الملخص الفقهي
ترجمات المادة
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
- الملخص
الفقهي
- الجزء الثاني قسم المعاملات وغيرها
- كتاب
البيوع
- باب في أحكام البيوع
- باب في بيان البيوع المنهي عنها
- باب في أحكام الشروط في البيع
- باب في أحكام الخيار في البيع
- باب في أحكام التصرف في البيع قبل قبضه والإقالة
- باب في بيان الربا وحكمه
- باب في أحكام بيع الأصول
- باب في أحكام بيع الثمار
- باب في وضع الجوائح
- باب فيما يتبع المبيع وما لا يتبعه
- باب في أحكام القرض
- باب في أحكام الرهن
- باب في أحكام الضمان
- باب في أحكام الكفالة
- باب في أحكام الحوالة
- باب في أحكام الوكالة
- باب في أحكام الحجر
- باب في أحكام الصلح
- باب في أحكام الجوار والطرقات
- باب في أحكام الشفعة
- كتاب الشركات
- كتاب المزارعة والمساقاة والإجارة
- كتاب
المواريث
- باب في تصرفات المريض المالية
- باب في أحكام الوصايا
- باب في أحكام المواريث
- باب في أسباب الإرث وبيان الورثة
- باب في ميراث الأزواج والزوجات
- باب في ميراث الأمهات
- باب في ميراث الجدة
- باب في ميراث البنات
- باب في ميراث الأخوات الشقائق
- باب في ميراث الأخوات مع البنات وميراث الأخوة لأم .
- باب في التعصيب
- باب الحجب
- باب توريث الإخوة مع الجد
- باب في المعادة
- باب في التوريث بالتقدير والاحتياط
- باب في ميراث الخنثى
- باب ميراث الحمل
- باب في ميراث المفقود
- باب في ميراث الغرقى والهدمى
- باب في التوريث بالرد
- باب ميراث ذوي الأرحام
- باب في ميراث المطلقة
- باب في التوارث مع اختلاف الدين
- باب في حكم توريث القاتل
- كتاب النكاح
- كتاب الطلاق
- كتاب القصاص والجنايات
- كتاب الحدود والتعزيرات
- كتاب الأطعمة
- كتاب الأيمان والنذور
- كتاب القضاء
الملخص الفقهي
الجزء الثاني قسم المعاملات وغيرها
تلخيص
صالح بن فوزان بن عبدالله آل فوزان
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
كتاب البيوع
باب في أحكام البيوع
وضح الله في كتابه الكريم وبين النبي صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة أحكام المعاملات ; لحاجة الناس إلى ذلك , لحاجتهم إلى الغذاء الذي تقوى به أبدانهم , وإلى الملابس والمساكن والمراكب وغيرها من ضروريات الحياة ومكملاتها .
• والبيع جائز بالكتاب والسنة والإجماع والقياس : - قال تعالى : وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ
وقال تعالى : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ
- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا , فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما , وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما .
- وقد أجمع العلماء على ذلك في الجملة .
- وأما القياس فمن ناحية : أن حاجة الناس داعية إلى وجود البيع ; لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه من ثمن أو مثمن , وهو لا يبذله إلا بعوض , فاقتضت الحكمة جواز البيع للوصول إلى الغرض المطلوب .
وينعقد البيع بالصيغة القولية أو الصيغة الفعلية . - والصيغة القولية تتكون من : الإيجاب وهو اللفظ الصادر من البائع , كأن يقول : بعت . والقبول وهو اللفظ الصادر من المشتري , كأن يقول : اشتريت .
- والصيغة الفعلية هي المعاطاة التي تتكون من الأخذ والإعطاء , كأن يدفع إليه السلعة , فيدفع له ثمنها المعتاد .
- وقد تكون الصيغة مركبة من القولية والفعلية .
قال الشيخ تقي الدين رحمه الله : " بيع المعاطاة له صور :
إحداها: أن يصدر من البائع إيجاب لفظي فقط , ومن المشتري أخذ ; كقوله : خذ هذا الثوب بدينار فيأخذه , وكذلك لو كان الثمن معينا ; مثل أن يقول : خذ هذا الثوب بثوبك فيأخذه .
الثانية : أن يصدر من المشتري لفظ , ومن البائع إعطاء , سواء كان الثمن معينا أو مضمونا في الذمة .
الثالثة : أن لا يلفظ واحد منهما , بل هناك عرف بوضع الثمن وأخذ المثمن " انتهى .
باب في أحكام البيوع (تابع)
ويشترط لصحة البيع شروط , منها ما يشترط في العاقدين ومنها ما يشترط في المعقود عليه , إذا فقد منها شرط لم يصح البيع : - فيشترط في العاقدين :
أولا : التراضي منهما , فلا يصح البيع إذا كان أحدهما مكرها بغير حق ; لقوله تعالى : إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما البيع عن تراض رواه ابن حبان وابن ماجه وغيرهما , فإن كان الإكراه بحق صح البيع ; كما لو أكرهه الحاكم على بيع ما له لوفاء دينه , فإن هذا إكراه بحق .
ثانيا : يشترط في كل من العاقدين أن يكون جائز التصرف ; بأن يكون حرا مكلفا رشيدا , فلا يصح البيع والشراء من صبي وسفيه ومجنون ومملوك بغير إذن سيده .
ثالثا : يشترط في كل من العاقدين أن يكون مالكا للمعقود عليه أو قائما مقام مالكه , لقول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام : لا تبع ما ليس عندك رواه ابن ماجه والترمذي وصححه ; أي : لا تبع ما ليس في ملكك من الأعيان . قال الوزير : " اتفقوا على أنه لا يجوز بيع ما ليس عنده ولا في ملكه , ثم يمضي فيشتريه له , وأنه باطل " .
