×
رسالة يدعو فيها الكاتب - رحمه الله - إلى ضرورة تفعيل الجانب السياسي للدول الإسلامية وضم شملها في شكل تكتل إسلامي بحيث لا تكون إمعة في ركاب الشرق أو الغرب، مع ضرورة الأخذ من السياسية جانبَ الحقِّ والعدل والتعاون المثمر، على أسس من الخير والبر، وتذر سياسةَ النفاق والمصانعة الكاذبة، والتراخي عن الحق، وبذلك تعيد للسياسة الشرعية رونقَها، وتثبت للعالم من جديد أن الإسلام ليس منزويًا عن الأحداث، وليس دينَ جمود وإهمال، وإنما هو دين عبادة وعلم وسياسة واقتصاد؛ ينظم حياة البشر، ويرشدهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.

الوحدة الإسلامية

تأليف فضيلة الشيخ

رحمه الله

مقدمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ‬ وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.

وبعد، فكم يسرُّني أن أقدم كتاب "الوحدة الإسلامية" إلى القراء في العالم العربي والإسلامي، وفي هذه الظروف بالذات؛ ذلك أن الأمة الإسلامية قد بدأتْ تدرك أهميةَ بناء السياسة على قواعدَ إسلاميةٍ، وعلى مستوى إسلامي شامل، وهذا راجعٌ إلى فشل التجارِب التي مرَّت بها الأمة الإسلامية حينما نادى بعضُ زعمائها بشعارات وسياسات بعيدة عن روح الإسلام ومقاصده.

وكان بعض أبناء المسلمين يؤمِّلون منها حلاًّ لقضاياهم، ورفعًا لشأنهم، وإذا بها تتكشف عن مهاوٍ سحيقة، وإذا هي تقطيعٌ لأواصر الأمة الإسلامية العتيدة، وبهذا وجد المستعمرون من شيوعيين وصليبيين وصهيونيين وغيرهم ثغراتٍ سهَّلت لهم الوثوب على بلاد المسلمين وتمزيقها.

وإن هذا الكتاب الذي أقدمه للقارئ اليوم - بعد أن كنت نشرتُه في الصحف في أوقات مختلفة - هو كتاب يوضِّح أن المسلمين في حاجة إلى أن يخطِّطوا سياستهم؛ لتكون سياسة شرعية واضحة، لا تذوب في زيف المداهنات والمجاملات، ولا تكون إمَّعة في ركاب الشرق أو الغرب، ولا تتهرب من السياسة؛ بل إنها تأخذ من السياسة جانبَ الحقِّ والعدل والتعاون المثمر، على أسس من الخير والبر، وتذر سياسةَ النفاق والمصانعة الكاذبة، والتراخي عن الحق، وبذلك تعيد للسياسة الشرعية رونقَها، وتثبت للعالم من جديد أن الإسلام ليس منزويًا عن الأحداث، وليس دينَ جمود وإهمال؛ وإنما هو دين عبادة وعلم وسياسة واقتصاد، ينظم حياة البشر، ويرشدهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.

والإسلام يختط للسياسة نهجًا فريدًا، بعيدًا عن المراوغة والميكيافيلية، وهو يعطي السياسة مفهومًا سليمًا، خلاف ما يفهمه عنها الكثيرون في العالم اليوم.

وهذا الكتاب الذي نقدِّمه للقراء يتحدث عن قضايا إسلامية عديدة، هي الشغل الشاغل للمسلمين في هذا العصر، ومن خلال سطوره ينجلي الرأي الصائب، وهو أن حل هذه القضايا إنما يكون بانتهاج سياسة إسلامية صريحة، تشعر فيها كلُّ دولة إسلامية بشعور الدولة الأخرى؛ لأنها قضايا متشابهة متقاربة، وأصل دائها واحد، مهما كان لون المستعمر والطامع.

وبعدُ، فإنه لأملٌ عظيم أن يكون للأمة الإسلامية سياسةٌ واضحة، تنبع من عقيدتها، وتسير على نهج سليم، وذلك ما يرجوه كل مخلص غيور.

المؤلف


هكذا نفهم مسؤوليتنا

الدعوة التي وجهتْها رابطة العالم الإسلامي لملوك ورؤساء الدول الإسلامية، باستنكار الاعتداء الذي اقترفتْه الهند ضد الباكستان، وطلب مساعدة جميع المسلمين حكوماتٍ وشعوبًا لمساندة الباكستان في جهادها؛ انتصارًا للحق والعدل، وقيامًا بواجب الأخوة الإسلامية، هذه الدعوة جاءت في حينها، وهي دليل جليٌّ على شعور رابطة العالم الإسلامي بواجبها حيال القضايا الإسلامية، والشؤون العامة.

إن الحرب الدائرة اليومَ بين الهند وباكستان يتمثل فيها طرفا النقيضين: دولةٌ تريد إخضاع شعب مسلم في كشمير بالقوة والبطش والتنكيل، والاغترار بالكثرة العددية في السكان، وعدم تقدير العواقب في اقتحام حدود الدولة المستقلة، ودولةٌ تهدف إلى صد العدوان، والدفاع عن النفس والدين والبلاد، وتريد أن يختار شعب كشمير المسلم نوع الحكومة التي يرغبها في استفتاءٍ نزيه، بعيد عن القوة الغاشمة، والحكم الجائر.

فهي إذًا حرب بين الحق والباطل، وبين العدل والظلم، وبين ما يجب أن يقع، وما لا يجوز أن يحدث، وموقف المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يجب أن يكون صريحًا واضحًا، لا

الْتواء فيه ولا مجاملة.

لقد اعتدنا من الباكستان الوفاء في كل قضية إسلامية، وفي قضية فلسطين كانوا دائمًا إلى جانب الحق والعدالة، لم ينخذلوا في أي موقف أو مؤتمر أو خلافهما، ولم يكن معسول قول يناقضه التطبيق، فقد أدرك الباكستانيون ما يقتضيه الدينُ والأخوة الإسلامية، وأعلنوا رأيهم بكل جلاء، على الرغم من المواقف التي يقفها بعض العرب من قضية كشمير، بشيء أقل ما توصف به أنها مواقفُ سلبية.

إن الأخوة الإسلامية تحتم أن يقف المسلمون جميعًا مؤيدين لباكستان في قضيتها العادلة، بكل أنواع التأييد المادي والأدبي، وأن يناصروها في حقها العادل، الذي يريد المغرورون هضمَه والتنكُّر له.

لقد صبرتْ باكستان ثمانيةَ عشرَ عامًا في انتظار حلٍّ لهذه المشكلة، والحلُّ واضح، والحق جلي، وترقبت تنفيذ قرارات الأمم المتحدة بإجراء استفتاء شعبي في كشمير، ومع ذلك فقد ظلَّتْ قرارات الأمم المتحدة حبرًا على ورق، ولم تعبأ الدولة الأخرى بها، ولم تُعِرْها أي اهتمام.

لقد ظنتِ الهند أنها بقوة الحديد والنار تستطيع أن تضيف أراضيَ جديدةً لها، وأن تحطم الباكستان نهائيًّا، كما هو حلم أعداء الإسلام تُجاه كل بلد إسلامي.

نسيت الهند أنها ليست الدولةَ الوحيدة التي تملك الحديد والنار، وتجاهلتْ أثر العقيدة الإسلامية في الجهاد، وبذْل الأنفس رخيصة في سبيل الله؛ ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 249].

إننا نحيي رابطة العالم الإسلامي التي أدركتْ مسؤولياتها، ونأسف لمواقف يقفها البعض، وندعو الصحافة في بلاد الإسلام أن تناصر قضايا المسلمين العادلة؛ فذلك فرضٌ لازم، إن تخلَّتْ عنه فقد نكصتْ عمَّا يحتمه الدين والحق والوفاء.

وإن تخاذَلَ العرب عن مناصرة إخوانهم المسلمين في حقهم المشروع، فسوف يتجرَّعون النتائج المرَّة، وسوف يجدون أنفسهم في يوم من الأيام - ونرجو ألاَّ يجري ذلك - في عزلة تامة، وفريسة سهلة للأعداء الطامعين الحاقدين، وتتكرر حكاية (أُكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض)، أو المثل العامي: (من تغدى صاحبي تعشاني).

أيها المسلمون، إن الرسول ﷺ‬ يقول: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا)) وشبَّك بين أصابعه.

وواجب كل مسلم مناصرةُ المسلم أيًّا كان، وفي أي بلد كان، ما دام يدافع عن دينه وعقيدته ونفسه.

فهل أدرك كل منا واجبه، وسعى لتنفيذه؟([1])


حقيقة المسألة([2])

الصراع الدائر الآن بين الإسلام من جهة، وبين أعدائه ومناوئيه من جهة ثانية، ما هو موقفنا منه؟

فالشيوعية والاشتراكية - وما إليهما من المسالك الإلحادية - حربٌ على الأديان عامة، وعلى الإسلام بصفة خاصة؛ لأنها ترى فيه أكبرَ عائق، وأشد مقاوم لكفرها وإلحادها وإباحيتها.

والصليبية تناهض الدين الإسلامي، وتسعى لتفتيت المسلمين وضعْفهم، وغزوهم ثقافيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، بأساليبَ قد تتنوع، وتلبس لكل حالة لبوسَها؛ ولكنها تلتقي في الغاية والهدف.

واليهودية ممثَّلة في إسرائيل وفي الصهيونية، تعمل للانقضاض على البلدان الإسلامية، بعد أن اغتصبت الأجزاء السليبة من فلسطين، وفي مذكرات وايزمان و"بروتوكولات حكماء صهيون"، ما يوضح بجلاء الأهدافَ الشريرة التي تنطوي عليها جوانحُهم، ويبذلون شتى الجهود لتحقيقها، وما امتلاكهم للفرن الذري، واستعدادهم وركضهم وراء امتلاك القنبلة الذرية، وتوطين الأعداد الكثيرة من اليهود في فلسطين، والدعاية المسعورة التي يبثُّونها في أنحاء العالم - إلا مقدماتٌ لنتائج لم تجد - مع الأسف - التقديرَ الكافي، والعمل الحازم المضاد([3]).

والهندوكية تريد أن تصبغ المسلمين في باكستان وفي الهند بصبغةٍ هندوكية، ومعتقداتٍ هندية وثنية مجوسية، بعيدة عن الإسلام وتعاليمه، فهو إذًا صراع عنيف بين العقائد، لا يستهين به إلا جاهلٌ لخطره، أو خائنٌ لدينه وأمته.

وإذا ما نظرنا إلى واقع العالم إزاء البلدان الإسلامية، وجدنا الجميع يسعون لاقتناص البلدان الإسلامية، والسيطرة عليها واستعمارها، وفي الاستعمار الإنجليزي والفرنسي والإيطالي والبرتغالي وغيرها - سواء كان مكشوفًا أو مستترًا - ما يكفي للتدليل على نظرة المستعمرين الغربيين للبلاد الإسلامية.

وإذا ما تطلَّعنا إلى المسلمين في شرقي آسيا وأوربا، فمن البديهي أن يعرف المرء أية خطط يرسمها الشيوعيون - من صينيين وروس وغيرهم - للعالم الإسلامي، وما يلاقيه المسلمون من اضطهاد وإبادة.

ونتلفت يمينًا وشمالاً لنبصر المآسي، وتكالب الدول على بلاد المسلمين، وتداعيها على أمة الإسلام، كلٌّ يريد أن يكون نصيبه الاستعماري أكبرَ، وغزوه الفكري أقوى، وغنائمه أوفر.

وهذا الواقع - على مرارته - يشاهد للعيان، ولا يحتاج إلى إطالة فكر، أو حذق راءٍ، ولنتذكر كشمير وقبرص وأريتريا والصومال الممزق، وكثير سواها، وما دام هذا هو الواقع الأليم، فهل يعقل أن تركن الأمة الإسلامية إلى التواكل، وتظل في خصامٍ ونزاع، وتبديد قوَّتها؟! بينما الأعداء يرقصون طربًا على أولئك الذين يقضون على أنفسهم بأنفسهم، ويمزقون جهودهم بأيديهم، ويظل العدو يتهيأ للوثوب دون أن يجد مقاومة تُذكَر، بعد أن يكون التشتت قد عمل ما لم يستطع الأعداء عملَه.

هل يعقل أن نتوقع من هيئة الأمم، أو مجلس الأمن، أو محكمة العدل الدولية - حلاًّ لمشاكلنا، ودفاعًا عن عقائدنا، وحماية لبلادنا؟! وقد مرَّت التجارِب الطويلة تؤيِّد العكس، وتثبت أن من يؤمِّل ذلك فقد حرث بوادٍ غير ذي زرع، وانتظر من السراب ماء!

وهل الإنقاذ في الانحياز إلى الشيوعية أو الرأسمالية؟ إذًا إنها المتاهة، وقصر النظر!

وهل هو في استيراد أفكار مناقضة للإسلام، ومصادمة للأديان، كما يحلو لبعض من فُتنوا بمبادئ لا تتَّفق مع الدين، ولا مع الفطرة التي فطر الله الناسَ عليها؟! كلاَّ، إن ذلك هو علاج الداء بداء أفظع (كالمستجير من الرمضاء بالنار).

وهل هو الانزواء، والدعاوى الجاهلية، وقطع الصلة بين الناس ومعتقداتهم، وإضعاف العقيدة الإسلامية، وتفكيك الروابط الدينية، كالمناداة بشعارات إقليمية وعنصرية، والتكتل على أساسها، دونما اعتبارٍ لدين أو عقيدة، مع أن الدين نهى عن دعاوى الجاهلية وضلالاتها؟!

وماذا جنى المسلمون من أمثال هذه الدعاوى سوى التفرُّق، والشقاق، والضعف؟!

إذًا؛ لا بد من طريق صحيح يقي سالِكَه من العثرات والضياع، وهو ليس بالبعيد ولا بالعسير، إنه في متناول المسلمين، ألا وهو التضامن بينهم على أساسٍ من العقيدة، وعلى قواعدَ من التشريع الإسلامي، وعلى أن يكونوا متعاونين كالبنيان يشدُّ بعضهم بعضًا.

وذلك ما يدعو إليه الدين، ويحث عليه؛ ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ [آل عمران: 103]، دعوة إلى التآلف صريحة، وتعاون على الخير، وتضامن على الحق؛ ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2].

وفي ذلك النجاة والقوة والعزة القعساء، وكل طريق خلاف هذه الطريق، فمصيرُها الفشل، ونهايتها التردي، وقد عانى المسلمون وجربوا ما يكفي.

مَنْ لَمْ تُفِدْهُ عِبَرًا أَيَّامُهُ = كَانَ العَمَى أَوْلَى بِهِ مِنَ الهُدَى

واليومَ ونحن نشهد هذا الصراعَ الهائل، هل نكتفي بالسلبية والانعزال، ونقول: ما لنا ولمشاكل العالم الإسلامي؟! ولماذا نقحم أنفسنا في أمورٍ لا تعنينا؟! وحسبنا أن ننظر لبلادنا، ونسعى لنهضتها، ونروم تطويرها، ولا نجلب على أنفسنا متاعبَ نحن في غنى عنها؟! وظن من يقول ذلك أنه أصاب كبدَ الحقيقة، واكتشف الأسرار، وعرف المخبآت، وأنه فهم ما عجز عن إدراكه الأوائلُ والأواخر، وما درى أنه بذلك يدعو إلى عزلةٍ قاتلة، وإلى فصم عرًى وثَّقها الله، وأراد لها أنْ تقوى، وأمر أن تعزَّز وتحمى.

لقد غُزي المسلمون في عقر دارهم؛ بسبب نزاعهم، وابتعاد بعضهم عن بعض، وإعراضهم عما يدْعو إليه الدِّين من التعاون على أسس الحق والخير، فكانت النكباتُ تلو النكبات، وصاروا لقمة سهلة لأعدائهم، وهل في إمكان دولة من دول العالم الإسلامي أن تقف بمفردها أمام الأعداء الكثر الذين يريدون ابتلاعها؟! فأي دولة من الدول المنتسبة للإسلام تقوى على الصمود أمام الاستعمار الغربي أو الشرقي؟!

لذا؛ فإن الدعوة إلى التضامن الإسلامي هي الطريق السوي، الذي يتحتم على المسلمين أن يسيروا فيه، وهو فرضٌ ديني، وفيه درء للأخطار الثقافية والعسكرية والسياسية والاقتصادية عن بلاد المسلمين، والتاريخ والواقع يؤكِّدان ذلك بلا ريب.

ومن واجب كل مسلم أن يدْعو إلى التضامن الإسلامي، وأن يشدَّ أزر من يدعو لذلك، ويعمل له بكل ما يقدر عليه، أما المخذولون عن التضامن، فهم كالمتخلِّفين عن الجهاد، والناكصين عن البذل، والجبناء عن القتال!

ومن خُدع ببعض الدعاوى، وانطلتْ عليه الحيلُ الماكرة المدسوسة، فعسى أن يستبين خطأه، ويعلم أين يجب أن يكون، فدعوةُ الإسلام دعوةٌ إلى القوة، وإلى رفع شأن الأمة، والصعود بها في مدارج الرقي، وفي أن تكون ذات حضارة زاهرة، لا ترضى بالخمول أو التخلُّف، ولا تستسلم لليأس والقنوط؛ وإنما تمضي بعزم وثباتٍ في طريق لا عوج فيه ولا أمتًا.


قضايا إسلامية تريد الإيجابية

نشرت جريدة - في عددها - 676 - الصادر في 21 - 2 - 1386هـ - نداءً من مسلمي كينيا إلى جميع المسلمين في أنحاء العالم، وهو نداء يحكي الواقع المؤلم الذي يعيشه المسلمون في كينيا، وما يتعرَّضون له من اضطهاد وإيذاء، وما يلاقونه من متاعبَ ومؤامراتٍ لإضعاف الإسلام في نفوس معتنقيه، وزعزعة له في ذلك القطر، وما يبثُّه المبشرون الصليبيون من شبهات ومؤتفكات، وتعمل الدول الصليبية والحكم المنحاز أعمالاً تكيد بها للإسلام، وتسعى للتفرقة بين أبنائه، وتذل المسلمين.

إنه واقع محزن، وقصة دامية، ويكاد يكون مثلاً على ما يجري في بلدان عديدة، وما يخططه المستعمرون تجاه الإسلام، ويتولَّى التنفيذَ بعضُ أبناء البلاد من المتعصبين، ومن تلاميذ المبشرين في قبرص وزنجبار وغانا وكينيا ونيجيريا، وفي أمريكا وغيرها، ومع ذلك يلوذ كثير ممن يجب أن يقولوا ويعملوا، بالصمت؛ مجاملة وإيثارًا للراحة، أو جهلاً بالواجب الإسلامي حيال هذه الأعمال الهمجية.

المسلمون ذوو قوة مادية ومعنوية لو أحسنوا الاستفادة منها، ولو أدركوا واجبهم العظيم لكان لهم شأن، وأي شأن؟!

وَلَمْ أَرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ عَيْبًا = كَنَقْصِ القَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ

لقد جاء في النداء المبكي الذي وجَّهه أحدُ مسلمي كينيا إلى المسلمين في العالم، هذه العباراتُ:

"وزاد أسى واقع حالنا الدامي أن أغمض إخوانُنا مسلمو العالم عيونَهم، ونسُوا إخوتهم في الدِّين، حتى إن بعض الزعماء المسلمين كانوا يدًا مع أعداء الإسلام، ومكَّنوا لهم في رقاب المسلمين، كما هو واقع الحال مع زعماء كينيا، الذين احتضنهم بعض الزعماء المسلمين، وأسبغوا عليهم مسوح التحرُّر والتقدمية، ويطالب مسلمو كينيا إخوانَهم المسلمين أن يساعدوهم في إرساء الثقافة الإسلامية الواعية؛ لتنشأ أجيال المسلمين نشأة إسلامية صحيحة.

إن المسلمين في هذه البلاد في حاجةٍ إلى مؤازرة؛ لانتشالهم من الأخطار المحيطة بهم، ولرفع الكابوس الثقيل الذي يريد المستعمرون وأعوانهم فرْضَه عليهم.

يجب أن يعي بقية المسلمين - ولا سيما زعماؤهم وعلماؤهم ومفكِّروهم - واجبَهم المحتم عليهم نحوهم، وأن تقاعسهم عن الاضطلاع بهذه المسؤولية ينتج عنه ما لا تحمد عقباه، وكفى ما جناه المسلمون من تقاعس في هذا السبيل، وكم جرَّ على الأمة الإسلامية من أضرارٍ ومصائبَ ما نهجه بعضُ المتزعمين من مداهنةٍ؛ بدعوى أن "الدبلوماسية" تقضي بذلك، وأن السياسة تعني مصادقة الجميع! لقد أثبتت الأحداث والوقائع فشلَ هذه الطريقةِ وعدم جدواها.

كما أن ما سلكه بعض المتزعمين من المناداة بشعارات وأفكار مناقضة لمبادئ الإسلام وأسسه، من اشتراكية، وقومية، ووطنية، والاستعاضة بها عن أخوة الإسلام والانضواء تحت لوائه - قد سبَّبتْ هذه الشعاراتُ النكباتِ، وأوهنَتِ الأمةَ الإسلامية، وفتَّتتْ قواها، ومزَّقتْ شملها؛ لأنها تسير في بيداء الجاهلية، مع أن الطريق الصحيح واضحٌ لا خفاء فيه، طريق دين الإسلام المستمد من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وسنة رسوله ﷺ‬ الذي لا ينطق عن الهوى.

لقد مرَّت بالعالم الإسلامي تجارِبُ عديدةٌ، وشطت بكثير من بلاده وشعوبه شعاراتٌ ضالة، وآراء مدمِّرة، ولعله أخذ من ذلك عبرةً؛ ليدرك أن نجاته في التمسُّك بالإسلام، والتعاون بين المسلمين، ليكونوا يدًا واحدة كالبنيان المرصوص.

وإن ما ينادي به الملك فيصل بن عبدالعزيز من جمْع لشمل المسلمين، وإبراز التضامن بين الشعوب الإسلامية - هو شيء يجب على كل مسلم أن يؤيِّده، ويدعو إليه، ويسعى لتحقيقه بقدر إمكانياته، ووفق طاقاته.

وإذا كان هناك من نصب من نفسه وأجهزته مناهضًا لهذه الدعوة الإسلامية، فإن غرضه لم يعد خافيًا، وهو نشْر الشيوعية على أوسع نطاق، ومن واجب كل مسلم أن لا يصغي لتلك المثبطات والدسائس، وحسب المسلمين ما عانوه من جراء السلبية والآراء المشوشة، وعسى أن يقوموا بما يفرضه الدين من تكاتف المسلمين وتعاضدهم، والاهتمام بشؤون بعضهم البعض، والتمكين لثقافة الإسلام وعلومه؛ ففي ذلك عزُّهم وسعادتهم([4]).


لئلا تتكرر مأساة فلسطين

المؤمنون إخوة، والمسلم للمسلم كالبنيان، هذا ما جاء به الدين، ويقتضيه العقل والبداهة؛ ولكن مأساة فلسطين ونكبة كشمير حدثتا نتيجة عدم تطبيق أمْر الإسلام في نصرة المسلم لأخيه المسلم نصرةً جادة حازمة، مما نتج عنه وصمة عارٍ وسُبَّةٌ في تاريخ المسلمين؛ حيث تركْنا إخوةً مسلمين فريسةً للصهيونية المعتدية، وللوثنية المتعصبة للجهل والهوى.

واليومَ تطالعنا معالمُ مأساةٍ رهيبة تصنعها الصليبية الحاقدة، وترسم خططها، وتتولَّى تنفيذها.

إنها الأجزاء السليبة من الصومال، فالأحقاد الصليبية هي التي جعلتْ بريطانيا وكينيا والحبشة ومن يؤازرهم، يقومون بصنعها في بعثرة الصومال المسلم، وتشتيت أجزائه، وتقطيع أوصاله؛ لتكون غنائمَ باردةً للصليبيين، وليحققوا فيه مآربهم من طمس نور الإسلام فيه، وإذابته في البلدان النصرانية؛ حتى لا تقوم للإسلام فيه قائمة.

هذه حقائقُ ثابتةٌ، ووقائعُ مكشوفة، وها هي الخطة التي سلكتها بريطانيا في كشمير وفلسطين فيما مضى، تنفذ حاليًّا في الصومال!

أما الصومال الذي عمدت الدول الاستعمارية إلى تجزئته، ثم أضافت قسمًا منه إلى الحبشة، وقسمًا آخر إلى كينيا؛ ليكون تحت إشرافها، وبقي الصومال الفرنسي يتأرجح.

فقد عمدت الحبشة أخيرًا - بناءً على الخطة المرسومة - إلى إعلان ضمِّه لها، في وحدة لا يريدها، ولا يستكين لها، وسيجاهد ليبتعد عن دولة التعصب والإرهاب، وينضم إلى إخوانه وبلده الصومال.

وبريطانيا التي من المقرر لها أن تعلن استقلال كينيا في وقت قريب، تريد أن تطمئن قبل رحيلها نهائيًّا إلى أنها قد قضتْ على جزء آخر من الصومال المسلم؛ إرضاءً لحقد صليبي قديم، وأنه قد أصبح جزءًا من كينيا النصرانية، ولتسلِّمه إلى جومو كنياتا، كما سلَّمت الجزء الأخير إلى هيلا سلاسي، وكلاهما نصراني متعصب، فتعلن منذ أيام قلائل أنه قد أصبح إقليمًا سابعًا من أقاليم كينيا.

وقطعت حكومة الصومال علاقاتها مع بريطانيا، وأبدتْ غضبتها، وأمرت القوات البريطانية في كينيا والقوات الصومالية أن تكونا على أهبة الاستعداد؛ توقعًا لصراع دامٍ.

نعم، هذا موقف بريطانيا عدوة الإسلام والمسلمين، وهو ليس غريبًا؛ ولكن الغريب هو حال المسلمين الذين يتبجحون بالإسلام، ويدَّعون أنهم إخوان لكل مسلم، وفيهم الدول الكثيرة العدد، والكثيرة الموارد والثراء؛ فأين احتجاجهم على صنيع بريطانيا العدواني؟! وأين موقفهم الحازم الصريح؟! بل وأين مساعداتهم لحكومة الصومال وشعبها، وإعلان تضامنهم معها، وتقديم الأموال والرجال والسلاح لها؟! إننا لا نجد شيئًا من ذلك، ولا نسمع إلا أصواتًا خافتة، كأنها أنَّات جريح عاجز عن الحركة.

إن كثيرًا من الدول الإسلامية قد عملتْ معها بريطانيا ما يشبه هذا العمل أو يدانيه، فلماذا لا تتعظ وتناصر إخوانها من المسلمين وهم اليومَ يتعرضون لفتنة ومؤامرة إجرامية؟!

لقد قال الله - تعالى -: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46]، فلماذا لا نتَّحد ولو في مؤازرة إخوان مسلمين مضطهدين قد تآمرت عليهم قوى الشر والعدوان؟!

إنها مصيبة جسيمة، ولستُ أدري ما قيمة القول بأن تلك دولة تعدادها سبعون مليونًا من الأنفس، وهذه تعدادها ثلاثون مليونًا، وأخريات تعداد كل واحدة منهن عشرة ملايين من الأنفس، وكلهم يزعم أنه مسلم، وسكان بلاده مسلمون - إذا كانوا لا يثأرون لإخوانهم المظلومين، ولا يناصرونهم وقد بغت عليهم دول العدوان والحقد؟!

أم هل ترى أن المسلمين أصبحوا غثاء كغثاء السيل، تتداعى عليهم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها؟ أم أنه ينطبق عليهم قول الشاعر:

قُبَيِّلَةٌ لاَ يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ = وَلاَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ

وقول الآخر:

لَكِنَّ قَوْمِي وَإِنْ كَانُوا ذَوِي عَدَدٍ = لَيْسُوا مِنَ الشَّرِّ فِي شَيْءٍ وَإِنْ هَانَا

أيها المسلمون، إنها صرخة من الأعماق نوجِّهها ولا ندري ماذا يكون من المسلمين إزاء مأساة الصومال المبعثر، وإن كنا ندْعو الله أن لا تكون كمأساة كشمير وفلسطين، فهل يتذكرون؟([5])

موقف غريب

منذ أيام أعلن برلمان الحبشة أن الصومال الفرنسي جزءٌ من الحبشة، وكان تأييدًا لملك الحبشة الذي صرَّح قبلُ بمثل هذا، وصرح المسؤولون في الدولة الصومالية بأن الصومال الفرنسي جزء من الصومال، وأنه يجب أن يُترك له حريةُ الاختيار في نوع الحكم الذي يريده، دون ضغط أو تدخُّل.

