مفهوم الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى في ضوء الكتاب والسنة
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
- مفهوم الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى في ضوء الكتاب والسنة
مفهوم الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى في ضوء الكتاب والسنة
تأليف الفقير إلى اللَّه تعالى
د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
المقدمـة
إن الحمد للَّه، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فهذه رسالة مختصرة في ((مفهوم الحكمة في الدعوة إلى اللَّه تعالى)) بينت فيها مفهوم الحكمة وضوابطها، وأنواعها، وأركانها، ودرجاتها، وطرق اكتسابها، وقد قسمت البحث إلى تمهيد وأربعة مباحث وتحت كل مبحث مطالب، على النحو الآتي:
التمهيد: أهمية الحكمة في الدعوة إلى اللَّه تعالى.
المبحث الأول: مفهوم الحكمة: لغةً وشرعاً.
المبحث الثاني: أنواع الحكمة.
المبحث الثالث: أركان الحكمة.
المبحث الرابع: طرق اكتساب الحكمة.
واللَّه تعالى أسأل أن يجعل هذا العمل اليسير مباركاً، نافعاً، خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه تعالى خير مسؤول، وأكرم مأمول وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى اللَّه وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا وإمامنا
محمد بن عبد اللَّه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المؤلف
حرر ضحى يوم الخميس 25/2/1425هـ
التمهيد: أهمية الحكمة في الدعوة إلى اللَّه تعالى:
1 - من الناس من يظن أو يعتقد أن الحكمة تقتصر على الكلام اللين، والرفق، والعفو، والحلم... فحسب. وهذا نقص وقصور ظاهر لمفهوم الحكمة؛ فإن الحكمة قد تكون:
• باستخدام الرفق واللين، والحلم والعفو، مع بيان الحق علماً وعملاً واعتقاداً بالأدلة، وهذه المرتبة تستخدم لجميع الأذكياء من البشر الذين يقبلون الحق ولا يعاندون.
• وتارة تكون الحكمة باستخدام الموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحق والترهيب من الباطل، وهذه المرتبة تستخدم مع القابل للحق المعترف به، ولكن عنده غفلة وشهوات وأهواء تصده عن اتباع الحق.
• وتارة تكون الحكمة باستخدام الجدال بالتي هي أحسن، بحُسنِ خلق، ولطف، ولين كلام، ودعوة إلى الحق، وتحسينه بالأدلة العقلية والنقلية، ورد الباطل بأقرب طريق وأنسب عبارة، وأن لا يكون القصد من ذلك مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو، بل لابدَّ أن يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق، وهذه المرتبة تستخدم لكل معاند جاحد.
• وتارة تكون الحكمة باستخدام القوة: بالكلام القوي، وبالضرب والتأديب وإقامة الحدود لمن كان له قوة وسلطة مشروعة، وبالجهاد في سبيل اللَّه تعالى بالسيف والسنان تحت لواء ولي أمر المسلمين مع مراعاة الضوابط والشروط التي دلَّ عليها الكتاب والسنة. وهذه المرتبة تستخدم لكل معاند جاحد ظلم وطغى، ولم يرجع للحق بل رده ووقف في طريقه( ).
وما أحسن ما قاله الشاعر:
دعا المصطفى دهراً بمكةَ لم يُجب
وقد لان منه جانبٌ وخطابُ
فلما دعا والسيفُ صلتٌ بِكفِّهِ
له أسلموا واستسلموا وأنابوا( )
وصدق هذا القائل، فقد قال قولاً صادقاً مطابقاً للحق( )؛ ولهذا قال النبي ×: ((إن من الشِّعرِ حكمة))( ).
2- الحكمة تجعل الداعي إلى اللَّه يُقَدِّر الأمور قدرها، فلا يزهد في الدنيا والناس بحاجة إلى النشاط والجد والعمل، ولا يدعو إلى التبتل والانقطاع والمسلمون في حاجة إلى الدفاع عن عقيدتهم وبلادهم، ولا يبدأ بتعليم الناس البيع والشراء، وهم في مسيس الحاجة إلى تعلم الوضوء والصلاة.
3- الحكمة تجعل الداعية إلى اللَّه يتأمل ويراعي أحوال المدعوين وظروفهم وأخلاقهم وطبائعهم، والوسائل التي يؤتون من قبلها، والقدر الذي يبين لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم، ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع والتشويق في هذه الطريقة حسب مقتضياتها، ويدعو إلى اللَّه بالعلم لا بالجهل، ويبدأ بالمهم فالذي يليه، ويُعلم العامة ما يحتاجونه بألفاظ وعبارات قريبة من أفهامهم ومستوياتهم، ويخاطبهم على قدر عقولهم، فالحكمة تجعل الداعية ينظر ببصيرة المؤمن، فيرى حاجة الناس فيعالجها بحسب ما يقتضيه الحال، وبذلك ينفذ إلى قلوب الناس من أوسع الأبواب، وتنشرح له صدورهم، ويرون فيه المنقذ الحريص على سعادتهم ورفاهيتهم وأمنهم واطمئنانهم، وهذا كله من الدعوة إلى اللَّه بالحكمة التي هي الطريق الوحيد للنجاح.
والمهم أن تكون أقوال الداعية إلى اللَّه – تعالى – وأفعاله وتدبيراته وأفكاره نابعة من الحكمة، موافقة للصواب، غير متقدمة على أوانها ولا متأخرة، لا زيادة فيها عما ينبغي ولا نقص، مجتهداً في معرفة نفعه وصلاحه، سالكاً أقرب طريق يوصل إلى ذلك.
المبحث الأول: مفهوم الحكمة: لغةً وشرعاً
المطلب الأول: مفهوم الحكمة في اللغة:
جاءت كلمة الحكمة في اللغة بعدة معان، منها:
1- تستعمل بمعنى: العدل، والعلم، والحلم، والنبوة، والقرآن، والإنجيل.
وأحكم الأمر: أتقنه فاستحكم، ومنعه عن الفساد( ).
2- والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويُقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم( ).
3- والحكيم: المتقن للأمور، يقال للرجل إذا كان حكيماً: قد أحكمته التجارب( ).
4- والحَكَمُ والحكيم هما بمعنى: الحاكم والقاضي، والحكيم فعيل بمعنى فاعل، أو هو الذي يُحكِمُ الأشياء ويتقنها، فهو فعيل بمعنى مفعل( ).
5- والحكمة: إصابة الحق بالعلم والعقل( ).
6- والحكيم: المانع من الفساد، ومنه سُمِّيت حَكَمة اللجام؛ لأنها تمنع الفرَس من الجري والذهاب في غير قصد، والسورة المحكمة، الممنوعة من التغيير وكل التبديل، وأن يلحق بها ما يخرج عنها، ويزداد عليها ما ليس منها.
والحكمة من هذا؛ لأنها تمنع صاحبها من الجهل، ويقال: أحكم الشيء، إذا أتقنه، ومنعه من الخروج عما يريد، فهو محكم وحكيم على التكثير( ).
7- والحَكَمَةُ: ما أحاط بحنكي الفرَس، سُمِّيت بذلك؛ لأنها تمنعه من الجري الشديد، وتذلل الدابة لراكبها، حتى تمنعها من الجماح، ومن كثير من الجهل، ومنه اشتقاق الحكمة؛ لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل( ).
8- والحُكْمُ: هو المنع من الظلم، وسميت حكمة الدابة، لأنها تمنعها، يقال: حكمت الدابة وأحكمتها، ويقال: حكمت السفيه وأحكمته: إذا أخذت على يديه، والحكمة هذا قياسها؛ لأنها تمنع من الجهل، وتقول: حكمت فلاناً تحكيماً: منعته عما يريد( ).
ومما تقدم يتضح ويتبين أن الحكمة يظهر فيها معنى المنع، فقد استعملت في عدة معان تتضمن معنى المنع:
فالعدل: يمنع صاحبه من الوقوع في الظلم.
والحلم: يمنع صاحبه من الوقوع في الغضب.
والعلم: يمنع صاحبه من الوقوع في الجهل.
والنُّبُوّة، والقرآن، والإنجيل: فالنبي إنما بُعِثَ لمنع من بعث إليهم من عبادة غير اللَّه، ومن الوقوع في المعاصي والآثام، والقرآن والإنجيل وجميع الكتب السماوية أنزلها اللَّه تتضمن ما يمنع الناس من الوقوع في الشرك وكل منكر وقبيح.
ومن فسر الحكمة بالمعرفة فهو مبني على أن المعرفة الصحيحة فيها معنى المنع، والتحديد، والفصل بين الأشياء، وكذلك الإتقان، فيه منع للشيء المتقن من تطرق الخلل والفساد إليه، وفي هذا المعنى قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه اللَّه -: ((الإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه؛ ولهذا دخل فيه معنى المنع كما دخل في الحد بالمنع جزء معناه لا جميع معناه))( ).
المطلب الثاني: مفهوم الحكمة في الاصطلاح الشرعي
ذكر العلماء مفهوم الحكمة في القرآن الكريم والسنة النبوية( )، واختلفوا على أقوال كثيرة، فقيل: الحكمة: النبوة، وقيل: القرآن والفقه به: ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله. وقيل: الإصابة في القول والفعل، وقيل: معرفة الحق والعمل به، وقيل: العلم النافع والعمل الصالح، وقيل: الخشية للَّه، وقيل: السنة، وقيل: الورع في دين اللَّه، وقيل: العلم والعمل به، ولا يسمى الرجل حكيماً إلا إذا جمع بينهما، وقيل: وضع كل شيء في موضعه. وقيل: سرعة الجواب مع الإصابة( ).
وقد ذكر بعضهم تسعة وعشرين قولاً في تعريف الحكمة( ).
((وهذه الأقوال كلها قريب بعضها من بعض؛ لأن الحكمة مصدر من الإحكام، وهو الإتقان في قول أو فعل، فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس، فكتاب اللَّه حكمة، وسنة نبيه × حكمة، وكل ما ذكر من التفصيل فهو حكمة. وأصل الحكمة ما يمتنع به من السفه. فقيل للعلم حكمة؛ لأنه يمتنع به من السفه، وبه يعلم الامتناع من السفه الذي هو كلُّ فعلٍ قبيح...)) ( ).
وعند التأمل والنظر نجد أن التعريف الشامل الذي يجمع ويضم جميع هذا الأقوال في تعريف الحكمة هو: ((الإصابة في الأقوال والأفعال، ووضع كل شيء في موضعه)).
فجميع الأقوال تدخل في هذا التعريف؛ لأن الحكمة مأخوذة من الحكم وفصل القضاء الذي هو بمعنى الفصل بين الحق والباطل، يقال: إن فلاناً لحكيم بيِّن الحكمة، يعني: أنه لبين الإصابة في القول والفعل، فجميع التعاريف داخلة في هذا القول؛ لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها، وعلم، ومعرفة، والمصيب عن فهم منه بمواضع الصواب يكون في جميع أموره: فهماً، خاشياً للَّه، فقيهاً، عالماً، عاملاً بعلمه، ورعاً في دينه... والحكمة أعم من النبوة، والنبوة بعض معانيها وأعلى أقسامها؛ لأن الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام - مسددون، مفهمون، وموفقون لإصابة الصواب في الأقوال، والأفعال، والاعتقادات، وفي جميع الأمور( ).
والحكمة في كتاب اللَّه نوعان( ): مفردة، ومقرونة بالكتاب.
فالمفردة كقوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾( ). وقوله تعالى: ﴿يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾( )، وقوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾( ).
وهذه الحكمة فُسِّرت بما تقدم من أقوال العلماء في تعريف الحكمة، وهذا النوع كثير في كتاب اللَّه تعالى.
أما الحكمة المقرونة بالكتاب، فهي السنة من: أقوال النبي × وأفعاله، وتقريراته، وسيرته، كقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾( )، وقوله: ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾( )، ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾( )، ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾( ). وغير ذلك من الآيات.
وممن فسر الحكمة المقرونة بالكتاب بالسنة: الإمام الشافعي والإمام ابن القيم، وغيرهما من الأئمة( ).
المطلب الثالث: العلاقة بين التعريف اللغوي والشرعي
عند التأمل والنظر نجد علاقةً قويةً بين المعنى اللغوي والشرعي، فكلاهما يجعل العلم النافع، والعمل الصالح الصواب المحكم المتقن أصلاً من أصول الحكمة، وعلى هذا فيكون التعريف الجامع المانع للحكمة هو: ((الإصابة في القول والعمل والاعتقاد ووضع كل شيء في موضعه بإحكام وإتقان)). واللَّه أعلم.
وبهذا التعريف يتبيَّن ويتَّضح أن الحكمة في الدعوة إلى اللَّه لا تقتصر على الكلام اللين، أو الترغيب، أو الحلم، أو الرفق، أو العفو... بل هي إتقان الأمور وإحكامها بأن تنزل جميع الأمور منازلها، فيوضع القول الحكيم والتعليم والتربية في مواضعها، وتوضع الموعظة في موضعها، والمجادلة بالتي هي أحسن في موضعها، ومجادلة الظالم المعاند في موضعها، كما قال ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾( )، ويُوضع الزجر والقوة، والغلظة، والشدة، والسيف في مواضعها، وهذا هو عين الحكمة. وقد قال أحكم الحاكمين لسيد الحكماء والناس أجمعين: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾( ).
كل ذلك بإحكام وإتقان ومراعاة لأحوال المدعوين، والأزمان، والأماكن في مختلف العصور والبلدان، وبإحسان القصد والرغبة فيما عند الكريم المنان( ).
ومن أراد البرهان العملي على ذلك فعليه أن ينظر إلى ما كان عليه رسول اللَّه ×، ومعاملته لأصناف الناس، وهو الذي أعطاه اللَّه من الحكمة ما لم يعطِ أحداً من العالمين( ).
المبحث الثاني: أنواع الحكمة ودرجاتها
المطلب الأول: أنواع الحكمة
الحكمة نوعان:
النوع الأول: حكمة علمية نظرية، وهي الاطلاع على بواطن الأشياء، ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها، خلقاً وأمراً، وقدراً وشرعاً.
النوع الثاني: حكمة عملية، وهي وضع الشيء في موضعه( ).
فالحكمة النظرية مرجعها إلى العلم والإدراك، والحكمة العملية مرجعها إلى فعل العدل والصواب، ولا يمكن خروج الحكمة عن هذين المعنيين؛ لأن كمال الإنسان في أمرين: أن يعرف الحق لذاته، وأن يعمل به، وهذا هو العلم النافع والعمل الصالح.
وقد أعطى اللَّه أنبياءه ورسله ومن شاء من عباده الصالحين هذين النوعين، قال تعالى عن إبراهيم ×: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا﴾، وهو الحكمة النظرية، ﴿وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾( )، وهو الحكمة العملية.
وقال تعالى لموسى ×: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا﴾، وهو الحكمة النظرية، ﴿فَاعْبُدْنِي﴾( )، وهو الحكمة العملية.
وقال عن عيسى ×: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾، وهو الحكمة النظرية، ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾( )، وهو الحكمة العملية.
وقال في شأن محمد ×: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ﴾، وهو الحكمة النظرية، ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾( )، وهو الحكمة العملية.
وقال في جميع الأنبياء: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ﴾، وهو الحكمة النظرية، ثم قال: ﴿فَاتَّقُونِ﴾( )، وهو الحكمة العملية( ).
المطلب الثاني: درجات الحكمة العملية
الحكمة العملية لها ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: ((أن تعطي كل شيء حقه، ولا تعدِّيه حده، ولا تعجله عن وقته، ولا تؤخِّره عنه)).
لما كانت الأشياء لها مراتب وحقوق تقتضيها، ولها حدود ونهايات تصل إليها ولا تتعداها، ولها أوقات لا تتقدم عنها ولا تتأخر، كانت الحكمة مراعاة هذه الجهات الثلاث بأن تعطي كل مرتبة حقها الذي أحقه اللَّه لها بشرعه وقدره، ولا تتعدى بها حدها فتكون متعدياً مخالفاً للحكمة، ولا تطلب تعجيلها عن وقتها فتخالف الحكمة، ولا تؤخرها عنه فتفوتها، وهذا حكم عام لجميع الأسباب مع مسبباتها شرعاً وقدراً، فإضاعتها تعطيل للحكمة بمنزلة إضاعة البذر وسقي الأرض، وتعدي الحق كسقيها فوق حاجتها، بحيث يغرق البذر والزرع ويفسد، وتعجيلها قبل وقتها كحصاده قبل إدراكه وكماله، وهذا يكون فعل ما ينبغي على الوجه الأكمل في الوقت المناسب( ).
الدرجة الثانية: معرفة عدل اللَّه في وعيده، وإحسانه في وعده، وعدله في أحكامه الشرعية والكونية الجارية على الخلائق، فإنه لا ظلم فيها ولا جور، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾( )، وكذلك معرفة بره في منعه، فإنه سبحانه هو الجواد الذي لا ينقص خزائنه الإنفاق، ولا يغيض ما في يمينه سعة عطائه، فهو سبحانه لا يضع بره وفضله إلا في موضعه ووقته بقدر ما تقتضيه حكمته، فما أعطى إلا بحكمته ولا منع إلا بحكمته، ولا أضل إلا بحكمته.
الدرجة الثالثة: البصيرة ،وهي قوة الإدراك، والفطنة، والعلم، والخبرة( ).
