إقامة الدليل على المنع من الأناشيد المُلحنة والتمثيل
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
إقامة الدليل على المنع من الأناشيد المُلحنة والتمثيل
حمود بن عبد الله بن حمود التويجري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق، وعلق محبته للعباد ومغفرته لذنوبهم على اتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وحذرهم من مخالفة أمره وتوعّد من خالف أمره بالفتنة أو العذاب الأليم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فقد سألني بعض الإخوان عن حكم الأناشيد الملحنة التي تسمى بالأناشيد الإسلامية، وعن حكم التمثيل الذي قد كثر فعله في هذا الزمان ويسمونه التمثيل الإسلامي. وذكر السائل أن التمثيل قد أدخل اليوم في الدعوة إلى الله والتوجيه والإرشاد وجعل أسلوباً جديداً من أساليب الدعوة في هذا العصر.
والجواب عن المسألة الأولى: أن يقال: إن بعض الأناشيد التي يفعلها كثير من الطلاب في الحفلات والمراكز الصيفية ويسمونها الأناشيد الإسلامية، ليست من أمور الإسلام لأنها قد مزجت بالتغني والتلحين والتطريب الذي يستفز المنشدين والسامعين ويدعوهم إلى الطرب ويصدهم عن ذكر الله وتلاوة القرآن وتدبر آياته والتذكر بما جاء فيه من الوعد والوعيد وأخبار الأنبياء مع أممهم، وغير ذلك من العلوم النافعة لمن تدبرها حق التدبر وعمل بما جاء فيها من الأوامر، واجتنب ما فيها من المنهيات وأراد بعلمه وأعماله وجه الله عز وجل.
وقد سمعت بعض الأشرطة التي قد سجلت فيها بعض الأناشيد التي يسمونها الأناشيد الإسلامية فإذا هي تشبه الأغاني الموسيقية. وفي أول سماعي لما هو مسجل في الشريط حسبت أنه غناء فأنكرت على صاحب الشريط فقال: إنه ليس بغناء، وإنما هو من الأناشيد التي تسمى بالأناشيد الإسلامية، فقلت: لقد أخطأ المنشدون لها بألحان الغناء، وأخطأ من سجلها، وأخطأ من سماها بالأناشيد الإسلامية إذ لا فرق بينها وبين الأغاني الموسيقية في صفة الأداء والتلحين والتطريب الذي يستفز المنشدين والسامعين، وإنه لينطبق على المنشدين للأناشيد بالتغني والتلحين والتطريب قول الشاعر في إنكاره على الذين يستحلون شرب النبيذ المسكر ويقولون إنه نبيذ وليس بخمر فقال الشاعر في الرد عليهم:
فإن لا يكنها أو تكنه فإنه | ||
أخوها غذته أمه بلبانها | ||
وهكذا يقال في الأناشيد الملحنة بألحان الغناء، إن لا تكن غناء فإنها أخته وشقيقته فيجب اجتنابها كما يجب اجتناب الغناء.
ومن قاس الأناشيد الملحنة بألحان الغناء على رجز الصحابة، رضي الله عنهم، حين كانوا يبنون المسجد النبوي، وحين كانوا يحفرون الخندق، أو قاسها على الحداء الذي كان الصحابة، رضي الله عنهم، يستحثون به الإبل في السفر فقياسه فاسد لأن الصحابة، رضي الله عنهم، لم يكونوا يتغنون بالأشعار ويستعملون فيها الألحان المطربة التي تستفز المنشدين والسامعين كما يفعل ذلك الطلاب في الحفلات والمراكز الصيفية، وإنما كان الصحابة، رضي الله عنهم، يقتصرون على مجرد الإنشاد للشعر مع رفع الصوت بذلك، ولم يذكر عنهم أنهم كانوا يجتمعون على الإنشاد بصوت واحد كما يفعله الطلاب في زماننا. والخير كل الخير في اتباع ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه، رضي الله عنهم، والشر كل الشر في مخالفتهم، والأخذ بالمحدثات التي ليست من هديهم ولم تكن معروفة في زمانهم، وإنما هي من بدع الصوفية الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعباً، فقد ذكر عنهم أنهم كانوا يجتمعون على إنشاد الشعر الملحن بألحان الغناء في الغلو والإطراء للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويجتمعون على مثل ذلك فيما يسمونه بالأذكار، وهو في الحقيقة من الاستهزاء بالله وذكره. ومن كانت الصوفية الضالة سلفا لهم وقدوة فبئس ما اختاروا لأنفسهم.
وأما تسمية الأناشيد الجماعية الملحنة بألحان الغناء باسم الأناشيد الإسلامية فهو خطأ لأن الأناشيد الجماعية الملحنة بألحان الغناء من المحدثات، والمحدثات ليست من الأمور الإسلامية، وإنما هي من الأعمال التي يجب ردها والمنع منها عملاً يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها. وقد رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين . وفي رواية له ولمسلم والبخاري تعليقا مجزوما به: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» أي مردود. وفي رواية لأحمد إسنادها صحيح على شرط مسلم: «من صنع أمرا من غير أمرنا فهو مردود».
وفي هذه الروايات الصحيحة أبلغ رد على المفتونين بالأناشيد الملحنة بألحان الغناء وعلى الذين يسمونها أناشيد إسلامية وهي من الأمور التي قد صنعت بغير أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومن الأدلة على المنع من هذه البدعة أيضا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» رواه الإمام أحمد وأهل السنن وابن حبان في (صحيحه) والحاكم في (المستدرك) من حديث العرباض بن سارية، رضي الله عنه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وصححه أيضا الحاكم وابن عبد البر والذهبي.
وفي هذا الحديث أوضح دليل على المنع من الأناشيد الجماعية الملحنة لأنها من محدثات الأمور التي جاء التحذير منها في حديث العرباض بن سارية، رضي الله عنه. ومن زعم أنها من أمور الإسلام فإنه يخشى عليه أن يكون داخلاً في عموم قول الله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾([1]).
وقد أخبر الله تعالى أنه أكمل الدين لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولأمته فقال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾([2]). وفي هذه الآية الكريمة أبلغ رد على المفتونين بالأناشيد الجماعية الملحنة بألحان الغناء، وأبلغ رد على تسميتها أناشيد إسلامية لأنها ليست من الدين الذي شرعه الله لعباده المؤمنين وأكمله لهم في آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هي من المحدثات التي أحدثت في آخر هذه الأمة ولم تكن معروفة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا في زمان الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين، ولم تكن معروفة في زمن التابعين. وبعد زمان التابعين وتابعيهم أحدث الزنادقة التغبير، وهو من جنس الأناشيد الجماعية الملحنة. قال ابن دريد في (جمهرة اللغة): التغبير صوت يردد بقراءة وغيرها. ونقل مرتضى الحسيني في (تاج العروس) عن ابن دريد أنه قال: التغبير تهليل أو ترديد صوت يردد بقراءة وغيرها. ونقل أيضا عن الليث أنه قال: المغبرة قوم يغبرون بذكر الله، أي يهللون ويرددون الصوت بالقراءة وغيرها، وقد سموا ما يطربون فيه من الشعر في ذكر الله تغبيرا كأنهم إذا تناشدوها بالألحان طربوا فرقصوا وأرهجوا([3]) فسموا المغبرة لهذا المعنى. قال الأزهري: وروينا عن الشافعي أنه قال: أرى الزنادقة وضعوا هذا التغبير ليصدوا عن ذكر الله وقراءة القرآن. انتهى. وعلى النحو الذي ذمّه الشافعي، رحمه الله تعالى، سار الضلال من الصوفية وتوسعوا في تلحين الشعر وإنشاده على طريقة الغناء والألحان الموسيقية، وكذلك كانوا يفعلون فيما يسمونه بالأذكار، وهذا من تضليل الشيطان لهم وتلاعبه بهم. وفي النشيد الجماعي الملحن بألحان الغناء شبه قريب مما ذكر عن الصوفية، وما كان بهذه المثابة فإنه يجب اجتنابه والمنع منه.
