حديث: «عجبًا لأمر المؤمن» دراسة حديثية دعوية نفسية
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
حـديـث عجباً لأمر المؤمن دراسة حديثية دعوية نفسية
إعداد
أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
أستاذ السنة وعلومها بجامعة الإمام
محمد بن سعود الإسلامية بالرياض
دار ابن الأثير
1424هـ
المقدمـــة
الحمد لله على كل حال، وأشكره على فضله المتوال، وأسأله جزيل النوال، والثبات في الحال والمآل، وأصلي وأسلم على خير الصابرين الشاكرين، وعلى آله وأصحابه الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن النفس الإنسانية آية من آيات الله، وسر من أسرار هذا الكون، ولم تصل الدراسات الحديثة إلى حقيقة هذه النفس وكنهها فضلاً عن القديمة منها، لذلك كان تعامل علماء النفس المعاصرين في الشرق والغرب مع هذا السر مبنيًا على مجرد نظريات ودراسات مادية تجريبية، فلم يقدروا أن ينقذوا مجتمعاتهم من الأمراض النفسية والعصبية التي تزداد عندهم يومًا بعد يوم، رغم توافر الأجهزة الطبية المتطورة، والخبرات العلمية العالية، والدعم اللامحدود من حكوماتهم ومؤسساتهم لهم، والسبب الأول والأخير لعدم وصولهم إلى نتائج قطعية هو انعدام الجانب الإيماني والعلم المبني على الوحي من الله تعالى عندهم.
وقد انتقلت هذه الأمراض النفسية إلى مجتمعاتنا الإسلامية وتفشت فيها بشكل واسع، عندما تخلى أبناؤها عن دينهم وضعف الوازع الإيماني في نفوسهم، فتمكن الشيطان منهم حتى صاروا أسارى لوساوسه وهمزاته، وتبعًا لما يمليه عليهم هواهم وشهواتهم، فاضطربت أركانهم النفسية وتزعزعت قوتهم وشوكتهم، ولو أجريت إحصائية دقيقة في مجتمعاتنا حول القلق النفسي والاضطراب العصبي لدى الناس لوجدنا العجب العجاب، من أن معظم الناس صاروا عرضة لهذه الأمراض ووساوس الشياطين.
من أجل ذلك كانت هذه الدراسة الحديثية التي تعالج مشكلات الناس النفسية بدراسة بعض أسبابها الناتجة عن الحالة التي يمر بها الإنسان في حياته الدنيوية، وأثر ذلك على النفس والمجتمع، مثل حالة النعيم والبلاء التي يبتلى بها كثير من الناس، وتكون في كثير من الأحيان سببًا لأمراض النفس من الكبر والتعالي والعجب، وكذلك الضجر واليأس والقلق، فجاءت هذه الدراسة مستقاة من كلام المصطفى عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى، لتكون علاجًا ودواء للإنسان المبتلى بهذين الاختبارين، النعمة والبلاء، وهذا العلاج يعتمد على ركنين أساسيين للخلاص من الآفات التي قد تنجم عن النعمة والبلاء، وهما الشكر في حالة الرخاء، والصبر عند الشدة والبلاء، وقد بين عليه الصلاة والسلام أن الشكر والصبر من أسباب الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، ويدفعان بالمؤمن للعمل الدؤوب والتفاؤل المستمر، لعمارة الأرض وإقامة دين الله فيها، فلا يصيب المؤمن بطر أثناء النعمة، ولا سخط عند الابتلاء، لذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «لو كان الصبر والشكر بعيرين ما باليت أيهما ركبت»([1]).
فإذا تحلّى الناس بهذين الخلقين العظيمين فإن أحوالهم ستتبدل إلى الأفضل والأحسن في جميع النواحي النفسية والسلوكية والمعيشية، وحتى على مستوى المجتمعات وتطورها وتقدمها.
أسأل الله تعالى أن ينفع بهذه الكلمات وأن يجعلها من المدخرات في الحياة وبعد الممات إنه سميع قريب مجيب.
كتبه/
فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
ص. ب. 41961 الرياض -11531
Email: [email protected]
* * *
نص الحديث وتخريجه
قال الإمام مسلم رحمه الله:
حدثنا هداب بن خالد الأزدي وشيبان بن فَرّوخ جميعًا عن سليمان بن المغيرة واللفظ لشيبان، حدثنا سليمان. حدثنا ثابت عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن صهيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له»([2]).
تخريج الحديث
رواه الإمام مسلم في الزهد، باب المؤمن أمره كله خير (2999), والإمام أحمد في أول مسند الكوفيين (18455، 18460), وفي باقي مسند الأنصار (23406، 23412) والدارمي في الرقاق، باب المؤمن يؤجر في كل شيء (2777).
قال ابن حجر في الفتح: وله شاهد من حديث سعد بن أبي وقاص بلفظ: «عجبت من قضاء الله للمؤمن، إن أصابه خير حمد وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد وصبر، فالمؤمن يؤجر في كل أمره» الحديث أخرجه أحمد والنسائي.
وذلك في مسند العشرة المبشرين بالجنة (1490) ولم أجده في النسائي.
* * *
أهمية الموضوع
إن حياة المؤمن الحافلة بالخطوب والصعاب، تقتضي أن يكون لديه مفاهيم وأخلاق يتبعها لمواكبة هذه الخطوب، ومواجهتها، وللخروج منها بما يرضي ربه جل وعلا، يقول الله تعالى: ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ))([3]). فكل ما في الكون من حوله إما أن يكون نعمًا من الله سبحانه تعالى يغدقها عليه لأداء رسالته في الحياة، وإما أن يكون بلاء ومعوقات تعتري طريقه في أداء هذه الرسالة، وفي كلا الحالين يكون هذا المؤمن في اختبار وابتلاء، فكان لا بد من رصيد إيماني كبير لاجتياز هذا الاختبار، ولا بد من زاد يتقوى به في طريقه الشاق في هذه الحياة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات»([4])، ولا يجتاز اختبار النعمة والبلاء بنجاح إلا من اتصف بصفتين عظيمتين تظهر من خلالهما حقيقة المؤمن، وحقيقة إيمانه، وحقيقة وجوده في الحياة، وقد ركز القرآن الكريم كثيرًا على هذين الصفتين وكذلك الرسول عليه الصلاة والسلام، ألا وهما: شكر الله في حالة النعم والصبر في حالة الابتلاء، وهاتان الصفتان سلاح أشار إليه ديننا الحنيف لعمارة الأرض وإقامة حكم الله فيها، بالشكل الذي يرضاه الله سبحانه وتعالى.
يقول الله عز وجل في حالة النعمة: ((فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ))([5]).
ويقول جل ذكره في حالة الابتلاء: ((وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ))([6]).
ويصعب حمل هذا السلاح واقتناؤه في زمن غزت فيه المادة الناس وأحاطت بهم من كل جانب، وكثرت الإغراءات وتجملت بأحسن صورها، وانتشرت جنود الشيطان في أروقة الأرض ومنافذها، حتى صار المؤمن المحافظ على دينه كالقابض على الجمر، وحتى ضاقت الأرض على النفوس المؤمنة وتزاحمت عليها المسؤوليات والمحن، وازداد طغيان المادة على العالم أجمع، في هذا الجو الرهيب والصعب تتجلى عظمة هذا الدين بمنح أفراده الزاد اللازم والعتاد المطلوب، للخروج من ضيق المادة وجبروتها إلى سعة الإيمان وضيائه، فكان لا بد من شكر نعمه تعالى، والصبر على ابتلائه ومحنه، لما في ذلك من أثر عظيم على النفس البشرية لتبقى ذاكرة لربها ومتعلقة به في حالة الرخاء والسعة، وعدم نسيان الذات في هذه الحالة، وتسخير نعمه لوجهه تعالى، أما في حالة الابتلاء وكثرة الخطوب فإن صبر الإنسان عليها يجعله صامدًا أمام القوى العاتية في وجهه، واقتناعه التام بأن كل ما يصيبه من الله تعالى، لتمحيص إيمانه وعقيدته، وكذلك قناعته بأن هذه الدنيا دار ابتلاء واختبار، وليست دار سكن وقرار، فهذا الإيمان في الحالتين يجعل الإنسان قادرًا على عمارة الكون في كل أحواله وأزمانه غير آبه بما يجري حوله أو عليه من المؤثرات، ومن هنا تتكون الشخصية الإسلامية المنشودة، الشاكرة والصابرة، البعيدة عن البطر والتعالي والأنانية ونسيان الآخرين، وكذلك عدم الركنون والاستلام لليأس والقنوط الذي يقتل النفس الإنسانية، في حالة المصائب والبلاءات، خشية أن ترديها إلى مزالق الانحراف العقدي، والسلوكي في الحياة، أو إلى أمراض نفسية ناتجة عن الضجر من الحال المقدر من الله على الإنسان.
* * *
الخيرية في الحديث
كانت رسالة الإسلام رسالة فصل بين الحق والباطل، وبين النور والظلمات، وكان اعتناق الصحابة رضوان الله عليهم لهذه الرسالة نابعًا من قناعة داخلية قوية، توطدت في نفوسهم وملكتها، فكانت كل أعمالهم وسلوكياتهم نابعة من المعين الذي لا ينضب الذي هو القرآن الكريم والسنة المطهرة، لا يحيدون عنهما قيد أنملة ولا يرضون لغيرهما حكمًا في حياتهم وواقعهم، وإذا سمع أحدهم بنزول آية من كتاب الله أو أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم سارعوا إلى تطبيق ذلك دون النظر إلى تعطيل في مصالحهم أو إتلاف لأموالهم وممتلكاتهم، لأنهم عرفوا الحق فاتبعوه وأدركوا الباطل فاجتنبوه، فعندما نزلت آية تحريم الخمر أخرج الصحابة ما في بيوتهم من الخمور وأهراقوها حتى سالت في طرق مكة وأزقتها، وقالوا انتهينا ربنا انتهينا ربنا.
إن هؤلاء البشر، بهذه العقيدة الصلبة، والالتزام الصادق، كانوا خير أمة أخرجت للناس كما قال عنهم ربهم عز وجل: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ))([7])، وهذه الخيرية التي منحها الله لهذه الأمة، وتميّز بها عن سائر الأمم، دلالة واضحة على سمو منزلتهم ومكانتهم عند الله تعالى، والوصف الإلهي للمؤمنين بالخيرية يعني أنهم أصحاب الخير ودعاته، وليس للشر إليهم من سبيل، بل إنهم أخرجوا للناس لمحاربة الشر وأعوانه، وتحقيق الخير والعدل لهم على أرض الله، لصدق ارتباطهم بالله وتطبيقهم لكتابه قولاً وعملاً، حتى صار القرآن كائنًا يمشى على الأرض لا تهمل أحكامه وحدوده؛ بل تطبق في النفوس والواقع.
وهذه الخيرية التي امتاز بها المؤمنون على سائر الخلق تمنحهم القدرة على قيادة الأفراد والجماعات، وتجعل منهم منارات للهدى يأوي إليها التائهون والضالون في ظلمات الظلم والجهل والعبودية لغير الله، لأنهم تميزوا بصفات لم تتحقق في الأمم الأخرى، فهؤلاء المؤمنون شربوا ونهلوا من المعين الرباني على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو قدوتهم وأسوتهم في حياته وبعد مماته.
والخيرية التي وردت في الآية عامة، تشمل كل مناحي الحياة، فالمؤمنون خير الناس في أقوالهم وحركاتهم وتصوراتهم ومفاهيمهم، وقد ذكرت السنة النبوية هذه الخيرية في مناسبات وأحاديث كثيرة، بشكل خاص أو مقيد في مجال محدد من الحياة، فقد أشار إلى خيرية المؤمن في الحديث الذي شبه المؤمن بالزرع، في قوله: «مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرْز لا تهتز حتى تستحصد»([8]).
وفي حديث آخر عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي؟» فوقع الناس في شجرة البوادي. قال عبدالله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: فقال: «هي النخلة»([9]).
وخيرية المؤمن في شكره للنعم وصبره على البلاء، جزء من الخيرية العامة، التي اتصف بها المؤمن، وتتجسد في رضاه بقدر الله المكتوب عليه من النعم والمصائب، فحياته لا تعد شيئًا بالمقارنة مع تلك الحياة الأبدية الخالدة، فهو مدرك لهذه الحقيقة تمامًا، ويعد العدة لتلك الحياة، وإن أتته الدنيا أو فرّت منه، فلا يتبختر ولا يتكبر لأنه معتقد أن كل ما يملكه مصيره الزوال، وأنه أولاً وآخرًا ملك لله تعالى، فلا تغريه الدنيا بزخرفها وبهارجها. فهذا التصور وهذا الاعتقاد هو الحقيقة التي قامت عليها السموات والأرض، فعرفها المؤمن العاقل وعمل بمقتضاها، لذلك قال الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني»([10]).
ثم إن المؤمن بهذا التصور تجاه النعم والمصائب، يبعث الخير والتفاؤل في الحياة، ابتداء من نفسه التي تحتاج إلى الاستقرار والراحة قبل كل شيء، وتحتاج إلى تخليصها من الشوائب المتعلقة بها من عمل الشيطان، كالكبر والعجب والغرور، والانتقال بها إلى أسمى مدارك الرفعة والنقاء، لينطلق بعدها هذا المؤمن في الحياة كائنًا مستقيمًا، يمشي بخطوات ثابتة وراسخة لأنه تزود نفسيًا بهذا الثبات والرسوخ، ومن ثم يمشي بالخير على الذين من حوله من الأقارب والجيران والأصدقاء وغيرهم. فهو يعطي نموذجًا مميزًا للإنسان المؤمن الذي يستطيع أن يعمر الأرض ويبعث فيها الخير والعدل والمثل العليا في كل حالاته، في الثراء والفقر، في الصحة والمرض، في الفراغ والشغل، ممتثلاً قول المصطفى عليه الصلاة والسلام: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها، فليفعل»([11])، فأية عقيدة تلك التي تبث في الفرد والجماعة هذه الروح التفاؤلية غير عقيدة المؤمن التي تربي أبناءها هذه التربية المتميزة، فالمسلم إذا أشرف على الموت أو أنه أدرك أن القيامة قد قامت فإنه يقوم بأداء رسالته ما دام فيه قلب ينبض، وروح تتحرك.