والبصيرة هي أعلى درجات العلم التي تكون نسبة العلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر، وهذه الخصيصة التي اختص بها الصحابة عن سائر الأمة ثم المخلصين من أتباع النبي ×، وهي أعلى درجات العلماء( )، قال تعالى: ﴿قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾( )، فقد أمر اللَّه رسوله ×، أن يخبر الناس أن هذه طريقته ومسلكه وسنته وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، يدعو إلى اللَّه على بصيرة من ذلك، ويقين وبرهان، وعلم، وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول اللَّه ×، على بصيرة ويقين، وبرهان عقلي وشرعي( )، والبصيرة في الدعوة إلى اللَّه في ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن يكون الداعية على بصيرة فيما يدعو إليه بأن يكون عالماً بالحكم الشرعي فيما يدعو إليه؛ لأنه قد يدعو إلى شيء يظنه واجباً وهو في شرع اللَّه غير واجب فيلزم عباد اللَّه بما لم يلزمهم اللَّه به، وقد يدعو إلى ترك شيء يظنه محرماً، وهو في دين اللَّه غير محرم، فيحرم على عباد اللَّه ما أحله اللَّه لهم.
الأمر الثاني: أن يكون على بصيرة بحال المدعو، فلابد من معرفة حال المدعو: الدينية، والاجتماعية، والاعتقادية، والنفسية، والعلمية، والاقتصادية حتى يقدم له ما يناسبه.
الأمر الثالث: أن يكون على بصيرة في كيفية الدعوة( )، وقد رسم اللَّه طرق الدعوة ومسالكها في آيات كثيرة منها: ﴿قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ...﴾ ( )، وهذه الآية قاعدة قوية متينة في الدعوة إلى اللَّه تعالى، ثم تكون هذه القاعدة متفرعة إلى ثلاثة أبواب: وهي الدعوة إلى اللَّه: بالحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن( )، قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾( ). قلت: والباب الرابع: الدعوة إلى اللَّه باستخدام القوة عند الحاجة إليها، كما قال تعالى: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾( ).
ولاشك أن أحسن الطرق في دعوة الناس طريقة القرآن، ومخاطبته لهم ودعوته، ومجادلتهم( ).
المبحث الثالث: أركان الحكمة
توطئة:
للحكمة أركان ودعائم تقوم عليها، وكل خلل في الداعية إلى اللَّه فسببه الإخلال بالحكمة، فأكمل الناس: أوفرهم منها نصيباً، وأنقصهم وأبعدهم عن الكمال أقلهم منها ميراثاً.
وأركان الحكمة التي تقوم عليها، ثلاثة هي: العلم، والحلم، والأناة.
وآفاتها وأضدادها، ومعاول هدمها: الجهل، والطيش، والعجلة، فلا حكمة لجاهلٍ، وطائشٍ، وعجولٍ( ).
وسأتحدث عن هذه الأركان بالتفصيل – إن شاء اللَّه تعالى – في المطالب الآتية:
المطلب الأول: العلم.
المطلب الثاني: الحلم.
المطلب الثالث: الأناة.
المطلب الأول: العلم:
العلم من أعظم أركان الحكمة، ولهذا أمر اللَّه به، وأوجبه قبل القول والعمل، فقال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾( ).
وقد بوَّب الإمام البخاري ‘ لهذه الآية بقوله: ((بابٌ: العلم قبل القول والعمل))( ).
وذلك أن اللَّه أمر نبيه بأمرين: بالعلم، ثم العمل، والمبدوء به العلم في قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ﴾، ثم أعقبه بالعمل في قوله: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾، فدل ذلك على أن مرتبة العلم مقدمة على مرتبة العمل، وأن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو مقدم عليهما؛ لأنه مصحح للنية المصححة للعمل( ).
والعمل ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول ×، وقد يكون علم من غير الرسول ×، لكن في أمور دنيوية، مثل: الطب، والحساب، والفلاحة، والتجارة( ).
ولا يكون الداعية إلى اللَّه حكيماً إلا بالعلم الشرعي، وإن لم يصحب الداعية من أول قدم يضعه في الطريق إلى آخر قدم ينتهي إليه، فسلوكه على غير طريق، وهو مقطوع عليه طريق الوصول، ومسدود عليه سبيل الهدى والفلاح، وهذا إجماع من العارفين.
ولاشك أنه لا ينهى عن العلم إلا قُطَّاع الطريق، ونوّاب إبليس وشرطه( ).
وقد قسم الإمام ابن تيمية ‘ العلم النافع – الذي هو أحد دعائم الحكمة وأسسها – إلى ثلاثة أقسام، فقال رحمه اللَّه: ((والعلم الممدوح الذي دل عليه الكتاب والسنة هو العلم الذي ورثه الأنبياء)) كما قال النبي ×: ((إن الأنبياء لم يورِّثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافرٍ))( ).
وهذا العلم ثلاثة أقسام:
القسم الأول: علم باللَّه، وأسمائه، وصفاته، وما يتبع ذلك، وفي مثله أنزل اللَّه سورة الإخلاص وآية الكرسي ونحوهما.
القسم الثاني: علم بما أخبر اللَّه به مما كان من الأمور الماضية، وما يكون من الأمور المستقبلة، وما هو كائن من الأمور الحاضرة، وفي مثل هذا أنزل اللَّه آيات القصص، والوعد، والوعيد، وصفة الجنة والنار، ونحو ذلك.
القسم الثالث: العلم بما أمر اللَّه به من العلوم المتعلقة بالقلوب والجوارح من الإيمان باللَّه من معارف القلوب وأحوالها، وأقوال الجوارح وأعمالها، وهذا يندرج فيه: العلم بأصول الإيمان وقواعد الإسلام، ويندرج فيه العلم بالأقوال والأفعال الظاهرة، ويندرج فيه ما وجد في كتب الفقهاء من العلم بأحكام الأفعال الظاهرة، فإن ذلك جزءٌ من جزءٍ من علم الدين.
والناس إنما يغلطون في هذه المسائل؛ لأنهم لا يفهمون مسميات الأسماء الواردة في الكتاب والسنة، ولا يعرفون حقائق الأمور الموجودة، فرُبَّ رجل يحفظ حروف العلم التي أعظمها حفظ حروف القرآن ولا يكون له من الفهم، بل ولا من الإيمان ما يتميز به على من أوتي القرآن ولم يؤت حفظ حروف العلم، كما قال النبي ×: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأُترُجة، ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة، لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحها طيب، وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، ليس لها ريح وطعمها مر))( ).
فقد يكون الرجل حافظاً لحروف القرآن وسوره، ولا يكون مؤمناً، بل يكون منافقاً، فالمؤمن الذي لا يحفظ حروفه وسوره خير منه، وإن كان ذلك المنافق ينتفع به الغير كما ينتفع بالريحان، وأما الذي أُوتي العلم والإيمان، فهو مؤمن حكيمٌ وعليمٌ، فهو أفضل من المؤمن الذي ليس مثله في العلم مثل اشتراكهما في الإيمان، فهذا أصل تجب معرفته( ).
والعلم لابد فيه من إقرار القلب، ومعرفته، بمعنى ما طلب منه علمه، وتمامه أن يعمل بمقتضاه؛ فإن العلم النافع – الذي هو أعظم أركان الحكمة التي من أُوتيها فقد أُوتيَ خيراً كثيراً – هو ما كان مقروناً بالعمل، أما العلم بلا عمل، فهو حجة على صاحبه يوم القيامة؛ ولهذا حذر اللَّه المؤمنين من أن يقولوا ما لا يفعلون، رحمةً بهم، وفضلاً منه وإحساناً، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾( ).
وحذَّرهم عن كتمان العلم، وأمرهم بتبليغه للبشرية على حسب الطاقة والجهد، وعلى حسب العلم الذي أعطاهم اللَّه لا يُكلف اللَّه نفساً إلا وسعها، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ﴾( ).
وهذه الآية، وإن كانت نازلة في أهل الكتاب وما كتموه من شأن الرسول × وصفاته، فإن حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما أنزل اللَّه من البينات الدالات على الحق، المظهرات له، والعلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم، ويتبين به طريق أهل النعيم من طريق أهل الجحيم، ومن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين: كَتْم ما أنزل اللَّه، والغش لعباد اللَّه، لعنه اللَّه، ولعنه جميع الخليقة؛ لسعيهم في غش الخلق وفساد أديانهم، وإبعادهم عن رحمة اللَّه، فجُوزوا من جنس عملهم، كما أن معلم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء، والطير في الهواء؛ لسعيه في مصلحة الخلق وإصلاح أديانهم؛ ولأنه قربهم من رحمة اللَّه، فَجُوزيَ من جنس عمله( ).
وقد بين × أن ((من سُئِل عن علمٍ يَعْلَمُهُ فَكتَمَهُ أُلْجِمَ يوم القيامة بلجام من نار))( ).
فتبين بذلك وغيره: أن العلم النافع الذي هو أحد أركان الحكمة لا يكون إلا مع العمل به؛ ولهذا قال سفيان( ) في العمل بالعلم والحرص عليه: ((أجهل الناس من ترك ما يعلم، وأعلم الناس من عمل بما يعلم، وأفضل الناس أخشعهم للَّه))( ).
وقال ‘: ((يُرادُ للعلم: الحفظ، والعمل، والاستماع، والإنصات، والنشر))( ).
وقال الصحابي الجليل عبد اللَّه بن مسعود : ((تعلموا، تعلموا فإذا علمتم فاعملوا))( ).
وقال : ((إن الناس أحسنوا القول كلهم، فمن وافق فعله قوله فذلك الذي أصاب حظه، ومن خالف قوله فعله فإنما يوبخ نفسه))( ).
وقال علي بن أبي طالب : ((يا حملة العلم اعملوا به، فإنما العالم من علم ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيكون أقواماً يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يقعدون حلقاً فيباهي بعضهم بعضاً، حتى أن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى اللَّه ))( ).
وقال أبو الدرداء : ((لا تكون تقيّاً حتى تكون عالماً، ولا تكون بالعلم جميلاً حتى تكون به عاملاً))( ).
ولهذا قال الشاعر:
إذا العلم لم تعمل به كان حجةً
عليك ولم تعذر بما أنت جاهله
فإن كنت قد أوتيت علماً فإنما
يصدق قولَ المرء ما هو فاعله( )
وبهذا يتضح أن العلم لا يكون من دعائم الحكمة إلا باقترانه بالعمل. وقد كان علم السلف الصالح – وعلى رأسهم أصحاب النبي × – مقروناً بالعمل، ولهذا كانت أقوالهم، وأفعالهم وسائر تصرفاتهم تزخر بالحكمة، ولهذا قال ×: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه اللَّه مالاً فسُلِّط على هلكته في الحق، ورجل آتاه اللَّه الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها))( ).
وقد دعا النبي × لعبد اللَّه بن عباس ^ بالحكمة، والفقه في الدين، فقال ×: ((اللَّهم علِّمه الحكمة))، وفي لفظ: ((اللَّهم علمه الكتاب))، وفي لفظ: ((اللَّهم فقِّهه في الدين))( ).
فكان ^ حبراً للأمة في علم الكتاب والسنة والعمل بهما استجابة لدعوة النبي ×.
أسباب وطرق تحصيل العلم:
العلم النافع له أسباب ينال بها، وطرق تُسلك في تحصيله وحفظه، من أهمها:
1- أن يسأل العبد ربه العلم النافع، ويستعين به تعالى، ويفتقر إليه، وقد أمر اللَّه نبيه محمداً × بسؤاله أن يزيده علماً إلى علمه( )، فقال تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾( )، وقد كان × يقول: ((اللَّهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علماً))( ).
2- ومنها: الاجتهاد في طلب العلم، والشوق إليه، والرغبة الصادقة في ابتغاء مرضاة اللَّه تعالى، وبذل جميع الأسباب في طلب علم الكتاب والسنة( ).
وقد جاء رجل إلى أبي هريرة فقال: إني أريد أن أتعلم العلم وأخاف أن أُضيِّعه، فقال أبو هريرة : ((كفى بتركك له تضييعاً))( ).
ولهذا قال بعض الحكماء عندما سُئلَ: ما السبب الذي ينال به العلم؟ قال: بالحرص عليه يُتَّبع، وبالحب له يُستَمَع، وبالفراغ له يَجْتَمِع، [عَلِّم علمك من يجهل، وتعلم ممن يعلم، فإنك إن فعلت ذلك علمت ما جهلت، وحفظت ما علمت] ( ).
ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه اللَّه:
أخي لن تنال العلم إلا بستةٍ
سأنبئك عن تفصيلها ببيان
ذكاءٌ، وحرصٌ، واجتهادٌ، وبلغةٌ
ٌ وصحبةُ أستاذٍ وطول زمان( )
3- ومنها: اجتناب جميع المعاصي بتقوى اللَّه – تعالى-؛ فإن ذلك من أعظم الوسائل إلى حصول العلم، كما قال تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾( )، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾( ).
وهذا واضح بيِّن أن من اتقى اللَّه جعل له علماً يُفَرِّقُ به بين الحق والباطل( )؛ ولهذا قال عبد اللَّه بن مسعود : ((إني لأحسب أن الرجل ينسى العلم قد عَلِمَه بالذنب يعمله))( ).
وقال عمر بن عبد العزيز ‘: ((خمسٌ إذا أخطأ القاضي منهن
خطةً( ) كانت فيه وصمةً( ) أن يكون: فهماً، حليماً، عفيفاً، صليباً( )، عالماً سَئولاً عن العلم))( ).
وقال الإمام الشافعي ‘:
شَكوتُ إلى وكيع( ) سوء حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن علم اللَّه نور
ونور اللَّه لا يُهدى لعاصي( )
وقال الإمام مالك للإمام الشافعي – رحمهما اللَّه تعالى -: ((إني أرى اللَّه قد جعل في قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية))( ).
4- ومنها: عدم الكبر والحياء عن طلب العلم، ولهذا قالت عائشة ’: ((نِعْمَ النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين))( ).
وقالت أم سُليم ’ يا رسول اللَّه، إن اللَّه لا يسْتَحْيي من الحق، فهل على المرأة من غُسلٍ إذا احتلمت؟ قال النبي ×: ((إذا رأت الماء))( ).
وقال مجاهد: ((لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر))( ).
5- ومنها، بل أعظمها ولُبُّها: الإخلاص في طلب العلم، قال ×: ((من تعلم علماً مما يُبتغى به وجه اللَّه ، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عَرْف الجنة يوم القيامة))( ) يعني ريحها.
6- العمل بالعلم( ):
ومما تقدم يتضح أن العلم لا يكون ركناً من أركان الحكمة ودعائمها إلا بالعمل، والإخلاص، والمتابعة.
المطلب الثاني: الحلم
الحِلْمُ: بالكسر: العقل( )، وحلم حلماً: تأنَّى وسكن عند غضب أو مكروه مع قدرة، وقوة، وصفح، وعقل( )، ومن أسماء اللَّه – تعالى -: (الحليم)، وهو الذي لا يستخفه شيء من عصيان العباد، ولا يستفزه الغضب عليهم، ولكنه جعل لكل شيء مقداراً فهو منتهٍ إليه( ).
والحلم: ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب( ).
والحلم: هو حالة متوسطة بين رذيلتين: الغضب، والبلادة، فإذا استجاب المرء لغضبه بلا تعقل ولا تبصر كان على رذيلة، وإن تبلد، وضيع حقه ورضي بالهضم والظلم كان على رذيلة، وإن تحلى بالحلم مع القدرة، وكان حلمه مع من يستحقه كان على فضيلة.
وهناك ارتباط بين الحلم وكظم الغيظ، وهو أن ابتداء التخلق بفضيلة الحلم يكون بالتحلم: وهو كظم الغيظ، وهذا يحتاج إلى مجاهدة شديدة، لما في كظم الغيظ من كتمان ومقاومة واحتمال، فإذا أصبح ذلك هيئة راسخة في النفس، وأصبح طبعاً من طبائعها كان ذلك هو الحلم، واللَّه أعلم( ).
وقد وصف اللَّه نفسه بصفة الحلم في عدة مواضع من القرآن الكريم، كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾( ).
ونلاحظ أن الآيات التي وصفت اللَّه بصفة الحلم قد قرنت صفة الحلم – في أغلب هذه الآيات – بصفة المغفرة أو العفو، ويأتي هذا الاقتران في الغالب بعد إشارة سابقة إلى خطأ وقع، أو تفريط في أمر محمود، وهذا أمر يتفق مع الحلم؛ لأنه تأخير عقوبة، قال سبحانه: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾( ).
ونجد أيضاً أن عدداً من الآيات التي وصفت اللَّه بالحلم قد قرن فيها ذكر الحلم بالعلم، كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾( )، وهذا يفيد – واللَّه أعلم بمراده – أن كمال الحلم يكون مع كمال العلم، وهذا من أعظم أركان الحكمة( ).
ومما يؤكد أن الحلم من أعظم أركان الحكمة - التي ينبغي للداعية أن يدعو بها إلى اللَّه – تعالى – مدح النبي × للحلم، وتعظيمه لأمره، وأنه من الخصال التي يحبها اللَّه ، قال × للأشج( ): ((إن فيك خصلتين يحبهما اللَّه: الحلم والأناة))( ).