ولم يكن ما جرى مستغربًا؛ بل كان متوقعًا لدى المراقبين للأحداث أن يحصل هذا وأكثر منه، وحتى الصدام المسلح بين الدولتين الصومالية والحبشية، لم يكن ببعيد، ولا يزال احتمال وقوعه ممكنًا.

غير أن الذي يثير الدهشةَ هذا الصمتُ من جانب المسؤولين في الدول الإسلامية والعربية إزاء هذه الأحداث، والوقوف موقفًا سلبيًّا؛ فالصومال بلد إسلامي، تربطه بالبلاد العربية والإسلامية أمتنُ الروابط، وأقوى الأواصر، وموقفه كان دائمًا مشرفًا حيال القضايا الإسلامية والعربية، ثم إنه يطالب بحقٍّ عادل يقرُّه عقلاء العالم ومفكِّروه، فإلزام شعب بالرضوخ لحكم دولة يحكمها النصارى وهو مسلم، ويأبى أن ينضم لتلك الدولة التي لا تلتقي معه في هدف أو وسيلة أو مذهب - مما يأباه المنطق والضمير.

وكنا نتصور أن نسمع احتجاجات من بعض الدول الإسلامية على موقف أثيوبيا أو على فرنسا، وأن تبدي رأيَها، وتتخذ موقفًا حازمًا، ولكنا لم نسمع من ذلك شيئًا - مع الأسف - ولا ندري هل الدبلوماسية والمجاملة لها دخل في ذلك - وقد أثبتت الأيام فشل هذا السلوك - أم أنه عدم الاكتراث بقضية إسلامية كهذه؟ فتلك أدهى وأمرُّ!

وعلى كلٍّ، فنحن لا ننتظر أن تقف جميع الدول العربية أو الإسلامية موقفًا مشرفًا في هذه القضية؛ لأن من بعض مدَّعي العروبة والإسلام من أصبح خنجرًا في صدور العرب والمسلمين، ويقف موقف العداء من كل قضية إسلامية؛ لأنه يسير وفق مخططٍ شيوعي، يحاول أن يكتسح العالمينِ العربيَّ والإسلامي، وأن يبسط نفوذه على جميع الأقطار، وهذا الصنف من الناس يجب أن يوضع في قائمة الأعداء للأمة الإسلامية، فضلاً عن أن يترقب منه تأييدٌ لقضاياها.

ولكن ما عذر الآخرين في موقفهم السلبي؟ ومرة ثانية لا نطلب من الدول الإسلامية الأخرى أن تتخذ موقفًا موحدًا؛ فقد لا يحصل بالسرعة التي يتطلبها الموقف الراهن؛ وإنما الذي نريده أن تقوم كل دولة على حدة بإعلان احتجاجها على ما يبيته أعداء الإسلام من تمزيق للبلدان الإسلامية، وتفكيك لأجزائها بدافع التعصب والكيد للإسلام، وأن تتخذ من الإجراءات ما تقدر على تنفيذه في حدود إمكانياتها.

إن هذا مما يفرضه الدين والأخوة الإسلامية، وهو من مقتضيات التضامن الإسلامي؛ إنهم لو فعلوا فسيجدون نتائج ذلك حسنةً ومثمرة، وهو تمكين للروابط، وقيام بالواجب، وفيه إظهار لقوة المسلمين وتماسُكهم، ويشعر الأعداء أن أمة الإسلام قوية مهابة متعاونة، رغم ما اعتراها من تقطيع، وما أثاره الخصوم من منازعات، وأنها تحافظ على معتقداتها، وتهتم بشؤون بعضها.

وإذا كنا لم نسمع ما نتمنَّاه من الدول الإسلامية بخصوص قضية الصومال الفرنسي في الأيام الماضية، فإنا نتوقع أن نسمع في المستقبل ونشهد ما تقرُّ به عين كل مسلمٍ يدرك واجبَه نحو إخوانه المسلمين على اختلاف ديارهم، وتباعد المسافات الجغرافية بينهم، وفي الأيام القادمة ما يجلو ذلك، وسيكون مشرفًا - إن شاء الله([6]).


فلسطين والتصريحات الجوفاء([7])

عُقد في القاهرة اجتماعٌ لرؤساء حكومات الدول العربية، وقد سبقه مؤتمر ملوك ورؤساء الدول العربية، وقد صاحب هذه الاجتماعاتِ وأعقبها ضجةٌ في بعض الجهات العربية، ونشر تفصيلات عن الخطط المعدَّة لتحويل مياه نهر الأردن، وجيش التحرير الفلسطيني، والأماكن التي سيجري بها تدريب الفلسطينيين على القتال، ولسنا نفهم بالضبط الغرضَ من ذِكر التفصيلات التي كان يجب أن تبقى سرًّا عسكريًّا، وإحكامًا للخطة؛ حتى لا ينكشف أمرُها للعدو، فيعمل على إحباطها.

وإسرائيل عدوة العرب والمسلمين، عندما أرادتْ سحب المياه العربية عملت ذلك بهدوء وتكتم، وبعد أن اكتشفتْ إحدى الصحف العربية الأمر اضطرتْ إسرائيل بعد هذا إلى الإفصاح عن خطتها التي نفذتها فعلاً.

أما نحن في البلاد العربية، فضجيجٌ وإفصاح عن أسرار يجب كتمُها؛ خدمة لقضية فلسطين وللأمة العربية والإسلامية، وأخبارٌ كثيرة حول كل اجتماع، سواء كان على مستوى عالٍ أو منخفض، وأنباء رحلات أمين جامعة الدول العربية، وما يعتزم العرب عمله، حتى ولو كان كلامًا وتخمينًا!

إننا ندعو إلى القصد في التصريحات، والحفاظ على الأسرار العسكرية، إن كانوا جادين في استعادة الجزء السليب، أما إن كان هناك من يعمل وفق مخطط مستورد من الخارج، لا يخدم فلسطين وقضيتَها، فينبغي أن نكون متنبهين له؛ حتى لا يسبق السيف العذَل!


نيجيريا ومؤامرات الاستعمار([8])

الصليبيون والشيوعيون والصهيونيون، هم أعداء الأمة الإسلامية، وكلٌّ منهم يعمل بجد ونشاط لتفتيت القوى الإسلامية وإذابتها.

ورغم ما بين هذه الفئات المتناقضة من خلافٍ ومطامعَ متباينةٍ، إلا أنها قد تلتقي عند نقطة واحدة، هي القضاء على الشعوب الإسلامية، وتحويلها إلى أي شيء آخر غير إسلامي.

وفلسطين أمامنا، مَثَلٌ صارخ على هذا الاتفاق والمواطأة، وزنجبار القريبة لا تزال دليلاً حيًّا في الأذهان على تألُّب القوى العدوانية ضد الإسلام والمسلمين، وما جرى في السودان من اضطرابات، وما يجري الآن في نيجيريا يُظهِر أن هناك خططًا استعمارية صليبية مزدوجة، تعمل لتقويض دعائم الدولة النيجيرية التي انتشر فيها الإسلام بسرعة مذهلة، وصارت معقلاً للإسلام في إفريقيا.

وإذا كان العرب والمسلمون - وعلى الأخص زعماؤهم - قد أغمضوا عيونهم عن العدوان الشيوعي الصليبي في زنجبار، وفقدوا دولةً عربية إسلامية، وتقاعسوا حتى عن الاحتجاج الجماعي أو الفردي، فإنه يجب ألاَّ يغمضوا عيونهم عمَّا يجري الآن في نيجيريا، وما يمكن أن تعقبه المؤامرات الاستعمارية التي تنشط حاليًّا في نيجيريا، وإلا فسوف يأتيها دورها في المؤتمرات الاستعمارية عاجلاً أم آجلاً.


هل هم متمردون؟([9])

هذه الأحداث التي تناقلتْها الإذاعات ووكالات الأنباء وصحافة العالم عن نيجيريا، البلد الذي يقطنه أغلبيةٌ مسلمة، والذي جرتْ فيه منذ ثمانية أشهر مؤامرةٌ صليبية بشعة، توصف ثورتُه الراهنة بأنها تمرُّدٌ، كما يحلو للإذاعات الأجنبية والصحافة الصليبية، ويردِّدها على علاَّتها كثيرٌ من المقلدين أو المتجاهلين.

إن ما يجري حاليًّا في نيجيريا ثورةٌ إسلامية، تستهدف إعادة الحق إلى نصابه، وأن تتمشى الأوضاع في ذلك القطر مع الواقع الصحيح.

وإذا سمعنا الإذاعات الاستعمارية الصليبية تموه وتشوه الحقائق، وتدَّعي - زورًا - أن ذلك تمرد قبَلي، ليس أبعد من أن قبيلة تريد الثأر لنفسها من قبيلة أخرى، وأن قبيلة (الهوسا) تريد أن تقتص من قبيلة (الإيبو)، أو أن الشماليين لا يريدون الوحدة مع بقية الأقاليم؛ نظرًا لتخلفهم الثقافي، فالواجب أن تمحَّص تلك الأقاويل، ولا تُردَّد كما قالوها.

ومن المؤسف أن تأخذ بعض الإذاعات والصحافة في العالم العربي والإسلامي الأخبارَ المدسوسة، والرواياتِ الباطلةَ دون مناقشة أو تعديل في الصياغة والأسلوب الذي صاغه أولئك الأعداء، الذين حذقوا أساليب التمويه والإفك وبلبلة الخواطر.

وقد يكون هذا قليلاً من كثير مما يجري من دسٍّ رخيص، ومؤامرات تبغي الإطاحة بكل حكم إسلامي، وإزالة كل دولة إسلامية على وجه البسيطة كما نفذوا ذلك في زنجبار وأشباهها.

ونتساءل عن موقف الدول الإسلامية من ذلك: هل يكتفون بالفُرْجة والتغافل، ينتظرون دورهم في التصفية؟! أم يبرهنون على أنهم قد تجاوزوا تلك الفترة التعسة، وأنهم تيقظوا من سباتهم، وأدركوا واجبهم تجاه إخوانهم المسلمين، وعرَفوا مقدار الأهمية لما يستطيعون عمله وهو كثير، وأن يكونوا على مستوى الأحداث، وأن يحاولوا استعادة مجد أمتهم، ورفعة شأنهم، نابذين العُقَد المتراكمة، والخور الذي طالما أرداهم في هوَّةٍ سحيقة من "الضعف والهوان"؟!

ولنتذكر المثل القائل: (من تغدى صاحبي تعشاني).

وقول الله أبلغ: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 139].


نيجيريا والحرب الصليبية([10])

لماذا يؤيِّد الفاتيكان ومجلس الكنائس العالمي المتمردين في نيجيريا الذين يحاولون فصل بعض الأجزاء النيجيرية؛ ليجعلوا منها دولة باسم بيافرا؟ بل وما الدافع لأنْ تقوم البرتغال بإمداد المنشقِّين بالسلاح والمحاربين؟ ولماذا تؤيد معظم الدول الغربية (أجوكو) وتشيد بأعوانه، وتدفع لهم المساعدات خفية وعلنًا؟!

قد يظن من لا يدرك حقيقةَ الدوافع أن المصالح الاقتصادية أو السياسية هي التي تدفع هذه الدولَ لتوسيع شُقة الخلاف، وتمنِّي نجاح المتمردين؛ ولكن الأمر أهم من ذلك بكثير؛ لأنه إلى جانب هذه الدوافع توجد دوافعُ أخطر، هي الحرب الصليبية، والعداء الصليبي للإسلام، ولولا رغبة في تمزيق البلدان الإسلامية، فلماذا يحظى أوجوكو وزمرته بتأييد الفاتيكان والدول الصليبية؟!

ولسنا نجد غرابة في الأمر؛ إذ هي خطة قديمة وحديثة شهدناها في الصومال الذي مزَّقه التآمرُ على المسلمين، وفي الحبشة وأرتيريا وفي قبرص وزنجبار وسواها؛ ولكن المستغرب أن لا يدرك بعض المسلمين - وفيهم زعماء ومفكرون - هذه الحقيقةَ، مع أنها ناصعة كالشمس، واضحةٌ كالنور، وإذا كان المسلمون لا يقابلون هذه المؤامرات والمحاولات بالمقاومة الصلبة، والأسلوب المناسب، بعد تشخيص الداء، ومعرفة عوارضه ومسبباته، وطرق علاجه، فإن الأعداء سيسعَوْن لاستئصال المسلمين في كل مكان، ويستولون على بلادهم، ويقطعون أوصالها بالاشتراك مع الأعداء الآخرين كما حدث في فلسطين وكشمير.

إن عقدة الحقد الصليبي على الإسلام ما تزال تسيِّر الكثيرين في الغرب في أن يحاولوا إزاحة الإسلام عن طريقهم، وإلى أن يناصبوه العداء الشرس، وإن تقصير المسلمين بالتغافل عن هذا الخطر الداهم، وعدم الاستعداد لمكافحته كفاحًا لا هوادة فيه، وعلى جميع المستويات الثقافية والسياسية والعسكرية، والتآزر مع المسلمين في شتى بلادهم لصد العدوان - سيجعلهم فريسةً سهلة لأعدائهم الحاقدين الطامعين، ولستُ أعرف لماذا لا يقوم المسلمون في أنحاء الأرض بواجبهم نحو إخوانهم المسلمين في نيجيريا الذين يشن الصليبيون عليهم الحرب، ويريدون تشتيتهم؟! إنه مؤسف حقًّا أن ينظر المسلمون إلى هذه القضية نظرةً سلبية، وكأنها لا تعنيهم في قبيل أو دبير، في قليل أو كثير.

ومن المؤلم ألاَّ تجد اهتمامًا على الصعيد الصحفي والإذاعي والسياسي لدى العالم العربي، إلا ما ندر.

إن تكالب الدول على المسلمين، وغزوهم في عقر دارهم، كان بسبب إضاعة الدين، وما يدْعو له من تعاونٍ وتآزر واستعداد، ويومَ كان المسلمون كالجسد الواحد، إذا تألم جزءٌ منه تألم سائرُ أجزائه، وصَلُوا إلى قمة المجد، وذرى العلى، وعندما أعرضوا عن القرآن وتوجيهاته، وتفرَّقوا أحزابًا وشيعًا غير مبالين بما يدْعو إليه الإسلام من ألفةٍ وتعاضد وتوحيد كلمة، انحدروا إلى الضعف والهوان، فهل يكون فيما حدث - وهو كثير - معتبر؟ ذلك ما يتمناه المخلصون.


واجب الأخوة حيال المضطهدين

أخبارٌ كثيرة تمرُّ بالمرء ولا تحرِّك ساكنًا لديه، ومشاهدُ لا حصر لها ينظر إليها دون مبالاة، وقد يكون من هذه الأنباء وتلك الحوادث ما يسترعي الانتباهَ، ومع هذا فسرعان ما تُنسى.

فكم يسمع الإنسان ويقرأ عن الحروب القديمة والحديثة، كالحرب العالمية الأولى والثانية، والقتال في فيتنام، وحوادث الصدام والدعس، والفيضانات والزلازل، وكوارث الطيران، والمعارك العنصرية؛ ربما لكثرة تردادها، فتصبح وكأنها شيء عادي، ولكن من الأنباء والمشاهد ما يستوقفك؛ لتصيخ السمع فتتأمل أو تندهش، ويقف شعرُ بدنك، وتظل ذِكراه عالقةً بالذهن مدة مديدة، قد تكون سمعت في اللحظة أنباء الحرب في فيتنام - مثلاً - وعرض أمامك مشهدٌ عملي للحرب الدائرة هناك، ولم تتأثر إلى حدٍّ بعيد، ولكن مرآك لعجوز ناتئة الوجنات، شاحبة الوجه، متداعية الأطراف، يضربها جنديٌّ بعقب البندقية - تجعلك تشمئز لهذا المنظر الفظيع، وتلوح صورتُه المزعجة أمام مخيلتك حينًا من الدهر.

وحين تشهد منظرًا لطفل يفتك به الجوعُ والمرض، وقد تعرَّى لأنه لا يجد لباسًا يواري سَوءته، فستمقتُ المجتمع الذي يعيش بينه مثلُ هذا البائس، فلا يرقُّ له ولا ينجده.

ولربما تسمع أنباء المجازر البشرية، فتردد: وهل خلَتِ الدنيا من المجازر؟! ولكنك إذ تبصر الرؤوسَ تتطاير عن الأجسام، والأسيد يُصبُّ على البشر؛ ليتحوَّلوا أكوامًا من العظام، والزيت يسكب على مؤمنين كلُّ ذنبهم أنهم آمنوا بالله وصدَّقوا رسله، وفي لحظات تشتعل فيهم النيران؛ لينقلبوا بعد دقائق إلى رماد، فإنك ستقف مشدوهًا لهذه المناظر المرعبة، وقد يبلغ بك التأثرُ إلى اختلال التوازن والاضطراب العقلي، وقد تعدُّ من فئة المجانين؛ لهول ما رأيتَ، حتى لم تتحمل أعصابُك وعقلك هذا المشهدَ الرهيب، وقصدي أن أقول: إن أشياء تستوقف النظر، وتستدعي التأمل، ويتأثَّر بها المرء طويلاً.

واليومَ قرأتُ في إحدى الصحف المحلية ما تأثرتُ منه بمزيج من الحزن والسرور، وصرتُ في حيرة من الأمر، وعجز عن تفسير العواطف والانفعالات التي طرأتْ على نفسي، هل هي من قبيل الرضا والسرور، أو من جهة الأسى والألم؟

فهل تراني نأيت بك قارئي العزيز عن الموضوع، وخرجت إلى نطاق فلسفي كنت في غنى عنه؟ وماذا ستقول: أتراك تعبر بالمثل الشهير (طول المقدمات دليل على سقم النتائج)؟ أرجو ألاَّ يكون ذلك، وأن تعذرني؛ لأن الإحساسات والتأثرات التي حصلت لي عند قراءة الخبر أو المقال مما لا أقدر على وصفه.

نشرت جريدة المدينة في عددها (1231)، بتاريخ 16 - 1 - 88، بعناوين: "وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله"، و"المسلمون من قبيلة الإيبو الذين شردهم أوجوكو"، و"9000 لاجئ بلا مأوى ولا مال، تركوا أرضهم هربًا بدين الإسلام"، وماذا بعد هذه العناوين؟ كلُّ ما بعدها مأساةٌ يرويها الداعيةُ الإسلامي الذي كان نصرانيًّا فهداه الله للإسلام، ودعا إليه بحماس وعلم وفضل، فأسلم على يده خمسة وخمسون ألفًا من قبائل الإيبو، إنه الشيخ إبراهيم إيناس أواجني، الداعية الإسلامي بنيجيريا.

وقد اضطهد المسلمون من قِبل أوجوكو وعصابته؛ لأنهم لم يخضعوا لرغبته الآثمة بأن يرتدُّوا عن الإسلام، واستطاع تسعة آلاف الهرب من شرقي نيجيريا إلى العاصمة لاجوس، تاركين بيوتهم وأموالهم، فدُمِّرتْ منازلهم، ونُهبتْ أموالهم، وهدمتْ مساجدهم؛ حقدًا من أوجوكو الصليبي على المسلمين.

لقد تألمتُ لهذه الوحشية العدوانية، وسُررتُ لتمسك هؤلاء المسلمين بدينهم، واختيارهم إياه، غير مبالين بالإغراءات والتهديدات والعقوبات الظالمة.

يقول الشيخ إبراهيم إيناس:

"وحين اندلعت الحرب الأهلية، طلب أوجوكو - زعيمُ المتمردين في شرق نيجيريا - من زعماء قبائل الإيبو المسلمين التخلِّي عن الإسلام، ومناصرة الانفصال ضد الحكومة الاتحادية، وإلا قتَلَهم، وحين رفض هؤلاء الزعماء الاستجابة لدعوة أوجوكو، أطلق النار على اثنين وعشرين منهم حتى الموت، وكان ذلك تحت سمعي وبصري؛ لأنني كنت من بين من دعاهم أوجوكو وطلب إليهم مطالبه هذه"، "ونحن الآن في نيجيريا بلا شيء تمامًا، اللهم إلا أملنا الكبير في أريحية إخواننا المسلمين في كل مكان، ومنهم إخواننا في هذه البلاد المقدسة".

هؤلاء الفارُّون بدينهم يخوضون حربًا إسلامية ضد الكفر، ويقاومون صليبية حاقدة تريد تقويض الدعائم الإسلامية، والقضاء على المسلمين، ويغذيها الصليبيون في أوربا وإفريقيا وأمريكا؛ حنقًا على الإسلام وعداء له.

إن أولئك المؤمنين الذين ارتضوا الإسلام دينًا، ويأبَوْن النكوص على أعقابهم، حيث يسعى أعداء الله ويأملون، هؤلاء المجاهدون حريٌّ بإخوانهم المسلمين في كل مكان أن يمدوهم بالمعونة، ويقدموا لهم الجزل من المال، والكثير من المساعدات المادية والمعنوية؛ فهذا معنى الإخوة الذين يشبهون البنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضًا.

إنني أقترح تشكيل لجنة لجمع التبرعات لهؤلاء المسلمين المضطهدين؛ أسوة بما عمل بالنسبة للجزائر والأردن وسوريا وفلسطين، ولا أحسب أهل الشهامة والمكارم في هذه الديار العزيزة إلا ملبِّين النداء، وباذلين بسخاء، كلٌّ بقدر طاقته لإخوته المسلمين في نيجيريا، الذين تكالبتْ عليهم قوى الطغيان، ومؤامراتُ الأعداء، وهبَّت عليهم الفتن من كل جانب.

إنني أتعشم أن يكون أهلُ هذا البلد مسارعين لنجدة إخوانهم، ويثبتوا للعالم أنهم أهل للإنجاد والنخوة والعزة، وأنهم كما قال الشاعر:

إِذَا اسْتُنْجِدُوا لَمْ يَسْأَلُوا مَنْ دَعَاهُمُ = لِأَيَّةِ حَرْبٍ أَمْ بِأَيِّ مَكَانِ

وكما يقول الآخر:

لاَ يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ = فِي النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانَا

وتحية لأبطال نيجيريا المسلمين، وصبرًا فإن النصر قريب - بإذن الله - وسيرفرف الإسلام خفاقًا في سائر أنحاء نيجيريا، وفي العالم أجمع، وإن كره الملحدون والصليبيون والمشركون، كما وعد الله؛ ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 33]، وقد بدأتْ تباشير انتصار المسلمين في نيجيريا، واندحار عدوهم، وما يومُ الغلبة ببعيد - إن شاء الله - وحيا الله المجاهدين في سبيله أينما حلوا([11]).


موقف المسلمين من نيجيريا

منذ أربعةَ عشرَ شهرًا والحرب الدائرة في نيجيريا على أشدِّها، تلتهم الأخضر واليابس، وتفتك بالألوف من البشر، والدول الصليبية في جميع القارات تتصايح؛ حزنًا على البيافريين الذين يفتك بهم الجوع، والصحافة ووكالات الأنباء تهوِّل في الأخبار، وتحرِّض على تمزيق الدولة الكبيرة في القارة الإفريقية، التي يشكل المسلمون فيها أغلبية ساحقة، ويحكمها زعيمٌ مسلم.

ولم يرضَ البابا واتحاد الكنائس العالمي والدول النصرانية أن يكون الحكم للأغلبية المسلمة؛ فراحوا يحرضون على تفكيك أواصر الدولة العظيمة، ويتباكَوْن على الإيبو المضطهدين المشردين في العراء، المعرضين للجوع والمرض!

وقد كثُرت النداءات، وتوالت الإمدادات لقبائل الإيبو، لا بالأغذية والأكسية والمعدات الطبية فقط؛ ولكن بالسلاح والذخائر وإثارة الفتن.

وحين أرادت حكومة نيجيريا الاتحادية تفويتَ الفرصة على مُثيري القلاقل، فاشترطت التفتيش على المساعدات، لم يقبل أوجوكو وعصاباته ومن يحرضونه هذا المطلبَ العادل، ولا ندري لِمَ يعول هؤلاء على البيافريين المهددين بالجوع، ولا يتحركون من أجل مأساة الفلسطينيين الذين اغتصبت أراضيهم، وشُردوا من بلادهم؟!

ولماذا لم يتأثروا لأعمال مكاريوس وهو يقطع مياه الشرب، ويمنع الأغذية عن القبارصة المسلمين؟!

وأين هم من الأعمال الوحشية، والمعاملة البشعة التي يلاقيها سكان الحبشة المسلمون وهم الأغلبية المحرومة المنكوبة؟!

وكيف لم تتحرك عاطفتُهم عندما قام الشيوعيون والصليبيون في زنجبار بذبحِ العرب المسلمين في مجازرَ فظيعةٍ؟!

وأين غابتْ إنسانيتهم عن الشعوب الإسلامية المعذَّبة في كشمير وتركستان ويوغسلافيا؟!

وهل عثروا على الإنسانية في بيافرا وحدها؟! لك الله أيتها الإنسانية المظلومة!

وبعد، فلسنا نحبذ تجويع البيافريين أو اضطهادهم، ولكن لا نريد أن نسكت على تزوير تاريخي، واحتيال يمليه التعصب الأعمى، ويتستر باسم الإنسانية وهو بريءٌ منها.

فمن كان السبب في جوع البيافريين؟ إنه أوجوكو العاصي المتمرِّد الذي حاول وما يزال تشتيت النيجيريين وإضعافهم؛ فهو الملوم وأتباعه ومن يدفعه ويمدُّه بالسلاح والمشورات الخاطئة.

لقد كانت نيجيريا آمنةً مطمئنة تسير في الطريق الصحيح، يومَ كان يحكمها أبو بكر تفاوا يليوا وأحمدوا بللو وأمثالهما، ولكن الحقد الصليبي كشف عن أنيابه، وقام المتعصبون بزعامة إيرونسي في عام 1966 بقتل الحكام المسلمين، في عملية غدرٍ لئيمة، واغتصبت الأقليةُ النصرانية الحكمَ، وفتكوا بالمسلمين بلا هوادة، فلم تكترث الدول الصليبية، ولم تبدِ معارضة لهذه الأعمال الهمجية!

وحين استعاد المسلمون مركزَهم الحقيقي، وصار الحكم بأيديهم، تألبتْ دول العدوان وقوى الشر، تثير العواصف في وجوههم، وتريد أن تسلم القيادة إلى النصارى؛ إمعانًا في عدائها للإسلام، وبغضها للمسلمين، وحرَّضت أوجوكو وزمرته على شق عصا الطاعة، وإثارة الفتنة، وصارت تلقِّبه بالبطل، وتشيد بأفعاله الخرقاء؛ أملاً في أن يكون الحكم في يد النصارى، كما في بلدان إفريقية عديدة.

وبين يدي الآن مجلة تصدر في لبنان فيها مقال مليءٌ بالطعن على النيجيريين الاتحاديين، والغمز لزعيمهم يعقوب جاوون، والتطبيل والتزمير لأوجوكو داعية الشرِّ، ونذير الشؤم، وقلب الحقائق والمغالطة فيها (والمعنى في نفس الشاعر).

ومما ورد في هذا المقال هذه العبارات التي تكشف عن نوايا كاتبها: "الزعيم البيافري على رغم الكوارث التي لحقت ببلاده، وعلى رغم الجوع الذي يفتك بشعبه، ما يزال صامدًا متصلبًا في مقاومته وموقفه، يرفض كل تنازل أو استسلام.

إن الاتحاديين الذين يحقدون على أوجوكو وشعبه حقدًا قتالاً، يدركون أن مبعث حقدهم هذا هو تفوق الإيبو عليهم، وقدرته على أن يحتل الصدارة دائمًا في الاتحاد.

هذا الحقد الذي تضج به صدورُ الاتحاديين هو الذي دفعهم إلى ارتكاب أفظع الجرائم الإنسانية بحق الشعب، مستغلين قوتهم العددية، والمساعدات الخارجية التي انهالتْ عليهم من جهات متعددة إفريقية وأجنبية، فضربوا حصار الجوع على بيافرا، وتركوا سكانها يموتون جوعًا: أطفالاً ونساء وشيوخًا؛ أملاً منهم في إضعاف مقاومتهم.

ومع ذلك، فالواضح أن البيافريين مصمِّمون فعلاً على الموت عن بكرة أبيهم، دون الاستسلام إلى الاتحاديين الذين ساموهم شرَّ البلاء.

إن غوون الذي يصور له غرورُه أنه يستطيع أن يلعب دور لينكولن إفريقيا، واقع في أسر ضباطه الناقمين على الإيبو؛ لصمودهم ومقاومتهم البطولية، وإصرارهم على هذا الصمود رغم الجوع، والهزائم، والتشريد".