- ويشترط في المعقود عليه في البيع
أولا : أن يكون مما يباح الانتفاع به مطلقا ; فلا يصح بيع ما يحرم الانتفاع به ; كالخمر والخنزير وآلة اللهو والميتة ; لقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله حرم بيع الميتة والخمر والأصنام متفق عليه , ولأبي داود : حرم الخمر وثمنها , وحرم الميتة وثمنها , وحرم الخنزير وثمنه ولا يصح بيع الأدهان النجسة ولا المتنجسة ; لقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه وفي المتفق عليه : أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن , وتدهن بها الجلود , ويستصبح بها الناس ؟ فقال : لا , هو حرام
ثانيا : ويشترط في المعقود عليه في البيع من ثمن ومثمن أن يكون مقدورا على تسليمه ; لأن ما لا يقدر على تسليمه شبيه بالمعدوم , فلم يصح بيعه ; فلا يصح بيع عبد آبق ولا بيع جمل شارد , ولاطير في الهواء , ولا بيع مغصوبمن غير غاصبه أو قادر على أخذه من الغاصب .
ثالثا : يشترط في الثمن والمثمن أن يكون كل منهما معلوما عند المتعاقدين , لأن الجهالة غرر , والغرر منهي عنه ; فلا يصح شراء ما لم يره , أو رآه وجهله , ولا بيع حمل في بطن ولبن في ضرع منفردين , ولا يصح بيع الملامسة كأن يقول : أي ثوب لمسته فهو عليك بكذا , ولا بيع المنابذة ; كأن يقول : أي ثوب نبذته إلي - أي : طرحته - فهو بكذا , لحديث أبي هريرة رضي الله عنه : " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الملامسة والمنابذة " متفق عليه , ولا يصح بيع الحصاة ; كقوله : ارم هذه الحصاة فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بكذا .
باب في بيان البيوع المنهي عنها
الله سبحانه أباح لعباده البيع والشراء , ما لم يترتب على ذلك تفويت لما هو أنفع وأهم ; كأن يزاحم ذلك أداء عبادة واجبة , أو يترتب على ذلك إضرار بالآخرين .
فلا يصح البيع ولا الشراء ممن تلزمه صلاة الجمعة بعد ندائها الثاني ; لقوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فقد نهى الله سبحانه وتعالى عن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها , وخص البيع لأنه من أهم ما يشتغل به المرء من أسباب المعاش , والنهي يقتضي التحريم وعدم صحة البيع , ثم قال تعالى : ذَلِكُمْ يعني : الذي ذكرت لكم من ترك البيع وحضور الجمعة , خَيْرٌ لَكُمْ من الاشتغال بالبيع , إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مصالح أنفسكم , وكذلك التشاغل بغير البيع عن الصلاة محرم .
وكذلك بقية الصلوات المفروضة لا يجوز التشاغل عنها بالبيع والشراء وغيرهما بعدما ينادى لحضورها في المساجد , قال تعالى : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
وكذلك لا يصح بيع الشيء على من يستعين به على معصية الله ويستخدمه فيما حرم الله , فلا يصح بيع العصير على من يتخذه خمرا ; لقوله تعالى : وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وذلك إعانة على العدوان .
باب في بيان البيوع المنهي عنها (تابع)
وكذا لا يجوز ولا يصح بيع سلاح في وقت الفتنة بين المسلمين ; لئلا يقتل به مسلم , وكذا جميع آلات القتال لا يجوز بيعها في مثل هذه الحالة ; لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك , ولقوله : وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
قال ابن القيم : " قد تظاهرت أدلة الشرع على أن القصود في العقود معتبرة , وأنها تؤثر في صحة العقد وفساده , وفي حله وحرمته , فالسلاح يبيعه الرجل لمن يعرف أنه يقتل به مسلما حرام باطل ; لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان , وإذا باعه لمن يعرف أنه يجاهد به في سبيل الله , فهو طاعة وقربة , وكذا لا يجوز بيع سلاح لمن يحاربون المسلمين أو يقطعون به الطريق , لأنه إعانة على معصية " .
ولا يجوز بيع عبد مسلم لكافر إذا لم يعتق عليه ; لما في ذلك من الصغار وإذلال المسلم للكافر , وقد قال الله تعالى : وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " الإسلام يعلو ولا يعلى عليه "
* ويحرم بيعه على بيع أخيه المسلم كأن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة : أنا أعطيك مثلها بتسعة , أو أعطيك خيرا منها بثمنها , قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ولا يبع بعضكم على بيع بعض " متفق عليه , وقال صلى الله عليه وسلم : " لا يبع الرجل على بيع أخيه " متفق عليه .
وكذا يحرم شراؤه على شرائه , كأن يقول لمن باع سلعته بتسعة : أشتريها منك بعشرة . وكم يحصل اليوم في أسواق المسلمين من أمثال هذه المعاملات المحرمة , فيجب على المسلم اجتناب ذلك , والنهي عنه , وإنكاره على من فعله .
* ومن البيوع المحرمة : بيع الحاضر للبادي والحاضر : هو المقيم في المدن والقرى , والبادي : القادم من البادية أو غيرها ; لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يبع حاضر لباد " قال ابن عباس رضي الله عنه : " لا يكون له سمسارا ( أي : دلالا ) يتوسط بين البائع والمشتري " .
وقال صلى الله عليه وسلم : " دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض " وكما أنه لا يجوز للحاضر أن يتولى بيع سلعة البادي , كذلك لا ينبغي له أن يشتري له . والممنوع هو أن يذهب الحاضر إلى البادي ويقول له : أنا أبيع لك أو أشتري لك . أما إذا جاء البادي للحاضر , وطلب منه أن يبيع له أو يشتري له فلا مانع من ذلك .
* ومن البيوع المحرمة : بيع العينة وهو أن يبيع سلعة على شخص بثمن مؤجل , ثم يشتريها منه بثمن حال أقل من المؤجل , كأن يبيع عليه سيارة بعشرين ألفا إلى أجل , ثم يشتريها منه بخمسة عشر ألفا حالة يسلمها له , وتبقى العشرون الألف في ذمته إلى حلول الأجل ; فيحرم ذلك لأنه حيلة يتوصل بها إلى الربا , فكأنه باع دراهم مؤجلة بدراهم حالة مع التفاضل , وجعل السلعة حيلة فقط .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا تبايعتم بالعينة , وأخذتم أذناب البقر , وتركتم الجهاد , سلط الله عليكم ذلا , لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم وقال صلى الله عليه وسلم : يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع
باب في أحكام الشروط في البيع
• الشروط في البيع كثيرة الوقوع , وقد يحتاج المتبايعان أو أحدهما إلى شرط أو أكثر , فاقتضى ذلك البحث في الشروط , وبيان ما يصح ويلزم منها وما لا يصح .