ثم إن هذه الخيرية للمؤمن تكون في الدنيا والآخرة، فهي سعادة وطمأنينة نفسية تجعل المؤمن في هدوء واستقرار، حيث يكون سلوكه منضبطًا ومتزنًا يحكمه الحلم والأناة، وكذلك فإن هذه الخيرية تكون رصيدًا للمؤمن له ما بعد الموت، وفي الآخرة، وسيحصد ما زرعه في حياته الدنيا، لأن شكره وصبره في الحياة كان جهاداً ومقاومة لهوى النفس ووساوس الشيطان، فكان ذلك ذخرًا وأجرًا عند الله سبحانه وتعالى الذين يكتب للمؤمن الخير وإن كانت مثقال ذرة ((فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه)) ((وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه))([12])، وهذا العطاء للمؤمن الشكور والصبور من الله تعالى هو غاية المؤمن في الحياة التي من أجلها يبذل كل ما يملكه من نفس ومال وولد لنوال هذه العطية الكبرى، لذلك كانت الخيرية ملازمة لجميع أعمال المؤمن.
إن هذه التربية التي يتربى عليها أولياء الله من المؤمنين لجديرة بأن يقول فيها الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام «عجبًا لأمر المؤمن» لأن ما يقوم به المؤمن في الحياة شيء خارج عن المنطق العام للبشر، فلا يطاولها منهج وضعي مهما أوتي من نظريات وقوانين لضبط السلوك البشري، أو توجيهه نحو الالتزام بمبادئ معينة، وهيهات لتلك المناهج أن تعالج المشكلة النفسية التي تنتج عن الفقر مثلاً، أو تلك العقد النفسية التي تنتشر بشكل واسع بسبب الخلافات الزوجية المستمرة، وانتهائها بالطلاق وتشريد الأبناء وإخراج جيل من الشباب والبنات لا يعرفون في الحياة سوى الجريمة والمخدرات والجنس. وهيهات لهذه المناهج أن تعالج مشكلة البطر والظلم والتعالي على الناس التي تصيب الأثرياء لاغترارهم بما أوتوا من متاع قليل في الدنيا، حتى يصل الحال ببعضهم إلى نوع من جنون العظمة فيرى الناس الذين دونه في المال عبيدًا أو خدمًا، ربما لا ينظر إليهم نظرة إنسانية، فيسحقهم لأدنى مشكلة أو أصغر قضية، وما حال الأمم الكبرى التي تسيطر على العالم اليوم إلا نموذجًا حيًا لهذا النوع من البشر، فقد ضرب على قلوبها وعقولها غشاوة لا ترى إلا نفسها وقوتها ومالها فتغزو الشعوب الفقيرة والضعيفة، وتنظر إليهم نظرة دونية، واستعمارية. بخلاف الأمة المؤمنة التي شهد لاستقامتها وخيريتها الأعداء قبل الأصدقاء، حتى قال بعضهم: لم يعرف التاريخ أمة أرحم من العرب، لأنها عرفت واجباتها فالتزمت بها، وعرفت حقوق الآخرين فأعطتها لهم، وأنه لا اعتبار ولا قيمة للدنيا في حساباتها، وأن الميزان الذي يقاس به الناس هو العمل الصالح الذي لا يفرق بين جنس وآخر، أو غني وفقير، أو حاكم ومحكوم، وينظر إلى قول المصطفى عليه الصلاة والسلام الذي تذوب من خلاله الفوارق الطبقية والأعراق والمناصب والوجاهات، حيث يقول: «اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل حبشي كأنّ رأسه زبيبة»([13]) وقوله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع: «يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى»([14])، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لابن عمرو بن العاص حين لطم قبطيًا: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا».
فهذه التعاليم الإسلامية، ترسي في النفس البشرية الطمأنينة والراحة الدائمين، لأن الإنسان في إقباله على ما يرضي الله سبحانه وتعالى، يجعله في سعادة نفسية دائمة، فهو يشعر بمراقبة الله له في سرائه وضرائه، ويحس عناية الرحمن به، ما دام شاكرًا وصابرًا لأمره تعالى وقدره، وبهذه العقيدة وحدها يستطيع الإنسان أن يدفع عن نفسه مكائد الشياطين ووساوسهم، ويسمو بها إلى النقاء والطهارة، لتصبح النفس المطمئنة التي وصفها الله تعالى، بعيدة عن البطر والترف، أو الضجر واليأس.
* * *
السراء في الحياة وصورها
السرّاء: الرّخاء كما في الصحاح وبه قال بعض المفسرين لقوله تعالى: ((الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ))([15])، وقال ابن عباس: السراءُ: اليسر، وقيل: السراء: الصحة، وقيل: العرس والولائم وقيل غير ذلك([16]).
والظاهر من اشتقاقه أن السرّاء: فعلاء من السَّررِ أو السرور والسرر التجويف يقال قناة سرّاء أي جوفاء أما من السرور فإنها تعني كل ما يدخل السرور إليك فالسرّاء هي النعمة التي تسر من أصابته وتدخل الفرحة إلى قلبه فهي تشمل المسرات المعنوية والمادية التي ينعم بها الله عباده ويختص بها من يشاء منهم ابتلاء واختبارًا ليظهر للعيان انفعالهم بها ومقابلتهم لها بالشكر أو الكفر.
فأما المؤمن فإنه يقابل نعم الله السارّة بالشكر فيكتب له فوق ما نال من السرور الأجر الكبير والثواب العظيم.
وللسراء أسباب لا يمكن حصرها، فهي تشمل نعم الله الكثيرة التي يحيط بالإنسان من كل جانب، الجليّة منها والخفية، وسنذكر بعض صور السراء التي تمس واقع الناس، وموقف المؤمن منها، وهي:
أولاً: المـال:
إن من أهم النعم التي يغدقها الله تعالى على عباده نعمة المال وهي تشمل العملة النقدية والعقار والزراعة والتجارة والصناعة.. وغيرها، وهي من النعم المهمة التي يسير بها الإنسان حياته المادية، ويحقق من عبرها طموحاته وآماله الدنيوية، وهي من الأشياء التي لازمت الإنسان من القديم، وكانت السبب في معظم الصراعات والحروب بين البشر، وكانت من الأسباب التي ترفع من قيمة الإنسان وشأنه في الحياة، وهي علامة للقوة والسيطرة في المجتمعات الجاهلية، فالقوي هو الذي يملك المال الكثير وإن كان ضعيفًا في جسمه وعقله وعشيرته، والفقير هو عكس ذلك وإن كان ذا قوة في الجسم ورجاحة في العقل، وعراقة في الأصل.
ويعد المال من متاع الدنيا وزينتها كما وصفه الله بقوله: ((الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا))([17]). وكذا قوله تعالى: ((زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ))([18]).
فالثري الذي يملك أموالاً كثيرة يتمتع بملذات الحياة وطيباتها، فيملك البنيان الفاخر، والمؤثث بأرقى الأثاث، والمزخرف بأزهى الزخارف، ويمتلك أحدث أنواع المراكب والسيارات وأفخمها، ويأكل من أشهى المأكولات والأطعمة، فضلاً عن الحشم والخدم الذين يحومون حوله لخدمته والحفاظ على راحته.
وبإمكان هذا الثري أن يتزوج ما يشاء من النساء حسنًا وجمالاً، فيده تطال إليهن بسهولة لأنه يستطيع أن يؤمن لهن كل متطلبات الحياة من سكن وملبس ومطعم، وأن يؤمن لهن الكماليات زيادة على الضروريات.
وبإمكانه أن يجلب لأولاده أفضل المعلمين والمربين لتدريسهم وتوعيتهم، وإن كلفت ذلك أموالاً طائلة.
ويستطيع كذلك أن يجوب أصقاع العالم بين فترة وأخرى، ويسافر لأي بلد يشاء، ويستمتع بجمال البلاد الأخرى وغرائبها وعجائبها، فيغير الأجواء، ويتنفس الصعداء، ويروح عن نفسه بذلك.
فكل هذا، وغيره كثير من أسباب الراحة والملذات، يعد نعمًا وأفضالاً من الله تعالى يتقلب فيها الإنسان ويستمتع بها، وهي ثمرة لنعمة المال التي منحها الله تعالى لعباده وجعلهم مستخلفين فيه.
ثانيًا: الصحة
وهي نعمة كبرى لا يعرف قيمتها إلا المرضى، وكما قيل: الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، هي نعمة عظيمة من نعم الله الكثيرة، لأن الإنسان الصحيح الذي لا يشتكي من أي عضو في جسمه، يستطيع تناول الطعام والشراب وكافة الملذات والطيبات بسهولة ويسر، كما يستطيع القيام والقعود والنوم والمشي والجري دون معاناة أو إعاقة، لذا كانت الصحة نعمة وفضلاً من الله تعالى للإنسان ليتمكن من تبليغ رسالته في الحياة الدنيا، ويعبد الله كما أمره الله، ويتجنب معاصيه ونواهيه، يقول الله تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ))([19]).
وينسى كثير من الناس نعمة الصحة في خضم أمواج الفساد التي تضرب أصقاع المعمورة من جميع الأطراف، وفي ظل طغيان المادة على كل شيء، فنسي الناس أنفسهم وحقيقة ذواتهم، وما حولهم من الآيات والبينات والعبر التي لم تصل العلوم المعاصرة إلا إلى جزء يسير منها، يقول الله تعالى: ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))([20]).
وينسى الإنسان الغارق في بحر المادة والمتنعم بالصحة والعافية، أن أوله نطفة قذرة وآخره جيفة مذرة، وأنه لا يمثل شيئًا في ملكوت الله، لولا أن الله تعالى بكرمه وفضله رفع من شأنه وخلقه في أجمل صورة وقوّمه أحسن تقويم.
ثالثًا: الفراغ
وهو من نعم الله الكبرى على الناس، ولكن الناس قد غفلوا عنها وانصرفوا، ولم يلقوا لها بالاً، فلم يدركوا حقيقة هذه النعمة التي هي بمثابة المنافس للإنسان في عمره وحياته كلها، حيث هناك تسابق بين الإنسان والوقت في الحياة، والإنسان الخاسر الذي يتأخر عن استغلال هذا الوقت واستثماره فيما ينفعه وينفع الآخرين، وسيكون سببًا في تأخره عن ركب الحضارة في الدنيا، والحرمان من الوصول إلى المنازل العليا في الآخرة. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ»([21]).
والوقت من أهم الأمور التي خلقها الله للإنسان ليتمكن من التحرك في الأرض ويقوم بأداء رسالته في الحياة، ويعلم عدد السنين والحساب، ويعرف متى بدأت رحلة حياته، وإلى أية مرحلة وصلت؟ هذا، ولعلو شأن الوقت ومنزلته عند الله تعالى فقد أقسم به في كتابه العزيز، فقال جل ذكره: ((وَالْعَصْرِ)) ((إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ))([22]). ثم إنه جل وعلا نبّه إلى إلى هذه المنزلة في قوله: ((إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا))([23]) أي في أزمان محددة ومنتظمة لها وقت دخول تبدأ عندها الصلاة، ووقت خروج تبطل بعدها الصلاة. وهو نوع من الاهتمام بالوقت وتقسيمه إلى فترات معينة تقام فيها شعيرة الصلاة.
ثم إن حضارة أية أمة وتقدمها المعرفي والمادي قائمة على مدى استغلال أبنائها للوقت أو فرطها فيه، فالأمم والشعوب التي ركنت إلى الكسل والإفراط في وقتها وزمنها هي التي نراها اليوم في مؤخرة الركب، بل ربما صارت عبئًا وعالة على غيرها، وأما التي قدرت الوقت وحافظت عليه، واستثمرته في المعرفة والعلوم، فإنها صارت رائدة للعالم في معظم مجالات الحياة، هذا إضافة إلى الخيبة التي يتجرعها المستهتر بالوقت وعدم استغلاله بعد الممات، فإن الله محاسبه عن كل لحظة قضاها من عمره، وفيما قضاها، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه وعن علمه فيما فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه»([24]).
رابعًا: الزواج
والزواج نعمة كبيرة ومسؤولية عظيمة في الوقت نفسه، فعليه يتوقف النسل بالزيادة والنقصان، وهي آية عظيمة في آيات الله في هذه الحياة، يقول عز وجل: ((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ))([25])، حيث جعل الله تعالى الزواج مودة ورحمة بين الزوجين وهذه نعمة كبرى يفقدها الكثيرون الذين ينظرون إلى الزواج من زاوية ضيقة، ويعدوها مجرد شهوة أو استمتاع فحسب، لذلك هؤلاء لا يشعرون بتلك النعمة التي جعلها الله في الزواج، وهي المودة والرحمة والسكن والأمان، وما يتبعها أيضًا من الذرية الصالحة من الأولاد والبنات الذين هم زينة الحياة الدنيا كما قال الله تعالى: ((الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا))([26]).
خامسًا: الشهادة العلمية:
وهذه نعمة تتهيأ لبعض الناس دون آخرين، وذلك بتفاوت قدراتهم وإمكاناتهم العقلية وما يتهيأ لهم من الأسباب، أو نتيجة لظروف اجتماعية واقتصادية معينة، وهذه النعمة لا تأتي للإنسان من نفسها، ولكنها نتيجة لجهد طويل، وتعب وسهر، ومعاناة، وهي نعمة يستفيد منها صاحبها في حياته المعيشية ووضعه الاجتماعي، وهي وسيلة لترقية البلد من الناحية العلمية والمعرفية والسعي لتقدمه إلى الأمام، وربما تتجاوز هذه النعمة تلك الأهداف إلى غايات أسمى وأرقى من حيث قيادة الأمة والسير بها نحو المجد والنصر، وإصلاحها من الداخل بمحاربة الفساد بكافة صوره، ونشر الخير والصلاح في ربوعها.
