن إطلاق لفظ «الوهَّابيَّة» على أهل نجد. انظر: تحقيق الكلام في المسائل الثلاث ص 446 - 453.
(3/669)
عبد الله رأى في عنقي خيطًا، فقال: ما هذا؟ فقلت: خيط رُقِي لي فيه، قالت: فأخذه وقطعه، ثم قال: أنتم آل عبد الله أغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الرُّقى والتمائم والتِّوَلَةَ شركٌ»، فقلت: لم تقول هكذا؟ لقد [410] كانت عيني تقذف (1)، وكنت أختلف إلى فلانٍ اليهوديِّ، فإذا رقاها سكنت، فقال عبد الله: إنما ذلك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقى كفَّ عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أذهب البأس ربَّ الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقمًا». وسيأتي تخريج هذا الحديث وبسط الكلام عليه في بحث الرقى (2)، إن شاء الله تعالى. قلت: وقد عظمت المصيبة بهذا الأمر، فتجد كثيرًا من أهل الخير والصلاح يُعْرِض عن كتاب الله تعالى والأذكار المأثورة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ويواظب على الأحزاب والأوراد المنقولة عن بعض المشهورين بالصلاح اعتمادًا على فضائل ومنافع ذُكِرت لتلك الأحزاب والأوراد، ولو استغنى بكتاب الله عزَّ وجلَّ وبالأذكار الثابتة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لكان خيرًا له؛ فإن الفضائل التي تُذكَر لتلك الأحزاب والأوراد ليست مما يُعتمَد عليه؛ لأنها من زعم رجلٍ من أفراد الأمَّة، ليست ثابتةً عن الله عزَّ وجلَّ ولا عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، على أنَّ كثيرًا منها ينكرها الشرع إذا عرفتَ حقيقة الشرع، ولبعضها هيئاتٌ تدخل في البدع المنكرة، ولعلَّك إذا تدبَّرت رسالتي هذه علمتَ أن الأمر أشدُّ من ذلك، والله المستعان. _________ (1) بصيغة المفعول، أي: تُرمى بما يهيج الوجع. وبصيغة الفاعل، أي: تَرمي بالرَّمَص ــ وهو ما جمد من الوسخ في مؤخَّر العين ــ أو الدمع ــ وهو ماء العين ــ من الوجع. انظر: عون المعبود 10/ 368. (2) انظر: ص 955.
(3/670)
[411] الكواكب أما قوم إبراهيم عليه السلام فقد قال الشهرستانيُّ في الملل والنحل: «أصحاب الهياكل والأشخاص، وهؤلاء من فرق الصابئة، وقد أدرجنا مقالتهم في المناظرات جملةً، ونذكرها هاهنا تفصيلًا. اعلم أن أصحاب الروحانيَّات لما عرفوا أنه لا بدَّ للإنسان من متوسِّطٍ، ولا بدَّ للمتوسِّط من أن يُرى فيُتوجَّه إليه، ويُتقرَّب به، ويُستفاد منه؛ فزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات السبع، فتعرَّفوا: أوَّلًا: بيوتها ومنازلها. وثانيًا: مطالعها ومغاربها. وثالثًا: اتِّصالاتها على أشكال الموافقة والمخالفة مرتَّبةً على طبائعها. ورابعًا: تقسيم الأيام والليالي والساعات عليها. وخامسًا: تقدير الصور والأشخاص والأقاليم والأمصار عليها. فعملوا الخواتيم وتعلَّموا العزائم والدعوات، وعيَّنوا ليوم زُحَل ــ مثلًا ــ يوم السبت، وراعَوا فيه ساعته الأولى، وتختَّموا بخاتمه المعمول على صورته وهيئته وصنعته، ولبسوا اللباس الخاصَّ به، وبخَّروا ببخوره الخاصِّ، ودعوا بدعواته الخاصَّة، وسألوا حاجتهم منه الحاجة التي تُستدعى من زُحَل من أفعاله وآثاره الخاصَّة به، فكان تُقضى حاجتهم، [412] ويحصل في الأكثر مرامهم، وكذلك رفع الحاجة التي تختصُّ بالمشتري في يومه وساعته وجميع الإضافات التي ذكرنا إليه، وكذلك سائر الحاجات إلى الكواكب، وكانوا يسمُّونها أربابًا آلهةً، والله تعالى هو ربُّ الأرباب وإله الآلهة, ومنهم مَن جعل
(3/671)
الشمس إله الآلهة، وربَّ الأرباب. فكانوا يتقرَّبون إلى الهياكل تقرُّبًا إلى الروحانيَّات، ويتقرَّبون إلى الروحانيَّات تقرُّبًا إلى الباري تعالى؛ لاعتقادهم بأن الهياكل أبدان الروحانيَّات، ونسبتها إلى الروحانيَّات كنسبة أجسادنا إلى أرواحنا، فهم الأحياء الناطقون بحياة الروحانيَّات، وهي تتصرَّف في أبدانها تدبيرًا وتصريفًا وتحريكًا كما يتصرَّف في أبداننا، ولا شكَّ أن مَن تقرَّب إلى شخصٍ فقد تقرَّب إلى روحه، ثم استخرجوا من عجائب الحيل المرتَّبة على عمل الكواكب ما كان يُقضى منه العجب، وهذه الطِّلَّسْمات المذكورة في الكتب والسحر والكهانة والتنجيم والتعزيم والخواتيم والصور كلُّها من علومهم. وأما أصحاب الأشخاص فقالوا: إذا كان لا بدَّ من متوسِّطٍ يُتوسَّل به وشفيعٍ يُتشفَّع إليه، والروحانيَّات وإن كانت هي الوسائل لكنا إذا لم نرها بالأبصار ولم نخاطبهم بالألسن لم يتحقَّق التقرُّب إليها إلا بهياكلها، [413] ولكن الهياكل قد تُرى في وقتٍ ولا تُرى في وقتٍ؛ لأن لها طلوعًا وأفولًا وظهورًا بالليل وخفاءً بالنهار، فلم يَصْفُ لنا التقرُّب بها، والتوجُّه إليها، فلا بدَّ لنا من صورٍ وأشخاصٍ موجودةٍ قائمةٍ منصوبةٍ نَصْب أعيننا، فنعكف عليها، ونتوسَّل بها إلى الهياكل، فنتقرَّب بها إلى الروحانيَّات، ونتقرَّب بالروحانيَّات إلى الله سبحانه وتعالى، فنعبدهم ليقرِّبونا إلى الله زلفى. فاتَّخذوا أصنامًا أشخاصًا على مثال الهياكل السبعة، كلُّ شخصٍ في مقابلة هيكلٍ، وراعوا في ذلك جوهر الهيكل ــ أعني الجوهر الخاصَّ به من الحديد وغيره ــ، وصوَّروه بصورته على الهيئة التي تصدر أفعاله عنه،
(3/672)
وراعَوا في ذلك الزمان والوقت والساعة والدرجة والدقيقة وجميع الإضافات النجوميَّة من اتِّصالٍ محمودٍ يؤثِّر في نجاح المطالب التي تُستدعى منه، فتقرَّبوا منه في يومه وساعته، وتبخَّروا بالبخور الخاصِّ به، وتختَّموا بخاتمه، ولبسوا ثيابه، وتضرَّعوا بدعائه، وعزَّموا بعزائمه، وسألوا حاجتهم منه، فيقولون: كان يقضي حوائجهم بعد رعاية هذه الإضافات كلِّها، [414] وذلك هو الذي أخبر التنزيل عنهم بأنهم عبدة الكواكب، إذ قالوا بإلهيَّتها، كما شرحنا. وأصحاب الأشخاص هم عبدة الأوثان؛ إذ سموها آلهةً في مقابلة الآلهة السماويَّة, وقالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وقد ناظر الخليل عليه الصلاة والسلام هؤلاء الفريقين، فابتدأ بكسر مذاهب أصحاب الأشخاص، وذلك قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83] , وتلك الحجَّة أن كسرهم قولًا بقوله: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95 - 96]. ولما كان أبوه آزر هو أعلم القوم بعمل الأشخاص والأصنام ورعاية الإضافات النجوميَّة فيها حقَّ الرعاية ــ ولهذا كانوا يشترون منه الأصنام لا من غيره ــ كان أكثر الحجج معه وأقوى الإلزامات عليه، إذ قال لأبيه آزر: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 74]، وقال: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42]؛ لأنك جهدتَ كلَّ الجهد واستعملت كلَّ العلم حتى عملت أصنامًا في مقابلة
(3/673)
[415] الأجرام السماويَّة، فما بلغت قوَّتك العلميَّة والعمليَّة إلى أن تحدث فيها سمعًا وبصرًا، وأن تغني عنك وتضرَّ وتنفع، وأنك بفطرتك وخلقك أشرف درجةً منها؛ لأنك خُلِقْتَ سميعًا بصيرًا، ضارًّا نافعًا، والآثار السماوية فيك أظهر منها في هذا المتَّخذ تكلُّفًا، والمعمول تصنُّعًا، فيا لها من حيرةٍ إذ صار المصنوع بيديك معبودًا لك، والصانع أشرف من المصنوع، {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 44 - 45]، ثم دعاه إلى الحنيفيَّة الحقَّة {يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم: 43]، {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ} [مريم: 46] (1). فلم يقبل حجَّته القوليَّة، فعدل عليه السلام إلى الكسر بالفعل {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} فقالوا: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} [الأنبياء: 58 - 59]، {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) [416] فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63 - 65]. فأفحمهم بالفعل حيث أحال الفعل على كبيرهم، كما أفحمهم بالقول حيث أحال الفعل منهم، وكلُّ ذلك على طريق الإلزام عليهم، وإلا فما كان الخليل كاذبًا قطُّ. ثم عدل إلى كسر مذاهب أصحاب الهياكل، وكما أراه الله سبحانه _________ (1) هكذا جاء ترتيب الآيات في كتاب الشهرستانيِّ.
(3/674)
وتعالى الحجَّة على قومه قال: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]، فأطلعه على ملكوت الكونين والعالمين تشريفًا له على الروحانيَّات وهياكلها، وترجيحًا لمذهب الحنفاء على مذهب الصابئة، وتقريرًا أن الكمال في الرجال، فأقبل على إبطال مذهب أصحاب الهياكل {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76]، على ميزان إلزامه على أصحاب الأصنام {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} , وإلا فما كان الخليل عليه السلام [417] كاذبًا في هذا القول، ولا مشركًا في تلك الإشارة. ثم استدلَّ بالأفول والزوال والتغيُّر والانتقال بأنه لا يصلح أن يكون ربًّا إلهًا، فإن الإله القديم لا يتغيَّر، وإذا تغيَّر [احتاج] (1) إلى مغيِّر، وهذا لو اعتقدتموه ربًّا قديمًا وإلهًا أزليًّا، ولو اعتقدتموه واسطةً وقبلةً وشفيعًا ووسيلةً، فالأفول والزوال أيضًا يخرجه عن الكمال, وعن هذا ما استدلَّ عليهم بالطلوع، وإن كان الطلوع أقرب إلى الحدوث من الأفول، فإنهم إنما انتقلوا إلى عمل الأشخاص لِما عراهم من التحيُّر بالأفول، فأتاهم الخليل عليه السلام من حيث تحيُّرهم، فاستدلَّ عليهم بما اعترفوا بصحَّته، وذلك أبلغ في الاحتجاج. ثم لما {رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: 77]. _________ (1) في الأصل والطبعة التي نقل عنها المؤلِّف: (فاحتاج)، والتصحيح من مطبوعة محمَّد سيِّد كيلاني.
(3/675)
فيا عجبًا ممن لا يعرف ربًّا كيف يقول: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ}؟ رؤية الهداية من الربِّ تعالى غاية التوحيد ونهاية المعرفة، والواصل [418] إلى الغاية والنهاية كيف يكون في مدارج البداية؟ دع هذا كلَّه خلف قافٍ، وارجع بنا إلى ما هو شافٍ كافٍ، فإن الموافقة في العبارة على طريق الإلزام على الخصم من أبلغ الحجج وأوضح المناهج. وعن هذا قال {لما رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام: 87]، لاعتقاد القوم أن الشمس ملك الفلك، وهو ربُّ الأرباب الذين (1) يقتبسون منه الأنوار، ويقبلون منه الآثار، {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 78 - 79]» (2). ومما قاله البحَّاثون عن آثار بابل أنه يُعلَم منها أنهم كانوا يعترفون بوجود الله عزَّ وجلَّ، واسمه عندهم (إل)، وأن كلَّ ما سواه من روحانيِّين وكواكب وغيرها فهم خلقه وعبيده، ثم يؤلِّهون زُحَلًا (3) والمشتري والمرِّيخ والزهرة وعطارد. وعندهم أن لزُحَل صورة ثورٍ برأس إنسانٍ وجناحي طائرٍ، وللمرِّيخ صورة أسدٍ برأس إنسانٍ وجناحي طائرٍ، وهكذا، ثم يمثِّلون لها تماثيل بتلك الصور التي تخيَّلوها ويعبدون تلك التماثيل. [419] _________ (1) كذا في الأصل والطبعة التي نقل عنها المؤلِّف، وفي الملل والنحل - بتحقيق محمَّد سيِّد كيلاني - 2/ 53: (الذي). (2) الملل والنحل 2/ 146 - 151. [المؤلف] (3) كذا في الأصل.
(3/676)
انظر: تفسير الجواهر (1) لطنطاوي جوهري (2). وفيه أيضًا: أنهم كانوا يصفون المشتري بالربِّ العظيم، والملك، وملك الآلهة، والإله المجيد، والقاضي، والقديم، وقاضي الآلهة، وربِّ الحروب، وملك السماء، وربِّ الأبديَّة العظيم، وربِّ الكائنات، ورئيس الآلهة، وإله الآلهة، والمرِّيخَ بإله الحرب والصيد، الرجل العظيم، البطل القدير، ملك الحرب المهلك، جبَّار الآلهة، ومن صفاتهم للزهرة: ملكة الآلهة والإلهات، ولعطارد: ربُّ الأرباب الذي لا مثيل له. واستدلَّ صاحب التفسير المذكور بهذه الأوصاف المتناقضة ظاهرًا بأنهم كانوا يطلقون هذه الصفات على سبيل المبالغة في المدح. قال: «وقصارى الأمر وحُماداه (3) أن هؤلاء الصابئين كانوا أوَّلًا يعبدون الله تعالى، ولله ملائكةٌ موكَّلون بالكواكب، فالله هو المعبود، والملائكة يعملون بأمره، والكواكب كأنها أجسامٌ لتلك الأرواح، فعبادة الملك يتقرَّبون بها إلى الله عزَّ وجلَّ، والكوكب حجابه أو جسمه أو نحو ذلك، فهو رمزه, والتماثيل في الأرض مذكِّراتٌ بالكواكب إذا غابت عنهم. [420] إذًا العبادات في نظرهم كلُّها راجعاتٌ إلى الله تعالى، كما قال تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. فإذا عبدوا زُحَل أو المشتري فقد أرادوا بذلك أنهما ملكان، ثم اعتبروا الكواكب ثم _________ (1) 10/ 205 - 206. [المؤلف] (2) المصريّ، باحث له اشتغال بالتفسير والعلوم الحديثة، ولد سنة 1287 هـ، من كتبه: الجواهر في تفسير القرآن الكريم، توفي سنة 1358 هـ. معجم المفسرين 1/ 242. (3) سبق معناه ص 457.
(3/677)
التماثيل» (1). أقول: وما ذكره من أنَّ (إل) عندهم اسم الله عزَّ وجلَّ يبيِّنه ما جاء عن سلف الأمَّة أنَّ (إيل) اسم الله عزَّ وجلَّ بالسريانيَّة وهي لغة القوم. وجاء عن ابن عبَّاسٍ أن معناه: الرحمن (2)، وربَّما يشهد له ما جاء في القرآن حكايةً عن إبراهيم عليه السلام {يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم: 45]. وعلى ذلك سُمِّي يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام: إسرائيل، ورُوِي عن ابن عبَّاسٍ وغيره أن معنى إسرائيل: عبد الله (3)، وفي التوراة والإنجيل الموجودَيْن الآن التصريح بأنَّ (إيل) اسم الله تعالى (4). وقد اختلف أهل العلم في قول إبراهيم عليه السلام: {هَذَا رَبِّي}، فعامَّة الخلف يتأوَّلونه على نحو ما مرَّ عن الشهرستانيِّ، والمنقول عن السلف أنه على ظاهره، وقد ذكر ابن جريرٍ قول السلف ثم قال: «وأنكر قومٌ من غير أهل الرواية هذا القول الذي رُوِي عن ابن عبَّاسٍ وعمَّن رُوِي [421] عنه من أن إبراهيم عليه السلام قال للكوكب أو للقمر: {هَذَا رَبِّي}، وقال آخرون منهم: بل ذلك كان منه في حال طفولته وقبل قيام الحجَّة عليه، وتلك حالٌ لا يكون فيها كفرٌ ولا إيمانٌ، وقال آخرون ... , وفي خبر الله _________ (1) انظر: تفسير الجواهر لطنطاوي جوهري 10/ 208. (2) لعلَّه يعني ما أخرجه ابن أبي حاتمٍ (1/ 182، ح 963) ـ بسندٍ صحيحٍ ــ عن ابن عبَّاسٍ، قال: (إنما قول جبريل كقوله: عبد الله وعبد الرحمن). وانظر: زاد المسير 1/ 119، تفسير ابن كثيرٍ 1/ 190. (3) انظر: تفسير الطبريِّ 1/ 593. (4) انظر: المعجم العبري الإنكليزي للعهد القديم, د/وليم غزينيوس, ص 42.
(3/678)
تعالى عن قيل إبراهيم حين أفل القمر: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} الدليل على خطأ هذه الأقوال التي قالها هؤلاء القوم، وأن الصواب من القول في ذلك الإقرار بخبر الله تعالى الذي أخبر به عنه والإعراض عما عداه» (1). أقول: ومما يشكل على القول الأوَّل أنَّ كلَّ عاقلٍ يعلم منذ حداثته بوجود الكواكب والشمس والقمر، وأنها تطلع وتأفل، فكيف يغفل إبراهيم عليه السلام عن كون الكوكب الذي رآه تلك الليلة سيأفل، أو أن القمر سيظهر بعده، وأنه أعظم منه، وأنه سيأفل، وأن الشمس ستطلع بعدهما، وهي أكبر منهما، وأنها ستأفل؟ وقد يُجاب بما رواه ابن جريرٍ وغيره عن ابن إسحاق أن أمَّ إبراهيم وضعته في مغارةٍ لا يرى فيها السماء ولم تخرجه حتى كبر، فأخرجته ليلًا فرأى الكوكب وجرى ما جرى (2)، وعلى هذا فيقوى القول [422] بأنه كان حينئذٍ في عهد الطفولة، فيهون الأمر في حمل الكلام على ظاهره، مع أنه عليه السلام كان حينئذٍ ساعيًا في طلب الحقِّ محبًّا لإدراك الحقيقة، ليس في قلبه غيرُ ذلك. وعلى كلِّ حالٍ فالظاهر أنَّ نظره عليه السلام في الكواكب كان بعد إنكاره عبادة الأصنام ــ كما يدلُّ عليه الترتيب القرآنيُّ ــ، حيث ذكر إنكاره على أبيه عبادة الأصنام، ثم عقَّبه بقصَّة النظر في الكواكب، وكأن أباه كان _________ (1) 7/ 150 - 151. [المؤلف] (2) انظر: تفسير ابن أبي حاتمٍ 8/ 2777 - 2778، ح 15691. تفسير الطبريِّ 9/ 356 - 359.
(3/679)
اعتذر إليه بأنه إنما يعبد الأصنام لأجل الكواكب، فانتقل إلى النظر في الكواكب. والظاهر أن المراد بالربِّ في قوله: {هَذَا رَبِّي} المعبود، لا بمعنى الخالق القديم الواجب الوجود؛ فإنَّ القوم كما تقدَّم كانوا يعترفون بأن الله عزَّ وجلَّ هو الربُّ القديم الواجب الوجود، وإنما يشركون به غيره، ويشهد لهذا قوله تعالى حكاية عن إبراهيم: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77] , وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26 - 27]؛ [423] فالاستثناء في هاتين الآيتين يدلُّ على أن القوم كانوا يعبدون الله تعالى ويشركون به غيره؛ إذ الأصل في الاستثناء الاتصال. ثم رأيت في تفسير ابن جريرٍ ما لفظه: «حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، يقول: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ} الآية [يوسف: 106]، قال: ليس أحدٌ يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمنٌ بالله ويعرف أن الله خالقه ورازقه، وهو يشرك به، ألا ترى كيف قال إبراهيم: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77]، قد عرف أنهم يعبدون ربَّ العالمين مع ما يعبدون» (1). وقال تعالى حكايةً عن إبراهيم عليه السلام {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي _________ (1) تفسير ابن جريرٍ 13/ 45. [المؤلف]
(3/680)
بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 70 - 79]. قال ابن جريرٍ: «حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: قول قوم إبراهيم لإبراهيم: تركتَ عبادة هذه، فقال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} فقالوا: ما جئت بشيءٍ، ونحن نعبده ونتوجَّهه، فقال: لا. {حَنِيفًا}، قال: مخلصًا، لا أشركه كما تشركون» (1). ثم قال تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 80 - 82]. [424] كأنَّ محاجَّتهم له ــ والله أعلم ــ كانت بذكر الروحانيِّين، وكذا التخويف كان بهم، وهذا يدلُّ أنهم كانوا يزعمون للروحانيِّين قدرةً على النفع والضرِّ، وأنه يخشى أن يضروا مَن ينهى عن عبادتهم، وقد يجوز أن يكونوا لم يثبتوا للروحانيِّين إلا الشفاعة، أي سؤال الله تعالى أن ينفع أو أن يضرَّ، وسيأتي تحقيق المقام إن شاء الله تعالى في الكلام على عبادة الملائكة (2). _________ (1) تفسير ابن جريرٍ 7/ 151 - 152. (2) انظر ص 712 - 715.
(3/681)
فأما بلقيس وقومها فإنهم سبأ، وقد قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا [425] فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 12 - 23]. يؤخذ من ذكر قصَّة سبأ عقب قصَّة سليمان أن بينهم وبينه علاقةً، وكأن ذلك إشارة إلى قصَّة صاحبة العرش، فإنها ملِكتهم [426]، وقولهم: {رَبَّنَا
(3/682)
بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} يدلُّ على اعترافهم بالله تعالى، وتعقيبُ قصَّتهم بأمر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لمشركي العرب: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، أي: الملائكة ــ كما يدل عليه السياق، وقد تقدم بيانه (1) ــ يُشعرُ بأنَّ شرك سبأ كان مشابهًا لشرك قريشٍ، فيؤخذ من ذلك أنَّ سبأ كانوا يعبدون الشمس لأجل الملائكة، كما مرَّ في الصابئة، والله أعلم. وفي فهرست ابن النديم في ذكر ديانات الهند: «منهم أهل ملَّة الدينكيتيَّة، وهم عُبَّاد الشمس، قد اتَّخذوا لها صنمًا على عَجَلٍ، ويزعمون أن الشمس مَلَكٌ من الملائكة يستحقُّ العبادة والسجود، فهم يسجدون لهذا الصنم ... أهل ملَّة الجَنْدربَهكْتِيَّة، وهم عُبَّاد القمر، يقولون: إن القمر من الملائكة يستحقُّ التعظيم والعبادة، ومن سننهم أن اتَّخذوا له صنمًا على عجلٍ ... ولا يفطرون حتى يطلع القمر، ثم يأتون صنمه بالطعام والشراب واللبن، ويرغبون إليه وينظرون إلى القمر ويسألونه حوائجهم ... وفي نصف الشهر إذا فرغوا من الإفطار أخذوا في الرَّقص [427] واللعب والمعازف بين يدي القمر والصنم» (2). أقول: والوثنيُّون في الهند إلى الآن إذا طلعت الشمس استقبلوها وحنوا رؤوسهم إليها وطبَّقوا أيديهم ووضعوها على جباههم وهي تحيَّة يُحَيُّون بها ملوكَهم وأكابرَهم، والعوامُّ من المسلمين في الهند يحيُّون بها أو بنحوها _________ (1) انظر ص 525 - 527. (2) الفهرست لابن النديم 488 - 489.
(3/683)
قبورَ صالحيهم، ومن المسلمين مَن يعملها عَقِب كلِّ صلاةٍ يفرغ منها، فينحرف عن القبلة ويستقبل بغداد لموضع قبر الشيخ عبد القادر الجيلانيِّ، أو يستقبل أجمير (1) لموضع قبر الشيخ معين الدين الجشتيِّ (2)، ويمكث ساعةً رافعًا يديه يدعو ثم ينحني ويذهب، ومنهم مَن يشير بتلك الإشارة على معنى التحيَّة، وأهل العلم لا يصنعون ذلك ولا ينكرونه، والله المستعان. * * * * _________ (1) مدينة تقع في شمال غربي الهند في ولاية راجستهان. (2) واسمه محمد بن حسن, ولد في سيستان عام 537 هـ, عاش في أماكن متفرقة من خراسان, ثم توجَّه إلى بغداد وتعرّف على السهروردي المقتول وغيره من الصوفية, ثم انتقل إلى دلهي عام 589 هـ غير أنه ما لبث أن توجَّه إلى أجمير, وتوفي هناك سنة 633 هـ. انظر: دائرة المعارف الإسلامية, إعداد المستشرقين 2/ 862.
(3/684)
عبادة أشخاصٍ لا وجود لها أما قوم هودٍ، فقوله تعالى حكاية عن هودٍ عليه السلام: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [الأعراف: 71] يدلُّ أنهم كانوا يعبدون أشخاصًا لا وجود لها؛ لما سلف في تفسير آيات النجم (1). وقال تعالى حكايةً عنهم: [428] {قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [هود: 53 - 54]. وهذا يدلُّ أنهم كانوا يعتقدون في آلهتهم نوعًا من القدرة على النفع والضرِّ، وكأنه على معنى أنهم ــ أي: الآلهة ــ يسألون الله تعالى أن ينفع أو يضرَّ، فقد قال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت: 13 - 14]. فقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} ظاهرٌ في أنهم كانوا يعبدون الله تعالى، ولكنهم يشركون به، وابتداء الرسل بهذا يدل على أن المرسَل إليهم لم يكونوا يجحدون وجود الله عزَّ وجلَّ، بل قول المرسَل إليهم: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} صريحٌ في أنهم كانوا يعترفون بأن الله عزَّ وجلَّ ربُّهم، ويعترفون بوجود الملائكة عليهم السلام. _________ (1) هذا من القدر الذي لم أعثر عليه من الكتاب. وانظر ما سلف ص 482.
(3/685)
وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ في سورة الأحقاف خبر عادٍ، ثم قال: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ [429] الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} [الأحقاف: 27 - 28]. وذكر المفسِّرون أن المراد بما حولهم عادٌ وثمود وغيرهم، وهو ظاهرٌ. وقال الراغب: «وقوله: {قُرْبَانًا آلِهَةً} فمن قولهم: قربان الملِك: لمن يُتقرَّب بخدمته إلى الملِك، ويُستعمَل ذلك للواحد والجمع» (1) , أي: لأنه في الأصل مصدرٌ. أقول: وقولهم: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} (2) قد يؤخذ منه أنهم كانوا يعبدون الملائكة، ولكن كانوا ينعتونهم بصفاتٍ كاذبةٍ، فلذلك قضى عليهم أنهم كانوا يعبدون أشخاصًا لا وجود لها، ويؤخذ من قوله تعالى: {اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا} أنَّهم كانوا يقولون: ما نعبدهم إلا ليقرِّبونا إلى الله زلفى، وأنَّ قولهم: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54] أرادوا به أنَّ الآلهة تسأل الله تعالى أن يصيبك بسوءٍ، والله أعلم. وقد ورد في التواريخ أنه كان للقوم أصنامٌ، فإن ثبت فإنها كانت تماثيل للأشخاص التي تخيَّلوها وزعموا أنها الملائكة، والله أعلم. _________ (1) مفردات ألفاظ القرآن 664. (2) في الأصل: «لو شاء الله لأنزل ملائكةً»، وليست هي التي مضت في حكاية قول عادٍ وثمود.
(3/686)
المصريُّون أما في عهد إبراهيم عليه السلام ففي حديث الصحيحين في ذكر [430] الجبَّار الذي أراد اغتصاب سارة زوجة إبراهيم عليه السلام: «فلما أُدخِلت عليه ذهب يتناولها بيده، فأُخِذ، فقال: ادعي الله لي ولا أضرُّكِ، فدعت الله فأُطلِق، ثم تناولها الثانية، فأُخِذ مثلها أو أشدَّ، فقال: ادعي الله لي ولا أضرُّكِ، فدعت الله فأُطلِق» (1). وقد قال ابن هشامٍ والسهيليُّ: «إن هذا الجبَّار كان ملك مصر» (2). وقد يشهد لذلك أن هاجر التي أعطاها لسارة من القبط، وفي التوراة الموجودة الآن بأيدي أهل الكتاب: «وحدث جوعٌ في الأرض فانحدر أبرام (إبراهيم) إلى مصر ... وحدث لما قرب أن يدخل مصر أنه قال لساراي امرأته: إني قد علمت أنك امرأةٌ حَسَنة المنظر فيكون إذا رآك المصريُّون أنهم يقولون: هذه امرأته فيقتلونني ويستَبْقُونكِ، قولي: إنكِ أختي ... فحدث لما دخل أبرام إلى مصر أن المصريِّين رأوا المرأة أنها حسنةٌ جدًّا، ورآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فرعون، فأُخِذت إلى بيت فرعون ... فضرب الربُّ فرعونَ ضرباتٍ عظيمةً بسبب ساراي امرأة أبرام» (3). _________ (1) صحيح البخاريِّ، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} ... ، 4/ 141، ح 3358. وبمعناه في صحيح مسلمٍ، كتاب الفضائل، بابٌ من فضائل إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم -، 7/ 98 - 99، ح 2371، وزاد ذكر مرَّةٍ ثالثةٍ. [المؤلف] (2) انظر: الروض الأنف بهامش سيرة ابن هشامٍ 1/ 16. (3) سفر التكوين، إصحاح 12. [المؤلف]
(3/687)
[431] فقول الجبَّار لسارة: «ادعي الله لي»، صريحٌ في أنه يعترف بربوبيَّة الله عزَّ وجلَّ. المصريُّون في عهد يوسف عليه السلام قال تعالى حكايةً عن عزيز مصر: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف: 29]، المتبادر أنه أراد: استغفري الله عزَّ وجلَّ. وقال تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 30 - 31]، فالنساء اللاتي تدعوهنَّ امرأة العزيز، لا بدَّ أن يكنَّ من نساء عظماء مصر، وقولهنَّ: {حَاشَ لِلَّهِ} الآية، صريحٌ في اعترافهنَّ بربوبيَّة الله عزَّ وجلَّ ووجود الملائكة. وقال تعالى حكايةً عن النسوة: {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي [432] إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 51 - 53]. فقولهنَّ: {حَاشَ لِلَّهِ} صريحٌ في اعترافهنَّ بالله عزَّ وجلَّ ــ كما سبق ــ، وقد قال بعض المفسِّرين: «إن قول {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ} إلخ، من كلام امرأة
(3/688)
العزيز» (1)، وعليه ففيه الدلالة على معرفتها بربوبيَّة الله عزَّ وجلَّ، ولكن الصحيح أنه من كلام يوسف عليه السلام (2). وفي التوراة التي بيد أهل الكتاب الآن ذكر قصَّة رؤيا الملِك وتعبير يوسف إيَّاها له، ثم قال: «فحسن الكلام في عيني فرعون وفي عيون جميع عبيده، فقال فرعون لعبيده: هل نجد مثل هذا رجلًا فيه روح الله، وقال ليوسف: بعد ما أعلمك الله كلَّ هذا ليس بصيرٌ وحكيمٌ مثلك» (3). فيُعلَم مما تقدَّم ومِن قوله تعالى حكايةً عن يوسف: {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف: 39 - 40] أن القوم كانوا يعترفون بربوبيَّة الله عزَّ وجلَّ ويعبدونه، ولكنهم يعبدون معه أشخاصًا لا وجود لها، والظاهر أنهم كانوا يزعمون أنهم يعبدون الملائكة، ولكن ينعتونهم بنعوتٍ لا وجود لها. وقبل الكلام على المصريِّين في عهد فرعون ننقل ما قاله البحَّاثون في الآثار المصريَّة. قال طنطاوي الجوهريُّ في تفسيره في ذكر ديانات المصريِّين القدماء: _________ (1) انظر: زاد المسير 4/ 238 - 240. (2) لشيخ الإسلام ابن تيمية رأي آخر. انظر: الفتاوى الكبرى 5/ 249، ومنهاج السنة 2/ 412. (3) التكوين، الإصحاح 41، فقرة 27. [المؤلف]
(3/689)
«إنهم يقولون: الخالق الحقُّ (1) للسموات والأرض لم يخلقه أحدٌ، [433] الواجب الوجود لنفسه، الكائن منذ الأزل، الروح الطاهر الكامل في جميع أوصافه، الكُلِّي الحكمة والقداسة، وهذا الإله لم يصنعوا له رسمًا ولم يكن له اسمٌ عندهم، ولا يبيحون التلفُّظ باسمه، ويقولون: إن كلَّ ما سواه من الآلهة ليس إلا صفةً له أو قسمًا من الطبيعة التي خلقها، وكانوا يقولون: إن العبادة للآلهة الصغيرة هي لله تعالى، أي: ما نعبدهم إلا ليقرِّبونا إلى الله زلفى، وإذا كان الله لا يجوز التلفُّظ باسمه فوجب أن تُقَدَّم العبادة للآلهة الصغيرة؛ لأن الله أكبر من أن نعبده نحن .... ولما كانت الآلهة الصغيرة المعروفة عند العامَّة ليست مقصودةً لذاتها، بل هي رمزٌ لخالقها, أجازوا أن يُسمَّى الواحد من هذه الآلهة باسم الآخر؛ لأنها مرجعُها كلِّها إلى الإله الأوَّل» (2). وقال في موضعٍ آخر نقلًا عن مجلَّة الشبَّان المسلمين: «قال المؤرِّخ شمبليون فيجياك: قد استنبطنا من جميع ما هو مدوَّنٌ على الآثار صحَّة ما قاله المؤرِّخ جامبليك وغيره من أن المصريِّين كانوا أمَّةً موحِّدةً لا تعبد إلا الله ولا تشرك به شيئًا غير أنهم [434] أظهروا صفاته العليَّة إلى العِيان مشخَّصةً في بعض المحسوسات» (3). _________ (1) في الأصل: (للخلق) , والتصويب من تفسير الجواهر 10/ 209، طبعة الحلبي، الطبعة الثانية. (2) تفسير الجوهريِّ 10/ 201. (3) راجع: كتاب الأثر الجليل لقدماء وادي النيل؛ لأحمد بك نجيب، ص 123. [المؤلف]
(3/690)
وقال العلَّامة مسبرو: «مَن تأمَّل في الآثار الباقية إلى الآن بالديار المصريَّة واللوحات الدينيَّة المنقوشة بالهياكل وما على الورق البرديِّ هالتْه كثرة هذه الآلهة المصوَّرة عليها ... كانوا يقولون: إنه الله عزَّ وجلَّ ... إلهٌ واحدٌ لا شريك له ... ثم عدَّدوا صفاته العليَّة وميَّزوها بالأسماء واشتقُّوا منها نعوتًا شخَّصوها في المحسوسات وكلِّ شيءٍ نافعٍ، وكلُّها ترجع إليه، ولأجل التمييز جعلوا لكلِّ اسمٍ تمثالًا ... » (1). وفي جريدة البلاغ، تاريخ 4 رجب سنة 1353، مقالةٌ من قلم أحمد يوسف بالمتحف المصريِّ، تحت عنوان «الدين في عقيدة قدماء المصريين»، جاء فيها ما لفظه: « ... وهم وإن كانوا قد اتَّخذوا آلهةً لكلِّ قوَّةٍ من القوى الحيويَّة، إلا أنهم كانوا يجمعون في كلِّ ذلك فكرةً في إلهٍ واحدٍ هو الإله الأكبر، فكانوا مرَّةً يجعلونه [435] «رع» في عقيدة القسم الأدنى ــ الوجه البحريِّ ــ، ومرَّةً «أمون» في عقيدة القسم الأعلى ــ الوجه القِبليِّ ــ، ومرَّةً يوفِّقون بين العقيدتين فيجمعون الإلهين معًا تحت اسم واحدٍ: «أمون ــ رع»، ومن ذلك العبارة المشهورة التي كانت مبدأً من مبادئ الأسرة الثانية عشر (2)، حوالي سنة (2000) قبل الميلاد، وهي: اعمل ما يرضي الله وما يحبِّب فيك الناس، والعبارة الأخرى التي وردت في نصائح الحكيم آنى لابنه خنس حتب من الأسرة الثانية والعشرين، نحو سنة (940) قبل الميلاد، والأثر موجودٌ بالمتحف المصريِّ، تحت رقم (2505)، وفيها يقول: بيت الله يدنِّسه الصَّخَب، ادعُ بقلبٍ ودودٍ ربَّك ذا الكلمات الخفيَّة _________ (1) 11/ 67 - 68. [المؤلف] (2) كذا.
(3/691)
ينجزْ ما تطلبُ ويسمعْ ما تقولُ ويَقبلْ ما تُقرِّبُ. وهناك أدلَّةٌ أخرى كثيرةٌ في هذا الموضوع، لعلَّنا نحسن في اختيارنا منها نشيدًا جليل الشأن وُضِع للإله «أمون ــ رع» الذي ذكرناه، وهو محفوظٌ بالمتحف المصريِّ تحت رقم (2505 B)، في ورقة برديَّةٍ من الأسرة الثامنة عشرة، قبل عصر الملك أخناتون الذي نادى بتوحيد العبادات، والذي سنتكلم عنه في مقالنا القادم [436] إن شاء الله تعالى، ونقتطف من هذا النشيد ما نصُّه بالحرف: «سلامٌ عليك يا مَن يسمع دعوة الملهوف، أنت الرحيم بمَن يدعوك، يا مغيث المستضعَف مِن المتجبِّر، يا مَن يحكم بين الضعيف والقويِّ، أنت الواحد الأحد، بارئ كلِّ ما كان، أنت الذي أنسل من ناظريه بني الإنسان، الذي أوجد الآلهة بكلمةٍ منه، الذي خلق العشب غذاءً للماشية، وشجرة الحياة لبني الإنسان، الذي يَعُول أسماك النهر وطيور السماء، ومدبِّر الهواء لما هو في البيضة، مغذِّي الحيَّة ومطعم البعوضة وكلِّ زاحفٍ وطائرٍ، كذلك تنحني الآلهة لجلالك ممجِّدةً مشيئة خالقها مهلِّلةً عند دنوِّها من بارئها، قائلةً لك: مرحى يا أبا آباء جميع الآلهة، ناشر السماء وباسط الأرض، صانع ما هو كائنٌ وخالق الكائنات، يا مليكًا رئيس الآلهة، نحن نقدِّس مشيئتك؛ لأنك أنت الذي خلقتنا، نحن نباركك؛ لأنك صوَّرتنا، نحن نسبِّح بحمدك؛ لأنك أنت الذي عُنِيت بأمرنا ... ». أقول (1): يُعلم مما نقلناه عن البلاغ أنَّ القوم وإن كانوا يعترفون بربوبيَّة الله تعالى، إلا أنهم كانوا يشركون به أشخاصًا غيبيِّين [437] يعترفون بأنهم من خلقه, وقد دلَّ القرآن على أن أولئك الأشخاص لا وجود لهم, والظاهر ما _________ (1) القائل هو المعلِّميّ.
(3/692)
قدَّمناه أنهم كانوا يزعمون أنهم الملائكة، ولكنهم ينعتونهم بنعوتٍ لا تنطبق على الملائكة، وأما ما قاله أولئك المؤرِّخون أنهم إنما كانوا يعبدون الله عزَّ وجلَّ ولكنهم يعدِّدون صفاته فيعبدونه بعنوان كونه مجري الشمس مثلًا ونحو ذلك؛ فهذا تخرُّصٌ قد يكون تأويلًا لبعض حكمائهم، والحقُّ ما قدَّمناه أنهم كانوا يعبدون الملائكة، ثم يعبدون المحسوسات على أنها رموزٌ للملائكة. وأما قول الشيخ طنطاوي: إن القوم لم يكونوا يعبدون الله تعالى ولا يذكرون اسمه, فهذا لا ينطبق على حالهم في عهد إبراهيم عليه السلام، ثم في عهد يوسف؛ فقد دلَّ القرآن والسنَّة كما ــ سلف ــ على أنهم كانوا يعبدونه ويسمُّونه, وكذا ما مرَّ عن البلاغ يدلُّ على ذلك، إلا أنه يُحتمَل أنهم فعلوا ذلك بعد يوسف عليه السلام، ويؤيِّد هذا ما يأتي في حالهم في عهد موسى عليه السلام. [438] المصريُّون في عهد موسى عليه السلام قال الله تبارك وتعالى في فرعون: {فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 21 - 24]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص: 38]. وقال سبحانه: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ
(3/693)
فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ [439] إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 16 - 29]. فَهِم كثير من الناس من هذه الآيات أن فرعون ادَّعى أنه ربُّ العالم، وهذا غلطٌ حتمًا؛ فإن قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}، وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} إنما خاطب به قومه، وقوله: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} خطابٌ لموسى، وهو يراه من رعيَّته، ولم يُرِد بقوله: {رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} أنه قديمٌ واجب الوجود. وقال الشهرستانيُّ في الملل والنحل: «ويشبه أن يكون دعوى اللعينَيْن نمروذ وفرعون أنهما إلهان أرضيَّان كالآلهة السماويَّة الروحانيَّة، دعوى الإلهيَّة من حيث الأمر ــ يريد استحقاق العبادة ــ لا من حيث الفعل والخلق، وإلَّا ففي زمان كلِّ واحدٍ منهما مَن هو أكبر سنًّا منه وأقدمُ في الوجود عليه» (1). ولم يجئ في كلام فرعون ما يدلُّ على زعمه أنه يعلم الغيب, أو يخلق أو يرزق, أو يحيي أو يميت, أو له قدرةٌ غير عاديَّةٍ, فضلًا عن أن يدَّعِي أنه _________ (1) 2/ 130. [المؤلف]
(3/694)
واجب الوجود، بل في كلامه الاعتراف بخلاف ذلك, وفي كلام قومه معه ما هو ظاهرٌ في أنهم لم يكونوا يزعمون له شيئًا من ذلك، قال الله تعالى حكايةً عنه: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ [440] بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء: 34 - 56]. [441] ولو كان يدَّعي القدرة لما استأمر قومَه، ولما قال له قومُه: «ابعث في المدائن حاشرين» إلخ، بل كانوا يقولون: «أنت القادر، أَبْطِلْ سحره، أو: «أَلْهِم السحرة أن يجتمعوا»، أو نحو ذلك. وكذا أمره لهامان أن يبني له الصرح صريحٌ في اعترافه بالعجز، وقوله للسحرة: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} مع أنه هو الذي طلبهم ووعدهم صريحٌ في اعترافه بأنه لا يعلم الغيب, وأمثال ذلك كثيرةٌ فلا نطيل بها.
(3/695)
وقال عزَّ وجلَّ: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف: 51 - 53]. يمكن أن يكون قوله: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} بيانًا لقوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} إذا كانت القصَّة واحدةً، وعلى كلِّ حالٍ فهذه الآية تدلُّ أنه لم يدَّع مُلْك العالم فضلًا عن ربوبيَّته العظمى، وأنه لم يدَّع ربوبيَّةً في مصر أكثر من كونه مَلِكَها، وعلى هذا فيمكن أن يكون أراد بـ (ربُّكم): مَلِكَكم، أو المُلْك مع الألوهيَّة [442] , على ما يأتي. وقال البيضاويُّ في تفسير قوله تعالى: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}: «أي: أعلى كلِّ (1) مَن يَلِي أمرَكم». قال الشيخ زاده في حواشيه: «يريد أنه لم يرد بقوله: {أَنَا رَبُّكُمُ} أنا خالق السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما؛ فإن العلم بفساد ذلك ضروريٌّ، ومَن شكَّ فيه وجوَّزه كان مجنونًا، والمجنون لا يُبعَث إليه رسولٌ يدعوه إلى الحقِّ، بل الرجل كان دهريًّا منكرًا للصانع والحشر والجزاء، وكان يقول: ليس للعالم إلهٌ، حتى يكون له عليكم أمرٌ أو نهيٌ، أو يبعث إليكم رسولًا، ولا يحتاج الخلق إلَّا إلى مَن يلي أمرهم، ويحكم بينهم على أمرٍ ينتظم به معاشُهم ومعادُهم، ولا يجري بينهم البغي والاعتساف، وذلك الذي يلي أمركم أنا لا غيري». _________ (1) في تفسير البيضاوي على حاشية الشهاب الخفاجي 8/ 316: على كلِّ.
(3/696)
كذا قال: «ومعادُهم»، ولم يُرِد به البعثَ بعد الموت؛ لقوله: «إن الرجل كان ينكره». أقول: حاصل كلامهم (1) أن فرعون أراد بقوله: {رَبُّكُمُ} أي: مَلِكُكم، وهو معنىً معروفٌ في اللغة، وقد كان المصريُّون يستعملون كثيرًا كلمتهم التي ترجمها القرآن بلفظ (ربّ) في المَلِك، جاء في قصَّة يوسف قوله: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} [يوسف: 41]، وقوله: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42]، وقوله للرسول: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ} [يوسف: 50] والربُّ في هذه المواضع كلِّها بمعنى المَلِك، أي مَلِك مصر. وأما قوله: «إن فرعون كان دهريًّا ينكر الصانع» فيه نظرٌ (2). فأما اعتقاده في نفسه؛ فقد قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا [443] رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 101 - 102]. وهذا نصٌّ أن فرعون كان يعلم ربوبيَّة الله تعالى وأنه أنزل تلك الآيات بصائر، وهكذا كان قومه، قال تعالى لموسى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ _________ (1) في الأصل: (كلهم)، وهو سبق قلمٍ. (2) كذا في الأصل، والمؤلِّف قد أضاف (أمَّا) في أوَّل الجملة مؤخَّرًا، ولعلَّه نسي أن يضيف الفاء فيقول: (ففيه نظرٌ).
(3/697)
بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 12 - 14]. أخرج ابن جريرٍ عن ابن عبَّاسٍ: {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} قال: يقينهم في قلوبهم. ثم قال: حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قول الله: {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}، قال: استيقنوا أن الآيات من الله حقٌّ، فَلِمَ جحدوا بها؟ قال: {ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (1). وأما ما كانوا يُظهرونه، ففي قول فرعون: {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف: 53] ما يظهر منه أنه كان يعترف بوجود الملائكة. وقال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ [444] وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا _________ (1) تفسير ابن جريرٍ 19/ 79.
(3/698)
هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) [445] وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 28 - 44]. أخبر الله تعالى عن هذا المؤمن أنه متَّصفٌ حينئذٍ بكتمان إيمانه، فعُلِم من ذلك أنه إنما حاجَّهم بأمورٍ كانوا يسلِّمونها ويعترفون بها، وإنما صرَّح بإيمانه فيما بعدُ، حيث قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ} الآيات. ولهذا ــ والله أعلم ــ لم يذكر هنا كتمان الإيمان كما ذكر أوَّلًا. فإذا ثبت هذا عُلِم أن القوم كانوا يعترفون بوجود الله عزَّ وجلَّ [446] وربوبيَّته، وأنه لا ناصر من بأسه، ويؤكِّد ذلك قوله: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ
(3/699)
اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا}. والظاهر من هذه الآيات أن فرعون وقومه كانوا لا يزالون على ما كان عليه سلفُهم من الاعتراف بربوبيَّة الله تعالى وإشراك الملائكة، وهذا هو الذي يَقرُب في القياس ومجاري العادات، ولكن قد قدَّمنا أن القوم بعد يوسف بالغوا في تعظيم الله تعالى في زعمهم إلى حدِّ أن قالوا: لا ينبغي للناس أن يجترئوا بعبادته عزَّ وجلَّ مباشرةً، ولا يذكروا اسمه، وإنما عليهم أن يعبدوا الملائكة فحسب، ثم الملائكة هم الذين يَصلُحون لعبادة الله عزَّ وجلَّ. ولهذا ــ والله أعلم ــ كان أكثر ما جاء في محاورة موسى لهم ذكر الله تعالى بعنوان: (ربّ) , نحو: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 104، الزخرف: 46] , {رَبَّكَ} [الأعراف: 150] (1) , {رَبِّكُمْ} [إبراهيم: 6] (2) , كأنه عليه السلام لم يُرِد أن يجاهرهم بالخلاف في هذه المسألة الجزئيَّة ــ وهي ذكر الله عزَّ وجلَّ باسمه العَلَم ــ، فكأنَّ فرعون بنى على زعم مَن قَبله؛ فقال: كما أنه ليس للناس أن يعبدوا الله عزَّ وجلَّ مباشرةً، كذلك لا ينبغي لعامَّة الناس أن يعبدوا الملائكة؛ لأن الملائكة أعظم من أن تعبدهم العامَّة، وإنما على العامَّة أن ينظروا مَن كان من الناس [447] أقرب إلى الملائكة فيعبدوه، وهو يعبد الملائكة، والملائكة يعبدون الله عزَّ وجلَّ، ثم ادَّعى أن أقرب الناس إلى الملائكة هم الملوك، ولهذا قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 51 - 52]. _________ (1) سورة البقرة: 61, وسورة الأعراف: 134. (2) وسورة طه: 49, 86, وسورة غافر: 27.
(3/700)
فزعم أن كمال خلقه والبسط له في الدنيا حتى صار ملِكًا دليلٌ على أنه مرضيٌّ عند الله عزَّ وجلَّ وعند الملائكة، وأنه أقرب إلى ذلك من رعيَّته؛ إذ لو لم يكن ذلك (1) ما جعلتهم الآلهة رعيَّةً له نافذًا فيهم حكمه. وقوله: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا} إلخ، يريد أن الله عزَّ وجلَّ كمَّلني وملَّكني ونقص موسى ولم يملِّكْه، فهذا دليلٌ أني عند الله عزَّ وجلَّ وملائكته خيرٌ من موسى وأرضى منه، فلو أراد الله تعالى أن يرسل رسولًا من البشر أو يوحي إلى أحدٍ منهم لكنتُ أنا أقرب وأولى بذلك من موسى. ثم قال: {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف: 53]، يريد أن الرسالة أمرٌ عظيمٌ، فلو أراد الله تعالى أن يرسل موسى [448] لفعل به مثل هذه الأمور العظيمة. كأن فرعون كان يزعم أن الرسالة أعظم من الألوهيَّة، فإن الألوهيَّة عنده إنما هي أن يعمِد الناس إلى مَن دلَّت القرائن على أنه مرضيٌّ عند الله تعالى، فيعظِّموه تعظيمًا للملائكة، وأما الرسالة فإنها أعظم من ذلك، فإنها تستدعي أوَّلًا رؤية الرسول للمرسِل وسماعَ كلامه. ولهذا ــ والله أعلم ــ قال لموسى أوَّلًا: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23]، يريد أن الرسول لا بدَّ أن يعرف ذات مَن أرسله، فلما عدل موسى إلى قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 24]، قال فرعون {لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 25]، أي: إني أنا أسأله عن الذات _________ (1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: كذلك.
(3/701)
فيجيبني بالصفة التي يعرفها كلُّ أحد، وقال أخيرًا: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27]، أي: لأنه يجيب بغير ما يُسأل عنه, ويزعم أنه رسولٌ من ربِّ العالمين، وهو بشرٌ مستضعَفٌ ولا يعرف أن الإرسال يتوقَّف على رؤية الرسول لمن أرسله ومواجهته له ومعرفته به. وهكذا قول فرعون: {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا}، يريد ــ والله أعلم ــ كما قاله البيضاويُّ: «أن يُرِيَ فسادَ قول موسى بأن إخباره عن إله السماء متوقِّفٌ على اطِّلاعه، ووصولُه إليه لا يتأتَّى إلا بالصعود إلى السماء، وهو مما لا يَقْوَى عليه الإنسان ... ». قال الشيخ زاده في حواشيه: «يعني أن فرعون لم يقصد أن يبني له هامان بناءً رفيعًا يصعد منه إلى السماء؛ لأن فرعون ليس من المجانين الذين لا يعلمون امتناع ذلك ببداهته، وإلَّا لما صحَّ من الله تعالى أن يرسل إليه رسولًا ويكلِّفه الإيمان به والامتثال لأمره» (1). [449] أقول: وحاصله: أنه لم يُرِد بناء الصرح، وإنما أراد أن يُفْهِمَ الناسَ ما يزعمه من كذب موسى عليه السلام، فكأنه قال: كلُّكم يعلم أنني وأنا الملك لا أستطيع أن أصل إلى السماء، وأني لو بنيتُ بناءً كأعلى الأبنية لم أصل إلى السماء ولم أقارب، أفلا تعجبون من موسى يدَّعي أنه رسول الله؟ ! والرسول لا بدَّ أن يكون قد وصل إلى مرسِله، ولا يشكُّ عاقل في أن موسى لم يصلْ إلى الله تعالى. _________ (1) الشيخ زاده 3/ 234. [المؤلف]
(3/702)
فأما احتجاجه بالنعم الدنيويَّة على رِضَى الله تعالى فشِنْشِنَةٌ (1) لأهل الجهل معروفةٌ، قال تعالى في شأن قريشٍ: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]. وقال تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان: 7 - 8]. وقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ [450] مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 32 - 36]. وقال تعالى: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت: 49 - 50]. وقال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر: 15 - 16]. _________ (1) الشِّنْشِنَة: العادة الغالبة. المعجم الوسيط 496.
(3/703)
وقد يخطر شيءٌ من هذا لخيار الناس، ففي الصحيحين عن عمر رضي الله عنه [451] قال: ... فدخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا هو مضطجعٌ على رمال حصيرٍ ليس بينه وبينه فراشٌ، قد أثَّر الرمال بجنبه متَّكئًا على وسادةٍ من أدمٍ حشوها ليفٌ، فرفعت بصري في بيته، فوالله ما رأيتُ في بيته شيئًا يردُّ البصر غير آهبةٍ (1) ثلاثةٍ، فقلت: يا رسول الله: ادع الله فليوسِّع على أمَّتك؛ فإن فارس والروم قد وُسِّع عليهم وأُعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله، فجلس النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ــ وكان متَّكئًا ــ، فقال: «أو في هذا أنت يا ابن الخطَّاب؟ إن أولئك قومٌ عُجِّلوا طيِّباتهم في الحياة الدنيا»، فقلت: يا رسول الله استغفر لي ... (2). وفي روايةٍ: فدخلت على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وهو مضطجعٌ على حصيرٍ، فجلستُ، فأدنى عليه إزاره، وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثَّر في جنبه، فنظرتُ ببصري في خزانة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فإذا أنا بقبضةٍ من شعيرٍ نحو الصاع، ومثلها قَرَظًا (3) في ناحية _________ (1) كذا ضبطه المؤلِّف، وهو في ذلك موافق لرواية الأصيلي التي حكم عليها ابن حجر في هدي الساري (ص 82) بأنها وهمٌ، وهو جمع قلة لإهاب، وجمع الكثرة أُهُب، والإهاب: الجلد. انظر: تاج العروس 2/ 40. وفي فتح الباري ــ طبعة بولاق الأولى ــ 9/ 252: (بفتح الهمزة والهاء وبضمِّهما أيضًا، بمعنى الأُهُب. والهاء فيه للمبالغة). (2) صحيح البخاريِّ، كتاب النكاح، باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها، 7/ 29 - 30، ح 5191. وصحيح مسلمٍ، كتاب الطلاق، بابٌ في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهنَّ ... ، 4/ 192 - 194، ح 1479 (34). [المؤلف] (3) بفتح القاف والراء، وهو صمغ السَّمُر. مشارق الأنوار 2/ 178 - 179.
(3/704)
الغرفة، وإذا أَفِيقٌ (1) معلَّقٌ، قال: فابتدرتْ عيناي، قال: ما يبكيك يا ابن الخطَّاب؟ قلت: يا نبي الله، وما لي لا أبكي، وهذا الحصير قد أثَّر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى, وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنت رسول الله وصفوته، وهذه خزانتك؟ فقال: «يا ابن الخطَّاب، ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ » قلت: بلى (2). ويُروى أن معاوية حاور الحسين بن عليٍّ عليهما السلام في شأن يزيد، فقال (3): إن أباه حاكم أباك إلى الله عزَّ وجلَّ، فحكم لأبيه على أبيك. وقال الشاعر ــ أظنُّه كُثيِّرًا ــ: وإني لذو حظٍّ لئن عاد وصلُها ... وإني على ربِّي إذًا لكريم (4) وهكذا زعمُ المشركين أن الرسالة أعظم من الألوهيَّة أمرٌ معروفٌ، ولذلك يؤلِّهون الجمادات، ويستبعدون أن يكون الرسول إلَّا من الملائكة, وقد مضى طرفٌ من هذا في شأن قوم نوحٍ (5). وأما ما قدَّمناه من أن فرعون شرع لقومه أنهم يعبدونه وهو يعبد الملائكة، فالبرهان عليه قول الله عزَّ وجلَّ: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ [452] مُوسَى _________ (1) بفتح الهمزة وكسر الفاء، وهو الجلد الذي لم يتمَّ دباغه. انظر: شرح النوويِّ على صحيح مسلمٍ 10/ 83. (2) صحيح مسلمٍ، الموضع السابق، 4/ 189، ح 1479. [المؤلف] (3) أي معاوية رضي الله عنه، وقوله: أباه، هو معاوية نفسه. (4) البيت في ديوان كثيِّر عزَّة 128، وفيه: «وإني لذو وَجْدٍ»، بدل: «وإني لذو حَظٍّ». وكذا هو في الأغاني 12/ 223، ومنتهى الطلب من أشعار العرب 4/ 126. (5) انظر ص 443 - 444. وانظر ص 636.
(3/705)
وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127]. نصَّت الآية على أنه كان له آلهةٌ، وأما هم فقد قال لهم: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، وقراءة مَن قرأ: (وإلاهتك) (1) ــ إن صحَّت ــ لا تدفع ما تقدَّم، بل هو معنىً آخر لا يدفع معنى القراءة المجمع عليها، ومَن زعم أن المراد بآلهته أصنامٌ على صورته كان أَمر قومَه بعبادتها، فقد أبعد؛ لأنها لا تكون آلهته، بل تكون آلهةً لقومه، وذلك مخالفٌ لقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}. فقولهم: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} من باب الترقِّي، أي: يذر أن يعبدك، بل ويذر أن يعبد معبوداتك، ويترقَّى إلى عبادة معبود معبوداتك، فهو يترفَّع أن يعبدك، بل ويترفَّع (2) أن يساويك، ولا يقنع إلا بمساواة آلهتك. والحاصل: أن فرعون أقام نفسه مقام الأصنام ــ كما مرَّ عن الملل والنحل (3) ــ، فكما أن أهل الأصنام يعبدونها تقرُّبًا إلى الملائكة بدون أن يثبتوا لها قدرةً تنافي كونها جمادًا، فكذا فرعون شرع لقومه أن يعبدوه تقرُّبًا إلى الملائكة بدون أن يثبت لنفسه أو يثبتوا له قدرةً تزيد على كونه إنسانًا. وفي فهرست ابن النديم عند ذكر ديانات أهل الهند: «ومنهم أهل ملَّةٍ يُقال لها: الراجمرتيَّة، وهم شيعة الملوك، ومن سننهم في دينهم [453] _________ (1) انظر: البحر المحيط 4/ 367. (2) في الأصل: (يترفك)، وهو سبق قلمٍ. (3) انظر ص 694.
(3/706)
معونة الملوك، قالوا: الله الخالق تبارك وتعالى ملَّكهم، وإن قُتِلنا في طاعتهم مضينا إلى الجنَّة» (1). وفيها في مذاهب أهل الصين، قال: «وعامَّتهم يعبدون الملِك، ويعظِّمون صورته، ولها بيتٌ عظيمٌ في مدينة بغران» (2). أقول: قد اشتهر قريبٌ من هذا في رعاع الشام بالنسبة إلى خلفاء بني أميَّة، كانوا يزعمون أن الخليفة لا يحاسَب ولا يعاقَب، وأنَّ طاعته فريضةٌ على الناس وإن أمر بمعصية الله عزَّ وجلَّ. وفي ترجمة الحجَّاج من تهذيب الكمال للمزِّيِّ: «وكان يزعم أن طاعة الخليفة فرضٌ على الناس في كلِّ ما يرومه، ويجادل على ذلك» (3). قلت: وعن هذا ــ والله أعلم ــ كفَّره أئمَّة السلف (4). _________ (1) الفهرست ص: 489 - 490. (2) المصدر السابق 491. (3) لم أجد هذا النصَّ في تهذيب الكمال، وإنما وجدته في تهذيب التهذيب لابن حجرٍ 2/ 210. (4) منهم: سعيد بن جُبَيرٍ، والنخعيُّ، ومجاهدٌ، وعاصم بن أبي النَّجُود، والشعبيُّ، وغيرهم ــ كما في تهذيب التهذيب، الموضع السابق ــ. قال الخطَّابيِّ: «وقد اختلفوا في السبب الذي من أجله استجاز القرَّاء الخروج عليه، فقال ابن المبارك: إنما استحلُّوا الخروج عليه لكفره بقراءة عبد الله بن مسعودٍ، ولقوله: إنها رجزٌ من أراجيز العرب ... وقال بعضهم: إنما فعلوا ذلك لإعظامه القول عند ذكر قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا}، وتقديمه طاعة ظَلَمة بني أميَّة على طاعة الله عزَّ وجلَّ». غريب الحديث 3/ 181 - 182. يعني قول الحجَّاج: «اتَّقوا الله ما استطعتم ليس فيها مثنويَّةٌ، واسمعوا وأطيعوا ليس فيها مثنويَّةٌ لأمير المؤمنين عبد الملك ... ويا عَذِيرى من عبد هُذَيلٍ يزعم أن قراءته من عند الله، والله ما هي إلا رجزٌ من رجز الأعراب، ما أنزلها الله على نبيِّه عليه السلام ... ». أخرجه أبو داود في كتاب السنَّة، بابٌ في الخلفاء، 4/ 210، ح 4643.
(3/707)
العرب وتأليه الإناث الخياليَّات قد علمت أن العرب كانوا يزعمون أن لله ــ تعالى الله عن قولهم ــ بناتٍ، وأنهنَّ هنَّ الملائكة، ويجعلون لها تماثيل أو تذاكير من الجمادات ويعبدونها، فنجد القرآن ينوِّع محاجَّتهم، فتارةً يُؤَنِّبُهُم على عبادة الأصنام، وتارةً ينعى عليهم نسبة [454] الولد إلى الله عزَّ وجلَّ، وتارةً يوبِّخهم على أنهم لم يكتفوا بنسبة الولد إليه حتى خصُّوا الإناث ــ مع كراهيتهم لأنفسهم البنات ــ، وتارةً يبيِّن لهم أنهم إنما يعبدون العدم، وتارةً يُعلِمهم بأنه على فرض أن تكون موجودةً لا تستحقُّ أن تُعبَد؛ لاعترافهم بأنه ليس لها من الأمر شيءٌ، وتارةً يُعلِمهم بأنهم إنما يعبدون الشياطين ــ على المعنى الذي تقدَّم فيما سبق، وسنوضِّحه إن شاء الله تعالى في الكلام على تفسير عبادة الشياطين (1) ــ، وتارةً يفنِّدهم في قولهم: الملائكة إناثٌ، وتارةً يبطل استحقاق الملائكة أن يُعبَدوا، وتارةً يذكر أنهم إنما يعبدون من سوَّل لهم ذلك الفعل من الشياطين أو الرؤساء أو الأهواء. فأما الأصنام فقد علمتَ أنهم إنما كانوا يعبدونها على أنها تماثيل وتذاكير لتلك الإناث الوهميَّات، ويُحتمَل في بعض أصنامهم غير ذلك مما سبق. وأما الإناث الوهميَّات فكانوا يزعمونها بناتٍ لله ــ تعالى عما يقولون علوًا كبيرًا ــ، وقد احتجَّ عليهم القرآن بقوله: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ _________ (1) انظر ص 730.
(3/708)
صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101]. وقدَّمنا أن هذا يدلُّ على أنهم لم يكونوا يثبتون لله صاحبةً؛ إذ لو كانوا يزعمون أن له صاحبةً لما كان في هذا حجَّةٌ عليهم، هذا [455] هو الظاهر، وأيَّده ما رُوِي أن الصِّدِّيق لما قال لهم: فمَن أُمُّهم؟ لم يُمْكِنُهم الجواب (1) ــ وقد سبق ذلك (2) ــ، ولم يَثبُت ما يعارض هذا. وقدَّمنا أن الظاهر من تعظيمِهم لله عزَّ وجلَّ واعتمادِهم في دينهم على الأقيسة الفاسدة أنهم إنما (3) كان مستقرًّا في أذهانهم أن العقم نقصٌ أرادوا أن ينزِّهوا الله عزَّ وجلَّ عنه، فرأوا أنهم إن أثبتوا له ولدًا ذكرًا لزم من ذلك إثبات شريكٍ له في ملكه، وكانوا يتحاشون ذلك. وقد صحَّ أنهم كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك (4) إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك. ثبت ذلك في صحيح مسلمٍ، ولفظه: «عن ابن عبَّاسٍ، قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، فيقول رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «ويلكم، قد، قد»، [فيقولون: ] (5) إلَّا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت» (6). _________ (1) أخرجه ابن أبي حاتمٍ كما في الدرِّ المنثور 7/ 377. (2) انظر ص 581. (3) كذا في الأصل، ولعلَّ الصواب: لَمَّا. (4) في الأصل: (له)، وهو سبق قلمٍ. (5) ما بين المعقوفتين زيادةٌ من صحيح مسلمٍ. (6) صحيح مسلمٍ، كتاب الحجِّ، باب التلبية وصفتها ووقتها، 4/ 8، ح 1185. [المؤلف]
(3/709)
ورُوِي أن أوَّل من قال ذلك عمرو بن لُحَيٍّ. قال السهيليُّ: «وذكر أبو الوليد الأزرقيُّ في أخبار مكَّة أن عمرو بن لُحَيٍّ ... وكانت التلبية من عهد إبراهيم: لبيك لا شريك لك لبيك، حتى كان عمرو بن لُحَيٍّ، فبينما هو يلبِّي تمثَّل له الشيطان في صورة شيخٍ يلبِّي معه، فقال عمرٌو: لبيك لا شريك لك، فقال الشيخ: إلا شريكًا هو لك، فأنكر ذلك عمرٌو، وقال: ما هذا؟ فقال الشيخ: قل: تملكه وما ملك، فإنه لا بأس بهذا، فقالها عمرٌو، فدانت بها العرب» (1). والمقصود أنهم رأوا أن إثبات الولد الذكر يلزم منه إثبات الشريك في الملك، فأما البنات فلا يلزم هذا فيهنَّ، لما اعتادوه فيما بينهم أن البنات لا يرثن من آبائهنَّ ولا يقاتلن ولا يخاصمن، وإنما هنَّ كَلٌّ على الرجال، وليس لهنَّ من الأمر شيءٌ. وفي صحيح مسلمٍ عن ابن عبَّاسٍ قال: « .... قال عمر: والله إن كنَّا في الجاهلية ما نَعُدُّ للنساء أمرًا حتى أنزل الله فيهنَّ ما أنزل وقسم لهنَّ ما قسم، قال: فبينما أنا في أمْرٍ آتمره إذ قالت لي امرأتي: لو صنعت كذا وكذا، فقلت لها: وما لكِ أنتِ ولما هاهنا، وما تَكَلُّفُكِ في أمرٍ أريده؟ ! فقالت لي: عجبًا لك يا ابن الخطَّاب! ما تريد أن تُراجَعَ أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حتى يظلَّ يومه غضبان ... » (2). _________ (1) الروض الأنف 1/ 12. [المؤلف]. وانظر: أخبار مكة للأزرقي 1/ 287. (2) صحيح مسلمٍ، كتاب الطلاق، بابٌ في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهنَّ ... ، 4/ 190، ح 1479 (31). وهو في صحيح البخاريِّ، كتاب التفسير، سورة التحريم، باب: «تبتغي مرضات أزواجك»، 6/ 156، ح 4913. [المؤلف]
(3/710)
فرأوا أنهم إذا أثبتوا لله عزَّ وجلَّ بناتٍ كانوا قد نزَّهوه من ذلك النقص العظيم ــ وهو العقم ــ، ولم يلزمهم إثبات شريكٍ له في ملكه، على أن الظاهر من حالهم أنهم كانوا متحيِّرين في إثبات البنات لله عزَّ وجلَّ، يكادون لولا التقليد والاستكبار [456] يعتذرون بأنهم إنما يريدون بناتٍ مجازًا، أي: محبوباتٍ له مُقَرَّباتٍ عنده، ولهذا ــ والله أعلم ــ كان اعتمادهم على أنهم يعبدون الملائكة، فكأنهم يقولون: سلَّمنا أنه ليس له ولدٌ لا ذكرٌ ولا أنثى، وسلَّمنا أن الملائكة ليسوا بناتٍ لله تعالى ولا إناث (1)، ولكنهم عبادٌ مقرَّبون عنده يشفعون لديه، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. ولهذا ــ والله أعلم ــ كان غالب محاجَّة القرآن لهم إنما هو في عبادة الملائكة ــ كما يُعلَم مما تقدَّم ــ، ومن هنا يُعلَم أن شركهم ليس مداره على قولهم: بنات الله، وقولهم: الملائكة إناثٌ، بل شركهم ثابتٌ ولو لم يقولوا ذلك، ويدلُّ على هذا قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 15 - 20]. فوبَّخهم الله عزَّ وجلَّ على قولهم: إن لله ولدًا، ثم على قولهم: إن ذلك الولد إناثٌ، ثم على قولهم: الملائكة إناث، ثم على قولهم: {لَوْ شَاءَ [457] _________ (1) كذا في الأصل، والجادَّة: إناثًا.
(3/711)
الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ}، فدلَّ أن كلَّ أمرٍ من هذه منكرٌ على حِدَةٍ. وهكذا قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 19 - 29] في آياتٍ أخر قد تقدَّم بعضها في سياق الآيات في عبادة الملائكة (1)، يُعلَم منها أن شرك القوم ثابتٌ ولو لم يقولوا: بنات الله، ولا قالوا: الملائكة إناثٌ. والمقصود من هذا ألَّا يُتوهَّم أن تأليههم للملائكة وعبادتهم إيَّاهم قوامه اعتقادهم فيهم أنهم بنات الله عزَّ وجلَّ. [458] وبعدُ، فقد علمتَ أنهم وغيرهم من الأمم ألَّهوا الأصنام وعبدوها، مع أنهم لم يعتقدوا فيها أكثر من أنها تستحقُّ التعظيم؛ لأنها قد جُعِلت تماثيل وتذاكير ورموزًا للملائكة أو للكواكب أو لرجالٍ صالحين، وأن قومًا ألَّهوا الكواكب وعبدوها ولم يعتقدوا فيها أكثر من كونها أجسادًا أو _________ (1) انظر ص 437 - 439.
(3/712)
مظاهر للملائكة، إلى غير ذلك مما تقدَّم. فثبت بذلك أن تأليه الشيء وعبادته لا يتوقَّف على زعمهم أنه واجب الوجود أو أنه الخالق أو خالقٌ آخر أو ابن الخالق أو نحو ذلك، والله أعلم. * * * *
(3/713)
تفسير عبادة الملائكة قد علمتَ مما سبق أن أصل شرك العرب هو عبادتهم للملائكة، وكذلك قوم هودٍ وصالحٍ وقوم إبراهيم والمصريُّون ــ كما مرَّ (1) ــ، ومثلهم اليونان والهند، وقد مرَّ طرفٌ من شرك الهند عند ذكر الكواكب وغيرها (2)، ولم أقصد الاستيعاب؛ إذ لا داعي إليه، ولا رأيت لهم ذكرًا خاصًّا في القرآن. وعامَّة عبَّاد الملائكة ينعتونهم بنعوتٍ كذَّبها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ذلك ما مرَّ عن العرب في قولهم: الملائكة بنات الله (3)، وكثيرٌ من الأمم يزعمون أن الملائكة ذكورٌ وإناثٌ، يتناكحون ويتناسلون. وأتباع أرسطو يزعمون أن [459] الملائكة هم العقول العليا التي توهَّموها وبنوها على أصلهم الباطل أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحدٌ، وبنوا على ذلك فظائع من الكفر والشرك، إلا أن قولهم كان محصورًا في أدمغة أفرادٍ محدودين قد انقرضوا بحمد الله تعالى. واعلم أن عبَّاد الملائكة ــ ما عدا أتباع أرسطو ــ فريقان: فريقٌ يزعمون أن الملائكة يتصرَّفون باختيارهم. وفريقٌ لا يثبتون للملائكة اختيارًا إلا في الشفاعة، مع تردُّدٍ منهم في _________ (1) انظر ص 595. (2) انظر ص 683، 706 - 707. (3) انظر ص 50، 112، 550، 579.
(3/714)
إثبات الاختيار في الشفاعة، كما سيأتي إن شاء الله (1). فأما الفريق الأوَّل ــ وهم أكثر أمم الشرك، كاليونان والهند والمصريِّين القدماء ــ، فكأنهم قاسوا الملائكة على البشر، فرأوا أنه كما أن البشر يتصرَّفون في الدنيا بالقدرة التي خلقها الله عزَّ وجلَّ لهم باختيارهم وإرادتهم يستطيع كلٌّ منهم نفع غيره وضرَّه في دائرة قدرته المحدودة، فالملائكة كذلك، إلا أن قدرتهم أعظم. قالوا: وكما أن الإنسان يتذلَّل لإنسانٍ آخر إذا احتاج إليه، ويسأل منه أن ينفعه أو يدفع عنه الضرَّ، وإن كان البشر لا يستطيعون نفع مَن يريد الله تعالى ضرَّه ولا ضرَّ مَن يريد الله عزَّ وجلَّ نفعه، [460] فكذلك نتذلَّل نحن للملائكة وندعوهم؛ لأنا محتاجون إليهم لينفعونا أو يدفعوا عنا الضرَّ، وإن كنا نعلم أن الملائكة لا يستطيعون نفع مَن يريد الله تعالى ضرَّه، ولا ضرَّ مَن يريد الله تعالى نفعه. وإذا جاز الأوَّل فجواز الثاني أولى؛ لأن قُدَر البشر متقاربةٌ، وقدرة الملائكة أعظم من قدرة البشر، فأما إذا كان المقصود من التذلُّل للملائكة ودعائهم أن يعينوا على ما هو خيرٌ وطاعةٌ لله عزَّ وجلَّ فلا شبهة في أن ذلك يكون عبادةً لله عزَّ وجلَّ. وقد أدحض الله تعالى شبهة هؤلاء وبرهن على بطلان ما زعموه، بقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}، وقد تقدَّم إيضاح ذلك، فارجع إليه (2). وأما الفريق الثاني، فمنهم مشركو العرب؛ فإنهم كانوا يعترفون بأن الله _________ (1) انظر ص 356 - 361. (2) ص 129 - 130 [المؤلف]. ص 349 - 350.
(3/715)
تعالى هو الخالق والرازق والمدبِّر إلى غير ذلك، وفي كتاب الله تعالى الشهادة عليهم بذلك في مواضع كثيرةٍ، منها قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ [461] الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 31 - 32]. وقال عزَّ وجلَّ: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 - 89]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 61 - 63]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [لقمان: 25]. [462] وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ
(3/716)
أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38]. وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9]. وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 78]. ففي هذه الآيات أن المشركين كانوا معترفين بوجود الله عزَّ وجلَّ، وأنه الذي يرزقهم من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، والذي يخرج الحيَّ من الميِّت ويخرج الميِّت من الحيِّ، والذي يدبِّر الأمر، والذي له السموات والأرض، وأنه ربُّ السموات السبع وربُّ العرش العظيم، وأنه بيده ملكوت كلِّ شيءٍ، وأنه يُجير ولا يُجار عليه، وأنه الذي خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر، وأنه الذي ينزل من السماء ماءً فيحيي به الأرض بعد موتها، وأنه العزيز العليم. [463] وفي القرآن آياتٌ كثيرةٌ تشهد على المشركين باعترافهم بتفرُّد الله عزَّ وجلَّ بما تقدَّم من الصفات وغيرها، وإن لم يكن ذلك مثل ما تقدَّم في الصراحة، منها قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
(3/717)
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 59 - 64]. [464] قال البيضاويُّ في قوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}: «إلزامٌ لهم وتهكُّمٌ بهم وتسفيهٌ لرأيهم؛ إذ من المعلوم أن لا خير فيما أشركوه رأسًا حتى يوازن بينه وبين ما هو مبدأ كلِّ خيرٍ». قال الشيخ زاده في حواشيه: «يعني أن الآية بظاهرها، وإن دلَّت على أن المقصود الموازنة بينه تعالى وبين الأصنام. ولا وجه له، ضرورةَ أن أحدًا من العقلاء لا يزن المخلوق العاجز بالخالق القادر على كلِّ شيءٍ في معنى الخيريَّة، بل المقصود إلزام المشركين ... » (1). أقول: الأولى حَمْلُ ما في قوله: {أَمَّا يُشْرِكُونَ} على ما يَعُمُّ جميع معبوديهم من الملائكة وغيرهم. فإن قيل: لو أُرِيد هذا لكان الظاهر أن يُقال: (أم مَن يشركون)، تغليبًا للعاقل على غيره؛ لأن الغالب أن تكون (مَن) للعقلاء و (ما) لغيرهم. قلت: غلَّب هنا غير العاقل تنبيهًا على أن معبوديهم من الملائكة وغيرهم إذا وُزِنوا بالله عزَّ وجلَّ لم يكونوا شيئًا، والكلام من باب التنزيل، أي أن المشركين لما جعلوا مع الله عزَّ وجلَّ شركاء نُزِّلُوا منزلة [465] مَن _________ (1) حواشي الشيخ زاده 2/ 493. [المؤلف]
(3/718)
يزعم أنهم مثله في الخيريَّة، وإلا فالقوم معترفون بأن الله عزَّ وجلَّ خيرٌ، وهذا مثل قول المؤذِّن: (الصلاة خيرٌ من النوم)، نُزِّل المؤْثِر للنوم على الصلاة منزلة مَن يزعم أن النوم خيرٌ، وإلا فالمسلمون المخاطَبُون بالأذان لا يشكُّون أن الصلاة خيرٌ من النوم. وقال أبو السعود في قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ....... }: «والهمزة لتقريرهم، أي: حملهم على الإقرار بالحقِّ على وجه الاضطرار، فإنه لا يتمالك أحدٌ ممن له أدنى تمييزٍ ولا يقدر على ألَّا يعترف بخيريَّة مَن خلق جميع المخلوقات ... » (1). وقال في قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}: «وقيل: المراد نفي أن يكون معه تعالى إلهٌ آخر فيما ذُكِر من الخلق وما عُطِف عليه، لكن لا على أن التبكيت بنفس ذلك النفي فقط، كيف لا وهم لا ينكرونه حسبما ينطق به قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}، [466] بل بإشراكهم به تعالى في العبادة ما يعترفون بعدم مشاركته له تعالى فيما ذُكِر من لوازم الألوهيَّة» (2). وقال البيضاويُّ في قوله تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}: «والكفرة وإن أنكروا الإعادة فهم محجوجون بالحجج الدالَّة عليها». قال الشيخ زاده: «ولما ورد أن يُقال: كيف يمكن إلزام الكفرة تذكُّر نعمة الإعادة وما يترتَّب عليها وهم منكرون للإعادة؟ أجاب عنه: بأنهم وإن _________ (1) تفسير أبي السعود 2/ 289. [المؤلف] (2) تفسير أبي السعود 2/ 290. [المؤلف]
(3/719)
أنكروا إلَّا أنهم لما لم يكن لهم عذرٌ في إنكارها نُزِّلُوا منزلة مَن أقرَّ بها، فتوجَّه إليهم الإلزام» (1). أقول: ولِمَ لا يُقال: إن قوله تعالى: {ثُمَّ يُعِيدُهُ} ليس المراد به الإعادة بعد الموت بل أمرٌ آخر، كما قيل في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [العنكبوت: 19] , قال البيضاويُّ: «إخبارٌ بالإعادة بعد الموت، معطوفٌ على {أَوَلَمْ يَرَوْا}، لا على {يُبْدِئُ}؛ فإن الرؤية غير واقعةٍ، ويجوز أن يُؤَوَّل بالإعادة [467] بأن ينشئ في كلِّ سنةٍ مثل ما كان في السنة السابقة من النبات والثمار ونحوهما، ويعطف على {يُبْدِئُ}» (2). وعلى هذا فلا إشكال؛ لأن المشركين يقرُّون بأن الله تعالى يعيد الخلق بهذا المعنى، والله أعلم. وقال أبو السعود في قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}: « ... أي: هاتوا برهانًا عقليًّا أو نقليًّا يدلُّ على أن معه تعالى إلهًا، لا على أن غيره تعالى يقدر على شيءٍ مما ذُكِر من أفعاله تعالى كما قيل، فإنهم لا يدَّعونه صريحًا ولا يلتزمون كونه من لوازم الألوهيَّة، وإن كان منها في الحقيقة، فمطالبتهم بالبرهان عليه، لا على صريح دعواهم، مما لا وجه له» (3). والحاصل: أن الاستفهام في قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ} وما بعدها _________ (1) حواشي الشيخ زاده 2/ 494. [المؤلف] (2) هامش حواشي الشيخ زاده 3/ 8. [المؤلف] (3) تفسير أبي السعود 2/ 291. [المؤلف]
(3/720)
تقريريٌّ، أي: أم الذي خلق السماوات والأرض خيرٌ مما تشركون؟ ولا ريب أن هذا لا يصحُّ إلا إذا كانوا يقرُّون بأن الله تعالى هو وحده الذي خلق السموات والأرض، وأنه لا حَظَّ لشركائهم [468] في ذلك، وهكذا يُقال في الباقي، ولهذا احتاج المفسِّرون إلى تأويل قوله تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}، وقد علمتَ أن الإعادة إذا حُمِلت على ما يقع من إعادة الخلق مرَّةً بعد مرَّةٍ في الدنيا كان الكلام على ظاهره، والله أعلم. والآيات في هذا المعنى كثيرة، فإن كلَّ آيةٍ ذكر الله تعالى بها نفسه بأنه الخالق أو الرازق أو غير ذلك من نعوت الكمال، وكان مساق الكلام على إقامة الحجَّة على المشركين، فهي من هذا القبيل؛ إذ لو لم يكن المشركون يقرُّون بأن الله عزَّ وجلَّ هو وحده فالق الإصباح وجاعل الليل سكنًا إلخ، لكان ذكر ذلك دعوى فقط لا تكون حجَّةً عليهم في إبطال شركهم، والحكيم لا يحتجُّ بما هو دعوى مجردَّةٌ. ومن هذا القبيل: الفاتحة، فلولا أن المشركين يعترفون بأن الله عزَّ وجلَّ ربُّ العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين لما كان في ذلك حجَّةٌ عليهم، يَثبُت بها ما تضمَّنه قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ [469] وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. فإن قلت: فإنهم لا يؤمنون بيوم الدين، قلت: لكنهم لو قيل لهم: إذا فُرِض أن يوم الدين حقٌّ، فمَن يكون مالكه؟ لقالوا: الله. فتدبَّر هذا المعنى حقَّ تدبُّره، ثم اقرأ القرآن تجدْه مملوءًا بالحجج على أن المشركين كانوا يعترفون بالله عزَّ وجلَّ وصفاته، وإنما نازعوا في انفراده باستحقاق العبادة، والله أعلم.
(3/721)
وقد مرَّ في أثناء الرسالة ما يتعلَّق بما ذكرناه (1)، منه كلام ابن جريرٍ على آية {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، قال: «وأحسب أن الذي دعا مجاهدًا إلى هذا التأويل، وإضافة ذلك إلى أنه خطابٌ لأهل التوراة والإنجيل دون غيرهم، الظنُّ منه بالعرب أنها لم تكن تعلم أن الله خالقها ورازقها بجحودها وحدانيَّة ربِّها وإشراكها معه في العبادة غيره، وإن ذلك لقولٌ؛ ولكن الله جلَّ ثناؤه قد أخبر في كتابه أنها كانت تقرُّ بوحدانيَّته غير أنها كانت تشرك في عبادته ما كانت تشرك فيها، فقال جلَّ ثناؤه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ [470] لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، وقال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31]، فالذي هو أولى بتأويل قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إذ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانيَّة الله عزَّ وجلَّ، وأنه مبتدع الخلق وخالقهم ورازقهم نظيرَ الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين ... » (2). ونسبة ابن جريرٍ هذه الغفلة إلى مجاهدٍ مع جلالة مجاهد تهوِّن عليك نسبة مثل هذه الغفلة إلى غيره، حتى إنه قد يقع فيها ابن جريرٍ نفسه في بعض المواضع. وفي تفسير ابن جريرٍ عند قول الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، قال ابن جريرٍ: « ... عن ابن عبَّاسٍ {وَمَا _________ (1) انظر: ص 680 مثلًا. (2) تفسير ابن جريرٍ 1/ 126. [المؤلف]
(3/722)
يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ} الآية، قال: من إيمانهم إذا قيل لهم: مَن خلق السماء ومَن خلق الأرض ومَن خلق الجبال؟ قالوا: «الله». وهم مشركون .... عن عكرمة ... قال: تسألهم مَن خلقهم ومَن خلق السموات والأرض؟ فيقولون: «الله». فذلك إيمانهم بالله، وهم يعبدون غيره». ثم ذكر نحوه عن الشعبيِّ ومجاهدٍ. وفي روايةٍ عن مجاهدٍ: «إيمانهم قولهم: «الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا»، هذا إيمانٌ، مع شرك عبادتهم غيره». وأخرج عن قتادة قال: « ... هذا إنك لستَ تلقى أحدًا منهم إلا أنبأك أن الله ربُّه وهو الذي خلقه ورزقه, وهو مشركٌ في عبادته». وأخرج نحوه عن عطاءٍ. ثم قال: «حدَّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: يقول: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ} الآية. قال: ليس أحدٌ يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمنٌ بالله، ويعرف أن الله ربُّه، وأن الله خالقه ورازقه، وهو يشرك به، ألا ترى كيف قال إبراهيم: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77]؟ قد عرف أنهم يعبدون رب العالمين مع ما يعبدون. قال: فليس أحدٌ يشرك به إلا وهو مؤمنٌ به، ألا ترى كيف كانت العرب تلبِّي تقول: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلَّا شريكٌ هو لك، تملكه وما مَلَك»؟ المشركون كانوا يقولون هذا» (1). وفي تصريح مجاهدٍ بما سمعتَ ــ وهو ثابتٌ عنه من عدَّة طرقٍ ــ ما يبيِّن _________ (1) تفسير ابن جريرٍ 13/ 44 - 45. [المؤلف]
(3/723)
بطلان ما اتَّهمه به ابنُ جريرٍ من أنه ظنَّ أن العرب لم تكن تعلم أن الله خالقها ورازقها، إلَّا إن كان غفل عن ذلك غفلةً، كما قد تقع الغفلة عن ذلك من غيره كثيرًا ــ كما تقدَّم ــ، والله أعلم. والحاصل أن شرك العرب انحصر في قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. وقولهم: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]. وسيأتي إيضاح شبهتهم وإبطالها إن شاء الله تعالى في فصل شبهات المشركين (1)، وقد مرَّ شيءٌ من ذلك في الكلام على قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] (2). * * * * _________ (1) انظر ص 851 - 854. (2) ص 138 - 140 [المؤلف]. ص 358 - 361.
(3/724)
[471] تفسير عبادة الشياطين قد لوَّحنا فيما تقدَّم (1) إلى أنَّ عبادة الشياطين لها وجوه: الأوَّل: طاعتهم في شرع الدين، وهم في ذلك قريبٌ من الأحبار والرهبان، وقد تقدَّم ما يتعلَّق بهم (2)، ولم يعذر الله المشركين بكونهم لا يعلمون أنهم يطيعون الشياطين؛ لأن الحجَّة قد قامت عليهم بأن الشيطان يوسوس للإنسان بالأفعال السيِّئة، فلما كان إذا وقع في أنفسهم تخيُّلُ أن عبادة الأصنام ونحوها دينٌ ينفع عند الله تعالى ونحو ذلك من التخيُّلات، وهم يعلمون أنه ليس على ذلك برهانٌ، ولا أنزل الله به من سلطانٍ، فقد ظهر أن تلك التخيُّلات من وسوسة الشيطان، فغفلتهم عن ذلك تقصيرٌ منهم لا يُعْذَرُون به. الوجه الثاني: كانوا يعبدون إناثًا غيبيَّاتٍ يزعمون أنهنَّ بنات الله تعالى، وأنهنَّ الملائكة، فرأت الشياطين أنه لا إناث غيبياتٍ إلا منهم، ولذلك عمدت شيطانةٌ فتسمّت بالعزَّى ولزمت الصنم المجعول للعزَّى ــ كما تقدَّم (3) ــ، وقس على ذلك. الوجه الثالث: أن من عادة الشياطين اعتراض العبادات الباطلة [472] حتى تكون في الصورة كأنها لهم، كما ثبت في صحيح مسلمٍ وغيره في حديث المواقيت النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، وقال: _________ (1) انظر ص 595. (2) انظر ص 654. (3) انظر ص 596.