• والفقهاء رحمهم الله يعرفون الشرط في البيع بأنه إلزام أحد المتعاقدين الآخر بسبب العقد ما له فيه منفعة , ولا يعتبر الشرط في البيع عندهم ساري المفعول إلا إذا اشترط في صلب العقد ; فلا يصح الاشتراط قبل العقد ولا بعده .
• والشروط في البيع تنقسم إلى قسمين : صحيحة وفاسدة :
أولا : الشروط الصحيحة : وهي الشروط التي لا تخالف مقتضى العقد وهذا القسم يلزم العمل بمقتضاه ; لقوله صلى الله عليه وسلم : " المسلمون على شروطهم " ولأن الأصل في الشروط الصحة , إلا ما أبطله الشارع ونهى عنه .والقسم الصحيح من الشروط نوعان :
النوع الأول : شرط لمصلحة العقد بحيث يتقوى به العقد , وتعود مصلحته على المشترط ; كاشتراط التوثيق بالرهن , أو اشتراط الضامن , وهذا يطمئن البائع , واشتراط تأجيل الثمن أو تأجيل بعضه إلى مدة معلومة , وهذا يستفيد منه المشتري , فإذا وفي بهذا الشرط , لزم البيع , وكذلك لو اشترط المشتري صفة في المبيع , مثل كونه من النوع الجيد أو من الصناعة الفلانية أو الإنتاج الفلاني ; لأن الرغبات تختلف باختلاف ذلك , فإن أتى المبيع على الوصف المشترط لزم البيع , وإن اختلف عنه ; فللمشتري الفسخ أو الإمساك مع تعويضه عن فقد الشرط , بحيث يقوم المبيع مع تقدير وجود الصفة المشترطة , ثم يقوم مع فقدها , ويدفع له الفرق بين القيمتين إذا طلب .
النوع الثاني من الشروط الصحيحة في البيع : أن يشترط أحد المتعاقدين على الآخر بذل منفعة مباحة في المبيع ; كأن يشترط البائع سكنى الدار المبيعة مدة معينة , أو أن يحمل على الدابة أو السيارة المبيعة إلى موضع معين ; لما روى جابر : " أن النبي صلى الله عليه وسلم باع جملا واشترط ظهره إلى المدينة " متفق عليه , فالحديث يدل على جواز بيع الدابة مع استثناء ركوبها إلى موضع معين , ويقاس عليها غيرها , وكذا لو اشترط المشتري على البائع بذل عمل في المبيع ; كأن يشتري منه حطبا , ويشترط عليه حمله إلى موضع معلوم , أويشتري منه ثوبا , ويشترط عليه خياطته .
ثانيا : الشروط الفاسدة : وهذا القسم أنواع :
النوع الأول : شرط فاسد يبطل العقد من أصله , ومثاله أن يشترط أحدهما على الآخر عقدا آخر , كأن يقول : بعتك هذه السلعة بشرط أن تؤجرني دارك , أو يقول : بعتك هذه السلعة بشرط أن تشركني معك في عملك الفلاني أو في بيتك , أو يقول : بعتك هذه السلعة بكذا بشرط أن تقرضني مبلغ كذا من الدراهم ; فهذا الشرط فاسد , وهو يبطل العقد من أساسه , لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة وقد فسر الإمام أحمد رحمه الله الحديث بما ذكرنا .
النوع الثاني من الشروط الفاسدة في البيع : ما يفسد في نفسه , ولا يبطل البيع ; مثل أن يشترط المشتري على البائع أنه إن خسر في السلعة ردها عليه , أو شرط البائع على المشتري أن لا يبيع السلعة ونحو ذلك فهذا شرط فاسد ; لأنه يخالف مقتضى العقد , لأن مقتضى البيع أن يتصرف المشتري في السلعة تصرفا مطلقا , ولقوله صلى الله عليه وسلم : " من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط " متفق عليه , والمراد بكتاب الله هنا حكمه ; ليشمل ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والبيع لا يبطل مع بطلان هذا الشرط ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة بريرة حينما اشترط بائعها ولاءها له إن أعتقت أبطل الشرط , ولم يبطل العقد , وقال صلى الله عليه وسلم : " إنما الولاء لمن أعتق "
* إنه ينبغي للمسلم الذي يشتغل بالبيع والشراء أن يتعلم أحكام البيع وما يصح فيه من الشروط وما لا يصح ; حتى يكون على بصيرة في معاملته , ولتنقطع الخصومات والمنازعات بين المسلمين ; فإن غالبها ينشأ من جهل المتبايعين أو أحدهما بأحكام البيع , واشتراطهم شروطا فاسدة .
باب في أحكام الخيار في البيع
* دين الإسلام دين سمح شامل , يراعي المصالح والظروف , ويرفع الحرج والمشقة عن الأمة , ومن ذلك ما شرعه في البيع من إعطاء الخيار للعاقد , ليتروى في أمره وينظر في مصلحته من وراء تلك الصفقة ; فيقدم على ما يؤمل من ورائه الخير , ويحجم ويتراجع عما لا يراه في مصلحته .