وإن الحصول على الشهادة، وعدم العمل بمقتضاها في الحياة اليومية تعد آفة علمية وثقافية في المجتمع، لأن هذه الشهادة هي جسر ينتقل صاحبها عبرها من الحياة البسيطة التي لا مسؤولية فيها ولا دعوة ولا إصلاح، إلى حياة مليئة بالأعباء والأثقال، بل تنقله من البطالة إلى الجد والعمل، والإنسان مسؤول عن هذه الشهادة أمام الله سبحانه وتعالى ثم أمام الناس في الحياة الدنيا، ماذا عمل بها وما الإنجازات التي تحققت من خلالها، وهل أفاد صاحبها البشر بها أم لا؟ وكذلك هو مسؤول عنها أمام الله تعالى يوم القيامة، وهناك يكون الحساب أشد وأنكى، لأن حساب العالم لا يكون كحساب الجاهل والعامي، فيسأل عن علمه كيف حصل عليه؟ وماذا عمل به؟ هل سخره في طاعة الله؟ والدعوة إلى دينه؟ أم كانت وسيلة للحصول على المناصب والأموال والجاه بين الناس، وتلك هي الطامة الكبرى، يقول الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام: «من طلب العلم ليماري به السفهاء أو ليباهي به العلماء أو ليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار»([27])، وكذا قوله عليه الصلاة والسلام: «من تعلّم علمًا مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عَرْفَ الجنة يوم القيامة»([28]) يعني ريحها.
سادسًا: الأمـن
والأمن من أهم النعم التي ينعمها الله على الإنسان، وهي شعور الإنسان بالأمان على نفسه ودينه وأسرته، ومصالحه وأمواله، والاطمئنان بعدم وجود خطر عليها، وهذه النعمة تحتضن النعم الأخرى وتحتويها، فمن دون نعمة الأمن لا يكون لنعمة المال والصحة والوقت سكن ولا قرار، فإذا انعدم الأمن فلا يتنعم الإنسان بماله ولا بصحته ولا بوقته، وإلى غير ذلك من النعم، لذلك ذكر الله تعالى أن الخوف الذي هو عكس الأمن من الابتلاءات التي يمكن أن يبتلى بها الإنسان في حياته لينظر أيصبر أم لا فقال جل ذكره: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ))([29]).
ونعمة الأمن هي غاية الإنسان العظمى في الحياة، لأن مصالحه وأعماله وأرزاقه مرتبطة بها ارتباطًا وثيقًا، وإن معظم الثورات والصراعات القائمة بين بعض الشعوب والمحتلين لها كلها من أجل الحصول على هذه النعمة، وكف أيدي الظالمين عن تخويفهم وإرعابهم، والشعوب الآمنة تملك الظروف المناسبة للإنتاج المادي والمعرفي، ورائدة لغيرها من الأمم التي تفتقر إلى هذه النعمة.
ولأهمية نعمة الأمن وعظم شأنها جعلها أبونا إبراهيم عليه السلام من أولى دعواته كما جاء في قوله تعالى: ((رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ))([30]) فقدم في الذكر مطلب الأمن على مطلب التوحيد؛ لأن التوحيد لا ينتشر عند الناس إلا بالأمن.
* * *
الموقف من النعم
ويتلخص الموقف من النعم بشكر المُنْعِم عليها وهو الله سبحانه.
والشكر كما في الصحاح: الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف يقال شكرته وشكرت له، وباللام أفصح، والشكران خلاف الكفران، وفي مفردات الراغب: الشكر: تصور النعمة وإظهارها، ويضاده الكفر وهو نسيان النعمة وسترها، ودابة شكور: مظهرة لسمنها إسداء صاحبها إليها، وقيل: أصله من (عين شكرى) ممتلئة، فالشكر على هذا هو الامتلاء من ذكر المنعم عليه([31]).
وأورد القرطبي عبارات لبعض العلماء في معنى الشكر منها: أن الشكر هو الاجتهاد في بذل الطاعة مع اجتناب المعصية في السر والعلانية، وقل الشكر هو الاعتراف بالتقصير في شكر المنعم، ولذلك قال تعالى: ((اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا))([32])، فقال داود: كيف أشكرك يا رب، والشكر نعمة منك؟ قال: الآن قد عرفتني وشكرتني، وقيل: الشكر: أن لا يعصى الله بنعمه، وقيل: الشكر: التواضع والمحافظة على الحسنات، ومخالفة الشهوات، وبذل الطاعات، ومراقبة جبار الأرض والسموات([33]).
ويقوم الشكر على ثلاثة أركان:
1 - شكر القلب: وهو تصور النعمة، والشعور الدائم للمنعم عليه بفضل الله وكرمه ومنّه عليه، وترجمة هذا الشعور إلى حب الله وحب كتاب الله وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربط القلب والجوارح بهذا الإله الذي اعتنى به وميزه عن كثير من خلقه، وفضله عليهم تفضيلا، يقول الله تعالى: ((أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ))([34]).
يقول الرسول عليه الصلاة والسلام فيما رواه ابن أبي الدنيا: «أربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة: قلبٌ شاكرٌ، ولسانٌ ذاكرٌ، وبدنٌ على البلاء صابر، وزوجةٌ لا تبغيه خونًا في نفسها ولا في ماله»([35]).
وإعمار القلب بهذا الحب وهذا الود من شأنه أن يؤثر على الجوارح فيجعلها تتحرك وفق منهج الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، يقول الله تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ))([36]).
يقول الشاعر:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه لو كان حبك صادقًا لأطعته | هذا محال في القياس بديع إن المحب لمن يحب مطيع |
2 - شكر اللسان: وهو الثناء على المنعم، والتحدث بأنعم الله تعالى وأفضاله التي لا تعد ولا تحصى، وهذا الركن عبارة عن الوسيلة التي ينقل الإنسان من خلالها شكر الله من الداخل في القلب إلى الخارج بالتلفظ بها، وشكر الله تعالى باللسان لا بد منه، لبيان حاله للآخرين والثناء والتحميد على المنعم الجليل بأفضاله ونعمه عليه، من غير حول ولا قوة منه ولا لغيره من البشر، فهو المنان الوحيد، وإنما كان سعي الإنسان سببًا لجلب هذه النعمة وليس أصلاً لها، حتى لا يقع الإنسان فيما وقع فيه قارون من قبله حين قال: ((إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي))([37]).
ويقول الله جل ذكره في هذا النوع من الشكر: ((وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ))([38]).
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: «يا معاذ والله إني لأحبك فقال أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»([39]).
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: «من قال حين يصبح اللهم ما أصبح بي من نعمة فمنك وحدك، لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر فقد أدى شكر يومه، ومن قال مثل ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليله»([40]).
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التحدث بالنعم شكرها وتركها كفر، ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله عز وجل؛ والجماعة بركة والفرقة عذاب»([41]).
ويدخل في هذا النوع من الشكر كل ذكر لله تعالى من قراءة للقرآن أو تسبيح أو تهليل أو استغفار، ما دام اللسان رطبًا بذكر الله تعالى.
3 - شكر سائر الجوارح: وهو مكافأة النعمة بقدر استحقاقه، فهو من أعظم أنواع الشكر وأصدقها، ذلك أن ما ينبض به القلب من الحمد والشكر وكذلك ما يردده اللسان يترجم إلى واقع عملي، ومعظم أمور الدين إذا لم تتحول إلى عمل فهو لا يعد شيئًا في ميزان الشرع، وقد جاءت الآيات القرآنية الكثيرة التي تقارن الإيمان بالعمل الصالح، أو صفات أخرى ينبغي التحلي بها، يقول الله تعالى: ((وَالْعَصْرِ)) ((إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ)) ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ))([42])، وكذا قوله جل ثناؤه ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا))([43]).
وقد صحّ عن الحسن رضي الله عنه قوله: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل.
فبذلك يكون الشكر العملي من أسمى وأعظم أنواع الشكر وأكثرها قبولاً عند الله، واستعمال الجوارج في التعبير عن شكر الله تعالى على نعمه وأفضاله تتمثل في كل أنواع الخير والطاعات، وترك المعاصي والمنكرات، أما بالنسبة للنعم التي ذكرناها فإنه لا بد من بيان الأعمال التي تقوم بها الجوارج للتعبير عن هذا النوع من الشكر.
فبالنسبة لنعمة المال يتجلى شكرها في النقاط التالية:
1 – التصور الصحيح لحقيقة المال: وذلك بأن هذه الأموال كلها ملك لله تعالى والإنسان مستخلف فيها يصرفها فيما أمره الله بصرفها فيه وهذا العمل داخل في خلافة الإنسان العامة في الأرض، يقول الله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا))([44])، وقوله جل ذكره: ((آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ))([45]). فخلافة الإنسان لله في الأرض هي إقامته لحكم الله فيها وتطبيقه كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام على نفسه، وتبليغها للناس، وملك المال وإنفاقه جزء من هذه الرسالة. وبناءً على ذلك فيجب أن يطلب الرزق من مصادره الحلال ويتجنب طلبه من الحرام كالربا والغش والتحايل ونحوها.
2 – الإنفاق في سبيل الله وتجنب البخل: هو من أجلى صور الشكر لنعمة المال على الإنسان، فالمنفق في سبيل الله بأمواله يظهر شكره لهذه النعمة، سواء كان هذا الإنفاق فرضًا أو تطوعًا، وقد بين القرآن الكريم مصارف الزكاة التي ينفق فيها المال، يقول الله تعالى: ((إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ))([46]).
وأما مصارف عامة الإنفاق من التبرعات والصدقات فلا حدّ لها ابتداء بالوالدين والزوجة والأولاد والأقارب والجيران، وغيرهم ومشاريع الخير المتعددة والمتعدي نفعها للآخرين.
والملاحظ في حياة المسلم أنها لا تخلو في جميع حالاتها من الإنفاق، فهناك فريضة الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام، لا بد من إعطائها لمستحقيها في السنة مرة، وكذلك صدقة الفطر، وأما الصدقات الأخرى فهو تطوعية، حث عليها القرآن والسنة في مناسبات كثيرة، يقول عز وجل: ((الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ))([47]). ويقول الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام: «ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما اللهم أعط منفقًا خلَفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلَفًا»([48]).
والشكر تجاه هذه النعمة باللسان وحده غير كاف، ولا يعد شكرًا حقيقيًا، إلا إذا رافقه العمل الذي هو إخراج المال في سبيل الله، وكان هذا هو الدافع الذي جعل عثمان بن عفان رضي الله عنه أن يجهز جيش العسرة، وكذا عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أن يوزع حمولة سبع مائة راحلة([49]) على أهل المدينة وما حولها، حمدًا وشكرًا لله على عطائه لهم هذه الأموال، وخشية أن تصير هذه الأموال عبئًا عليهم يوم القيامة.
وحذر الإسلام من البخل بكل أشكاله، سواء كان على النفس أو الأسرة أو المجتمع والمسلمين كافة، وهو من أمراض النفس الخطيرة الذي يضع من قيمة الإنسان وينزل بها إلى المدارك السفلى عند الله وعند الناس، وهو نوع من جحود النعمة وعدم تقديرها، لذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يستعيذ بالله من البخل، حيث قال: «اللهم إني أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر، وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات»([50]).
3 – عدم الإسراف في الأموال: إنه من الواجب الحفاظ على نعمة المال وعدم إهدارها فيما لا ينفع، واستثمارها في وجوه الخير المتنوعة، وهذا لا يعني أنه بخل أو شح، وإنما هو نوع من الشكر لله على هذه النعمة، وهو أمر محمود أجازه الشرع، بحيث لا يكون هناك إسراف أو تقتير في صرف المال، وفي ذلك يقول الله تعالى: ((وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا))([51])، لما لهذا المال من دور في بناء الدولة الإسلامية بجميع مجالاتها، وإقامة المشاريع التي تنهض بهذه الدولة، لمنافسة ومسابقة الدول الأخرى، لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل: قَدَرُ الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان»([52])، والإسراف والتبذير للمال نوع من البطر والاستهتار بنعم الله، وهو سبب لزواله وإزهاقه.
4 - إظهار نعمة الله على المنعم عليه والتحدث بها: إن من الشكر والتحميد لنعمة المال على الإنسان أن يظهر آثار هذه النعمة، ويراها الناس، من غير بطر أو رياء أو مباهاة، هذه من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن اختلط إظهار أثر النعمة على الإنسان بالرياء والمباهاة، فإنها سبب لتحولها إلى نقمة وعذاب.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنعم الله على عبد نعمةً إلاّ وهو يحب أن يرى أثرها عليه»([53]).
وعن أبي الأحوص عن أبيه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قَشِفُ الهيئة، فقال: «هل لك مال؟» قلت: نعم. قال: «من أيّ المال» قلت من كل المال قد آتاني الله عز وجل؛ من الإبل والخيل والرقيق والغنم. قال: «إذا آتاك الله عز وجل مالاً فليُرَ عليكَ»([54]).
ويقول الشاعر:
يا أيها الظالم في فعله إلى متى أنت وحتى متى | والظلم مردود على من ظَلَمْ تشكو المصيبات وتنسى النِعَمْ |
وأما شكر نعمة الصحة فيتجلى في:
1 - حمد الإنسان ربه جل وعلا والثناء عليه في سره وجهره، وصحته وسقمه.
2 - عدم الاغترار بقوة جسمه وبدنه فإنما هو قوي إذا كان مع ربه وفي ظل طاعته وعبادته، وأنه ضعيف وحقير إذا تمرد عن طاعة خالقه واعتناق منهجه.