بمثل هذا الأسلوب المملوء بالدس والمغالطة والطعن، تنشر المجلة اللبنانية ما يزعمونه تحليلاً للموقف في نيجيريا.

لقد كان الأجدر بهؤلاء الصائحين الباكين أن يوجِّهوا نقدهم إلى من قام بتمزيق البلاد، لا إلى من يسعى لوحدتها، وأن يعالجوا الوضع معالجة بعيدةً عن التعصب والهوى.

وبعد هذا الاستطراد الذي اقتضاه الموقف، هل تظل الدول الإسلامية بعيدةً عما يجري في نيجيريا، وكأنه لا يهمها، وكأن الدول النصرانية هي المسؤولة عما يحدث هناك؟!

إن واجب الدول الإسلامية - كما يمليه عليها دينُها وعقيدتها - أن تُعنى بشؤون المسلمين في كل مكان، وأن تبذل قصارى جهدها لمؤازرة المسلمين في نيجيريا، الذين تتألَّب عليهم قوى الشر؛ لتجعل من أغلبيتهم أناسًا مشتتين، تحكمهم قلةٌ حاقدة معادية لهم، تريد إبادتهم.

إن قضايا المسلمين متشابهة في كل قطر، وإن من أشد العوامل في تراكم المشاكل عليهم ابتعاد بعضهم عن بعض، وعدم اهتمامهم بأمور المسلمين في البلدان الأخرى؛ مما سهَّل على الأعداء التهامَهم بلدًا بلدًا، وتفريق شملهم، والتخطيط لذلك بدهاء وخبث؛ لأن في اجتماع كلمتهم القوةَ والمنعة، وخذلانَ العدو المتربص.

فعسى أن يهبَّ المسلمون شعوبًا وحكوماتٍ، ويُثبتوا أنهم جديرون بحمل الأمانة الملقاة على عاتقهم، وأن يلتفتوا صوب نيجيريا؛ ليساعدوا على استقرارها، وإبعاد الشرور التي تزحف للقضاء عليها.

إن الأمل قويٌّ في أن أمة الإسلام قد أخذت عِبرًا كافية، وتجارِبَ مفيدة؛ لتعود إلى نهج حكيم، وتعاون مثمر([12]).


الوحدة العربية والوحدة الإسلامية([13])

الوحدة العربية أملُ كل عربي، ومطمحٌ سامٍ لرغبات أمة من الخليج إلى المحيط، ومن يشذ عن هذه القاعدة، فهو إما خائن لأمته، أو جاهل بمسؤوليته ومشاعر قومه، وعلى هذا الأساس فنحن نشعر بغبطة وبهجة لدى حصول أي تقارب عربي، أو اتحاد عربي، أو وحدة عربية، والإسلامُ دين الوحدة والجماعة، وفي تعاليمه: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [المؤمنون: 52]، ﴿وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46]، ومعظم العرب ينتسبون إلى دين الإسلام، ويفخرون بهذا الانتساب، وإذًا فالإسلام لا يقتصر على دعوة عربية وحسب؛ وإنما يدعو لوحدةٍ أشملَ وأوسع، وهي الوحدة الإسلامية، التي لا تتناول مائة مليون نسمة وحسب؛ وإنما محمد ﷺ‬ قد بعث إلى الناس كافة؛ ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158]، علَّمنا أنه يدعو لوحدة لا تقتصر على جنس، أو لون، أو وطن؛ وإنما تشمل الأبيض والأسود والأصفر، والأجناس المختلفة الألسن المتعددة ينتمون للإسلام، أدركنا سر فرحة العرب بالوحدة العربية، واعتزازهم بها؛ لأنهم يأملون فيها نواة وحدة إسلامية كبرى تحكم الشرع، وتذود عن حياضه، وإذا كان العرب هم الذين حملوا مسؤولية نشر الإسلام في نشأته، وبذلوا الغالي والمرتخص في سبيل الله، لا يطلبون كسبًا ماديًّا، ولا مغنمًا عرضيًّا؛ وإنما يريدون أن ينتصر الإسلام، وأن يشرق على العالم الغارق في دياجير الظلمة، وظلام الشرك، والفتن والمنازعات، مهما بذلوا في ذلك، ولسان حالهم ينشد:

وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا = عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي

فلا غرو أن يبتهجوا بوحدة العرب وجمع شملهم، بعد طول فرقةٍ ونزاع، إن العرب الذين مرَّتْ بهم عصورٌ من التخلُّف والجهل والاستعمار، لا بد أن تتوق نفوسُهم لاستعادة مجدهم السابق، ومكانتهم السالفة، كأمَّة قوية قائدة إلى الخير، وهادية إلى الرشاد، تدعو إلى الله وإلى شرعه، وتجاهد في سبيل الله بالنفس والمال أفرادًا وجماعات، وتسهم في الحضارة بنصيب.

ولا بد أن تهز مشاعرَهم وتحرِّكهم للعمل بحماس واندفاع ذكرياتُ الوحدة التي كانت تسود بلادَ العرب في أوج مجدهم، وازدهار أيامهم؛ ولذلك فهم يطربون للوحدة، ويتلهفون لها؛ على أمل أن تعيد مجدهم، وأن تسترد حقوقهم المغتصبة في فلسطين وبعض الأجزاء في الوطن العربي، ولكن الوحدة العربية إذا ما أريد لها الثبات والتحقق، فلا بد أن تبنى على أسس إسلامية قويمة، وأن تكون مرتكزةً على الدِّين، وبذلك يشعر العرب في جميع أوطانهم أنها وحدة صحيحة بناءة، تسعى لخير الجميع وللصالح العام، وهي الطريق لإعادة أمجاد الأمة، وتحقيق أمانيها وآمالها.

وإنه لشيءٌ مدهش أن يحاول البعض استبعادَ ذِكر الإسلام والحديث عنه، عندما يجري الحديث عن الوحدة العربية والاتحاد العربي، إن الدين الإسلامي ليس بعبعًا مخيفًا؛ حتى يتحاشى البعض ذِكرَه، ويحاول إهماله تعمدًا، ويُبعِدون من دساتيرهم النصَّ على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، فما هو الغرض من ذلك؟ وما الذي يرهبهم من الإسلام؟ إن الإسلام دين الحق، وهو مبعث الاعتزاز، وليس سبةً أو عارًا حتى يتحاشى أولئك الناس ذِكرَه، وحتى يهجروه وكأنه شيء لا يليق أن يمرَّ خبرُه في أنديتهم ومجالسهم، وخطبهم وأحاديثهم الطويلة العريضة.

إننا لا ندري ما هي الدوافع لذلك؟ وما هي الأسباب الداعية إليه؟ في الوقت الذي يتوق فيه العرب إلى الوحدة؛ لأنها نواة لوحدة إسلامية كبرى، يأملون منها إعادة الأمجاد الإسلامية الصحيحة، والعزة العربية التي غذاها هدى الإسلام، وأشرقت بنوره الوضاء.

هذا، وإن الذي نفهمه أن واجب الوحدة العربية أن تكون متينة، ومبنيَّةً على أسس إسلامية، وأن تكون هادفة لوحدة المسلمين في شتى أقطارهم، وتبايُن ديارهم، وعلى أساس هذا الفهم الذي يشاركنا فيه عشراتُ الملايين من العرب، فنحن نفرح بأي وحدة عربية بين أي قطر من أقطار العرب وآخر، ونتمنى لها النجاح؛ ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران: 103]، ونحن مع ذلك نمقت انتهاجَ طريقة السِّباب والشتائم والمؤامرات لتحقيق الوحدة؛ لأنها طرق غير رشيدة، وهي تباعد بين القلوب، وتُذهِب الصفاء، وتأتي بنتائجَ عكسية، ومن ثَم فإن الدعوة إلى اتحاد العرب على أسس سليمة، وبوسائلَ شريفة، ولغاية نبيلة، هي مطلب جميع العرب، وأملٌ عظيم من آمالهم، ولن يخشاها في هذه الحال إلا أعداءُ العرب والمسلمين وأعوانُهم، هذا موقف صريح لا يماري فيه إلا مخادعٌ أو مكابر.

وبعد، فإنا لنسألُ الله - تعالى - أن يوفق المسلمين والعرب للتي هي أقوم، والسلام على من اتبع الهدى.


نريدها جامعة إسلامية([14])

ليس غريبًا أن تكون الجامعة الإسلامية هي أمنية كل مسلم؛ بل إن الغرابة تكمن في أن تكون هذه الجامعةُ لم تخرج إلى حيز الوجود في هذا العصر، وأن يستعاض عنها بأسماء وشعارات لا تسمن ولا تغني من جوع؛ بل إنها شعارات شتَّتَتِ الجمع، وقطعت الأواصر بانعزالها وإقليميتها الضيقة، وقوميتها التي تشعر الآخرين بانفصالها وانطوائها على نفسها.

والجامعة الإسلامية يدعو لها الدين، وتفرضها الأخوةُ الإسلامية والروابط الدينية، وفيها قوة هائلة لستمائة مليون نسمة ينضوون تحت لواء التوحيد، ويتعاونون لما فيه كرامتُهم وعزتهم، وتجمعهم جامعةٌ يلتقون فيها، ويتفاهمون في إطارها، ويكمل بعضهم بعضًا في كل النواحي، سواء أكانت اقتصادية، أم ثقافية، أم سياسية، أم عسكرية في رقعة فسيحة من الأرض.

ففيها المنتجات المتنوعة، والمواقع الهامة، والثروات العظيمة، وإذا تم بينها التعاونُ والتفاهم واللقاء، فإن ذلك فيه القوة للمسلمين، والتكاتف لنشر الإسلام، ودرء الأخطار التي تجابه البلدانَ الإسلامية من شيوعيةٍ واشتراكية وصهيونية وصليبية وماسونية، وستكون ثمرات الجامعة الإسلامية ليست مقتصرةً على المسلمين وحدهم؛ ولكنها للبشرية جمعاء، كما أن دين الإسلام هو دين للناس كافة، لا فرق بين ألوانهم ومعتقداتهم، وأجناسهم وأوطانهم، ولو فهم العالم حقيقة الإسلام، وعرض نقيًّا سليمًا مما يدَّعيه الجاهلون والمخرفون وذوو الأغراض السيئة، كان حريًّا أن يتقبَّله الجميع، إلا من غلبتْ عليه الشقوة والاستكبار عن الحق؛ فهو خاتم الأديان، وفيه ما يسعد البشرَ أجمعين، وهو الصالح لكل زمان ومكان.

وإذا كانت الجامعة الإسلامية يفرضها الدين، فإن الحاجة ملحَّة تدعو إليها؛ لتتبوأ الأمة مكانًا لائقًا، ولترفع رأسها شامخًا لا يعرف الخضوع والذلَّ إلا لله رب العالمين، إله الكون، ومدبر الخليقة.

وقد كان من آثار الاستعمار والتفكُّك والضعف الذي خيم على بلاد المسلمين أزمانًا طويلة، أن أشاح بعض المسلمين عن فكرة الجامعة الإسلامية، وصار يتلقف الشعارات، ويعشق ما يروِّجه أعداءُ الإسلام، وكل يوم يختار شعارًا ليرفضه بعد مدة؛ لأنه رآه فاشلاً، لا يحقِّق بُغيته، ولأنه فعلاً عاجزٌ عن تحقيق الهناء والسعادة (وفاقد الشيء لا يعطيه)، والجامعة العربية التي مضى عليها عشرون عامًا: ما الذي حققتْه من المكاسب؟ وما الذي نتج عنها سوى أنها ميدان للتراشُق والاتهامات، وإضرام المنازعات، وسيرها في ركاب من يخرج كلَّ يوم بآراء شاذةٍ، ومبادئَ تناقض تراثَ الأمة وأمجادها، وتهدم عقائدها ومُثُلَها؟! وفي أحسن حالات هذه الجامعة أن تصدر بياناتٍ منمقةً، لا تتعدى حدود التصريحات؛ حتى أصبحت مدعاة للسخرية أكثرَ مما هي إثارة للانتباه.

والشعارات الأخرى هي أسوأُ وأقل جدوى، كشعار دول الحياد، الذي يضم دولة شيوعية أو دولاً، والتكتل على أساس الآسيوية والإفريقية، أو دول مؤتمر باندونج، وأخيرًا الشعار الذي أضحى هوسًا عند بعض المهرجين باسم لقاء الدول الثورية - تمويهًا - وهي الشيوعية على الأصح.

وكل هذه الشعارات لا يمكن أن تؤدي إلى نتائجَ حسنةٍ، أو فوائدَ إيجابية، وهي لا تقوى على أن يجد فيها الملتقون حولها بغيتَهم النفسية والروحية، وحتى الاجتماعية والسياسية، أما الذي يحقق للأمة سعادتَها وهناءها، فهو دين الإسلام، والانضواء تحت لوائه، ومن ثَم فإن اللقاء في جامعة إسلامية هو أمل المسلمين، وهو ما يجب أن يسعى له كلُّ مخلص غيور، مدرك لواجبه نحو دينه وأمته وبلاده؛ حتى يستعيد المسلمون مجدهم وعزتهم.


نحو الجامعة الإسلامية([15])

تحدثتُ في حلقة سابقة عن ضرورة إيجاد بديلٍ أفضلَ من الجامعة العربية؛ ذلك أن هذه الجامعة لم تنجح في قضية واحدة، ولم تَسِرْ على نهج سليم، وإنما أصبحتْ - مع الأسف - وسيلةً للتفريق والتشتيت، وميدانًا لنبش الحزازات وإثارة الشحناء، وليس هذا القول كلامًا يلقى على عواهنه بدون تبصُّر أو دراية، ولكنه الواقع، والأسباب الموجبة لذلك كثيرةٌ، بعضها عائدٌ إلى الأسس التي قامتْ عليها، وبعضها ناتج من التدخُّل السافر من إحدى الدول العربية، وانحياز كبار موظفي الأمانة العامة لهذه الدولة، ولأضرب ثلاثة أمثلة تعطي الدليل على ما نقول، وإن كان الأمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى أمثلة:

قضية فلسطين، ما الذي عملتْه لها الجامعة سوى الاجتماعات الطويلة العريضة، وإذاعة الأسرار العسكرية، والتصريحات الطنانة، واستغلالها أفظع استغلال من قبل إحدى الدول العربية ذات الحكم العسكري، التي تسعى لفرض اشتراكيتها الحمراء على دول الجامعة؟!

لم يقف الأمر عند هذا الحد؛ بل إن فصل قضية فلسطين عن كونها قضيةً إسلامية كان من نتائجه أن بدأ يضعُف الشعور الإسلامي نحو هذه القضية الخطيرة، والعجب أن بعض الدول الاشتراكية العربية تصرُّ دائمًا على الابتعاد عن الدول الإسلامية، وتحرص على اتساع شقة التباعد بين الدول الإسلامية والعربية؛ لمآربَ ليست على أي حال في صالح العرب والمسلمين، وإن كانت تخدم الشيوعية الماركسية.

والمثل الثاني: ابتعاد تونس عن الجامعة العربية؛ بسبب الموقف المعادي الذي وقفه بعض الحكام العرب، فأحدث تفككًا في صفوف دول الجامعة.

والمثل الثالث: قضية البريمي، فالمملكة مع أنها تقوم بالتزاماتها نحو الجامعة كاملة؛ بل وتزيد على ما التزمتْ به، فإن موقف الجامعة من هذه القضية كان موقفًا مائعًا، وكأنها لا تعني الجامعة من قريب أو بعيد، وهكذا في كل قضية.

إن فشل الجامعة العربية شيءٌ محقق، وإذًا فمن الأفضل استبدال جامعة بها أقوى وأشمل؛ ليكون اللقاء نافعًا، والصلات قوية، والتعاون مثمرًا، وذلك مما لا يحتاج إلى عناء كبير؛ فالتقارب بين الدول الإسلامية، والتعاون بينها على أسس قويمة - هو السبيل الأمثل، والنهج الأقوم.

وهو مما يوجبه الدين، وتحتمه الأخوة، وتقتضيه المصالحُ المشتركة، والاستعاضة عن الجامعة العربية بجامعة إسلامية توحِّد شتات المسلمين، وتسعى لمجدهم ورفعتهم.

وبدلاً من ثمانين أو مائة مليون عربي، تكون جامعة تضم ستمائة مليون مسلم تربطهم أقوى الروابط، وتوحِّدهم أمتنُ الوشائج، وفي هذا استجابة لأمر الله، وتحكيمٌ لوحْيه، ووصول إلى الغاية المثلى، والطريقة الصحيحة في علاج الأدواء والتخلُّص من المشاكل التي تزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم، ونجاةٌ من التقهقر الذي يزداد حدة وضراوة، والأسباب كامنة في الابتعاد عن النهج الواضح إلى سلوك طرق لا تؤدي إلى الهدف؛ وإنما تضرب متاهات شديدة الحلكة، كثيرة الضباب، قاتمة أيامُها، داكنة لياليها.

وقد يكون في التجارب الفاشلة عبرةٌ لصاحبها؛ كي يثوب إلى الرشد، ويسير على بصيرة وعرفان، فلا يبقى نهبًا للضواري، أو صيدًا لقطَّاع الطرق.

ومهما غفلت الأمة عن السلوك السويِّ، فسوف تظل تتخبط في دياجير الظلمة، وتمعن في الهزال والتلاشي، وما أحسب عاقلاً يرضى لنفسه أن يكون راكبًا رأسه، لاجًّا في المتاهات المردية، ومن ثم فإنا متفائلون، ومؤمِّلون انبثاق فجر جديد يعيد لأمة الإسلام مجدَها وازدهارها.


الناقمون على وحدة المسلمين([16])

الناقمون على وحدة المسلمين أمرُهم محيِّر، ودعاواهم كثيرة؛ ولكنها بين شيئين: إما مغلَّفة بأسباب غير حقيقية؛ لإخفاء الأهداف المعادية، وإما أنها أوهام لا تلبث أن تضمحل أمام نور الحق.

ونحن مع ذلك نعترف بأن أي تقارب إسلامي سيلقى معارضةً من الشيوعية العالمية، ومن الصهيونية، ومن الصليبية؛ ولكن ما عذر العرب الذين يتلكؤون في سلوك هذه الطريق (طريق التضامن والتقارب والوحدة بين المسلمين)؟ لا شك أنهم تذرعوا بما تذرعوا به من أوهام، تبدو عند التمحيص أنها ليست ذات موضوعية.

قالوا: إنهم يخشَوْن من إثارة الدول المسيحية، وهذا القول على ما يبدو من منطقيته ظاهرًا، فهو غير وارد عند التأمُّل؛ فالدول المسيحية تنشر المدارس الصليبية، وتبثُّ العقائدَ المسيحية، وتبذل في ذلك الأموالَ الطائلة، وترسل المبشرين إلى كل مكان، وتنفق على الكنائس والدراسات المسيحية نفقاتٍ هائلةً، وترتبط دولُها بأحلاف سياسية وعسكرية واقتصادية، كحلف الأطلسي، والسوق الأوروبية المشتركة.

وقالوا في معرض المقاومة لتعاون المسلمين: إن من دول الجامعة دولة يرأسها مسيحي، هي لبنان، وهذا يعني أن لبنان سيخرج عن مجموعة الدول التي تتكون منها الجامعة الإسلامية لو وُجدتْ، ونقول: إن من مصلحة العرب أن يبقى لبنان حياديًّا، وليس في حياده ضيرٌ على العرب؛ بل إن العكس هو الصحيح، ثم لو قدر أن خسارة العرب للبنان ستفقدهم نصيرًا، فإنهم سيكسبون أنصارًا لهم من القوة المادية والبشرية ومن الكثرة، ما يجعل ذلك التعليلَ فاقدًا لمبرراته، فبدلاً من مليونين خمسمائة مليون، فأيهما أولى بالإيثار؟! إذًا؛ فإن الدعوة إلى التضامن بين المسلمين، أو إنشاء جامعة إسلامية بينهم، إنما تجد المقاومةَ الشديدة من أعداء الإسلام، وهؤلاء المتشدقون بالعروبة والمعارضون لتقارب المسلمين هم في الحقيقة أبواقٌ لأولئك الأعداء من الشيوعيين وغيرهم.

ونجد في الوقت الراهن أن من ألدِّ أعداء التقارب بين المسلمين المتزعمين للحركات اليسارية والمذاهب الشيوعية، التي يضفون عليها اسمَ الاشتراكية، وهي في مآلها الشيوعية الحمراء، وليس ما يردِّدونه من صدى للمعارضة الشيوعية الدولية إلا برهانًا على أنهم يلتقون معهم في خط واحد في نهاية المطاف، وأن حرصهم على تقطيع الأواصر الدينية والروابط الإسلامية دليلٌ على أنهم يهدفون إلى إحلال الشيوعية العالمية محلَّ الإسلام، وهذا ما أكدتْه الصحافة الروسية وغيرُها من صحف المعسكر الاشتراكي الشيوعي، ولم يعد هذا الشأن خافيًا؛ فقد أصبح معروفًا لكل متبصر.

وهؤلاء المدَّعون للعروبة عندما يتزعمون مقاومة كلِّ تقارب إسلامي، فإنهم لا ينعتون الدولَ الشيوعية بالاستعمار، مع أنهم يستعمرون بلادًا إسلامية واسعة، ويضطهدون المسلمين أعظمَ اضطهاد، ولا يعيبون عليهم تكتلاتِهم الإلحاديةَ، وأحلافَهم العسكرية كحلف وارسو؛ ولكنهم يصرون دائمًا على تشويه كل تعاون بين المسلمين أو مسعى لتضامنهم؛ وذلك خدمة للأهداف الشيوعية الماركسية.

وبعد هذا الواقع، هل يلتفت المسلمون إلى نعيق المعارضين لتجمع المسلمين وتآزرهم؟ أم أنهم قد وضح لهم ما يرمون إليه، وما يبيتونه من شرٍّ للأمة الإسلامية، فتصبح معارضتهم دافعًا للأمة الإسلامية نحو التعاون والتآخي والتضامن؟ وهذا ما يتمناه المخلصون لدينهم، والحريصون على مجْد أمتهم.


هذه طريق العزة([17])

في كل يوم تأتي البراهين يتلو بعضُها بعضًا، أن مشاكل المسلمين المتعددة لا حلَّ لها إلا بالتضامن الإسلامي بين المسلمين، والتعاونِ بينهم، وأنهم - رغم التجارب الكثيرة، والشعارات العديدة - لن يجدوا الخلاصَ والعزة إلا في اتِّباع تعاليم الإسلام، والشعورِ القوي بأنهم إخوة وإن اختلفتْ ديارُهم، وتعددتْ أجناسهم، على حدِّ قول الرسول ﷺ‬: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)).

لقد خيل للمعجبين ببدع الغرب، والمستحسنين لكل ما يقع في مجتمعاته، أن التحزباتِ العلمانيةَ، والعصبيات القومية والإقليمية فيها التطورُ والرقي، وكانت النتيجة ابتعادًا عن إخوتهم في الإسلام، وتفككًا وتفرُّقًا استغلَّه المستعمرون الصليبيون والشيوعيون الملحدون، وطمع فيهم من لا وزن له ولا شأن، وقد كانت دروسًا ذاتَ نفع عظيم لو أنها وجدتْ إصغاء وإدراكًا للخطر، فقد حِيكَتِ المؤامراتُ من الشرق والغرب، والتقتْ أطماعٌ متناقضة، واتجاهاتٌ متباينة، جمعها عداءُ الإسلام، والرغبةُ في اقتسام خيرات بلاد المسلمين والسيطرة عليها، وتهاونتْ دول إسلامية، ولم يتحرِّكْ بعضُ المهرجين من مدَّعي الزعامة العربية عندما جَرَتِ المذابح في زنجبار، وقُتل المسلمون في قبرص وضيِّق عليهم الخناق، وشرِّد المسلمون في الهند، وأُخرجوا من ديارهم وأموالهم ظلمًا، وسعى المتعصبون لفتنهم عن دينهم، وفي أريتريا ينال المسلمين عسفٌ وطغيان وتآمر صليبي، ونيجيريا الدولة الإسلامية الزاهرة قد طوح بها الصليبيون؛ ليسلموها إلى النصارى، ولتصبح دولة صليبية، ولن تقف المطامع والمؤامرات عند هذا الحد؛ فهناك تآمرٌ تحاك خيوطُه ضد السودان، وضد الصومال (والحبل على الجرار)، ومع الأسف فإن المسلمين لم يتنبهوا للأخطار التي تحيق بهم، والتي تكاد تبتلعهم؛ بل إن بعض أدعياء العروبة وأبواق الشيوعية في العالم الإسلامي، يؤيِّد أعداء الإسلام، ويكيل لهم المديح، ويضفي عليهم ألقابَ البطولة والتحرر.

وإذا نظرنا إلى الأسباب المؤدية لهذا الوضع المؤلم، فإنَّا نجد أن السبب الأقوى هو الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله، وما يدْعوانِ إليه من الاعتصام بحبل الله، ونبْذِ التفرق بين المسلمين، والتكاتفِ بينهم كالجسد الواحد يشتكي جميعُه لألم بعضه، وهذا إنذار بالخطر وما يكيده الأعداء، فهل يلقى اهتمامًا ووعيًا بعد غشاوة طال أمدها؟!

فالصومال البلد المسلم الذي دافع بقوة وإيمان وجهاد عن وطن مسلم، وذاد خطرًا داهمًا عن قبلة المسلمين وجزيرة العرب، بحكم موقعه في الواجهة الجنوبية، هذا البلد العظيم يدق وزيرُ التخطيط فيه جرسَ الخطر لينبِّه المسلمين في شتى أقطارهم؛ ليضطلعوا بمسؤوليتهم الهامة، يقول الوزير الصومالي فيما نشرتْه جريدة المدينة في عددها (702) في 22 - 3 - 76:

"إن هناك نوعًا من التحالف العسكري بين كل من كينيا والحبشة، يستهدف الحفاظَ على المناطق التي اغتصبتْها كلٌّ من الدولتين من الأراضي الصومالية، والحيلولة بين سكان هذه المناطق من الصوماليين، وبين حقهم الطبيعي في تقرير المصير"؛ بل إنا نجزم أن التحالف بين الدولتين يرمي إلى أبعد من ذلك بكثير، وما الذي يجمع بين كينيا والحبشة غيرُ العدوان والبغض للإسلام، والتآمر ضد المسلمين؟ إننا نريد أن نسمي الأشياء بأسمائها؛ فقد سئمنا من الألفاظ المنمقة، والعبارات المصطنعة.

وإن في الدعوة إلى التضامن والتكاتف بين المسلمين ما يبشِّر بخير كثير، وهو يعني أن الدول الإسلامية بدأتْ تسير في الطريق الصحيح، بعد تخبطات ومتاهات ضلَّتْ فيها سنوات عديدةً، والعبرة التي يجب أن تستفاد من التجارِب الطويلة أن يهبَّ المسلمون جميعًا ليتخذوا أماكنهم في خطوط الدفاع عن الإسلام، والذود عن حياضه؛ ليستعيدوا مجدهم، وليدافعوا عن عقيدتهم وأمتهم وبلادهم، وحسبهم ما لقوه من السلبية وعدم الاكتراث؛ حتى شهدوا بأم أعينهم النكباتِ والكوارثَ، وزوالَ دول إسلامية ليُحِل محلَّها أعداءُ الإسلام دولاً مناهضة لدين الله.

وإن هذه البلاد قد قامتْ بنصيب طيب في الاهتمام بشؤون الإسلام والمسلمين، وإن كنا مع كل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها نتطلع إلى المزيد من ذلك العمل الجليل، ونتمنى أن تقوم الدول الإسلامية الأخرى بنصيبها كاملاً؛ ففي ذلك عزتُها، وطريقها إلى الازدهار والتطور.


مؤتمر إسلامي

يشهد الناس في هذا العصر أشكالاً من التكتلات والمحالفات والمؤتمرات، بعضُها لتأييد مذهب ضد آخر، وبعضٌ منها للدفاع عن جهات إقليمية، فنرى حلف وارسو للدول الشيوعية، وحلف شمال الأطلسي للدول الرأسمالية، وحلف جنوب شرقي آسيا، والحلف المركزي، والسوق الأوروبية المشتركة، والمؤتمرات كمؤتمر باندونج، ومؤتمر القمة العربي، ومؤتمر دول الحياد وعدم الانحياز.