وليعلم أن تسمية الأناشيد الملحنة بألحان الغناء باسم الأناشيد الإسلامية يلزم عليها لوازم سيئة جدا وخطيرة.
منها: جعل هذه البدعة من أمور الإسلام ومكملاته، وهذا يتضمن الاستدراك على الشريعة الإسلامية، ويتضمن القول بأنها لم تكن كاملة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومنها: معارضة قول الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾. ففي هذه الآية الكريمة النص على إكمال الدين لهذه الأمة، والقول بأن الأناشيد الملحنة أناشيد إسلامية يتضمن معارضة هذا النص وذلك بإضافة الأناشيد التي ليست من دين الإسلام إلى دين الإسلام وجعلها جزءا منه.
ومنها: نسبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى التقصير في التبليغ والبيان لأمته حيث لم يأمرهم بالأناشيد الجماعية الملحنة ويخبرهم أنها أناشيد إسلامية.
ومنها: نسبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه إلى إهمال أمر من أمور الإسلام وترك العمل به.
ومنها: استحسان بدعة الأناشيد الملحنة بألحان الغناء وإدخالها في أمور الإسلام. وقد ذكر الشاطبي في كتاب (الاعتصام) ما رواه ابن حبيب عن ابن الماجشون قال: سمعت مالكا يقول: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم -، خان الرسالة لأن الله يقول: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا) وذكره الشاطبي في موضع آخر من كتاب (الاعتصام) ولفظه قال: (من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خان الرسالة) وذكر بقيته بمثل ما تقدم. انتهى.
فصل
وأما السؤال عن حكم التمثيل الذي يستعمل في هذا الزمان، فالجواب عنه أن يقال: إن التمثيل معناه محاكاة الغير في الكلام أو الأفعال أو الحركات أو غير ذلك من أنواع المحاكاة، وهو من المنكرات التي يجب المنع منها والإنكار على من فعلها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كره محاكاة الناس وأعظم ذلك.
كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن عائشة، رضي الله عنها، أنها حكت امرأة فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ما أحب أني حكيت أحدا وأن لي كذا وكذا» ورواه أبو داود والترمذي بنحوه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي رواية لأحمد عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: «ذهبت أحكي امرأة أو رجلاً عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما أحب حكيت أحدا وأن لي كذا وكذا) أعظم ذلك». وهذه الرواية إسنادها صحيح على شرط مسلم. وفي هذا الحديث أبلغ رد على من أجاز التمثيل وعلى من استحسنه.
وأيضا فإن التمثيل لكلام الغير أو أفعاله أو حركاته محدث في الإسلام وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم من حديث عائشة. وفي رواية لأحمد ومسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وقد ذكره البخاري تعليقا بصيغة الجزم. قوله: (رد) أي مردود. وفي رواية لأحمد إسنادها صحيح على شرط مسلم: «من صنع أمراً من غير أمرنا فهو مردود».
وفي هذا الحديث أبلغ رد على من أجاز التمثيل للماضين أو المعاصرين لأن التمثيل من الأعمال التي ليس عليها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وليست من أفعال الصحابة ولا من أفعال التابعين لهم بإحسان، وإنما هي من المحدثات التي دخلت على المسلمين من أعداء الإسلام والمسلمين حين ابتلى المسلمون بمخالطتهم واتباع سننهم الذميمة.
وأيضا فإن التمثيل من أفعال النصارى في قديم الدهر وحديثه، فإنهم كانوا يمثلون المسيح عليه الصلاة والسلام ويمثلون أكابرهم وعظماءهم. والتمثيل عند المسلمين مأخوذ من أفعال النصارى وهو من التقليد المحرم لما فيه من التشبه بأعداء الله , وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم»رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، وهو حديث حسن، وقد صححه الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على مسند الإمام أحمد. وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم): إسناده جيد، وقال الحافظ ابن حجر: إسناده حسن. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد احتج الإمام أحمد وغيره بهذا الحديث. قال الشيخ: وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾([4])، وقال شيخ الإسلام أيضا في موضع آخر: قوله، - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم» موجب هذا تحريم التشبه بهم بعلة كونه تشبها، وقال أيضا: التشبه بالكفار منهي عنه الإجماع. انتهى.
وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى». قال ابن مفلح في قوله: (ليس منا) هذه الصيغة تقتضي عند أصحابنا التحريم. انتهى.
وفي هذا الحديث الذي قبله وما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية من الإجماع على النهي عن التشبه بالكفار أبلغ رد على من أجاز التمثيل وعلى من استحسنه لأن التمثيل من أفعال النصارى، والتشبه بهم حرام شديد التحريم ومنهي عنه بالإجماع.
تنبيه
ليعلم طالب العلم أن من أشد التمثيل تحريماً تمثيل الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، ويليه في التحريم تمثيل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، من رجال ونساء ومحاكاتهم في أقوالهم وأفعالهم، كما قد حدث ذلك في زماننا من بعض المجرمين والمجرمات، وهذا في الحقيقة من التنقص للصحابة والاستخفاف بهم وإساءة الأدب في حقهم وإظهار السخرية بهم عند المسلمين وغير المسلمين، وانتهاك حرمتهم بالمحاكاة التي لا يرضى بها أحد من العقلاء لنفسه، ولا يرضى بها مؤمن لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا شك أن هذا من تلاعب الشيطان بالممثلين للصحابة وتزيينه لهم هذا المنكر الذي تمجه أسماع ذوي الإيمان والعقول السليمة وتشمئز منه قلوبهم، ولو قدر أن محاكاة الصحابة وتمثيل أقوالهم وأفعالهم وقع مثله بأحد من الذين لهم قدرة على الانتقام لأوشك أن يبادر إلى الانتقام ممن يمثله ويحكيه في أقواله وأفعاله وحركاته؛ لأنه لابد أن يُعد ذلك من الاستهزاء والسخرية والاستخفاف به. فالواجب على ولاة أمور المسلمين أن يأخذوا على أيدي المجرمين الذين انتهكوا حرمة الصحابة بالمحاكاة والتمثيل وجعلوهم غرضا للاستهزاء والسخرية والتنقص. ويجب أيضا المنع من تسجيل أشرطة هذا المنكر وبيعها، ويجب أيضا إتلاف ما وجد منها وتأديب من لم ينته عن تمثيلهم أو عن تسجيل الأشرطة وبيعها.
وقد ورد التحذير من اتخاذ الصحابة رضي الله عنهم غرضا للتنقص وإساءة الأدب، وذلك فيما رواه الإمام أحمد والترمذي عن عبد الله بن مغفل، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه»وروى أبو نعيم في (الحلية) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «شرار أمتي أجرؤهم على صحابتي».