(3/725)
«فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطانٍ، وحينئذٍ يسجد لها الكفَّار»، وكذا قال في غروبها: «فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفَّار» (1). فالمراد ــ والله أعلم ــ أن الشيطان إذا علم من أهل قُطْرٍ أن منهم مَنْ يعبد الشمس رقب وقت عبادتهم لها، فانتصب بينهم وبينها ليكون سجودهم لها كأنه في الصورة له، فإذا انتهى وقت عبادتهم لها فارق ذلك الموضع، وانتقل إلى القطر الآخر، تدبَّر! ! بل إن الشيطان يحاول أن يعترض العبادات التي يُعبد بها الله عزَّ وجلَّ، ولكنه لا يستطيع الاعتراض ما لم يقصِّر العابد، فمن ذلك أنه يعترض الصلاة ليقوم أو يمرَّ بين المصلِّي وبين القبلة، ولذلك شُرِعَت السترة في الصلاة، أي: أن يصلِّي المصلِّي إلى جدارٍ أو ساريةٍ أو نحو ذلك، حتى يكون ذلك حجابًا بينه وبين الشيطان، فلا يستطيع الشيطان المرور بينه وبين السترة، يمنعه الله عزَّ وجلَّ من ذلك؛ لأن المصلِّي قد احتجب منه بما يقدر عليه، وهذا كما يمنع الشيطان من فتح الباب المغلق [473] وكشف الإناء المغطَّى ولو بعودٍ معروضٍ عليه. والقانون في هذا أن العبد إذا فعل ما يقدر عليه وتوكَّل على الله عزَّ وجلَّ كفاه الله تعالى ما لا يقدر عليه، فأما إذا قصَّر فيما يقدر عليه فلا حقَّ له أن يُكفَى، فالعبد يستطيع أن يغطِّي إناءه ولو بعَرْض عُودٍ عليه، فيكون بهذا قد فعل ما يقدر عليه مما فيه دفعٌ ما للشيطان، وإن كان بحسب العادة لا يكفي _________ (1) صحيح مسلمٍ، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب إسلام عمرو بن عَبَسَة، 2/ 209، ح 832. [المؤلف]
(3/726)
للدفع، ولكنه يوفي ما عليه حتى يستحقَّ أن يدفع الله عزَّ وجلَّ عنه ما لا يستطيعه، والله أعلم. فالشياطين تدخل في الأصنام أو تقف دونها ليكون تعظيم الأصنام كأنه للشيطان، وهكذا تفعل في كلِّ ما يُعبد من دون الله عزَّ وجلَّ. ورأيت في فتوى للسيِّد العلَّامة الجليل عبد الله بن محمَّد بن إسماعيل الأمير اليمانيِّ، قال فيها: «ذكر شيخنا الإمام عبد الخالق المزجاجيُّ ــ رحمه الله تعالى ــ أنه رأى الشياطين في قبَّة الشيخ أحمد بن موسى بن العجيل (1) في بيت الفقيه متخلِّلةً بين الناس، ورأى القبر ليس فيه إلا الشياطين، قال: رأى ذلك يقظةً بشحمة عينه, رحمه الله تعالى». والإمام عبد الخالق [474] من أجلَّة علماء الحنفيَّة بمدينة زبيد باليمن، وكان من كبار الصالحين رحمه الله. وقد يُسْتَبْعَد تمكُّن الشياطين من قبور الصالحين، ولا بُعْدَ فيه، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إن عفريتًا من الجنِّ تفلَّت البارحة ليقطع عليَّ صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته» الحديث (2). _________ (1) أحمدبن موسى بن علي بن عمر بن عجيل اليمني، أبو العباس، عالم مشارك، توفي ببيت الفقيه سنة 690 هـ، له كتاب جمع فيه مشايخه وأسانيده في كل علم. معجم المؤلفين 2/ 189. (2) البخاريّ في كتاب العمل في الصلاة، باب ما يجوز من العمل في الصلاة، 2/ 64 [وفي الأصل: 2/ 162]، ح 1210. مسلم في كتاب الصلاة، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة ... ، بنحوه، 2/ 72، ح 541. [المؤلف]
(3/727)
وفي صحيح مسلمٍ عن أبي الدرداء قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسمعناه يقول: «أعوذ بالله منك»، ثم قال: «ألعنك بلعنة الله» ثلاثًا، وبسط يده كأنه يتناول شيئًا، فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله، قد سمعناك تقول في الصلاة شيئًا لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك، قال: «إن عَدُوَّ الله إبليس جاء بشهابٍ من نارٍ ليجعله في وجهي، فقلت: أعوذ بالله منك، ثلاث مرَّاتٍ، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامَّة، فلم يستأخر، ثلاث مرَّاتٍ، ثم أردت أن آخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقًا يلعب به ولدان أهل المدينة» (1). [475] لم يكن النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يصلِّي إلَّا إلى سترةٍ، ومَن صلَّى إلى سترةٍ لم يستطع الشيطان أن يقطع عليه صلاته، ولكنه يحتال بأن يسوق إنسانًا أو حيوانًا يمرُّ بين المصلِّي وبين السترة، فإذا قصَّر المصلي في دفع ذلك المارِّ استطاع الشيطان أن يمرَّ معه؛ لأن المصلِّي قد قصَّر فيما يقدر عليه، كما تدلُّ عليه أحاديث السترة، منها: الحديث الصحيح في الأمر بدفع المارِّ، وتعليل ذلك بأنَّ معه القرين (2). وكذا حديث: «يقطع الصلاةَ المرأةُ والحمارُ والكلبُ الأسودُ»، فلما سُئِل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ما بال الكلب الأسود من غيره؟ أجاب بقوله: «الكلب الأسود شيطانٌ» (3). _________ (1) صحيح مسلمٍ، الموضع السابق، 2/ 73، ح 542. [المؤلف] (2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب منع المارِّ بين يدي المصلِّي، 2/ 58، ح 506، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (3) أخرجه مسلمٌ في كتاب الصلاة، باب قدر ما يستر المصلِّي، 2/ 59، ح 510، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(3/728)
وجاء في حديثٍ آخر: «إن المرأة تقبل بصورة شيطانٍ» (1)، وفي حديثٍ: «إن الحمار إذا نهق فإنه رأى شيطانًا» (2). فعلى هذا المعنى تراءى عدو الله بشهابه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ علمًا منه أنه إذا تراءى بحيث يراه المصلِّي، وُكِلَ الدَّفْعُ إلى المصلِّي؛ لأنه يقدر على الدفع حينئذٍ، وارتفع المنع الذي توجبه السترة؛ لأنها إنما تكفي للمنع الذي لا يقدر عليه المصلِّي، تدبَّر. [476] وأما رؤية الإمام عبد الخالق القبر ليس فيه إلا الشياطين، فوجهه: أن المقبور لا يبقى له تعلُّقٌ بقبره إلا مادام الجسد لم يَبْلَ، فإذا بَلِيَ الجسدُ لم يبق للميِّت علاقة بالقبر؛ لأن الجسد قد بَلِيَ وفَنِيَ، والروح قد طارت إلى مستقرِّها، فليس القبر بعد البلى إلا كالنعش الذي وُضِعَ عليه الميِّت برهةً ثم فارقه، ولهذا نصَّ العلماء على أنه لا تبقى للقبر حرمةٌ بعد البِلَى، وعلى ذلك العملُ بالحرمين وغيرهما من عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى اليوم، إذا بليَ المقبور حُفِرَ القبرُ ودُفِن فيه غيره، وقد بسطنا الكلام على ذلك في رسالتنا عمارة القبور (3). فإن قلت: هذه الوجوه التي ذكرتها في تفسير عبادة الشياطين كلُّها إلزاماتٌ وبضربٍ من التأويل، ولاسيَّما الثاني والثالث، للقطع بأن المشركين _________ (1) أخرجه مسلمٌ في كتاب النكاح، باب ندب مَن رأى امرأةً فوقعت في نفسه إلى أن يأتي امرأته، 4/ 129، ح 1403، من حديث جابرٍ رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاريُّ في كتاب بدء الخلق، بابٌ خير مال المسلم غنمٌ ... ، 4/ 128، ح 3303. ومسلمٌ في كتاب الذكر والدعاء ... ، باب استحباب الدعاء عند صياح الديك، 8/ 85، ح 2729، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) لم أجده في القدر المطبوع من عمارة القبور.
(3/729)
إنما كانوا يعبدون إناثًا غيبياتٍ هنَّ عندهم بنات الله والملائكة، وليس الشياطين بنات الله ولا ملائكةً، وللقطع بأن مَن يسجد للشمس مثلًا لا يقصد عبادة الشيطان المنتصب دونها. قلت: صدقتَ، ولكن قَوِيَ هذان الوجهان بمعاضدة [477] الوجه الأوَّل، فيُقال: إنه ليس في الوجود إناثٌ غيبيَّاتٌ هنَّ بنات الله وملائكته، وإنما في الوجود إناثٌ غيبيَّاتٌ هنَّ من الشياطين، فلما كانت عبادتهم لتلك الإناث باطلةً ــ وهنَّ عدمٌ محضٌ ــ؛ كان أقرب مَن تُحَوَّل له العبادة مَن أَمَرَ بها فأُطِيع ــ وهم الشياطين ــ، وهكذا لمَّا كانت عبادة الشمس باطلةً، وإنما أَمَر بها الشيطان فأُطيع؛ قَوِيَ حقُّه في اعتراضها؛ لأنه يقول: أنا أولى بعبادتهم من الشمس؛ لأني أمرتهم فأطاعوني، والشمس لم تأمرْ ولم تُطَعْ. * * * * تفسير عبادة الهوى عبادة الهوى من قَبِيل عبادة الأحبار والرهبان، والوجه الأوَّل في عبادة الشيطان (1)، فهي طاعته فيما لا ينبغي أن يُطاع فيه إلَّا الربُّ. * * * * _________ (1) وهو طاعة الشيطان في شرع الدين.
(3/730)
تنقيح المناط بعد تدبُّر ما قدَّمناه نستطيع أن نقول: مدار التأليه والعبادة على أمرين: الأوَّل: الطاعة في شرع الدين، والمراد بالدين: الأقوال والأفعال التي يُطْلَب بها النفع الغيبيُّ، والمراد بالنفع الغيبيِّ: ما كان على خلاف [478] العادة المبنيَّة على الحِسِّ والمشاهدة. فمن هذا: طاعة الموحِّدين لربِّهم عزَّ وجلَّ في شرع الدين. ومنه: طاعة قوم فرعون لفرعون فيما شرعه لهم من تعظيمه؛ زاعمًا أن ذلك يفيدهم رضى الملائكة، ورضى الملائكة يفيدهم رضى الله عزَّ وجلَّ، فتحصل لهم بسبب ذلك المنافع الغيبيَّة التي تُرجى من الله عزَّ وجلَّ. ومنه: طاعة أهل الكتاب للأحبار والرهبان فيما يشرعون لهم؛ فإنهم كانوا يزعمون أن ما شرعه الأحبار والرهبان يكون دينًا يفيد مَن عَمِل به رضوان الله تعالى، فتحصل له المنافع التي تُرجى منه سبحانه. ومثل ذلك: طاعة العرب لعمرو بن لُحَيٍّ وأضرابه. ومنه: طاعة المشركين للشيطان والهوى؛ فإنهما يوسوسان لهم بأن فِعْلَ كذا دينٌ يفيد مَن التزمه رضوان الله تعالى وحصولَ النفع الذي يُرْجَى منه سبحانه أو حصولَ النفع الغيبيِّ من غيره. الأمر الثاني: الخضوع أو التعظيم على وجه التديُّن، أي: على أنه دينٌ يُطْلَب به النفع الغيبيُّ.
(3/731)
فمن هذا: خضوع المسلمين وتعظيمهم لربِّهم عزَّ وجلَّ، ومنه: تعظيم المشركين للأصنام والناس والكواكب وأرواح الموتى والملائكة وغير ذلك. [479] ويمكن اندراج الأمر الأوَّل في الثاني؛ لأن الطاعة خضوعٌ وتعظيمٌ. ثم نقول: الخضوع والتعظيم على سبيل التديُّن، إما أن يكون أنزل الله تعالى به سلطانًا أو لا، فما أنزل الله تعالى به سلطانًا فهو عبادةٌ له عزَّ وجلَّ وحده لا شريك له، وإن كان في الصورة لغيره، كطاعة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وطاعة المسلمين أولي الأمر منهم فيما يتعلَّق بمصالحهم ولا يخالف الشريعة، وطاعة الأبوين فيما لا يخالف الشريعة. وكذلك توجُّه المسلمين في صلاتهم إلى جهة القبلة، وحجُّهم البيت والطواف به واستلام الركن، وغير ذلك. وكذلك إكرامهم نبيَّهم - صلى الله عليه وسلم - على الوجه الذي رَضِيَه لهم وأقرَّهم عليه، وإكرام الصالحين والوالدين والعلماء وغيرهم على الوجه الذي ثبت في الشريعة الأمرُ أو الإذنُ به، فكلُّ هذا طاعةٌ وتعظيمٌ لله عزَّ وجلَّ. ومما أنزل الله تعالى به سلطانًا ما كان مما يقطع به العقلُ الصريحُ, كاعتقاد وجوده [480] عزَّ وجلَّ، واتِّصافه بصفات الكمال، وتنزُّهه عن النقائص، ونحو ذلك؛ فإن العقل الصريح سلطانٌ من الله عزَّ وجلَّ، وإنما الشأن كلُّ الشأن في التمييز بين العقل الصريح وبين التوهُّم المستحوذ على
(3/732)
النفس بمعونة تقليدٍ أو عادةٍ أو استدلالٍ ناقصٍ، وغالبُ عقائد الفلاسفة من هذا الثاني. وأما ما لم ينزل الله تعالى به سلطانًا فهو عبادةٌ لغيره، وإن كان في الصورة له سبحانه؛ لأن التديُّنَ به ــ ولم ينزل الله به سلطانًا ــ طاعةٌ لمن شرعه، والطاعة في شرع الدين عبادةٌ للمطاع إذا لم ينزل الله عزَّ وجلَّ سلطانًا بطاعته، وكذلك إذا كان التعظيم في الصورة لغيره تعالى والنفع مطلوبٌ منه عزَّ وجلَّ، كمَن يعظِّم صنمًا يزعمه رمزًا لله تعالى ويطلب بتعظيمه ثواب الله عزَّ وجلَّ، وذلك أنه مع كونه تديُّنًا بطاعة مَن شَرَعَه فهو تديُّنٌ بتعظيم غير الله تعالى بغير إذنه. [480 ب] وتحرير العبارة في تعريف العبادة أن يُقال: «خضوعٌ اختياريٌّ يُطْلَب به نفعٌ غيبيٌّ». فقوله: (خضوعٌ) يتناول ما كان بالطاعة وما كان بالتعظيم. وقوله: (اختياريٌّ) يخرج به المكره ونحوه, على ما يأتي تفصيله في الأعذار إن شاء الله تعالى (1). وقوله: (يُطْلَب به) أي: مِن شأنه ذلك، فيدخل ما يكون الخاضع طالبًا بالفعل، بأن يكون له اعتقادٌ أو ظنٌّ أو احتمالٌ أن ذلك الخضوع سببٌ لنفعٍ غيبيٍّ، أو يكون في حكم الطالب، بأن يكون المعهود في ذلك الفعل أنه يُطْلَب به نفعٌ غيبيٌّ، كالسجود للصنم وَفَعَلَه الخاضع عنادًا كما مرَّ في فرعون _________ (1) انظر ص 917 - 918.
(3/733)
وقومه (1)، أو خوفًا من ضررٍ لا يبلغ حدَّ الإكراه ــ كما مرَّ في أوائل الرسالة في المستضعفين الذي عرَّضوا أنفسهم لأن يُكْرَهوا على الكفر رغبةً عن الهجرة التي فيها خروجهم من بيوتهم وأموالهم وأهليهم, أو مداهنةً (2)؛ لأنه أولى مما قبله، ويدلُّ عليه قول الله عزَّ وجلَّ: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140]، أو طمعًا في نفعٍ دنيويٍّ، كمَن يُجْعَلُ له مالٌ عظيمٌ على أن يسجد لصنمٍ، وهذا أولى من الخائف، أو هزلًا ولعبًا كما تدلُّ عليه آية الإكراه على ما تقدَّم أوائلَ الرسالة (3)، والفقهاء يثبتون الرِّدَّة بذلك. وقوله: (نفعٌ) أُرِيد به ما يشمل دَفْعَ الضرر. وقوله: (غيبيٌّ) قد تقدَّم تفسيره (4). وهذا تعريف للعبادة من حيث هي، فإن أُرِيد تعريف عبادة الله عزَّ وجلَّ زِيد: (بسلطانٍ)، أو تعريفُ عبادة غيره، زِيد: (بغير سلطانٍ)، وقد يكون الفعل عبادةً لغير الله عزَّ وجلَّ، ولَكِنَّ فاعله معذورٌ؛ فلا يُحْكَمُ عليه بالشرك, كما سيأتي إن شاء الله تعالى. _________ (1) انظر ص 699 - 700. (2) انظر ص 16 - 17. (3) انظر ص 16. (4) انظر آخر ص 730.
(3/734)
[480 ج] وأما الإله فهو المعبود، فَمَنْ عبد شيئًا فقد اتَّخذه إلهًا وإن لم يزعم أنه مستحقٌّ للعبادة، وذلك كالطامع في النفع الدنيويِّ ونحوه مما مرَّ (1)، ومَن زعم في شيءٍ أنه مستحقٌّ للعبادة فقد عبده بهذا الزعم؛ لأنه يتضمَّن خضوعًا من شأنه أن يُطْلَب به نفعٌ غيبيٌّ، وبذلك جَعَله إلهًا، وهكذا مَن أثبت لشيءٍ تدبيرًا مستقلًّا بالخلق والرزق ونحوهما، فإن هذا التدبير هو مناط استحقاق العبادة, على ما مرَّ تحقيقه (2). وكذا مَن أثبت لشيءٍ أنه يشفع بلا إذنٍ وأن شفاعته لا تُرَدُّ البتَّة؛ لأن ذلك في معنى التدبير المستقلِّ. فأما معنى (إله) في كلمة الشهادة فهو مستحق للعبادة، وإن شئت فقل: مَن يستقلُّ العقل الصريح بإدراك استحقاقه أن يُخْضَعَ له طلبًا للنفع الغيبيِّ. فالله تبارك وتعالى مستحقٌّ للعبادة يستقلُّ العقل الصريح بإدراك استحقاقه أن يُخْضَع له طلبًا للنفع الغيبيِّ، وكان المشركون يزعمون أن الأصنام وغيرها مما يعبدونه كذلك، ولم يكونوا يزعمون مثل ذلك في الكعبة والحجر الأسود؛ لأنهم كانوا يرون أن احترامهما إنما هو لأمر الله عزَّ وجلَّ، فلذلك لم يسمُّوا الكعبة إلهًا ولا أطلقوا على احترامهم لها عبادةً. فشهادة أن لا إله إلَّا الله بلفظها تنفي أن يكون أحدٌ غير الله عزَّ وجلَّ مستحقًّا للعبادة. وتتضمَّن بمعونة القرائن الالتزام بأن لا يُتَّخذ غير الله عزَّ وجلَّ معبودًا. فمَن قالها ثم عرض له اعتقادٌ أو ظنٌّ أو احتمالٌ أنَّ شيئًا غير الله عزَّ وجلَّ يستحقُّ العبادة فقد نقض شهادته بلا خفاءٍ، ولكنه لا يؤاخَذُ بذلك ظاهرًا إلَّا أن يُظْهِرَه؛ لما مرَّ في أوائل الرسالة (3). _________ (1) انظر ص 345. (2) انظر ص 347. (3) بعدها كلمةٌ غير واضحةٍ في الأصل.
(3/735)
[480 د] وكذا ينقض شهادته إن زعم ذلك بلسانه، ولو كان يعلم خلافه, كما مرَّ في فرعون وقومه (1). ومَن شَهِدَ بها ثم عبد غير الله عزَّ وجلَّ، فقد نقض شهادته بالنظر إلى الالتزام، وإن لم يكن له اعتقادٌ ولا ظنٌّ ولا احتمالٌ ولا زَعْمٌ أن ذلك الشيء يستحقُّ العبادة، وقد مرَّ الكلام على الالتزام أوائلَ الرسالة (2)، فارجع إليه. وأما مَن كان عنده سلطانٌ من الله عزَّ وجلَّ أن يخضع لشيءٍ من المخلوقات طلبًا للنفع الغيبِيِّ فخضع له طاعةً لله عزَّ وجلَّ، فهذا موافقٌ للشهادة لا مخالفٌ لها، لكن بشرط أن يكون خضوعُه لذلك المخلوق هو الخضوعَ الذي عنده به من الله تعالى سلطانٌ. فأمَّا إذا كان عنده سلطانٌ بضربٍ من الخضوع فارتكب أشدَّ منه بدون سلطانٍ طالبًا بذلك النفع الغيبيَّ، فقد نقض التزامَه؛ لأن الإذن بضربٍ من الخضوع لا يدلُّ على الإذن بكلِّ خضوعٍ. ولا شكَّ أن الله تبارك وتعالى أَمَرَ بإكرام الأناس الصالحين الذين عبدهم قوم نوحٍ وبإكرام المسيح وأمِّه وبإكرام الملائكة، ولكن لما تجاوز الناس الإكرام المأذون فيه إلى غيره على الوجه المتقدِّم كان ذلك شركًا بالله عزَّ وجلَّ. فالحاصل: أن الخضوع لغير الله عزَّ وجلَّ طلبًا لنفع غيبيٍّ إن كان بسلطانٍ من الله عزَّ وجلَّ فتلك عبادةٌ لله عزَّ وجلَّ، قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. وإن كان بغير سلطانٍ من الله عزَّ وجلَّ فتلك عبادةٌ لغير الله عزَّ وجلَّ. هذا ما أدَّى إليه النظر. _________ (1) انظر ص 700، 705. (2) انظر ص 10 - 22.
(3/736)
[480 هـ] وممَّا يوافقه: قال أبو محمَّد بن حزمٍ: «وقال تعالى مثنيًا على قومٍ ومصدِّقًا لهم في قولهم: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف: 89]، فقال النبيُّون عليهم الصلاة والسلام قولَ الحقِّ الذي يشهد الله عزَّ وجلَّ بتصديقه أنهم إنما خلصوا من الكفر بأنَّ الله تعالى نجَّاهم منه، ولم يُنْجِ الكافرين منه، وأن الله تعالى إن شاء أن يعودوا في الكفر عادوا فيه، فصحَّ يقينًا أنه تعالى شاء ذلك ممن عاد في الكفر. وقد قالت المعتزلة في هذه الآية: «معنى هذا: إلَّا أن يأمرنا الله بتعظيم الأصنام، كما أَمَرَنا بتعظيم الحجر الأسود والكعبة». قال أبو محمَّدٍ: وهذا في غاية الفساد؛ لأن الله تعالى لو أمرنا بها لم يكن عودًا في ملَّة الكفر، بل كان يكون ثباتًا على الإيمان وتزايُدًا فيه» (1). وفي تفسير روح المعاني في الكلام على هذه الآية: وقال الجُبَّائِيُّ والقاضي: «المراد بالملَّة: الشريعة، وفيها ما لا يرجع إلى الاعتقاد، ويجوز أن يتعبد الله عباده به» (2). أقول: كأنهما أرادا أنَّ ما يرجع إلى الاعتقاد لا يتغيَّر حاله، فلا يجوز أن يأمر الله تعالى الناس أن يعتقدوا أن معه ربًّا آخر قديمًا مثلًا؛ لأن ذلك باطلٌ في نفسه، بخلاف تعظيم الأصنام مثلًا، فإنه إنما قَبُحَ لأنه شركٌ، فإن أمر الله تعالى به لم يبق شركًا. فأما قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا _________ (1) الملل والنحل 3/ 147. [المؤلف] (2) روح المعاني 3/ 82. [المؤلف]
(3/737)
وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]، فالمراد بالفحشاء ــ كما قال ابن جريرٍ ــ: قبائح الأفعال ومساويها. وذكر أن المراد [480 و] بالفاحشة أنهم كانوا يطوفون بالبيت وهم عراةٌ. ونَقَل ذلك عن ابن عبَّاسٍ ومجاهدٍ وسعيد بن جُبَيرٍ والشعبيِّ، ولم يذكر قولًا غيره (1). أقول: واحترام الجمادات ليس من قبائح الأفعال ومساويها، وإنما كان تعظيم الأصنام من قبائح الأفعال ومساويها لأنه عبادةٌ لغير الله عزَّ وجلَّ، فلو أنزل الله عزَّ وجلَّ به سلطانًا لزال هذا المعنى، وبزواله يزول القبح. وقولهم: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} لم يكونوا يقولون ذلك في عبادة الأصنام وغيرها من آلهتهم. ولو قالوا ذلك لم يسمُّوها آلهةً، ولا سَمَّوا تعظيمها عبادةً، كما لم يسمُّوا الكعبة والحجر الأسود ــ على ما مرَّ (2) ــ، وإنما كان مستندهم في الشرك اتِّباع آبائهم، قال تعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 21 - 23]. ومما يوافق ما تقدَّم أيضًا ما مرَّ في الكلام على آيات النجم عن الشهرستانيِّ (3)، وفيه: «فنعلم قطعًا أن عاقلًا مَّا لا ينحت خشبًا صورةً ثم _________ (1) انظر: تفسير ابن جريرٍ 8/ 104 - 105. [المؤلف] (2) في ص 735. (3) ص 287. [المؤلف]. وهو في أواخر الدفتر الثالث الذي لم أعثر عليه بعد.
(3/738)
يعتقد أنه إلهه وخالقه وخالق الكلِّ ... , ولكنَّ القوم لما عكفوا على التوجُّه إليها وربطوا حوائجهم بها من غير إذنٍ وحجَّةٍ وبرهانٍ وسلطانٍ من الله تعالى كان عكوفهم ذلك عبادةً ... ». ومما يدلُّ عليه ــ زيادةً على ما مرَّ ــ قولُ الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ ... وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، [480 ز] فقيَّد الإشراك المحرَّم بأن يكون لما لم ينزل به ــ أي: بإشراكه ــ سلطانًا، فيُفْهَم منه أن إشراك ما نزَّل به سلطانًا ليس بمحرَّم. وفيه احتمالان: الأوَّل: أن يُقال: إنما سمَّاه إشراكًا بالنظر إلى الحال الراهنة للمشركين في تعظيمهم ما لم ينزل الله عزَّ وجلَّ بتعظيمه سلطانًا، فلا ينافي أنه لو أنزل به سلطانًا لا يبقى حينئذٍ إشراكًا. الثاني: أن يُقال: ليس المراد بالإشراك هاهنا الشرك الذي هو منافٍ للإيمان، وإنما المراد: أن تجعلوا نصيبًا من الطاعة والخضوع اللَّذَين يُطْلَبُ بهما النفع الغيبيُّ، وعلى هذا فالقيد على ظاهره، أي ذلك الجَعْلُ إنما يكون محرَّمًا بذلك القيد. ولعلَّ هذا أولى من أن يُقال: إن القيد لا مفهوم له؛ لأن الإشراك لا يكون إلَّا حيث لم ينزل الله تعالى به سلطانًا، والله أعلم. وإيضاح الاحتمال الثاني: أن طاعة الرسول والخضوع له حقٌّ، مع أنها بالنظر إلى الظاهر كأنها تشريكٌ له مع الله عزَّ وجلَّ، وكذلك احترام الكعبة والحجر الأسود فيها بحسب الظاهر خضوعٌ لغير الله عزَّ وجلَّ، وعلى هذا
(3/739)
الظاهر تدخل طاعة الرسول واحترام الكعبة والحجر الأسود في قوله: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ} إذا لم نحمل الإشراك فيها على الشرك المنافي للإيمان، وإنما تخرج بقوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا}، والله أعلم. وقال الله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151]. وقال سبحانه وتعالى حكايةً عن إبراهيم: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} [الأنعام: 81]. وعن هودٍ: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [الأعراف: 71]. [480 ح] وعن يوسف: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف: 40]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج: 71]. وقال تعالى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم: 35]. إن قدَّرنا في قوله: {مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا} في آيتي الأعراف ويوسف: (بشركها) أو (بتعظيمها) فهما مما نحن فيه، وإن قدَّرنا (بوجودها) فلا.
(3/740)
وكذا آية الحج، إن قدَّرنا: (ما لم ينزل بعبادته) فمن هذا الباب، وإن قدَّرنا: (ما لم ينزل بوجوده) فلا، وعلى تقدير: (بوجود) في هذه الآيات الثلاث فيكون المراد الأشخاص المتوهَّمة، ولعلَّه أظهر، والله أعلم. وقال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117]. قال البيضاويُّ: {لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} «صفةٌ أخرى لإله لازمةٌ له، فإن الباطل لا برهان له، جيء بها للتأكيدِ وبناءِ الحكم عليه؛ تنبيهًا على أن التديُّن بما لا دليل عليه ممنوعٌ، فضلًا عما دلَّ الدليل على خلافه» (1). أقول: ويأتي فيه الاحتمالان اللذان قدَّمنا ذكرهما في آية الأعراف (2)، فتدبَّر، والله الموفِّق. وأما قول الله عزَّ وجلَّ: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ ... وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا [480 ط] أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 79 - 80]. فالمراد أن يأمرهم من عند نفسه، فأما لو أمره الله عزَّ وجلَّ أن يأمرهم بطاعته واحترامه بالسجود له مثلًا لكان ما يأمرهم به طاعةً لله عزَّ وجلَّ وعبادةً له، لا عبادةً لهذا البشر المبلِّغ عن الله عزَّ وجلَّ، وكذلك إذا أمره الله _________ (1) هامش حواشي الشيخ زاده 2/ 408. [المؤلف] (2) في ص 739.
(3/741)
تعالى أن يأمر الناس باحترام الملائكة والنبيِّين بالسجود لهم مثلًا فإنه لا يكون السجود لهم من باب اتِّخاذهم أربابًا، بل يكون طاعةً لله عزَّ وجلَّ وعبادةً له وإقرارًا بربوبيَّته، فتدبَّر. وقد مرَّ الكلام على هذه الآيات في الكلام على تفسير تأليه المسيح عليه السلام (1). فأما الطاعة والخضوع والتعظيم بغير تديُّنٍ فليست من العبادة في شيءٍ، فمَن أطاع إنسانًا أو شيطانًا أو هوًى في معصية الله تعالى، وهو يعلم أنها معصيةٌ لله تعالى، ولم يزعم أن تلك الطاعة دينٌ تنفعه عند الله عزَّ وجلَّ، ولا تفيده نفعًا غيبيًّا, ولا كانت تلك المعصية شركًا، فليس بمشركٍ. وبهذا الفرق تعلم [481] الجوابَ الصحيح عما زعمه الخوارج أن المعاصي شركٌ؛ لأن فاعلها مطيعٌ للشيطان، فهو عابدٌ له. واحتجُّوا بالآيات التي سقناها في ذكر عبادة الشياطين، وغفلوا أن تلك الآيات جاءت في ذكر طاعة الشيطان تديُّنًا يُطْلَب منه النفع، والعاصي من المسلمين لا يطيع الشيطان كذلك. وقرأت في حواشي الشيخ زاده على البيضاويِّ ما لفظه (2): «فإن قيل: كيف يجوز أن يكون الشيطان سببًا لزلَّة آدم ومخالفته لأمر الله تعالى؛ مع أن طاعة الشيطان كفرٌ، وذلك لا يتصور من الأنبياء؟ فالجواب: أنه لا يكفر بذلك ... , وإنما يكفر إذا قصد طاعة الشيطان _________ (1) انظر ص 648 - 654. (2) ملحق ص 481. [المؤلف]
(3/742)
ومخالفة الربِّ (1) .... ولا يقصد المؤمن بما بُلِيَ به من العصيان طاعة الشيطان ومخالفة الربِّ ... , وكذا حال آدم وحوَّاء ... , لكنهما ما أكلا من الشجرة موافقةً له، ولا قَبِلا منه النصيحة ولا صدَّقَاه في ذلك، بل أكلا على الشهوة لميلان الطبع» (2). أقول: ارجع إلى الآيات التي ذكرناها في شأن عبادة الشياطين مع ما معها من الآثار (3)؛ يتبيَّنْ لك أن الله عزَّ وجلَّ أخبر بعبادة الشياطين واتِّخاذهم شركاء وآلهةً من دون الله عن قومٍ لم يكونوا يقصدون طاعة الشياطين، بل كانوا يبغضونها ويذمُّونها، حتى كان أشدُّ ما يذمُّون به النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قولهم: كاهنٌ أو مجنونٌ، وقد تواتر عنهم أنهم كانوا يرون أن الكاهن يستعين بالشياطين، وأن المجنون هو مَن استولت عليه الشياطين، فقال الله تعالى ردًّا عليهم: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} [الشعراء: 210]، وقال سبحانه: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير: 25] , وبيَّن المفسِّرون أن ذلك ردٌّ عليهم في قولهم في النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: إنه كاهنٌ، وفي القرآن: إنه كهانةٌ. /وكذا لم يكونوا يقصدون مخالفة الربِّ تعالى، بل قد أخبر الله تعالى عنهم بقولهم في آلهتهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقالوا: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]. _________ (1) لعلَّه يشير إلى ترك التزامه وعدم قبوله وانقياده. (2) حواشي الشيخ زاده 1/ 265. (3) انظر ص 595 - 614.
(3/743)
فالصواب ما قدَّمناه. ثم آيات القرآن ظاهرةٌ في أنَّ آدم وحوَّاء عليهما السلام قَبِلا وسوسة اللَّعين وأكلا من الشجرة على أمل الخلد، ولكننا نقول: لم يطلبا بذلك نفعًا غيبيًّا. ألا ترى لو أن رجلًا أُصِيب بمرضٍ مُهلِكٍ في العادة، فقيل له: تناولْ من هذا الدواء وإلا هَلَكْت، فتناوله لئلَّا يهلك؛ جريًا مع الأسباب، مع علمه أنَّ ما سبق في علم الله عزَّ وجلَّ لا يتبدَّل، لم يكن طالبًا نفعًا غيبيًّا. وهكذا مَنْ قيل له: كما جرت عادة الله عزَّ وجلَّ بأنَّ مَن لم يأكل الطعام يموت، فكذلك جرت عادته بأنَّ مَن لم يتناول هذا الدواء لا يعيش أكثر من خمسين سنةً إلا نادرًا، وأنَّ مَن أكل منه يعيش سبعين سنةً أو أكثر غالبًا، فإنه إذا تناول من ذلك الدواء ليعيش سبعين سنةً أو أكثر جريًا مع الأسباب، مع علمه بأنَّ ما سبق في علم الله تعالى لا يتبدَّل؛ فإنما يكون طالبًا نفعًا عاديًّا. ولم يكونا قد شاهدا أحدًا مات، بل شهدا الملائكة المخلَّدين، فلذلك قوي عندهما أنَّ طول البقاء أمرٌ عاديٌّ. فأما أن يكونا مَلَكين، فإنهما لم يريدا ذلك، وكيف يريده آدم وقد سجدوا له، /ولم يذكر إبليس أن يكونا مَلَكين إلَّا حيث ذكر علَّة النهي، وذلك قوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20]. فأما الترغيب والإطماع فإنما كان بالخلود، كما قال تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا
(3/744)
مِنْهَا} الآية [طه: 120 - 121]. وقوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا} إلخ، أراد به أنه لا سبب للنهي إلا هذا، ولم يصرِّحْ بأن ذلك نقصٌ أو كمالٌ، كأن الخبيث قال في نفسه: إن حَمَلَهما كلامي على سوء الظنِّ بربهما بأن يقولا: نهانا عن الأكل منها لئلا يحصل لنا ما هو خيرٌ لنا وكمالٌ من الملَكيَّة أو الخلود، فذلك الذي أبغي، وإلا فليس ذلك بمانعهما عن تصديقي؛ إذ لعلَّهما يقولان: لعلَّ ربَّنا كره لنا أن نكون مَلَكين؛ لأن في ذلك نقصًا؛ فإن لآدم مزيَّةً على الملائكة بدليل السجود، ولأننا إذا صرنا مَلَكين حُرِمنا عن التمتُّع بنعيم الجنَّة؛ لأن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، ولعلَّ الخلود يورثنا نقصًا لا نعلمه الآن، ولكن مهما يكن من نقصٍ فإننا نرضى به لأنفسنا على أن يحصل لنا الخلود. هذا ما لعلَّ الخبيث قاله في نفسه، فأمَّا هما فإنهما لم يسيئا الظنَّ بربهما قطعًا، كيف ولم يجوِّزا صدق إبليس حتى قاسمهما بربهما تعالى، وإنما جوَّزا صدقه لاحتمال نقصٍ في الملَكيَّة والخلود لأجله نهاهما ربُّهما عن الشجرة رحمةً بهما، ولكن غلبتهما شهوة الخلود، فلم يباليا بالنقص، فطلبا بأكل الشجرة طولَ البقاء من الجهة العاديَّة التي قرَّرناها أوَّلًا، ولم يطلبا المَلَكِيَّةَ، ولكن لعلَّهما قالا: إن فُرِضَ صدقُ إبليس في أن الأكل /من الشجرة ربَّما أورث المَلَكِيَّة، فإنما يكون ذلك بفعل الله تعالى، ولسنا نقصد ذلك ولا نطلبه، على أنه إن كان ذلك فقد حصل لنا الخلود أيضًا. هذا، وقد يُقال: إن العادة في الجنَّة أوسع منها في الدنيا، فلعلَّهما قد شاهدا من تأثير المطعومات في الجنَّة ما يجعل سببيَّة الشجرة لأن يكون آكلُها ملَكًا من قبيل الأسباب العاديَّة هنالك.
(3/745)
وفوق هذا كلِّه فإننا نقول: إن إخبار إبليس ومقاسمته إيَّاهما مع ظنِّهما أنه لا يُقْسِم مخلوقٌ بالله عزَّ وجلَّ على كذبٍ قام في حقِّهما مقام خبر الواحد، فكما أننا نقول: مَن بلغه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم خبر واحدٍ يفيد غلبة الظنِّ بأن هذا الفعل يكون سببًا لنفع غيبِيٍّ، فَفَعَلَه طلبًا لذلك النفع، فإنَّ فِعْلَه يكون عبادةً لله عزَّ وجلَّ، وإن فُرِضَ أن ذلك المخبر كاذبٌ في نفس الأمر، ولكن إذا كان دليلٌ خَفِيٌّ على كذبه، فقد يُلام العامل لعدم احتياطه، والله أعلم. وهكذا السجود للعظماء وللأبوين ــ مع علم الساجد بأنه عاصٍ (1) بذلك السجود، وأنه لا يفيده رضوانَ الله تعالى ولا نفعًا غيبيًّا ــ ليس بشركٍ. وبهذا ينحلُّ الإشكال الذي حكاه القرافيُّ عن شيخه العزِّ بن عبد السلام. قال ابن حجرٍ الهيتميُّ في كتابه «الإعلام بقواطع الإسلام»: «واستشكل العزُّ بن عبد السلام الفرقَ بين السجود للصنم وبين ما لو سجد الولد لوالده على جهة التعظيم حيث لا يكفر، والسجود للوالد كما يُقْصَد به التقرُّب إلى الله تعالى كذلك قد يُقْصَد بالسجود للصنم، كما قال تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، ولا يمكن أن يُقال: إن الله شرع ذلك في حقِّ العلماء والآباء دون الأصنام. قال القرافيُّ في «قواعده»: كان الشيخ يستشكل هذا المقام، ويُعْظِم الإشكالَ فيه. ونقل هذا الإشكال الزركشيُّ وغيرُه ولم يجيبوا عنه. _________ (1) سبق في آخر ص 734 اشتراط ألَّا تكون المعصية شركًا.
(3/746)
ويُمكِن أن يُجاب عنه بأن الوالد وردت الشريعة بتعظيمه، بل ورد شرعُ غيرِنا بالسجود للوالد، كما في قوله تعالى: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف: 100] ... فكان شبهةً دارئةً لكفر فاعله» (1). أقول: في هذا غفلةٌ؛ فإن الآية ليس فيها السجود للوالد، وإنما هي في سجود إخوة يوسف وأبويه له. نعم؛ يمكن أخذ السجود للوالد منها من باب أولى، وذُكِر في السجود للعالِم أنه ثبت لجنسه في غير شرعنا، وذلك في سجود الملائكة لآدم. [482] فالحقُّ أن إطلاق علماء المذهب أن السجود للأبوين ونحوهما لا يكون ردَّةً محمولٌ على ما إذا سجد لهما غيرَ متديِّنٍ بالسجود ولا زاعمٍ أنه يفيده نفعًا غيبيًّا، بل سجد بجاذبٍ طَبَعِيٍّ أو عاديٍّ أو غرضٍ (2)، كمَن يسجد لسلطانٍ ليؤمِّره أو يصلَه بمالٍ أو نحو ذلك، فهذا لا مشابهة فيه لسجود المشركين لآلهتهم (3) كما لا يخفى، فأما مَن سجد لأبويه تديُّنًا يطلب به _________ (1) الإعلام ص 12. [المؤلف] (2) صورتها في الأصل يمكن أن تُقرأ بياء نسبةٍ عطفًا على طبعيٍّ وعاديٍّ. (3) سبق في تعريف العبادة (ص 733 - 734) أنه لا يُشترط في السجود للصنم طلب نفعٍ غيبِيٍّ، بل لو سجد له عِنادًا أو طمعًا في نفعٍ دنيويٍّ كمَن يُجْعَلُ له مال عظيم على أن يسجد لصنمٍ، ومثلُه إذا سجد له هزلًا ولعبًا كلُّ ذلك يرتدّ به الشخص، والفقهاء يثبتون الردّة بذلك كما هو نصُّ كلامه. ويظهر أنَّ المؤلِّف لا ينظر إلى ذات السجود بل إلى المسجود له فيفرِّق بين الصنم الذي من شأن عابديه أن يطلبوا بذلك نفعًا غيبيًّا وبين الملِكِ من بني آدم الذي لم تجر العادة بالسجود له طلبًا لنفعٍ غيبِيٍّ، فَشَرَطَ في تكفير الساجد للمِلك أن يطلب بذلك نفعًا غيبيًّا ولم يشترط ذلك في السجود للصنم.
(3/747)
نفعًا غيبيًّا فهذا هو عمل المشركين سواءً. ومما يدلُّ على هذه التفرقة ما نقله ابن حجرٍ الهيتميُّ في كتابه المذكور عن الروضة (1)، ولفظه: «وليس من هذا ما يفعله كثيرون من الجهلة الظالمين من السجود بين يدي المشايخ؛ فإن ذلك حرامٌ قطعًا بكلِّ حالٍ، سواءٌ أكان للقبلة أو لغيرها، وسواءٌ قصد السجود لله أو غفل. وفي بعض صوره ما يقتضي الكفر، عافانا الله من ذلك» اهـ (2). فأما سجود الملائكة لآدم، وسجود آل يعقوب ليوسف, فذاك طاعةٌ لله عزَّ وجلَّ كان عندهم بذلك من الله سلطانٌ. فإن قلت: وكيف يكون الشيء كفرًا وقد كان مثلُه إيمانًا؟ قلت: ليس السجود للمخلوق بأمرٍ واحدٍ، بل ثلاثة أمور: إن أنزل الله به سلطانًا كان إيمانًا. وإن لم ينزل به؛ فإن لم يقصد به التديُّن كان معصيةً، وإن قصد به التديُّن كان كذبًا على الله تعالى وشركًا. أَوَ لا ترى أنَّ آدم وأولاده لصلبه كانوا يستحلُّون نكاح الأخت, ولو استحلَّه مسلمٌ لَحُكِم عليه بالردَّة إجماعًا؟ وهكذا لو ترك المسلم إحدى الصلوات الخمس بعد شَرْعها منكرًا لوجوبها لكان مرتدًّا، ومَن تركها قبل شرعها نافيًا لوجوبها [483] لا حرج عليه، بل مَن تركها بعد شرعها جاهلًا لوجوبها معذورًا لا حرج عليه، وذلك كقريب العهد بالإسلام. فإن قيل: إن الحكم بردَّة مستحلِّ نكاح الأخت من المسلمين ومنكر _________ (1) روضة الطالبين 1/ 326. (2) الإعلام ص: 13. [المؤلف]
(3/748)
وجوب إحدى الخمس إنما هو لتكذيبه النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -؟ قلت: وهكذا تكفير الساجد لأمِّه تديُّنًا؛ فإن التديُّن بذلك تكذيبٌ للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فيما عُلِمَ من شريعته بالضرورة أنه لا يُقَرِّبُ إلى الله تعالى إلا دينه الذي شرعه، وأنَّ كلَّ ما شرعه لهذه الأمة فقد بلَّغه رسولُه، مع العلم بأن السجود للأمِّ ليس من شريعته، وفي ذلك أيضًا كذبٌ على الله عزَّ وجلَّ في زَعْمِ الساجد أن سجوده من الدين الذي يحبُّه الله ويرضاه. وقد قسَّم الله عزَّ وجلَّ في كتابه الكفر إلى قسمين: الكذب عليه، والتكذيب بآياته، وقدَّم الأوَّل، قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32]. وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 21]. والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ، وسيأتي الكلام على هذا المعنى مبسوطًا إن شاء الله تعالى (1). فصلٌ في القيام مما يقرب من السجود القيام؛ فقد ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم النهي عنه والكراهة له، فروى الترمذيُّ وأبو داود عن معاوية قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن سَرَّه أن يَتَمَثَّلَ له الرجال قيامًا [484] فليتبوَّأ مقعده من النار» (2). _________ (1) انظر ص 903 - 913. (2) جامع الترمذيّ، كتاب الأدب، باب ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل، 2/ 125 - 126، ح 2755، وقال: «حديثٌ حسنٌ». سنن أبي داود، كتاب الأدب، بابٌ في قيام الرجل للرجل، 2/ 355، ح 5229. [المؤلف]
(3/749)
وروى أبو داود عن أبي أمامة قال: خرج النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم متكئًا على عصا، فقمنا له فقال: «لا تقوموا كما يقوم الأعاجم، يعظِّم بعضهم بعضًا» (1). وأخرج الترمذيُّ عن أنسٍ قال: «لم يكن شخصٌ أحبَّ إليهم من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا؛ لما يعلمون من كراهته لذلك»، قال الترمذيُّ: «هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجه» (2). وفي صحيح مسلمٍ عن جابرٍ: اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلَّينا وراءه وهو قاعدٌ، وأبو بكرٍ يُسْمِعُ الناسَ تكبيرَه، فالتفت إلينا فرآنا قيامًا، فأشار إلينا فقعدنا، فصلَّينا بصلاته قعودًا، فلما سلَّم قال: «إن كدتم آنفًا لتفعلون فعل فارس والروم؛ يقومون على ملوكهم وهم قعودٌ، فلا تفعلوا، ائتمُّوا بأئمتكم، إن صلَّى قائمًا فصلُّوا قيامًا، وإن صلَّى قاعدًا فصلُّوا قعودًا» (3). جزم ابن حِبَّان بأنَّ هذه الواقعة هي التي في مرض موته - صلى الله عليه وسلم -، والمسألة مشهورةٌ، والحقُّ أن هذا الحكم باقٍ لم يُنسَخ، وقد جاء عن جماعةٍ من الصحابة رضي الله عنهم أنهم صَلَّوا قعودًا وهم أئمَّةٌ، فأمروا مَن خَلْفَهم بالقعود، [485] وأنت خبيرٌ أن المأموم لو قام لا يقوم تعظيمًا لإمامه، ولكن _________ (1) سنن أبي داود، الموضع السابق، 2/ 355، ح 5230. [المؤلف]. وأخرجه أحمد في المسند 5/ 253, وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة 1/ 351 برقم 346. (2) جامع الترمذيّ، الموضع السابق، 2/ 125، ح 2754. [المؤلف] (3) صحيح مسلمٍ، كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، 2/ 19، ح 413. [المؤلف]
(3/750)
في ذلك مشابهةٌ لذلك الفعل وذريعةٌ إليه، فإذا سقط هذا الركن القطعيُّ ــ بل صار فعله حرامًا دفعًا لهذه الشبهة ــ فما بالك بالقيام على رأس الرجل إجلالًا له؟ فهذا حرامٌ لا شبهة فيه، ومَن فعله تديُّنًا يرجو به الثواب فقد عُلِم حكمه مما تقدَّم. فأما القيام للقادم فقد عُلِمَ النهي عنه مما تقدَّم. وقد روى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت حديثًا جاء فيه: فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لا يُقام لي، إنما يُقام لله تبارك وتعالى» (1). وسنده ضعيفٌ، وفيما مضى كفايةٌ، مع أن الأصل المنعُ من تعظيم المخلوق إلَّا ما أذن الله تعالى به. وقد وَهِم جماعةٌ من العلماء فأجازوا القيام للعالم والصالح، استنادًا إلى الحديث الصحيح أنه لما جيء بسعد بن معاذٍ على حمارٍ قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: «قوموا إلى سيِّدكم» (2)، وآثارٍ أخرى في القيام إلى القادم (3). ولا أدري كيف خفي عنهم أن القيام إلى القادم غيرُ القيام له، فالقيام إليه يُراد منه المشي إليه لاستقباله والترحيب به ونحو ذلك، فالإكرام إنما وقع بالاستقبال، والترحيب والقيام وسيلةٌ إلى ذلك، ولم يقع الإكرام بنفس القيام، وأما التعظيم بنفس القيام فهو قيامٌ للشخص لا قيامٌ إليه، والمحذور _________ (1) المسند 5/ 317. [المؤلف] في إسناده ابن لهيعة ورجل لم يسمّ. (2) أخرجه البخاريُّ في كتاب الاستئذان، باب قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «قوموا إلى سيِّدكم»، 8/ 59، ح 6262. ومسلمٌ في كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال مَن نقض العهد، 5/ 160، ح 1768، من حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه. (3) انظر ما سيذكره المؤلِّف قريبًا.
(3/751)
[486] إنما هو القيام للشخص؛ لأنه يضارع القيام لله عزَّ وجلَّ في الصلاة، ولذلك قال ابن أبي ذئبٍ لما أُمِرَ أن يقوم للخليفة: إنما يقوم الناس لرب العالمين، فقال الخليفة: دعوه، فلقد قامت كلُّ شعرةٍ في جسدي (1). ومما يوضِّح لك أن القيام للمشي إلى القادم ليس تعظيمًا له بنفس القيام، أنك قد تُهدِّد خادمك بقولك: لأقومنَّ إليك، أي: لكي أضربك مثلًا، فالقيام إلى الشخص قد يكون لإهانته، وقد يكون لإكرامه، فعُلِمَ من ذلك أن القيام في قولك: (قمت إلى فلانٍ) وسيلةٌ لغيره، وليس مقصودًا لذاته، بخلاف القيام للشخص؛ فإنه تعظيمٌ لا محالة. وقد يتردَّد النظر فيمَن دخل عليك وأراد أن يصافحك، هل يجوز القيام حتى لا تكون مصافحتُه لك وهو قائمٌ وأنت قاعدٌ مذلَّةً له أو تعظيمًا لك؟ ومن عادات العرب في اليمن أنهم إذا كانوا جلوسًا فدخل إنسانٌ فصافحهم لم يقوموا، ولكن يقول الجالس عند المصافحة: (والقائم عزيزٌ). ثم رأيت أبا داود رحمه الله قد أشار في السنن إلى الفرق الذي ذكرته، فإنه قال أوَّلًا: (بابٌ في القيام)، فأورد فيه حديث: «قوموا إلى سيِّدكم، أو: إلى خيركم»، وحديث عائشة: ما رأيت أحدًا كان أشبه سَمْتًا وهَدْيًا ودلًّا برسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من فاطمة كرَّم الله وجهها، كانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها فقبَّلها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبَّلته وأجلسته في مجلسها (2). _________ (1) انظر: تاريخ بغداد, 2/ 298. (2) سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب ما جاء في القيام، 2/ 353 - 354، ح 5217. [المؤلف]
(3/752)
ثم قال أبو داود بعد أبوابٍ: (باب الرجل يقوم للرجل يعظِّمه بذلك)، فذكر فيه حديث أبي مجلزٍ، قال: خرج معاوية على ابن الزُّبير وابن عامرٍ، فقام ابن عامرٍ وجلس ابن الزُّبير، فقال معاوية لابن عامرٍ: اجلس، فإني سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «مَن أحبَّ أن يَمْثُل له الرجال قيامًا فليتبوَّأ مقعده من النار». وحديث أبي أمامة: قال: خرج علينا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم متوكِّئًا على عصا، فقمنا إليه، فقال: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظِّم بعضها بعضًا» (1). وللنوويِّ رسالةٌ في هذه المسألة (2)، ومال إلى الجواز في بعض الصور، وتعقَّبه ابن الحاجِّ فأجاد (3)، ولَخَّص ذلك الحافظُ ابن حجرٍ في فتح الباري (4). ومن عجيب ما قاله النوويُّ أنه قال في الجواب عن حديث أنسٍ: إنه - صلى الله عليه وسلم - خاف عليهم الفتنة إذا أفرطوا في تعظيمه، فكره قيامهم له لهذا المعنى، كما قال: «لا تطروني» (5)، ولم يكره قيام بعضهم لبعضٍ. _________ (1) سنن أبي داود، كتاب الأدب، بابٌ في قيام الرجل للرجل، 2/ 355، ح 5229 - 5230. [المؤلف] (2) عنوانها: الترخيص في الإكرام بالقيام، وهي مطبوعة. (3) انظر: المدخل لابن الحاج 1/ 140 - 165. (4) 11/ 38 - 43. [المؤلف] (5) أخرجه البخاريُّ في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ}، 4/ 167، ح 3445، من حديث عمر رضي الله عنه، وتمامه: «كما أطرت النصارى ابن مريم؛ فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله».
(3/753)
أقول: فقضيَّة هذا أنه يتعيَّن على رأي النوويِّ المنع من القيام لمن يُنْسَب إلى الصلاح في الأزمنة المتأخِّرة، فإنَّ احتمال غلوِّ العامَّة فيهم أقرب بدرجاتٍ كثيرةٍ من احتمال غلوِّ الصحابة في حقِّ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. أوَّلًا: لعلم الصحابة ومعرفتهم، بخلاف عامَّة هذه الأزمان. ثانيًا: لأنه لو قارب أحدٌ منهم الغلوَّ لمنعه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وبَيَّن له، بخلاف المنسوبين إلى الصلاح في هذه الأزمان؛ فإنَّ أكثرهم جهَّالٌ يفرحون بتعظيم الناس لهم، بل الغلوُّ في المنسوبين إلى الصلاح أمرٌ واقعٌ. فأما القيام عند قراءة قصَّة المولد فهو أمرٌ وراء ما نحن فيه بمراحل، والله المستعان. [487] فصلٌ في الدعاء ومن الأعمال التي عدَّها القرآن شركًا: دعاءُ غير الله عزَّ وجلَّ، ووقع في تفسير الدعاء وتوجيه كونه شركًا اضطرابٌ للمفسِّرين وغيرهم أحوجني إلى بسط الكلام في هذا المقام، فأقول مستعينًا بالله عزَّ وجلَّ: أهل اللغة متَّفقون على أن أصل الدعاء بمعنى النداء، إلا أن الراغب ذكر فرقًا لفظيًّا فيه نظرٌ، وقد قال الله تعالى {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة: 171]، ورُوِي عن مجاهدٍ أنهما بمعنىً، وكذا قال غيره. قالوا: والمسوِّغ للعطف تغاير اللفظين. ويلوح لي فرقٌ آخر بينهما، وهو: أن الدعاء مأخوذٌ في مفهومه طلبٌ مَّا، بخلاف النداء؛ فإنه غير مأخوذٍ في مفهومه، وإن كان لازمًا له، فتأمَّل.
(3/754)
ولعلَّ هذا الفرق هو السبب في مجيء الدعاء بمعنى السؤال. قال صاحبا اللسان والقاموس: «الدعاء: الرغبة إلى الله عزَّ وجلَّ» (1)، زاد شارح القاموس: «فيما عنده من الخير، [488] والابتهال إليه بالسؤال» (2). وهذا يُشْعِر باختصاصه به تعالى، ومعروفٌ في اللغة والاستعمال أنه لا يُقال: (دعوتُ الأمير) بمعنى: سألتُه، فإن جاء ما يوهم ذلك فالدعاء بمعنى النداء، وأما السؤال فإنما فُهِمَ من القرينة. ويوضِّح لك ذلك: أنك تقول: (دعوتُ الله أن يعطيني)، كما تقول: (سألته أن يعطيني)، ولا تقول: (دعوت الأمير أن يعطيني)، بل تقول: (دعوته ليعطيني)، أو: (إلى أن يعطيني)، ولكن جاء كثيرًا في القرآن أنَّ المشركين يدعون آلهتهم بأنواعهم, كما تقدَّم. ونُقِلَ عن بعض السلف تفسيرُ الدعاء في بعض ذلك بالعبادة، وكاد المفسِّرون المتأخِّرون يطبقون عليه، وفيه نظر؛ فإنه لا يُعرَف في اللغة. ولهذا لم يذكره كثيرٌ من أهل اللغة، حتى الذين يتعرَّضون للمجاز ــ كصاحب القاموس وصاحب الأساس وصاحب المصباح ــ، بل لم يذكره الراغب ــ مع أن كتابه موضوع لغريب القرآن ــ، ومَن ذكره ــ كصاحب اللسان ــ فإنما ذكره تفسيرًا لبعض الكلمات القرآنيَّة، وهذا من أشدِّ العيوب في كتب اللغة؛ يعمِدون [489] إلى بعض الكلمات التي جاءت في القرآن وفسَّرها بعض السلف بشيءٍ أو فهموه هم من القرائن فيثبتون ذلك لغةً، مع أن السلف كانوا يتسامحون في التعبير؛ ثقةً بفهم السامع، فربمَّا فسَّروا الكلمة بلازمها، أو ببعض ما يدخل تحت عمومها، أو غير ذلك مما تدلُّ عليه في الجملة _________ (1) لسان العرب 14/ 257، والقاموس المحيط 1655. (2) تاج العروس 38/ 46.
(3/755)
ــ كما نبَّه عليه المحقِّقون ــ، ولذلك كثر الاختلاف عنهم. وأما ما يفهمونه من القرائن فلعلَّهم يكونون مخطئين، فلا ينبغي أن يجزموا بأن ذلك لغةٌ؛ لأن الناظر في كتب اللغة إذا رأى مثلًا: (الحَرْد: المنع)، يأخذ هذا على أنه نقلٌ يقينيٌّ، ولا يكاد يخطر بباله أن قائل ذلك إنما فهم من الآية، وفي هذا ما فيه. وغاية ما يمكنهم أن يقولوا: إنَّ جَعْلَه في تلك المواضع على حقيقته ــ وهو مجرَّد النداء ــ لا يصحُّ؛ لأن القرآن جعله في تلك المواضع شركًا، وجَعْلُه بمعنى الرغبة والسؤال [490] لا يأتي؛ لما تقدَّم أنَّ ذلك خاصٌّ بالله عزَّ وجلَّ، ويزيد المتأخِّرون أنه نُقِل عن بعض السلف تفسير الدعاء في بعض تلك المواضع بالعبادة. وأقول: أمَّا كونه في تلك المواضع لا يصلح أن يُفسَّر بمجرَّد النداء فلا بأس به، وأما كونه لا يصلح أن يفسَّر بالرغبة والسؤال على وِزان دعاء الله عزَّ وجلَّ ففيه نظرٌ. أوَّلًا: إنَّ الربوبيَّة والألوهيَّة والعبادة كلَّها في الأصل لله عزَّ وجلَّ، ولكنَّ المشركين استعملوها في شركائهم، فما بال الدعاء لا يكون كذلك؟ فكما قالوا في العبادة: «ولا يُقال: عبد يعبد عِبادةً إلَّا لمن يعبد الله تعالى، ومَن عبد دونه إلهًا فهو من الخاسرين، وأمَّا عبد خدم مولاه فلا يُقال: عَبَده»، فكذا يُقال في الدعاء: «لا يُقال بمعنى الرغبة والسؤال إلَّا في الرغبة إلى الله تعالى، ومَن دعا من دونه إلهًا فهو من الخاسرين، وأمَّا رجلٌ رغِب إلى أبيه أو رئيسه فلا يُقال: دعاه». ثم راجعت عبارة الراغب، فإذا فيها: «ودعوتُه: إذا سألتَه وإذا استعنتَه، [قال تعالى]: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [البقرة: 70] أي سَلْه.
(3/756)
[491] وقال: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [الأنعام: 40 - 41] تنبيهًا أنَّكم إذا أصابتكم شدَّة لم تفزعوا إلَّا إليه, {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56] , {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} [البقرة: 23] , {دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} [الزمر: 8] , {دَعَانَا لِجَنْبِهِ} [يونس: 12] , {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس: 106]. {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان: 14]: هو أن يقول: يا لهفاه! ويا حسرتاه! ونحو ذلك من ألفاظ التأسُّف، والمعنى: يحصل لكم غمومٌ كثيرةٌ. وقوله: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [البقرة: 68] سله. والدعاء إلى الشيء: الحثُّ على قصده» (1) اهـ. فَذِكْرُهُ قولَه تعالى {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس: 106] , تحت قوله: (ودعوتُه: إذا سألتَه واستعنته) ظاهرٌ في أنه يفسِّر الدعاء في الآية وأمثالها بالسؤال والاستعانة. ويؤيِّد ذلك أنه لم يذكر أن الدعاء قد يأتي بمعنى العبادة, ولا ذَكَر أنَّ الدعاء بمعنى السؤال والاستعانة مختصٌّ بالله عزَّ وجلَّ. [492] ومما يشهد له أن القرآن يَقْرِنُ الدعاء في كثيرٍ من تلك المواضع بالسماع والاستجابة لفظًا ومعنىً، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف: 94]. _________ (1) المفردات 315، وفيه: (استغثته) بدل (استعنته)، وما بين المعقوفين زيادةٌ من المفردات.
(3/757)
وقال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 56 - 57]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر: 13 - 14]. وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد: 14]. وقال جلَّ ثناؤه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [493] أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 4 - 6]. وقال تبارك اسمه: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 106 - 107]. فمَن تدبَّر هذه الآيات تبيَّن له أنَّ الدعاء فيها بمعنى السؤال والاستعانة ولا سيَّما في الآيات التي فيها ذكر الاستجابة. وقد قال الراغب: «والجواب يُقال في مقابلة السؤال. والسؤال على ضربين: طلب المقال، وجوابه المقال. وطلب النَّوَال، [494] وجوابه النَّوْلُ.
(3/758)
فعلى الأوَّل: {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف: 31]، وقال: {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف: 32] وعلى الثاني قوله: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} [يونس: 89] أي أُعْطِيتُمَا ما سألتما. والاستجابة قيل: هي الإجابة، وحقيقتها التحرِّي للجواب والتهيُّؤ له، لكن عبَّر به عن الإجابة لقلَّة انفكاكها منها. قال تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 24] , وقال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]» (1). وقال ابن جريرٍ في تفسير آية الأعراف: «يقول جلَّ ثناؤه لهؤلاء المشركين من عبدة الأوثان يوبِّخهم على عبادتهم ما لا يضرُّهم ولا ينفعهم من الأصنام: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ} أيُّها المشركون آلهةً {مِنْ دُونِ اللَّهِ} وتعبدونها شركًا منكم وكفرًا بالله {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194] , يقول: هم أملاكٌ لربِّكم كما أنتم له مماليكُ، فإن كنتم صادقين أنها تضرُّ وتنفع وأنها تستوجب منكم العبادة لنفعها إيَّاكم فليستجيبوا لدعائكم إذا دعوتموهم، فإن لم يستجيبوا لكم لأنها لا تسمع دعاءكم، فأيقِنوا بأنها لا تنفع ولا تضرُّ؛ لأن الضرَّ والنفع إنما يكونان ممن إذا سُئِل سَمِعَ مسألة سائله وأعطى وأَفْضَلَ، ومَن إذا شُكِيَ إليه من شيء سَمِعَ فضَرَّ مَن استحقَّ العقوبة ونفع مَن لا يستوجب الضرَّ» (2). [495] وقال في تفسير آية الرعد: «وقوله: {لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [الرعد: 14] يقول: لا تجيب هذه الآلهة التي [يدعوها] (3) هؤلاء المشركون آلهةً _________ (1) المفردات: 210. (2) تفسير ابن جرير 9/ 95. (3) في الأصل: يدعونها, والتصحيح من طبعة دار هجر من تفسير ابن جرير.
(3/759)
بشيءٍ يريدونه من نفعٍ أو دفع ضرٍّ». وأخرج عن عليٍّ عليه السلام قال: كالرجل العطشان يمدُّ يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه وما هو ببالغه. وعن مجاهدٍ: قوله {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ} يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده ولا يأتيه أبدًا. وعنه أيضا: {لِيَبْلُغَ فَاهُ} يدعوه ليأتيه وما هو بآتيه، كذلك يستجيب مَن هو دونه (1). فَيُعْلَمُ من تدبُّر الآيات مع هذه الآثار أن المراد من الاستجابة في الآيات الاستجابة بالنوال، والاستجابة بالنوال إنما تقع في مقابل السؤال ــ كما قال الراغب ــ، فعُلِم بذلك أن الدعاء في الآيات بمعنى السؤال، أي سؤال النفع ــ كما هو ظاهرٌ ــ، وذلك المطلوب. ومما يوضِّح ذلك: أنه ليس مدار استحقاق العبادة على الإجابة بالمقال حتى يحقَّ التشنيع على مَن عبد مَن لا يجيبه بالقول، وإنما مدار ذلك على التدبير المستقلِّ بالنفع والضرِّ [496]ــ كما قدَّمناه في الكلام على قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] (2) ــ، فتعيَّن أن يكون المراد بالاستجابة إجابة بالنفع والضرِّ. فإن قيل: إذا امتنعت الإجابة بالمقال امتنعت الإجابة بالنوال فتكون الآيات من باب قوله تعالى في شأن العجل: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طه: 89]. _________ (1) تفسير ابن جريرٍ 13/ 76. (2) ص 125 [المؤلف]. ص 349.
(3/760)
قلت: في هذه الملازمة نظرٌ، ومع ذلك فإنما تَقْرُبُ لو كان المراد بالمدعوِّين في الآيات الأصنامَ، وليس الأمر كذلك، بل المراد الملائكة, كما تقدَّم إيضاحه في فصل عبادة الملائكة (1). فإن قيل: إن ذلك يمكن على هذا أيضًا، فيُقال: إن الملائكة لا يجيبون داعيهم بالمقال. قلت: ولكن لا تقوم الحجَّة على المشركين؛ لأن لهم أن يقولوا: لعلَّهم يجيبوننا بالمقال ولا يُسمع كلامهم، كما أن الله تبارك وتعالى إذا أجاب بالمقال لا يُسْمَعُ جوابُهُ، ولا يقدح ذلك في استحقاقه العبادة، بخلاف ما إذا كان الدعاء بمعنى السؤال؛ فإنَّ المشركين يعترفون بأن آلهتهم [497] لا تضرُّ ولا تنفع بفعلها، وإنما يرجون منها الشفاعة، ويمكن إقامة الحجَّة عليهم بشأن الشفاعة، فيقول لهم الرسول: ادعوا آلهتكم أن يشفعوا لكم في أن لا يُبْتَلى فلانٌ اليومَ بالعمى، وأنا أدعوا الله أن يُبْتَلَى فلانٌ اليومَ بالعمى؛ فإنَّ آلهتكم إن كانت عبادتهم حقًّا لا بدَّ أن يستجيبوا لكم بالشفاعة في هذا، ولا بدَّ أن يقبل الله تعالى شفاعتهم فيه؛ لأن هذا يومٌ لَهُ ما بَعْدَهُ. هذا، مع أن المشركين كانوا يرتابون في كون آلهتهم تشفع لهم، ولهذا كانوا في الشدائد يخلصون الدعاء لله عزَّ وجلَّ, كما يأتي (2). ثم اعلم أن تجويز أن يكون المراد بالاستجابة في الآيات الاستجابة بالمقال يوجب أن يفسَّر الدعاء بمجرَّد النداء، وقد دلَّت الآيات وغيرها مما _________ (1) انظر ص 417 - 429. (2) انظر ص 767 - 768.
(3/761)
يأتي أن هذا الدعاء عبادةٌ وشركٌ، فإذا كان مجرَّد النداء كذلك فسؤالُ النفع من بابِ أَوْلَى. فإن قلت: المفسِّرون لم يقولوا: إن الدعاء في الآيات جميعها بمعنى النداء، بل قالوا في أكثرها: إنه بمعنى العبادة. ويمكن [498] تقرير كلامهم بأن يُقال: شُبِّهَتْ عبادةُ الأوثان بدعاء الله تعالى الذي هو السؤال في أن المقصود منها طلب النفع، ثم استُعِير الدعاء للعبادة، والاستجابةُ ترشيحٌ. وقد قال الشيخ عزُّ الدين بن عبد السلام في كتاب الإشارة والإيجاز: «النوع الحادي والستُّون: التجوُّز بالدعاء عن العبادة؛ لمشابهة الداعي للعابد في التذلُّل والخضوع، وله أمثلةٌ، أحدها: قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}، الثاني: قوله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ}: أي وغاب عنهم ما كانوا يعبدونه من قبل. الثالث: قوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، معناه: وقال ربُّكم: اعبدوني أُثِبْكم» (1). فالجواب: أن الأصل الحقيقة، ولا يجوز العدول عنها إلَّا لصارفٍ يصرف عنها، ولا صارف هنا، بل مقابلة الدعاء بالاستجابة مؤيِّدٌ لها، وإخراج الكلام عن ظاهره بغير صارفٍ تحريفٌ للكلم عن مواضعه، وقَرْمَطَةٌ (2) لو فُتِح بابُها لعاد الدين لُعْبَة. _________ (1) الإشارة ص 85 - 86. [المؤلف] (2) القَرْمَطة: تحريف النصوص على نَحْوٍ يشبه فعل القرامطة، وهي الفرقة الباطنيَّة التي تدّعي أن للشريعة باطنًا يخالف ظاهرها، ففسَّروا الصلاة بأنها معرفة أسرارهم، والصيام بأنه كتمان أسرارهم، إلى آخر تحريفاتهم. انظر: الأجوبة النافعة عن المسائل الواقعة ص 291.
(3/762)
ولو تتبَّعتَ ما جاء في القرآن من ذكر دعاء غير الله تعالى لعلَّك تجده أكثر من ذكر عبادة غير الله تعالى، وهذا مما يُبعِد المجاز. وما قاله الشيخ عزُّ الدين رحمه الله تردُّه القواعدُ والأصول والأحاديث الصحيحة. وإني لأتعجَّب منه رحمه الله في إدراجه الآية الثالثة مع أنه لا يشكُّ أحدٌ أنَّ دعاء الله تعالى عبادةٌ له. فإن قلت: حقيقة الدعاء هو النداء، وأنت تزعم أن معناه في الآيات السؤال، فهو مجازٌ على قولك أيضًا لا حقيقةٌ. فالجواب: أن استعمال الدعاء في السؤال من الله عزَّ وجلَّ حقيقةٌ إن لم تكن لغويَّةً فعرفيَّةٌ وشرعيَّةٌ. وفي هذه الآيات [499] وغيرها مما يأتي أن المشركين يدعون آلهتهم كما يدعون الله عزَّ وجلَّ، فثبت بذلك أن المراد بدعائهم آلهتهم هو السؤال منها؛ لتمثيله بدعاء الله تعالى، ودعاؤه هو السؤال منه. وعلى فرض أنَّه مجازٌ فمقابلته بالاستجابة قرينةٌ عليه. ولو سلَّمنا أنَّ الدعاء في الآيات مجازٌ عن العبادة لكان أقرب أن تكون العلاقة هي الخصوص والعموم، وعليه فهو حجَّة لنا أيضًا؛ لأن الأخصَّ إنما يُطْلَقُ على الأعمِّ إذا كان الأخصُّ هو الأهمَّ أو من الأهمِّ, كما نصَّ عليه أهل المعاني (1)، وعليه فدعاء المشركين آلهتهم أعظمُ عبادتهم لها أو من أعظمها، فثبت بذلك كونه عبادةً وزيادةً. _________ (1) انظر: المطوَّل في شرح التلخيص 356، وعروس الأفراح (ضمن شروح التلخيص) 4/ 37.
(3/763)
وعندي أن مَن فسَّر الدعاء بالعبادة إنما حمله على ذلك توهُّمه أن المراد بالآلهة في الآيات الأصنام، ورأى أن المشركين لا يسألون منها شيئًا، فهذا الذي اضطرَّه إلى التأويل، والحقُّ أن المراد الملائكة, كما علمتَ مما تقدَّم (1). وعليه فلا حاجة للتأويل. على أنه قد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) [500] إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 69 - 74]. فقوله: {إِذْ تَدْعُونَ} ظاهرٌ في أنهم كانوا يدعون الأصنام؛ إذ لو كان الكلام على الفرض لقيل: (إن تدعوهم)، أو: (لو دعوتموهم)، أو نحو ذلك. وقوله: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} ظاهرٌ في أن المراد الدعاء بالكلام. وقوله {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} ظاهرٌ في أنه ليس المراد بالدعاء مجرَّد النداء، بل المراد به التكلُّم بالسؤال طلبًا للنفع واستدفاعًا للضرِّ، وكأنَّ القوم كانوا يسألون من الأصنام على نيَّة السؤال من الروحانيِّين, كما تقدَّم بيانه (2). يدلُّك على ذلك أنهم نفوا السماع والنفع والضرَّ عن الأصنام. وقد تقدَّم كلام ابن جريرٍ في تقرير ذلك (3). _________ (1) انظر ص 416. (2) انظر ص 621. (3) ص 354. [المؤلف] ص 622.
(3/764)
الدعاء عبادةٌ قال الله تبارك وتعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [المؤمن: 60]. [501] فكلمة (إنَّ) في مثل هذا تفيد التعليل ــ على ما صرَّح به أهل الأصول وغيرهم ــ (1)، وذلك يقتضي أن الدعاء عبادةٌ، كأنه قال: ادعوني؛ فإن الدعاء عبادةٌ، ومَن استكبر عن عبادتي سيدخل جهنَّم. وقد أخرج الإمام أحمد والترمذيُّ وأبو داوود وغيرهم عن النعمان بن بشيرٍ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ الدعاء هو العبادة»، ثم قرأ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} (2). وأخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: «صحيح الإسناد»، وأقرَّه الذهبيُّ (3). وأخرجه في المستدرك أيضًا عن ابن عبَّاسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، بلفظ: «أفضل العبادة الدعاء»، وقرأ الآية. قال الحاكم: «صحيحٌ»، وأقرَّه الذهبيُّ أيضًا. وأخرج الترمذيُّ عن أنسٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدعاء مخُّ العبادة» (4). _________ (1) الإشارة: ص 85 - 86. [المؤلف] (2) مسند أحمد 4/ 267. جامع الترمذيّ، كتاب الدعوات، باب ما جاء في فضل الدعاء، 2/ 242، ح 3372، وقال: «هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ». سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب الدعاء، 1/ 207، ح 1479. [المؤلف] (3) المستدرك، كتاب الدعاء، أفضل العبادة هو الدعاء، 1/ 490 - 491. [المؤلف] (4) جامع الترمذيِّ، الموضع السابق، 2/ 242، ح 3371، وقال: «حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة».
(3/765)
وقد روى الطبرانيُّ في كتاب الدعاء حديث النعمان بن بشيرٍ، بلفظ: «العبادة هي الدعاء»، ثم قرأ الآية (1). وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) [502] وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 4 - 6]. لا يخفى دلالة السياق على أنَّ قوله: {بِعِبَادَتِهِمْ} أُرِيد بها الدعاء المذكور قبل. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 116 - 117] , فجعل الدعاء شركًا، والشرك عبادة غير الله عزَّ وجلَّ. وقال سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40 - 41]. الآية صريحةٌ في أن المراد بالدعاء السؤال. _________ (1) كتاب الدعاء للطبرانيِّ، باب تأويل قول الله عزَّ وجلَّ: «ادعوني أستجب لكم ... »، ص 786، ح 1.
(3/766)
وقال ابن جريرٍ: « ... ما أنتم أيُّها المشركون بالله الآلهةَ والأنداد إن أتاكم [503] عذاب الله أو أتتكم الساعة بمستجيرين بشيءٍ غير الله في حال شدَّة الهول النازل بكم من آلهةٍ ووثنٍ وصنمٍ، بل تدعون هناك ربَّكم الذي خلقكم، وبه تستغيثون، وإليه تفزعون دون كلِّ شيءٍ غيره، {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ}، يقول: فيفرِّج عنكم عند استغاثتكم به وتضرُّعكم إليه عظيمَ البلاءِ النازل بكم إن شاء» (1). وقال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم: 33]. قال ابن جريرٍ: «يقول تعالى ذكره: وإذا مسَّ هؤلاء المشركين الذين يجعلون مع الله إلهًا آخر فأصابتهم شدَّةٌ وجدوبٌ وقحوطٌ دعوا ربَّهم، يقول: أخلصوا لربِّهم التوحيد وأفردوه بالدعاء والتضرُّع إليه واستغاثوا به منيبين إليه» (2). [504] وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ _________ (1) تفسير ابن جريرٍ 7/ 113. (2) تفسير ابن جريرٍ 21/ 26.
(3/767)
بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [يونس: 18 - 22]. قال ابن جريرٍ: «{دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} يقول: أخلَصوا له الدعاء هنالك دون أوثانهم وآلهتهم، وكان مفزعهم حينئذٍ إلى الله دونها». ثمَّ أخرج عن قتادة قال: «إذا مسَّهم الضرُّ في البحر أخلصوا له الدعاء». وعن ابن زيدٍ قال: «هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون، فإذا كان الضرُّ لم يدعوا إلا الله، فإذا نجَّاهم إذا هم يشركون» (1). وقال سبحانه: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32]. [505] قال ابن جريرٍ: «يقول تعالى ذكره: وإذا غشي هؤلاء موجٌ كالظلل فخافوا الغرق فزعوا إلى الله بالدعاء مخلصين له الطاعة لا يشركون به هنالك شيئًا، ولا يدعون معه أحدًا سواه، ولا يستعينون بغيره». وأخرج عن مجاهدٍ قوله: {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} قال: «المقتصد في القول، وهو كافرٌ» (2). _________ (1) تفسير ابن جرير 11/ 63. (2) تفسير ابن جريرٍ 21/ 49.
(3/768)
يريد مجاهدٌ ــ والله أعلم ــ: أن المراد بالمقتصد الذي لا يستغيث بغير الله تعالى في قوله، ولكنه كافرٌ في اعتقاده وعمله. وهذا مع ما تقدَّم من تفسيرهم {الدِّينَ} في الآيات بالدعاء يدلُّك أن المراد بإخلاصهم الدين إنما هو إخلاص الدعاء وحده، فأمَّا الاعتقاد فهو باقٍ حتى في البحر؛ لأنه لم يَعْرِضْ له ما يزيله، وإنما عرض لهم من الشدَّة ما اضطرَّهم إلى الاقتصار على دعاء الله عزَّ وجلَّ؛ لأنهم واثقون بأنَّ دعاء الله تعالى ينفع، ومرتابون في دعاء غيره، والإنسان عند الشدَّة إنما يفزع إلى أوثق الأسباب عنده ولا يتشاغل بما دونها. قال الشاعر (1): وإذا نَبَا بك والحوادِثُ جَمَّةٌ ... زمنٌ حَدَاكَ إِلَى أَخِيكَ الأَوْثَق والآيات القرآنيَّة في شأن الدعاء كثيرةٌ، وفيما ذكرناه كفايةٌ إن شاء الله تعالى. [506] أحكام الطلب، ومتى يكون دعاءً لقائلٍ أن يقول: قد علمنا أن السؤال من الله تعالى والرغبة إليه يُسمَّى دعاءً، وأنه عبادةٌ، وأن القرآن قد أثبت أن المشركين يدعون آلهتهم من دون _________ (1) هو القطامي التغلبي. والبيت في ديوانه (257) تحقيق محمود الربيعي, (111) تحقيق إبراهيم السامرائي وأحمد مطلوب. ورواية الديوان ومعظم المصادر التي وقفتُ عليها هكذا: وإذا أصابك والحوادث جمَّةٌ ... حدثٌ حداك إلى أخيك الأوثق وفي بعضها: «يصيبك»، وفي بعضها: «ينوبك».
(3/769)
الله، وثبت أن دعاءهم آلهتهم هو السؤال منها والرغبة إليها، وأنَّ ذلك عبادةٌ لها وشركٌ بالله عزَّ وجلَّ، ولكن ما هو السؤال الذي إذا وقع لغير الله تعالى كان دعاءً وعبادةً للمسؤول وشركًا بالله تعالى؟ فالجواب: أَمَرَ الله عزَّ وجلَّ عبادَهُ أن يدعوه في صلاتِهم قائلين: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، ولا نزاع أن المعنى: نعبدك وحدك لا نعبد غيرك، ونستعينك وحدك لا نستعين غيرك، والاستعانة هنا عامَّة. وروى الإمام أحمد والترمذيُّ وغيرهما عن ابن عبَّاسٍ أنه ركب خلف رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «يا غلام، إني معلِّمك كلماتٍ، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمَّة لو اجتمعوا على أن ينفعوك [507] لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضرَّوك بشيءٍ لم يضروك إلَّا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفِعَتِ الأقلام وجفَّت الصحف» (1). وصحَّ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بايع جماعةً من أصحابه على ألَّا يسألوا الناس شيئًا، فكان سوط أحدهم يسقط وهو على بعيره فينزل فيأخذه، لا يقول لأحدٍ: ناوِلْنيه (2). _________ (1) المسند 1/ 293، جامع الترمذيِّ، كتاب صفة القيامة، باب 59، 2/ 84، ح 2516، وقال: «هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ». (2) انظر: صحيح مسلمٍ، كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس، 3/ 97، ح 1043. [المؤلف]
(3/770)
وجاءت أحاديث كثيرةٌ في تحريم سؤال الناس، أي: أن تسألهم أن يعطوك شيئًا من أموالهم (1)، واستُثْنِيَ في بعضها السؤالُ من السلطان، والسؤالُ عند شدَّة الحاجة (2). وقد نظرتُ في وجوه السؤال فوجدته على أقسامٍ: القسم الأوَّل: ما هو من باب سؤال الإنسان حقًّا له عند المسؤول، كأن يكون لك دَيْنٌ عند إنسانٍ فتطلبه منه. الثاني: ما جرت العادة بالتسامح به على نيَّة المكافأة، كقول التلميذ لزميله: (ناولني الكتاب). الثالث: سؤال الإنسان ما ليس بحقٍّ له ولا جرت العادة بالتسامح به على نيَّة المكافأة، وذلك كقول مَن يجد الكَفاف [508] من العيش لغنيٍّ لا حقَّ له عليه: (أعطني دينارًا) مثلًا. ومن هذا القسم سؤال الإنسان من ربِّه تعالى؛ لأنه لا حقَّ له على ربِّه تعالى. فأمَّا الأوَّل فلا يُسمَّى استعانةً، ولا يلزمه التذلُّل والخضوع. وأما الثاني فإنه وإن سُمِّي استعانةً لكنَّه لا يلزمه التذلُّل والخضوع، إلَّا _________ (1) كحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن سأل الناس أموالهم تكثُّرًا فإنما يسأل جمرًا، فليستقلَّ أو ليستكثر». أخرجه مسلمٌ في الموضع السابق، 3/ 96، ح 1041. (2) كحديث سمرة بن جندبٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن المسألة كدٌّ يكدُّ بها الرجل وجهه، إلا أن يسأل الرجل سلطانًا أو في أمرٍ لا بدَّ منه». أخرجه الترمذيّ في كتاب الزكاة، باب ما جاء في النهي عن المسألة، 3/ 65، ح 681، وقال: «حديثٌ حسنٌ صحيحٌ».
(3/771)
أن فيه رائحةً مَّا من ذلك. وأما الثالث: فهو الذي يلزمه التذلُّل والخضوع. وقد يكون السؤال من القسم الأوَّل ولكنه يصحبه تذلُّلٌ مَّا فيما يظهر، وذلك كسؤال الناس أنبياءهم عن أمور دينهم، وكذلك سؤال العامَّة علماءهم عن أمور الدين، وكذلك سؤال المحتاج العاجز حاجته من الغنيِّ. والحقُّ أن السؤال من الأنبياء والعلماء إنما يصحبه الإكرام والاحترام الذي أمر الله عزَّ وجلَّ به، وأما سؤال المحتاج العاجز فإنما يصحبه التذلُّل لجهل الأغنياء بما عليهم من الحقوق, ونظير ذلك أن يكون لك دَيْنٌ على جبَّارٍ؛ فإنك تحتاج [509] عند طلبك حقَّك منه إلى إظهار التذلُّل. ومن القسم الأوَّل ما أُبِيح من سؤال السلطان (1)، فالمراد إباحة أن يسأله مَن كان له حقٌّ في بيت المال، فأمَّا مَن لم يكن له حقٌّ أصلًا فسؤاله من السلطان كسؤاله له من غيره. ومن الأوَّل أمر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الناسَ بالصلاة عليه؛ فإن ذلك حقٌّ له عليهم. وفيه معنيان آخران هما المقصود بالذات, والله أعلم: - تبليغهم أمر الله عزَّ وجلَّ. - وإرشادهم إلى ما ينفعهم. وعلى هذا ما رُوِي من قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر: «لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك» (2)، على أن في صحَّته مقالًا. _________ (1) سبق قريبًا تخريج الحديث الذي يدل على ذلك. (2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء، 2/ 80، ح 1498. والترمذيّ في كتاب الدعوات، باب 110، 5/ 559، ح 3562، وقال: «حديثٌ حسنٌ صحيحٌ». وابن ماجه في كتاب المناسك، باب فضل دعاء الحجِّ، 2/ 966، ح 2894. وفيه: عاصم بن عُبَيد الله، وهو ضعيفٌ. ولذا ضعَّفه الألبانيّ. انظر: ضعيف سنن أبي داود (الأم) 2/ 92.
(3/772)
وأمَّا ما رُوِي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن خير التابعين رجلٌ يُقال له: أُوَيْسٌ، وله والدةٌ، وبه بياضٌ، فمروه فليستغفرْ لكم» (1). فهذا أمرٌ من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأُوَيْسٍ مصداقُه من كتاب الله عزَّ وجلَّ قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]، فأمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يبلِّغوا أُوَيْسًا هذا [510] الحكم. ومما يَشُدُّ هذا قوله: «فمروه فليستغفر لكم»، ولم يقل: (فاسألوه)، أو نحو ذلك، وكأنه إنما خصَّ أُوَيْسًا تنبيهًا على مزيد فضله؛ لأن الناس كانوا يسخرون منه ويحتقرونه، والله أعلم. وأما سؤال الصحابة من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر لهم ففيه حظٌّ من القسم الأوَّل؛ لأن الله تعالى قد أمر رسوله بذلك، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] , وقال تعالى: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} [النور: 62]، _________ (1) صحيح مسلمٍ، كتاب فضائل الصحابة، بابٌ من فضائل أُوَيسٍ القرنيّ، 7/ 189، ح 2542 (224). [المؤلف]
(3/773)
وقال سبحانه: {فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 12]، وقال تبارك وتعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103]. وقال عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ [511] إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ [512] فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 58 - 65]. قال السيوطيُّ في أسباب النزول: أخرج ابن أبي حاتمٍ والطبرانيُّ بإسنادٍ صحيحٍ عن ابن عبَّاسٍ قال: كان أبو برزة الأسلميُّ كاهنًا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناسٌ من المسلمين، فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ
(3/774)
إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}، إلى قوله: {إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} (1). وأخرج ابن أبي حاتمٍ من طريق عكرمة أو سعيدٍ عن ابن عبَّاسٍ قال: كان الجلاس بن الصامت ومعتِّب بن بشيرٍ (2) ورافع بن زيدٍ وبشر (3) يدَّعون الإسلام، فدعاهم رجالٌ من قومهم من المسلمين في خصومةٍ كانت بينهم إلى النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، فدعوهم إلى الكهَّان حكَّام الجاهليَّة، فأنزل الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} الآية (4). أقول: فقول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} أي: لإظهار التوبة وقبول حكمك في قضيَّتهم والاعتذار إليك فيما سبق منهم [513] من إبائهم المحاكمة إليك. وقوله: {فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} أي: إظهارًا للتوبة, وقوله: {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} أي: كما أمره ربُّه عزَّ وجلَّ بالاستغفار للمؤمنين؛ لأن أولئك النفر إنما يرجعون إلى الإيمان بتوبتهم، ومن توبتهم المجيء إلى الرسول ــ كما تقدَّم ــ، والله أعلم. _________ (1) انظر ما سبق ص 434. (2) ويُقال له أيضًا: (معتِّب بن قُشيرٍ)، كما في الاستيعاب لابن عبد البرِّ، بهامش الإصابة 3/ 442. (3) كذا في الأصل واللباب، وفي مصادر أخرى: (بُشير)، وهو الصواب؛ لأن بشرًا وبُشيرًا الأنصاريَّين ابني الحارث (وهو أبيرق) أَخَوان، وقد ذُكِر بُشير بنفاقٍ وردَّة ولم يُذكر أخوه بشيءٍ من ذلك. انظر: الاستيعاب، بهامش الإصابة 1/ 154. (4) انظر: لباب النقول ص 64، الدرّ المنثور 2/ 580.
(3/775)
هذا مع أن كبار الصحابة كان غالب أحوالهم عدم سؤال الدعاء لأنفسهم من النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما كانوا يسارعون في الخيرات من الأعمال الصالحة عالمين بأن ذلك هو السبب الحقيقيُّ لأن يستغفر لهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كما أمره الله عزَّ وجلَّ. وقد قال الله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ [514] اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الفتح: 11]. وقال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 79، 80]. وقد يُقال في قول أبناء يعقوب: {قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97]: إن فيه طلب حقٍّ أيضًا. وعلى كلِّ حالٍ فطلب الدعاء من الأنبياء بما فيه صلاح الدين أمرٌ مرغوبٌ فيه في الجملة إذا كان بحضرتهم، إلَّا أن ما قدَّمناه من صنيع كبار الصحابة يدلُّ أن الأولى عدم الطلب والاكتفاء بعمل الخيرات؛ لأنه يبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على الدعاء والاستغفار للعامل بدون سؤالٍ [515] منه، والله أعلم.
(3/776)
وقد روى مسلمٌ في صحيحه عن ربيعة بن كعبٍ: كنتُ أبيتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتيته بوَضوئه وحاجته، فقال لي: «سل»، فقلتُ: أسألك مرافقتك في الجنَّة، قال: «أوْ غيرَ ذلك؟ » قلتُ: هو ذاك، قال: «فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود»، الحديث في صحيح مسلمٍ هكذا مختصرًا (1). وقد أخرجه الإمام أحمد في المسند (2) مطوَّلًا، وفيه: فقلت: يا رسول الله: «اشفع لي إلى ربِّك عزَّ وجلَّ فلْيُعتقني من النار». وفي روايةٍ أخرى: أسألك يا رسول الله أن تشفع لي إلى ربِّك فيعتقني من النار. وفيه: فقال: «إني فاعلٌ، فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود». فالنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يكافئ ربيعة لخدمته إيَّاه، فأمره بسؤال حاجته، فسأله الدعاء له بمرافقته في الجنَّة أو بالإعتاق من النار، فكأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تردَّد في استحقاق ربيعة للمرافقة حينئذٍ، فقال له: «أوْ غير ذلك»، أي: سلْ شيئًا [516] غير ذلك، فلما أبى، قال - صلى الله عليه وسلم -: «إني فاعلٌ، فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود»، أي: حتى تستحقَّ ذلك أو تقارب الاستحقاق، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يدعو لأحدٍ بما لا يستحقُّه أصلًا وإن سأله؛ فقد رُوِي أن قاتلًا سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر له، فقال: «لا غفر الله لك» (3). _________ (1) كتاب الصلاة، باب فضل السجود والحثِّ عليه، 2/ 52، ح 489. [المؤلف] (2) 4/ 59. [المؤلف] (3) أخرجه الطبريُّ 7/ 353، من طريق ابن إسحاق عن نافعٍ عن ابن عمر. وفي إسناده: سفيان بن وكيعٍ، وهو ضعيفٌ. وأخرجه ــ بمعناه ــ أبو داود في كتاب الديات، باب الإمام يأمر بالعفو في الدم، 4/ 171 - 172، ح 4503. وأحمد 5/ 112 و 6/ 10، وابن أبي شيبة في كتاب المغازي، حديث عبد الله بن أبي حدردٍ الأسلميِّ، 20/ 553 - 555، ح 38168. وابن الجارود (غوث المكدود)، بابٌ في الديات، 3/ 92 - 93، ح 777. والطبرانيُّ 6/ 41 - 42، ح 5455، والبيهقيُّ في كتاب السير، باب المشركون يسلمون قبل الأسر ... ، 9/ 116 وغيرهم، من طرقٍ عن ابن إسحاق وعن عبد الرحمن بن الحارث عن محمد بن جعفر بن الزبير عن زياد بن سعد بن ضميرة عن أبيه. قال الحافظ ابن حجرٍ في الإصابة 4/ 271: «إسناده حسنٌ»، مع أن فيه زياد بن سعدٍ، الذي قال عنه في التقريب: «مقبول». ولذلك ضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود.