* فالخيار في البيع معناه طلب خير الأمرين من الإمضاء أو الفسخ
وهو ثمانية أقسام : -
أولا : خيار المجلس أي المكان الذي جرى فيه التبايع ; فلكل من المتبايعين الخيار ما داما في المجلس , ودليله قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا تبايع الرجلان ; فكل واحد منهما بالخيار , ما لم يتفرقا وكانا جميعا " قال العلامة ابن القيم رحمه الله : " في إثبات الشارع خيار المجلس في البيع حكمة ومصلحة للمتعاقدين , وليحصل تمام الرضى الذي شرطه تعالى بقوله : عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ فإن العقد يقع بغتة من غير ترو ولا نظر في القيمة ; فاقتضت محاسن هذه الشريعة الكاملة أن يجعل للعقد حرما يتروى فيه المتبايعان , ويعيدان النظر , ويستدرك كل واحد منهما , فلكل من المتبايعين الخيار بموجب هذا الحديث الشريف ; ما لم يتفرقا بأبدانهما من مكان التبايع , فإن أسقطا الخيار بأن تبايعا على أن لا خيار لهما أو أسقطه أحدهما سقط , ولزم البيع في حقهما أو حق من أسقطه منهما بمجرد العقد ; لأن الخيار حق للعاقد , فيسقط بإسقاطه ولقوله صلى الله عليه وسلم : ما لم يتفرقا أو يخير أحدهما الآخر ويحرم على أحدهما أن يفارق أخاه بقصد إسقاط الخيار ; لحديث عمرو بن شعيب وفيه : ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله
ثانيا : خيار الشرط بأن يشترط المتعاقدان الخيار في صلب العقد أو بعد العقد في مدة خيار المجلس مدة معلومة ; لقوله صلى الله عليه وسلم : المسلمون على شروطهم ولعموم قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ
ويصح أن يشترط المتبايعان الخيار لأحدهما دون الآخر ; لأن الحق لهما , فكيفما تراضيا جاز.
- ثالثا : خيار الغبن إذا غبن في البيع غبنا يخرج عن العادة ; فيخير المغبون منهما بين الإمساك والرد ; لقوله صلى الله عليه وسلم : لا ضرر ولا ضرار ولقوله صلى الله عليه وسلم : لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه والمغبون لم تطب نفسه بالغبن , فإن كان الغبن يسيرا قد جرت به العادة فلا خيار .
وخيار الغبن يثبت في ثلاث صور :
الصورة الأولى من صور خيار الغبن : تلقي الركبان , والمراد بهم القادمون لجلب سلعهم في البلد , فإذا تلقاهم , واشترى منهم , وتبين أنه قد غبنهم غبنا فاحشا ; فلهم الخيار , لقول النبي صلى الله عليه وسلم : لا تلقوا الجلب , فمن تلقاه فاشترى منه , فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار رواه مسلم ; فنهى صلى الله عليه وسلم عن تلقي الجلب خارج السوق الذي تباع فيه السلع , وأمر أنه إذا أتى البائع السوق الذي تعرف فيه قيم السلع , وعرف ذلك فهو بالخيار بين أن يمضي البيع أو يفسخ .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " أثبت النبي صلى الله عليه وسلم للركبان الخيار إذا تلقوا ; لأن فيه نوع تدليس وغش " . وقال ابن القيم : " نهى عن ذلك ; لما فيه من تغرير البائع , فإنه لا يعرف السعر , فيشتري منه المشتري بدون القيمة , ولذلك أثبت له النبي صلى الله عليه وسلم الخيار إذا دخل السوق , ولا نزاع في ثبوت الخيار له مع الغبن ; فإن الجالب إذا لم يعرف السعر كان جاهلا بثمن المثل , فيكون المشتري غارّا له , وكذا البائع إذا باعهم شيئا ; فلهم الخيار إذا هبطوا السوق , وعلموا أنهم غبنوا غبنا يخرج عن العادة " انتهى .
الصورة الثانية من صور خيار الغبن : الغبن الذي يكون سببه زيادة الناجش في ثمن السلعة , والناجش : هو الذي يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها , وإنما يريد رفع ثمنها على المشتري , وهذا عمل محرم , قد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ولا تناجشوا لما في ذلك من تغرير المشتري وخديعته , فهو في معنى الغش . ومن صور النجش المحرم أن يقول صاحب السلعة : أعطيت بها كذا وكذا وهو كاذب , أو يقول : اشتريتها بكذا وهو كاذب . ومن صور النجش المحرم أن يقول صاحب السلعة : لا أبيعها إلا بكذا أو كذا , لأجل أن يأخذها المشتري بقريب مما قال , كأن يقول في سلعة ثمنها خمسة : أبيعها بعشرة ; ليأخذها المشتري بقريب من العشرة .
الصورة الثالثة من صور الغبن الذي يثبت به الخيار : غبن المسترسل .
قال الإمام ابن القيم : " وفي الحديث : غبن المسترسل ربا والمسترسل : هو الذي يجهل القيمة ولا يحسن أن يناقص في الثمن , بل يعتمد على صدق البائع لسلامة سريرته , فإذا غبن غبنا فاحشا ; ثبت له الخيار " . والغبن محرم ; لما فيه من التغرير للمشتري . ومما يجري في بعض أسواق المسلمين - وهو محرم - أن بعض الناس حينما يجلب إلى السوق سلعة , يتفق أهل السوق على ترك مساومتها , ويعمدون واحدا منهم يسومها من صاحبها , فإذا لم يجد من يزيد عليه , اضطر لبيعها عليه برخص , ثم اشترك البقية مع المشتري , وهذا غبن وظلم محرم , ويثبت لصاحب السلعة - إذا علم بذلك - الخيار وسحب سلعته منهم ; فيجب على من يفعل مثل هذا التغرير أن يتركه ويتوب منه , ويجب على من علم ذلك أن ينكره على من يفعله ويبلغ المسئولين لردعهم عن ذلك .
- رابعا : خيار التدليس أي الخيار الذي يثبت بسبب التدليس , والتدليس : هو إظهار السلعة المعيبة بمظهر السليمة , مأخوذ من الدلسة بمعنى : الظلمة ; كأن البائع بتدليسه صير المشتري في ظلمة , فلم يتم إبصاره للسلعة , وهو نوعان :
النوع الأول : كتمان عيب السلعة .
والنوع الثاني : أن يزوقها وينمقها بما يزيد به ثمنها .
والتدليس حرام , وتسوغ به الشريعة للمشتري الرد , لأنه إنما بذل ماله في المبيع بناء على الصفة التي أظهرها له البائع , ولو علم أنه على خلافها لما بذل ماله فيها .