فصل
وأما تسمية المحاكاة بالتمثيل الإسلامي فهو من الخطأ الذي يراد به تزيين الباطل بزخرف الكذب. وقد تقدم حديث عائشة رضي الله عنها الذي جاء فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كره محاكاة الناس وأعظمها. وفيه أبلغ رد علي من زعم أن التمثيل من أمور الإسلام. وتقدم أيضا أن التمثيل محدث في الإسلام، والمحدثات ليست من أمور الإسلام، وإنما هي من المنهيات المخالفة للإسلام فيجب المنع منها والإنكار على من جعلها أو جعل شيئا منها من أمور الإسلام. وتقدم أيضا أن التمثيل مأخوذ من أفعال النصارى، وما كان بهذه المثابة فهو حرام والإسلام بريء منه، وإنه ليخشى على من نسب التمثيل إلى الإسلام وجعله داخلا في مسماه أن يكون له نصيب من قول الله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾([5])الآية.
فصل
وأما إدخال التمثيل في الدعوة إلى الله تعالى والتوجيه والإرشاد فهو خطأ كبير، وهو من مكايد الشيطان وتزيينه للباطل وإظهاره في صورة الحق. والواقع في الحقيقة أن التمثيل بضد الدعوة إلى الله والتوجيه والإرشاد لأنه مخالف لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من كراهة محاكاة الناس وإعظام ذلك. ومخالف أيضا لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من الأمر برد المحدثات والأعمال التي ليس عليها أمره، ومخالف أيضا لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من التغليظ في التشبه باليهود والنصارى وغيرهم من أعداء الله. وقد ذكر الله الطريق الشرعي الذي يجب سلوكه في الدعوة إلى الله والتوجيه والإرشاد فقال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾([6]).
قال ابن كثير في الكلام على هذه الآية: يقول تعالى آمراً رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو الخلق إلى الله بالحكمة. قال ابن جرير: وهو ما أنزله عليه من الكتاب والسنة: ﴿وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾أي بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس، وذكرهم بها ليحذروا بأس الله تعالى. انتهى.
فهذه هي الطريقة التي يجب سلوكها في الدعوة إلى الله والتوجيه والإرشاد، وما خالفها فهو من البدع التي يجب ردها والمنع منها، ومن ذلك محاكاة الناس وتمثيل أقوالهم وأفعالهم، ولو كانت المحاكاة والتمثيل من طرق الدعوة إلى الله والتوجيه والإرشاد لكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أولي بذلك وأسبق إليه ممن جاء بعدهم.
وقد روى الطبراني في (الكبير) عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم». قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقري وهو ثقة.
وفي هذا الحديث أبلغ رد على الذين استباحوا التمثيل وزعموا أنه من طرق الدعوة إلى الله والتوجيه والإرشاد، ولو كان الأمر فيه كما يزعمون لبين ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته وأرشدهم إليه.
وقد دلت الأحاديث التي تقدم ذكرها قريبا عن عائشة وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، رضي الله عنهم، على أن التمثيل من الأشياء التي تقرب من النار وتباعد من الجنة فلتراجع الأحاديث ففيها أبلغ رد على المفتونين بالتمثيل.
ومن الأحاديث التي يرد بها على الممثلين قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» رواه الإمام أحمد وابن ماجة والحاكم من حديث العرباض بن سارية، رضي الله عنه. ورواه ابن ماجة أيضا من حديث أبي الدرداء، رضي الله عنه، ولفظه: «وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء». قال أبو الدرداء، رضي الله عنه: صدق والله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تركنا والله على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء.
وفي هذا الحديث دليل على المنع من بدعة التمثيل لأنها من المحدثات في الإسلام وليست من الأمور التي ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته عليها.
فصل
في ذكر أشياء من التمثيليات السخيفة المستهجنة
فمن ذلك ما فعله بعض الطلاب في بعض المراكز الصيفية حيث جعلوا شيطانا إنسياً يمثل إبليس ويمثل وسوسته للناس بترك المأمورات وفعل المنكرات، فجعل الشيطان الإنسي يدنو من بعض الحاضرين ويوسوس لهم بما يترتب عليه غضب الله وعقابه فيزين لهم الأشياء المحرمة ويأمرهم بفعلها ويهون عليهم أمر الفرائض والواجبات ويأمرهم بتركها، وجعل الحاضرون يضحكون من هذا التمثيل بملء أفواههم.
وهذه القصة السخيفة من أقبح القصص التي ذكرت عن المفتونين بالتمثيل وهي من تلاعب الشيطان بهم وسخريته منهم ومن الحاضرين عندهم.
ومن القصص التمثيلية السخيفة جداً - بل الشركية - ما أخبرني به من أثق به من أهل العلم أنه لما كان يدرس في المعهد حضر عند بعض الطلاب وهم يمثلون شجرة تعبد من دون الله، فذكر أن بعضهم قاموا أمام الشجرة ورفعوا أيديهم نحوها يدعونها من دون الله ويسألونها قضاء حوائجهم فجاء أحد الحاضرين يمثل نفسه برجل عابد يريد أن يقطع الشجرة التي تعبد من دون الله، فجاء آخر منهم يمثل نفسه بإبليس فنهى المتمثل بالعابد عن قطع الشجرة وصارعه فصرعه المتمثل بالعابد، فقال له المتمثل بإبليس: اترك الشجرة اليوم وأنا أعطيك دينارا، فأخذ المتمثل بالعابد الدينار وترك قطع الشجرة في ذلك اليوم، ثم جاء في اليوم الثاني ليقطعها فأعطاه المتمثل بإبليس دينارا آخر فتركها، ثم جاء في اليوم الثالث فطلب الدينار فأبى المتمثل بإبليس أن يعطيه شيئا فصارعه المتمثل بالعابد فصرعه المتمثل بإبليس وقال له: إنما كنت تغلبني إذ كان عملك لله، فأما اليوم فقد صار عملك للدينار فغلبتك.
قلت: وهذه التمثيلية السخيفة من أقبح التمثيليات التي ذكرت عن الممثلين، وهي من التمثيل لشجرة العزى ونحوها من الأشجار التي كانت تعبد من دون الله. فالطلاب الذين قد مثلوا أنفسهم يدعون شجرة من دون الله قد جعلوا لله نداً وأشركوا به شركاً أكبر. وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾([7]), وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾([8]).
ولا يخفي على عاقل ما في فعل الذين يمثلون عبادة الشجرة من الشرك مع ما في ذلك أيضا من السخف والرعونة. وأما المتمثل بإبليس في هذه القصة، وفي القصة المذكورة قبلها، فهما أسوأ حالا من الذين أشركوا بالشجرة لأن كلا من هذين قد جعل نفسه بمنزلة الشيطان الرجيم الذي قد لعنه الله وطرده من الملأ الأعلى وآيسه من رحمته وأمر بني آدم أن يتخذوه عدواً، وحذرهم من فتنته، ولو كان عند المتمثل بإبليس دين ثابت لمنعه دينه من التعرض لسخط الله وأليم عقابه، ولو كان له عقل سليم لمنعه عقله مما يدنس ويُشين عند ذوي العقول السليمة.
وأما الحاضرون عند المتمثل بإبليس والمتمثلين بعبّاد الشجر فلكل واحد من الراضين بالتمثيل نصيب من الإثم والإفك الذي فعله المتمثلون لأن الراضي بالذنب كفاعله، والدليل على هذا قول الله تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾([9]). والأدلة على ذلك كثيرة، وقد ذكرت طرفا منها في كتابي المسمى (إعلان النكير، على المفتونين بالتصوير) فلتراجع هناك.