(3/777)
فأما سؤال الدعاء بالمغفرة ونحوها من غير النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقد كرهه بعض الصحابة وغيرهم. قال ابن سعدٍ: أخبرنا محمَّد بن عبد الله الأنصاريُّ، ثنا أبو عونٍ، قال: كنا عند إبراهيم، فجاء رجلٌ، فقال: يا أبا عمران، ادع الله أن يشفيني، فرأيته أنه كرهه كراهةً شديدةً، حتى رَأَيْتُنَا عرفنا كراهية ذلك في وجهه ــ أو: حتى عرفتُ كراهية ذلك في وجهه ــ، ثم قال: جاء رجلٌ إلى حذيفة، فقال: ادع الله أن يغفر لي، قال: «لا غفر الله لك»، قال: فتنحَّى الرجل ناحيةً فجلس، فلما كان بعد ذلك قال: «أدخلك [517] الله مدخل حذيفة! أقد رضيت الآن؟» قال: «ويأتي أحدكم الرجل كأنه قد أحصى شأنه، كأنَّه كأنه» (1)، فذكر إبراهيم السنَّة فرغَّب فيها، وذكر ما أحدث الناس فكرهه. اهـ (2). ونقل صاحب الاعتصام عن مهذَّب الآثار للطبريِّ أنه أخرج فيه عن مدرك بن عمران قال: كتب رجلٌ إلى عمر رضي الله عنه أن ادعُ الله لي، فكتب إليه عمر: إني لستُ بنبيٍّ، ولكن إذا أقيمت الصلاة فاستغفر الله لذنبك. _________ (1) كتب الشيخ بعد «كأنه» الثانية: مكرَّر. (2) من طبقات ابن سعدٍ 6/ 193. [المؤلف] وهو في طبعة دار صادر 6/ 276 - 277.
(3/778)
وعن سعد بن أبي وقَّاصٍ أنه لما قدم الشام أتاه رجلٌ، فقال: استغفر لي، فقال: غفر الله لك، ثم أتاه آخر، فقال: استغفر لي، فقال: لا غفر الله لك ولا للأوَّل، أنبيٌّ أنا؟ ! وعن زيد بن وهبٍ أن رجلًا قال لحذيفة رضي الله عنه: استغفرْ لي، فقال: لا غفر الله لك، ثم قال: هذا يذهب إلى نسائه فيقول: استغفرَ لي حذيفة، أترضى أن أدعو الله أن تكن (تكون) (1) مثل حذيفة (2). وعن ابن عُلَيَّة، عن ابن عونٍ، قال: جاء رجلٌ إلى إبراهيم، فقال: [518] يا أبا عمران، ادعُ الله أن يشفيني، فكره ذلك إبراهيم وقطَّب، وقال: جاء رجلٌ إلى حذيفة، فقال: ادعُ الله أن يغفر لي، فقال: لا غفر الله لك، فتنحَّى الرجل فجلس، فلما كان بعد ذلك قال: فأدخلك الله مُدْخَل حذيفة، أقد رضيتَ الآن؟ يأتي أحدكم الرجل كأنه قد أحصر (3) شأنه، ثم ذكر إبراهيم السنَّة فرَغَّب فيها، وذكر ما أحدث الناس فكرهه. وعن منصورٍ، عن إبراهيم، قال: «كانوا يجتمعون فيتذاكرون، فلا يقول بعضهم لبعض: استغفر لنا». اهـ (4). فأما سؤال الدعاء في أمرٍ دنيويٍّ فقد جاء عن بعض الصحابة أنهم سألوا _________ (1) التصحيح من المؤلف, وفي طبعة دار ابن الجوزي من الاعتصام 2/ 332: يجعلك. (2) أخرجه أبو نُعَيمٍ في الحلية 1/ 277. (3) كذا في الأصل, وفي طبعة دار ابن الجوزي من الاعتصام: «أحصى» , وهو الذي سبق أن نقله المؤلفُ عن ابن سعد في الطبقات قريبًا. (4) الاعتصام 2/ 159 - 160. [المؤلف]. قال الشاطبيُّ: «وهذه الآثار من تخريج الطبريِّ في تهذيب الآثار له». ولم أجدْه في المطبوع منه.
(3/779)
النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فمن ذلك ما هو في مصلحةٍ عامَّةٍ تتناول السائل وغيره، وهذا قد وقع من بعض أكابر الصحابة، كما رُوِي عن أبي هريرة أو أبي سعيدٍ قال: لما كان غزوة تبوك أصاب الناسَ مجاعةٌ، قالوا: يا رسول الله، لو أذِنْتَ لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادَّهنَّا، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «افعلوا»، قال: فجاء عمر، فقال يا رسول الله، إن فعلتَ قلَّ الظَّهْرُ، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع الله لهم عليها بالبركة، لعلَّ الله أن يجعل في ذلك ... الحديث (1). ومنه ما هو لبعض أقارب السائل، كقول أمِّ أنسٍ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، خادمك أنسٌ؛ فادع الله له، فقال: «اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته» (2). وفي روايةٍ: فدعا لي رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ثلاث دعواتٍ، قد رأيتُ منها اثنتين في الدنيا، وأنا أرجو الثالثة في الآخرة (3). أقول: والثالثة هي قوله: «وأَدْخِلْهُ الجنَّة» (4) صرَّح بِها في روايةٍ ــ كما في الإصابة ــ، على أنها لم تصرِّح بسؤال الدعاء [519] لمصلحة دنيويَّةٍ، ولكن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - _________ (1) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، بابٌ مَن لقي الله بالإيمان وهو غير شاكٍّ فيه دخل الجنَّة ... ، 1/ 42، ح 27 (45). [المؤلف] (2) صحيح مسلمٍ، كتاب فضائل الصحابة، بابٌ مَن فضائل أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، 7/ 160، ح 2481. [المؤلف]. وقد أخرجه البخاريُّ في كتاب الدعوات، باب قول الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} ... ، 8/ 73، ح 6334، ومواضع أخرى. (3) صحيح مسلمٍ، الموضع السابق، 7/ 160، 2481 (144). [المؤلف] (4) زيادةٌ يقتضيها السياق، والرواية بهذه الزيادة أخرجها عبد بن حميدٌ في مسنده (المنتخب 3/ 127، ح 1253)، وانظر الإصابة 1/ 255.
(3/780)
دعا له لدينه ودنياه. ومنه: ما هو للسائل نفسه. وعامَّة ما ورد من ذلك كان لحاجةٍ أو ضرورةٍ، كما جاء في سؤال قتادة بن النعمان ردَّ عينه واعتذاره بأنَّ له أزواجًا يخاف أن يقلن: أعور (1)، وما رُوِي في سؤال الأعمى الدعاء بردِّ بصره وشكواه أنه ليس له قائدٌ وأنه قد اشتدَّ تضرُّره, وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى (2). وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخيِّر مَن يسأله الدعاء أنه إن صبر فهو خيرٌ له؛ فمنهم مَن اعتذر، ومنهم مَن اختار الصبر، كما جاء في صحيح مسلمٍ عن عطاء بن أبي رباحٍ قال: قال لي ابن عبَّاسٍ: ألا أُرِيك امرأةً من أهل الجنَّة؟ فقلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، قالت: إني أُصْرَع، وإني أتكشَّف، فادع الله لي، قال: «إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنَّة، وإن شئتِ دعوتُ الله أن يعافيكِ»، قالت: أصبر، قالت: فإني أتكشَّف، فادعُ الله أن لا أتكشَّف، فدعا لها (3). وجاء في قصَّة ثعلبة بن حاطبٍ أنه قال: يا رسول الله، ادعُ الله أن يرزقني مالًا، [520] قال: ويحك يا ثعلبة، قليلٌ تؤدِّي شكره خيرٌ من كثيرٍ لا _________ (1) انظر ترجمته في الإصابة. [المؤلف]. 9/ 27، وما يتعلَّق باعتذاره بأنَّ له أزواجًا انظره في الطبقات الكبرى لابن سعدٍ 3/ 453. (2) انظر: ص 544 - 548 من المخطوط. (3) صحيح مسلمٍ، كتاب البرِّ والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرضٍ، 8/ 16، ح 2576. [المؤلف]. وقد أخرجه البخاريّ في كتاب المرضى، باب فضل مَن يُصرَع من الريح، 7/ 116، ح 5652.
(3/781)
تطيقه، قال: والله لئن آتاني الله مالًا لأوتِينَّ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فدعا له، فأوتيَ المال، فكان نهايتُه أن أنزل الله تعالى فيه: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} [التوبة: 77] (1). وفي هذا تنبيهٌ على سرٍّ عظيمٍ، وهو أن الله تعالى أرحم بعباده من أنفسهم، وهو سبحانه أعلم منهم بما يُصلحهم. وقد أباح الله عزَّ وجلَّ للعبد أن يدعوه بما شاء، قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، والله تعالى لا يخلف الميعاد، ولكنه إذا عَلم أنَّ ما سأله العبد يعود عليه بالمضرَّة لو أوتيه يمنعه إيَّاه، ويجعل إجابته لتلك الدعوة نعمةً أخرى للسائل خيرًا له مما سأل (2). وفي صحيح مسلمٍ عن أبي هريرة قال: قال النبيُّ صلَّى الله [521] عليه وسلَّم: «لا يزال يُستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثمٍ أو قطيعة رحمٍ، ما لم يستعجل»، قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: «يقول: قد دعوتُ، قد دعوت، فلم أر يُستجاب لي؛ فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء» (3). _________ (1) انظر: أسباب النزول. [المؤلف]. للواحديّ 252، ولباب النقول للسيوطيِّ 115. والحديث أخرجه الطبري (11/ 578) وابن أبي حاتمٍ (6/ 1847) وغيرهما من طريق عليّ بن يزيد الألهانيّ، وهو متروكٌ، وضعَّفه العراقيّ في تخريج الإحياء (3/ 272) وابن حجرٍ في فتح الباري (3/ 266). وحكم ببطلان القصة ابن حزم في المحلى 11/ 208. وانظر السلسلة الضعيفة 4/ 111 برقم 1607. (2) يعني أنه يُعطى عوض تلك الدعوة ما هو أولى له عاجلًا أو آجلًا. (3) صحيح مسلمٍ، كتاب الذكر والدعاء ... ، باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل ... ، 8/ 87، ح 2735 (92). [المؤلف]
(3/782)
وفي جامع الترمذيِّ عن جابرٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من أحدٍ يدعو بدعاءٍ إلَّا آتاه الله ما سأل أو كفَّ عنه من السوء مثله ما لم يدعُ بإثمٍ أو قطيعة رحمٍ» (1). وفي المستدرك عن أبي هريرة قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ما من عبد ينصب وجهه إلى الله في مسألةٍ إلا أعطاه الله إيَّاها، إمَّا أن يعجِّلها وإما أن يدَّخرها». قال الحاكم: «صحيحٌ»، وأقرَّه الذهبيُّ (2). وفي مسند الإمام أحمد عن أبي سعيدٍ الخدريِّ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من مسلمٍ يدعو بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعة رحمٍ إلا أعطاه الله بِها إحدى ثلاث: إما أن تُعَجَّلَ له دعوتُه، وإما أن يدَّخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف [522] عنه من السوء مثلها»، قالوا: إذًا نكثر، قال: «الله أكثر» (3). وأخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: «صحيحٌ»، وأقرَّه الذهبيُّ (4). وفي المسند أيضًا عن عبادة بن الصامت أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حدَّثهم، قال: «ما على ظهر الأرض من رجلٍ مسلمٍ يدعو الله عزَّ _________ (1) جامع الترمذيّ، كتاب الدعوات، باب ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة، 2/ 244، ح 3381. [المؤلف]. وأخرجه أحمد في مسنده 3/ 360, وحسَّنه الألباني. (2) المستدرك، كتاب الدعاء، قال الله عزَّ وجلَّ: «عبدي أنا عند ظنِّك بي»، 1/ 497. [المؤلف]. وأخرجه أحمد في مسنده 2/ 448, والبخاري في الأدب المفرد 1/ 375 ح 711 وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد ص 264 - 265. (3) مسند أحمد 3/ 18. [المؤلف]. والبخاري في الأدب المفرد 1/ 374 ح 710 وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد ص 264. (4) المستدرك، كتاب الدعاء، «الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل»، 1/ 493. [المؤلف]
(3/783)
وجلَّ بدعوةٍ إلا آتاه الله إيَّاها، أو كَفَّ عنه من السوء مثلها، ما لم يدعُ بإثمٍ أو قطيعة رحمٍ» (1). وأخرج الترمذيُّ من حديث سلمان الفارسيِّ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إن الله حَيِيٌّ كريمٌ، يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردَّهما صِفْرًا خائبتين» (2). أخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: «صحيحٌ على شرط الشيخين»، وأقرَّه الذهبيُّ. وذكر له الحاكم شاهدًا من حديث أنسٍ نحوه (3). استثنى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الدعاء بإثمٍ أو قطيعة رحمٍ؛ لأنَّ الداعي عاصٍ بهذا الدعاء، فلا يستحقُّ الإجابة أصلًا. ويُلْحَق بذلك ــ والله أعلم ــ مَن ابتدع في دعائه، إمَّا في نفس الدعاء، وإمَّا فيما يتعلَّق به، كأن تحرَّى مكانًا أو زمانًا أو هيئةً يزعم أنَّ ذلك أقرب إلى الإجابة، ولم يثبت ذلك عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عبد الله بن مُغفَّلٍ _________ (1) مسند أحمد 5/ 329. [المؤلف]. وأخرجه الترمذي, كتاب الدعوات, باب في انتظار الفرج وغير ذلك, 5/ 554 ح 3573 وقال: «حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه». (2) جامع الترمذيّ، كتاب الدعوات، باب 105، 2/ 273، ح 3556. [المؤلف]. قال الترمذي: «حديث حسن غريب, ورواه بعضهم ولم يرفعه». وقد أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الدعاء، 2/ 79، ح 1488. وابن ماجه في كتاب الدعاء، باب رفع اليدين في الدعاء، 2/ 1271، ح 3865. وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان)، 3/ 160، ح 876. (3) المستدرك، كتاب الدعاء، «إن الله حييٌّ كريمٌ ... »، 1/ 497.
(3/784)
رضي الله عنه أنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتُها، قال: أي بُنَيَّ، سل الله الجنَّة وتعوَّذ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «سيكون في هذه الأمَّة قومٌ يعتدون في الطُّهور والدعاء» (1). [و] أخرجه الحاكم في الدعاء من المستدرك، وقال: «صحيح الإسناد»، وقال الذهبيُّ في تلخيص المستدرك: «صحيحٌ» (2). [523] فأما تحرِّي الدعاء بلفظٍ معيَّنٍ يحفظه الرجل ويواظب عليه؛ فإن كان ذلك لأنَّه ثبت في كتاب الله عزَّ وجلَّ أو ورد عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - فحسنٌ، ولكنَّ الأولى أن يتتبَّع أدعية النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ويدعو بكلٍّ منها في موضعه كما كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يصنع. وإن كان لغير ذلك؛ كأن أعجبه لفظه، أو كان قد دعا به مرَّةً فحصل مطلوبه، أو نُقِل عن بعض الصالحين، أو زعم بعضهم أنه مجرَّبٌ أو أن له ثوابًا عظيمًا، أو أنه علَّمه الخضر، أو علَّمه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في النوم، أو نحو ذلك، فلا أحبُّ أن يتحرَّاه؛ فإن التحرِّيَ حقٌّ لما ثبت عن الله عزَّ وجلَّ وعن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد قال الله تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3]. وما أخسر صفقة من يَدَعُ الأدعية الثابتة في كتاب الله عزَّ وجلَّ أو في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا [524] يكاد يدعو بِها، ثم يعمِد إلى غيرها فيتحرَّاه ويواظب عليه، أليس هذا من الظلم والعدوان؟ ! _________ (1) مسند أحمد 4/ 87. سنن أبي داود، كتاب الطهارة، باب الإسراف في الماء، 1/ 11، ح 96 ــ واللفظ له ــ. سنن ابن ماجه، كتاب الدعاء، باب كراهية الاعتداء في الدعاء، 2/ 229، ح 3864. [المؤلف]. وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان) 15/ 166 - 167، ح 3763, 6764. (2) المستدرك، كتاب الدعاء، الاعتداء في الدعاء والطهور، 1/ 540. [المؤلف]
(3/785)
ومن أشنع الغلط في هذا الباب الاعتمادُ على التجربة، وما يدريك لعلَّ الله عزَّ وجلَّ لا يرضى لك ذلك الدعاء، ولكنَّه علم أن حاجتك التي دعوتَ بِها إذا أُعطيتَها عادت عليك بالضرر، فأعطاك إيَّاها؛ ليكون ما يحصل لك بِها من الضرر عقوبةً لك على ذلك، أو أعطاك إيَّاها من باب الاستدراج ــ والعياذ بالله ــ، وقد قال الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]. وجاء عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لسبطه الحسن بن عليٍّ عليهما السلام: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك». صحَّحه الترمذيُّ وابن حِبَّان والحاكم, وقد تقدَّم (1). وفي مسند أحمد من حديث أنس بن مالكٍ: ... وقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك» (2). والمقصود أن ثعلبة لو اقتصر على دعائه لنفسه [525] بكثرة المال وترك الخيرة لله عزَّ وجلَّ لما ضرَّه ذلك، بل كان الله عزَّ وجلَّ يثيبه على ذلك الدعاء ما يعلم أنَّ له فيه خيرًا في أمر معاشه ومعاده، ولكنه لما لم يرض بخيرة الله له، وألحَّ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له متَّكلًا على خيرته لنفسه جرى ما جرى. فإن قيل: وكيف يدعو له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بما لا خير له فيه؟ ففيه أجوبةٌ: الأوَّل: أنَّ تكثير المال ليس هو شرًّا بذاته. _________ (1) انظر: ملحق ص 22 من نسخة أ, فقد قال هناك: «رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما, وقال الترمذي: حديث صحيح». جامع الترمذي, كتاب صفة القيامة والرقائق، 4/ 668، ح 2518, مسند أحمد 1/ 200. وانظر ما سبق في ص 330. (2) المسند 3/ 153. [المؤلف]
(3/786)
والثاني: أنَّ السائل لما أَلَحَّ استحقَّ العقوبة، فغاية الأمر أن يكون هذا الدعاء كالدعاء عليه، وهو مستحقٌّ لذلك. والثالث: ما جاء في أحاديث الصدقة أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يعطي مَن يُلِحُّ عليه وإن كان غير مستحقٍّ، ثم يبيِّن أنه لا خير لهم في ذلك. ففي حديث معاوية ــ عند مسلمٍ ــ: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لا تُلْحِفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحدٌ منكم شيئًا فتُخرِج له مسألته منِّي شيئًا وأنا له كارهٌ فيُبارَك له فيما أعطيته» (1). وفي حديث عمر ــ عند مسلمٍ في صحيحه ــ: «إنهم خيَّروني بين أن يسألوني بالفحش وبين [526] أن يبخِّلوني، فلست بباخلٍ» (2). ومما يتعلَّق بسؤال الدعاء بنفعٍ دنيويٍّ حديث الصحيحين في السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنَّة بغير حسابٍ، فإن فيه: «كانوا لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيَّرون، وعلى ربِّهم يتوكَّلون»، فقام إليه عُكَّاشة بن مِحْصَنٍ، فقال: «ادعُ الله أن يجعلني منهم»، قال: «اللهمَّ اجعله منهم»، ثم قام إليه رجلٌ آخر، قال: «ادعُ الله أن يجعلني منهم»، قال: «سبقك بها عُكَّاشة» (3). _________ (1) صحيح مسلمٍ، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، 3/ 95، ح 1038. [المؤلف] (2) صحيح مسلمٍ، كتاب الزكاة، باب إعطاء مَن سأل بفحشٍ وغلظةٍ، 3/ 103، ح 1056. [المؤلف] (3) البخاريّ، كتاب الرقاق، بابٌ يدخل الجنَّة سبعون ألفًا بغير حسابٍ، 8/ 112 - 113، ح 6541. مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنَّة بغير حسابٍ ولا عذابٍ، 1/ 138، ح 218. [المؤلف]
(3/787)
فالحديث يدلُّ على كراهيةٍ مَّا للاسترقاء، وحقيقته: سؤالك من رجلٍ أن يرقيك، وذلك سؤالٌ لنفعٍ دنيويٍّ، فأمَّا أن يجيئك رجلٌ فيرقيك بدون أن تسأله فلا كراهة فيه؛ فقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يرقي، وعرضوا عليه رقيةً، فقال: «ما أرى بها بأسًا، مَن استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه» (1). وفي الصحيحين عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اشتكى نفث على نفسه [527] بالمعوِّذات، ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه الذي توفِّي فيه طَفِقتُ أَنفُثُ على نفسه بالمعوِّذات التي كان ينفث، وأمسح بيد النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عنه (2). وهذا الفرق شبيهٌ بالفرق بين سؤال المال وقبول العطاء، ففي الصحيحين عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيني العطاء، فأقول: أعطه أفقر إليه منِّي، فقال: «خذه، إذا جاءك من هذا المال شيءٌ وأنت غير مشرفٍ ولا سائلٍ فخذه، وما لا فلا تتبعْه نفسك» (3). وكان ابن عمر وأبو هريرة وغيرهما من الصحابة رضي الله تعالى عنهم _________ (1) انظر: صحيح مسلمٍ، كتاب السلام، باب استحباب الرقية من العين ... ، 7/ 19، ح 2199 (63). [المؤلف] (2) البخاريّ، كتاب المغازي، باب مرض النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، 6/ 11، ح 4439. مسلم، كتاب السلام، باب رقية المريض بالمعوِّذات والنفث، 7/ 16، 2192. [المؤلف] (3) البخاريّ، كتاب الزكاة، باب مَن أعطاه الله شيئًا من غير مسألةٍ ولا إشراف نفسٍ، 2/ 123، ح 1473. مسلم، كتاب الزكاة، باب إباحة الأخذ لمن أُعطي من غير مسألةٍ ولا إشرافٍ، 3/ 98، ح 1045. [المؤلف]
(3/788)
لا يسألون أحدًا ولا يردُّون إذا أُعْطُوا (1). هذا، والظاهر أن كراهية الاسترقاء خاصَّةٌ بما إذا استرقى الإنسان لنفسه، أمَّا استرقاؤه لغيره فلا كراهية، ففي الصحيحين عن أمِّ سلمة رضي الله تعالى عنها أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأى في بيتها جاريةً في وجهها سُفْعَةٌ ــ يعني صُفْرَة ــ، فقال: «استرقوا لها؛ فإن بها النظرة» (2). وعلى هذا يُحمَل حديث الصحيحين عن [528] عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ــ أو أمر ــ أن يُسترقى من العين (3). ومن القسم الثالث: سؤال العبد من ربِّه عزَّ وجلَّ، وهو المسمَّى دعاءً. ومنه ــ كما صرَّح به القرآن ــ سؤال الملائكة، وسمَّاه القرآن دعاءً. وقد تأمَّلنا الفرق بينه وبين سؤال الناس بعضهم بعضًا فوجدنا أن السؤال من الملائكة فيه تذلُّلٌ لهم وتعظيمٌ يُتديَّن به، أي: يُطلَب به نفعٌ غيبيٌّ. وقد _________ (1) أثر ابن عمر أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب إباحة الأخذ لمن أُعطي من غير مسألة ولا إشراف 3/ 98 ح 1045. وورد عن ثوبان أنه كان لا يسأل أحدًا. أخرجه أحمد 5/ 275 وغيره. وحكى ابن رجب في جامع العلوم والحكم 1/ 479 نحو ذلك عن أبي بكر الصديق وأبي ذر. (2) البخاريّ، كتاب الطبِّ، باب رقية العين، 7/ 132، 5739. مسلم، كتاب السلام، باب استحباب الرقية من العين ... ، 7/ 18، ح 2197. [المؤلف] (3) البخاريّ، الموضع السابق، 7/ 132، ح 5738. مسلم، الموضع السابق، 7/ 18، ح 2195 (56)، ولفظه: «كان رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يأمرني أن أسترقي من العين». والمراد ــ والله أعلم ــ أن تسترقي لمن كانت تكفله من الصبيان، لا لنفسها. [المؤلف]
(3/789)
قدَّمنا (1) أن كلَّ ما كان كذلك فهو عبادةٌ؛ فإن لم يُنزل الله تعالى سلطانًا بالأمر أو الإذن به فهو عبادةٌ لغيره. وأمَّا سؤال الناس بعضهم من بعضٍ ما جرت العادة بقدرتهم عليه، فمنه ما لا تذلُّل فيه، ومنه ما كان فيه تذلُّلٌ ولكن لا يُطلَب به نفعٌ غيبيٌّ. وإنما كان السؤال من الملائكة سؤالًا لنفعٍ غيبيٍّ؛ [529] لأنهم غائبون عن حِسِّنا ومشاهدتنا، لا نشاهدهم، ولا نشاهد قدرتهم على النفع ومباشرتهم له كما يشاهد البشر بعضُهم بعضًا، فسواءٌ أكان المسؤول من الملائكة هو النفع بالفعل ــ كإنزال المطر مثلًا ــ أو مجرَّد النفع بالشفاعة؛ لأن البشر لا يدركون بالحسِّ والمشاهدة أنَّ الملائكة يسمعون دعاءهم، ولا أنَّهم يشفعون لمن دعاهم. وهذا بخلاف سؤال الدعاء من الإنسان الحيِّ الحاضر؛ فإن الدعاء نفسه وإن كان نفعًا فليس غيبيًّا؛ لأننا ندرك بالحسِّ والمشاهدة أنَّ الإنسان الحيَّ الحاضر يسمع طلبنا ويدعو لنا إذا طلبنا منه الدعاء. وها هنا فروقٌ أخرى بين سؤال الناس بعضهم من بعضٍ ما يدخل تحت قدرتهم وسؤال الملائكة، منها: ما تقدَّم (2) في الكلام على قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] أن البشر لما كانوا في دور ابتلاءٍ وامتحانٍ منحهم الله تعالى شيئًا من الاختيار، فهم يستطيعون أن يعملوا ما أرادوه مما يدخل تحت قدرتِهم ولو كان معصيةً [530] لله عزَّ وجلَّ، وأما الملائكة فهم في _________ (1) انظر ص 732 - 733. (2) انظر ص 355.
(3/790)
دور طاعةٍ محضةٍ، فهم كما قال تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26 - 27]. فسؤال البشر بعضهم بعضًا ما جرت العادة بقدرتهم عليه له معنىً؛ لأن لهم اختيارًا، ولا كذلك سؤال الملائكة. ألا ترى لو أن ملِكًا جعل بيد بعض أتباعه مالًا، وقال له: فرِّقه على بعض المستحقِّين، ثم جعل مالًا بيد تابعٍ آخر، وقال له: لا تصرف منه فلسًا إلا إذا أمرتك، وقد علمنا أن هذا التابع لا يخالف متبوعه، فإن العاقل منَّا قد يسأل الأوَّل؛ لأنه مختارٌ، ولا يسأل الثاني. وهكذا في الشفاعة، لو أن ملِكًا أذن لبعض أتباعه أن يشفع عنده للمستحقِّين، ومنع آخر أن يشفع لأحدٍ حتى يأمره الملِك أن يشفع له؛ لكان من المعقول أن تسأل الشفاعة من الأوَّل، وأما الثاني فلا؛ لأن الملِك متى أمره بالشفاعة فلا بدَّ أن يمتثل أمْر الملك فيشفع، [531] وأيضًا فإن الملك لن يأمر بالشفاعة إلا وقد أحبَّ قضاء تلك الحاجة، وإذ قد أحبَّ قضاءها فلا بدَّ أن يقضيها ولو لم تقع الشفاعة. فأمَّا إذا قال الملِك لأحد أتباعه: (لا تشفع حتى آذن لك)، فإن قلنا: إن الإذن هنا بمعنى الأمر فكما تقدَّم، وإن قلنا: بل بمعنى أنه يقول له: (إن شئت فاشفع)، فقد يُقال: لا معنى للسؤال أيضًا؛ لأن الملِك لم يأذن بالشفاعة حتى أراد قضاء تلك الحاجة، وإنما أذن لهذا بالشفاعة إكرامًا له، فإن شفع فذلك قبولٌ للإكرام، وإن لم يشفع لم يمتنع الملِك من قضاء تلك الحاجة، مع أن هذا المأذون له إذا كان طاهر النفس لم يُحتمَل أن يأبى الشفاعة.
(3/791)
فإن قيل: فيُحتمَل أن الملِك يجعل شفاعة ذلك الرجل شرطًا لقضاء الحاجة، فيقول له: لا أقضيها أوْ تشفع فيها، قلت: في إمكان هذا في حقِّ الله عزَّ وجلَّ نظرٌ، وعلى فرض وقوعه فالملائكة طيِّبون طاهرون لا يمتنعون من الشفاعة بعد أن يأذن الله تعالى لهم فيها. فإن قيل: قد يتوقَّف الإذنُ بالشفاعة [532] على التعرُّض للإذن، فيحتاج إلى سؤال الشفيع أن يتعرَّض، كما في حديث الشفاعة أنَّ الخلق يسألون النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، فيذهب فيتعرَّض للإذن بالسجود والثناء على الله تعالى، فيأذن له فيشفع. قلت: هذا صحيحٌ بالنسبة إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، فأمَّا الملائكة فلا. أوَّلًا: لأن قوله تعالى: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27] يدلُّ أنهم لا يتعرَّضون أيضًا. ثانيًا: أنه لا سلطان عندنا أن سؤال الشفاعة منهم يحملهم على التعرُّض لها. ثالثًا: أن البشر في المحشر يُؤْتَوْن ضربًا من الاختيار، فيكون للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - اختيارٌ في أن يتعرَّض للشفاعة، فإذا سُئل ذلك فإنما سُئل أمرًا يقدر عليه باختياره. وأظهر من ذلك: أنَّ السؤال في المحشر من النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم سؤالٌ من حاضرٍ مشاهَدٍ يُسْأَلُ منه ما يقدر عليه بمقتضى الحسِّ والمشاهدة، وليس كالسؤال من الملائكة في الدنيا؛ لأنهم غيبيُّون, كما مرَّ (1). ومن الفرق أيضًا: أن الشرائع مبنيَّةٌ على أنَّ [533] للبشر اختيارًا، _________ (1) انظر ص 789 - 790.
(3/792)
وسؤال بعضهم من بعضٍ مبنيٌّ على هذا الاختيار، فكما قامت حجَّة الله تعالى على البشر بهذا الاختيار الثابت بالفطرة والبديهة وإن أعيا العقلاء بيانُ عدم مناقضته للقَدَر، فكذلك قَبِلَ سبحانه اعتذارهم بهذا الاختيار عن سؤال بعضهم من بعضٍ ما يدخل تحت قدرتهم العاديَّة، فلم يجعل ذلك كفرًا به وإن حرَّم بعضه. وهذا المعنى لا يأتي في سؤال الملائكة. ومن الفرق أيضًا: أنَّ الناس بطبيعتهم معتمدون على ما عرفوه وألِفوه من قدرة البشر على نفع بعضهم بعضًا في دائرة قدرتهم، والعادة تُكرههم على هذا الاعتماد، حتى إنك ترى إجابة البشر للسائل أقرب فيما ترى العين من إجابة الله عزَّ وجلَّ لداعيه. وهذا المعنى لا يأتي في الملائكة، بل الأمر بالعكس؛ فإنَّ العاقل إذا أمعن النظر وبحث وتدبَّر عَلِمَ كثرةَ إجابة الله تعالى دعاء مَن يدعوه، ولم ير مثل ذلك في دعاء الملائكة؛ ولهذا كان المشركون أنفسهم يقتصرون في الشدائد على دعاء الله عزَّ وجلَّ. ومن الفرق أيضًا: [534] أنَّ السؤال من الإنسان الحاضر ما يقدر عليه عادةً ليس فيه ادِّعاء أنَّه يعلم الغيب، ولا يلزمه الخضوع القلبيُّ، ولا يمكن أن يعمَّ جميع الحوائج فيؤدِّي إلى الإعراض عن الله تعالى، ولا يكاد يؤدِّي إلى تعظيمه كتعظيم الله عزَّ وجلَّ، بخلاف السؤال من الملائكة في ذلك كلِّه. ومن الفرق في خاصَّة سؤال الدعاء: أنَّ سؤال الدعاء من الأنبياء والصالحين قد تحصل به مصلحةٌ، كأن يخبر المسؤولُ السائلَ أنَّ الأمر الذي يطلبه لا يحلُّ له، أو لا خير له فيه، أو نحو ذلك. وهذا أيضًا لا يأتي في الملائكة. ومنه أيضًا: أن الناس كالمفطورين على الخضوع والتذلُّل لمن يسألون
(3/793)
منه، فإن كان بشرًا غير معتقَدٍ فيه الخير فإنَّ أكثر الناس ينفرون بطباعهم عن الخضوع والتذلُّل له، وإن كان نبيًّا حيًّا حاضرًا فإنه لا يُقِرُّهم على ما لا يجوز، والصالحُ يظَنُّ به نحو ذلك. ونحن نرى الناس يأتون إلى مَن يُظَنُّ به الصلاح [535] فيبادرون إلى تعظيمه بما شاءت لهم أنفسهم، وقد يُصِرُّون على عمل ذلك مع مَنْع ذلك الصالح لهم ونهيه إياهم وتأذِّيه بفعلهم. فأمَّا السؤال من الملائكة لو أُبِيح فليس هناك ما يردع الناس عن التغالي في تعظيمهم حتى يسوُّوهم بالله عزَّ وجلَّ أو يزيدوا. ومنها: أنَّ سؤال الدعاء من الصالح لا يؤدِّي غالبًا إلى أكثر من زَعْمِ أنه مستجاب الدعوة، وإن كان قد يجرُّ أحيانًا إلى أزيد من ذلك, كما تراه في زعم بعض المريدين أنَّ شيخهم نافذ الحكم فيما أراد، وأنه قد أعطاه الله عزَّ وجلَّ كلمة (كن)؛ فكلُّ ما أراد أن يكون كان، وكلُّ ما أراد ألَّا يكون لا يكون. ولهذا كره السلف سؤال الدعاء من الإنسان الحيِّ أيضًا, كما مرَّ عن عمر وسعدٍ وحذيفة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم (1)، ولكنَّ كثيرًا ما يمنع عن هذا الغلوِّ منعُ الشيخ منه أو زجره عنه. فأمَّا السؤال من الملائكة فإنه يسوق إلى اعتقاد أنهم يتصرَّفون في الكون باختيارهم، ولا يتأتَّى منهم النهيُ عن الغلوِّ. وقد وقع قريبٌ من ذلك في شأن أرواح الموتى، والله المستعان. [536] فإن قيل: كيف يكون السؤال من الملائكة دعاءً لهم وعبادةً، وقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يسألون جبريل وغيره من الملائكة عليهم السلام؟ قلتُ: ليس هذا من ذاك؛ فإن الأنبياء عليهم السلام إنما يسألون جبريل _________ (1) انظر ص 778 وما بعدها.
(3/794)
عن بعض المعارف ونحوها سؤالَ استفهامٍ وهو حاضرٌ مُشَاهَدٌ لهم، أرسله الله عزَّ وجلَّ ليعلِّمهم ويخبرهم عما يسألونه عنه، فسؤالهم منه طلب حقٍّ، وهذا السؤال لا خضوع معه للمسؤول، ولا هو غائبٌ، ومع ذلك فعندهم من الله تعالى بذلك سلطانٌ. فإن قيل: فقد جاء في الأثر أنَّ خُبيب بن عديٍّ رضي الله تعالى عنه لَمَّا أراد المشركون قتله نادى: (يا محمَّد) (1)، وهو حينئذٍ بمكَّة، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة. وجاء في الأثر أن عمر نادى وهو على منبر المدينة: (يا سارية الجبل) (2)! وسارية حينئذٍ بفارس. وعلَّم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمَّته أن يقولوا في تشهُّد الصلاة: «السلام عليك أيُّها _________ (1) أخرجه أبو نُعَيم في الحلية، ترجمة سعيد بن عامرٍ، 1/ 245 - 246. ومن طريقه ابن عساكر، ترجمة سعيد بن عامر، 21/ 161 - 162. (2) أخرجه السلميُّ في الأربعين في التصوُّف، بابٌ في جواز كرامات الأولياء، ص 5، وأبو نُعَيمٍ في الدلائل، الفصل التاسع والعشرون: ما جرى على يدي أصحابه بعده، ما ظهر على يدي عمر ... ، ص 579، ح 526. والبيهقيُّ في الدلائل، باب ما جاء في إخبار النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمحدَّثين كانوا في الأمم ... ، 6/ 370. واللالكائيُّ في شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة، سياق ما رُوِي في ترتيب خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب ... ، 7/ 1330، ح 2537. وغيرهم، من طريق ابن وهبٍ، عن يحيى بن أيُّوب، عن ابن عجلان، عن نافعٍ، عن ابن عمر، عن أبيه. وحسَّن إسناده ابن كثيرٍ وابن حجرٍ. انظر: البداية والنهاية 10/ 175، الإصابة 4/ 176 - 177. وله طرقٌ أخرى ضعيفةٌ، وفي بعضها ألفاظٌ منكرةٌ. انظر: السلسلة الصحيحة 3/ 101، ح 1110. وانظر ما سبق ص 273.
(3/795)
النبيُّ ورحمة الله وبركاته» (1)، ففعلوا ذلك في حياته وبعد وفاته، ولا يزالون على ذلك، ولن يزالوا إلى يوم القيامة. [537] وجاء في حديث الأعمى أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - علَّمه أن يقول: «اللهم إني أسألك بنبيِّك نبيِّ الرحمة، يا محمَّد، يا رسول الله، إني أتوجَّه بك إلى ربِّي في حاجتي هذه ليقضيها، اللهمَّ فشفِّعه فيَّ» (2)، وفي بعض رواياته زيادة: «وإن كان (3) حاجةٌ فعل مثل ذلك» (4). وروي عن عثمان بن حُنيفٍ رضي الله عنه أنه علَّم رجلًا يقول ذلك في خلافة عثمان رضي الله عنه (5)، وعن بعض التابعين أنه دعا بنحو هذا الدعاء (6). _________ (1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأذان، باب التشهُّد في الآخرة، 1/ 166، ح 831، ومواضع أخرى. ومسلمٌ في كتاب الصلاة، باب التشهُّد في الصلاة، 2/ 13، ح 402. (2) أخرجه أحمد 4/ 138. والترمذيُّ في كتاب الدعوات، باب 119، 5/ 569، ح 3578، وقال: «حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ ... ». والنسائيّ في عمل اليوم والليلة، ما يقول إذا راعه شيءٌ، ص 417 - 418، ح 658 - 660. وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في صلاة الحاجة، 1/ 441، ح 1385. وغيرهم. وقد خرَّج المؤلِّف هذا الحديث وتوسَّع في الكلام عليه في رسالة الاجتهاد. (3) كذا في الأصل. (4) رواها أبوبكر بن ابي خيثمة في تاريخه من طريق حماد بن سلمة، عن أبي جعفر الخطمي، كما في قاعدة جليلة ص 196. (5) أخرجه الطبراني في الكبير 9/ 30 ح 8327، والصغير 1/ 183 - 184، وقال: والحديث صحيح، والبيهقي في دلائل النبوَّة باب تعليمه الضرير ما كان فيه شفاؤه ... ، 6/ 167 - 168. (6) هو عبد الملك بن سعيد بن أبجر كما رواه ابن ابي الدنيا في كتاب مجابو الدعوة ص 154 ح 127.
(3/796)
فالجواب: أمَّا خبيبٌ فقصَّته في الصحيح (1)، وليس فيها أنه نادى: (يا محمَّد)، بل قال الحافظ في فتح الباري: «وفي رواية بريدة بن سفيان: فقال خُبَيبٌ: اللهم إني لا أجد مَن يبلِّغ رسولك مني السلام فبلِّغه» (2). وفي رواية ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: ثم رفعوه على خشبةٍ، فلمَّا أوثقوه قال: «اللهمَّ إنا قد بلَّغنا رسالة رسولك، فبلِّغه الغداة ما يُصْنَعُ بنا» (3). وقال ابن إسحاق أيضًا: وحدَّثني بعض أصحابنا، قال: كان عمر بن الخطَّاب استعمل سعيد بن عامر بن حِذْيَمٍ، فذكر قصَّةً، وفيها من كلام سعيدٍ: «والله يا أمير المؤمنين ما بي من بأسٍ، ولكنِّي كنتُ فيمَن حضر خُبيب [538] بن عديٍّ حين قُتِل وسمعتُ دعوته» (4)، ولم يفسِّر الدعوة، ولا ذَكَر أنه نادى: (يا محمَّد). وهذه القصَّة ــ أعني قصَّة سعيد بن عامرٍ ــ هي التي جاء فيها تلك الكلمة، رواها أبو نُعَيمٍ في الحلية من طريق الهيثم بن عديٍّ، نا ثور بن يزيد، _________ (1) انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب الجهاد والسير، بابٌ هل يستأسر الرجل؟ 4/ 67، ح 3045. وكتاب المغازي، باب 10، 5/ 78 - 79، ح 3989. وباب غزوة الرجيع ... ، 5/ 103، ح 4086. (2) فتح الباري 7/ 269. [المؤلف]. بريدة بن سفيان ضعيف, ولكن الرواية مخرجة من طريق أخرى عند الطبراني في الكبير 5/ 259، ح 5284. (3) سيرة ابن هشام 2/ 62. [المؤلف] (4) سيرة ابن هشام 2/ 62. [المؤلف]
(3/797)
نا خالد بن معدان، قال: استعمل علينا عمر بن الخطَّاب بحمص سعيد بن عامرٍ بن حِذْيَمٍ، فذكر قصَّةً فيها محاورةٌ بين عمر وسعيدٍ، ذكر فيها من كلام سعيدٍ: شهدتُّ مصرع خُبيبٍ الأنصاريِّ بمكَّة وقد بَضَعَتْ (1) قريشٌ لحمه، ثم حملوه على جذعة، فقالوا: تحبُّ أن محمَّدًا مكانك؟ فقال: (والله ما أحبُّ أني في أهلي وأنَّ محمَّدًا شيك شوكةً)، ثم نادى: (يا محمَّد) (2). وخالد بن معدان لم يدرك عمر، وثور بن يزيد ناصبيٌّ، والهيثم بن عديٍّ كذَّبه ابن مَعينٍ والبخاريُّ وغيرهما، وهو الذي روى عن هشام بن عروة عن أبيه أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سمَّى ابنيه عبد العُزَّى وعبد منافٍ. قال النسائيُّ: «محالٌ أن يصدر ذلك من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -» (3). وقال ابن حجرٍ في اللسان: «هذا من افتراء الهيثم على هشامٍ» (4). والذي ذكره ابن إسحاق [539] عن عاصم بن عمر بن قتادة وذكره الحافظ عن رواية بريدة بن سفيان هو المعروف من صنيع الصحابة. ففي هذه القصَّة بعينها في البخاريِّ أنَّ عاصم بن ثابتٍ أميرَ السَّريَّة قال: «أمَّا أنا فلا أنزل على ذمَّة كافرٍ، اللهمَّ أخبر عنَّا نبيَّك» (5). ولو صحَّ أن خُبيبًا قال: (يا محمَّد)، فلم يقصد به الاستغاثة. كيف وهو مستعدٌّ للموت مستبشرٌ بالشهادة، ولم يحصل له الإغاثة من القتل، ولا قصد _________ (1) أي: قَطَعَتْه. النهاية 1/ 134. (2) حلية الأولياء، ترجمة سعيد بن عامرٍ، 1/ 245 - 246. (3) لسان الميزان، ترجمة الهيثم بن عديٍّ الطائيِّ، 6/ 210. (4) المصدر السابق. (5) البخاريّ، كتاب المغازي، باب غزوة الرجيع ... ، 5/ 104، ح 4086. [المؤلف]
(3/798)
إسماع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ بدلالة الروايات الأُخَر، وإنما قال ذلك على ما جرت به عادة المحبِّ المشتاق أن يدعو باسم محبوبه إظهارًا لشدَّة شوقه إليه ومحبَّته له حتى كأنه حاضر لديه، وهذا مجازٌ كما لا يخفى، والله أعلم. وأما أثر: «يا سارية الجبل» [540] فالجواب عنه ما جاء في القصَّة نفسها، فإنَّ فيها: «فقيل لعمر: ما ذاك الكلام؟ فقال: والله ما ألقيت له بالًا، شيءٌ أتى على لساني» (1). فبين أنه لم يقصد ذلك الكلام أصلًا، ومع ذلك فإنه أمرٌ لا سؤالٌ يصحبه الخضوع والتذلُّل. ومع ذلك ففي ثبوت هذه القصَّة مقالٌ, وأقوى طرقها رواية حرملة، عن ابن وهبٍ، عن يحيى بن أيُّوب، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر، وفيها: «ثم قدم رسولُ الجيش، فسأله عمر، فقال: يا أمير المؤمنين هُزِمنا، فبينا نحن كذلك إذ سمعنا صوتًا ينادي: «يا سارية الجبل» ثلاثًا، فأسندنا ظهرنا إلى الجبل، فهزمهم الله تعالى، قال: قيل لعمر: إنك كنت تصيح بذلك» (2). وقوله: «قيل لعمر: إنك كنت تصيح بذلك» يوافق ما جاء في الرواية السابقة أنه شيءٌ جرى على لسانه بغير اختياره، والله أعلم. ومع ذلك فحرملة ويحيى بن أيُّوب ومحمَّد بن عجلان في كلٍّ منهم مقالٌ. _________ (1) الخصائص الكبرى 2/ 285. [المؤلف] (2) الإصابة 2/ 3. [المؤلف]
(3/799)
وقد عَدَّ أهلُ الأصول من المقطوع بكذبه ما رُوِيَ آحادًا والدواعي متوفِّرةٌ على نقله. قال المَحَلِّي: «كسقوط الخطيب عن المنبر وقت الخطبة» (1). وهذه القصَّة أولى بتوفُّر الدواعي على نقلها من سقوط الخطيب عن المنبر، كما هو واضحٌ، والله أعلم. وبما ذكرناه عُلِم ما في قول الحافظ بن حجرٍ في الإصابة (2): إن إسنادها حسنٌ. وأمَّا قولنا في التشهد: (السلام عليك أيها النبيُّ ورحمة الله وبركاته)، فقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: «فإن قيل: كيف شُرِعَ هذا اللفظُ وهو خطابُ بَشَرٍ مع كونه منهيًّا عنه في الصلاة ... ؟ فالجواب: أنَّ ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -. فإن قيل: ما الحكمة في العدول عن الغيبة إلى الخطاب في قوله: «عليك أيها النبي» مع أنَّ لفظ الغيبة هو الذي يقتضيه السياق، كأن يقول: السلام على النبيِّ، فينتقل من تحية الله إلى تحية النبي ثم إلى تحية النفس ثم إلى الصَّالحين، أجاب الطيبي بما مُحَصَّلُه: نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذي كان علّمه الصحابة، ويحتمل أن يقال على طريق أهل العرفان: إنَّ المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيَّات أُذِنَ لهم بالدخول في حَرِيم الحيِّ [541] الذي لا يموت، فقرَّتْ أعينُهم بالمناجاة، فنُبِّهُوا على أنَّ ذلك _________ (1) شرح المحلِّي على جمع الجوامع 2/ 79. [المؤلف] (2) 4/ 176 - 177.
(3/800)
بواسطة نبيِّ الرحمة، وبركة متابعته، فالتفتوا فإذا الحبيب في حَرَم الحبيب حاضر، فأقبلوا عليه قائلين: السلام عليك أيها النبيُّ ورحمة الله وبركاته. وقد ورد في بعض طرق حديث ابن مسعود هذا ما يقتضي المغايرة بين زمانه - صلى الله عليه وسلم - فيقال بلفظ الخطاب، وأما بعده فيقال بلفظ الغيبة، وهو مما يخدش في وجه الاحتمال المذكور. ففي الاستئذان من صحيح البخاريِّ من طريق أبي معمر، عن ابن مسعود بعد أن ساق حديث التشهُّد قال: وهو بين ظهرانينا، فلما قُبِضَ قلنا: السلام يعني على النبيِّ. كذا وقع في البخاري. وأخرجه أبو عوانة في صحيحه، والسَّرّاج، والجَوْزَقِي، وأبو نعيم الأصبهاني، والبيهقي من طرق متعددة إلى أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ: فلما قُبِضَ قلنا: «السلام على النبيِّ» بحذف لفظ «يعني»، وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي نعيم. [542] قال السبكي في شرح المنهاج بعد أن ذكر هذه الرواية من عند أبي عوانة وحده: «إن صحّ هذا عن الصحابة دلّ على أن الخطاب في السلام بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - غير واجب، فيقال: السلام على النبيِّ». قال الحافظ: قلت: قد صحّ بلا ريب، وقد وجدتُ له متابعًا قويًّا. قال عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني عطاء: أن الصحابة كانوا يقولون والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي: السلام عليك أيها النبيُّ، فلما مات قالوا: السلام على النبيِّ. وهذا إسناد صحيح. وأما ما روى سعيد بن منصور من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن
(3/801)
مسعود، عن أبيه أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - علّمهم التشهُّد فذكره قال: فقال ابن عباس: إنما كنا نقول: السلام عليك أيُّها النبيُّ إذ كان حيًّا، فقال ابن مسعودٍ: «هكذا عُلِّمْنا، وهكذا نُعَلِّم»، فظاهره أنَّ ابن عبَّاس قاله بحثًا وأنَّ ابن مسعود لم يرجع إليه، لكن رواية أبي معمر أصحُّ؛ لأنَّ أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، والإسناد إليه مع ذلك ضعيفٌ» (1). [543] والحاصل أنَّ الخطاب فيه ليس على بابه، وإنما هو على التنزيل أي تنزيل الغائب منزلة الحاضر للدَّلالة على استحضاره في الذهن, كأنَّ ذلك تنبيه للمصلِّي على تحرِّي متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله. وهذا التحرِّي يحمل على استحضار النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الذِّهن حتى كأنَّه حاضر يرشد إلى أعمال الصلاة والمصلِّي يتابعه. وقد كان الصحابة يقولون ذلك في حياته - صلى الله عليه وسلم - سرًّا بحضرته أو غائبين عنه، وإنما عدل عنه مَن عدل بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - لئلا يظنَّ الجهال أنَّه خطاب حقيقي، ورأوا أن تَوَهُّمَ ذلك كان بغاية البعد في حياته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، أمَّا بحضرته فالمصلي يقول: لو كان خطابًا حقيقيًّا لشُرِعَ لي أن أرفع صوتي حتى أُسْمِعَه، كما أنني لو أردتُ أن أسأله عن شيء أو أستأذنه في شيء أو إخبارَه (2) بشيء كان عليّ شرعًا وعادة أن أخاطبه بحيث يسمع كما يسمع غيره بحسب العادة. وأما مَن بَعُدَ عنه فكذلك؛ لأنَّه يقول: لو كان خطابًا حقيقيًّا لكان عليَّ أن لا أقوله إلا بحضرته فأسمعه كما يسمع غيره على ما جرت به العادة، كما لو _________ (1) فتح الباري 2/ 212 - 213. [المؤلف] (2) كذا عطفًا على المصدر المسبوك من قوله: «أنْ أسأله».
(3/802)
أردتُ سؤاله أو استئذانه في شيء أو إخباره بشيء كان عليّ أن أذهب إليه فأقرُب منه بحيث يسمع صوتي، ثم أرفع صوتي فأكلِّمه. وأما بعد وفاته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فإنَّه لم يَبْقَ ممكنًا لأحد أن يقرُب منه فيخاطبه فيُسمعَه على حسب ما هو معروف في العادة، [فإنه يعرف] (1) الإنسان من نفسه أني لو أردتُّ استئذانه صلَّى الله عليه وسلَّم، أو إخباره بشيء لكان عليَّ أن أذهب إليه وأقرُب منه وأرفع صوتي فأسمعه كما جرت به العادة في غيره. فما بقي إلا احتمال ما هو على خلاف العادة، وإذا انفتح هذا الاحتمال لم يكن له حدٌّ يُوقَف عنده. ورأى الآخرون أنَّ توهُّم الجهَّال كونه خطابًا حقيقيًّا بعيدٌ؛ لأنَّ القرائن العقليَّة والعاديَّة والشرعيَّة الصارفة عن الحقيقة واضحة، والناس يقولون إلى الآن: رحمك الله يا فلان، ويكون فلان قد مات منذ زمان، ودُفن بعيدًا عن القائل بمراحل، والقائل لا يشك أنَّ فلانًا لا يسمعه، وإنما أراد: رحم الله فلانًا، وذكر الله فلانًا بخير، ولكنَّه أتى بلفظ الخطاب دلالة على شدَّة استحضاره فلانًا في ذهنه، والقرينة الدالَّة على أنَّ الخطاب هنا مجاز هي ما عرفه الناس من العادة أنَّ [544] الغائبَ والميِّت لا يسمع. وذِكْرُ الميت بلفظ الخطاب لا تكاد تخلو عنه مرثيَة من مراثي العرب. وفي شعر مُهَلْهِلٍ كثيرٌ منه، مع أنه القائل (2): _________ (1) كُتبت الكلمتان بعضهما فوق بعض، وهذا الذي ظهر لي. (2) انظر: الأمالي لأبي علي القالي 1/ 24 والزِّير هو الذي يكثر من زيارة النساء وينشغل باللهو بهنَّ عن طلب المعالي، يقول: لو رأى كليب ما صنعتُ بقومه بموضع الذنائب لعَلِم أني غير زِير.
(3/803)
فلو نُبِشَ المقابرُ عن كليب ... فيخبرَ بالذنائب أيُّ زِير بل كثيرًا ما يخاطبون الجمادات والمعاني. وفي الحديث: «يا أرض ربي وربك الله» (1). وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم - لمكة: «والله إنك لخير أرض الله وأحبُّ أرض الله إلي الله» ... الحديث (2). وقوله لها: «ما أطيبك من بلد». الحديث (3). _________ (1) سنن أبي داود، كتاب الجهاد، باب ما يقول الرجل إذا نزل المنزل، 1/ 349، ح 2603. [المؤلف]. وأخرجه أحمد (2/ 132 و 3/ 123) , والنسائي في عمل اليوم والليلة، باب ما يقول إذا كان في سفر فأقبل الليل ص 378 ح 563, وابن خزيمة في صحيحه في كتاب المناسك، باب صفة الدعاء بالليل في الأسفار 2/ 1224 - 1225 ح 2572, والحاكم في كتاب المناسك, الدعاء عند بدو الفجر في السفر 1/ 446 - 447 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه, ولم يتعقبه الذهبي, وحسنه الحافظ ابن حجر في تخريج الأذكار. انظر الفتوحات الربانية 5/ 164. ولكن في إسناده الزبير بن الوليد، وهو مجهول. انظر السلسلة الضعيفة 10/ 392 ح 4837. (2) جامع الترمذيّ، كتاب المناقب، بابٌ في فضل مكَّة، 2/ 327، ح 3925، وقال: «حسنٌ غريبٌ صحيحٌ». سنن ابن ماجه، كتاب المناسك، باب فضل مكَّة، 2/ 138، ح 3108. المستدرك، كتاب الهجرة، تعاقب سراقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... ، 3/ 7، وقال: «صحيحٌ على شرط الشيخين»، وأقرَّه الذهبيّ. [المؤلف] (3) جامع الترمذيّ، الموضع السابق، 2/ 327، ح 3926، وقال: «حسنٌ غريبٌ من هذا الوجه». المستدرك، كتاب المناسك، قوله - صلى الله عليه وسلم - لمكَّة: «ما أطيبك من بلدٍ»، 1/ 486، وقال: «صحيح الإسناد»، وأقرَّه الذهبيّ. [المؤلف]
(3/804)
وقول عمر للحجر الأسود: «إني لأعلم أنك حجر لا تضرُّ ولا تنفع» الحديث (1). ومثل هذا لم يكن يشتبه على أحد في القرون الأولى، ولكن حالَ الحالُ وترأَّس الجهَّال، وإلى الله المشتكى. وأمَّا حديث الأعمى ففي صحَّته نظر؛ فإنَّه تفرَّد به أبو جعفر الخطمي، فروي عنه عن أبي أمامة بن سهل بن حُنيف، عن عمِّه عثمان بن حُنيف، وروي عنه عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حُنيف أنَّ رجلًا ضريرًا أتى النبيَّ صلَّى الله عليه [545] وسلَّم فقال: يا نبيَّ الله، ادع الله أن يعافيني. قال: «إن شئت أخَّرت ذلك فهو خير لآخرتك، وإن شئت دعوت لك». قال: لا، بل ادع الله لي، فأمره أن يتوضَّأ وأن يصلِّي ركعتين وأن يدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجَّه بك إلى الله في حاجتي هذه فتقضى لي وتشفِّعني فيه وتشفِّعهُ فيّ». قال: ففعل الرجل فبرئ. هذا لفظ رواية الإمام أحمد في المسند (2). وقوله: «وتشفِّعني فيه» أراد: إني أدعوك أن تجيب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي دعا لي فاستجب دعائي هذا، فأطلق على دعائه بإجابة دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له _________ (1) البخاريّ، كتاب الحجّ، باب ما ذُكِر في الحجر الأسود، 2/ 149، ح 1597. مسلم، كتاب الحجّ، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف، 4/ 67، ح 1270 (250). [المؤلف] (2) 4/ 138. [المؤلف]
(3/805)
شفاعة، وكأنه من باب المشاكلة كقوله تعالى حكاية عن عيسى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116]، والله أعلم. وقوله: «يا محمد» إن كان خطابًا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بحضرته فلا حجَّة فيه للمخالف، وإن كان علّمه أن يقول ذلك بعيدًا عنه أي بحيث لا يسمعه عادة فسياق الدعاء ظاهر [546] في أنَّه لا يُراد من ذلك إسماع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا حقيقة الخطاب، وإنما هو من باب المجاز الذي تقدَّم ذكره، ومن القرينة على ذلك أنه لم يقع في متن الدعاء طلب شيء من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكأنَّ أصل المعنى: اللهم إني أتوجَّه إليك بمحمد في حاجتي، وإنما عدل إلى الخطاب إشارة إلى أنه ينبغي للداعي بهذا الدعاء أن يكون مستحضرًا لفضيلة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكرامته على ربه حتى كأنه - صلى الله عليه وسلم - حاضر أمامه. وعلى هذا المجاز يُحمل ما يُروى أن عثمان بن حُنيف علّم رجلًا هذا الدعاء في خلافة عثمان، وما يُرْوَى من دعاء بعض التابعين بنحوه. وعلى كلِّ حال فليس في الدعاء سؤال شيء من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما السؤال من الله تعالى. وأما ما فيه من التوسُّل أي سؤال الله عزَّ وجلَّ بنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - فتلك مسألة أخرى ليس فيها سؤال من غير الله عزَّ وجلَّ، ومَنْ مَنع من هذا التوسُّل لم يقل: إنه عبادة لغير الله [547] تعالى، ولا شرك، وغايته أن يقول: هو حرام. وممن مَنَع هذا التوسُّلَ سلطانُ العلماء عزُّ الدِّين بن عبد السَّلام الشافعي إلَّا أنه استثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - معلِّقًا ذلك بصحة الحديث (1). _________ (1) لعله يشير إلى ما في فتاوى العز ص 126 من إجازته الإقسام على النبيِّ محمد - صلى الله عليه وسلم - معلقًا ذلك بصحة حديث تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الناس أن يقول في دعائه: «اللهم إني أقسم عليك بنبيك محمد نبي الرحمة»، واللفظ الوارد: «أتوسل إليك».
(3/806)
وقد التزم بعض العلماء صحة الحديث وحمله على أنه توسُّل بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بذاته، واستدلَّ على ذلك بحديث البخاريِّ رحمه الله عن أنس رضي الله تعالى عنه أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كانوا إذا قُحِطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه: فقال: «اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعمِّ نبينا فاسقنا». قال: (فيُسْقَوْن) (1). قال: فالمراد التوسل بدعائه لِمَا جاء أنَّ عمر كان يقول هذه الكلمات عندما يرفع العباس يديه يدعو، ولأنَّ قوله: إنَّا كنَّا نتوسَّل إليك بنبيِّنا إلخ ظاهر في أنَّ المعنى: وإنَّ نبينا قد توفِّي فلا يمكننا التوسُّل به، فلذلك نتوسَّل إليك بعمِّ نبيِّنا. ومعلوم أنَّ الذي فات بموت النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إنما هو أن يدعو لهم في حاجتهم تلك، فثبت بذلك أن التوسُّل به إنما هو التوسُّل بدعائه للمتوسِّل بحاجته تلك. [548] ولو كان التوسُّل بذاته، أو بكرامته على ربه، أو بدعائه لأمَّته في الجملة لما فات ذلك بموته - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا لو جاز سؤال الدعاء والشفاعة منه - صلى الله عليه وسلم - بعد موته لما فات المقصود بالموت، ولكانوا يسألون منه الدعاء والشفاعة ثم يتوسَّلون. وكلام أمير المؤمنين عمر ظاهر في أنَّ توسُّلهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد فات _________ (1) البخاريّ، كتاب الجمعة، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، 2/ 27، ح 1010. [المؤلف]
(3/807)
بموته، وكان يقول ذلك على رؤوس الأشهاد في اجتماعهم للاستسقاء، وأصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - مجتمعون، ولم ينكر ذلك أحد منهم، ومثل هذا إجماعٌ عند جماعة من أهل العلم (1). والله اعلم. هذا، وقد أخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من أحد يسلّم عليّ إلا ردّ الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام» (2). وفي سنده حميد بن زياد أبو صخر الخرَّاط، قال أحمد ويحيى: لا بأس به، وقال يحيى مرَّة أخرى: ضعيف، وكذا قال النسائي (3). وأخرج البيهقي في شعب الإيمان (4) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ صلَّى عليَّ عند قبري سمعته، ومَنْ صلَّى [549] عليَّ نائيًا أُبْلِغته» (5). _________ (1) انظر: قاعدة جليلة في التوسُّل والوسيلة 82، 210 - 211. (2) سنن أبي داود، كتاب المناسك، باب زيارة القبور، 1/ 278، ح 2041. [المؤلف] (3) انظر: العلل ومعرفة الرجال 3/ 52 (4126)، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 3/ 222، الضعفاء والمتروكون للنسائي ص 85. (4) انظر: شعب الإيمان، بابٌ في تعظيم النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وإجلاله وتوقيره، ومنه: الصلاة والتسليم عليه كلَّما جرى ذكره، 4/ 213، ح 1481. (5) ذكره في المشكاة ص 87. ثم رأيته في جزء حياة الأنبياء للبيهقيِّ من طريق العلاء بن عمرٍو الحنفيِّ، ثنا أبو عبد الرحمن، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة، فذكره مرفوعًا. ثم قال البيهقي: «أبو عبد الرحمن هذا هو محمد بن مروان السُّدِّيُّ فيما أرى، وفيه نظرٌ». جزء حياة الأنبياء ص 12، [ح 18]. قلت: هو هو. ففي الميزان [4/ 33] في ترجمة العلاء بن عمرٍو الحنفيُّ [كذا في الأصل، والصواب: في ترجمة محمَّد بن مروان السُّدِّيِّ]: «ثنا محمَّد بن مروان، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ»، فذكر الحديث. ومحمَّد بن مروان السُّدِّيُّ الصغير كذَّابٌ يضع الحديث. [المؤلف]. والعلاء بن عمرٍو الحنفيُّ متروكٌ. والحديث قال فيه الألبانيُّ: «موضوعٌ». انظر: السلسلة الضعيفة ح 203.
(3/808)
وجاءت آثارٌ أخرى قد يؤخذ منها أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يسمع ما يقع من الأصوات عند قبره بأبي هو وأمي، ولكن لم أقف على ما هو صحيح صريح في ذلك، ولم يثبت عن السلف مخاطبته عند القبر إلا بالسَّلام، وأنت خبير أنَّ السلام ليس فيه سؤال ولا استعانة ولا استغاثة، وإنما هو دعاء له - صلى الله عليه وسلم -. وقد اختلف أهل العلم في سماع الموتى فأنكرتْه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وغيرها سلفًا وخلفًا، واحتجُّوا بقوله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [النمل: 80 - 81] (1). وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 35 - 36]، وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر: 22 - 23]. [550] ولم تقبل عائشة حديث ابن عمر وغيره في وقوف النبي - صلى الله عليه وسلم - على قتلى المشركين الذي أُلْقُوا في قليب بدر وندائه إياهم بأسمائهم وقوله: «هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًّا، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقًّا» فقيل له: يا رسول الله, أتخاطب أقوامًا قد جَيَّفُوا؟ فقال: «ما أنتم بأسمع لما أقول _________ (1) ومثلها في سورة الروم: 52 - 53. [المؤلف]. ووقع في الأصل 25 - 35.
(3/809)
منهم»، فقالت عائشة: «ما قال: إنهم يسمعون ما أقول، إنما قال: إنهم الآن ليعلمون أنَّ ما كنتُ أقول لهم حق» (1). تعني: وأمَّا مخاطبته - صلى الله عليه وسلم - لهم فلم تكن لكي يسمعوا، وإنما المقصود منها اعتبار مَن يسمعه من الأحياء أو يبلُغه. وقال جماعة: أمَّا الموتى فلا يسمعون، ولكنَّ الله تعالى أسمع أهل القليب كلام نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال تعالى في آية فاطر: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] فدلَّ أنَّ العادة المستمرَّة عدمُ سماعهم، ولكنَّ الله تعالى إذا شاء أسمعهم. وفي صحيح البخاريِّ: «قال قتادة: أحياهم الله ــ يعني أهل الطَّوِيِّ (2) ــ حتى أسمعهم قولَه - صلى الله عليه وسلم - توبيخًا وتصغيرًا ونقمةً وحسرةً وندمًا» (3). وفي فتح الباري: «والجواب عن الآية: أنه لا يُسمعهم وهم موتى ولكنَّ الله أحياهم حتى سمعوا كما قال قتادة ... , وقال السهيلي ما محصَّله: إنَّ في نفس الخبر ما يدلُّ على خرق العادة بذلك للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم؛ لقول الصحابة له: أتخاطب أقوامًا قد جَيَّفوا .... ». ثم قال الحافظ: «وقد اختلف أهل التأويل في المراد بالموتى في قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}، وكذلك المراد بـ {مَنْ فِي الْقُبُورِ}، فحملته _________ (1) انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب المغازي، باب قتل أبي جهلٍ، 5/ 76 - 77، ح 3979. [المؤلف] (2) أي: البئر. انظر: القاموس المحيط 1687. (3) صحيح البخاريِّ، الموضع السابق، 5/ 76، ح 3976. [المؤلف]
(3/810)
عائشة على الحقيقة، وجعلته أصلًا احتاجت معه إلى تأويل قوله: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» وهذا قول الأكثر ... » (1). وقال في الجنائز: «وقال ابن التِّين: لا معارضة بين حديث ابن عمر والآية؛ لأن الموتى لا يسمعون بلا شكٍّ، لكن إذا أراد الله إسماع ما ليس من شأنه السماع لم يمتنع، كقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} الآية [الأحزاب: 72]، وقوله: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} الآية [فصلت: 11] (2). [551] وقال آخرون: إن الموتى يسمعون الأصوات التي تقع عند قبورهم. واحتجُّوا بالحديث المذكور، وبحديث الصحيحين: «إنَّ العبد إذا وُضِع في قبره وتولَّى عنه أصحابه ــ وإنَّه ليسمع قرع نعالهم ــ أتاه ملكان» الحديث (3). وبما أخرجه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في شهداء أحد: «أشهد أنَّ هؤلاء شهداء عند الله تعالى فأتُوهم وزوروهم، فوالذي نفسي بيده لا يُسلِّم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا رَدّوا عليه» (4). _________ (1) فتح الباري 7/ 215. [المؤلف] (2) فتح الباري 3/ 152. [المؤلف] (3) البخاريّ، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، 2/ 98 - 99، ح 1374. مسلم، كتاب الجنَّة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميِّت من الجنَّة أو النار عليه ... ، 8/ 161، ح 2870. [المؤلف] (4) المستدرك، كتاب التفسير، قراءات النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، زيارة قبور الشهداء، 2/ 248. [المؤلف]. وقال ابن رجب بعد كلامه على الحديث: «ولعل المرسل أشبه ... وبالجملة فهذا إسناد مضطرب». أهوال القبور ص 142.
(3/811)
وبما أخرج ابن عبد البرِّ ــ وقال عبد الحقِّ: «إسناده صحيحٌ» ــ عن ابن عباس مرفوعًا: «ما من أحد يمرُّ بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلِّم عليه إلا عرفه وردّ عليه» (1). وأجابوا عن الآيات بتأويلات لا تسمن ولا تغني من جوع. وإذا رجع الأمر إلى التأويل فتأويل ما يصحُّ من تلك الأحاديث توفيقًا بينها وبين الآيات هو المتعيِّن؛ لأن القرآن متواتر بلفظه الموجود، والأحاديث تحتمل خطأ الراوي، أو روايته بالمعنى ونحو ذلك [552]، فأصحّ تلك الأحاديث هو حديث قَلِيب بدر وهو محمول على أنَّ الله تعالى أسمعهم خرقًا للعادة، ويليه حديثُ «وإنه ليسمع قرع نعالهم» وهو محمول على أنَّ المراد الكناية عن قربهم من القبر، أي: بحيث لو كان يَسمَع لسَمِع قرعَ نعالهم، وقد قيل: إنه إنما يسمع حينئذ لأنها تُردُّ روحه في جسده للسؤال, كما جاء في حديث البراء عند أصحاب السنن وصحَّحه أبو عَوانة كما في فتح الباري (2)، وفيه نظر. فأما حديث المستدرك فهو من طريق عبد الأعلى بن عبد الله بن أبي فروة، عن قطن بن وهب، عن عبيد بن عمير، عن أبي هريرة. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، تعقَّبه الذهبيُّ فقال: كذا قال، وأنا أحسبه موضوعًا. وقطن لم يرو له البخاري، وعبد الأعلى لم يُخرجا له. _________ (1) الاستذكار 2/ 165, الأحكام الوسطى 2/ 152 - 153. وتعقبه ابن رجب فقال: «يشير إلى أن رواته كلهم ثقات, وهو كذلك إلّا أنه غريب بل منكر» أهوال القبور ص 141. (2) 3/ 152. [المؤلف]
(3/812)
أقول: رواه الحاكم عن عبيد الله بن محمد القطيعي، عن أبي إسماعيل الترمذي، عن عبد العزيز الأويسي، عن سليمان بن بلال، عن عبد الأعلى، عن قطن بن وهب، عن عبيد بن عمير، عن أبي هريرة. وليس فيهم مَن يُنْظَرُ فيه إلا عبد الأعلى، ومع ذلك فقد قال ابن معين: أولاد عبد الله بن أبي فروة كلهم ثقات إلَّا إسحاق، وذكره ابن حبان في الثقات. فأما ذكرُ ابن حبان في الثقات فلا ينافي الجهالة، وأمَّا قول ابن معين فلا يزيل الشبهة؛ لاحتمال أن يكون لم يستحضر عبد الأعلى عند إطلاقه تلك الكلمة العامَّة. ثمَّ رأيتُ الحاكم أخرج في المغازي من طريق العطّاف بن خالد، عن عبد الأعلى هذا، عن أبيه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم زار قبور الشهداء بأحد فقال: «اللهم إنَّ عبدك ونبيَّك يشهد أنَّ هؤلاء شهداء، وأَّنه مَنْ زارهم وسلَّم عليهم إلى يوم القيامة ردّوا عليه ... » هذا إسناد مدنيٌّ صحيح، قال الذهبي: مرسل (1). قلت: وعبد الله بن أبي فروة مجهول، وبالجملة فالظاهر أنَّ هذا الحديث لو كان صحيحًا لاشتهر عند أهل المدينة وتناقلوه، والله أعلم. فإن صحَّ فليس فيه التصريح بأنهم يسمعون، فيُحْمَل على أنَّ الله تعالى يُبَلِّغُهُمْ سلامَ مَن سلَّم عليهم، وفائدة الوقوف على قبورهم الاعتبار والادِّكار والتأسِّي، والله أعلم. _________ (1) المستدرك، كتاب المغازي، ردّ جواب السلام من شهداء أحد وكلامهم، 3/ 29. [المؤلف]
(3/813)
ومما يؤيد ذلك ما في صحيح مسلم عن مسروق قال: سألنا عبد الله [يعني ابن مسعود] (1) عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، قال: أما إنَّا قد سألنا عن ذلك فقال: «أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل .... » (2). قلت: والآية نزلت في شهداء أحد اتِّفاقًا، وسياق الآيات ظاهر في ذلك، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ... وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا} الآية [آل عمران: 166 - 169]. وفي سنن أبي داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لما أُصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر، ترد أنهارَ الجنة تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلَّقة في ظلِّ العرش» الحديث. وفيه: فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا} الآية (3)، وأخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: «صحيح على شرط مسلم»، وأقرَّه الذهبي (4). وفيه تدليس أبي الزبير فإنه من طريقه عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. _________ (1) هذه الزيادة من المؤلِّف، والقوسان المعقوفان منه. (2) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنَّة، 6/ 38 - 39، ح 1887. [المؤلف] (3) سنن أبي داود، كتاب الجهاد، بابٌ في فضل الشهادة، 1/ 340، ح 2520. [المؤلف] (4) المستدرك، كتاب التفسير، سورة آل عمران، «أرواح الشهداء في جوف طيرٍ ... »، 2/ 297 - 298. [المؤلف]
(3/814)
وأمَّا حديث ابن عبد البرِّ فنقل صاحبُ روح المعاني عن الحافظ ابن رجب أنَّه قال فيه: [553] ضعيف، بل منكر (1). قلت: وقد عثرت له على علَّة قادحة بَيَّنْتُهَا في رسالتي «عمارة القبور» (2). وزيارة القبور والسلام على المدفونين بقول: «السلام عليكم أهل ديار قوم مؤمنين» ثابت، وليس هو بصريح في أنهم يسمعون، فيحمل على أن المراد سؤال الله تعالى أن يُبلِّغَهُم السلام، وإنما أُوْرِدَ الكلام بلفظ الخطاب لحضور ما يذكرِّ بهم وهو قبورهم، كما نرى الناس إذا رأوا جنازة ميت قالوا: رحمك الله، أو غفر الله لك، ولا يريدون بذلك إسماعه، ولا يرون أنه يسمع، وهكذا نرى الناس إذا رأوا صورة يعرفون صاحبها ربما يخاطبون الصورة كأنهم يخاطبون صاحبها فيقولون: ما جاء بك إلى هنا، ونحو ذلك. والحاصل أنَّ استعمال الخطاب في غير موضعه كثير في اللغة وفي عرف الناس، ومهما يكن في هذا التأويل من خلاف الظاهر فإنَّ [554] ارتكابه أهونُ من ارتكاب تأويل الآيات القرآنية، والله أعلم. فأمَّا ما تقدَّم من سماع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ففي صحَّة تلك الآثار نظر، وقد لا يبعد أن تكون تلك خصوصية له بأبي هو وأمِّي، ولكنَّ سؤال الموتى على كل حالٍ طلبُ نفع غيبيٍّ؛ لأنَّه لا يُدْرَك بالحسِّ والمشاهدة أنَّ الموتى يسمعون أو يضرُّون وينفعون أو يدعون ويشفعون وإن كنا عند قبورهم، وليس عندنا _________ (1) انظر: روح المعاني 6/ 456. [المؤلف]. وقد مرَّ تخريجه ونقل كلام ابن رجب قريبًا ص 812. (2) لم أجده في عمارة القبور المطبوع.
(3/815)
سلطان من الله عزَّ وجلَّ في الإذن بخطاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أو خطاب غيره من الموتى إلا بالسَّلام ونحوه، فمَن تجاوز ذلك إلى السؤال منه - صلى الله عليه وسلم - أو من غيره فلا أعلم له سلطانًا، وقد أغنى الله المسلمين عن ذلك بكثرة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومَن قاس الأموات على الأحياء [555] فهو كمَن قاس الملائكة على البشر، وقد مَرَّ الكلام على ذلك. فأمَّا ما شاع بين الناس أنَّ أرواح الأنبياء والصالحين تتصرَّف في الكون, فلو صحَّ ذلك لم يكن مُسَوِّغًا لجواز السؤال منها؛ فإنَّ الملائكة يتصرَّفون في الكون قطعًا، ومع ذلك فالسؤال منهم دعاء وعبادة لهم وشرك بالله عزّ وجلَّ كما تقدَّم، وسائر ما ذكرناه لتوجيه السؤال منهم يأتي مثلُه في أرواح الموتى. وحسبك من ذلك قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] , فلو كانت أرواح الموتى تتصرَّف بهواها لفسد الكون، بل ولهاجت الفتن بين الأرواح؛ كأن يستغيث أحد الخصمين بروحٍ، والآخر بروحٍ أخرى, فيقوم النزاع بين الروحين، كلٌّ منهما تحاول نفع صاحبها ويتعصَّب لها جماعة من الأرواح، وهكذا، فإذا كان للأرواح ما يزعمه الجهَّال من القدرة العظيمة لزم فسادُ الكون لا محالة. فالحقُّ المقطوع به أنه إن كان لأرواح الموتى تصرُّف فهو كتصرُّف الملائكة إنما يكون بأمر الله تعالى، قال تعالى فيهم: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ [556] وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27]. وعليه فالسؤال من الأرواح كالسؤال من الملائكة سواء، وقد تقدَّم حكمه. والله الموفق، لا إله إلا هو.
(3/816)
فأمَّا الجنُّ فإنهم وإن كانوا يتصرَّفون بهواهم واختيارهم، إلَّا أنَّ تَعَرُّضَهُم للبشر بالإيذاء بغير الإضلال كالنادر، وقاصر على أمور خفيفة، والناس محفوظون منهم، ولكن ربما ترك الله عزَّ وجلَّ حفظ الإنسان منهم لحكمة يعلمها فيستطيعون حينئذ العبث به، وذلك من الابتلاء، فإذا استغاث الإنسان بربِّه أغاثه منهم، وإن خضع للشياطين هلك. وقد أغنى الله المسلمين عن سؤال الجنّ بدعائه تبارك وتعالى. وفي الصحيح عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك» (1)، وفي سنن أبي داود وغيره من حديث ابن مسعود سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الرقى والتمائم والتِّوَلة شرك» (2)، وسيأتي بسط الكلام عليه إن شاء الله تعالى (3). قال العلماء: كان يقع في رقى أهل الجاهلية سؤال وتعظيم لغير الله عزَّ وجلَّ وخاصة الشياطين، فذلك هو الشرك، وسيأتي تحقيق الكلام في الرقى إن شاء الله تعالى. نعم؛ لو فرضنا أنَّ إنسانًا ظهر له جنِّيٌّ فشاهده وشاهد تصرُّفه فطلب منه ما عرف قدرته عليه فقد يقال: إنَّ هذا كسؤال الناس بعضهم من بعض. والله أعلم. _________ (1) مسلم، كتاب السلام، بابٌ: «لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شركٌ»، 7/ 19، ح 2200. [المؤلف] (2) سنن أبي داود، كتاب الطبِّ، بابٌ في تعليق التمائم، 3/ 186، ح 3883. [المؤلف] (3) في الباب الخاصِّ بها ص 955 - 958.
(3/817)
وأمَّا السؤال من الإنسان الحيِّ الحاضر فإن كان لما جرت العادة بقدرته عليه فليس دعاء، وإن كان لما لم تجر العادة بقدرته عليه فذلك دعاء؛ لأنه حينئذ سؤال لنفع غيبيٍّ. [557] ثم ظهر لي أنَّ هناك فرقًا بين قدرة الإنسان على الأفعال العادية، وبين قدرته على التأثير بما فيه خرق للعادة، وقدرة الجن على الإضرار بالإنس؛ يتوقف معرفته على العلم بمعنى إذن الله تعالى الذي يتكرَّر في القرآن. فأقول: قال الراغب: «الإذن بالشيء إعلام بإجازته والرخصة فيه» (1). وبعد التأمُّل وجدتُ إذن الله تعالى على نوعين: الأول: إعلامه المكلَّفَ بأنه يجوز له الفعل، ومنه قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]. الثاني: إذنه تعالى للأسباب بأن تؤثِّر، وهذا يتناول الجائز شرعًا وغيره، وهو على ضربين: خاصٍّ وعامٍّ. فالخاصُّ ما ثبت في القرآن بأنه كان أو يكون بإذن الله تعالى وما كان في معناه. والعامّ ما عداه مما يحدُث في العالم. وبيان الفرق المعنوي بين الخاصِّ والعامِّ يتعلَّق بمسألة القَدَر، ولا أحبُّ أن أُقْحِم نفسي تلك المزلقة، ولكن سأُشرف عليها من قُرْب، وأسأل الله تعالى الحفظ والتوفيق, فأقول: أمَّا على رأي القائلين بأنَّ الحوادث كلَّها إنما تحدث بتعلُّق قدرة الله تعالى بها حين حدوثها، فالاحتراق بالنار إنما يقع _________ (1) المفردات: 71.
(3/818)
بخلق الله تعالى إيَّاه حين ملابسة النار، فالفرق على رأيهم صعب، ولكن يمكن أن يُقال على رأيهم: إنَّ الإذن العامَّ ما كان على وَفْق العادة من كلِّ وجه كخروج الثمرة من أكمامها عند [558] حلول وقتها المعتاد، وحمل الأنثى بعد وقوع الذكر عليها في الوقت الذي جرت العادة بأنَّ مثلها تحمل من مثله، ووضعها عند انتهاء مدة الحمل المعتادة، وهذا النوع يُطلق عليه في القرآن بأنَّه يعلمُه الله تعالى، قال تعالى: {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فصلت: 47]. والخاصُّ ما جرى على خلاف العادة، ولو في وجهٍ. ومن ذلك: الإيمان، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 99 - 100] , فإنَّ الإيمان يتضمَّن الإيقان بما يرتاب فيه غالب الناس من الغيب، ويقتضي تكليفَ النفوس ما يشقُّ عليها، ومنعها كثيرًا من شهواتها مع كثرة ما يصدُّ عن الإيمان، فمِنْ هذا الوجه كان الاتِّصاف بالإيمان مما يُسْتَغْرَبُ عادة، ففيه مخالفةٌ مَّا للعادة. ومن ذلك: الموت, قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 145] , وسياق الآيات في القتل في الجهاد؛ فإنَّ الموت هو مفارقة الروح للجسد، والناس لا يدركون الروح ولا يحسُّون بها، فمفارقتها الجسد عقب قطع الرأس ــ مثلًا ــ وإن جرت به العادة, فلا يعلم الناس ما وجه ذلك وما سببه، فَمِنْ ثَمَّ كان الموت مخالفًا للعادة.
(3/819)
وأمَّا على رأي القائلين بأن الله عزَّ وجلَّ أودع في المخلوقات قوىً [559] من شأنها التأثير، فهي تؤثر بتلك القوة بدون حاجة إلى أن يخلق الله عزَّ وجلَّ ذلك الأثر عند حدوثه، ولكنه سبحانه إذا شاء أن يمنع من التأثير مَنَع كما مَنَع النار من الإحراق بقوله: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]. فالفرق بين الإذن الخاصِّ والعامِّ على طريقة هؤلاء أن يقال: الإذن العامُّ هو ما كان تأثيرًا بمجرد القوَّة المودَعة على ما سمعت، فكون تلك القوة في الأصل مِن خلق الله, وكونه سبحانه لم يمنعها من التأثير مع قدرته على ذلك, إنْ سُمِّيَ إذنًا فهو الإذن العام. وأما الإذن الخاصُّ فهو بخلاف ذلك، فإما أن يكون بخلقه تعالى الأثر عند حدوثه، وإما أن يكون سبحانه قد نصب موانع تمنع من حدوث الأثر بالقوَّة المودَعة وحدها، ثم يرفع تلك الموانع إذا شاء، فذلك هو الإذن الخاصُّ، والموت والإيمان من الإذن الخاصِّ. ولا يشكل على رأي المعتزلة؛ لأنه يمكن أن يقال: إنما يعذِّب الله تعالى القاتلَ بقصده القتلَ ومباشرته سببه، وإنما يعذِّب مَنْ لم يؤمن لأنه لم يعمل ما يقدر عليه من الحرص على إصابة الحق وإيثاره على هواه، فلو فعل ذلك لأذِن الله تعالى له بالإيمان حتمًا كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] وقد مَرَّ تفسيرها. إذا تقرَّر هذا فاعلم أنَّ كرامات الأولياء وسحر السحرة وتأثير الجن في الإنس بغير الوسوسة كلُّه مما لا يؤثِّر إلا بإذنٍ خاصٍّ من الله تعالى. أما الكرامات فقد [560] قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [الرعد: 38].
(3/820)
وقال تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35]. وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت: 50]. والآيات القرآنية في هذا المعنى كثيرة. وكثيرًا مَّا يقرن الخبر عن الآيات التي وقعت للأنبياء عليهم السلام ببيان أنَّها بإذن الله، من ذلك قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} [المائدة: 110]. وإذا كان هذا حال الرسل عليهم السلام فحال الأولياء في شأن الكرامات أولى وأحرى بأن لا يقع إلَّا بإذن الله الإذنَ الخاصَّ. وأما حال السحر فقال تعالى في السحرة: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، وأما حال الجن فقد قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة: 10]، [561] وقال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ
(3/821)
رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ: 12]. ومن الحِكَمِ في التنبيه على أنَّ ما جرى على يد عيسى عليه السلام من الخوارق إنما كان يقع بإذن الله تعالى, أي لا كعمل البشر الأحياء لما يقدرون عليه عادة: قَطْعُ شبهة مَنْ يُشْرِكه. وكذلك التنبيه على مثل ذلك في السحرة؛ لأنَّ توهُّمَ أنهم يعملون باختيارهم كما يعمل الناس ما يقدرون عليه عادةً يُخْشَى أن يكون ذلك داعيًا إلى الشرك. وهكذا في شأن الجن؛ فإنَّ تَوَهُّم أنهم يتصرَّفون في الإنس وفيما يحسُّ به الإنس تَصَرُّفَ اختيارٍ كتصرف البشر فيما يقدرون عليه عادةً يدعو إلى دعاء الجنِّ وإشراكهم. وقد اتَّضح بحمد الله وتوفيقه الفرق بين سؤال الإنسان من إنسان آخر ما يقدر عليه عادة وبين سؤاله مَنْ يظن به الصلاح ما لا يقدر عليه عادة وإنما يقع بإذن الله تعالى، وهكذا سؤاله من السحرة، وعمله مثل عملهم، وسؤاله من الجن. فاندفعت شبهُة القائلين: كيف يكون سؤالُنا الأحياءَ ما يقدرون عليه عادة غير شرك ويكون السؤال من الجن ونحوه شركًا؟ ولا يخفى أن أرواح الموتى إن كان لها تصرف [562] فهو مما لا يقع إلا بالإذن الخاصِّ سواء أكانت صالحة وكان تصرُّفها كرامة كالصالحين الأحياء, أم كانت طالحة وكان تصرُّفها إهانة كالشياطين. ولولا خشية الإطالة لَسُقْتُ الآيات التي جاء فيها ذكر إذن الله تعالى
(3/822)
كلها، وبَيَّنتُ أن المراد بذلك كله الإذن الخاص، وأوضحت وجه ذلك، وذكرت كثيرًا من الأمور التي تدخل في هذا المعنى، ولكني قد فتحت لك الباب، فإن أحببت الاستيفاء فعليك بالتدبُّر مع إخلاص النية والاستعانة بالله تبارك وتعالى. [563] وليس من السؤال ما كان المقصود به التعجيز, كقول إبراهيم عليه السلام: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] , ولا ما يشبهه مما ليس بسؤالِ خضوع وتذلُّل. وأما السؤال من الجمادات كالأصنام والكواكب فدعاء. وليس منه قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «اسكن أحد» (1) ونحو ذلك مما هو من قبيل الأمر التكويني، ليس فيه تذلُّل ولا خضوع لذلك الجماد، وعند القائل سلطان من الله عزَّ وجلَّ بذلك. ومثله ما رُوي في قصَّة قارون أن الله عزَّ وجلَّ أوحى إلى موسى عليه السلام: «مُرِ الأرض بما شئت»، فقال: «يا أرض خذيهم» (2)، ولا ما لم يكن المقصود منه الطلب وإنما هو تَمَنٍّ أو نحوه كقول المغتمِّ بالليل: أصبحْ _________ (1) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة, باب مناقب عثمان بن عفان ... , 5/ 15, ح 3699، من حديث أنس رضي الله عنه. (2) أخرج هذه القصَّة ابن أبي شيبة في كتاب الفضائل، ما ذُكِر في موسى - صلى الله عليه وسلم - من الفضل، 16/ 535 - 536، ح 32504، والطبريُّ 18/ 334 - 335، وابن أبي حاتمٍ 9/ 3018، ح 17156, والحاكم في كتاب التفسير، تفسير سورة القصص، 2/ 408 - 409, وغيرهم، من طريق المنهال بن عمرٍو عن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبَّاسٍ، وفي بعض الطرق: عن سعيد بن جبير وعن عبد الله بن الحارث عن ابن عباسٍ. وهو إسنادٌ حسنٌ. وقال الحاكم: «صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه»، ولم يتعقَّبه الذهبيُّ.
(3/823)
ليلُ، وقول امرئ القيس: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي (1) وقول المستعجل للَّيل: اغرُبي يا شمس، ونحو ذلك، فليس من الدعاء في شيء، والله أعلم. ورأيت في بعض الكتب حكايةً عن أبي بكر بن عيَّاشٍ القارئ المشهور أنه كان يقول: «يا ملائكتي (2) قد طالت صحبتي لكما، فإن كان لكما شفاعةٌ عند الله تعالى فاشفعا لي» (3). ولا أرى ذلك يصحُّ عنه، ولو صحَّ لم يكن حجَّة، [564] ولا يلزم من ذلك شناعة عليه، وإنما الشناعة على مَن قامت عليه الحجة فأصرّ, أو وقع في نفسه تردُّدٌ فلم يحتط لنفسه. وأما مَن رأى أنَّ عنده سلطانًا من الله تعالى ولم يقصّر في النظر ولا خطر له أنَّ ترْك ذلك الفعل هو الأحوط فقد قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [آخر البقرة] , وقال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]. وقد اتَّفق العلماء على تكفير مَنْ أنكر آية من القرآن، أو زاد فيه ما ليس منه، ومع ذلك فقد قال بعضُ الصحابة رضي الله عنهم: إنَّ المعوذتين ليستا من القرآن (4) , فلم يكفِّره غيره من الصحابة بأنه أنكر آية من القرآن، ولا كَفَّرَ _________ (1) انظر: ديوانه 18. (2) في الحلية: «يا ملَكيَّ» على الجادَّة. (3) هذه الحكاية أوردها ابن الجوزيِّ في صفة الصفوة (3/ 165). وروى أبو نُعَيمٍ في الحلية (8/ 303) معناها باختصارٍ، وفي إسنادها: عمر بن بحرٍ الأسديُّ، ترجم له ابن عساكر (43/ 545)، ولم يذكر ما يفيد توثيقه. (4) ورد ذلك عن ابن مسعود؛ فقد أخرج البخاري من طريق عبدة بن أبي لبابة عن زر بن حبيش قال: سألت أبي بن كعب، قلت: أبا المنذر، إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا ... ولابن حبان من طريق عاصم بن أبي النجود عن زر, قال: لقيت أبي بن كعب فقلت له: إن ابن مسعود كان يحك المعوذتين من المصاحف, ويقول: إنهما ليستا من القرآن فلا تجعلوا فيه ما ليس منه. انظر: صحيح البخاري, كتاب التفسير, سورة (قل أعوذ برب الناس) , 6/ 181, ح 4977. صحيح ابن حبان (الإحسان) , كتاب الحدود, باب الزنى وحدّه, ذكر الأمر بالرجم للمحصنَين إذا زنيا ... , 10/ 274, ح 4429.
