وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
- وأنتم
الأعلون إن كنتم مؤمنين
- حقيقـة الفتنـة
- أسباب
النصر والثبات
- 1- الثقة بنصر الله تعالى للمؤمنين الصادقين:
- 2- التمسك بالكتاب والسنة:
- 3- التوكل على الله تعالى:
- 4- الصدق مع الله والثبات في المواقف:
- 5- اعتقاد أن ما حدث هو بسبب الذنوب والمعاصي والأعمال السيئة:
- 6- الصبر واليقين:
- 7- الإعداد الجيد:
- 8- الدعاء:
- 9- الإكثار من ذكر الله تعالى:
- 10- حسن الظن بالله تعالى:
- 11- الحذر من المثبطين:
- 12- طلب الشهادة في سبيل الله:
- 13- تربية الأمة على مواقف العزة والبطولة:
- 14- ترك التنازع والاختلاف:
وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..
تعيش الأمة اليوم حالة من الضعف والتخلف والتبعية والانهزام والتفرق لم يعرف لها التاريخ مثيلاً. وقد ابتليت بتداعي الأعداء عليها، وتربصهم بها، وتسلطهم وتفوقهم عليها في العدة والعتاد، والقوة والبأس، والعلوم والتكنولوجيا والصناعات المختلفة.
والأمة.. تعيش بدائية وتخلفًا في كافة مجالات العلوم والتقنية، بل في كافة مناحي الحياة.
ما الذي حدث؟
ألسنا من أمة الإسلام؟
ألسنا خير أمة أخرجت للناس؟
ألسنا أمة الأمجاد والبطولات والفتوحات؟
أين نحن من قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]؟
أين نحن من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]؟
هل تخلى المسلمون عن دينهم وأخذوا بدين القوم: «إذا ضربك أحدهم على خدك الأيمن فأدر له الأيسر»؟
لماذا ترك المسلمون البحث والنظر والاختراع وهم أصحاب المنهج العلمي القائم على التجربة والملاحظة؟
لماذا ترك المسلمون أعداءهم حتى سبقوهم سبقًا بعيدًا، وها هم اليوم يتكالبون عليهم لفتنتهم وإخراجهم من دينهم؟
حقيقـة الفتنـة
إنها حقًا فتنة .. ولكن ما هي الفتنة؟ وما موقفنا منها؟ وكيف نتجاوزها ونتصدى لها، ولا نسقط مع الساقطين؟
إن الفتنة في كتاب الله يراد بها الامتحان، وقد يتجاوز المرء هذا الامتحان فلا يفتتن، بل يصبر ويحتسب الأجر عند الله تعالى كما قال تعالى لموسى عليه السلام: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40]، فموسى عليه السلام صبر على البلاء، وجاهد في الله حق جهاده حتى نجاه الله من الفتن الكثيرة.
وقد يسقط المرء في هذا الامتحان فيفتن كما في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: 49].
فالفتنة كير القلوب، ومحك الإيمان، ودليل ثبات شجرته في القلب، بها يتبين الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، والطيب من الخبيث، فمن صبر عليها كانت رحمة في حقه، ونجا بصبره من فتنة أشد منها، ومن لم يصبر عليها وقع في فتنة أشد منها، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155].
* * * * لا بد من الفتنة
والفتنة لا بد منها في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلقوله تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 – 3].
وأما في الآخرة فلقوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات: 13 – 14].
فالنار فتنة من لم يصبر على فتنة الدنيا، كما قال تعالى في شجرة الزقوم: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات: 63].
والله تعالى جعل بعض الناس فتنة لبعض امتحانًا لهم واختبارًا، كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20].
قال ابن القيم: «وهذا عام في جميع الخلق، امتحن بعضهم ببعض، فامتحن الرسل بالمرسل إليهم، ودعوتهم إلى الحق، والصبر على أذاهم، وتحمل المشاق في تبليغهم رسالات ربهم.
وامتحن المرسل إليهم بالرسل هل يطيعونهم وينصرونهم ويصدقونهم، أم يكفرون بهم ويردون عليهم ويقاتلونهم؟
وامتحن العلماء بالجهال، هل يعلمونهم وينصحونهم، ويصبرون على تعليمهم ونصحهم وإرشادهم ولوازم ذلك؟
وامتحن الجهال بالعلماء، هل يطيعونهم ويهتدون بهم؟ وامتحن الملوك بالرعية، والرعية بالملوك.
وامتحن الأغنياء بالفقراء، والفقراء بالأغنياء.
وامتحن الضعفاء بالأقوياء، والأقوياء بالضعفاء، والسادة بالأتباع، والأتباع السادة.
وامتحن الرجل بامرأته وامرأته به. وامتحن الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، والمؤمنين بالكفار، والكفار بالمؤمنين.
وامتحن الآمرين بالمعروف بمن يأمرونهم، وامتحن المأمورين بهم.
وكذلك كان فقراء المؤمنين وضعفاؤهم من أتباع الرسل فتنة لأغنيائهم ورؤسائهم، امتنعوا من الإيمان بعد معرفتهم بصدق الرسل وقالوا: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11]، وقالوا لنوح: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111]، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53]، فإذا رأى الشريف الرئيس المسكين الذليل قد سبقه إلى الإيمان ومتابعة الرسول حمي، وأنف أن يسلم ويكون مثله وقال: أسلم فأكون أنا وهذا الوضيع على حد سواء!!» ([1]).