وفي رواية قال الأشج: يا رسول اللَّه، أنا تخلقت بهما أم اللَّه جبلني عليهما؟ قال: ((بل اللَّه جبلك عليهما))، قال: الحمد للَّه الذي جبلني على خلقين يحبهما اللَّه ورسوله( ).
وسبب قول النبي × ذلك للأشج ما جاء في حديث الوفد أنهم لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبي ×، وأقام الأشج عند رحالهم، فجمعها، وعقل ناقته، ولبس أحسن ثيابه، ثم أقبل إلى النبي × فقربه النبي × وأجلسه إلى جانبه، ثم قال لهم النبي ×: ((تبايعونِ على أنفسكم وقومكم؟)) فقال القوم: نعم، فقال الأشج: يا رسول اللَّه، إنك لم تزاول الرجل على شيء أشد عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا، ونرسل من يدعوهم، فمن اتبعنا كان منا، ومن أبى قاتلناه، قال: ((صدقت، إن فيك خصلتين...)) الحديث.
فالأناة: تربصه حتى نظر في مصالحه، ولم يعجل، والحلم: هذا القول الذي قاله، الدال على صحة عقله، وجودة نظره للعواقب...( ).
ومما يؤكد أن الحلم من أعظم أركان الحكمة ودعائمها العظام: أنه خلق عظيم من أخلاق النبوة والرسالة، فالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - هم عظماء البشر، وقدوة أتباعهم من الدعاة إلى اللَّه والصالحين في الأخلاق المحمودة كافة.
وقد واجه كل واحد منهم من قومه ما يثير الغضب، ويغضب منه عظماء الرجال، ولكن حلموا عليهم، ورفقوا بهم، ولانوا لهم حتى جاءهم نصر اللَّه المؤزر، وعلى رأسهم إمامهم، وسيدهم، وخاتمهم محمد × ولم يكن غريباً أن يوجِّهه اللَّه تعالى إلى قمة هذه السيادة حين يقول لـه: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ* وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾( )، ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾( )، ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾( ).
وقد بلغ النبي × في حلمه، وعفوه في دعوته إلى اللَّه – تعالى – الغاية المثالية، والدلائل على ذلك كثيرة جداً، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
1- عن ابن مسعود قال: لما كان يوم حنينٍ آثر النبي × أُناساً في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أُناساً من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة، قال رجل: واللَّه إن هذه القسمة ما عُدِلَ فيها، وما أُريدَ بها وجه اللَّه، فقلت: واللَّه لأخبرن النبي ×، فأتيته فأخبرته، فقال: ((فمن يعدل إذا لم يعدل اللَّه ورسوله؟! رحم اللَّه موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر))( ).
وهذا من أعظم مظاهر الحلم في الدعوة إلى اللَّه – تعالى – وقد اقتضت حكمة النبي × أن يقسم الغنائم بين هؤلاء المؤلفة قلوبهم، ويوكل من قلبه ممتلئ بالإيمان إلى إيمانه( ).
2- وعن أبي سعيد الخدري قال: بعث علي بن أبي طالب إلى رسول اللَّه من اليمن بذهيبة( ) في أديم مقروظ( ) لم تُحَصَّلْ من ترابها، قال: فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن بدر( )، وأقرع بن حابس، وزيد الخيل( )، والرابع إما علقمة( ) وإما عامر بن الطفيل، فقال لرجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبي × فقال: ((ألا تأمنوني وأنا أمين من السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء؟)) قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمِّر الإزار، فقال: يا رسول اللَّه! اتق اللَّه، قال: ((ويلك، أولست أحقُّ أهل الأرض أن يتقي اللَّه؟))، قال: ثم ولى الرجل، قال خالد بن الوليد: يا رسول اللَّه! ألا أضرب عنقه؟ قال: ((لا، لعله أن يكون يصلي))، فقال خالد: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! قال رسول اللَّه ×: ((إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس، ولا أشق بطونهم)). قال: ثم نظر إليه وهو مُقفٍ، فقال: ((إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب اللَّه رطباً لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد))( ).
وهذا من مظاهر حلم النبي ×، فقد أخذ بالظاهر ولم يؤمر أن ينقب قلوب الناس، ولا أن يشق بطونهم، والرجل قد استحق القتل واستوجبه؛ ولكن النبي × لم يقتله، لئلا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه، ولاسيما من صلى( ).
3- عن أنس بن مالك قال: كنت أمشي مع النبي × وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذةً شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي ×، قد أثّرت به حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مر لي من مال اللَّه الذي عندك، فالتفت إليه رسول اللَّه × فضحك، ثم أمر لـه بعطاء( ).
وهذا من روائع حلمه × وكماله، وحسن خلقه، وصفحه الجميل، وصبره على الأذى في النفس، والمال، والتجاوز على جفاء من يريد تألفه على الإسلام؛ وليتأسى به الدعاة إلى اللَّه، والولاة بعده في حلمه، وخلقه الجميل من الصفح، والإغضاء، والعفو، والدفع بالتي هي أحسن( ).
4- وعن جابر بن عبد اللَّه ^ أنه غزا مع رسول اللَّه × قبل نجد، فلما قفل رسول اللَّه × قفل معه، فأدركتهم القائلة في وادٍ كثير العضاه، فنزل رسول اللَّه × تحت شجرة، عُلق بها سيفه، ونمنا نومةً، فإذا رسول اللَّه × يدعونا، وإذا عنده أعرابي، فقال: ((إن هذا اخترط عليَّ سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتاً( )، فقال: من يمنعنك مني؟ فقلت: اللَّه (ثلاثاً)، ولم يعاقبه وجلس))( ).
وفي هذا دلالة واضحة على قوة يقينه، وصبره على الأذى، وحلمه على الجهال، وشدة رغبته في استئلاف الكفار؛ ليدخلوا في الإسلام، ولهذا ذُكِرَ أن هذا الأعرابي رجع إلى قومه وأسلم، واهتدى به خلق كثير( ).
وهذا مما يؤكد أن الحلم من أعظم أركان الحكمة ودعائمها.
5- ومن عظيم حلمه عدم دعائه على من آذاه من قومه، وقد كان باستطاعته أن يدعو عليهم، فيهلكهم اللَّه، ويدمرهم، ولكنه × حليم حكيم، يهدف إلى الغاية العظمى، وهي رجاء إسلامهم، أو إسلام ذرياتهم، ولهذا قال عبد اللَّه بن مسعود : كأني أنظر إلى رسول اللَّه × يحكي نبيّاً من الأنبياء، صلوات اللَّه وسلامه عليهم، ضربه قومه فأدْمَوْهُ وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: ((اللَّهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون))( ).
ومما يدل على أن الحلم ركن من أركان الحكمة ملازمة صفة الحلم للأنبياء قبل النبي × في دعوتهم إلى اللَّه تعالى.
فهذا إبراهيم أبو الأنبياء -عليه وعليهم الصلاة والسلام- قد بلغ من الحلم مبلغاً عظيماً حتى وصفه اللَّه بقوله: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾( )، فقد كان إبراهيم كثير الدعاء، حليماً عمن ظلمه، وأناله مكروهاً، ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه لـه في قوله: ﴿أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا﴾( ).
فحلم عنه مع أذاه لـه، ودعا لـه، واستغفر( )؛ ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ ( ).
وهكذا جميع الأنبياء والمرسلين، كانوا من أعظم الناس حلماً مع أقوامهم في دعوتهم إلى اللَّه تعالى( ).
ومن وراء الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، يأتي الدعاة إلى اللَّه والصالحون من أتباعهم، وإذا كان اللَّه قد جعل محمداً × مثلاً عالياً في الحلم، فقد أراد لأتباعه أن يسيروا على نهجه وسنته، ولذلك يقول اللَّه – تعالى – عن الأخيار من هؤلاء: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا﴾( ).
فمن صفاتهم أنهم أصحاب حلم، فإذا سفه عليهم الجهال بالقول السّيّئ لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيراً، كما كان رسول اللَّه × لا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً( ).
فعن النعمان بن مقرن المزني، قال: قال رسول اللَّه × وسبّ رجل رجلاً عنده، فجعل المسبُوبُ يقول: عليك السلام، فقال رسول اللَّه ×: ((أما إن ملكاً بينكما يذب عنك كلما يشتمك هذا، قال لـه: بل أنت وأنت أحق به، وإذا قال لـه: عليك السلام، قال: بل لك، أنت أحق به))( ).
فهؤلاء الدعاة إلى اللَّه والصالحون إذا خاطبهم الجاهلون قالوا صواباً وسداداً، ويردون المعروف من القول على من جهل عليهم( )؛ لأن من أخلاقهم العفو والصفح عمن أساء إليهم، فقد تخلقوا بمكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، فصار الحلم لهم سجية، وحسن الخلق لهم طبيعةً، حتى إذا أغضبهم أحدٌ بمقاله أو فعاله كظموا ذلك الغضب فلم ينفذوه. ﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾( )، فترتب على هذا الحلم، والعفو، والصفح من المصالح ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم شيء كثير( )، كما قال تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾( ).
ومما يبين حلم أصحاب النبي × من بعده وإن كانوا خلفاء وأمراء، ما رواه البخاري عن ابن عباس ^ قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباناً، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة فأذن لـه عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فواللَّه ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همَّ به، فقال لـه الحر: يا أمير المؤمنين، إن اللَّه – تعالى – قال لنبيه ×: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾( )، وإن هذا من الجاهلين، واللَّه ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافا عند كتاب اللَّه( ).
وهذا الرجل قد جفا عمر أمير المؤمنين بعدة أمور تثير الغضب، وتجعله عرضة للانتقام والتأديب.
أول هذه الأمور: قوله: هي يا ابن الخطاب، ولم يقل: يا أمير المؤمنين.
والثاني: قوله: واللَّه ما تعطينا الجزل، يعني العطاء الكثير.
والثالث: وهو أقبح الأمور الثلاثة، قوله: ولا تحكم بيننا بالعدل.
ومع هذا كله حلم عنه عمر وعفا عنه، وصفح عندما سمع الآية، وسمع قول الحر: إن هذا من الجاهلين، ووقف عند الآية، ولم يعمل بغير ما دلت عليه، بل عمل بمقتضاها، وأرضاه( )، وهذا يدل على كمال حلمه وحكمته التي استفادها من هدي رسول اللَّه ×، فرسخت في ذهنه حتى كانت هيئة راسخة ثابتة في نفسه وخلقه.
وهذا يحتاج في بداية الأمر إلى جهاد وقوة، ولهذا قال النبي ×: ((ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب))( ).
ولاشك أن الغضب يهدم الحلم وينافيه، وصاحب الغضب لا يكون حليماً، ولهذا قال × لمن قال أوصني: ((لا تغضب))( ).
والداعية إلى اللَّه يستطيع أن يتصف بالحلم؛ ليكون حكيماً، وذلك بعلاج الغضب، إذا حل به ونزل، ولا يكون العلاج النافع إلا بما شرعه اللَّه، وبينه رسوله ×، فقد عمل على تربية المسلمين تربية قولية، وفعلية عملية، حتى يكونوا حلماء، حكماء.
علاج الغضب:
وعلاج الغضب بالأدوية المشروعة يكون بطريقتين:
الطريق الأول: الوقاية:
ومعلوم أن الوقاية خير من العلاج، وتحصل الوقاية من الغضب قبل وقوعه باجتناب أسبابه، واستئصالها قبل وقوعها، ومن هذه الأسباب التي ينبغي لكل مسلم أن يُطهِّر نفسه منها: الكبر، والإعجاب بالنفس، والافتخار، والتيه، والحرص المذموم، والمزاح في غير مناسبة، أو الهزل وما شابه ذلك( ).
الطريق الثاني: العلاج إذا وقع الغضب:
وينحصر في أربعة أنواع كالآتي:
النوع الأول: الاستعاذة باللَّه من الشيطان، قال اللَّه تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾( ). وعن سليمان بن صُردٍ قال: استبَّ رجلان عند النبي × ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسبّ صاحبه مغضباً قد احمر وجهه، فقال النبي ×: ((إني لأعلمُ كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد. لو قال: أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم))( ).
ولما كان الشيطان على نوعين: نوع يُرى عياناً، وهو شيطان الإنس، ونوع لا يُرى، وهو شيطان الجن، جعل اللَّه سبحانه المخرج من شر شيطان الإنس بالإعراض عنه، والعفو، والدفع بالتي هي أحسن، ومن شر شيطان الجن بالاستعاذة باللَّه منه( )، وما أحسن ما قاله القائل:
فما هو إلا الاستعاذة ضارعاً
أو الدفع بالحسنى هما خيرُ مطلوب
فهذا دواء الداء من شر ما يُرى
وذاك دواءُ الداء من شر محجوب( )
النوع الثاني: الوضوء، عن عطية السعدي قال: قال رسول اللَّه ×: ((إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خُلِقَ من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ))( ).
النوع الثالث: تغيير الحالة التي عليها الغضبان، بالجلوس، أو الخروج، أو غير ذلك، عن أبي ذر قال: إن رسول اللَّه × قال لنا: ((إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع))( ).
النوع الرابع: استحضار ما ورد في فضل كظم الغيظ من الثواب، وما ورد في عاقبة الغضب من الخذلان العاجل والآجل، عن معاذ بن أنس أن رسول اللَّه × قال: ((من كظم غيظاً وهو قادرٌ على أن ينفذه دعاه اللَّه على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيِّره اللَّه من الحور ما شاء))( ). وهذه الأنواع أدلة ثبوتها واضحة من الكتاب والسنة.
وإذا أراد الداعية أن يزداد حلمه، وتعظم حكمته، فليحرص على الأسباب التي تدعو إلى الحلم، فليعمل بها، وهي عشرة:
1- الرحمة بالجهال، فإنها من أوكد أسباب الحلم.
2- القدرة على الانتصار؛ وذلك من سعة الصدر، وحسن الثقة.
3- الترفع عن السباب، وذلك من شرف النفس وعلو الهمة.
4- الاستهانة بالمسيء:
إذا نطق السفيه فلا تجبه
فخير من إجابته السكوت
5- الاستحياء من جزاء الجواب، وهذا من صيانة النفس وكمال المروءة.
6- التفضل على السّاب، وهذا من الكرم وحب التآلف.
7- قطع السباب، وهذا من الحزم، كما قال الشاعر:
وفي الحلم ردع للسفيه عن الأذى
وفي الخرق إغراء فلا تك أخرقا
8- الخوف من العقوبة على الجواب، وهذا مما يقتضيه الحزم، فقد قيل: الحلم حجاب الآفات.
9- الرعاية ليد سالفة، وحرمة لازمة، وهذا من الوفاء وحسن العهد، قال الشاعر:
إن الوفاء على الكريم فريضة
واللؤم مقرون بذي الإخلاف
10- المكر وتوقع الفرص الخفية، وهذا من الدهاء، وقد قيل: من ظهر غضبه قل كيده.
وقال بعض الشعراء:
ولَلْكفّ عن شتم اللئيم تكرماً
أضر لـه من شتمه حين يشتم( )
فإذا راعى الداعية الوقاية من الغضب، والعلاج، وهذه الأسباب العشرة كان حليماً بإذن اللَّه – تعالى – وبهذا يحقق ركناً من أركان الحكمة، التي من أوتيها فقد أُوتي خيراً كثيراً.
وينبغي أن يعلم أن الغضب للَّه يكون محموداً، ولا يدخل في الغضب المذموم، فالغضب المحمود يكون من أجل اللَّه، عندما ترتكب حرمات اللَّه، أو تترك أوامره ويستهان بها، وهذا من علامات قوة الإيمان، ولكن بشرط أن لا يخرج هذا الغضب عن حدود الحلم والحكمة، وقد كان رسول اللَّه × يغضب للَّه إذا انتهكت محارمه، وكان لا ينتقم لنفسه، ولكن إذا انتهكت حرمات اللَّه لم يقم لغضبه شيء، ولم يضرب بيده خادماً، ولا امرأة، إلا أن يجاهد في سبيل اللَّه، وقد خدمه أنس بن مالك عشر سنوات، فما قال لـه: أُفٍّ، قَطُّ، ولا قال لـه لشيء فعله: لم فعلت كذا، ولا لشيء لم يفعله ألا فعلت كذا؟( ).
وهذا لا ينافي الحلم والحكمة، بل الغضب للَّه في حدود الحكمة من صميم الحلم والحكمة.
المطلب الثالث: الأناة
الأناة في اللغة: التثبت وعدم العجلة، يقال: تَأنَّى في الأمر: مكث ولم يعجل، والاسم منه: أناة( ).
ويقال: تأنى في الأمر: ترفَّق، وتنظّر، وتَمهّلَ، واستأنى به: انتظر به وأمهله( ).
وتأتي الأناة بمعنى التبيّن والتثبُّت في الأمور، يقال: تَبيّنَ في الأمر والرأي: تثبت، وتأنى فيه ولم يعجل( ).
ويأتي التبيُّن بمعنى: التبصر: التعرف والتأمل، يقال: تبصر الشيء، وتأمل في رأيه: تبين ما يأتيه من خيرٍ أو شرٍ( ).
وعلى ضوء ما تقدم تكون الأناة هي: التصرُّف الحكيم بين العجلة والتباطؤ( ).