وإنه ليخشى على اللذين تشبها بإبليس في القصتين المذكورتين في أول الفصل أن يكون كل منهما خارجاً من الإسلام، وكذلك الذين وقفوا أمام الشجرة يدعونها من دون الله ويمثلون أفعال الذين يعبدون العزّى وغيرها من الأشجار ويدعونها من دون الله. وقد ورد التشديد في الحلف بالبراءة من الإسلام، وهو في حالة الصدق أهون بكثير من التمثل بإبليس وبعبّاد الأشجار. فروى الإمام أحمد وابن ماجة والحاكم عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال إني برئ من الإسلام فإن كان كاذبا فهو كما قال، وإن كان صادقا فلن يرجع إلى الإسلام سالماً»، وفي رواية لأحمد: «من حلف أنه برئ من الإسلام فإن كان كاذباً فهو كما قال وإن كان صادقا فلن يرجع إلى الإسلام سالماً» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه.
فليتأمل المتمثلون بإبليس وبعبّاد الأشجار هذا الحديث حق التأمل، ولا يأمنوا أن يكون لهم نصيب من البراءة من الإسلام لأن التمثيل الذي قد فعلوه هو صريح الكفر والشرك، وأي كفر أعظم مما كان عليه عدو الله إبليس، وأي شرك أعظم من دعاء الأشجار وجعلها أنداداً من دون الله.
وبالجملة فإن المتمثلين بإبليس وبالذين يدعون العزّى وغيرها من الأشجار قد وقعوا في خطر عظيم وأمر مناقض للإسلام؛ فعلى من فعل هذا المنكر الوخيم أن يتدارك نفسه بالتوبة النصوح والإنابة إلى الله تعالى والإكثار من الأعمال الصالحة فإن الحسنات يذهبن السيئات. وعلى غيرهم من المؤمنين أن يحذروا من الوقوع في مثل هذه الأمور الفظيعة والزلات الشنيعة والمزالق الخطرة التي وقع فيها الجاهلون بما يناقض الإسلام.
ومن الأحاديث الواردة في التشديد بالحلف بملة غير الإسلام حديث ثابت بن الضحاك، رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حلف بملة سوى الإسلام كاذباً متعمداً فهو كما قال» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي رواية لابن حبان: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حلف بملة سوى الإسلام كاذبا متعمداً فهو كافر». ومعنى الحلف بملة غير الإسلام أن يقول هو يهودي أو نصراني إن فعل كذا وكذا، وقد جاء النص على ذلك في حديث رواه الحاكم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف على يمين فهو كما حلف، إن قال هو يهودي فهو يهودي، وإن قال هو نصراني فهو نصراني، وإن قال هو برئي من الإسلام فهو برئ من الإسلام» صححه الحاكم وفي إسناده ضعف. وروى ابن ماجه عن أنس، رضي الله عنه، قال: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يقول: أنا إذا ليهودي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وجبت»، في إسناده بقية بن الوليد وقد رواه بالعنعنة وهو مدلس. ويشهد لهذا الحديث أبي هريرة المذكور قبله ما تقدم قبلهما من حديث بريدة وثابت بن الضحاك، رضي الله عنهما.
وإذا علم ما جاء في هذه الأحاديث من التشديد في الحلف بالبراءة من الإسلام والحلف بملة غير الإسلام كأن يقول هو يهودي أو نصراني إن فعل كذا وكذا، فليعلم أن التشبه بإبليس وبعبّاد الأشجار أعظم من ذلك بكثير لأن كلا من المتشبه بإبليس وبعباد الأشجار قد جعل نفسه بمنزلة من تشبه به وذلك يقتضي الكفر. والتشبه بإبليس يقتضي أيضا أن يكون المتشبه به من الشياطين، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم» رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبن عمر، رضي الله عنهما، وقد تقدم الكلام عليه فليراجع. ومما تقدم في الكلام عليه قول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن ظاهره يقتضي كفر التشبه بهم كما في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾([10]).
ويجب على الذين مثلوا أنفسهم بإبليس وبعبّاد الأشجار وهم جاهلون بما تشتمل عليه هذه الأفعال الوخيمة من المنافاة لدين الإسلام أن يبادروا إلى محو هذه الزلات بقول: لا إله إلا الله، والإكثار من الاستغفار والأعمال الصالحة. فقد روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف فقال في حلفه واللّات والعزّى فليقل لا إله إلا الله». قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وروى الإمام أحمد والنسائي وابن حبان في (صحيحه) عن سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، أنه حلف باللات والعزى فقال له أصحابه: قد قلت هجراً([11])، فأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن العهد كان قريبا وإني حلفت باللات والعزى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قل لا إله إلا الله وحده ثلاثا ثم أنفث عن يسارك ثلاثا وتعوذ بالله من الشيطان ولا تعد» ورواه ابن ماجه مختصراً. وفي رواية للنسائي عن سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، قال: كنا نذكر بعض الأمر وأنا حديث عهد بالجاهلية فحلفت باللات والعزى، فقال لي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بئس ما قلت. ائت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فإنا لا نراك إلا قد كفرت، فأتيته فأخبرته فقال لي: «قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثلاث مرات وتعوذ من الشيطان ثلاث مرات واتفل عن يسارك ثلاث مرات ولا تعد له» إسناده صحيح على شرط البخاري.
وإذا علم ما في التمثل بإبليس وبعبّاد الأشجار من السخف والرعونة وما يترتب على ذلك من الغفلة عن الله تعالى والصد عن ذكره ومراقبته، وما يترتب على ذلك أيضا من تضحيك الناس بقبيح الأفعال ورديء الكلام الذي يشتمل على الهزل والمجون وأنواع السفاهة والسخافة والرقاعة، وما تشتمل عليه أفعالهم وأقوالهم في حال تمثلهم بإبليس وبعباد الأشجار من المنكرات التي تنافي الإسلام، فهل يقول مؤمن عاقل إن ذلك من التمثيل الذي يدخل في الدعوة إلى الله والتوجيه والإرشاد.
كلا لا يقول ذلك من له أدنى شيء من العقل والدين، وإنما يقول ذلك من هو مصاب في دينه وعقله. وإنه ليخشى على المتشبهين بإبليس وبعبّاد الأشجار وعلى الراضين بفعلهم أن يصابوا بمصيبة في دينهم، مع ما يخشى عليهم من العذاب في الآخرة فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -أنه قال: «وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال - على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم من حديث معاذ بن جبل، رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في (تلخيصه).
وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزلّ بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب».
وقوله «ما يتبين فيها» معناه: لا يتدبرها ويفكر في قبحها ولا يخاف ما يترتب عليها.
وفي رواية البخاري: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم». وقد رواه الإمام أحمد مختصرا. وفي رواية له: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة يضحك بها جلساءه يهوي بها من أبعد من الثريا» ورواه البيهقي ولفظه: «إن العبد ليقول الكلمة لا يقولها إلا ليضحك بها المجلس يهوي بها أبعد مما بين السماء والأرض، وإن الرجل ليزل عن لسانه أشد مما يزل عن قدميه».
وروى الإمام أحمد أيضا عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، يرفعه: قال: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يريد بها بأسا إلا ليضحك بها القوم فإنه ليقع منها أبعد من السماء».
وعن بلال بن الحارث المزني، رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه» رواه مالك وأحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان في (صحيحه) والحاكم، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه أيضاً الحاكم والذهبي. قال الترمذي: وفي الباب عن أم حبيبة، رضي الله عنها. وفي رواية للحاكم عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي قال: كان رجل بطال يدخل على الأمراء فيضحكهم فقال له جدي: ويحك يا فلان لم تدخل على هؤلاء وتضحكهم فإني سمعت بلال بن الحارث المزني يحدث، ثم ذكر حديث بلال بن الحارث الذي تقدم ذكره.
وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والدارمي والحاكم عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ويل له». قال الترمذي: هذا حديث حسن. قال: وفي الباب عن أبي هريرة، رضي الله عنه.