والمقصود: أنه لا بد من الفتنة وأننا ما خلقنا إلا للامتحان والاختبار، لتتبين معادن الناس، وتنكشف سرائرهم ويتميز المؤمن من المنافق، والصادق من الكاذب. فالمؤمن يفتن في هذه الدنيا بأسباب كثيرة، منها: فتنته بالكفار الذين لا يرضون عن دينه، ويريدون فتنته فيه وإخراجه منه، كما قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120]، وهذه المحنة التي يعيشها أهل الإسلام اليوم هي صورة من صور فتنة الكافر للمؤمن.
أسباب النصر والثبات
إن هناك أسبابًا تجعل المسلم يثبت أمام أعاصير الفتن وأمواج البلايا والمحن، وهي أيضًا من أسباب النصر والتمكين وقهر الأعداء وكسر شوكتهم، ومن ذلك:
1- الثقة بنصر الله تعالى للمؤمنين الصادقين:
ينبغي على المسلم أن يثق ثقة تامةً ليس معها شك بأن الله تعالى ينصر عباده المؤمنين المتمسكين بدينهم في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]. وقال سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40].
والله تعالى ينصر عباده وإن كانوا ضعفاء فقراء، ويهزم أعداءهم وإن كانوا أقوياء أغنياء يملكون أسباب القوة والبأس، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123].
والله تعالى لم يترك عباده نهبًا لأعدائهم، ولم يكلهم إلى أنفسهم، ولم يسلمهم إلى عدوهم ويديل عدوهم عليهم إلا بسبب ضعف إيمانهم وإعراضهم عن دينهم.
قال ابن القيم رحمه الله: «والله سبحانه إنما ضمن نصر دينه وحزبه وأوليائه، القائمين بدينه علمًا وعملاً، لم يضمن نصر الباطل، ولو اعتقد صاحبه أنه محق».
وكذلك العزة والعلو إنما هما لأهل الإيمان الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو علم وعمل وحال. قال تعالى: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].
فللعبد من العلو بحسب ما معه من الإيمان، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، فله من العزة بحسب ما معه من الإيمان وحقائقه، فإذا فاته حظ من العلو والعزة، ففي مقابلة ما فاته من حقائق الإيمان علمًا وعملاً، ظاهرًا وباطنًا.
وكذلك الدفع عن العبد هو بحسب إيمانه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا} [الحج: 38]، فإذا ضعف الدفع فهو من نقص إيمانه.
وكذلك الكفاية والحسب هي بقدر الإيمان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64]، أي: الله حسبك وحسب أتباعك، أي كافيك وكافيهم، فكفايته لهم بحسب إتباعهم لرسوله ﷺ وانقيادهم له، وطاعتهم له، فما نقص من الإيمان عاد بنقصان ذلك كله.
ومذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص.
وكذلك ولاية الله تعالى لعبده هي بحسب إيمانه. قال تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]، وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا} [البقرة: 257].
وكذلك معية الله الخاصة هي لأهل الإيمان، كما قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19]، فإذا نقص الإيمان وضعف كان حظ العبد من ولاية الله له ومعيته بقدر حظه من الإيمان.
وكذلك النصر والتأييد الكامل، إنما هو لأهل الإيمان الكامل، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]. وقال تعالى: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14]. فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد، ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله، أو بإدالة عدوه عليه، فإنما هي بذنوبه، إما بترك واجب أو فعل محرم، وهو من نقص إيمانه»([2]).
2- التمسك بالكتاب والسنة:
إن غاية الأعداء – كما أسلفنا – هي فتنة المسلم في دينه وإخراجه منه ليتبع سبيل أهل الكفر والضلال، وقد بين سبحانه حرص هؤلاء على الفتنة في قوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} [الإسراء: 73]. وحذر سبحانه من الركون إليهم بمخالفة شيء مما أنزل الله تعالى لإرضائهم فقال: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49].
ومن هنا ينبغي على المسلم أن يزداد تمسكه بدينه عند ورود الفتن ونزول المحن؛ ليقطع الطريق على أعداء الإسلام، فيثبت لهم أنه لا يدين إلا بدين الإسلام، أن الموت عنده أهون من المساومة على شيء من دينه. قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120]، فالخير كله والثبات والتوفيق في فعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66].
فهؤلاء الأعداء إذا رأوا صلابة المؤمنين في دينهم وحرصهم على التمسك بكتاب ربهم وسنة نبيهم ﷺ، يئسوا منهم وعلموا أنهم لا سبيل لهم عليهم، أما إذا رأوا تساهل المسلمين وتفريطهم في دينهم وهوان دينهم عليهم، طمعوا فيهم، وحاكوا حولهم الفتن والمؤامرات حتى يخرجوهم من دينهم بالكلية.
3- التوكل على الله تعالى:
من أعظم ثمار التوكل أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته وتحديه الأعداء مهما عظموا، فالقوة كل القوة في التوكل. ولذلك جاء الأمر بالتوكل مقرونًا بالإعراض عن الأعداء وعدم الاهتمام بهم أو الخوف منهم، فقال تعالى: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81].
وقال عز وجل: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}[الأحزاب: 48].
وبين عز وجل أنه يحفظ المتوكل من كل مكروه، فقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أي: كافيه.
والتوكل على الله تعالى يورث الصبر والتحمل، ولهذا قرن الله تعالى بين الصبر والتوكل في غير ما آية، وما ذاك إلا لأن الصبر والتوكل ملاك الأمور كلها. قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 41 – 42].