(3/824)
هو غيرَه لأنهم زادوا في القرآن ما ليس منه. وزعم رجل منهم من أهل بدر أنَّ الخمر حلال محتجًّا بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] فردُّوا عليه خطأه (1) ولم يكفِّروه، مع قول العلماء: إنَّ مستحلَّ الخمر يكفر. وهكذا اختلفت الأمة في البسملة، فقال بعضهم: هي آية من القرآن، وقال بعضهم: ليست آية من القرآن (2)، ولم يكفِّر أحد من الفريقين الآخر مع قولهم بكفر من أنكر آية من القران أو زاد فيه ما ليس منه، [565] وإنَّما حملهم على عدم التكفير في الأمثلة السابقة ونحوها أنَّ المخطئ فيها معذور، فأمَّا الاختلاف في العقائد فحَدِّث عن البحر ولا حرج, وقد استقرَّ عند أهل السنة ألَّا يُكفَّر أحد من المسلمين بخطأ في عقيدة وإن لزم منها ما هو كفر. _________ (1) هذه القصة وقعت لقدامة بن مظعون, وقد أنكر عليه عمر وأقام عليه الحد. وسيأتي تخريجها في ص 930. (2) أي منفردة مستقلة، وإلا فكونها جزء من آية في سورة النمل ليس محل خلاف بين المسلمين. وانظر أقوال العلماء في المسألة في جمال القراء للسخاوي 2/ 483 - 484، ومجموع الفتاوى 22/ 433 - 435.
(3/825)
وهكذا اتَّفق أهل العلم على أنَّ ما أُحْدِثَ في الدين وليس منه فهو بدعةٌ، وأنَّ إنكار السنة الثابتة بطريقٍ ظنيّ ضلالٌ، ثم اختلف الصحابة فمَن بعدهم في أشياء لا تُحصى، فقال بعضهم: هي من الدين، وقال بعضهم: ليست منه، ومع ذلك لم يحكم أحد منهم على مخالفه بأنه مبتدع أو ضالٌّ، وما ذلك إلَّا لأنَّ كلًّا منهم يرى مخالفه معذورًا. فهكذا نقول في مسألة الدعاء وأمثالها، فنحن وإن قلنا في صورة من صور السؤال ونحوها: إنَّ هذا دعاءٌ لغير الله تعالى وعبادة وشرك، فليس مقصودُنا أن كلَّ من فعل ذلك يكون مشركًا، وإنما يكون مشركًا مَنْ فَعَلَ ذلك غيرَ معذور، فأما من فعلها معذورًا فلعلَّه يكون من خيار عباد الله تعالى وأفضلهم وأتقاهم، ولعلَّه يكون مأجورًا على ذلك الفعل نفسِه (1). وقد وقع الناس في هذا الباب على طرفي نقيض؛ فمنهم من يأخذ قول بعض الأمة وصالحيها كأنه وحي منزل، ويَرجعُ قولُهُ إلى دعوى أن ذلك العالم أو الصالح معصومٌ كعصمة الأنبياء أو أعظم، فلا يهون عليه أن يسمع قائلًا يقول: لعلَّ هذا العالم أو الصالح أخطأ، وإذا حدَّثته نفسه بأنَّ ذلك _________ (1) لم يذكر المؤلِّف على هذا الاحتمال دليلًا، ولا يظهر أن المخطئ في التوحيد كالمجتهد الفروعيِّ الذي إن فاته أجران لم يَعْدَم أجرًا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ما لم يُشرع جِنسُهُ مِثل الشِّركِ فإِنّ هذا لا ثواب فِيهِ وإِن كان الله لا يُعاقِبُ صاحِبهُ إلّا بعد بُلُوغِ الرِّسالةِ كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} , لكِنّهُ وإِن كان لا يُعذَّبُ فإِنّ هذا لا يُثابُ، بل هذا كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} , قال ابنُ المُباركِ: هِي الأعمالُ الّتِي عُمِلت لِغيرِ الله. وقال مُجاهِدٌ: هِي الأعمالُ الّتِي لم تُقبل» اهـ من مجموع الفتاوى 20/ 32.
(3/826)
العالم أو الصالح أخطأ رأيته يتعوَّذ بالله تعالى، ويجتهد في طرد ذلك الخاطر عن نفسه. ومنهم مَن إذا ظهر له في شيء من الأعمال أنه شركٌ أو لم يظهر له ولكنه سَمِع شيخه يقول ذلك بادر إلى الحكم على كلِّ مَنْ فعل ذلك من السلف والخلف بأنهم مشركون، لا فرق بينهم وبين عُبَّاد الأوثان. والحق التوسُّط بين هذين. وأُعيذُك بالله عزَّ وجلَّ أن يحملك هذا الكلامُ على [566] التهاون بمسألة التوحيد فتهجُم على شيء من الأعمال التي قد قيل إنها شرك قائلًا: إن كان في نفس الأمر شركًا فأنا معذور؛ فإنَّ الخطر عظيم، ولعلَّ عُذْرَكَ لا يكون من القوَّة بحيث يقبله الله تعالى منك، فانظر لنفسك، فإنْ شَكَكْت في شيء فدعه، فلعلَّ الله تعالى يقول لك: لِم صَنَعْتَ كذا وكذا وقد قيل لك: إنه شرك، وليس عندك يقين بأنه ليس بشرك, وأنت تعلم أنك لو تركتَه لما كان عليك إثم ولا حرج؟ وما مَثَلُكَ إلا مَثَلُ رجل وجد امرأة نائمة على سريره وشكَّ أزوجته هي أم أمُّه، فقال لنفسه: لأضطجِعنَّ معها؛ فإنَّ الاضطجاع مع الزوجة مستحبٌّ في الشرع، فإن كان (1) أمي فلم أتعمَّدْها، وقد وقع فلان على أمه معتقدًا أنها زوجته فأفتاه العلماء بأنه لا إثم عليه، بل هو مأجور! واعلم أنه لو لم يكن في اجتناب ما قيل إنه شرك إلا سدّ باب الاختلاف بين الأمة في هذا الأمر لكان من أعظم القربات عند الله عزَّ وجلَّ. _________ (1) كذا في الأصل.
(3/827)
واعلم أن مَنْ ترك عملًا من الأعمال خوفًا أن يكون شركًا أو معصية فهو مأجور على تركه، وعلى فرض أن ذلك الفعل طاعة في نفس الأمر فإن أجره يُكْتب لهذا التارك؛ لأن الله عزَّ وجلَّ يعلم أنه إنما تركه خوفًا من الله [567] تعالى. ومَن أقدم على فعل يخاف أن يكون معصية فعليه إثمه وإن كان ذلك الأمر في نفس الأمر طاعة. ولعلَّ لنا عودة إلى هذا البحث إن شاء الله تعالى (1). * * * * _________ (1) عقد المؤلِّف فصلًا في الأعذار في ص 914.
(3/828)
[567] الشبهات ورَدُّها قد مرَّ في تضاعيف الفصول كثير من الشبهات وردُّها، ونذكر هاهنا ما يحضرنا, وربما وقع تكرارٌ للمناسبة. فمِن أشدِّ شبهاتهم: زَعْمُهم أنَّ أعمالهم التي ندَّعي نحن أنها شركٌ قد جرَّبوها فوجدوا أنَّ حوائجهم قد تُقْضَى بسببها، فيقول عُبَّاد الأصنام: إننا قد جرَّبنا فوجدنا أننا كثيرًا مَّا نذهب نُعَظِّم الصنم ملتجئين إلى الحيِّ الذي جُعِل الصنم رمزًا له من ملَك أو إنسان أو غيره فتُقْضَى حاجاتنا. ويقول عُبَّاد الكواكب: إننا قد جرَّبنا أننا إذا عظَّمنا زُحَلًا (1)، مثلًا، ودعوناه مع مراعاة الشروط المذكورة في كتب المسلمين أنفسهم؛ كتذكرة داوود وغيرها، فقد تُقْضَى حاجاتنا. وهكذا يقول كلُّ فريقٍ من الفِرق. وهكذا يقول الذين يدْعون الملائكة وأرواح الموتى والجنَّ وغيرهم، ويزيدون على ذلك ذِكْرَ حكايات يتناقلونها؛ أنَّ رجلًا استغاث بملَك أو ميِّت أو غائب أو جنِّيٍّ؛ فإذا شخصٌ قد ظهر له وأغاثه، أو حصلت له الإغاثة بطريق خارقة للعادة ونحو ذلك. والجواب عن هذا: أن كلّ إغاثة حصلت لمخلوقٍ فهي من الله عزَّ وجلَّ، وإغاثتُه عزَّ وجلَّ لمخلوق لا تدُلُّ على أنه مؤمن، ولا صالح، ولا أن استغاثته مرضيّة عند الله تعالى. فإذا عرض لإنسان أمرٌ مُهلك فأنقذه الله منه فقد يكون ذلك لأنَّه لم يحضر أجلُه فقط، وقد يكون استدراجًا له وابتلاء, على ما تقدّم في الخوارق، وقد يتراءى له شيطان في صورة الملَك الذي توهَّمه، أو الرُّوح، وغير ذلك. _________ (1) كذا في الأصل، والمعروف في كتب النحو مَنْعُه من الصَّرْف للعَلَمِيَّة والعَدْل.
(3/829)
وبحسبك أنَّ كلّ فرقة من الفرق المختلفة يزعمون أنهم قد تحصل لهم الإغاثة إذا عملوا بما يعتقدونه أو يعتادونه، مع الاتِّفاق على أنَّ منهم مَنْ هو على الباطل؛ على أنَّ الحكايات المزعومةَ موجودة عند كلِّ فرقة، والغالبُ عليها الكذب، ومنها ما هو تخيُّلٌ وأوهام، ومنها ما هو مكر ودجلٌ من بعض الناس الأحياء على ما تقدَّم في الخوارق والغرائب. فإن كان المغترُّ بهذه الشبهة ممَّن يلتزم الإسلام فيكفيه أن يعلم أنَّ الحجّة إنما هي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وأنّ مثل ما وقع له أو سمِعه يقع أكثر منه للنصارى والوثنيِّين، وأنَّ الله قد بيَّن في كتابه أنَّه يستدرج بعض الناس. وقد مرّ في الخوارق والغرائب ما يكفي. شبه عُبَّاد الأصنام إن قالوا: أرأيت تعظيمنا لأصنامنا التي جعلناها رمزًا لله تعالى، وتعظيم المسلمين الكعبة، والحجر الأسود، وتعظيم العاشق ــ مثلًا ــ منزلة (1) معشوقته غير متديِّنٍ بذلك، ما الفرق بين هذه الثلاثة حتى زعمتم الأوَّل شركًا، والثاني إيمانًا، والثالث ليس بشرك ولا إيمان؟ فالجواب: أن الفرْق هو أنكم تعظِّمون أصنامكم تعظيمًا تطلبون به النفع الغيبيَّ، وتلك عبادة، ولم ينزل الله تعالى بذلك سلطانًا، فليست عبادة له، بل هي عبادة للأصنام. والمسلمون يصنعون ما يصنعون بالكعبة والحجر الأسود طاعة لأمر الله تعالى [568] الذي أنزل به سلطانًا، فتلك عبادة لله _________ (1) كذا في الأصل، ولعلَّ الصواب «منزل» بدون تاء كما سيذكره المؤلف بعد عدّة أسطر.
(3/830)
تعالى. والعاشق لا يطلب بتعظيم منزل معشوقته نفعًا غيبيًّا فليس فعله بعبادة أصلًا. وبعبارة أخرى: أنتم كذبتم على الله عزَّ وجلَّ، وكذَّبتم رسله، والمسلمون صدقوا على الله تعالى، وصدَّقوا رسله، والعاشق لا صدّق ولا كذّب. وقد قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 32 - 33]. وأيضًا أنتم تفتاتون على الله عزَّ وجلَّ، بجعل ما هو حقٌّ له مِن شَرْع الدين والتعظيم على سبيل التديُّن لغيره، بغير إذنه. وأيضًا أنتم سوّيتم الأصنام بربِّ العالمين، حيث زعمتم أنها تستحقُّ العبادة استحقاقًا يستقلُّ العقلُ بإدراكه، وهذا هو التأليه، ولذلك كان مشركو العرب يعظِّمون الكعبة والحجر أشدَّ مما يعظمون أصنامهم، ومع ذلك يطلقون على الأصنام آلهة، ويقولون: إنهم يعبدونها، ولا يطلقون على الكعبة والحجر الأسود لفظ الإله، ولا يقولون: إنهم يعبدونهما، وما ذلك إلَّا لأنَّهم يعلمون أن تعظيمهم للكعبة ليس مستندًا إلى العقل، وإنما هو مستند إلى أمر الله عزَّ وجلَّ المنقول إليهم بالتواتر عن إبراهيم رسول الله وخليله عليه السلام، فهم يعظِّمونها طاعةً لله عزَّ وجلَّ لأمره الذي [569] عندهم به سلطان. وأمَّا تعظيم الأصنام فهو شيء استُنْبِط بالخرص والتخمين، فكما أن العقل يستقلُّ بإدراك استحقاق الله عزَّ وجلَّ للتعظيم ادَّعوا أنه يستقلُّ بإدراك
(3/831)
استحقاق الأصنام للتعظيم, فصارت عندهم مساوية لله عزَّ وجلَّ في هذا المعنى، ولذلك سمّوها آلهة، وسمّوا تعظيمها عبادة لها، فتدبَّر. فإن قالوا: يؤخذ من كلامكم أن الله تعالى لو لم ينزل سلطانًا بتعظيم الكعبة لكان تعظيمها شركًا، وحينئذٍ لا يكون هناك فرق إلا أمر الله وعدمه، وكيف يُعْقَل أنَّ الله تعالى يأمر بشيء لو لم يأمر به لكان شركًا، فإنه يتحصَّل من هذا أنه سبحانه أَمَرَ بالشرك، وقد جاء في القرآن: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28]. قلنا: قد علمتم أنَّ قِوام الشرك هو الكذب عليه، والتديُّنُ بما لم يشرعه، والافتيات عليه، وتسوية غيره به في أنَّ العقل يستقلُّ بإدراك استحقاقه للتعظيم، وهذه الأمور متحقِّقة فيما لم يُنزل به سلطانًا، منتفية عن تعظيم ما أَنْزَلَ به سلطانًا، فتعظيم الجماد ليس بقبيح في ذاته حتى يُقال: كيف يأمر الله تعالى به وهو لا يأمر بالفحشاء؟ وإنما يقبُح إذا كان شركًا وقد علمتم حقيقة الشرك. [570] شُبَه عُبّاد الأشخاص الأحياء لو قال قوم فرعون: إنَّنا في تعظيمنا لفرعون ظننَّا أنه مقبول عند الله تعالى بدليل أنه سوّى خَلْقَه وعافاه وملَّكه، فعظَّمناه لذلك كما يعظِّم المسلمون مَنْ يظنُّون به الصلاح منهم. لقلنا: المسلمون إنما يُكرمون مَن يظنُّون به الصلاح، وإنما يظنُّون بالرجل الصلاح إذا كان محافظًا على طاعة الله عزَّ وجلَّ، الطاعة التي أنزل الله بها سلطانًا وعندهم من الله تعالى سلطان بأنَّ ذلك دليل على الصلاح.
(3/832)
ولم يكن عند قوم فرعون سلطان من الله تعالى بأنَّ تسوية الخلقة والمعافاة والتمليك تدلُّ على الصلاح. وإنما يكرم المسلمون صلحاءهم إكرامًا عندهم سلطان من الله تعالى به، فلا يسجدون لصالحيهم؛ لأنه ليس عندهم سلطان بشرع السجود للصالحين، وقس على ذلك. وأمَّا قوم فرعون فعظَّموه بما لم يُنزل الله تعالى به سلطانًا، فإن وُجِدَ في المسلمين مَن يغلو في إكرام الصالحين بما لم ينزل الله به سلطانًا فهو مخالف لحكم الإسلام، فلا يُلْتَفَتُ إليه. شُبَه النصارى في عبادتهم الصليب وإن قال النصارى: إنَّنا إنما نعظِّم خشبة الصليب بناءً على أنَّ عيسى عليه السلام صُلِبَ عليها, وأنتم تعظِّمون الكعبة والحجر الأسود ومقام إبراهيم وزمزم [571] وغيرَها من آثار إبراهيم، وقد نُقِلَ عن أصحاب نبيِّكم أنهم كانوا يعظِّمون منبره والرُّمَّانة (1) التي كانت عليه، ويعظمون ثيابه، والقدح الذي شرب فيه، وشعره الذي كان محفوظًا عندهم، وأنتم تعظمون قبره وآثاره وقبور من تظنُّون بهم الصلاح وآثارهم، ونحن إنما نعظِّم شكل _________ (1) الموضع الذي يضع الخطيب يده عليه من المنبر ــ كما سيتَّضح من كلام المؤلِّف بعد قليلٍ ــ. وقد روى ابن أبي شيبة بسنده عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيطٍ، قال: رأيت نفرًا من أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذا خلا لهم المسجد قاموا إلى رُمَّانة المنبر القرعاء فمسحوها ودعوا ... وعن سعيد بن المسيّب أنه كره أن يضع يده على المنبر. انظر: مصنَّف ابن أبي شيبة، كتاب المناسك، في مسِّ منبر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، 8/ 799، ح 16129 - 16130. وفي طبقات ابن سعد (القسم المتمم ص 100) بسند واهٍ عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر أنهما كانا يأخذان برمانة المنبر ثم ينصرفان.
(3/833)
الصليب؛ لأنه يشبه تلك الخشبة، والمسلمون الآن يعظِّمون صورة نعل نبيِّهم وصورة البراق كما تخيّلوه. قلنا: أمَّا أنتم فليس عندكم سلطان من الله تعالى بتعظيم خشبة الصليب ولا تعظيم صورتها. وأمَّا صلاتنا إلى الكعبة وطوافنا بها وتقبيلنا الحجر الأسود وصلاتنا إلى مقام إبراهيم, فكلُّ ذلك عندنا به سلطان من الله عزَّ وجلَّ، ولسنا نصنع شيئًا من ذلك لأنها آثار، وإنما نصنع ذلك طاعة لله عزَّ وجلَّ وامتثالًا لأمره. وأصحاب نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا يصنعون ما يصنعون إلَّا على سبيل التماس البركة، وكان عندهم سلطان من الله تعالى؛ لأنَّ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - أقرَّهم على ذلك، ولهذا لم يجاوزوا ما أقرَّهم عليه، فلم يكونوا يركعون ولا يسجدون له - صلى الله عليه وسلم -، ولا يقومون له إذا جاءهم وهم جلوس، ولا للمنبر ولا لرُمّانته ولا لغير ذلك من الآثار. [572] بل أعظم ما رُوي عنهم هو وضع اليد على رُمَّانة المنبر حيث كان - صلى الله عليه وسلم - يضع يده (1)، وأما ثيابه وشعره فكانوا يغسلونها ويسقون المرضى من غُسَالتها، وأما القَدَح فإنما كانوا يحبّون الشرب فيه، وكلُّ ذلك عندهم فيه سلطان، إمَّا فيه بخصوصه أو في نظيره. _________ (1) قال العراقي عن حديث: «وضعه - صلى الله عليه وسلم - يده عند الخطبة على رمانة المنبر»: (لم أقف له على أصل). وتعقبه الزبيدي بنحو أثر يزيد بن عبد الله بن قسيط المذكور قريبًا. انظر: إتحاف السادة المتقين 4/ 422 - 423. وفي اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 244 - 245: (فقد رخص أحمد وغيره في التمسح بالمنبر والرمّانة التي هي موضع مقعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ويده ... فأما اليوم فقد احترق المنبر, وما بقيت الرمانة، وإنما بقي من المنبر خشبة صغيرة, فقد زال ما رخص فيه ... ).
(3/834)
فأمَّا صورة النعل والبراق فخطأ من فاعلها. وبالجملة فالمدار على السلطان، فكلُّ ما أنزل الله به سلطانًا فهو حق، وكلُّ ما لم ينزل به سلطانًا فهو باطل، وإن وقع فيه بعض المسلمين. ولعلّ مَنْ وَقَعَ في ذلك لم تقم عليه الحجة كما قامت عليكم، ومَنْ لم تقم عليه الحجة ولم يعانِدْ ولم يُصِرَّ فهو معذور إن شاء الله تعالى. شبهة للنصارى واليهود في شأن الأحبار والرهبان وإن قال النصارى واليهود: إنكم معشر المسلمين تطيعون علماءكم كما أطعنا أحبارنا ورهباننا. قلنا: أمَّا أهل العلم والدِّين منّا فإنهم لا يطيعون في الدِّين إلا الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يقبلون أقوال العلماء على أنهم رواة مبلِّغون عن الله ورسوله، ولذلك لا يطيعون أحدًا من العلماء تبيَّن لهم أنَّ قوله يخالف كتاب الله وسنة رسوله، وإذا قبلوا قول عالم ثم تبيَّن لهم مخالفتُه [573] لكتاب الله وسنة رسوله تركوه، ومَنْ كان من المسلمين على غير هذه الطريقة فهو على خلاف الشريعة، فلا يُلْتَفَتُ إليه. قال الشيخ العلَّامة المحدِّث الصوفي الفقيه الحنفي ولي الله الدهلوي (1) رحمه الله في كتابه «البدور البازغة»: «بيان وجوه الإشراك بالله تعالى. من باب سوء المعرفة داء عضال عمَّت الأممَ غائلتُها، وهي الإشراك _________ (1) أحمد بن عبدالرحيم الفاروقي الهندي المحدث، صاحب مصنفات، توفي سنة 1176 هـ، وقيل 1179 هـ. الأعلام 1/ 149.
(3/835)
بالله تعالى شيئًا من النَّاسوت، وتحقيقه أن الإنسان إذا خُلِّيَ ونَفْسَه أدرك لا محالة أنَّه يقدِّر بقَدْرين ... (1). ثم إنَّ مِن طباع النَّسَمة أنها لا تزال تفتِّش عن حقائق الأشياء وتجعل بعضها ممتازة عن البعض وذلك لقوَّته (2) العلمية، فإذا تفطَّنت بتأثير عجيب لم تذره سُدًى، بل ناطه بشرفٍ موجود في مظهره وفضلٍ وعظمة فيه وأحبَّه حبًّا، فإن كان التأثير تأثيرًا يبعد عن أبناء جنسه في زعمه تبعه اعتقاد الشرف المقدَّس والفضل المتعالي والمحبة السابغة بالضرورة، ثم إن تكرَّر صدور مثل هذه التأثيرات منه أو تجشَّم تكرار ذكرها ارتكزت تلك المحبة وذلك التعظيم [574] في قلبه ودبّ الإشراك بالله تعالى في عقيدته وهو لا يعلم، وذلك لأن معرفة الإنسان بربه إنما ملاكها معرفة المغايرة الجنسية، فيعرف جنس الناسوت منقهرًا بما ليس من جنسه، فلما أثبت له العظمة المقدَّسة وأحبه حبًّا مقدَّسًا، فقد حكم عليه بتفوقه عن جنس الناسوت في ضمن ذلك وهو لا يشعر. والمرضى بهذا المرض على أصناف: فمنهم من نسي الله تعالى وعظمته واضمحلَّ (3) عنه، فجعل لا يعبد إلا الشركاء ولا يرفع حاجته إلا إليهم، ولا يلتفت إلى الله تعالى لفتة وإن كان يعلم بالنظر البرهاني أنَّ سلسلة الوجود لا بدَّ لها من واحد يستند إليه، ولكن عَطَّل هذا الواحدَ في التأثير مطلقًا، وعلى هذا المذهب قوم من المجوس والصابئين ... _________ (1) حذف المؤلف هنا صفحة وخمسة أسطر. والمراد بقوله «يقدِّر بقدرين» أن العبد يُدرك التفاوت بين قدر نفسه وأبناء جنسه وبين قدر الخالق. (2) كذا في الأصل والبدور البازغة، ولعل التذكير في الضمير هنا وفي المواضع الآتية على تأويل النسمة بالإنسان أو الشخص. (3) كذا في الأصل، وفي البدور البازغة: وذهل.
(3/836)
ومنهم من اعتقد أنَّ الله تعالى هو الشريف السيد، ومنه التأثير في العالم، ولكنه قد يخلع على بعض العباد لباس الشرف والتأليه ويجعله مؤثرًا متصرفًا في قسط من العالم، كما أن ملِك الملوك قد يخلع على بعض عبيده خلعة الملك ويملِّكه على ناحية من ممالكه، فهو ملك الملوك وهم ملوك إنما ملَّكهم [575] هو, وكذلك الله إله الآلهة، وهم آلهة لهم قدر عظيم عند الله تعالى وتصرُّف في مملكته وشفاعة إليه, فتلجلج لسانهم أن يسموهم عباد الله تعالى، فيسوُّوهم وغيرَهم فعدلوا عن ذلك وسمَّوهم أبناء الله تعالى ومحبوبي الله عزَّ وجلَّ ومعشوقي الله سبحانه، وسمَّوا سائر الناس عبادًا لأولئك، فسمَّوا أنفسهم عبد المسيح وغلام فلان وغلام فلان وإسفَنْديار (1) وغير ذلك. وعلى هذا المذهب اليهود والنصارى والمشركون والغلاة من منافقي دين محمد - صلى الله عليه وسلم - في يومنا هذا. ومنهم مَن اعتقد أن الله هذا (هو) (2) المؤثر في خلقه ولكن أولئك عباد فنوا في الله فكان رضا الله تعالى في رضاهم ورضاهم في رضاء الله تعالى، فهم لا يفعلون فعلًا إلَّا وفعل الله تعالى داخل اسمه فعلهم (3)، وأولئك لو علموا بأنَّ هذا الاعتقاد شرك وغير مرضي من الله تعالى لم يعتقدوه، ولكن الله تعالى أعمى أبصارهم. _________ (1) ويقال: إسبنديار ــ بالباء المعقودة ــ، والكلمة معناها الحرفي باللغة الفارسية هو مَنْ خَلَقه العقل المقدَّس. وهو اسم للإله المشرف على الشهر الثاني عشر من الشهور الشمسيَّة، وكذلك الإله المشرف على اليوم الخامس من كل شهر شمسيٍّ. انظر: لغت نامة لدهخدا، وبرهان قاطع للتبريزي بتحقيق الدكتور معين ــ تحت كلمة اسفنديار. (2) ما بين القوسين تصحيح من المؤلف. (3) كذا في الأصل والبدور البازغة.
(3/837)
واعلم أن الألفاظ المستعملة في الشرف المقدَّس والشرف الناسوتي أكثرها متقاربة، ألا ترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لطبيب: «إنما الطبيب هو الله تعالى وإنما أنت رفيق» (1)، فلم (2) يسوِّغ إطلاق [576] الطبيب على رجل من بني آدم بالمعنى الثاني، وكذلك يقول: «السيد هو الله تعالى» (3) , ثم يقول: «أنا سيِّد ولد آدم» (4) بالمعنى الثاني. فكل نبيٍّ بعث في قومه زجرهم عن وجوه الشرك فتبرَّأ قلوبهم عنها وفهموا ما يقوله وإن اشتبهت الألفاظ، ثم لما انقرض الحواريُّون من أصحابه ووصاة دينه وحملة علمه ورُفعت الأمانة عن قلوب الناس خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وحملوا كلام النبي على غير محمله، وجعلوا الشفاعة والمحبوبيَّة وغيرهما التي أثبتها النبيُّ لنفسه _________ (1) الحديث في مسند أحمد 4/ 163، بلفظ: «أنت رفيقٌ، والله الطبيب». [المؤلف]. وفي رواية أخرى لأحمد 2/ 226 - 227: «لست بطبيب، ولكنك رفيق». وهو أيضًا في سنن أبي داود (4207) بلفظ: «الله الطبيب، بل أنت رجل رفيق». (2) في البدور: «ثم»، وعلى هذا يكون المراد بالمعنى الثاني: تشخيص المرض ووصف الدواء. وأما على ما في الأصل فالمراد به: إزالة المرض وإحداث الصحة. (3) الحديث في مسند أحمد وغيره بسندٍ على شرط الشيخين: قال الإمام أحمد: ثنا حجاج، حدثني شعبة، قال: سمعت قتادة قال: سمعت مطرِّف بن عبد الله بن الشخِّير يحدِّث عن أبيه، قال: جاء رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنت سيِّد قريشٍ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «السيِّد الله»، قال: أنت أفضلها فيها قولًا وأعظمها فيها طَولًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليقلْ أحدكم بقوله، ولا يستجْرِه الشيطان». مسند أحمد 4/ 24 - 25. وله عنده وعند غيره أسانيد أخرى، مع خلافٍ في بعض الألفاظ. [المؤلف]. وانظر: سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في كراهية التمادح 4/ 254، ح 4806. (4) الحديث في صحيح مسلمٍ، كتاب الفضائل، باب تفضيل نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - على جميع الخلائق، 7/ 59، ح 2278، بلفظ: «أنا سيِّد ولد آدم يوم القيامة ... ». [المؤلف]
(3/838)
وللخواصِّ من أمته شفاعة ومحبوبيَّة أخرى، فعند ذلك بطل الدين وانقلب الزمان زمان جاهلية فيبعث الله نبيًّا آخر فأنكر عليهم ونهاهم عن وجوه الشرك وبذل في ذلك أشدَّ سعي وأوفر مصادمة. وأما الدِّين المحمَّدي - صلى الله عليه وسلم - فلا يزال فيه وصيٌّ يحمل الوحي والعلم على وجههما، ولا يكاد يخلط شيئًا بشيء، فإن اتَّبعوه وأصغوا إليه فازوا، وإن نبذوا قوله وراء ظهورهم خابوا، ولا يزال طائفة من أمته قائمين على الحق لا يضرُّهم من [577] خالفهم، وكذلك (ولذلك) (1) لا يكون في دينه جاهلية ولا يبعث بعده نبي، والله أعلم بأسراره. فصل صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبرٍ وذراعًا بذراعٍ حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ اتبعتموهم»، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟» (2). إلامَ أصف لك ما أحدثه منافقو أمته من وجوه الشرك، وأغضبوا قلب وصيِّه وضيَّقوا صدر حامل علمه ووحيه، فقد رأينا رجالًا من ضعيفي المسلمين يتَّخذون الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله تعالى، ويجعلون قبورهم مساجد، ويحجُّون إلى قبورهم وآثارهم وأتلالهم كما كان اليهود والنصارى يفعلون ذلك، ورأينا رجالًا منهم يحرفون الكلم عن مواضعه، يقولون: الصالحون لله والطالحون لي (3)، كما قالت اليهود: {لَنْ تَمَسَّنَا _________ (1) التصحيح من المؤلف. (2) قد تقدم سياق الأحاديث في ذلك وتخريجها. [المؤلف]. انظر ص 227 - 228. (3) أي: يهبهم لي ولا يعذبهم, والعبارة وردت في دستور العلماء 4/ 4.
(3/839)
النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80]، ويحملون الشفاعة والمحبوبيَّة على غير محملهما، كما حملهما مَنْ كان قبلهم، واختطفوا من ملَّة الهنود وملة المجوس أمورًا فلا يزالون عاضِّين عليها بنواجذهم، وتحزَّبوا أحزابًا، وقاسوا على المنصوص (1) فضلّوا وأضلّوا. وهل أنت ملتمس لم كفَّر الله سبحانه اليهود والنصارى في اتخاذهم [578] الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله؟ أتراهم يقولون بِقِدَمِ رجل اعترفوا بأنَّ فلانًا أبوه وفلانة أمُّه، أو وجوب رجل اعترفوا بأنَّه لم يكن بالأمس شيئًا مذكورًا، أو انتهاء (2) سلسلة الوجود [إلى رجل] (3) اعترفوا بأنَّ قبله قرونًا كثيرًا؟ كلّا، بل هي تناقضات، وأخبث مَنْ يعتقدها يُسمَّى بشرًا! أَوْ تراهم يقولون بحلول الله سبحانه ذلك القديم في هذا الحادث؟ فلِمَ يقولون في محاوراتهم: إن الله تعالى بعث فلانًا وأوحى إليه كذا وكذا، ومات فلان أو يستشفع فلان عند ربه فيستجاب له، أو ما يجري مجرى هذه الكلمات؟ بل الحق أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، واستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله تعالى، وتَلَجْلَج ألسنتهم أن يشهدوا بأنه مَن يملك مِن الله شيئًا إن أراد أن يهلك المسيح عيسى بن مريم وأمه ومن في الأرض [جميعًا]؛ بما أُشرب في قلوبهم من اعتقاد الشرف والتألُّه في المقدَّسين. كلَّا، بل هو بشر ممن خلق، إنما فضله أنه أوحي إليه وأُمِرَ الناس أن يأخذوا بما أمره (4) ويجتنبوا ما نهاهم حاكيًا عن ربه تعالى، فكل شرف له فإنما هو متشعِّب من هذه لا غير، وقد [579] آتيناك من البينات بما (5) لا يكون _________ (1) لعله يقصد إعمال القياس في المنصوص تهرُّبًا من العمل به كما جاء. (2) في الأصل: «وانتهاء»، والمثبت من البدور. (3) ما بين المعكوفات هنا وما سيأتي ساقط من الأصل ومستدرَك من البدور. (4) كذا في الأصل والبدور، ولعل الصواب: «أمرهم» بدليل ما بعده .. (5) كذا في الأصل والبدور.
(3/840)
للإنسان عذر بعده ولو ألقى معاذيره، فتدبَّر. ألا ترى أن مشركي مكة كانوا يذعنون بانصرام سلسلة الوجود إلى الله تعالى كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]، وما أغناهم ذلك عن الإشراك بالله. وربما قرع سَمْعَكَ فيما يُسرد من الأخبار أنَّ العلم سيرفع بين يدي القيامة فيتمارى رجلان، يقول أحدهما: إيَّاك ستين، ويقول الآخر: إياك سبعين، فيرفعان القضية إلى أعلمهم فيقول: إياك تسعين! (1). وأقسم بالذي نفسي بيده إنه قد وقع في آيات أُخر، فلستُ أرى أحدًا إلَّا وفيه الإشراك، كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 105]. وكفَّر الله سبحانه مشركي مكة بقولهم لرجل سخيٍّ كان يلُتُّ السويق للحاجِّ: إنه نُصب [منصب] الألوهية، فجعلوا يستعينون به عند الشدائد ... » (ذكر حديث عدي بن حاتم (2)). ثم قال: «فقد علمنا أن الشرك ليس بمحصور في العبادة بل قد يكون بهذا النحو. ولعلَّ رجلًا عريض القفا يقول: وكيف يكون هذا وما سمعنا رجلًا يقول بذلك؟ فنقول له: اعلم أنَّ التحريف ليس هو [580] اعتياض لفظ مكان لفظ، كما وقف عليه فهوم العامَّة، بل شأن التحريف أَهْوَلُ من ذلك، وأكثر أنواعه وجودًا أن يقلب اللفظ عن ظاهر مراده إلى هواه وهواجس نفسه، فقد أشار عليه الصلاة والسلام إلى أنَّه سيوجد رجال يسمُّون الخمر بغير اسمها _________ (1) يريد آية {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} في الفاتحة, ولم يرد هذا الخبر في رواية يُعتد بها، وقد ذكر ابن الجوزي حكاية شبيهة في أخبار الحمقى والمغفلين 81. (2) في تأليه الأحبار والرهبان، وقد سبق تخريجه في ص 654 - 655.
(3/841)
ويسمُّون الزنا بغير اسمه ثم يقولون: هذا ما حرَّم الله في كتابه، فعليكم به. لا بأس، ألست ترى أقوامًا يقولون (1): إن المسكر الذي يُتَّخذ من العسل وما يماثله ليس بخمر ثم أَحَلُّوه، فأولئك الذين فيهم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال، وأقوامًا يقولون: إذا وطئ الرجل أمة ابنه فذلك حلال, فأولئك قوم رُكسوا على وجوههم وغَرَّتهم الأماني، فسوف يعلمون غدًا مَن الكذَّاب الأشر. ألست ترى أقوامًا يذعنون لأقوالهم ويجدون في صدورهم استحلال ما أحلُّوه حتى إنهم كادوا يسطون بالذين يتلون عليهم آيات الله تعالى؟ ألست تراهم إذا قيل لهم: دَعُونا من أقوال أناس قد يصيبون وقد يخطئون وعليكم بالكتاب وبما حكاه الصادق المصدوق عليه السلام من أمر الله تعالى، قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم لمقتدون، وخطَّؤوا هذا الرأي، بل عسى أن يقتلونِ (2) [581] إن استطاعوا، فأولئك هم المشركون حقًّا. وقد اقشعرَّ جلدي حين بلغني ما يُسْرَدُ في الأساطير عن رجل اعترفوا له بالفضل أنه قال: لو تجلَّى الله سبحانه يوم القيامة على غير صورة فلان ما رأيته، فقد حطَّ بالله سبحانه درجته عن فلان، فإن صدقت الرواية فليس بمعذور عند الله تعالى. والمنافقون على أصناف ... ومثل منافقي ملَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - ممن يدينون بدين الإسلام ويضمرون في قلوبهم شركًا بالله تعالى وعبادة واستعانة إلى غير الله تعالى، فهموا رضا الربِّ محصورًا في رضا عبده» (3). _________ (1) كلمة «يقولون» تكررت في الأصل. (2) كذا في الأصل والبدور بحذف ياء المتكلم. (3) انتهى النقل من البدور البازغة ص 121 - 127، والأسطر الثلاثة الأخيرة من ص 164.
(3/842)
أقول: وما ذكره رحمه الله بقوله: غلام فلان، غلام فلان، إشارة إلى بعض المنكرات في الهند في أسمائهم، فإنَّ منها غلام عبد القادر، غلام جيلاني، غلام سبحاني، غلام رباني، غلام صمداني، غلام محيي الدين، غلام محبوب، غلام دستكير، غلام غوث، غلام بير، يعنون بهذه العشرة ونحوها غلام عبد القادر الجيلاني رحمه الله أي: إن المسمى عبد لعبد القادر، وهكذا يصنعون بأسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلي والحسن والحسين عليهم السلام، وأسماء بعض الأولياء، فيقولون: غلام [582] محمد وغلام أحمد، وهكذا. وإذا جاءهم مَنْ اسمه عبد القادر فكثيرًا ما يتحاشون من إطلاق هذا الاسم هكذا؛ لئلا يكون ذلك تشبيهًا لذلك الرجل بالشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله، بل يقولون: غلام عبد القادر. ومن العجب أنك لا تكاد تجد في أسمائهم عبد الله وعبد الرحمن، وأعجب منه أنه إذا كان فيهم مَنْ اسمه عبد الرحمن أو عبد الرحيم أو عبد العزيز أو عبد الجبار أو نحو ذلك من أسماء الله عزَّ وجلَّ لا ينادونه بذلك، بل ينادون ذاك الشخص بقولهم: يا رحمن أو يا رحيم أو يا عزيز أو يا جبَّار، وكذلك يذكرونه إذا ذكروه في كلامٍ أو كتاب، وتجد في أسمائهم كثيرًا حبيب الله، حبيب الرحمن، عظمة الله، قدرة الله، فانظر أين بلغ بهم الأمر في الجرأة على الله عزَّ وجلَّ، والخضوع للشيخ عبد القادر. واعلم أن التسمية بإضافة عبد إلى غير الله عزَّ وجلَّ من المنكرات العظيمة ولم يكن في القرون الأولى شيء من ذلك، فأمَّا عبد المطلب جَدُّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد صحّ أنه إنما سُمِّي بذلك؛ لأنَّ عمه المطَّلِب جاء به من المدينة إلى مكة مردفًا له فظن الناس أنه عبد اشتراه فقالوا: عبد المطَّلِب, فلزمَتْه،
(3/843)
فلم يقصد بذلك [583] تعظيم المطَّلِب، ولذلك والله أعلم لم يكن النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يكره إطلاق ذلك، بل صحَّ عنه أنَّه قال: «أنا ابن عبد المطَّلِب» (1). وقد أخرج ابن سعدٍ في الطبقات بسند صحيح عن النَّزَّال بن سَبْرة قال: قال لنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إنا وإياكم كنا نُدْعى بني عبد مناف، فأنتم بنو عبد الله، ونحن بنو عبد الله»، زاد في رواية: قال مِسْعَرٌ ــ وهو من قوم النَّزَّال ــ: نحن من بني عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة، والنبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من بني عبد مناف بن قُصيٍّ من قريشٍ (2). وقد أخرجه البخاري في التاريخ الأوسط، ذكره في الإصابة (3). وقد حوَّل النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من أسماء موتى الجاهلية اسم عبد العُزَّى بن غطفان فسمى أولاده بني عبد الله بن غطفان؛ ولذلك لُقِّبوا بني محوَّلة؛ لتحويل اسم أبيهم. ووقع للصاغانيِّ ثم شارح القاموس (4) وهمٌ عجيبٌ، توهَّما أنَّ القصَّة تقتضي أن عبدالله بن غطفان كان في عهد النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، _________ (1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب قول الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ}، 5/ 153، ح 4315 - 4317. ومسلم في كتاب الجهاد والسير، بابٌ في غزوة حنين، 5/ 168 - 169، ح 1776. (2) طبقات ابن سعد 6/ 56. [المؤلف] (3) الإصابة 11/ 161، وانظر: التاريخ الأوسط المطبوع باسم التاريخ الصغير 1/ 38. (4) انظر: تاج العروس 28/ 380 مادة (ح ول).
(3/844)
ففتَّشا عنه في معاجم الصحابة فلم يجداه فتوقَّفا. وكأن العلماء فهموا أنَّ تحويل أسماء الجاهليِّين ليس بحتمٍ، ولذلك لا يزالون يذكرونهم بعبد منافٍ وعبد العزى وعبد مناة ونحو ذلك. والمقصود أنَّ اسم عبد المطلب لم يُقصَد به تعظيمٌ, ولا يُشعِر إذا عُرِف سببه بتعظيمٍ. ثم أُلِفَ هذا الاسم فسُمِّيَ به نافلته (1) عبد المطلب بن (2) الحارث بن عبد المطلب، وهو ابن عمِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، صحبه وروى عنه. وفي ترجمته من تهذيب التهذيب لابن حجر: «قال العسكري: هو المطلب بن ربيعة، هكذا يقول أهل البيت. وأصحاب الحديث يختلفون، فمنهم من يقول: المطلب بن ربيعة، ومنهم من يقول: عبد المطلب. وقال أبو القاسم [البغويُّ] (3): عبد المطلب، ويقال: المطلب. وقال أبو القاسم الطبرانيُّ: الصواب: المطلب». أقول: وأهل البيت أدرى به، وقد يجوز أن يكون سمي عبد المطلب باسم جد أبيه ثم غَيَّره النبي - صلى الله عليه وسلم - فسماه المطَّلِب، وبقي بعض الناس يقول عبد المطلب؛ لأنه رأى أنَّ هذه التسمية ليس المقصود منها تعظيم المطلب، وإنما سمي هذا باسم جدِّ أبيه، وجدُّ أبيه عرض له هذا الاسم على الوجه الذي قدَّمناه، لم يقصد به تعظيم المطَّلِب. واتِّباعُ أهل البيت أولى؛ فإن هذه التسمية تكون ذريعة إلى غيرها. والله أعلم. _________ (1) النافلة: ولد الولد. انظر: القاموس المحيط: 1374. (2) لا خلاف في أن اسم والده: ربيعة, والحارث جدُّه. ولعل المؤلف نسبه هنا إلى جدِّه. (3) زيادةٌ من التهذيب 6/ 384.
(3/845)
(1) ومن عجيب صنع الله لنبيه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنْ قضى أن يكون اسم أبيه عبد الله، وقضى أن يكون اسم من يؤمن به من أعمامه لا شرك فيه وذلك حمزة والعباس، وقضى فيمن سمي من أعمامه باسم شركيٍّ أن يشتهر بكنيته وذلك أبو لهب وكان اسمه عبد العزى، وأبو طالب وكان اسمه عبد مناف. وذلك ــ والله أعلم ــ ليقترن اسم النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من صباه بالخضوع لله وحده، فيقال: محمد بن عبد الله, ولئلا يقترن بكلمة شرك، فيقال: محمد بن فلان (ويذكر اسم فيه شرك) أو: قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لعمِّه فلان، ويذكر اسم فيه شرك. فأمَّا جدُّه عبد المطلب فقد علمت أنه لا شرك فيه، وأما جَدُّ جَدِّه فإنه بعيد لا يكاد يقترن اسم النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بذكره، والله أعلم. ثم رأيت في قصة مبارزة عليٍّ عليه السلام لعمرو بن عبد وُدٍّ يوم الخندق أن عَمْرًا قال له: مَنْ أنت؟ قال: أنا علي، قال: ابن عبد مناف؟ قال: أنا علي بن أبي طالب (2). ومما ينبغي ذكره هنا ما جاء في أنَّ آدم وحواء عليهما السلام سمَّيا ولدهما عبد الحارث، قال الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) _________ (1) من هنا يبدأ ملحق ص 583، وهو أربع صفحات. (2) أخرجه الحاكم في كتاب المغازي، ذكر مبارزة علي رضي الله عنه عمرو بن عبد ودٍّ، 3/ 32 - 33. وعنه البيهقي في كتاب السير، باب المبارزة، 9/ 132 من طريق ابن إسحاق.
(3/846)
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف: 189 - 192]. أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عبَّاسٍ وسمرة بن جندبٍ ومجاهدٍ وسعيد بن جُبيرٍ وعكرمة وقتادة والسُّدِّي ما حاصله: أنَّ المراد بالنفس الواحدة /وزوجها آدم وحوَّاء، وأن إبليس تمثَّل لحوَّاء لما حملت فخوَّفها أن يقتلها ما في بطنها أو أن يكون بهيمة أو أن يولد ميِّتًا وأنها إن سمَّته عبد الحارث وُلِدَ صالحًا وعاش (1). وفي الرواية عن السُّدِّي أنه كان يقول لها: سمِّيه عبدي وإلَّا قتلته, فأَبَيَا فمات, ثم حملت الثانية، فكذلك، ثم حملت الثالثة، فقال: إن أبيتما فسمِّياه عبد الحارث, فأطاعاه. وفي أكثر الروايات: فأشركا في الاسم ولم يشركا في العبادة. وقد أنكر جمهور المحقِّقين هذه القصة؛ لأن سياق الآيات يخالفها، ولأنَّ فيها نسبة الشرك إلى صَفِيِّ الله آدم عليه السلام. وأمَّا قول من قال: إنه شرك في الاسم لا في العبادة, ففيه نظر؛ لأن سياق الآيات ظاهر في أنَّه الشرك الأكبر، والمقصود هنا النظر في تلك القصة ليفهم معنى قولهم: أَشْرَكَا في الاسم ولم يُشْرِكَا في العبادة. فأقول: اعلم أنَّ التسمية بعبد الله وعبد الرحمن وعبد المسيح وعبد العزى وأشباهها قُصد بها تعظيم يطلب به نفع غيبي فهي عبادة حتمًا. _________ (1) انظر: تفسير ابن جرير 10/ 623 - 628، الدر المنثور 3/ 623 وما بعدها.
(3/847)
وأما قولنا لمملوك زيد: هذا عبد زيد فليس كذلك، وكذلك لو توهِّم في رجل أنه مملوك لزيد فقيل: هذا عبد زيد ثم لصقت به هذه الكلمة لقبًا كما وقع لعبد المطلب كما مرّ. ولو قيل لرجل: سمِّ ولدك عبد المسيح وإلا لم يعش، فسماه عبد المسيح ليعيش لكان من الأوَّل؛ لأن في هذه التسمية تعظيمًا طُلِب به نفع غيبي وهو أن يعيش الولد، اللهم إلا أن يكون أعجميًّا فيقال له: إنَّ المسيح اسم من أسماء الله عزَّ وجلَّ، فإن هذا يعذر. وكذا إذا تسلَّط عليه إنسان ظالم قال له: سمِّ ولدك عبد المسيح وإلا قتلته، فسماه عبد المسيح كارهًا لذلك عازمًا على أنه إذا تخلَّص من سطوة هذا الظالم غَيَّرَ ذلك الاسم، فإنَّ هذا يُعْذَر؛ لأنه مُكْرَهٌ. وكذا فيما يظهر/لو تمثَّل له شيطان فقال له: سمِّ ولدك عبد المسيح وإلا قتلته وأنت ترى, فامتنع, فأخذ الولد فخنقه وأبوه يرى, فقال: دعه وأنا أسميه بذلك، فإنَّ الشيطان المشاهَد لا فرق بينه وبين الإنسان. ويبقى النظر فيما إذا تمثل له شيطان، فقال له: سمِّ ولدك الذي في بطن أمه عبد المسيح وإلَّا قتلته في بطن أمه، أو قال له: سمِّ ولدك هذا الذي قد وُلِدَ عبد المسيح وإلا دخلت في جسده فصرعته. والفرق بين هذا وبين الذي قبله أن تسلُّط الشيطان على الحمل أو على الإنسان بأن يدخل في بدنه ويصرعه أمر غير محسوس، فهذه الصورة تشبه من جهةٍ الشيطانَ المتمثِّلَ الذي يباشر الإيذاء بالمشاهَدة، وتشبه من جهةٍ ما لو أَخَذَ إنسان يعظِّم الشياطين ولم يشاهدهم لئلا يؤذوه أو يؤذوا أولاده. وقد يقرِّبها من الأول أن يقع في المحسوس ما يظهر منه قدرة الشيطان المتمثل على ما يهدِّد به كأن يهدِّد بقتل الحمل أول مرة فيموت الحمل وثانية فيموت أو بصرع المولود فيصرع ويموت، ثم بصرع الثاني فيصرع ويموت.
(3/848)
وبعدُ، فالظاهر من الحكايات عن آدم وحواء أنهما لم يعرفا أن الحارث اسم إبليس كما تصرِّح به حكاية السُّدِّي، ويظهر أنهما توهَّما أنَّ الحارث من أسماء الله عزَّ وجلَّ، ولا مانع من ذلك، فقد قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63 - 64]. وقد يُتَوهَّم في التسمية به سببٌ لعيش الولد، فإنَّ الولد كالزرع، ففي تسميته بعبد الحارث على فرض أنَّ الحارث من أسماء الله عزَّ وجلَّ اعتراف بأنه هو الذي خلقه ويحييه. وقد يُعَكِّرُ على هذا قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]. والجواب: أن أسماء الله تعالى لم تدخل في ذلك كما يدلُّ عليه السياق، حيث قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ / أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ... قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ... } [البقرة: 31 - 33]. فقوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} وقوله: {بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} صريح في أن المراد أسماء أشخاص حاضرين مشاهَدين أشار إليهم ربهم، وليس هو فيهم. ومما يدل على ذلك ما ثبت عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من قوله في دعائه: «أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك» (1). _________ (1) أخرجه أحمد في مسنده 1/ 391، وأبو يعلى في مسنده 9/ 198، ح 5297، والطبراني في المعجم الكبير 10/ 169 ح 10351، وابن حبان في صحيحه (الإحسان)، كتاب الرقائق، باب الأدعية، ذكر الأمر لمن أصابه حزن أن يسأل الله ذهابه عنه ... ، 3/ 253 ح 972 والحاكم في المستدرك، كتاب الدعاء، دعاء يُذهب الهمَّ والحزن، 1/ 509، من طريق أبي سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه، عن ابن مسعود، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبيه؛ فإنه مختلف في سماعه عن أبيه، وتعقبه الذهبي بقوله: «وأبو سلمة لا يُدرى مَن هو، ولا رواية له في الكتب الستة».
(3/849)
والحاصل: أن معنى قولهم: أشركا في الاسم ولم يشركا في العبادة، أن الحارث لما كان اسمًا للشيطان كان معنى الاسم: عبد الشيطان، ولكنهما لما لم يَعْلَمَا بذلك لم يكونا معظِّمَين للشيطان، وإذا قلنا بأن تهديد الشيطان المتمثِّل مع تكرُّر ما يدلُّ على قدرته على ما هَدَّدَ به يكون إكراهًا فيقال: إنما أشركا في الاسم وهو شرك لفظيٌّ، ولم يشركا في العبادة؛ لأنهما كانا مُكْرَهَين. والأول هو المتعيِّن، والله أعلم. هذا ما يتعلق بالآثار، فأمَّا كون هذا المعنى هو معنى الآية فلا ألتزمه، وقد تقدَّم الكلام على الآيات (1). والله أعلم (2). شُبَهُ عَبَدَةِ الملائكة عبدةُ الملائكة فريقان: الفريق الأول: مَن يزعم أنَّ الملائكة يتصرَّفون بهواهم واختيارهم، ومن هؤلاء وثنيُّو الهند واليونان والمصريُّون القدماء، وشبهتهم القياس على البشر. وربما يحتجون علينا بقول بعض المسلمين: [584] إنَّ أرواح الأنبياء والأولياء تتصرَّف في الكون باختيارها. _________ (1) ص (س 62 ب فما بعدها). (2) هنا انتهى ملحق ص 583.
(3/850)
وقد كنت بسطتُ الكلام على شبهتهم وردِّها ثم عدلت عن ذلك؛ لأني وجدتُ الله تعالى قد سحق شبهتهم ومحقها بحيث لم يبق لها عين ولا أثر، وذلك بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وغيرها من الآيات، وقد تقدَّم الكلام عليها (1). وأما قول بعض المسلمين فخطأ منهم كما تقدَّم. الفريق الثاني: من لا يثبت للملائكة اختيارًا إلَّا في الشفاعة على تردُّد منهم في ذلك، ومن هؤلاء مشركو العرب، وقد تقدَّم أن قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] يبطل شبهتهم أيضًا، في آيات أُخر، ولكن لا بأس بالإطناب في هذا الباب فأقول: شبهة هذا الفريق هي القياس على ملوك الدنيا كأنهم يقولون: إننا نرى الملِك من ملوك الدنيا لا يخلو أن يكون لديه أشخاص مقرَّبون تعرض الناس عليهم حوائجهم، فيعرضها المقرَّبون على الملك، ويسألونه قضاءها فيقضيها إكرامًا لهؤلاء المقرَّبين. ويعدُّ هذا من تمام عظمة الملك؛ لأنَّ من الحوائج ما لا يحسُن عرضها على الملِك بدون واسطة، ومن أصحاب الحوائج مَن لا يليق لمخاطبة الملك؛ إمَّا لدناءته وإما لإساءة تقدَّمتْ منه، [585] ومنهم مَن لا يستحق أن تقضى حاجته ولكن إذا شفع فيها أحد المقربين قضاها الملك؛ لأن ذلك المقرَّب يستحق الإكرام. الجواب: قد أبطل الله عزَّ وجلَّ هذه الشبهة بإخباره أنَّ الملائكة لا يشفعون إلا بعد أن يأذن لهم، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، فهم بغاية التعظيم _________ (1) ص 349.
(3/851)
لربهم عزَّ وجلَّ والمحبة له والاجتهاد في مرضاته، إن أحبوا أن يشفعوا لأحد فإنما ذلك لعلمهم بأنَّ ربهم تبارك وتعالى يحبُّ الشفاعة له ويرضاها. وقد أخبر الله تعالى عن بعض شفاعتهم بقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الشورى: 4 - 6]. وبَيَّن استغفارهم لمن هو؟ بقوله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ [586] الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر: 7 - 9]. فأنت تراهم إنما شفعوا لمن تاب واتَّبع سبيل الله تعالى، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]. وإذا كان الأمر كذلك فطريق التوصُّل إلى شفاعة الملائكة إنما هي بطاعة الله تعالى واتِّباع سبيله والتوبة من الذنوب، ونحو ذلك. فأمَّا تعظيمهم فإنه لا يحملهم على الشفاعة، بل إذا علموا أن تعظيمهم معصية لله تعالى وكفر به كان أبغض الأشياء إليهم، فهم إلى أن يسألوا الله تعالى تعذيب فاعله أقرب من أن يشفعوا له. وكذا يُقال في سؤال الشفاعة منهم.
(3/852)
وأمَّا قياسكم على ملوك الدنيا فغلط واضح؛ فإنَّ ملوك الدنيا مفتقرون إلى أن يكون لديهم من يبلغ حوائج الناس إليهم. أوَّلًا: لجهل الملك، فلا يتيسَّر له العلم بحوائج الرعية كلهم. ثانيًا: لعجزه فلا يستطيع الاستماع من كل أحد. ثالثًا ورابعًا وخامسًا: لفقره وبخله ورئائه, فهو لا يقدر أو لا يريد قضاء الحوائج كلها, ولا يحب أن يعلم الناس أنه فقير أو بخيل فهو يرائي الناس بأن يوكِّل وسائط لسماع [587] الحوائج حتى يقضيَ منها ما أراد، ويترك ما أراد، فيظن العامة أنَّه ليس به فقر ولا بخل ولكنَّ الوسائط لم يبلِّغوه. سادسًا: لخيلائه لا يحب أن يصل إليه الضعفاء والمساكين. سابعًا: لخوفه أن يكون في غمار الناس من يريد قتله. ثامنًا: لحقده فلا يحب أن يتصل به من قد أساء إليه. تاسعًا: لاحتياجه إلى أولئك المقرَّبين ليسعوا في معونته وتأييد ملكه، فهو يوهمهم أنه لم يكن يريد أن يقضيَ تلك الحوائج لولا شفاعتهم. عاشرًا: لخشيته من رؤوس الناس أن يسعوا في زوال ملكه، فهو يداريهم بأن يمنحهم الرياسة والإمارة والوساطة بينه وبين الرعية. وهناك أسباب أخرى من هذا القبيل، منها: خوف الملك من نفسه أن يغضب في غير موضع الغضب، أو يبخل في غير موضع البخل، أو يكافئ على الإحسان بأقلَّ مما ينبغي، أو يعاقب على الذنب بأشدَّ مما ينبغي، وأشباه ذلك، وكلها نقائص لا يخفى أنَّ الله عزَّ وجلَّ متعالٍ عنها وعن أشباهها.
(3/853)
والمقرَّبون إلى ملوك الدنيا يرون أنَّ لهم حقًّا أن يشفعوا إلى الملوك وأن تُقبل شفاعتهم؛ لأمور، منها: علمهم بما تقدَّم من النقائص في الملوك، ومنها: أنهم يرون لأنفسهم حقًّا على الملوك لتأييدهم لملكهم وسترهم عيوبهم وإظهارهم محاسنهم وقدرتهم على أن يضرُّوا الملوك إذا أرادوا وغير ذلك. [588] ولا يأتي هذا في الملائكة؛ لأنهم يعلمون أنَّ ربهم عزَّ وجلَّ مبرَّأ من كل نقص، غني عنهم وعن غيرهم، قادر على كل شيء، لا يستطيع أحد أن يضره. هذا مع كمال الملائكة في أنفسهم، وخضوعهم الكامل لربهم سبحانه، وحرصهم على مرضاته. ورعيَّةُ ملوك الدنيا بِغاية الحاجة إلى أن يكون لهم شفعاء إلى ملوكهم؛ لعلمهم بنقائص الملوك التي تقدَّمت. ومن عرف الله تعالى علم أنه عالم الغيب والشهادة فلا يخفى عليه شيء من مصالح عباده، وإذا أراد أمرًا فقد علم أنه كائن، وما علم أنه كائن فهو كائن لا محالة، ولو شفع إليه الخلق كلهم أن يرجع عما أراده لما أمكن ذلك، وأنه سبحانه أحكم الحاكمين أرحم الراحمين، فالحاجة التي يريدها العبد إن كانت مما قد سبق العلم [بها] (1) واقتضتها الحكمة والرحمة فهي كائنة ولا بدَّ، ويكفي في طلبها طاعة الله عزَّ وجلَّ ودعاؤه والخضوع له، كما يقتضيه مقام العبوديَّة، وإلَّا فلو شفع إليه خلقه كلهم فيها لما حصلت، فأي فائدة للشفاعة مع هذا؟ وما أحمق مَنْ يتوهَّمُ أن يكون أحدٌ أرحمَ به من ربه تعالى! _________ (1) سقطت هذه الكلمة من الأصل.
(3/854)
وقولكم: «من الحوائج ما لا يحسُن عرضُها على الملِك بدون واسطة» لا معنى له بالنسبة إلى الله تعالى؛ لأنه هو العليم الخبير الرؤوف الرحيم، فليس من حاجةٍ لا يحسُن عرضها عليه, بل إنَّ [589] من الحوائج ما يحرم على الإنسان أن يذكرها لمخلوق ويجب عليه أن يدعو الله عزَّ وجلَّ لها، وذلك كالفواحش إذا وقعت منه لم يكن له إظهارها لأحد من الناس، ويجب أن يدعو ربه ويقول مثلًا: يا رب إني ظلمت نفسي بإصابة الفاحشة فاغفر لي. وكذلك من الأشياء ما يُتَحَاشَى من ذكرها للناس كالأمراض السِّرِّيَّة ولا حرج في أن يذكرها في دعاء الله عزَّ وجلَّ. فإن كان قصدكم أنَّ من حوائج الناس ما يكون في معصية الله عزَّ وجلَّ فالملائكة أبعد من أن يشفعوا في معصيته، ولو شفعوا لحصول معصيته لكانوا عصاة، فإن وقع منهم ما يوهم الرضا بمعصيته فذلك غضب على ذلك العاصي ورغبة في بقائه على المعصية ليَتِمَّ له استحقاق العذاب، كما رُوي في دَسِّ جبريل عليه السلام الحمأة في في فرعون (1) إن صح، وقد تقدَّم الكلام عليه (2). ومما يشبه ذلك دعاء موسى وهارون على فرعون وقومه, قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا _________ (1) أخرجه الترمذيّ في كتاب التفسير، بابٌ ومن سورة يونس، 5/ 287 - 288، ح 3108، وقال: «حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجه». والنسائيّ في الكبرى، كتاب التفسير، سورة يونس، قوله تعالى: «حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت»، 10/ 125، ح 11174. وصحّحه الشيخ الألبانيّ في صحيح سنن الترمذيّ. (2) انظرص 381.
(3/855)
لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88]. وقولكم: إنَّ من أصحاب الحوائج مَن لا يليق لمخاطبة الملك لدناءة أو إساءة، لا يصحُّ في حق الله عزَّ وجلَّ، فإنه سبحانه البرُّ الرَّحيم [590] لا يأنف من سماع دعاء أحد من خلقه، كيف وهو ربهم وبارئهم؟ ومَن أساء منهم لا يخلو أن يكون جاء تائبًا أو غير تائب، فإن كان تائبًا فالتوبة تمحو الإساءة السابقة وتوجب محبَّة الله تعالى للتائب، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، فقال: {يُحِبُّ} ولم يقتصر على المغفرة، وقدَّم {التَّوَّابِينَ} على {الْمُتَطَهِّرِينَ}، والتوَّابين صيغة مبالغة أي الذين تكثر توبتهم، وذلك يُشْعِر بكثرة خطاياهم. وفي صحيح مسلمٍ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم» (1). وفي صحيح مسلمٍ أيضًا عن أنسٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَلَّه أشدُّ فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظِلِّها قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمةً عنده، فأخذ بخِطامها ثم قال من شدَّة الفرح: اللهمَّ أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدَّة الفرح». _________ (1) صحيح مسلمٍ، كتاب التوبة، باب سقوط الذنوب بالاستغفار، 8/ 94، ح 2749. [المؤلف]
(3/856)
وفي صحيح مسلمٍ أيضًا نحوه عن ابن مسعودٍ، وعن أبي هريرة، وعن النعمان بن بشيرٍ، وعن البراء بن عازبٍ، كلُّهم عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (1). وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: سمعت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: [591] «إن عبدًا أصاب ذنبًا، وربما قال: أذنب ذنبًا، فقال: رب أذنبت، وربما قال: أصبت، فاغفره، فقال ربُّه: أعَلِمَ عبدي أنَّ له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي. ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبًا أو أذنب ذنبًا فقال: ربِّ أذنبت أو أصبت ذنبًا (2) فاغفره فقال: أعَلِمَ عبدي أنَّ له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي. ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبًا، وربما قال: أصاب ذنبًا قال: قال: ربِّ، أصبتُ أو أذنبت آخر فاغفره لي فقال: أعَلِمَ عبدي أنَّ له ربًّا يغفر الذنوب ويأخذ به، غفرت لعبدي ثلاثًا فليفعل ما شاء» (3). وروى الإمام أحمد والدارميُّ عن أبي ذرٍّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يرويه عن ربِّه قال: «ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك، ابن آدم! إن تلقني بقراب الأرض خطايا لقيتك بقرابها مغفرة بعد أن لا تشرك بي شيئًا، ابن آدم! إنك إن تذنب حتى يبلغ ذنبك عنان السماء ثم تستغفرني أغفر لك ولا أبالي» (4). _________ (1) صحيح مسلمٍ، كتاب التوبة، بابٌ في الحضِّ على التوبة والفرح بها، 8/ 91 - 93، ح 2675 و 2744 - 2747. [المؤلف] (2) في صحيح البخاريِّ: «آخر» بدل «ذنبا»، بالاكتفاء بالصفة وحذف الموصوف. (3) البخاريّ، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ}، 9/ 145، ح 7507. ومسلم، كتاب التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب، 8/ 99، ح 2758. [المؤلف] (4) مسند أحمد 5/ 167 و 172، سنن الدارميِّ، كتاب الرقاق، بابٌ إذا تقرَّب العبد إلى الله تعالى، 2/ 322، ح 2830. [المؤلف]
(3/857)
وإن كان غير تائبٍ (1) فالملائكة والأنبياء والصالحون كلهم لا يحبونه، ولا يحبُّون أن تُقْضَى حاجته، والله تعالى أرأف به منهم وأرحم، ولذلك سمّى نفسه أرحم الراحمين، وقال عزَّ وجلَّ: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [592] وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]. وقال تعالى لخاتم أنبيائه - صلى الله عليه وسلم -: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128]. أخرج البخاريُّ وغيره عن ابن عمر أنَّه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الآخِرة من الفجر يقول: «اللهم العن فلانًا وفلانًا وفلانًا»، بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ} إلى قوله {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}. وروى البخاري أيضًا عن أبي هريرة نحوه (2). وروى الترمذي حديث ابن عمر بلفظٍ آخر، وزاد فيه: فتاب الله عليهم فأسلموا فحسُن إسلامهم. وفي رواية: فهداهم الله للإسلام (3). _________ (1) هذا قسيم التائب الذي ذُكِر في الصفحة السابقة. (2) صحيح البخاريِّ، كتاب التفسير، سورة آل عمران، باب: «ليس لك من الأمر شيءٌ»، 6/ 38، ح 4559 - 4560. [المؤلف] (3) جامع الترمذيّ، كتاب التفسير، بابٌ ومن سورة آل عمران، 2/ 167، ح 3004 - 3005. [المؤلف]
(3/858)
وفي تفسير ابن جرير في الكلام على قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 75]: وكان ابن عباس يقول في تأويل ذلك ما حدَّثني به محمد بن سعد قال: ثني أبي قال: ثني عمي قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}، إنه جلا (1) له الأمرَ سرَّه وعلانيته، فلم يَخْفَ عليه شيءٌ من أعمال الخلائق, فلما جعل (2) يلعن أصحاب الذنوب، قال الله تعالى: إنك لا تستطيع هذا، فردّه الله كما كان قبل ذلك» (3). وفيه أيضًا في تفسير قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص: 81] عن ابن عباس: فأوحى الله إليه: مُر الأرض بما شئت، قال: يا أرض خذيهم, فأخذتهم إلى حِقِيِّهم، ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى أعناقهم. [593] قال: فجعلوا يقولون: يا موسى، يا موسى، ويتضرَّعون إليه، قال: يا أرض خذيهم، فانطبقت عليهم، فأوحى الله إليه: يا موسى، تقول لك عبادي: يا موسى، يا موسى، فلا ترحمهم، لو إيَّاي دعوا لوجدوني قريبًا مجيبًا (4). وإذا اتفق أن يرحم بعضُ المقرَّبين عاصيًا فيدعو له فإنما ذلك لعدم علم ذلك المقرَّب بحقيقة الحال، ومن ذلك قول الله عزَّ وجلَّ: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) _________ (1) أي: كَشَفَ. (2) في الأصل: «جعله»، وهو سبق قلمٍ، والتصحيح من الطبعة التي نقل منها المؤلف. (3) تفسير ابن جرير 7/ 148. [المؤلف]. وهذا إسناد مسلسل بالضعفاء كما قال أحمد شاكر. انظر: تفسير الطبري 1/ 263 بتحقيق محمود شاكر. (4) تفسير ابن جرير 20/ 68. [المؤلف]
(3/859)
يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود: 74 - 76]. فالخليل عليه السلام كان يرجو أن يؤمن القوم، أو يخرج من أصلابهم مَن يؤمن، ولذلك لما عرض على خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - عذاب قومه قال: «بل أرجو أن يُخْرِج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا». الحديث في الصحيحين (1). ولو علم إبراهيم أنَّ قوم لوطٍ لا يؤمنون ولا يلدون مؤمنًا لدعا عليهم، وكذلك محمد صلَّى الله وسلَّم عليهم أجمعين، كما فعل نوح عليه السلام، قال الله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36]، فلذلك ــ والله أعلم ــ دعا عليهم كما قال تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26 - 27]. (2) /ومما يشبه قصَّة إبراهيم عليه السلام قصَّة نوح إذ قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي _________ (1) صحيح البخاريِّ، كتاب بدء الخلق، بابٌ: «إذا قال أحدكم: آمين ... »، 4/ 115، ح 3231. ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من الأذى، 5/ 181، ح 1795. [المؤلف] (2) ملحق ص 593. [المؤلف]
(3/860)
أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 45 - 47]. ومن ذلك قوله تعالى لخاتم أنبيائه: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]. وقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6]. وقال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 33 - 35]. وفي القرآن آيات كثيرة من هذا المعنى. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عندما أُنزلت عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] قال: «يا معشر قريش ــ أو كلمة نحوها ــ اشترُوا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنكِ من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد، سليني ما شئتِ من مالي لا أغني عنك من الله شيئًا» (1). _________ (1) البخاريّ، كتاب التفسير، سورة الشعراء، باب قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، 6/ 112، ح 4771. ومسلم، كتاب الإيمان، بابٌ في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، 1/ 133، ح 206. [المؤلف]
(3/861)
وفي صحيح مسلمٍ وغيره عن سعد أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (1) مرَّ بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين، وصلَّينا معه، ودعا ربه طويلًا، ثم انصرف، فقال: «سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني ثنتين ومنعني واحدةً، سألت ربي ألّا يهلك أمتي بالسَّنة (2) فأعطانيها، وسألته ألّا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته ألَّا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» (3). وفي صحيح مسلم وغيره نحوه عن ثوبان عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وفيه: «وإن ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يُرَدُّ» (4). وقد جاء نحو هذا الخبر عن أبي نضرة (5) الغفاري عند أحمد وغيره، وهناك روايات أُخَر في هذا المعنى. وفي صحيح البخاريِّ وغيره /عن أبي هريرة عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قَتَرة وغَبَرة (6)، فيقول له إبراهيم: ألم أَقُلْ لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا _________ (1) في صحيح مسلمٍ زيادة: أقبل ذات يومٍ من العالية، حتى إذا .... (2) أي: بالجَدْب. النهاية لابن الأثير 2/ 413. (3) صحيح مسلمٍ، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعضٍ، 8/ 171 - 172، ح 2890. [المؤلف] (4) صحيح مسلمٍ، الموضع السابق، 8/ 171، ح 2889. [المؤلف] (5) كذا في الأصل، والصواب بالباء المعجمة والصاد المهملة. (6) القَتَرة: السَّواد الكائن عن الكآبة، والغَبَرة: الغُبار من التراب. انظر: فتح الباري 8/ 499 - 500.
(3/862)
أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأيُّ خزي أخزى من أبي الأبْعد؟ فيقول الله تعالى: إنِّي حرَّمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم، ما تحت رجليك؟ (1) فإذا هو بذيخٍ متلطِّخٍ (2)، فيؤخذ بقوائمه فيُلقى في النار» (3). وفي الصحيحين وغيرهما عن سهل بن سعدٍ وأبي سعيدٍ الخدريِّ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: « ... لَيَرِدَنَّ عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم منِّي، فيُقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سُحقًا سحقًا (4) لمن غَيَّر بعدي». وصحَّ نحوه من حديث ابن مسعودٍ، وعائشة، وأختها أسماء، وأبي هريرة، وأنسٍ، وغيرهم (5). ويُعْلَم مما تقدَّم وغيره أنَّ قوله تعالى في المؤمنين: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ _________ (1) في البخاري زيادة: فينظر. (2) في الطبعة الأميرية: ملتطخٍ، وما هنا موافق للطبعة الهنديَّة. والذِّيخ: ذكر الضبُع الكثير الشعر. انظر: النهاية 2/ 174، القاموس المحيط ص 321. (3) البخاريّ، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، 4/ 138، ح 3350. [المؤلف] (4) أي: بُعْدًا بُعْدًا. النهاية لابن الأثير 2/ 347. (5) انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب الرقاق، بابٌ في الحوض، 8/ 119 - 122، ح 6576 و 6582 - 6587 و 6593 [من حديث ابن مسعودٍ وأنسٍ وسهل بن سعدٍ وأبي سعيدٍ الخدريِّ وأبي هريرة وأسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله عنهم]. وصحيح مسلمٍ، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - وصفاته، 7/ 65 - 71، 2290 - 2291 و 2293 - 2295 و 2297 و 2304 [من حديث سهل بن سعدٍ وأبي سعيدٍ الخدريِّ وأسماء وعائشة وأمِّ سلمة وابن مسعودٍ وأنسٍ رضي الله عنهم]. [المؤلف].
(3/863)
عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الزمر: 34] المراد به ما يشاءون من نعيم الجنة، أو أنهم إذا شاءوا ما لم يقضه الله عزَّ وجلَّ بيَّن لهم الحكمة في عدم قضائه، فيرجعون عن مشيئتهم الأولى ويشاءون ما يوافق الحكمة، أو أنهم يرجعون عن مشيئتهم الأولى إذا علموا أنَّ الله تعالى لم يقض ذلك، وإن لم يعلموا الحكمة؛ لعلمهم أنَّ الحكمة فيما قضاه ربهم عزَّ وجلَّ، أو يرجعون عن مشيئتهم الأولى لمحبَّتهم لربهم عزَّ وجلَّ. وسياق هذه الآية يدلُّ على ما ذكرنا قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 30 - 34]. /وقال تعالى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [الشورى: 22]. وهكذا قوله تعالى لرسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] قد اغترَّ بها كثير من الجهلة، وقد كان يكفي لدفع الشبهة عنهم أن يعلموا أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لن يرضى ما لا يرضاه الله عزَّ وجلَّ. وقد سبق ذكر قوله يوم القيامة في الجماعة الذين
(3/864)
يحال بينه وبينهم: «سُحقًا سُحقًا لمن غَيَّرَ بعدي» (1). والأحاديث كثيرة عنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه لعن شارب الخمر وساقيها (2) و ... , ولعن آكل الربا ومؤكله وشاهده (3)، وغير ذلك من المعاصي (4). وقد قال تعالى في الملائكة: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا _________ (1) تقدَّم الحديث قريبًا. (2) أخرجه أبو داود في كتاب الأشربة، باب العنب يُعصَر للخمر، 3/ 326، ح 3674. وابن ماجه في كتاب الأشربة، بابٌ لُعِنت الخمر على عشرة أوجهٍ، 2/ 1121 - 1122، ح 3380، من حديث ابن عمر. وأخرجه الترمذيُّ في كتاب البيوع، باب النهي أن يُتَّخذ الخمر خلًّا، 3/ 580 - 581، ح 1295. وابن ماجه في الموضع السابق، 2/ 1122، ح 3381، من حديث أنسٍ. قال الترمذيُّ: «هذا حديثٌ غريبٌ من حديث أنسٍ، وقد رُوِي نحو هذا عن ابن عبَّاسٍ وابن مسعودٍ وابن عمر عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -». (3) أخرجه مسلمٌ في كتاب المساقاة، باب لعن آكل الربا وموكله، 5/ 50، ح 1598، من حديث جابرٍ. وأخرجه البخاريُّ في كتاب البيوع، باب موكل الربا، 3/ 59، ح 2086. وفي باب ثمن الكلب، 3/ 84، ح 2238، من حديث أبي جحيفة، ولم يذكر شاهده. وكذلك أخرجه مسلمٌ في الموضع السابق، 5/ 50، ح 1597، من حديث ابن مسعودٍ، ولم يذكر شاهده. (4) يقصد أصحاب المعاصي. ومنهم: السارق. انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب الحدود، باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، 8/ 161، ح 6799. وصحيح مسلمٍ، كتاب الحدود، باب حدِّ السرقة ونصابها، 5/ 113، ح 1687. ومنهم أيضًا: الواشمة والمستوشمة والمصوِّرون. انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب الطلاق، باب مهر البغيِّ والنكاح الفاسد، 7/ 61، ح 5347.
(3/865)
يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26 - 28]. وفي الصحيحين وغيرهما عنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه كان يقول لأصحابه: «أما والله لأنا أخشاكم لله وأتقاكم له» (1). ومن السبب في عدم شفاعة الملائكة إلَّا لمن ارتضى عزَّ وجلَّ: حبُّهم لربهم عزَّ وجلَّ وإجلالهم له وعلمهم أنه لا ينبغي ارتضاء ما لم يرتضه الله تعالى، وليسوا في ذلك بأولى من خاتم الأنبياء صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. وقد خبط الناس في تفسير الشفاعة يوم القيامة، ففَرَّط المعتزلة فأنكروا ما عدا الشفاعة لفصل القضاء التي إنما يراد منها فتح باب الحساب لشدَّة ما يعتري الناس من طول الموقف، والشفاعة لرفع الدرجات. /وأفرط كثير من المتأخرين إلى حدٍّ لا دليل عليه، بل ربما وصل بعضهم إلى حدٍّ تكذِّبه النصوص القطعية. فإن أردت معرفة الحقيقة فعليك أن تجمع الأحاديث الصحيحة وتتدبَّرها وتنظر حاصلها، وأنبهك هنا أنه وقع في حديث أنس في الشفاعة اختصار ستعرفه إذا تدبَّرت الأحاديث إن شاء الله تعالى. اهـ (2). وقولُكم: ومنهم مَن لا يستحقُّ أن تُقضى حاجته ولكن إذا شفع فيها أحد [594] المقرَّبين قضاها الملِك؛ لأنَّ ذلك المقرَّب يستحقُّ الإكرام. فجوابه: أن الملائكة بغاية التعظيم لربهم عزَّ وجلَّ لعلمهم بأنه وسع كل _________ (1) البخاريّ، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، 7/ 1، ح 5063. ومسلم، كتاب الصيام، باب صحَّة صوم مَن طلع عليه الفجر وهو جنبٌ، 3/ 137، ح 1110. [المؤلف] (2) انتهى هنا ملحق ص 593.
(3/866)
شيء رحمة وعلمًا، كما حكى الله تعالى عنهم في كتابه أنهم يقولون: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]، وذلك يقتضي ألَّا يشفعوا لأحد إلَّا بأمره أو بإذنه، وقد صرَّح بذلك في القرآن كما تقدم مرارًا، فإن شفعوا لهذا الذي فرض أنه غير مستحق لحاجته، فإن أمرهم الله بالشفاعة فلم يأمرهم بها حتى جعل برحمته المشفوع له مستحقًّا, ولا بدَّ أن يطيعوا الله فيشفعوا. وعلى فرض أنهم لا يشفعون فقد كفى في حصول الحاجة أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد أراد قضاءها فلا بدَّ أن يقضيها شفعوا أم لم يشفعوا. وإن أذن لهم فيها على أنهم مخيَّرون إن شاء شفعوا وإن شاء لم يشفعوا، فالملائكة عباد مطهَّرون لا يمتنعون من شفاعة قد أذن لهم ربهم فيها. وإن فرضنا إمكان ألَّا يشفعوا فالظاهر من حكمة الله عزَّ وجلَّ ورحمته أنه لم يأذن لهم في الشفاعة في تلك الحاجة إلَّا وقد أراد قضاءها، فلا يمنعه مما أراده عدم شفاعتهم، وعلى فرض أنه لا يقضيها إذا لم يشفعوا فما الطريق إلى حملهم على الشفاعة؟ لا سلطان عندكم على أنه يحملهم على الشفاعة تعظيمهم أو السؤال منهم، بل إنه يُعْلَم من تعظيمهم ربهم عزَّ وجلَّ أنهم يبغضون أن يعظَّموا أو يُدْعَوا مِنْ دونه، وأنهم لا [595] يحبون إلَّا من يُعَظِّم ربهم ويبجّله. فعُلِمَ بذلك أنَّ الطريق إلى تحصيل شفاعة الملائكة هي الاجتهاد في طاعة الله عزَّ وجلَّ وإخلاص العبادة له سبحانه. فتدبَّروا ما تقدَّم كما ينبغي, ثم تدبَّروا ما يأتي.
(3/867)
الحمد لله ألم تعلموا قطعًا أنَّ الله تعالى مستحق للعبادة؟ قالوا: بلى. قلنا: فكيف أقدمتم على أن تسوُّوا به فيها ملائكته وتشركوهم به وتجعلوا لهم نصيبًا منها بمجرد الخرص والتخمين، وهو احتمال أنهم يشفعون، وليس عندكم علم بأنهم يشفعون؟ ألا يجوز ألَّا يكونوا يشفعون إليه علمًا منهم بأنه تعالى عالم الغيب والشهادة, أحكم الحاكمين، أرحم الراحمين، مع ما تقدَّم تفصيله من عدم الحاجة؟ فإن قالوا: فقد جاء في القرآن أنهم يشفعون. قلنا: أنتم كذَّبتم بالقرآن. فإن قالوا: فما بال القرآن ينكر عبادتهم مع إثباته أنهم يشفعون؟ قلنا: إنما أثبت لهم القرآن الشفاعة إذا أمرهم الله تعالى بها كما قال: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27]، فأثبت أنهم لا يقولون ولا يعملون إلا إذا أمرهم الله تعالى، فشفاعتهم إنما هي امتثال منهم لأمر ربهم عزَّ وجلَّ، فأنَّى يستحقون أن يُعْبدوا على هذه الشفاعة التي لا تقع منهم إلا طاعة لربهم فقط؟ أوَ ليس المستحق للشكر على هذه الشفاعة هو الآمر بها سبحانه؟ فإن قالوا: فقد عبَّر القرآن في مواضع أُخَر بالإذن، فقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ [596] عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] إلى غير ذلك، وهذا يُشعر بأنهم
(3/868)
يريدون الشفاعة ولكن لا يشفعون حتى يؤذن لهم، ويُشعر بأنهم بعد الإذن مخيَّرون أن يشفعوا أو لا يشفعوا، ونحن نرى أنهم إذا أرادوا الشفاعة كان ذلك مظنة أنْ يؤذَن لهم، فعلى هذا فيستحقُّون العبادة لأجل إرادتهم ولأجل اختيارهم لأن يشفعوا بدون إلزام من الله تعالى لهم بالشفاعة. قلنا: فكونهم لا يشفعون إلَّا بعد إذنه سبحانه ورضاه يدلُّكم أنه ليس لكم أن تعظموهم إلا إذا أذن الله ورضي، فإذا تحاشى الملائكة مع قربهم من ربهم أن يشفعوا عنده بدون إذنه ورضاه، أفلا ينبغي للبشر مع بعدهم أن يتحاشوا عن أن يسوُّوا بربهم بعض عباده في العبادة ويجعلوا له شركاء فيها، والخطر في هذا أشدُّ وأعظم؟ ثم نقول: أرأيتم إرادتهم واختيارهم ما علَّة وجودهما؟ أَخَلْقُ الله إياهما في نفوسهم, أم علمهم بأن فيهما مرضاته, أم رحمتهم للمشفوع له, أم المكافأة للمشفوع له على تعظيمه لهم فيما مضى ومحبة أنْ يعظِّمَهم فيما بعدُ؟ فعلى الأول لا يستحقون التعظيم بذلك بل المستحق للتعظيم على تلك الإرادة وذلك الاختيار هو الخالق لهما. وكذا على الثاني؛ فإنَّ المستحق للتعظيم على تلك الإرادة وذلك الاختيار هو الذي جعل رضاه فيهما حتى حمل الملائكة عليهما. وأمَّا على الثالث فما علَّة وجود تلك الرحمة؟ أَخَلقها الله في نفوسهم أم غير ذلك؟ [597] فإن كان الأول فالخالق لها هو المستحقُّ للتعظيم لأجلها، وإن كان غيره فما هو ... ؟ إن ذكرتم الأمر الرابع فسيأتي الكلام عليه، وإن ذكرتم أمرًا آخر أعاد (1) السؤال في علته حتى ينتهي الأمر إلى _________ (1) كذا في الأصل.
(3/869)
خلق الله عزَّ وجلَّ أو تتحيَّروا، فإن انتهى إلى خلق الله فهو وحده المستحقُّ للعبادة على ما خلق، وإن انتهى إلى الحيرة فليس لكم أن تسوُّوهم بالله عزَّ وجلَّ فيما هو حقٌّ قطعيٌّ له من العبادة وتشركوهم به فيها بغير سلطان بيِّن، وليس مع الحيرة سلطان. فإن قلتم: بل العلَّة في إرادتهم الشفاعة واختيارهم لها هي المعنى الرابع أي مكافأتهم المشفوع له على تعظيمه إيَّاهم فيما سبق أو رغبتهم أن يعظِّمهم فيما بعد. قلنا: وما برهانكم على أنَّ هذا هو العلة، لِم لا يجوز أن تكون العلة غيره مما مرّ؟ فإن لم يكن عندكم برهان فقد علمتم أنَّ الإشراك بالله تعالى بناءً على مجرد الخرص والتخمين أقبح القبح. فإن قالوا: قياسًا على الله تعالى, فإنه يحب أن يعظَّم. قلنا: إنما يحب الله أن يعظَّم لأن تعظيمه حق، وهو يحب الحق. ولم يثبت بعدُ أنَّ تعظيم الملائكة حق، بل هو محل النزاع. فإن قالوا: فقياسًا على البشر، فإن البشر يحبون أن يعظَّموا. قلنا: أما خيار البشر فإنهم لا يحبون أن يعظَّموا إلا إذا كان التعظيم حقًّا يحبه الله تعالى ويرضاه، وقد علمتم أنه لم يثبت بعدُ أن تعظيم الملائكة حق. وأما أشرار البشر فإنهم يحبُّون التعظيم بحق [598] وبغير حق، ولكن ليس الملائكة بأشرار، ولو كانوا أشرارًا يحبون التعظيم بغير حقٍّ لما أذن الله تعالى لهم بالشفاعة أصلًا. فإن قالوا: إنَّ التفصيل الذي ذكرتموه يأتي نحوه في إحسان بعض
(3/870)
البشر إلى بعض، ومع ذلك فإنَّ الإسلام نفسه يأمر بشكر المحسن. قلنا: هذا حقٌّ، ولكن تعيين الفعل الذي يكون الشكر به ليس إلى اختيار البشر، بل يتوقَّف على أمر الله عزَّ وجلَّ أو إذنه فليس لأحد أن يشكر أحدًا بقول من الأقوال أو فعل من الأفعال إلا بسلطان ينزل (1) الله تعالى بالأمر أو الإذن بذلك القول أو الفعل. وذلك لأن استحقاق ذلك المحسن للشكر مما يتحيَّر فيه العقل كما مرّ، وعلى فرض أنه يُقطع بالاستحقاق فلا يستطيع تعيين ما ينبغي من الشكر, ولا سيما مع خشية أن يقع في تسوية ذلك المحسن بالمحسن الحقيقي، وهو ربُّ العالمين تبارك وتعالى. فكان الواجب على الإنسان أن يتوقَّف حتى يأتيه سلطان من الله عزَّ وجلَّ ببيان ذلك، عالمًا أنه إذا علم الله عزَّ وجلَّ أنَّ على الإنسان حقًّا لأحد لا يدري كيف يؤديه قيَّض (2) له من يعلِّمه ببرهان بيِّن أو اكتفى منه بعلمه أنه لو عرف كيف يؤدِّيه لأدَّاه. بل إنَّ الإسلام يوجب على العباد أن لا يعبدوا ربهم إلَّا بما أنزل به سلطانًا، ويعلمهم أنه ليس لهم أن يعبدوه بما يرون [599] بدون سلطان منه؛ لأن في ذلك كذبًا عليه بزعم أنه يحب ذلك الفعل ويرضاه مع أنه لم ينزل به سلطانًا، ولا يدركه العقل إدراكًا قاطعًا. فإذا كان هذا في شكر المنعِم الحقيقي مع قطع العقل بأنه منعم حقيقيٌّ وأنه يستحق الشكر، فما بالكم بغيره ممن نشك في كونه منعمًا، ونعلم بأنه _________ (1) كذا في الأصل. ولعلها: ينزله. (2) رسم في الأصل بالظاء، والصواب بالضاد، أي: هيَّأ وأتاح له.
(3/871)
إذا أنعم فليس هو بمنعم حقيقة، ونشكُّ في استحقاقه الشكر، وعلى فرض استحقاقه الشكر نجهل صفة الشكر الذي يستحقُّه؟ وقد علَّمنا الله تعالى أن نؤمن بوجود الملائكة، وأنهم عباد مكرمون مطهَّرون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، وأن نسلِّم عليهم، قال تعالى {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59]، وهم من عباده الذين اصطفى، وعلَّمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول أحدنا في صلاته: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين»، وقال: «فإنه إذا قال ذلك أصاب كلَّ عبد صالح في السماء والأرض» (1). وأعلمنا الله عزَّ وجلَّ أنَّ الملائكة يحبون مَن يطيع ربهم عزَّ وجلَّ ويعبده ويفعل الخير {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر: 7]، وقد مرَّت الآية في أوَّل الجواب، وأنهم يبغضون من يعصي ربهم، {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]، وقد تقدَّم الكلام على هذه الآية (2). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة، قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح» (3). _________ (1) البخاريّ، كتاب الأذان، باب التشهُّد في الآخرة، 1/ 166، ح 831. ومسلم، كتاب الصلاة، باب التشهُّد في الصلاة، 2/ 13، ح 402. [المؤلف] (2) انظر ص 363. (3) البخاريّ، كتاب النكاح، بابٌ إذا باتت المرأة مهاجرةً فراش زوجها، 7/ 30، ح 5193. مسلم، كتاب النكاح، باب تحريم امتناعها من فراش زوجها، 4/ 157، ح 1436. [المؤلف]
(3/872)
فعلمنا أنَّنا إذا أطعنا الله عزَّ وجلَّ أحبتنا الملائكة، وفي ذلك كفاية. فإن قالوا: فإنَّ في الإسلام من تعظيم الأنبياء ومن يظن بهم الصلاح من البشر [600] وتعظيم الكعبة والحجر الأسود ما هو أعظم مما فيه من إكرام الملائكة الذي ذكرتموه. قلنا: قد أعلمناكم أنَّ مدار الحق في الأقوال والأفعال على ما أنزل الله تعالى به سلطانًا، فما أنزل الله تعالى به سلطانًا من الأقوال والأفعال التي أشرتم إليها فهو حقٌّ وطاعة لله عزَّ وجلَّ. وهو عالم الغيب والشهادة أحكم الحاكمين، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، فعلينا أن نعمل ما أمرنا به ونقف عما عداه، عالمين أنَّ له في كل شيء حكمة بالغة وإن لم نفهمها. ومَنْ ذا الذي يزعم أن علمه كعلم الله تعالى وأن حكمته كحكمته؟ ولولا خشية التطويل لبحثنا في تفصيل ما أمر الله تعالى به مما أشرتم إليه، وبيانِ الفرق الواضح بينه وبين ما لم يأمر الله به ولم يأذن فيه، على حسب ما يفتح الله به علينا من العلم. وقد مرّ بعض ذلك، ولعلَّه يأتي زيادة فيه، ومن أوتي حظًّا من العلم وكان حريصًا على إصابة الحق صادق الافتقار إلى ربه تعالى، فإنه سيدرك ذلك بالتدبُّر إن شاء الله تعالى. * * * *
(3/873)
فصل في تحقيق السلطان الفاصل بين عبادة الله تعالى وعبادة غيره قد علمتَ فيما تقدم أنَّ الفرق بين عبادة الله تعالى وعبادة غيره هو السلطان، فكلُّ عبادة كان عند صاحبها سلطان بها من الله تعالى فهي عبادة لله عزَّ وجلَّ، وكلُّ عبادة ليست كذلك فهي عبادة لغير الله تعالى. والسلطان هو الحجة، وقد تكون الحجة يقينية وقد تكون ظنية، [601] فهل تكفي الحجة الظنية هاهنا، أعني إذا تعبد رجل عبادة عنده بها من الله عزَّ وجلَّ سلطان يثبت به الظن لا القطع، فهل تكون تلك العبادة لله عزَّ وجلَّ أو لا يكون عبادة لله عزَّ وجلَّ إلا ما كان به سلطان قطعي؟ اعلم أنَّ القطعيَّ على ضربين: الأوَّل: ما هو نفسه قطعي, كالآية القطعية الدلالة والسنة المتواترة القطعية الدلالة ونحو ذلك. الثاني: ما ليس هو نفسه قطعيًّا، ولكن قد قام الدليل القطعي على أنه حجة يجب العمل بها، وذلك كخبر الواحد؛ فإنه ليس قطعيًّا لجواز خطأ بعض الرواة وغير ذلك، ولكن قد قام الدليل القطعي على وجوب العمل بخبر الواحد بشرطه، فإن مجموع ما احتجّ به العلماء في إيجاب العمل بخبر الواحد يفيد القطع بمجموعه، وإن قيل: إن كل فرد من تلك الأفراد لا يفيد القطع. وعليه فيقال في استحباب صيام ست من شوال: إنه وإن لم يثبت ثبوتًا قطعيًّا لكن وجوب العمل به قطعيٌّ؛ لأنه خبر واحد مستجمع لشروط القبول، وخبر الواحد المستجمع لشرائط القبول يجب العمل به قطعًا.