3 - كذلك الاستشعار بضعفه في هذا الكون وأنه لا يستطيع القيام بأداء أية مهمة لولا تكرم عليه بإعطائه الإرادة والصحة والقوة، وأنه آيل إلى الشيخوخة والضعف بعد مرحلة القوة، ثم إنه في النهاية يسير نحو الموت الذي لا مفر منه، فلا يتجبر ولا يتكبر على خلق الله من الضعفاء والمساكين، فربما يأتيه الموت وهو في ريعان شبابه وذروة قوته، وليس به مرض أو سقم، يقول الشاعر:
فكم من سليم مات من غير علة وكم من فتى يمسي ويصبح آمنًا | وكم من سقيم عاش حينًا من الدهر وقد نُسجت أكفانه وهو لا يدري |
ومن هنا أوصانا حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أن نغتنم فرصة الصحة قبل السقام، في العبادة والطاعات، ونبذ المعاصي والمنكرات، فقال عليه الصلاة والسلام: «اغتنم خمسًا قبل خمس،... وصحتك قبل سقمك»([55])، ويقول عليه الصلاة والسلام: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ»([56]).
وكان أبو الدرداء يقول: «الصحة غنى الجسد»([57]).
وعن ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا عباس يا عمّ النبي أكثر الدعاء بالعافية»([58]).
وشكر نعمة الوقت والفراغ يكون بإيمان الإنسان أنه محاسب أمام الله تعالى على نعمة الوقت وكيف قضاها في الحياة الدنيا، في الخير أم في الشر؟ لذلك وجب على المسلم أن يتفهم النصوص التي وردت في قيمة الوقت والفراغ، ويعرف كيف يستخدمها في الطريق الصحيح، وفي طاعة الله، ومعرفة أنه مسؤول عن ضياع الزمن في الحرام، أو إمضائه في الأمور التافهة التي لا منفعة من ورائها، وشكر هذه النعمة يكون باستغلاله في طاعة الله تعالى، ومنفعة نفسه والناس من حوله، لأن هذه الدنيا دار فناء، مهما طالت وامتدت فمصيرها الزوال، بخلاف الدار الآخرة الأبدية التي هي دار القرار والمآل، لا زوال فيها ولا فناء، وتتجلى هذه الحقيقة في قول الله تعالى في تصوير حال المجرمين يوم القيامة: ((وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ))([59]). وقوله جل وعلا: ((كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا))([60]).
والإنسان في هذه الحياة غريب أو عابر سبيل، فعليه أن يستغل هذه الرحلة القصيرة فيها بالمسارعة إلى فعل الخير بكل أشكاله، من قراءة القرآن وحفظه، ودراسة السنة النبوية وحفظها وفهمها، وطلب العلم الشرعي وغيره، وكذا مواصلة الأرحام وزيارتهم ودعوتهم وإرشادهم إلى طريق الهدى، وكذا قضاء حوائج الناس بقدر الإمكان، وغيرها من أعمال الخير الكثيرة والمتعددة، والتي تعود بالأجر والنجاة على الإنسان في الآخرة، وبالسعادة والراحة والتمكين في الأرض في الدنيا، راجيًا وراء ذلك كله رضوان الله تعالى وجناته، يقول الله تعالى: ((سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ))([61]).
ثم إن الوقت لا يمكن أن يؤجل أو يؤخر؛ بل على العكس من ذلك، فإنه يمضي ولا يتوقف لأي أمر أو عارض، لذلك قالوا: «الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، ونفسك إن لم تشغلها بالخير شغلتك هي بالشر».
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي.
وشكر نعمة الزواج يكمن في حمل مسؤوليته على الوجه الشرعي، وذلك في قيام الإنسان بأداء الواجبات المترتبة عليه تجاه زوجته، في حسن معاشرتها وإعطائها حقوقها حسب حالته، والتخلق في ذلك بآداب الإسلام الواجب اتباعها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي»([62])، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته...»([63])، ومن مقتضيات شكر نعمة الزواج بناء الأسرة على أساس إسلامي متين، من حيث تربية الأولاد على حب الله وحب رسوله عليه الصلاة والسلام في التمسك بالكتاب والسنة، والتخلق بأخلاق الإسلام وآدابه في جميع مناحي الحياة، وغرس روح التضحية والفداء بالمال والنفس في سبيل هذا الدين.
وشكر نعمة الأمن على الإنسان يكون في استغلاله في طاعة الله بكل أشكاله، لأنه لا يدري ربما تتغير الأحوال والظروف وتنقلب هذه النعمة إلى خوف وهلع، ولا يجد حينها الجو المناسب لأداء الطاعات والعبادات فيها، وكذلك من شكر هذه النعمة إيصال الحقوق إلى أصحابها والابتعاد عن الظلم والعنجهية في التعامل مع الناس، حتى لا يبتليه الناس بمحنة الخوف التي قد ينتقم هؤلاء المظلومون منه انتقام شديدًا، ويخلق بذلك التوتر والقلق بين الناس أنفسهم، ولنا في الأمم الغابرة دروسًا وعبرًا، يقول الله تعالى: ((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ))([64]).
وهكذا في كل نعم الله العظيمة التي لا تعد ولا تحصى يشكر العبد فيها ربه جل وعلا بما يقابلها حتى يحصل على آثارها الإيجابية وثمراتها النافعة على نفسه وأسرته ومجتمعه في الدنيا والآخرة.
* * *
آثار الشكر وثمراته
إن الشكر هو الاعتراف بالنعمة السارّة التي يتفضل بها الله عز وجل على عبده وأن العبد عاجز عن تأدية حقها عليه، وأن ما آتاه الله فضل منه وإحسان لا حول له فيه ولا قوة، ولم يؤته على علم منه ولا قوة فالعبد الشاكر متواضع لأنه يعلم أن السرّاء التي أصابته لم يحصل عليها بعلمه وقوته، وهو مجتهد في الطاعة اعترافًا بفضل الله عليه فكيف إذا أنعم الله عليه بالسرّاء؟
فللشكر فوائد عظيمة تعود على الشاكر نفسه وعلى مجتمعه بالخير العميم، ومنها:
1 – أن العبد الشاكر ينال قبل كل شيء رضوان الله تعالى وأجره العظيم يوم القيامة، لقوله تعالى: ((وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ))([65]). وهذا غاية ما يتمنى العبد في سعيه في هذه الحياة.
2 - الشعور بالرضى والقرب من الله عز وجل، حيث يحس العبد الشاكر أن الله عز وجل خصّه بكرمه فيقبل عليه بالتوبة والاستغفار والثناء عليه سبحانه بما هو أهله، وينال راحة نفسية عظيمة، ثم إنه يبادر إلى من حوله فيحسن إليهم شكرًا لله الذي أحسن إليه ويبذل جهده في إدخال السرور إلى قلوبهم كما أدخل الله المسرة إلى قلبه فتحصل بذلك الفائدة لمجتمعه وتزداد عرى الترابط بينه وبين من أحسن إليهم، فإن فعل ذلك زاده الله من نعمه وأسبغها عليه ظاهرة وباطنة.
3 - ولأن النعمة وما يصاحبها من السرور والفرح قد تنسي المنعَمَ عليه فضل المنعِمِ جلّ وعلا فقد حثّ الله عز وجل عباده على الشكر لئلا تلهيهم النّعم فيطغوا في الأرض بغير الحق، فتكرر قوله تعالى: ((لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) في مواضع كثيرة من كتابه العزيز، وقد أثنى الله عز وجل على عباده الشاكرين وجعل الشكر شرطًا لدوام النعمة وزيادتها، فقال تعالى: ((وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ))([66])، وقال: ((وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ))([67]).
4 - إن شكر النعمة، يؤدي إلى الطمأنينة والراحة النفسية الدائمة، لأنه لم يجعل المال في قلبه وإنما جعله في يده، ولم يفاخر به على الآخرين وينسبه إلى نفسه، وإنما يرجعه في الأصل إلى الله تعالى، الذي بيده ملكوت كل شيء، ويرزق من يشاء بغير حساب، كما أنه اعتقد أن هذه النعمة وسيلة لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وتسخيرها في طاعة الله وإقامة حكم الله، وإنما هو مكلف للقيام بهذه المهمة ومحاسب عليها يوم القيامة. إن هذا التصور يلقي بظلال من الراحة على نفوس المنعم عليهم لأنهم ساروا على الطريق المرسوم لهم من ربهم، ثم إنه يخرج من قلوب الفقراء والمحتاجين في المجتمع عوامل الحقد والنقمة على المنعم عليهم، فينشأ بين الطرفين الود والتعاون والوئام، وينجلي كل أسباب الضغينة والكراهية التي تؤدي إلى خلخلة المجتمع، وإفشاء القلق وأمراض النفس بين الناس التي قد تؤدي إلى النهب والسرقات أو القتل أو أية جرائم أخرى.
5 - إن النفس التي يملأها الخير هي النفس المطمئنة العامرة بحب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم وحب المؤمنين، فلا تجد فيها ما يكدر من صفوها، أو يوسوس لها الاستعلاء والاستكبار على الآخرين.لأن من مداخل الشيطان إلى النفس أن يوحي إليها أن كل ما عندها من الخير والنعم هي من صنعها وكدها وتعبها، وليس لأحد فضل عليها أو منّة، وهو مستنقع خطير يصطاد الشيطان من خلاله الضعفاء من البشر.
6 - إن الاستقرار النفسي الذي ينتج عن شكر نعم الله يؤدي إلى الاستقرار والأمن في المجتمع، وهو أمر مهم للحفاظ على تماسك الناس فيما بينهم، وكذا الحفاظ على راحتهم النفسية، وعلى العكس من ذلك فإن أي اضطراب في النفس أو غضب سينقلب سلبًا على الناس وعلى المجتمع، لذا كان الشكر أمرًا مطلوبًا لتفادي هذا الخطر على النفس قبل البشر.
وبعد: فمن خلال هذه الآثار العظيمة تبين لنا كيف أن شكر اﷲ تعالى على نعمه واق من الأمراض النفسية ومعالج لها لما يؤديه من الاستقرار النفسي واطمئنانها وأمنها، وما يعود ذلك على المجتمع بأسره بخلاف ذاك المتعالي المتكبر الذي اغتر بصحته وماله وجاهه فتعظم في نفسه فينفخ فيه الشيطان حتى يصاب بما يسمى بـ(جنون العظمة) فيعيش قلقاً مضطرباً رغم كل هذه النعم.
مقابلة نعم الله بالجحود والكفر
إن كثيرًا من الناس لا يقدرون قيمة تلك النعم ولا يضعونها في مكانها الذي خصصه الله لها، ويتبجحون بها كل تبجح، فيبذرون أموالهم تبذيرًا في أشياء لا منفعة فيها ولا مصلحة، فضلاً عن إسرافها في المحرمات والمعاصي والصد عن سبيل الله، ثم إنهم ينسبون كل ما تحل بهم من نعم وأفضال إلى أنفسهم، فيتجبرون بها على رقاب الضعفاء ويتكبرون ويتباهون بها بين الناس دون أن يضعوا في الحسبان نصيب إخوانهم الضعفاء فيها، أو مساعدتهم من خلالها والتودد إليهم.
فالذي هذا شأنه يكون منكرًا لنعمة الله بدلاً من شكره والثناء عليه.
والذي لا يستغل علمه وقدراته في خدمة الناس ولا يتقن بما وكل إليه يكون منكرًا للنعمة وجاحدًا لها.
والذي يفرط بأوقاته ويضيعها في اللهو واللعب والمحرمات منكر لنعمة الله.
وإن الذي لا يشكر الله على الأمن والرخاء الذي يحيط به من كل مكان ويتعدى من خلاله على حقوق الآخرين وظلمهم فإنه جاحد للنعمة ومنكر لها، وكل نعمة يمنحها الله تعالى للعبد فلا يستعملها لرضى الله وطاعته وقضاء حاجات الناس وحل مشكلاتهم تعد نوعًا من الحجود والكفر لهذه النعمة.
يقول جل ذكره: ((فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ))([68]).
ويقول أيضًا: ((إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا))([69]).
ولكن ما هي النتيجة المترتبة على كفر نعم الله المغدقة على العباد؟
إن سنة الله ماضية في خلقه منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها، والقرآن الكريم حافل بقصص الأمم الغابرة التي جحدت أنعم ربها وكفرت بها وما حل بها من عذاب وعقاب، أحيانًا بالريح وأخرى بالرجفة وثالثة بخسف الأرض، وغيرها من العقوبات التي كانت نتيجة كفرهم لأنعم الله عندما أغرقوا في ملذات الدنيا وشهواتها وزخرفها، يقول الله تعالى عن قوم سبأ: ((لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)) ((فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ)) ((ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ))([70]).
وقوله تعالى: ((وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ)) ((وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ))([71]).
ويقول عز وجل: ((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ))([72]).
ليس هذا فحسب، بل النتيجة الوخيمة لكفر النعمة تكون في الآخرة عندما يرحل الإنسان عن هذه الحياة إلى ربه فيحاسبه على كل لحظة مرت بحياته قولاً وفعلاً، وسيسأل عن كل ما كان لديه من النعم في الحياة الدنيا وسخرها لمعصية الله وظلم الناس والتكبر عليهم، وما يترتب على ذلك من عذاب وعقاب، يقول الله تعالى: ((وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ))([73]).
يقول الله تعالى: ((إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ))([74]). والكنود الذي لا يشكر نعمة الله، وقال الحسن ((إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)) يعد المصائب وينسى النعم وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن النساء أكثر أهل النار بهذا السبب قال: «ورأيت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن، قيل يكفرن بالله، قال يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئًا قالت ما رأيت منك خيرًا قط»([75]).
هذا فضلاً عن الاضطرابات النفسية والأمراض العصبية المتفشية في مجتمعاتنا التي هي جزء من كفر النعمة الذي يشعل نار الغضب والحقد في النفوس تجاه الآخرين، لأن الشاكرين قلة، فأكثر الناس لا يشكرون، قال تعالى: ((وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ))([76])، وقال سبحانه: ((وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ))([77])، ولذلك أثنى الله عز وجل على إبراهيم عليه السلام بقوله: ((إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) ((شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))([78]).