وفي هذه الأحاديث أبلغ تحذير من تضحيك الناس برديء الكلام وما يشتمل على الهزل والمجون أو الاستهزاء والسخرية بالناس ومحاكاتهم في الأقوال والأفعال.
ومن أعظم التمثيل خطراً وأشده نكارة الاستهزاء بالدين وأهل الدين والسخرية من المتمسكين بالسنة، كما قد ذكر ذلك عن بعض ذوي السفاهة والرقاعة الذين لا يبالون بما يأتونه من منكرات الأفعال وما يخرج من أفواههم من الأقوال الساقطة ورديء الكلام. ومما ذكر عنهم من الأفعال المنكرة أنهم يجعلون لبعض محلقي اللحى أو بعض الصبيان الصغار لحية من جلود الضأن التي عليها شعر كثير ليمثلوا بذلك أهل اللحى ويضحكوا منهم وممن يمثلهم. وهذا صريح في الاستهزاء بالسنة في إعفاء اللحى والسخرية من الذين يُعفون لحاهم. وما علم الأراذل السخفاء أن استهزاءهم باللحى يتناول النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه هو القدوة والأسوة الحسنة للذين يُعفون اللحى. وقد كان - صلى الله عليه وسلم - كثّ اللحية ضخمها عظيمها قد ملأت نحره، وقد أمر أمته بإعفاء اللحى وتوفيرها ونهاهم عن حلقها والتمثيل بها، وما تضمن الاستهزاء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من الأقوال أو الأفعال أو تضمن الاستهزاء بشيء من هديه وسنته فهو كفر صريح. وقد جاء النص على ذلك في قول الله تعالى: ﴿قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾([12]). قال البغوي: سبب نزول هذه الآية ما قال الكلبي ومقاتل وقتادة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسير في غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة نفر من المنافقين اثنان يستهزئان بالقرآن والرسول والثالث يضحك، فأطلع الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك فقال: «أحبسوا على الركب»، فدعاهم وقال لهم: «قلتم كذا وكذا» فقالوا: إنما كنا نخوض ونعلب. وقال ابن كثير وقوله: ﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾. أي بهذا المقال الذي استهزأتم به. انتهى. فليحذر الذين يمثلون أهل اللحى ويسخرون منهم من الوقوع في هذه المزالق التي تخرجهم من الإسلام.
ومن أقبح التمثيل ما يفعله بعض أشباه الرجال من تمثيل أفعال النساء وكلامهن حتى إن بعضهم يمثل النساء في الولادة، وهذا شيء في غاية القبح والسخافة. وقد «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال»رواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث ابن عباس، رضي الله عنهما، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في (صحيحه) والحاكم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي في (تلخيصه). ورواه ابن ماجه بإسناد حسن ولفظه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لعن المرأة تتشبه بالرجال والرجل يتشبه بالنساء» واللعن هو الطرد والإبعاد من الله.
وروى الإمام أحمد والطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليس منا من تشبه بالرجال من النساء ولا من تشبه بالنساء من الرجال». فليتأمل الممثلون للنساء هذه الأحاديث وليحذروا من اللعن الذي يطردهم عن الله ويبعدهم من رحمته ومن كل خير.
فصل
وقد ذكر عن بعض المفتونين بمحاكاة الناس وتمثيل أقوالهم وأفعالهم أنهم استدلوا على جواز التمثيل بما جاء في قصة الأبرص والأقرع والأعمى الذين كانوا في بني إسرائيل. فقد جاء في قصتهم: أن الملك جاء إلى كل واحد منهم في صورته وهيئته. قال المفتونون بالتمثيل: إن مجيء الملك إلى كل واحد من الثلاثة في صورته وهيئته يدل على جواز التمثيل.
والجواب عن هذه الشبهة من وجوه. أحدها: أن يقال إن الله تعالى قد أقدر الملائكة على أشياء لا يقدر على مثلها أحد من البشر، ومن ذلك التمثل في غير صورهم التي خلقوا عليها. فقد كانوا يتمثلون في صور شتى من صور بني آدم وغيرهم. وقد جاء بعضهم إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام في صورة ضيوف من بني آدم فدخلوا عليه وسلموا عليه فنكرهم وأوجس منهم خيفة فقالوا: لا تخف وأخبروه أنهم قد أرسلوا لإهلاك قوم لوط، وبشروه وزوجته بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب. ثم جاءوا إلى لوط في صور بني آدم فسيء بهم وضاق بهم ذرعاً لأنه خاف عليهم من قومه، فأخبروه أنهم رسل ربه وأن قومه لن يصلوا إليه، وأمروه بالإسراء بأهله من الليل وأخبروه بإهلاك قومه وأن موعد إهلاكهم الصبح. وجاء اثنان منهم إلى داود في صورة خصمين، وجاء جبريل إلى مريم فتمثل لها بشراً سوياً وأخبرها أنه رسول ربها، وأنه سيهب لها غلاماً زكياً، ثم نفخ في جيب درعها فحملت بعيسى عليه الصلاة والسلام. وجاء ملك من الملائكة إلى الثلاثة المبتلين من بني إسرائيل فمسح على كل واحد منهم فذهب عنه ما كان فيه من البلاء وأعطى كل واحد منهم ما طلبه من المال. ثم إن الله تعالى أراد أن يبتليهم ليتبين الشاكر منهم لنعمة الله عليه والجاحد المنكر للنعمة فأرسل إليهم الملك فجاء إلى كل واحد منهم في صورته وهيئته التي كان عليها حين كانت العاهة فيه فسأل كل واحد منهم أن يعطيه ما يتبلغ به في سفره وذكره العاهة التي كانت فيه وأن الله شفاه منها وأعطاه المال الذي كان في يده فجحد الأبرص والأقرع نعمة الله عليهما واعترف الأعمى بنعمة الله عليه وشكر الله عليها، فأخبره الملك أنهم إنما ابتلوا وأن الله قد رضي عنه وسخط على الأبرص والأقرع. وكان جبريل يأتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة دحية الكلبي، وأتى إليه مرة في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر فجلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان وعن وقت الساعة وعن أشراطها، وكان ذلك بمحضر من بعض الصحابة فلم يعرفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ولى. ورآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صورته التي خلق عليها مرتين، مرة في الأرض ومرة في السماء السابعة عند سدرة المنتهى وذلك في ليلة الإسراء. وروى أنه تمثل لأبي جهل في صورة فحل عظيم من الإبل فرعب منه أبو جهل رعبا شديداً، ذكر ذلك ابن إسحاق في قصتين. إحداهما: حين حمل أبو جهل حجراً ليلقيه على رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد فعرض له جبريل في صورة فحل من الإبل فهم به أن يأكله فألقى الحجر من يده ورجع منبهتاً ممتقعا لونه مرعوباً. قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ذلك جبريل ولودنا لأخذه». القصة الثانية: حين اشترى أبو جهل إبلا من رجل من إراش ومطله بأثمانها فاستعدى الإراشي عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء معه وأمر أبا جهل أن يعطيه حقه فأعطاه إياه في الحال، ولما عوتب أبو جهل على فعله ذلك ذكر أنه رأى فوق رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - فحلا من الإبل، قال: ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط فو الله لو أبيت لأكلني.
وفي الصحيحين ومسند الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، قال: لقد رأيت يوم أحد عن يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد. زاد مسلم في رواية له: يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام.