والأناة مظهر من مظاهر خُلق الصبر، وهي من صفات أصحاب العقل والرزانة، بخلاف العجلة فإنها من صفات أصحاب الرعونة والطيش، وهي تدل على أن صاحبها لا يملك الإرادة القوية القادرة على ضبط نفسه تجاه انفعالاته العجولة، وبخلاف التباطؤ والتواني فهما من صفات أصحاب الكسل والتهاون بالأمور، ويدلان على أن صاحبهما لا يملك القدرة على دفع همته للقيام بالأعمال التي تحقق لـه ما يرجوه، أو ليس لديه همة عالية تنشد الكمال، فهو يرضى بالدنيات، إيثاراً للراحة، وكسلاً عن القيام بالواجب.
والأناة عند الداعية إلى اللَّه – تعالى – تسمح لـه بأن يُحكم أموره، ويضع الأشياء في مواضعها، فهي ركن من أركان الحكمة، بخلاف العجلة؛ فإنها تعرضه لكثير من الأخطاء والإخفاق، والتعثر، والارتباك، ثم تعرضه للتخلف من حيث يريد السبق، ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، وبخلاف التباطؤ والكسل فهو أيضاً يعرضه للتخلف والحرمان من تحقق النتائج التي يرجوها( ).
والداعية مطلوب منه أن يتخلق بخلق الأناة، ولكن ما يتطلب من الأمور عملاً سريعاً فالحكمة السرعة إذن، وهي لا تخرج عن الأناة، فالقضية نسبية، وما يتطلب من الأمور عملاً بطيئاً فالحكمة البطء إذن، وهو لا يخرج عن الأناة؛ لأن الأمر نسبي، وليس للأناة مقادير زمنية ثابتة؛ ولكنها تختلف باختلاف حاجة الأشياء إلى مقدار السرعة الزمنية التي تحتاجها وتستدعيها النتائج المطلوبة، فالأشياء مربوطة بأوقاتها، والعجلة فيها مع معرفة أوقاتها المطلوبة خلقٌ مذموم يدل على ضعف خلق الصبر، ونقص الحكمة، والتباطؤ فيها خلق مذموم يدل على ضعف الهمّة والإخلاد إلى الراحة والكسل، أما الأناة فليست تعجلاً ومسابقة لأوقات الأشياء، ولا تباطؤاً وكسلاً، وكل من العجلة والتباطؤ يضيعان على أصحابهما الجهد والزمن، وما بذلوه، والأناة هي الكفيلة – بإذن اللَّه تعالى – بتحقيق المطلوب، وتفادي الخسارة.
وقد ذم الإسلام الاستعجال ونهى عنه، وذم التباطؤ والكسل ونهى عنه، ومدح الأناة وأمر بها، وعمل على تربية المسلمين على الأناة والتثبت الحكيم في القيام بالأعمال وتصريف الأمور( ).
قال اللَّه – تعالى – للنبي × تربية لـه وتعليماً: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾( ).
فأمر اللَّه سبحانه نبيه بعدم العجلة ومسابقة الملَك في قراءته، وتكفل اللَّه لـه أن يجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه لـه ويفسره( ).
وقال تعالى: ﴿وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾( ).
وأمر سبحانه عباده المؤمنين والدعاة إلى اللَّه – تعالى – بالتأني في الأمور والتثبت فيها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾( )، قرأ الجمهور: (فتبينوا) من التبين، وهو التأمل، وقرأ حمزة والكسائي: (فتَثبَّتُوا)، والمراد من التبين التعرف والتفحص، ومن التثبت: الأناة وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد، حتى يتضح ويظهر( ).
والدعاة إلى اللَّه أولى بامتثال أمر اللَّه – تعالى – وبالتأني والتثبت من الأقوال والأفعال، والاستيثاق من مصدرها قبل الحكم عليها أو لها، وعليهم أن يتدبروا الأمور على مهلٍ، غير متعجلين؛ لتظهر لهم جلية واضحة، لا غموض فيها ولا التباس( ).
والداعية إلى اللَّه – تعالى – إذا أبصر العاقبة أمِنَ الندامة، ولا يكون ذلك إلا إذا تدبر جميع الأمور التي تعرض لـه، ويواجهها، فإذا كانت رشداً، وحقّاً، وصواباً فليمض، وإذا كانت غيَّا، وضلالاً، وظنًّا خاطئاً، فليقف ولينتهِ حتى يتضح لـه الحق.
والمشاهَد والواقع أن عدم التثبت وعدم التأني يؤديان إلى كثير من الأضرار والمفاسد، فقد يسمع الإنسان خبراً، أو يقرأ نبأ في صحيفة، أو مجلة، فيسارع بتصديقه، ويعادي ويصادق، ويبني على ذلك التصرفات والأعمال التي يصدرها للمقاومة أو الموافقة، على أساس أنه حق واقع، ثم يظهر أنه كان مكذوباً، أو محرفاً، أو مزوراً، أو مبالغاً فيه، أو مراداً به غير ما فهمه الإنسان، ومن هنا يكتوي المتسرع بلهب الندم والحسرة بسبب استعجاله وعدم تثبته.
وقد يصاب الداعية أو غيره من المسلمين بأذى دون أن يعرف مصدره، فيستعجل ويسارع فيتهم هذا، أو يسب ذاك، فيندم ويحصد ثمرة عجلته وعدم تثبته، ولو أنه تأنى، وتبين، وتثبت؛ لأدرك مصدر الأذى على حقيقته، وحينئذ يصدر التصرف على أساس البينة والبرهان، فلا يفقد أصدقاء لـه، ولا يضيف إلى أعدائه عدوّاً جديداً منهم.
ويدخل في العجلة وعدم التثبت تعجل الإنسان في المدح أو الذم، دون دراية أو دون موجب لذلك، أو يتعجل بالكلام قبل أن يديره على عقله، أو بالفتوى قبل أن يعرف دليله وبرهانه الذي اعتمد عليه، وبنى عليه فتواه، وبعد ذلك يحصد الغم والأسف( )، ﴿وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً﴾( ).
ولعظم أمر الأناة والتبين أمر اللَّه بها حتى في جهاد الكفار في سبيل اللَّه، الذي هو من أعظم وسائل الدعوة إلى اللَّه تعالى، فقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾( ).
ومن المعلوم أن الأمور قسمان: أمور واضحة، وأمور غير واضحة.
فالواضحة البينة لا تحتاج إلى تَثَبُّتٍ وتبيُّنٍ، لأن ذلك تحصيل حاصل.
وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الداعية خاصة والمسلمين عامةً بحاجة إلى التثبت فيها والتبين، فإن ذلك يحصل فيه من الفوائد الكثيرة، والكف عن شرور عظيمة ما يجعل المسلم في سلامة عن الزلل، وبذلك يُعْرَفُ دين العبد وعقله ورزانته( ).
ومما يزيد الآية السابقة وضوحاً ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس ^ ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ قال: كان رجل في غُنَيمة لـه فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غُنَيمته، فأنزل اللَّه في ذلك إلى قوله: ﴿عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ تلك الغُنَيمة، وقرأ ابن عباس: السلام( ).
وعن أسامة بن زيد ^ قال: بعثنا رسول اللَّه × إلى الحرقة من جهينة، قال: فصبَّحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، قال: فلما غشيناه قال: لا إله إلا اللَّه، قال: فكف عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي × قال: فقال لي: ((يا أسامة، أقتلته بعدما قال لا إله إلا اللَّه؟)) قال: قلت: يا رسول اللَّه، إنما كان متعوذاً، قال: فقال: ((أقتلته بعدما قال لا إله إلا اللَّه؟))، قال:فمازال يُكرّرها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم( ).
وفي رواية قال: قلت يا رسول اللَّه: إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: ((أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا))، فمازال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ( ).
وفي رواية: ((كيف تصنع بلا إله إلا اللَّه إذا جاءت يوم القيامة؟)) قال: يا رسول اللَّه: استغفر لي، قال: ((وكيف تصنع بلا إله إلا اللَّه إذا جاءت يوم القيامة؟)). قال: فجعل لا يزيده على أن يقول: ((كيف تصنع بلا إله إلا اللَّه إذا جاءت يوم القيامة))( ).
ولهذا كان النبي × أعظم الناس أناةً وتثبتاً، فكان لا يقاتل أحداً من الكفار إلا بعد التأكد بأنهم لا يقيمون شعائر الإسلام، فعن أنس بن مالك : ((أن النبي × كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذاناً كف عنهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم...)) ( ).
كان النبي × يعلم ويربي أصحابه على الأناة والتثبت في دعوتهم إلى اللَّه – تعالى – ومن ذلك أنه كان يأمر أمير سريته أن يدعو عدوه قبل القتال إلى إحدى ثلاث خصال:
( أ ) الإسلام والهجرة، أو إلى الإسلام دون الهجرة، ويكونون كأعراب المسلمين.
(ب) فإن أبوا الإسلام دعاهم إلى بذل الجزية.
(ج) فإن امتنعوا عن ذلك كله استعان باللَّه وقاتلهم( ).
ومن تربيته لأصحابه × على الأناة وعدم العجلة قوله: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تَسْعون، وأتوها تمشون، وعليكم السكينة فما أدركْتُمْ فصلّوا، وما فاتكم فأتموا))( ).
وقوله: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت))( ).
ولسُمُوِّ الأناة أحبها اللَّه ، قال × للأشج: ((إن فيك خصلتين يحبهما اللَّه: الحلم والأناة))( ).
والرسل - عليهم الصلاة والسلام - هم صفوة الخلق وقدوتهم، وهم أكمل الناس أناةً وحلماً، وأعظمهم في ذلك وأوفرهم حظَّاً محمد ×.
ومن أمثلة ذلك قصة سليمان مع الهدهد وتثبته وعدم عجلته, قال سبحانه عن ذلك: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ *لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ ( ).
فهذا الهدهد من جنود سليمان × كان غائباً بغير إذن سليمان، وحينئذ يتعين أن يؤخذ الأمر بالحزم والجد في تنظيم الجنود حتى لا تكون فوضى، فإن سليمان إذا لم يأخذ بذلك في تنظيم الجنود ومراقبتهم كان المتأخر منهم قدوة سيئة لبقية الجنود، ولهذا نجد سليمان النبي الملك الحازم يتهدد الجندي الغائب المخالف، ولكن سليمان ليس ملكاً جباراً في الأرض، ولا متسرعاً عجولاً، وهو لم يسمع بعد حجة الهدهد الغائب، فلا ينبغي أن يترك الأناة والتثبت ويقضي في شأنه قضاءً نهائيّاً قبل أن يسمع منه ويتبين عذره، ومن ثم تبرز سمة النبي العادل المتثبت ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ أي: حجة قوية واضحة توضح عذره وتنفي المؤاخذة عنه( ).
فالأناة صفة جميلة، وتكون أجمل إذا جاءت من القادر على العقاب، ولهذا قال الشاعر ابن هانئ المغربي:
وكل أناة في المواطن سؤدد
ولا كأناة من قديرٍ محكم
ومن يتبين أن للصفح موضعاً
من السيف يصفح عن كثير ويحلم
وما الرأي إلا بعد طول تثبُّت
ولا الحزم إلا بعد طول تلوم
وقال الشاعر يمدح عاقلاً حكيماً:
بصير بأعقاب الأمور كأنما
يخاطبه في كل أمر عواقبه( )
والداعية إلى اللَّه إذا تثبت، وتأمل في جميع أموره اكتسب ركناً من أركان الحكمة، وينبغي ألا يقتصر في منهجه المتكامل على التأني والتثبت في الأفعال والأقوال فحسب، بل عليه أن يجري ذلك على القلب في خواطره، وتصوراته، وفي مشاعره وأحكامه ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ ( ).
فلا يقول اللسان كلمة، ولا يروي حادثة، ولا يحكم العقل حكماً، ولا يبرم الداعية أمراً إلا وقد تثبت من كل جزئية، ومن كل ملابسة، ومن كل نتيجة، حتى لا يبقى هنالك شك ولا شبهة في صحتها، وحينئذ يصل الداعية المسلم المتمسك بهذه الضوابط إلى أعلى درجات الأناة والحكمة والسداد – بإذن اللَّه تعالى -( ).
أما العجلة فهي مذمومة، قال سبحانه عن فرعون: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾( )، استخفهم وحملهم على الضلالة والجهل، واستخف عقولهم، يقال: استخف عن رأيه: إذا حمله على الجهل وأزاله عما كان عليه من الصواب( ).
وقال سبحانه: ﴿وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ﴾( )، ولاشك أن الإنسان قد خلق من عجل ﴿خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾( )؛ ولكنه – بحمد اللَّه – إذا امتثل أمر اللَّه وترك نهيه حسنت أخلاقه وطبائعه.
والعجلة لها أسباب ينبغي اجتنابها، منها: عدم النظر في العواقب، وسنن اللَّه في الكون، ومنها الشيطان عدو الإنسان؛ فإن أساس العجلة من الشيطان؛ لأنه الحامل عليها بوسوسته، فيمنع من التثبت والنظر في العواقب، فيقع المستعجل في المعاطب والفشل( )، ولذلك قيل:
يا صاحبي تلوما لا تعجلا
إن النجاح رهين أن لا تعجلا
وقال عمرو بن العاص : لا يزال الرجل يجني من ثمرة العجلة الندامة( ).
وينبغي أن يُعْلَم أن العجلة المذمومة ما كان في غير طاعة، ومع عدم التثبت وعدم خوف الفوت، ولهذا قيل لبعض السلف: لا تعجل، فإن العجلة من الشيطان، فقال: لو كان كذلك لما قال موسى: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ ( ).
وقد قال بعض السلف: لا تعجل عجلة الأخرق، وتحجم إحجام الواني.
والخلاصة: أنه يستثنى من العجلة ما لا شبهة في خيريته، قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾( ).
وعن سعد بن أبي وقاص قال الأعمش: ولا أعلمه إلا عن النبي ×: ((التُّؤَدَةُ( ) في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة))( ).
وعن عبد اللَّه بن سرجس المزني، أن النبي × قال: ((السَّمْتُ الحسن( )، والتُّؤَدَةُ والاقتصاد( )، جزء من أربعةٍ وعشرين جزءاً من النبوة))( ).
وبهذا يعلم أن الأناة في كل شيء محمودة وخير إلا ما كان من أمر الآخرة، بشرط مراعاة الضوابط التي شرعها اللَّه حتى تكون المسارعة مما يحبه اللَّه تعالى( ).
وعن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه يرفعه: ((التأني من اللَّه، والعجلة من الشيطان))( ).
المبحث الرابع: طرق اكتساب الحكمة
تمهيد:
الحكمة هبة وفضل من اللَّه يهبها لمن يشاء من عباده وأوليائه، والحكمة ليست كسبية تحصل بمجرد كسب العبد دون تعليم الأنبياء له طرق تحصيلها، فالعبد لا يكون حكيماً إلا إذا سلك طرق تحصيل الحكمة، ولا يمكن أن يحصل على الحكمة إلا إذا كانت طرقها مستقاة من الكتاب والسنة، وإذا وفق الداعية المسلم لطرق الحكمة فلا يخرجها ذلك عن كونها هبة من اللَّه تعالى، لقوله تعالى: ﴿يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾( )، بل اللَّه الذي وفقه وسدده، وأعطاه خيراً كثيراً، جليلاً قدره، عظيماً نفعه، ولهذا استنبط بعض المحققين من قوله: ﴿خَيْرًا كَثِيرًا﴾ أن إيتاء الحكمة خير من الدنيا وما فيها كلها؛ لأن اللَّه وصف الدنيا في قوله: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ﴾( )، فدل فذلك على أن ما يؤتيه اللَّه من حكمته خير من الدنيا وما عليها؛ لأن من أوتيها خرج من ظلمة الجهل إلى نور الهدى، وحمق الانحراف في الأقوال والأفعال إلى إصابة الصواب فيها، وحصول السداد والاعتدال، والبصيرة المستنيرة، وإتقان الأمور وإحكامها، وتنزيلها منازلها، وهذا كله من أفضل العطايا وأجل الهبات.
والحكمة لها طرق تكتسب بها بتوفيق اللَّه تعالى، ومن أهم هذه الطرق التي إذا سلكها المسلم صار حكيماً بإذن اللَّه تعالى ما يأتي:
العلم النافع، والحلم، والأناة، والرفق واللين، والإخلاص والتقوى، والصبر والمصابرة، والسلوك الحكيم، والعمل بالعلم، والاستقامة، والخبرات والتجارب، وجهاد النفس والشيطان، وعلو الهمة، والعدل، والدعاء، والاستخارة والاستشارة( ). وفقه وإتقان أركان الدعوة إلى اللَّه تعالى.
وسأذكر في هذا المبحث بالتفصيل بعض هذه الطرق التي إذا سلكها الداعية المسلم – مع ما تقدم من الطرق – كان حكيماً في أقواله وأفعاله، وتصرفاته، وأفكاره، موافقاً للصواب في جميع أموره بإذن اللَّه تعالى، وذلك في المطالب الآتية:
المطلب الأول: السلوك الحكيم.
المطلب الثاني: العمل بالعلم والإخلاص.
المطلب الثالث: الاستقامة.
المطلب الرابع: الخبرات والتجارب.
المطلب الخامس: السياسة الحكيمة.
المطلب السادس: فقه أركان الدعوة إلى اللَّه تعالى.
المطلب الأول: السلوك الحكيم
السلوك: مصدر سلك يقال: سلك طريقاً، وسلك المكان يسلكه سلكاً وسلوكاً( )، وسلكه غيره.