(3/874)
فإن قيل: قد لا يكون عند الناظر علم يقيني بأن هذا الخبر مستجمع لها. قلت: الدليل يدل على وجوب العمل بخبر الواحد على كلِّ مَن ظهر له أنه مستجمع لشرائط القبول، وإن لم يعلم ذلك علم اليقين. وممن حقَّق هذا المعنى الشاطبي في كتاب «الموافقات» (1)، وقرّر هو وغيره أن سائر الأدلة التي درج السلف الصالح والأئمة المجتهدون [602] على الاحتجاج بها بعضها قطعيٌّ، أي: من الضرب الأول، وباقيها ظنيٌّ ولكنه يرجع إلى أصل قطعيٍّ (2)، أعني: كما قررناه في خبر الواحد. ولذلك قالوا: إن أصول الفقه لا تكون إلا قطعية. وقد أنكر بعضهم هذا، وقال: إن كثيرًا من أصول الفقه ظني (3). والجواب: أن ما كان منها ظنيًّا فهو فرع لأصل آخر قطعي، فإن سلّمنا أن كون الأمر حقيقة في الوجوب ظني، فإننا نقول: إن هذا الظن مستند إلى أن ذلك هو الذي يظهر من اللغة ومن استعمالات الشارع، وقد ثبت بالقطع أنَّ كلَّ ما يظهر من معاني الكتاب والسنة بمقتضى اللغة والعرف الشرعي يجب العمل به. وقس على هذا، فقد يجوز أن يكون الأصل من أصول الفقه ظنِّيًّا ويستند إلى أصل آخر ظني، ولكن هذا الثاني يستند إلى أصل قطعي. ثم نقول: إن الأمور الدينية منها ما يُطلبَ العلمُ به كما هو عليه في نفس الأمر كوجود الله عزَّ وجلَّ، وكونه حيًّا قادرًا عالمًا، وأنه لا إله إلا هو سبحانه، وأن محمدًا رسول الله، وأن القرآن من عند الله، ونحو ذلك، فهذا لا _________ (1) الموافقات 2/ 359. (2) المصدر السابق 3/ 15 - 16. (3) المصدر السابق 1/ 29 وما بعدها.
(3/875)
بدَّ فيه من القطع على الضرب الأول. والقطع بلا إله إلا الله يستدعي القطع بثلاثة أمور: الأول: أنه لا مدبِّر في الكون استقلالًا إلا الله عزَّ وجلَّ، فمن جَوَّز أن يكون في الكون مدبر مستقل قد يعجز الله تعالى عن منعه وقد يستطيع هو منع الله عزَّ وجلَّ عن إنفاذ قضائه، فقد جَوَّز أن يكون مع الله إله آخر. وكذلك إذا جوّز أن يكون الله عزَّ وجلَّ فَوَّضَ أمر العالم أجمع، أو أمر العالم الأرضي، أو أمر قُطْر خاص، أو بلد خاص، أو شخص واحد إلى مخلوق، وأذن له أن يصنع به ما أراد [603] على أن يتخلّى الباري عزَّ وجلَّ عن تدبير ذلك الشخص مثلًا أصلًا. وكذلك إذا جوّز أن يكون مخلوق من الخلق مقبولَ الشفاعة أو الدعاء البتة بحيث لا يخالفه الله عزَّ وجلَّ في شيء قطعًا. وليس من هذا تجويز أن يفوِّض الله تعالى قضية أو قضايا خاصة إلى مخلوق، كما جاء أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لما خرج إلى الطائف قبل الهجرة وآذاه أهلها ورجع حزينًا، وفيه « .... فإذا فيها جبريل، فناداني: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلّم عليّ، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت (1)، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين» (2). _________ (1) في بعض نسخ البخاري: (فما شئت). وعلى هذا فقوله: (ذلك): مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: كما علمت، أو: كما قال جبريل. وقوله: (ما شئت) استفهام, وجزاؤه مقدر, أي: إن شئت فعلت. انظر: فتح الباري 6/ 316. (2) البخاريّ، كتاب بدء الخلق، بابٌ: «إذا قال أحدكم: آمين»، 4/ 115، ح 3231. مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من الأذى، 5/ 181، ح 1795. [المؤلف]
(3/876)
وكما رُوي أنَّ قارون وأصحابه لما بالغوا في أذى موسى عليه السلام شكا إلى الله عزَّ وجلَّ، فأوحى الله تعالى إليه: «إني قد أمرت الأرض أن تطيعك»، وقد تقدَّمت القصَّة (1). فإنه ليس معنى التفويض في هاتين الواقعتين أنَّ الله عزَّ وجلَّ تخلَّى عن الأمر البتة، فقد تقدَّم في قصة قارون وأصحابه أن موسى عليه السلام لما أمر الأرض أن تأخذهم فتضرَّعوا إليه مرارًا فلم يلتفت إليهم عاتبه الله عزَّ وجلَّ وقال له: «يقول لك عبادي: يا موسى يا موسى فلا ترحمهم، لو إيَّاي دعوا لوجدوني قريبًا مجيبًا»، وقد مرّ في الكلام على الشبه أمثلة من عدم استجابة الله عزَّ وجلَّ دعاء كبار الرسل وعدم قبوله شفاعتهم في بعض المواطن. وأما الأناسي الأحياء والجن فإنه فوض إليهم العمل بما كلَّفهم به، ولكن لا على المعنى السابق، بل ما لم تقتضِ حكمة الله تعالى خلاف ما يريدون. ألا ترى أن الفاجر قد يريد أن يزني بامرأة صالحة فتبتهل [604] هذه إلى الله عزَّ وجلَّ فيحول بينها وبينه، وقد تريد هي أن توافقه، ولكن يكون زوجها صالحًا مثلًا؛ فيحول الله بينهما مكافأة للزوج على صلاحه. وقد يريد الكافر قتل مؤمن فيمنعه الله منه، وقد يريد الإنسان التصدق على فقير وقد قضى الله تعالى حرمان ذلك الفقير؛ فيمنع الله مريد التصدق منه. وأمثال ذلك لا تحصى، وقد مر في قصة الخليل عليه السلام مع خصمه الذي كفر ما يتعلق بهذا (2). وأما تصرف الجن بالإنس بغير الوسوسة فهو أوضح من هذا؛ لأن _________ (1) انظر ص 794. (2) انظر ص 687.
(3/877)
الإنس محفوظون من الجن، قال تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 10 - 11]. وإنما يستطيع الجن إيذاء الإنس نادرًا بإذن الله عزَّ وجلَّ لحكمة يعلمها, وقد تقدم إيضاح ذلك (1). وأما أرواح الموتى فتصرفهم الذي يتعلق بالأحياء مما لا أحفظ له دليلًا صريحًا, بل ثَمَّ دلائل تدلُّ على عدمه. وإن فُرِضَ أنَّ لهم تصرفًا مَّا فالأرواح الخيِّرة لها حكم الملائكة، فلا تقول ولا تفعل إلا بأمر خاص من الله عزَّ وجلَّ. والأرواح الشريرة كالشياطين فلا تستطيع أذى الأحياء إلا بتسليط خاص لحكمة يعلمها الله عزَّ وجلَّ، بل هي أولى من الشياطين بالعجز؛ لأنها ليست في دور تكليف بل في سجن وعذاب. [605] الأمر الثاني: القطع بأنه لا مستحق للعبادة إلا الله عزَّ وجلَّ. الأمر الثالث: العلم بحقيقة العبادة. واعلم أنه إذا عرض لك دليل ينقض هذه الأصول فإنه لا يمكن أن يكون قطعيًّا من الضرب الأول لاستحالة تعارض القطعيَّات، وإنما يجوز أن يَرِدَ دليل من الضرب الثاني، وهو هاهنا لا يفيد الظن أيضًا لمعارضته للقطعي، فليس بسلطان. _________ (1) ص 665.
(3/878)
ومن الأمور الدينية ما أصلُ المقصود منه طاعة الله عزَّ وجلَّ, وقُصِدَ منه مع ذلك أن تكون الطاعة على وفق ما شرعه الله عزَّ وجلَّ, ولكن قصدًا ثانيًا بحيث يغفر لمن أخطأ ذلك بعد التحري وبذل الوسع، وذلك كفروع العبادات والمعاملات، فهذا إن تيسر فيه دليل من الضرب الأول فتلك الغاية القصوى، وإلاَّ كفى فيه دليل من الضرب الثاني. ويؤخذ من كلام كثير من أهل العلم زيادة قسم ثالث، وهو ما أصل المقصود منه تعظيم الله عزَّ وجلَّ، والبعث على الإيمان به وعلى طاعته. ويدخل في هذا عامَّة الصفات التي وصف الله تعالى بها نفسه، أو وصفه بها نبيه، ووقع الاختلاف فيها بين الأمة. وقد احتجَّ أكابر السلف على بعضها بأخبار الآحاد؛ لأنهم واقفون عن الخوض في تأويلها، ما حقيقتها؟ وكيف هي؟ ونحو ذلك. وخالفهم مَنْ خاض في ذلك فاشترطوا ألَّا يحتجَّ فيها إلَّا بالبراهين القاطعة من الضرب الأول، وأكَّدوا ذلك بأنَّ منها ما يُفهم [606] منه خلاف الواقع في نفس الأمر. وأجيب بأنه إنما يَفهم منها خلاف الواقع مَنْ خاض في تأويلها وكيف هي؟ فأما من رجع إلى فطرته ولم يَخُضْ في ذلك فلا؛ فإن الشرع أطلقها بكثرة، وسمعها الأعراب الجفاة ولم يقع من ذلك محذور؛ لأنهم قد علموا أن الله عزَّ وجلَّ ليس من جنس الخلق، فإذا سمعوا أنَّ له وجهًا وعينين ويدين وأصابع، لم يفهموا من ذلك إلا أنَّ له صفات تطلق عليها هذه الألفاظ، بينها وبين جوارح المخلوقين مناسبةٌ مَّا وليست من جنسها؛ لأن الموصوف بها سبحانه ليس من جنس المخلوقين. ولتحقيق هذا المعنى موضع غير هذا. والصواب أنّ أخبار الآحاد تُقْبل في هذا القسم الثالث على سبيل
(3/879)
الشرط، فيقال: إذا كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال هذا فهو حق وأنا أومن به. ومن العجب أن الَّذين خاضوا فيها استدلُّوا فيها بشبهات عقلية ليست من الضرب الأول ولا من الضرب الثاني، بل هي من باب الظن الممنوع الاحتجاج به مطلقًا، وهو الخرص والتخمين، كما اعترف به أكابرهم كالغزالي وإمام الحرمين والشهرستاني والفخر الرازي في آخر أمرهم. ومَنْ تأمَّل أصولهم التي يبنون عليها العقليات عَلِم أنها بغاية الضعف، وإنما يرجعون إلى تقليد أرسطو وابن سينا مع أنه قد جاء عن أرسطو أنه قال: لا سبيل في الإلهيات إلى اليقين، وإنما الغاية القصوى فيها الأخذ بالأليق والأولى، حكاه علاء الدين الطوسي (1) في (الذخيرة) (2). وجاء نحو هذا عن بعض أكابر الآخذين عن ابن سينا. والله أعلم. [607] إذا تقرَّر هذا فاعلم أن النظر في العبادة إذا كان في معرفة حقيقتها من حيث هي فهو من القسم الأول، كما تقدمت أدلته في أوائل الرسالة، فلا بدَّ من علم اليقين فيه، فإن لم يتيسَّر اليقين لزم الاحتياط، وإن كان في عمل مخصوص أَعبادة لله عزَّ وجلَّ هو أم لا؟ فهو من القسم الثاني، فيكفي فيه دليل من الضرب الثاني، وعلى هذا جرى العمل في عهد النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وما بعده. _________ (1) علاء الدين الطوسي: علي بن محمد البتاركاني الطوسي الحنفي أحد أفراد علماء سمرقند, فقيه حنفي، له «الذخيرة في المحاكمة بين تهافت الفلاسفة للغزالي والحكماء لابن رشد»، توفي سنة 877 هـ. الفوائد البهية، 145، الأعلام 5/ 9. (2) ص 10. [المؤلف]
(3/880)
فإن قلت: فعلى هذا قد يكون العمل عبادة لله عزَّ وجلَّ بدليل ظني كخبر واحد، ولو لم يأت ذلك الدليل الظني لكان ذلك العمل شركًا. قلت: ألا تعلم أنه لو ورد خبر صحيح بأن مَنْ كَلَّمَ إمامه في الصلاة لا تبطل صلاته لَعَمِلَ به العلماء، وإذ لم يَرِدْ فلو أن رجلًا يصلي ويكلِّم إمامه زاعمًا أن الصلاة لا تبطل بذلك مع اعترافه بأنه لا دليل له عليه لحكمنا ببطلان صلاته قطعًا، فإن زعم أنه لا تجب عليه الصلاة إلا كذلك حكمنا بكفره. ومِثْل ذلك لو ورد خبر واحد أن شرب ماء زمزم لا يفطر, أو أن مَنْ لم يدرك الوقوف بعرفة يوم عرفة يُجزيه الوقوف يوم النحر, لقبلناهما، وإذ لم يرد ذلك فلو أن رجلًا يشرب في نهار رمضان من ماء زمزم عمدًا زاعمًا أنه لا يفطر وأنه لا يجب عليه صيامٌ غير ذلك لكفَّرناه, وكذا لو وقف يوم النحر [608] عالمًا بأنه يوم النحر وزعم أنه لا يجب عليه حج غير ذلك. وأمثال هذا كثير، نعم قد يكون لبعض الناس عذر يمنع من تكفيره على ما يأتي بيانه في الأعذار إن شاء الله تعالى. فإن قلت: إنما يقع التكفير في هذه الأمثلة للإجماع على أن خطاب الإمام في الصلاة يبطلها كغيره، وأن الشرب من ماء زمزم ذاكرًا للصوم يبطل الصوم كغيره، وأن الوقوف يوم النحر مع العلم بأنه يوم النحر لا يُجزي مَنْ جاء متأخرًا. فعبادات هؤلاء باطلة إجماعًا، فلمَّا زعموا أنه لا يجب عليهم غيرها كان معنى قولهم أنه لا تجب عليهم صلاة صحيحة، وهذا تكذيب للرسول قطعًا. قلت: وهكذا يقال فيمن عمد إلى حجر في جدَّة مثلًا فزعم أنه مستحق أن يُعَظَّمَ تعظيم الحجر الأسود، ألا ترى أنه خالف الإجماع في ذلك، ومع
(3/881)
مخالفته للإجماع كذب على الله وعلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم؟ وقد نبهنا مرارًا (1) على أن القرآن قسم الكفر إلى قسمين: الكذب على الله والتكذيب بآياته. فإن قلت: فالمدار على عدم خبر الواحد مثلًا أم على مخالفة الإجماع؟ قلت: المدار في الحقيقة على الكذب على الله أو التكذيب بآياته، ومنه تكذيب رسوله. فإن قلت: نعم، ولكن يشترط في تكفيره قيام الإجماع على أنه كاذب أو مكذِّب, أم يكفي في ذلك أنه لا دليل عنده؟ قلت: الأمران متلازمان؛ فإنه إذا تعبد بما لا دليل له على أنه عبادة فقد كذب على الله إجماعًا، وإن عمل عملًا مبطلًا في الصلاة إجماعًا ثم أنكر أن تجب عليه الصلاة إلا كذلك فقد كَذَّب الرسول إجماعًا. فإن قلت: قد يُنْقل عن بعض السلف قول [609] لا نعلم له دليلًا ولكنه يمنع عند كثير من الأصوليين كون القول المخالف له مجمعًا عليه, ولم يتحقق إجماع قبل ذلك القائل, فما الحكم فيه؟ وما الحكم فيمن يقول بقوله من الخلف مع اعترافه بأنه لا دليل له؟ قلت: أما القائل الأول من السلف فإننا نحسن الظن به؛ لأنّا وإن لم نعلم له دليلًا فلعله قامت عنده شبهة ظنها دليلًا، وكانت تلك الشبهة قوية يعذر صاحبها، اللهم إلا أن يثبت عنه ما يَسُدُّ علينا طريق حسن الظن به. وأما الموافق له من الخلف فإن اعترف بأنه لا دليل له على قوله فلا ينفعه موافقته. _________ (1) انظر ص 903 مثلًا.
(3/882)
فإن قلت: فبهذا يتبين أن المدار على عدم الدليل لا على مخالفة الإجماع. قلت: ولكن قد خالف هذا القائل الإجماع من جهة تديُّنه بما لا دليل له عليه، وهذا باطل إجماعًا. فإن قلت: فإن كان القائل الأول صحابيًّا واحتجّ هذا المتأخر بقوله بناء على أنه يرى قول الصحابي حجة, أو كان المتأخر عامِّيًّا وقلَّد القائل الأول؟ قلت: الظاهر أن المتأخر يعذر إلا أن تكون قد قامت عليه الحجة القاطعة بأن قول الأول خطأ محض، كما في قول ابن مسعود رضي الله عنه بأن المعوذتين ليستا من القرآن (1). وهكذا الحال في كل من أظهر الاستناد إلى دليل قد قامت الحجة القاطعة على بطلانه. فإن قلت: فلو قال متأخر قولًا وسألناه الدليل عليه فاعترف بأنه لا دليل له, أو ذكر دليلًا باطلًا إجماعًا, ولكننا نعلم دليلًا يصح أن يتمسك به لقوله لم يقف عليه أو لم يتنبه له؟ قلت: أما الذي تقتضيه [610] الأدلة فهو الجزم بأن هذا الرجل لا يعذر؛ لأنه قد ارتكب القول في الدين بلا دليل، وخالف بذلك الإجماع، وكان من معنى قوله الكذب على الله وتكذيب رسوله. ولكني أرى أن الواجب علينا أن نبين له ما في قوله من الخطر، ونرشده إلى ذلك الدليل، ونقول له: إذا أصررت على قولك فعليك أن تستند إلى هذا الدليل، فإن أصرّ على أن له القول في الدين بغير دليل انقطع عذره. _________ (1) تقدم تخريجه. انظر ص 824.
(3/883)
فإن قلت: فإذا لم يَدَّعِ الرجل أن له أن يقول في دين الله بغير حجة، ولكنه ذكر شبهة لا تصلح دليلًا؟ قلت: هذا معذور حتى تقام عليه الحجة أن ما تمسَّك به لا يصلح دليلًا، فإن أصرّ بعد ما قامت عليه الحجة نظرنا، فإذا كانت شبهته قوية في الجملة بحيث يجوز ألَّا يتبيَّن له بطلانها فهو معذور، وإلَّا فلا. فصل فإن قلت: إذا كان التدين بشيء لا دليل عليه أو عليه دليل باطل شركًا فالبدع في الدين كلها شرك. قلت: كل بدعة كانت تديُّنًا بما لا دليل عليه أو عليه دليل باطل ــ والبدع كلها هكذا على التفسير الصحيح ــ فإنا نقول فيها: إذا قامت الحجة على صاحبها بأن ذلك قولٌ لا دليل عليه أصلًا أو على بطلان ما يزعم أنه دليل, وبأن التدين بما ليس عليه من الله تعالى سلطان عبادة لغيره وهي شرك، إذا قامت الحجة عليه بذلك وأصرّ على التدين بتلك البدعة فهي شرك وهو مشرك، وإلا فإنا لا نطلق عليها أنها شرك بدون التفصيل، ولا يكون صاحبها ما لم تقم عليه الحجة مشركًا بل ولا مبتدعًا، بل قد يكون من خيار المسلمين وأئمتهم وأوليائهم [611] ويكون مأجورًا على ذلك القول الذي نسميه نحن بدعةً (1). _________ (1) فصَّل المؤلِّف هذه الجزئيَّة في موضعٍ آخر، فقال: إن ذلك «خاصٌّ بما إذا كان عالمًا قامت عنده شبهةٌ قويَّةٌ حملته على أن تلك البدعة سنَّةٌ وقد بذل وسعه في البحث ... وأما الجاهل فإنما يمكن أن يكون مأجورًا على البدعة إذا كان قلَّد فيها مَن يعتقد فيه العلم ... » انظر: ص 898.
(3/884)
وحسبك أن مثل هذا يوجد من أكابر الصحابة رضي الله عنهم فضلًا عمن بعدهم؛ فإن كل مسألة دينية اختلف فيها فالحق فيها واحد وبقية الأقوال باطلة، ولكن لا يطلق على وجه من وجوه الاختلاف: «بدعة» حتى تقوم عليه الحجة الواضحة، ولا يطلق على صاحبها: «مبتدع» حتى تقوم عليه الحجة الواضحة. نعم، جرت عادة السلف أنهم إذا رأوا رجلًا ذهب مذهبًا يعتقدون هم أنه بدعة ولذلك الرجل شبهة استولت عليه ــ بحيث لم يستطيعوا اقتلاعها من قلبه، ولكنها عندهم شبهة باطلة ــ أن يطلقوا عليه مبتدع، وهو عندهم كالواسطة بين المعذور المأجور وبين المعاند الذي سبق أنه يكفر. والغالب أنهم لم يشدِّدوا عليه إلا خوفًا على المسلمين من الاغترار بقوله والافتراقِ في الدين، ولذلك يشتدُّ نكيرهم عليه إذا كان داعية، أي يُظْهِرُ قولَه ويجادل عنه ويناضل ويرغِّب الناس فيه. واعلم أن الأفهام تختلف وتأثير الأدلة والشبهات في النفوس يختلف باختلاف العقول والأهواء وغير ذلك، فكم مِّنْ معنًى هو عند بعض الأئمة حجة قوية، وعند بعضهم شبهة ضعيفة. وحسبك بأن الصحابة وأئمة التابعين اختلفوا في مسائل كثيرة وربما لم يقدر أحدهم على إقناع الآخر، مع أنهم كانوا أبعد الناس عن الهوى وأسرعهم إلى الحق إذا تبيَّن. أَوَ لم يبلُغْك محاورة أمير المؤمنين علي عليه السلام [612] مع ابن عباس رضي الله عنهما في متعة النكاح، حتى قال علي لابن عباس: «إنك امرؤ تائه» (1)، ومع ذلك لم يستطع أحدهما إقناع الآخر؟ _________ (1) مسلم، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة، 4/ 134، ح 1407. [المؤلف]
(3/885)
فاحذر أن تعجل فتحكم على مخالفك بأنه معاند بسبب أنك ترى شبهته ضعيفة وترى الحجة التي أقمتها قطعية أو كالقطعية، وعليك أن تتأنَّى وتَتَرَيَّث في الحكم حتى لا يبقى لديك في عناده أدنى تردُّد. وهذا التأني والاحتياط هو الذي منع العلماء من إعلان أن البدع الدينية كفر وشرك، ومَن صرَّح بذلك فعلى سبيل الفرض والتقدير. قال الشاطبي: «فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله أن الشريعة لم تَتِمَّ وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحبُّ استدراكها؛ لأنه لو كان معتقدًا لكمالها وتمامها من كل وجه لم يبتدع ولا استدرك عليها، وقائل هذا ضالٌّ عن الصراط المستقيم. قال ابن الماجشون: سمعت مالكًا يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم خان الرسالة؛ لأنَّ الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فما لم يكن يومئذٍ دينًا فلا يكون اليوم دينًا (1). والثالث: أن المبتدع معاند للشرع ومُشاقٌّ له؛ لأن الشارع قد عَيَّن لمطالب العبد طرقًا خاصة على وجوه خاصَّة وقَصَرَ الخلقَ عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد، وأخبر أن الخير فيها وأن الشر في تعدِّيها إلى غير ذلك؛ لأن الله يعلم ونحن لا نعلم، وأنه إنما أرسل الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم [613] رحمة للعالمين، فالمبتدع رادٌّ لهذا كله؛ فإنه يزعم أن ثَمَّ طرقًا أخر، ليس ما حصره الشارع بمحصور ولا ما عَيَّنه بمتعيِّنٍ، كأن الشارع _________ (1) رواه ابن حزم في الإحكام، 6/ 58 من طريق ابن الماجشون، بنحوه.
(3/886)
يعلم ونحن أيضًا نعلم، بل ربما يُفهم من استدراكه الطرق على الشارع أنه علم ما لم يعلمه الشارع، وهذا إن كان مقصودًا للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع، وإن كان غير مقصود فهو ضلال مبين» (1). وقال أيضًا: «والرابع: أن المبتدع قد نزَّل نفسه منزلة المضاهي للشارع؛ لأن الشارع وضع الشرائع وألزم الخلق الجري على سننها وصار هو المنفرد بذلك؛ لأنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون، وإلا فلو كان التشريع من مُدْرَكات الخلق لم تنزل الشرائع ولم يبق الخلاف بين الناس، ولا احتيج إلى بعث الرسل عليهم السلام. هذا (2) الذي ابتدع في دين الله قد صيَّر نفسه نظيرًا ومضاهيًا للشارع حيث شرع مع الشارع، وفتح للاختلاف بابًا، وردَّ قصد الشارع في الانفراد بالتشريع، وكفى بذلك. والخامس: أنه اتباع للهوى؛ لأن العقل إذا لم يكن متبعًا للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوى (3)، وأنت تعلم ما في اتباع الهوى وأنه ضلال مبين، ألا ترى قول الله تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ [614] عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]. فحصر الحكم في أمرين لا ثالث لهما عنده وهو الحق والهوى وعَزَلَ _________ (1) الاعتصام 1/ 47 - 48. [المؤلف] (2) في بعض نسخ الاعتصام: فهذا. (3) كذا في الأصل وبعض نسخ الاعتصام، وفي أكثرها: الشهوة - بالتاء -، وهي الأنسب. انظر: الاعتصام 1/ 68، طبعة دار ابن الجوزي.
(3/887)
العقل مجرَّدًا؛ إذ لا يمكن في العادة إلَّا ذلك. وقال: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]. فجعل الأمر محصورًا بين أمرين: اتباع الذكر واتباع الهوى. وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]. وهي مثل ما قبلها. وتأمَّلوا هذه الآية فإنها صريحة في أن من لم يتبع هدى الله في هوى نفسه فلا أحد أضلّ منه، وهذا شأن المبتدع، فإنه اتبع هواه بغير هدى من الله .. » (1). أقول: وإذا لم يكن أحد أضلَّ منه فهو كافر مشرك؛ إذ لو لم يكن كذلك لكان الكافر المشرك أضلَّ منه. وكذلك يقال في قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 144] (2) , وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 31] (3) , وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [الصف: 7] , وقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32]. _________ (1) الاعتصام 1/ 50 - 51. [المؤلف] (2) سورة الأعراف: 37، سورة يونس: 17، وسورة الكهف: 15. [المؤلف] (3) سورة الأنعام: 93، سورة هود: 18، وسورة العنكبوت: 68. [المؤلف]
(3/888)
وإذا لم يكن أحدٌ أظلم منه فهو مشرك وإلَّا لكان يوجد من هو أظلم منه. وقال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] , [615] وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: «وقد اتفق العلماء على تغليظ الكذب على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأنه من الكبائر، حتى بالغ الشيخ أبو محمد الجويني فحكم بكفر مَنْ وقع منه ذلك، وكلام القاضي أبي بكر ابن العربي يميل إليه» (1). وقال ابن حجر الهيتمي: «قال الشيخ أبو محمد الجويني: إن الكذب على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كفر. وقال بعض المتأخرين (2): وقد ذهبت طائفة إلى أن الكذب على الله ورسوله كفر يخرج عن الملة، ولا ريب أن تَعَمُّدَ الكذب على الله ورسوله في تحليل حرامٍ أو تحريم حلالٍ كفر محض، وأن الكلام فيما سوى ذلك» (3). وقال صاحب الصارم المسلول على شاتم الرسول: (السُّنَّة الثالثة عشر (4)، ما روِّيناه من حديث أبي القاسم عبد الله بن محمد البغوي، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد الحِمَّاني، ثنا عليُّ بن مُسْهِرٍ، عن صالح بن حيَّان، _________ (1) فتح الباري 6/ 326. [المؤلف] (2) انظر: الكبائر للذهبي ص 70. (3) الزواجر 1/ 83. [المؤلف] (4) كذا في الأصل والمصدر الذي نقل عنه المؤلف, والصواب: الثالثة عشرة.
(3/889)
عن ابن بريدة، عن أبيه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (1) أمرني أن أحكم فيكم برأيي وفي أموالكم كذا وكذا، وكان خطب امرأة منهم في الجاهلية، فأبوا أن يزوجوه، ثم ذهب حتى نزل على المرأة، فبعث القوم إلى النبي صَلَّى الله عليه وآله، فقال: كذب عدُّو الله، ثم أرسل رجلًا، فقال: «إن وجدته حيًّا فاقتله، وإن وجدته ميِّتًا فحرِّقْه بالنار»، فانطلق فوجده قد لُدِغَ فمات فحرَّقه بالنار، فعند ذلك قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوَّأ مقعده من النار». ورواه أبو أحمد بن عدي في كتابه الكامل (2)، قال: ثنا الحسن (3) بن محمد بن عنبر، ثنا حجاج بن يوسف الشاعر، ثنا زكريا بن عديٍّ، ثنا علي بن مُسْهِرٍ، عن صالح بن حيان، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: كان حَيٌّ من بني ليثٍ من المدينة على ميلين، وكان رجلٌ قد خطب منهم في الجاهلية فلم يزوِّجوه، فأتاهم وعليه حُلَّة، فقال: إنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كساني هذه الْحُلَّة وأمرني أن أحكم في دمائكم وأموالكم، [616] ثم انطلق فنزل على تلك المرأة التي كان يحبُّها. فأرسل القوم إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فقال: «كذب عدوُّ الله»، ثم أرسل رجلًا، فقال: «إن وجدته حيًّا ــ وما أراك تجده حيًّا ــ فاضرب عنقه، وإن وجدته ميِّتًا فأحرقه بالنار»، قال: فذلك قول النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن كذب عليَّ متعمِّدًا _________ (1) سقط شيءٌ يُعلَم مما يأتي. [المؤلف]. وهو: جاء رجل إلى قوم في جانب المدينة فقال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ... (2) ترجمة صالح بن حيان, 4/ 53 - 54. (3) في الأصل والمصدر المنقول عنه: الحسين, وهو خطأ. انظر ترجمته في تاريخ بغداد 7/ 414, وسير أعلام النبلاء 14/ 256.
(3/890)
فليتبوَّأ مقعده من النار». هذا إسنادٌ صحيحٌ على شرط الصحيح، لا نعلم له علَّةً. وله شاهدٌ من وجهٍ آخر، رواه المعافى بن زكريا الجريريُّ (1) في كتاب «الجليس» (2)، قال: ثنا أبو حامد الحصري (3)، ثنا السري بن مرثد الخراساني (4)، ثنا أبو جعفر محمد بن علي الفزاري، ثنا داود بن الزبرقان، قال: أخبرني عطاء بن السائب، عن عبد الله بن الزبير قال يومًا لأصحابه: أتدرون ما تأويل هذا الحديث: «مَن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوَّأ مقعده من النار»؟ قال: كان رجلٌ عشق امرأةً، فأتى أهلها مساءً، فقال: إن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بعثني إليكم أن أَتَضَيَّفَ في أي بيوتكم شئت، قال: وكان ينتظر بيتوتة المساء، قال: فأتى رجل منهم النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فقال: إن فلانًا يزعم أنك أمرته أن يبيت في أيِّ بيوتنا شاء، فقال: «كذب، يا فلان انطلق معه، فإن أمكنك الله منه فاضرب عنقه وأحرقه بالنار، ولا أراك إلا قد كُفِيتَه»، فلما خرج الرسول قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «ادعوه»، قال: «إني كنت أمرتك أن تضرب عنقه وأن تحرقه بالنار, فإن أمكنك الله منه فاضرب عنقه ولا تحرِّقه بالنار؛ فإنه لا يعذِّب بالنار إلا _________ (1) هو المعافى بن زكريا بن يحيى أبو الفرج النهرواني، الإمام الحافظ ذو الفنون، الجَريري نسبة لابن جرير الطبري، لكونه نصر مذهبه، له كتب عدة، توفي سنة 390 هـ. السير 16/ 544. (2) انظر: الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي 1/ 182. (3) كذا في الصارم, والصواب: الحضرمي كما في الجليس. انظر: سيرأعلام النبلاء 15/ 25. (4) كذا في مصدر المؤلف. وفي الجليس: مَزْيَد، وذكره الأمير في المختلف فيه.
(3/891)
رب النار، ولا أراك إلا قد كُفِيتَه»، فحانت (1) السماء بصيِّب، فخرج الرجل يتوضَّأ، فلسعته أفعى، فلما بلغ ذلك النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، قال: «هو في النار». وقد روى أبو بكر بن مردويه من حديث الوازع، عن أبي سلمة، عن أسامة [617] قال: قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن يقول (2) عليَّ ما لم أقل فليتبوَّأ مقعده من النار». وذلك أنه بعث رجلًا فكذب عليه فوُجِدَ ميتًا قد انشقَّ بطنه ولم تقبله الأرض. وروي أن رجلًا كذب عليه فبعث عليًّا والزبير إليه ليقتلاه. وللناس في هذا الحديث قولان: أحدهما: الأخذ بظاهره في قتل من تعمد الكذب على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. ومن هؤلاء من قال: يكفر بذلك، قاله جماعة، منهم: أبو محمد الجويني، حتى قال ابن عقيل عن شيخه أبي الفضل الهمداني: مبتدعة الإسلام والكذابوان والواضعون للحديث أشد من الملحدين (3)، قصدوا إفساد الدين من خارج، وهؤلاء قصدوا إفساده من داخل، فهم كأهل بلد سعوا في فساد أحواله، والملحدون كالمحاصرين من خارج، فالدخلاء يفتحون الحصن، فهم شر على الإسلام من غير الملابسين له. ووجه هذا القول: أن الكذب عليه كذب على الله، ولهذا قال: «إن كذبًا _________ (1) في الجليس: فجاءت، ولعل ما في الصارم ط حيدراباد تصحيف. (2) كذا في الأصل والمصدر المنقول عنه ط حيدراباد، والصواب: تقوَّل. (3) كذا، وكأنه سقط: لأن الملحدين، أو نحوه. [المؤلف]
(3/892)
عليّ ليس ككذب على أحدكم» (1)؛ فإن ما أمر به الرسول فقد أمر الله به يجب اتباعه كوجوب اتباع أمر الله، وما أخبر به وجب تصديقه كما يجب تصديق ما أخبر الله به، ومن كَذَّبه في خبره أو امتنع من التزام أمره (2). ومعلوم أن من كذب على الله بأن زعم أنه رسول الله أو نبيه، أو أخبر عن الله خبرًا كذب فيه كمسيلمة والعنسي ونحوهما من المتنبئين, فإنه كافر حلال الدم، فكذلك من تعمد الكذب على رسوله. يبين ذلك أن الكذب عليه بمنزلة التكذيب له، ولهذا جمع الله بينهما بقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ} [العنكبوت: 68]، بل ربما كان الكاذب (3) عليه أعظم إثمًا من المكذِّب (4) له، ولهذا بدأ الله به، كما أن الصادق عليه أعظم درجة من المصدق بخبره، فإذا كان الكاذب [618] مثل المكذب أو أعظم والكاذب على الله كالمكذب له؛ فالكاذب على الرسول كالمكذب له. ويوضح ذلك أن تكذيبه نوع من الكذب؛ فإن مضمون تكذيبه الإخبار عن خبره أنه ليس بصدق (5)، وذلك إبطال لدين الله، ولا فرق بين تكذيبه في خبر واحد أو في جميع الأخبار، وإنما صار كافرًا لما يتضمنه من إبطال _________ (1) كذا، والحديث في صحيح مسلمٍ، المقدِّمة، باب تغليظ الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، 1/ 8، ح 4. ولفظه: « ... على أحدٍ ... » اهـ. [المؤلف] (2) كذا، وكأنه سقط شيءٌ. [المؤلف] (3) في الأصل: الكذب، والتصحيح من النسخة التي نقل عنها المؤلف. (4) في الأصل: الكذب، والتصحيح من المصدر الذي نقل عنه المؤلف. (5) في الأصل والمصدر المنقول عنه: يصدق، والتصحيح من ط رمادي.
(3/893)
رسالة الله ودينه، والكاذب عليه يُدخل في دينه ما ليس منه عمدًا، ويزعم أنه يجب على الأمة التصديق بهذا الخبر وامتثال هذا الأمر؛ لأنه دين الله، مع العلم بأنه ليس لله بدين، والزيادة في الدين كالنقص منه، ولا فرق بين من يكذِّب بآية من القرآن أو يصنف كلامًا ويزعم أنه سورة من القرآن عامدًا لذلك. وأيضًا, فإن تعمد الكذب عليه استهزاء به واستخفاف؛ لأنه يزعم أنه أمر بأشياء ليست مما أمر به، بل وقد لا يجوز الأمر بها، وهذه نسبة له إلى السفه، أو أنه يخبر بأشياء باطلة، وهذا نسبة له إلى الكذب، وهو كفر صريح. وأيضًا، فإنه لو زعم زاعم أن الله فرض صوم شهر آخر غير رمضان أو صلاة سادسة زائدة ونحو ذلك, أو أنه حرَّم الخبز واللحم, عالمًا بكذب نفسه, كفر بالاتفاق. فمن زعم أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أوجب شيئًا لم يوجبه أو حرم شيئًا لم يحرمه فقد كذب على الله كما كذب عليه الأول, وزاد عليه بأن صرَّح بأن الرسول قال ذلك، وأنه ــ أعني القائل ــ لم يقله اجتهادًا واستنباطًا. وبالجملة، فمن تعمّد الكذب الصريح على الله فهو المتعمد لتكذيب الله وأسوأ حالًا، وليس يخفى أن من كذب على من يجب تعظيمه فإنه مستخِفٌّ به مستهين [619] بحقه. وأيضًا، فإن الكاذب عليه لا بدَّ أن يَشِينه بالكذب عليه وينقصه بذلك، ومعلوم أنه لو كذب عليه كما كذب عليه ابن أبي سَرْح في قوله: كان يتعلَّم مني، أو رماه ببعض الفواحش الموبقة أو الأقوال الخبيثة كفر بذلك، فكذلك الكاذب عليه؛ لأنه إما أن يَأثُر عنه أمرًا أو خبرًا أو فعلًا؛ فإن أَثَر عنه أمرًا لم يأمر به فقد زاد في شريعته، وذلك الفعل لا يجوز أن يكون مما يأمر به؛ لأنه
(3/894)
لو كان كذلك لأمر به صلَّى الله عليه وآله وسلَّم؛ لقوله: «ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا أمرتكم به، ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا نهيتكم عنه» (1). فإذا لم يأمر به فالأمر به غير جائز منه. فمن روى عنه أنه أمر به فقد نسبه إلى الأمر بما لا يجوز له الأمر به، وذلك نسبة له إلى السفه. وكذلك إن نقل عنه خبرًا, فلو كان ذلك الخبر مما ينبغي له أن يخبر به، وكذلك الفعل الذي ينقله عنه كاذبًا فيه لو كان مما ينبغي فعله ويترجح لَفَعَله، فإذا لم يفعله فتركه أولى. فحاصله أن الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أكمل البشر في جميع أحواله، فما تركه من القول والفعل فتركه أكمل من فعله، وما فعله ففِعْله أكمل من تركه، فإذا كذب الرجل عليه متعمدًا أو أخبر عنه بما لم يكن فذلك الذي أخبر عنه نقص بالنسبة إليه؛ إذ لو كان كمالًا لوُجد منه، ومن انتقص الرسول فقد كفر. واعلم أن هذا القول في غاية القوة كما تراه، لكن يتوجه أن يفرق بين الذي يكذب عليه مشافهة [620] وبين الذي يكذب عليه بواسطة، مثل أن يقول: حدثني فلان بن فلان عنه بكذا، فهذا إنما كذب على ذلك الرجل _________ (1) الحديث بنحو هذا اللفظ ذكره صاحب المشكاة في باب التوكل والصبر من حديث ابن مسعودٍ مرفوعًا، ونسبه إلى البيهقي في شعب الإيمان، والبغوي في شرح السنة، وفي المستدرك نحوه، أخرجه شاهدًا 2/ 4، وفي سند المستدرك انقطاعٌ. وأخرج [الشافعي] نحوه من طريق المطلب بن حنطبٍ أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: .... الأم 7/ 271، وهو مرسلٌ. وذكره ابن عبد البر في كتاب العلم، وقال: رواه المطلب بن حنطب وغيره عنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. مختصر جامع بيان العلم ص 222 اهـ. [المؤلف]
(3/895)
ونسب إليه ذلك الحديث. فأما إن قال: هذا الحديث صحيح، أو: ثبت عنه أنه قال ذلك، عالمًا بأنه كذب، فهذا قد كذب عليه. أما إذا افتراه ورواه رواية ساذجة ففيه نظر. اهـ (1). أقول: وكلامه فيمن كذب على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بقوله، فأمّا مَنْ كذب على الله عزَّ وجلَّ بقوله وفعله واعتقاده بأن زعم في عمل أنه من الدين الذي يحبه الله ويرضاه، وليس له على ذلك سلطان, فلا أرى موضعًا للشك في كفره إلا أن يكون له عذر، والآيات المتقدمة صريحة في ذلك. وقال الشاطبي أيضًا: «وقال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة: 103]، فهم شرعوا شرعة وابتدعوا في ملة إبراهيم عليه السلام هذه البدعة توهُّمًا أن ذلك يقربهم من الله تعالى كما يقرب من الله ما جاء به إبراهيم عليه السلام من الحق, فزلّوا وافتروا على الله الكذب إذ زعموا أن هذا من ذلك، وتاهوا في المشروع، فلذلك قال تعالى على إثر الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]. وقال سبحانه: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} [الأنعام: 140]، فهذه فذلكة لجملة بعد تفصيل تقدَّم وهو قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} الآية [الأنعام: 136]. فهذا تشريع كالمذكور قبل هذا ثم قال: _________ (1) الصارم المسلول ص 165 - 170. [المؤلف]
(3/896)
{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} الآية [الأنعام: 137] , وهو تشريع أيضًا بالرأي مثل الأول, ثم قال: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا [621] يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} [الأنعام: 138] إلى آخرها. فحاصل الأمر أنهم قتلوا أولادهم بغير علم وحرَّموا ما أعطاهم الله من الرزق بالرأي على جهة التشريع، فلذلك قال تعالى: {قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [الأنعام: 140]. ثم قال تعالى بعد تعزيرهم على هذه المحرّمات التي حرَّموها وهي ما في قوله: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: 143]: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144]، وقوله: {لَا يَهْدِي} يعني أنه يُضلُّه» (1). وقال ابن حجر الهيتميّ في كتابه (الإعلام بقواطع الإسلام): «ووقع قريبًا أن أميرًا بنى بيتًا عظيمًا فدخله بعض المجازفين من أهل مكة فقال: «قال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» (2)، _________ (1) الاعتصام 1/ 175 - 176. [المؤلف] (2) أخرجه البخاريّ في كتاب فضل الصلاة في مسجد مكَّة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكَّة والمدينة، 2/ 60، ح 1189، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الكتاب المذكور، باب مسجد بيت المقدس، 2/ 61، ح 1197، من حديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه. ومسلمٌ في كتاب الحجِّ، باب سفر المرأة مع محرمٍ إلى حجٍّ وغيره، 4/ 102، ح 827، من حديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه.
(3/897)
وأنا أقول: وتُشدُّ الرحال إلى هذا البيت أيضًا». وقد سئلْتُ عن ذلك، والذي يتجه ويتحرّر فيه أنه بالنسبة لقواعد الحنفيّة والمالكية وتشديداتهم يكفر بذلك عندهم مطلقًا. وأما بالنسبة لقواعدنا وما عُرف من كلام أئمتنا السابق واللاحق فظاهر هذا اللفظ أنه استدراك على حصره صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأنه ساخرٌ به، وأنه شرع شرعًا آخر غير ما شرعه نبيّنا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وأنه ألحق هذا البيت بتلك المساجد الثلاثة في الاختصاص عن بقية المساجد بهذه المزيّة العظيمة التي هي التقرّب إلى الله بشدّ الرحال إليها. وكلّ واحد من هذه المقاصد الأربعة التي دلّ عليها هذا اللفظ القبيح الشنيع كفر بلا مرية، فمتى قصد أحدها فلا نزاع في كفره، وإن أطلق فالذي يتجه الكفرُ أيضًا لما علمت أن اللفظ ظاهرٌ في الكفر، وعند ظهور اللفظ فيه لا يحتاج إلى نية ... وإن تأوَّل بأنه لم يُرِدْ إلا أن هذا البيت لكونه أعجوبة يكون ذلك سببًا لمجيء الناس إلى رؤيته .... قُبِل منه ذلك، ومع ذلك فيعزر التعزير البليغ بالضرب والحبس وغيرهما بحسب ما يراه الحاكم، بل لو رأى إفضاء التعزير إلى القتل ــ كما سيأتي عن أبي يوسف ــ لأراح الناس من شرِّه ومجازفته؛ فإنه بلغ فيهما الغاية القصوى، تاب الله علينا وعليه، آمين» (1). واعلم أن ما قدَّمته من أن صاحب البدعة قد يكون مأجورًا عليها خاص بما إذا كان عالمًا قامت عنده شبهة قوية حملته على ظن أن تلك البدعة سنة، وقد بذل وسعه في البحث والنظر فلم يجد ما يدفع ذلك عنه، وإذا كانت تلك المسألة مما أمر الشرع بإخفائه حذر الفتنة اشترط أيضًا ألَّا يكون ذلك _________ (1) الإعلام ص 36. [المؤلف]
(3/898)
العالم معلنًا به. فأما الجاهل فإنما يمكن أن يكون مأجورًا على البدعة إذا كان قَلَّد فيها مَن يعتقد فيه العلم, ولم يقصِّر في الاختيار, ولا تبين له ضعف قوله, ولا ترك الاحتياط، فإذا اختلَّ شيء من هذا فقد صرح العلماء بأنه يكون آثمًا لتقصيره، على تردّدٍ من بعضهم في بعض ذلك، إلا أنه لا يُحكم عليه بالكفر أو الشرك حتى تقام عليه الحجة. وعندي تردُّد فيمن ترك الاحتياط, كأن يسمع من بعض العلماء أن هذا الفعل مستحب ويسمع من آخر أن هذا الفعل ليس بمستحب بل هو شرك، فإذا أقدم مثل [622] هذا على ذلك الفعل ألا يُحْكَم عليه بالشرك؟ وقد نصَّ العلماء أن مَن أقدم على ما يظنه كفرًا (1) يكفر، وإن لم يكن ذلك الشيء كفرًا في نفس الأمر. وفي الهداية وشرحها من كتب الحنفية: «وإن قال: إن فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني أو كافر يكون يمينًا؛ لأنه .... ولو قال ذلك لشيء قد فعله فهو الغموس، ولا يكفر، اعتبارًا بالمستقبل. وقيل: يكفر؛ لأنه تنجيزٌ معنًى، كما إذا قال: هو يهودي. والصحيح أنه لا يكفر فيهما إن كان يعلم أنه يمين، فإن كان عنده أنه يكفر بالحلف يكفر فيهما؛ لأنه رضي بالكفر حيث أقدم على الفعل». قال المحشِّي: «قوله: (يكفر فيهما)؛ لأنه لما أقدم على ذلك الفعل وعنده أنه يكفر فقد رضي بالكفر». اهـ (2). _________ (1) في الأصل: كفر. (2) العناية [للبابرتي] شرح الهداية [للمرغيناني] 2/ 191. [المؤلف]
(3/899)
نعم قد يترجَّح عذره في بعض الأحوال، كأن نشأ بقطر اتفق مَن به من المنتسبين إلى العلم على أن ذلك الفعل مستحب، وإنما بلغه أنه شرك عن رجل ببلد آخر وعلماء ذلك القطر يردُّون عليه ويخطِّئونه ويشدِّدون النكير عليه، وليس لهذا العامي مُكنةٌ في البحث والنظر. والله المستعان. فصل إذا تقرَّر أنَّ السلطان الفارق بين عبادة الله تعالى وعبادة غيره قد يكون ظنيًّا في نفسه ولكنه يستند إلى أصل قطعي؛ فإنه يدخل فيه سائر الأدلة التي يحتج بها الأئمة المجتهدون، على ما هو مبسوط في أصول الفقه. وما اختلف فيه منها أدليل هو أم لا فالمدار على ما ترجح أو قامت به الحجة. فمن احتج بدلالة الاقتران مثلًا على فعل بأنه عبادة، فإن كان قد نظر في الأصول وترجح له بأن دلالة الاقتران حجة فهي سلطان في حقه حتى تقام الحجة عليه بأن دلالة الاقتران ليست بحجة. وهكذا من تمسك بدليل صالح في نفسه ولكنه عارضه ما هو أقوى منه فإنه على سلطان حتى يعلم بالمعارض وتقوم عليه الحجة بأن المعارض أقوى. وهكذا من كان له معرفة بالكتاب والسنة ففهم من آية أو حديث معنى فهو سلطان له حتى تقوم عليه الحجة بخطئه في فهمه أو بوجود معارض لِما فَهِمَه أقوى منه. وكذلك مَن كان له معرفة بالحديث ورجاله فظهر له صحة حديث فهو سلطان له حتى تقام عليه الحجة بضعف ذلك الحديث أو بأنه عارضه ما هو أقوى منه. والحاصل: أن السلطان هو الحجة التي يُحْتَجُّ بها في فروع [623] الفقه، فكل حجة في فروع الفقه سلطان. حتى التقليد في حق العامي فهو سلطان له حتى تقام عليه الحجة بأن
(3/900)
مقلَّده ليس بمرتبة الإمامة أو تقام الحجة على خطئه. نعم، ينبغي للمقلد الاحتياط في مواضع الاختلاف، إلا إن تبين له أن قول من خالف إمامه ضعيفٌ جدًّا، أو يكون استناده في ظن ضعفه إلى أمر ظاهر لا إلى التعصب المحض؛ فإن كثيرًا من المقلدين يتوهمون أن إمامهم معصوم، ويستضعفون دلالة الكتاب والسنة وأقوال أكابر الصحابة وأكثر الأئمة إذا كان قول إمامهم مخالفًا لذلك. وهذا هوىً محضٌ، إنما حملهم عليه محبة أنفسهم، تقول لأحدهم نفسُه: أنت مقلد لهذا الرجل متبع له، فإذا توهَّمْتَ فيه نقصًا فقد توهَّمْتَ النقص في نفسك، فينبغي لك أن تطرد عن فهمك كل ما يفهم منه نقص إمامك، وهذا باب واسع يُكْتفى بالإشارة إليه. والله الموفق. وقد قدمنا في أوائل الرسالة فصولًا فيما يتمسك به بعض الناس ويظنه دليلًا وليس بدليلٍ، فارجع إليه. فصل الأمور الدينية تنقسم إلى قسمين: [معاملات وعبادات] (1)، والعبادات على ضربين: الأول: ما هو تعظيمٌ لله عزَّ وجلَّ بلا واسطة كالصوم. الثاني: ما هو خضوعٌ له سبحانه ولكن بواسطة احترام مخلوقٍ كتقبيل الحجر الأسود وإكرام الأبوين وغير ذلك. فالقسم الأول والضرب الأول من القسم الثاني يشق على العامّيّ الاحتياط فيه مشقة شديدة؛ لأنه يلزم من ذلك أن يُشَدَّد عليه أشدَّ مما يشدد _________ (1) في الأصل: (عبادات ومعاملات)، والمثبت هو المناسب لكلامه الآتي.
(3/901)
على العالم, فيُمْنَع من كثيرٍ من المصالح الدنيوية لا يُمْنَع منها العالِم, ويُلْزَم بكثير من الأعمال لا يُلْزَم بها العالِم, مع أن المناسب لحال العامة [624] أن يوسَّع عليهم الأمر ويرخَّص لهم أكثر مما يرخَّص للعلماء، فلذلك لم يوجب العلماء على العامة الاحتياط فيما ذكر. فأما الضرب الثاني من القسم الثاني أعني ما كان من العبادات هو في الصورة احترام مخلوق, فأرى أنه يجب فيه الاحتياط؛ لأمور: الأول: أنه وإن تقدم أن البدع كلَّها تؤول إلى الكفر والشرك، فهذا الضرب أعني ما فيه تعظيم لمخلوقٍ أصرحُ في ذلك من غيره، فإن ما عداه إنما يحتمل الشرك لأنه يؤول إليه، وذلك من جهة كونه طاعة للرؤساء وللشيطان والهوى في شرع الدين، والطاعة تعظيم. الثاني: أنه لا مشقة على العامّيِّ في اجتناب ذلك، بل فيه تخفيف عليه بخلاف ما عداه. الثالث: أنه قد كثر في القرون المتأخرة ابتداع التديُّن بتعظيم المخلوقين أكثر مما عداه. الرابع: أن عامَّة الاختلافات في القسم الأول والضرب الأول من القسم الثاني قد وقع بين السلف من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين. وأكثر ما اختلف فيه من تعظيم المخلوق لم يثبت عن السلف، وإنما اخترعه أفراد من الخلف لم يبلغوا رتبة الاجتهاد، ومثلُ ذلك بدعة قطعًا لسَبْقِ الإجماع على تركه المستلزم الإجماع على أنه ليس من الدين، ولأن المحدِثَ له ليس ممن يجوز تقليده.
(3/902)
ولا يَغُرَّنَّك ذِكْرُ مَنْ يدَّعي العلم من أنصار البدع آية من كتاب الله أو حديثًا عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أو حكاية عن بعض السلف؛ فإنه قد كثر من هؤلاء القوم تحريف الآيات القرآنية وتفسيرُها بالهوى على خلاف التفسير الذي يثبت بالحجج الصحيحة، وكذلك يفعلون في تفسير الأحاديث الصحيحة, ويعتمدون على الأحاديث الضعيفة أو المكذوبة، وكذلك يحرِّفون الآثار الثابتة عن السلف ويعتمدون [625] على الآثار التي لم تثبت أو هي مكذوبة. والعجب من هؤلاء القوم أنهم إذا نوقشوا في بعض المسائل المختلف فيها بين المذاهب وأقيمت عليهم الحجة بآية من كتاب الله أو حديث صحيح كان آخر قولهم: إنه ليس لنا أن نخالف مذهبنا لذلك؛ لأنا قاصرون عن معرفة الدليل، ولعل إمامنا فَهِمَ غَيرَ مَا فَهِمَ غيرُه من الأئمة أو كان عنده دليل يعارض ذلك. وإذا نوقشوا في بدعة لم يقل بها إمامهم ولا غيره من السلف فتحوا باب الاجتهاد على مصراعيه فأخذوا يحرِّفون الآيات والأحاديث الصحيحة والآثار الثابتة ويتبعون الأحاديث والآثار الواهية والمكذوبة، وعند التحقيق لا عجب أن هؤلاء القوم إنما يتبعون هواهم. والله المستعان. تقسيم الكفر إلى ضربين اعلم أن القرآن يقسم الكفر إلى ضربين: الكذب على الله والتكذيب بآياته، والآيات في ذلك كثيرة، منها: قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68].
(3/903)
وقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32]. وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 21]. فالشرك كله كذب على الله في أن له شريكًا، أو أنه عزَّ وجلَّ يرضى أن تُدْعَى الملائكة [626] ونحوهم، أو أنه شرع اتخاذ البحيرة والسائبة ونحوهما، أو أنه حرّم ما في بطون الأنعام على النساء وأحلّه للرجال وغير ذلك. والكفر كله تكذيب لآيات الله، ولذلك حصر المتكلمون الكفر في تكذيب الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. وأنت إذا أحطت خُبْرًا بما تقدم في هذه الرسالة علمت أن الشرك والكفر متلازمان؛ فإن التكذيب بآيات الله طاعة في الدين للرؤساء والهوى والشيطان، وتلك عبادة كما مرّ، إلا أنه في بعض المواضع قد يخفى كون الأمر شركًا، وذلك فيما كان طاعة للرؤساء أو الشيطان أو الهوى. ولهذا كان المشركون يعرفون أنهم مشركون بتعظيم الملائكة والأصنام، ولذلك كانوا يسمونها آلهة ويسمون تعظيمها عبادة، ولم يعرف اليهود أنهم مشركون بطاعتهم في الدِّين لأحبارهم ورهبانهم للشيطان وللهوى. وقد بيَّن القرآن أن الكذب على الله شرك سواء أكان الكاذب يعلم أنه كاذب أم لا، بل يكفي في ذلك أنه قال على الله تعالى ما لا سلطان له به، قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151].
(3/904)
وقال تعالى حكاية عن الخليل عليه السلام: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} [الأنعام: 81]. وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج: 71]. [627] وكذلك بيّن أن التكذيب بآيات الله كفر سواء أَعَلِمَ المكذب أنها من عند الله, أم لم يعلم ولكنه لا سلطان له على أنَّ ما كذَّب به كَذِبٌ. فمن الأول فرعون وقومه كما تقدم في الكلام عليهم, وأما الثاني فكثير، وهم أهل الريب والشك. وقد يكون الكذب بالقول فقط كأن يقول رجل: إن الله تعالى يرضى لعباده السجودَ للشمس، وهو يعلم أن الله تعالى لا يرضى ذلك وهو نفسه لا يسجد لها. وقد يكون بالفعل فقط كمن يسجد للشمس وهو يعتقد أنه لا ينبغي السجود لها ويعترف بذلك. وقد يكون بالاعتقاد فقط كمن يعتقد في نفسه أن الله تعالى يرضى السجود للشمس ولكنه لا يتكلم بذلك ولا يعمل به. وقد يكون بالثلاثة معًا أو اثنين منها معًا. وكذلك التكذيب قد يكون باللفظ فقط كمن يقول: إن الله تعالى لم يفرضْ صلاة الظهر، وهو نفسه يُصلِّيها ويعتقد أن الله عزَّ وجلَّ فرضها، وقد يكون بالفعل فقط كمن ألقى مصحفًا في قاذورة. وقد يكون بالاعتقاد فقط كأن يعتقد أن الله تعالى لم يفرض الظهر. وقد يكون بالثلاثة معًا أو اثنين منها معًا.
(3/905)
ونصّ العلماء على تكفير مَنْ كذَّب بآيات الله بقولٍ أو فعلٍ ولو كان على وجه [628] الهَزْل واللَّعِب. ومما يشهد لذلك قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65]. والكذب والتكذيب بالاعتقاد يَصْدُق بما إذا جزم بأن الله تعالى يرضى السجودَ للشمس، أوْ لَمْ يفرضْ صلاة الظهر، وما إذا ظن ذلك أو شكّ أو لم يَجْزِم بأن الله لا يرضى السجودَ للشمس، وبأنه فرض صلاة الظهر، هذا بالنسبة إلى ما هو كَذِبٌ قطعًا بأن لم يكن لصاحبه عليه سلطان، وما هو تكذيب قطعًا بأن ثبت قطعًا بأن ذلك الأمر مما جاء به الرسول عن ربه. فأما ما يُظَن أنه كذب كأن كان لصاحبه دليل مختلَف فيه نرى نحن أنه ليس بحجة وقد قال بعض المجتهدين: إنه حجة، وليس هناك برهان قاطع بأنه حجة أو ليس بحجة, فلا يُعَدُّ القول بموجبه كذبًا على الله. وكذلك ما يُظَن أنه تكذيب كهذا المثال، فإن القائل بأن ذلك الدليل حجة يرى أن مخالفه مكذِّب، فلا يُعَدُّ هذا تكذيبًا بآيات الله. فأما الدلائل الظنية المستندة إلى الأصول القطعية كخبر الواحد المستجمع لشرائط القبول فَرَدُّه مع قيام الحجة على استجماعه لها تكذيب لآيات الله تعالى. فإن قلت: أرأيت اليهوديَّ مثلًا إذا دُعِي إلى الإسلام فبحث ونظر وتدبَّر وتفكّر طالبًا للحق حريصًا على إصابته ولكنه لم يُوَفَّقْ للعلم اليقيني بأن الإسلام حقٌّ [629] بل قامت لديه شبهة يَعْتَقِد أنها يقينية أن البقاء علي اليهوديّة حقٌّ، فإذا أسلم كان في اعتقاده كاذبًا على الله عزَّ وجلَّ مكذِّبًا بآياته، فماذا حكمه؟
(3/906)
قلت: قد أجاب القرآن عن هذا بقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 68 - 69]. وحاصل الجواب: أن مَنْ بحث ونظر وتدبَّر وتفكّر طالبًا للحق حريصًا على إصابته فهو مجاهد في الله، فلا بدَّ أن يهديه الله عزَّ وجلَّ لمعرفة الحق. وقد أشكل هذا السؤال على الأئمة قديمًا، وهذا جوابه في القرآن كما ترى. فإن قلت: فقد اختلف أكابر الصحابة وأئمة التابعين في فروع الفقه، وقد قدَّمت أن من أقوالهم ما هو خطأ في نفسه وأنه لولا العذر لكان بدعة، وكان صاحبُه مبتدعًا، وأن البدعة شرك، بل قد وقع من بعضهم ما هو أصرح من هذا مما لولا العذر لكان كفرًا كما سيأتي، مع أنَّ أولئك الأكابر كانوا يبحثون وينظرون حريصين على إصابة الحق, أي أنهم قد جاهدوا في الله على وفق ما حَمَلْتَ عليه الآية. [630] قلت: فهذا يدلُّ أنه ليس المراد بهداية السبيل الهدايةَ إلى عين الحق في نفس الأمر، بل الهدايةَ إلى ما يرضي الله عزَّ وجلَّ عن المجتهد ويستحق عليه الأجر، إما أجرين وذلك إذا أصاب الحق في نفس الأمر أو أجرًا واحدًا وذلك إذا أخطأ مع عدم تقصيره, كما جاء في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو قالا: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» (1). _________ (1) البخاريّ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنَّة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، 9/ 108، ح 7352. ومسلم، كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، 5/ 131 - 132، ح 1716. [المؤلف]
(3/907)
ولهذا والله أعلم عَبَّر في هذه الآية بلفظ الجمع بقوله: {سُبُلَنَا} فتكون السبل في هذه الآية عبارة عن السبيل الأعظم ــ وهو الحق في نفس الأمر ــ وفروع ترجع إليه كما علمت، بخلاف قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، فإن سبيل الله تعالى في هذه الآية عبارة عما يَعُمُّ السبيل الأعظم والفروع التي ترجع إليه، وأما السبل فعبارة عن سبل مستقلة عن سبيله غير راجعة إليه، والسياق يدل على ذلك؛ فإن فيه: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا ... وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 151 - 153] , فالخطاب في هذه الآيات للمشركين يدعوهم إلى الإسلام؛ فالإسلام سبيل واحد وللمشركين سبل أخرى، والكلام في آية العنكبوت عامٌّ لكل كاذب ومكذب. فتدبر. [631] والحاصل أن أئمة المسلمين المجتهدين في فروع الإسلام لم يخرجوا عن سبيل الله تعالى، بل منهم من هو في حق السبيل الأعظم وهو الحق في نفس الأمر، ومنهم من هو في فرع راجع إليه، فكلهم مهديُّون إلى سبل الله عزَّ وجلَّ. وأما اليهود والنصارى والمشركون فهم في سبل أخرى ليست من سُبُل الله تعالى؛ لأنها لا ترجع إلى سبيله الأعظم وصراطه المستقيم، فمن جاهد منهم في الله فلا بدَّ أن يهديه الله إلى سبيله الذي يرضاه وهو الإسلام، كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران:
(3/908)
19]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] , أما من جاهد في الله من المسلمين ليعلم مسألة فرعية فإن الله يهديه إما إلى حق السبيل وإما إلى فرع يرجع إليه كما مرَّ. واعلم أن خطأ المجتهد المسلم إنما يكون راجعًا إلى سبيل الله ما لم يتبين أنه خطأ، فأما إذا تبين له أو لغيره أنه خطأ فإن ذلك القول ينقطع بذلك عن السبيل الأعظم ولا يرجع إليه، بل يتصل بالسبل الباطلة. وفي صحيح البخاريِّ وغيره عن هزيل بن شرحبيل، قال: سئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن وأخت، فقال: «للبنت النصف، وللأخت النصف، وأت ابن مسعود فسيتابعني». فسئل ابن مسعود، وأُخْبِرَ بقول أبي موسى، فقال: لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين! أقضي فيها بما قضى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «للابنة النصف، ولابنة ابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت». فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني مادام هذا الحبر فيكم» (1). [632] فلم تكن فتوى أبي موسى أوَّلًا ضلالًا ولا خروجًا عن الهدى؛ لأنه لا يعلم أنها خطأ. وكانت ضلالًا وخروجًا عن الهدى في حق ابن مسعود لو أفتى بها؛ لأنه يعلم أنها خطأ، وهكذا في حق أبي موسى لو أصرّ عليها بعد أن تبين له أنها خطأ، والسبب في هذا ظاهر؛ فإن المجتهد _________ (1) البخاريّ، كتاب الفرائض، باب ميراث ابنة ابنٍ مع ابنةٍ، 8/ 151، ح 6736. [المؤلف]
(3/909)
المخطئ قاصدٌ اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فهو وإن أخطأ بقوله فقد أصاب بقصده. فأما بعد تبين الخطأ فقد انتفى هذا القصد أيضًا وحَلَّ مكانه قصد آخر إن أصرّ على الخطأ, وذلك هو الهوى واتباع الشيطان والرؤساء، فانقطع ذلك الفرع عن سبيل الله عزَّ وجلَّ ورجع إلى السبل الباطلة كما ترى. واعلم أن القاضي إذا اجتهد في قضية وتبين له فيها أن الحق كذا لا يخلو أن يكون ذلك الحكم الذي تبين له هو الحق في نفس الأمر بمقتضى الأدلة الشرعية العامة، أو يكون خطأ، وإذا كان خطأ وكان القاضي عادلا بارًّا مخلصًا لله تعالى فقد يقال: إن الله عزَّ وجلَّ إنما رجَّح في نفسه ذلك الحكم لعلمه سبحانه بأنه الذي تقتضيه الحكمة في تلك القضية خاصة. وبيان ذلك: أن الأحكام العامة إنما يمكن مطابقتها للحكمة بالنسبة إلى الغالب، مثال ذلك: الحكم على الزاني المحصن بالرجم وعلى غيره بالجلد، فقد يمكن في غير الغالب أن يكون محصنٌ أولى بأن يُخَفَّفَ عنه مِنْ بِكْرٍ، كأن يكون الأول شابًّا شديد الشهوة تزوَّج وبات معها ليلة [633] وماتت، وهو فقير لا يستطيع أن يتزوَّج غيرها، وقد ابتُلِيَ بعشق امرأة جميلة وهو يتعفَّف عنها ويتجنَّب رؤيتها، فصادف أن هجمت عليه في خلوة فلم يصبر عنها فوقع عليها، ثم لم يلبث أن ندم. ويكون الثاني شيخًا كبيرًا ضعيف الشهوة غنيًّا عنده عدَّة سَرَارِي، ومع ذلك رأى امرأة قبيحة فاحتال عليها إلى أن زنى بها, ولم يندم. فأنت ترى أن الأول أولى بالتخفيف من الثاني، ولكن لما كانت الأحكام الشرعية عامة لم يمكن أن تراعى فيها الجزئيات، وإنما يراعى فيها الغالب فقط. فإذا وقع ذلك الحكم على من لا
(3/910)
يناسبه فإن البارئ عزَّ وجلَّ يَسُدُّ هذا النقصَ بالقَدَر، فيجعل لذلك الشاب مثلًا فرجًا ومخرجًا، إما بألَّا يفضحه، وإما بأن يُظْهِرَ في القضية شبهة يقوِّيها في نفس القاضي حتى يترجّح له أن هذا لا يستحقّ الحدَّ، وإما أن يُكَفِّرَ عن ذلك الشاب ذنوبًا أخرى، وإما أن يرفعه درجات في الجنة، إلى غير ذلك. وهذا معنى جليل يحتاج إيضاحه إلى إطالة ليس هذا محلَّها، وهذا المعنى هو السبب أو أحد الأسباب فيما أجمع عليه العلماء أنَّ من شرط القاضي أن يكون مجتهدًا لا يقلِّد أحدًا. فتدبر. وهو أيضًا من أسباب جَعْلِ كثير من أدلة الأحكام الشرعية غير واضحة كلّ الوضوح، ومن أسباب التعبد بخبر الواحد، ومن أسباب قولهم: الاجتهاد لا يُنْقَضُ [634] بالاجتهاد، ومن أسباب قواعدَ شرعيةٍ أخرى ليس هذا محلَّ استيفاء ذكرها. واعلم أن الطالب للحق الحريص عليه عزيز جدًّا كما مرَّ عن الغزالي، والسبب في ذلك أن للهوى مداخل كثيرة، منها: أن يميل الإنسان إلى ما كان عليه أبواه، كما في الحديث الصحيح: «ما من مولودٍ إلَّا يولد على الفطرة، وأبواه يهودانه أو ينصرانه» الحديث (1). ومنها: أن يميل إلى ما كان عليه أستاذه. ومنها: أن يميل إلى ما اعتاده وأَلِفَه. ومنها: أن يميل إلى ما رأى عليه مَن يحبه أو يعظمه. ومنها: أن يميل _________ (1) البخاريّ، كتاب القدر، باب: «الله أعلم بما كانوا عاملين»، 8/ 123، ح 6599. مسلم، كتاب القدر، باب معنى: «كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة»، 8/ 52، ح 2658. [المؤلف]
(3/911)
عما رأى عليه مَن يبغضه أو يستحقره، قال تعالى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27] , وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13]. ومنها: أن يميل إلى ما وقع في ذهنه أوَّلًا، فيصعب على نفسه أن تعترف أنها أخطأت أوَّلًا، ولا سيما إذا كان قد أظهر قوله الأول. وإذا تمكَّن الهوى عميت البصيرة, فَتُعْرَضُ على صاحبه الحجة النيرة فيرى أنها شبهة فقط، حتى إنه كثيرًا ما يقول: إنها شبهة لا أقدر على حَلِّها، وتُعْرَضُ عليه الشبهة الضعيفة [635] الموافقة لهواه فيرى أنها برهان قاطع. ومسالك الهوى قد تكون خفيَّة جدًّا فيتوهَّم الإنسان أنه لا سلطان للهوى عليه وأنه ممن يجاهد في الله طلبًا للحق أَنَّى كان، مع أنه في الحقيقة على خلاف ذلك، ولولا هذا لما كنت تجد الناس لا يخرجون عن مذاهب آبائهم إِلَّا نادرًا. ولهذا لم يقتصر القرآن على دعوة الناس إلى البحث والنظر فقط، بل أرشدهم مع ذلك إلى أنهم إن لم يتيقنوا أنَّ ما يدعوهم الله (1) هو الحق فلا يمنعهم ذلك عن اتِّباعه؛ فإنه أحوط لهم، قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ _________ (1) كذا في الأصل، ولعل الرابط المجرور (إليه) سقط سهوًا.
(3/912)
قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 43 - 46]. وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. [636] وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10]. ومن هنا يُعْلَم أن قوله تعالى: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] لا تقتصر معنى الهداية فيه على تيسير البرهان القاطع، بل يحصل بذلك وبتيسير الدليل الذي يتبين به للناظر أن اتِّباع الإسلام أحوط له. ولكنه إذا عمل بالأحوط ودخل في الإسلام يسَّر الله تعالى له بعد ذلك ما يُثْلِج صدرَه إن شاء الله تعالى، كما مرّ في تفسير قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 14]. وهكذا يقال فيمن تردَّد من المسلمين في أمر: أَشركٌ هو أم مستحب أو مباح؟ فإنه قد ينظر ويبحث فلا يتضح له الحق، وإنما ذلك ابتلاء من الله عزَّ وجلَّ له أَيعمل بالقدر الذي ظهر له [637] من الحق وهو الاحتياط أم لا،
(3/913)
فإن عمل به فعسى أن ييسر الله تعالى له ما يوضح له الحق إن شاء الله تعالى. فاشدد يديك بهذا الأمر؛ فإنه إن لم تستقرَّ في يديك فائدة من هذه الرسالة إلا هو (1) فقد فزت، وقد مرّ ما يتعلق بهذا في صفحة (. . .) (2). الأعذار قد تعرَّضت لهذا البحث في مواضع (3)، وأريد أن أبسط الكلام عليه هاهنا، مستعينًا بالله تعالى. قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [خاتمة البقرة]. فقوله عزَّ وجلَّ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} نصٌّ قاطع، وقد جاء نحوه في آيات أخرى، [638] وهو مطابق لما جُبِلَت عليه النفوس وشهدت به بَدائِهُ العقول أنَّ الله سبحانه عدل حكيم رؤوف رحيم. _________ (1) المستثنى هو الأمر المذكور آنفًا. (2) بيّض المؤلف لرقم الصفحة, وهي ص 900 - 901. (3) منها فصل حكم الجهل والغلط ص 132 - 143.
(3/914)
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، قال: «نعم»، {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}، قال: «نعم»، {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}، قال: «نعم ... »، وفي رواية أخرى: «قد فعلت، قد فعلت» (1). ويظهر أنه ليس المراد بالنسيان والخطأ ما لا يكون من العبد فيه تقصير قطعًا، وليس المراد بـ {مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ما لا نطيقه ولو بذلنا أقصى جهدنا، كأن يلمس أحدُنا الشمس، أو يحمل جبلًا أو يصلِّي في اليوم ألفَ ألفَ ركعة، فإن هذه الأمور قد نُفِيَتْ بقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} , وإنما المراد ــ والله أعلم ــ: النسيان والخطأ اللَّذين (2) لا يخلو العبد من تقصيرٍ مَّا فيهما، فإننا نجد أحدنا ينسى الصلاة أو ينام عنها حتى يخرج وقتها، ولو قيل له: إذا حضرْتَ اليوم وقت الصبح بباب الملِك حصل لك مال عظيم وهو محتاج لم يفتْه ذلك الوقت، وكذلك نجد المفتيَ إذا سُئِل عن مسألة فيها إراقة دم بذل فيها من الجهد في البحث والنظر ما لا يبذله إذا سئل عن مسألة في البيوع مثلًا. والمراد والله أعلم بـ {مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ما فيه مشقة شديدة، ويشهد _________ (1) مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قوله تعالى: «وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه»، 1/ 81، ح 125 - 126. [المؤلف]. لكن الرواية الأولى من حديث أبي هريرة، والرواية الثانية من حديث ابن عبَّاسٍ، وسقط لفظ (ربنا) في الموضع الأخير على المؤلِّف. (2) كذا في الأصل.
(3/915)
لهذا قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] , وقوله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] , وما في معناها, وقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إن الدين يُسْرٌ» الحديث (1). وهذا هو الذي فهمه الفقهاء، فقالوا: إنه يُعْفَى عما يَشُقُّ الاحترازُ عنه من النجاسات [639] ونحوها. وقالوا: إن المرأة إذا اشتبهت بأجنبيَّاتٍ غير محصوراتٍ لم يحرم على أبيها مثلًا أن يتزوَّج واحدةً منهنَّ، بل جعلوا هذا المعنى أصلًا من أصول الشريعة، فقالوا: «إن المشقة تجلب التيسير»، ووسَّعوا دائرة الإكراه الذي يبيح إظهار الكفر فلم يحصروه في تَيَقُّنِ القتل إذا لم يعمله. فإن قلت: ولكن النفي في قوله: {لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} يخالف ما ذُكِرَ؛ فإنه نصٌّ في نفي جنس الطاقة. قلت: صدقت، ولكن معنى الطاقة القدرة على الشيء بدون صعوبة شديدة، وقد نبَّه على ذلك الراغبُ، فقال: «فقوله: {مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} أي: ما يصعب علينا مزاولته، وليس المعنى: لا تحمِّلنا ما لا قدرة لنا به ... » (2). أقول: ومما يبين ذلك حديث المعراج وهو في الصحيحين وغيرهما من طرقٍ، وفيه مراجعة موسى لمحمَّد عليهما الصلاة والسلام في فرض الصلوات، وقوله له: «إن أمتك لا تستطيع ذلك»، وفي رواياتٍ: لا تطيق _________ (1) صحيح البخاريِّ، كتاب الإيمان، بابٌ: الدينُ يسرٌ، 1/ 16، ح 39. [المؤلف] (2) المفردات 532.
(3/916)
ذلك، حتى إنه قال له ذلك في خمس صلواتٍ (1). ولكن يجب أن تعلم أنه ليس كل نسيان وخطأ معفوًّا؛ فإنَّ مَنْ تشاغل بلهو محرَّم أو مكروه فأنساه الصلاة ليس بمعذور. وكذلك مَنْ سمع آية فَهِمَ منها حُكْمًا، فعمل به، وأفتى، واستمرَّ على ذلك، ولم يتدبَّر القرآن والسنن الثابتة مع احتمال أن يكون فيها ما يخالف فَهْمَه. فكأنَّ النسيان والخطأ إنما يُعذر بهما إذا انتفى التقصيرُ، ولكن التقصير أمر مشتبه؛ فإن العلماء صرَّحوا بأنه يكفي المجتهد أن يبحث حتى يغلب على ظنه أنَّه لا مخالف لما فهمه، وغلبةُ الظن أمر يتفاوت، وهكذا المشقَّة التي إذا وُجِدَتْ في الشيء صدق أنَّه لا يُطاق هي أمر غير منضبط أيضًا، ولكننا نتتبَّع أمثلةً مما ثبت فيه عُذْرُ مَن جرى منه ما لولا العذرُ لكان كفرًا، فأقول: قد سبق أنَّ الكفر كلَّه يرجع إلى الكذب على الله تعالى والتكذيب بآياته. [640] فمِمَّن يُعْذَر إجماعًا مَنْ كَذَبَ على الله تعالى بقوله فقط بسبق اللسان، كما تقدَّم في الحديث الصحيح، «فقل: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح»، وقد تقدَّم (2). ومَن تلا آية كان يعتقد أنه يحفظها فزاد فيها أو نقص أو غيَّر شيئًا فيها على سبيل الخطأ، فإذا نُبِّهَ اعترف بأنَّه أخطأ، ومثل هذا في الأحاديث. ومَن أُكْرِه وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان بشرط ألَّا يظهر منه ما يدلُّ على _________ (1) انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب الصلاة، بابٌ: كيف فُرِضَت الصلاة في الإسراء؟ 1/ 79، ح 349. وصحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب الإسراء بالرسول، 1/ 103، ح 163. [المؤلف] (2) انظر ص 856.
(3/917)
الاختيار, بخلاف مَن ظهر منه ذلك, كما تقدَّم فيمن بقي بمكة من المسلمين بعد الأمر بالهجرة، وهو قويٌّ (1). وَمَن حَكَى كَلامَ غيرِه مصرِّحًا بذلك، كمن يتلو قول الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]، على أنَّ الحاكيَ لا يُطلَق عليه أنه كَذَبَ. ومثله مَن يحكي كلامًا لغيره ثم يردفه باعتراضٍ عليه، كأن يقول: مِن لازِمِ هذا القول أن يكون الله تعالى كذا ويذكر وصفًا مُحالًا. وكذلك مَن يَفْرِضُ اعتراضًا ليجيب عنه كأن يقول: فإن قيل: إنَّ الله تعالى يرضى أن تُعبد الملائكة معه لأنهم مقرَّبون لديه فالجواب .... وربما يظهر عذرُ مَنْ كان قريب عهد بالإسلام أو عاش ببادية بعيدة عن العلماء إذا نطق بكذبٍ على الله تعالى على سبيل الضحك واللعب ظانًّا أنَّ مِثل ذلك لا يكون كفرًا، كما يُحْكَى أنَّ عدنانيًّا افتخر على قحطانيٍّ قائلًا له: محمد من عدنان، فأجابه القحطاني قائلًا: الله من قحطان، تعالى الله عما قال. لكنه إذا قيل [641] بالعذر يشتبه الحال فيمن كان مسلمًا بالغًا قد مضت له بعد بلوغه مدَّةٌ تمكَّن فيها من التعلُّم، على أنَّ في عذر قريبِ العهد بالإسلام ونحوه نظرًا؛ لأنَّه يعلم أنَّ قوله كذبٌ وأنَّ في ذلك الكذب سوءَ أدب وانتهاكَ حُرْمَة، وإن لم يعلم أنَّه يبلغ الكفر، فالله أعلم. وممن يُعْذَرُ إجماعًا ممن كذب على الله تعالى بفعله فقط: مَن أُكْرِه وقلبه مطمئن بالإيمان بالشرط المتقدم، ومَن أخطأ كأعمى تلا آية سجدة _________ (1) راجع ص 84 - 87.
(3/918)
فسجد إلى جهة يظنها القبلة وكان أمامه صَنَمٌ يَظْهَرُ لمن يَرَى أنَّ السجدة للصنم. ويظهر لي عذرُ مَنْ رأى تمثالًا يشبه صورةَ وَلَدٍ له غائب فاعتنق التمثال وَقَبَّلَهُ بداعي الشوق إلى ولده فقط، فإن كان يعلم أن ذلك التمثال صنم يُعبد ففي قَبُول عذره نظر. وهكذا مَن كان قريب عهد بالإسلام أو عاش ببادية بعيدًا عن العلماء إذا سجد أمام صنم مثلًا على سبيل الهزل والاستهزاء كما مَرَّ نظيرُه في الكذب بالقول. وممن يُعْذَرُ ممن كذب على الله تعالى باعتقاده: المجتهدُ في الفروع إذا اجتهد فظهر له ما ظنَّه سلطانًا على حُكْمٍ فاعتقده، وكذا مَن قلَّده بشرطه المتقدِّم فيما مرَّ في الكلام على البدع (1). وكذلك يُعْذَرُ مَن كان قريب عهد بالإسلام إذا توهَّم جواز شيءٍ مخالفٍ لشهادة أن لا إله إلا الله مخالفةً غير صريحة، كما مَرَّ في قول بني إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، وقال بعض المسلمين للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: اجعل لنا ذات أنواط, وقد تقدَّم (2) حديث: «اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل». وليس من الشرك الذي عُذِرَ صاحِبُهُ استئذانُ قيس بن سعد النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم [642] في السجود له، وقد تقدَّم الحديث (3)؛ لأنه رأى _________ (1) ص 883 - 888. (2) انظر ص 143 فما بعدها. (3) لم أقف عليه فيما سبق، وإنما وقفت عليه في كتابه «تحقيق الكلام في المسائل الثلاث» في مبحث التبرك ص 238، ونص الحديث «عن قيس بن سعد قال: أتيت الحيرة ... فرأيتهم يسجدون لمَرْزُبان لهم فقلت: رسول الله أحق أن يسجد له. قال: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إني أتيت الحِيرة فرأيتهم يسجدون لمَرْزُبان لهم فأنت يا رسول الله أحق أن نسجد لك! قال: «أرأيت لو مررتَ بقبري أكنتَ تسجد له». قال: قلت لا. قال: «فلا تفعلوا لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرتُ النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل الله لهم عليهن من الحق». رواه أبو داود في سننه، كتاب النكاح باب في حق الزوج على المرأة 2/ 244 ح 2140.
(3/919)
قومًا من الأعاجم يسجدون لمرزبان لهم فرأى أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أحق بأن يُسْجَدَ له؛ فإنَّ السجود للمخلوق إنما ينافي معنى: (لا إله إلا الله) إذا لم يأذن به الله، وقيسٌ لم يسجد، وإنما سأل النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ولو أذن له لدلَّ ذلك على الإذن من الله عزَّ وجلَّ، وكذا يقال فيما جاء من الأحاديث في معنى حديث قيسٍ. وقد قال ابن القيم في النونية (1): تالله لو يرضى النبي سجودنا ... كنا نخر له على الأذقان وكذلك يُعْذَرُ مَنْ اشتبه عليه معنى: لا إله إلا الله، بعد القرون الأولى, فظنَّ معناها قاصرًا على نفي وجوب الوجود عن غير الله تعالى, حتى تقوم عليه الحجة، أو يَبْلُغَهُ أنَّ بعض العلماء يُفَسِّرُها على غير ما فهمه، وربما يُعْذَرُ وإن بلغه ذلك إذا رأى علماء جهته يقولون: إنَّه لم يخالف في هذا إلا فلان، وهو جاهل ضالٌّ مبتدع كافر مخالف لإجماع الأمة، ونحو ذلك. فأما إذا اختلف الناس عليه وبلغه أنَّ ذلك المخالف يوافقه جماعة من العلماء والعقلاء ويحتجُّ بكتاب الله وسنة رسوله فإنه لا يُعذر فيما يظهر. ومما يَدُلُّ على هذا قول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ _________ (1) الكافية الشافية 247.
(3/920)
مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 16]. فقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} مفهومه أنَّ الحال قبل الاستجابة كان بخلاف ذلك، ووجهه فيما يظهر أن مَن كان بعيدًا عن الحجاز فبلغه أنَّ رجلًا بمكة [643] يزعم أن الله أرسله، والناس كلهم حتى أقاربه مطبقون على تكذيبه ويقولون: هو مجنون ومسحور ونحو ذلك، فإنَّ هذا البعيد قد يغلبه تصديق الجمهور مع ما عنده من الشبهة، فربما يُعذر بذلك. فأما بعد ما استجيب للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فآمن به جماعة واتبعوه وفارقوا دين آبائهم وعَادَوْا أهليهم وأحبائهم وعرَّضوا أنفسهم وأموالهم للتلف فلم يبق عذر لهذا البعيد، وإن كان له شبهة، بل تَعَيَّن عليه أن يأتي النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ويسمع كلامه ويتدبَّر ما يقوله بنية خالصة صادقة؛ فإنه إن فعل ذلك تبين له الحق بمقتضى قول الله عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] على ما تقدَّم. نعم، مَن لم يبلغه الاستجابة فربما يُعْذَرُ، وعليه يُحْمَلُ قول الغزالي في فيصل التفرقة (1): «وصنف بلغهم اسم محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ولم يبلغهم مبعثه (2) ولا صفته، بل سمعوا أن كذَّابًا يقال له فلان، ادّعى النبوة، فهؤلاء عندي من الصنف الأول» ــ أي من الذين لم يسمعوا اسمه أصلًا ــ فإنهم لم يسمعوا ما يحرِّك داعية النظر. _________ (1) ص 84. نشرة محمود بيجو. (2) في مطبوعة فيصل التفرقة: نعته. وهو الصواب.
(3/921)
وسِرُّ المسألة أنَّ البعيد عن الحجاز ليس عنده برهان على بطلان دعوى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حتى لا يلزمه السفرُ إليه، وسماعُ كلامه، ولكن إطباق الناس على تكذيبه شبهة قوية، فإذا تبعه [644] جماعة وآمنوا به وصدّقوه سقطعت هذه الشبهة. فأما مَنْ بلغه من المسلمين في هذا الزمان أن رجلًا ادّعى النبوّة وتبعه آلاف من الناس فإنَّه لا يلزمه إتيانُه وسماعُ كلامه وتدبُّر ما يقول؛ لأن عندنا براهينَ قطعيةً على كذب مثل هذا المدَّعي، ولو اتبعه الثقلان. ولعله يُعْذَر مَنْ بلغه أنَّ العلماء اختلفوا ولم يمكنه التفرُّغ للنظر والتفكر في حجج الفريقين، ولكن إنما يُرجى عذره فيما عدا الأمور التي يتوقَّف القطع بأنه لا إله إلا الله على القطع بها، وقد مَرَّ بيان ذلك (1)، فلا يُرْجَى عذرُه إلا بالنسبة إلى الأمور التي يكفي فيها الدليل الظني المستند إلى أصل قطعي، ولكن عليه أن يحتاط فيجتنب الأمور المختلف فيها. فإن قلت: إن جميع الفروع الشرعية المختلف فيها تدخل في هذا القبيل كما تقدم، وقد مضى سلف الأمة وخلفها على أنه يكفي العامي تقليد مجتهد، ولا يجب عليه الاحتياط. قلت: قد تقدَّم القول في هذا في ص (2). وإذا قلنا بأنه يرجى أن يعذر هذا الرجل إذا احتاط فمعنى ذلك أنه إذا لم _________ (1) وهي القطع بأنه لا مدبر في الكون استقلالًا إلَّا الله، وأنه لا مستحق للعبادة إلا الله عزَّ وجلَّ، والعلم بحقيقة العبادة. انظر ص 876. (2) بيَّض المؤلِّف لرقم الصفحة، وهي ص 900.