والتوكل على الله كذلك يورث النصر والتمكين، ولهذا قرن الله تعالى بين النصر والتوكل فقال سبحانه: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160].
وقال عز وجل: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 49]، وذلك أن المنافقين والذين في قلوبهم مرض، لما رأوا قلة المؤمنين أمام جحافل المشركين ذلك اليوم قالوا: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ} وهي مقولة يرددها المنافقون وأصحاب القلوب المريضة كلما رأوا إقدام المسلمين في الاستبسال في سبيل الله مع قلة عددهم وعددهم متوكلين على الله تعالى، واثقين بنصره وتحقيق وعده في قوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]. وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]. فمتى حققوا العبادة الخالصة لله تعالى – ومن مقتضياتها التوكل عليه سبحانه وتعالى وحده دون سواه – تحقق لهم ما وعدهم الله تعالى من النصر والتمكين.
إن المتوكل على الله الذي يعلم أنه ما من حول ولا قوة ولا استطاعة لأحدٍ إلا بالله تعالى، وأن الخلق لو اجتمعوا كلهم على نفع شخص بمثقال ذرة لم ينفعوه، ولو اجتمعوا على أن يضروه لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وعلم أنه على الحق، وأن الله تعالى حكيم رحيم في كل ما قدره وقضاه؛ فإنه لا يبالي بما أقدم عليه من قوة وكثرة، وكان واثقًا بربه، مطمئن القلب، لا فزعًا ولا جبانًا، ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} لا تغالب قوته قوة، {حَكِيمٌ} فيما قضاه وأجراه [الأنفال: 49].
والمنافقون والذين في قلوبهم مرض لا يدركون حقيقة أسباب النصر وأسباب الهزيمة، فهم يرون ظواهر الأمور، دون أن تهديهم بصيرة إلي بواطنها، ودون أن يشعروا بالقوة الكامنة في العقيدة، والثقة فيه والتوكل عليه، واستصغار شأن الجموع والقوى التي لا تركن إلي عقيدة في الله تمنحها القوة الحقيقية، فلا جرم يظنون المسلمين يومئذٍ مخدوعين في موقفهم، مغرورين بدينهم، واردين موارد التهلكة، بتعرضهم لجحافل المشركين التي يرونها ([3]).
4- الصدق مع الله والثبات في المواقف:
إن حكمة الابتلاء أن يتبين الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 23 – 24].
«بين الله سبحانه أنه أتى بالأحزاب ليجزي الصادقين بصدقهم حيث صدقوا في إيمانهم، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15].
فحصر الإيمان في المؤمنين المجاهدين، وأخبر أنهم هم الصادقون في قولهم: {آَمَنَّا} لا من قال كما قالت الأعراب: {آَمَنَّا} والإيمان لم يدخل في قلوبهم، بل انقادوا واستسلموا. وأما المنافقون فهم بين أمرين: إما أن يعذبهم، وإما أن يتوب عليهم» ([4]).
ومن علامات الرجال الصادقين: أنهم لا يتزلزلون في مواقف المحن، ولا يسيطر عليهم الخوف والوهن فيدفعهم إلي الفرار أو الاستسلام، بل إنهم يثبتون ويصبرون ويتوكلون على ربهم، ويدافعون عن دينهم حتى يقضي الله فيهم بما شاء، بل إن هذه المواقف الصعبة والمحن العظيمة لا تزيدهم إلا إيمانًا وتسليمًا كما قال تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]، وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران: 173 – 174].
إن «من رحمه الله بعباده المؤمنين أن يسلط عليهم البلاء، ثم يرزقهم الثبات، لينالوا عنده الأجر العظيم، وهو سبحانه يربيهم بالمحن والشدائد، ويصفي قلوبهم من الدخل والغل والغش، وكلما خرجوا من فتنة أو محنة بالصبر والثبات والإصرار قيض لهم أخرى أشد منها بعد أن وعوا درس المحنة الأولى، وأفادوا منه، وارتقى مستوى إيمانهم ويقينهم. ولو أنهم ابتلوا بالمحنة الآخرة أولاً لربما ضعفوا أو تزعزعوا، ولكن الله تعالى يدرجهم فيها صعدًا؛ ليتنامى إيمانهم، ويقوى ويزداد، وقد بين الرسول ﷺ هذه المعاني لأصحابه بيانًا قويًا مكررًا في مناسباته؛ لأنهم كانوا في أشد الحاجة إليه، حيث إنهم حملة رسالة الإسلام أول مرة، والمضحين في سبيلها، والمبتلين من أجلها، وكانوا مع هذا أحب الأمم إلى الله، وأقربها إليه زلفى، وأعظمها عنده قدرًا. عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاءًً، قال: «الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة»([5])([6]).
وهذا يبين أن الأمة كلها خيارها وشرارها معرضة للبلاء، كما قال سبحانه: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، فالأخيار يبتلون لرفع درجاتهم واستخراج ما عندهم من عبودية، وأصحاب الذنوب يبتلون بسبب ذنوبهم، وبما كسبت أيديهم ليرجعوا عن غيهم ويتوبوا إلى ربهم، والمطلوب من الجميع: الصدق والثبات والصبر في مواطن البلاء والمصائب والمحن.