والسلوك: سيرة الإنسان ومذهبه واتجاهه، يقال: فلان حسن السلوك أو سيِّئ السلوك( ).
أما الخلق فهو: حال في النفس راسخة تصدر عنها الأفعال من خير أو شر من غير حاجة إلى فكر ورويّة، وجمعه: أخلاق.
والأخلاق علم موضوعه أحكام قيمة تتعلق بالأعمال التي توصف بالحسن أو القبح( )، وهذه الحال تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما يكون طبيعيًّا من أصل المزاج، كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو الغضب، ويهيج لأدنى سبب، وكالذي يجبن من أيسر شيء، كمن يفزع من أدنى صوت يطرق سمعه.
القسم الثاني: ما يكون مستفاداً بالعادة والتدريب، وربما كان مبدؤه بالرويّة والفكر، ثم يستمر عليه حتى يصير ملكة وخلقاً( ).
والسلوك عمل إرادي، كقول: الصدق، والكذب، والبخل، والكرم، ونحو ذلك.
فاتضح أن الخلق حالة راسخة في النفس وليس شيئاً خارجاً مظهريّاً، فالأخلاق شيء يتصل بباطن الإنسان، ولابد لنا من مظهر يدلنا على هذه الصفة النفسية، وهذا المظهر هو السلوك، فالسلوك هو المظهر الخارجي للخلق، فنحن نستدل من السلوك المستمر لشخص ما على خلقه، فالسلوك دليل الخلق، ورمز له، وعنوانه، فإذا كان السلوك حسناً دل على خلق حسن، وإن كان سيئاً دل على خلق قبيح، كما أن الشجرة تعرف بالثمر، فكذلك الخلق الطيب يعرف بالأعمال الطيبة( ).
والحكمة تتفرع إلى فروع، وأحد هذه الفروع هو السلوك الحكيم، والتزام فضائل الأخلاق، واجتناب رذائلها ظاهراً وباطناً هو السلوك الأخلاقي الحكيم( ).
والداعية إذا التزم السلوك الأخلاقي الحكيم كان ذلك من أعظم طرق اكتساب الحكمة، ومن أسباب توفيق اللَّه له في دعوته، وفي أموره كلها، واستقامته، وحسن سيرته، وأدعى لقبول دعوته، وإصلاح الأخلاق، ومحاربة المنكرات، إذ لا يجد في الناس من يغمزه في سلوكه الشخصي، سواء كان ذلك قبل قيامه بالدعوة أو بعده، وكثيراً ما سمعنا أن أناساً قاموا بدعوة الإصلاح، وخاصة إصلاح الأخلاق، وكان من أكبر العوامل في إعراض الناس عنهم، وعن دعوتهم ما يذكرونه لهم من ماضٍ ملوّث، وخلق غير مستقيم، بل إن هذا الماضي السيِّئ مدعاة للشك في صدق مثل هؤلاء الدعاة، بحيث يتهمون بالتستر وراء دعوة الإصلاح؛ لأغراض خاصة، أو يتهمون بأنهم ما بدءوا بالدعوة إلى الإصلاح إلا بعد أن قضوا بعض أوقات أو مراحل أعمارهم، وأخذوا نصيبهم من ملذات الحياة وشهواتها، وأصبحوا في وضع أو عمر لا أمل لهم فيه بالاستمرار فيما كانوا يبلغون فيه من عرض أو مال، أو شهرة، أو جاه.
أما الداعية المستقيم في شبابه وحياته كلها، فإنه يظل أبداً بفضل اللَّه رافع الرأس، ناصع الجبين، ولا يجد أعداء الدعوة سبيلاً إلى غمزه بماضٍ قريب أو بعيد، ولا يتخذون من هذا الماضي المنحرف وسيلة إلى التشهير به، أو دعوة الناس إلى الاستخفاف به وبشأنه.
ولاشك أن اللَّه يقبل توبة التائب المقبل عليه بصدق وإخلاص، ويمحو بحسناته الحاضرة سيئاته المنصرمة. والداعية إذا استقامت سيرته، وحسنت سمعته الطيبة الحميدة، وسلوكه الحكيم( ) نجح في دعوته بإذن اللَّه تعالى.
وإذا سلك الداعية المسالك الحكيمة في سلوكه فقد سلك أعظم الطرق في اكتساب الحكمة، ومن هذه المسالك على سبيل المثال ما يأتي:
المسلك الأول: قدوة الداعية في سلوكه.
المسلك الثاني: أصول السلوك الحكيم.
المسلك الثالث: وصايا الحكماء باكتساب الحكمة.
المسلك الأول: قدوة الداعية في سلوكه:
ينبغي للداعية أن يتخذ في سلوكه وأعماله كلها قدوة حكيماً، وإماماً نبيلاً، وهو محمد بن عبد اللَّه × فقد كان حسن السيرة والسلوك، بل كان أعظم خلق اللَّه في حسن خلقه، الذي دل عليه سلوكه الحكيم، ولا غرابة فقد مدحه ربه وأثنى عليه بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾( )، وعرف قومه ذلك منه، ولكن صد بعضهم عن تصديقه الكبر والجحود ﴿فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾( )؛ ولهذا عندما قال × لقومه: ((أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟))، قالوا: ما جربنا عليك كذباً. قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد))( ).
وفي حديث أبي سفيان مع هرقل حينما سأله عن أحوال النبي × وسلوكه، قال هرقل: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: قلت: لا... ثم قال: ماذا يأمركم به؟ قال أبو سفيان: قلت: يقول:((اعبدوا اللَّه وحده، ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة...)) ثم قال هرقل لأبي سفيان في نهاية الحديث: فإن كان ما تقول حقاً، فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه))( ).
فهذا الرسول الكريم هو قدوة الداعية، وإمامه الذي يسير على هديه، ويلتزم أخلاقه، وسلوكه، فقد كان × حسن السيرة والسلوك الحكيم في حياته كلها، ولم يتهم بشيء مما كان يعمله قومه، فقد نشأ × في مجتمع كثرت فيه المفاسد، وعمت فيه الرذائل: فالبغاء، والاستبضاع، والزنى الجماعي، والإفرادي، ونكاح أسبق الرجال ممن مات زوجها، والاعتداء على الأعراض والأموال والدماء، كل ذلك كان شائعاً في قومه قبل الإسلام، لا ينكره أحد، ولا تحاربه جماعة، هذا بالإضافة إلى وَأْدِ البنات، وقتل الأولاد خشية الفقر أو العار، ولعب الميسر، وشرب الخمر، أمور تعد في الجاهلية من المفاخر والتباهي، وليس من شرط أن يكون المجتمع كله يرتكب هذه الجرائم، وإنما عدم إنكارها هو دليل على الرضى بها، وهذا ما يدعو إلى انتشارها إلى جانب الأفكار الأخرى.
والنبي × لم يعمل أي عمل أو يباشر أي خلق من هذه الأخلاق الرذيلة، بل قد اتصف بجميع مكارم الأخلاق بين قومه، فكان صادقاً لا يعرف الكذب، أميناً لا يعرف الخيانة، وفيًّا لا يعرف الغدر، حتى كان معروفاً في مجتمعه بهذه الصفات مميزاً بها عن غيره، ولا يجهل ذلك أحد ممن عرفه، ولا يساويه في ذلك أحد من خلق اللَّه، ولا ينكر ذلك أحد، سواء كان عدوًّا أو غيره، ولا يمكن أن يتهمه خصم، فقد بُعِثَ × وناصَبَهُ قومه العداء، ولكن لم يستطع واحد منهم أن يتهمه بصفة غير لائقة أو خلق يعيبه به، ولو عرفوا شيئاً من ذلك – وقد عاش بينهم أربعين عاماً – لأراحهم من التنقيب عن خصلة غير حميدة يتهمونه بها عندما يحل الموسم، ويلتقي بالناس في الحج حتى يبعدوه عنهم فعجزوا عن ذلك، ووجدوا أن كلمة ((ساحر)) هي أنسب الصفات التي يطلقونها عليه حيث يفرق بدعوته إلى اللَّه بين الأب وابنه، والأخ وأخيه، والرجل وزوجته، واتهموه بالجنون؛ لأنه خالف شركهم ودعا إلى عبادة اللَّه وحده، ولم يستطيعوا أن يأتوا بأي خلق رذيل فينسبوه إليه ×، وعندما سألهم × عن صدقه قالوا: ((ما جربنا عليك كذباً))( )، ولهذا لُقِّبَ بين قومه بـ ((محمد الأمين))( ).
فالصدق والأمانة من أولى الأخلاق وأحكم السلوك، التي يجب على الدعاة إلى اللَّه الاتصاف والتخلِّق بها، والصدق يكون في: القول، والنية، والعزم، والعمل.
فالصدق في القول هو أشهر أنواع الصدق، ويكون بالإخبار، فإن نقل الداعية أو غيره من المسلمين خلاف الواقع وما هو عليه فهو كاذب ومفتر، ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ ( ).
وقال ×: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان))( ).
والصدق في النية: الإخلاص في العمل لوجه اللَّه تعالى.
والصدق في العزم على العمل؛ كأن يقول المسلم: لئن عافاني اللَّه لأتصدقنّ في سبيله بكذا، فإذا عوفي دخل الصدق بالوفاء فيما نذر به.
وقد ذم اللَّه عدم الصدق بالوفاء بالعهد: ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ، فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ﴾( ).
والصدق في العمل: يكون بأن لا يختلف ظاهر الداعية المسلم عن باطنه( )، فما أجمل وما أحسن، وما أحكم، وما أكرم من سار على هديه × واتبع سلوكه الحكيم، وكل سلوكه حكيم × وكيف لا يكون كذلك وهو الذي بعثه اللَّه رحمة للعالمين، متمماً لمكارم الأخلاق، قال ×: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق))( ).
وسُئلت عائشة ’ عن خلقه، فقالت: ((فإن خلق نبي اللَّه × كان القرآن))( ).
ولنا فيه خير أسوة ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾( )، فحريٌّ بالداعية أن يلتزم سلوكه، وبذلك يكون حكيماً في دعوته، موافقاً للصواب بإذن اللَّه تعالى.
المسلك الثاني: أصول السلوك الحكيم
لقد جعل اللَّه للسلوك الحكيم قواعد عظيمة، إذا التزمها الداعية إلى اللَّه كان ذلك من أسباب توفيق اللَّه لـه، واكتسابه الحكمة، ومن أجمع الآيات في هذا الشأن، قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ ( ).
وهذه الآية من أعظم قواعد السلوك الحكيم وأصوله العظيمة، فهي جامعة لجميع المأمورات والمنهيات، لم يبق شيء إلا دخل فيها، وهذه قاعدة ترجع إليها سائر الجزئيات، فكل مسألة مشتملة على عدل، أو إحسان، أو إيتاء ذي قربى، فهي مما أمر اللَّه به. وكل مسألة مشتملة على فحشاء، أو منكر، أو بغي، فهي مما نهى اللَّه عنه.
وبهذا يُعْلَم حسن ما أمر اللَّه به، وقبح ما نهى عنه، وبها يعتبر ما عند الناس من الأقوال، وترد إليها سائر الأحوال( ).
فهذه الأوامر والنواهي جمعت فضائل الأخلاق والآداب، وأنواع التكاليف التي رسمها اللَّه وحث عليها، لما فيها من إصلاح النفوس، وصلاح حال الأمم والشعوب( )؛ ولهذا قال عبد اللَّه بن مسعود : ((أجمع آية في كتاب اللَّه للخير والشر الآية التي في النحل)): ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ... ﴾ الآية( ).
والداعية المسلم من أولى الناس بتطبيق هذا السلوك الحكيم، فيكون عدلاً محسناً، واصلاً لأقربائه، مبتعداً عن الفحشاء والمنكر، والبغي.
والعدل: ضد الجور( )، وهو إعطاء المرء ما لـه وأخذ ما عليه( ) وأنواعه ثلاث:
( أ ) العدل بين العبد وربه، وهو: إيثار حق اللَّه على حظ نفسه، وتقديم رضاه على هواه، والامتثال للأوامر، والاجتناب للزواجر.
(ب) العدل بين العبد وبين نفسه: منعها عما فيه هلاكها ودمارها، وإلزامها بتقوى اللَّه في السر والعلن.
(ج) العدل بين العبد وبين الخلق: ببذل النصيحة، وترك الخيانة فيما قل وكثر، والإنصاف من النفس بكل وجه، ولا يكون من الداعية إلى أحد مساءة بقول أو فعل، والصبر على ما يحصل منهم من البلوى، ويعامل الخلق بالعدل التام، فيؤدي كل ما عليه( ).
والإحسان: مصدر أحسن يحسن إحساناً، وهو على معنيين( ):
( أ ) أحدهما متعد بنفسه، كقولك: أحسنت كذا، أي: حسَّنته وكمَّلته، وهو منقول بالهمزة، من: حسن الشيء، وهذا المعنى يدل عليه حديث جبريل: ((الإحسان أن تعبد اللَّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))( ).
وهذا المعنى راجع إلى إحسان العبادة وتكميلها وتحسينها، والقيام بها كما يحب اللَّه – تعالى – على الوجه الأكمل، ومراقبة اللَّه فيها واستحضار عظمته وجلاله: حالة الشروع فيها، وحالة الاستمرار.
(ب) والمعنى الثاني: متعد بحرف جر، كقولك: أحسنت إلى فلان، أي: أوصلت إليه ما ينتفع به، وهذا إيصال المنافع بأنواعها إلى الخلق، ويدخل في ذلك حتى الإحسان إلى الحيوانات( ).
ومن قواعد السلوك الحكيم التي تشتمل على عدة من أمهات الحكم العالية( ) قوله تعالى: ﴿لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً، وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾... الآيات، إلى قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ﴾ ( ).
فبين اللَّه في هذه الوصايا الحكيمة قواعد السلوك الحكيم، وبدأه بقاعدة التوحيد؛ ليقيم على هذه القاعدة البناء الاجتماعي كله، وآداب العمل والسلوك فيه، كما تربط بهذه العروة الوثقى جميع الروابط؛ فإن جميع ما في الحياة لا يقوم بناؤه إلا بالتوحيد، وكل سلوك لا يقوم ولا يستند إلى توحيد اللَّه لا تقوم لـه قائمة، ولا يطلق عليه سلوكاً حكيماً، بل سلوكاً جاهليًّا( ).
وهذه الوصايا في سورة الإسراء من أعظم ما تكتسب به الحكمة، قال الإمام الشوكاني: ((وترتقي إلى خمسة وعشرين تكليفاً))( ).
فاشتملت هذه الوصايا على خمس وعشرين حكمة، الأخذ بها خير من الدنيا وما فيها، والتفريط بها هو سبب خسران الدنيا والآخرة( ).
ويختم اللَّه الأوامر والنواهي في الوصايا كما بدأها بربطها باللَّه وعقيدة التوحيد والتحذير من الشرك، وبيان أن هذه المذكورات بعض الحكمة التي يهدي إليها القرآن الذي أوحاه اللَّه إلى رسوله ×: ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا﴾، وهو ختام يشبه الابتداء، فتجيء محبوكة الطرفين، موصولة بالقاعدة الكبرى التي يقيم عليها الإسلام الحياة، قاعدة: توحيد اللَّه وعبادته وحده دون ما سواه( ).
وبهذا يُعلم أن من عمل بهذه القواعد، والتزم هذا السلوك الحكيم قد سلك أعظم طرق اكتساب الحكمة؛ لأن الحكمة معرفة الحق والصواب والعمل به، ولهذا قال تعالى بعد أن ذكر الوصايا العشر في سورة الأنعام: ﴿وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾( ).
المسلك الثالث: وصايا الحكماء باكتساب الحكمة
الحكماء الذين آتاهم اللَّه الحكمة يوصون باكتساب أصول الحكم التي من التزمها وعمل بها بإخلاص وصدق وفقه اللَّه لاكتساب الحكمة، ومن ذلك ما أخبر اللَّه به عن لقمان الحكيم ووصاياه الحكيمة التي آتاه اللَّه إياها، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾... الآيات إلى قوله تعالى: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ ( ).
هذه وصية حكيم لابنه، فهي نصيحة مبرأة من العيب، وصاحبها قد أوتي الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً، وهي تجمع أمهات الحكم، وتستلزم ما لم يذكر منها، وكل وصية من وصايا هذا الحكيم لابنه يقرن بها ما يدعو إلى فعلها إن كانت أمراً، وإلى تركها إن كانت نهياً، وهذا يدل على أن الحكمة هي: العلم بالأحكام، وحكمها، ومناسباتها، ووضع الأشياء مواضعها.
ومن فضل اللَّه على عباده ومنّته أن قص عليهم هذه الحكم حتى يعملوا بها ويكتسبوها بفضله تعالى، وهذا الحكيم أمر ابنه بأصل الدين وهو التوحيد، ونهاه عن الشرك باللَّه، وبين لـه الموجب لتركه، وأمره ببر الوالدين، وبين لـه السبب الموجب لبرهما، وأمره بشكر اللَّه وشكرهما، ثم احترز بأن محل برهما وامتثال أوامرهما ما لم يأمرا بمعصية، ومع ذلك فلا يعقهما بل يحسن إليهما، وأن لا يطيعهما إذا جاهداه على الشرك، وأمره بمراقبة اللَّه وخوّفه القدوم عليه، وأنه تعالى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الخير والشر إلا أتى بها، فصور له عظمة علم اللَّه، ودقة شموله، وإحاطته تصويراً يرتعش لـه الوجدان البشري، وأوصاه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد ما أمره بتكميل نفسه بفعل الخير وترك الشر، حتى يحصل الكمال لغيره بعد كمال نفسه، ولما علم هذا الحكيم أنه لابد أن يُبتلى إذا أمر ونهى، وأن في الأمر والنهي مشقة على النفوس أمره بالصبر على ما يحصل لـه من المشقة والأذى؛ فإنه لابد وأن يواجه المتاعب التي يواجهها صاحب العقيدة الصحيحة، وبين لـه أن ذلك من الأمور التي يعزم عليها، ويهتم بها، ولا يقف لها إلا أهل العزائم؛ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الصبر يسهل اللَّه بذلك كل أمر عسير، كما قال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ﴾ ( ).