وقد نبهنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم إلى مسألة نفسية مهمة في حياة المسلم لتجنب البطر والتعالي على نعم الله، والجشع الذي لا يتوقف عند حد في الحصول على المزيد من الأموال وغيرها، والنظر إلى الآخرين ومحاولة الوصول إلى ما وصلوا إليه من الدرجات في الحياة الدنيا، حيث قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه: «انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله»([79]).
فهذا نوع من التربية النبوية لتنقية النفس البشرية من الحسد الذي من شأنه مراقبة الذين هم أكثر منه مالاً وولدًا وجاهًا، فهذا الحسد يجعل من الإنسان دائمًا في حالة من التفكير والتخطيط للوصول إلى ما وصل إليه الآخرون. وقد يسلك من أجل ذلك طرقًا خطيرة على حساب حياة الآخرين وحقوقهم، فيلجأ للانتقام من الشخص المنافس له إما في نفسه أو مصالحه، وعندها تكون الطامة الكبرى.
* * *
الشكر وعلاقته بعلاج الأمراض النفسية
مما سبق بيان أن ما يصيب الإنسان من الأمراض النفسية تكون بأسباب مختلفة ومنها: نظر العبد إلى قلة ما في يده وكثرة ما في أيدي الناس، ولا شك أن هذه الأمور نسبية تعتمد على نفسية الإنسان ولذلك جاء الحديث السابق: «انظروا إلى من هو أسفل منكم» والتعليل «فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم».
ثم إن هذا الذي أعطي شيئًا من الدنيا ولكنه نظر إلى ما أعطيه من هو أكثر منه مالاً أو جاهًا أو ولدًا... إلخ نظرة تسخط وجزع فهذا سينعكس عليه أكثر من غيره بالقلق المستمر وأتعاب النفس في هذه النظرة، وإدخالها في طرق مظلمة لا تصل إلى نهاية واضحة؛ بل إلى نهاية بئيسة وهي استمرار القلق حتى يتأصل لديه ويتمكن منه ويصعب علاجه حينئذ.
فهذا المسكين صاحب هذه النظرة لم يستفد مما أعطاه الله ومنحه وفضله على غيره لأنه نظر إلى ما عند الآخرين ثم ما يتلو ذلك من الآثار النفسية المزعجة في عدم أنسه وطمأنينة مع أهله وأولاده، ومع أصدقائه وجيرانه وسائر مجتمعه، فتذهب عليه الأيام حسرات.
من هذه الكلمات أوجه نداء لكل مسلم أنعم الله عليه بنعم متعددة وكلنا كذلك، ولو لم يكن إلا نعمة الإيجاد والخلق، ونعمة الإسلام والإيمان وغيرها كثير لا يعد ولا يحصى أن ينظر إلى هذه النعم بأنها منحٌ عظيمة من الله سبحانه، فيحمد الله تعالى ويشكره بأنواع الشكر الذي سبق بيانها، ولينظر بعد لك إلى الآثار الإيجابية على نفسيته وسلوكه وعلاقاته وتعامله، ونومه ويقظته وابتسامته، جعلني الله وإياكم من الشاكرين.
* * *
الضراء والصبر عليها
والضراء عكس السرّاء فهي كل ما يمكن أن يضر الإنسان ضررًا حسيًا أو معنويًا، قال الجوهري في الصحاح: البأساء والضراء: الشدة.
والعبد المؤمن مطالب بالصبر عند حلول الضراء كما كان مطالبًا بالشكر عن السرّاء، والصبر: حبس النفس عن الجزع كما في الصحاح، وقد مدح الله الصابرين في الشدة بقوله: ((وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ))([80])، وأمر الله به في غير ما آية فقال تعالى: ((اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ))([81]).
وللضراء الذي يصيب الإنسان صور كثيرة جدًا ومتنوعة، لا يمكن حصرها، إلا أننا يمكن أن نتطرق إلى بعض منها، التي تلامس واقع المؤمن في حياته ومعاشه، فمنها:
أولاً: طريق الدعوة:
إن طريق الدعوة إلى الله طويل وشائك، محفوف بالمخاطر والخطوب، وهو ابتلاء من الله تعالى لعباده المؤمنين لبيان صدقهم وثباتهم على الحق، يقول جل ثناؤه: ((الم)) ((أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)) ((وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ))([82]).
وقد كان الرسل أول من سلكوا هذا الطريق بوعورته وصعوبته، وتعرضوا فيه إلى الأذى والعذاب من أقوامهم وملوكهم، يقول الله تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا))([83]). ويقول أيضًا: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ))([84]).
وهذا فرعون يقول للسحرة الذين آمنوا بالله ربًا واحدًا لا شريك له عندما رأوا الآيات البينات على يدي موسى عليه السلام: ((آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى))([85]).
والرسل أشد الناس بلاء ومعاناة من غيرهم، يقول صلى الله عليه وسلم في حديث سعد بن أبي وقاص لما سئل أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة»([86]). ذلك لأنهم قادة الدعوة إلى الله والقدوة في ذلك، لذا كان اختبارهم وابتلاءهم أشد وأصعب.
وأما الطرف الآخر المعادي لهذا الدين والمحارب له الذي يحمل راية الظلام ولواء الكفر فليس لديه إلا منطق القوة والإكراه لمواجهة أولياء الله، ومحاولة إقصائهم والقضاء على دعوتهم، وقد نال الرسل من هؤلاء البشر القتل والتعذيب والتشريد، فهذا نبي الله إبراهيم عليه السلام يلقى في النار، وذاك نبي الله يحيى عليه السلام يقتل، ولوطًا عليه السلام يحارب لطهارته وعفته، وغيرهم من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام نالوا ما نالوا من العذاب البدني والنفسي في سبيل الدعوة إلى الله، إلى أن كان آخرهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي مرّ بمختلف أشكال التعذيب من ضرب وتشريد وتكذيب وافتراء عليه واتهام باطل وسخرية واستهزاء، فعن عروة قال: سألت عمرو بن العاص رضي اﷲ عنه فقلت: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حجر الكعبة إذ أقبل عليه عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه على عنقه فخنقه خنقًا شديدًا فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه فدفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم»([87]).
وما الحصار الذي فرض عليه صلى الله عليه وسلم من قبل المشركين في أول الدعوة في مكة إلا نوع من الابتلاء الشديد في طريق دعوته إلى الله، وكذلك الهجرة إلى الطائف واستقبال أهلها له بالطرد ورميه عليه الصلاة والسلام بالحجارة وسوء الكلام كان نوعًا من الابتلاء في طريق الدعوة.
ولم تكن تلك المعاناة مقتصرة على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم فحسب، بل كانت عامة على المؤمنين، فليس بخاف على المؤمنين ما حل بآل ياسر في بداية الدعوة إلى الله وكيف تعذبوا وقتلت سمية رضي الله عنها وكذا زوجها ياسر رضي الله عنه بحراب المشركين، وما ناله بلال رضي الله عنه من تعذيب وتنكيل على يدي أمية بن كعب في رمضاء مكة، وأخيرًا الهجرة النبوية التي كانت أشد وطأة على المؤمنين عندما تركوا الديار والأهل والمال وخرجوا خفية بدينهم إلى المدينة النبوية، لم يحملوا معهم إلا ما يسد رمقهم، كل ذلك في سبيل الدعوة إلى الله.
يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو متوسد ببرد له في ظل الكعبة - قلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: «كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيُجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله أو الذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون»([88]).
وهذه السٌنَّة بقيت ماضية على دعاة الحق بعد جيل الصحابة إلى يومنا هذا، وما البلاءات والمجازر والمآسي التي تنزل بالمسلمين في أصقاع المعمورة إلا امتداد لذلك المد المعادي لرسل الله وأوليائه عبر التاريخ، فها هي ملل الكفر والشرك والإلحاد رغم تفرقها فيما بينها في أشياء كثيرة تتحد اليوم على جسد أمتنا وتقتل إخواننا وأهلينا وتشردهم وتعذبهم وتأكل من خيرات بلادنا وتمتص ثرواتنا بشتى الوسائل كل ذلك لأن هذه الأمة تؤمن بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولا.
تفرق شملهم إلا علينا فصرنا كالفريسة للكلاب
فالداعية معرض لكل أنواع المواجهة سواء كانت تعذيبًا للجسد أو للنفس أو إتلافًا للأموال، لأن أعداء الدين لا يألون جهدًا في تسخير كل ما أوتوا في سبيل وقف الزحف الإسلامي والحد من انتشاره.
ولكن ماذا فعل الأنبياء والرسل والصحابة والصالحون من بعدهم تجاه هذا العناء وهذا الحرب من أولياء الشياطين؟ وماذا على المؤمنين في ظروفهم الحالكة الحاضرة؟
لقد واجهوا أولياء الله جبروت الطغاة وقوتهم باللجوء إلى الله والصبر على ما يلاقونه في سبيل دعوتهم، رغم أنهم يعرفون معالم الطريق وما يعتريهم خلال مسيرتهم الدعوية، لذا كان الصبر السلاح الأجدى في هذا الطريق، وهو الزاد الذي يحمله الدعاة إلى الله كما أمرهم بذلك ربهم عز وجل حيث قال: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ))([89]).
وقد حثنا الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام كثيرًا على التحلي بالصبر في طريق الدعوة إلى الله، حتى تؤتي ثمرة الدعوة أكلها وتظهر نتيجتها، كما علّمنا أن أركان هذه الدعوة لن تثبت ولن تقوم لها قائمة بالتسرع والاندفاع العشوائي لمواجهة العقبات، لذلك ذكر عليه الصلاة والسلام في مناسبات كثيرة ضرورة الصبر والتصبر أثناء تبليغ رسالة الله إلى عباده، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: «إنكم ستجدون أثَرَة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض» قالوا: سنصبر([90]).
قال ابن إسحاق: وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر، وبأبيه وأمه، وكانوا أهل بيت إسلام، إذا حميت الظهيرة، يعذبونهم برمضاء مكة، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول، فيما بلغني: «صبرًا آل ياسر، موعدكم الجنة»([91]).
ثانيًا: مصيبة الموت
إن المصائب كثيرة ومتنوعة، فمنها ما تكون في النفس ومنها ما تكون في الأولاد أو في الزوجة أو في المال وغير ذلك كثير، إلا أن أشدها على النفس البشرية هي مصيبة الموت، موت عزيز من قريب أو صديق، وقد ذكر في القرآن أن الموت مصيبة، يقول الله تعالى: ((فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ))([92]).
وهي تحل بقدر الله على عباده المؤمنين وغير المؤمنين، ولكنها تكون للمؤمنين اختبارًا لثباتهم وبقائهم على دين الله والرضا الكامل بقدر الله وقضائه، وقد ميز الله تعالى عباده المؤمنين بأنهم أكثر الناس عرضة للمصائب والبلاء، وأكثرهم أجراً بمقابلتهم إياه بالصبر والاحتساب، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وفي ولده، حتى يلقى الله يوم القيامة وما عليه من خطيئة»([93]).
وعن ابن عباس: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول من يدعى إلى الجنة الذين يحمدون الله على السراء والضراء»([94]).
ومقابلة مصيبة الموت بالصبر والاسترجاع والاحتساب يرضي الله سبحانه وتعالى، ويكتب للعبد الأجر الكبير، وهي صفة لا تتوافر إلا في المؤمن الصادق، يقول أبو الدرداء رضي الله عنه سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول ما سمعته يكنيه قبلها ولا بعدها، يقول: «إن الله عز وجل يقول: يا عيسى، إني باعث من بعدك أمة، إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم، قال: يا رب كيف هذا لهم ولا حلم ولا علم، قال: أعطيهم من حلمي وعلمي»([95]).
والصبر عند مصيبة الموت واجب ومطلوب لما فيه من تكوين شخصية المؤمن المتزن المرتبط مع ربه والراضي بقدره، ومن ثم يكون سكينة للنفس وراحة لها، فلا يلجأ العبد إلى الضجر والقنوط والحزن الشديد، لأنه يعلم مسبقًا أن كل ما في هذا الكون ملك لله، يهب متى يشاء ويقبض متى يشاء، وأعظم الصبر يكون عند الصدمة الأولى، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على امرأة تبكي على صبي لها، فقال لها: «اتقي الله واصبري» فقالت: وما تبالي بمصيبتي! فلما ذهب، قيل لها: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذها مثل الموت. فأتت بابه، فلم تجد على بابه بوابين، فقالت: يا رسول الله لم أعرفك، فقال: «إنما الصبر عند أول صدمة» أو قال: «عند أول الصدمة»([96]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة»([97]).
ويروى عن قتادة أنه قال: الصبر من الإيمان بمنزلة اليدين من الجسد. من لم يكن صابرًا على البلاء لم يكن شاكرًا على النعماء. ولو كان الصبر رجلاً لكان كريمًا جميلاً([98]).
ثالثًا: أذى الناس:
إن أذى الناس لا يسلم منه أحد من البشر، وما دام هناك اختلاط وتداخل بينهم فلا بد من وجود هذه الصورة من الابتلاء، وهي صورة تتكرر يوميًا في واقعنا سواء في الشارع أثناء قيادة السيارة، أو في العمل مع الزملاء والمراجعين، أو في الأسواق عند البيع والشراء، أو في الحي بين الجيران أنفسهم، وهذه المواقع وغيرها كثيرة، هي مثار وجود هذه الصورة من الابتلاء، وفيها يمتحن المؤمن ويمحص، حيث يتميز عن غيره من البشر، فهو صاحب عقيدة ومنهج في الحياة، وحامل رسالة عظيمة للناس، فكيف يتصرف إذا حصل له أذى من الناس بشكل من الأشكال؟
إن المؤمن الصادق مع الله سبحانه وتعالى لن يقابل أذى الناس بالأذى أبدًا، ولن يقابل سوء تصرفهم، بتصرف أسوأ من تصرفهم، وإنما يستعلي على ذلك ويترفع عن هذا التعامل في الحياة، وإنه ليصبر على أذى الناس وسوء أخلاقهم، ويعاملهم بالحسنى والخلق الأمثل، ليكون قدوة صالحة في المجتمع يقتدي به الذين آذوه أو شتموه أو أساؤوا التصرف معه، فيتركوا السيء من الأخلاق ويتمسكوا بالأحسن منها، فيكون بذلك قد قدم منفعة كبيرة لمجتمعه وأمته.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرًا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»([99]).