ومما يساعد على الثبات معرفة أن الفرار والاستسلام لا ينفع لا من الموت ولا من القتل كما قال تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الأحزاب: 16 – 17].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه الآيات: «يقول: لو كان الفرار ينفعكم لم ينفعكم إلا حياة قليلة ثم تموتون، فإن الموت لا بد منه. وقد حكي عن بعض الحمقى أنه قال: فنحن نريد ذلك القليل. وهذا جهل منه بمعنى الآية، فإن الله لم يقل: إنهم يمتعون بالفرار قليلاً، لكنه ذكر أنه لا منفعة فيه أبدًا. ثم ذكر جوابًا ثانيًا؛ أنه لو كان ينفع لم يكن فيه إلا متاع قليل. ثم ذكر جوابًا ثالثًا؛ وهو أن الفار يأتيه ما قضي له من المضرة، ويأتي الثابت ما قضي له من المسرة» ([7]).
5- اعتقاد أن ما حدث هو بسبب الذنوب والمعاصي والأعمال السيئة:
فإن كثيرًا من الناس قد ضلوا في هذا الموطن بسبب حسن ظنهم بأنفسهم وأعمالهم ودينهم، واعتقادهم أنهم قائمون بما يجب عليهم، تاركون ما نهوا عنه، وبعضهم يعاتب الرب تعالى قائلاً: لماذا تفعل بي كذا وكذا وقد آمنت بك، وصدقت رسلك، وقمت بما علي من فرائض وواجبات؟!! وهذا من أعظم الجهل؛ لأن المؤمن الحق يتهم دينه ولا يثق بأعماله، ويعتقد أنه مقصر وإن أحسن؛ لأنه لا يعلم هل قبل الله أعماله أم لا.
فمن الجهل أن يعتقد العبد أنه قائم بفعل المأمور ظاهرًا وباطنًا، تارك للمحظور ظاهرًا وباطنًا، «فإن العبد كثيرًا ما يترك واجبات لا يعلم بها، ولا بوجوبها، فيكون مقصرًا في العلم، وكثيرًا ما يتركها بعد العلم بها وبوجوبها إما كسلاً أو تهاونًا، أو لنوع تأويل باطل أو تقليد، أو لظنه أنه مشتغل بما هو أوجب منها أو لغير ذلك، فواجبات القلوب أشد وجوبًا من واجبات الأبدان وآكد منها، وكأنها ليست من واجبات الدين عند كثير من الناس، بل هي من الفضائل والمستحبات. فتراه يتحرج من ترك فرض، أو من ترك واجب من واجبات البدن وقد ترك ما هو أهم من واجبات القلوب وأفراضها، ويتحرج من فعل أدنى المحرمات، وقد ارتكب من محرمات القلوب ما هو أشد تحريمًا وأعظم إثمًا»([8]).
والمقصود هو ما جاء في قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، وقوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165].
وهذا المعتقد ضروري في محاولة الإصلاح ورأب الصدع وتدارك ما فات بالتوبة الصادقة، وفعل ما أمر الله به ظاهرًا وباطنًا، وترك ما نهى الله عنه ظاهرًا وباطنًا، فإن العبد لو ظن في نفسه الكمال لدفعه ذلك إلى اتهام الرب جل وعلا، ولم يتدارك ما فاته بالتوبة الصادقة.
وبعض الناس يقع في الذنوب والمعاصي، ويترك العمل لنصرة الدين ثم يقول: ألم يقل الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]، فلماذا جعل لهم هذا السبيل علينا؟ ولا يدري هذا أن ذلك إنما هو لأهل الإيمان الكامل الذين قاموا بحقائق الإيمان قولاً وعملاً، وأدوا الفرائض والواجبات ظاهرًا وباطنًا، وامتنعوا عن المحرمات والمنهيات ظاهرًا وباطنًا، فهؤلاء لا يجعل الله للكافرين عليهم من سبيل، ولا يقهرهم ولا يذلهم لأهل الكفر، أما إذا ضعف الإيمان ونقص اليقين، وكثرت الذنوب والمعاصي، فإن أهل الإسلام قد يبتلوا بتمكن العداء منهم وإدالتهم عليهم، فهم الذين جعلوا لعدوهم عليهم سبيلاً بما تركوا من طاعة الله.
6- الصبر واليقين:
فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
والصبر على البلاء من عزائم الأمور كما قال لقمان لابنه: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20]، قال الزجاج: أي أتصبرون على البلاء، فقد عرفتم ما وجد الصابرون؟!
قال ابن القيم: «قرن الله سبحانه الفتنة بالصبر هاهنا، وفي قوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} [النحل: 110] فليس لمن قد فتن بفتنة دواء مثل الصبر، فإن صبر كانت الفتنة ممحصة له، ومخلصة من الذنوب، كما يخلص الكير خبث الذهب والفضة»([9]).
فينبغي على أهل الإسلام أن يتأسوا بالنبي ﷺ في صبره عند لقاء العدو كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فأخبر سبحانه أن الذين يبتلون بالعدو، كما ابتلى رسول الله ﷺ، فلهم فيه أسوة حسنة، حيث أصابهم مثل ما أصابه، فليتأسوا به في التوكل والصبر، ولا يظنون أن هذه نقم لصاحبها وإهانة له، فإنه لو كان كذلك ما ابتلى بها رسول الله ﷺ خير الخلائق، بل بها ينال الدرجات العالية، وبها يكفر الله الخطايا لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا، وإلا فقد يبتلى بذلك من ليس كذلك فيكون في حقه عذابًا كالكفار والمنافقين»([10]).
