×
معالم في دعوة غير المسلمين : كتيب لفضيلة الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن معلا اللويحق - أثابه الله -، يبين فيه أن منهج دعوة غير المسلمين إلى الإسلام في حاجة إلى تأصيل وبيان؛ ليتمكن الدعاة إلى الله من معرفة المنهج الدعوي الرشيد، وفي هذا الكتيب معالم في الخطاب الدعوي الموجه لغير المسلمين، حيث أشار فيه المؤلف - أثابه الله - إلى جملة خصائص ومقومات يجب مراعاتها في حال الداعي وكيفية الدعوة لضمان تفعيل المنهج العملي في الدعوة لما له من تأثير قوي وفعال في هداية غير المسلمين إلى دين الفطرة.

 معالم في دعوة غير المسلمين

الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معلا اللويحق


بسم الله الرحمن الرحيم

[ معالم في دعوة غير المسلمين ]

جاء الإسلام ليكون الرسالة الخاتمة للرسالات، والدعوة العامة للبشر كلهم على اختلاف أديانهم، ومللهم، وأصولهم، وأعراقهم يقول الله عز وجل:( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً ) [ الأعراف: 158].

فمحمد رسول ٌ للناس جميعاً، وعلى ذلك جرت سنته، ففي الحديث عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن نبي الله- صلى الله عليه وسلم – كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي، وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى وليس النجاشي الذي صلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -(1).

وفي الحديث عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال (( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ))(2).

قال شيخ الإسلام - رحمه الله-: (.... من دعوة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ومن دعوة المشركين، وعباد الأوثان وجميع الإنس والجن، ما لا يحصى إلا بكلفة وهذا كله معلوم بالإضرار من دين الإسلام ).(3)

وإذا كانت هذه الرسالة عامة، فإنها امتداد للرسالات السابقة.

إن الإسلام امتداد للرسالات السابقة، فالقرآن مصدق لما بين يديه من الكتب، والإيمان بالرسل يجب أن يكون بهم جميعاً ( قل ماكنت بدعاً من الرسل ) [ النحل: 120] ، ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً ) [الشورى: 13].

( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله و لا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ) [ المائدة: 48].

قال ابن كثير – رحمه الله -: ( جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها أشملها وأعظمها وأكملها، حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهداً وأميناً وحاكماً عليها كلها )(1).

ولئن كانت تلك رسالة الإسلام فإن حملة هذه الرسالة هم أهل الإسلام بعامة الذين جعلهم الله خير أمة أخرجت للناس ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) [آل عمران:110] والبشر محتاجون إلى الهداية لتحقيق السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة.

قال ابن القيم – رحمه الله -: ( حاجة الناس إلى الشريعة ضرورية فوق حاجتهم إلى كل شيء، ولا نسبة إلى علم الطب إليها ألا ترى أن أكثر العالم يعيشون بغير طبيب ولا يكون طبيب إليها إلا في بعض المدن الجامعة، وقد فطر الله بني آدم على تناول ما ينفعهم واجتناب ما يضرهم وجعل لكل عادة وعرفاً في استخراج ما يهجم عليهم من الأدواء حتى أن كثيراً من أصول الطب إنما أخذت من عوائد الناس وعرفهم وتجاربهم وأما الشريعة فمبناها على تعريف مواقع رضى الله وسخطه، وحركات العباد الاختيارية، فمبناها على الوحي المحض )(2).

وفي السياق الزمني المعاصر فإن العالم أحوج ما يكون إلى الهداية؛ إذ غلبت مظاهر مفزعة من الجفاف الروحي، والنزعات المادية، والمظاهر العملية والأخلاقية المنحرفة.

ولكن منهج دعوة غير المسلمين إلى الإسلام في حاجة إلى تأصيل وبيان؛ ليتمكن الدعاة إلى الله - خاصة في أوساط الجاليات – من معرفة المنهج الدعوي الرشيد، وهذه معالم في الخطاب الدعوي الموجه لغير المسلمين، لم أرد بها الحصر بل التنويه والتذكير.

 1- الوضوح والمباشرة:

إن الاكتفاء بعرض المحاسن أو إثبات الدلائل دون وضوح في الدعوة للدخول في هذا الدين تضييع للرسالة الحقيقة وانصراف إلى الوسائل دون وقف على المراد، فالمنهج العملي ليس هو الأصل في الدعوة إلى الإسلام لكنه مصاحب وهو حال لازمة في التعامل مع الكافر وغيره.

