×
مطوية باللغة العربية؛ للدكتور عبد الملك القاسم - أثابه الله - اشتملت على صور وعبر من حياة الصحابي الجليل وأوّل الخلفاء الراشدين أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -.

الحمد لله الذي فضل من شاء من عباده، ورفع في الجنة منازل أحبابه، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:

فإن قراءة سيرة الصحابة والإقتداء بهم، نهجٌ غفل عنه البعض وطواه النسيان عند آخرين. ومعرفة سيرتهم وفضائلهم سببٌ لمحبتهم وتقرب إلى الله بذلك، وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: { المرء مع من أحب } [رواه مسلم]. ويتأكد الفضل والخير في الخلفاء الأربعة لسابقتهم في الإسلام وبلائهم وجهادهم، عن مسروق أنة قال: " حُبُّ أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة "، وقيل للحسن: حب أبي بكر وعمر من السنة؟ قال: " لا، بل فريضة ".

وقد ذكر ابن الجوزي: " أن السلف كانوا يُعلمون أولادهم حب أبي بكر وعمر كما يعلمونهم السور من القرآن ". وعلى هذا يتأكد بيان علم الصحابة ودينهم وفضائلهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وأما الخلفاء الراشدون والصحابة فكل خير فيه المسلمون إلى يوم القيامة من الإيمان، والإسلام، والقرآن، والعلم، والمعارف، والعبادات، ودخول الجنة، والنجاة من النار، وانتصارهم على الكفار، وعلو كلمة الله، فإنما هو ببركة ما فعله الصحابة الذين بلّغوا الدين وجاهدوا في سبيل الله. وكل مؤمن آمن بالله، فللصحابة رضي الله عنهم الفضل إلى يوم القيامة، وخير الصحابة تبع لخير الخلفاء الراشدين، فهم كانوا أقوم بكل خير في الدنيا والدين من سائر الصحابة، كانوا والله أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبية وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ".

وقد أثنى الله عليهم ورسوله ورضي عنهم وأعد لهم الحسنى في آيات كثيرة كقوله تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ [التوبة:100] وقوله تعالى: ﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الفتح:29].

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: { خير القرون: القرن الذي جئت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم } [رواه مسلم]. ومن أفضل الصحابة وأجلهم وأكثرهم نفعاً للأمة، الخلفاء الراشدون: أبوبكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي اللّه عنهم أجمعين.

وسنتحدث بإيجاز سريع عن الخليفة الأول: أبو بكر الصديق رضي الله عنه

هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن كعب، ويجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرة بن كعب، وكنيته أبو بكر، وعثمان هو اسم أبي قحافة، ولد أبو بكر بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر. وكان تاجراً جمع الأموال العظيمة التي نفع بها الإسلام حين أنفقها، وهو أول من أسلم من الرجال. وقد وصفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالصديق، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: صعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُحداً ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال: { اثبت أحداً، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان } [رواه مسلم].

وأبو بكر - رضي الله عنه - أول من دعا إلى الله من الصحابة فأسلم على يديه أكابر الصحابة، ومنهم: عثمان بن عفان، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة، رضي الله عنهم أجمعين.

وقد قال عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم -: { إن من أمنِّ الناس عليَّ في صحبته وذات يده أبو بكر } [رواه الترمذي]. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي في مال أبي بكر كما يقضي في مال نفسه. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر } [رواه أحمد]. فبكى أبو بكر وقال: " وهل أنا ومالي إلا لك يارسول الله ". وإنفاق أبي بكر هذا كان لإقامة الدين والقيام بالدعوة فقد أعتق بلالاً وعامر بن فهيرة وغيرهما كثير.

وفي الترمذي وسنن أبي داود عن عمر - رضي الله عنه - قال: " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتصدق، فوافق ذلك في مالاً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: { ما أبقيت لأهلك؟ } فقلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: { يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك؟ } قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقه إلى شيء أبداً ".

وكانت أحب نساء الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليه عائشة ابنة الصديق رضي الله عنهما.

ولأبي بكر ذروة سنام الصحبة، وأعلاها مرتبة، فإنه صحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حين بعثه الله إلى أن مات، فقد صحبه في أشد أوقات الصحبة، ولم يسبقه أحد فيها، فقد هاجر معه واختبأ معه في الغار قال الله تعالى: ﴿ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا [التوبة:40]، والصديق - رضي الله عنه - أتقى الأمة بدلالة الكتاب والسنة، قال تعالى: ﴿ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى [الليل:17-20].

وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أنها نزلت في أبي بكر.

ولأبي بكر من الفضائل والخصائص التي ميّزه الله بها عن غيره كثير، منها: أنه أزهد الصحابة، وأشجع الناس بعد رسول الله - صلى عليه وسلم -، وأنه أحب الخلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يَسُؤهُ قط، وهو أفضل الأمة بعد النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وهو أول من يدخل الجنة، كما روى أبو داود في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر: { أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي } [رواه الحاكم]. وهو أحق الناس بالخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. وتأمل في خصال اجتمعت فيه في يوم واحد: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: { من أصبح منكم اليوم صائماً؟ فقال: أبوبكر: أنا، قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ فقال أبوبكر: أنا، قال: هل فيكم من عاد مريضاً؟ قال أبوبكر: أنا، قال: هل فيكم من تصدق بصدقة؟ فقال أبوبكر: أنا، قال: ما اجتمعن في امرىءٍ إلا دخل الجنة } [رواه مسلم].

وكما كتب الله لأبي بكر - رضي الله عنه - أن يكون مع الرسول ثاني اثنين في الإسلام، فقد كتب له أن يكون ثاني اثنين في غار ثور، وأن يكون ثاني اثنين في العريش الذي نُصب للرسول - صلى الله عليه وسلم - في يوم بدر.

ولعلم الصحابة بمكانه وقربه من الرسول وفضله وسابقة إسلامه، فقد بايعوه بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالخلافة، وقد كان أمر وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذا حزن وفزع وصدمة عنيفة، وقف لها أبوبكر ليعلن للناس في إيمان عميق قائلاً: " أيها الناس، من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت "، ثم تلا على الناس قول الله - عز وجل - لرسوله ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ [الزمر:30].

وتمت البيعة بإجماع من المهاجرين والأنصار. وقد كانت سياسته العامة والخاصة خيرٌ للإسلام والمسلمين و الناس كافة، أوجزها في كلمة قالها خطيباً في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أخذ البيعة قال: " أيها الناس، إني قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قويٌ عندي حتى آخذ الحق له إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيفٌ عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل اللّه إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيتُ الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم ".

وهي خطبة شاملة جامعة أتبعها بالعمل لخدمة هذا الدين ونشره، فأنفذ جيش أسامة بن زيد، وبلغ من تكريم أبي بكر لهذا الجيش الذي جهزه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن سار في توديعه ماشياً على قدميه، وأسامة راكب، وقد أوصى الجيش بوصية عظيمة فيها تعاليم الإسلام ومبادئه السمحة.

ثم قام أبو بكر بعمل عظيم لا ينهض له إلا الرجال الموفقون، فقد وقف للردة التي وقعت بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - موقفاً لا هوادة فيه ولا ليونة، وقال كلمته المشهورة: " والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها ". ولما يسر الله عز وجل القضاء على المرتدين انطلقت عينا أبي بكر خارج الجزيرة العربية؛ رغبة في نشر هذا الدين وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، فوجَّه الجيوش إلى الجهاد في أرض فارس والروم، وجعل على قائد جبهة الفرس خالد بن الوليد رضي الله عنه، وعلى قائد جبهة الروم أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه. وكانت أولى المواقع العظيمة موقعة اليرموك التي فتح الله فيها للمسلمين أرض الروم وما وراءها.

ومن أجلِّ أعمال أبي بكر - رضي الله عنه - جمع القرآن الكريم، وقد عهد بذلك إلى زيد بن ثابت - رضي الله عنه -، فقام بالأمر حتى كتب المصحف في صحف جُمعت كلها ووضعت عند أبي بكر، حتى انتقلت من بعده إلى عمر، ثم إلى عثمان رضي الله عنهم أجمعين.

مرض أبو بكر - رضي الله عنه - وتوفي في جمادى الآخر سنة 13هـ ودفن بجوار الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكانت مدة خلافته سنتين وثلاثة أشهر، وعهد للخلافة من بعده إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.

اللهم ارض عن أبي بكر، واجزه الجزاء الأوفى؛ جزاء ما قدم للإسلام والمسلمين.