(3/922)
يحتط لا يُرجى عذره. وكذلك أقول، على معنى أني لا أرجو له ألَّا يأثم، فأما الحكم عليه بأنه يكون كافرًا أو مشركًا فإني أدع الأمر في ذلك إلى نظرك. واعلم أن كثيرًا من البلدان إلى الآن يتبيَّن أن أهلها معذورون وإن لم يحتاطوا؛ فإنك تجد أكثر نواحي اليمن مثلًا [645] لم يبلغهم في هذه المسائل أكثرُ من أنَّ رجلًا يقال له محمد بن عبد الوهاب نَبَغَ بِنَجْدٍ، وكَفَّرَ سلف الأمَّة وخَلَفها، وخرق الإجماع، وزعم أنَّ العصا أفضل من النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، واستحلَّ دماء المسلمين، وليس له حجَّة إلا أنه يحرِّف الآيات القرآنية والأحاديث النبوية إلى هواه، وأنه كان رجلا جاهلًا لا يعرف العربية ولا المعاني والبيان، ولا أخذ العلم عن العلماء، وأنَّ العلماء كلَّهم أنكروا عليه وكفَّروه، حتى أبوه وأخوه، وإنما اتبعه أعراب جفاة غَرَضُهُمْ من اتِّباعه استحلالُ دماء المسلمين وأموالهِم، وأنهم يبغضون النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وأنهم إذا تشهَّدوا قالوا: أشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا يقولون: وأشهد أنَّ محمدا رسول الله، وأنهم أرادوا أن يمنعوا (أشهد أنَّ محمدًا رسول الله) من الأذان، ولكنهم خافوا من افتضاح عقيدتهم فأبقوها، وأنهم إذا دخلوا قرية قتلوا الرجال والنساء والصبيان، وتَحَرَّوا بالقتل خاصَّةً مَنْ يُنْسَبُ إلى العلم والصَّلاح، وإذا طلب منهم أحد من علماء المسلمين أن يناظروه قالوا: ليس عندنا إلَّا السيف، وإذا احتجَّ عليهم أحد بكتاب الله وسنة رسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قالوا: حسبنا ما قاله الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأشباه هذه الحكايات، يزعم نَقَلَتُهَا بألسنتهم أو في كتبهم أنها [646] متواترة لا ريب فيها. وإن ظفر بعضُ طلبة العلم في تلك الجهات ــ أعني أكثر نواحي اليمن ــ
(3/923)
بنسبة الخلاف في تلك الأمور إلى ابن تيميَّة فمقرونًا بتكفير ابن تيميَّة وتضليله، وأنه كان يبغض النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وابنَ عمه عليًّا عليه السلام، وأنه كان يقول: إنَّ الله تعالى شخص مثل الإنسان جالس على العرش، وأنه قال: إنَّ العرش قديم، وأنه خرق الإجماع في نحو عشرين مسألة، وأنَّ علماء المسلمين في عصره أجمعوا على تكفيره وأفتوا بقتله، ولكن امتنع السلطان حينئذ من قتله واكتفى بسجنه إلى أن مات. فأمَّا بعد دخول السعوديِّين الحجاز فإنها لا تزال تُرْوَى عنهم كلَّ سنة حكايات شنيعة جدًّا. وحبَّذا لو أنَّ الحكومة السعودية توعز إلى أصدقائها في كلِّ جهة من جهات العالم أن يكتب إليها كلٌّ منهم كُلَّ سنة بما يقوله الحجّاج وغيرهم عن الحجاز وأهله وحكومته، ثم تنظر في ذلك، فما كان صحيحًا ولها عذر بَيَّنَتْه، وما كان صحيحًا ولا عذر عنه تداركتْه، وما كان كذبًا أعلنت تكذيبه. والمقصود هنا إيضاح أنَّ كثيرًا من البلاد الإسلاميَّة المنتشرة فيها البدع معذورون، والله أعلم. فإن قلت: كيف يُعْذر مَن وقع عنه عَمَلٌ من أعمال الشرك، وقد قال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116]؟ قلت: [647] مَن صَحَّ عُذْرُه لا يصدق عليه أنَّه أشرك، كما أنَّ مَن تزوَّجَ امرأة لا يشعر بأن بينه وبينها مَحْرَمِيَّة، فبانت أنها أخته من الرضاع مثلًا, لا يصدُق عليه بأنه زنى بأخته، لكن لو أراد أن يتزوَّج امرأة فقال له قائل: إنها أختك من الرضاع، وكثير من الناس يعلمون ذلك لو سألتَهُمْ أخبروك، فأبى
(3/924)
أن يسأل وأقدم على نكاحها لم يكن معذورًا. وممن يُعْذَر ممن كذَّب بآية من آيات الله: مَن سبق لسانُه إلى لفظٍ فيه تكذيب، وَمَن أُكْرِه وقلبه مطمئن بالإيمان بالشرط السابق، ومَن ظنَّ أنها ليست من عند الله وكان له عذر في ظنِّه، مثل أن يكون قارئًا للقرآن يظنُّ أنه إذا تُلِيَتْ عليه آية من القرآن لا يشتبه عليه أنها منه، فتُلِيت عليه آية فظنَّ زيادةَ كلمة أو نقصانَها فجزم بذلك خطأً على شرطِ أَنَّهُ إذا رُوجِعَ وَبُيِّنَ له غَلَطُه رَجَعَ. ومن هذا القبيل ما وقع لابن مسعود من إنكار أن تكون المعوِّذتان من القرآن، وذلك أنه صحب النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم طويلًا وقرأ عليه القرآن فلم يَتَّفِقْ له أن يُقرئه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم المعوِّذتين على أنهما من القرآن، ولا ذكر أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قرأ بهما في الصلاة، وإنما سمع النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يعوِّذ بهما الحسن والحسين عليهما السلام مع أمور أخرى تجمَّعَتْ عنده وقويت في نفسه حتى ظَنَّ ما ظَنَّ (1). ونحن على يقينٍ أنه لو اتَّفَقَ مراجعةُ جماعة من الصحابة له بحيث [648] يكون خبرُهم قطعيًّا لرجع. وقد وقع لأفرادٍ من الصحابة مثل ما وقع لابن مسعود، وقد جاء عن أُبَيّ بن كعب أنه كان في مصحفه أشياء ليست عند جمهور الصحابة من القرآن؛ لأنهم علموا أنَّ تلاوتها نُسِخت. وفي صحيح البخاريِّ وغيره عن ابن عباس قال: قال عمر رضي الله عنه: أقرؤنا أُبيٌّ، وأقضانا عَلِيٌّ، وإنا لَنَدَعُ _________ (1) انظر: فتح الباري 8/ 525 - 526. [المؤلف]
(3/925)
من قول أُبَيٍّ، وذاك أن أُبَيًّا يقول: لا أَدَعُ شيئًا سمعته من رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وقد قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} (1). وقد اختلفت الأمَّة في {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، واتفقت على عذر المثبت والنافي، وقد جرى لعمر وأُبيٍّ وابن مسعود وغيرهم إنكارُ قراءة مَن قرأ مخالفًا لما أقرأهم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حتى بَيَّنَ لهم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنَّ تلك القراءات كلَّها حق، فأما عمر وابن مسعود وغيرهما فاكتفوا بذلك (2). وأما أُبَيٌّ فَعَرَضَ له ما تقدَّم أوائلَ الرسالة (3) حيث قال: فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنتُ في الجاهلية، فلما رأى رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ما قد غَشِيَنِي ضرب في صدري فَفِضْتُ عَرَقًا، وكأنما أنظر إلى الله فَرَقًا (4)»، وذكر الحديث (5). _________ (1) البخاريّ، كتاب التفسير، سورة البقرة، باب قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا}، 6/ 19، ح 4481. [المؤلف] (2) انظر: البخاريّ، كتاب فضائل القرآن، بابٌ: «أنزل القرآن على سبعة أحرفٍ»، 6/ 185، ح 4992. وباب: «اقرأوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم»، 6/ 198، ح 5062. وصحيح مسلمٍ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرفٍ ... ، 3/ 202 - 203، ح 818. [المؤلف] (3) ص 32. (4) أي: فَزَعًا. (5) صحيح مسلمٍ، الموضع السابق، 2/ 202 - 203، ح 820.
(3/926)
قال الأُبِّيُّ (1) في شرح مسلم بعد أن نقل كلام المازَري (2) ثم كلام القرطبي: «قلت: وكلامه وكلام غيره قاضٍ بأنهم حملوا الحديث على أنَّ معناه: فوقع في نفسي من تكذيبي إيَّاه لتصويبه قراءة الرجلين أكثر من تكذيبي إيَّاه قبل الإسلام، فلذلك أَوَّلُوه بأنَّ الذي وقع في نفسه إنما هو نزغة وَخَطْرَة لا تستقرُّ في النفس، والخَطْرةُ التي لا تستقرُّ في النفس غيرُ مؤاخَذٍ بها؛ لأنه لا يقدر على دفعها»، ثم ذكر تأويلًا ضعيفًا جدًّا (3). وأقول: هذه النزغة ليست من باب الوسوسة التي يلقي بها الشيطان في [649] صدر الإنسان خواطر هو يعلم أنها كذب كما في حديث مسلم عن أبي هريرة قال: جاء ناس من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلَّم به، قال: «أوَ قد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان» (4)؛ فإنهم فسَّروا هذه الوسوسة بما يلقيه الشيطان في خاطرك وأنت _________ (1) محمد بن خليفة بن عمر التونسي الوشتاني أبوعبدالله، محدِّث فقيه توفي سنة 828 هـ، من مؤلفاته: «إكمال المعلم في شرح مسلم». انظر: البدر الطالع 2/ 169، معجم المؤلفين 9/ 287. (2) محمد بن علي بن عمر بن محمد التميمي المازري المالكي، ويعرف بالإمام، أبوعبدالله، محدث حافظ فقيه أصولي متكلم أديب، ولد بمدينة المهدية بأفريقية وتوفي بها في ربيع الأول سنة 536 هـ، من تصانيفه: المعلم بفوائد مسلم, وتعليق على المدونة، وشرح التلقين. انظر: سير أعلام النبلاء 20/ 104، معجم المؤلفين 11/ 32. (3) 2/ 430. [المؤلف]. وانظر: المعلم 1/ 463 - 464، والمُفهم 2/ 451 - 452. (4) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان، 1/ 83، ح 132. [المؤلف]
(3/927)
تعلم يقينًا بطلانَهُ, كما جاء في حديث آخر أنه يلقي في خاطر الإنسان: «هذا اللهُ خلق الناسَ فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ » (1) , فإن الإنسان يخطر له خاطر وهو يعلم موقنًا أنَّ الله تعالى خالق كل شيء، وأنه لم يزل ولا يزال. ويُحْكَى أنَّ رجلًا جاء إلى بعض العلماء، فقال له: إنَّ الشيطان قد أضرّ بي، يقول لي: قد طَلَّقْتَ زوجتك، قد طَلَّقْتَ زوجتك. فقال له العالم: أَوَ لَمْ تُطَلِّقْهَا وأنا شاهد؟ قال: لا، والله ما طلَّقتُها. فراجَعه في ذلك، فقال: اتَّقِ الله فِيَّ؛ فإنها والله زوجتي، والله ما طلَّقتها قطُّ. فقال له العالم: فإذا جاءك الشيطان فاحلف له كما حَلَفْتَ لي. هذا معنى القصَّة دون لفظها. والذي عرض لأُبيٍّ شيءٌ أَشَدُّ من هذا إذا حُمل الحديث على ما فهموه. وعندي أنَّ المعنى: فسقط في نفسي شيء من التكذيب ليس كالتكذيب إذ كنت في الجاهلية، أي بل دونه؛ فقد اتَّفق أهل اللغة على أنَّ قولهم في المَثَلِ: ماء ولا كصَدَّاء، معناه: هذا ماء جَيِّد، وليس كماء صَدَّاء في الجودة، بل دونه. وكذا قالوا في المثل الآخر: مَرْعىً ولا كالسَّعْدان (2). والحكايات التي ذكروها في أصل هذين المثلين صريحة في ذلك، والقواعد تقتضي ذلك. _________ (1) صحيح مسلمٍ، الموضع السابق، 1/ 83 - 84، ح 134. [المؤلف] (2) صدَّاء: رَكِيَّة لم يكن عندهم ماء أعذب من مائها، وأمَّا السَّعْدان فنبات وعشب تأكله الإبل، ويطيب لبنها عليه، وهو من أفضل مراعيها، فإذا رأوا عَلَفًا دونه قالوا هذه المقالة. يُضرب المثلان للشيء يُفضَّل على أقرانه وأشكاله، وللرجل يُحمد شأنه، ثم يصير إلى آخر أكثر منه وأعلى. انظر المثلين والحكايات في أصلهما في الأمثال لأبي عبيد، ومجمع الأمثال للميداني 2/ 275 - 278.
(3/928)
[650] وعلى هذا فالأمر الذي سقط في نفس أُبيٍّ رضي الله تعالى عنه دون تكذيبه إذ كان في الجاهلية، ولكن مع ذلك يظهر لي أنه أَشَدُّ من الوسوسة الفارغة. وفي كلام الأُبِّيِّ ما يؤخذ منه أنَّ العذر مَبْنِيٌّ على مجموع أمرين: الأوَّل: عدم استقرار ذلك العارض. والثاني: عدم القدرة على دفعه. وقد يقال: لماذا لا يكفي عدم القدرة، وقد قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}؟ والجواب: أنه لا يمكن أن يجتمع استقرارُها في النفس مدَّةً طويلةً، وعدم قدرته على الدفع، بل إنما تستقرُّ مدَّةً طويلةً إذا قَصَّرَ في البحث والنظر الصادق، بدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} كما مرّ، بخلاف النزغة العارضة فإنها تسبق النظر والمجاهدة. ومما يشهد لهذا قول الله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 200 - 201]. وقد تقدَّم في أوائل الرسالة (1) الإشارة إلى وقائع أخرى تشبه واقعة أُبَيٍّ رضي الله عنه. ومن الآثار في الأعذار ما جاء أنَّ أَمَةً زنت في عهد عمر بن الخطاب _________ (1) ص 32 - 33.
(3/929)
رضي الله عنه، فسألها فاعترفت اعترافًا يظهر منه أنها لم تعلم حرمة الزنا، فاستشار عمرُ أكابر الصحابة فقال له عثمان: إنما الحدُّ على من عَرَفَهُ، وأراها تستهلُّ به (1). فيؤخذ من هذا أنهم فهموا أنَّ الأَمَةَ كانت ترى الزنا مباحًا، ومع ذلك عذروها فلم يُكَفِّرُوها ولا حَدُّوها (2). ومنها: توهُّم بعض [651] الصحابة في زمن عمر أن الخمر حلال للمتقين المحسنين، واحتجَّ بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ... لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 90 - 93]. فعذره الصحابة وبيَّنوا له خطأه ولم يكفِّروه، ولكنهم حَدُّوه (3). ومنها حديث الصحيحين وغيرهما: «كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا متُّ فاحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذرُّوني في _________ (1) سنن البيهقيّ، كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود بالشبهات، 8/ 238 - 239. [المؤلف]. وقوله: تستهلُّ به، أي: تُعْلن به ولاتكتمه، كما بُيِّن في الرواية، ولكنَّ المؤلِّف أوردها مختصرة. (2) أي: حدَّ الرجم؛ لأنها كانت ثيِّبًا، وإنما جلدوها وغرَّبوها تعزيرًا كما بيَّنته الرواية. (3) انظر: المستدرك، كتاب الحدود، كان الشارب يُضْرب على عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالأيدي والنعال، 4/ 375. وسنن البيهقيّ، كتاب الأشربة والحدِّ فيها، باب مَن وُجِد منه ريح شرابٍ ... ، 8/ 315 - 316. [المؤلف]. وهو في مصنف عبد الرزاق، كتاب الأشربة، باب من حُدَّ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - 9/ 240 - 243 ح 17076.
(3/930)
الريح، فوالله لئن قدر عليَّ ربي ليعذِّبنِّي عذابًا ما عذَّبه أحدًا، فلما مات فُعِلَ به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلتْ، فإذا هو قائم بين يدي الله، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رَبِّ خشيتك، فغفر له» (1). قال في الفتح: «قال الخطَّابي: قد يستشكل هذا فيقال: كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى؟ والجواب: أنه لم ينكر البعث وإنما جهل فظنَّ أنَّه إذا فُعِلَ به ذلك لا يُعاد .... قال ابن قتيبة: قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين فلا يكفرون بذلك ... » (2). أقول: والحديث ثابت من رواية جماعة من الصحابة عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، منهم حذيفة وسلمان وأبو هريرة وأبو سعيد وأبو مسعود البدريُّ. ومنها: الحديث الصحيح [652] في الأَمَة التي سألها النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أين الله»؟ فقالت: في السماء، فقال: «مَن أنا»؟ قالت: رسول الله، فقال لسيدها: «أعتقها؛ فإنها مؤمنة» (3). _________ (1) البخاريّ، كتاب أحاديث الأنبياء، باب 54، 4/ 176، ح 3479. مسلم، كتاب التوبة، بابٌ في سعة رحمة الله تعالى، 8/ 97 - 99، ح 2756 - 2757. [المؤلف] (2) فتح الباري 6/ 336. [المؤلف]. وانظر تأويل مختلف الحديث ص 81. وقد تقدم للمؤلف الكلام على الحديث وتوجيهه بتوسع في ص 132 فما بعدها. (3) انظر: صحيح مسلمٍ، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ... ، 2/ 71، ح 537. [المؤلف]
(3/931)
فقد قال منكرو الجهة: إنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عذرها في ظنِّها أنَّ الله تعالى في السماء بجهلها، وضَعْف عقلها، وقلَّة علمها، ولم يُبَيِّنْ لها خطأها؛ لأنها لا استعداد لها لإدراك مثل هذه الحقيقة، أي أن الله تعالى ليس في جهة. ومثبتو الجهة لا ينكرون العذر، ولكنَّهم يحتجُّون بالحديث؛ لأنَّ فيه قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: أين الله؟ ولأنه لو كان يعلم أنها مخطئة لبيَّن ذلك لمن حضر القصَّة من أصحابه أو على الأقلِّ لبعضهم؛ فإنه لا يجوز أن يُقال: إنهم جميعًا لم يكن لهم استعداد لإدراك الحقائق. ومنها: أنه ثبت عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قوله: «مَن حلف بغير الله فقد أشرك»، وثبت عنه أنه سمع بعض أصحابه يحلف بأبيه قبل أن يعلموا ما في ذلك، فنهاهم عن ذلك وعذرهم فيما صدر منهم قبل العلم. وقد أشار البخاري في صحيحه إلى هذا المعنى فترجم بقوله: (باب مَن أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال)، ثم ترجم بعده: (باب مَن لم ير إكفار مَنْ قال ذلك متأوِّلًا أو جاهلًا)، وذكر في هذا الباب بعضَ الأحاديث التي ذكر فيها أن بعض الصحابة نسب غيره منهم إلى النفاق بتأويلٍ، وذكر آخِرَه حديث ابن عمر أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أدرك عمر بن الخطَّاب في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «ألا إن الله ينهاكم عن الحلف بآبائكم» الحديث. قال في الفتح: [653] «وقصده بذكره هنا الإشارة إلى ما ورد في بعض طرقه: «مَن حلف بغير الله فقد أشرك»، لكن لما كان حلف عمر بذلك قبل أن يسمع النهي كان معذورًا فيما صنع ... ».
(3/932)
وسيأتي ذكر هذه الأحاديث وغيرها، والكلامُ على القَسَم بغير الله تعالى مفصَّلًا إن شاء الله تعالى (1). فصل واعلم أنَّ مدار العذر على الجهل مع عدم التقصير في النظر، وإنما الشأن في ضبط التقصير, وهو أمرٌ مشتبهٌ جدًّا؛ فإنه ليس المراد به ألَّا يكون للإنسان استعداد للنظر أصلًا بأن يكون مجنونًا، ولا أن يكون قد صرف عمره كلَّه في البحث والنظر ولم يتشاغل عنه إلَّا بما لا يستطيع تركه كتناول ما يَسُدُّ رَمَقَه من الطعام والشراب، وكقضاء الحاجة ونحو ذلك، بل الأمر أوسع من هذا. وقد تقدَّم في تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ما يوضِّح هذا (2)، وأنَّ الأمور الموجبة للعذر من النسيان والخطأ وعدم الطاقة ليست بمنضبطة، ولكن لعلَّك إذا تَدَبَّرْتَ ما تقدَّم تستطيع التقريب. وهاهنا قاعدة جليلة، وهي: أنَّ مَن رضي بالإسلام دينًا ولو إجمالًا فالأصل فيه أنه معذور في خطئه وغلطه، ومَن لم يرض بالإسلام دينًا فالأصل فيه أنه غير معذور، ولا يخرج أحدُهما عن أصله إلا ببيانٍ واضحٍ. هذا في الحكم الظاهر، فأمَّا عند الله عزَّ وجلَّ فالمدار على الحقيقة؛ ولهذا _________ (1) انظر ص 989. (2) انظر ص 914 - 915 مُفْتَتَح فصل الأعذار.
(3/933)
كان يحكم النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم [654] على أهل الفترة بالشرك والنار (1)، ولا يستثني أحدًا إلَّا مَن فارق شركهم، كزيد بن عمرو بن نفيل. ومَن حَقَّق النظر ربما يظهر له أنَّ كثيرًا منهم كانوا معذورين، ولكن ليس هناك بيان واضح؛ فلذلك حكم الشرعُ عليهم بالظاهر، وأَمْرُهُمْ عند الله موكولٌ إلى الله. وقد جاء ما يدلُّ أنَّ أهل الفترة يُمْتَحَنُون يوم القيامة. قال الحافظ في الإصابة (2) في ترجمة أبي طالب: «وورد (3) من عدَّة طرقٍ في حقِّ الشيخ الهرِم، ومَن مات في الفترة، ومَن وُلِدَ أَكْمَهَ أَعْمَى أَصَمَّ، ومَن وُلِد مجنونًا أو طرأ عليه الجنون قبل أن يبلغ، ونحو ذلك، وأنَّ كلًّا منهم يُدْلي بحجة، ويقول: لو عقلتُ أو ذكرت لآمنتُ، فتُرفع لهم نار، ويُقال لهم: ادخلوها، فمَن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومَن امتنع أُدْخِلَها كَرْهًا. هذا معنى ما ورد من ذلك (4)، وقد جمعتُ طرقه في جزءٍ مفردٍ. ونحن نرجو أن يدخل _________ (1) ورد ذلك في عدَّة أحاديث، منها حديث ابن عمر: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن أبي كان يصل الرحم وكان وكان. فأين هو؟ قال: «في النار» قال فكأنه وجد من ذلك. فقال: يا رسول الله فأين أبوك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «حيثما مررت بقبر مشرك فبشِّرْه بالنار» قال: فأسلم الأعرابي بعد. سنن ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في زيارة قبور المشركين، 1/ 501، ح 1573. وصححه البوصيري في الزوائد 2/ 43. وروي من حديث سعد بن أبي وقاص، وهو أشبه. انظر: السلسلة الصحيحة رقم 18. والصواب أنه مرسل. انظر: علل ابن أبي حاتم 5/ 693. (2) الإصابة ط: دار هجر (12/ 397 - 398). (3) في الإصابة: «والحديث الأخير ورد». (4) ورد ذلك من حديث الأسود بن سريع وأبي هريرة أخرجه الإمام أحمد 4/ 24، وقال الهيثمي عن سنده: رجاله رجال الصحيح. انظر: مجمع الزوائد 7/ 437، وذكر الحافظ ابن كثير في الباب أحاديث أخرى، انظرها في تفسيره (5/ 50 - 54) عند قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} في سورة الإسراء: 15.
(3/934)
عبد المطلب وآلُ بيته في جملة مَن يدخلها طائعًا فينجو، لكن ورد في أبي طالبٍ ما يدفع ذلك ... » (1). وكان صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يحكم فيمن أسلم أنه على إسلامه وإن ظهر منه خلاف ذلك ما لم يتضح أمره، فمن ذلك قصَّة ذات أنواط، وقد تقدَّمت (2)، فعذر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم القائلين: «اجعل لنا ذات أنواط» مع بيانه أن ذلك كقول بني إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا}. ومن ذلك حديث الصحيحين عن عِتبان بن مالك في صلاة النبي صلى الله [655] عليه وآله وسلَّم في بيته، وفيه: فقال قائل منهم: أين مالك بن الدُّخْشُن (3)؟ فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله، فقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لا تقل ذاك، ألا تراه قد قال: «لا إله إلا الله»، يريد بذلك وجه الله». قال: الله ورسوله أعلم. أما نحن فوالله لا نرى ودّه ولا حديثه إلا إلى المنافقين، قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «فإنَّ الله _________ (1) تتمَّة ما في الإصابة: «وهو ما تقدَّم من آية براءة [يعني قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}]. وما ورد في الصحيح عن العبَّاس بن عبد المطلب أنه قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ما أغنيتَ عن عمِّك أبي طالبٍ؛ فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ فقال: «هو في ضحضاحٍ من النار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل». (2) ص 230. (3) في الأصل ــ هنا وفي ص 658 ــ: (الدُّخْش)، وقد أورده المؤلِّف على الصواب في ص 940.
(3/935)
قد حَرَّم على النار مَنْ قال: «لا إله إلا الله»، يبتغي بذلك وجه الله» (1). وأخرج الشافعي وغيره عن عبيد الله بن عَدِي بن الخِيار أنَّ رجلًا سارَّ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فلم نَدْرِ ما سارَّه به حتى جهر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فإذا هو يستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أليس يشهد ألَّا إله إلا الله؟ »، قال: بلى، ولا شهادة له، قال: «أليس يصلي؟ »، قال: بلى، ولا صلاة له. فقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أولئك الذين نهاني الله عنهم» (2). وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري في قصة قَسْمِ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الذُّهَيْبَةَ التي بعث بها عليٌّ عليه السلام من اليمن أنَّ رجلًا قال لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: اتق الله، فذكر الحديث، إلى أن قال: فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ قال: «لا، لعلَّه أن يكون يصلِّي»، قال خالد: وكَم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إني لم أومر أن أُنَقِّبَ عن قلوب الناس، ولا أشقَّ بطونهم» (3). _________ (1) البخاريّ، كتاب التهجُّد، باب صلاة النوافل جماعةً، 2/ 60، ح 1186. ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الرخصة في التخلُّف عن الجماعة لعذرٍ، 2/ 126، ح 33. [المؤلف] (2) الأم، كتاب الحدود وصفة النفي، باب ما يحرم به الدم من الإسلام، 6/ 146 - 147. [المؤلف] (3) البخاريّ، كتاب المغازي، باب بعث عليٍّ وخالدٍ إلى اليمن، 5/ 164، ح 4351. مسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، 3/ 111، ح 1064 (144). [المؤلف]
(3/936)
وفي رواية: [656] أن المستأذن في قتل الرجل عمر بن الخطاب (1). قال العلماء: لعلَّ كلًّا من عمر وخالد استأذن في قتل الرجل. وفي الصحيحين وغيرهما عن علي عليه السلام في قصة كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين يفشي إليهم سِرَّ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في غزوه إياهم، أنَّ عمر قال: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إنه قد شهد بدرًا». الحديث (2). وفي الصحيحين وغيرهما في قصة الإفك أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم خطب فقال: «مَن يعذرني في (3) رجلٍ قد بلغ أذاه في أهل بيتي»، فقام سعد بن معاذٍ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان رجلًا صالحًا، ولكن اجتهلتْه الحميَّة، فقال لسعد بن معاذ: لَعَمْرُ الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عمِّ سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كَذَبْتَ، لعمر الله لنقتلنَّه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. الحديث (4). _________ (1) البخاريّ، كتاب استتابة المرتدِّين، باب مَن ترك قتال الخوارج للتألُّف ... ، 9/ 17، ح 6933. مسلم، الموضع السابق، 3/ 112، ح 1064 (148). [المؤلف] (2) البخاريّ، كتاب المغازي، باب غزوة الفتح، 5/ 145، ح 4274. مسلم، كتاب فضائل الصحابة، بابٌ من فضائل أهل بدرٍ، 7/ 168، ح 2494. [المؤلف] (3) كذا في الأصل، والذي في الصحيحين: «من رجلٍ». (4) البخاريّ، كتاب المغازي، باب حديث الإفك، 5/ 119، ح 4141. مسلم، كتاب التوبة، بابٌ في حديث الإفك، 8/ 116، ح 2770. [المؤلف]
(3/937)
وفي الصحيحين وغيرهما عن جابرٍ أنَّ معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه كان يصلِّي مع النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ثمّ يأتي قومه فيصلِّي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة، قال: فتجوَّز رجلٌ فصلَّى صلاةً خفيفةً، فبلغ ذلك معاذًا، فقال: إنه منافقٌ. فبلغ ذلك الرجلَ، فأتى النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فقال: يا رسول الله، إنَّا قوم نعمل بأيدينا ونسقي بِنَوَاضِحِنَا (1)، وإنَّ معاذًا صلَّى بنا البارحة، فقرأ البقرة، فتجوَّزْتُ، فزعم أني منافق، فقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «يا معاذ! أفتانٌ أنت»، ثلاثًا. الحديث (2). وفي الصحيحين في قصَّة أسامة في سَرِيَّتِه إلى الحُرَقات (3)، وفيه قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار [657] رجلًا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فَكَفَّ الأنصاريُّ فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدِمنا بلغ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «يا أسامة أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ » قلت: كان متعوِّذًا، فما زال يكرُّرها حتى تمنَّيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم (4). _________ (1) الإبل أو الثيران او الحُمُرالتي يُستَقى عليها الماء، واحدها: ناضح. والأنثى بالهاء، ناضحة وسانية. النهاية 5/ 69. (2) البخاريّ، كتاب الأدب، باب مَن لم ير إكفار مَن قال ذلك متأوِّلًا أو جاهلًا، 8/ 26 - 27، ح 6106. ومسلم، كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء، 2/ 42، ح 465. [المؤلف] (3) قبيلةٌ من جهينة، والظاهر أنه جمع حُرَقة، واسمه جُهَيش بن عامرٍ سُمِّي الحرقة لأنه حرق قومًا بالنبل فبالغ في ذلك، ذكره ابن الكلبي. انظر: عمدة القاري 17/ 362. (4) البخاريّ، كتاب المغازي، باب بعث النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أسامة، 5/ 144، ح 4269. ومسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد قول الشهادة، 1/ 68، ح 96 (159). [المؤلف]
(3/938)
وفي رواية: قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفًا من السلاح، قال: «أفلا شققت عن قلبه حتى [تعلم أ] قالها أم لا؟ » (1). وفي الصحيحين من حديث المقداد أنه قال: يا رسول الله، أرأيت إن لقيتُ رجلًا من الكفار فاقْتَتَلْنَا فضرب إحدى يديَّ بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله، أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لا تقتلْه»، فقال: يا رسول الله إنَّه قطع إحدى يَدَيَّ، ثم قال ذلك بعد ما قطعها، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لا تقتلْه، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنَّك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال» (2). وفي قصة خالد بن الوليد في سَرِيَّته إلى بني جذيمة أنه قتل جماعة منهم، قد قالوا: «صبأنا» (3) ولم يحسنوا قولَ: «أسلمنا»، فوداهم (4) النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» (5). _________ (1) صحيح مسلمٍ، الموضع السابق، 1/ 67، ح 96 (158). [المؤلف]. وما بين المعقوفتين سقط من الأصل، فاستُدرِك من الطبعة التي نقل عنها المؤلِّف. (2) البخاريّ، كتاب المغازي، باب 12، 5/ 85، ح 4019. مسلم، الموضع السابق، 1/ 66 - 67، ح 95. [المؤلف] (3) قال ابن بطّال: أرادوا بها «أسلمنا»، فجهلوا فقالوا: «صبأنا». وإنما قالوا ذلك؛ لأن قريشًا كانت تقول لمن أسلم مع النبيِّ: «صبأ فلانٌ». (4) أي: أعطى ديتهم. النهاية 5/ 169. (5) البخاريّ، كتاب المغازي، باب بعث النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد ... ، 5/ 160 - 161، ح 4339. [المؤلف]
(3/939)
ووقع لخالد في قتال أهل الردة ما يشبه ذلك. ففي هذه الأحاديث عذر النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لمالك بن الدُّخْشن, والرجل الذي استؤذن في قتله، [658] والقائل له: اتق الله، وحاطب بن أبي بلتعة وسعد بن عبادة مع ما ظهر منهم، وَعَذَرَ المتكلمين في مالك بن الدُّخْشن والمستأمر في قتل الرجل، وخالد بن الوليد وعمر بن الخطاب وأسيد بن حضير ومعاذًا وأسامة والمقداد مع تكفير كلٍّ منهم لمن ليس بكافرٍ، مع أن في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أيُّما رجلٍ قال لأخيه: (يا كافر) فقد باء بها أحدهما» (1). وقد رُوي معنى هذا الحديث عن جماعة من الصحابة، وقد ترجم البخاري في صحيحه لهذا الحديث: (باب مَن أكفر أخاه بغير تأويلٍ فهو كما قال). وترجم بعده: (باب مَن لم ير إكفار مَن قال ذلك متأوِّلًا أو جاهلًا)، وذكر فيه قصَّة حاطبٍ ومعاذٍ (2). وقد ذهب جماعةٌ من الشافعيَّة إلى نحوٍ مما ترجم به البخاريُّ رحمه الله فقالوا: مَن كَفَّرَ مسلمًا بغير تأويل فهو كافر مرتدٌّ. وأطال ابن حجر الهيتمي في تقرير ذلك وتأييده في أوائل كتابه «الإعلام بقواطع الإسلام» (3)، ونقل نحوه _________ (1) أخرجه البخاريُّ في كتاب الأدب، باب مَن كفَّر أخاه بغير تأويلٍ فهو كما قال، 8/ 26، ح 6104 ــ واللفظ له ــ. ومسلمٌ في كتاب الإيمان، باب مَن قال لأخيه المسلم: يا كافر، 1/ 56، ح 60 ــ بنحوه ــ، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (2) انظر: البخاريّ، كتاب الأدب، 8/ 26 - 27. [المؤلف] (3) ص 340 - 345 (من طبعة الحلبي، 1398 هـ).
(3/940)
عن بعض المالكيَّة ... فأما كَفُّ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن قتل مَن ثبت نفاقه فقد بَيَّنَ سبب ذلك بقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: [659] «لا يتحدَّث الناس أنَّ محمدًا يقتل أصحابه» (1). ولأنهم كانوا إذا سُئِلوا عن كلماتهم الخبيثة جحدوها واعتذروا عنها وأظهروا التوبة، فأمر الله تعالى بالإعراض عنهم، قال سبحانه: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: 95]. فصل واعلم أن من الأعذار ما ينفع في الحكم الظاهر وينفع في الآخرة، ومنها ما ينفع في الحكم الظاهر فقط، ومنها ما ينفع في الآخرة فقط، وأنَّ مدار الحكم الظاهر على الأمر الظاهر. ولذلك يكفي في ثبوت الرِّدَّة شاهدان، فلو شهدا أنَّ فلانًا مات مرتدًّا وجب الحكم بذلك، فلا يُصَلَّى عليه ولا يُدْفَنُ في مقابر المسلمين، ويعامَلُ معاملة المرتدِّ في جميع الأحكام. وقد جرى العلماء في الحكم بالردَّة على أمورٍ، منها ما هو قطعيٌّ، ومنها ما هو ظنِّيٌّ، ولذلك اختلفوا في بعضها، ولا وجه لما يتوهَّمُه بعضهم أنه لا يكفَّر إلا بأمرٍ مجمعٍ عليه. وكذلك مَن تكلَّم بكلمة كفرٍ وليست هناك قرينةٌ _________ (1) البخاريّ، كتاب التفسير، سورة التوبة، باب قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ}، 6/ 154، ح 4905. مسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، 3/ 109 - 110، ح 1063. [المؤلف]
(3/941)
ظاهرةٌ تصرف تلك الكلمة عن المعنى الذي [660] هو كفرٌ إلى معنًى ليس بكفرٍ فإنه يَكْفُر، ولا أثر للاحتمال الضعيف أنه أراد معنى آخر. وفي الشفاء عن صاحب سحنون (1) في رجل ذُكِرَ له رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «فعل الله برسول الله كذا وكذا»، وذكر كلامًا قبيحًا، ثم قال: «أردتُ برسول الله العقرب» أنه لا يُقْبَلُ دعواه التأويلَ (2). ونقله الهيتمي في الإعلام (3)، ثم قال: ومذهبنا لا يأبى ذلك. وقال في الزواجر: «نقل إمام الحرمين عن الأصوليين أنَّ مَن نطق بكلمة الرِّدَّة وزعم أنه أضمر توريةً كَفَرَ ظاهرًا وباطنًا، وأَقَرَّهُم على ذلك» (4). أقول: وهو الموافق لقواعد الشريعة. ولو قُبِلَ من الناس مثلُ هذا التأويل لأصبح الدين لعبةً، يقول مَن شاء ما شاء مِن سبِّ الله وسَبِّ رسوله، فإن سُئِلَ اعتذرَ بما يُشْبِه هذا التأويل. فإن قلت: فإنَّ قبول توبته يلزم منه مثلُ هذا الأمر، قلت: كلّا، فإنَّ قبول توبته معناه إثبات أنه ارتدَّ، ثم أسلم، ومثلُ هذا يعاب به بين الناس ويُوَبَّخُ _________ (1) هو أحمد بن أبي سليمان، وسُحنون هو: عبد السلام بن حبيب بن حسان التنوخي صاحب «المدونة» , لازم أصحاب الإمام مالك: ابن وهب وابن القاسم وأشهب فصار سيد أهل المغرب، وكان من أهل العقل والديانة، توفي سنة 240 هـ. سير أعلام النبلاء 12/ 63 - 69. (2) الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض 2/ 217، وإنما لم يقبل التأويل لأن اللفظ صريح، وفيه امتهان للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمتكلِّم بهذا لم يوقِّر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يحترمه. (3) ص 48. [المؤلف] (4) الزواجر 1/ 26. [المؤلف]
(3/942)
عليه، ويسقط من العيون، وهذا مانعٌ للسفهاء والملحدين عن إظهار ما يكفرون به بخلاف مَن يُقْبَلُ عُذْرُه، فتدبَّر. وإذا كان الأمر كما سمعت في عدم قبول عذر مَن ذُكِرَ مع أنه قد زعم أنه لم يُرِدِ المعنى الذي هو كفرٌ، وذكر معنى آخر زعم أنه أراده، [661] فما بالك بمن يذكر مثل هذه الكلمة وأمثالها وأخبث منها ويؤلِّفُ فيها الكتب ويبنيها على شبهاتٍ عقليَّةٍ ويحتجُّ لها ويناضل عنها ويجهِّل مَن لم يقل بها، ويزعم أنَّه أدركها بالكشف وبالوحي لأنه من أولياء الله تعالى؟ هذه حال جماعةٍ من المتصوِّفة، وتجد كثيرًا من المنتسبين إلى العلم يعتذرون لهؤلاء المتصوِّفة بأنهم لم يريدوا المعاني الظاهرة، وإنما أرادوا معاني أُخر، ويسندون هذا العذر إلى أنَّ أولئك المتصوِّفة كانوا ملتزمين لأحكام الإسلام، وقد صرَّحوا في بعض كلامهم أنهم لا يخالفون الكتاب والسنة, وأنَّ مَن فهم من كلامهم مَعْنًى يخالف الكتاب والسنة فإنما أُتيَ من جهله بمعاني كلامهم أو جهله بالكتاب والسنة، وشبه ذلك. ولا يكتفون بذلك، بل يقولون: إن أولئك المتصوفة هم خيرة الله من المسلمين، وصفوته وأولياؤه. وكانت نتيجة هذا أنْ بقيت تلك الكتب تقرأ وتنسخ وتطبع وتنشر ويضلُّ بها كُلَّ يوم جماعة وبقي أتباعها ظاهرين مناضلين عن تلك المقالات، وآل الأمر بكثير من الناس إلى الكفر الصُّراح والشرك البواح، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. [662] وهكذا تجد أكثر المنتسبين إلى العلم إذا أقيمت عليهم الحجة بأنَّ كثيرًا من الأفعال والأقوال المشهورة بين العامَّة كفر أو شرك أخذوا يتأوَّلون تأويلات ضعيفة قائلين: إن العوامَّ لا يقصدون هذا المعنى، كيف
(3/943)
وهم مسلمون يشهدون أَلَّا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن القرآن كلام الله؟ فإذا قلت لهم: إن العوامَّ ينذرون للموتى ويذبحون لهم ويدعونهم إلى غير ذلك، قالوا: أمَّا نذرهم للموتى فإنما يقصدون النذر لله عزَّ وجلَّ على أن يكون ثواب ما ينذرونه من صدقة أو نحوها هديّة منهم للموتى. كمن يتصدَّق بصدقة لوجه الله تعالى، ويجعل ثوابها لوالديه، وإنما يذبحون لله عزَّ وجلَّ ويتصدَّقون بالطعام، ويجعلون ثواب الصدقة للموتى، وإنما يقصدون بقولهم: يا بدوي يا رفاعي سؤال الله تعالى بحقِّ البدوي والرفاعي ونحو ذلك. كذا يقولون، مع أنَّ مَنْ خالط العامة وعرف حالهم عَلِمَ أنَّ هذه التأويلات لا تخطر ببال أحد منهم، وإنما يريدون ما هو الظاهر من أفعالهم وأقوالهم. نعم، إننا نعذر كثيرًا من العامة أو أكثرهم بالجهل وعدم قيام الحجة عليهم، ولكن الفرض على كُلِّ من أوتي حظًّا [663] من العلم أن يبيِّن للعامة حقيقة ما هم عليه ويبلِّغهم حجة الله عليهم ويحذِّرهم مما يصنعون، فإن لم يفعل فالتبعة عليه، ولا سيما إذا رضي بتلك الأقوال والأفعال ونصرها وساعد عليها وعادى مَن يسعى لإبطالها وعانده وَحَذَّرَ العامة من استماع قوله. وكثير من المنتسبين إلى العلم يدركون هذه الحقيقة، ولكن الشيطان والهوى وحبَّ الدنيا وما يحصل لهم بسبب انتشار تلك الأقوال والأفعال بين العامة من تعظيمٍ ومنافع دنيوية يصدُّهم عن الحق ويحملهم على
(3/944)
عداوته، فالله المستعان. واعلم أنَّ البلاء كل البلاء هو إيثار المنتسبين إلى العلم للدنيا ولذَّاتها وجاهها، فالذي يدافع عن المتصوِّفة إنما يحاول أن يشتهر بين العامة وجهلة الأمراء أنه وليٌّ من أولياء الله تعالى، فإن ساعدته الأحوالُ على هذه الدعوى فذاك وإلَّا اكتفى بما اشتهر أنَّ التسليم للأولياء وعدم الاعتراض عليهم ولاية صغرى. وأَقَلُّ أحواله أن يكون مقبولًا عند السواد الأعظم من الأغنياء والأمراء الذين ابتُلُوا بحسن الاعتقاد في أولئك المتصوفة ظنًّا منهم أنَّ محبتهم إياهم تجرِّدهم من قيود الشريعة فلا يبقى عليهم حساب ولا عقاب، [664] ولا يضرُّهم ترك الصلاة والصيام ولا ارتكاب الفواحش، بل يتمُّ لهم نعيم الدنيا وشهواتها ونعيم الجنة ودرجاتها. وقد وضع لهم شياطين الإنس حكايات وقصصًا تهيِّجهم على هذا الاعتقاد كالأشعار المكذوبة على الشيخ عبد القادر ونحوها. وإنَّ المنتسبين إلى التصوُّف في الهند وغيرها ليحضر عندهم الغني أو الأمير المجاهر بالفسق بحيث ليس له من الإسلام إلا اسمه، فيعظِّمونه ويحترمونه ويمدحونه ويثنون عليه، ويؤكِّدون له أنَّه باعتنائه بهم قد أحرز سعادة الدنيا والآخرة، وكلما جاءهم كان كلامهم معه كله في تعظيمه ومدحه وإقناعه بأنَّه من الفائزين دنيا وأخرى، وتحريضه على قضاء حوائجهم وحوائج أتباعهم ومَن يتشفَّع بهم، ولا يكادون يعرِّضون له أدنى تعريض بأنَّ عليه أن يلتزم الفرائض الإسلامية ويجتنب الكبائر، بل إن أحدهم قد يكون يتكلَّم بموعظةٍ فإذ دخل أحد أولئك الأغنياء أو الأمراء اختصر الوعظ وتجنَّب أن يكون فيه كلمةٌ تؤثِّر على ذلك الغني. فإذا كان معروفًا بترك
(3/945)
الصلاة وشرب الخمر والفجور ونحو ذلك لم يتعرَّض الواعظ في وعظه لشيء من ذلك، [665] خشية أن يتوهم ذلك الغني أنه تعريض به فينفر فيحرم هذا الواعظ من المنافع الدنيوية التي كان ينالها منه. بل يقتصر على فضائل الصالحين وما لهم من الجاه العظيم وما في محبَّتهم وخدمتهم من الخير الجسيم، وأنَّ مَن أحبَّهم فاز دنيا وأخرى، ونحو ذلك. بل قد وَسَّعُوا الدائرة للكفار والمشركين فأعلموهم أنهم إذا أحبُّوا المتصوِّفين واحترموهم وبذلوا لهم الأموال حصلت لهم سعادة الدنيا وإن كانوا مصرِّين على شركهم وكفرهم، بل وقد يوهمونهم أنهم يفوزون بالنجاة في الآخرة أيضًا، بل ربما صَرَّحَ بعضهم بذلك. وهذا الأمر هو أعظم البواعث لكثير من عقلاء العصر على عدم الإسلام؛ لأنهم يتوهمون أن الإسلام هو ما عليه هؤلاء المتصوِّفون وأضرابهم، فإذا تدبَّروا ما هم عليه وجدوا جهالات وخرافات ومحالات ودجلا ومكرًا لعلَّه يفوق ما عند رهبان النصارى وطواغيت المشركين. بل إنَّ هذا الأمر نفسه قد وَرَّطَ كثيرًا من عقلاء المسلمين في الإلحاد الصريح، وهذا الوباء يتفشَّى بسرعة مخيفة. وبالجملة، فإنَّك إذا طلبت الإسلام مما يظهر لك منه في هذا العصر وما قرب منه تمثَّلَتْ لك صورة إذا قارنتها بالإسلام المعروف في عهد النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأصحابه وما قرُب منهم، لم تكد تجد بينهما مناسبةً مَّا، فمَن أراد الإسلام حقًّا فعليه أن يطلبه من مَعدِنه من كتاب الله وسنَّة رسوله وعمل القرن الأوَّل وما قرب منه، والله الموفق.
(3/946)
[666] ذكر أمور ورد في الشريعة أنها شرك وأشكل تطبيقها على الشرك
تمهيد اعلم أنَّ كون الشيء سببًا أو علامة قد لا يكون تديُّنًا, وهو ما يرجع إلى أصل عاديٍّ مبني على الحسِّ والمشاهدة الموجبين للقطع ولو في جنس ذلك الشيء، كأن يأكل مجذوم ورق شجرة اتِّفاقًا فيبرأ فيعتقد هو وغيره أنَّ أكل ورق تلك الشجرة ينفع من الجذام، فإن هذه تجربة ناقصة، ولكنها ترجع إلى أصل قطعيٍّ وهو أن العقاقير تنفع من الأمراض. وكأن يكون رجل في بيت بعيد عن القرية فأراد أن يخرج ليلًا لحاجة كصلاة العشاء أو الصبح جماعة, فسمع نُباح الكلب, فظن وجود إنسان مختفٍ قريبًا من بيته ليسرق مثلًا، فمنعه ذلك من الخروج، فإنَّ نُباح الكلب ليس بعلامة قطعيَّة على وجود إنسان غريب، ولكنه يرجع إلى أصل قطعيٍّ وهو أنَّ الكلاب تنبح لرؤية الغرباء. وقد يكون تديُّنًا، وهو ما يرجع إلى اعتقاد بأمر غيبيٍّ, كاعتقاد أنَّ استلام الحجر الأسود سبب للخير، وأنَّ نفرة النفس عن الحاجة بعد الاستخارة فيها علامة على أنه لا خير فيها، وغير ذلك. [667] وقد يُتَرَدَّد في بعض الظنون أَمِنَ الضرب الأوَّل هو أم مِنَ الثاني، وذلك كما يُظَنُّ في بعض الأحجار أنَّ التختُّم بها يورث السرور أو يدفع العين أو يطرد الجنَّ. والحكم في هذا، والله أعلم، أنَّ صاحب الظن إن كان يرى أن تلك
(3/947)
الخاصية ناشئة عن سبب من جنس الأسباب العاديَّة المبنيّة على الحسِّ والمشاهدة إلا أنه لم يتبين ذلك السبب فهذا من الضرب الأول، ولكن ينبغي المنعُ من العمل بهذا الظن سدًّا للذريعة. وإن كان مجوِّزًا أنَّ تلك الخاصيّة ناشئة عن سبب غيبي, كأن يكون ذلك الحجر محبوبًا عند الله عزَّ وجلَّ أو عند الملائكة أو الجن أو شبه ذلك فهذا من الضرب الثاني. وقد علمت فيما تقدَّم أن التديُّن بما لم يشرعه الله تبارك وتعالى شرك، وربما يقع التردُّد في الظنّ أقد بلغ الحدَّ المعتدَّ به في الحكم أم هو من قبيل الوسوسة؟ فيضبط الشارع الظنَّ المعتدَّ به بما نشأ عنه فعل أو قول. وكثيرًا ما يقيم الشارع القولَ أو الفعل الذي من شأنه أن ينشأ عن ظنٍّ معتدٍّ به مقام ذلك الظن كما مضى في السجود للصنم أو الشمس ونحو ذلك. ولنشرع في المقصود، ومن الله عزَّ وجلَّ التوفيق.
(3/948)
[668] الطِّيَرة
عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «الطيرة من الشرك وما منا، ولكن الله يذهبه بالتوكل». أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح ... سمعت محمد بن إسماعيل [البخاري] يقول: كان سليمان بن حرب يقول في هذا الحديث: «وما منا ولكن الله يذهبه بالتوكل» قال سليمان: هذا عندي قول عبد الله بن مسعود «وما منا» (1). وأخرجه أبو داود ولفظه: «الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل» (2). ورواه الحاكم في كتاب الإيمان من المستدرك بلفظ الترمذي وقال: «صحيح سنده، ثقات رواته»، وأقرّه الذهبي (3). أقول: لا يخلو المتطيِّر أن يظن أن الطائر سبب أو علامة، وعلى الحالين فهذا الظن من قسم التديُّن؛ لأنه لا يُعْرَفُ له توجيه من الأصول العادية المبنيّة على الحسِّ والمشاهدة, وهو تديُّنٌ بما لم يشرعه الله عزَّ وجلَّ, فيكون شركًا. وإنما الشأن في حصول الظنِّ، وقد جعل الشارع ضابط حصول الظن هو العمل به، ففي صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم: ... قلت: يا رسول الله، إني حديث عهدٍ بجاهليَّة، وقد جاء الله بالإسلام، وإنَّ منَّا رجالًا _________ (1) جامع الترمذيّ، كتاب السير، باب ما جاء في الطيرة، 1/ 304، ح 1614. [المؤلف] (2) سنن أبي داود، كتاب الطبِّ، بابٌ في الطيرة، 2/ 190، ح 3910. [المؤلف] (3) المستدرك، كتاب الإيمان، «الطيرة شركٌ»، 1/ 18. [المؤلف]
(3/949)
يأتون الكهَّان، قال: «فلا تأتهم». قال: ومنَّا رجال يتطيَّرون، قال: «ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدَّنَّهم ... » (1). [669] وفي مسند أحمد بسندٍ فيه نظرٌ عن الفضل بن عبَّاسٍ، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إنما الطيرة ما أمضاك أو ردَّك» (2). فالذي يعرض للمؤمنين إنما هو من قبيل الوسوسة التي لا تقدح في الإيمان أصلًا، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تكلَّم» (3). وفي صحيح مسلمٍ عن عبد الله بن مسعودٍ قال: سُئل النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن الوسوسة، قال: «تلك محض الإيمان» (4). وعن أبي هريرة قال: جاء ناس من أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: «وقد _________ (1) صحيح مسلمٍ، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ... ، 2/ 70، ح 537. [المؤلف] (2) المسند 1/ 213. [المؤلف]. وفي سنده: محمَّد بن عبد الله بن عُلاثة العُقَيليُّ، وقد تُكُلِّم فيه. ومسلمة بن عبد الله بن ربعيٍّ الجهنيُّ، وهو مجهول الحال، ولم يدرك الفضلَ بن عبَّاسٍ. (3) صحيح البخاريِّ، كتاب العتق، باب الخطإ والنسيان في العتاقة، 3/ 145، ح 2528. وصحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب حديث النفس والخواطر بالقلب، 1/ 81 - 82، ح 127. [المؤلف] (4) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان، 1/ 83، ح 133.
(3/950)
وجدتموه؟ » قالوا: نعم، قال: «ذاك صريح الإيمان» (1). فالعمل بالطيرة أن تصدَّك عن أمر قد عزمت عليه أو كنت متردِّدًا فيه أو تُمْضِيَكَ في أمرٍ لم تكن عازمًا عليه. نعم، لو عزم رجل على معصية أوهمّ بها فعرض عارض فَهِمَ منه إشارة إلى موعظة فصدّه عن المعصية لم يكن هذا من الطيرة المنهي عنه (2)؛ لأن الذي صدّه في الحقيقة إنما هو عِلْمُه بأن ذلك الفعْلَ معصية متوعَّدٌ عليها بالعذاب. وكذا مَن كان متردِّدًا في فعلٍ يَعْلَم أنه طاعةٌ لله عزَّ وجلَّ فعرض عارضٌ فَهِمَ منه إشارةً ترغِّبه في الفعل فَفَعَل. [670] وليس من الطيرة ما يُنْقَل عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من حبِّ الفأل (3)، فإنه لم يكن الفأل يحمله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم على فعلِ ما لم يكن يريد أن يفعله، ولا يصدُّه عن فعلِ ما كان يريد أن يفعله، وإنما يُرْوَى عنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه كان إذا أراد أن يرسل رسولًا تحرّى أن يكون اسمه حسنًا (4)، ونحو ذلك. _________ (1) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان، 1/ 83، ح 132. [المؤلف] (2) كذا في الأصل, ولعله قصد: التطيُّر. (3) كما في حديث أنس مرفوعًا: «يعجبني الفأل الصالح: الكلمة الحسنة». أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب الفأل، 7/ 135، ح 5756. ومسلم في كتاب السلام، باب الطيرة والفأل ... , 7/ 33، ح 2224. وفي رواية لمسلم من حديث أبي هريرة 7/ 33، ح 2225: «وأحب الفأل الصالح». (4) أخرج أبو داود في كتاب الطب، باب في الطيرة, 4/ 19، ح 3920، عن بريدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتطير من شيء, وكان إذا بعث عاملًا يسأل عن اسمه فإذا أعجبه فرح به ... إلخ. وإسناده صحيح.
(3/951)
قال العلماء: إنما هذا من باب سَدِّ الذريعة لئلا يقع أمرٌ مكروه قد قُضِيَ فيلقي الشيطان في نفوس بعض الناس أن ذلك لأجل قبح اسم الرسول أو نحوه. أقول: سيأتي أن التفاؤل محمود في الجملة؛ فاختيار الاسم الحسن ليتفاءل به المرسَلُ إليه؛ فيكون ذلك أدعى إلى امتثال ما أرسل إليه به النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ولا يكون ذلك إلا خيرًا. ولو كان الاسم قبيحًا لتطيَّر به المرسل إليه إن كان كافرًا أو قريب عهد بالإسلام، وهم الغالب يومئذٍ. ويُرْوَى عنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه كان إذا سمع الكلمة الحسنة سُرَّ بها (1). وأقول في توجيه ذلك: إن ما يَعْرِضُ للإنسان مما يُتَفَاءَل به يحتمل ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون من الله عزَّ وجلَّ على سبيل التبشير. الثاني: أن يكون من فعل الشيطان يُرَغِّب الإنسان في فِعْلِ ما لا خير له فيه. الثالث: أن يكون أمرًا اتفاقيًّا. _________ (1) أخرج الترمذي في كتاب السير, باب ما جاء في الطيرة، 4/ 161، ح 1616، من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع يا نجيح يا راشد. وقال: «حديث حسن صحيح غريب».
(3/952)
فالوجه الثاني منتفٍ فيما يكون المتفائل آخذًا في العمل؛ إذ لا حاجة بالشيطان إلى الترغيب فيه وقد شرع الإنسان فيه دائبًا على فعله، ويبقى الاحتمالان الأول والثالث، فأمَّا النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فكان يترجَّح في حقِّه الأول؛ لأنه لم يكن يُقْدِمُ على العمل حتى يَظْهَرَ له أنه طاعة لله عزَّ وجلَّ، وقد علم من الدِّين أن طاعة الله عزَّ وجلَّ سببٌ للخير، وعلم أن الشيطان لا يرغِّب في الخير. فأمّا مَن لا يريد عملًا فيسمع كلمة حسنة فيرغب فيه فاحتمال الوجه الثاني قائم فيه, والوجه الأول منتفٍ بدليل مَنْعِ الشارع من الاعتداد بذلك، ولعله [671] يكون في ذلك الفعل ضررٌ لاحتمال أن تكون تلك الكلمة من الشيطان يُرَغِّب الإنسان فيما يضرُّه، اللهمّ إلا أن يكون ذلك الفعل طاعة لله عزَّ وجلَّ، فكان الإنسان متكاسلًا عنه فسمع كلمة فَهِمَ منها إشارة إلى الترغيب في الخير، فهذا معنىً آخر كما تقدم. وأما الطيرة فإن الكلمة السيئة مثلًا تحتمل أن تكون من تنبيه الله عزَّ وجلَّ تنفيرًا عن ذلك العمل، وتحتمل أن تكون من الشيطان ليصدَّ الإنسان عن ذلك الفعل لعلمه أن له خيرًا فيه، وتحتمل أن تكون اتفاقًا. ويترجّح الأول إذا كان العمل معصية لله عزَّ وجلَّ ولا يكون الانزجار عن تلك المعصية عند سماع تلك الكلمة من التطيُّر المنهي عنه؛ لأنه لم يستند إليها، وإنما استند إلى ما عنده من السلطان أن ذلك العمل معصية. ويترجح الثاني إذا كان ذلك العمل طاعة لله عزَّ وجلَّ أو مباحًا؛ لأن الاحتمال الأول منتفٍ بدليل منع الشارع من التطير. والاحتمال الثالث مرجوح لما عُلِمَ أن الشيطان مولَع بالإضلال والإضرار، فالانكفاف عن العمل تديُّنٌ بما لم يشرعه الله عزَّ وجلَّ كما مرّ، وهو مع ذلك طاعة للشيطان.
(3/953)
وقد قال ابن حجر المكي: «قال الرافعيُّ عنهم [أي الحنفية]: ... واختلفوا فيمن خرج لسفر فصاح العَقْعَق (1) فرجع, هل يكفر؟ (انتهى). زاد النووي في الروضة: قلت: الصواب أنه لا يكفر» (2). [672] أقول: وقد علمت أن الدليل مع مَن قال: يكفر هذا الراجع إن تحقَّق أنه إنما رجع لصياح العقعق إلا أن يكون ممن يُعْذَر، وقد مرّ بيان الأعذار. والله أعلم. * * * * _________ (1) العَقْعَق ــ وِزان جعفرٍ ــ: طائرٌ نحو الحمامة طويل الذنب، فيه بياضٌ وسوادٌ، وهو نوعٌ من الغِربان، والعرب تتشاءم به. المصباح المنير ص 422. (2) الإعلام بقواطع الإسلام، ص 23. [المؤلف] وانظر: روضة الطالبين 10/ 67.
(3/954)
الرقى قال الإمام أحمد: «ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن يحيى بن الجزار، عن ابن أخي زينب، عن زينب امرأة عبد الله قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهية أن يهجم منَّا على شيء يكرهه. قالت: وإنه جاء ذات يوم فتنحنح، قالت: وعندي عجوز ترقيني من الحمرة، فأدخلتها تحت السرير، فدخل فجلس إلى جنبي، فرأى في عنقي خيط (1)، قال: ما هذا الخيط؟ قالت: قلت: خيط أرقي (2) لي فيه، قالت: فأخذه فقطعه، ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «إن الرقى والتمائم والتِّوَلَة شركٌ». قالت: فقلت له: لم تقول هذا وقد كانت عيني تقذف، فكنت أختلف إلى فلانٍ اليهوديِّ يرقيها، وكان إذا رقاها سكنت؟ قال: إنما ذلك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقيتها كَفَّ عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أذهب البأس رب الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقمًا» (3). وأخرجه أبو داود عن محمَّد بن العلاء عن أبي معاوية، فذكره _________ (1) كذا في الأصل. (2) في سنن ابن ماجه (2/ 1167، ح 3530) وشرح السنَّة للبغويِّ (12/ 157، ح 3240): «رُقِي» بصيغة المبنيِّ للمجهول، كما ضبطه في مرقاة المفاتيح 8/ 371. وانظر رواية ابن أبي شيبة الآتية قريبًا. (3) المسند 1/ 381. [المؤلف]
(3/955)
مختصرًا (1). وأخرجه ابن ماجه من طريق عبد الله بن بشرٍ عن الأعمش (2). [673] وفي سنده: ابن أخي زينب، مجهولٌ. لكن رواه الحاكم في المستدرك من طريق محمد بن مسلمة الكوفي، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن يحيى بن الجزار، عن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن زينب، فذكره بنحوه، وقال: «صحيح الإسناد على شرط الشيخين»، وأقره الذهبي (3)، وفيه نظر. ولكن أخرجه الحاكم من طريق أخرى عن ميسرة بن حبيب، عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن السكن قال: دخل ابن مسعودٍ على امرأته، فرأى عليها خرزًا من الحمرة، فقطعه قطعًا عنيفًا، ثم قال: إن آل عبد الله عن الشرك أغنياء، وقال: كان مما حفظنا عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إن الرقى والتمائم والتولة من الشرك». قال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال الذهبي: صحيح (4). وأخرجه الحاكم أيضًا من طريق أبي الضحى عن أم ناجية قالت: _________ (1) أبو داود، كتاب الطبّ، بابٌ في تعليق التمائم، 2/ 186، ح 3883. [المؤلف] (2) ابن ماجه، كتاب الطبّ، باب تعليق التمائم، 2/ 188، ح 3530. [المؤلف] (3) المستدرك، كتاب الرقى والتمائم، الدعاء عند عيادة المريض 4/ 417 - 418. [المؤلف]. وأخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان)، كتاب الرقى والتمائم، ذكر التغليظ على من قال بالرقى والتمائم متكلًا عليها 13/ 456 ح 6090 من طريق يحيى الجزار، عن ابن مسعود، وهو منقطع. (4) المستدرك، كتاب الطبّ، نهى عن الرقى والتمائم والتِّوَلة 4/ 217. [المؤلف]
(3/956)
دخلتُ على زينب امرأة عبد الله أعودها من حمرة ظهرت بوجهها، وهي معلقة بخرز، فإني لجالسة دخل (1) عبد الله، فلما نظر إلى الحِرْز أتى جذعًا معارضًا في البيت فوضع عليه رداءه، ثم حسر عن ذراعيه، فأتاها، فأخذ بالخرز فجذبها حتى كاد وجهها أن يقع في الأرض فانقطع، ثم خرج من البيت، فقال: لقد أصبح آل عبد الله أغنياء عن الشرك، ثم خرج فرمى بها خلف الجدار، ثم قال: يا زينب، أعندي تُعَلِّقين؟ ! إني سمعت رسول الله [674] صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: نهي عن الرقى والتمائم والتولية، فقالت أم ناجية: يا أبا عبد الرحمن، أما الرقى والتمائم فقد عرفنا فما التولية؟ قال: التولية ما يهيج النساء» (2). كذا وقع في النسخة (التولية) والمعروف: التولة، ووقع فيه: (الحرز) بالحاء المهملة، والظاهر: (الخرز) بالمعجمة. والله أعلم. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: دخل عبد الله على امرأته وهي مريضة فإذا في عنقها خيط معلق، فقال: ما هذا؟ فقالت: شيء رقي لي فيه من الحمَّى، فقطعه فقال: إن آل إبراهيم أغنياء عن الشرك (3). كذا وقع في النسخة: (الحمَّى)، و (آل إبراهيم)، والصواب: (الحمرة)، و (آل عبد الله). وأخرج عن إبراهيم قال: رأى ابن مسعود على بعض أهله شيئًا قد تَعَلَّقَهُ _________ (1) كذا في الأصل والمستدرك. (2) المستدرك، الموضع السابق، 4/ 216 - 217. [المؤلف] (3) المصنَّف، كتاب الطبّ، في تعليق التمائم والرقى، 12/ 40، ح 23924.
(3/957)
فنزعه منه نزعًا عنيفًا، وقال: إن آل ابن مسعودٍ أغنياء عن الشرك (1). وأخرج من طريق قتادة عن رافع بن سحنان (2) قال: قال عبد الله: مَن علّق شيئًا وكل إليه (3). وأخرج الإمام أحمد وأبو داود والحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه من طريق عبد الرحمن بن حرملة، عن عبد الله بن مسعود قال: كان رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يكره عشر خلال، الحديث، ذكر فيه: «الرقى إلا بالمعوذات، وعقد التمائم» (4). [675] وبالجملة فحديث قيس بن السكن عن ابن مسعود صحيح لا مغمز فيه، وبقية الروايات شواهد قوية وعواضد يبلغ بها الحديث غاية الصحة. _________ (1) المصنَّف، الموضع السابق، 12/ 40, ح 23925. (2) كذا في الأصل في الأصل والنسخة التي نقل عنها المؤلف، وصوابه: واقع بن سَحبان، ذكره البرديجيّ في طبقات الأسماء المفردة ص 73، وابن ماكولا في الإكمال 4/ 267، ويكنى أبا عَقِيلٍ. ترجم له ابن سعدٍ 7/ 227، والبخاريّ 8/ 198، وابن أبي حاتمٍ 9/ 49، وابن حِبَّان في الثقات 5/ 498. (3) المصنَّف، الموضع السابق، 12/ 43 - 44, ح 23940. (4) مسند أحمد 1/ 380، سنن أبي داود، كتاب الخاتم، باب ما جاء في خاتم الذهب، 2/ 224، ح 4222. المستدرك، كتاب اللباس، «أن نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكره عشر خصالٍ»، 4/ 195، وقال: «صحيح الإسناد»، وأقرَّه الذهبيّ، ولكن عبد الرحمن بن حرملة مجهولٌ. [المؤلف]. وهو في صحيح ابن حبان (الإحسان) , كتاب الحظر والإباحة، باب التواضع والكبر والعجب، ذكر الزجر عن أشياء معلومة ... 12/ 495، ح 5682.
(3/958)
وفي صحيح مسلمٍ عن عوف بن مالكٍ الأشجعيِّ قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: «اعرضوا عليّ رُقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شركٌ» (1). هذا شاهد لحديث ابن مسعود في الجملة لدلالته على أن من الرقى ما هو شرك، وهو في أحاديث أخرى في الإذن بالرقى قد مرّ بعضها تبيِّن حديث ابن مسعود بدلالتها على أنَّ من الرقى ما ليس بشرك. وتفسير ذلك أن الرقى على ثلاثة أضرب: الضرب الأول: الرقية بكتاب الله تعالى وذكره ودعائه اللَّذَيْنِ أُذِنَ في مثلهما فهذا حق وإيمان، ولكن الأولى بالمؤمن ألَّا يسأل غيره أن يرقيه، كما تقدَّم إيضاحه في الدعاء (2). الضرب الثاني: ما كان فيه تعظيم لغير الله عزَّ وجلَّ، فهذا إن كان مما أنزل الله تعالى به سلطانًا فهو كالأول وإلا فهو شرك، ومن ذلك الإقسام بالكواكب وأسماء الشياطين وبالحروف (3) والأسماء التي يزعمون أنها أسماء الروحانيِّين. ويلحق بذلك في المنع ما كان فيه كلمات أعجمية لا يدرى معناها، وإن كان معها ذكر لله عزَّ وجلَّ وثناء عليه؛ لأن المشركين يخلطون عبادة الله تعالى بعبادة غيره. وكذا ما كان فيه حروف مفردة فإنه لا _________ (1) مسلم، كتاب السلام، بابٌ: «لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شركٌ»، 7/ 19، ح 2200. [المؤلف] (2) انظر ص 787 - 788. (3) كُتِب بحاشية الصفحة بقلم الرصاص عبارةٌ، كأنها: (التي لا تُعرَف)، وقد تكون من المؤلِّف.
(3/959)
يؤمَنُ أن تكون كلمات أعجمية شركية قُطِّعَتْ حروفًا. [676] الضرب الثالث: ما كان من الرقى كلمات عربية ليس فيها تعظيم ولا مدح، فإن كان يرى أو يجوِّز أن لتلك الكلمات أثرًا يستند إلى غيبيٍّ كالروحانيين والجن والكواكب ونحوها فحكمه كالقسم الثاني، والله أعلم. وإن كان لا يجوِّز ذلك، وإنما يقول: لعلَّ للحروف والكلمات خواصّ كخواصّ الأشجار والأحجار، فالحكم في هذا مشتبه، ولم نجد له مستندًا ثابتًا في الشريعة ولا في الحسِّ والعادة القطعيَّين. والذي أختاره الآن المنعُ من هذا؛ لأنه إن لم يكن فيه نفسه حرج فهو ذريعة إلى القسم الثاني، والله أعلم. وفي فتح الباري: «وقال ابن التين: .... وتلك الرقى المنهي عنها التي يستعملها المعزِّم وغيره ممن يدَّعي تسخير الجن له فيأتي بأمور مشتبهة مركَّبة من حق وباطل يجمع إلى ذكر الله وأسمائه ما يَشُوبُه من ذكر الشياطين والاستغاثة بهم والتعوُّذ بمَرَدَتهم. ويقال: إن الحية لعداوتها للإنسان بالطبع تصادق الشياطين لكونهم أعداء بني آدم، فإذا عزَّم على الحية بأسماء الشياطين أجابت وخرجت من مكانها، وكذا اللديغ إذا رُقِيَ بتلك الأسماء سالت سمومها من بدن الإنسان. ولذلك كره من الرقى ما لم يكن بذكر الله وأسمائه خاصة وباللسان العربي الذي يعرف معناه ليكون بريئًا من الشرك. وعلى كراهة الرقى بغير كتاب الله علماء الأمة. قال القرطبي: الرقى ثلاثة أقسام: أحدها: ما كان يرقى به في الجاهلية مما لا يعقل معناه فيجب اجتنابه؛ لئلا يكون فيه شرك أو يُؤدي إلى الشرك.
(3/960)
الثاني: ما كان بكلام الله أو بأسمائه فيجوز، فإن كان مأثورًا فيستحب. [677] الثالث: ما كان بأسماء غير الله من مَلَك أو صالح أو مُعظَّم من المخلوقات كالعرش، قال: فهذا ليس من الواجب اجتنابه، ولا من المشروع الذي يتضمَّن الالتجاء إلى الله والتبرك بأسمائه؛ فيكون تركه أولى إلَّا أن يتضمن تعظيم المرقيِّ به فينبغي أن يُجتنَب كالحلف بغير الله» (1). أقول: ذكر اسم المَلَك أو الصالح أو المعظَّم في معرض الرقية بذكره تعظيم وأيُّ تعظيم، فالحقُّ ما قدَّمناه في الكلام على الضرب الأول. ثم قال في الفتح: «وقال الربيع: سألت الشافعي عن الرقية، فقال: لا بأس أن يُرقى بكتاب الله وما يُعْرَف من ذكره. فقلت: أَيَرقي أهلُ الكتاب المسلمين؟ قال: نعم إذا رَقَوْا بما يُعْرَف من كتاب الله وبذكر الله. اهـ ... وروى ابن وهب عن مالك كراهة الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط والذي يكتب خاتم سليمان، وقال: لم يكن من أمر الناس القديم ... وسُئِل ابن عبد السلام عن الحروف المقطَّعة، فمنع منها ما لا يُعْرَف؛ لئلا يكون فيها كفر» (2). * * * * _________ (1) فتح الباري 10/ 153. [المؤلف]. وانظر: المفهم للقرطبي 1/ 466 - 467. (2) [فتح الباري] 10/ 153 - 154. [المؤلف]
(3/961)
التمائم قد تقدَّم حديث ابن مسعود. وأخرج الإمام أحمد والحاكم في المستدرك وغيرهما عن عقبة بن عامرٍ قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «مَن تعلَّق تميمةً فلا أتمَّ الله له، ومَن تَعَلَّق وَدَعَة فلا ودع الله له» (1). [678] وأخرج الإمام أحمد والحاكم وغيرهما عن عقبة أيضًا أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحدٍ، فقالوا: يا رسول الله بايعت تسعة وتركت هذا، قال: «إن عليه تميمةً»، فأدخل يده فقطعها فبايعه، وقال: «مَن عَلَّق تميمةً فقد أشرك» (2). وقال ابن أبي شيبة في المصنف: «ثنا شبابة، ثنا ليث بن سعد، عن يزيد، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامرٍ قال: موضع التميمة من الإنسان _________ (1) المسند 4/ 154. المستدرك، كتاب الرقى والتمائم، الدعاء عند عيادة المريض، 4/ 418، وقال: «صحيحٌ»، وأقرَّه الذهبيّ. [المؤلف] وهو في صحيح ابن حبان (الإحسان)، كتاب الرقى والتمائم، ذكر الزجر عن تعليق التمائم التي فيها الشرك بالله جل وعلا، 13/ 450، ح 6086. وقال المنذري في الترغيب والترهيب 4/ 306: «إسناده جيد». وكذا قال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 175: «ورجاله ثقات» لكن في إسناده خالد بن عبيد المعافري، وهو مجهول. انظر: السلسلة الضعيفة 3/ 427، ح 1266. (2) مسند أحمد 4/ 156، المستدرك، كتاب الطبّ، أمسك النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن بيعة رجلٍ كانت في عضده تميمةٌ، 4/ 219، ورجاله ثقاتٌ، ووقع في نسخة المستدرك تحريفٌ في بعض الأسماء. [المؤلف]
(3/962)
والطفيل (1) شركٌ»، وهذا سندٌ صحيحٌ. وقال: «ثنا شريك، عن هلال، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «مَن تعلَّق (2) التمائم وعقد الرقى فهو على شعبةٍ من الشرك»، وهذا مرسلٌ. وقال: «ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون التمائم والرقى والنشر». وقال: «ثنا حفص، عن ليث، عن سعيد بن جبير قال: من قطع تميمة عن إنسان كان كعدل رقبة» (3). وقد اختلف في تفسير التمائم. فقيل: إن التميمة خرزة مخصوصة. وقيل: بل كل ما يُعلَّق رجاءً للنفع. وممَّا يدل على الثاني ما في مصنف ابن أبي شيبة: [679] «ثنا هشام (هشيم)، ثنا مغيرة، عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون التمائم كُلَّها من القرآن وغير القرآن». ثنا هشيم، أنا يونس، عن الحسن أنه كان يكره ذلك (4). _________ (1) كذا في الأصل، والذي في المصنَّف: «والطِّفل». (2) كذا في الأصل، والذي في المصنَّف: «مَن علَّق». (3) المصنَّف، كتاب الطبّ، في تعليق التمائم والرقى، 7/ 373 - 375. (4) المصنَّف، الموضع السابق، 7/ 374.
(3/963)
وفيه: «ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن إبراهيم بن المهاجر، عن إبراهيم، عن عبد الله أنه كره تعليق شيء من القرآن. وقال: «ثنا هشيم، عن مغيرة، قلتُ لإبراهيم: أعلِّق في عضدي هذه الآية: {يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] من حُمَّى كانت بي؟ فكره ذلك. وقال: «ثنا وكيع، عن ابن عون، عن إبراهيم أنه كان يكره المعاذة (1) للصبيان، ويقول: إنهم يدخلون به الخلاء» (2). ومما يدلُّ على أن التمائم يتناول (3) ما كان من القرآن ونحوه: ما أخرجه الحاكم في المستدرك وغيره عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «ليست التميمة ما تُعُلِّق به بعد البلاء، إنما التميمة ما تُعُلِّق به قبل البلاء». قال الحاكم: «هذا حديث على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ولعل متوهمًا يتوهم أنها من الموقوفات على عائشة رضي الله عنها، وليس كذلك؛ فإن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قد ذكر التمائم في أخبارٍ كثيرةٍ، فإذا فسرت عائشة رضي الله عنها التمائم فإنه خبرٌ مسندٌ» (4). _________ (1) ما يكتب من القرآن والدعاء ويُعلَّق كما سيأتي عند المؤلف في ص 973. (2) المصنَّف، الموضع السابق، 7/ 373 - 376. (3) كذا في الأصل على تقديراسم التمائم. (4) المستدرك، كتاب الطبّ، التميمة ما تُعُلِّق به قبل البلاء، 4/ 217، وأعاده بعد ذلك [في كتاب الرقى والتمائم، التمائم ما عُلِّق قبل نزول البلاء]، 4/ 418، وقال: «صحيح الإسناد على شرط الشيخين»، وقال الذهبيّ في تلخيصه: «صحيحٌ». [المؤلف].
(3/964)
ودلالته على العموم من وجهين: الأول: ظاهر قولها: إنما التميمة ما تُعُلِّق به. [680] وكلمة (ما) من قولها: (ما تُعُلِّق به) اسم موصول، فيعمُّ كلَّ ما يُتَعَلَّق به. الثاني: أن كلمة (أل) في قولها: (التميمة) ليست للجنس، بدليل أن المعروف في اللغة بل المتواتر أن التميمة يطلق على الخرزة التي تُعَلَّق رجاء نفعها، سواء بعد البلاء عُلِّقت أم قبله، وإنما هي للعهد. أرادت ــ والله أعلم ــ ليست التميمة التي نهى عنها النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم .... ولو جعلنا التميمة في كلامها خاصًّا بالخرزة لدلّ كلامها أن تعلُّق الخرزة بعد البلاء غير منهي عنه، وهذا باطل لعموم الأحاديث في النهي وما في بعضها من ذكر السبب وأنه كان بعد البلاء، مع ما سيأتي عن عائشة نفسها من إنكارها جَعْلَ الخلخالين على الصبي، والصبي حينئذٍ مبتلىً. فالصواب ــ والله أعلم ــ حمل التميمة في كلامها على كل ما يُتعلَّق رجاء النفع، ثم يستثنى من ذلك الخرز ونحوها فإنها منهي عنها مطلقًا، ويبقى ما يُعلَّق مما فيه ذكر الله تعالى، فهذا هو الذي يجيء فيه التفصيل، فإن عُلِّق قبل البلاء فهو تميمة منهي عنها، وإن عُلِّق بعد البلاء فلا حرج فيه. وحديثها هذا هو ــ والله أعلم ــ حجَّة القائلين بمنع الرقى والمعاذات قبل البلاء والترخيص فيها بعد البلاء. قال الحافظ في الفتح: «وقال قوم: المنهي عنه من الرقى ما يكون قبل وقوع البلاء، والمأذون فيه ما كان بعد وقوعه، ذكره ابن عبد البر والبيهقي
(3/965)
وغيرهما (1)، وكأنه مأخوذ من الخبر الذي قرنت فيه التمائم بالرقى»، فذكر [681] حديث ابن مسعود المتقدم، ثم قال: «والتمائم جمع تميمة، وهي خرز أو قلادة تُعَلَّق في الرأس، كانوا في الجاهلية يعتقدون أن ذلك يدفع الآفات، والتولة .... شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر، وإنما كان ذلك من الشرك لأنهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند غير الله. ولا يدخل في ذلك ما كان بأسماء الله وكلامه؛ فقد ثبت في الأحاديث استعمال ذلك قبل وقوعه». فذكر حديث: كان إذا أوى إلى فراشه ينفث بالمعوذات، وحديث تعويذه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الحسن والحسين، وما في معنى ذلك، ثم قال: «لكن يحتمل أن يقال: إن الرقى أخص من التعوذ، وإلا فالخلاف في الرقى مشهور، ولا خلاف في مشروعية الفزع إلى الله تعالى والالتجاء إليه في كل ما وقع وما يتوقّع» (2). أقول: أما ما كان من تعويذ الإنسان بالقول والنفث ونحوه لنفسه ولولده أو لولد غيره بدون سؤال، فهذا لا يدخل في الرقية ولا يُمنَع قبل البلاء ولا بعده. وأما ما يكون لغيره بسؤال ولا سيَّما إذا كان المسؤول منه لا يعرف بالخير والصلاح أو كان من أهل الكتاب، فهذا هو الرقية التي يمنع منها قبل البلاء ويرخص فيها بعده، بشرط أن تكون بذكر الله تعالى. فأما إذا كان المسؤول معروفًا بالخير فقد كان الصحابة رضي الله عنهم ربما يذهبون بأطفالهم الأَصِحَّاء إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يدعو لهم، ولكن لم _________ (1) انظر: التمهيد 17/ 160 - 161، سنن البيهقي 9/ 350، الآداب الشرعية 2/ 444. (2) فتح الباري 10/ 153. [المؤلف]
(3/966)
يكن ذلك يتكَرَّر، ولم يفعل السلف فيما نعلم مِثْلَ ذلك مع غير النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فلم يكونوا يذهبون بأطفالهم إلى أبي بكرٍ أو عمر أو غيرهما. [682] وأما ما يكتب ويُعَلَّق فالفرق بينه وبين تعويذ الإنسان نفسه وولده ظاهر، وقول الحافظ: «وكأنه مأخوذ من الخبر الذي قُرِنَتْ فيه التمائم بالرقى» صريح أو كالصريح في أن الحكم المذكور مُسَلَّم في التمائم أي إنها إنما يرخص فيها بعد البلاء، وهذا لا يصح في الخرز، فإنه لا يرخص فيها أصلًا، كما يدل عليه قوله: «وإنما كان ذلك من الشرك؛ لأنهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند غير الله»، فإن هذا المعنى موجود في تعليق الخرز سواء أقبل البلاء عُلِّقت أم بعده، ولكن ينبغي أن يزاد بعد قوله: «من عند غير الله» بغير إذنه؛ لإخراج التداوي بالأدوية المعروفة. فالحاصل: أن التمائم التي يرخص فيها بعد البلاء هي المعاذات المكتوب فيها ذكر الله عزَّ وجلَّ. والله أعلم. وقال البيهقي في السنن الكبرى في الكلام على حديث ابن مسعود: «وقال أبو عبيد: ... وأما الرقى والتمائم فإنما أراد عبد الله ما كان بغير لسان العربية مما لا يُدرى ما هو؟ قال الشيخ (1): والتميمة يقال إنها خرزة ... , ويُقال: قلادة تُعلَّق فيها العُوَذ»، ثم ذكر حديث عقبة بن عامرٍ، ثم قال: «وهذا أيضًا يرجع معناه إلى ما قال أبو عبيدٍ، وقد يحتمل أن يكون ذلك وما أشبهه من النهي والكراهة فيمن _________ (1) هو البيهقيّ.
(3/967)
تعلّقها وهو يرى تمام العافية وزوال العلَّة منها على ما كان أهل الجاهلية يصنعون. فأما من تعلّقها متبركًا بذكر الله تعالى فيها وهو يعلم أَلَّا كاشف إلَّا الله ولا دافع عنه سواه فلا بأس بها إن شاء الله» (1). اهـ. فكلام أبي عبيدٍ صريحٌ في أن التمائم تطلق على ما يكتب، وكذا كلام البيهقي أخيرًا؛ فإنه في التمائم بدليل قوله: «فيمن تعلقها وهو يرى تمام العافية»، [683] وصريح في أن مراده التمائم المكتوبة؛ بدليل قوله: «فأما من تعلقها متبركًا بذكر الله تعالى فيها». بقي كلام في حديث عائشة، وهو أن لفظه عند البيهقي في رواية: «ليست التميمة ما يُعلَّق قبل البلاء، إنما التميمة ما يُعَلَّق بعد البلاء ليدفع به المقادير» (2). كذا وقع في هذه الرواية، ورجح البيهقي الرواية التي قَدَّمناها عن المستدرك، وكأنه انقلب الحديث في هذه الرواية، على أنها لو صحت لكان لها معنى، بأن يقال: المراد بالتمائم الخرز؛ فما علق قبل البلاء لزينة مثلًا فلا بأس به، وإنما البأس فيما يُعلَّق بعد البلاء لدفع المقادير، ولكن في هذا المعنى ركاكة؛ إذ لا يكون فائدة للتقييد بقبل البلاء وبعده، بل المدار على الباعث على التعليق، فكان وجه الكلام لو أريد هذا المعنى أن يُقال: ليس التمائم ما عُلِّق للزينة؛ وإنما التمائم ما علق رجاء النفع أو نحو ذلك، فالصواب ما رجَّحه البيهقي، وأن المتن في هذه الرواية انقلب على الراوي، والله أعلم. _________ (1) السنن الكبرى 9/ 350. (2) السنن الكبرى، كتاب الضحايا، باب التمائم، 6/ 350.
(3/968)
والحاصل أن التمائم إن أريد بها الخرز ونحوها مما لا كتابة فيه فهو ممنوع البتة، وقد ورد فيه حديث ابن مسعود وحديث عقبة بن عامر، وقد تقدَّما. وأخرج الحاكم في المستدرك عن طريق بكير بن عبد الله بن الأشج أن أمه حدثته أنها أرسلت إلى عائشة رضي الله عنها بأخيه مخرمة، وكانت تداوي من قرحة تكون [684] بالصبيان، فلما داوته عائشة وفرغت منه رأت في رجليه خلخالين جديدين (كذا)، فقالت عائشة: أظننتم أن هذين الخلخالين يدفعان عنه شيئًا كتبه الله عليه، لو رأيتهما ما تداوى عندي، وما مُسَّ عندي، لعمري لخلخالان من فضة أطهر من هذين». قال الحاكم: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي (1). وفي تهذيب التهذيب في ترجمة بكير بن عبد الله: «وقال أحمد بن صالح: إذا رأيت بكير بن عبد الله روى عن رجل فلا تسأل عنه؛ فهو الثقة الذي لا شك فيه». ولعل الصواب: (خلخالين حديدًا) بدل (جديدين)، بدليل قولها: «لخلخالان من فضة أطهر من هذين». وأخرج الإمام أحمد وابن ماجه من طريق المبارك بن فضالة عن الحسن قال: أخبرني عمران بن حصين أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أبصر على عضد رجل حلقة، أُراه قال: من صُفْر (2)، فقال: «ما هذه؟ » قال: _________ (1) المستدرك، كتاب الطبّ، التميمة ما تُعُلِّق به قبل البلاء، 4/ 217 - 218. [المؤلف] (2) من صُفْرٍ ــ بضم الصاد ــ: أي من نحاسٍ. انظر: هدي الساري 144.
(3/969)
من الواهنة (1)، قال: «أما إنها لا تزيدك إلا وهنًا! انبذها عنك؛ فإنك لو متّ وهي عليك ما أفلحت أبدًا» (2). أقول: لكن في مصنف ابن أبي شيبة: «ثنا هشيم، أنا يونس، عن الحسن، عن عمران بن حصين أنه رأى في يد رجل حَلْقَة من صُفْرٍ، فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة، قال: لم تزدك إلا وهنًا، ولو مت وأنت تراها نافعتك لمتَّ على غير الفطرة. ثنا هشيم، قال: أنا منصورٌ (3)، [685] عن الحسن، عن عمران بن الحصين، مثل ذلك». أقول: وهذا هو الصحيح, موقوفٌ. المبارك بن فضالة متكلَّم فيه، وقد تابعه على رفعه مَنْ هو دونه، وهو أبو عامرٍ الخزاز صالح بن رستم. أخرجه الحاكم في المستدرك من طريقه عن الحسن، عن عمران بن حصينٍ قال: دخلت على النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وفي عضدي حلقة صُفْرٍ، فقال: «ما هذه؟ » فقلت: من الواهنة، فقال: «انبذها». قال الحاكم: «صحيح الإسناد»، وأقرَّه الذهبي (4). _________ (1) الواهنة: عرقٌ يأخذ في المنكب وفي اليد كلِّها فيرقى منها، وقيل غير ذلك. انظر: النهاية 5/ 234. (2) المسند 4/ 445، واللفظ له. سنن ابن ماجه، كتاب الطبّ، باب تعليق التمائم، 2/ 188، ح 3531. وحسَّنه البوصيري في مصباح الزجاجة 2/ 223 ح 1232. (3) في النسخة: ثنا هشام، قال: أنا أبو منصورٍ. [المؤلف] (4) المستدرك، كتاب الطبّ، إذا رأى أحدكم من نفسه أو من أخيه ما يحبُّ فليبرِّك، 4/ 216. [المؤلف]
(3/970)
وأخرج الإمام أحمد والحاكم في المستدرك وغيرهما من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أخيه عيسى، قال: دخلت على أبي معبد الجهنيِّ وهو عبد الله بن عُكَيمٍ وبه جمرٌ (كذا) (1)، فقلت: ألا تعلِّق شيئًا، فقال: الموت أقرب من ذلك، قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن تعلَّق شيئًا وُكِلَ إليه» (2). محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى إمامٌ في الفقه، ولكنه غير قويٍّ في الحديث، ولكن في كنز العُمَّال (3) أن ابن جريرٍ أخرج هذا الحديث وصحَّحه، والله أعلم. وقال ابن أبي شيبة في المصنف (4): «ثنا علي بن مسهر، عن يزيد، أخبرني زيد بن وهب قال: انطلق حذيفة إلى رجل من النَّخَع يعوده، فانطلق وانطلقتُ معه، فدخل عليه ودخلت معه، فلمس عضده فرأى فيه خيطًا، فأخذه فقطعه، ثم قال: لو مُتَّ وهذا في عضدك ما صَلَّيتُ عليك. [686] ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن حذيفة قال: _________ (1) في الترمذيّ: «حمرةٌ»، وهو الصواب. (2) لفظ المستدرك، كتاب الطبّ، من تعلَّق شيئًا وُكِل إليه، 4/ 216. ولفظ الإمام أحمد بنحوه، المسند 4/ 310. [المؤلف]. وكذا أخرجه الترمذيّ في كتاب الطبّ، باب ما جاء في كراهية التعليق، 4/ 403، ح 2072. وقال: «وعبد الله بن عكيم لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: كتب إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». (3) 10/ 110، ح 28552. لكنه من رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عكيم. (4) كتاب الطب، في تعليق التمائم والرقى، 12/ 41 - 42، ح 23928 - 23929.
(3/971)
دخل على رجل يعوده فوجد في عضده خيطًا، فقال: ما هذا؟ قال: خيط رُقِيَ لي فيه، فقطعه، ثم قال: لو مُتَّ ما صَلَّيتُ عليك». وقال (1): «ثنا عبدة، عن محمد بن سُوقة، أن سعيد بن جبير رأى إنسانًا يطوف بالبيت في عنقه خرزة فقطعها. ثنا حفص، عن ليث، عن سعيد بن جبيرٍ قال: مَن قطع تميمة عن إنسان كان كعدل رقبة». وكُلُّ هذا يدلُّ على ما قدَّمنا في التمهيد أن مَن تعلَّق خرزة أو نحوها مجوِّزًا أن تكون سببًا لنفعٍ غيبيٍّ كان ذلك شركًا، وإن لم يكن يجوِّز ذلك ولكنه يرجو أن تكون لها خاصِّيةٌ طبيعيَّةٌ في سرور النفس أو طرد الجنِّ أو دفع العين أو نحو ذلك فهذا أيضًا ممنوع سدًّا للذريعة. وعموم الأحاديث يتناول الخيط الذي يُرْقَى فيه، ويُصَرِّح بذلك أثر ابن مسعود وأثر حذيفة؛ فإنهما لم يلتفتا إلى أن ذلك الخيط رقي فيه، ولم يسألا عن تلك الرقية بماذا كانت؟ أبذكر الله تعالى أم بغيره؟ وكأن ذلك ــ والله أعلم ــ لشبهه بالخرزة، فمُنِعَ سدًّا للذريعة، وإلَّا فقد يقاس على ما صح عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه كان يدني يديه مِنْ فيه فيتعوَّذ وينفث فيهما ثم يمسح بهما بدنه؛ فإنَّ هذا يدلُّ أنَّ نَفْثَ القارئ يقتضي حصولَ بركة فيما نفث فيه. فأما إذا اختار الراقي شيئًا مخصوصًا كجلد أرنب أو نحو ذلك مما لم يأت به سلطان أو عقد في الخيط فلا شبهة أنه في معنى الخرزة قطعًا، والله أعلم. _________ (1) الموضع السابق، 12/ 43، ح 23938 - 23939.
(3/972)
[687] وأما ما جرت به العادة أن يؤتى إلى الراقي بماء فيقرأ عليه ويدعو فيه ثم يُذْهَب به فَيُسْقاه المبتلى ويُرَشُّ عليه منه فلا أرى به بأسًا، والأولى بالمؤمن أَلَّا يسأله لنفسه على ما علمتَ فيما مرّ، والله أعلم. وأما المَعَاذات وهي ما يكتب من القرآن والدعاء ويُعلَّق فقد تقدمت آثار بكراهتها وجاءت آثار بالرخصة فيها، والظاهر الجواز بعد البلاء بشرط أَلَّا يُكتَب إلَّا ما ثبت من الشرع التبرّك به من القرآن والدعاء الخالص عَمَّا لم يأذن الله تعالى به، وبشرط ألَّا يتحرَّى شيئًا لا سلطان من الله تعالى على تَحَرِّيه، وذلك كأن يكون القلم من حديدٍ، أو يكون الرقُّ جلد غزالٍ، أو يكون المداد فيه زعفران، أو يكون الخط بالسريانيَّة، أو أن يبخِّر عند الكتابة، أو أن يكتب عددًا مخصوصًا إلا الثلاثة أو السبعة فإن لتحرِّيهما أصلًا في الشريعة، أو يتحرَّى وقتًا مخصوصًا كوقت الكسوف، أو مكانًا مخصوصًا كساحل البحر، أو أن يكتب على هيئة مخصوصة كالأوفاق (1)، أو يراعي حساب الجمَّل، أو طبائع الحروف على زعم أن لها طبائع، وغير ذلك مما هو معروفٌ في كتب العزائم كشمس المعارف وغيره، وعامَّة ذلك مأخوذ عن الصابئة، كما تقدَّم عن الشهرستاني (2). فإذا تحرَّى في المَعاذة شيئًا من هذه الأشياء التي لم يجئ بها سلطان من كتاب الله عزَّ وجلَّ ولا من سنّة نبيّه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كانت المعاذة في معنى الخرزة، وعامة كتب العزائم والتعاويذ على خلاف الشريعة، وفي كثير منها الكفر البواح والشرك الصراح، فإنا لله وإنا إليه راجعون. _________ (1) سبق التعريف بها ص 663. (2) انظر ص 671 - 673.