فهذا عدي بن حاتم – رضي الله عنه – يحدث عن إسلامه فيقول: ( أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: ((يا عدي بن حاتم أسلم تسلم )) قلت: وما الإسلام؟ فقال: (( تشهد أن لا إله إلا الله وإني رسول الله، وتؤمن بالأقدار كلها، خيرها وشرها، حلوها ومرها ))(1).

وكتب النبي - صلى الله عليه وسلم- ورسائله لملوك الأرض لدليل على ما قدمنا ففي كتابه للنجاشي: ( بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة، أسلم أنت فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه الله من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده.

وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني، فإني رسول الله، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتي والسلام على من اتبع الهدى )(1).

ومن عجب أن يحسن أقوام إحساناً مقترناً بالذل، ويظنون أنهم يمارسون لوناً من الدعوة ويزعمون أنهم يرغبون في الدين، وهم إنما نزعوا عن أصل الولاء والبراء، فأصبحوا غرضاً للكفار في مسخهم عن دينهم، لا أنهم صاروا دعاة إلى الإسلام.

لقد ذل أقوام في التعامل مع الكفار، وأظهروا المودة لهم مع زعمهم أنهم يدعونهم إلى الإسلام وهم لم يفتحوا فماً بالدعوة، ولم يتلفظوا بأي شيء يدل على مقصدهم لها.

إن ترك الوضوح والمباشرة دلالة من دلالات الضعف والإحساس بالدونية، فهو لا يباشر إلى الدعوة، وإنما يعرض بها بينما العزة وقوة التبيين بالحق مقتضية للوضوح والمباشرة، وليس فيهما ما قد يتوهم من تنفير أو نحوه.

إن وضوح الدعوة ومباشراتها قاطع في الدلالة على ما يراد من المدعو، وليست القضية مجرد تعريف بما نحن فيه من دين، وإنما هي دعاءٌ إليه.

 2-معرفة الأولويات:

أ- التوحيد: إن دين الأنبياء جميعاً واحد مهما تعددت الشرائع ( إن الدين عند الله الإسلام ) [آل عمران:19] وهو دين واحد في جوهره ومقصده، وإن تعددت الشرائع؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: (( الأنبياء أخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد ))(2).

قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -: ( معنى الحديث أن أصل دينهم وهو التوحيد، وإن اختلفت فروع الشرائع )(1).

إنه من خلال إيقاظ الفطرة وتذكيرها ولفت انتباهها لمظاهر ملكوت الله في السماوات والأرض، والتساؤل معها عن الخلق والتدبير والملك، كل ذلك يدفعها إلى الاعتراف بربوبية الخالق ابتداءً الذي هو الأرضية المشتركة بين البشر الذين فطروا عليها ( فأقم وجهك لدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) [ الروم: 30].

إن الدعوة تكون من خلال العناصر المشتركة المتفق عليها؛ ليبنى عليها فيما بعد؛ لذا نجد أن القرآن الكريم في دعوته لعقيدة التوحيد لم يتحدث عن إثبات وجود الخالق؛ لأن هذه المعرفة أمر جبلي فطري لدى جميع الخلق، فنجده قد خاطبهم بما هو متقرر عندهم ( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ) [ الإسراء: 67]، ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون ) [ العنكبوت: 61 ].

ووجود بعض من ينكر وجود الخالق الذين حكى الله قولهم: (ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيى وما يهلكنا إلا الدهر ومالهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون ) [ الجاثية: 24].

هؤلاء ما إنكارهم إلا من قبيل المكابرة والعناد ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً ) [ النمل: 14].

إن العمل من خلال هذه الأرضية المشتركة وتفعيلها عند الدعوة لدفع المدعو نحو الإقرار بوجود الخالق وربوبيته، سيستلزم منه الخضوع لمقتضياته ونتائجه اللازمة المرتبطة به وهو توحيد الألوهية قال تعالى: ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) [ آل عمران: 64].

قال محمد رشيد رضا – رحمه الله -: ( هذه الآية أساس الدين وأصله الأصيل؛ ولذلك كان يدعو بها أهل الكتاب إلى الإسلام كما ثبت، إلى هرقل والمقوقس )(1).

ب – معالجة المشكلات التي تلي التوحيد في الأهمية والخطورة: فمجتمع نبي الله لوط – عليه الصلاة والسلام – كان يعاني من آفة خُلقية خطيرة اشتهر بها، بل لعله انفرد بها ألا وهي إتيان الرجال شهوة دون النساء.