وروى الواقدي في قصة بدر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الملك يتصور في صورة من يعرفون من الناس يثبتونهم فيقول: إني قد دنوت منهم فسمعتهم يقولون لو حملوا علينا ما ثبتنا فذلك قول الله عز وجل: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾([13]) الآية. وقد ذكر البيهقي هذا الأثر في (دلائل النبوة). وذكر البغوي عن مقاتل أنه قال: كان الملك يمشي أمام الصف - يعني يوم بدر - في صورة الرجل ويقول: أبشروا فإن الله ناصركم. وروى الواقدي عن أبي بردة بن نيار، رضي الله عنه، قال: جئت يوم بدر بثلاثة أرؤس فوضعتهن بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أما رأسان فقتلتهما، وأما الثالث فإني رأيت رجلاً طويلاً قتله فأخذت رأسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ذاك فلان من الملائكة». وروى الواقدي أيضا عن موسى بن محمد بن إبراهيم عن أبيه قال: كان السائب بن أبي حبيش يحدث في زمن عمر، رضي الله عنه، يقول: والله ما أسرني أحد من الناس، فيقال: من؟ يقول: لما انهزمت قريش انهزمت معها فأدركني رجل الشعر طويل على فرس أبيض فأوثقني رباطاً، وجاء عبد الرحمن بن عوف فوجدني مربوطا فنادى في العسكر: من أسر هذا، حتى انتهى بي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «من أسرك»؟ قلت: لا أعرفه، وكرهت أن أخبره بالذي رأيت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أسرك ملك من الملائكة، اذهب يا ابن عوف بأسيرك». وروى الإمام أحمد عن علي، رضي الله عنه، أثرا طويلا في قصة بدر وقال في آخره: فجاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبد المطلب أسيراً، فقال العباس: يا رسول الله، إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس أبلق ما أراه في القوم. فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، فقال: «اسكت فقد أيدك الله تعالى بملك كريم». قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير حارثة بن مضرب وهو ثقة. وروى الإمام أحمد أيضا عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: كان الذي أسر العباس بن عبد المطلب أبو اليسر بن عمرو وهو كعب بن عمرو أحد بني سلمة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كيف أسرته يا أبا اليسر»؟ قال: لقد أعانني عليه رجل ما رأيته بعد ولا قبل، هيئته كذا هيئته كذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقد أعانك عليه ملك كريم» قال الهيثمي: فيه راو لم يسم وبقية رجالة ثقات.
وإذا علم أن الله تعالى قد أقدر الملائكة على التمثل في صور بني آدم وهيئاتهم بحيث تكون صورة الملك مثل صورة الآدمي الذي تمثل به، فليعلم أيضا أن الله تعالى قد أقدر إبليس على التمثل في صور بني آدم وأقدر ذريته من الجن على مثل ذلك وعلى التمثل في صور الحمير والكلاب والسنانير والحيات. فأما إبليس فقد ذكر عنه التمثل في صور بني آدم في عدة قصص، منها: ما رواه ابن جرير في تفسير سورة الأحزاب عن ابن عباس، رضي الله عنهما، في قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾([14]). فذكر قصة فيها: أن إبليس جاء إلى رجل من أهل الزمان الذي كان بين نوح وإدريس، أتاه في صورة غلام فآجر نفسه منه واتخذ شيئا يزمر فيه فكان ذلك سببا لاختلاط الرجال والنساء وتبرج النساء. هذا ملخص ما جاء في القصة وهي مبسوطة في تفسير ابن جرير.
ومن القصص في تمثل إبليس في صور بني آدم ما ذكره ابن إسحاق في السيرة: أن قريشا لما أهمهم شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرادوا أن يتشاوروا في أمره ماذا يفعلون به اعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل عليه بتّ([15]) فوقف على باب دار الندوة. فلما رأوه واقفا على الباب قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له حضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا. فأدخلوه معهم. فذكر القصة وما فيها من تفنيده أيضا لرأي من أشار بإخراجه من بين أظهرهم ونفيه من بلادهم، وموافقته لأبي جهل على رأيه أنهم يقتلون النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: هذا هو الرأي ولا رأي غيره.
ومن القصص أيضا في تمثل إبليس في صور الآدميين ما رواه ابن إسحاق عن عروة بن الزبير قال: لما أجمعت قريش المسير - يعني إلى بدر - ذكرت الذي كان بينها وبين بني بكر فكاد ذلك أن يثنيهم فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وكان من أشراف بني كنانة، فقال: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه. قال ابن إسحاق: فذكر لي أنهم كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة بن مالك بن جعشم لا ينكرونه حتى إذا كان يوم بدر والتقي الجمعان كان الذي رآه حين نكص الحارث بن هشام أو عمير بن وهب فقال: أين سراقة أسلمنا عدو الله وذهب!.
وروى الطبراني في (الكبير) عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال: لما رأى إبليس ما تفعل الملائكة بالمشركين يوم بدر أشفق أن يخلص القتل إليه، فتشبث به الحارث بن هشام وهو يظن أنه سارقة بن مالك، فوكز في صدر الحارث فألقاه ثم خرج هاربا حتى ألقي نفسه في البحر فأقبل أبو جهل بن هشام فقال: يا معشر الناس لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم فإنه كان على ميعاد من محمد.. وروي ابن جرير في(تفسيره)، والبيهقي في (دلائل النبوة) عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رأيته في صور رجال من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم. فلما اصطف الناس أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبضة من التراب فرمي بها في وجوه المشركين فولوا مدبرين. وأقبل جبريل إلى إبليس فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده فولى مدبرا هو وشيعته فقال الرجل: يا سراقة ألم تزعم أنك لنا جار، قال: ﴿إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾([16]) وذلك حين رأى الملائكة.
وذكر البغوي في تفسيره عن الكلبي أنه قال: لما التقوا كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة آخذا بيد الحارث بن هشام فنكص على عقبيه فقال له الحارث: أفراراً من غير قتال؟ فجعل يمسكه فدفع في صدره وانطلق وانهزم الناس. فلما قدموا مكة قالوا: هزم الناس سراقة، فبلغ ذلك سراقة فقال: بلغني أنكم تقولون إني هزمت الناس فو الله ما شعرت بمسيرتكم حتى بلغتني هزيمتكم، فقالوا: ما أتيتنا في يوم كذا، فحلف لهم. فلما أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان. وقد ذكر ابن عطية وابن الجوزي وغيرهما من المفسرين نحو ما ذكره البغوي عن ابن الكلبي.
وقد ذكر تعالى قصة إبليس مع المشركين في يوم بدر في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾([17]). فهذه الآية الكريمة تؤيد ما ذكر قبلها من الآثار عن السلف في تصور إبليس لقريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وقوله لهم: ﴿لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ﴾ ثم أسلمهم وذهب عنهم وقال: ﴿إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ﴾.
وأما تمثل الجن في صور بني آدم وغيرهم من الحيوانات فهو مشهور عند العرب في الجاهلية والإسلام. وقد ذكر العلماء قصصا كثيرة مما وقع في زمن الجاهلية ولا حاجة إلى ذكر شيء من ذلك. وأما ما وقع في الإسلام فهو كثير. ومنه ما تقدم في الأثر عن ابن عباس، رضي الله عنهما: أن جند إبليس من الشيطان جاءوا يوم بدر في صور رجال من بني مدلج.