(3/973)
[688] فصل في التِّولة والسحر
قد تقدم (1) في حديث ابن مسعود أن التولة شرك. وفي النهاية (2): «التولة: ــ بكسر التاء وفتح الواو ــ ما يحبِّب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره، جعله من الشرك لاعتقادهم أن ذلك يؤثر ويفعل خلاف ما قدَّره الله تعالى». وقال الحافظ ابن حجر: «والتولة بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففًا: شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها وهو ضرب من السحر، وإنما كان ذلك من الشرك لأنهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند غير الله» (3). أقول: تحبُّب المرأة إلى زوجها على وجهين: الأوَّل: تحبُّبُها بما جرت العادة المبنيَّة على الحسِّ والمشاهدة أنه يحبِّب، كالتزيُّن والتدلُّل وإظهار فَرْطِ محبتها له ونحو ذلك، وليس هذا من التولة. الثاني: تحبُّبُها بما لم تَجْرِ به العادة كذلك، وإنما هو مستَنِد إلى قوَّة غيبيَّة، فهذا إن جاء سلطان من الله تعالى بالإذن فيه فذاك، وإلا فهو من التِّوَلة. وإنما جاء السلطان بالإذن في الدعاء المجرّد عن البدع والخرافات وفي كلّ ما هو طاعةٌ لله عزَّ وجلَّ كالصلاة والصيام والصدقة. وكل ما لم _________ (1) راجع ص 955. (2) 1/ 200. (3) فتح الباري 10/ 153. [المؤلف]
(3/974)
يجئ به سلطان فهو من التولة، وهي شرك؛ لأنها تتضمَّنُ خضوعًا يطلب به نفع غيبِيٌّ لم ينزل الله تعالى به سلطانًا، وتتضمَّن طاعة للشياطين والمعزِّمين وَالعَجَائِز ونحوهم فيما يُطْلَب به نفع غيبِيٌّ ولم ينزل الله تعالى بها سلطانًا، والله أعلم. وقال ابن حجر الهيتميُّ في كتابه الإعلام بقواطع الإسلام: «قد مرَّ أن السحر قد يكون كفرًا، وغرضنا الآن استقصاء ما يمكن من الكلام فيه وفي أقسامه وحقيقته وبيان أحكامه رَدْعًا لكثيرين انهمكوا عليه وعلى ما يقرب منه، وعَدُّوا ذلك شرفًا وفخرًا، [689] فنقول: مذهبنا في السحر ما بسطناه فيما مرَّ. وحاصله: أنه إن اشتمل على عبادة مخلوق كشمس أو قمر أو كوكب أو غيرها أو السجود له أو تعظيمه كما يعظَّم الله سبحانه أو اعتقاد أنَّ له تأثيرًا بذاته أو تنقيص نبي أو مَلَكٍ بشرطه السابق أو اعتقد إباحة السحر بجميع أنواعه كان كفرًا وردَّةً ..... وأما الإمام مالكٍ رحمه الله تعالى فقد أطلق هو وجماعةٌ سواه الكفر على الساحر، وأن السحر كفر، وأن تعلمه وتعليمه كفر كذلك، وأنَّ الساحر يُقتل ولا يستتاب (1)، سواء سحر مسلمًا أم ذِمِّيًّا كالزنديق، ولبعض أئمة مذهبه كلام نفيس ...... وحاصله: أن الطرطوشي قال: قال مالك وأصحابه: الساحر كافرٌ ..... ويؤدَّبُ من تَرَدَّدَ إلى السحرة إذا لم يباشر سحرًا ولا علمه؛ لأنه لم يكفر، ولكنه ركن للكفر. قال: وتعلمه وتعليمه عند مالكٍ كفرٌ. _________ (1) انظر: النوادر والزيادات 14/ 532.
(3/975)
وقالت الحنفية (1): إن اعتقد أن الشياطين تفعل له ما شاء فهو كافر، وإن اعتقد أنه تخييل وتمويه لم يكفر. وقالت الشافعية رضي الله عنهم: يصفه؛ فإن وجدنا فيه كفرًا كالتقرّب للكواكب ويعتقد أنها تفعل فيلتمس منها فهو كفر, وإن لم نجد فيه كفرًا فإن اعتقد إباحته فهو كفر (2). قال الطرطوشي: .... واحتج مَن لا يقول إن تعلمه كفرٌ بأن تعلُّم الكفر ليس بكفرٍ، فإن الأصوليَّ (3) يتعلَّم جميع أنواع الكفر ليحذِّر منه ولا يقدح في شهادته .... قال القرافي (4): هذه المسألة في غاية الإشكال على أصولنا، فإن السحرة يعتمدون أشياء تأبى القواعد الشرعية أن نكفِّرهم، كفعل الحجارة المتقدم ذكرها قبل هذه المسألة، وكذلك يجمعون عقاقير ويجعلونها في الأنهار والآبار أو في قبور الموتى أو في باب يفتح إلى الشرق، ويعتقدون أن الآثار تحدث عن تلك الأمور بخواصِّ نفوسهم التي طبعها الله تعالى على الربط بينها وبين تلك الآثار عند صدق العزم، فلا يمكن تكفيرهم بجمع العقاقير ولا بوضعها في الآبار ولا باعتقادهم حصول تلك الآثار عند ذلك الفعل؛ [690] لأنهم جرَّبوا ذلك فوجدوه لا يخرم عليهم لأجل خواصِّ نفوسهم، فصار ذلك الاعتقاد كاعتقاد الأطباء عند شرب الأدوية, وخواصِّ _________ (1) انظر: فتح القدير لابن الهمام 6/ 99 والكلام عن الكاهن. (2) انظر: روضة الطالبين 9/ 346. (3) يعني: المشتغلين بعلم الكلام. (4) في الفروق 4/ 283 فما بعدها.
(3/976)
النفوس، ولا يمكن التكفير بها؛ لأنها ليست من كسبهم، ولا كُفْرَ بغير مُكْتَسَب. وأما اعتقادهم أن الكواكب تفعل ذلك بقدرة الله، فهذا خطأ؛ لأنها لا تفعل ذلك، وإنما جاءت الآثار من خواصِّ نفوسهم التي ربط الله بها تلك الآثار عند ذلك الاعتقاد، فيكون ذلك الاعتقاد في الكوكب كما إذا اعتقد طبيب أن الله تعالى أودع في الصَّبِر والسَّقَمُونِيا (1) عَقْدَ البطن وقَطْعَ الإسهال، وأما تكفيرهم بذلك فلا. وإن اعتقدوا أن الكواكب تفعل ذلك والشياطين تُقْدِرها لا بقدرة الله تعالى؛ فقد قال بعض علماء الشافعية: هذا مذهب المعتزلة من استقلال الحيوانات بقدرتها دون قدرة الله تعالى، فكما لا تكفر المعتزلة بذلك لا يكفر هؤلاء. ومنهم مَن فَرَّق بأن الكواكب مظنة العبادة، فإذا انضمَّ إلى ذلك اعتقاد القدرة والتأثير كان كفرًا. وأجيب عن هذا الفرق: بأن تأثير الحيوان في القتل والضرِّ والنفع في مجرى العادة مشاهد من السباع والآدميين وغيرهم، وأما كون المشتري أو زُحَل يوجب شقاوة أو سعادة فإنما هو حزر وتخمين للمنجمين لا حجة في ذلك، وقد عبدت البقر والشجر, فصار هذا الشيء مشتركًا بين الكواكب وغيرها. والذي لا مرية فيه أنه كفر إن اعتقد أنها مستقلَّة بنفسها لا تحتاج إلى الله _________ (1) نباتٌ يُستخرَج منه دواءٌ مسهِّلٌ للبطن ومزيلٌ لدوده. المعجم الوسيط 437.
(3/977)
تعالى، فهذا مذهب الصابئة، وهو كفرٌ صُراحٌ .... وقال قبل ذلك: .... ذكروا أنه يؤخذ سبعة أحجار ويرجم بها كلب شأنه أنه إذا رمي بحجر عضَّه، فإذا رمي بسبعة أحجار وعَضَّها كلها لُقِطت بعد ذلك وطُرِحت في ماء، فمن شرب منه ظهر فيه آثار [691] خاصّة يعبِّر عنها السحرة، فهذه تثبت للسحر، وليس ما يذكره الأطباء من الخواصِّ في هذا العالم للنباتات وغيرها من هذا القبيل .... » (1). أقول: أما ما اشتمل على عبادة غير الله تعالى من خضوع يطلب به نفع غيبِيٌّ ولم يأذن به الله تعالى أو طاعة فيما يطلب به نفع غيبِيٌّ ولم يأذن به الله تعالى فهو شرك وكفر قطعًا؛ فوضع العقاقير في قبور الموتى ونحوها إن كان الواضع يرى أو يجوِّز كون الوضع مرضيًّا عند الله عزَّ وجلَّ أو عند الروحانيِّين أو أرواح الموتى أو الجنّ أو الشياطين أو الكواكب فوضعه لها خضوع وطاعة يطلب بهما نفع غيبِيٌّ، وإذْلم يأذن الله عزَّ وجلَّ به فهو شرك. وإن كان لا يجوِّز شيئًا من ذلك وإنما يرى ما يحصل من قبيل الخواص الطبيعيّة؛ فإن ثبت أن تلك الآثار من مُسمَّى السِّحر كان حكمُه حكم السحر الذي لا يتضمّن كفرًا آخر، وسيأتي ما فيه إن شاء الله تعالى. وهكذا رَمْيُ الكلب بالأحجار ولَقْطُها وَوَضْعُها في الماء إن جوّز الرامي أن عمله ذلك يرضي الله عزَّ وجلَّ أو الروحانيِّين أو أرواح الموتى أو الجنّ والشياطين أو الكواكب فهو من الشرك، وإن كان لا يجوِّز ذلك وإنما يرى ذلك لخاصيَّة في لُعاب الكلب عند غضبه؛ فإن ثبت أن تلك الآثار من مسمَّى السحر كان حكمُه حكمَ السحر، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى. _________ (1) الإعلام ص 58 - 61. [المؤلف]
(3/978)
فأما اعتقاد التأثير، فاعلم أن التأثير على ضربين: الأوَّل: ما ثبت بالعادة القطعيَّة المبنيَّة على الحسِّ والمشاهدة، كتأثير الآدميين الأحياء وغيرهم من الحيوان [692] إلى الحدِّ المحدود المعروف، وتأثير الشمس للحرارة واليبوسة وتأثير الأدوية في الصحة والمرض ونحو ذلك، فلا يكفر إلا مَنْ يُخْرجها من خلق الله تعالى أصلًا. فأما من يقول: إن الله تعالى أودع في النار قُوَّة الإحراق مثلًا فهي تؤثِّر بذلك إلا أن يشاء الله عزَّ وجلَّ سَلْبَها قوَّةَ الإحراق فيسلبها فلا يكفر هذا وإن خطَّأه كثير من العلماء (1). ويدخل في هذا ما لم يكن قطعيًّا ولكنه مستند إلى قطعيٍّ، كما سلف في التمهيد. الضرب الثاني: ما لم يثبت بالعادة القطعيّة المبنيَّة على الحسِّ والمشاهدة، فإن بلغ اعتقاد التأثير إلى زعم أن ذلك المؤثِّر مدبِّرٌ استقلالًا، وقد مرَّ تفسيره، فهو شرك. وإن لم يبلغ ذلك؛ فإن كان في ذلك الاعتقاد تكذيب لله عزَّ وجلَّ أو كذب عليه فهو كفر وشرك، وإلا فهو من الخرص المذموم. هذا حكم الاعتقاد، فأما إن صحبه خضوع أو طاعة فقد مرّ حكم ذلك. _________ (1) يشير الشيخ إلى علماء الأشاعرة، فهم الذين يخطئون هذا القول ويبدِّعون قائله كما قال قائلهم: «ومن يقل بالقوة المودَعة ... فذاك بدعي فلا تلتفت». انظر: شرح الخريدة البهية للدردير 165. وأهل السنة يقولون: إن النار تحرق والسيف يقطع والخبز يشبع، وكلها أسباب مؤثرة إذا توافرت الشروط وانتفت الموانع، وليست مبدعة، وليس في الوجود شيء واحد يستقل بفعل شيء إذا شاء إلا الله وحده. وخالق السبب التام خالق للمسبَّب لا محالة. منهاج السنة 3/ 12 - 13، اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 226، التدمرية 211.
(3/979)
ولا يتوقّف كون الخضوع أو الطاعة شركًا على فساد الاعتقاد في التأثير؛ فإن من اعتقد أن الملائكة والجنّ قد ينفعون بني آدم بإذن الله تعالى وقد يضرّونهم بإذن الله تعالى مصيب في اعتقاده، ولكنه إن خضع للملائكة خضوعًا لم يأذن به الله تعالى يكون مشركًا. وكذلك إن خضع للجنِّ أو أطاعهم قائلًا: إنما أخضع لهم لكي ينفعوني إذا أذن لهم الله تعالى في نفعي ولكي لا يضرُّوني إذا أذن الله تعالى لهم في ضري، بل من عمد إلى شجرة فزعم أن التمسُّح بها ينفع عند الله عزَّ وجلَّ يكون مشركًا مع أنه لم يعتقد للشجرة تأثيرًا أصلًا، ولو اشتهرت شجرة بأنها تُعبد ثم جاء إنسان إليها فصنع كما يصنع عابدوها لكان مشركًا، وإن زعم أنه لم يعتقد أن عبادتها تقرِّب إلى الله تعالى.
[693] حكم السحر وتعليمه وتعلمه
أما إذا كان في السحر عبادة لغير الله تعالى، أو كذب عليه عزَّ وجلَّ، أو تكذيب بآياته, فلا شبهة في التكفير، وربما لا يخلو السحر عن ذلك، ولكن لاشتباه معنى العبادة كثيرًا مَّا يخفى الشرك. وهذا مصداق ما جاء في الحديث عنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه قال: «أيها الناس اتقوا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل» الحديث (1). وقد تقدَّم في الأعذار بشواهده (2). وتعليمه وتعلُّمه إن كانا بمباشرة الشرك أو مع اعتقاد الكفر فكلاهما _________ (1) مسند أحمد 4/ 403. [المؤلف] (2) انظر ص 143.
(3/980)
كفر، وذلك كأن يباشر المعلم والمتعلم الأعمال الشركية، كأن يلبسا اللباس الخاص بزُحَل ويبخِّرا ببخوره، ويقْعُدا يدعُوانه ويعظِّمانه، أو يقرِّبا القُرْبان المخصوص بالجنِّ ويقعدا يدعُوان الجنَّ، أو اعتقدا أنَّ تعظيم الكواكب جائز أو أنَّ تعظيم الملائكة يحملهم على نفع المعظِّم، وقس على ذلك. وإن لم يكن إلَّا ذكر الصفة وسماعُها فليس في ذلك كفر، لكن إذا عَلِمَ الواصفُ أنَّ السامع يريد العمل فلا شكَّ أنه لا يجوز له حينئذٍ الوصف، بل ربما يكفر به؛ فإن كان راضيًا بأن يعمل السامع فلا شك في كفره، والله أعلم. وكذلك إذا خاف الإنسان من نفسه أنه إذا علم الصفة نازعته نفسه إلى العمل بها فإنه لا يجوز له استماع الصفة، فأما إذا كان عازمًا على العمل فهذا العزم كفر. ويظهر لي أن مجرَّد ذكر الصفة مع ظنِّ الواصف أنَّ السامع لا يريد العمل لا يَصْدُقُ عليه أنه تعليم، وكذلك مجرَّد استماع الصفة مع عدم إرادة السامع العمل لا يُسمَّى تعلُّمًا، فتدبَّر. وأما السحر الذي ليس فيه عبادة لغير الله تعالى ولا كذب عليه سبحانه ولا تكذيب بآياته [694] ففيه نظرٌ، وقد يُحْتَجُّ لمالكٍ ومَن وافقه بقول الله عزَّ وجلَّ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ
(3/981)
كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102 - 103]. والمراد بكلمة (مَا) من قوله: {مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} السحر، كما جاء به التفسير عن السلف، والسياق يبيِّنه، كان الشياطين يعلِّمون الناس السحر ويزعمون أن سليمان عليه السلام كان يعرفه ويعمل به، وأنه كان قِوَام مُلكه. فقوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} معناه: ما سَحَر, كما جاء به التفسير عن السلف، وهو واضح من السياق، فدلَّ هذا أن السحر كفر. وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} بينه بقوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} فدلَّ ذلك أن تعليم السحر كفر. وقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} ظاهر في أن تعلُّمه كفر. وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [695] ظاهر في كونه كفرًا؛ إذ لا يصدق على أحد أنه لا خلاق له في الآخرة إلَّا إذا كان مخلَّدًا في النار، وإنما يخلَّد الكفار، فأما الملكان فقد تقدَّم العذر عنهما (1). ولا يمتنع أن يُغَلِّظَ الشرع في السحر فيجعله كفرًا وإن لم يتضمّن شركًا، ولا كذبًا على الله تعالى، ولا تكذيبًا بآياته. أو يقال: قد علم الله تعالى أن السِّحْر لا يخلو عن الشرك بالله أو الكذب عليه أو التكذيب بآياته. هذا أقصى ما يُوَجَّه به إطلاق مالك رحمه الله تعالى. وقد يجاب عن الآية باحتمال أن الضرب الذي نسبه الشياطين إلى سليمان عليه السلام من السحر فيه شرك وكذب على الله وتكذيب بآياته، _________ (1) انظر ص 369 - 381.
(3/982)
فقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} أي: ما سحر هذا الضرب من السحر، فلا يلزم من ذلك أن كلَّ سحرٍ كُفْرٌ. وأما كفر الشياطين بتعليمهم فلأنهم يعلِّمون الناس ذلك الضرب من السحر الذي هو كفر، راغبين في أن يعمل الناس به مُرغِّبين لهم في العمل به. ويشهد لذلك أن الملَكين يُعَلِّمان ولكنهما لا يرضيان بالعمل؛ فلذلك لم يكن التعليم في حقهما كفرًا. وأما قول الملكين: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} فالمعنى: لا تعمل به فتكفر. وأما قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} فاشتراؤه هو العمل به، والله أعلم. ولنذكر بعض الطرق التي يُتوصَّل بها إلى السحر.
[696] طرق تحصيل قوة السحر
(1) أشهر الطرق بين الحكماء هي رياضة النفس بالجوع والسهر والخلوة والتفرغ عن الشواغل، وحصر الفكر في شيء محصور, وألَّا يأكل روحًا ولا ما خرج من روح، ويمسك عن الجماع، ويَجمع همته ويرتب تَنَفُّسَه على نظام معروف عندهم ونحو ذلك، فمن واظب على هذه الأمور وكان في نفسه استعداد اكتسبت نفسه قوة غريبة هي السحر. ويزعمون أنَّ مما يعين على حصول تلك القوة أن يكون المرتاض بريئًا من الحسد والبغضاء والطمع، يحب نفع المخلوقات كلها وخاصة الحيوان، وليس من شرطها دين مخصوص؛ لكن يرون أنَّ مما يساعد على حصول تلك القوة أن يجتهد المرتاض فيما يعتقد أنه عبادة سواء أكان لله عزَّ وجلَّ أم لغيره.
(3/983)
والحكماء وأشباههم يزعمون أن المقصود من هذه الرياضة تصفية النفس وتهذيبها وترقيق الحجب الجسمانية الحائلة بين النفس وبين ما هو ممكن لها من إدراك العلوم الدقيقة، والإشراف على العالم الروحاني وتطهير النفس من الأخلاق الذميمة والشهوات الحيوانية، وأن يستعمل المرتاض ما يحصل له من القوة الغريبة في تحصيل العلوم ونفع الخلق. ويقولون: إن من اشتغل بهذه الرياضة لحصول تلك القوة الغريبة فقط أو حصلت له تلك القوة فاستعملها في الأغراض الخسيسة من تحصيل جاه أو مال أو شهوة أو ضَرَّ بها مخلوقًا فهو إنسان مذموم ساقط الهمة، وأنه لا ينبغي للأستاذ أن يعلِّم إنسانًا الرياضة أو يساعده عليها حتى يَعْلَمَ حُسْنَ قصده. [697] ومن العجيب (1) أن المتصوفة نقلوا هذه الرياضة إلى الإسلام وألصقوها به، كما أشرنا إليه فيما تقدم (2)، وذلك معروف في كتبهم، والمحققون منهم يعترفون بأن هذه الرياضة ليست من الدين، وأن ما يحصل بسببها من القوة الغريبة لا يتوقف على كون المرتاض مسلمًا. وفي تاريخ الهند أن بعض المسلمين كان يرتاض على يد بعض العارفين بهذا الفن من الوثنيين، وأن بعض الوثنيين ارتاض على يد بعض المتصوفة من المسلمين. والغلاة من أصحابها من المتصوفة والوثنيين وغيرهم يزعمون أن الأديان كلها حق، وقد صرّح بذلك جماعة من زعماء المتصوفة وإن تأوّله بعض أتباعهم، وقد اشتهر في هذا العصر بين البحّاثين _________ (1) وضع المؤلِّف فوقها بقلم الرصاص: الأسف، ولعلَّه كان يريد إبدالها بـ «العجيب». (2) انظر ص 261.
(3/984)
أن من العقائد الأساسية للتصوف تساوي الأديان. وصرَّح كثير من المتصوِّفة بأن المرتاض على تلك الطريقة تحصل له قوَّة غريبة يستطيع أن يعمل بها العجائب، ولكنهم يحذِّرون المريد أن يكون ارتياضه لأجل حصول تلك القوة, وأن يقف عندها إذا حصلت له, أو يستعملها في أغراضه، وأنه إن فعل ذلك هلك. وسماها بعضهم ــ كصاحب الإنسان الكامل ــ: السحر العال (1) , وذكر أن السالك يمرّ عليها, فيكون بحيث لا يريد شيئًا إلا حصل له, وأنه نفسه مرّ عليها. أما حكم هذه الطريقة, فإن تضمَّنت كفرًا ــ كاعتقاد أن الأديان كلَّها حقٌّ، أو كذبًا على الله تعالى بإلصاق ما ليس من دين الإسلام به، أو تكذيبًا بشيء من آيات الله تعالى، أو عبادة لغير الله تعالى، أو نحو ذلك مما [698] هو كفر أو شرك ــ فالأمر واضح، وإلا فالإقدام على القول بأن تعلُّمها وتعليمَها كفرٌ صَعْبٌ؛ فإن كثيرًا من المعْتَقَدِين عند المسلمين قد سلكوها وعلَّموها وألَّفوا فيها الكتب، والله المستعان، وقد عَلِمْتَ مذهب مالك رحمه الله تعالى. فأما من ارتاض وحصلت له تلك القوَّة وعمل بها ــ كما اشتهر عن جماعة أنهم كانوا يقتلون بالحال ونحو ذلك ــ فالكفر بذلك أقرب، ولكن لا يغيبنّ عنك ما قدمناه في فصل الأعذار، ولا تجترئ فتحكم بأن كل ما يُنْقَلُ عن المتصوفين من الغرائب هو من هذا القبيل؛ فإن الصالحين في المسلمين كثير وكرامات الأولياء حق، وعليك بالتدبر والابتهال إلى الله عزَّ وجلَّ أن _________ (1) مضى تعريفه ص 263.
(3/985)
يرزقك نورًا وفرقانًا تفرق به بين المشتبهات. والله الموفق. (2) ومن طرق التعليم رياضة أخفُّ من هذه، يكون فيها أعمال مخصوصة، يزعمون أن العامل بها إذا ثبت عليها صارت له سلطة على الروحانيين والجن، فيساعدونه فيما يريد، ويزعمون أن الجنّ يعرضون للمرتاض بها ويخيِّلون له أمورًا مخيفة يهوِّلون عليه بها لكي يقطع رياضته؛ فإذا كان رابط الجأش ثبت إلى أن يُتِمَّ رياضته، فتتمَّ له السلطة، وإن خاف وقطع رياضته فاته ذلك، وربما يزول عقله من الخوف. وهذه الطريق لا تخلو عن خضوع للروحانيين والجن، وتَدَيُّنٍ بما لم ينزل به الله تعالى سلطانًا، وغير ذلك مما هو شرك وكفر. (3) ومنها: ما في «شمس المعارف» (1) وغيره من العزائم التي تتلى على هيئات مخصوصة يزعمون أن من عمل بها تمكَّن من مخاطبة الروحانيين واستخدامها، وعامَّتُها مشتملٌ على الشرك والكفر. [699] (4) ومنها: المندل، وأصل هذه الكلمة في الهندية: «مَنْتَر» , وله عندهم صور: منها: أن يستحضر العامل صبيًّا ويضع له إناء من ماء أو نقطة كبيرة من المداد أو غير ذلك من الأشياء الصقيلة، ويأمر الصبي أن يحدِّق في ذلك الشيء، والعامل يكرِّر ألفاظًا أعجمية وربما يكتبها أيضًا، ويزعمون أن الصبيّ يتراءى في ذلك الشيء الصقيل أشخاصًا من الروحانيين، ويأمره العامل أن يخاطب أولئك الأشخاص كأن يقول لهم: أحضروا كبشًا، ثم يقول لهم: اذبحوه، اسلخوه، قطِّعوه، اطبخوه، كلوه؛ فيراهم يفعلون ذلك _________ (1) سبق التعريف به في الصفحة الأولى من الكتاب.
(3/986)
كلّه، ثم يسألهم عن غائب أو سرقة فيحضرون له ذلك الغائب بهيئته التي هو عليها حينئذٍ حتى إذا كان ميتًا يُرُونَه إياه ميتًا أو يُرُونَه قبره، ويُرُونَه الموضع الذي خبئت فيه السرقة، أو يحضرون له السارق فيراه، كُلُّ ذلك على سبيل التخييل والتمثيل، يراه الصبي في ذلك الشيء الصقيل. هكذا يزعمون، ولا أدري ما صحته. وقد دعاني بعضهم وأنا صبي صغير، فكتب أسماء، ووضع على ظفر إبهامي نقطة كبيرة من المداد، وبقي يكرر ألفاظًا أعجمية، فيما أحسب، وأمرني بالتحديق في النقطة، وأن أقول: احضروا، ثم سألني هل ترى أشخاصًا فلم أر شيئًا؛ ولكن من شدَّة التحديق وتعب النظر مع جهد الفكر كنت أرى خيال بعض الأشياء الحاضرة، فأَتَوهَّمُ أنها صورة شخص، فإذا تأملت لم أثبته، فاعتذر العامل بأني ليس في نفسي استعداد لذلك. وهذا العمل من الشرك؛ لما فيه من الخضوع للجنِّ ودعائهم وغير ذلك. [700] (5) ومنها: التقرُّب إلى الشياطين بالإقدام على أعمال خبيثة كقتل الصبيان والزنا بالمحارم وغير ذلك من الفظائع، وذلك شرك كما علمت مما تقدّم. (6) ومنها: ما يسمُّونه التعفين والتحريق، وقد ذُكِرَ في تذكرة داود الأنطاكي (1). وظاهر وصفه أنه من قبيل الخواصّ الطبيعية الغريبة، فيلحق _________ (1) انظر: ذيل تذكرة أولي الألباب ص 78 - 79. وداود بن عمر الضرير الأنطاكي، رئيس الأطباء، حكيم مشارك في أنواع العلوم، ولد بأنطاكية، وتوفي بمكة سنة 1008 هـ، من تصانيفه: «نزهة الأذهان في طب الأبدان»، و «تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب العجاب» ويعرف بتذكرة الأنطاكي. البدر الطالع 1/ 246، معجم المؤلفين 4/ 140.
(3/987)
بالشعبذة، ولا أرى الشعبذة كفرًا إلا أن يقصد بتعلُّمها دعوى النبوة، أو الولاية ليضل الناس عن سبيل الله ويكذب على الله، فإن لم يقصد ذلك وقصد ما هو محرَّم كالاستعانة على السرقة ونحوها فحرام، وإلا فقد يتجه إطلاق التحريم أيضًا سدًّا للذريعة. وقد قال ابن سعد: «أخبرنا أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي، ثنا عطاف بن خالد قال: كنت قائمًا مع سالم بن عبد الله فأُتِي بغلام ومعه غلمان وهو أشقُّهم، فسلّ خيطًا من إزاره (1) فقطعه، ثم جمعه بين إصبعيه، ثم تفل فيه مرتين أو ثلاثًا، ثم مدّه فإذا هو صحيح لا بأس به، فقال سالم: لو وليت من أمره شيئًا لصلبته» (2). * * * * _________ (1) كذا في الأصل، وفي طبعة دار صادر من الطبقات: «أزراره». (2) طبقات ابن سعد 5/ 148. [المؤلف]
(3/988)
[701] القسم بغير الله عزَّ وجلَّ في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه قال: «مَن حلف فقال في حلفه: باللات والعُزَّى, فليقل: لا إله إلا الله» الحديث (1). وفي صحيح مسلمٍ عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم» (2). وفي الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، مَن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» (3). وفي مسند أبي داود الطيالسي: ثنا شعبة، عن منصورٍ والأعمش ــ قال أبو داود: وأنا لحديث الأعمش أحفظ، والإسناد واحدٌ ــ، سمعا سعد بن عبيدة يحدِّث عن ابن عمر أن رجلًا سأله عن الرجل يحلف بالكعبة فقال: لا تحلف بالكعبة ولكن احلف بربِّ الكعبة، فإن عمر كان يحلف بأبيه فقال له _________ (1) البخاريّ، كتاب الأيمان والنذور، بابٌ لا يحلف باللات والعزَّى ولا بالطواغيت، 8/ 133، ح 6650. مسلم، كتاب الأيمان، باب مَن حلف باللات والعزَّى ... ، 5/ 81، ح 1647. [المؤلف] (2) مسلم، الموضع السابق، 5/ 82، ح 1648. [المؤلف] (3) البخاريّ، كتاب الأيمان والنذور، باب لا تحلفوا بآبائكم، 8/ 132، ح 6646. مسلم، كتاب الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى، 5/ 81، ح 1646. [المؤلف]
(3/989)
رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن حلف بغير الله فقد أشرك» (1). أقول: هذا إسنادٌ جليلٌ على شرط الشيخين إلَّا أن للحديث علَّةً. قال الإمام أحمد: ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن منصور، عن سعد (2) بن عبيدة قال: كنت عند ابن عمر فقمت وتركت رجلًا عنده من كندة فأتيت سعيد بن المسيب [702] قال: فجاء الكندي فزعًا، فقال: جاء ابنَ عمر رجلٌ، فقال: أحلف بالكعبة؟ فقال: لا، ولكن احلف برب الكعبة، فإن عمر كان يحلف بأبيه فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لا تحلف بأبيك؛ فإنه مَنْ حلف بغير الله فقد أشرك» (3). وقال أيضًا: ثنا حسين بن محمد، ثنا شيبان، عن منصور، عن سعد بن عبيدة قال: جلست أنا ومحمد الكندي إلى عبد الله بن عمر ثم قمت من عنده. فذكر الحديث بنحوه، وفيه: فجاء صاحبي ــ يعني الكندي ــ وقد اصفرَّ وجهه وتغيّر لونه، فقال: قم إليَّ، قلت: ألم أكن جالسًا معك الساعة، فقال سعيد (4): قم إلى صاحبك، قال: فقمت إليه، فقال: ألم تسمع إلى ما قال ابن عمر ... , فذكره بنحوه (5). وقال الطحاوي: إن ابن مرزوق قد حدّثنا، قال: حدّثنا شعبة، عن منصور ... فذكره بنحوٍ من رواية محمد بن جعفرٍ ــ غندر ــ، عن شعبة. ثم _________ (1) مسند الطيالسي ص 257. [المؤلف]. وفي ط: دار هجر 3/ 412، ح 2008. (2) في النسخة: «سعيد» , خطأ. [المؤلف] (3) المسند 2/ 86. [المؤلف] (4) في النسخة: «سعد» , خطأ. [المؤلف] (5) المسند 2/ 69. [المؤلف]
(3/990)
قال الطحاوي أيضًا: «وأن يزيد بن سنان قد حدثنا، قال: حدثنا الحسن (1) بن عمر بن شقيقٍ، حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن منصورٍ .... فذكره بنحوٍ من رواية غندر عن شعبة أيضًا (2). فهذه الروايات عن منصورٍ تبين أن سعد بن عبيدة إنما سمع القصة من محمد الكندي، وهو رجل مجهول. فإن قلت: سعد بن عبيدة لم يوصف بتدليس فليحمل على أنهما قصتان سمع سعد من ابن عمر إحداهما وسمع الأخرى من محمد الكندي عن ابن عمر، ويوجَّه إخباره بالثانية عن الكندي مع أنه قد سمع مثلها من ابن عمر بأن في الثانية زيادةً وهي بيان ما لحق الكندي [703] من الرَّوْع والفزع. قلت: إنه لمحتملٌ ولكن ليس بالبيِّن، ويُضعفه أن أبا داود الطيالسي أشار إلى أنه لم يتقن الحديث كلَّ الإتقان. وقد أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم من طريق أبي خالدٍ الأحمر، عن الحسن بن عبيد الله النخعي، عن سعد بن عبيدة أن ابن عمر سمع رجلًا يقول: لا والكعبة، فقال ابن عمر: لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» (3). _________ (1) في النسخة: «الحسين» , خطأ. [المؤلف] (2) مشكل الآثار، باب بيان مشكِل ما رُوِي عنه عليه السلام من نهيه عن الحلف بغير الله تعالى ... ، 1/ 359. [المؤلف]. وفي طبعة الرسالة 2/ 299 - 300، ح 830 - 831. (3) المسند 2/ 125، جامع الترمذيّ، كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء أن مَن حلف بغير الله قد أشرك 1/ 290، وقال: «حسنٌ». المستدرك، كتاب الأيمان والنذور، تسبيح ديكٍ رجلاه في الأرض وعنقه تحت العرش، 4/ 297، وقال: «صحيحٌ على شرط الشيخين»، وأقرَّه الذهبيّ. وفي رواية الحاكم تصريح أبي خالدٍ بقوله: «ثنا الحسن بن عُبَيد الله»، فأُمِنَ تدليسه. [المؤلف]
(3/991)
أقول: قوله في هذه الرواية «إنَّ ابن عمر سمع رجلًا يقول: لا والكعبة» يدل أن هذه قصة أخرى غير التي سمعها سعد من الكندي؛ لأن في تلك «جاء ابنَ عمر رجلٌ، فقال: أحلف بالكعبة؟ » ولكن قد يُقال: إن مثل هذا الاختلاف كثيرًا ما يقع في حكاية القصة الواحدة، والحسن بن عُبيد الله ثقةٌ وثَّقه الأئمة، وأخرج له مسلمٌ في صحيحه، وأما البخاري فقال: «لم أخرج حديث الحسن بن عُبيد الله؛ لأن عامَّة حديثه مضطرب» حكاه في تهذيب التهذيب (1). ولما ذكر الإمام أحمد هذه الرواية في المسند أعاد عقبها روايته عن محمد بن جعفر غندر، عن شعبة (2) التي مرَّت؛ كأنه يشير إلى احتمال أن تُعَلَّلَ بها. وصَرَّح بذلك البيهقي في السنن (3)، ذكر رواية أبي خالد الأحمر، ثم قال: «وهذا مما لم يسمعه سعد بن عبيدة من ابن عمر»، فذكر حديث أحمد عن غندر، كما مضى. [704] وتعقبه الحافظ ابن حجر بقوله: «قلت: قد رواه شعبة عن منصور عنه قال: كنت عند ابن عمر، ورواه الأعمش، عن سعد، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن ابن عمر» (4). _________ (1) 2/ 292. (2) انظر: المسند 2/ 125. (3) كتاب الأيمان، باب كراهية الحلف بغير الله عزَّ وجلَّ، 10/ 29. [المؤلف] (4) تلخيص الحبير ص 396. [المؤلف]
(3/992)
كذا قال، فإن كان أراد رواية شعبة التي ذكرها الإمام أحمد عن غندر عنه فلا يفيد قول سعد: «كنت عند ابن عمر» , فإن بعده: «فقمت وتركت رجلًا ... » كما تقدم، وهو صريح أنه لم يسمع القصة، وإن أراد غيرها فلم أقف عليها. وكذلك رواية الأعمش، عن سعد، عن أبي عبد الرحمن السلمي لم أقف عليها، وستأتي رواية للأعمش على غير هذا الوجه. وفي المستدرك من طريق جرير بن عبد الحميد، عن الحسن بن عُبيد الله النخعي، عن سعد بن عبيدة، عن ابن عمر، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «مَن حلف بغير الله فقد كفر» (1)، وقال: «هذا حديث صحيحٌ على شرط الشيخين؛ فقد احتجَّا بمثل هذا الإسناد وخَرَّجاه في الكتاب، وليس له علَّةٌ، ولم يخرجاه. وله شاهدٌ على شرط مسلمٍ .... شريك بن عبد الله، عن الحسن بن عبيد الله، عن سعد بن عبيدة، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «كل يمينٍ يُحْلَف بها دون الله شركٌ». أقرَّه الذهبي. وأعاده بعد عدَّة أوراقٍ من طريق إسرائيل، عن سعيد بن مسروقٍ، عن سعد بن عبيدة، عن ابن عمر قال: قال عمر: لا وأبي، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لا تحلفوا بآبائكم، مَن حلف بشيءٍ دون الله فقد أشرك». [705] ومن طريق محمد بن يحيى، ثنا عبد الرزاق، أبنا سفيان، عن أبيه والأعمش ومنصورٍ، عن سعد بن عُبيدة، عن ابن عمر قال: كان عمر يحلف: وأبي، فنهاه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «مَن حلف بشيءٍ من دون _________ (1) المستدرك، كتاب الإيمان، مَن حلف بغير الله فقد كفر، 1/ 18. [المؤلف]
(3/993)
الله فقد أشرك»، وقال الآخر (1): «فهو شركٌ». ثم أعاد رواية جرير بن عبد الحميد من طريق أخرى ثم قال: «هذا حديث صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ، وإنما أودعته كتاب الإيمان للفظ الشرك فيه، وفي حديث مصعب بن المقدام عن إسرائيل: «فقد كفر». فأما الشيخان فإنما أخرجاه من حديث سالمٍ ونافعٍ وعبد الله بن دينارٍ عن ابن عمر أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال لعمر: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم»، وهذا غير ذاك» (2). ورواية عبد الرزاق عن سفيان أخرجها الإمام أحمد في المسند (3)، وسفيان هو الثوري، ورواية إسرائيل عن سعيد بن مسروق ــ وهو والد الثوري ــ ذكرها الطحاوي في مشكل الآثار (4). فهذه الروايات أقرب إلى أن يُحْكَمَ لها بالسلامة من العلَّة؛ لأنه غير مستنكر أن يكون سعد بن عبيدة قد سمع هذا الحديث المرفوع من ابن عمر، ولكنه لم يسمع كلام ابن عمر في شأن الكعبة فاحتاج أن يذكره عن الكندي عن ابن عمر. ويؤيد هذا: قال الإمام أحمد «ثنا وكيع، ثنا الأعمش، عن سعد بن عبيدة _________ (1) لم يتبيَّن لي مَن هو، إلا أن يكون الأعمش أو منصورًا. (2) المستدرك، كتاب الإيمان، مَن حلف بشيءٍ دون الله فقد أشرك، 1/ 52. [المؤلف] (3) 2/ 34. [المؤلف] (4) 1/ 358. [المؤلف]
(3/994)
قال: كنت مع ابن عمر في حلقة فسمع رجلًا في حلقة أخرى وهو يقول: لا وأبي، فرماه ابن عمر بالحصى وقال: إنها كانت يمين عمر فنهاه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم [706] عنها وقال: إنها شرك» (1). وقال الطحاوي: «حدثنا بكار، حدثنا يحيى بن حماد, حدثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة» فذكره بنحوه (2). ففي هذه الرواية تصريح سعد بسماعه هذا الحديث من ابن عمر، وأكَّد ذلك أن في هذه الرواية قصة غير القصة التي ذكرها عن الكندي قطعًا، وليس من المحتمل أن تكون القصة واحدة، ولكن فيه شيء وهو أن الأعمش مدلِّس ولم يصرِّح في هذه الرواية بالسماع, وإن كان قد صرَّح به في رواية أبي داود الطيالسي التي صَدَّرْنا بها. نعم, ذكر الذهبي في ترجمة الأعمش من الميزان أن روايته عن شيوخه الذين أكثر عنهم محمولة على الاتصال. كذا قال، وفيه نظر. وبالجملة، فإن جاء في روايةٍ تصريحُ الأعمش بالسماع في الرواية التي صرَّح فيها سعدُ بن عبيدة بسماعه هذا الحديث من ابن عمر، فالحديث صحيح على شرط الشيخين حتمًا، وكذا إذا كان شعبة قد روى عن منصور عن سعد مصرِّحًا بالسماع كما سبق عن تلخيص الحبير، أو صحَّ رواية سعد الحديث عن أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن عمر كما سبق من تلخيص الحبير أيضًا، وإلا فالحديث حسن كما قاله الترمذي. ويؤكِّد ذلك جزم _________ (1) المسند 2/ 58، وأعاده في ص 60. [المؤلف] (2) مشكل الآثار، باب بيان مشكِل ما رُوِي عنه عليه السلام من نهيه عن الحلف بغير الله تعالى ... ، 1/ 357. [المؤلف]. وفي طبعة الرسالة 2/ 297، ح 826.
(3/995)
الحاكم بأن الحديث صحيح على شرط الشيخين وليس له علَّة وأقرَّه الذهبي، ويبعد أن يكونا لم يطَّلعا على الرواية التي ذُكِرَ فيها الكندي. وقد صحَّح الحديث أيضًا ابن حبان، رواه من طريق الحسن بن عُبيد الله (1). وقد أشار البخاري في صحيحه إلى صحة هذا الحديث فإنه قال: «باب مَن [707] أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال» ثم ذكر الأحاديث في ذلك، ثم قال: «باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولًا أو جاهلًا» ثم ذكر قول عمر لحاطب: إنه منافق، وقول معاذ للرجل الذي فارقه في الصلاة: إنه منافق، وحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «من حلف منكم فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله»، وحديث نافع عن ابن عمر أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا فليحلف بالله وإلَّا فليصمت» (2). فأما حديث أبي هريرة فكأن البخاري استنبط من اكتفاء النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بقوله: «فليقل: لا إله إلا الله»، أنه لم يجعل ذلك رِدَّة مع أن الكلمة كلمة كفر؛ ولكن لما كانت لا تقع منه عمدًا وإنما يسبق لسان بعضهم إليها لاعتياده قولها قبل أن يُسْلِمَ عَذَرَهُمْ بذلك، وأخبرهم بما يدفع مَعَرَّةَ التلفظ بها وهو أن يعلن بنقيضها وهو قول لا إله إلا الله. قال في الفتح: «وقال ابن العربي: مَن حلف بها جادًّا فهو كافر، ومَن _________ (1) انظر: صحيح ابن حبان (الإحسان)، كتاب الأيمان، ذكر الزجر عن أن يحلف المرء بشيء سوى الله جلَّ وعلا، 10/ 199 - 200، ح 4358. (2) انظر: صحيح البخاريِّ، كتاب الأدب، 8/ 26 - 27، ح 6103 - 6108. [المؤلف]
(3/996)
قالها جاهلًا أو ذاهلًا يقول: لا إله إلا الله، يكفِّر الله عنه، ويرد قلبه عن السهو إلى الذكر، ولسانه إلى الحق، وينفي عنه ما جرى به من اللغو» (1). وأخرج النسائيُّ بسندٍ صحيحٍ عن سعد بن أبي وقَّاصٍ قال: حلفت باللات والعزَّى، فقال لي أصحابي: بئس ما قلتَ، قلتَ هُجْرًا (2)، فأتيت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فذكرت ذلك له، فقال: «قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير؛ وانفث عن [708] يسارك ثلاثًا، وتعوَّذْ بالله من الشيطان، ثم لا تَعُدْ». وفي روايةٍ أخرى له: عن مصعب بن سعدٍ، عن أبيه، قال: كنا نذكر بعض الأمر وأنا حديث عهدٍ بالجاهليَّة، فحلفت باللات والعزَّى، فقال لي أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: بئس ما قلت، ائت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فأخبره؛ فإنا لا نراك إلا قد كفرت، فأتيته فأخبرته فقال لي: «قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثلاث مرَّاتٍ، وتعوَّذ بالله من الشيطان ثلاث مرَّاتٍ، واتفل عن يسارك ثلاث مرَّاتٍ، ولا تَعُدْ له» (3). وأما ذِكْرُ البخاري لحديث عمر فقال في الفتح: «وقصد بذكره هنا _________ (1) فتح الباري 8/ 434. [المؤلف] (2) أي: قبيحًا من الكلام. (3) سنن النسائيّ، كتاب الأيمان والنذور، الحلف باللات والعزَّى، 2/ 140، ح 3785 - 3786، وأخرجه ابن ماجه [في كتاب الكفَّارات، باب النهي أن يحلف بغير الله] مختصرًا، 1/ 330، ح 2097. وصحَّحه ابن حِبَّان [(الإحسان)، كتاب الأيمان، ذكر الأمر بالاستعاذة بالله جلَّ وعلا من الشيطان لمن حلف بغير الله تعالى، 10/ 206، ح 4365]، كما في الفتح 8/ 434. [المؤلف]
(3/997)
الإشارة إلى ما ورد في بعض طرقه: «مَن حلف بغير الله فقد أشرك». لكن لما كان حلف عمر بذلك قبل أن يسمع النهي كان معذورًا فيما صنع، فلذلك اقتصر على نهيه ولم يؤاخذه بذلك» (1). أقول: ومن الواضح أن احتجاج البخاري بحديث عمر في هذا الباب أنه يرى أن من حلف بأبيه غير جاهل ولا ذاهل فقد كفر، ويؤخذ من ذلك أنه يرى أن حديث سعد بن عبيدة صحيح ثابت. والله أعلم. ومن شواهد الحديث ما في مصنف ابن أبي شيبة عن عكرمة قال: قال عمر: حَدَّثْتُ قومًا حديثًا فقلت: «لا وأبي»، فقال رجل من خلفي: «لا تحلفوا بآبائكم»، فالتفتُّ؛ فإذا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «لو أنَّ أحدكم حلف بالمسيح هلك، والمسيح خيرٌ من آبائكم» (2). قال الحافظ ابن حجرٍ: وهذا مرسلٌ يتقوَّى بشواهده (3). وفي كنز العمال عن مصنَّف عبد الرزاق عن الشعبي قال: مرَّ النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم برجلٍ يقول: وأبي، فقال: «قد عُذِّب [709] قومٌ فيهم ابن مريم، خير من أبيك، فنحن منك براءٌ حتى ترجع» (4). وأخرج الحازمي في كتاب الاعتبار وابن عساكر وغيرهما عن يزيد بن سنان أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان يحلف زمنًا فيقول: «لا وأبيك» _________ (1) فتح الباري 10/ 395. [المؤلف] (2) المصنَّف، كتاب الأيمان والنذور، الرجل يحلف بغير الله أو بأبيه، 3/ 416. (3) فتح الباري 11/ 425. [المؤلف] (4) كنز العمال 8/ 346. [المؤلف]. وهو في مصنَّف عبد الرزَّاق، كتاب الأيمان والنذور، باب الأيمان ولا يحلف إلا بالله، 8/ 468، ح 15928.
(3/998)
حتى نُهِي عن ذلك، ثم قال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لا يحلف أحدكم بالكعبة؛ فإن ذلك إشراكٌ، وليقل: وربِّ الكعبة». قال الحازمي: «هذا حديث غريب من حديث الشاميِّين، وإسناده ليس بذاك القائم غير أن له شواهد»، ثم ذكر حديث «أفلح وأبيه إن صدق» ونحوه (1). وأنا إنما ذكرته شاهدًا لحديث سعد بن عبيدة؛ لأن فيه: «فإنه إشراك». وأخرج الإمام أحمد والنسائي والحاكم في المستدرك ــ وقال صحيح الإسناد وأقرَّه الذهبي ــ عن قُتَيْلَة بنت صَيْفِي رضي الله عنها أن يهوديًّا أتى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: إنكم تُندِّدون، وإنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: وربِّ الكعبة، ويقول أحد [هم]: ما شاء الله ثم شئت» (2). وأخرج أبو داود والحاكم في المستدرك ــ وقال: صحيح الإسناد وأقرَّه الذهبي ــ[710] عن بريدة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن _________ (1) الاعتبار ص 229. [المؤلف]. وانظر: تاريخ دمشق، ترجمة يزيد بن سنانٍ، 65/ 219. (2) مسند أحمد 6/ 371 - 372، سنن النسائيّ، كتاب الأيمان والنذور، الحلف بالكعبة، 2/ 140 ح 3782 ــ واللفظ له ــ. والمستدرك، كتاب الأيمان والنذور، تسبيح ديكٍ رجلاه في الأرض وعنقه تحت العرش، 4/ 297، وفيه: « ... إنكم تشركون؛ تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة ... ». [المؤلف]. وما بين المعقوفتين من السنن الكبرى للنسائيِّ، وفي المجتبى: «ويقولون».
(3/999)
حلف بالأمانة فليس منا» (1). حقيقة القَسَم وقع اشتباه في معناه، وارتباك في الجمع بين الأحاديث المتقدمة وإقسامِ الله تبارك وتعالى في كتابه بأشياء من مخلوقاته، كالشمس والقمر والتين والزيتون، وما صحَّ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من قوله: «أفلح وأبيه إن صدق» (2)، وقوله: «وأبيك لتنبأنَّ» (3)، وجاء عن أبي بكرٍ رضي الله عنه أنه كان يقول للرجل الذي اتُّهِم بالسرقة وكان يقوم الليل: «وأبيك ما ليلك بليل سارقٍ» (4). وألَّف الأستاذ حميد الدين الفراهي الهندي رسالة سماها: «الإمعان في أقسام القرآن» أجاد فيها، وسألخِّص هاهنا ما استفدته منها ومن غيرها، وما ظهر لي، فأقول: أصل المقصود من القسم التوكيد اتفاقًا؛ ولذلك ــ والله أعلم ــ سمي _________ (1) سنن أبي داود، كتاب الأيمان والنذور، بابٌ في كراهية الحلف بالأمانة، 2/ 107، ح 3253 - واللفظ له -. والمستدرك، الموضع السابق، 4/ 298. وصحَّحه النوويُّ في الأذكار ص 526. [المؤلف] (2) أخرجه مسلمٌ في كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، 1/ 32، ح 11 (9). (3) أخرجه مسلمٌ في كتاب البرِّ والصلة والآداب، باب برِّ الوالدين ... ، 8/ 2، ح 2548 (3). (4) أخرجه مالكٌ في الموطَّإ، كتاب الحدود، باب جامع القطع، 2/ 399، ح 2418، ط: دار الغرب.
(3/1000)
يمينًا أخذًا من اليمين بمعنى القُوَّة، ويمكن أن يكون من اليد اليمين لما جرت به العادة من الصفق باليمين عند المحالفة، وسمي أليَّة من قولهم: أَلا يألو إذا اجتهد، لا من قولهم: ألا يألو إذا قصَّر. وفي سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إذا اجتهد في اليمين قال: «والذي نفس أبي القاسم بيده» (1). وأما القَسَم فاسمٌ من قولهم: أَقْسَم إذا حلف، وكأنه مأخوذ من القَسْم بوَزْنِ فَلْسٍ، [711] وهو الشك، كما في القاموس وغيره (2)، فقالوا: أقسم، أي: أزال القَسْم، كما قالوا: أشكاني الأمير، أي: أزال شكواي، كما في كتب اللغة والتصريف، والحالف إنما يحلف ليزيل الشكَّ. وأما الحَلِفُ فكأنه مأخوذ من حلافة اللسان أي حدَّته ــ كما في القاموس وغيره (3) ــ؛ لأن حديد اللسان يكثر من القَسَم. ولذلك ــ والله أعلم ــ لم يجئ لفظ الحلف في القرآن إلا في معرض الذمِّ, قال تعالى: _________ (1) سنن أبي داود، كتاب الأيمان والنذور، بابٌ يمين النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ما كانت، 2/ 109، ح 3264. [المؤلف]. وهو في مسند أحمد 3/ 33 و 48. وصححه ابن الملقن في البدر المنير 24/ 208، ح 2410. لكن في إسناده عاصم بن شميخ، لم يوثقه إلا العجلي 2/ 8، وذكره ابن حبان في الثقات 5/ 239. أما أبو حاتم فقال: (مجهول). الجرح والتعديل 6/ 345. ولذلك ضعَّفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود. (2) انظر: القاموس المحيط 1483، لسان العرب 12/ 480. وفيه أيضًا وفي معجم مقاييس اللغة 5/ 72 أن أصل ذلك من القسامة، ولم يذكر ابن فارس غيره، ونسبه إلى أهل اللغة. (3) انظر: القاموس المحيط 1035، لسان العرب 9/ 56.
(3/1001)
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة: 62] , وآيات أخرى كلُّها في المنافقين، وقال سبحانه: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [ن والقلم: 10]. فأما وجه إفادة القسم التوكيد فمختلِفٌ باختلاف المقسَم به، وهو على أضرُبٍ: الضرب الأوَّل: أن يكون في اعتقاد الحالف ومخاطَبيه ذا قدرة غيبية، فمعنى الحلف به جَعْلُه كَفيلًا وشاهدًا على الحالف بألَّا يُخْلِفَ ولا يكذب، قال الله تبارك وتعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل: 91]. وقال عزَّ وجلَّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204]. قال ابن جرير: «فقال بعضهم: نزلت في الأخنس بن شريق، قَدِمَ على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فزعم أنه يريد الإسلام وحلف أنه ما قَدِمَ إلا لذلك ... حدثني يونس قال: أنا ابن وهب قال: قال ابن زيد {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} إلى قوله: { .. وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} قال: كان رجل يأتي إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فيقول: أي رسول الله، أشهد أنك جئت بالحق ... ثم يقول: أما والله يا رسول الله إن الله ليعلم ما في قلبي مثل ما نطق به لساني (1). [712] فالجَعْلُ للمحلوف به كَفيلًا ظاهرٌ فيما إذا كان الحلف على فعل _________ (1) تفسير ابن جرير 2/ 175 - 176. [المؤلف]
(3/1002)
شيء في المستقبل أو تركه، وإشهاده ظاهر فيما يكون الحلف على أنه وقع أو لم يقع، أو أنه واقع في الحال، أو غير واقع، وكذا على أنه سيقع في المستقبل، أو أنه لن يقع؛ لأن العلم إذا أحاط بوقوع شيء في المستقبل أو عدم وقوعه صار كأنه حاضر فتصحُّ الشهادة والإشهاد عليه كما يقول المؤمن: أشهد أن الساعة ستقوم، ونحو ذلك. ويمكن أن يكون الحلف على الوقوع وعدمه تكفيلًا، كأن الحالف يجعل المحلوف به كفيلًا عليه ألَّا يكذب. ومن هذا الضرب: الحلف بالكعبة، لأن الحالف يرى أنها كريمة عند الله عزَّ وجلَّ، بحيث يغضب على من احتقرها واستهان بها، ومن جعل شيئًا كفيلًا ولم يفِ أو شهيدًا على كَذِبٍ فقد احتقره واستهان به. ومنه أيضًا الحلف بالأصنام؛ لأن الحالف يزعم أنها كريمة عند مَن جُعِلَتْ تماثيل لهم، وهم أولو قدرة غيبيَّة أو مكرمون عند الله تعالى الذي له القدرة الغيبيَّة، فيزعم أن احتقارها والاستهانة بها احتقار لهم، وقس على ذلك. وإنما يثق المحلوف له باليمين في هذا الضرب؛ لأنه يعلم أن الحالف يُجِلُّ المحلوف به ويخاف سطوته الغيبيَّة، فيبعد أن يجعله كفيلًا ثم لا يفي له أو شهيدًا على الكذب، وعلى فرض أن الحالف يجترئ على ذلك فالمحلوف به يعاقبه ويوفي المحلوف له حقَّه من عنده. [713] الضرب الثاني: أن يكون المحلوف به عزيزًا على الحالف ولا يرى له قدرة غيبية، وذلك كما يحلف بعض الناس بشرفه، كأنه يقول: إن شرفي كفيل عليَّ، بمعنى: أني إن لم أفِ أو إن كنتُ كاذبًا فقد احتقرتُ
(3/1003)
شرفي أو فلا شرف لي. ومنه قولهم: وحقِّك، كأنه يقول: إن لم أفِ أو إن كنت كاذبًا فقد ضيَّعْتُ ما لك من الحقِّ عليَّ. وقد يكون منه قولهم: وحياتِك، ورأسِك، وجَدِّك، كأنه يقول: إن لم أف أو إن كنت كاذبًا فقد احتقرتُ حياتك واستهنتُ بها، فاعددني حينئذٍ عدوًّا, فيثق المحلوف له بهذه اليمين؛ لعلمه أن الحالف حريصٌ على بقاء المودَّة. الضرب الثالث: أن يكون المحلوف به مما له خطر عند الحالف، بحيث يضرُّه أن يَتْلَفَ أو يَنْقُصَ، فيحلف به على معنى أني إن لم أفِ أو إن كنت كاذبًا فالإله يتلف هذا الشيء أو ينقصه، كحلف بعضهم برأسه وعينيه وحياته. ويمكن أن يكون منه قول أحدهم لصديقه: وحياتك، ورأسك، وجدِّك، كأنه يقول: إن حياتك أعزُّ عليَّ من حياتي، فهي أولى أن أقسم بها. وهذا المعنى المفهوم من القسم يَغفِرُ ما يؤول إليه المعنى؛ إذ حاصله: إن لم أَفِ أو إن كذبتُ فأفقدني الله تعالى حياتك، وكأن القائل (1): فإن تكُ ليلى استودعتني أمانةً ... فلا وأبي أعدائها لا أخونها استشعر هذا المعنى، فرأى أنه إن قال: وأبيها, كان حاصله: أفقدني الله تعالى [714] أباها إن خنتها، وفي هذا ما فيه من الإساءة، فعدل عن أبيها إلى أبي أعدائها؛ لأنَّ فقد أبي أعدائها يسرُّها ولا يضرُّها، ولم يبال باختلال أصل المعنى اتِّكالًا على أن القرائن تبين أنه إنما أراد القسم بأبيها، ولكنه عدل إلى أبي أعدائها لما تقدَّم. ويظهر أن لفظ الأب مقحم، وأنه أراد القسم بها، ولكن لما كان واو _________ (1) البيت لابن الدمينة، في ديوانه: 93، وحماسة الخالديين: 74.
(3/1004)
القسم لا يدخل على الضمير أقحم لفظ أب، ثم أقحم لفظ أعداء، لما تقدم. ويشبه هذا قولهم: (الأبعد) كناية عن ضمير المتكلم مثلًا، كقولهم: إن غدر الأبعد فأهلكه الله، يريدون: إن غدرتُ، ولكن يتنزهون عن نسبة الغدر إلى النفس صريحًا. ومثل هذا قول الآخر: لعمر أبي الواشين إني أحبها (1) وقد يكون البيتان من الضرب الرابع، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. الضرب الرابع: أن يكون في المحلوف به دلالة على المحلوف عليه، فكأن الحالف جعله كفيلًا وشاهدًا بالنظر إلى حاله، كقول الحصين بن الحُمام المُرِّي يرثي نعيم بن الحارث: قتلنا خمسة ورموا نُعيمًا ... وكان القتل للفتيان زينا لعمر الباكيات على نعيم ... لقد جلَّت رزيته علينا (2) أقسم بالباكيات منهم استدلالًا ببكائهن على عظم رزيته عليهم. ويقرب منه قول الشويعر يتنصل إلى امرئ القيس مما بلغه عنه أنه هجاه: _________ (1) انظر: فتح الباري 11/ 534، وورد في مجالس ثعلب 2/ 507 وغيره بلفظ: لعمر أبي الواشين لا عمر غيرهم ... لقد كلَّفوني خطَّةً لا أريدها. (2) انظر: الأغاني 14/ 12، ونُسب إلى البطين في طبقات الشعراء لابن المعتز 250 وهو خطأ.
(3/1005)
لعمر أبيك الذي لا يهان ... لقد كان عرضك مني حراما وقالوا: هجوت ولم أهجه ... وهل يجدن فيك هاجٍ مذاما (1) استشهد بعِزَّة أبي امرئ القيس وسلامته من الذام على أنه لم يهجه، وأوضح ذلك بقوله: «الذي لا يهان»، وقوله: «وهل يجدن فيك هاج مذاما». وقد يكون من هذا قول الآخر وقد مرّ: «فلا وأبي أعدائها لا أخونها»، كأنه جعل أعداءها كفلاء عليه لا يخونها، وإنما جعلهم كفلاء نظرًا إلى حالهم؛ لأنهم قد جرَّبوه وعرفوا صدق محبته لها وشدة حرصه على كتمان سرِّها، فلو سُئِلوا لقالوا: هيهات [715] أن يبوح هذا الرجل بسرِّ هذه المرأة. وكذا قول الآخر وقد تقدَّم أيضًا: «لعمر أبي الواشين إني أحبُّها»، فإن الواشين أعرف الناس بمحبته لها وأحرص الناس على إذاعتها، أي: فمن شك في محبتي لها فليستمع إلى ما يقوله الواشون عني وعنها، ففي ذلك شهادة كافية. ومنه قول أبي خراش الهذلي: لعمر أبي الطير المُرِبَّة (2) غدوة ... على خالد لقد وقعن على لحم (3) أراد على لحم عظيم؛ لأن التنكير قد يفيد التعظيم، وأقسم بالطير التي وقعت عليه لأنها أعرف الخلق به. وكلمة: «أبي» في هذه الأبيات الثلاثة مقحمة كما علم من تفسيرها، وكأن الباعث على إقحامها الفرار مما يوهمه _________ (1) المؤتلف والمختلف في أسماء الشعراء 208 - 209. والشويعر هو محمد بن حمران بن أبي حمران. (2) أي: المقيمة الآلفة. المعاني الكبير لابن قتيبة 3/ 1200. (3) شرح أشعار الهذليِّين 3/ 1226.
(3/1006)
القسم من إجلال الأول أعداء محبوبته والثاني الواشين بخليلته والثالث الطير الواقعة على صاحبه، فرأى الأول أن إيهام إجلال أبي أعدائها أهون, وقس عليه، هذا مع مراعاة الوزن في الأبيات الثلاثة. الضرب الخامس: أن يكون المحلوف به شيئًا حقيرًا، فيحلف به على كلام قصد به التهكم والاستهزاء، ويكون الحلف به قرينة على ذلك، كقول عروة بن مرة الهذلي: وقال أبو أمامة يا لَبَكْرٍ ... فقلت ومَرخةٍ (1) دعوى كبيرُ (2) وقد حقق الأستاذ الفراهي أن عامة أقسام القرآن من الضرب الرابع، وذلك واضح في كثير منها، ويحتاج في بعضها إلى تدبُّرٍ. فأما قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أفلح وأبيه إن صدق»، وقول أبي بكر: «وأبيك، ما ليلُك بليل سارق»، فيظهر أنه من الضرب الرابع. [716] كأنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم استشهد حال ذلك الرجل؛ لأنها تدل على أنه سيفلح؛ فإن في قصته: «جاء رجل إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل عليَّ غيرهنَّ؟ قال: لا، إلَّا أن تطوَّع، وصيام شهر رمضان، فقال: هل عليَّ غيره؟ فقال: لا، إلا أن تطوَّع، وذكر له رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الزكاة، فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوَّع، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على _________ (1) المرخ: شجرٌ سريع الوري. القاموس المحيط 332. (2) شرح أشعار الهذليِّين 2/ 664.
(3/1007)
هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: أفلح إن صدق. وفي رواية: «أفلح وأبيه إن صدق، أو: دخل الجنة وأبيه إن صدق» (1). فمجيء الرجل من نجد واهتمامه بالسؤال عن فرائض الإسلام واعتناؤه بذلك حتى سأل بعد كل فريضة: هل عليَّ غيرها؟ ثم إدباره بعد ذلك، فعلم أنه إنما جاء للسؤال عن فرائض الإسلام لم يخلط بذلك رغبة في دنيا، ثم إقسامه ألّا يزيد على الفرائض ولا ينقص، وفي إقسامه ألَّا يزيد ما يدلُّ على صدق لهجته؛ إذ أظهر ما في نفسه ولم يبال بأنَّ عليه في ذلك غضاضة، كلُّ هذا يدلُّ على صدق إيمانه وقوَّة يقينه وتصميم عزيمته على الوفاء بفرائض الإسلام، وفي ذلك أقوى علامة على فلاحه. فأما قول النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إن صدق»، فهو كقول القائل: لأقضينك دينك إن شاء الله، فليس تعليقًا محضًا بحيث يخدش في دلالة الكلام على عزم المتكلم أن يقضي، وإنما هو دلالة على أنَّ عزمه على القضاء لا يقتضي علم اليقين بأنه سيقضي، وإنما يحصل علم اليقين بذلك العزم مع مشيئة الله عزَّ وجلَّ، فهكذا: أفلح وأبيه إن صدق؛ معناه: إنني أظنُّ ظنًّا قويًّا أنه سيفلح، ولكن ظنِّي هذا لا يكفي وحده [717] لحصول الفلاح، بل لا بدَّ معه من أن يصدق الرجل فيما وعد به أن يؤدِّي الفرائض ولا ينقص منها شيئًا. _________ (1) صحيح مسلمٍ، كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، 1/ 31 - 32، ح 11 (9). [المؤلف]
(3/1008)
أو يُقال: إن زيادة «إن صدق» دفع لما قد يتوهم أن المعنى: قد أفلح الرجل على كلِّ حال حتى على فرض أنه يُقَصِّر بعد ذلك في أداء الفرائض. وأما ما روي عن أبي بكر رضي الله عنه من قوله: «وأبيك ما ليلك بليل سارقٍ»، فواضحٌ أنه من هذا الضرب؛ لأن قيام الليل دائمًا يدلُّ دلالة قويَّة أن صاحبه ليس بسارقٍ. وأما قول النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «وأبيك لتنبَّأنَّه»، فأصل الحديث: «عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: يا رسول الله، أيُّ الصدقة أعظم أجرًا؟ فقال: أما وأبيك لتنبَّأنَّه: أن تَصدَّقَ وأنت صحيحٌ شحيحٌ .... » (1). السائل يعلم أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عالم بما سأله عنه، وأنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم سينبئه بذلك، وكأنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رأى من هيئة الرجل وكلامه ما يظهر منه أنه كالمتردد: أينبئه النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بما سأل عنه أم لا، فكأنه قال له: لم هذا التردد مع علمك بأنك إنما تسأل رسول الله، وأنه عالم بما تسأله عنه، وأنه لا يقصِّر في تعليم الناس ما يحتاجون إليه في دينهم، والله أعلم. وقد علمت من تفسيرنا للحديثين والأثر عن أبي بكر أننا نرى أن لفظ الأب [718] مقحم فيها كما هو مقحم في الأبيات المارَّة، وكأنَّ الباعث على الإقحام أنَّ واو القسم لا تدخل على الضمير فتوصل إليه بإقحام لفظ الأب، _________ (1) صحيح مسلمٍ، كتاب الزكاة، باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح، 3/ 93 - 94، ح 1032 (93). [المؤلف]
(3/1009)
وباعث آخر معنوي، وهو تبعيد إيهام التعظيم؛ فإنه يتوهم تعظيم المخاطبين؛ لأنهم مسلمون، بخلاف آبائهم المشركين، والله أعلم. وهناك أجوبة أخرى عن الحديثين، منها: الطعن في زيادة «وأبيه» في الأول، وزيادة «أما وأبيك لتنبأنه» في الثاني بتفرد بعض الرواة بهما. وفي مسند أحمد: ثنا إسماعيل (1)، ثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي إسحاق (2)، قال: حدثني رجلٌ من غفارٍ في مجلس سالم بن عبد الله، حدثني فلان أن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أتي بطعامٍ من خبزٍ ولحمٍ، فقال: «ناولني الذراع»، فَنُووِل ذراعًا فأكلها، قال يحيى: لا أعلمه إلا هكذا، ثم قال: «ناولني الذراع»، فَنُووِل ذراعًا فأكلها، ثم قال: «ناولني الذراع»، فقال: يا رسول الله، إنما هما ذراعان، فقال: «وأبيك، لو سكتَّ ما زلتُ أناوَلُ منها ذراعًا ما دعوتُ به»، فقال سالم: أمَّا هذه فلا، سمعت عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «إن الله تبارك وتعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم» (3). فأنكر سالم بن عبد الله بن عمر هذه الزيادة، وهو سلفٌ لمن أنكرها في الحديثين السابقين، ويمكن تأويلها في هذا الحديث بمثل ما تقدَّم، كأن _________ (1) هو ابن عُليَّة. (2) كذا في الأصل وفي أكثر نسخ المسند، والصواب: يحيى بن أبي إسحاق. كما في بعض نسخه وإتحاف المهرة. انظر: المسند - ط الرسالة- ح 5089، إتحاف المهرة 8/ 428، ح 9703. وقد رواه النسائيّ على الصواب. انظر: سنن النسائيّ، كتاب الأيمان والنذور، 7/ 4. تحفة الأشراف 5/ 416، ح 7034. (3) المسند 2/ 48. [المؤلف]
(3/1010)
النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم استشهد حال السامع من علمه بأن الله تعالى كثيرًا ما يخرق العادة لرسوله، وأقحم لفظ الأب، كما تقدَّم. ومن الأجوبة: ما نقله الحافظ في الفتح، أن القَسَم في هذه المواضع للتأكيد محضًا، [719] كأن قائل ذلك أراد أن القسم انسلخ عن التكفيل والاستشهاد المستلزمين غالبًا للتعظيم، وصار بمنزلة إنَّ ونحوها للتوكيد فقط، كأنه قال: «أؤكِّد». قال البيهقي في السنن: «ويحتمل أن النهي إنما وقع عنه إذا كان على وجه التوقير له والتعظيم لحقه دون ما كان بخلافه، ولم يكن ذلك منه على وجه التعظيم، بل كان على وجه التوكيد» (1). ومنها: قول السهيلي: إنه للتعجب، كأنه أراد أن قوله: «وأبيه» بمنزلة قولهم: «لله أبوه»، وقس عليه. هذه أقوى الأجوبة فيما أرى، والجواب الذي قدَّمته أشفُّها (2)، إلا أنه قد يُطعن فيه بأنَّ دعوى إقحام لفظ الأب لا يعرف لها نظير في العربية. وقد ردَّ أبو حيان قولَ مَن قال: إن كلمةَ «مثل» من قول الله عزَّ وجلَّ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] زائدة، ردَّه بأن الأسماء لا تُزاد. ويُدْفَعُ هذا بأنَّ المعنى إذا اقتضى توجيه اللفظ بزيادة أو نقص أو تغيير لا تأباه الحكمة ولا تدفعه الصورة الكلية المرتسمة في ذهن العارف باللغة وما يقع فيها من التغيير، فإن ذلك التوجيه يُقْبَلُ وإن لم يوجد له نظير. _________ (1) سنن البيهقي 10/ 29. [المؤلف] (2) أفضلها. انظر: الصحاح 4/ 1382.
(3/1011)
وقد قال ابن جني: «أما إذا دلَّ الدليل فإنه لا يجب إيجاد النظير ... » (1). أوَ لا ترى إلى صيغة (أَفْعِلْ بِه) في التعجب، نحو قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ} [مريم: 28]، كيف وَجَّهوها بأنَّ: {أَسْمِعْ} فعل ماضٍ، أصله: أَسْمَعَ كأكرم، ومعناه: صار ذا سمع، فأصله في الآية: أسمَعُوا أي صاروا ذوي سمع، [720] ثم حُوِّل إلى موازنة صيغة الأمر مع بقائه على الماضوية، ثم زيدت الباء وجوبًا، فوجب تغيير الفاعل من صورة ضمير الرفع، وهو الواو هنا، إلى صورة ضمير الجر. ولو تَطَلَّبْتَ في اللغة فعلًا ماضيًا صورته صورة الأمر لما وجدتَّه إلَّا ما ادَّعوه في هذا الموضع، فلم يمنعهم عَدَمُ النظير من توجيه اللفظ على ما سمعت لمَّا كان المعنى يقتضي ذلك، فكذلك نقول نحن. ومع هذا فقد وجدنا النظير، ولله الحمد، وهو قول الله تبارك وتعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]؛ فقد قال جماعة: إن كلمة (اسم) مقحمة، وإن المعنى: سبِّح ربك الأعلى، والأحاديث عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم تدلُّ على ذلك، انظرها في روح المعاني وتفسير ابن جرير، وأنشدوا للبيدٍ (2): إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومَن يبك حولًا كاملًا فقد اعتذر فأما حديث أبي داود وغيره عن الفُجَيع (3)، وفيه: أنَّ النبيَّ صلَّى الله _________ (1) الخصائص 1/ 203. [المؤلف] (2) انظر: شرح ديوان لبيد ص 214، وخزانة الأدب 4/ 337. (3) الفُجَيع بن عبد الله بن جُنْدُع بن البكاء ــ واسمه ربيعة ــ البكائي، له صحبة، سكن الكوفة. انظر: الإصابة 8/ 520.
(3/1012)
عليه وآله وسلَّم قال: «ذلك ــ وأبي ــ الجوعُ» (1)، فهو حديث ضعيف. وكذلك حديث يزيد بن سنان ــ وقد تقدَّم سنده ــ ضعيف، ولكنه يشهد لحديث سعد بن سنان فيما اتفقا فيه كما مرَّ، والله أعلم. بقي أنه قد جاء في كلام الصحابة وغيرهم «لعمري»، وهي على المشهور بمعنى: أقسم بحياتي، فيكون قسمًا بغير الله تعالى. فأقول: قد جاء في تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] ما أخرجه ابن جرير وغيره من طريق سعيد بن زيد، قال: ثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء [721] عن ابن عباس قال: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسًا أكرم على الله من محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى ذكره: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}. وأخرج ابن جرير أيضًا من طريق الحسن بن أبي جعفر (2)، قال: ثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس في قول الله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}، قال: ما حلف الله تعالى بحياة أحد إلا بحياة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، قال: وحياتك يا محمد، وعُمْرك، وبقائك في الدنيا، {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي: في ضلالتهم يعمهون، أي: _________ (1) سنن أبي داود، كتاب الأطعمة، بابٌ في المضطرِّ إلى الميتة، 2/ 178، ح 3817. (2) ضعيف جدًّا كما سيذكره المؤلف، وقال ابن عديٍّ: هو عندي ممن لا يتعمَّد الكذب، ولعلّ هذه الأحاديث التي أُنكرت عليه توهَّمها توهُّما أو شُبِّه عليه فغلط. انظر: تهذيب الكمال 6/ 73.
(3/1013)
يلعبون» (1). أقول: في ترجمة أبي الجوزاء من التاريخ الكبير للبخاري (2): «وقال لنا مُسَدَّد: عن جعفر بن سليمان، عن عمرو بن مالك النكري، عن أبي الجوزاء قال: أقمت مع ابن عباس وعائشة اثنتي عشرة سنة ليس من القرآن آية إلا سألتهم عنها. قال محمد: في إسناده نظر». ونبه الحافظ ابن حجر في ترجمة أبي الجوزاء من تهذيب التهذيب (3) على أن البخاري إنما قال هذا لمكان النكري، قال: «والنكري ضعيف عنده» أي: عند البخاري، ولم يذكر في ترجمة النكري أحدًا وثَّقه إلا قول ابن حبان في الثقات (4): «يعتبر حديثه من غير رواية ابنه عنه، يخطئ ويغرب». وقد عُرِفَ من مذهب ابن حبان في الثقات أنه يذكر فيها المجاهيل، ومع ذلك فقوله: «يعتبر حديثه» ظاهر في أنه لا يعتمد عليه. وقوله: «يخطئ ويغرب» الظاهر أنه وصف للأب؛ لأن هذا الكلام في ترجمته، ولأنه الموافق لقوله: «يعتبر حديثه»؛ [722] إذ الحكم عندهم فيمن يخطئ ويغرب أن يعتبر به ولا يعتمد عليه، ولأن كلام ابن حبان في الابن صريح في أنه لا يعتبر بروايته أصلًا، فهو عنده أسوأ حالًا من أن يكون يخطئ ويغرب فقط، والله أعلم. _________ (1) تفسير ابن جرير 14/ 27 - 28. [المؤلف] (2) 2/ 16 - 17. (3) 1/ 384. (4) 7/ 228. وانظر: تهذيب التهذيب 8/ 96.
(3/1014)
فأما قول الذهبي في الميزان (1): «ثقة» فإنما اعتمد ذكر ابن حبان له في الثقات، وقد علمت ما فيه. وسعيد بن زيد مختلف فيه، والحسن بن أبي جعفر ضعيف جدًّا على عبادته. وأخرج ابن جرير أيضًا من طريق أبي صالح، عن معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: {لَعَمْرُكَ}، يقول: لَعَيْشُك، {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)} قال: يتمادون (2). وهذا السند ضعيف عندهم، إلا أن البخاري يستأنس بما رُوِيَ به فيعلِّقه في صحيحه، وأبو صالح ومعاوية بن صالح مختلف فيهما، وعلي بن أبي طلحة فيه شيء، ونصَّ الأئمة أنه لم يسمع من ابن عباس، ولكن ذكروا أنه سمع التفسير من مجاهد عن ابن عباس، وهذا لا يغني؛ لأننا لا ندري في هذه الرواية أمِمَّا سمعه من مجاهد هي أم لا؟ (3). وقال ابن جرير: «وحدثني أبو السائب قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون أن يقول الرجل: لعمري، يرونه _________ (1) 3/ 286. (2) تفسير ابن جرير 14/ 28. [المؤلف] (3) أثنى الإمام أحمد على صحيفته في التفسير, وقال أيضًا: «له أشياء منكرات»، ودافع عنه الحافظ ابن حجر بأنه «حمل عن أصحاب ابن عباس»، وقال: «بعد أن عرفت الواسطة وهو ثقة فلا ضير في ذلك». العلل للإمام أحمد رواية المروذي ص 168، الناسخ والمنسوخ للنحاس 1/ 462، العجاب 1/ 207، الإتقان 6/ 2332.
(3/1015)
كقوله: وحياتي» (1). أقول: أبو معاوية والأعمش يدلِّسان. [723] وذكر في لسان العرب (2) الأثر عن ابن عباس ثم قال: «قال أبو الهيثم: النحويون ينكرون هذا، ويقولون: معنى لعمرك: لدينك الذي تعمر. وأنشد لعمر بن أبي ربيعة (3): أيها المنكح الثريّا سهيلًا ... عمرك الله كيف يجتمعان قال: عمرك اللهَ: عبادتك الله، فنصب. وأنشد (4): عمركِ الله ساعةً حدِّثينا ... ودَعِينا مِنْ قَول مَنْ يؤذينا أقول: لأهل اللغة اضطرابٌ كثير في هذه الكلمة، وحاصله أن العَمر بالفتح يأتي بمعنى الدِّين، وبمعنى العبادة، ويمكن أن يكون المعنيان واحدًا، وبمعنى الحياة لغة في العُمر بضم العين، والضم أشهر، ولم يأت قولهم: لعمرك إلا بالفتح، وهذا مما يضعف تفسيره بالحياة. ولا حاجة للإطالة، بل نقول: إنَّ ما صح عمَّن يُعْتَدُّ بقوله من الصحابة _________ (1) تفسير ابن جرير 14/ 28. [المؤلف] (2) 4/ 601. (3) ديوانه: 503. (4) في لسان العرب: (ذرينا) بدل (دعينا). وهو كذلك في تهذيب اللغة 2/ 381. وانظر رواية: (دعينا) في المخصص لابن سيده، المجلد الخامس (17/ 165).
(3/1016)
وغيرهم من قولهم: لعمري ولعَمرك، فالظاهر أنهم رأوا العَمر بمعنى العبادة، ثم قصدوا به المعبود، من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول، كقولهم: فلان عدل رضى، أي: مرضي. فأما قولهم: (لعمر الله) فإن صح عمن يُعْتَدُّ بقوله فكأنه قصد بالعَمر البقاء، كما يقوله بعض أهل اللغة، وبقاء الله صفة له، فلا يكون القَسَمُ بها قسمًا بغير الله. ثم رأيت هذا المعنى؛ فقد ترجم له البخاري: «باب قول الرجل: لعمر الله، قال ابن عباس: لعمرك: لعيشك»، ثم ذكر ما قاله أسيد بن حضير في حديث الإفك: «لعمر الله لنقتلنه» (1). وقال الحافظ في الفتح: «وقال أبو القاسم الزَّجَّاج (2): العمر الحياة، فمن قال: لعمر الله كأنه حلف ببقاء الله (3) ... ومن ثم قال المالكية (4) والحنفية (5): تنعقد بها اليمين؛ لأن بقاء الله من صفة ذاته. _________ (1) البخاريّ، كتاب الأيمان والنذور، باب قول الرجل: لعمر الله، 8/ 135، ح 6662. [المؤلف] (2) كذا في الأصل وفتح الباري، والصواب: الزجَّاجيّ. وهو العلّامة النحويّ أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجَّاجيّ، نسبةً إلى شيخه أبي إسحاق الزجَّاج، من مصنّفاته: الجُمَل في النحو، ت 339 هـ. الأنساب 6/ 256، إنباه الرواة 2/ 160، بغية الوعاة 2/ 77. (3) انظر: الجمل ص 74. (4) النوادر والزيادات 4/ 16. (5) الهداية شرح البداية 2/ 74، البحر الرائق 4/ 308.
(3/1017)
وعن مالك: لا يعجبني الحلف بذلك .... وقال الشافعي وإسحاق: لا تكون يمينًا إلا بالنية (1)؛ لأنه يطلق على العلم، وعلى الحق، وقد يراد بالعلم المعلوم، وبالحق ما أوجبه الله .... وأجابوا عن الآية: أن يقسم (2) من خلقه بما شاء وليس ذلك لهم، لثبوت النهي عن الحلف بغير الله .... » (3). وأما قولهم: عَمْرك الله، فعَمْر بمعنى العبادة أو التعمير، أي: اعتقاد البقاء، وهو من باب المناشدة، كأنه قال: أنشدك بعبادتك الله أو باعتقادك بقاءه، وهذه المناشدة ليست من القَسَمِ في شيء، والله أعلم. فأما الآية فلا مانع من أن يكون العَمْر فيها بمعنى الحياة، وقد أقسم الله تعالى في كتابه بكثير من المخلوقات كما علمت. والله أعلم. [724] فصل القَسَم من الضرب الأول يُفْهِمُ إجلالَ الحالف للمحلوف به، واعتقادَه أن له سطوة غيبية بحيث ينالُ الحالفَ النفعُ الغيبي إذا وفى وصدق، وأنه إن لم يف أو يَصْدُقْ نالته عقوبته ونال المحلوفَ له النفعُ الغيبِي بإيفائه حقه إن كان له حق. ومن ذلك: الحلف بالكعبة يُفْهِمُ احترامَ الحالف لها واعتقادَه أن لها سطوة غيبية، بمعنى أنها كريمة على الله عزَّ وجلَّ، بحيث ينال الحالف بها _________ (1) روضة الطالبين 11/ 16. (2) في فتح الباري: بأن لله أن يقسم. (3) فتح الباري 11/ 438. [المؤلف]
(3/1018)
النفعُ الغيبي أو العقوبةُ الغيبيَّةُ من الله عزَّ وجلَّ. ونحوه الحلف بالصنم يُفْهِمُ احترامَ الحالف له واعتقادَه أن له سطوة غيبيَّة، بمعنى أنه كريم على من له سطوة غيبية، وهو مَنْ جُعِلَ الصنمُ تمثالًا أو تذكارًا له، أو أنه كريم عند مَنْ هو كريم عند مَنْ له سطوة غيبيَّة، وهذا فيمن يجعل الصنم تمثالًا لإنسان ولا يعتقد لذلك الإنسان سطوة غيبية ذاتية، ولكنه يقول: ذلك الإنسان كريم على الله عزَّ وجلَّ، ولله تعالى السطوة الغيبيَّة. إذا ثبت هذا فقد ثبت أن القَسَم من هذا الضرب خضوع وتعظيم للمُقْسَم به يُطْلَب به نفعٌ غَيْبِيٌّ للحالف أو للمحلوف له على فَرْضٍ، وهذا الخضوع والتعظيم هو العبادة كما مرّ تحقيقه، والعبادة إذا لم ينزل الله تعالى بها سلطانًا فهي عبادة لغير الله وعبادة غير الله كفر وشرك. والحلف بالكعبة من هذا؛ لأن الله تعالى لم ينزل سلطانًا بجواز الإقسام بها، وإنما كان يقع من قريبي العهد بالإسلام غير عالمين بأنه شرك، فلما بين لهم النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ذلك اجتنبوه. [725] ويجوز أن الذين كانوا يقولون: والكعبةِ، كانوا يريدون: وربِّ الكعبة، ولكن لما لم تكن هناك قرينة ظاهرة على الإضمار كان ظاهر الكلام شركًا. فأما الحلف باللات والعزى غَيْرَ جاهل ولا ذاهلٍ فشركٌ لا ريب فيه كما تقدَّم. وقد سبق أنَّ اللات والعزى ومناة في الأصل أسماء للإناث الخياليات
(3/1019)
التي كان يزعم المشركون أنهن الملائكة، ثم أُطْلِقَتْ هذه الأسماء على الأصنام؛ لأنها تماثيل لتلك الإناث (1). ولم يُفَرَّقْ في الأحاديث بين مَنْ قصد باللات والعزى الأصنامَ ومَنْ قصد الإناث الخياليات، ومَنْ قصد الملائكة على قياس ما تقدَّم (2) في توجيه رواية: «تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترجى»، فَعُلِمَ من عدم التفرقة أنه لا فرق. وهذا مع ما تقدَّم في ذكر الحلف بالمسيح ومع عموم النصوص أن الحلف بغير الله شرك، وما حقَّقناه أنَّ القَسَم من الضرب الأول عبادة, كلُّ ذلك واضح في أنَّ الحلف بالملائكة والأنبياء والصالحين كالحلف بالكعبة. فأمَّا ما جاء عن بعض الحنابلة في صحة القَسَمِ بالنبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم (3)، فإن كان إنما أراد أنَّ من أقسم بالنبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تلزمه الكفارة تغليظًا، كما يقوله الحنفية والحنابلة فيمن نذر معصية أنَّ عليه كفارة يمين، مع قولهم: إنَّ نذر المعصية حرام أو كفر، بل قال الحنفية: إنَّ من حلف باللات والعزى والأصنام تلزمه الكفارة، قالوا: لأنَّ الله تعالى أوجب في الظهار الكفارة؛ لكون الظهار منكرًا من القول وزورًا، والحلف بالأصنام كذلك. وإنما خصَّ هذا القائل النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لأنه لعلوِّ درجته يُخْشَى على الناس الغلوُّ فيه. _________ (1) انظر ص 708. (2) انظر ص 588 - 590. (3) انظر: المحرر في الفقه للمجد ابن تيمية 2/ 197.
(3/1020)
أقول: إن كان أراد ذلك القائل هذا المعنى فله وجه، وإن كان أراد أن القَسَمَ [726] بالنبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم جائز، فَزَلَّةُ عالم؛ إذ لا يُعْلَمُ له سلطان على ذلك. وكذا ما نقله الحافظ في فتح الباري عن ابن المنذر أنه قال: «اختلف أهل العلم في معنى النهي عن الحلف بغير الله، فقالت طائفة: هو خاصٌّ بالأيمان التي كان أهل الجاهلية يحلفون بها تعظيمًا لغير الله تعالى، كاللات والعزى والآباء، فهذه يأثم الحالف بها ولا كفَّارة فيها. وأما ما كان يؤول إلى تعظيم الله، كقوله: وحقِّ النبيِّ والإسلام والحج والعمرة والصدقة والعتق ونحوها مما يراد به تعظيم الله والقربة إليه فليس داخلًا في النهي. وممن قال ذلك: أبو عبيد وطائفة ممن لقيناه، واحتجوا بما جاء عن الصحابة من إيجابهم على الحالف بالعتق والهدي والصدقة ما أوجبوه، مع كونهم رأوا النهي المذكور، فدلَّ على أن ذلك عندهم ليس على عمومه؛ إذ لو كان عامًّا لَنَهَوْا عن ذلك ولم يوجبوا شيئًا». قال الحافظ عقبه: «تعقبه ابن عبد البر بأن ذِكْرَ هذه الأشياء وإن كان بصورة الحلف فليست يمينًا في الحقيقة، وإنما خرج على الاتِّساع، ولا يمين في الحقيقة إلا بالله» (1). أقول: المرويُّ عن الصحابة في العتق والهدي والصدقة إنما هو فيمن قال: كلُّ مملوك لي حرٌّ وإبلي هديٌ ومالي صدقة إن فعلت كذا، ونحو ذلك من صيغ الالتزام المعلَّقة، وذلك من باب النذر وهو الذي يسميه الشافعية _________ (1) فتح الباري 11/ 429. [المؤلف]
(3/1021)
نذر اللَّجاج، والآثار صريحة في ذلك، انظرها في سنن البيهقي (1) ومصنف ابن أبي شيبة (2) وغيرهما (3)، وليس ذلك من القَسَم في شيء. نعم، كانوا يسمُّون ذلك حلفًا، فيقولون: حلف فلان بالعتق ألَّا يكلم فلانًا، إذا قال: كلُّ مملوك لي حرٌّ إن كلَّمْتُه، [727] وهذا أيضًا ثابت في الآثار، وإنما سمَّوه حلفًا لأنه يُقْصَدُ به ما يُقْصَد بالحلف الحقيقيِّ من الامتناع، ولأنه قد جاء عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن كفارته كفارة يمين. وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر، عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «كفارة النذر كفارة اليمين» (4). وفي سنن أبي داود والمستدرك وغيرهما عن ابن عبَّاسٍ أن رجلًا جاء إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: إن أختي جعلت عليها المشي إلى بيت الله، قال: «إن الله تعالى لا يصنع بشقاء أختك شيئًا، قل لها: فلتحجَّ راكبة ولتكفِّر عن يمينها». قال الحاكم: «صحيحٌ على شرط مسلمٍ» (5). _________ (1) كتاب الأيمان، باب الخلاف في النذر الذي يخرجه مخرج اليمين، 10/ 67 - 68. (2) كتاب البيوع والأقضية، في رجل قال: إن فعلت كذا وكذا فغلامي حرٌّ، 11/ 628. (3) انظر: الأوسط لابن المنذر، كتاب الأيمان والنذور، ذكر ما يجب على من حلف بعتق رقيقه وحنث، 12/ 128. (4) صحيح مسلمٍ، كتاب النذر، بابٌ في كفَّارة النذر، 5/ 80، ح 1645. [المؤلف] (5) سنن أبي داود، كتاب الأيمان والنذور، باب مَن رأى عليه كفَّارةً، 2/ 112، ح 3295. المستدرك، كتاب الأيمان والنذور، إذا شقَّ إيفاء النذر على رجلٍ فليكفِّر عن يمينه، 4/ 302. [المؤلف]
(3/1022)
وفي رواية للحاكم: جاء رجل إلى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال: إن أختي حلفت أن تمشي إلى البيت ... (1). وفي روايةٍ لأبي داود عن ابن عبَّاسٍ: إن أخت عقبة بن عامرٍ نذرت أن تحجَّ ماشيةً (2). والحديث في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله وأمرتني أن أستفتي لها النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فاستفتيته فقال: «لتمش ولتركَبْ» (3). وهذا المعنى ــ أعني تسمية النذر يمينًا وحلفًا ــ كثيرٌ في الآثار، ونحوه حديث الصحيحين وغيرهما: «مَن حلف بغير ملَّة الإسلام فهو كما قال» (4). وفي الفتح: «قال ابن دقيق العيد: الحلف بالشيء حقيقة هو القسم به، وإدخال بعض حروف القسم عليه كقوله: والله والرحمن، وقد يطلق على التعليق بالشيء يمين كقولهم: مَنْ حَلَف بالطلاق فالمراد تعليقُ الطلاق، وأُطْلِق عليه الحَلِفُ لمشابهته باليمين في اقتضاء الحثِّ والمنع، وإذا تقرّر _________ (1) المستدرك، الموضع السابق. (2) سنن أبي داود، الموضع السابق، 3/ 234، ح 3297. (3) البخاريّ، كتاب جزاء الصيد، باب مَن نذر المشي إلى الكعبة، 3/ 20، ح 1866. ومسلم، كتاب النذر، باب مَن نذر أن يمشي إلى الكعبة، 5/ 79، ح 1644. [المؤلف] (4) البخاريّ، كتاب الأيمان والنذور، باب مَن حلف بملَّةٍ سوى ملَّة الإسلام، 8/ 133، ح 6652. ومسلم، كتاب الأيمان، باب تحريم قتل الإنسان نفسه، 1/ 73، ح 110، ولفظه: «مَن حلف على يمينٍ بملَّةٍ غير الإسلام كاذبًا فهو كما قال».