وليس المقام هنا في بيان ما تعنيه تلك التكتلات والاجتماعات، وإنما أثارتْ هذه (الأمور) خاطرة في نفسي، أرى من المناسب عرضها، وفي هذا الوقت بالذات، حيث تحتدم المذاهب المتعددة، والنظريات المتباينة، كلٌّ يريد أن يكون مذهبُه المنتصرَ، وأن يضمحل ما سواه إن حقًّا وإن باطلاً، بالرغم من أن أغلب أولئك المذاهب ابتدعها أناسٌ ظنُّوا - وهمًا - أن فيها السعادةَ والازدهار للبشرية، وكانت نتيجتها الدمارَ والخراب، ولكن السعادة والخير كل الخير في دين الإسلام، وشريعته السمحاء، والتي تحوي كل ما في تلك المذاهب من حسن، وتنفي ما تضمنتْه من مساوئ.

إن هذا الدين الذي جاء لهداية البشرية جمعاء - لا فرق بين أبيض وأسود وأصفر، ولا بين مذهب ومعتقد - هو ما يجب أن تتجه الأنظار نحوه، وأن يقوم الحكام المسلمون وذوو الاستطاعة بالدعوة إليه بمختلف الأساليب والطرق.

ومن المؤسف أن يكون حظ المؤتمرات الإسلامية ضعيفًا بين المؤتمرات التي تلبس شتى الألوان، وأوهى الأسباب.

وفي تلك المؤتمرات قلَّ أن تسمع ذِكرًا للإسلام على ألسنة أولئك الزعماء، وكأنما هم يرونه شيئًا لا يليق ذِكرُه، ولا يحسن الإفصاح عنه.

وبالأمس في 3 - 7 - 1384هـ، استمع العالم إلى خطاب فيصل في مؤتمر الدول غير المنحازة، فكان أسلوبه صريحًا، وفيه المعاني والأهداف التي طالما صدَّ عنها كثيرٌ من الزعماء عزوفًا متعمدًا، وهم بذلك يتنكَّرون لشعوبهم وأممهم، أعلن فيصل في وضوح أن سياسة هذه البلاد ترتكز على دعائم الحضارة العربية، ومهبط الوحي والرسالة الإسلامية الخالدة، التي أفاضت على العالم أجمع بما قدمتْه له من حضارةٍ وتقدُّم، وستبقى على مر العصور المؤتمَنة على التراث الإسلامي، والحامية لأماكن الإسلام المقدسة، التي تهوي إليها أفئدةُ ستمائة مليون من البشر، يستقبلون يوميًّا قِبلتها، ويؤدُّون فيها ركنًا هامًّا من أركان دينهم، وليس ذلك بجديد على فيصل، وإن كان جديدًا ومستغربًا لدى أناس يتشبثون بخيط العنكبوت، وينادون بعنصرية وإقليمية ضيقة، ومذاهبَ مدمرةٍ مستوردة، ويغفلون الإسلامَ إغفالاً شائنًا.

وما أحوجَ العالمَ إلى رجال يجهرون بالدعوة للإسلام، ويعلنون في المؤتمرات والمجالس صوتَه المدوي! ونطلب من حكومات ودول العالم الإسلامي أن تدْعو إلى عقد المؤتمرات الإسلامية، وتسعى لتقوية أواصر الصداقة المتنوعة بينها، ومَن أجدر مِن هذه البلاد بالمبادرة إلى عقد مؤتمرات إسلامية، وإلى زيادة التعاون الثقافي والاقتصادي والسياسي بين الدول الإسلامية؟!

ومن أحرى منها بأن تضطلع بهذه المهمة الخطيرة؟! وهي التي ترنو إليها شعوب العالم الإسلامي، وتنتظر الوثبة الإسلامية من ربوعها؛ لتعيد للمسلمين أمجادهم؛ حتى يكون منهم قوة عظيمة لها شأنها، ومكانتها المهيبة، ومركزها المرموق، ذلك ما يؤمله كلُّ مسلم غيور، ولنا في فيصل الأمل الكبير، وفي سائر المسؤولين ما يطمئننا إلى تحقيق هذا المجد الذي تطمح إليه الأمة الإسلامية في سائر أقطارها، وشتى ديارها، ومن الله التوفيق([18]).


مؤتمر القمة الإسلامي([19])

دعوة التضامن الإسلامي لقيتْ من النجاح والتجاوب ما جعلها تتخطى الحواجزَ الضخمة، والسدودَ المنيعة، والشعاراتِ الملونةَ في ظرف وجيز، أجل، فقد مستْ شغاف القلوب، وحرَّكتِ المشاعر، وترددتْ أصداؤها في الخافقين، وسار ذِكرُها العاطر في المشارق والمغارب، فإذا الأمة الإسلامية تصحو على حقيقة وجودها، التي كانت الدعاوى الزائفة تحاول حجْبها، وإذا بها تدرك أنها قد جانبتْ رسالتها أو كادت في حقب مضتْ، وقد آن لها أن تعود لتؤدي دورها، وتقوم بواجبها.

فالدعوة إلى التضامن الإسلامي ليست مصلحةً فردية، أو سلَّمًا لنيل زعامة، أو الحصول على جاه؛ ولكنها قيام بواجب ديني دعا إليه القرآن، ونادى به الرسول ﷺ‬ الذي بعثه الله تعالى رحمة للعالمين.

وقد جاءت الأخبار تَتْرَى من كل فجٍّ وصُقْع عن ابتهاج المسلمين بدعوة التجاوب معها والنجاح لها، شيئان قد تحققا بطريقة عجيبة، وبسرعة مذهلة، هذا من الجانب الشعبي.

أما الجانب الرسمي - وهو دور الحكومات والملوك والرؤساء في العالم الإسلامي - فإن الشعوب الإسلامية لا تقنع منهم أن يكتفوا بالمشاعر الطيبة، والابتهاج النفسي؛ وإنما يريدون أن يشهدوا خطواتٍ عاجلةً لا تقف عند حدود التمني والتسويف؛ ولذا فهم يتساءلون بلهفة عن الخطوات التي تمتْ في هذا المضمار، وعن الأعمال التي توشك أن تتم. وفي طليعة ما يترقبونه التشوق إلى معرفة ما أنجز نحو الْتئام شمْل الملوك والرؤساء في مؤتمر قمة إسلامية، تتخذ فيه قرارات هامة، تهدف إلى جمع الأمة الإسلامية، ومعالجةِ قضاياها بطرق صحيحة، وعلى جميع المستويات الاقتصادية والثقافية والعسكرية؛ ذلك أن مشاكل الدول الإسلامية متشابهة، وعلاجها يكمن في تعاونها وتضامنها، ولو أردنا استعراضها واحدةً واحدة لألفيناها لا تخرج عن هذا الإطار، وكل العلاجات والحلول الأخرى باتتْ عديمةَ القيمة، وغير ذات موضوع.

ولنلقِ نظرة على بعض هذه المشاكل:

فلسطين، أريتريا، كشمير، قبرص، التركستان، القرم، البريمي، زنجبار، نيجيريا، عمان، هذا إلى جانب المشكلات الأخرى، ومن بينها اضطهاد الأقليات الإسلامية في بلدان كثيرة.

إن الاشتراكية والشيوعية، والقومية والوطنية، والحزبية الملحدة، وسواها من المبادئ والمذاهب والشعارات الطنانة، التي لا تسمن ولا تغني من جوع - لن تحل هذه المشكلاتِ، ولن تعيد للمسلمين عزتَهم مهما غالى أصحابُها في تمجيدها وإطرائها؛ فهي تؤدي إلى التخبط والفوضى، والوصولِ إلى طريق مسدود، لا أمل فيه للنجاح، ولا بصيص له من النور.

وقوة المسلمين هي في تعاونهم والْتقائهم على صعيد الحق والخير والمحبة، وإن الشعوب الإسلامية تسعى جاهدة لتحقيق هذه الأغراض، والسمو إلى مستوى لائق.

وتطمح أن تجد في زعمائها وقادتها الاهتمامَ بالقضية وإيلاءها ما هي به جديرةٌ، وأن يبادروا باتخاذ الخطوات الجريئة الحازمة، وتتساءل هذه الشعوبُ عن موعد انعقاد مؤتمر القمة الإسلامي، الذي يؤمل منه أن يحقق الأهداف السامية الكريمة لأمةٍ صممتْ على المضي في طريق العزة والكرامة، لا تلتفت لإرجاف المرجفين، ودعاوى المضللين، وإنها لمنصورة - بإذن الله - وبالغةٌ ما تصبو إليه من مجدٍ وسؤدد، ومن استئناف مسيرتها المظفرة في موكب العلم والهداية والإشراق.


سوق إسلامية([20])

كنت في حج هذا العام([21])، وأنا أتطلع للجموع الحاشدة في منًى، أفكر في أشياء كثيرة، منها ما يستطيع المرء التعبيرَ عنه، ومنها ما يَعجِز اللسانُ، ويحصر القلم عن تِبيانه.

فهذا العدد الهائل الذي دفعتْه عقيدتُه الدينية، وتكبد المشاق، وجاء يرجو ثواب الله وابتغاء مرضاته، لا بد أن يبعث مرآه في النفوس كثيرًا من الأحاسيس والمشاعر.

ومما كنتُ أفكر فيه هو قوة المسلمين لو وجِّهت الوجهةَ التي يستفاد منها على أوسع نطاق، وأهمية البلدان الإسلامية الاقتصادية، وانتفاعها بثرواتها ومصالحها، التي كثيرًا ما كانت قوة لأعداء الإسلام، وسلاحًا يشهر في وجوه المسلمين.

ودور المسلمين يكاد يكون سلبيًّا؛ نتيجة جهل، أو تفرق، أو سوءِ قيادة، والدينُ الإسلامي يدعو لأخذ وسائل القوة والعزة؛ ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)).

وقد رأينا الدول الشيوعية والمسيحية تتجمع في تكتلات عسكرية واقتصادية، أما المسلمون فهم يمثِّلون دورَ الممول والمساعد لهذه القوى المعادية، عن قصد أو غير قصد غالبًا.

وليس المجال مجالَ تعديدٍ لأخطاء سابقة، ولكن الرغبة في أن تنهج البلاد الإسلامية نهجًا جديدًا، يكون فيه قوة المسلمين من جميع النواحي، على أساس من الشريعة السمحاء، وإذا كانت المؤتمرات الإسلامية ذاتَ فائدة جليلة، فإن الشعور بأن المؤتمر الإسلامي المنعقد بمكة هذا العام هو بداية لانطلاقة جديدة، وهو شيء له نتائج مرضية بحول الله.

ومن المقترحات المقدمة للجنة الاقتصادية والاجتماعية إنشاءُ سوق إسلامية مشتركة.

إن هذا الاقتراح يجب ألاَّ يُمرَّ عليه مرور عابر؛ فالبلاد الإسلامية ذاتُ قوة اقتصادية هائلة، وفي إمكانها الاكتفاءُ الذاتي، لو اتجهتْ للصناعات، وتنوَّعت منتجاتُها، وحاولت الاستغناء عن بضائع البلدان الأجنبية من سيارات وأقمشةٍ وكماليات، واستوردت هذه الأشياء وغيرها من البلدان الإسلامية التي تنتج مثل هذه.

ولدى البلدان الإسلامية من الثروات العظيمة: من الزيت، والحديد، وأنواع المعادن، والمزروعات - ما يمكنها من أن يكون لها وزن عظيم في عالم الاقتصاد، وتسلَم بذلك من تحكُّمات الأجانب، وكونها تبعًا لهم.

إن الدول الإسلامية التي تسعى إلى التحرر من الاستعمار بجميع أشكاله ومظاهره، عليها أن تتحرر منه ثقافيًّا واقتصاديًّا؛ ففي ذلك خيرُها وقوتها.


درس من زنجبار

إن ما تتناقله الإذاعات والصحف ووكالات الأنباء عن الانقلاب الشيوعي في زنجبار - هو شيء غاية في الفظاعة والوحشية، فهناك يُقتل العرب والمسلمون بالألوف في عملية إبادة جماعية، ومجزرة رهيبة، تبرز الحقدَ العنصري، والتعصبَ الإلحادي ضد العرب المسلمين، الذين نشروا النور والمعرفة، ودعموا اقتصاد هذه البلاد، فتألَّبتْ عليهم القوى الشيوعيةُ محاوِلةً استئصالَهم نهائيًّا؛ حتى لا يبقى فيها عربيٌّ ولا مسلم، ومع ذلك فإنه كانت هناك بوادرُ سابقةٌ لهذا الحديث الفظيع، وكان من الممكن أن يعمل العرب والمسلمون شيئًا لتأييد إخوانهم في هذه البلاد، إلا أن العرب والمسلمين - مع الأسف - كانوا غارقين في خلافاتهم، وحماستهم لمذاهبَ دخيلةٍ، ومبادئَ لا تتفق ومبادئَهم وعقائدهم وتاريخهم المجيد، وكأن أمر المسلمين في زنجبار، وما يحف به من خطر محدق، شيءٌ لا يعنيهم في قليل أو كثير.

وفي الوقت الذي يوشك المسلمون على زلزلة كيانهم وسلطانهم في زنجبار، كانت الدعايات الطويلة العريضة تنادي بالتفكك بين العرب والمسلمين، بما تروج له من عنصرية وقومية، ونعرة وطنية، واشتراكية مستوردة؛ مما سبَّب الفرقة بين أبناء البلد الواحد، وباعَدَ بين المسلمين من العجم والعرب.

وغفل المسلمون والعرب عمَّا يفرضه واجبُهم الديني نحو مناصرة المسلم لأخيه المسلم، وجهاده في سبيل الله بالنفس والمال، وبكل وسائل الجهاد.

ولقد كان جديرًا بالمسلمين أن يعتبروا بأحداث التاريخ القريبة والبعيدة، في الأندلس الضائع، والحروب الصليبية، وفي الاستعمار الغربي الحديث، وفي حرب السويس، وفي الاضطهاد الشيوعي للمسلمين في الاتحاد السوفيتي والصين الشيوعية، وغيرهما من الدول الشيوعية الماركسية.

وكان حريًّا بالمسلمين أن يتخذوا موقفًا حازمًا، وسياسةً حكيمة لأعظم هدف، وأسمى غاية، وهو نصرة الإسلام والمسلمين، ومؤازرة الحق والعقيدة السليمة، حيث تذوب الفوارق الجنسية والوطنية والقومية والشكلية.

إننا نسمع - مع أشد الحزن - باضطهاد المسلمين وتشريدهم، ونقرأ عن المجازر المتعمدة لإبادتهم في بلاد كثيرة، فلا يتحرَّك الزعماءُ في البلاد الإسلامية، ولا يعلنون غضبَهم واستنكارهم، ولا يقدِّمون معونتهم لإنقاذ إخوانهم المسلمين من المحن العصيبة، والفتن الكبرى.

بينما نجد الشيوعية العالمية تحتجُّ وتهدد عندما يتعرَّض بعض الأفراد الشيوعيين المخربين في أي بلاد إلى اعتقالات أو محاكمات، ونرى الدول الغربية تهبُّ في زمجرة وصراخ إذا سُجن أي فرد من شعوبها في أية دولة.

وعندما اضطُهد البوذيون في فيتنام الجنوبية أقام البوذيون الدنيا وأقعدوها؛ حتى أطاحوا بالحكومة التي كانت تمارس اضطهاد البوذيين.

أما العرب والمسلمون، فإن دولاً عربية بكاملها تمحى من الوجود، وتتعرَّض لأقسى أصناف التعذيب والاضطهاد الوحشي، فلا يحرِّكون ساكنًا؛ بل ويخجلون من تحدُّثهم باسم الإسلام، والدفاع عن إخوانهم المسلمين؛ حتى لا يقال عنهم: إنهم طائفيون ورجعيون.

عجب، وأي عجب لهذا الواقع المؤلم؟!

إنه يجب أن يعيد الزعماء المسلمون النظرَ في سياستهم هذه، وأن يتخذوا مواقفَ موحدةً ثابتة، تقوم على أسس نصرة المسلمين المضطهدين في أي ناحية في العالم، وأن يعلنوها صريحة بلا تورية.

ولهم من القوة المادية والبشرية ما يكفل لهم الاعتبار الهائل، والكلمة المسموعة، والعلم المثمر - إذا ما توفر حسن النية، وصدق العزيمة.

إن المسلمين في هذه الآونة يتعرضون لأقسى مؤامرة وحشية في فلسطين، وقبرص، والحبشة، وعمان، وعدن، والتركستان، وألبانيا، وواجب المسلمين في كل مكان مناصرةُ إخوانهم هؤلاء المضطهدين بكل وسائل المناصرة.

وإن لم يفعلوا، فسوف يأتي دورهم في التصفية والفتن والتشريد، حسب المخططات المرسومة من أعداء العرب والمسلمين، فهل يتعظون بما حدث، أو أنهم في غفلتهم سادرون؟! وكل ما نأمله أن يأخذوا العبرة مما جرى، وفي بعضه كفاية([22]).


العرب والأتراك([23])

كانت العلاقات العربية التركية متينةً قوية، وبعد أن تقاسم الاستعمارُ تركةَ الرجل المريض، عمِل على فصْم عرى التعاون بين العرب والأتراك، وحاول اجتذاب تركيا للتغرب ونبْذ الإسلام، وأوهم زعماءَ الأتراك أن تدينهم هو سبب تخلُّفهم، وأعلن مصطفى كمال أتاتورك علمانيته وإعجابه بالطريقة الغربية، ودخلتْ تركيا الأحلاف العسكرية والاقتصادية الغربية.

وزاد في شُقة البعاد المناداةُ بالقوميات والعصبيات؛ مما أضعف رابطةَ الدين في النفوس، واليومَ تظهر بوادرُ طيبةٌ من جانب الزعماء الأتراك تجاه العرب، وتجاه الدين الإسلامي؛ مما يبشر بنتائجَ مثمرةٍ لصالح الطرفين؛ بل لصالح المسلمين جميعًا.

وربما كان في إدراك الأتراك أن الغرب لن يمنحهم صداقته مهما فعلوا معه من تقرُّب وتودد؛ لأن الغرب تدفعه أحقادٌ صليبية، وتُسيِّره في معاملته أكثرَ من أن تحصر أو تعد أمثلةٌ قريبة وبعيدة، شهرتها تغني عن تحديدها.

إن خذلان الغرب لتركيا في قبرص قد يكون واحدًا من الأمثلة القريبة.

وإن إصرار الشعب التركي على التدين، وحبه للمسلمين هو سبب جوهري، في ظاهرة التقارب الجديد؛ ولكننا لا ندري لماذا لا تقابل هذه الجهود التركية مقابلةً لائقة بها من جميع العرب؟!

إن بعض البلاد العربية لا تبدي كثيرَ اهتمام على ما يظهر بالتقارب بين العرب والأتراك، بينما تتعلق بصداقات ربما كانت وهمية واستهلاكية غير عملية، وتعطي معسول القول وتطعن من الخلف، ومع دول بينها وبين العرب كلُّ التباين والتناقض، ولن يكسب العرب من صداقتها أيةَ فائدة!

إن موقف المملكة بالنسبة للأتراك كان موقفًا كريمًا حسبما يفرضه الدينُ، والمصلحة، والتعاون النبيل؛ ولكن بعض الدول - مع الأسف - لم تكن في نفس المستوى، أما لماذا؟ فقد يكون في السنوات المقبلة ما يبين العلة الكامنة، والسرَّ الخفي!

وبعد، فإن تراجع تركيا، ومحاولتَها التقربَ من العرب وتحسينَ العلاقات معهم - هي برهان من مئات البراهين على أن التعاون بين المسلمين والتكاتف، ومساندة بعضهم لبعض، هو السبيل الأمثل الذي يجب عليهم أن يسيروا فيه دون توقف، ودون التفات للمعوِّقين والمخذِّلين، وما تأييد باكستان لحقوق شعب فلسطين تأييدًا صريحًا مخلصًا، وكذا تأييد أفغانستان وغينيا إلا أمثلةٌ قريبة ناطقة أن علاقة المسلمين يجب أن تكون قويةً متينة، لا تؤثِّر فيها الدعاياتُ الاستعمارية والشيوعية والصهيونية.

إن ذلك واجب الزعماء والعلماء ورجال الصحافة والفكر في جميع بلاد الإسلام؛ بل واجب كل مسلم في شرق الأرض وغربها.


عبرة الأحداث في قبرص([24])

الاشتباكات الجارية في قبرص، والتوتُّر السائد فيها مدعاةٌ للاستنتاج ومراقبة ما يجري، وما يمكن أن يتمخض عنه هذا النزاعُ الشديد.

ونحن إذا نظرنا إلى هذه الأحداث، لا بد لنا من إعادة الفكر عبر التاريخ؛ لنشهد قبرص في الفتوحات الإسلامية وقد انضوتْ تحت لواء الإسلام، وظلَّتْ بلدًا إسلامية في معظم أطوارها، حتى إذا ضعُف المسلمون، وتهيأت الفرصة للمستعمرين النصارى، حاول هؤلاء الصليبيون أن يُبعِدوا الجزيرةَ عن نطاق الإسلام، كما بذلوا جهودًا كبيرة في كل بلد إسلامي أو غير إسلامي؛ لجعله بلدًا مسيحيًّا خاضعًا للصليبية الحاقدة على الإسلام.

وكما حاولوا أن يقصوا الإسلام من بلاد كثيرة، وأن يقووا السيطرة المسيحية، كما فعلوا في لبنان وقبرص؛ ليكونوا مطمئنين إلى أنها لن تعود للإسلام مرة أخرى، كذلك أرادوا أن يبعدوا تركيا من حظيرة الإسلام، وصفَّقوا لكمال أتاتورك في علمانيته وابتعاده عن تاريخ تركيا المجيد، وشجَّعوه على قطع صلة بلاده بالإسلام، والنزوع إلى حضارة الغرب ومدنيته الزائفة.

ومنذ مدة قريبة أغرَوْا تركيا بالانضمام إلى السوق الأوروبية المسيحية، وليكون مصيرها كالأندلس، وربطُهم لها بالأحلاف العسكرية كان لهذه الغاية.

وكان للابتعاد بين العرب والأتراك بسبب الدعوات القومية والإقليمية أثرٌ في تورط الأتراك في التقرب من إسرائيل وفسح المجال لها، كما أن بعض الدول العربية قد أيَّدت بحماس اليونانيين في قبرص قبيل نيل الاستقلال.

ولكن اليونانيين القبارصة بذلوا الصداقة السخية لإسرائيل، وفتحوا الأسواق لها، أيَّدوها مع الأسف، وقد كانت غلطة ارتكبتْها بعض الدول العربية.

وقد آن الأوان لتدارك الخطأ بعد أن اتضح لتركيا - حسب ظننا - أن بريطانيا الصليبية تقف ضد الأتراك وحقوقهم المشروعة في قبرص؛ نتيجةَ العقد الصليبية، وأن علاقات تركيا مع إسرائيل قد جرَّتْ على تركيا من الخسائر المادية والمعنوية أكثرَ مما ربحتْه أضعافًا مضاعفة، ونحسب أن العرب علموا أن تحسين علاقاتهم مع تركيا هو من صالح الطرفين كليهما، والبوادر الطيبة تشجِّع على هذا الظن.

إننا لا نستغرب أن يكون هدف بريطانيا في المسارعة لإرسال القوات العسكرية إلى قبرص بحجة حماية الرعايا البريطانيين، والوفاء بمعاهدات استقلال قبرص - هو لحماية إسرائيل ضد العرب والمسلمين؛ فذلك ما لا ريب فيه، ولكن بريطانيا أيضًا لا تريد أن يسيطر الأتراك على جزيرة قبرص؛ حتى لا تكون في يوم من الأيام بلدًا إسلاميًّا ترفرف عليه راية الإسلام.

إننا على ضوء هذه الأحداث يجب أن نعرف عدوَّنا، وأن نأخذ للأمر عدته، وأن يكون لنا موقفٌ إيجابي إزاء هذه الأحداث؛ حتى لا نؤخذ على غرة.


قضية قبرص

هذه القضية تشغل الرأيَ العام العالمي بما فيه هيئة الأمم ومجلس الأمن، وهي تقترب من الانفجار، وتوشك أن تندلع حرب بين اليونان وتركيا بسببها، وقد لا يقتصر الأمر على هاتين الدولتين، وإنما يتعداهما إلى دول كبيرة تمتلك الأسلحة النووية؛ ولذا فلا عجب أن يهتم الرأيُ العام بأحداث قبرص، ويتطلع بقلق إلى ما سوف تتمخض عنه من عواقبَ لا يعلم مداها إلا اللهُ، والبلاد العربية ما هو موقفها من هذه الأحداث التي قد تؤثِّر على مستقبلها، وعلاقاتها الدولية بعضها مع بعض؟

إن مما يؤسف له أن الدول العربية لم توحِّد موقفها من هذه القضية رغم خطورتها، ولكن لا بد وأن يتبادر إلى الذهن سؤال، هو: كيف تتفق الدول العربية على موقف موحَّد وبعضها يؤيد اليونانيين، وبعضها يؤيد الأتراك؟ وهذا حق.

ولكن أمَا كان الأجدر بهذه الدول وقد عانتْ من الاستعمار والحرب الصليبية المتنوعة، أن يكون رأيها موحدًا بهذا الصدد؟! إن الحرب في قبرص حرب بين الإسلام و(الصليبية)، وليسمِّها الآخرون ما يريدون، ومن ثم فإن الواجب ألاَّ يتردد العرب في الوقوف إلى جانب الأتراك، الذين يفتك بهم اليونانيون المتعصبون، لا لشيء إلا لأنهم مسلمون.

إن الحكومة القبرصية قد نقضَتِ العهود التي نالت الجزيرةُ على أساسها الاستقلال، وتريد أن تنضم إلى اليونان، وتُكرِه الأتراك على الذوبان فيهم، أو إعمال السلاح في رقابهم؛ حتى يفنوا عن آخرهم.

إن هذا منطق حكومة قبرص، والدول الغربية النصرانية تمدُّها بالسلاح والتأييد، وأمريكا لا تحرك ساكنًا عندما يُنكَّل بالأتراك القبارصة المسلمين، ولكن عندما تريد تركيا إيقاف العدوان الغاشم عند حدِّه، يتحرك الأسطول السادس الأمريكي لصدِّ القوات التركية عن الاقتراب من قبرص، أما اليونانيون القبارصة، فيزدادون عنادًا واعتداء.

منذ ثمانية أشهر نشرت كلمة بتاريخ 21 - 8 - 83هـ بعنوان: "عبرة الأحداث في قبرص"، وقلت فيها: "وكان للابتعاد بين العرب والأتراك بسبب الدعوات القومية والإقليمية - أثرٌ في تورط الأتراك في التقرب من إسرائيل وفسح المجال لها، كما أن بعض الدول العربية قد أيدت بحماس اليونانيين في قبرص قبيل نيل الاستقلال.

ولكن اليونانيين القبارصة بذلوا الصداقة السخية لإسرائيل، وفتحوا الأسواق لها، وأيدوها كثيرًا مع الأسف، وقد كانت غلطة ارتكبتْها بعض الدول العربية، وقد آن الأوان لتدارك الخطأ، ونعتقد أن العرب علموا أن تحسين علاقاتهم مع تركيا هو من صالح الطرفين كليهما".

إنني أكرر النداء مرة أخرى أن كسب ثلاثين مليونًا من الأتراك ومئات الملايين من المسلمين، أولى من تأييد أربعمائة ألف يوناني قبرصي، لم يهتموا بالتأييد السابق، ولن ينفع فيهم التأييدُ اللاحق، فاربعوا على أنفسكم أيها المتحمسون لتأييدهم في عدوانهم.

ولا يفوتني هنا أن أهنئ الجزيرة بما نشرتْه عن مراسلها في تركيا، وأطلب منها مزيدًا من أمثال هذه الرسالة اللطيفة([25]).

قبرص بين العدل والعدوان

ما زال الحديث عن قبرص يشغل أذهانَ الساسة والمعلقين، وتتناقله وكالاتُ الأنباء والإذاعات العالمية، وقد كادت أن تشعل حربًا ضروسًا بين تركيا واليونان، ولا أحد يعلم بنتائجها - لو وقعتْ - إلا الله، ولا بد من التساؤل عن الأسباب الداعية لإقدام تركيا على أن توجه إنذارًا صريحًا: إما أن تقبله اليونان وحكومة مكاريوس القبرصية، وإما الحرب، ولا خيار ولا مراجعة، ترى لماذا أقدمت تركيا على هذا الإجراء الصارم؟ هل له أسباب قوية تستوجب كلَّ هذه المجازفة، وتركيا تدرك ما يعنيه هذا الإنذار، وما يترتب عليه من أخطار فادحة؟ وهذا السؤال وارد بلا ريب.