7- الإعداد الجيد:
لقد أمر الله تعالى عباده بإعداد العدة والأخذ بأسباب القوة التي تساعدهم على تخويف أعدائهم وهزيمتهم ودحرهم. قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، ولقد ضرب النبي ﷺ أروع الأمثلة في ذلك في غزوة الأحزاب حيث أشار عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق، ولم تكن العرب وقتها تعرف هذه المكيدة، ومع ذلك قبل النبي ﷺ الفكرة وأمر المسلمين بحفر الخندق وشاركهم في ذلك بنفسه ﷺ.
إن إتقان فنون القتال جزء من الإعداد الجيد، وإن النصر لا يمكن أن يتأتى والمسلمون جاهلون بطرق الإعداد، بعيدون عن ركب التقدم في كافة المجالات.
لقد علم الله عز وجل الملائكة فنون القتال، وضروب النزال، وحصد أعناق الأبطال حيث قال: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12] حيث وصف لهم أبلغ ضربات العنق وأحكمها، وهي الضربة التي تكون فوق عظم العنق ودون عظم الرأس من المفصل ... وهنا يبلغ التقتيل أشده حتى تتحطم قوة العدو وتتهاوى، فلا تعود به قدرة على هجوم أو دفاع، وعندئذٍ – لا قبله – يؤسر من استأسر، ويشد وثاقه، فأما والعدو ما يزال قويًا، فالإثخان والتقتيل يكون الهدف لتحطيم ذلك الخطر: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4].
وكذلك أمرهم بتعطيل البنان، فإنه إذا تعطل من المضروب لم يستطع قتالاً بخلاف سائر الأعضاء([11]). وفي ذلك دلالة على أن إتقان أساليب الحرب، والرسوخ في فنون القتال والإعداد الجيد – كل عصر بحسبه – كل ذلك من أسباب النصر والثبات عند اللقاء.
8- الدعاء:
والدعاء من أقوى الأسلحة في حصول النصر ومواجهة المحن وتجاوز الشدائد، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 146 – 148].
وقال تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 250 – 251].
وعلى المؤمن أن يكثر من الدعاء، وبخاصة عند الخوف من فتنة الكفار، فقد سأل المؤمنون ربهم ألا يجعلهم فتنة للذين كفروا، كما قال تعالى حاكيًا عنهم: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة: 4 – 5]. وقال أصحاب موسى: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس: 85]، قال مجاهد: المعنى: لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك، فيقولون: لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم هذا.
وقال الزجاج: معناه: لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على حق فيفتنوا بذلك.
وقد قال تعالى معلمًا المؤمنين الدعاء بالثبات: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].
وكان من دعاء النبي ﷺ: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»([12]).
فعلى أهل الإسلام أن يكثروا من الدعاء حتى يصرف الله تعالى عنهم هذه المحنة، فقد قال النبي ﷺ: «ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء»([13]). وقال النبي ﷺ: «ثنتان لا تردان – أو قلما تردان – الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضًا»([14]).
9- الإكثار من ذكر الله تعالى:
فذكر الله تعالى من أعظم أسباب النصر والتمكين والثبات في وجه الشدائد والمدلهمات، وهو من جوانب الإعداد المعنوي، وقد أمر الله بالإكثار من الذكر في ساحة القتال عند اللقاء فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].
فذكر الله عز وجل يُذهب الخوف، ويورث القلب الطمأنينة والسكينة في أحلك المواقف، فهو من أعظم ما يعين على الثبات في الجهاد، قال تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، فإذا اطمأن القلب ثبتت الأقدام، وصح الفكر فحصل النصر بإذن الله.
ومما يزيد في قوة المؤمن عند اللقاء: الاستغفار لقوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52].
ومن أعظم الأذكار في مواطن الشدائد قوله: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم،لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم»([15]) وكان النبي ﷺ يقوله عند الكرب.
ومن أدعية الكرب كذلك: «اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إن أنت»([16]).
وقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}([17]) [الأنبياء: 87].
ومن الأدعية والأذكار التي تُقال عند لقاء العدو: «اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم»([18])، وقوله: «اللهم أنت عضدي وأنت نصيري، بك أجول وبك أصول وبك أقاتل»([19])، وقول: «حسبنا الله ونعم الوكيل»([20]).
ومن الأدعية على الأعداء: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم»([21]).
10- حسن الظن بالله تعالى:
وهو من أسباب الثبات والنصر، وتجاوز البلاء والمحنة دون سقوط، فالمؤمن يحسن الظن بربه في أحلك الظروف وأصعب المواقف، فهذا نبي الله ﷺ يهاجر من مكة إلى المدينة وحيدًا فريدًا طريدًا ليس معه سوى صاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ولكنه كان قويًا بربه متوكلاً عليه، حسن الظن به، فطارده المشركون ولاحقوه يريدون قتله، وضيقوا عليه فاختبأ ﷺ وصاحبة في الغار، وتتبع المشركون مسير أقدامهم حتى انتهت بهم إلى الغار، فجزع الصديق رضي الله عنه وخاف على نبي الله ﷺ أن يمسه الأعداء بسوء، وقال: يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا، فقال ﷺ بلهجة الواثق بربه المطمئن إليه: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما».
فلتسقط كل القوى أمام قوة الله عز وجل، ولتخسأ كل التوقعات والأراجيف أمام إرادة الله عز وجل وقدرته. {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].