ومما يشار إليه هنا ما يتعرض له بعض العلماء والدعاة من إيذاء الحسدة والحاقدين برميهم بالتهم والأكاذيب، واختلاق الأباطيل حسدًا وحقدًا لأن الله تعالى أعطاهم من النعم ما لم يعط هؤلاء الحسدة، والعالم وهو يواجه هذا الإيذاء يتحتم عليه زرع الصبر في قلبه وتحمّل أذى أولئك الضعفاء الذين أحرقت نار الحسد قلوبهم، وليعلموا أن القدوة عليه الصلاة والسلام لم يسلم من هذا الإيذاء كما سبق، وعلى العالِم والداعية أن يقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» ويمضي في طريقه إلى الله تعالى بتبليغ الدعوة والاستمرار وعدم الوقوف عند تلك العقبات الوهمية التي لا تضر إلا صاحبها المسكين.
وإذا كان مطلوبًا من المؤمن الصبر على أذى الناس، فمن الأولى أن يمتنع عن إيذاء الآخرين، أو الإضرار بهم، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك، لا سيما إيذاء الجار الذي ربطه الرسول صلى الله عليه بالإيمان، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره»([100]).
كان الحسن البصري يقول: ابن آدم لا تؤذ وإن أوذيت فاصبر([101]).
وعن وهب بن منبه أنه قال: ثلاث من كن فيه أصاب البر: سخاوة النفس، والصبر على الأذى، وطيب الكلام.
رابعًا: المرض
المرض من الابتلاءات الكثيرة التي تعرض للبشر، وهو حالة تصيب جسم الإنسان أو نفسيته فيشعر بالتعب والألم، وهو نوع من البلاء يخصه الله من يشاء من عباده فضلاً منه جل وعلا ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يقول صلى الله عليه وسلم في حديث أنس رضي الله عنه: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط»([102]).
ولا يحسبن الذي لم يبتلى بالمرض أن الله راض عنه، بل الصواب على عكس ذلك، فربما يكون من أسباب غضب الله عليه أنه لم يبتليه بمرض أو أية وعكة، لأن المرض فضل من الله تعالى بوصفه كفارة للذنوب والخطايا ولصاحبه الأجر الكبير عند ربه يوم القيامة.
والله سبحانه تعالى ينظر إلى العبد المبتلى بالمرض، وينظر كيف يتلقى حكمه وبلاءه فيه، ومن رحمته جل ذكره بالمبتلى أنه أرشده إلى ما يقوم به أثناء هذا الابتلاء، فأمره بالصبر والرضى لحكمه جل شأنه، لأنه الدواء الناجع لمعالجة المرض وغيره من البلاء، ويضرب لنا عز وجل مثلاً في القرآن الكريم لنبينا أيوب عليه السلام الذي ابتلي في جسده بمرض لم يترك بضعة منه إلا دخله المرض حتى قيل إن الديدان كانت تأكل من جسده الطاهر عليه السلام، فبين جل ذكره صبر هذا النبي عليه الصلاة والسلام ورضاه لحكم ربه، أنه لم ينقطع في الثناء على الله وشكره له لما هو فيه، فقال تعالى: ((إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ))([103]).
ثم إن العبد الصابر على المرض إذا رضي بحكم الله وشكر الله على حاله ما دام هذا الحال منه جل وعلا، الذي يمنح الصحة والمرض، وبيده أمور الدنيا والآخرة، فإن هذا العبد ينال من الله تكفيرًا للذنوب والخطايا، ومن ثم رضوان منه سبحانه وتعالى، روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا مرض العبد بعث الله إليه ملكين، فيقول: انظرا ما يقوله لعوّاده، فإن هو حمد الله تعالى إذا دخلوا عليه، رفعا ذلك إلى الله تعالى وهو أعلم. فيقول: لعبدي إن أنا توفيته أن أدخله الجنة، وإن أنا شفيته أن أبدله لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه، وأن أكفِّر عنه خطاياه»([104]).
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه، فصبر، عوضته منهما الجنة»([105]).
قال الحسن: إنه ليكفر عن العبد خطاياه كلها بحمى ليلة([106]).
وللتعامل مع المرض منهج شرعي متكامل يتأكد على كل مسلم ومسلمة أن يتعاملا به ليغتنما ما فيه من الإيجابيات ويتركا ما قد يحصل من السلبيات.
ملخص هذا المنهج:
- النظر إلى هذا المرض بأنه قدر من أقدار الله فيتحتم الصبر والرضا.
- ليلعم المريض أن المرض ابتلاء من الله قدره لحكم يعلمها.
- يستشعر المريض عظم الأجر والثواب في هذا المرض فلا يضجر ولا يقلق ولا يستطيل المدة.
- أن يعتقد أن الشافي هو الله سبحانه وتعالى وسائر الأشياء ما هي إلا أسباب إن أذن الله تعالى تحقق الشفاء وإن لم يأذن فلحكمة يعلمها، فيورثه هذا قوة التوكل على الله.
- التداوي مشروع ولكن ليس بالأمر المحرم فيتجنب المريض الذهاب إلى السحرة والمشعوذين، أو الأدوية المحرقة.
- التداوي سبب للشفاء وليس هو الشفاء.
- عدم الضجر والقلق وابتغاء رحمة الله تعالى.
- أن ينظر إلى مستقبله بعين الفأل والفسحة ويحسن الظن بربه عز وجل.
- أن يتعبد الله تعالى بالعبادات التي تحسن أثناء المرض مثل: قوة المحاسبة لنفسه، والتفكر في ملكوت الله، وفي أسمائه وصفاته، وكثرة الذكر والاسترجاع، واستغلال الوقت بما يفيد، والدعاء والتأمل في أحواله.
خامسًا: القتال
ومن الابتلاءات التي لا بد للمؤمن أن يمر بها ويدخل فيها هي محنة القتال أو الجهاد في سبيل الله، رغم أن النفس بطبيعتها تكره القتال، ولكنه أمر ضروري وفرض عين إذا تعرض بلاد المسلمين لاعتداء خارجي، حفاظًا على أرض الإسلام ودولة الإسلام، ودعوة الإسلام، يقول الله تعالى: ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ))([107]).
وقوله تعالى: ((أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)) ((الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ))([108]).
ويعد الفرار من المعركة من الكبائر التي توعد عليها الله بغضبه وعذابه، فقال جل ذكره: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ)) ((وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ))([109]).
ولشدة الموقف في هذا الابتلاء، ولأن حياة الإنسان فيه أقرب ما تكون إلى الموت، أمرنا الله تعالى بالتحلي بالصبر والثبات، حيث لا ينفع مع هذا الموقف إلا هذا الزاد، يقول الله تعالى: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ))([110]).
ويخبرنا الله تعالى كيف أن المؤمنين الصادقين رغم أنهم كانوا قلة صبروا في مواجهة جالوت وجنوده، حتى أيدهم الله بنصره، قال جل شأنه: ((وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ))([111]).
يقول زياد بن عمرو: كلنا نكره الموت وألم الجراح، ولكنا نتفاضل بالصبر([112]).
وعن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لقي العدوَّ فصبر حتى يُقتل أو يغلب لم يُفتن في قبره»([113]).
سادسًا: الغربة
إن البعد عن الأهل والديار وترك الأحبة والخلان تعد محنة في حد ذاتها، وذلك لأن الإنسان قد ارتبط منذ طفولته بالأرض التي ولد فيها وترعرع وكبر في أحضان ربوعها وأهلها وشرب من مائها وأكل من طيباتها، فكل ذلك يدفع الإنسان أن يتجه إلى تلك الأرض بكل مشاعره وعواطفه لأنها تحمل ذكرياته وآثاره، وحتى أمانيه وآماله، فإذا ترك هذا الإنسان هذه الأرض فإنه يشعر بتعب نفسي كبير لأنه يخوض معركة مع مشاعره وآماله، من أجل ذلك كانت الغربة صعبة على النفس البشرية وإن كانت الأرض المهاجر إليها حافلة بكل وسائل السعادة والرخاء، فالقلب يبقى معلقًا ومشدودًا إلى تلك الديار التي أنجبته، هذا إذا كانت الهجرة باختيار الإنسان نفسه وإرادته، فكيف به إذا كانت تلك الهجرة قسرًا وكرهًا نتيجة عوامل اقتصادية سعيًا وراء الرزق أم اجتماعية هروبًا من مشكلات أسرية وعائلية معينة تتطلب الابتعاد عن الوطن، أم كانت هجرة دينية من أجل سلامة العقيدة والحفاظ عليها.
ومهما كانت هذه الهجرة ودوافعها، فإنها في النهاية تلقي بصاحبها إلى الغربة المريرة، وما تفرض عليه من عذاب وأحزان، وربما يجد هذا المغترب من الناس الذين هاجر إليهم الظلم والاضطهاد وسوء الأخلاق، فليس له سوى الصبر واللجوء إلى الله، لإزالة غمته في غربته ووحدته، فإنه إن فعل ذلك واحتسب، فإن الله لن يخذله وسيبدل ابتلاءه إلى نعيم، وسيذهب عنه هم الغربة ويبدله بها طمأنينة النفس وراحة البال.
يقول الله تعالى: ((وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا))([114]).
* * *
من أنواع الصبر
حديثنا ظاهره في الصبر على البلاء، وهو ما أشرنا إليه في الصفحات السابقة، ولكن ونحن نتحدث عن الصبر فلا بد من الإشارة إلى نوعين مهمين منه، وهما:
الصبر على فعل الطاعات، والصبر على ترك المعاصي.
النوع الأول: الصبر على الطاعات:
إن رسالة الإنسان في الحياة ثقيلة وشاقة، وطريقها طويل ومحفوف بالمكاره والأشواك، وقد أبت السموات والأرض أن تحمل هذه الرسالة، لعظم شأنها وثقل مسؤوليتها، فحملها الإنسان: ((إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا))([115])، وهذه الرسالة مضمونها أوامر ونواهي، أوامر من الله عز وجل ومن رسله للخلق للامتثال بها واتخاذها منهجًا لهم في الحياة، ونواهٍ تمنعهم من اتباعها والجري وراءها، وهذه الأوامر من الله تعالى ثابتة لا تتغير وفرائض باقية إلى أن تقوم الساعة، فإقام الصلاة أمر، وإيتاء الزكاة أمر، وصوم رمضان أمر، والصدق أمر، والوفاء بالعهد أمر، وطاعة الوالدين أمر، وغيرها أوامر كثيرة جدًا، ترافق الإنسان في كل أحواله وأزمانه، وحتى يتمكن الإنسان من الالتزام بما فرض عليه من ربه، لا بد أن يكون معه زادًا يتقوى به على أداء هذه العبادات وتنفيذ هذه الأوامر، ويكون سلاحًا له لدوامه واستمراره على أداء الطاعات لله رب العالمين، فلا يكل ولا يمل، بل يجتهد أكثر فأكثر، وخير زاد لذلك وأفضل سلاح هو الصبر الذي به وحده يستطيع الإنسان أن يعبد ربه عبادة صحيحة بكامل شروطها، مقبولة من الله تعالى، ومن غير الصبر لا يستطيع أحد القيام بحق العبودية الكاملة لله في أداء العبادات والفرائض، فكم من جزوع ترك طاعة الله إلى معصيته لخوائه من زاد الصبر. يقول الله تعالى: ((وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ))([116]).
ويقول عز وجل: ((وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ))([117]).
والصبر زاد الأنبياء والرسل في عباداتهم لربهم، فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام حتى تفطرت قدماه، فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا».
وقد دلنا الرسول عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم في أحاديث كثيرة، على التحلي بالصبر في الأمور كلها، ومنها الطاعات، وبين لنا المنهج التربوي للمصابرة على أداء فرائض الله تعالى، منذ الصغر، فقد أمر الآباء بأن يأمروا أولادهم بطاعة ربهم وهم في سن مبكرة، لترويض نفوسهم عليها، وتحملهم مشاقها في الطفولة ليسهل عند الشباب والكهولة، فيقول عليه الصلاة والسلام: «مروا أولاكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرّقوا بينهم في المضاجع»([118]).
ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «المجاهد من جاهد نفسه في الله»([119]).
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن تعويد النفس على الصبر في الطاعات هو الأساس الذي سينطلق منه الإنسان للحياة في جميع مجالاتها، وهو المفتاح الذي سيفتح للإنسان أبواب السعادة، ويتغلب من خلاله على المكاره كلها، وهو الرصيد للدخول إلى أنواع الصبر المختلفة والمصابرة فيها، لأن المتزود بالصبر على الطاعة يجمع بين فضيلتين عظيمتين الصبر والطاعة، وبهما سيكون له شأنٌ آخر في الحياة، وبهما ستكون شخصيته مختلفة عن سائر الخلق من حوله الذين لم يذوقوا مرارة الصبر وحلاوة العبادة.
ويدخل في الصبر على العبادة أو الطاعة، إخلاص النية لله، والتخلق بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم في أداء العبادات والطاعات على أكمل وجه ممكن، وكذا طرد الشيطان ومحاربته بالالتجاء إلى الله، والاستعاذة بالله منه، لأنه دؤوب على الوسوسة وإدخال الكسل والفتور إلى نفس المؤمن العابد، لصده عن ذكر الله وإبعاده عن لذة العبادة وأداء الواجبات.
وروي أن مالك بن دينار كان يبكي ويُبكي أصحابه، ويقول في خلال بكائه: اصبروا على طاعته، فإنما هو صبر قليل وغنْمٌ طويل، والأمر أعجل من ذلك([120]).