ولكن المتعمق في بحث قضية قبرص لا بد أن يجد المبرراتِ الكثيرةَ لإقدام تركيا على هذه الخطوة؛ فالاتفاقياتُ التي نالتْ قبرص بموجبها استقلالَها تعطي الحقَّ للأتراك في المحافظة على سلامتهم وأمنهم، وهذا ما انتهكتْه حكومة قبرص أبشعَ انتهاك، وارتكبتْ أفظع الجرائم بحق الأتراك، لا لشيء إلا لأنهم مسلمون، ولم يكن من اللائق أن تقف موقفًا سلبيًّا إزاء ما يتعرَّض له الأتراك في الجزيرة من عدوان صارخ، ومحاولة للإبادة، بدافع التعصب والحقد.

لقد استنفدتْ تركيا كلَّ الوسائل؛ عسى أن يرعوي حكَّام الجزيرة، ولكن عبثًا تحاول، وكان لا بد مما ليس منه بد، وهو التحذير والتخيير بين العدل أو الحرب:

إِذَا لَمْ يَكُنْ إِلاَّ الأَسِنَّةُ مَرْكَبًا = فَمَا حِيلَةُ المُضْطَرِّ إِلاَّ رَكُوبُهَا

وقد هبَّتْ أمريكا وحلف الأطلسي وبعض الدول الغربية الأخرى، يحاولون ثنْيَ تركيا عن عزمها، ويرتقون الفتْق الذي قد يستعصي على الراتق، وقد سبق لتركيا أن اتخذتْ موقفًا حازمًا مشابهًا، غير أن دولة غربية كبرى وجَّهتْ تهديدًا إلى تركيا إذا هي أقدمتْ على الحرب، ليس بدافع الحرص على سلامة تركيا - طبعًا - ولكن من أجل الخوف على اليونانيين الذين تربطهم بها الصليبيةُ، وما موقفُ بعض الدول النصرانية في هذه الأيام، وفي هذه القضية بالذات، إلا شبيهٌ بذلك الموقف الذي يتجاهل الفظائعَ المرتكَبة ضد المسلمين الأتراك، ويسارع إلى حماية المعتدين، ولعل في موقف بريطانيا ومنعها الطائرات التركية من التحليق فوق جزيرة قبرص، وإجبارها الطائراتِ التركيةَ على الرجوع بذريعة واهية - ما يكشف الحقائق.

وإذا كانت حدة التوتر قد خفَّتْ نوعًا ما، فإن خطر الحرب ما يزال ماثلاً، وقد تندلع الحرب، لا سيما وقد وردت أنباء تفيد أن مكاريوس يعارض الاتفاقَ المبدئي الذي توصل إليه بين تركيا واليونان، والذي ينبغي استخلاصُه من هذه الأحداث، فلا يغيب عن الأذهان أن قضية قبرص لها شبه كبير بقضايا إسلامية مماثلة، كفلسطين وكشمير، وأرتيريا والصومال، ونيجيريا وزنجبار، مما عمل المستعمر على التخطيط والتآمر عليها؛ حنقًا على المسلمين، وشهوةً في تفتيت القوى الإسلامية، وتحويلِ البلدان الإسلامية إلى بلدان نصرانية، أو إلى أي مذهب مُعادٍ للإسلام، وقبرص تعطينا الدليلَ الساطع، كانت بلدًا إسلاميًّا قرونًا طويلة، ولكن المستعمرين الصليبيين لم يعجبهم ذلك، فاقتطعوها من الخلافة العثمانية، وهي التي لا تبعد حدودها عن تركيا أكثر من 40 ميلاً، ونصبوا عليها قسيسًا لا يفارق صليبُه صدرَه؛ إمعانًا في التشفي من المسلمين والانتقام منهم، ولقد نفذ لهم هذا ما أرادوا.

وواجب العرب وجميع الدول الإسلامية ألاَّ تتردد في تأييد تركيا؛ لأنها تدافع عن حق مشروع، وإن تضامُنَ المسلمين لحل قضاياهم المتشابهة هو الطريق الصحيح؛ فهو الحصن المنيع الذي تتحطم عليه مخططات العدو، وهو السبيل الأمثل إلى حلِّ جميع القضايا الإسلامية، بما فيها قضية فلسطين.

وإن تركيا قد وقفتْ موقفًا مشرفًا وحكيمًا، فأيدت العرب بعد عدوان الصهاينة عليهم، وأبدتْ رغبة أكيدة في التقارب الإسلامي، والترحيب بالتضامن بين البلاد الإسلامية، وهذه بوادرُ طيبةٌ، حريٌّ بالدول العربية التي تربطها بجميع المسلمين في بقاع الأرض القاصية والدانية رابطةُ الإسلام، أن يقابلوها بالترحيب والتأييد.

أما إن تجاهلوا ذلك، وظلُّوا يعالجون قضاياهم على أنماط من الشعارات الهدامة، والمذاهب المشتتة، والنعرات الجاهلية، فسوف يقعون فريسة للعدوان، ويتخبطون في سيرهم، دون بصيص من نور، أو أمل من نجاح، فعلى الأمة الإسلامية في شتى ديارها أن تدرك سبيل نجاتها، وطريق فلاحها، وهو ليس خافيًا؛ بل هو واضح لكل ذي بصيرة نيرة، وعسى أن تكون قد أخذتْ من تجارِبها الطويلة عِبرًا تسترشد بها في مقتبل أيامها، وقادم لياليها!


سياستنا الخارجية

هذا موضوع حساس، ورغم أهميته ودقَّته، فإن الأقلام التي تطرقتْ إليه قلةٌ، والصحف التي نشرت عنه قليلة كذلك؛ وربما كان السبب تقديمَ الأهم على المهم، ومعالجةَ المشاكل الداخلية، والحرصَ على النهوض بالبلاد وتطورها قبل ذلك، إلا أن هذا كلَّه لا يمنع من الاهتمام بالسياسة الخارجية لبلادنا.

ونحن نشعر أنه لا بد من رسم سياسة خارجية واضحة، تقوم على أساس من عقيدتنا ومبادئنا، ومن مصالحنا المشتركة مع الدول التي تبادلنا الشعور، لا التي عندما تشعر بزوال الخطر عنها واستغنائها، فلا تبالي بعد ذلك بمشاعرنا ومصالحنا.

ونحن كشعب مسلم يجب أن تكون مواقفنا واضحةً صريحة في تأييد القضايا الإسلامية، والوقوف إلى جانب إخواننا المسلمين ضد المعتدين.

ونحن كأناس ندعو لمناصرة الحق، يجب أن نقف مع الحق، وإلى جانب المضطهدين والمغلوبين على أمرهم.

ولا ينبغي أن نجامل أو نداهن إرضاءً لشعارات يتشدق بها أقوامٌ لا يرعون لنا حرمةً، وإنما يجب أن نرسم سياسة صريحة تنبعث من أعماقنا وعقائدنا ومصالحنا، لا تبعية ولا محاباة.

ولا نريدها سياسة تتسم بعدم المبالاة، أو تُترك لرأي السفير أو رئيس الوفد في الأمم المتحدة، فيوجِّهها حسب مزاجه وميوله، ومستغلاًّ بذلك الثقة أو يورط البلاد في مشاكل نتيجة تصرفه المغلوط.

كما نريد أن يكون ممثِّلونا في الخارج من صميم أبناء البلد، ومن المعتزين بعقائدهم وتقاليدهم، أما أولئك الذين لا يهمهم أمر البلاد ومصلحتها وسمعتها، سواء كانوا من غير أبناء البلد، أو من المتجنسين الذين لم تثبتْ أهليتُهم للثقة في تجارِبَ عديدةٍ، أو كانوا ممن يسيئون إلى سمعة البلاد، ولا يقدِّرون المسؤولية الملقاة على عاتقهم كممثِّلين لبلادهم في الخارج، فهؤلاء يجب استبعادهم؛ حرصًا على المصلحة العليا.

وكثيرون في الدول العربية لا يعرفون أن في بلادنا إذاعة وصحفًا ومثقفين، ومع احتياجنا الشديد للدعاية في الخارج، يعمد البعض إلى إخفاء صحفنا المحلية، ووضعها في المستودعات.

إننا نرجو أن تكون سياسة خارجية حازمة، إزاء هذه الأشياء وغيرها؛ رغبة في رفع مستوى البلاد ونهضتها، والسلام([26]).


نظرة إلى سياستنا الخارجية

سياسة حكومة هذه البلاد هي حسنُ المعاملة مع جميع الدول، باستثناء الدولة التي نحن في حالة حرب معها - وهي دولة إسرائيل المزعومة - كردِّ فعل لعدوانها، وطريقة المسالمة وحسن المعاملة يكفيانِ لأنْ تكون الدولة قد نهجَتِ النهجَ الأمثل، وسارتْ في الطريق الصحيح.

لا شك أنه في كثير من الحالات سيكون الجواب أنْ نعم.

ولكن بعض من تبذل لهم الصداقة الدائمة بكرمٍ حاتميٍّ، لا يقدِّرون هذه المواقف النبيلة، ومن ثم ينبغي إعادةُ النظر في موقفنا منهم، وقديمًا قال الشاعر العربي:

وَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالعُلاَ = مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَى

ويقول الآخر:

وَلاَ يُقِيمُ عَلَى ضَيْرٍ يُرَادُ بِهِ = إِلاَّ الأَذَلاَّنِ عَيْرُ الحَيِّ وَالوَتِدُ

ولا أريد أن أضرب الأمثلة؛ حتى لا نثير حفيظة أحد، ولا نتعرض لمشاكلَ ومتاعبَ، ولكني أقول: إن تلك الدول معروفة جدًّا، ولم يَعُدْ أمرُها خافيًا حتى على غير المثقفين، والعجيب أن البلاد العربية والإسلامية تتعرض لألوانٍ من العنت والعدوان من هذه الدول، من الرسميين في المحافل والتصريحات، ومن أجهزة الإعلام من صحافة وتلفزيونات وإذاعة، وهذه البلاد نالت قسطًا لا بأس به من صنوف الأذى، وفي نفس الوقت يطلب البعض أن تكون المسالمة لهؤلاء هي الطريق الواجب الاتِّباع، ويريدون فرض رأيهم بطريقة قسرية، على ما فيه من مجانبة للمنطق والواجب!

إن المعاملة بالمثل طريقةٌ منطقية شرعية، فلماذا لا نعامل تلك الدول بالمثل؟! ولماذا لا نقف منها موقفًا حازمًا حسب ما يمليه علينا دينُنا ومعتقداتنا؟! ولماذا لا نجبرهم على احترامنا باستعمال الحزم معهم؛ لئلا يتمادَوْا في غيِّهم وطمعهم واستغفالهم لنا، ولو بمقاطعتهم، وبيان عدوانهم وجرائمهم؟!

إننا نريد أن تكون سياستنا: حربًا لأعدائنا، وسلمًا لأصدقائنا، وأن نسعى لتكتيل الجهود الإسلامية؛ لنقف هذا الموقفَ الصامد؛ فالعدوُّ مشترك، وأطماع المستعمرين متشابهة "وكلنا في الهم شرق".

وحسبنا ما مرَّ من تجارب أثبتتْ أن اللين والمسالمة وحسن المعاملة، لا تكفي، ولا تناسب الأعداء والحاقدين.

إننا أقوياء عندما نعرف مصدر قوتنا، ونحسن الاستفادة من هذه القوة؛ فلدينا الثروات العظيمة، والمبادئُ القويمة، وهذه البلاد والبلاد الإسلامية قد عرفت بالاستبسال والبطولات، فهل يوفَّق الزعماء والقادة فيها لإدراك هذه الحقيقة، ويعملون لإبرازها؟ ذلك ما نتمناه([27]).


الاستعمار المقنَّع([28])

المستعمرون لهم طرقٌ متنوعة، وأساليبُ متعددة، وهم وإن اتفقوا غايةً وهدفًا، فقد يختلفون ذريعة وسلمًا، وقد تستعمل الدولة المستعمِرة - بكسر الميم - أنواعًا من الأساليب حسب الظروف، فهناك الاستعمار الذي يتَّسم بالقوة، وصليلِ السيوف، وأزيزِ الطائرات، وهديرِ المدافع.

وقد جربتْه بريطانيا وفرنسا والبرتغال وغيرها، إلا أن موجات التحرير استطاعتِ الإطاحة بالمستعمرين، وبأساليبهم القاسية، وقذفت بهم (إِلَى حَيْثُ أَلْقَتْ رَحْلَهَا أُمُّ قَشْعَم)، مع أن المستعمرين لم يألوا جهدًا في ضروب الوحشية، وإزهاق الأرواح، وإبادة الممتلكات، ووسائل التعذيب، إلا أنهم فشِلوا في الاستمرار بهذه الوسائل.

وهناك استعمارٌ آخر يفضل الحذر والتخفي على البروز والمجابهة، وقد يكون في صورة شركات تجارية، تدرج من محيطها التجاري إلى نواحٍ اقتصادية أخرى، ثم لا تكتفي بذلك؛ بل تريد أن يكون لها شأن في كل أمر، وهي تجس النبض أولاً، فإن وجدَتِ انتباهًا لها، ووقفًا لمدِّها الزاحف، جمدتْ نشاطها إلى أن ترى لها فرصة سانحة، وإن لم تجد مقاومة استمرتْ في تدخُّلها في شتى المجالات الاقتصادية والسياسية والدينية والعسكرية.

وحينئذٍ تصبح استعمارًا مقنَّعًا أشد خطرًا من الاستعمار المكشوف، والغالب على هذه الشركات أنها تُستعمَل أدواتٍ لحكومات تقف وراءها، وتجعلها ذريعة للتمويه وإخفاء الحقائق عن الشعوب.

وقد يكون من الأدلة الواضحة أن البلاد التي تزاول فيها هذه الشركاتُ نشاطَها، تكاد تعتمد على الدول التي تنتمي إليها تلك الشركاتُ، فتجد أكثر الواردات منها، ومنها الخبراء والمستشارون في المجالات الاقتصادية والثقافية والعسكرية، ومنها المهندسون والمعلمون وغيرهم ممن يتغلغلون في حياة الأمة، ويقوون سيطرة دولتهم عليها.

وهذا هو الشعار الجديد للاستعمار في هذه الآونة الأخيرة، ومن ثَم فإن دولة كبريطانية عريقة في الاستعمار نجدها تتخلى عن مستعمراتها الواحدة تلو الأخرى، ولكنها تحاول ضم هذه المستعمرات بعد استقلالها إلى دول الكومنولث؛ لكي لا تخسر فوائدها الاقتصادية والتجارية، وتقديم الخبراء والمهندسين وأشكالهم؛ ليكون استعمارًا مقنعًا، لا يُرهَب ولا يقاوَم بضراوة، وإن لم يكن استعمارًا كاملاً، فبعض استعمار، على حد المثل: (ما لا يُدرك كله، لا يُترك جلُّه)، ولكن وعي الشعوب يدرك الخطط الاستعمارية، والأساليب الجديدة للاستعمار الذي يتخفى بستائر يضعها في الواجهات من أبناء البلاد؛ لغرض فرض سيطرته، واستمرار استعماره.

وسيحبط أساليب الاستعمار، ويقذف بالمستعمرين إلى ما وراء البحار، ولن يجديهم الْتواؤهم ووسائلهم المخدرة؛ لأنها لم تعد مقنعة؛ بل أصبحتْ مكشوفة لكل ذي عينين، وإن غدًا لناظره قريب.


صحافة بريطانيا هل تتجاهل الحقائق([29])

قال السير ألك دوجلاس هيوم (اللورد) سابقًا، ورئيس مجلس الوزراء البريطاني الحالي: "إن مقاطعة الدول العربية للشركات البريطانية التي تتعامل مع إسرائيل، ووضعها في القائمة السوداء - عملٌ يتنافى مع ميثاق الأمم المتحدة، وإجراء يؤسف له"، ومنذ أيام استقال عضوٌ صهيوني في شركة اتحاد نورتش البريطانية للتأمين، ثم تبعه صهيوني آخر؛ بسبب المقاطعة العربية، وثارتْ ثائرة الصحافة البريطانية تدْعو بالويل والثبور وعظائم الأمور؛ لأن المقاطعة العربية للشركات الصهيونية والمتعاملة معها - في زعم هذه الصحافة - تدخُّلٌ في شؤون بريطانيا الداخلية من جانب العرب، ومنافٍ للقوانين، وعملٌ غير لائق، ولكن هذه الصحافة (المتزنة) - كما يحلو لبعض الناس أن يصفها! - تنسى قتْل الآلاف من عرب فلسطين المسلمين، وتتجاهل تشريد مليون لاجئ أُخرجوا من ديارهم بغير حق، واغتُصبت حقوقهم، وتُركوا في العراء مشردين لحمّارة القيظ، وزمهرير الشتاء.

ولكنها شِنْشِنَةٌ نعرفها من أخْزَم؛ فإنجليز ريتشارد قلب الأسد، هم إنجليز كرومر وتشرشل وبلفور وهيوم!

الحقد الصليبي ما زال يحرك الإنكليز منذ دحَرَهم صلاح الدين إلى اليوم، إن هذه حقيقة تتضح في أعمال الإنجليز في كل بلد إسلامي استعمروه وبسطوا نفوذهم عليه، سواء أكان آسيويًّا أم إفريقيًّا.

والصليبيون الذين جاؤوا إلى بيت المقدس ليخلصوه من المسلمين - الذين يقولون عنهم: الكفرة - وليجدوا العسل واللبن، هم الصليبيون الذين استعمروا مصر والعراق وسوريا وفلسطين، والهند والقارة الإفريقية، والدوافع التي دفعتْ أولئك هي التي دفعتْ هؤلاء، مع تنوع في الوسيلة، وتبدل العسل واللبن بالبترول والمعادن.

ومن أجل ذلك غرست الصهيونية في قلب البلاد الإسلامية؛ لتكون عائقًا لتقدُّم البلاد الإسلامية، وأداة استعمارية يتذرع بها المعتدون لتنفيذ مخططاتهم، ولا عجب أن يؤيد الإنجليز وايزمان - كما أوضح - في التجربة والخطأ، وأن تعلن دول - يجمعها حقدٌ صليبي، ومطامعُ في بلاد العرب - حمايةَ إسرائيل، والحرص على سلامتها.

ولكن هذه الدول تتجاهل منطق الأشياء، ووعي الشعوب، وصحْوة الأمم، وتنسى أن ثلاثة أرباع احتياطي الزيت هو في منطقة الشرق (العربي)، وأن ستمائة مليون نسمة لا يمكن إغفال قوَّتهم وخطرهم.

ومرة أخرى، إذا كان الإنجليز يريدون مناورة وضغطًا على العرب للصلح مع إسرائيل، فقد وهموا، وإذا كانوا جادين في انحيازهم إلى جانب الصهاينة، فليهنؤوا بهم، وهم الخاسرون قطعًا، وعِشْ ترَ العجب!


الدبلوماسية والكذب

يتصور بعض الناس أن الحنكة السياسة تكمن في الخداع والمراوغة، والسير على سياسة ميكافيلية ترى أن الغاية تبرِّر الواسطة.

ويعد ذلك دهاءً وعبقرية، ولكن هذه النظرية باءتْ بالفشل التام، وصارت الصراحة هي الأساسَ والمحور الذي تدور عليه سياسةُ العصر، ومن يشذ عن هذه القاعدة فسرعان ما يتلاشى.

والإسلام يدعو إلى الصدق، وينادي المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين، والرسول ﷺ‬ يقول: ((عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرَّى الصدق، حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذبَ؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابًا)).

كذبة الأمير

وما أحسنَ ما قاله زياد بن أبيه في خطبته البتراء: إن كذبة الأمير بلقاء مشهورة، فإذا تعلقتم عليَّ بكذبة، فقد حلَّتْ لكم معصيتي.

نادرة

ذكر ابن الجوزي في كتاب "الأذكياء": أن أهل الكوفة تظلَّموا من عاملها إلى المأمون، فقال: ما علمتُ في عمَّالي أعدلَ منه، فقال رجل من القوم: يا أمير المؤمنين، فقد لزمك أن تجعل لسائر البلدان نصيبًا من عدله، فأما نحن، فلا تخصَّنا بأكثر من ثلاث سنين، فضحك المأمون وأمر بصرفه.


مواعيد عرقوب

يضرب هذا المثل لمن يعد ثم يخلف ولا ينجز ما وعد.

قال أبو عبيد: وهو رجل من العماليق، أتاه أخٌ له يسأله، فقال له عرقوب: إذا أطلعتْ هذه النخلة، فلك طلعُها، فلما أطلعت أتاه للعدة، فقال: دعْها حتى تصير بلحًا، فلما أبلحتْ قال: دعها حتى تصير زهوًا، فلما زهت قال: دعها حتى تصير رطبًا، فلما أرطبت قال: دعها حتى تصير تمرًا، فلما أتمرت، عمد إليها عرقوب من الليل فجذَّها، ولم يعطِ أخاه شيئًا، فصار مثلاً في الخلف، وفيه يقول الأشجعي:

وَعَدْتَ وَكاَنَ الخُلْفُ مِنْكَ سَجِيَّةً = مَوَاعِيدَ عُرْقُوبٍ أخَاهُ بِيَثْرِبِ

وقال آخر:

وَأَكْذَبُ مِنْ عُرْقُوبِ يَثْرِبَ لَهْجَةً = وَأَبْيَنُ شُؤْمًا فِي الحَوَائِجِ مِنْ زُحَلْ

عدل غريب

ذكر ابن الجوزي في كتابه "الحمقى والمغفلين": قال ابن خلف: اختصم رجلان إلى بعض الولاة، فلم يحسن أن يقضي بينهما، فضربهما وقال: الحمد لله الذي لم يفتني الظالم منهما.

وإلى لقاء آخر([30]).


لحساب من هذه الخصومات؟([31])

هذه الخصومات بين العرب، وهذه المهاترات والتهديدات، لحساب مَن؟! ومن الذي يسعى لبقائها، ويعمل على إثارتها؟!

وهذه التمردات والانقسامات في داخل بعض الدول العربية، من أجل مَن تقوم؟ ومن الذي يموِّلها، ويحرِّض عليها، ويطرب لها؟ وبالتالي: من الذي يستفيد منها؟ وقد لا يكفي مقال أو عدد من المقالات لسرد العوامل والأسباب، وشرح البواعث، وتوضيح ما هو لازم لهذا المقام بحيث يضع النقط على الحروف، ثم إنه لا بد من اللباقة في موضوع كهذا، والتقيد بالأساليب الدبلوماسية؛ حتى لا يقع المرء في ورطة هو غني عنها! ولكن ما الحيلة والأمر يتطلب الصراحةَ والجدية إذا ما أريد الوصول إلى الحقيقة، ولا يعني هذا عدم اللباقة؛ بل على العكس، فما نريده هو اللباقة مع الصراحة.

ولقد رأينا هذه الخلافاتِ بين العرب تعصف بهم عصفًا، وتستنزف الكثيرَ من مالهم ودمهم، وعزمهم وعرقهم، وسمعنا كيف يبذل في سخاء.

إن الأمة العربية والإسلامية قد ذاقت الويلاتِ من الخلافات والتشتت وتمزيق بعضهم أوصال بعض، وتكالَب عليهم الاستعمارُ والشيوعية والصهاينة والصليبية الحاقدة، وكلُّ أولئك يهمهم أن يستمرَّ النزاع بين المسلمين؛ ليسهل القضاء عليهم، ولينتقموا منهم ويشفوا أحقادهم الدفينة على الإسلام والعرب، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ليسهل نهب ثرواتهم، واستنزاف خيرات بلادهم؛ ولينشروا المذاهبَ المخربة بينهم بدون مقاومة؛ وليمكنوا للصهاينة من الاستمرار في البقاء، وعدم تعكير صفوهم.

إن المخططات توضَع لتصفية القضايا الإسلامية والعربية، ولتقطيع أوصال البلاد الإسلامية والعربية، وإذا نظرنا إلى ما يجري في فلسطين وكشمير وأريتريا وإندونيسيا، والمؤامرات التي تحاك ضد المسلمين في هذه البلدان، وموقف أمريكا - زعيمة الصليبية الجديدة، والاستعمار بأسلوب اقتصادي - وتأييدها للبلدان المناوئة للإسلام بالمال والسلاح، والضغط السياسي والاقتصادي - علمنا أي مخطط جهنمي قد رُسم للقضاء على الأمة الإسلامية في شتى أقطارها وأمصارها، والصهيونية يهمها أن يبقى العرب والمسلمون متخاصمين متعادين؛ لتستمر إسرائيل في اغتصابها وعدوانها.

والشيوعية العالمية هي الأخرى تريد أن يظل المسلمون متخلفين متناحرين؛ لتنشر مذاهبها الهدامة، ومبادئها الإلحادية، وهكذا تتكتل جهودٌ كثيرة، وجهات متعددة ضد العرب والمسلمين، ومع الأسف فالعرب والمسلمون لم يشعروا بما يحاك لهم من شرور ومؤامرات، أو أنهم يتجاهلون ذلك على ما فيه من أخطار فادحة، ومصائبَ جسيمةٍ، وكلا الاحتمالين فظيع.

أيها العرب، أيها المسلمون، انبذوا الخلافات، واهرعوا إلى التصافي بينكم والتعاضد؛ فهذا واجبكم، وهذه مسؤوليتكم، فكفى خصامًا وتشتتًا، وحسبكم ما أصابكم من المستعمرين وأعداء العروبة والإسلام، فهل أنتم فاعلون؟!


نزاع غير منتظر([32])

هذا النزاع وقع أخيرًا بين المغرب والجزائر، كان مفاجأة غير سارة بالنسبة للعالمينِ العربيِّ والإسلامي، فلقد وقفت الدول العربية والإسلامية من قضيتَي المغرب والجزائر موقفًا كريمًا، وآزرتهما حتى تخلصتا من نِير الاستعمار الفرنسي بعد جهاد مرير، ونضال مستميت، وبعد أن نزفتْ دماء غزيرة، وأزهقتْ أنفس، وتلفتْ قرى وبساتين ومواشٍ، وكانت الفرحة الجذلى، والتهنئات الطربة باستقلال البلدين.

ولا شك أن الاستعمار لا يرحل إلا وقد خلَّف تركةً ثقيلة وراءه؛ إمعانًا في العسف، وتوغلاً في الانتقام، ولكي يظهر أن هؤلاء قوم قصر لا يستطيعون حكْمَ أنفسهم بأنفسهم، وأنهم همج، لولا تمدينُه لهم لم يكونوا شيئًا مذكورًا، وربما أمل في العودة، وقضايا الحدود في كل بلد يرحل منه الاستعمار لا بد أن يبقى جرحًا في جسم الأمة، وهذا ديدن المستعمر، وتلك خطتُه الرتيبة.

ولم نستغرب أن يكون هناك اختلاف في وجهات النظر بين المغرب والجزائر بشأن الحدود، وتعديلها على نحوٍ يزيل سوءها وميلها، ولكن المدهش أن يتطور النزاع إلى صدام مسلح، وأن تشتبك قوات الدولتين بجميع أنواع الأسلحة من دبابات، وطائرات، ومدرعات، ومدافع ثقيلة! فلقد كانت بحق مفاجأةً مذهلة! فليس هناك مبررٌ لهذا التصرف من جانب الدولتين؛ فالخلاف على الحدود أبسط من أن يصل إلى هذا الحد من القطيعة والتقاتُل، فبالمفاوضات والطرق السلمية يمكن حلُّ المشاكل بين البلدين، أما أن يحاول كل فريق فرْضَ رأيه بالقوة المسلحة، فهذا مما يسبِّب خسائرَ جسيمةً للفريقين، ويقضي على الأمل في وحدة الشمال الإفريقي (أو المغرب العربي الموحد)، الذي هو جزء من وحدة عربية شاملة.

ومن ثَم فقد هبَّ المخلصون من العرب باذلين مساعيَهم المشكورة؛ لتخفيف حدة التوتر، وإنهاء هذه الزوبعة التي ليست في صالح الطرفين، وهذا شعور نبيل بلا تردد؛ ولكن بعض الدول العربية التي أبدت استعدادًا للتوسط قد عُرفتْ بانحيازها إلى إحدى الدولتين؛ وهذا مما يجعل وساطتَها غيرَ ناجحة على الأغلب.

وهذه البلاد - حكومةً وشعبًا - يؤلمها كثيرًا أن ترى الحالة بين الدولتين تصل إلى هذا المستوى، وموقفُها واضح لا غبار عليه؛ ومن أجل ذلك فإن وساطة حكومة هذه البلاد في النزاع بين المغرب والجزائر، قد يكون له نتائجُ طيبةٌ، وثمارٌ حسنة، ونحن ننتظر من حكومتنا خطوة في هذا المجال، وما إخالها إلا فاعلة!