(3/1023)
ذلك فيحتمل أن يكون المراد المعنى الثاني لقوله: «كاذبًا متعمّدًا». والكذب يدخل القضيّة الإخبارية التي يقع مقتضاها تارة ولا يقع أخرى، وهذا بخلاف قولنا: «والله» وما أشبهه، فليس الإخبار بها عن أمر خارجيٍّ، بل هي لإنشاء القَسَم، فتكون صورة الحلف هنا على وجهين: أحدهما: أن تتعلق بالمستقبل, كقوله: إن فعل كذا فهو يهوديٌّ. والثاني: تتعلق بالماضي, كقوله: إن كان فعل كذا فهو يهودي». ثم قال بعد كلام: «ولهذه الخصلة من حديث ثابت بن الضحَّاك شاهدٌ من حديث بريدة، أخرجه النسائيُّ وصحَّحه من طريق الحسين بن واقدٍ، عن عبد الله بن بُريدة، عن أبيه رفعه: «مَنْ قال: إني بريء من الإسلام، فإن كان كاذبًا فهو كما قال, وإن كان صادقًا لم يَعُدْ إلى الإسلام سالمًا» (1) يعني إذا حلف بذلك (2). [728] والحاصل: أن تسمية النذر يمينًا وحلفًا والقول بأن كفارته كفارة يمين أمر معروف عن السلف، فكلُّ ما جاء عنهم من إطلاق الحلف بالعتق والهدي والصدقة إنما يقصدون به النذر، وإطلاق الحلف واليمين على النذر مجاز. وَهَبْ أنه حقيقة أيضًا، فالنهي عن الحلف بغير الله إنما المقصود به أن يقول: والكعبة، أو أقسم بالكعبة، أو نحو ذلك. ولا يدخل فيه الحلف بمعنى النذر، كقول القائل: إن كلَّمتك فعليَّ الحجُّ ماشيًا، أو نحو ذلك. وجواز النذر ولزوم الكفارة به ــ وإن سُمِّيَ حَلِفًا ويمينًا ــ لا يَدلُّ على جواز الحلف _________ (1) سنن النسائيّ، كتاب الأيمان والنذور، الحلف بالبراءة من الإسلام، 7/ 6 - 7. (2) فتح الباري 11/ 432. [المؤلف]
(3/1024)
بغير الله بمعنى قوله: والكعبة، ونحو ذلك. وهذا واضح جدًّا، والفرق المعنوي بينهما كفلق الصبح؛ فإن القائل: «والكعبة» معظِّم للكعبة كما علمت، والقائل: «إن كلَّمتُ فلانًا فعليَّ صدقة» لا يُفْهم منه تعظيم للصدقة، والله أعلم. فأما القَسَمُ من الضرب الثاني فقد يُشْكِل دخوله في النهي والتحريم من جهة أن أصل معنى قول الرجل: «وشَرَفِي»: إن كذبت أو إن لم أفِ فأنا محتقر لشرفي ومضيِّع له أو فلا شرف لي، وهذا اللفظ لا يظهر كونه حرامًا لو عبر به. نعم، يمكن أن يتطرَّق إليه التحريم؛ لما فيه من مدح النفس والافتخار والإعجاب، ولكن لا يستمرُّ هذا المعنى في جميع الألفاظ من هذا الضرب، مثل: وحقِّك، ولكن الذوق يشهد أنَّ الإجلال والتعظيم الذي يُفْهَم من قوله: وشرفي, وقوله: وحقِّك، [729] أعظم جدًّا مما يُفْهَم من قوله: إن كذبت، أو: إن لم أفِ فلا شرف لي، أو: فأنا مُخِلٌّ بحقك، وكأن ذلك لأنَّ المعروف في القسم أن يكون بالمعبود. وفي الفتح: «قال الخطَّابي: اليمين إنما تكون بالمعبود المعظَّم، فإذا حلف باللات ونحوها فقد ضاهى الكفار ... » (1). فإما أن يكون اختصاص القَسَم بالمعبود من أصل الوضع, ويكون ما شاع عنهم من القسم بغير المعبود مجازًا على سبيل المبالغة والغلو. وإما أن يكون لاشتهار القسم بالمعبود أكثر من غيره صار يسبق إلى الفهم من قولهم: وحقِّك ــ مثلًا ــ أن الحالف يُجِلُّ حَقَّ صاحبه إجلال _________ (1) فتح الباري 8/ 434. [المؤلف]
(3/1025)
المعبود، وهذا المعنى ظاهر لا يتيسَّر إنكاره، ولا سيَّما إذا انضم إليه دلالة الحال على التعظيم والإجلال، كما في قولهم: وشرفي، وأبي. إذا تقرَّر هذا، فأقول: إن ظاهر هذا الضرب من القَسَم أن الحالف يُجِلُّ المحلوف به إجلال المعبود، وذلك كفر وشرك، ولا مانع من أخذ الشرع بهذا الظاهر، فإذا ثبت من الشرع ما يدلُّ على ذلك وجب القول به، وقد تقدَّم ما بلغنا عن الشرع في ذلك. والله أعلم. وأما الضرب الثالث، فقد يقال: ليس في أصل معناه إجلال وتعظيم، وإنما فيه المحبة. وأقول: المحبة تستلزم الإجلال والتعظيم؛ لأن حبيب الإنسان جليل عظيم عنده، كما قيل (1): أحبك إجلالًا وما بك قدرة ... عليَّ ولكِنْ مَلْءُ عينٍ حبيبُها [730] وفي أشعار العجم ومحاوراتهم العشقية كثير مما معناه: أنا أعبدك، وأنتِ معبودتي، ونحو ذلك، فإذا أقسم الإنسان بما يحبه كان ظاهر ذلك أنه يحبه كما يحبُّ المعبود، وقد علمت توجيه ذلك، وبقية الكلام عليه كالكلام على الضرب الثاني. وأما الضرب الرابع، فليس في أصل معناه تعظيم ولا ما يستلزم التعظيم، ولكنه يُمْنَعُ منه إذا كان يُتَوَهَّمُ أنه من الأَضْرُب السابقة. وأقسام الله تبارك وتعالى لا يُتَوَهَّم فيها ذلك؛ إذ كيف يتخيل أن الله _________ (1) البيت لنُصَيب بن رباحٍ المعروف بالأكبر. انظر: شعره: 68، وهو في ديوان مجنون ليلى: 58. وشرح ديوان الحماسة للأعلم الشنتمريِّ 2/ 748. والرواية: (أهابك) بدل: (أحبُّك).
(3/1026)
تبارك وتعالى يتخذ شيئًا من خلقه معبودًا أو يجلّه كما يجلّ العابد المعبود أو يحبه كما يحب العابد المعبود. وقد جاء عن السلف ما يشير إلى أن إقسام الله تبارك وتعالى بمخلوقاته من هذا الضرب. قال في الفتح: «وأسند ــ يعني الطبري ــ عن مطرف بن عبد الله أنه قال: إنما أقسم الله بهذه الأشياء ليعجِّب بها المخلوقين، ويُعَرِّفَهُم قدرته؛ لعظمة شأنها عندهم، ولدلالتها على خالقها» (1). وكذلك ما تَقَدَّم من قول النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «وأبيه»، «وأبيك»؛ إذ لا يتوهم أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يعظِّم مشركًا أجنبيًّا عنه تعظيمَ المعبود. وعلى كلِّ حال فينبغي المنعُ من القَسَم من هذا الضرب ما لم تكن القرينةُ الصارفة عن تَوَهُّمِ كونه من الأَضْرُبِ الثلاثة الأولى واضحةً. والله أعلم. [731] وأما الضرب الخامس، فالظاهر المنع منه؛ لأنه من قبيل إطلاق الكلمة التي ظاهرها كفر على وجه الاستهزاء، وذلك لا يجوز، بل نصَّ جماعة من العلماء على تكفير فاعل ذلك. إذا تقرَّر هذا، فحَلِف الإنسان بأبيه منهيٌّ عنه مطلقًا، وقد عَلِمْتَ الأدلَّةَ الدالَّة على أنه شرك، أما إذا كان من الأضرب الثلاثة الأولى فظاهر، وأما إذا كان من الرابع قصدًا فالظاهر لا يساعد على هذا القصد، بل يكون الظاهر أنه من أحد الأضرب الثلاثة الأولى. _________ (1) فتح الباري 11/ 429. [المؤلف]
(3/1027)
فأما إقسامه بأبي غيره فقد يساعد الظاهر على أنه قصد به من الضرب الرابع، كما تقدَّم في كلمتي النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وكلمة أبي بكر رضي الله عنه، وعلى هذا فإما أن يكون ذلك مُخَصِّصًا لعموم قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لا تحلفوا بآبائكم»، وإما أن يُقال: إن الإضافة في قوله: «بآبائكم» كهي في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]، والمعنى: لا يُقْسِمْ أحدٌ منكم بأبيه، وعلى هذا فلا يدخل فيه حلف أحدهم بأبي غيره، ويبقى حكم ذلك مسكوتًا عنه، فما كان بمعنى المنصوص أُلْحِقَ به وما لا فلا. فأما قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليسكت»، وقوله: «مَن حلف بغير الله فقد أشرك»، فعامٌّ مخصوص تُخَصِّصه الأدلَّة الدالَّة على جواز ما يجوز من الضرب الرابع. ولقائلٍ أن يقول: إنَّ القسم الجائز من الضرب الرابع لا يسمَّى حلفًا، بدليل أنَّ الحلف لم يجئ في القرآن إلاّ في معرض الذمّ، كما تقدّم، ولا يُذمُّ القَسَم [732] من الضرب الرابع؛ لأنه عبارة عن إقامة دليل وحجة، وليس فيه تعظيم لغير الله تعالى ولا ما يستلزم تعظيمًا ولا ما يوهمه، ولذلك كثر إقسام الله عزَّ وجلَّ في كتابه، مع قوله: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم: 10]. ويستأنس لهذا بأن الحلف مأخوذ من حلافة اللسان كما تقدَّم، وحلافة اللسان مأخوذ من قولهم: سنان حليف، إذا كان مُحَدَّدًا، وحِدَّة اللسان وحلافته عندهم ليس بمدح، فكأنهم إنما يريدون بها ما لا يستند إلى الدليل والحجة؛ لأن الاستناد إلى الدليل والحجة ليس موضعًا للذمِّ، ولا يناسب أن يقال لصاحبه: حديد اللسان، بل يوصف بالسداد والبيان والثبات ونحو ذلك، فتأمل.
(3/1028)
والحاصل: أن القَسَم الجائز من الضرب الرابع لا يدخل تحت النهي، إما لأنه لم يتناوله النهي أصلًا، وإما لأنَّ الدليل أخرجه. والله أعلم. فإن قلت: حاصل كلامك أنك أبقيت قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» على ظاهره إلا ما استثنيته من الضرب الرابع، وهذا خلاف ما عليه أهل العلم. فقد قال الترمذي عقب هذا الحديث: «وفُسِّر هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن قوله: «فقد كفر أو أشرك» على التغليظ، والحجة في ذلك حديث ابن عمر أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم سمع عمر يقول: وأبي وأبي، فقال: «ألا إنَّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم». وحديث أبي هريرة عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه قال: «مَن قال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله». [733] قال أبو عيسى: هذا دليل على ما روي عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن الرياء شرك (1)، وقد فسر بعض أهل العلم هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} الآية [الكهف: 110]، قال: «لا يرائي» (2). _________ (1) أخرجه ــ بهذا اللفظ ــ البيهقيّ في شعب الإيمان، بابٌ في إخلاص العمل لله عزَّ وجلَّ وترك الرياء، 12/ 185، ح 6394، وغيره، من حديث أبي الدرداء مطوّلًا، وذكر البيهقي أنه من أفراد بقية - يعني ابنَ الوليد - عن شيوخه المجهولين. وضعّفه الشيخ الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب برقم 24. وورد وصف الرياء بأنه شرك أصغر في أحاديث ثابتة، كحديث محمود بن لبيد عند الإمام أحمد (5/ 428 و 429) وغيره، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 951. (2) جامع الترمذيّ 1/ 290. [المؤلف]
(3/1029)
قلت: قد خالفه أستاذه البخاريّ بذكره حديث عمر محتجًّا به على أنَّ من قال لأخيه: يا كافر متأوِّلًا أو جاهلًا لا يكفر بعد جزمه أن مَنْ قال ذلك غير متأوِّل ولا جاهل يكفر، وقد تقدم بيان ذلك، وعُلم بذلك الجوابُ عن احتجاج الترمذي بحديث عمر, وحاصله: أنَّ عمر كان معذورًا، ولا يلزم من عدم إكفار المعذور عدمُ إكفار مَنْ لا عذر له. وأما احتجاج الترمذيّ بحديث: «مَن قال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله» فعجيبٌ؛ فإنه لا حجَّة له فيه، والحلف باللات والعزى كفرٌ جزمًا، إلا إن كان الحالف جاهلًا أو ذاهلًا فيعذر، كما أشار إليه البخاري وصرَّح به ابن العربي، وقد مرَّ. وهذا الحديث نفسه حجة في ذلك؛ فإن أمره بقول: (لا إله إلا الله) ظاهر في أنَّ الحلف باللات والعزى ينقض الشهادة الأولى، ونقض الشهادة الأولى هو الكفر والشرك، ويلزم من انتقاض الأولى انتقاض الثانية، أعني شهادة أنَّ محمدًا رسول الله. غاية الأمر أنَّ الحالف إذا كان جاهلًا أو ذاهلًا لم تنتقض شهادته الأولى حقيقة، ولكن حصل فيها خللٌ مَّا ينقضها صورةً، فشُرِعَ جبرانه بقول: (لا إله إلا الله) تجديدًا للشهادة الأولى، ولم يشرع تجديد الشهادة الثانية؛ لأنه [734] لم ينقضها صورة, ولم تنتقض الشهادة الأولى حقيقة فيلزمَ من ذلك انتقاضُ الشهادة الثانية، فتدَبَّرْ. فإن قلت: ما نَسَبْتَه إلى البخاريِّ يردُّه قوله في ترجمة أخرى: «باب مَنْ حلف على مِلَّةٍ سوى مِلَّة الإسلام، وقال النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:
(3/1030)
«مَن حلف باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله» ولم ينسبه إلى الكفر» (1). قلت: مراد البخاري والله أعلم أنَّ من حلف بملَّة سوى الإسلام جاهلًا أو ذاهلًا لا يكفر، بدليل حديث: «مَن حلف باللات والعزى» إلخ، فإنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قاله عالمًا أنَّ أحدًا من أصحابه لا يحلف باللات والعزى إلَّا ذاهلًا، فأمر مَنْ وقع منه ذلك أن يقول: «لا إله إلَّا الله» ولم ينسبه إلى الكفر، فدلَّ هذا على أنَّ مَن حلف بملَّة سوى الإسلام على نحو تلك الصفة، أي: جاهلًا أو ذاهلًا، لا يكفر. وهذا من البخاري رحمه الله بيان للحديث الذي ساقه في هذه الترجمة، وهو قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَن حلف بغير ملَّة الإسلام فهو كما قال»، أي: إنه محمولٌ على مَن حلف غير جاهلٍ ولا ذاهلٍ. هكذا يجب أن يُفْهَم كلام البخاري رحمه الله تعالى ليوافق صنيعه المتقدم؛ إذ كيف يُظَنُّ به أن يرى أنَّ حَلِف الإنسان بأبيه غير جاهلٍ ولا ذاهلٍ كُفْرٌ، ومع ذلك يرى أن حلفه باللات والعزى ليس بكفر مطلقًا. وإخراج الذاهل قد جاء في رواية لمسلم بلفظ: «مَن حلف بملة سوى ملة الإسلام كاذبًا متعمِّدًا فهو كما قال» (2). وكذا في صحيح البخاريِّ بلفظ: «مَن حلف بملة غير الإسلام كاذبًا متعمِّدًا فهو كما قال» (3). فإن قلت: فهلَّا إذْ أراد البخاري الإشارة إلى استثناء الجاهل والذاهل كما زعمت أشار إلى هذه الرواية فإنها أصرح في ذلك؟ _________ (1) البخاريّ 8/ 133. [المؤلف] (2) مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الإنسان نفسه، 1/ 73، ح 110. [المؤلف] (3) البخاريّ، كتاب الجنائز، باب ما جاء في قاتل النفس، 2/ 96، ح 1363. [المؤلف]
(3/1031)
قلت: كأنه عدل عن ذلك؛ لأنه قد يُفْهم من قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «متعمِّدًا» أنَّ المراد: متعمِّدًا للكذب، وعلى هذا فلا دلالة في الحديث على إخراج الجاهل والذاهل. وإنما ذكرت أنا هذه الرواية لأني أرى الأَوْلى إبقاء قوله: «متعمِّدًا» على إطلاقها، فيكون المراد: متعمِّدًا للحلف والكذب معًا، والله أعلم. وذلك كأن يقول: إن كان ذاق ذلك اليوم طعامًا فهو يهودي، يعني نفسه، فإن كان لم يذق طعامًا فليس بكاذب، وإن كان ذاق طعامًا ولكنه نسي فليس بمتعمِّدٍ للكذب، وإن كان ذاق ولم ينس فهو متعمِّدٌ للكذب. ثم إن كان قوله: «فهو يهودي»، كلمةً جرت على لسانه ولم يعقد نيته على قولها فليس بمتعمِّدٍ للحلف بملَّةٍ غير الإسلام، بل هو ذاهل، وإلا فهو متعمِّدٌ. فإذا اجتمع تعمّد الكذب وتعمّد الحلف باليهودية فهو كما قال، وقس على هذا حالَ مَنْ قال: إن كنتُ أملك الآن شيئًا فأنا ... وذكر اليهودية. فأما من يقول: إن سافرت غدًا فأنا ... فالظاهر أنه إن كان حالَ اليمين عازمًا ألَّا يسافر غدًا فهو صادق، ثم إن بدا له بعد ذلك أن يسافر غدًا فسافر فلم يكن متعمِّدًا للكذب، ما لم يكن سفره غدرًا بأن كان فيه ضرر على المحلوف له, والله أعلم. فإن قلتَ: فلماذا بنى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قوله: «مَن حلف باللات والعزى» إلخ على علمه أنَّ أحدًا من أصحابه لا يحلف بهما إلَّا ذاهلًا ولم يصنع مثل ذلك في قوله: «مَن حلف بغير ملَّة الإسلام» إلخ؟ قلتُ: لأنَّ أصحابه كانوا [735] يعلمون حقَّ العلم أنَّ الحلف باللات والعزى عمدًا كفر، فلم يكن ذلك ليقع منهم. وأما الحلف بغير ملَّة الإسلام كقول القائل: هو يهوديٌّ إن كان فعل كذا، يعني نفسه، فلم يكونوا يعلمون
(3/1032)
أنَّه كفرٌ، فلم يمتنع وقوع ذلك من بعضهم عمدًا، فتدبَّرْ، والله أعلم. وأما حديث: أنَّ «الرئاء شرك» فغاية ما فيه أنَّ الشرك فيه متأوَّل على خلاف ظاهره، وتأويل كلمةٍ في كلامٍ وقعت فيه لقيام الدليل الموجب لتأويلها فيه لا يلزم منه جواز تأويل تلك الكلمة في كلِّ كلامٍ وقعت فيه، ولا دليل على تأويلها، ولزوم ذلك باطل قطعًا لا يقول به أحد. وتحقيق المقام: أنَّ الشرك إذا أُطْلِق في الشريعة في مقام الذَّمِّ كان المراد به الشركَ بالله عزَّ وجلَّ، بأن يُشْرِكَ معه غَيْرَه في العبادة على سبيل العبادة للشريك، هذا هو الحقيقة المتبادرة. وأما الرئاء فهو أن يشرك مع الله تعالى غيره في العبادة، ولكن لا على سبيل العبادة للشريك، فإنَّ مَنْ كان يصلِّي فحضره رجل فأطال الصلاة ليَحْسُنَ اعتقاد الرجل فيه فينالَ منه غرضًا دنيويًّا فإنَّ المرائي قد أشرك ذلك الرجل مع الله تعالى في صلاته؛ لأنَّ صلاته كانت لله عزَّ وجلَّ ولأجل ذلك الرجل، ولكن لم يكن ذلك على سبيل العبادة لذلك الرجل؛ [736] لأنَّه لم يجعل إطالته صلاته لأجله خضوعًا وتعظيمًا له يَطْلُبُ به نفعًا غيبيًّا من جهة كونه خضوعًا وتعظيمًا له, فتدبّر وأمعن النظر. فأمَّا بالنظر إلى اللغة فمن راءى فقد أشرك؛ لأنَّه فعل فعلًا لأجل الله عزَّ وجلَّ ولأجل غيره، وأمَّا بالنظر إلى الشرع فلم يشرك، وإطلاق بعض الأحاديث أنَّه قد أشرك مجاز. ومما يبين هذا: أنه لم يجئ في الشرع نصٌّ على أنَّ الرئاء شرك بالله، وإنما جاء أنَّه شرك فحسب؛ لأنَّ الشرك بالله نصٌّ في الشرك الذي هو كفر، ولذلك عدّاه بالباء لتضمينه معنى الكفر بالله أو العدل بالله على ما تقدَّم، والله أعلم.
(3/1033)
فأمّا قول الله عزَّ وجلَّ: {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} آخر الكهف [110]، فالذي يظهر لي أنه ضمّن (يشرك) معنى (يرائي). ومن هنا يظهر أن حديث أحمد والطبراني عن [أبي موسى الأشعري] (1) عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنه قال: «يا أيها الناس اتقوا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل»، قالوا: وكيف نتقيه يا رسول الله؟ قال: «قولوا: اللهمَّ إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه» على ظاهره، أي: إن المراد الشرك الأكبر، لقوله في الدعاء: «أن نشرك بك»، فعدَّاه بالباء. والله أعلم. ومما يعترض به على ما قدَّمناه: قولُ الشافعي رحمه الله تعالى: «وكلُّ يمين بغير الله فهي مكروهة منهيٌّ عنها من قِبَلِ قول رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: [737]: «إنَّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليسكت» (2) .... فكلُّ من حلف بغير الله كَرِهْتُ له وخشيت أن تكون يمينه معصية» (3). [و] الجواب: أن الشافعي رحمه الله تعالى لا نعلمه بَلَغتْه الأحاديث المصرِّحة بأنَّ الحلف بغير الله تعالى شرك، ولم يتجشَّم التفصيل، ولعلَّه لو سئل عن الضرب الأوَّل من القَسَم لم يتوقَّفْ في أنَّه إن وقع بغير الله تعالى كان شركًا، فأمَّا ما عداه فيحتمل أن يتردّد فيه، ولاسيَّما إذا لم يقف على _________ (1) بيض المؤلف هنا لاسم الصحابي. انظر: المسند 32/ 384، والمعجم الأوسط 4/ 10. وسبق تخريج الحديث ص 144. (2) سبق تخريجه ص 989. (3) الأم 7/ 56 - 57. [المؤلف]
(3/1034)
الأحاديث المصرِّحة بأنَّ الحلف بغير الله تعالى شرك مطلقًا. والله أعلم. وذكر الحافظ في الفتح الاختلافَ في النهي أللتحريم هو أم للكراهة؟ ثم قال: «فإن اعتقد في المحلوف به (1) من التعظيم ما يعتقده في الله حرم الحلف به، وكان بذلك الاعتقاد كافرًا ... , وأمَّا إذا حلف بغير الله لاعتقاده تعظيم المحلوف به على ما يليق به من التعظيم فلا كفر بذلك» (2). أقول: لم يرد بقوله: (ما يعتقده في الله) أن يعتقد أنَّ المحلوف به واجب الوجود أو أنه خالق رازق مدبِّر استقلالًا ونحو ذلك؛ لأنَّ الشرك يحصل بدون هذا الاعتقاد قطعًا كما تقدَّم تحقيقه، بل المراد ما يعتقده في الله من استحقاق العبادة. وقد علمت أنَّ القَسَم من الضرب الأول عبادة, فإذا وقع بغير الله عزَّ وجلَّ فإن كان مما أنزل الله تعالى به سلطانًا فهو عبادة لله عزَّ وجلَّ وإلَّا فهو عبادة للمحلوف به، فكيف والمحلوف به لا يستحقُّ هذا التعظيم. [738] وبهذا يُعلم أنَّ قول الحافظ: «على ما يليق به من التعظيم ... (3) المحلوف به أنه يستحق أن يحلف به، ولا اعتقد أنَّ الحلف به سبب لنفع غيبِي، وهذا نظير السجود للشمس، وقد تقدَّم الكلام فيه. والله أعلم. وأمَّا ما عدا الضرب الأول فقد تقدَّم أنَّ من ذلك ما يُفْهِمُ إجلال _________ (1) في النسخة: له. (2) فتح الباري 11/ 425 - 426. [المؤلف] (3) أصاب بلَلٌ نحو سطرين, وظهر منهما: ( ... ثم إذا كان الظاهر في الـ ... الضرب الأوَّل ... النفع ... ).
(3/1035)
المحلوف به إجلالَ المعبود، وهذا لا يليق بمخلوق، وظاهر حال الحالف بذلك أنَّه يعتقد استحقاق المحلوف به لذلك، وعليه فقد اعتقد فيه من التعظيم ما يعتقده في الله من استحقاق العبادة؛ لأنَّه إذا اعتقد استحقاقه أن يُجَلَّ إجلال المعبود فقد اعتقد استحقاقه العبادة. وهَبْ أنَّه لم يعتقد ذلك, فقد يظهر أنه لا ينفعه، كما مرّ آنفًا في الحلف من الضرب الأول. والله أعلم. وفي الدُّرِّ المختار من كتب الحنفية: «قال الرازي (1): أخاف على من قال: بحياتي وحياتك وحياة رأسك أن يكفر، ومن اعتقد وجوب البِرِّ فيه يكفر، ولولا أنَّ العامة يقولونه ولا يعلمونه لقلت: إنه شرك. وعن ابن مسعود: لأن أحلف بالله كاذبًا أَحَبُّ إليَّ من أن أحلف بغيره صادقًا». وفي حاشيته ردِّ المحتار: «وفي القهستاني عن المُنْيَة: أنَّ الجاهل الذي يحلف بروح الأمير وحياته لم يتحقَّق إسلامه بعدُ» (2). أقول: الأثر الذي ذكره عن ابن مسعود ذكره في فتح الباري، وذكر مثله عن ابن عباس وابن عمر والشعبي (3). _________ (1) هو علي بن أحمد بن مكي، حسام الدين الرازي، سكن دمشق، وكان فقيها فاضلًا يفتي على مذهب أبي حنيفة، له: «خلاصة الدلائل» في شرح القدوري، توفي بدمشق سنة 591 هـ. انظر: تاج التراجم 149 رقم 167. (2) رد المحتار 3/ 57 - 58. [المؤلف] (3) انظر: فتح الباري 11/ 429. [المؤلف]. وأثر ابن مسعود أخرجه عبد الرزاق في المصنف, كتاب الأيمان والنذور, باب الأيمان ... , 8/ 469, ح 15929. وابن أبي شيبة في كتاب الأيمان والنذور, الرجل يحلف بغير الله أو بأبيه, 7/ 549, ح 12414. والطبراني في المعجم الكبير 9/ 205, ح 8902. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 318: (ورجاله رجال الصحيح).
(3/1036)
[739] واعتقاد وجوب البرِّ يجعل القَسَم من الضرب الأول، وقد علمت وجه كونه كفرًا وشركًا, وقد جزم الرازيُّ بأنَّ قولهم: بحياتي وحياتك وحياة رأسك شركٌ، وأطلق ذلك، وإنما توقَّف عن الحكم على قائلي ذلك من العامَّة بأنهم مشركون؛ لكونهم لا يعلمون، وهذا حقٌّ كما قدَّمناه في الأعذار. ولكن العامة في هذه الأزمنة قد غلوا في الغلوِّ، فلم يقتصروا على نحو: بحياتي وحياتك وحياة أبيك مما لا يعتقد فيه عدم وجوب البرِّ، بل صاروا يحلفون بمن يعتقدون فيه الصلاح من الأحياء والموتى، ولم يقتصروا على الحلف بهم، بل يعتقدون وجوب البرِّ، ويعلنون بذلك، ولم يقفوا عند هذا، بل يعتقدون أنَّ القَسَم بفلان وفلان مثلُ القَسَم بالله تعالى، بل ولم يقف كثير منهم عند هذا، بل يعتقدون أنَّ القَسَم بفلان وفلان أحقُّ بالبرِّ والوفاء من القَسَم بالله عزَّ وجلَّ. ولم يكتفوا بهذا، بل إذا سئل المتفاقه منهم وعوتب قال: إنَّما نرى القَسَم بالأولياء أوثقَ من القَسَم بالله عزَّ وجلَّ؛ لأن الله تعالى صبور والأولياء لا يصبرون!! ولا تحسبنَّ هذا أقصى ما عندهم، بل إذا قلت لهذا المتفاقه: غاية ما يمكن من الولي أن يدعو الله تعالى على مَنْ لم يبرَّ بيمينه، فرجع الأمر إلى الله تعالى ــ وهو صبور ــ , فإنَّه يجيبك حينئذٍ بشبهةٍ [740] مِن شُبهِ عُبَّاد الملائكة, فأقربهم مَنْ يقول: أنت لا تنكر سؤال الدعاء من الصَّالح الحيِّ, فيقول له أحدنا: ادع الله أن يكفيني شرَّ من ظلمني، ويلزم من ذلك اعتقاد أنَّ الله تعالى يعجِّل عقوبة الظالم إذا دعاه وليٌّ مِن أوليائه تعجيلها، فكذلك ما نحن فيه. وأبعدُ منه مَنْ يقول: إن الله تعالى لا يردُّ دعاء أوليائه. وأَبْعَدُهُم مَنْ يقول لك: إنَّ للأولياء سلطة غيبيَّة يتصرَّفون بها في الكون، فبتلك
(3/1037)
السلطة يعجِّلون عقوبة مَنْ حلف بهم ولم يبرَّ. وقد مرَّ جوابُ هذه الشبهات. وهذه السلطة الغيبيَّة قد شاع اعتقادها بين العلماء, فضلًا عن الأوساط, فضلًا عن العامَّة. ولم يبلغ مشركو العرب في الجاهلية إلى هذا الحدِّ في الملائكة، بل لم يثبتوا لهم إلا الشفاعة مع تردُّدهم فيها، حتى كانوا إذا وقعوا في شدَّة اقتصروا على دعاء الله تعالى كما تقدَّم ذلك مبسوطًا (1). وهذه السلطة الغيبية التي تُنْسَب إلى الأولياء لا نعلم عليها سلطانًا، بل قد استأصل الله عزَّ وجلَّ شأفتها ببرهان التمانع كما تقدَّم، وإنما ينجو من برهان التمانع قدرة الملائكة التي لا يحرِّكون بها ذرَّة، ولا ينطقون بحرف حتى يأمرهم ربهم عزَّ وجلَّ. وقد تقدَّم (2) أنَّ أرواح الموتى إن جاز أن نفرض لها قدرة فهي كقدرة الملائكة, وأمَّا قدرة الجنّ والسحرة وكذا إن فرضنا للصَّالحين الأحياء قدرة غيبيَّة فقد تقدَّم أنها محدودة بحيث لا تصادم برهان التمانع, ومع ذلك فإنها لا تؤثر إلَّا بإذن خاصٍّ من الله تعالى بخلاف القدرة العاديَّة للبشر الأحياء. [741] والمقصود بيان الغاية التي بلغها العامَّة ومَن يقرب منهم وإن ادَّعى العلم من الغلوِّ, والله المستعان. _________ (1) انظر ص 767 - 769. (2) انظر ص 816.
(3/1038)
قول ما شاء الله وشئت (1) _________ (1) هذا آخر ما وُجِد من كتاب العبادة، ولا يبعد أن الشيخ المعلِّمي تيسَّر له كتابةُ هذا الفصل وفصولٍ أخرى بعده؛ لأنه كان يدعو الله أن يُيسِّر له إتمام الكتاب ونشره، ولعلَّ الله استجاب دعاءه. ثم وجدت بعدُ أنه قال في رسالة البسملة والفاتحة 8 ب (وهي متأخرة التأليف عن رسالة العبادة): «ومما كان يخفى على بعضٍ منهم أنه عبادة أو قد يكون عبادة: القَسَم بغير الله, والطيرة, وقولهم: ما شاء الله وشاء فلان, والتمائم والتولة وغيرها. وقد بسطت الكلام على ذلك في رسالة العبادة, والحمد لله».
(3/1039)
فهرس مصادر التحقيق
1 - الآحاد والمثاني، لابن أبي عاصم، تحقيق باسم الجوابرة، دار الراية، الرياض، ط 1، 1411 هـ. 2 - الآداب الشرعية، لابن مفلح، تحقيق شعيب الأرنؤوط وعمر القيام، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 3، 1419 هـ. 3 - الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة، لابن بطَّة العكبري، تحقيق: رضا نعسان وآخرين، دار الراية، ط 2، 1415 هـ. 4 - إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، للبوصيري، تحقيق: دار المشكاة للبحث العلميّ، نشر: دار الوطن، الرياض، ط 1، 1420 هـ. 5 - إتحاف السادة المتقين، للزبيدي، نشر دار إحياء التراث العربي، 1414 هـ، صورة عن طبعة المطبعة الميمنية. 6 - إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة، لابن حجر، تحقيق مجموعة من الباحثين، مجمع الملك فهد بالتعاون مع مركز خدمة السنة، ط 1، 1415 هـ. 7 - الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، تحقيق مركز الدراسات القرآنية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط 2، 1431 هـ. 8 - الأجوبة النافعة عن المسائل الواقعة، للسعدي، اعتنى به: هيثم بن جواد الحداد، دار المعالي ودار ابن الجوزي، ط 2، 1420 هـ. 9 - الأحاديث المختارة، للضياء المقدسي، تحقيق عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، دار خضر، بيروت، ط 3، 1420 هـ.
(3/1153)
10 - الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، لابن بلبان، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1408 هـ. 11 - الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي، لم أرجع إليه في التحقيق، وإنما نقل المؤلف عن طبعة مطبعة المعارف بشارع الفجالة بمصر، 1332 هـ. 12 - الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط 2، 1403 هـ. 13 - الأحكام الوسطى للإشبيلي، تحقيق: حمدي السلفي وصبحي السامرائي، مكتبة الرشد، الرياض، 1416 هـ. 14 - أخبار الحمقى والمغفلين، لابن الجوزي، شرح عبد الأمير مهنا، دار الفكر اللبناني، ط 1، 1410 هـ. 15 - إخبار العلماء بأخبار الحكماء، للقفطي، مطبعة السعادة بمصر، 1326 هـ. 16 - أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه، لأبي عبد الله الفاكهي، دراسة وتحقيق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط 2، 1414 هـ. 17 - أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، لأبي الوليد الأزرقي، دراسة وتحقيق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، مكتبة الأسدي، مكة المكرمة، ط 1، 1424 هـ. 18 - الأدب المفرد للبخاري، تحقيق: سمير الزهيري، مكتبة المعارف، الرياض، ط 1، 1419 هـ. 19 - الأربعين في التصوُّف، لأبي عبد الرحمن السلمي، مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد، 1401 هـ.
(3/1154)
20 - إرشاد المبتدي وتذكرة المنتهي في القراءات العشر، لأبي العز القلانسي، تحقيق: عمر حمدان الكبيسي، المكتبة الفيصلية، مكة المكرمة، ط 1، 1404 هـ. 21 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للألباني، المكتب الإسلامي، ط 2، 1405 هـ. 22 - أسباب النزول، للواحدي، تخريج: عصام بن عبد المحسن الحميدان، دار الإصلاح، الدمام، ط 1، 1411 هـ. 23 - الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار، لابن عبد البر، وثّق أصوله: عبد المعطي قلعجي، دار قتيبة، دمشق، بيروت، دار الوعي، حلب، القاهرة، ط 1، 1413 هـ. 24 - الاستيعاب، لابن عبد البر (بهامش الإصابة، لابن حجر)، دار الكتاب العربي، بيروت. 25 - الأسماء والصفات، للبيهقي، تحقيق: عبدالله بن محمد الحاشدي، مكتبة السوادي، جدة، ط 1، 1413 هـ. 26 - الإشارة والإيجاز، للعز بن عبد السلام، لم أرجع إليه في التحقيق، وإنما نقل المؤلف عن طبعة دار الطباعة العامرة، وقد صورتها دار المعرفة، بيروت. 27 - الأشباه والنظائر، للسيوطي، مصطفى الحلبي بمصر، الطبعة الأخيرة، 1378 هـ. 28 - الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: عبد الله التركي بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر بالقاهرة، ط 1، 1429 هـ. 29 - الأصنام، لأبي المنذر ابن الكلبي، تحقيق: أحمد زكي باشا، دار الكتب المصرية بالقاهرة، ط 3، 1995 م.
(3/1155)
30 - الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار، لأبي بكر الحازمي، دائرة المعارف العثمانية، بحيدر أباد، الهند، ط 2، 1359 هـ. 31 - الاعتصام، للشاطبي، مطبعة المنار بمصر، ط 1، 1331 هـ، وهي التي رجع إليها المؤلف. وطبعة أخرى بتحقيق: محمد عبد الرحمن الشقير وزميليه، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 1، 1429 هـ. 32 - الأعلام، لخير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، ط 7، 1986 م. 33 - إعلام الموقعين، لابن قيم الجوزية، مراجعة وتعليق: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة ومطبعة الحاج عبد السلام بن محمد بن شقرون، 1388 هـ. 34 - الإعلام بقواطع الإسلام، لابن حجر الهيتمي، طبعة المطبعة الوهبية، مصر، 1292 هـ، وهي التي رجع إليها المؤلف. وطبعة أخرى بهامش: الزواجر عن اقتراف الكبائر، المطبعة الأزهرية المصرية، ط 1، 1325 هـ. وطبعة ثالثة بذيل الزواجر، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، ط 3، 1398 هـ. 35 - إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان، لابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، ط 1، 1432 هـ. 36 - الأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني، تحقيق: سمير جابر، دار الفكر، بيروت، ط 2. 37 - اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية، تحقيق: ناصر العقل، ط 7، 1419 هـ، توزيع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، الرياض. 38 - اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 4، 1397 هـ.
(3/1156)
39 - الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب، لابن ماكولا، تحقيق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، دار الكتاب الإسلامي، الفاروق الحديثة للطباعة، مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد، الهند. 40 - الأم، للإمام محمد بن إدريس الشافعي، المطبعة الأميرية الكبرى ببولاق، مصر، ط 1، 1321 - 1325 هـ. وطبعة أخرى بتحقيق: رفعت فوزي عبد المطلب، دار الوفاء، المنصورة، مصر، ط 1، 1422 هـ. 41 - الأمالي، لأبي علي القالي، دار الكتاب العربي، بيروت، مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية، 1926 م. 42 - إنباه الرواة على أنباه النحاة، للقفطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط 1، 1406 هـ. 43 - الأنساب، للسمعاني، تحقيق: عبد الرحمن بن يحيى المعلمي وآخرين، مكتبة ابن تيمية، ط 2، 1400 هـ. 44 - أنساب الخيل في الجاهلية والإسلام وأخبارها، لابن الكلبي، تحقيق: أحمد زكي، مطبعة دار الكتب القومية، القاهرة، 1424 هـ. 45 - الإنسان الكامل، للجيلي، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده، دون معلومات طباعة. 46 - أنوار التنزيل، للبيضاوي = تفسير البيضاوي. 47 - أهوال القبور، لابن رجب، خرج أحاديثه وعلق عليه: خالد عبد اللطيف السبع العلمي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 3، 1414 هـ. 48 - الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف، لابن المنذر النيسابوري، تحقيق: مجموعة، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، ط 2، 1431 هـ.
(3/1157)
49 - الإيضاح في علوم البلاغة للقزويني. بتعليق محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتاب اللبناني، ط 5، 1400 هـ. 50 - البحر الرائق شرح كنز الدقائق، لابن نجيم، دار المعرفة، بيروت، مصورة عن طبعة مطبعة دار الكتب العربية الكبرى بمصر، 1333 هـ. 51 - البحر المحيط، لأبي حيان محمد بن يوسف الأندلسي، دار الفكر، ط 2، 1398 هـ، مصوَّرة عن طبعة السلطان عبد الحفيظ. 52 - البداية والنهاية، لابن كثير، تحقيق: عبد الله التركي، هجر للطباعة والنشر والتوزيع، بمصر، ط 1، 1418 هـ. 53 - البدر الطالع بمحاسن مَن بعد القرن السابع، للشوكاني، مكتبة ابن تيمية، بالقاهرة. 54 - البدر المنير في تخريج أحاديث الشرح الكبير، لابن الملقن، تحقيق مجموعة من الباحثين، دار العاصمة، الرياض، ط 1، 1430 هـ. 55 - البدور البازغة، لولي الله الدهلوي، مطبوعات المجلس العلمي، الهند، 1354 هـ. 56 - برهان قاطع، لمحمد حسين بن خلف التبريزي، تحقيق: الدكتور محمد معين، مؤسسة انتشارات أمير كبير، طهران، ط 5، 1342 هجري شمسي. 57 - بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث بن أبي أسامة، لنور الدين الهيثمي، تحقيق: حسين أحمد صالح الباكري، مركز خدمة السنة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بالتعاون مع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط 1، 1413 هـ. 58 - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، للسيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة عيسى الحلبي، ط 1، 1384 هـ.
(3/1158)
59 - بلوغ المرام، لابن حجر، تحقيق: سمير بن أمين الزهيري، مكتبة الدليل، الجبيل الصناعية بالسعودية، ط 1، 1417 هـ. 60 - البيان والتبيين، للجاحظ, تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي بمصر، ط 4، 1395 هـ. 61 - تاج التراجم فيمن صنَّف من الحنفية، لابن قطلو بغا، عُني بتحقيقه: إبراهيم صالح، دار المأمون للتراث، ط 1، 1412 هـ. 62 - تاج العروس شرح القاموس، للزبيدي، تحقيق: مجموعة من المحققين، المجلس الوطني للثقافة والفنون بالكويت. 63 - تاريخ الإسلام، للذهبي، تحقيق: بشار عوَّاد معروف، دار الغرب الإسلامي، ط 1، 1424 هـ. 64 - تاريخ الأمم والملوك، للطبري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار سويدان، بيروت، بلا تاريخ. 65 - التاريخ الأوسط، للبخاري، المطبوع باسم: التاريخ الصغير، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، دار الوعي بحلب، ودار التراث بالقاهرة، ط 1، 1397 هـ 66 - تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت، بلا تاريخ. 67 - تاريخ دمشق، لابن عساكر، تحقيق: عمر بن غرامة العمروي، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1419 هـ. 68 - التاريخ الكبير، للبخاري، دار الكتب العلمية، مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد، الهند. 69 - تاريخ ابن الوردي، المسمى: تتمة المختصر في أخبار البشر، جمعية المعارف، 1285 هـ. 70 - تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة، دار الكتاب العربي، بيروت.
(3/1159)
71 - التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، لطاهر بن محمد الإسفراييني، عالم الكتب، بيروت، 1983 م. 72 - تحفة الأشراف، للمزي، تحقيق: عبد الصمد شرف الدين، الدار القيمة بهيوندي، الهند، والمكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1403 هـ. 73 - تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، لأبي الريحان البيروني، الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر، مصور عن طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن، الهند، 2003 م. 74 - تخريج أحاديث وآثار الكشاف، اعتنى به سلطان بن فهد الطبيشي، دار ابن خزيمة، الرياض، ط 1، 1414 هـ. 75 - التدمرية، لابن تيمية، تحقيق: محمد بن عودة السعوي، مكتبة العبيكان، ط 6، 1421 هـ. 76 - التدوين في أخبار قزوين، لعبد الكريم بن محمد الرافعي، طبع المطبعة العزيزية، حيدر أباد، الهند، سنة 1404 هـ. 77 - تذكرة أولي الألباب، لداود بن عمر الضرير الأنطاكي. 78 - الترغيب والترهيب، للمنذري، ضبط وتعليق: مصطفى محمد عمارة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1406 هـ. 79 - تشنيف المسامع بجمع الجوامع، للزركشيّ، تحقيق: عبد الله ربيع وسيد عبد العزيز، مؤسسة قرطبة، القاهرة، مصر، ط 1. 80 - تفسير البيضاوي (أنوار التنزيل وأسرار التأويل)، مصورة دار الفكر عن طبعة المطبعة العثمانية بتركيا. وطبعة أخرى على حاشية الشهاب الخفاجي، مصورة دار صادر، بيروت، عن طبعة بولاق، 1283 هـ. 81 - تفسير الجواهر = الجواهر في تفسير القرآن.
(3/1160)
82 - تفسير الجلالين، علَّق عليه: صفي الرحمن المباركفوري، دار السلام، الرياض، ط 2، 1422 هـ. 83 - تفسير ابن أبي حاتم = تفسير القرآن العظيم. 84 - تفسير الخازن، دار الفكر، 1399 هـ. 85 - تفسير أبي السعود، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 86 - تفسير الطبري، طبعة المطبعة الميمنية بمصر، 1321 هـ، وهي التي رجع إليها المؤلف. وطبعة أخرى بتحقيق: محمود محمد شاكر، دار المعارف بمصر، ط 2. وطبعة ثالثة بتحقيق: عبد الله التركي، هجر للطباعة والنشر، ط 1، 1422 هـ. 87 - تفسير الفخر الرازي، المشهور بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1401 هـ. 88 - تفسير القرآن، لعبد الرزاق الصنعاني، تحقيق: مصطفى مسلم، مكتبة الرشد، الرياض، ط 1، 1410 هـ. 89 - تفسير القرآن، لأبي المظفر السمعاني، تحقيق: ياسر بن إبراهيم وغنيم بن عباس، دار الوطن، الرياض، ط 1، 1418 هـ. 90 - تفسير القرآن العظيم، لابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد محمد الطيب، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، الرياض، ط 1، 1417 هـ. 91 - تفسير القرآن العظيم، لإسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي، تحقيق: عبد العزيز غنيم وزميله، طبعة الشعب. 92 - تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن. 93 - تفسير ابن كثير = تفسير القرآن العظيم.
(3/1161)
94 - تفسير ابن المنذر، تحقيق: سعد بن محمد السعد، دار المآثر، المدينة النبوية، ط 1، 1423 هـ. 95 - تفسير النسائي، حققه: سيد بن عباس الجليمي وزميله، مكتبة السنة، ط 1، 1410 هـ. 96 - تفسير النسفي، (مدارك التنزيل وحقائق التأويل)، تحقيق: مروان محمد الشقار، دار النفائس، ط 1، 1416 هـ. 97 - تقريب التهذيب، لابن حجر العسقلاني، قابله بأصل مؤلّفه: محمد عوّامة، دار الرشيد، حلب، سورية. 98 - التلخيص الحبير، لابن حجر العسقلاني، عني بتصحيحه: عبد الله هاشم اليماني، دار المعرفة بيروت، بلا تاريخ. 99 - التمهيد، لابن عبد البر، تحقيق: مصطفى العلوي ومحمد عبد الكبير، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، 1387 هـ. 100 - التنكيل، للمعلمي، تحقيق: الألباني، المكتب الإسلامي، ط 2، 1406 هـ. 101 - تهذيب التهذيب، لابن حجر العسقلاني، دار صادر، مصورة عن طبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر أباد، الدكن، الهند، ط 1، 1325 هـ. 102 - تهذيب اللغة، لأبي منصور الأزهري، تحقيق: عبد السلام هارون، المؤسسة المصرية العامة والدار المصرية، القاهرة، 1384 هـ. 103 - التوبة، لابن أبي الدنيا، دراسة وتحقيق: مجدي السيد إبراهيم، مكتبة القرآن للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، بلا تاريخ. 104 - التيسير بشرح الجامع الصغير، للمناوي، مكتبة الإمام الشافعي، الرياض، ط 3، 1408 هـ.
(3/1162)
105 - تيسير التحرير، لمحمد أمين المعروف بأمير بادشاه، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403 هـ. 106 - الثقات، لابن حبان، مصورة دار الفكر عن طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد، الهند، ط 1، 1393 هـ. 107 - الجامع، لمعمر = بذيل مصنف عبد الرزاق. 108 - جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 7، 1427 هـ. 109 - جامع العلوم والحكم، لابن رجب، مؤسسة الرسالة، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس، ط 7، 1422 هـ. 110 - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، تحقيق: عبد الله التركي، بمشاركة: محمد رضوان عرقسوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1427 هـ. 111 - الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، دار الكتب العلمية، بيروت، مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية، بحيدر أباد، الهند. 112 - الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي، لأبي الفرج المعافى بن زكريا، تحقيق: محمد مرسي الخولي، عالم الكتب، بيروت، ط 1، 1413 هـ. 113 - جمال القراء وكمال الإقراء، للسخاوي، تحقيق: علي حسين البواب، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط 1، 1408 هـ. 114 - الجمل، للزجاجي، اعتنى بتصحيحه وشرح أبياته: ابن أبي شنب، طبع بمطبعة جول كربونل بالجزائر، 1926 م. 115 - الجواهر في تفسير القرآن الكريم، لطنطاوي جوهري، طبع بمطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، 1351 هـ.
(3/1163)
116 - حاشية الجمل على تفسير الجلالين، المسماة: الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية، لسليمان بن عمر الشهير بالجمل، مطبعة عيسى البابي الحلبي بمصر. 117 - حاشية الخيالي على شرح العقائد النسفية للتفتازاني مطبوعة بذيل حاشية مصطفى الكستلي، المطبعة العثمانية 1326 هـ في عهد السلطان عبدالحميد الثاني. 118 - حسن الظن بالله، لابن أبي الدنيا، حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه: مخلص محمد، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، ط 2، 1408 هـ. 119 - حلية الأولياء، لأبي نعيم الأصبهاني، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 3، 1400 هـ. 120 - حماسة أبي تمام، بشرح الأعلم الشنتمري، تحقيق: علي المفضَّل حمّودان، دار الفكر، دمشق، مطبوعات مركز جمعة المساجد، ط 1، 1413 هـ. 121 - حماسة الخالديَّين، أبي بكر محمد بن هاشم الخالدي وأبي عثمان سعيد ين هاشم الخالدي، تحقيق محمد علي الدقة، وزارة الثقافة، الجمهورية العربية السورية، 1995 م. 122 - حياة الأنبياء صلوات الله عليهم بعد وفاتهم، للبيهقيِّ، تحقيق: أحمد بن عطية الغامدي، نشر: مكتبة العلوم والحكم، ط: 1، 1415 هـ. 123 - خزانة الأدب، لعبد القادر بن عمر البغدادي، تحقيق وشرح: عبد السلام هارون، نشر: مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط 4، 1418 هـ. 124 - دائرة المعارف، للبستاني، مطبعة الأدبية، بيروت، 1887 م. 125 - دائرة المعارف الإسلامية, إعداد: مجموعة من المستشرقين، النسخة الإنجليزية.
(3/1164)
126 - دائرة معارف القرن العشرين، لمحمد فريد وجدي، نشر: دار المعرفة، بيروت، ط 3، 1971 م. 127 - الدر المنثور، للسيوطي، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1403 هـ. 128 - الدرر الكامنة، لابن حجر، تحقيق: محمد سيد جاد الحق، أم القرى، القاهرة، مصر. 129 - الدعاء، للطبراني، دراسة وتحقيق وتخريج: محمد سعيد محمد حسن البخاري، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط 1، 1407 هـ. 130 - دلائل النبوة، لأبي نُعيمٍ، تحقيق: محمد رواس قلعه جي وعبد الله عباس، دار النفائس، ط 3، 1412 هـ. 131 - دلائل النبوَّة، للبيهقي، تحقيق: عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1405 هـ. 132 - ديوان الأعشى الكبير، تحقيق: محمد محمد حسين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 7، 1403 هـ. 133 - ديوان امرئ القيس، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، ط 4. 134 - ديوان أبي تمام، بشرح: الخطيب التبريزي، تحقيق: محمد عبده عزام، دار المعارف بمصر، 1964 م. 135 - ديوان ابن الدمينة، صنعة: أبي العباس ثعلب ومحمد بن حبيب، تحقيق: أحمد راتب النفاخ، مكتبة دار العروبة، القاهرة، بلا تاريخ. 136 - ديوان الحطيئة، دار صادر والمؤسسة العربية للطباعة والنشر، بيروت. 137 - ديوان رؤبة بن العجاج، اعتنى بتصحيحه وليم بن الورد البروسي، مصورة دار ابن قتيبة للطباعة والنشر والتوزيع، الكويت.
(3/1165)
138 - ديوان عامر بن الطفيل، رواية أبي بكر الأنباري عن أبي العباس ثعلب، دار صادر، بيروت، 1399 هـ. 139 - ديوان عبيد الأبرص، تحقيق وشرح: حسين نصار، ط مصطفى الحلبي، 1377 هـ. 140 - ديوان عدي بن زيد العبادي، تحقيق: محمد جبار المعيبد، بغداد، 1965 م. 141 - ديوان عمر بن أبي ربيعة، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الأندلس، مصر، 1380 هـ. 142 - ديوان القطامي، تحقيق: محمود الربيعي. وطبعة أخرى، بتحقيق إبراهيم السامرائي وأحمد مطلوب. 143 - ديوان المتلمِّس الضُّبَعي، عُني بتحقيقه وشرحه والتعليق عليه: حسن كامل الصيرفي، معهد المخطوطات العربية بجامعة الدول العربية، 1390 هـ. 144 - ديوان المتنبي، مع الشرح المنسوب للعكبري، ضبط وتصحيح: مصطفى السقا وزميليه، مكتبة مصطفى الحلبي بمصر، الطبعة الأخيرة، 1391 هـ. 145 - ديوان مجنون ليلى، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج، مكتبة مصر بالقاهرة، 1979 م. 146 - ديوان النابغة الذبياني، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، ط 2. 147 - ديوان ابن نباتة، ط 1، بمطبعة التمدن، بعابدين بمصر، 1323 هـ. 148 - ذم الكلام وأهله، لأبي إسماعيل الهرويِّ، تحقيق عبد الرحمن بن عبد العزيز الشبل، مكتبة العلوم والحكم بالمدينة المنورة، ط 1، 1416 هـ. 149 - رسالة الاجتهاد والتقليد، لعبد الرحمن بن يحيى المعلمي، مخطوطة في مكتبة الحرم المكي برقم (4674).
(3/1166)
150 - رسالة البسملة والفاتحة، لعبد الرحمن بن يحيى المعلمي، مخطوطة في مكتبة الحرم المكي برقم (4701/ 2) 151 - رسالة الشفاعة، لعبد الرحمن بن يحيى المعلمي، ملحقة بدفتر فيه الجزء الثاني من التعقيب على المعلِّم عبد الحميد وتفسير سورة الفيل، مخطوطة في مكتبة الحرم المكي برقم (4785). 152 - الرسالة القشيرية في علم التصوف، لأبي القاسم القشيري، وعليها هوامش من شرح زكريا الأنصاري، دون معلومات طباعة. 153 - رسالة في تحقيق البدعة، ويليها: صدع الدجنة في فصل البدعة عن السنة، لعبد الرحمن بن يحيى المعلمي، اعتنى بها: عثمان معلم محمود وأحمد حاج محمد، أضواء السلف، الرياض، ط 1، 1425 هـ. 154 - الرقَّة والبكاء، لابن أبي الدنيا، تحقيق: محمد خير رمضان يوسف، دار ابن حزم، بيروت، ط 3، 1419 هـ. 155 - روح المعاني، للآلوسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 156 - الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام، لأبي القاسم عبد الرحمن السهيلي، تعليق وضبط: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية بالقاهرة، 1391 هـ. 157 - روضة الطالبين، للنووي، المكتب الإسلامي، بيروت ودمشق، ط 3، 1412 هـ. 158 - زاد المسير، لابن الجوزي، المكتب الإسلامي، بيروت ودمشق، ط 4، 1407 هـ. 159 - زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن قيم الجوزية، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ومكتبة المنار الإسلامية، الكويت، ط 7، 1405 هـ.
(3/1167)
160 - الزهد، لأحمد بن حنبل، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1403 هـ. 161 - الزهد، لأبي داود -رواية ابن الأعرابي-، تحقيق: ياسر بن إبراهيم بن محمد وغنيم بن عباس بن غنيم، دار المشكاة للنشر والتوزيع، القاهرة، ط 1، 1414 هـ. 162 - الزهد، لابن أبي الدنيا، تحقيق: ياسين محمد السواس، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، ط 1، 1420 هـ. 163 - الزهد، لابن أبي عاصم، تحقيق: عبد العلي عبد الحميد حامد، الدار السلفية، بومباي، الهند، نشر: دار الريان للتراث، القاهرة، مصر، ط 2، 1408 هـ. 164 - الزهد، لابن المبارك، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية، بيروت. 165 - الزهد، لهنَّاد بن السريّ، تحقيق: عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت، ط 1، 1406 هـ. 166 - الزهد، لوكيع بن الجراح، تحقيق د. عبد الرحمن الفريوائي، مكتبة الدار، المدينة المنورة، 1404 هـ. 167 - زيادات نعيم بن حماد على الزهد لابن المبارك، مطبوعة مع كتاب الزهد لابن مبارك. 168 - السبعة في القرآت، لابن مجاهد، تحقيق: شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، ط 3. 169 - سلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت ودمشق، ط 4، 1405 هـ. 170 - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت ودمشق.
(3/1168)
171 - سمط اللآلي، لأبي عبيد البكري، تحقيق: عبد العزيز الميمني، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، بمصر، 1354 هـ. 172 - السنة، لابن أبي عاصم، مع ظلال الجنة في تخريج السنة للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 3، 1413 هـ. 173 - سنن الترمذي، لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة، بتحقيق أحمد محمد شاكر، مصطفى الحلبي، ط 2. 174 - سنن الدارمي = مسند الدارمي. 175 - سنن أبي داود، مراجعة وضبط: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر. 176 - سنن سعيد بن منصور، حققه وعلق عليه: حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1405 هـ. وطبعة أخرى بتحقيق: سعد بن عبد الله آل حميِّد، دار الصميعي، الرياض، ط 1، 1414 هـ. 177 - سنن ابن ماجه، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، مصورة عن طبعة دار إحياء الكتب العربية لفيصل عيسى الحلبي. 178 - سنن النسائي، لأبي عبد الرحمن النسائي، طبعة مصطفى البابي الحلبي، ط 1، 1383 هـ. 179 - السنن الكبرى، للبيهقي، مصورة دار الفكر عن طبعة دائرة المعارف العثمانية بالهند. 180 - السنن الكبرى، للنسائي، تحقيق: حسن عبد المنعم شلبي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1421 هـ. 181 - السنن المأثورة، للشافعي، تحقيق عبد المعطي أمين قلعجي، دار المعرفة، بيروت، ط 1، 1406 هـ. 182 - سير أعلام النبلاء، للذهبي، تحقيق مجموعة، مؤسسة الرسالة، ط 7، 1410 هـ.
(3/1169)
183 - سيرة ابن إسحاق، تحقيق: محمد حميد الله، معهد الدراسات والأبحاث للتعريب. 184 - السيرة النبوية، لعبد الملك بن هشام، مع شرح أبي ذر الخشني، حققه وعلق عليه: همام عبد الرحيم سعيد ومحمد بن عبد الله أبي صعيليك، مكتبة المنار، الأردن، ط 1. 185 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي، تحقيق: محمود الأرناؤوط، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، ط 1، 1410 هـ. 186 - شرح أبيات إصلاح المنطق، للسيرافي، تحقيق: ياسين محمد السواس، مطبوعات مركز جمعة الماجد بدبي، الإمارات العربية المتحدة، ط 1، 1412 هـ. 187 - شرح أشعار الهذليِّين، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج، مكتبة دار العروبة، بالقاهرة. 188 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي، تحقيق: أحمد سعد حمدان، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض. 189 - شرح الخريدة البهية، لأبي البركات الدردير، حققه وقدم له وعلق عليه: مصطفى أبو زيد محمود رشوان، دار البصائر، القاهرة، ط 1، 1431 هـ. 190 - شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامري، تحقيق: إحسان عباس، وزارة الإعلام في الكويت، مطبعة حكومة الكويت، ط ثانية مصورة، 1984 م. 191 - شرح شعر زهير بن أبي سُلْمى، لأبي العباس ثعلب، تحقيق: فخر الدين قباوة، دار الفكر، بيروت، إعادة الطبعة الأولى، 1417 هـ. 192 - شرح صحيح مسلمٍ للأُبِّي = إكمال إكمال المعلم.
(3/1170)
193 - شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي وشعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الإصدار الثاني، ط 2، 1424 هـ. 194 - شرح الكوكب المنير، لابن النجار، تحقيق: محمد الزحيلي ونزيه حماد، مكتبة العبيكان، الرياض، ط 2، 1418 هـ. 195 - شرح المحلِّي على المنهاج (حاشيتا شهاب الدين القليوبي وشهاب الدين الملقب عميرة على كنز الراغبين)، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1417 هـ. 196 - شرح المحلي على جمع الجوامع بحاشية البناني، مطبعة دار إحياء الكتب العربية لعيسى البابي الحلبي بمصر. 197 - شرح المحلِّي على جمع الجوامع مع حاشية العطار، دار الكتب العلمية، بيروت. 198 - شرح المقاصد، للتفتازاني، طبع في تركيا في مطبعة الحاج محرم أفندي البوسنوي، 1305 هـ. 199 - شرح المواقف، للسيد الشريف الجرجاني، مع حاشيتي السيالكوتي وحسن جلبي، المكتبة الأزهرية للتراث، ط 1، 1432 هـ. 200 - شرح النوويِّ على صحيح مسلمٍ، نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 3، 1404 هـ. 201 - الشريعة، لأبي بكر الآجُرِّيِّ، تحقيق: عبد الله بن عمر الدميجي، دار الوطن، الرياض. 202 - شعب الإيمان، للبيهقي، تحقيق: مختار أحمد الندوي، الدار السلفية، الهند، ط 2، 1421 هـ.
(3/1171)
203 - شعر نصيب بن رباح المعروف بالأكبر، جمع وتقديم: داود سلوم، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1967 م. 204 - الشِّعر والشعراء، لابن قتيبة، تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار المعارف، مصر، ط 2، 1982 م. 205 - الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض، مع حاشية الشمني، دار الكتب العلمية، بيروت. 206 - شفاء العليل، لابن قيم الجوزية، تحرير: الحساني حسن عبد الله، مكتبة دار التراث، بالقاهرة. 207 - الشكر، لابن أبي الدنيا، تحقيق: طارق الطنطاوي، مكتبة القرآن للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، بلا تاريخ. 208 - شواذّ القرآن، لابن خالويه = مختصر في شواذ القرآن. 209 - الصارم المسلول على شاتم الرسول، لابن تيمية، تحقيق: محمد بن عبد الله الحلواني ومحمد كبير أحمد شودري، رمادي للنشر، الدمام، السعودية، ط 1، 1417 هـ. 210 - صبح الأعشى، لأبي العباس القلقشندي، شرحه وعلق عليه وقابل نصوصه: محمد حسين شمس الدين، دار الفكر. 211 - الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية)، لإسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور العطَّار، دار العلم للملايين، بيروت، ط 4، 1999 م. 212 - صحيح البخاري: اعتنى به: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، بيروت، توزيع: دار المنهاج، جدة، ط 1، 1422 هـ. مصورة عن الطبعة الأميرية ببولاق، مصر.
(3/1172)
213 - صحيح ابن خُزيمة، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 3، 1424 هـ. وطبعة أخرى بتحقيق: ماهر ياسين الفحل، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، ط 1، 1431 هـ. 214 - صحيح مسلم، دار المعرفة، بيروت، مصورة عن طبعة الأستانة بتركيا. وطبعة أخرى بتحقيق: محمد فواد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 215 - صحيح الأدب المفرد، للألباني، دار الدليل، الجبيل الصناعية، ط 4، 1418 هـ. 216 - صحيح سنن الترمذي، للألباني، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى للطبعة الجديدة، 1420 هـ. 217 - صحيح سنن النسائي، للألباني، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى للطبعة الجديدة، 1419 هـ. 218 - صفة الصفوة، لابن الجوزي، تحقيق: محمود فاخوري، دار المعرفة، ط 3، 1405 هـ. 219 - الضعفاء، لأبي زرعة، وأجوبته على أسئلة البرذعي، تحقيق: سعدي الهاشمي، نشر المجلس العلمي، بالجامعة الإسلامية. 220 - الضعفاء الكبير، لأبي جعفر العقيلي، حققه ووثقه: عبد المعطي أمين قلعجي، دار الكتب العلمية. 221 - الضعفاء والمتروكون، للدارقطني، دراسة وتحقيق: موفق بن عبد الله بن عبد القادر، مكتبة المعارف، الرياض، ط 1، 1404 هـ. 222 - الضعفاء والمتركون، للنسائي، تحقيق: بوران الضناوي وكمال يوسف الحوت، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط 1، 1405 هـ. 223 - ضعيف الجامع الصغير، للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1408 هـ.
(3/1173)
224 - ضعيف سنن أبي داود (الأم)، للألباني، مؤسسة غراس للنشر والتوزيع، الكويت، ط 1، 1423 هـ. 225 - ضعيف سنن أبي داود، للألباني، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى للطبعة الجديدة، 1419 هـ. 226 - طبقات الأسماء المفردة، لأبي بكر البرديجيّ، حققته وقدمت له: سكينة الشهابي، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، سورية، ط 1، 1987 هـ. 227 - طبقات الشعراء، لابن المعتز، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج، دار المعارف بمصر، بلا تاريخ. 228 - طبقات الصوفيَّة للسلمي، تحقيق: نور الدين شريبه، مكتبة الخانجي بمصر، ط 3، 1406 هـ. 229 - الطبقات الكبرى، لابن سعد، تحقيق: مجموعة من المستشرقين، ليدن، بريل، 1904 - 1940 م، وهي التي رجع إليها المؤلف. وطبعة أخرى عن دار صادر، بيروت، 1405 هـ. وطبعة ثالثة (القسم المتمم)، تحقيق: زياد محمد منصور، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط 1، 1403 هـ. 230 - طبقات فحول الشعراء، للجمحي، قرأه وشرحه: محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة. 231 - العجاب في بيان الأسباب، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: عبد الحكيم محمد الأنيس، دار ابن الجوزي، الدمام، ط 1، 1418 هـ. 232 - عروس الأفراح (ضمن شروح التلخيص)، دار الكتب العلمية، بيروت. 233 - العظمة، لأبي الشيخ الأصبهاني، تحقيق: رضاء الله المباركفوري، دار العاصمة، الرياض، ط 1، 1411 هـ.
(3/1174)
234 - العقائد الوثنية في الديانة النصرانية، لمحمد طاهر التَّنِّير البيروتي، تحقيق ودراسة: محمد عبد الله الشرقاوي، دار الصحوة للنشر، القاهرة، بلا تاريخ. 235 - علل الترمذي الكبير، رتبه على كتب الجامع: أبو طالب القاضي، تحقيق: صبحي السامرائي وزميليه، عالم الكتب، بيروت، ط 1، 1409 هـ. 236 - العلل، للدارقطني، تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله، دار طيبة، الرياض، ط 1، 1405 هـ. 237 - العلل لابن أبي حاتم، تحقيق: فريقٍ من الباحثين، بإشراف وعناية: سعد بن عبد الله آل حميِّد وخالد بن عبد الرحمن الجريسيّ، ط 1، 1427 هـ. 238 - العلل ومعرفة الرجال، للإمام أحمد، رواية عبد الله، تحقيق وتخريج: وصي الله بن محمد عباس، المكتب الإسلامي، بيروت ودار الخاني، الرياض، ط 1، 1408 هـ. 239 - العلل ومعرفة الرجال، للإمام أحمد، رواية المروذي وغيره، تحقيق: وصي الله عباس، الدار السلفية، بومباي، الهند، ط 1، 1408 هـ. 240 - العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، لابن الجوزي، حققه وعلق عليه: إرشاد الحق الأثري، نشر: إدارة ترجمان السنة، باكستان. 241 - العلو للعلي الغفار، للذهبي، اعتنى به: أشرف بن عبد المقصود، مكتبة أضواء السلف، الرياض، ط 1، 1416 هـ. 242 - عمدة القاري شرح صحيح البخاري، للعيني، دار الكتب العلمية، ط 1، 1421 هـ. 243 - عمل اليوم والليلة، للنسائي، تحقيق: فاروق حماده، مؤسسة الرسالة، ط 2، 1406 هـ.
(3/1175)
244 - العناية شرح الهداية للبابرتي، مطبوع بهامش فتح القدير لابن الهمام، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، ط 1، 1389 هـ. 245 - عون المعبود، لشمس الحق العظيم آبادي، دار الحديث بمصر. 246 - عيون الأنباء في طبقات الأطباء، لأبي العباس الخزرجي المعروف بابن أبي أصيبعة، الطبعة الأولى بالمطبعة الوهبية، 1299 هـ. وطبعة أخرى بتحقيق: نزار رضا، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت. 247 - غرائب القرآن ورغائب الفرقان، لنظام الدين الحسن بن محمد القمي، تحقيق: إبراهيم عطوه عوض، مصطفى البابي الحلبي، ط 1، 1381 هـ. 248 - غريب الحديث، لأبي سليمان الخطابي، تحقيق: عبد الكريم إبراهيم العزباوي، مركز إحياء التراث الإسلاميّ بجامعة أمّ القرى بمكّة المكرّمة، ط 2، 1422 هـ. 249 - غريب الحديث، لأبي عبيد القاسم بن سلام، مصورة دار الكتاب العربي عن الطبعة الهندية. 250 - غوث المكدود بتخريج منتقى ابن الجارود، لأبي إسحاق الحويني، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1408 هـ. 251 - الفتاوى الكبرى، لابن تيمية، قدم له: حسنين محمد مخلوف، دار المعرفة، بيروت. 252 - الفتاوى، للإمام العز بن عبد السلام، خرج أحاديثه وعلق عليه: عبد الرحمن بن عبد الفتاح، دار المعرفة، بيروت، ط 1، 1406 هـ. 253 - فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، المطبعة الخيرية بمصر، ط 1، 1319 هـ. وطبعة أخرى بدار المعرفة، بيروت، مصورة عن الطبعة السلفية. 254 - فتح القدير، لابن الهمام، مصطفى الحلبي، ط 1، 1389 هـ.
(3/1176)
255 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، لمحمد بن علي الشوكاني، مكتبة مصطفى الحلبي، ط 2، 1383 هـ. 256 - الفتح المبين بشرح الأربعين، لابن حجر الهيتمي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1398 هـ. 257 - فتح المغيث، للسخاوي، تحقيق: علي حسين علي، إدارة البحوث الإسلامية، بالجامعة السلفية، ببنارس، الهند، ط 1، 1407 هـ. 258 - الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية، لابن علان، دار الفكر، 1398 هـ. 259 - فرحة الأديب في الرد على ابن السيرافي في شرح أبيات سيبويه، للأسود الغندجاني، تحقيق: محمد علي سلطاني، دار النبراس، 1401 هـ. 260 - الفردوس بمأثور الخطاب، لشيرويه بن شهردار الديلمي، تحقيق: السعيد بن بسيوني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1406 هـ. 261 - الفروق، أو: أنوار البروق في أنواء الفروق، لأبي العباس القرافيِّ، ضبطه وصححه: خليل المنصور، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1418 هـ. 262 - الفصل في الملل والأهواء والنحل، تحقيق: محمد بن إبراهيم نصر وعبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، 1405 هـ. 263 - فضائح الباطنيَّة، للغزالي، تحقيق: عبد الرحمن بدوي، مؤسسة دار الكتب الثقافية بالكويت، بلا تاريخ. 264 - الفوائد البهية في تراجم الحنفية، لأبي الحسنات اللكنوي، عني بتصحيحه: محمد بدر الدين أبو فراس النعساني، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، بلا تاريخ. 265 - فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، لأبي حامد الغزالي، بتعليق: مصطفى القباني الدمشقي، ط 1، 1319 هـ، بمطبعة الترقي بمصر.
(3/1177)
266 - قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، لابن تيمية، تحقيق: ربيع بن هادي المدخلي، مكتبة لينا بدمنهور، ط 1، 1409 هـ. 267 - قاموس ــ ما يُسمَّى ــ الكتاب المقدَّس. 268 - القاموس المحيط، للفيروز آبادي، مؤسسة الرسالة، ط 3، 1413 هـ. 269 - القصَّاص والمذكِّرين، لابن الجوزي، تحقيق: محمد لطفي الصباغ، المكتب الإسلامي، 1409 هـ. 270 - قطف الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواتر، للسيوطي، تحقيق: خليل محيي الدين الميس، المكتب الإسلامي، ط 1، 1405 هـ. 271 - قواطع الأدلَّة، لأبي المظفر السمعانيّ، تحقيق: عبد الله حافظ الحكمي، ط 1، 1418 هـ، دون دار نشر. 272 - قوت القلوب، لأبي طالب المكي، تحقيق: عاصم إبراهيم الكيالي، دار الكتب العلمية، ط 2، 1426 هـ. 273 - الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف، لابن حجر العسقلاني، مطبوع مع الكشاف للزمخشري. 274 - الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، لابن قيم الجوزية، دار عالم الفوائد بمكة المكرمة، ط 1، 1428 هـ. 275 - الكامل، للمبرد، تحقيق: محمد أحمد الدالي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1406 هـ. 276 - الكامل في التاريخ، لابن الأثير، دار صادر، ودار بيروت، 1385 هـ. 277 - الكبائر، للذهبي، دار الفكر، بيروت، بلا تاريخ. 278 - الكشاف، لأبي القاسم الزمخشري، دار المعرفة، بيروت، بلا تاريخ.
(3/1178)
279 - كشف الأستار عن زوائد البزّار، للهيثمي، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1399 هـ. 280 - الكشف الإلهي عن شديد الضعف والموضوع والواهي، لمحمد بن محمد الحسيني الطرابلسي السندروسي، تحقيق: محمد محمود أحمد بكار، مكتبة الطالب الجامعي، مكة المكرمة، ودار العليان، بريدة، ط 1، 1408 هـ. 281 - كشف الخفاء ومزيل الإلباس، للعجلوني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 1351 هـ. 282 - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لحاجي خليفة، مصورة منشورات مكتبة المثنى ببغداد، بلا تاريخ. 283 - كنز العمَّال في سنن الأقوال والأفعال، لعلاء الدين المتقي الهندي، ضبط وتصحيح: بكري حياني ومصطفى السقا، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1409 هـ. 284 - الكنى والأسماء، للدولابي، حققه وقدم له: نظر محمد الفاريابي، دار ابن حزم، بيروت، ط 1، 1421 هـ. 285 - اللباب في تهذيب الأنساب، لابن الأثير الجزري، دار صادر، بيروت، ط 3، 1414 هـ، . 286 - لباب النقول في أسباب النزول، للسيوطي، دار إحياء العلوم، بيروت. 287 - لسان العرب، لابن منظور، دار صادر، بيروت. 288 - لسان الميزان، لابن حجر العسقلاني، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان. 289 - لغت نامه، لعلي أكبر دهخدا، مؤسسة لغت نامة، طهران، 1377 هجري شمسي. 290 - المؤتلف والمختلف في أسماء الشعراء، للآمدي، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج، دار إحياء الكتب العربيّة، عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1381 هـ.
(3/1179)
291 - ما جاء في البدع، لابن وضاح القرطبي، حققه وخرج أحاديثه: بدر بن عبد الله البدر، دار الصميعي، الرياض، ط 1، 1416 هـ. 292 - متشابه القرآن للقاضي لعبد الجبار الهمذاني المعتزلي، ضبط ومراجعة: أحمد عبد الرحيم السايح وتوفيق علي وهبة، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط 1، 1430 هـ. 293 - المتمنِّين، لابن أبي الدنيا، تحقيق: محمد خير رمضان يوسف، دار ابن حزم، بيروت، ط 1، 1418 هـ. 294 - مجابو الدعوة، لابن أبي الدنيا، تحقيق وتعليق: مجدي السيد إبراهيم، مكتبة القرآن للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، بلا تاريخ. 295 - مجاز القرآن. لأبي عبيدة، عارضه بأصوله وعلّق عليه: محمد فؤاد سزكين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1401 هـ. 296 - مجالس ثعلب، شرح وتحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار المعارف بمصر، النشرة الثانية، 1960 م. 297 - المجالسة وجواهر العلم، للدينوري، تحقيق: مشهور حسن سلمان، جمعية التربية الإسلامية، البحرين، ط 1، 1419 هـ. 298 - مجلَّة العرب، الجزء الثالث، السنة الأولى، رمضان 1386 هـ. 299 - مجمع الأمثال، للميداني، دار المعرفة، بيروت، دون معلومات طباعة. 300 - مجمع الزوائد للهيثمي، تحقيق: عبد الله الدّرويش، دار الفكر، دمشق، 1413 هـ. 301 - مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، توزيع دار الإفتاء بالرياض. 302 - محاضرات في النصرانية، لمحمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، بلا تاريخ.
(3/1180)
303 - المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات، لابن جني، تحقيق: علي النجدي ناصف والدكتور عبد الفتاح شلبي، دار سزكين للطباعة والنشر، ط 2، 1406 هـ. 304 - المحتضرين، لابن أبي الدنيا، تحقيق: محمد خير رمضان يوسف، دار ابن حزم، بيروت، ط 1، 1417 هـ. 305 - المحرر في الفقه، للمجد ابن تيمية، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت. 306 - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية الأندلسي، تحقيق: الرحالة الفاروق وآخرين، مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، دولة قطر، ط 2، 1428 هـ. 307 - المحصول، للرازي، تحقيق: طه جابر العلواني، مؤسسة الرسالة، ط 3، 1418 هـ. 308 - المحلى، لابن حزم، دار الآفاق الجديدة، بيروت، بلا تاريخ. 309 - مختصر زوائد مسند البزَّار، لابن حجر العسقلاني، تحقيق وتقديم: صبري بن عبد الخالق أبو ذر، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط 3، 1414 هـ. 310 - مختصر في شواذ القرآن وكتاب البديع، لابن خالويه، عُني بنشره: ج. برجشتراسر، المطبعة الرحمانية بمصر، 1934 م. 311 - المخصَّص لابن سيده، دار إحياء التراث العربي، بيروت، مصورة عن طبعة بولاق. 312 - المدخل إلى تنمية الأعمال لابن الحاج، المكتبة العصرية، صيدا-بيروت. 313 - المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقيِّ، تحقيق: محمد ضياء الرحمن الأعظمي، أضواء السلف، ط 2، 1420 هـ. 314 - مذكرات للمعلمي، مخطوط في مكتبة الحرم المكي برقم (4721).
(3/1181)
315 - المستدرك على الصحيحين في الحديث، للحاكم النيسابوري. وفي ذيله: تلخيص المستدرك للذهبي، توزيع دار الباز للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، مصورة عن طبعة مطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر أباد، الهند. 316 - المستصفى من علم الأصول، لأبي حامد الغزالي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، بلا تاريخ. 317 - المستطرف من كل فن مستظرف، للأبشيهي، المطبعة المصرية ببولاق، ط 3، 1285 هـ. 318 - المسند، لأحمد بن حنبل، المكتب الإسلامي، مصورة عن الطبعة الميمنية. 319 - مسند البزار (البحر الزخار)، تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، 1424 هـ. 320 - مسند ابن الجعد، تحقيق: عبد المهدي بن عبد القادر بن عبد الهادي، مكتبة الفلاح، الكويت، ط 1، 1405 هـ. 321 - مسند الدارمي، تحقيق: حسين سليم الداراني، دار المغني، الرياض، ط 1، 1421 هـ. 322 - مسند أبي داود الطيالسي، تحقيق: محمد التركي، هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، مصر، ط 1، 1419 هـ. 323 - مسند أبي يعلى الموصلي، تحقيق: حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، دمشق، ط 1، 1404 - 1409 هـ. 324 - مشارق الأنوار على صحاح الأثار، للقاضي عياض، المكتبة العتيقة، تونس، ودار التراث، القاهرة، 1333 هـ. 325 - مشكاة المصابيح، للخطيب التبريزي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1399 هـ.
(3/1182)
326 - مشكل الآثار للطحاوي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1427 هـ. 327 - مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه، للبوصيري، دراسة وتقديم: كمال يوسف الحوت، دار الجنان، ط 1، 1406 هـ. 328 - المصباح المنير، للفيومي، تحقيق: عبد العظيم الشناوي، دار المعارف، القاهرة، ط 2. 329 - مصنَّف ابن أبي شيبة، تحقيق: محمد عوامة، شركة دار القبلة، جدة، مؤسسة علوم القرآن، دمشق وبيروت، ط 1، 1427 هـ. 330 - المصنف، لعبد الرزاق الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي. 331 - المصنوع في معرفة الحديث الموضوع، لعلي القاري، حققه: عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب. 332 - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 333 - المطول على التلخيص للسعد التفتازاني، المكتبة الأزهرية للتراث، مصورة عن الطبعة التركية، 1330 هـ. وطبعة أخرى. بتحقيق: عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1428 هـ. وطبعة ثالثة بتحقيق: فرج الله زكي الكردي. 334 - معارج الألباب في مناهج الحق والصواب، لحسين بن مهدي النعمي، دار الأرقم للنشر والتوزيع، ط 1، 1408 هـ. 335 - معالم التنزيل، للبغوي، حققه: محمد بن عبد الله النمر وزميلاه، دار طيبة، الرياض، ط 2، 1414 هـ.
(3/1183)
336 - معاني القرآن وإعرابه، لأبي إسحاق الزجاج، تحقيق: عبد الجليل عبده شلبي، عالم الكتب، بيروت، ط 1، 1408 هـ. 337 - المعتبر في الحكمة الإلهية، لأبي البركات هبة الله بن علي بن ملكا البغدادي، دائرة المعارف العثمانية بحيدراباد الدكن بالهند، ط 1، 1358 هـ. 338 - معجم الأدباء، لياقوت، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأخيرة. 339 - المعجم الأوسط، للطبراني، تحقيق: قسم التحقيق بدار الحرمين، طارق بن عوض الله وعبد المحسن الحسيني، دار الحرمين، القاهرة، 1415 هـ. 340 - معجم الدخيل، للدكتور: ف. عبد الرحيم، دار القلم، دمشق، ط 1، 1432 هـ. 341 - معجم الصحابة لأبي القاسم البغوي، تحقيق: محمد عوض المنقوش وإبراهيم إسماعيل القاضي، مبرَّة الآل والأصحاب، دولة الكويت، ط 1، 1432 هـ. 342 - المعجم الصغير، للطبراني. ويليه: غنية الألمعي، لأبي الطيب شمس الحق العظيم أبادي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403 هـ. 343 - المعجم العبري الإنكليزي للعهد القديم, د. وليم غزينيوس, أكسفورد، 1976 م. 344 - المعجم الفلسفي، لجميل صليبا، الشركة العالمية للكتاب، دار الكتاب العالمي، 1414 هـ. 345 - المعجم الكبير، للطبراني، حققه وخرج أحاديثه: حمدي عبد المجيد السلفي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1422 هـ. 346 - معجم المؤلفين، لعمر كحالة، دار إحياء التراث العربي، بلا تاريخ. 347 - معجم المفسرين، لعادل نويهض، مؤسسة نويهض الثقافية، ط 3، 1409 هـ. 348 - المعجم الوسيط، لإبراهيم أنيس وآخرين، دار الدعوة، تركيا، ط 2. 349 - معجم ما استعجم، للبكري، تحقيق: مصطفى السقا، عالم الكتب، بيروت، ط 3، 1403 هـ.
(3/1184)
350 - معرفة السنن والآثار، للبيهقي، تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي، جامعة الدراسات الإسلاميّة، باكستان، ودور أخرى، ط: 1، 1412 هـ. 351 - معرفة الصحابة، لأبي نعيم الأصبهاني، تحقيق: عادل العزازي، دار الوطن، الرياض، ط 1، 1419 هـ. 352 - معرفة علوم الحديث، للحاكم، شرح وتحقيق: أحمد بن فارس السلوم، دار ابن حزم، بيروت، ط 1، 1424 هـ. 353 - المعرفة والتاريخ، ليعقوب بن سفيان الفسوي، تحقيق: أكرم ضياء العمري، مكتبة الدار بالمدينة المنورة، ط 1، 1410 هـ. 354 - المعلم بفوائد مسلم لأبي عبد الله المازري، تحقيق محمد الشاذلي النيفر، الدار التونسية للنشر، تونس، ط 2، 1988 م. 355 - مغني اللبيب، لابن هشام، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار إحياء التراث العربي، بلا تاريخ. وطبعة أخرى بتحقيق: عبد اللطيف محمد الخطيب، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ط 1، 1421 هـ. 356 - مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، للخطيب الشربيني، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، 1377 هـ. 357 - مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم، لطاش كبري زاده، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1405 هـ. 358 - المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصبهاني، تحقيق: صفوان داوودي، دار القلم، دمشق، ط 1، 1412 هـ. 359 - المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي، ساعدت جامعة بغداد على نشره، ط 2، 1413 هـ.
(3/1185)
360 - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، لأبي العباس القرطبي، تحقيق محيي الدين ديب مستو وآخرين، دار ابن كثير ودار الكلم الطيب، دمشق وبيروت، ط 1، 1417 هـ. 361 - المقاصد الحسنة، للسخاوي، تصحيح وتعليق: عبد الله محمد الصديق، دار الكتب العلمية، ط 1، 1399 هـ. 362 - مقاييس اللغة، لابن فارس، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1411 هـ. 363 - مقدِّمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح، تحقيق: عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، دار المعارف، القاهرة، بلا تاريخ. 364 - مقدِّمة في أصول التفسير، لابن تيمية، تحقيق: عدنان زرزور، ط 2، 1392 هـ. 365 - الملل والنحل، للشهرستاني، المطبعة الأدبية بمصر، ط 1، 1317 هـ، وطبعة أخرى بتحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، 1402 هـ. 366 - مناقب الشافعي، للبيهقي، تحقيق: السيد أحمد صقر، مكتبة دار التراث، القاهرة، بلا تاريخ. 367 - المنامات، لابن أبي الدنيا، تحقيق: مجدي السيد إبراهيم، مكتبة القرآن للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، بلا تاريخ. 368 - المنتخب من كتاب الزهد والرقائق، للخطيب البغداديِّ، تحقيق وتعليق: عامر حسن صبري، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط 1، 1420 هـ. 369 - منتقى الينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع، للسيوطي، بهامش روضة الطالبين، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت. 370 - المنتقى لابن الجارود = غوث المكدود.
(3/1186)
371 - منتهى الطلب من أشعار العرب، جمع: محمد بن المبارك بن محمد بن ميمون، تحقيق وشرح: محمد نبيل طريفي، دار صادر، بيروت، ط 1، 1999 م. 372 - منح الجليل على مختصر خليل، لمحمد عليش، مكتبة النجاح، طرابلس، ليبيا، مصورة عن طبعة المطبعة العامرة، 1294 هـ. 373 - منهاج السنة لابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بالرياض، ط 1، 1406 هـ. 374 - المنهاج في شعب الإيمان، للحليمي، تحقيق: حلمي محمد فودة، دار الفكر، ط 1، 1399 هـ. 375 - الموافقات في أصول الشريعة، للشاطبي، شرح: عبد الله دراز، ضبط وترقيم: محمد عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت، بلا تاريخ. 376 - الموسوعة البريطانية, النسخة الإلكترونية. 377 - الموسوعة الفلسفية العربية، نشر معهد الإنماء العربي، رئيس التحرير: د. معن زيادة، ط 1، 1986 م. 378 - الموضوعات، لابن الجوزي، تحقيق: نور الدين بن شكري بن علي بوياجيلار، أضواء السلف، الرياض، ط 1، 1418 هـ. 379 - الموطأ، للإمام مالك، تحقيق: بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1416 هـ. 380 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، بلا تاريخ. 381 - الناسخ والمنسوخ، للنحَّاس، تحقيق: سليمان بن إبراهيم اللاحم، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1412 هـ. 382 - نخب الفوائد، لعبد الرحمن بن يحيى المعلمي، صفحة ملحقة برسالة البسملة والفاتحة.
(3/1187)
383 - النشر في القراءات العشر، لابن الجزري، أشرف على تصحيحه: علي محمد الضباع، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. 384 - نظم الدرر، للبقاعيِّ، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، ط 2، 1413 هـ، مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية بالهند. 385 - النكت على كتاب ابن الصلاح، لابن حجر العسقلاني، تحقيق: ربيع بن هادي المدخلي، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط 1، 1404 هـ. 386 - نهاية السول شرح منهاج الأصول، للإسنوي. ومعه: حواشي سلم الوصول، لمحمد بخيت المطيعي، عالم الكتب، بيروت، بلا تاريخ. 387 - النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير الجزري، تحقيق: محمود محمد الطناحي، وطاهر أحمد الزاوي، نشر المكتبة العلمية، بيروت. 388 - النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات، لابن أبي زيد القيرواني، تحقيق: محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1405 هـ. 389 - الهداية شرح البداية، للمرغيناني، مطبوع بهامش فتح القدير لابن الهمام، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، ط 1، 1389 هـ. 390 - هدى الساري مقدمة فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، قام بإخراجه: محب الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت، مصورة عن الطبعة السلفية. 391 - الوافي بالوفيات، لصلاح الدين لصفدي، تحقيق: هلموت ريتر وآخرين، فرانز شتايز، شتو تغارت، 1411 هـ. 392 - الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، للواحدي، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، دار القلم، دمشق. 393 - الوساطة بين المتنبِّي وخصومه، لأبي الحسن الجرجاني، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، طبع بمطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة، بلا تاريخ.
(3/1188)