النوع الثاني: الصبر على ترك المعاصي:
كما أن الصبر مطلوب على طاعة الله تعالى وأداء فرائضه والقيام بواجب الدعوة وما تحمله من متاعب ومصاعب، فإن الصبر مطلوب بالمقابل عن معاصي الله تعالى ونواهيه، وهذا النوع من الصبر هو مقاومة النفس عن اتباع الشهوات والملذات التي حرم الله تعالى على عباده الاقتراب منها وتناولها، لحِكم هو يعلمها جلّ وعلا، وللأضرار التي تنجم عن هذه المعاصي والمنهيات، سواء على الصعيد النفسي أو الاجتماعي وبالتالي على صعيد الأمة بأسرها في جميع المستويات والطبقات.
إلا أن المؤمن يمتنع عن هذه المعاصي والمنكرات امتثالاً لأمر الله تعالى واتباعًا لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا هو الدافع الذي جعل الصحابة يتركون ما كانوا عليه في الجاهلية بعد نزول الآية مباشرة، فعندما نزلت آية تحريم الخمر، بدأ الصحابة رضوان الله عليهم بتطبيق هذا الأمر رغم أنه كان فيه نوع من الصعوبة على أنفسهم، بوصفهم اعتادوا عليه لسنين طويلة، إلا أنهم مجرد أن سمعوا آية التحريم تقرأ عليهم حتى أخرجوا ما في بيوتهم من الخمور والمسكرات وأهراقوها في الأزقة والطرقات، وقالوا بأعلى صوتهم وبكامل رضاهم انتهينا ربنا انتهينا ربنا، وهذا درس عظيم يضرب به المثل في صبر الصحابة عن معاصي الله تعالى، والأمثلة في هذا المجال بالنسبة لجيل الصحابة كثيرة غير قابلة للعد.
والصبر عن معاصي الله تعالى ونواهيه أمر التزم به أنبياء الله تعالى كما التزموا بالصبر على طاعته، وهم القدوة لنا في أمورنا كلها كبيرها وصغيرها، فهذا هو نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام يتعرض لأكبر إغراء من امرأة وزير الدولة في ذلك الوقت وقد تزينت بكامل زينتها وجمالها، ويوسوس له الشيطان من جميع الأبواب، ويزين له فعل الفاحشة، وأسباب الفاحشة كلها متوافرة من الخلوة وإغلاق الأبواب وغيرها، إلا أنه يقاوم نفسه ويلجأ إلى الله تعالى في هذا الموقف العصيب ويصبر على هذا الإغراء الشديد، ويفضل المكوث في السجن على الوقوع في المعصية، لأنه يعرف عقوبة هذا الفعل في الدنيا والآخرة، وكذلك يعرف جزاء الامتناع عنه في الدنيا والآخرة، فكان الوسام له والجزاء الإلهي أنه صار نبيًا من أنبياء الله تعالى، ثم إنه سبحانه وتعالى لم يخذله في الدنيا بل جعل ثمرة صبره في ذلك الاختبار الصعب أن ملكه على خزائن مصر.
وهذا هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تعرض له الدنيا مالاً وسلطة ونساء، لكنه عليه الصلاة والسلام لم يركن إلى إغراءات الجاهلية وزخرف الدنيا والتخلي عن دعوته، بل صبر على هذه المعاصي، وصبر على طريق الدعوة إلى الله تعالى، وقال قولته المشهورة التي أسمعت العالم شرقه وغربه، عندما عرض عليه هذا العرض عمه أبو طالب، فقال: «يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته»([121]).
وهذا النبي عليه الصلاة والسلام يبيّن لنا أن طريق المؤمنين المخلصين في هذه الحياة صعبة وشاقة، والأهواء والشهوات ستحيط بهم من كل جانب، وستعرض عليهم الدنيا بمتاعها وزخرفها، وبشرّهم إن صبروا عليها فإن الله تعالى سيجزيهم حسن الجزاء في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، حيث يقول عليه الصلاة والسلام: «يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر»([122]).
والمعاصي في أغلب الأحيان تكون موافقة لهوى النفس وشهواتها، لذا كان التحذير الإلهي لاتباع الهوى فقال جل وعلا: ((وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ))([123]).
وقوله أيضًا ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا)) ((فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)) ((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)) ((وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا))([124]).
وكذلك التحذير النبوي للمؤمنين من اتباع الشهوات والدخول في المحرمات، ووصف العاقل والمفلح بأنه من صبر على أهواء النفس ومغريات الحياة، والخاسر والعاجز من لم يصمد أمام هذه المغريات، فقال عليه الصلاة والسلام: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني»([125]).
وأخيرًا فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قد أخبرنا عن طريق الجنة وطريق النار، وأخبرنا أن الصبر عن المعاصي والشهوات ثمرته جنة الله ورضوانه، وأما الرضوخ والانقياد للملذات المحرمة ووساوس الشياطين فإن ثمرة ذلك عذاب الله وعقابه وناره، فقال عليه الصلاة والسلام: «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات»([126]).
فطوبى للصابرين عن المعاصي والمنكرات التي تحوم وتنتشر في كل مكان لاسيما في عصرنا الحاضر الذي صارت فيه أبواب الفساد والمحرمات مفتوحة على مصاريعها، حتى دخلت المعصية كل مجتمع وكل بيت، وتجهزت القوى المعادية لدين الله تعالى لبث هذه المعاصي ودعمها بكل قوة واندفاع، من خلال وسائل الإعلام المختلفة والفضائيات المتنوعة التي تديريها أياد خفية وملوثة تريد تلويث الأمة في فكرها وعقيدتها، وإبدال دينها وأخلاقها بالهوى الماجن والشهوة الجامحة حتى تصبح هذه الأمة تابعة لها فتمسك بزمام أمرها ومصيرها.
آثار الصبر وثمراته
1 - إذا أحلّت بالعبد شدة وضائقة وتلقاها بالصبر وعدم الجزع توجهت نفسه إلى ربها ملتجئة إليه لائذة به وعائذة، تطلب منه العون والمدد فيزداد قربًا من الله عزّ وجل. فيحس العبد بضعفه وقلة حيلته، ويستشعر عبوديته لربه جلّ وعلا، فينال راحة نفسية وثباتًا مع الرضى بما أصابه، ولا يحدث حوله قلقًا وجزعًا ربما آذى غيره ممن لهم صلة به، ويكون قدوة لغيره في مواجهة الشدائد فيصلح حال مجتمعه، لأن كثيرًا من الشرور التي تصيب المجتمع يأتي من جهة الساخطين على ما يصيبهم من شدة وبأس حيث تمتلئ نفوسهم حقدًا وحسدًا فيودون الثورة على كل ما يحيط بهم.
وهنا همسة في أذن كل مبتلى لأجل ألا يتحول بلاؤه مضاعفًا فيكون مرضًا نفسيًا مزمنًا، فليعي ما قلنا سابقًا في معاملته نفسه بالصبر حتى يسدّ الباب على الشيطان فلا يلج إلى نفسه ((فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)).
2 - رفعة الدرجات وتكفير السيئات: إن أعظم الأخلاق التي يتحلى بها الإنسان وتكفر به سيئاته وخطاياه هو الصبر، وقد وردت آيات عديدة في مكانة الصابرين عند الله تعالى وما أعد لهم من نعيم مقيم.
يقول الله تعالى: ((إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ))([127]) والأجر في الدنيا والآخرة.
قال عليه الصلاة والسلام: «ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها»([128]).
3 - النصر: إن من أهم ثمرات الصبر وفوائده في الحياة الدنيا هو تحقيق النصر على الأعداء، فالمؤمن الذي يصبر على الأذى والعذاب في سبيل الله إنما يسلك طريق النصر، وهو مطلب أساس للوصول إلى النصر، تصديقًا لقول الباري عز وجل: ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ))([129]).
وهناك تأكيد من رب العالمين لعباده المؤمنين الصابرين والمخلصين، بأنه جل شأنه ناصرهم ومؤيدهم بالملائكة عند مقارعة ومواجهة الكفر والشرك، حيث قال جل ذكره: تعالى: ((بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ))([130]).
وقد كان الصبر الذي تحلى به الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة الكرام رضوان الله عليهم على ما عانوه من قتل وتهجير وتعذيب كان سببًا في تمكين الله لهم في الأرض، وانتشار الإسلام ووصوله إلى أقاصي الأرض، حيث تمكن المسلمون خلال فترة وجيزة من فتح بلاد العالم وكسر شوكة الكفر والشرك، والقضاء على أكبر إمبراطوريتين في ذلك العصر الرومانية والفارسية، فتحول بذلك تلك المعاناة والصعاب إلى النصر والتمكين، فهذا هو بلال رضي الله عنه الذي كان يرسل أناته في رمضاء مكة تحت وطأة العذاب وضرب السياط في سبيل الله، سرعان ما تحول ذلك الأنين إلى صوت حر طليق وقوي يجلجل في روابي مكة بالنداء الخالد الله أكبر الله أكبر، وصدق الحق تبارك وتعالى إذ قال: ((اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ))([131]).
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب»([132]).
وأنشد أحمد بن يحيى([133]):
مفتاح باب الفرج الصبر والدهر لا يبقى على حاله والكره تفنيه الليالي التي وكيف يبقى حال من حاله | وكل عسر معه يسر والأمر يأتي بعده الأمر يفنى عليها الخير والشر يسرع فيها اليوم والشهر |
ومن الانتصار: الانتصار على وساوس الشيطان بالصبر فلا يتطور بلاؤه ولا يزداد، فيفتح بهذا الصبر آفاقًا رحبة في نفسه يرى المستقبل أبيض شفافًا بحسن ثقته بالله تعالى ودحره للشيطان.
وهذا الانتصار من أعظم الانتصارات في هذه الحياة فلا ينهزم المسلم لمرض، أو فقر، أو موت قريب أو حبيب، ونحو ذلك وسيرى النتيجة الحسنة والعاقبة الطيبة في الدنيا والآخرة، ويتبع هذا الانتصار السير في الحياة بخطى ثابتة نحو البناء والتنمية، والطاعات والقربات بدون عثرات أو عقبات.
وبهذا الانتصار يُقْهر أعداء الإنسان من شياطين الإنس والجن وفي النهاية اللذة والنعيم في الدنيا والآخرة، قال أحد العلماء وهو مبتلى: «نحن في سعادة لو علم عنها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف». ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية وهو في سجنه: «أنا جنتي وبستاني في صدري أينما ذهبت فهي لا تفارقني: حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي عن بلدي سياحة».
فهل لك أخي القارئ بهذه السعادة النفسية والشراحة القلبية، فانظر إلى مقدار صبرك يكن نصيبك من هذا الانتصار الرهيب.
4 - إن الصبر على الابتلاء يكشف حقيقة النفوس الصادقة من الكاذبة، يقول الله تعالى: ((الم)) ((أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)) ((وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ))([134]).
روي عن سفيان بن عيينة قوله: لم يعط العباد أفضل من الصبر، به دخلوا الجنة([135]).
وقال رسول الله صلى الله عليه: «ومن يصبر يُصبره الله، وما أعطي أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر»([136]).
من آداب الصبر ومقوماته
من آداب الصـبر:
1 - الاسترجاع عند المصيبة، يقول الله تعالى: ((وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)) ((الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)) ((أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ))([137]).
عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجعك. فيقول: ابنو لعبدي بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد»([138]).
وعن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها، إلا أخلف الله له خيرًا منها»([139]).
2 - سكون الجوارح واللسان عند إحلال المصيبة، وعدم التلفظ بكلمات فيها السخط من أمر الله والضجر منه، بخلاف البكاء فإنه جائز عند نزول المصائب والبلاءات.
عن ابن عمر قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبدالله بن مسعود، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله، فقال «قد قضى؟» قالوا: لا يا رسول الله. فبكى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى القوم بكاءه بكوا، فقال: «ألا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم»([140]).
3 - عدم عمل ما يخالف الصبر كضرب الخدود وشق الجيوب، والصراخ والعويل، واستئجار الباكين، أو قطع العلاقات مع الآخرين لتلك المصيبة مدة طويلة من الزمن، وعمل ما لا يرضي الله تعالى من الإسراف والتبذير ونحو ذلك.
ومما ينافي الصبر:
الجزع عند الابتلاء:
أما إذا قابل العبد المبتلى مصيبته بالجزع والسخط لحكم الله فإنه يعرض نفسه لغضب الله تعالى، والخسران والخيبة يوم القيامة، يقول جل ذكره: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ))([141]).
ويقول جل شأنه: ((إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا)) ((إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا)) ((وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا))([142]).
وللجزع صور كثيرة نذكر بعضًا منها:
1 - الشكوى لغير الله والإكثار من التأفف من الحال والبلاء، والسب والشتم للمصيبة، فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب أو أم المسيب فقال: «ما لكِ يا أم السائب، أو يا أم المسيب تزفزفين؟ قالت: الحمّى لا بارك الله فيها، فقال: لا تسبي الحمّى فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يُذهب الكير خبث الحديد»([143]).
وقال علي رضي الله عنه: من إجلال الله ومعرفة حقه أن لا تشكو وجعك، ولا تذكر مصيبتك([144]).
وهناك فرق بين الشكوى من المرض والإخبار عن المرض، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في وجعه: «وارأساه»([145])، وقول سعد: يا رسول الله قد اشتد بي الوجع وأنا ذو مال، وقول عائشة: وارأساه.
وأعظم الشكوى وأبغضها في حال النعمة والخير والبركة، كما يفعله بعض الناس عندما ينظر إلى النعمة التي أنعم الله بها عليه في مقابل غيره فيجدها أكثر منه فيشتكي وهذا من التشكي الخفي الذي يتسلل منه الشيطان ليفسد على الصالحين صلاحهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
2 - اليأس من رحمة الله تعالى، والركون إلى وساوس الشيطان وما يمليه عليه من همزاته ونزغاته، قوله تعالى: ((وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ))([146]).
عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط»([147]).
وقال عبدالله بن المبارك: من صبر فما أقلَّ ما يصبر، ومن جزع فما أقل ما يتمتع. بمعنى أن مدة الصبر قليلة ثم تكون النتيجة الحسنة، أما الجزع فهو مستمر مع صاحبه لا ينقطع.
واليأس مرض خطير وباب عظيم من أبواب الشيطان يلج منه إليه فيفسد عليه دينه ودنياه وآخرته حتى يصل به إلى الكفر والعياذ بالله كما سبق في الآية. فليفتح المبتلى لنفسه آفاق الرحمة فيرحم، وآفاق الشفاء فيشفى، وآفاق الغنى فيغنى، وآفاق السعادة فيسعد، وليتذكر قوله تعالى في الحديث القدسي: «أنا عند حسن ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني..» فأحسن الظن بالله يكن لك ما ظننت.
3 – النياحة وشق الجيوب ولطم الوجه وحلق الشعر، وأما أشبهها من أفعال الساخطين، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعى بدعوى الجاهلية»([148]).
وأما البكاء فجائز لأنه رحمة وليس سخطًا أو جزعًا، عن أبي هريرة قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة يبكي عليها وأنا معه ومعه عمر بن الخطاب، فانتهر عمر اللاتي يبكين عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعهن يا ابن الخطاب فإن النفس مصابة وإن العين دامعة والعهد قريب»([149]).
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: أنه زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله([150]).
وللبكاء المشروع تأثير على نفس المصاب ومن حوله فهو يخفف الحزن والألم، ويزيح عن الصدر الكآبة، وهو تعبير غير ناطق بحروف، كيف وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم تستطع البكاء المشروع فتباكى ولو على حالة دعاء، أو ذكر لله تعالى، أو سجود، فلا تكتم الأحزان في صدرك فتؤثر عليه، ومن هنا نعلم أن الاعتراض على الباكين البكاء الشرعي اعتراض غير صحيح، إلا إذا تجاوز البكاء حده الشرعي من الصياح بصوت عال أو ضرب نفسه وشق ثيابه، فهذا يوجه لما فيه خير له.
بعض العوامل المساعدة لكل من الصبر والشكر:
1 - التوكل على الله تعالى واستشعار عظمته، فإنه من يتوكل على الله فهو حسبه، قال تعالى: ((وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)).
2 - المحافظة على الفرائض وأداؤها على أكمل وجه وبالشكل الذي كان يؤديها الرسول عليه الصلاة والسلام. من الصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها.
3 - الإكثار من قراءة القرآن الكريم وذكر الله تعالى في الحل والترحال، فإنها تساعد الإنسان على تخطي الصعاب والانتصار على الوسواس الخناس.
4 - قراءة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسير السلف الصالح، لما فيها من الأحداث والعبر والدروس، مما تشجع النفس المؤمنة على التمسك بحبل الله والرضى بحكم وقدره في السراء والضراء اقتداء بتلك الأجيال السالفة والصالحة.
5 – مصاحبة الأخيار، من الناس الذين يعينون على فعل الخيرات، وترك المعاصي والمنكرات، لأنهم يذكّرون بعضهم البعض بحمد الله والثناء عليه في حالتي النعمة والبلاء.
وأخيرًا: إن المسلم وهو يتعامل بهذه العوامل سيستقيم منهاج حياته إلى أن يلقى ربه عز وجل شاكرًا صابرًا فتكون له الخيرية في الدنيا والآخرة: «إن أمره له كل خير».
إن استشعار المسلم لهذه القضية المنهجية يكسبه السير السليم في هذه الحياة، منميًا قدراته وملكاته، مطمئنًا مرتاحًا، ناجحًا في سلوكه، محققًا أهدافه، سليمًا معافى، قلبه خال من الأمراض القلبية، كالحسد والبغض والكره والحق والغيرة، وغيرها، ينام مرتاحًا، يستيقظ كذلك، حامدًا فضل ربه، شاكرًا نعمائه، صابرًا محتسبًا بلاءه، حقّق الله تعالى لنا ولك ذلك، فجاهد نفسك أيها المسلم، الداعية، المريض، الفقير، الغني، الشاب، الصحيح... لترى النتائج العجيبة، والآثار الحميدة.
* * *
الخاتمـــــة
كانت تلك دراسة مختصرة عن حال المؤمن في سرائه وضرائه، ومقابلته لها بالشكر والصبر وما يترتب على ذلك من آثار وفوائد في حياة المؤمن ليتمكن من أداء رسالته في الحياة بنجاح دون التأثر بما يمنحه الله من نعم أن يمتحنه ببلاء، وأن الشكر والصبر كلاهما يجعل العبد المؤمن قريبًا من ربه يثني عليه ويلهج بحمده وشكره، وطلب العون والمدد والثبات منه والقرب من الله نعمة عظيمة لا يدرك لذتها وقدرها إلا من ذاقها وعرفها، ولا يذوقها ولا يعرفها إلا المؤمن، وبالشكر والصبر ينال المؤمن الراحة والطمأنينة والسكينة، وينعكس ذلك كله على المجتمع حيث يسوده الرضى والأمن والترابط المتين.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من عباده الشاكرين الصابرين الراضين إنه سميع قريب مجيب.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه/
فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر
([1]) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، ص144.
([2]) صحيح مسلم، رقم 7500، ص1295.
([3]) سورة الملك، الآية 2.
([4]) صحيح مسلم، رقم 7130، ص1228.
([5]) سورة البقرة، الآية 152.
([6]) سورة البقرة، الآية 177.
([7]) سورة آل عمران، الآية 110.
([8]) صحيح مسلم، رقم 7092، ص1223.
([9]) صحيح مسلم، رقم 7098، ص1223-1224.
([10]) جامع الترمذي، رقم 2459، ص560.
([11]) مسند أحمد، رقم (13012)، ص(914).
([12]) سورة الزلزلة، الآيتان 7، 8.
([13]) صحيح البخاري، رقم 693، ص114.
([14]) مسند أحمد، رقم (23885)، ص(1745).
([15]) سورة آل عمران، الآية 134.
([16]) تفسير القرطبي، ج4/130.
([17]) سورة الكهف، الآية 46.
([18]) سورة آل عمران، الآية 14.
([19]) سورة الذاريات، الآية 56.
([20]) سورة فصلت، الآية 53.
([21]) صحيح البخاري، رقم 6412، ص1113.
([22]) سورة العصر، الآيتان 1، 2.
([23]) سورة النساء، الآية 103.
([24]) جامع الترمذي، رقم 2417، ص550-551.
([25]) سورة الروم، الآية 21.
([26]) سورة الكهف، الآية 46.
([27]) سنن ابن ماجه، رقم 253 ص39.
([28]) سنن أبي داود، رقم 3664، ص525-526. ورواه أحمد في مسنده، وكذلك ابن ماجه في سننه.
([29]) سورة البقرة، الآية 155.
([30]) سورة إبراهيم، الآية 35.
([31]) الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، مادة شَكَرَ (2/702).
([32]) سورة سبأ، الآية 13.
([33]) تفسير القرطبي 1/271.
([34]) سورة لقمان، الآية 20.
([35]) الصبر والثواب عليه، لابن أبي الدنيا، ص(36).
([36]) سورة آل عمران، الآية 31.
([37]) سورة القصص، الآية 78.
([38]) سورة الضحى، الآية 11.
([39]) سنن أبي داود، رقم 1522، ص225. ورواه أحمد والترمذي والنسائي.
([40]) سنن أبي داود، رقم 5073، ص713. ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر ص149.
([41]) الشكر لابن أبي الدنيا، ص95. وورد في جامع الترمذي "من لم يشكر الناس لم يشكر الله" رقم 6955، ص454.
([42]) سورة العصر.
([43]) سورة الكهف، الآية 107.
([44]) سورة البقرة، الآية 30.
([45]) سورة الحديد، الآية 7.
([46]) سورة التوبة، الآية 60.
([47]) سورة البقرة، الآية 262.
([48]) صحيح مسلم، رقم 2336، ص408.
([49]) مسند أحمد، رقم (25353)، ص(1857).
([50]) صحيح مسلم، رقم 6876، ص1176.
([51]) سورة الفرقان، الآية 67.
([52]) صحيح مسلم، رقم 6774، ص1161.
([53]) مسند أحمد، رقم (9223)، ص(671)، وابن أبي الدنيا في كتاب الشكر، ص(89).
([54])مسند أحمد، رقم (15983)، ص(1121)، وابن أبي الدنيا في كتاب الشكر، ص(91).
([55]) رواه الحاكم في المستدرك (4/306).
([56]) صحيح البخاري، رقم 6412، ص1113.
([57]) كتاب الشكر، ص113.
([58]) كتاب الشكر ص141.
([59]) سورة الروم، الآية 55.
([60]) سورة النازعات، الآية 46.
([61]) سورة الحديد، الآية 21.
([62]) جامع الترمذي، رقم 3895، ص878
([63]) صحيح البخاري، رقم 892، ص143-144.
([64]) سورة النحل، الآية 112.
([65]) سورة آل عمران، الآية 145.
([66]) سورة آل عمران، الآية 144.
([67]) سورة إبراهيم، الآية 7.
([68]) سورة البقرة، الآية 152.
([69]) سورة الإنسان، الآية 3.
([70]) سورة سبأ، الآيات 15-17.
([71]) سورة القصص، الآيتان 58، 59.
([72]) سورة النحل، الآية 112.
([73]) سورة الأحقاف، الآية 20.
([74]) العاديات، الآية 6.
([75]) صحيح البخاري، رقم 29، ص8.
([76]) سورة الأعراف، الآية 7.
([77]) سورة سبأ، الآية 13.
([78]) سورة النحل، الآيتان 120، 121.
([79]) صحيح مسلم، رقم7430، ص1283.
([80]) سورة البقرة، الآية 177.
([81]) سورة آل عمران، الآية 200.
([82]) سورة العنكبوت، الآيات 1-3.
([83]) سورة الفرقان، الآية 31.
([84]) سورة الأنعام، الآية 112.
([85]) سورة طه، الآية 71.
([86]) جامع الترمذي، رقم 2398، ص547.
([87]) صحيح البخاري، رقم 4815، ص849.
([88]) صحيح البخاري، رقم 3612، ص606.
([89]) سورة آل عمران، الآية 200.
([90]) صحيح مسلم، رقم 2436، ص425-426.
([91]) السيرة النبوية لابن هشام، 1/ 346.
([92]) سورة المائدة، الآية 106.
([93]) جامع الترمذي، رقم 2399، ص547.
([94]) كتاب الصبر، ص82، ورواه الحاكم في المستدرك (1/502).
([95]) مسند أحمد، رقم(28095)، ص(2056).
([96]) صحيح مسلم، رقم 2140، ص372.
([97]) صحيح البخاري، رقم 6424، ص1115.
([98]) الصبر، ص112.
([99]) سنن ابن ماجه، رقم 4032، ص582.
([100]) صحيح البخاري، رقم 6018، ص1052.
([101]) الصبر، ص26.
([102]) جامع الترمذي، رقم 2396، ص546.
([103]) سورة ص، الآية 44.
([104]) أخرجه مالك في الموطأ، ص(589)، ما جاء في أجر المريض.
([105]) صحيح البخاري، رقم 5653، ص1001.
([106]) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين ص113.
([107]) سورة البقرة، الآية 216.
([108]) سورة الحج، الآيتان 39، 40.
([109]) سورة الأنفال، الآيتان 15، 16.
([110]) سورة آل عمران، الآية 146.
([111]) سورة البقرة، الآية 250.
([112]) الصبر، ص44.
([113]) رواه الحاكم في المستدرك (2/119).
([114]) سورة النساء، الآية 100.
([115]) سورة الأحزاب، الآية 72.
([116]) سورة البقرة، الآية 45.
([117]) سورة يونس، الآية 109.
([118]) سنن أبي داود، رقم(495)، ص(82).
([119]) جامع الترمذي، رقم 1621، ص392. ورواه أيضًا أحمد في مسنده.
([120]) الصبر والثواب عليه، ص 101.
([121]) السيرة النبوية لابن هشام، 1/299.
([122]) جامع الترمذي، رقم 2260، ص519-520.
([123]) سورة المؤمنون، الآية 71.
([124]) سورة الشمس، الآيات 7-10.
([125]) جامع الترمذي، رقم 2459، ص560.
([126]) صحيح مسلم، رقم 7130، ص1228.
([127]) سورة الزمر، الآية 10.
([128]) صحيح البخاري، رقم 5667، ص1003.
([129]) سورة البقرة، الآية 264.
([130]) سورة آل عمران، الآية 125.
([131]) سورة الأعراف، الآية 128.
([132]) مسند أحمد، رقم(2804)، ص(255-256).
([133]) الصبر، ص58.
([134]) سورة العنكبوت، الآيات 1-3.
([135]) الصبر، ص51.
([136]) صحيح مسلم، رقم 2424، ص423.
([137]) سورة البقرة، الآيات 155-157.
([138]) جامع الترمذي، رقم 1021، ص246-247. ورواه أيضًا أحمد في مسنده.
([139]) صحيح مسلم، رقم 2126، ص369.
([140]) متفق عليه، واللفظ للبخاري، رقم(1304)، ص(209).
([141]) سورة الحج، الآية 11.
([142]) سورة المعارج، الآيات 19-21.
([143]) صحيح مسلم، رقم 6570، ص1128.
([144]) مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة، ص349.
([145]) صحيح البخاري، رقم 7217، ص1243.
([146]) سورة يوسف، الآية 87.
([147]) جامع الترمذي، رقم 2396، ص546.
([148]) الصحيحان، واللفظ من صحيح البخاري، رقم 1297، ص207.
([149]) سنن النسائي، رقم 1860، ص263. ورواه أيضًا أحمد وان ماجه.
([150]) صحيح مسلم، رقم2259، ص392.