ومن أمثلة التدليس الواردة : تصرية الغنم والبقر والإبل , وهي حبس لبنها في ضروعها عند عرضها للبيع , فيظنها المشتري كثيرة اللبن دائما , قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تصروا الإبل والغنم , فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسك , وإن شاء ردها وصاعا من تمر
ومن أمثلة التدليس تزويق البيوت المعيبة للتغرير بالمشتري والمستأجر , وتزويق السيارات حتى تظهر بمظهر غير المستعملة للتغرير بالمشتري , وغير ذلك من أنواع التدليس . يجب على المسلم أن يصدق ويبين الحقيقة , قال صلى الله عليه وسلم : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا , فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما , وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الصدق في البيع والشراء من أسباب البركة , وأن الكذب من أسباب محق البركة , فالثمن وإن قل مع الصدق يبارك الله فيه , وإن كثر الثمن مع الكذب فهو ممحوق البركة لا خير فيه .
- خامسا : خيار العيب أي الخيار الذي يثبت للمشتري بسبب وجود عيب في السلعة لم يخبره به البائع أو لم يعلم به البائع , لكنه تبين أنه موجود في السلعة قبل البيع , وضابط العيب الذي يثبت به الخيار هو ما تنقص بسببه قيمة المبيع عادة أو تنقص به عينه , وترجع معرفة ذلك إلى التجار المعتبرين , فما عدوه عيبا , ثبت الخيار به , وما لم يعدوه عيبا ينقص القيمة أو عين المبيع , لم يعتبر , فإذا علم المشتري بالعيب بعد العقد , فله الخيار بين أن يمضي البيع ويأخذ عوض العيب , وهو مقدار الفرق بين قيمة المبيع صحيحا وقيمته معيبا , وبين أن يفسخ البيع ويرد السلعة ويسترجع الثمن الذي دفعه للمشتري .
- سادسا : ما يسمى بخيار التخبير بالثمن وهو ما إذا باع السلعة بثمنها الذي اشتراها به , فأخبره بمقداره , ثم تبين أنه أخبر بخلاف الحقيقة , كأن تبين أن الثمن أكثر أو أقل مما أخبره به , أو قال : أشركتك معي في هذه السلعة برأس مالي , أو قال : بعتك هذه السلعة بربح كذا وكذا على رأس مالي فيها , أو قال : بعتك هذه السلعة بنقص كذا وكذا عما اشتريتها به ; ففي هذه الصور الأربع إذا تبين أن رأس المال خلاف ما أخبره به ; فله الخيار بين الإمساك والرد , على قول في المذهب , والقول الثاني : أنه في هذه الحالة لا خيار للمشتري , ويجري الحكم على الثمن الحقيقي , ويسقط عنه الزائد , والله أعلم .
سابعا : خيار يثبت إذا اختلف المتبايعان في بعض الأمور , كما إذا اختلفا في مقدار الثمن , أو اختلفا في عين المبيع , أو قدره , أو اختلفا في صفته , ولا بينة لأحدهما , فحينئذ يتحالفان , فيحلف كل منهما على ما يدعيه , ثم بعد التحالف لكل منهما الفسخ إذا لم يرض بقول الأخر .
ثامنا : خيار يثبت للمشتري إذا اشترى شيئا بناء على رؤية سابقة , ثم وجده قد تغيرت صفته , فله الخيار حينئذ بين إمضاء البيع وفسخه , والله أعلم .
باب في أحكام التصرف في البيع قبل قبضه والإقالة
* نتناول في هذا الباب إن شاء الله أحكام التصرف في المبيع قبل قبضه - ما يصح وما لا يصح - مع بيان ما يحصل به قبض المبيع ويعد قبضا صحيحا , وما لا يعد قبضا صحيحا .
* اعلم أنه لا يصح التصرف في المبيع قبل قبضه إذا كان مكيلا أو موزونا أو معدودا أو مذروعا باتفاق الأئمة , وكذا إذا كان غير ذلك على الصحيح الراجح من قولي العلماء رحمهم الله , لقول النبي صلى الله عليه وسلم : من ابتاع طعاما , فلا يبعه حتى يستوفيه متفق عليه , وفي لفظ : حتى يقبضه ولمسلم : حتى يكتاله .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : " ولا أحسب غيره إلا مثله " , أي غير الطعام , بل ورد ذلك صريحا كما روى الإمام أحمد : إذا اشتريت شيئا , فلا تبعه حتى تقبضه وروى أبو داود : نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التاجر إلى رحالهم
قال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله : " علة النهي عن البيع قبل القبض عجز المشتري عن تسلمه ; لأن البائع قد يسلمه وقد لا يسلمه , لا سيما إذا رأى المشتري قد ربح , فإنه يسعى في رد البيع ; إما بجحد أو احتيال على الفسخ , وتأكد ذلك بالنهي عن ربح ما لم يضمن " انتهى .
فيجب على المسلمين أن يتقيدوا بذلك , فإذا اشترى المسلم سلعة , لم يقدم على التصرف فيها ببيع أو غيره حتى يقبضها قبضا تاما , وهذا مما يتساهل فيه كثير من الناس أو يتجاهلونه , فيشترون السلع ثم يبيعونها وهم لم يقبضوها من البائع أصلا أو قبضوها قبضا ناقصا لا يعد قبضا صحيحا , كأن يعد الأكياس أو الطرود أو الصناديق وهي في محل البائع , ثم يذهب ويبيعها على آخر , وهذا لا يعد قبضا صحيحا , يترتب علية جواز تصرف المشتري فيها .
* فإن قلت : ما هو القبض الصحيح الذي يسوغ للمشتري التصرف في السلعة ؟ فالجواب أن قبض السلع يختلف باختلاف نوعيتها , وكل نوع له قبض يناسبه , فإذا كان المبيع مكيلا فقبضه بالكيل , وإن كان موزونا فقبضه بالوزن , وإن كان معدودا فقبضه بالعد , وإن كان مذروعا فقبضه بالذرع , مع حيازة هذه الأشياء إلى مكان المشتري , وما كان كالثياب والحيوانات والسيارات فقبضه بنقله إلى مكان المشتري , وإن كان المبيع مما يتناول باليد كالجواهر والكتب ونحوها فقبضه يحصل بتناول المشتري له بيده وحيازته , وإن كان المبيع مما لا يمكن نقله من مكانه ; كالبيوت والأراضي والثمر على رءوس الشجر , فقبضه يحصل بالتخلية , بأن يمكن منه المشتري , ويخلى بينه وبينه ليتصرف فيه تصرف المالك , وتسليم الدار ونحوها بأن يفتح له بابها أو يسلمه مفتاحها .