ومن ذلك ما جاء في قصة أبي هريرة رضي الله عنه مع الشيطان الذي جاء يسرق من التمر الذي كان أبو هريرة رضي الله عنه موكلا على حفظه. قال البخاري في (كتاب الوكالة) من صحيحه. وقال عثمان بن الهيثم أبو عمرو: حدثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: «وكلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه فأصبحت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة»؟ قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت سبيله، قال: «أما إنه قد كذبك وسيعود» فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه سيعود، فرصدته فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: دعني فإني محتاج وعليّ عيال لا عود، فرحمته، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك»؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، قال: «أما إنه قد كذبك وسيعود» فرصدته الثالثة فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذه آخر ثلاث مرات إنك تزعم لا تعود ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾([18]) حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح. فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما فعل أسيرك البارحة»؟ قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: (ما هي)؟ قلت: قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص شيء على الخير، فقال النبي: «أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب مذ ثلاث ليال يا أبا هريرة»؟ قال: لا، قال: (ذاك شيطان). وقد رواه النسائي في كتاب (عمل اليوم والليلة) بنحوه. قال الحافظ ابن حجر في شرحه لباب فضل سورة البقرة من (فتح الباري): الذي تبدى لأبي هريرة في حديث الباب كان على هيئة الآدميين. انتهى.
وقد وقع لمعاذ بن جبل، رضي الله عنه، قصة تشبه قصة أبي هريرة، رضي الله عنه، مع الذي جاء يسرق من التمر. وفيها: أن معاذا، رضي الله عنه، قال: فلما ذهب هوي من الليل أقبل على صورة الفيل فلما انتهى إلى الباب دخل من خلل الباب على غير صورته. فذكر القصة وفي آخرها: أن الشيطان قال له: إني شيطان ذو عيال وما أتيتك إلا من نصيبين ولو أصبت شيئا دونه ما أتيتك ولقد كان في مدينتكم هذه حتى بعث صاحبكم، فلما نزلت عليه آيتان أنفرتنا منها فوقعنا بنصيبين لا تقرآن في بيت إلا لم يلج فيه الشيطان ثلاثا، فإن خليت سبيلي علمتكهما، قلت: نعم، قال: آية الكرسي وآخر سورة البقرة من قوله: ﴿آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ﴾([19]) إلى آخرها. فخليت سبيله، وذكر بقية القصة بنحو ما تقدم في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه. رواه الطبراني في (الكبير) والحاكم بنحوه وصححه ووافقه الذهبي على تصحيحه.
وقد وقع أيضا لأبي بن كعب وأبي أيوب وأبي أسيد وزيد بن ثابت، رضي الله عنهم، قصص مع الجن الذين يسرقون من تمرهم.
فأما قصة أبي بن كعب، رضي الله عنه، فرواها النسائي في كتاب (عمل اليوم والليلة) وابن حبان في (صحيحه) والطبراني في (الكبير) والحاكم في (المستدرك) وصحح الحاكم إسنادها ووافقه الذهبي على تصحيحه وقال الهيثمي: رجال الطبراني ثقات.
وأما قصة أبي أيوب، رضي الله عنه، فرواها الإمام أحمد والترمذي والحاكم. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وفي رواية الحاكم: أن الغول كانت تجئ في صورة السنور.
وأما قصة أبي أسيد، رضي الله عنه، فرواها الطبراني في (الكبير) قال الهيثمي: ورجاله وثقوا كلهم وفي بعضهم ضعف.
وأما قصة زيد بن ثابت، رضي الله عنه، فرواها ابن أبي الدنيا، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في (فتح الباري).
وروي ابن عساكر في (تاريخ دمشق) عن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان يقول: خرج ابن الزبير في ليلة مقمرة على راحلة. قال: فنزل يبول فالتفت فإذا على الراحلة شيخ أبيض الرأس واللحية قال: فشد عليه فتنحى فركب راحلته ومضى. قال: فناداه: والله يا ابن الزبير لو دخل قلبك مني الليلة شعرة لخبلتك. قال: ومنك أنت يا لعين يدخل قلبي شيء. قال ابن كثير في (البداية والنهاية): وقد روي لهذه الحكاية شواهد من وجوه أخر جيدة.
وروى ابن عساكر أيضا عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: أقبل عبد الله بن الزبير، رضي الله عنهما، في ركب من قريش فيهم عبد الرحمن بن أبي ربيعة المخزومي ورهط من قريش حتى إذا كانوا بالكديد([20]) قال ابن الزبير: رأيت رجلاً تحت التناضب، يعني شجراً([21]) فقال ابن الزبير: ألا أتقدم أبغيكم لبنا، قالوا: بلى، فأقبل ابن الزبير حتى أتاه قال: فسلمت عليه، قال: وعليك السلام. قال ابن الزبير: والله ما أتيت أحدا إلا رأيت له مني هيبة غيره، فلما دنوت منه وهو في ظل قد كاد يذهب فلم يتحرك فضربت برجلي وقلت: انقبض إليك إنك لشحيح بظلك، فانحاز متكارها فجلست فأخذت بيده وقلت: من أنت؟ قال: رجل من أهل الأرض من الجن. قال: فوالله ما عدا أن قالها فقامت كل شعرة في واجتذبته بيدي فقلت: إنك من أهل الأرض وتبدو لي هكذا واجتذبته فإذا ليس له سفلة([22]) فانكسر، فقلت: ألىْ تبدو وأنت من أهل الأرض، وانقمع مني فذهب فجاءني أصحابي فقالوا: أين صاحبك؟ قلت: كان والله رجلاً من الجن فذهب. قال: ما بقي رجل رآه إلا ضرب به الأرض ساقطا فأخذت كل رجل منهم فشددته على بعيره حتى أتيت بهم أمَجَ([23]) وما يعقلون.
وروى ابن عساكر أيضاً عن سفيان بن عيينة قال: قال ابن الزبير: دخلت المسجد ذات ليلة فإذا نسوة يطفن بالبيت فأعجبنني فلما قضيت طوافهن خرجن مما يلي باب الحذائين فقلت لأتبعهن حتى أعرف مواضعهن، فما زلن يمشين حتى أتين العقبة، ثم صعدن من العقبة وصعدت خلفهن، ثم هبطن وهبطت خلفهن حتى أتين فجا فدخلن في خربة فدخلت في أثرهن، فإذا مشيخة جلوس فقالوا: ما جاء بك يا ابن الزبير، فقلت: ومن أنتم؟ قالوا: نحن الجن، قلت: إني رأيت نسوة يطفن بالبيت فأعجبنني، فاتبعتهن حتى دخلت هذا الموضع فقالوا: إن أولئك نساؤنا، تشته يا ابن الزبير ما شئت، قلت: أشتهي رطباً وما بمكة يومئذ من رطبة فأتوني برطب فأكلت، ثم قالوا: احمل ما بقي معك، قال: فحملته ورجعت وأنا أريد أن أريه أهل مكة حتى دخلت منزلي فوضعته في سفط ثم وضعت السفط في صندوق ثم وضعت رأسي، فوالله إني لبين النائم واليقظان إذ سمعت جلبة في البيت فقال بعضهم لبعض: أين وضعه؟ فقال بعضهم لبعض: افتحوا الصندوق، قال: ففتحوه، فقال بعضهم لبعض: أين هو؟ فقال بعضهم في السفط قال: افتحوا السفط، فقالوا: لا نستطيع أن نفتحه إنه قد ذكر عليه اسم الله عز وجل، قال: فاحملوه كما هو، قال: فحملوه فذهبوا، قال ابن الزبير: لم آسف على شيء أسفي كيف لم أثب عليهم وهم في البيت.
فهذا نموذج من القصص التي وقعت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما وقع بعده لابن الزبير، رضي الله عنهما، مما تمثل فيه الجن في صور بني آدم وصورة الفيل والسنور.