  قال تعالى: ( ولوطاً إذا قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها نم أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون ) [ الأعراف: 80-81 ].

فكانت جل دعوة لوط – عليه الصلاة والسلام – علاج هذه المشكلة والتركيز على خطورتها والدعوة إلى هجرها واستئصالها؛ لأنه لا قيمة لإيمان قومه مع إصرارهم على هذا المنكر، خاصة وأنها ليست خاصة فردية، بل هي متفشية عامة في المجتمع الذين وصل بهم الاستغراب ممن لا يمارسها ( أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ) [ النمل:56 ].

 3-  الدعوة إلى النظر في الكون:

 كثيرة الآيات القرآنية الحاثة على النظر في هذا الكون الفسيح لما تحمله من معالم دالة على ألوهية الخالق – عز وجل- قال تعالى: ( قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) [ الأعراف: 185 ].

قال ابن القيم –رحمه الله-: (.... العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه، وهو غافل عنها معرض عن التفكير فيها، ولو فكر في نفسه لزجره ما يعلم عن عجائب خلقها عن كفره )(1).

قال تعالى: ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) [الذاريات:21].

 4- الصد عن التقليد:

في القرآن الكريم محل واسع لذكر ( معركة الأتباع والمتبوعين ) أو ( الشركاء والمشركين ) لتتبين العاقبة للناس فلا يعلقوا مصائرهم في الآخرة بما يأمرهم به الشركاء أو المتبوعين.

( إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتِّبعوا ورأو العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتَّبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم يوم القيامة وما هم بخارجين من النار ) [ البقرة:166-167] ، وقال: ( وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من العذاب قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد، وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب قالوا أولم تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافربين إلا في ضلال ) [ غافر: 47-50].

 5- التذكير بالنعم:

إن التذكير بنعم الخالق على خلقه ظاهر في الخطاب قرآني قال تعالى: ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وإياي فاتقون ) [ البقرة: 40- 41] ، وقال: ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا هم ينصرون وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نسائكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ) [ البقرة: 47-50].

قال الفخر الرازي – رحمه الله -: ( واعلم أن سبحانه ذكّرهم تلك النعم على سبيل الإجمال فقال: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي.. ) وفرَّع على ذلك تذكيرهم الأمر بالإيمان بمحمد – صلى الله عليه وسلم – فقال: ( وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ) ثم عقبها بذكر الأمور التي تمنعهم من الإيمان، ثم ذكرهم النعم على سبيل الإجمال ثانية بقوله مرة أخرى (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) تنبيهاً على شدة غفلتهم، ثم أردف هذا التذكير بالترهيب البالغ بقوله: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ) إلى آخر آية ثم شرع بعد ذلك في تعديد النعم على سبيل التفصيل.

 ومن تأمل وأنصف علم أن هذا هو النهاية في حسن الترتيب لمن يريد الدعوة وتحصيل الإعتقاد في قلب المستمع )(1).

وهو أسلوب للرسل- عليهم الصلاة والسلام- في مخاطبت أقوامهم كما في قصة هود – عليه الصلاة والسلام – مع قومه ( أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون ) [ الأعراف:69].

وقول صالح – عليه الصلاة والسلام – لقومه: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصوراً وتنحتون الجبال بيوتاً فاذكروا آلاء الله عليكم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) [ الأعراف:74 ].

وإبراهيم – عليه الصلاة والسلام – عرف قومه بالله تعالى من خلال ذكره لنعمه عليه فقال: ( الذي خلقني فهو يهدين والذي يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ) [ الشعراء: 78-82].

 6- الإنذار أسلوب قرآني:

يظهر لمن قرأ قصص الأنبياء في القرآن أن بُعد ( الإنذار ) ظاهر في دعوات الرسل، فما من رسول إلا ويدعو قومه إلى عبادة الله- عز وجل- ثم يقول: ( إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ) [ الأعراف:59].

قد يكون الإنذار محدداً لقوم معينين وبعقوبة محددة، وذلك في القرآن الكريم، ولا يعني ذلك أن المرء يحدد للقوم لوناً من العذاب.

قال تعالى: ( يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولاً) [ النساء: 47].

 روى الطبري – رحمه الله- أن كعب الأحبار سمع رجلاً يقرأ هذه الآية فقال كعب: يا رب! أسلمت مخافة أن تصيبه.(1)

وفي رواية قال كعب: فبادرت إلى الماء فاغتسلت وإني لأمس وجهي مخافة أن أطمس، ثم أسلمت.(2)

ومع هذا الإنذار جاء ذكر التبشير للمؤمنين، فالرسل وصفوا بالوصفين: ( رسلاً مبشرين ومنذرين ) [ النساء: 165].