ومع ذلك كله من الأمر بجميع الحكم السابقة لم يغفل هذا الحكيم عن وصية ابنه بالآداب السامية، فنهاه عن التكبر، وأمره بالتواضع، ونهاه عن البطر والأشر والمرح، وأمره بالسكون في الحركات والأصوات، ونهاه عن ضد ذلك حتى لا يتطاول على الناس فيفسد بالقدوة ما يصلح الكلام.
فحقيق بمن أوصى بهذه الوصايا، وهذا السلوك الحكيم أن يكون مخصوصاً بالحكمة، مشهوراً بها، وحقيق بمن التزم هذه الوصايا – بصدق وإخلاص ورغبة فيما عند اللَّه – أن يؤتيه اللَّه الحكمة، ويوفقه للصواب في القول والعمل( ).
ومما يبين أن الإنسان يكتسب الحكمة بتوفيق اللَّه ثم بالتزامه للسلوك الحكيم – رغبة فيما عند اللَّه وطلباً لرضاه – ما ذُكِرَ من الأسباب التي اكتسب بها لقمان الحكمة بعد توفيق اللَّه لـه وتسديده، ومن ذلك: أنه وقف رجل على لقمان، فقال لـه: أنت لقمان، أنت عبد بني النحاس؟ قال: نعم، قال: فأنت راعي الغنم الأسود؟ قال: أما سوادي فظاهر، فما الذي يعجبك من أمري؟ قال: وطء الناس بساطك، وغشيهم بابك، ورضاهم بقولك. قال: يا ابن أخي إن أنت صنعت ما أقول لك كنت كذلك، قال: وما هو؟ قال لقمان: ((غَضِّي بصري، وكفِّي لساني، وعفَّة طعمتي، وحفظي فرجي، وقيامي بعدتي، ووفائي بعهدي، وتكرمتي ضيفي، وحفظي جاري، وتركي ما لا يعنيني، فذاك الذي صيَّرني كما ترى))( ).
وسأله آخر عن السبب الذي بلغ به الحكمة، فقال: ((قدر اللَّه، وأداء الأمانة، وصدق الحديث، وترك ما لا يعنيني))( ).
وسأله آخر، فقال: ((صدق الحديث، والصمت عما لا يعنيني))( ).
وهذه الأخلاق الكريمة، والسلوك الحكيم يزخر بها كتاب اللَّه وسنة رسوله ×، وليست من قول لقمان وحده، فاتضح بذلك أن الداعية إلى اللَّه وغيره من المسلمين إذا سلك هذه المسالك اكتسب الحكمة بعون اللَّه تعالى.
المطلب الثاني: العمل بالعلم المقرون بالصدق والإخلاص
العمل بالعلم بإخلاص، وصدق، ورغبة في رضى اللَّه من أعظم المطالب التي تكتسب بها الحكمة بتوفيق اللَّه وتسديده وفضله وإحسانه.
والعلم هو ما قام عليه الدليل، وهو النقل المصدق والبحث المحقق، والنافع منه ما جاء به الرسول ×: علم الكتاب والسنة، والمطلوب من الإنسان هو فهم معانيهما، والعمل بما فيهما، فإن لم تكن هذه همة حافظ القرآن وطالب السنة لم يكن من أهل العلم والدين( ).
ولهذا كانت الحكمة عند العرب هي العلم النافع والعمل الصالح( ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه اللَّه -: ((قال غير واحد من السلف: الحكمة معرفة الدين والعمل به))( ).
والعلم بلا عمل حجة على صاحبه يوم القيامة، ولهذا حذر اللَّه المؤمنين أن يقولوا ما لا يفعلون، فقال : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾ ( ).
ومثل من يتعلم العلم ويزداد منه ولا يعمل به مثل رجل احتطب حطباً فحزم حزمة، ثم ذهب يحملها فعجز عنها، فضم إليها أخرى( ).
والداعية لا يكون حكيماً في دعوته ما لم يعمل بعلمه، ولهذا ينفر الناس عنه، وتزل موعظته من القلوب، كما يزل القطر من الصفا؛ لأن الكلام – في الغالب – إذا خرج من القلب وقع في القلب، وإذا خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان( )، قال الشاعر:
يا أيها الرجل المعلم غيره
هلا لنفسك كان ذا التعليم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيِّها
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يُقبل ما تقول ويُقتدى
بالعلم منك وينفع التعليم
تصف الدواء لذي السقام من الضنا
كيما يصح به وأنت سقيم
أراك تلقح بالرشاد عقولنا
نصحاً وأنت من الرشاد عديم
لا تنهَ عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم( )
والعمل بالعلم لابد فيه من الإخلاص، والإخلاص لابد أن يقصد به وجه اللَّه، ومحبته، ورضاه، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية ‘: ((حُكيَ أن أبا حامد بلغه أن من أخلص للَّه أربعين يوماً تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، قال: فأخلصت أربعين يوماً، فلم يتفجر شيء، فذكرت ذلك لبعض العارفين فقال لي: إنك أخلصت للحكمة، لم تُخْلِصْ للَّه))( ).
وذلك أن الإنسان قد يكون مقصوده نيل العلم والحكمة، أو نيل المكاشفات والتأثيرات، أو نيل تعظيم الناس لـه ومدحهم إياه، أو غير ذلك من المطالب.
وقد عرف أن ذلك لم يحصل بالإخلاص للَّه، وإرادة وجهه، فإذا قصد أن يطلب ذلك بالإخلاص للَّه وإرادة وجهه كان متناقضاً؛ لأن من أراد شيئاً لغيره فالثاني هو المراد المقصود بذاته، والأول يراد لكونه وسيلة إليه، فإذا قصد أن يخلص؛ ليصير عالماً، أو عارفاً، أو ذا حكمة، أو متشرفاً بالنسبة إليه، أو صاحب مكاشفات وتصرفات، ونحو ذلك، فهو هنا لم يرد اللَّه، بل جعل اللَّه وسيلة لـه إلى ذلك المطلوب الأدنى، وإنما يريد اللَّه ابتداء من ذاق حلاوة محبته وذكره( ).
وقال ابن تيمية ‘: ((وقد روي: إذا زهد العبد في الدنيا وكل اللَّه – سبحانه – بقلبه ملكاً يغرس فيه آثار الحكمة، كما يغرس أكار( ) أحدكم الفسيل في بستانه))( ).
أما من لم يعمل بالعلم، أو عمل به ولكنه لم يخلص في ذلك فهذا بعيد عن إيتاء الحكمة التي من أوتيها فقد أُوتي خيراً كثيراً؛ ولهذا قال الشاعر:
وكيف يصح أن تُدعى حكيماً
وأنت لكل ما تهوى ركوب( )
المطلب الثالث: الاستقامة
الاستقامة: كلمة جامعة تشمل الدين كله، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ ( ). وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ( )، وقال تعالى للنبي ×: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ ( ).
وعن سفيان بن عبد اللَّه قال: قلت: يا رسول اللَّه، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك! قال: ((قل: آمنت باللَّه، ثم استقم))( ).
والمطلوب من العبد المسلم وخاصة الدعاة إلى اللَّه: الاستقامة، وهي السداد؛ فإن لم يقدر فالمقاربة، فإن نزل عن المقاربة فلم يبق إلا التفريط والضياع.
فعن أبي هريرة عن النبي × أنه قال: ((سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله))، قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني اللَّه برحمة منه وفضل))( ).
فجمع هذا الحديث مقامات الدين كلها، فأمر بالاستقامة وهي: السداد والإصابة في النيات والأقوال والأعمال، وعلم النبي × أنهم لا يطيقون الاستقامة، فنقلهم إلى المقاربة، وهي أن يقرب الإنسان من الاستقامة بحسب طاقته، كالذي يرمي إلى الهدف، فإن لم يصبه يقاربه، ومع هذا أخبرهم × أن الاستقامة والمقاربة لا تنجي يوم القيامة، فلا يعتمد أحد على عمله، ولا يعجب به، ولا يرى أن نجاته به، بل إنما نجاته برحمة اللَّه، وعفوه، وفضله، فالاستقامة كلمة آخذة بمجامع الدين كله، وهي القيام بين يدي اللَّه على حقيقة الصدق، والوفاء بالعهد، وهي تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات.
والداعية إلى اللَّه يجب أن يكون من أعظم الناس استقامة، وبهذا – بإذن اللَّه تعالى – لا يُخيِّب اللَّه سعيه، ويجعل الحكمة على لسانه، وفي أفعاله، وتصرفاته، وهو تعالى ذو الفضل والإحسان( ).
وأعظم الكرامة لزوم الاستقامة، وبذلك يقبل قول الداعية، ويقتدى بأفعاله، فيعطى بذلك خيراً كثيراً، وثواباً جزيلاً؛ لإخلاصه وصدق نيته، ورغبته فيما عند اللَّه ، ويحصل على أحسن قول وعمل على الإطلاق، كما قال : ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ ( ).
إن كلمة الدعوة حينئذ هي أحسن كلمة تقال في الأرض، وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء، ولكن مع العمل الصالح الذي يصدق الدعوة، ومع الاستسلام الكامل للَّه وحده، والاعتزاز بالإسلام.
وبهذا يُعلم أن هذه الآية اشتملت على ثلاثة شروط حتى يكون الداعية لا أحد أحكم ولا أحسن قولاً منه في الدنيا أبداً:
الشرط الأول: دعوته إلى اللَّه – تعالى – بأن يُعبد وحده، فَيُطاع فلا يُعصى، ويُذكرَ فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر.
الشرط الثاني: عمل الداعية الصالحات بأداء الفرائض، واجتناب المحارم، والقيام بالمستحبات، والابتعاد عن المكروهات، فهو مع دعوته الخلق إلى اللَّه يبادر هو بنفسه إلى امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
الشرط الثالث: اعتزاز الداعية بالإسلام وانقياده لأمره شكراً لربه؛ ولأنه على الحق الواضح المبين، فإذا قام الداعية بهذه الشروط الثلاثة، فلا أحد أحسن قولاً منه( ).
ولكن قد يحصل للداعية ما يصده عن دعوته من شياطين الإنس، وشياطين الجن، فبين اللَّه أن المخرج من شياطين الإنس بالإحسان إليهم، ومعاملتهم باللين، والعفو عنهم، والإعراض عن جهلهم وإساءتهم.
أما شياطين الجن فلا منجى منهم إلا بالاستعاذة منهم باللَّه وحده( )، قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ، وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾( ).
ولاشك أن الداعية إذا سلك هذه المسالك الحكيمة اكتسب الحكمة بتوفيق اللَّه تعالى.
المطلب الرابع: الخبرات والتجارب
التجربة لها الأثر العظيم في اكتساب المهارات والخبرات، وهي من أعظم طرق اكتساب الحكمة، والتجربة لا تُخرِج الحكمة عن كونها فضل اللَّه يؤتيه من يشاء؛ فإنه المعطي الوهاب ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾( )، ولكنه سبحانه جعل لكل شيء سبباً يوصل إليه.
والتجربة في العلم اختبار منظم لظاهرة أو ظواهر يراد ملاحظتها ملاحظة دقيقة منهجية؛ للكشف عن نتيجة ما، أو تحقيق غرض معين، وما يعمل أولاً لتلافي النقص في شيء وإصلاحه( )، ويُقال: جربه تجربة: اختبره، ورجل مجرب، كمعظم: بُلِيَ ما كان عنده، ومجرب: عرف الأمور( )، تقول: جربت الشيء تجريباًً: اختبرته مرة بعد أخرى، والاسم التجربة، والجمع التجارب( ).
وعن معاوية قال: ((لا حكيم إلا ذو تجربة))( ).
ومن المعلوم أن الحكيم لابد لـه من تجارب قد أحكمته، ولهذا قيل: ((لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة))( ).
والمعنى: لا حليم إلا صاحب زلة قدم، أو لغزة قلم في تقريره أو تحريره. وقيل: لا حليم كاملاً إلا من وقع في زلة، وحصل منه الخطأ والتخجل، فعفي عنه فعرف به رتبة العفو، فيحلم عند عثرة غيره؛ لأنه عند ذلك يصير ثابت القدم، ولا حكيم كاملاً إلا من جرب الأمور، وعلم المصالح والمفاسد؛ فإنه لا يفعل فعلاً إلا عن حكمة، إذ الحكمة إحكام الشيء وإصلاحه عن الخلل( )، والحكيم هو المتيقظ المتنبه، أو المتقن للحكمة الحافظ لها( ).
والحكمة من أثمن نتائج التمييز والتفكير، وهي زبدة العلم والاختبار، فالعلم يخطط الأسس النظرية، ثم يكتمل ويصقل بالخبرة العملية المبنية على المران والتجارب، ولهذا كان العلماء الأحداث بسبب قلة تجاربهم أنقص حكمة، وأقل رسوخاً في العلم من كبار العلماء الراسخين في العلم( ).
وبهذا يعلم أن الداعية إلى اللَّه إذا خالط الناس، وعرف عاداتهم وتقاليدهم، وأخلاقهم الاجتماعية، ومواطن الضعف والقوة، سيركز على ما ينفع الناس، ويضع الأشياء في مواضعها؛ لأنه قد جربهم، فالتجارب تنمي المواهب والقدرات، وتزيد البصير بصراً، والحليم حلماً، وتجعل العاقل حكيماً، وقد تشجع الجبان، وتسخي البخيل، وقد تُليِّن قلب القاسي، وتقوِّي قلب الضعيف، ومن زادته التجارب عمىً إلى عماه، فهو من الحمقى الذين قد طبع اللَّه على قلوبهم، فهم لا يفقهون( ).
وأعظم الناس تجربة، وأكملهم حكمةً: الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام؛ لأنهم صفوة البشر اصطفاهم اللَّه ورباهم، ثم أرسلهم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومع هذا ما بعث اللَّه من نبي إلا رعى الغنم، كما قال ×: ((ما بعث اللَّه نبيّاً إلا رعى الغنم))، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: ((نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة))( ).
وفي رواية: قالوا: أكنت ترعى الغنم؟ قال: ((وهل من نبي إلا وقد رعاها؟))( ).
والحكمة من ذلك – واللَّه أعلم – أن اللَّه يلهم الأنبياء قبل النبوة رعي الغنم؛ ليحصل لهم التمرين والتجربة برعيها على ما يُكلَّفُونه من القيام بأمر أمتهم؛ ولأن في مخالطتها ما يُحصِّل لهم الحلم والشفقة، كما قال ×: ((أتاكم أهل اليمن هم أرقُّ أفئدةً وألين قلوباً. الإيمانُ يَمانٍ، والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم))( )، ولأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طبائعها، وشدة تفرقها مع ضعفها، واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طبائعهم وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة، لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم، وخصت الغنم بذلك؛ لكونها أضعف من غيرها؛ ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر، لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقياداً من غيرها( ).
ثم بعد رعيهم الغنم جربوا الناس، وعرفوا طبائعهم، فازدادوا تجارب إلى تجاربهم، ولهذا قال موسى × لمحمد × عندما فرضت عليه الصلاة خمسون صلاة في كل يومٍ ليلة الإسراء والمعراج: ((إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني واللَّه قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك...)) فما زال النبي × يراجع ربه، ويضع عنه حتى أُمِرَ بخمس صلوات كل يوم( ).
فموسى × قد جرب الناس، وعلم أن أمة محمد × أضعف من بني إسرائيل أجساداً، وأقل منهم قوةً، والعادة أن ما يعجز عنه القوي فالضعيف من باب أولى( ).
فالداعية بتجاربه بالسفر، ومعاشرته الجماهير، وتعرفه على عوائد الناس وعقائدهم، وأوضاعهم، ومشكلاتهم، واختلاف طبائعهم وقدراتهم، سيكون لـه الأثر الكبير في نجاح دعوته وابتعاده عن الوقوع في الخطأ؛ لأنه إذا وقع في خطأ في منهجه في الدعوة إلى اللَّه، أو أموره الأخرى لا يقع فيه مرة أخرى، وإذا خُدع مرة لم يخدع مرة أخرى، بل يستفيد من تجاربه وخبراته، ولهذا قال ×: ((لا يُلدغ المؤمن من جحرٍ واحدٍ مرتين))( )، وقال: ((كلكم خطاء، وخير الخطائين التوابون))( ).