وانظر إلى حسن ظن موسى عليه السلام بربه، فالبحر أمامه، والعدو من خلفه، ومع ذلك فقد كان واثقًا بربه مطمئنًا بإنجاء الله له وتخليصه من كيد فرعون وملئه: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ} [الشعراء: 61 – 66].
وقال تعالى في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي». فإذا ظن العبد بربه خيرًا، حصل له من الخيرات ما يشاكل حسن ظنه بربه، ولكن حسن الظن لا بد أن يكون مقرونًا بحسن العمل، وإن قومًا قالوا: نحسن الظن بربنا ثم إنهم يسيئون العمل، كذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل، فحسن الظن بالله تعالى يكون مع الإحسان «فإن المحسن حسن الظن بربه أن يجازيه على إحسانه، وأنه لا يخلف وعده، وأنه يقبل توبته.
وأما المسيء المصر على الكبائر والظلم والمخالفات؛ فإن وحشة المعاصي والظلم والحرام تمنعه من حسن الظن بربه، فكيف يكون حسن الظن بربه من هو شارد عنه، حال مرتحل في مساخطه وما يغضبه، متعرض للعنته، قد هان حقه وأمره عليه فأضاعه، وهان نهيه عليه فارتكبه وأصر عليه؟ وكيف يكون حسن الظن بربه من بارزه بالمحاربة وعادى أولياءه، ووالى أعداءه، وجحد صفات كماله، وأساء الظن بما وصف به نفسه ووصفته به رسله، وظن بجهله أن ظاهر ذلك ضلال وكفر؟!.
ومن تأمل هذا الموضع حق التأمل علم أن حسن الظن بالله هو حسن العمل نفسه، فإن العبد إنما يحمله على حسن العمل حسن ظنه بربه أنه يجازيه على أعماله، ويثيبه عليها ويتقبلها منه ... وبالجملة فحسن الظن إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة، وأما مع انعقاد أسباب الهلاك، فلا يتأتى إحسان الظن»([22]).
11- الحذر من المثبطين:
فهؤلاء المثبطون لا هم لهم إلا بث الإشاعات لزلزلة القلوب وخلخلة الصفوف، فإنهم لما فقدوا الإيمان بنصرة الله لعبادة المؤمنين راحوا يشككون الناس في ذلك، ويتظاهرون بالحكمة والمنطق والعقل، فالعدو – في نظرهم – لا يمكن قهره لما يملكه من أسباب القوة والتقدم العلمي وبخاصة في مجال الحرب، فأنى لنا النصر على هؤلاء!! ولا يعلم هؤلاء المثبطون أن قوة الله عز وجل قاهرة، وأنه سبحانه وتعالى ينصر عباده وإن قلت أعدادهم وعتادهم، فـ {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]، وهو سبحانه وتعالى يعلم مكر هؤلاء {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46]، ولكنه سبحانه يمكر بهم كما قال: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]، فهو سبحانه يوهن كيدهم، ويضل مكرهم كما قال: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 18]، وقال: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر: 25].
فقوة هؤلاء لا تصمد أمام قوة عباد الله الذين يستمدون قوتهم من القوي المتين سبحانه وتعالى، بل تنهار قوتهم أمام هذه القوة الربانية، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41].
فـ «قوة الله وحده هي القوة، وولاية الله وحده هي الولاية، وما عداه فهو واهن ضئيل هزيل مهما علا واستطال، ومهما تجبر وطغى، ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل. إنها العنكبوت وما تملك من القوى ليست سوى خيوط العنكبوت {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}»([23]).
12- طلب الشهادة في سبيل الله:
من أسباب الثبات والنصر على الأعداء طلب الشهادة بصدق في سبيل الله، وأن يكون قلب المسلم موصولاً بالآخرة، متطلعًا إلى نعيم الجنة، خائفًا من عذاب الآخرة، فإن من كانت الآخرة همّه هانت عليه الدنيا بما فيها، بل هانت عليه نفسه وباعها رخيصة في سبيل الله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
لقد كان حرص المجاهدين الأوائل على الموت في سبيل الله من أكبر العوامل في انتصارهم على أعدائهم، حيث إنهم يحبون الموت في سبيل الله أكثر من محبة أعدائهم للحياة، فهم لا تطيب قلوبهم ولا يقرّ لهم قرار إلا بتحقيق أحد شيئين: إما النصر، وإما الشهادة في سبيل الله، وفي كلا الأمرين رضا خالقهم وقربهم منه سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52].
إن حرص النبي ﷺ وأصحابه على الشهادة في سبيل الله وطلبهم لها من مظانها جعل أعداء الإسلام يوقنون أنهم أمام قوة لا يُستهان بها، إنها قوة الإيمان والعقيدة. ولقد كان لذلك أثرًا بالغًا في إلقاء الرعب في قلوب أعداء المسلمين، وإذا سيطر الرعب والخوف على القلب حدثت الهزيمة ولا بد.
قال تعالى: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12].
وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} [الأحزاب: 26].
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2].
وقال النبي ﷺ: «نُصِرت بالرعب مسيرة شهر، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة الصغار على من خالف أمري».