* وقد مر من الأحاديث في النهي عن التصرف في المبيع قبل قبضه المعتبر شرعا ; لما في ذلك من المصلحة للمشتري والبائع ; من قطع النزاع , والسلامة من الخصومات التي كثيرا ما تنشب بين الناس بسبب تساهلهم في القبض وعدم تفقد المشتري للسلعة واستيفائها بالوفاء والتمام وانقطاع عهدة البائع بها , وهذا أمر ينبغي للمسلم التقيد به وتطبيقه في معاملته .
* وكثير من الناس اليوم يتساهلون في قبض السلع , ويتصرفون فيها قبل القبض الشرعي , فيرتكبون ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم , فيقعون في الخصومات والمنازعات , أو يصابون بالندامة عندما تنكشف لهم السلعة على حقيقتها وقد تورطوا فيها ; فلا يستطيعون الخلاص منها إلا بمرافعات ومدافعات , وهكذا كل من خالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فلا بد أن يندم ويقع في الحرج .
* ومما حث عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ورغب فيه : إقالة أحد المتعاقدين للآخر بفسخ البيع عندما يندم على العقد أو تزول حاجته بالسلعة أو يعسر بالثمن , قال النبي صلى الله عليه وسلم : من أقال مسلما أقال الله عثرته يوم القيامة والإقالة معناها : رفع العقد , ورجوع كل من المتعاقدين بما كان له من غير زيادة ولا نقص , وهي من حق المسلم على أخيه المسلم عندما يحتاج إليها , وهي من حسن المعاملة , ومن مقتضى الأخوة الإيمانية .
باب في بيان الربا وحكمه
* هذا الموضوع من أخطر المواضيع , وهو موضوع الربا الذي أجمعت الشرائع على تحريمه وتوعد الله المتعامل به بأشد الوعيد : قال تعالى : الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ فأخبر سبحانه أن الذين يتعاملون بالربا ( لا يقومون ) أي من قبورهم عند البعث ( إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) أي إلا كما يقوم المصروع حال صرعه , وذلك لتضخم بطونهم بسبب أكلهم الربا في الدنيا .
كما توعد الله سبحانه الذي يعود إلى أكل الربا بعد معرفة تحريمه بأنه من أصحاب النار الخالدين فيها , قال تعالى : وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
كما أخبر الله سبحانه أنه يمحق بركة الربا , قال تعالى : يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا أي يمحق بركة المال الذي خالطه الربا فمهما كثرت أموال المرابي وتضخمت فهي ممحوقة البركة لا خير فيها , وإنما هي وبال على صاحبها , تعب في الدنيا وعذاب في الآخرة , ولا يستفيد منها . وقد وصف الله المرابي بأنه كفار أثيم , قال تعالى : يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ فأخبر الله سبحانه أنه لا يحب المرابي , وحرمانه من محبة الله يستلزم أن الله يبغضه ويمقته , وتسميته كَفّارا , أي : مبالغا في كفر النعمة , وهو الكفر الذي لا يخرج من الملة ; فهو كفار لنعمة الله ; لأنه لا يرحم العاجز , ولا يساعد الفقير , ولا ينظر المعسر , أو المراد أنه كَفّار الكفرَ المخرج من الملة إذا كان يستحل الربا , وقد وصفه الله في هذه الآية بأنه أثيم ; أي : مبالغ في الإثم , منغمس في الأضرار المادية والخلقية .
وقد أعلن الله الحرب منه ومن رسوله على المرابي لأنه عدو لهما إن لم يترك الربا , ووصفه بأنه ظالم , قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ وإلى جانب هذه الزواجر القرآنية عن التعامل بالربا جاءت زواجر في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ; فقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر الموبقة ; أي المهلكة , ولعن صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه , كما أخبر صلى الله عليه وسلم أن درهما واحدا من الربا أشد من ثلاث وثلاثين زنية في الإسلام , أو ست وثلاثين زنية وأخبر أن الربا اثنان وسبعون بابا , أدناها مثل إتيان الرجل أمه
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وتحريم الربا أشد من تحريم الميسر , وهو القمار , لأن المرابي قد أخذ فضلا محققا من محتاج , والمقامر قد يحصل له فضل وقد لا يحصل له فضل ; فالربا ظلم محقق , لأن فيه تسليط الغني على الفقير ; بخلاف القمار فإنه قد يأخذ فيه الفقير من الغني , وقد يكون المتقامران متساويين في الغنى والفقر ; فهو وإن كان أكلا للمال بالباطل , وهو محرم ; فليس فيه من ظلم المحتاج وضرره ما في الربا , ومعلوم أن ظلم المحتاج أعظم من ظلم غير المحتاج " انتهى .
وأكل الربا من صفات اليهود التي استحقوا عليها اللعنة الخالدة والمتواصلة , قال الله تعالى : فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
* والحكمة في تحريم الربا : أن فيه أكلا لأموال الناس بغير حق , لأن المرابي يأخذ منهم الربا من غير أن يستفيدوا شيئا في مقابله , وأن فيه إضرارا بالفقراء والمحتاجين بمضاعفة الديون عليهم عند عجزهم عن تسديدها , وأن فيه قطعا للمعروف بين الناس , وسدا لباب القرض الحسن , وفتحا لباب القرض بالفائدة التي تثقل كاهل الفقير , وفيه تعطيل للمكاسب والتجارات والحرف والصناعات التي لا تنتظم مصالح العالم إلا بها , لأن المرابي إذا تحصل على زيادة ماله بواسطة الربا بدون تعب ; فلن يلتمس طرقا أخرى للكسب الشاق , والله تعالى جعل طريق تعامل الناس في معايشهم قائما على أن تكون استفادة كل واحد من الآخر في مقابل عمل يقوم به نحوه أو عين يدفعها إليه , والربا خال عن ذلك ; لأنه عبارة عن إعطاء المال مضاعفا من طرف لآخر بدون مقابلة من عين ولا عمل .