وإذا أراد الداعية أن يكتسب الحكمة من التجارب، فلابد لـه – لإصلاح المتدينين وتوجيههم – أن يعيش معهم في مساجدهم، ومجتمعاتهم، ومجالسهم، وإذا أراد إصلاح الفلاحين والعمال عاش معهم في قراهم ومصانعهم، وإذا أراد أن يصلح المعاملات التجارية بين الناس، فعليه أن يختلط بهم في أسواقهم، ومتاجرهم، وأنديتهم، ومجالسهم، وإذا أراد أن يصلح الأوضاع السياسية، فعليه أن يختلط بالسياسيين، ويتعرف إلى تنظيماتهم، ويستمع لخطبهم، ويقرأ لهم برامجهم، ثم يتعرف إلى البيئة التي يعيشون فيها، والثقافة التي حصلوا عليها، والاتجاه الذي يندفعون نحوه؛ ليعرف كيف يخاطبهم بما لا تنفر منه نفوسهم، وكيف يسلك في إصلاحهم بما لا يدعوهم إلى محاربته عن كره نفس واندفاع عاطفي، فيحرم نفسه من الدعوة إلى اللَّه، ويحرم الناس من علمه( )، وهذا يؤهله إلى أن يُحدِّثَ الناس بما يعرفون، ولا يحدثهم حديثاً لا تبلغه عقولهم، قال علي : ((حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَّبَ اللَّه ورسوله))( ).
وقال ابن مسعود : ((ما أنت بِمُحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة))( ).
وهكذا ينبغي أن يكوِّن الداعية من تجاربه في الحياة، ومعرفته بشؤون الناس ما يمكنه من اكتساب الحكمة، وتحقيق قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ ( ).
المطلب الخامس: السياسة الحكيمة
إذا سلك الداعية إلى اللَّه مسلك السياسة الحكيمة في دعوته إلى اللَّه تعالى، فسيكون لذلك عظيم الأثر في نجاح دعوته واكتسابه الحكمة، والوصول إلى الغاية المطلوبة بإذن اللَّه تعالى.
والنبي × هو أُسوتنا وقدوتنا، وإمام الدعاة إلى اللَّه، وقد سلك هذا المسلك، فنفع به العباد، وأنقذهم به من الشرك إلى التوحيد، وكان لسياسته الحكيمة عظيم النفع والأثر في نجاح دعوته، وإنشاء دولته، وقوة سلطانه، ورفعة مقامه، ولم يعرف في تاريخ السياسات البشرية أن رجلاً من الساسة المصلحين في أي أمة من الأمم كان لـه مثل هذا الأثر العظيم، ومَن مِن المصلحين المبرزين – سواء كان قائداً محنكاً، أو مربياً حكيماً – اجتمع لديه من رجاحة العقل، وأصالة الرأي، وقوة العزم، وصدق الفراسة، ما اجتمع في رسول اللَّه ×؟ ولقد برهن على وجود ذلك فيه: صحة رأيه، وصواب تدبيره، وحسن تأليفه، ومكارم أخلاقه، × ( ).
فإذا قام الداعية بسلوك هذا المسلك بإخلاص، وصدق وعزيمة، اكتسب من الحكمة في الدعوة إلى اللَّه مكتسباً عظيماً.
وطرق السياسة الحكيمة في الدعوة إلى اللَّه كثيرة، منها ما يأتي:
1- تحري أوقات الفراغ، والنشاط، والحاجة عند المدعوين حتى لا يملوا عن الاستماع، ويفوتهم من الإرشاد والتعليم النافع، والنصائح الغالية الشيء الكثير، وقد ثبت عن النبي × أنه كان يتخول أصحابه بالموعظة كراهة السآمة عليهم، فعن عبد اللَّه بن مسعود قال: ((كان النبي × يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا))( ).
ولهذا طبق الصحابة هذه السياسة، فقد كان عبد اللَّه بن مسعود يذكِّر الناس في كل خميس، فقال لـه رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي × يتخولنا بها مخافة السآمة علينا( ).
وقد ثبت عنه × أنه قال: ((يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تُنَفِّروا))( ).
2- ترك الأمر الذي لا ضرر في تركه ولا إثم، اتقاءً للفتنة، فقد يجد الداعية قوماً استقر مجتمعهم وعاداتهم على أشياء لا تخالف الشريعة؛ ولكن فعل غيرها أفضل، فإذا علم الداعية أنه سيحصل فتنة إذا دعا إلى ترك هذا الأمر أو فعله فلا حرج ألا يدعو، فقد ترك النبي × هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم × اجتناباً لفتنة قوم كانوا حديثي عهد بجاهلية، فعن عائشة ’ أن النبي × قال لها: ((يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت لـه بابين: باباً شرقيّاً، وباباً غربيّاً، فبلغت به أساس إبراهيم))( ).
وفي رواية: ((إن قومك قصرت بهم النفقة))، قلت: فما شأن بابه مرتفعاً؟ قال: ((فعل ذلك قومك لِيُدخِلوا من شاءوا، ويمنعوا من شاءوا، ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض))( ).
وهذا يدل الداعية على أن المصالح إذا تعارضت، أو تعارضت مصلحة ومفسدة، وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بُدِئَ بالأهم؛ لأن النبي × أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم × مصلحة، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه، وهو خوف فتنة بعض من أسلم قريباً، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة، فيرون تغييرها عظيماً، فتركها × لدفع هذه المفسدة( ).
3- تأليف القلوب بالمال والجاه أحياناً، فالداعية كالطبيب الذي يُشخِّص المرض أولاً، ثم يعطي العلاج على حسب نوع المرض، فإذا علم الداعية أن المدعو لم يرسخ الإيمان في قلبه رسوخاً لا تزلزله الفتن، فله أن يعطيه من المال ما يستطيعه، للاحتفاظ بالبقاء على الهداية بالإسلام، وقد شرع اللَّه للمؤلَّفة قلوبهم نصيباً من الزكاة، وقد كان رسول اللَّه × يسلك هذا المسلك، فيؤثر حديثي العهد بالإسلام بجانب من المال، إذا ظهر لـه أن الإيمان لم يرسخ؛ ولذلك أشار بقوله: ((إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه خشية أن يُكبّ في النار على وجهه))( ).
وقد كان × يعطي أشراف قريش وغيرهم من المؤلَّفة قلوبهم، لتلافي أحقادهم؛ ولأن الهدايا تجمع القلوب، وتجعل القلوب متهيئة للنظر في صدق الدعوة، وصحة العقيدة، والاستفادة من الآيات البيِّنات، والبراهين الواضحة( ).
وصدق × حيث قال: ((تهادوا تحابوا))( ).
وللتأليف بالمال أمثلة كثيرة من هديه × ( ).
والتأليف بالجاه من السياسة الحكيمة، ولهذا قال × للأنصار حينما آثر عليهم غيرهم في العطاء: ((أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول اللَّه ×؟ فواللَّه لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به))، فقالوا: بلى يا رسول اللَّه قد رضينا( ).
وفي رواية: ((لو سلك الناس وادياً أو شعباً، وسلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار أو شعب الأنصار))( ).
فإذا سلك الداعية هذه السياسة وُفِّق للصواب والحكمة – بإذن اللَّه تعالى -.
4- التأليف بالعفو في موضع الانتقام، والإحسان في مكان الإساءة، وباللين في موضع المؤاخذة، وبالصبر على الأذى، فكان يقابل الأذى بالصبر الجميل، ويقابل الحمق بالحلم والرفق، ويقابل العجلة والطيش بالأناة والتثبت.
وهذا من أعظم ما يجذب المدعوين إلى الإسلام والاستقامة والثبات، وبمثل هذه المعاملة الحسنة جمع النبي × قلوب أصحابه حوله، فتفانوا في محبته والدفاع عنه، وعن دعوته بمؤازرته ومناصرته.
وقد مدح اللَّه رسوله، وأمره بالعفو والصفح والاستغفار لمن تبعه من المؤمنين: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ ( )، ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ ( ).
5- عدم مواجهة الداعية أحداً بعينه عندما يريد أن يؤدبه أو يزجره، مادام يجد في الموعظة العامة كفاية، وهذا من السياسة البالغة في منتهى الحكمة، ولهذا كان النبي × يسلك هذا الأسلوب الحكيم، ومن ذلك قوله ×: ((ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه، فيتنخع أمامه، أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟ فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره تحت قدمه، فإن لم يجد فليفعل هكذا))، ووصف القاسم فتفل في ثوبه، ثم مسح بعضه على بعض( ).
وفقد × ناساً في بعض الصلوات، فقال: ((والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً يؤم الناس، ثم أخالف إلى رجالٍ [يتخلفون عنها] فأحرق عليهم بيوتهم))( ).
وقال ×: ((ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة))، فاشتد قوله في ذلك حتى قال: ((لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم))( ).
وصنع النبي × شيئاً فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي × فخطب، فحمد اللَّه، ثم قال: ((ما بال أقوام يتنزهون عن شيءٍ أصنعه، فواللَّه إني لأعلمهم باللَّه وأشدّهم لـه خشية))( ).
وقال: ((ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني))( ).
وبلغه شرط أهل بريرة ’ أن الولاء لهم بعد بيعها، ثم خطب الناس فقال: ((ما بال أناس يشترطون شروطاً ليست في كتاب اللَّه، من اشترط شرطاً ليس في كتاب اللَّه فليس لـه، وإن شرط مائة مرة، شرط اللَّه أحق وأوثق))( ).
وهذا يدل الداعية على أن من الحكمة عدم مواجهة الناس بالعتاب ستراً عليهم ورفقاً بهم، وتلطفاً.
والداعية يستطيع أن يوجه العتاب عن طريق مخاطبة الجمهور إذا كان المدعو المقصود بينهم ومن جملتهم، وهذا من أحكم الأساليب( ).
6- إعطاء الوسائل صورة ما تصل إليه، كقوله ×: ((من دل على خير فله مثل أجر فاعله))( ).
فقد صور × الدلالة على فعل الخير في صورة الفعل نفسه.
وكقوله ×: ((من جهز غازياً فقد غزا))( ).
وقال ×: ((إن من الكبائر أن يلعن الرجل والديه)) قيل: يا رسول اللَّه: وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: ((يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمه))( ).
وهذا أصل في سد الذرائع، ويؤخذ منه أن من آل فعله إلى محرم يحرم عليه ذلك الفعل، وإن لم يقصد إلى ما يحرم( )، كما قال تعالى: ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ ( )، فقد أعطى النبي × من يسب أبا الغير وأمه صورة من يسب والديه؛ لأنه تسبب في سبهما.
7- أن يجيب الداعية على السؤال الخاص بما يتناوله وغيره حتى يكون ما أجاب به قاعدة عامة للسائل وغيره، قال عمرو بن العاص: لما جعل اللَّه الإسلام في قلبي أتيت النبي × فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: ((مالك يا عمرو؟)) قال: قلت: أردت أن أشترط، قال: ((تشترط بماذا؟)) قلت: أن يُغفر لي، قال: ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله..)) ( ).
فأجاب × بما يفيد عدم المؤاخذة عن كل من اعتنق الإسلام، وعن كل من هاجر، وعن كل من حج حجًّا مبروراً، وقد كان يكفيه في الجواب أن يقول: غُفِرَ لك، أو نحوها( ).
وقال × لمن سأله عن ماء البحر: ((هو الطهور ماؤه، الحل ميتته))( ).
فأجاب × السائل عن الحكم الذي سأل عنه، وزاده حكماً لم يسأل عنه، وهو حل ميتة البحر، فعندما عرف × اشتباه الأمرِ على السائل في ماء البحر أشفق أن يشتبه عليه حكم ميتته، وقد يُبْتَلَى بها راكب البحر، فعقّب الجواب عن سؤاله ببيان حكم الميتة، وذلك من محاسن الفتوى أن يُجاء في الجواب بأكثر مما سُئِلَ عنه تتميماً للفائدة، وإفادة لعلمٍ غير المسئول عنه، ويتأكد عند ظهور الحاجة إلى حكم كما هنا؛ لأن من توقف في طهورية ماء البحر فهو عن العلم بحل ميتته مع تقدم تحريم الميتة أشد توقفاً( ).
8- ضرب الأمثال، قال ×: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه))( ).
وقد مثل النبي × المؤمنين في تبادل الرحمة والمودة والعطف بالجسد في روابطه العضوية، إذا مرض عضو مرضت باقي الأعضاء، فقال: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى لـه سائر الجسد بالسهر والحمى))( ).
ومثلهم النبي × في الحديث الذي قبل هذا في التعاون على البر والتقوى والتكاتف بالبنيان يشد بعضهم بعضاً كشد البنيان( ).
ومن المعلوم يقيناً أن الداعية إذا سلك هذه المسالك اكتسب الحكمة بعون اللَّه – تعالى – ووفق لهدي النبي × في دعوته، وسدد في قوله وفعله بتوفيق اللَّه سبحانه.
المطلب السادس: فقه أركان الدعوة إلى اللَّه تعالى
لا يكون الداعية حكيماً في دعوته إلى اللَّه – تعالى – إلا بفقه وإتقان ركائز الدعوة وأسسها التي تقوم عليها، حتى يسير في دعوته على بصيرة، ولاشك أن فهم هذه الأركان يدخل في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾( )، فلابد من معرفة الداعية لما يدعو إليه، ومن هو الداعي، وما هي الصفات والآداب التي ينبغي أن تتوفر في الداعية؟ ومن هو المدعو، وما هي الوسائل والأساليب التي تستخدم في نشر الدعوة وتبليغها؟ هذه هي أركان الدعوة: الموضوع، والداعي، والمدعو، والأساليب والوسائل.
المسلك الأول: موضوع الدعوة ((ما يدعو إليه الداعية)):
موضوع الدعوة: هو دين الإسلام ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ﴾( ). ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾( ).
وهذا ما فَصَّله حديث جبريل في ذكر أركان الإسلام: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمداً رسول اللَّه، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)). وأركان الإيمان: ((أن تؤمن باللَّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)). والإحسان: ((أن تعبد اللَّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك))( ).
ولاشك أن الإسلام اختص بخصائص عظيمة منها:
1- الإسلام من عند اللَّه تعالى:
2- شامل لجميع نظم الحياة وسلوك الإنسان، ومن هذه النظم: نظام الأخلاق، ونظام المجتمع، والإفتاء، والحسبة، والحكم، والاقتصاد، والجهاد، ونظام الجريمة والعقاب، وذلك كله قائم على الرحمة، والعدل، والإحسان.
3- عام لجميع البشرية في كل زمان ومكان: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾( ).
4- وهو من حيث الجزاء: - الثواب والعقاب الذي يصيب مُتَّبِعَهُ أو مخالفه – ذو جزاء أُخرويّ بالإضافة إلى جزائه الدنيوي إلا ما خصه الدليل.
5- والإسلام يحرص على إبلاغ الناس أعلى مستوى ممكن من الكمال الإنساني: وهذه مثالية الإسلام، ولكنه لا يغفل عن طبيعة الإنسان وواقعه، وهذه هي واقعية الإسلام.
6- الإسلام وسط: في عقائده، وعباداته، وأخلاقه، وأنظمته، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾( ).
كما يلزم الداعية فهم مقاصد الإسلام التي دلت عليها الشريعة الإسلامية: وهي تحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد والأضرار عنهم في العاجل والآجل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ‘: (إن الشريعة الإسلامية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها) ( ).
وبالجملة فإن الشريعة الإسلامية مدارها على ثلاث مصالح:
المصلحة الأولى: درء المفاسد عن ستة أشياء: الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والعرض، والمال.
المصلحة الثانية: جلب المصالح: فقد فتح القرآن الأبواب لجلب المصالح في جميع الميادين، وسد كل ذريعة تؤدي إلى الضرر.
المصلحة الثالثة: الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، فالقرآن حل جميع المشاكل العالمية التي عجز عنها البشر، ولم يترك جانباً من الجوانب التي يحتاجها البشر في الدنيا والآخرة إلا وضع لها القواعد، وهدى إليها بأقوم الطرق وأعدلها( ).
فالداعية الحكيم هو الذي يدعو إلى ما تقدم من أركان الإسلام، وأصول الإيمان، والإحسان، ويبين للناس جميع ما جاء في القرآن والسنة: من العقائد، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق، بالتفصيل والشرح والتوضيح( ).
المسلك الثاني: الداعي:
لابُدّ للداعية من معرفة هذا الأصل بشروطه، وما هي عدة الداعية وسلاحه، وما هي وظيفته، وأخلاقه. وفهم ذلك من أهم المهمات للداعية. وإليك التفصيل بإيجاز:
1- وظيفة الداعية:
وظيفة الداعية إلى اللَّه – تعالى – هي وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام، والرسل هم قدوة الدعاة إلى اللَّه، وأعظمهم محمد ×، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾( ). ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ﴾( ). وقال سبحانه: ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾( ). وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ﴾( ).
والأمة شريكة لرسولها في وظيفة الدعوة إلى اللَّه، فالآيات التي تأمره × بالدعوة إلى اللَّه يدخل فيها المسلمون جميعاً؛ لأن الأصل في خطاب اللَّه تعالى لرسوله × دخول أمته فيه إلا ما استُثْني، وليس من هذا المستثنى أمر اللَّه تعالى بالدعوة إليه. قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ ( ).وقد جعل اللَّه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخص أوصاف المؤمنين، كما قال سبحانه: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾( ). وبهذا يتضح أن المكلف بالدعوة إلى اللَّه هو كل مسلم ومسلمة على قدر الطاقة، وعلى قدر العلم، ولا يختص العلماء بأصل هذا الواجب؛ لأنه واجب على الجميع كل بحسبه، وإنما يختص أهل العلم بتبليغ تفاصيل الإسلام، وأحكامه، ومعانيه الدقيقة، ومسائل الاجتهاد، نظراً لسعة علمهم، ومعرفتهم بالمسائل، والجزئيات، والأصول، والفروع.