على أن البشارة تنزل على أهلها والنذارة تنزل على أهلها: ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذاباً أليماً ) [ الإسراء: 9-10]. ( يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم والذين كفروا وكذبوا بآيتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير ) [ التغابن: 9-10].

ففي دعوة الكافرين تظهر النذارة واضحة، وفي ترغيب المؤمنين في الأعمال الصالحة تظهر البشارة.

ومن الترغيب ترغيب المشركين والكفار إذا آمنوا قال تعالى: ( ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ) [ المائدة: 65].

 7- تقرير الحقائق:

سلك القرآن الكريم ونهج في دعوته إلى تقرير الحقائق الإيمانية؛ لترسيخ الإيمان في النفس فلا تتزعزع عند عرض الشبهات والتعرض للشهوات.

وقد سلك في ذلك عدة طرق منها:

أ- ضرب الأمثال: وهذا ظاهر في كثير من واضع القرآن الكريم؛ لما للمثل من أهمية وخطورة في تقرير الشيء المراد في ذهن المدعو.

يقول ابن القيم – رحمه الله-: ( وفي الأمثال من تأنيس النفس وسرعة قبولها وانقيادها لما ضرب لها مثله من الحق، أمر لا يجحده أحد، ولا ينكره، وكلما ظهرت لها الأمثال ازداد المعنى ظهوراً ووضوحاً، فالأمثال شواهد المعنى المراد )(1).

ومن ذلك قوله تعالى: ( مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ) [ العنكبوت: 41 ].

يقول ابن القيم – رحمه الله – عن هذه الآية: ( هذا من أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك وخسارة صاحبه، وحصوله على ضد مقصوده)(1).

ب – الأسئلة: السؤال أسلوب من أساليب تقرير الحقائق؛ إذ يأتي السؤال على أنماط متعددة:

منها: التذكير بالتوحيد وتقريره: ( قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون ) [ الأنعام: 19].

ومنها: التذكير بالربوبية: ( قل من رب السموات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار ) [ الرعد: 16].

ومنها: التذكير بالنعم: ( قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون ) [ الأنعام: 46].

إن هذه الأسئلة إغلاق لكل سبيل أمام الكفار، وملاحقة لهم لطرد كل الشبهات.

يقول جبير بن مطعم – رضي الله عنه – قبل أن يسلم: ( سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ سورة الطور في صلاة المغرب فلما بلغ قوله تعالى: ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون ) كاد قلبي أن يطير )(1).

 8- ذكر محاسن الإسلام:

إن ذكر محاسن الإسلام دون إنذار أو بلاغ بوجوب الدخول فيه يفضي إلى موازنة المدعو بين المصالح المترتبة على بقائه على دينه، والمفاسد الحاصلة – في نظره – جراء مفارقته لدينه، فقد يفضل البقاء على دينه مع تصديقه بالإسلام خوفاً على مصالحه الناتجة من بقائه على دينه.

ففي قصة وفد نصارى نجران: ( فلما أجابهما، قالا: نشهد أنك نبيّ، قال: (( فما يمنعكما من إتباعي؟ ))قالا: نخاف أن تقتلنا اليهود ، ولم يلزمهم بذلك الإسلام ).(2)

يقول ابن القيم –رحمه الله -: ( وأهل الكتابين مجمعون على أن نبياً يخرج في آخر الزمان، وهم ينتظرونه، ولا يشك علماؤهم في أنّه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وخضوعهم لهم، وما ينالونه من المال والجاه )(3).

كما يجب أن يصار عند ذكر المحاسن إلى ذكر المحاسن الكلية، وهي محاسن التوحيد في مقابل مساوىء الشرك ( يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ) [ يوسف: ] وأما الدخول في تفاصيل حسن الشرائع في مقابل شرائع الأديان أو أعراف المجتمعات الأخرى، فذلك دخول فيما انحرفت فيه الفطر حتى جعلت القبيح حسن.

 9- الجدال:

قد وردت نصوص تذم الجدل ونصوص تأمر به والصحيح أنه متى كان ممن يحسن ويعلم فلا حرج قال تعالى: ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) [ العنكبوت:46].

وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الآية منسوخة، والصحيح أنها محكمة في بابها.

قال القرطبي – رحمه الله -: ( قال مجاهد –رحمه الله -: هي محكمة فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن على معنى الدعاء لهم إلى الله – عز وجل – والتنبيه على حججه و آياته رجاء إجابتهم إلى طريق الإيمان لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة )(1).