هذا، وإنا لنأمل أن يتغلب جانب الحكمة والعقل بين الدولتين العربيتين الشقيقتين، وأن تعود المياه إلى مجاريها، وأن يحل الوئام بدل الخصام، فذلك ما يمتناه كل عربي ومسلم.


لماذا هذا العنف؟

وقوع الأحداث في أي بلد أمرٌ عادي، وتغيُّر الحكومات وتبديل الوزارات شيءٌ لا غرابة فيه، ولكن سلوك بعض هذه الحكومات والوزارات غير إنساني وغير أخلاقي، إننا نسمع باستمرار تغير الوزارات والرؤساء والحكومات في العالم، دون أن يُثار الضجيج، ويُستعمل السلاح، وتُكال الشتائم، يستقيل الرئيس أو الحكومة، ويحل محلَّهما غيرُهما، فلا ينتقم الخلف من السلف، ولا تسيل الدماء وتنتهك الحرمات؛ بل يظل السابق محتفظًا بكرامته وتقديره، وقد يكون له أخطاء فادحة حصلت اجتهادًا، فلا تنصب له المشانق، ولا يسحل في الشوارع، ولا ينعت بأقذع النعوت؛ بل ينتقد، ويقصى عن الوظيفة في هدوء، وفي عدل.

ولستُ بحاجة إلى التشخيص، ولكن على سبيل المثال: ترومان رئيس الولايات المتحدة الأمريكية السابق، الذي ارتكب جريمةً عالمية بإلقاء القنابل الذرية على اليابان، إنه ما زال حيًّا، له مكانته، وإن انتُقد في تصرفاته، ولقي الاستنكار لفعلته الشنعاء، التي هي من أفظع الجرائم وأشدها همجية.

"وتشرتشل"، لقد نيف على الثمانين من عمره، وتعاقبت وزاراتٌ بعده، ومع هذا لا يزال يلقى الاحترام من مواطنيه من خصوم وأصدقاء رغم أخطائه العديدة([33]).

ولكن المؤسف أن يصبح طابعًا للعالم العربي هذا العنفُ والقسوة، وسفك الدماء، وإنه لشيء خطير أن تكون قاعدة مطردة أنه كلما غضبتْ فئة أو فئات من الشعب، تثور على الحكومة الحاضرة، ثم تنتقم من الحكام بطريقة فظة عنيفة يعرفها الجميع.

وليت أولئك المنتقمين يعتبرون بسلفهم؛ ليخفِّفوا من غلوائهم، فلا يُمعنون في الانتقام والتشفي؛ لأنهم سائرون على الدرب الذي نهجه سلفهم - ما داموا قد اتبعوا أسلوبه العنيف - وأي مأساة تقع إذا كانت الدماء تسيل أنهارًا بين من يختلفون في الرأي؟! وأي نتائج ستجنيها الأمةُ العربية من هذه الأفعال القاسية التي يورثها الآباء للأبناء والأحفاد؟! ولماذا لا يحتذي العالم العربي حذوَ غيره من الشعوب التي تغيِّر حكوماتها - إذا رأت مصلحة في ذلك - في هدوء واطمئنان؟!

فالعرب أحقُّ مِن تلك الشعوب بهذا وأولى، حيث إنهم يعتنقون دينًا سمحًا، يدعو للإخاء والعدالة؛ ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8]، دينًا يدعو إلى حفظ كرامة الإنسان، والأمن على دينه وماله وعرضه، دينًا يفتح باب الاجتهاد، ويدعو للتسامح والمحبة، ويوضح أن من اقترف إثمًا مهما كان ثم تاب، فإن الله يغفر الذنوب جميعًا.

ولكن المحزن أن يصبح العالم العربي فريسةً للدول الأجنبية الحاقدة، وأن يكون الشقاق والتناحر دَيْدنهم، بينما أعداؤهم يشمتون بهم، ويفرحون لواقعهم الأليم، وهم يبعثرون جهودَهم وطاقاتِهم فيما يضرهم وينفع أعداءهم، فمهلاً أيها العرب! فما هذه بسُبُلٍ قويمة، ولا طُرُقٍ سليمة، وتذكروا عند القوة وسكرة الحكم قول الشاعر:

إِذَا مَا الدَّهْرُ جَرَّ عَلَى أُنَاسٍ = كَلاَكِلَهُ أَنَاخَ بِآخَرِينَا

فَقُلْ لِلشَّامِتِينَ بِنَا أَفِيقُوا = سَيَلْقَى الشَّامِتُونَ كَمَا لَقِينَا

إن أي عاقل في العالم العربي لا بد وأن يشعر بالألم والأسى لهذا الواقع الذي تردَّتْ فيه الأمةُ العربية، ويرجو أن يهديَهم الله إلى ما فيه خير الدين والأمة والشعب، وما ذلك على الله بعزيز([34]).


إلى متى؟([35])

إلى متى والعرب في انقلابات وثورات ودماء؟! فما أن تهدأ ثورة حتى تعصف بها ثورة، وما أن يحدث انقلاب حتى يطيح به انقلاب، حتى أضحت الانقلابات والثورات في المحيط العربي وكأنها أمر عادي لا يثير كثيرًا من الانتباه.

مع أن الدماء تسفك بغزارة، والضحايا بالمئات والآلاف وعشرات الآلاف، والأرحام تقطع، والأطفال يصبحون مشرَّدين بعد حنان الأبوين، والثكالى يذرفْنَ الدمع بغزارة، والعدو قرير العين، وقد وجد من يخدمه في تمزيق العرب والمسلمين، ويظل بعيدًا عن مسرح الأحداث، يحركها من بعيد، ويترقب الفرصة لينقضَّ على الفريسة المثخنة بالجراح بعد أن تسقط من الإعياء، وإسرائيل - الخنجر المسموم في قلب البلاد الإسلامية والعربية - تطرب لهذا التناحر، وتمضي هي في خططها العدوانية([36]).

وهؤلاء القائمون بالثورات في البلاد العربية منصرفون بكل قُواهم إلى تثبيت دعائم حكمهم، الذي ينهار قبل إرسائه، إنني لا أقصد ثورة واحدة، أو انقلابًا معينًا؛ ولكنني أتساءل مع الكثيرين: ترى أليس هناك وسيلة للإصلاح - إذا كان الهدف الإصلاح - غير الانقلابات تلو الانقلابات، والدماء تصطفق مع الدماء؟! ومَن المسؤول عن هذه الأحداث التي تحطم كيان العرب، وتهدُّ قواهم؟!

ولو أن هذه الأموال التي تذهب في إحداث الانقلابات، وتثبيت الحكم، أقيمَ بها مشاريع، وأُسستْ بها مصانع، ورُفع بها من مستوى الفلاح والفقير في العالم العربي، أليستْ حينئذٍ أجدى وأنفعَ؟! وهذه السواعد القوية، والنشاط المتدفق حيوية، لو صرفتْ إلى أعمال البناء والتشييد، ألم يكن أولى من بعثرتها في ثورات وانقلابات؟!

ولو أن الحكام أتاحوا فرصة التعبير لمن يريد النقد والمعارضة، وحاولوا تصحيح الأخطاء، فلربما سلموا من مشاكلَ طويلة، وخلَّصوا الأمة العربية من هذه المآسي الدامية.

وإن كان هذا لا يكفي مبررًا لكي يقوم كلُّ من له آراء بفرضها بالقوة، والسعي للاستيلاء على الحكم بالبطش والإرهاب وسفك الدماء.

إننا نتمنى أن تقتصد الأمة العربية في هذه الأحاديث الفاجعة، وأن تخطط لمستقبلها على أسسٍ سليمة فيها نتيجة التجارب المريرة، والخبرات المتكررة "ولا يُلدَغ المؤمن من جحر مرتين"، وأن توفر إمكانياتها للعمل الجاد المثمر، والبناء الحكيم، وتقوية بلادها في جميع المجالات، في ثقافتها واقتصادها، وصناعتها وجيشها.

وفق الله الأمة الإسلامية إلى ما فيه الخير والعز والازدهار.


ثورات دموية([37])

شهدتْ منطقة الشرق الأوسط في السنوات الماضية ثورات، جاءت ردَّ فعلٍ لبعض الأوضاع السيئة، والتذمُّر من تصرفات الحاكمين وأعوانهم، وقد صاحَب هذه الثوراتِ دعاياتٌ وأقاويل، ومهَّد لها تحريضاتٌ كلامية من إذاعات وصحف خارج حدود تلك البلدان، وقد انخدع كثيرٌ من الشباب بتلك الدعايات البراقة، وصدَّقوا ما زعمتْه، وظنوا أن تلك الثورات ستحل مشاكلَهم، وتعود عليهم بالرفاهية والرغد، وخالوها ورودًا ورياحين، ولكن ما أن هدأتْ عاصفة العواطف المخدوعة، حتى شكَّتْ فيما قيل من مبالغات عن الأوضاع السالفة، وما أمَّلتْه من الثورات الجديدة من آمال عِذاب.

وبدأتْ تنكشف الأغشية عن العيون، فإذا هي ترى ما لم يكن لها في الحسبان، وإذا هي ثورات دمويَّة رهيبة، طابعها القسوةُ الفظيعة، والوحشية الناشبة أظفارها، وإذا هي في الأغلب شيوعية حمراء، لا تقيم للفرد وزنًا، ولا ترعى للإنسان كرامةً، ولا تحترم أديانًا ولا مقدساتٍ.

وعرفت تلك البلدان أساليبَ فظيعةً لم تكن تعرفها، وأضافتْ إلى قواميسها اللغويةِ ألفاظًا ما كانت لتدري عنها شيئًا: عرفت السحل، بعد أن رأتْه يطبق عيانًا، وشهدتْ حق العلماء والشرفاء بدعوى أنهم رجعيون متعصبون، ورأت ألوانًا من التعذيب والهمجية!

وتمنَّتْ أن لو صبرتْ على كل ما قيل عن أولئك المسؤولين قبل الثورة مهما كان الأمر، وأدركتْ أن الأكاذيب والتضليلات وحرب الإذاعات قد زجَّتْ بهم في هوة سحيقة، لا يعرفون كيف الخلاص منها؟ ومتى؟ وهي ثورات قد فرضت القوة البوليسية، والحكم العسكري عليها قسرًا، ونشرتْ بينها الرعب والقلاقل، وأمعنتْ في الطغيان والجاسوسية والاعتداء، ونحن لا نحبذ تصرفات أولئك الحاكمين السابقين جميعًا، وإنما نريد أن نكون في حال الوعي والإدراك، تمكننا من معرفة الطريق السوي لحل مشاكلنا، وألاَّ نظل إمعات، تخلبنا الدعاياتُ الفارغة، والأوهامُ الخادعة.

ومع هذا، فإن من الواجب - ودرءًا للأخطار والمفاسد - التعاونَ لإزالة الأضرار، والرجوع عن الأخطاء، وإبداء النصيحة للمسؤولين فيما قد يحصل من خطأ وتقصير، وتبادُل وجهات النظر والمشورات.

وإن على المسؤولين أن يفتحوا صدورهم، وأن يدركوا أن من الخير لهم وللأمة جمعاء أن يتقبَّلوا النقد برحابة، وأن يعملوا للتخلص من العادات الضارة، وأن يقدموا المصلحة الكبرى على المصالح الشخصية والأسرية! وأن يعملوا بحزم وسرعة وتجاوُبٍ لكل ما فيه مصلحة البلاد والأمة؛ حرصًا على تجنيب البلاد الكثيرَ من الشرور والأخطار.

إنه واجب يمليه الدينُ والضمير والعقل السليم، أن ننبذ الغطرسة والغرور، وألاَّ ننقاد لعنجهية سخيفة، ومظاهرَ دخيلةٍ، يمد في حبلها ملقُ المنافقين، ويعجِّل بظهور نتائجها الرهيبة صدودٌ عن ذوي الضمائر الحية، واستخفافٌ بالمخلصين، وعزوف عن الأعمال المثمرة النافعة؛ اتباعًا للنزوات الشهوانية، وتأثيرًا للأنانيات الصبيانية، والوجاهة الوهمية.

لقد جاء الإسلام داعيًا إلى التناصح والتشاور؛ ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران: 159]، ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: 38]، ((الدين النصيحة)((الناس سواسية كأسنان المشط)((لا فضل لعربي على عجمي، إلا بالتقوى)((كلكم لآدمَ، وآدمُ من تراب))، ومن الخير أن نفهم هذه المعاني السامية الجليلة، وأن نعمل على تحقيق مقاصدها.

وبعد، فهذه كلمة نقولها بدافع من الشعور بالمسؤولية، والقيام بالواجب، وقد ينظر إليها أناسٌ من زاوية خاصة فيغضبون، وينظر إليها آخرون فيزمجرون، وقد تغلب الحكمة وبُعد النظر، فيدرك أولئك وهؤلاء أنها كلمة حق، لم تمالئ مبطِلاً، لم تؤازر طائشًا، وإنما قيلت لأنها حق، ومن أجل الحق قيلت، وبالله التوفيق.


أنموذج لمدعي التقدمية

ومن يكون يا ترى هذا النموذج الغريب الأطوار، الذي يتشبَّث بكرسي الحكم بكل وسيلة مهما جرَّ ذلك على بلاده من تدهور وفوضى؟!

إنه "سوكارنو" التقدمي الاشتراكي، الذي حمَّل خزينة بلاده أكثرَ من ألفي مليون دولار من القروض، وتدهور الاقتصاد في ظل حكمه الجانح إلى الماركسية، والمعجب بماوتسي تونج إلى حد فظيع!

لم يكن سوكارنو قانعًا من الحكم بعشرين عامًا، تخبَّطتْ خلالها بلادُه في تجارِبَ دخيلةٍ مشؤومة، فرضها تقدميٌّ يزعم أنه يمثِّل الشعبَ، حتى وإن كرهه الشعبُ، ويصر على أنه صاحب السيادة المطلقة، وإذا كانت المصلحة تقضي أن يبتعد عن الحكم؛ ليفسح المجال لمن يريدون أن يصححوا أخطاءه، ويسيروا بالأمة على طريق صحيح، ففي رأيه لا يهم ذلك؛ فنيرون يقهقه وروما تحترق.

وإذا قيل: الإسلام والشيوعية لا يلتقيان، رد في عجب وتيهٍ: بل هما يتفقان، وإذا قيل: الاقتصاد الموجَّه معرَّض للانهيار، أبى إلا أن يكون موجهًا، مؤكِّدًا أن ذلك في مصلحة الشعب، وإذا عارض معارضون في تكبيل البلاد بالقروض، والانحياز نحو الكتلة الشيوعية، رد بأنه أدرى بمصلحة بلاده، وأشياء يطول وصفُها.

وهو يريد أن يلتصق بالكرسي، مهما كان الثمن باهظًا، وأعربتْ فئات من الشعب عن استنكارها لهذه التصرفات الحمقاء، واشمأزتْ من المعاداة المتعمدة للشعوب الإسلامية (كماليزيا)، ومطاردة دعاة الإسلام، وتحبيذ الأفكار الإلحادية، ولم تجد لدى المسيطر على الحكم شيئًا، وقامت المظاهرات، وعقدت الاجتماعات والمناقشات، وكوشف بالأمر جديًّا، ولكنه يأبى إلا أن يظل حاكمًا زعيمًا، أما الباقون، فأصفارٌ على اليسار.

وكان هذا الوضع الشاذ مجافيًا للديمقراطية التي يتشدَّق بها أمثالُ هذا، ومناقضًا تمامًا لأساليب الحكم، وأصول العدالة، وطريقة التمثيل للشعوب والتعبير عن رأيها، وهو يقسرها على أن تخضع لرغباته، وأن تتفانى في حبه، وتهيم بآرائه غير المسدَّدة.

واليومَ تتعرض إندونيسيا لأخطار أشدَّ، ومفاجآت أعنفَ؛ نتيجة إصرار سوكارنو على أن يكون الزعيمَ والحاكم المطلق رغم إرادة الشعب، وتوشك إندونيسيا أن تخوض حربًا أهلية، لا يعلم مدى خطورتها إلا الله، وماذا ستسفر عنه؟

وقد ألقى سوكارنو خطابًا في منظمة جيل عام 1945، وقال فيه: أستطيع أن أقول: إني ماركسي، وأنا ماركسي بقلبي، فكيف يستطيع الناس منعي؟! وهكذا كشف عن حقيقته الشيوعية، وأصرَّ على أن يحكم شعبًا مسلمًا، ويخضعه بالإرهاب للرضوخ للشيوعية الماركسية.

وأمثال سوكارنو على نفس النهج والأسلوب، ونظرة واحدة إلى أسلوبهم في الحكم وطغيانهم الذي يزداد حدة وضراوة - تعطي دليلاً أنها تشابهتْ قلوبُهم وأعمالهم، وتعبيراتهم وإرهابهم، مما حدا بكثيرٍ من الشعوب التي أطبقتْ عليها كماشتُهم أن يثوروا على استبدادهم، وينبذوهم نبذ النواة، ويتركوهم صرعى غير مأسوف عليهم، أو يلقوا بهم خارج بلادهم تتقاذفهم المتاهات، فيسعون في الأرض فسادًا، ويريدون أن يشعلوها فتنًا مظلمة، تجري فيها الدماء أنهارًا؛ من أجل أن يعودوا إلى الحكم، ولو فني الشعب من جراء فتنهم.

وبعد، فكم ظُلمت التقدمية، وفُجعت الديمقراطية بمن يلبسونها زورًا، ويدَّعونها بهتًا، ويحكمون باسمها بالحديد والنار، والعتو والطغيان!

وليكن درسًا يفقهه من ظنَّ خيرًا بأولئك الذين صموا الآذان، وأمعنوا في التزوير، وشوَّهوا الحقائق؛ من أجل أن يحكموا، وأن يفرضوا المبادئ الهدامة، والأفكار الطائشة.

وسيذهب الزَّبَدُ جُفاءً، والسراب سُدًى، والغلبة للحق وإن عاند المبطلون.


سوكارنو وابن بلا([38])

من الصدف الغريبة أن يتَّفق الاثنانِ في كثير من الأشياء، وحتى في الأسماء، وهما بعد: زعيمان في بلديهما، كافحا الاستعمار، ووثقتْ بهما شعوبُهما فترة من الوقت، وعلَّقت عليهما آمالاً عظيمة، ومع ذلك قامتْ تستنكر اتجاههما، وسحبت الثقة منهما، وكانت محاولات يائسة بالنسبة لأنْ يتراجعا عن خطتهما التي أوقعتْ بلديهما في ارتباكات وفوضى اقتصادية واجتماعية؛ نتيجة الإصرار على الخطأ، (وكان لا بد مما ليس منه بد)، فأطيح بابن بلا، وأزيل حكمه من الجزائر المسلمة.

وقلصت صلاحيات سوكارنو، وقلمتْ أظافره، واستولى الجيش على السلطة، وسجن الوزراء الشيوعيين، وطارد الماركسيين في كل مكان من الجزر التي تقارب ثلاثة آلاف جزيرة، وضيق عليهم الخناق، كل ذلك وسوكارنو لم يتراجع عن رأيه في أن الحزب الشيوعي لازم لإندونيسيا، وأنه شخصيًّا ماركسي مسلم! كما يزعم، وهي مغالطة بديهية؛ فكلُّ مسلم يعلم أن الشيوعية مناقضة لكل دين، وأنها حرب على الإسلام.

وإذا كان توقيع حل الحزب الشيوعي في إندونيسيا باسم سوكارنو، فالواضح أنه على طريقة (مكره أخاك لا بطل)، وتصريحاته السابقة، واستماتته في الإبقاء على الوزراء الشيوعيين، وتمسُّكه بذوي الميول اليسارية منهم، والطريقة الاشتراكية التي يحبذها ويسير عليها - كلُّها تعطي الدليل الجليَّ أنه لم يكن مختارًا في اتخاذ خطوة حاسمة مع الحزب الشيوعي، كيف وهو شبه معتقل الآن؟!

ومن الغريب أن سوكارنو شهد تدهور الاقتصاد في بلاده لسبب واحد، وهو اتجاهه الاشتراكي؛ ولكنه لم يعترف بأن العلة في هذا التدهور المخيف هو اتجاهاته اليسارية، وإعجابه بماوتسي تونج، وماركس، وأضراب لهما.

حتى إن سوكارنو طلب من شعب إندونيسيا أن من يأنس في نفسه الكفاءةَ لحل المشكلة الاقتصادية، فليتقدم ليتولى رئاسة الوزراء.

نسي سوكارنو أو تناسى أن إندونيسيا بلدٌ مسلم، لا يرضى بغير الإسلام نحلةً أو مذهبًا؛ لأنه دين كامل فيه كلُّ ما تحتاجه البشرية من أمن واستقرار، وحياة هانئة سعيدة.

وغاب عن باله أن الأسماء لا تغيِّر الحقائق، والدعاوى لا تبطل الصوابَ، فإذا سمى اشتراكيتَه الاشتراكيةَ الموجهة، وقال: إنها لا تتعارض مع الإسلام، فلن يغيِّر ذلك من الحقيقة الثابتة، وهي أنها شيوعية حمراء لا تلتقي مع الإسلام إطلاقًا، وبينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض، بل إن البعد بينهما بُعد ما بين الحق والباطل، ولم يعبأ الشعب المسلم بالدعاوى، فقام يناهض هذه الأفكار المخرِّبة، والمذاهب الهدامة، فهبَّ عن بكرة أبيه يقاوم الشيوعية مهما كان لونها وشكلها، ونجح الشعب، وأخفق دعاة الشيوعية وأنصارها([39]).

وكان هناك تشابهٌ كبير بين ابن بلا وسوكارنو؛ فقد كانت نظرتهما متشابهةً، وثقتهما بالماركسية، ودعواهما أنهما يؤمِنان بها وبالإسلام يكادان يكونان نسخة واحدة.

وقد أطاح جيش الجزائر المسلمة وشعبها الباسل بابن بلا؛ لنفس الأسباب التي ثار الشعب الإندونيسيُّ من أجلها، ورأب صدع الاقتصاد المنهار بفعل التأميمات والنظريات الاشتراكية، أو على الأصح: التخبطات الاشتراكية.

وبدأ يسير في الطريق الصحيح، بعد أن مرَّتْ به سنواتٌ عجاف، ذاق فيها حنظل الاشتراكية الحمراء، ولولا أن قيض الله عقلاء يحمون بلادهم قبل أن تقع فريسة للشيوعية الحمراء، فلربما كانت كارثة فظيعة كإحدى الكوارث الماثلة في ألبانيا والقرم والتركستان، ولتكررت المأساة.

سوكارنو وابن بلا، كافحا الاستعمار كما قلتُ آنفًا، ومع ذلك ثار شعبهما؛ ولكنهما أعجبا بالشيوعية، وظنَّا فيها تصحيح الأوضاع التي خلفها المستعمرون الصليبيون، فزادا الطين بِلَّة، وصارا كالمستجير من الرمضاء بالنار، كما عبر عن ذلك الشاعر:

المُسْتَجِيرُ بِعَمْرٍو عِنْدَ كُرْبَتِهِ = كَالمُسْتَجِيرِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ

قرأا كثيرًا عن الشيوعية ومناهجها الموهومة، وكان لكتابات ومؤلفات ماوتسي تونج، ولينين، وماركس أثرُها في نفسيهما، وتخيلا أن تطبيق اشتراكيتهم تحقِّق الرغد والرخاء، ولم يكن لديهما من الثقافة الدينية والعلوم الإسلامية ما يتبينان منه التناقض الهائل بين الشيوعية والإسلام.

وصدَّقا دعاوى الشيوعيين في الحكم والحياة الاجتماعية والاقتصادية، والمنجزات العلمية، والثورات الشعبية، إلى ما هنالك من مصطلحات وتضليلات.

ونسيا ما يعانيه الشعب السوفيتي والشعب الصيني ودول أوربا الشرقية المحكومة من الكرملين، وما حلَّ بها من النكسات والنكبات، والكبت والطغيان، وإهدار كرامة الفرد.

وكان رُزء البلدين المسلمَيْنِ أن يتَّجه رئيسا دولتيهما هذا الاتجاهَ الخاطئ، وعندما قام الشعب ممثَّلاً في جيشه؛ ليرجع الأمور إلى مجراها السليم، كان ذلك مما أثلج صدورَ المسلمينَ، وأعاد إليهم كثيرًا من الثقة التي فقدوها، أو كادوا، ولطف الله لا حدود له، وحكمته قد بهرت العقول والألباب.

بيت من الشعر:

وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا = تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الأَجْسَامُ

إحدى حِكَم أبي الطيب، التي يحس المرء عند سماعها بلذَّة، وإن كان يحفظها منذ سنين.


ماذا ينتظر للعالم الإسلامي؟

الحمد لله رب العالمين، وبعد، فهذا السؤال الذي يوجهه صديقنا الأستاذ عبدالقدوس الأنصاري؛ لينشره في المنهل المتدفق الرقراق، سؤالٌ رائع، ما أحوجَ المفكرين والمثقفين في العالم الإسلامي إلى تناول أمثاله، والبحث في جوانبه المختلفة!

ولو كانت صيغة السؤال هكذا: ماذا تتمنى للعالم الإسلامي في عام 1388هـ؟ لكان له جواب قد يغرق في الخيال، ويسيح في دروب طويلة جدًّا.

ولكن الصيغة جاءت على نحو آخر، إذ فيها تحديد لنقطة معينة، هي على رحابتها واتساعها تعني التأمل الفاحص، والاستنتاج المبني على المقدمات والمقارنات والدراسات، ثم الربط بين المقدمة والنتيجة - كما يقول المناطقة.

وإن كان توقُّع ما يحدث للعالم الإسلامي والعربي خلال عام، لا يلزم منه أن يحصل كل ما يُتوقَّع دون تخلف، أو إبطاء، أو طوارئ لم تكن في الحسبان، فإن الغرض على ما أتصوره من السؤال الاستنتاجُ المدروس.

وعلى هذا المفهوم المعقول أقول: إنني متفائل على الرغم من الظواهر غير السارة، الأحداث السابقة والتجارب التي مرت بها الأمة الإسلامية خلال قرن من الزمان - مثلاً - أبانتْ لها الكثيرَ من الحقائق، وصَحَتْ أخيرًا على شيء هام طالما غفلتْ عنه، وهو الأساس المكين، والحصن المنيع، ذلك هو الإسلام، عقيدة وحكمًا، وتعاونًا وسياسة، واقتصادًا وعسكرية، فكانت النتيجة لإغفال هذا الركن المتين أنِ استُعمرت بلادهم، وتفرَّق شملهم، وذَلُّوا بعد العز، وهانوا بعد الكرامة، وصاروا تابعين بعد أن كانوا سادة الدنيا وعظماءها ورواد الفكر والعلم والهداية، وقد عرفوا من التجارب أن المذاهب والعقائد المناقضة للإسلام، والشعارات المنافية للمعتقدات الدينية - هي عوامل فرقة وضعف، ومن ثم فإني أتصور أن العالم الإسلامي سيبرز حقيقة التضامن الإسلامي والتقارب بين الدول الإسلامية بشكل أقوى، وأن كثيرًا من القضايا التي تآمرتْ فيها الدول الصليبية عدوانًا، ستُحَل بسبب هذا التقارب الإسلامي كليًّا أو جزئيًّا، وأتوقع عقد مؤتمر قمة إسلامي يقوِّي أواصر الود بين المسلمين، ويعالج كثيرًا من المشكلات.

وأنتظر أن تقوم حرب بين المسلمين واليهود في فلسطين، يكون فيها النصر للمسلمين، وتُستخلص القدس من رجس الصهاينة، وتضطلع الباكستان بدور عظيم، وأتصور أن الدول الإسلامية ستفرض احترامها على كثيرٍ من الدول الكبيرة، وسيكون لها وزنها في المجالات الدولية؛ حيث ستتوحد كلمتها، وتسلك نهجًا موحدًا - تقريبًا - في جميع قضاياها؛ حتى تحسب لها جميعُ دول العالم ألف حساب وحساب؛ لئلا تتعرض لمقاطعتها اقتصاديًّا وسياسيًّا، أو خوض حرب ضدها تفتح فيها جبهات كثيرة، من قارات عديدة، وأظن أن بعض الدول الإسلامية ستظهر على مسرح الأحداث كدولة ذات شأن في النواحي العلمية والصناعات الخفيفة والثقيلة.

وأترقب إقبالاً على الدخول في الإسلام، ولا سيما بين القبائل الوثنية في آسيا وإفريقيا، ونشاط الدعاة المسلمين، واهتمام بعض الحكومات والمؤسسات في البلاد الإسلامية بهذه المسائل الحيوية.