13- تربية الأمة على مواقف العزة والبطولة:
إن الأمة لا بد أن تتربى على مواقف العزة التي سطرها أبطال الإسلام، والتي كتبوها بدمائهم وثباتهم وإيمانهم بدينهم وعدالة قضيتهم. لا بد أن تحفظ الأمة سير هؤلاء الأبطال، وتكون المجالس عامرة بذكر بطولاتهم ومواقفهم الجليلة بدلاً من شغل المجالس بالتفاهات وأخبار السفهاء والسفيهات الذين شغلوا الأمة ردحًا من الزمن بقصصهم وأخبارهم، وكانوا سببًا في صرفها عن معالي الأمور وكبريات القضايا.
إن مواقف العزة في تاريخنا الإسلامي كثيرة، نذكر منها موقفًا واحدًا، لواحد من أبطال الإسلام، لا يعرفه كثير من المسلمين، وما أكثر هؤلاء الذين بذلوا وقدموا للإسلام جهودًا ضخمة، ومع ذلك أهملتهم الأمة وجعلتهم في طي النسيان، ومن هؤلاء أبو عبد الله يحيى المعروف بالبطال.
فقد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في «البداية والنهاية» أن عبد الملك بن مروان حين عقد لابنه مسلمة على غزو بلاد الروم ولّي البطال على رؤساء أهل الجزيرة والشام، وقال لابنه: سيّره على طلائعك، وأمره أن يعس بالليل فإنه أمين ثقة مقدام شجاع.
وخرج معهم عبد الملك يشيعهم إلى باب دمشق، فقدَّم مسلمة البطال على عشرة آلاف يكونون بين يديه ترسًا من الروم أن يصلوا إلى جيش المسلمين.
قال أبو مروان – شيخ من أهل أنطاكية-: كنت أغزو مع البطال وقد أوطأ الروم ذلاً!!
قال البطال: فسألني بعض ولاة بني أمية عن أعجب ما كان من أمري في مغازي فيهم، فقلت له: خرجت في سرية ليلاً، فدفعنا إلى قرية، فقلت لأصحابي: أرخوا لُجُم خيلكم، ولا تحركوا أحدًا بقتل ولا بشيء، حتى تستمكنوا من القرية ومن ساكنيها، ففعلوا، وافترقوا في أزقتها، فدفعت في أناس من أصحابي إلى بيت يزهر سراجُه، وإذا امرأة تسكت ابنها من بكائه، وهي تقول له: لتسكتن أو لأدفعنك إلى البطال يذهب بك، وانتشلته من سريره وقالت: خذه يا بطال. قال: فأخذته!!
وذكر أن عبد الملك بن مروان لمّا ولاَّه المصيصة بعث البطال سرية إلى أرض الروم، فغاب عنه خبرها فلم يدر ما صنعوا، فركب بنفسه وحده على فرس له، وسار حتى وصل عمورية، فطرق بابها ليلاً، فقال له البواب: من هذا؟ قال البطال: أنا سيَّاف الملك ورسوله إلى البطريق، فأخذ لي طريقًا إليه، فلما دخلت عليه إذا هو جالس على سرير، فجلست معه على السرير إلى جانبه، ثم قلت له: إني قد جئتك في رسالة، فمُر هؤلاء فلينصرفوا، فأمر من عنده فذهبوا، قال: ثم قام فأغلق باب الكنيسة علي وعليه، ثم جاء فجلس مكانه، فاخترطت سيفي وضربت به رأسه صفحًا، وقلت له: أنا البطال، فاصدقني عن السرية التي أرسلتها إلى بلادك وإلا ضربت عنقك الساعة، فأخبرني ما خبرها. فقال: هم في بلادي ينتهبون ما تهيأ لهم، وهذا كتاب قد جاءني يخبر أنهم في وادي كذا وكذا، والله لقد صدقتك، فقلت: هات الأمان، فأعاطني الأمان، فقلت: إيتني بطعام، فأمر أصحابه فجاؤوا بطعام، فوضع لي، فأكلت فقمت لأنصرف، فقال لأصحابه: اخرجوا بين يدي رسول الملك، فانطلقوا يتعادون بين يدي، وانطلقت إلى ذلك الوادي الذي ذكر، فإذا أصحابي هنالك، فأخذتهم ورجعت إلى المصيصة، فهذا أغرب ما جرى.
قصة مقتله رحمه الله
قال الوليد: وأخبرني بعض شيوخنا أنه رأى البطال وهو قافل من حجته، وكان قد شُغل بالجهاد عن الحج، وكان يسأل الله دائمًا الحج ثم الشهادة، فلم يتمكن من حجة الإسلام إلا في السنة التي استشهد فيها – رحمه الله تعالى.
وكان سبب شهادته أن «ليون» ملك الروم خرج من القسطنطينية في مائة ألف فارس، فعلم البطال بذلك، فأخبر البطال أمير عساكر المسلمين مالك بن شبيب بذلك، فقال له: المصلحة أن نتحصن في مدينة حرّان، فنكون بها حتى يقدم علينا سليمان بن هشام في الجيوش الإسلامية، فأبى عليه ذلك، ودهمهم الجيش، فاقتتلوا قتالاً شديدًا، والأبطال تحوم بين يدي البطال، ولا يتجاسر أحد أن ينوه باسمه خوفًا عليه من الروم.