وقال شيخ الإسلام – رحمه الله -: ( ما ذكره الله من مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم حكم لم ينسخه شيء، وكذلك ما ذكره الله تعالى من مجادلة الخلق مطلقاً بقوله ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) [النحل:125] فإن من الناس من يقول: آيات المجادلة والمحاجَّة للكفار منسوخة بآيات السيف؛ لاعتقاده أن الأمر بالقتال المشروع ينافي المجادلة المشروعة، وهذا غلط فأن النسخ إنما يكون إذا كان الحكم الناسخ مناقضاً للحكم المنسوخ كمناقضة الأمر باستقبال المسجد الحرام في الصلاة للأمر باستقبال بيت المقدس بالشام )(2).

والأمر بالمجادلة ( لا يناقضه الأمر بجهاد من أمر بجهاده منهم )(3).

 10- الابتعاد عن التكلف في العرض:

على الداعي الابتعاد عن العرض الفلسفي الكلامي الجدلي، وسلوك طريقة القرآن البينة البسيطة والتي من خلالها تم استقطاب جميع شرائح المجتمع، كيف لا والإسلام نفسه بأصوله الاعتقادية، وشعائره التعبدية، وأحكامه التشريعية واضحة بينة لجمهور المخاطبين عموماً.

وهي طريقة النبي – صلى الله عليه وسلم – عندما كان يمر على أندية المشركين وتجمعاتهم يدعوهم بقوله: (( قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ))(1).

مع بيانه لخلو طريقته ودعوته من التكلف والتصنع ( قل لا أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ) [ ص: 86 ].

على أن لا يكون ذلك على حساب البيان والتوضيح، قال تعالى: ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ) [ التوبة:6].

قال شيخ الإسلام –رحمه الله -: ( قد علم أن المراد أن يسمعه سمعاً يتمكن معه من فهم معناه؛ إذ المقصود لا يقوم بمجرد سمع لفظ لا يتمكن معه من فهم المعنى، فلو كان غير عربي لوجب أن يترجم له ما يقوم بع عليه الحجة، ولو كان عربياً وفي القرآن ألفاظ غريبة ليست من لغته وجب أن نبين له معناها، ولو سمع اللفظ كما يسمعه كثير من الناس ولم يفقه المعنى وطلب منا أن نفسره له، ونبين له معناه فعلينا ذلك، وإن سألنا عن سؤال يقدح في القرآن أجبناه عنه، كما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا أورد عليه بعض المشركين أو أهل الكتاب أو المسلمين سؤالاً يوردونه على القرآن فإنه كان يجيبهم عنه )(2).

* * * *

فهذه معالم في دعو غير المسلمين أردت بها التذكير؛ لتكون حاضرة في أذهان من شرَّفه الله – عز وجل – بالعناية بهذا الأمر العظيم، والله المسؤول أن يوفق الجميع لسداد القول والعمل.



(1) رواه مسلم: كتاب: الجهاد، باب: كتاب النبي- صلى الله عليه وسلم – إلى ملوك الكفار (12/112).

(2) رواه البخاري: كتاب: التيمم: (1/128)، ومسلم: كتاب: المساجد، (5/6).

(3) الجواب الصحيح: ( 1/112).

 (1) تفسير القرآن العظيم: (2/75).

 (2) مفتاح دار السعادة: (2/3).

 (1) رواه ابن ماجة: في المقدمة: (1/34).

 (1) زاد المعاد: (3/691).

 (2) رواه البخاري: كتاب: الأنبياء، باب: واذكر في الكتاب مربم:(3/1270).

 (1) فتح الباري: ( 6/489).

 (1) تفسير القرآن: (3/327).

 (1) مفتاح دار السعادة: (1/188).

 (1) التفسير الكبير: (3/29).

 (1) جامع البيان: (5/124).

 (2) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: (1/557).

 (1) إعلام الموقعين: (1/239).

 (1) المصدر نفسه: (1/155).

 (1) رواه البخاري: كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة الطور: (4/1839).

 (2) ابن القيم: زاد المعاد: (3/638).

 (3) المصدر نفسه: (3/639).

 (1) الجامع لأحكام القرآن: ( 13/350).

 ( 2) الجواب الصحيح: ( 1/66).

 ( 3 ) المصدر نفسه.

 (1) رواه أحمد: ( 3/492، 4/341 ).

 (2) الجواب الصحيح: (1/68).