ومما يزيد الأمر وضوحاً قوله تعالى: ﴿قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾( ). فبين سبحانه أن أتباع الرسول × هم الدعاة إلى اللَّه، وهم أهل البصائر، كما كان الرسول × يدعو إلى اللَّه على بصيرة وعلم ويقين. ( )
والدعوة إلى اللَّه واجبة على كل مسلم ومسلمة كلٌّ بحسبه، وهي تؤدى على صورتين:
الصورة الأولى: فردية، يقوم بها المسلم على صفة فردية بحسب طاقته، وقدرته، وعلمه، كما قال ×: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))( ).
الصورة الثانية: بصفة جماعية، فتكون فرقة متصدية لهذا الشأن، كما قال تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ( ).
2- عدة الداعية وسلاحه:
يحتاج الداعية إلى اللَّه – تعالى – في أداء مهمته ووظيفته إلى عُدة وسلاح قوي، منها:
1- الفهم الدقيق المبني على العلم قبل العمل، والقائم على تدبر معاني وأحكام القرآن الكريم، وفهم السنة النبوية الشريفة، ويرتكز هذا الفهم على عدة أمور من أهمها:
أ- فهم الداعية العقيدة الإسلامية فهماً صحيحاً متقناً بالأدلة من الكتاب، والسنة، وإجماع علماء أهل السنة والجماعة.
ب- فهم الداعية غايته في الحياة ومركزه بين البشر.
ج- تعلقه بالآخرة، وتجافيه عن دار الغرور.
2- الإيمان العميق المثمر: لمحبة اللَّه، وخوفه، ورجائه، واتباع رسوله × في كل أموره.
3- اتصال الداعية باللَّه – تعالى – في جميع أموره، وتعلقه به، وتوكله عليه، واستغاثته به، وإخلاصه لـه، والصدق معه في الأقوال والأفعال.
3- أخلاق الداعية وصفاته:
يحتاج الداعية إلى الأخلاق الحسنة والصفات الكريمة: وهي أخلاق الإسلام التي بينها اللَّه في كتابه وبينها رسوله × في سنته.
ومن أهم هذه الأخلاق والصفات التي ينبغي للداعية أن يلتزمها: الصدق، والإخلاص، والدعوة إلى اللَّه على بصيرة، والحلم، والرفق، واللين، والصبر، والرحمة، والعفو، والصفح، والتواضع، والوفاء، والإيثار، والشجاعة، والذكاء، والأمانة، والحياء المحمود، والكرم، والتقوى، والإرادة القوية التي تشمل قوة العزيمة، والهمة العالية، والتفاؤل، والنظام والدقة والمحافظة على الوقت، والاعتزاز بالإسلام، والعمل بما يدعو إليه؛ ليكون قدوةً صالحةً، والزهد، والورع، والاستقامة، وإدراك الداعية لما حوله، والقصد والاعتدال، والشعور بمعية اللَّه، والثقة باللَّه تعالى، والتدرج في الدعوة، والبدء بالأهم فالمهم، كما فعل النبي × وأمر بذلك معاذ بن جبل عندما أرسله إلى اليمن.
كما ينبغي للداعية أن يبتعد عن كل ما يضاد هذه الأخلاق من الأخلاق القبيحة.
ومن الأمور المهمة التي ينبغي للداعية أن يعتني بها، معرفة القواعد، والضوابط التي يجب مراعاتها والسير على ضوئها، حتى يكون الداعية مسدداً في دعوته. ومن ذلك: قول سفيان الثوري( ): <لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه خصال ثلاث: رفيق فيما يأمر به، رفيق فيما ينهى عنه، عدل فيما يأمر به، عدل فيما ينهى عنه، عالم بما يأمر به، عالم بما ينهى عنه>( ).
وقال الإمام محمد المقدسي: قال بعض السلف: <لا يأمر بالمعروف إلا رفيق فيما يأمر به، رفيق فيما ينهى عنه، حليم فيما يأمر به، حليم فيما ينهى عنه، فقيه فيما يأمر به، فقيه فيما ينهى عنه>( ).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ‘: <فلابد من هذه الثلاثة: العلم، والرفق، والصبر. العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده، وإن كان كل من الثلاثة لابد أن يكون مستصحباً في هذه الأحوال>( ).
وقال ابن القيم ‘: <فإنكار المنكر أربع درجات:
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.
الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته.
الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه.
فالدرجتان الأُولَيان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة>( ).
فإذا طبق الداعية ما تقدم من الصفات والأخلاق والقواعد والضوابط كان من أعظم الناس حكمة – بإذن اللَّه تعالى –.
المسلك الثالث: المدعو:
ينبغي للداعية أن يعلم أن الدعوة إلى الإسلام عامة لجميع البشر، بل للجن والإنس جميعاً، في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة، وليست خاصة بجنس دون جنس، أو طبقة دون طبقة، أو فئة دون فئة، أو زمان دون زمان، أو مكان دون مكان. ومن حق المدعو أن يُؤتى ويُدعى، ولا يجلس الداعي في بيته وينتظر مجيء الناس إليه، فقد كان النبي × يأتي الناس ويدعوهم، ويخرج إلى القبائل في المواسم، ويذهب إلى مقابلة وملاقاة الوفود ومن يقدم.
ولا يجوز للداعية أن يستصغر شأن أي إنسان أو أن يستهين به؛ لأن من حق كل إنسان أن يُدعى.
وإذا كان من حق المدعو أن يُؤتى ويُدعى ولا يستهان به، ولا يستصغر من شأنه فعليه أن يستجيب.
وينبغي للداعية أن يعلم أن المدعوين أصناف وأقسام:
فمنهم الملحد، ومنهم المشرك الوثني، ومنهم اليهودي، ومنهم النصراني، ومنهم المنافق، ومنهم المسلم الذي يحتاج إلى التربية والتعليم، ومنهم المسلم العاصي. ثم هم أيضاً يختلفون في قدراتهم العقلية، والعلمية، والصحية، ومراكزهم الاجتماعية: فهذا مثقف، وهذا أمّيٌ، وهذا رئيس، وهذا مرؤوس، وهذا غني، وهذا فقير، وهذا صحيح، وهذا مريض، وهذا عربي، وهذا أعجمي... فينبغي للداعية أن يكون كالطبيب الحاذق الحكيم الذي يشخص المرض، ويعرف الداء ويحدده، ثم يعطي الدواء المناسب على حسب حال المريض ومرضه، مراعياً في ذلك قوة المريض وضعفه، وتحمله للعلاج، وقد يحتاج المريض إلى عملية جراحية فيشق بطنه، أو يقطع شيئاً من أعضائه من أجل استئصال المرض طلباً لصحة المريض( ).
والداعية ينبغي لـه أن يبدأ مع المدعوِّين بخطوات محسوسة( )، منها ما يأتي:
1- يبدأ بنفسه فيصلحها حتى يكون القدوة الصالحة.
2- ثم يمضي إلى تكوين بيته وإصلاح أسرته، ليُكوِّن البيت المسلم، واللبنة المؤمنة.
3- ثم يتوجه إلى المجتمع وينشر دعوة الخير فيه، ويحارب الرذائل والمنكرات بالحكمة، ويشجع الفضائل ومكارم الأخلاق.
4- ثم دعوة غير المسلمين إلى منهج الحق وإلى شريعة الإسلام ﴿حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للَّهِ﴾ ( ).
المسلك الرابع: أساليب الدعوة ووسائل تبليغها:
الداعية يحتاج إلى فهم أساليب الدعوة ووسائل تبليغها، حتى يكون على قدر من الكفاءة لتبليغ الدعوة إلى اللَّه تعالى بإحكام وإتقان وبصيرة، وذلك كالآتي:
أولاً: أساليب الدعوة:
الأسلوب: الطريق والفن. يقال: هو على أسلوب من أساليب القوم: أي على طريق من طرقهم. ويقال: أخذنا في أساليب من القول: فنون متنوعة( ).
وأساليب الدعوة: هي العلم الذي يتصل بكيفية مباشرة التبليغ، وإزالة العوائق عنه.
والمصادر الأساسية التي يستمد الداعية ويتعلم أساليب دعوته الحكيمة منها هي: كتاب اللَّه – تعالى –، وسنة رسوله ×، وسيرة السلف الصالح: من الصحابة الكرام، والتابعين لهم بإحسان من أهل العلم والإيمان.
وتقوم أساليب الدعوة الحكيمة الناجحة المؤثرة على الأساليب الآتية:
1- تشخيص وتحديد الداء في المدعوين، ومعرفة الدواء: فإن طبيب الأبدان الحاذق الحكيم يشخص ويعرف الداء أولاً، ثم يصف ويُعيِّن العلاج ثانياً على حسب الداء. والداعية إلى اللَّه – تعالى – هو طبيب الأرواح والقلوب فعليه أن يسلك هذا الأسلوب في معالجة الأرواح. والداء عند الناس قد يكون كفراً، وقد يكون معصية، فعلى الداعية أن يعطي الدواء على حسب الداء؛ فإن دواء الكفر الإيمان باللَّه، وبما جاء عنه وعن رسوله ×. ودواء المعاصي كبائرها وصغائرها التوبة إلى اللَّه – تعالى – والإقبال إليه، والإكثار من الطاعات المكفِّرة للسيئات، وهكذا لكل داء دواء.
2- إزالة الشبهات التي تمنع المدعوين من رؤية الداء والإحساس به: ولاشك أن الشبهات: هي ما يثير الشك والارتياب في صدق الداعية وحقيقة ما يدعو إليه، فيمنع ذلك من رؤية الحق والاستجابة لـه، أو تأخير هذه الاستجابة.
3- ترغيب المدعوين وتشويقهم: إلى استعمال الدواء، والاستجابة وقبول الحق، والثبات عليه. وترهيبهم من ترك الدواء بكل ما يخوف ويحذر من عدم الاستجابة، أو عدم الثبات على الحق بعد قبوله.
4- تعهد المستجيبين من المدعوين: بالتربية والتعليم، والتوجيه؛ لتحصل لهم المناعة ضد دائهم القديم. ومن أعظم وسائل
التربية المؤثرة: الاتصال بكتاب اللَّه – تعالى – تلاوةً،
وتدبراً، وفهماً، والاتصال الدائم بالسنة النبوية، وسيرة السلف الصحابة . فعلى الداعية أن يعين المستجيبين على هذه الأمور العظيمة.
5- تقوم جميع الأساليب على: أسلوب الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، ثم استخدام القوة للمعاندين الظالمين.
ثانياً: وسائل تبليغ الدعوة إلى اللَّه تعالى:
الوسيلة في الأصل: ما يتوصل به إلى الشيء( )، ووسائل الدعوة هي: ما يستعين به الداعية على تبليغ الدعوة من أشياء وأمور.
ولاشك أن وسائل الدعوة على نوعين:
النوع الأول: وسائل خارجية تتعلق باتخاذ الأسباب لتهيئة المجال المناسب. ومنها على سبيل المثال ما يأتي:
أ- الحذر المبني على التوكل على اللَّه – تعالى – مع الأخذ بالأسباب. ومعلوم أن الحذر أنواع من جهة ما يحذره الداعي المسلم، فهناك: حذره من الوقوع في المعاصي، والحذر من الأهل والولد، والحذر من اتباع الهوى، والحذر من المنافقين والكفار.
ب- الاستعانة بعد اللَّه – تعالى – بالغير في تبليغ الدعوة، فالداعية يحرص على إيصال الدعوة إلى الناس؛ فيستعين بكل وسيلة مشروعة لتحقيق ما يحرص عليه.
ج- المحافظة على النظام المشروع: كحفظ الداعية تنظيم وقته وعدم إضاعته، وإذا كان الدعاة جماعة فعليهم أن يراعوا قواعد النظام التي أمر بها الإسلام، حتى تثمر جهودهم ولا تضيع؛ فإن القليل من العمل بنظام والدوام عليه خير من الكثير مع الفوضى والانقطاع.
النوع الثاني: وسائل تبليغ الدعوة بصورة مباشرة.
وهذه الوسائل تكون: بالقول، وبالعمل، وبسيرة الداعية التي تجعله قدوة حسنة لغيره، فتجذبهم إلى الإسلام. ومن هذه الوسائل ما يأتي:
أ- التبليغ بالقول:
القول في مجال التبليغ أنواع متعددة منها: الخطبة، والدرس، والمحاضرة، والندوة، والمناقشة والجدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والكلمة الوعظية، والدعوة الفردية، والنصيحة الأخوية، والفتوى الشرعية، والكتابة: كالرسالة، والمقال، والكتاب، والكُتيِّب، والنشرة.
والداعية يستعين في تبليغ دعوته بجميع الوسائل المختلفة، المشروعة، المفيدة، وقد تكون بعض الوسائل نافعة في زمن دون زمن، وفي مجتمع دون آخر، والداعية الحكيم هو الذي يختار الوسائل المناسبة لكل عصر ومصر.
ووسيلة التبليغ بالقول تُبلَّغ عن طريق الوسائل الآتية:
1- اللقاءات العامة: كإقامة المحاضرات، والندوات، والمناقشات، والدروس في المساجد، والجامعات، والمعاهد، والمدارس، والمؤتمرات، وفي المناسبات التي يحضرها الناس بصورة جماعية كبيرة.
2- اللقاءات الخاصة: كالدروس الخاصة بطلاب العلم، ولا يمنع حضور غيرهم.
3- الدعوة الفردية: بالنصيحة الأخوية، والهدية الرمزية.
4- الكتابة: الرسالة، والمقال، والكتاب، والكُتيِّب، والنشرة.
5- وسائل الإعلام الحديثة: المسموعة، والمرئية، والمقروءة، والشخصية.
6- الوسائل الشخصية كالمسجلات، وشرائط التسجيل، والهاتف... فينبغي للداعية الحكيم أن يستغل هذه الوسائل ويشغلها بالحق؛ لأنه بذلك يخاطب ملايين البشر في مشارق الأرض ومغاربها، وعن طريقها تصل الدعوة إلى أقطار بعيدة وتعمّ أماكن كثيرة.
وينبغي أن يكون قول الداعية واضحاً بيِّناً، خالياً من الألفاظ التي تحمل حقّاً وباطلاً وخطأً وصواباً، وأن يستعمل الألفاظ الشرعية المستعملة في القرآن والسنة وعند علماء المسلمين.
كما ينبغي للداعية أن يتأنَّى في كلامه حتى يستوعب السامع كلامه ويفهمه، وأن يبتعد عن التفاصح والتعاظم، والتكلف في النطق، ويبتعد عن روح الاستعلاء على المدعو واحتقاره وإظهار فضله عليه، وأن يتلطَّف بالقول للمدعوين، ويكون موضع الثقة بين الناس( ).
ب- التبليغ بالعمل:
والتبليغ بالعمل هو كل فعل يؤدي إلى إزالة المنكر ونصرة الحق وإظهاره، والأصل في ذلك قوله ×: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))( )، والتبليغ بالعمل كما يكون بإزالة المنكر يكون بإقامة المعروف: كبناء المساجد، وبناء الجامعات والمعاهد والمدارس الإسلامية، وإقامة المكتبات فيها وتزويدها بالكتب النافعة، وبناء المستشفيات الإسلامية، ودور الرعاية الاجتماعية، وطبع الكتب الإسلامية وتوزيعها، واختيار الرجل الصالح للعمل في هذه المجالات وفي المجالات المهمة. هذا – كله – في الحقيقة دعوة صامتة إلى اللَّه تعالى.
ج- التبليغ بالسيرة الحسنة:
من وسائل التبليغ المهمة في تبليغ الدعوة إلى اللَّه وجذب الناس إلى الإسلام التبليغ بالسيرة الطيبة للداعي، وأفعاله الحميدة، وصفاته العالية، وأخلاقه الكريمة والتزامه بالإسلام ظاهراً وباطناً، مما يجعله قدوةً طيبةً وأُسوةً حسنةً لغيره؛ لأن التأثير بالأفعال والسلوك أبلغ من التأثير بالكلام وحده.
وأصول السيرة الحسنة التي يكون بها الداعية قدوةً طيبةً لغيره ترجع إلى أصلين عظيمين: حسن الخلق، وموافقة العمل للقول.
● فحسن الخلق كلمة يندرج تحتها كثير من الصفات: كالتواضع، والوفاء بالعهد، والأمانة، وقوة العزيمة، والشجاعة، والصبر، والشكر، والحلم، والرفق، والتقوى، والحياء، والعفو والصفح، والجود والكرم، والصدق والعدل، وحفظ اللسان، والرحمة.
● وموافقة القول للعمل هي أن يكون فعل الداعية موافقاً للطريق المستقيم، وسيرته تطبيقاً عمليّاً لقوله، ولا يخالف ظاهره باطنه، فإن أمر بشيء التزمه، وإن نهى عن شيء كان أول تاركٍ لـه؛ ليفيد وعظه، وينفع إرشاده ويثمر، ويُقتدى به، فإن كان يأمر بالخير ولا يفعله وينهى عن الشر وهو واقع فيه فهو بحاله هذه عقبة في سبيل الدعوة إلى اللَّه تعالى( ).
وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.