* والربا في اللغة معناه الزيادة , وهو في الشرع زيادة في أشياء مخصوصة ,
وينقسم إلى قسمين : ربا النسيئة , وربا الفضل .
* بيان ربا النسيئة وربا النسيئة مأخوذ من النسء , وهو التأخير , وهو نوعان : أحدهما : قلب الدين على المعسر , وهذا هو أصل الربا في الجاهلية أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجل , فإذا حل الأجل ; قال له : أتقضي أم تربي ؟ فإن وفاه وإلا زاد هذا في الأجل وزاد هذا في المال , فيتضاعف المال في ذمة المدين , فحرم الله ذلك بقوله : وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ فإذا حل الدين , وكان الغريم معسرا , لم يجز أن يقلب الدين عليه , بل يجب إنظاره , وإن كان موسرا كان عليه الوفاء ; فلا حاجة إلى زيادة الدين مع يسر المدين ولا مع عسره .
النوع الثاني من ربا النسيئة : ما كان في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل مع تأثير قبضهما أو قبض أحدهما ; كبيع الذهب بالذهب , والفضة بالفضة , والبر بالبر , والشعير بالشعير , والتمر بالتمر , والملح بالملح , وكذا بيع جنس بجنس من هذه المذكورات مؤجلا , وما شارك هذه الأشياء في العلة يجري مجراها وسيأتي بيان ذلك .
* بيان ربا الفضل وربا الفضل مأخوذ من الفضل , وهو عبارة عن الزيادة في أحد العوضين .
وقد نص الشارع على تحريمه في ستة أشياء هي : الذهب , والفضة , والبر , والشعير , والتمر , والملح , فإذا بيع أحد هذه الأشياء بجنسه , حرم التفاضل بينهما قولا واحدأ ; لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعا : " الذهب بالذهب , والفضة بالفضة , والبر بالبر , والشعير بالشعير , والتمر بالتمر , والملح بالملح ; مثلا بمثل , يدا بيد " رواه الإمام أحمد ومسلم , فدل الحديث على تحريم بيع الذهب بالذهب بجميع أنواعه من مضروب وغيره , وعن بيع الفضة بالفضة بجميع أنواعها ; إلا مثلا بمثل , يدا بيد , سواء بسواء , وعن بيع البر بالبر , والشعير بالشعير , والتمر بالتمر ; بجميع أنواعها , والملح بالملح ; إلا متساوية , مثلا بمثل , سواء بسواء , يدا بيد ,
ويقاس على هذه الأشياء الستة ما شاركها في العلة ; فيحرم فيه التفاضل عند جمهور أهل العلم ; إلا أنهم اختلفوا في تحديد العلة . والصحيح أن العلة في النقدين الثمنية , فيقاس عليهما كل ما جعل أثمانا ; كالأوراق النقدية المستعملة في هذه الأزمنة , فيحرم فيها التفاضل إذا بيع بعضها ببعض مع اتحاد الجنس بأن تكون صادرة من دولة واحدة .
والصحيح أن العلة في بقية الأصناف الستة البر والشعير والتمر والملح هي الكيل أو الوزن , مع كونها مطعومة , فيتعدى الحكم إلى ما شاركوا في تلك العلة مما يكال أو يوزن وهو مما يطعم , فيحرم فيه ربا التفاضل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " والعلة في تحريم ربا الفضل الكيل أو الوزن مع الطعم , وهو رواية عن أحمد " انتهى . فعلى هذا , كل ما شرك هذه الأشياء الستة المنصوص عليها في تحقق هذه العلة فيه , بأن يكون مكيلا مطعوما أو موزونا مطعوما أو تحققت فيه علة الثمنية إن كان من النقود , فإنه يدخله الربا : فإن انضاف إلى العلة اتحاد الجنس ; كبيع بر ببر مثلا , حرم فيه التفاضل والتأجيل ; لقوله صلى الله عليه وسلم : الذهب بالذهب , والفضة بالفضة , والبر بالبر , والشعير بالشعير , والتمر بالتمر , والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد وإن اتحدت العلة مع اختلاف الجنس , كالبر بالشعير ; حرم فيه التأجيل , وجاز فيه التفاضل ; لقوله صلى الله عليه وسلم : فإذا اختلفت هذه الأشياء فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد رواه مسلم وأبو داود , ومعنى قوله : " يدا بيد " ; أي حالا مقبوضا في المجلس قبل افتراق أحدهما عن الآخر .
وإن اختلفت العلة والجنس ; جاز الأمران : التفاضل , والتأجيل ; كالذهب بالبر , والفضة بالشعير . ثم لنعلم أنه لا يجوز بيع مكيل بجنسه إلا كيلا ولا موزون بجنسه إلا وزنا ; لقوله صلى الله عليه وسلم : الذهب بالذهب وزنا بوزن , والفضة بالفضة وزنا بوزن , والبر بالبر كيلا بكيل , والشعير بالشعير كيلا بكيل ولأن ما خولف فيه معياره الشرعي لا يتحقق فيه التساوي , فلا يجوز بيع مكيل بجنسه جزافا , ولا بيع موزون بجنسه جزافا ; لعدم العلم بالتساوي , والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل .
* ثم إن تعريف الصرف
هو بيع نقد بنقد سواء اتحد الجنس أو اختلف , وسواء كان النقد من الذهب أو الفضة أو من الأوراق النقدية المتعامل بها في هذا الزمان ; فإنها تأخذ حكم الذهب والفضة ; لاشتراكهما معا في علة الربا , وهي الثمنية . - فإذا بيع نقد بجنسه ; كذهب بذهب , أو فضة بفضة , أو ورق نقدي بجنسه ; كدولار بمثله , أو دراهم ورقية سعودية بمثلها ; وجب حينئذ التساوي في المقدار والتقابض في المجلس .