وأنتظر هذا العام أن تنتصرَ دول إسلامية على مناورات الدول الاستعمارية الصليبية والشيوعية والصهيونية، فتتحدَ نيجيريا ويتغلب فيها المسلمون، وينخذل المنشقون، وتقومَ إندونيسيا بوقف نشاط المبشرين النصارى، وتُرجعهم من حيث أتَوْا، وتقضيَ السودان على محاولة التمرد، وتهدأ فيها الأحوال، وينبذَ الشيوعيون الذين لهم صولات وجولات في بعض البلاد الإسلامية، ويبديَ الأريتريون نشاطًا يلفت أنظار العالم، ويخرجوا بقضيتهم إلى نطاق أوسع، ويجدوا المساندة والتعضيد من البلدان الإسلامية، وينهي اليمنيون نزاعهم، ويوفروا جهودهم لبناء بلدهم على أسس من الشريعة الغراء، ومن الإنتاج المثمر البناء، ويقوم الأتراك بدفع غائلة التعدي والتعصب عن إخوانهم المضطهَدين في قبرص، ويستعيدوا حقوقهم الممتهنة، ويندم حكام قبرص المتسلِّطون بعد فوات الأوان.

وأترقب لتركيا دورًا هامًّا في أحداث هذا العام، وأن يكون لها شأن في المساهمة مع البلدان الإسلامية الأخرى.

وأنتظر لكشمير نيل استقلالها، فلا تظل مرتبطة بعجلة الهنود؛ بل يكون المسلمون فيها أحرارًا متعاونين مع إخوانهم المسلمين في الباكستان وغيرها.

وأنتظر أن يهب المسلمون في روسيا والصين من هذه العزلة التي فرضتْها عليهم الدولتان الطاغيتان، وينتفضوا انتفاضة إسلامية، يكون لها دوي هائل، وتُقابَل ثورتها العادلة بالإعجاب في سائر أنحاء العالم، ولا سيما العالم الإسلامي، الذي سيؤازرها ويساندها.

وأتوقع تحسين بعض الأوضاع في بلدان إسلامية عديدة، والحد من السرف أو إنفاق الأموال في غير طائل، والصرف في الوجوه النافعة التي ترقي شأن الأمة، وتدفع بها إلى المجد.

وسوف تعي كثيرًا من الدروس والتجارب، أسوة ببقية البلدان الإسلامية التي استفادت مما مرَّ بها، وعملتْ على تصحيح الأخطاء، وأدركتْ أن الإسلام يرشدها لكل خير، ويختار لها العزة والفلاح، فآبتْ إليه والهةً، واهتدتْ به في مسيرتها المظفرة، وإن غدًا لناظره قريب([40]).


في دعوة الإسلام عز العرب([41])

لستُ أدري ما الذي يفزع هؤلاء الناعقين من الإسلام؛ حتى يتصوروه بعبعًا مخيفًا، يرهبون ذِكره، ويكرهون سماعه؟!

فإذا ما تنادى المصلحون إلى دعوة الإسلام وقالوا: نريد التعاون والتكاتف بين المسلمين على أسس من مبادئ الدين والعقيدة، قام أناس يدْعون بالويل والثبور، وعظائم الدواهي وفجائع الدهور، يستشيطون غضبًا، ويصرخون فزعًا وهلعًا؛ ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [الزمر: 45]، وأطلقوا الألقاب المنفرة، والدعاوى المشوهة: هذه أحلاف استعمارية، وتلك تجمعات أجنبية، ومثلُ هذا كثير، ولكن الأمر يختلف في نظرهم عندما تكون التكتلات والمحالفات والمؤتمرات مع دول شيوعية أو اشتراكية، أو حزبية إلحادية، أو عنصرية؛ فهي هنا رمز التحرر والتقدُّم.

عجب، وأي عجب؟! لقد انجلى الظلام، ووضح الأمر، فمهما ردَّد أولئك من مزاعمَ، فما هي في حقيقتها إلا مناوأة للإسلام وما أمر به، من تقويةِ وشائج المحبة، والتعاونِ والأخوة بين المسلمين، وكل يوم يأتي برهان جديد على أن هذه أهدافهم، وتلك نواياهم، فلا تنطلي إلا على أعمى البصيرة، أو مكابر لا يريد أن يعترف بالحق، وماذا جنى العرب والمسلمون من الشعارات التي عشقها بعض المخدوعين، وأعجبوا بها عوضًا عن مبادئ الإسلام وتشريعاته؟! سوى التفكك والانقسام، وظهور العصبيات والقوميات، وضياع أقسام كثيرة، وتخلخل البناء في جسم الأمة العربية والإسلامية، حتى أوشكت أن تلفظ أنفاسها الأخيرة، لولا أنْ لطف الله بها، ولولا نوازع من خير، وطائفة من أمة الإسلام لا تزال على الحق ظاهرةً إلى قيام الساعة.

لقد كان في التاريخ ودروسه ما يكفي لأنْ يقنع كل من ينتمي للإسلام أنْ لا مجدَ للعرب والمسلمين، ولا قوة، ولا نصر إلا بالإسلام، والتعاون بين أبنائه، وفي المشاهد القريبة ما يزيل الالتباس.

وإن هذه البلاد التي تتشرف بخدمة الحرمين الشريفين، وهي قلب بلاد العرب وأرومتهم، عندما تنادي بأن الطريق لاحِبٌ، ألا وهو طريق الإسلام، والتآخي بين المسلمين، وتقوية الروابط بينهم، مع قطع النظر عن اللون والجنس والوطن، فإنها تقوم بواجبها، أو ببعض واجبها في هذا الشأن العظيم، وهي تسلك طريقًا صحيحًا، ينبغي أن يشد على يدها فيه، أن تنال المؤازرة والتأييد.

أما التهريج والتشكيك، وأما الشعارات الزائفة، والأفكار الإلحادية، والآراء المشبوهة، فتلك أشياء لا بد من نبذها وإلقائها أرضًا؛ لأنها لا تؤدي إلا إلى الخراب، وتضييع الجهود، وتشتيت الأمة، والانتكاسة المدمرة، والله أكبر والنصر للإسلام وأنصاره.


الذين يحاربون تقارب المسلمين([42])

هذه الأيام المباركات أيام الحج والعبادة والذِّكر، أيام اللقاء بين المسلمين في أشرف البقاع، في مهبط الوحي، وحول الكعبة المعظمة؛ استجابة لدعاء خليل الرحمن في قوله: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ [إبراهيم: 37]، وامتثالاً لأمر الله - تعالى - لرسوله ﷺ‬ أن يؤذِّن في الناس بالحج في قوله - تعالى -: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ الآيات [الحج: 27، 28].

وهذه المواسم الفاضلة جديرٌ بالمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يدركوا الحكمة فيها، وأن يعنوا بما تهدف إليه من عزِّ الإسلام، ورفعة المسلمين، والْتفاتهم لما فيه خيرهم وإسعادهم تحت علم الإسلام، وظل العقيدة السليمة من الشرك والخرافات، المناهضة للإلحاد والشيوعية والاشتراكية التي تريد القضاء على الإسلام، والاستعاضة عنه بهَذيان لينين وأنجلز وماركس وماوتسي تونج، وأن ينتبهوا للأخطار المحيطة بهم من الاستعماريين الذين يريدون أن يحوِّلوا بلاد الإسلام إلى بلاد نصرانية يرتفع عليها علم الصليب، ويسعوا جهدَهم لتفتيت الأمة الإسلامية وتمزيق شملها.

وحريٌّ بالمسلمين أن يستعدوا لمقاومة الصهيونية الماكرة، التي هي حربة مسمومة في قلب بلادهم، إن المسلمين عندما تمر بهم هذه الأيام الكريمة فما أحراهم بأن يتذكروا جهاد رسول الله، وصبره في الشدائد، واستهانته بما يلاقيه من أذى وطعن، وما يدبَّر له من مكايد ودسائس، وأن يكونوا يدًا واحدة، سلمًا للمؤمنين، حربًا على الكافرين.

إن البلدان الإسلامية تواجه أعداء كثيرين، وأخطارًا متنوعة، ومن واجبها أن تشمر عن ساعد الجد؛ لتقضي على الشر في مهده، وتوقِف الزحف العدواني قبل وقوعه، وألاَّ تستكين للذلِّ والخضوع لأعداء الله؛ "فقد ذل من غزي في عقر داره - ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين"، إن هذه المناسبات الساميات فرصة لأنْ يستفاد منها في كل حقل إسلامي نافع في علم الشريعة الخير والصلات، وفي كل شأن من الشؤون الإسلامية، هكذا يجب، وهذا ما ينبغي لكل مسلم أن يعيه.

المسلمون يلتقون في صعيد واحد، يعبدون الله ويكبِّرونه ويهلِّلونه، ويخلصون له التوحيد، ويشهدون منافع لهم، ويتقرَّبون إلى الله بما يحب من الطاعات، ويعملون أنواع البر والتعاون على الخير.

بهذا جاءت الشريعة المطهرة، وبهذا أُمروا أن يكونوا صفاء وعبادة، وقوة وتعاونًا؛ ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197].

وعندما يقوم المسلم بأداء الحج طلبًا لمثوبة الله، واقتداء برسوله ﷺ‬ فإن من تمام ذلك أن يكون فاهمًا لما يؤدِّي، لا يقوم به آليًّا دون وعي وتبصر، أو تقليدًا ومحاكاة؛ بل يتدبَّر ويتفكر، ويتعلم ويستنير؛ فـ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين))؛ كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم.

في الإحرام يتجرَّد الناس من مظاهر الدنيا وزخارفها؛ ليتوحَّدوا في لباسهم، وليتجرَّدوا من المثبطات والعوائق، وليتجهوا لإلهٍ واحد، إليه ينيبون، وإياه يعبدون، فما أروعَه من مشهد! وما أعظمه من موقف! وأخلِق بأمةِ الإسلام أن تنضوي تحت لواء التوحيد، والتعاون لما فيه خير الإسلام والمسلمين!

ومن المصائب أنه في الوقت الذي يحيط الأعداء بالمسلمين من كل جانب، يقوم بين المسلمين مَن يفرِّق كلمتَهم، وينشر المذاهبَ الهدامة بينهم، ويروج للأفكار المخربة والشيوعية الحمراء، إنها مصيبة ولا ريب، وغريب أن يجد أولئك الهدامون من يصيخ لكلامهم، ويحسن الظنَّ بهم، وتغشيه الضلالةُ عن الحق فلا يفرق بينهما.

إن الله يأمر المسلمين أن يتعاونوا على البر والتقوى، وأولئك يحاربون كلَّ تقارب بين المسلمين، وشتان ما بين الأمرين من تفاوت، وما لهما من نتائج، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.


الأمة المجيدة([43])

الأيام تمرُّ سريعة، والإنسان يركض من غير ما شعور بما عساه ملاقيه، وليس فخرًا أن ينال المرء جاهًا وسلطانًا ومالاً، ولكن أن يخلد ذكرًا، ترى كم من الأوقات تضيع هباءً في الخصام والحسد والمعاداة، وقد كان سامٍ وغاية نبيلة لا تنزل إلى مستوى الإحن والأحقاد والشتائم والانتقام.

إن المجد في نشدان السمو بالأمة والوطن والبشرية جمعاء في أن ترتقي مهتدية مستنيرة، لا تتخبط في متاهات الضلال، وأوحال الشكوك، ومذاهب الهدم والتخريب، أي فخر في استطالة الإخوة على بعضهم؟! وأي عز في قتال المسلم لأخيه المسلم؟! وأي بطولة في سفْك دماء الوادعين المسالمين من غير ما ذنبٍ اقترفوه؟! ولكن الآمال لا تخبو - رغم المصائب - بأن الأمة الإسلامية ستحاول بناء مجتمعها من جديد، على أسس عقيدة من تاريخها الوضاء، وتراثها الزاهر الذي يتقبَّل كل نافع مفيد، نابذةً الاستعمارَ الفكري، والاستعمارَ العسكري، والاستعمارَ السياسي ومخلفاته، التي تريد للأمة التقهقر والتناحر في سبيل وهمٍ خادع، وسرابٍ كاذب؛ ﴿وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46]، ولقد تذكرت أبياتًا لأبي الطيب المتنبي يقول فيها:

صَحِبَ النَّاسُ قَبْلَنَا ذَا الزَّمَانَا = وَعَنَاهُمْ مِنْ أَمْرِهِ مَا عَنَانَا

وَتَوَلَّوْا بِغُصَّةٍ كُلُّهُمْ مِنْـ = ـهُ وَإِنْ سَرَّ بَعْضَهُمْ أَحْيَانَا

رُبَّمَا تُحْسِنُ الصَّنِيعَ لَيَالِيـ = ـهِ وَلَكِنْ تُكَدِّرُ الإِحْسَانَا

كُلَّمَا أَنْبَتَ الزَّمَانُ قَنَاةً = رَكَّبَ المَرْءُ فِي القَنَاةِ سِنَانَا

وخطر ببالي قولُ شوقي:

إِلاَمَ الخُلْفُ بَيْنَكُمُ إِلاَمَا = وَهَذِي الضَّجَّةُ الكُبْرَى عَلاَمَا

وَفِيمَ يَكِيدُ بَعْضُكُمُ لِبَعْضٍ = وَتُبْدُونَ العَدَاوَةَ وَالخِصَامَا

إِذَا كَانَ الرُّمَاةُ رُمَاةَ سَوْءٍ = أَحَلُّوا غَيْرَ مَرْمَاهَا السِّهَامَا

ولم أيئس من أمة عريقة في المجد، حافلة التاريخ، سوف تعود إلى رشدها، تثوب إلى محتدها؛ لتعيد للأمة كرامتَها وعزَّها، ولتغرس الثقة التي كاد يقتلها التشتت والبغضاء ومكايد الأعداء.

وعندها كتاب الله المبين، وشريعة خاتم النبيين، واضحة كالشمس، منيرة كالقمر؛ ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 92]، فهل تتحقق هذه الأماني الجميلة، والأحلام العذبة؟ إن ذلك غير مستحيل ولا ممتنع، ولنكن متفائلين.


نهاية المأساة([44])

الآن يحق للأمة العربية والإسلامية أن تتنفس الصعداء، وأن تقرَّ عينًا، وتهدأ بالاً، بعد الاتفاق على إنهاء الحرب في اليمن فورًا، وعلى أن يقرر شعب اليمن حكومتَه بنفسه، بلا ضغط ولا إكراه.

لقد كانت مأساة اليمن كارثةً على أمة العرب والإسلام؛ فقد ذهب في فتنتها ما يزيد على مائتي ألف نسمة، وقتل الأخُ أخاه، وشهر العربيُّ المسلم سلاحَه في وجه أخيه العربي المسلم، وكادت ثقة الشعوب أن تتزحزح، وأن تعد تلك العبارات الرنانة سخرية ومهزلة، وكان أعداء العرب والمسلمين يطربون لهذا النزاع، ويريدون اضطرامه، ويُذكون وقوده بالدسائس والتشكيك، وإيغار الصدور؛ ولكن الحكمة تغلبتْ في النهاية، والرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل.

وها هو فيصل وجمال يوقعان الاتفاقية التي سيكون في عقباها الخير العميم - إن شاء الله.

وإذا كان هناك فترة انتقالية قبل إجراء استفتاء شعبي يمثل اليمنيين على اختلاف وجهات نظرهم، فإن الحذر والحيطة يجب أن يكونا دائمين؛ حتى لا يصطاد أعداءُ المسلمين في الماء العكر، وأن يبذلوا قصارى جهودهم للمحافظة على مكاسب الاتفاق وثمراته، وأن الثقة يجب أن تكون سائدة.

ثلاث سنوات مرتْ على الأمة الإسلامية في محنة وتشتت، وأعداؤهم من الصهاينة والمستعمرين يتفرجون على هذه البلدان التي ينهك بعضها بعضًا، وتستنزف قواها في فتنة لا ناقةَ لكثير منهم فيها ولا جمل.

إن الصهاينة يتربصون بكم أيها العرب وأيها المسلمون، ويتحرشون بحدودكم، ويبيِّتون الشر، ويضمرون الوثوب على البلدان العربية المتاخمة للمنطقة المحتلة؛ ليحققوا آمال الصهاينة ومطامعها([45])، وهي تستعدُّ لتملك السلاح النووي، وتريد أن تستجلب اليهود المشتَّتين في أنحاء العالم، وفي هذا الوقت بالذات كانت مآسي اليمن وأحزانه.

ولذا؛ فلا عجب إن ابتهجتِ النفوس، وسُرَّتِ الخواطر لهذا الاتفاق الذي نأمل أن يكون من ورائه خيرٌ كثير للأمة الإسلامية جمعاء، وأن توفر القوة المادية والأدبية الممزقة على جبال اليمن ووهاده في رفع مستوى الأمة والنهوض بها، والاستعداد لخوض المعركة المرتقبة بين الإسلام وأعدائه.


حق وباطل([46])

سِنون طويلة؛ بل قرون عديدة وأهل الباطل يجهدون أنفسَهم لنشر أباطيلهم، وتطبيق ضلالهم، كانوا يريدون محْوَ الإسلام كهدفٍ يصوِّبون إليه سهامَهم، وحاصروه وتألَّبوا عليه شيعًا وفرقًا، وعقائدَ ونحلاً، فالصليبيون والشيوعيون واليهود جمعتهم جبهةُ مقاومة الإسلام، واختلفوا طرائقَ ومذاهبَ ونحلاً، ووحَّدهم بغضُهم لدين الإسلام، فشنوا الغارات الشعواء بمختلف الأساليب، وشتى السبل، كانوا يظنون أنهم سيتخلصون منه نهائيًّا، ويُبيدونه عن آخره، واتخذوا لذلك كافة الوسائل المادية والمعنوية، وحقَّقوا شيئًا من مرادهم، وكانت الشيوعية اللينينية، والاشتراكية الماركسية أشدَّ ضراوةً وعداءً، وأقسى نكبة، وأكثر مكرًا؛ لأنها تلبس لكل حالة لبوسَها، كما حتمت الباطنية الإلحادية، وكما أوصى لينين أتباعَه ومريديه أن يكونوا؛ فالغاية عنده - مهما تكن - تبرر الواسطة.

وعاشت الأمة في دوامة من القلق النفساني، والاضطراب الفكري، ووقع كثيرٌ من الناس في عماية من أمرهم، وترددٍ في شأنهم، وكانت فئات تبين وتوضح، وتكشف الحقائق، وترشد إلى نهج صحيح، لا يضل سالكُه، ولا يتيه السائرون على ضوئه، يهتدون بهدى الله، ويستنيرون بكتابٍ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

كانت أصوات أولئك الدعاة المرشدين تكاد تضيع بين صيحات الباطل المنكرة، ودعاواه المزوقة، وأصواته الناشزة، وبدأ صوت الحق يعلو ويسمق، والباطل يتراجع ويرتد حسيرًا، رغم العناد والإصرار على الضلالة، وقوي الصوتُ، وارتفعت الأيدي تلوح للحق، وتشمئز من الإلحاد، وتكاثر الداعون وتفاهموا لما فيه خير الأمة وإعلاء دين الله، وتجاوبت مع أصداء هذه الأصوات المؤمنة رغباتٌ من بعض زعماء المسلمين وقادتهم، ونزلوا عند إرادة الشعوب الإسلامية، التي تريد أن ينهج قادتُها النهج الصحيح، وأدرك هؤلاء الزعماءُ وتلك الشعوبُ في الدين الإسلامي سعادتَهم وأمنهم، وهناء شعوبهم وتقدمها، وحشرجت أصوات الباطل، وغمغمت بكلمات ملتوية، وتحريفات سرعان ما بان زيفُها، وعرف هدف مروجيها (ورب ضارة نافعة)؛ فقد انبلج الصبح، وانكشف الشيوعيون اللابسون ثيابَ العروبة، والمدَّعون للإسلام مينًا وبهتانًا.

وفي أوقات قليلة تهدَّمَ بناءُ الملحدين والصليبيين والصهيونيين، وها هي ذي الدعوة إلى تعاون المسلمين وتكاتفهم، تجد الترحيب والسرور، وها هي ذي الشيوعية والاستعمار يقفان في انكماش واضمحلال، وهما يشهدان انحسارَ ظلِّهما البغيض.

إنها أعجوبة، وهي إحدى المعجزات للرسول ﷺ‬ ومعجزات القرآن الذي حفظه الله من التحريف والتبديل، وإذا صمم المسلمون اليومَ على أن يعودوا إلى الإسلام، فقد عادوا برغبة لا تُحدَّ، وعزيمة لا تُقهر - بإذن الله - وقد تحققوا عن تجربة ومعاناة أن الطرق غير هذا الطريقِ مسدودةٌ، وهم قد شهدوا مصارع المذاهب الهدامة، وضحايا المبادئ المنكرة، وبوار المدَّعين لأتباع ديانات محرفة ومنسوخة، وما أصاب هؤلاء جميعًا من تدهور اجتماعي فظيع، وتفكك وفراغ روحي.

الله أكبر وله الحكمة الباهرة.


إسلامية لا عنصرية([47])

كان العرب قبل الإسلام مشتتين ضعفاء، قد أنهكتْهم الحروب، ومزقتْهم الإحنُ والبغضاء، كلُّ قبيلة تتربص بالقبيلة الأخرى وتحاول القضاء عليها، ويؤجج نيرانَ الفتن الفخرُ بالأحساب، والطعنُ في الأنساب، وتعالي كل قبيل على القبيل الآخر، وإلصاق النعوت الذميمة بمناوئه، وكانوا يعبدون الأوثان، ويستسلمون للخرافات، ويحكِّمون الطواغيت، ويقلِّدون آباءهم في الجهل والضلال.

وعندما جاء الإسلام على لسان محمد بن عبدالله القرشي الهاشمي، بلسانٍ عربي مبين، ودخل فيه الناسُ عن اقتناع ورضًا واطمئنان، أزال الله عنهم الرجس والخرافات والعادات الجاهلية، وألَّف الله بين قلوبهم بعد تشتت، وجمدت الدعوات العنصرية، والتحزبات الجاهلية، وكان ممن دخل في الدين الإسلامي أشتاتُ القبائل والبطون العربية، وكثيرون من الموالى والفرس والروم والترك؛ ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى.

وانتشر الإسلام، وامتدَّت الفتوحات الإسلامية على أيدي العرب والأتراك والفرس والبربر والأكراد وغيرهم، على مختلف العصور، ونظرة إلى الفتوحات الإسلامية في إفريقيا والسند والأندلس، وأسماء أبطالها تعطيك الدليل على أن الدين قام به مسلمون من أجناس شتَّى؛ فهو دعوة للهداية عامة، وصراط مستقيم جاء ليُخرِج الناس من الظلمات إلى النور بإذن الله إلى صراط العزيز الحميد.

والْتفاتة إلى حَمَلة العلم ورُواته ومؤلِّفيه في تفسير القرآن والحديث والفقه والعربية والقواميس اللغوية، وأسماء الرجال في الجرح والتعديل - تظهر بما لا يدع أيَّ ريبة في أن هذا الدين قام به مسلمون على مختلف أقطارهم وأجناسهم؛ لأنه دين البشرية جمعاء، وعندما هبَّت الفتنة في الأندلس، وظهرتْ بوادر التحزب والقبلية بين العرب والبربر، أو بين العرب مع بعضهم، كقيس ويمن، أو المضرية والقحطانية - ضعُف شأنهم، وصار بينهم عداءٌ وقتال، أدَّى إلى ضياع الأندلس، ولقي المسلمون من الهوان والتشتت والأهوال ما يشيب الوليدَ، ويبكي المارد، ويفزع الجبابرة، على أيدي محاكم التفتيش والنصارى الحاقدين، الذين صفا لهم الجو بتمزيق المسلمين بعضهم لبعض؛ حتى صاروا لقمة سائغة لأعدائهم.

إن طارق بن زياد، وصلاح الدين الأيوبي، والكثيرين من الأتراك والفرس وغيرهم - ما يزالون يعطون البرهان الجلي على أن الدعوة إلى النعرات والعصبيات الجاهلية هي بدع، كانت وما فتئت تضرُّ ولا تنفع، وتشتِّت ولا توحِّد، وتفرِّق ولا تجمع.

إن صلاح الدين وطارق بن زياد ومحمود الغزنوي ومحمد الفاتح - قد أدوا خدمات جُلَّى للإسلام والمسلمين، وانتشر الإسلام وقَوِيَ على أيديهم، وهم ليسوا عربًا، وأن البخاري ومسلمًا وأضرابهما قد حفظ اللهُ بهم الدينَ، وكانوا أعلامًا يهتدى بهم في معرفة السنة النبوية، ولم يكونوا من العرب، وأن الأفكار التي تنادي بقوميات وعنصريات في هذا العصر قد أضرَّتْ كثيرًا بالإسلام والمسلمين، وأضعفت الأواصر والروابط بين المسلمين جميعًا، وضعف شأن الدين والعقيدة في النفوس، وصارتْ عند كثيرين أقوى من رابطة الدين رابطة الوطن والقومية، وعلى هذا المسلك غير الحميد رأينا نكساتٍ حلَّتْ بالعالم الإسلامي، وأقوى أسبابها وأفدحها الدعوات القومية والعنصرية، كدعوة مصطفى كمال أتاتورك للقومية التركية، والدعوة إلى القومية العربية التي نادى بها بعضُ زعماء العرب في مطلع القرن العشرين وإلى هذا الحين.

فقد انعزلتْ تركيا، وتخلَّتْ عن مكانتها العظيمة في العالم الإسلامي؛ بل في العالم أجمع، وأصبحتْ ذَنَبًا للغرب، يتفضل عليها بمنٍّ وعنجهية، بما يمدها به من معونات وقروض، بعد أن كانت رأسًا في العالم الإسلامي، لها صوتها المجلجل، وهيبتها المحترمة.

وإن كانت تركيا قد أظهرتْ بوادرَ طيبةً في الآونة الأخيرة، وأدركت أن الغرب الذي تكون حلقة متينة في أحلافه واقتصاده وقوَّته العسكرية لن يكون لها صديقًا؛ لأن العداء القديم لا يزال مغروسًا في نفوس زعماء الغرب، وذكريات الحروب الصليبية تسيطر على عقلياتهم وتفكيرهم.

وشهدنا في هذا العصر نكبة فلسطين، وزوال زنجبار العربية المسلمة، والخصومات والتشتت بين المسلمين من عرب وغيرهم، وكلُّ ذلك بسبب الدعوات الجاهلية إلى القومية والعنصرية، وتقديمها على الرابطة الإنسانية الخالدة، رابطة الدين والعقيدة.

إن مفكِّري العالم الإسلامي وعلماءه وقادتَه والقائمين على وسائل الإعلام - مدعوون في كل قطر ومصر بكل وسيلة، إلى أن يعلنوها حربًا شعواء على دعاة التفرقة والعنصرية، وأن يوجهوها دعوةً مخلصة إلى تعاون إسلامي، ووحدة إسلامية، وتضامن إسلامي في كل مجال، في الثقافة والاقتصاد وغيرهما، وأن الواجب العمل لذلك؛ فهو السد المنيع في وجه الأطماع الاستعمارية، والمذاهب الإلحادية والتفرق، وفي ذلك القوة المتينة، والمكانة المرموقة للمسلمين كقوة فعالة ذات خطر عظيم ووزن في الشؤون العالمية والدولية.

إننا نطلب ونلح أن يقوم كلُّ مسلم بقدر طاقته قبل فوات الأوان، وقبل أن تبتلعهم الدولُ الحاقدة، ويتمزَّقوا شذر مذر، ويصبحوا كحال أهل الأندلس، إن مخططات الاستعماريين الصليبيين والشيوعيين والصهيونيين للقضاء على الإسلام والمسلمين، لم تعد تحتاج إلى براهين؛ فهي واضحة لكل متأمِّل لم يعشه الظلام الدامس، والأضاليل الخداعة.

وما لم ينتبه المسلمون لما يحيكه لهم الأعداء، فسوف تذهب ريحهم، ويصبحون أشلاء ممزقة تذروهم الرياح.

إن الأمل لا يزال قويًّا في أن يقوم المسلمون بدور عظيم في مقاومة التيارات الملحدة، والدعوات الجاهلية، رغم الظلام الدامس، والدعوات الضالة، وبالله التوفيق.