وقد وقع في زماننا عدة قصص مما تمثل فيه الجن في صور بني آدم وفي صور الحمير والكلاب والسنانير والحيات. وقد ذكر لي بعض القصص عن أناس ثقات لا أشك في صدقهم وصحة أخبارهم، وفيما ذكرته من القصص التي وقعت في أول الإسلام كفاية في ثبوت تمثل إبليس وذريته من الجن في صور بني آدم وغيرهم من الحيوانات.
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الشيطان لا يتمثل بي» رواه الإمام أحمد والبخاري وغيرهم من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه. وفي رواية للبخاري: «إن الشيطان لا يتمثل في صورتي». وفي رواية لأحمد: «إن الشيطان لا يتصور بي - أو قال - لا يتشبه بي». وفي رواية له «إن الشيطان لا يستطيع أن يتشبه بي».
وفي الباب عن أنس بن مالك وجابر بن عبد الله وعبد الله بن مسعود وأبي قتادة وأبي سعيد الخدري وأبي جحيفة وأبي مالك الأشجعي عن أبيه وعبد الله بن عمرو وابن عباس، رضي الله عنهم، نحو ذلك. فهذه أحاديث متواترة عن عشرة من الصحابة، رضي الله عنهم، بعضها في الصحيحين وبعضها في غيرهما من السنن والمسانيد وصحيح ابن حبان وغيرهما من كتب السنة. وهي من الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي تدل بمفهومها على أن الشيطان يستطيع أن يتمثل بمن سوى النبي - صلى الله عليه وسلم - من بني آدم وغيرهم. وقد ذكر البغوي في (شرح السنة) عن شيخه القاضي حسين بن محمد المروذي شيخ الشافعية في زمانه أنه قال: جميع الأنبياء والملائكة لا يتمثل الشيطان بشيء منهم. انتهى.
وإذا علم أن التمثل في صور بني آدم ليس هو من خصائص الملائكة لأنه قد وقع مثله من إبليس وذريته. فليعلم أيضا أنه لا يصح الاستدلال على جواز التمثيل بما وقع من الملك حين جاء إلى كل من الأبرص والأقرع والأعمى متمثلا في صورته وهيئته، لأن الاستدلال بذلك لا ينفك عن مقارنته بتمثل إبليس وذريته في صور بني آدم وهيئاتهم، وما كان بهذه المثابة فإنه لا يجوز الاستدلال به على جواز التمثيل، وإنما يستحسنه ويستدل به على الجواز من يستحسن التأسي بإبليس وذريته، ويرى جواز الاستدلال بما وقع منهم من التمثل في صور بني آدم وغيرهم، وهذا مما يتنزه عنه كل مؤمن عاقل، ولا يرضى به إلا من هو مصاب في دينه وعقله.
الوجه الثاني: أن يقال: إن الله تعالى أمر المؤمنين عند التنازع في الأشياء أن يردوا الحكم فيها إلى الكتاب والسنة فقال تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾([24]).
قال مجاهد وغير واحد من السلف في قوله: ﴿فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾أي إلى كتاب الله وسنة رسوله. قال البغوي: والرد إلى الكتاب والسنة واجب إن وجد فيهما فإن لم يوجد فسبيله الاجتهاد.انتهى.
وإذا رددنا حكم التمثيل إلى الكتاب والسنة لم نجد فيهما ما يدل على جواز ذلك، ووجدنا في السنة أدلة تدل على المنع منه. وسيأتي ذكرها في الوجه الثالث وما بعده.
الوجه الثالث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما أحب أني حكيت أحدا وأن لي كذا وكذا» وأعظم ذلك. وقد ذكرت هذا الحديث في أول الكلام على التمثيل فليراجع. ولفظ هذا الحديث عام فيشمل محاكاة الملائكة في أفعالهم ومحاكاة بني آدم وغيرهم، فكل ذلك داخل في عموم ما كرهه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأعظم الأمر على من فعله. وفي هذا أبلغ رد على من تشبث بقصة الملك مع الأبرص والأقرع والأعمى وزعم أن فيها دليلاً على جواز التمثيل.
الوجه الرابع: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حذر أمته من المحدثات وأمرهم بردها ورد الأفعال التي ليس عليها أمره. وقد ذكرت الحديث الوارد في ذلك في أول الكلام على التمثيل فليراجع ففيه أبلغ رد على من تشبث بقصة الملك مع الأبرص والأقرع والأعمى، وزعم أن فيها دليلاً على جواز التمثيل الذي هو من المحدثات والأعمال التي ليس عليها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الوجه الخامس: أن يقال: إن التمثيل مأخوذ من أفعال النصارى، وقد تقدم بيان ذلك في أول الكلام على التمثيل. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من تشبه بقوم فهو منهم». وهذا الحديث يدل على تحريم التمثيل لأنه مأخوذ من أفعال النصارى، والتشبه بهم حرام شديد التحريم. وفيه أبلغ رد على من يتشبث بالشبه في الاستدلال على جواز التمثيل.
وهذا آخر ما تيسر إيراده والحمد لله رب العالمين، وصلي الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
([1]) سورة الشورى، الآية:21.
([2]) سورة المائدة، الآية:3.
([3]) أرهجوا : أي أثاروا الغبار وهو الرهج.
([4]) سورة المائدة ، الآية:51.
([5]) سورة الشورى ، الآية:21.
([6]) سورة النحل، الآية: 125.
([7]) سورة النساء، الآية:48.
([8]) سورة النساء، الآية:116.
([9]) سورة النساء، الآية:140.
([10]) سورة المائدة ، الآية:51.
([11]) قال الجوهري : الهجر بالضم هو الإفحاش في المنطق والخنا . وقال ابن منظور في (لسان العرب) : الهجر القبيح من الكلام.
([12]) سورة التوبة، الآيتان:65 ، 66.
([13]) سورة الأنفال، الآية:12.
([14]) سورة الأحزاب،الآية :33.
([15]) قال الجوهري : البت : الطيلسان من خز ونحوه . وذكر ابن منظور في (لسان العرب) عن ابن سيده أنه قال : البت كساء غليظ مهلهل مربع أخضر ، وقيل : هو من وبر وصوف.
([16]) سورة الأنفال، الآية:48.
([17])سورة الأنفال، الآية:48.
([18]) سورة البقرة، الآية:255.
([19]) سورة البقرة ، الآية:285.
([20]) الكديد: يفتح أول وكسر ثانيه ن موضع بين مكة والمدينة بين منزلتي أمج وعسفان . قال القاضي عياض : الكديد عين جارية على أثنين وأربعين ميلا من مكة.
([21]) قوله : التناصب يعني شجراً ، كذا جاء في (تاريخ دمشق) والذي ذكره أهل اللغة أنه يجمع على تنضب بفتح التاء وضم الضاد واحدتها تنضبه. قال في (لسان العرب) شجر ينبت بالحجاز وهو ينبت ضخما على هيئة السرح وعيدانه بيض ضخمة وورقة متقبض ولا تراه إلا كأنه يابس مغبر وله شوك مثل العوسج وله جني مثل العنب الصغار يؤكل وهو أحيمر.
([22]) قال الجوهري: السفلة بكسر الفاء قوائم البعير ، وكذا قال ابن منظور في (لسان العرب).
([23]) قال ابن منظور ي (لسان العرب) : أمج بفتحتين وجيم موضع بين مكة والمدينة . وقال أبو عبيد البكري : أمج بفتح أوله وثانيه وبالجيم قرية جامعة بها سوق وهي كثيرة المزارع والنخل ، وقال أيضا : من أمج إلى الروضة أربعة أميال ومن الروضة إلى الكديد ميلان ومن الكديد إلى عسفان ستة أميال. انتهى.
([24]) سورة النساء، الآية:59.