فاتفق أن ناداه بعضهم وذكر اسمه غلطًا منه، فلما سمع ذلك فرسان الروم، حملوا عليه حملة واحدة، فاقتلعوه من سرجه برماحهم، فألقوه إلى الأرض، ورأى الناس يقتلون ويأسرون، وقتل الأمير الكبير مالك بن شبيب، وانكسر المسلمون، وانطلقوا إلى تلك المدينة الخراب، فتحصنوا فيها، وأصبح ليون فوقف في مكان المعركة، فإذا البطال بآخر رمق، فقال له ليون: ما هذا يا أبا يحيى؟ فقال: هكذا تقتل الأبطال. فاستدعى ليون بالأطباء ليداووه، فإذا جراحه قد وصلت على مقاتله، فقال له ليون: هل من حاجة يا أبا يحيى؟ قال: نعم، مُر من معك من المسلمين أن يلوا الصلاة علي ودفني، ففعل الملك ذلك، وأطلق لأجل ذلك أولئك الأسارى، وانطلق ليون على جيش المسلمين الذين تحصنوا فحاصرهم. فبينما هم في تلك الشدة والحصار، إذ جاءتهم الأخبار بقدوم سليمان بن هشام في الجيوش الإسلامية، ففرَّ ليون في جيشه الخبيث هاربًا راجعًا إلى بلاده – قبحه الله – فدخل القسطنطينية وتحصَّن بها.
قال خليفة بن خياط: كانت وفاة البطال ومقتله بأرض الروم في سنة إحدى وعشرين ومائة. وقال ابن جرير: في سنة اثنتين وعشرين ومائة([24]).
14- ترك التنازع والاختلاف:
إن التنازع والاختلاف بين المسلمين نذير سوء، وعلامة من علامات الخلل الواقع في جسد الأمة، وعامل قوي من عوامل التفرق والفشل وانكسار الأمة وهزيمتها من قبل أعدائها. فبعد أن أمر الله عباده بالثبات عند لقاء العدو حذَّرهم من التنازع والاختلاف المؤدي إلى التخاذل والفشل وذهاب القوة والوحدة بين المسلمين. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45، 46].
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: «فأمر تعالى بالثبات عند قتال الأعداء والصبر على مبارزتهم، فلا يفروا ولا ينكلوا، ولا يجبنوا، وأن يذكروا الله في تلك الحال ولا ينسوه، بل يستعينوا به ويتوكلوا عليه، ويسألوه النصر على أعدائهم، وأن يطيعوا الله ورسوله في حالهم ذلك، فما أمرهم الله تعالى به ائتمروا، وما نهاهم عنه انزجروا، ولا يتنازعوا فيما بينهم أيضًا فيختلفوا، فيكون سببًا لتخاذلهم وفشلهم {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي قوتكم ووحدتكم وما كنتم فيه من الإقبال: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}».
وقد كان للصحابة رضي الله عنهم في باب الشجاعة والائتمار بما أمرهم الله ورسوله به، وامتثال ما أرشدهم إليه ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم، ولا يكون لأحد ممن بعدهم، فإنهم ببركة الرسول ﷺ وطاعته فيما أمرهم فتحوا القلوب والأقاليم شرقًا وغربًا في المدة اليسيرة، مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم، من الروم والفرس والترك والصقالبة والبربر والحبوش، وأصناف السودان والقبط وطوائف بني آدم. قهروا الجميع حتى علت كلمة الله، وظهر دينه على سائر الأديان، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين سنة، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وحشرنا معهم في زمرتهم إنه كريم وهَّاب([25]).
ومن الآيات التي نهت عن الاختلاف وحذَّرت من التفرق قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].
وقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103].
وقوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13].
إن التنازع بين أفراد الأمة وطوائفها ليدل على عدم الانقياد التام لله ورسوله ﷺ، ويدل على تحكم الهوى في نفوس البعض، فيؤثرون إتباع أهوائهم على إتباع الحق، ويغلبون مصالحهم الشخصية على مصالح الأمة والجماعة، ولو استسلم هؤلاء لله ورسوله ﷺ لانتفت أسباب النزاع ولوئدَت أسباب التفرق والشقاق.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
([1]) «إغاثة اللهفان» (2/233، 234) وانظر ما قبلها.
([2]) «إغاثة اللهفان» (2/181، 182).
([3]) انظر: «التوكل على الله تعالى وعلاقته بالأسباب» ص(120 – 131) باختصار.
([4]) «مجموع فتاوى شيخ الإسلام» (28/ 461).
([5]) رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.
([6]) «من وسائل دفع الغربة» ص (202).
([7]) «مجموع فتاوى شيخ الإسلام» (28/ 453، 454).
([8]) «إغاثة اللهفان» (2/260، 261).
([9]) «إغاثة اللهفان» (2/ 235).
([10]) «مجموع فتاوى شيخ الإسلام» (28/ 459 – 460).
([11]) انظر «الثبات على الإسلام» ص (42 – 44).
([12]) رواه الترمذي وهو في «صحيح الجامع».
([13]) رواه أحمد والترمذي وحسنه الألباني.
([14]) رواه أبو داود وهو في «صحيح سنن أبي داود».
([15]) متفق عليه.
([16]) رواه أبو داود وأحمد وحسنه الألباني.
([17]) رواه الترمذي وهو في «صحيح سنن الترمذي».
([18]) رواه أبو داود وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
([19]) «صحيح سنن الترمذي».
([20]) رواه البخاري.
([21]) رواه مسلم.
([22]) «الجواب الكافي» ص (31، 32).
([23]) الظلال (5/2736) وما بعدها. وانظر: «الابتلاء وعوامل الثبات» ص(72، 73).
([24]) «البداية والنهاية» (9/345-347) باختصار.
([25]) تفسير القرآن العظيم (2/417، 418).