لا يستويان([48])

من يدْعو إلى الله وإلى نشر الدين الحق، ومن ينادي بالاشتراكية والشيوعية، ومن يتجشم المصاعب ويجوب الأرض؛ لكي يبين حقيقة الإسلام، ويحث المسلمين على التضامن والتآزر لما فيه خيرُهم وعزتهم، ومن يصد عن سبيل الله، ويلقن الجاهلين مبادئ الشيوعية الحمراء والضلالات العمياء، ومن يبني المساجد ويؤسس المدارس الإسلامية، ومن يشيد معاهد الإلحاد ويشجع الغَواية، من ينفق المال ابتغاء مثوبة الله، وتنويرًا للبصائر، ومن يتخبط في الأموال، ويسرف في بذلها؛ لبذر الفتن ونشر الفوضى والخراب، ومن ينادي بالألفة والمحبة والسلام واجتماع الكلمة على هدى من الله وتحكيم لشرعه، ومن يعمل ليلَه ونهاره لإراقة الدماء، وتحطيم التعاون بين المسلمين، وبث البغضاء والإحن، ومن يقدِّر علماء الإسلام، ويجلهم، ويحلهم المكانة اللائقة، ومن ينصب المشانق، ويملأ السجون، وينكل بالعلماء الأتقياء، ومن يطبع كتبَ الإسلام، ويشجع على إحياء التراث الإسلامي وتوزيعه، ومن يغرق الأسواقَ ويشحن المطابع، ويستميت في بث الكتب الشيوعية والتعاليم الماركسية، ومن يوجِّه إذاعاته وصحفه إلى أن تقول الحق وتدعو إلى الله على بصيرة، ومن يسير وسائل الإعلام في البلاد المنكوبة به إلى تمجيد أعداء الله وأعداء دينه ورسوله، وإلى نشر الإلحاد والفجور.

ومن ينتقل بين بلاد المسلمين حاثًّا على التقارب والتعاون ولَمِّ الشمل، ومن يرتمي في أحضان الشيوعية ويصافي كلَّ عدوٍّ للإسلام، ويتيه فخرًا وهو يمشي في الربوع التي شهدتْ مجازر المسلمين، ويطرب لمصادقة السفاحين المجرمين.

ولا نذهب بعيدًا، فكلٌّ يعرف ما لقيه المسلمون في البلدان التي يصادقها زعماء، ويقف إلى جانبهم ضد المسلمين، ويعطيهم الحرية كاملة؛ ليلقوا من فوق منابر بلاد الإسلام تهجُّمَهم على الدين، وسخريتَهم بعلمائه، وترويج دعاواهم الباطلة، ومبادئهم المنكرة.

لن نطيل في المقاومة، ولن نكثر من الأمثال؛ فقد وضح السبيل لكل من كان له قلب وبصيرة؛ مما يغني عن التعداد، ويكفي عن الاسترسال، ونظرة فاحصة إلى واقع أولئك المخربين وما جرُّوه من نكبات على بلادهم خاصة، وعلى بلاد المسلمين عامة، ما يجلو الحقيقة التي قد تحجبها الدعواتُ الجوفاء، والأباطيل الهوجاء حينًا، ولكنها لا بد أن تظهر متلألئة، شاقةً طريقَها بين العواصف، ومن خلال الدخان الكثيف؛ ليحق الحق، ويزهق الباطل.


في تضامن المسلمين قوتهم([49])

التضامن بين المسلمين واجب شرعًا، وقد أمر الله به ورغَّب فيه، وحذَّر المسلمين من إهماله، وبيَّن ما في الإخلال به من خطر التمزق، وإهدار القوة، وهوان المسلمين على الناس؛ ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ [آل عمران: 103] إلى قوله: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 105]، والرسول ﷺ‬ يقول: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضُه بعضًا)).

نداء كريم، وتوجيه حكيم، وهداية من الله لعباده؛ ليكونوا الأعزاء الثابتينَ على الحق، المنافحين عن دينهم بعزم ومضاء، لا سبيل للوهن والذل إلى نفوسهم.

لقد أرشد الله المسلمين إلى أن يتضامنوا ويتعاونوا، وينهجوا الطريق الأمثل، متَّبعين في ذلك شرع الله وما أمر به؛ ليكون بناؤهم قويًّا، وصفوفهم متراصة، وجهودهم مثمرة، ويومَ كانوا واعين هذه التوجيهاتِ الحكيمةَ، والإرشاداتِ النافعةَ، بلغوا المجد السامق، والعز المكين، ونشروا لواء الإسلام في أنحاء الدنيا، وسادوا أكثر بلاد العالم.

وعندما تخلَّوْا عن هذا السبيل، وركنوا إلى المبادئ المدمرة، والشعارات المفرقة، والخلافات المشتتة، تمزقوا إربًا، وتقطعوا شيعًا، فصاروا مطمعًا لأعدائهم من الشيوعيين والصليبيين واليهود وغيرهم، وحتى هان أمرُهم على أحقر الأمم وأقلها شأنًا، وتألَّبتِ الفِرَق والنحل والملل على المسلمين، يغزونهم في عقر دارهم، ويقتسمون ثرواتهم، ويستخفُّون بهم؛ مما جعلهم في نظر العالم قومًا يُغار عليهم ولا يُغيرون، ويضامون ولا يدافعون، ويهانون ولا يستشيطون، وقد كانوا أهلَ العزة القعساء، والهمة الشمَّاء، والإقدام العظيم.

وقد جربوا كثيرًا، وشهدوا ما نالهم بسبب إغفالهم لدينهم، وإعراضهم عن تعاونهم، واتكالهم على أعدائهم؛ مما ألحق بهم فادحَ الخطوب، وشنيعَ المصائب، وإلا فهل يعقل أن يكون شراذم اليهود المشردون، الذين لا يتجاوزون المليونين، يغلبون مائة مليون عربي وخمسمائة مليون مسلم؟! ولكنها نتيجة الإعراض عن الحق، والتمادي في الباطل.

ولقد كان من أولى واجبات الزعماء المسلمين أن يتضامنوا فيما بينهم، وأن يتعاونوا على الحق والعدل فيما يصلح شؤونهم، وأن يطبقوا التعاليم الربانية في شد أزر إخوانهم المسلمين، وتوادهم معهم، وتشاورهم وتعاونهم جميعًا.

وإن أمة الإسلام - بحمد الله - قريبة من الخير، رغم الشرور المدلهمة، والخطوب الجسيمة، وتزعُّم بعض من لا يمثلون رغبات المسلمين وآمالهم في بعض البلاد العربية والإسلامية، وهذه الدول الإسلامية قد تنادت وبادرت إلى نصرة العرب في كارثتهم، وهي مستعدة للتفاهم والتعاون معهم إذا ما وجدت أذنًا مصغية، ورغبة في اللقاء.

وإن موقف باكستان الصلب ضد الصهاينة وأعوانهم لَيبعثُ على الاعتزاز والتفاؤل بأن هذه الأمة الإسلامية مهما ابتعدتْ ديارُها، وتعرضت لمحن خطيرة، وكوارثَ فاجعةٍ، وشعارات منفرة، فإنها لا تزال بخير، وستنهض من كبوتها - بإذن الله - قويةً منيعة، إذا ما اتعظت بما مر بها، ووعت الدروس القاسية التي عاصرتها، واستفادت من تجارِب الماضين، وفي مقدمة هذه التجارب إدراكُ ما سبَّبه الابتعادُ عن شرع الله وأمره من خسارة ووبال.

إن تضامن المسلمين وتآزرهم سبيلُ خلاصهم، وطريقُ نجاتهم، ومن هنا يجب أن يبدؤوا سائرين على قواعد ثابتة، وأسس سليمة؛ فذلك هو السبيل القويم.


جامعة الدول الإسلامية([50])

بعد تجارِبَ طويلةٍ في البلدان الإسلامية ثبتَ أن اللجوء إلى التجمعات والشعارات التي لا تنضوي تحت لواء الإسلام وتواكب تشريعاته - هي فاشلة فشلاً ذريعًا.

فالمناداة بالقومية بدلاً من الدين، والدعوات الاشتراكية الهدامة، والتعصبات الإقليمية، والتكتلات الجغرافية - كانت سببًا في فرقة المسلمين وضعفهم، وانتشار مذاهب الهدم والتخريب بين صفوفهم.

والعرب الذين أقاموا الجامعة العربية بلجانها ومؤتمراتها واجتماعاتها ذات الخطب الطويلة، ماذا ربح العرب منها؟! وماذا جنَوْا من ثمارها؟! إن من حق المرء أن يتساءل بعيدًا عن ضوضاء الدعاوى العريضة: ماذا حققتْه الجامعةُ الموقَّرة؟! وهل كانت جمعًا للعرب على دعائم الإسلام، وتقوية لأواصر المودة بين المسلمين، فازداد غير العرب من المسلمين وثوقًا بالعرب وقربًا منهم؟ أم أن العكس هو الحقيقة المرَّة التي يصرُّ البعض على تجاهلها؟ فلم تستفد تركيا من تعصبها لقوميتها - أو على الأصح: من تعصب بعض زعمائها - ولم يجنِ العرب من مناداتهم بالقومية إلا التشتتَ، وتفكُّك الروابط الإسلامية بينهم وبين المسلمين من غير العرب.

وكان من الأسباب الرئيسة لتمادي البعض في الدعاوى القومية: أنْ تفشت المذاهب الشيوعية؛ حيث لم تجد من أنصار القومية، والمنادين بها صلابةً في العقيدة الإسلامية تقاوم المبادئَ الضالة؛ بل كان من المنادين بها من هدفُه بثُّ الشيوعية الحمراء على أوسع نطاق.

وجرب العرب - كما جرب غيرهم - صنوفًا من المذاهب والنِّحل المناقضة للإسلام، وأدركوا ما تنطوي عليه من أضرار في الدين والدنيا، وبالنسبة للفرد والمجتمع، وما ينتج عنها من فتنٍ واضطرابات، واليومَ تبدو في الأفق علائمُ بارزةٌ، وتدوي أصواتٌ تدْعو إلى الحق والصواب، إلى طريق لاحبٍ؛ حيث التعاونُ الإسلامي، والتضامن بين المسلمين، وتقوية الصلة بين البلدان الإسلامية، وتآزرها لما فيه خيرها وسعادتها، واستجابة لأمر الله - تعالى - في قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10].

وتصغي الشعوب الإسلامية التي سئمتِ المذاهبَ المفرقة، والدعاوى المضللة، وتملؤها الغبطة وترى فيه خيرًا كثيرًا، وتحقيقًا لأمانيها ورغباتها، وفي خضم الدعوات المؤيدة، والآراء المعارضة، أرى أن يأخذ التعاون طابعًا قويًّا، يخرج عن نطاق التعميمات التي قد لا يدرك كثيرٌ من الناس مغزاها، وأن يكون من الأهداف التي يسعى إليها الجميعُ كخطوة في سبيل التضامن الإسلامي: قيامُ جامعة الدول الإسلامية على غرار جامعة الدول العربية، جامعة هدفُها تقويةُ المودة بين الشعوب الإسلامية، ونشْر الثقافة الإسلامية، والتراث الحافل، والتعاون المثمر؛ ففي ذلك قوةُ المسلمين وعزتُهم.

وإننا وسطَ هذه الأفكار المعارضة لا يسعنا إلا أن نستبشر بالدعوة إلى جمع كلمة المسلمين على كلمة التوحيد، وتحت راية القرآن، وإن من واجب كل مسلم في أي بقعة من الأرض أن يؤيد كلَّ تعاون بين المسلمين.

وبإذن الله سينتصر الحق، وتُهزم الشيوعية والاشتراكية ودعاتهما، وحسْب العرب والمسلمين ما لقوه من دعاة الضلال، والمناهضين للدعوة الإسلامية ولعلماء الدين، وكفى شعوبَهم ما عانوه من تدهور اقتصادي واجتماعي، وبطش وعدوان، ولم تعد خططُهم الشيوعية الحمراء خافيةً؛ فقد كشف قناعها، وبطل سحرُها، وعرف مروجوها على حقيقتهم، وإن غدًا لناظره قريب.

وَلاَ بُدَّ لِلَّيْلِ أَنْ يَنْجَلِي = وَلاَ بُدَّ لِلقَيْدِ أَنْ يَنْكَسِرْ

وإذا جاء موسى وألقى العصا، بطل السحر والساحر.


كلمة لا بد منها([51])

تهبُّ على الأمة الإسلامية رياحٌ عاتية من الشرق والغرب، وتصطرع المذاهبُ والنحل، وتُراش السهام، وتصوَّب القنابل نحو الإسلام؛ لغزوِه في عقر داره، ولإيقاف انتشاره. فالصليبية والصهيونية والشيوعية، وغير هذه وتلك، كالحزبية القائمة على الإلحاد، كالنحل المتفرعة عن بعض أولئك، كالماسونية والوجودية، والجمعيات ذات الأهداف المشبوهة والغايات التخريبية، كلٌّ منها تريد أن تجعل من بلاد المسلمين مقرًّا لها، ومركزًا لشرورها، وتجهد نفسها في صبغ أمة الإسلام بصبغتها الملوثة، وتأمل أن تقضي على دينها ومقوماتها، وتفتِّت صلابتَها، وتئد روحها المعنوية، ويجري سباقٌ محموم بين تلك الفئات لتحقيق أحلامها.

ومما يزيد الأمرَ خطورةً أن لا يقتصر هذا البلاء على أعمال الأجانب، وإنما يقوم بوزره بعضٌ ممن ينتسبون للإسلام أو العرب، ويتلقَّوْن التوجيهات غالبًا من الخارج.

ولهؤلاء أساليبُهم الماكرة، وطرقُهم الشريرة، التي يموهون بها على بعض من لا يسبرون غورَهم، وليس لديهم المناعةُ الكافية، والمقاومة الصلبة، فيسيرون في مواكب الضلال؛ ولذا فإن العبء كبير، والمسؤولية عظيمة.

وقد فطن كثير من المصلحين لما يهدد الأمةَ الإسلامية من أخطار، فنادَوْا بالْتفاف المسلمين حول راية التوحيد، وتحكيم الشريعة السمحة، والعمل لغرس العقيدة الصافية في عقول الصغار، وبعث الدعاة والمرشدين، وإلى إصلاح مناهج التعليم، وإلى أن تجعل وسائل الإعلام في الإذاعة والصحافة والتلفزيون وغيرها وسائلَ خيرةً، ترشد للخير، وتدْعو إلى النبل، وتنير الطريقَ للسالكين؛ لكي تكون سلاحًا ضد الكفر والشرك والإلحاد، ووسيلة لإعلاء كلمة الله، والدعوة إلى هداية الناس إلى الإسلام.

ونادى المصلحون أن يتعاون المسلمون ويتضامنوا، ويكونوا قوة لها شأنها؛ ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ﴾ [المائدة: 54]، كما وصفهم الله.

ولا بد مع ذلك كله أن يصلحوا الأخطاء التي تكون عقبة في قَبول ما يدْعون إليه، ويستغلها أعداء الإسلام في التنفير عنه، وإلصاق التُّهم، مع أن الإسلام منها براء (براءة الذئب من دم ابن يعقوب).

لا يكفي أن يقال: "ليس في الإمكان أبدع مما كان"، ولا أن يصغى للهتَّافين والمطبِّلين، الذين يهمهم الغنائم العاجلة، وإن كذبوا ونافقوا وتصنَّعوا.

والمقاومة الناجحة للغزو الفكري المختلف الاتجاهات والمشارب، والمتنوع المصادر والموارد - تتطلب صراحة وحزمًا وجهرًا بالحق؛ لكي تكون المقاومة مرتكزةً على أسس قوية، لا تزعزعها الرياح، ولا يبدِّدها الاصطناع.

إن كل مسلم يجب عليه أن يجند نفسه لمكافحة الأخطار التي تحيط بأمة الإسلام، والتي تسعى لإبادته والقضاء عليه، ولا يجوز التردُّدُ في ذلك، أو التهاون به بحال من الأحوال، وفي نفس الوقت لا بد من التعاون الذي ينشد الحقيقة، غير متعسف ولا منتقم، لإصلاح الخطأ، وتقويم الاعوجاج.

وذلك بلا ريب مما يضاعف من مسؤولية علماء الإسلام وقادته، وما يتحملونه من عبء الأمانة، وجسامة الأمر.

وإن الأمة الإسلامية تمرُّ بمرحلة من أدق المراحل في حياتها، ومن الخير لها أفرادًا وجماعات أن يقوم كلٌّ بما يفرضه عليه دينُه وعقيدته في هذا الشأن، وفي طليعتهم علماءُ الشريعة، وفقهاء الأمة.

ولنتذكر أن الأعداء يعملون الكثير جدًّا من أجل تثبيت باطلهم، والوقت يمرُّ سريعًا، لا يحتمل التسويف والتواكل، فهل يضطلعون بمسؤوليتهم قبل فوات الأوان؟!


أين نقف؟

ما هو موقفنا من هذا العالم المضطرب الذي يموج بالأفكار والمبادئ، والتيارات والمطامع؟ لعل هذا السؤال هو ما يشغل بالَ الكثير من مفكِّري العرب في هذه الأوقات بالذات، وفي جميع الأوقات.

هل نكتفي بالسلبية والتفكك، ونتجاهل الأحداث الجارية من حولنا، والغزو الذي يتهدَّدنا في كل ناحية من نواحي حياتنا: الغزو العسكري والفكري والاقتصادي والسياسي، الوارد من الشرق والغرب، ومن الشيوعية والصهيونية والصليبية.

إن موقف العرب موقفٌ يدْعو للأسى؛ فهذا التغافل عن الأخطار هو أشد النكبات وأقساها، وأبعدها أثرًا في حياة العرب البائسة، فبعض العرب لا يزال يتشبث بعقائدَ غريبةٍ، قد لحقها الفشل أنى حلَّتْ، وما فتئت الانتكاسات تلاحق معتنقيها، وهي بالتالي تعادي الإسلام، وتهدم قوة المسلمين، وتشتت جهودَهم، وتفرِّقهم أحزابًا وشيعًا.

وبعض آخر يجامل ويداري، ويظن أن المسالمة فيها الغنيمة بالإياب، والعافية من شر هذه الزمرة التي تنشب أظفارها في كل مَن يقاوم هذه التيارات المعادية.

والمسلمون يظلون مبعثري القوة، نهبًا للأفكار والعصبيات، ينتمون للقوميات والإقليميات، والنعرات الجنسية والعصبيات القومية، فإذا ما دُعُوا لاجتماع إسلامي، ولقاء أخوي تجمعه أقوى الروابط، وأمتن الأواصر، إذا بالدعوات المضادة تشتعل، وإذا بالأصوات المنكرة ترتفع، فلا يكون الاجتماع ولا اللقاء إلا في ساعات ولمحات لا تقوى على الصمود والبحث والتخطيط، وتتبعثر القوى التي في الْتقائها العزةُ والنجاح، ويقف العربي المسلم حائرًا مذهولاً، لا يجد مبررًا لهذا الابتعاد وهذا التشتت؛ فقد جرب العرب ألفاظًا من الشعارات، وألوانًا من التكتلات، ووجدوها أوهامًا وخيالات، وأنواعًا من الضعف والتمزق، ولم يجد العرب حين جدَّ الجد التعاونَ الصادق، والأخوة الصحيحة إلا في المسلمين، الذين يكنون لهم الودَّ، ويتسامحون عنهم في ابتعادهم وتفضيلهم طرقًا وعرة، نهاية مطافها الهلاك.

وفي اجتماع المسلمين وتعاونهم قوتُهم من النواحي المختلفة في الاقتصاد والثقافة؛ مما يقوي الناحية السياسية، لديهم من الثروات المتنوعة، والإنتاج المختلف، والتعاونُ الوثيق هو الذي يجعل منهم قوةً هائلة إذا ما أحسنوا الاستفادة مما يملكون، فلْيعملوا مع بعضهم في تنمية هذه القوى واستثمارها، بدلاً من أن يكون جني ثمارها من نصيب العدو، الذي يبني بها مصانعَه، ويطوِّر أسلحته؛ ليوجِّهها إلى صدور المسلمين حين يلقاهم مشتَّتين.

إن في تعاون المسلمين وتضامنهم عزتَهم واحتلالهم مكانةً عالية في هذا المجتمع الصاخب، وذلك العالم المضطرب.

واليومَ يواجه العرب هزيمة على يد عصابات الاحتلال الصهيوني ومن يمالئُهم، مع كثرة عدد العرب وثرواتهم، وموقعهم الهام، ووسائلهم الفائقة؛ لأنهم ابتعدوا عن الاستفادة من وسائلهم على وجهٍ صحيح، وأهم ذلك الرجوعُ إلى الدين وما يأمر به من إعداد القوة، وأخذ الحذر، والاعتصام بحبل الله جميعًا، وترْك التفرق والاختلاف بين المسلمين.

وإذا ما أراد العرب الانتصار، فعليهم أن يتعاونوا مع إخوانهم المسلمين، وأن ينبذوا العصبيات القومية والوطنية، وأن يجاهدوا في سبيل الله ولإعلاء كلمته، وإنهم لمنتصرون بإذن الله، وعند الصباح يحمد القوم السرى.



([1]) عكاظ، العدد (279)، في 24/5/1385هـ.

([2]) نشرت في الندوة، العدد (2322)، في 2/6/1386، وفي مجلة رابطة العالم الإسلامي، لشهر شعبان 1386.

([3]) لما وقعت الحرب بين العرب واليهود في شهر صفر عام 1387، حصل ما توقعناه مع الأسف (المؤلف).

([4]) المدينة، العدد (682)، في 28/2/1386هـ.

([5]) اليمامة، العدد (368)، في 23/10/1382هـ.

([6]) الندوة، العدد 2341، في 24/6/1386هـ.

([7]) الندوة، العدد (1817)، في 17/9/1384هـ.

([8]) الندوة، العدد 1817، في 17/9/1384هـ.

([9]) نشرت في العدد (69)، في 27/5/1386هـ من جريدة الدعوة.

([10]) الجزيرة، العدد (190)، في 18 محرم سنة 1388هـ.

([11]) الجزيرة، العدد (193)، في 10/2/1388هـ.

([12]) جريدة الدعوة، العدد (166)، تاريخ 25/5/88هـ.

([13]) اليمامة، العدد 381، في 19/12/82هـ.

([14]) نشرت في الندوة، العدد (2336)، في 18/6/86 باختصار.

([15]) الندوة، العدد 2441، في 21/10/1386هـ.

([16]) نشرت في الندوة، العدد 2442، في 29/10/1386هـ.

([17]) المدينة، العدد (718)، في 11/4/1386هـ.

([18]) صحيفة الجزيرة، العدد (19)، في 28/6/1384هـ.

([19]) صحيفة الجزيرة، العدد (180)، في 1/11/1387هـ.

([20]) الجزيرة، العدد (43)، في 4/1/1385هـ.

([21]) أي عام 1384.

([22]) اليمامة، العدد (454)، في 9/6/1383هـ.

([23]) المدينة، العدد (344)، في 24/12/1384هـ.

([24]) اليمامة، العدد (449) في 21/8/83هـ.

([25]) الجزيرة، العدد (7)، في 3/4/1384هـ.

وقبرص تكتب في المؤلفات التاريخية القديمة بالسين، وفي الكتب المعاصرة بالصاد.

وقد فتحت قبرص على يد معاوية بن أبي سفيان في خلافة عثمان بن عفان - رضي الله عنهما - سنة 28هـ الموافق 648م، وكان معاوية قد سار إليها بجيش من الشام، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح بجيش من مصر، فاجتمعا عليها، وتم الصلح بين المسلمين وأهل قبرص على سبعة آلاف دينار كل سنة، يؤدُّون مثلها إلى الروم، وعلى أن يخبروا المسلمين بتحرك عدوهم من الروم إذا قصدوا المسلمين محاربين، ويحق للمسلمين النزول بها في طريقهم لقتال العدو.

وفي سنة 32هـ - 653، أعان أهل قبرص الروم على المسلمين في البحر بمراكب أعطوهم إياها، فغزاهم معاوية مرة أخرى في خمسمائة مركب، وبعث باثني عشر ألف رجل من المسلمين للإقامة فيها بعد أن تم الصلح بينه وبينهم، فبنوا فيها المساجد.

وفي خلافة هارون الرشيد غزاها حميد بن معيوف الهمذاني؛ لحدثٍ أحدثوه، وأسر منهم بشرًا، ثم أمر الرشيد بردِّ الأسرى بعد أن استقام أهل قبرص وخضعوا لحكم المسلمين.

وقد مرت قبرص بأدوار مختلفة من حكم الفراعنة واليونان والفرس والرومان والإفرنج والمسلمين والإنجليز.

وفي سنة 1571م استولى الأتراك العثمانيون على الجزيرة، بعد حصار استمر أربعة عشر يومًا، وبعد معركة حاسمة في عهد السلطان سليم الثاني، الذي جهز مائتي سفينة لغزوها ومائة ألف رجل، وفي سنة 1878م تنازلت الدولة العثمانية عن قبرص لإنكلترا في مقابل دفاعها عن شواطئ تركيا الآسيوية، على أن تبقى في يدها حتى إجلاء الدولة الروسية عن القرى والبلاد التي استولت عليها من أرمينية العثمانية، وذلك بمساعدة القوات البريطانية، وفي سنة 1914م ضمت إلى بريطانيا.

استقلت في آب عام 1960م، وصار الحكم لليونانيين القبارصة، ونقضوا ما اتفق عليه قبل نيل الاستقلال من مشاركة القبارصة الأتراك المسلمين في الحكم، وحصلت نزاعات كثيرة، وقبرص تبعد عن تركيا 40 ميلاً، وعن سوريا 60 ميلاً، وعن مصر 240 ميلاً، وعن اليونان 435 ميلاً تقريبًا؛ أي: نحو 700 كيلو مترًا، وعدد سكانها نحو نصف مليون نسمة: 80 بالمائة من أصل يوناني، و18 بالمائة من أصل تركي، و2 بالمائة من عناصر مختلفة، وجنسيات متنوعة، من عرب وعجم وأرمن ويهود وغيرهم.

(وانظر: كتاب "قبرص جزيرة السحر والجمال"، و"القاموس السياسي").

([26]) اليمامة، العدد 369، في 26/10/1382هـ.

([27]) اليمامة، العدد 421، في 12/5/1383هـ.

([28]) اليمامة، العدد 458، في 23/9/1383هـ.

([29]) اليمامة، العدد 445، في 7/8/1383هـ.

([30]) جريدة الندوة، العدد 1817، في 17/9/1384هـ.

([31]) اليمامة، العدد 426، في 29/5/1383هـ.

([32]) اليمامة، العدد 427، في 3/6/1383هـ.

([33]) وما زال يحظى بهذا التقدير بين مواطنيه بعد وفاته رغم أخطائه العديدة.

([34]) اليمامة، العدد 403، في 8/3/1383هـ.

([35]) اليمامة، العدد 436، في 5/7/1383هـ.

([36]) بعد ثلاث سنوات ونصف استبانت الحقيقة لكل ذي عينين، عندما ألحق العدو بالعرب هزيمةً نكراء، ما برحوا يتجرعون غصصها، وعسى أن تكون دافعًا لتلافي الأخطاء والاستعداد.

([37]) اليمامة، العدد (348)، في 29/5/1382هـ.

([38]) جريدة الرياض، العدد (283)، في 17/12/1385هـ.

([39]) وتم عزل سوكارنو، وتولية سوهارتو بدلاً عنه.

([40]) المنهل، عدد محرم، 1388هـ.

([41]) نشرت في جريدة البلاد، العدد (2175)، في 17/12/85هـ.

([42]) نشرت في جريدة البلاد، العدد (2175)، في 17/12/85هـ.

([43]) نشرت في جريدة اليمامة، العدد 464، في 22/10/1383هـ.

([44]) نشرت في جريدة الجزيرة، العدد 114، في 12/6/1386هـ.

([45]) وقد أظهرت الأحداث التي جرتْ بعد ذلك، بما فيها الحرب التي وقعت بين العرب وإسرائيل في أواخر شهر صفر 1387هـ، أن حرب اليمن كانت عاملاً قويًّا في كسب إسرائيل للمعركة؛ نظرًا لانشغال بعض القوات العربية بالحرب في اليمن، فضلاً عما أورثتْه هذه الحرب من تفكُّك وضعف.

([46]) نشرت في المنهل، عدد محرم، 1386هـ.

([47]) مجلة الحج، ج7، في محرم 1386هـ، ومجلة البعث الإسلامي الهندية، في المجلد العاشر، العدد التاسع، صفر 1386هـ.

([48]) نشرت في صحيفة الجزيرة، العدد (114)، في 12/6/1386هـ.

([49]) الجزيرة، في 25/3/1387هـ، العدد (151).

([50]) جريدة الرياض، العدد 289، في 24/12/1385هـ.

([51]) نشرت في جريدة المدينة، العدد (689)، في 7/3/1386هـ.