- وإن بيع نقد بنقد من غير جنسه ; كدراهم سعودية ورقية بدولارات أمريكية مثلا , وكذهب بفضة ; وجب حينئذ شيء واحد , وهو الحلول والتقابض في المجلس , وجاز التفاضل في المقدار , وكذا إذا بيع حلي من الذهب بدراهم فضة أو بورق نقدي ; وجب الحلول والتقابض في المجلس , وكذا إذا بيع حلي من الفضة بذهب مثلا .
- أما إذا بيع الحلي من الذهب أو الفضة بحلي أو نقد من جنسه ; كأن يباع الحلي من الذهب بذهب , والحلي من الفضة بفضة ; وجب الأمران : التساوي في الوزن , والحلول والتقابض في المجلس .
* وخطر الربا عظيم , ولا يمكن التحرز منه إلا بمعرفة أحكامه , ومن لم يستطع معرفتها بنفسه ; فعليه أن يسأل أهل العلم عنها , ولا يجوز له أن يقدم على معاملة إلا بعد تأكده من خلوها من الربا ; ليسلم بذلك دينه , وينجو من عذاب الله الذي توعد به المرابين , ولا يجوز تقليد الناس فيما هم عليه من غير بصيرة ; خصوصا في وقتنا هذا الذي كثر فيه عدم المبالاة بنوعية المكاسب , وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه في آخر الزمان يكثر استعمال الربا , ومن لم يأكله , ناله من غباره .
* ومن المعاملات الربوية المعاصرة قلب الدين على المعسر إذا حل ولم يكن عنده سداد ; زيد عليه الدين بكميات ونسبة معينة حسب التأخير , وهذا هو ربا الجاهلية , وهو حرام بإجماع المسلمين , وقال الله تعالى فيه : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ففي هذه الآية الكريمة جملة تهديدات عن تعاطي هذا النوع من الربا :
أولا : أنه سبحانه نادى عباده باسم الإيمان : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وقال : إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فدل على أن تعاطي الربا لا يليق بالمؤمن .
ثانيا : قال تعالى : اتَّقُوا اللَّهَ فدل على أن الذي يتعاطى الربا لا يتقي الله ولا يخافه .
ثالثا : قال تعالى : وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا أي : اتركوا , وهذا أمر بترك الربا , والأمر يفيد الوجوب , فدل على أن من يتعاطى الربا قد عصى أمر الله .
رابعا : أنه سبحانه أعلن الحرب على من لم يترك التعامل بالربا ; فقال تعالى : فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أي لم تتركوا الربا ; فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي : اعلموا أنكم تحاربون الله ورسوله .
خامسا : تسمية المرابي ظالما , وذلك في قوله تعالى : فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ
* ومن المعاملات الربوية : القرض بالفائدة بأن يقرضه شيئا , بشرط أن يوفيه أكثر منه , أو يدفع إليه مبلغا من المال على أن يوفيه أكثر منه بنسبة معينة , كما هو المعمول به في البنوك , وهو ربا صريح , فالبنوك تقوم بعقد صفقات القروض بينها وبين ذوي الحاجات وأرباب التجارات وأصحاب المصانع والحرف المختلفة , فتدفع لهؤلاء مبالغ من المال نظير فائدة محددة بنسبة مئوية , وتزداد هذه النسبة في حالة التأخر عن السداد في الموعد المحدد , فيجتمع في ذلك الربا بنوعيه ; ربا الفضل , وربا النسيئة .
* ومن المعاملات الربوية ما يجري في البنوك من الإيداع بالفائدة وفي الودائع الثابتة إلى أجل , يتصرف فيها البنك إلى تمام الأجل , ويدفع لصاحبها فائدة ثابتة بنسبة معينة في المائة ; كعشرة أو خمسة في المائة .
* ومن المعاملات الربوية بيع العينة
وهو أن يبيع سلعة بثمن مؤجل على شخص , ثم يعود ويشتريها منه بثمن حالّ أقل من الثمن المؤجل , وسميت هذه المعاملة بيع العينة , لأن مشتري السلعة إلى أجل يأخذ بدلها عينا ; أي نقدا حاضرا , والبيع بهذه الصورة إنما هو حيلة للتوصل إلى الربا , وقد جاء النهي عن هذه المعاملة في أحاديث وآثار كثيرة , منها قوله صلى الله عليه وسلم : إذا تبايعتم بالعينة , وأخذتم أذناب البقر , ورضيتم بالزرع , وتركتم الجهاد , سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم رواه أبو داود , وقال صلى الله عليه وسلم : يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع
* فاحذروا من دخول الربا في معاملاتكم , واختلاطه بأموالكم , فإن أكل الربا وتعاطيه من أكبر الكبائر , وما ظهر الربا والزنى في قوم إلا ظهر فيهم الفقر والأمراض المستعصية وظلم السلطان , والربا يهلك الأموال ويمحق البركات .
* لقد شدد الله الوعيد على أكل الربا , وجعل أكله من أفحش الخبائث وأكبر الكبائر , وبين عقوبة المرابي في الدنيا والآخرة , وأخبر أنه محارب لله ولرسوله ; فعقوبته في الدنيا أنه يمحق بركة المال ويعرضه للتلف والزوال , فكم تسمعون من تلف الأموال العظيمة بالحريق والغرق والفيضان , فيصبح أهلها فقراء بين الناس , وإن بقيت هذه الأموال الربوية بأيدي أصحابها , فهي ممحوقة البركة , لا ينتفعون منها بشيء , إنما يقاسون أتعابها , ويتحملون حسابها , ويصلون عذابها , والمرابي مبغوض عند الله وعند خلقه ; لأنه يأخذ ولا يعطي , يجمع ويمنع , لا ينفق ولا يتصدق , شحيح جشع , جموع منوع , تنفر منه القلوب , وينبذه المجتمع ; وهذه عقوبة عاجلة , وعقوبته الآجلة أشد وأبقى ; كما بينها الله في كتابه , وما ذاك إلا لأن الربا مكسب خبيث , وسحت ضار , وكابوس ثقيل على المجتمعات البشرية .
باب في أحكام بيع الأصول
* الأصول هي
الدور والأراضي والأشجار , وما يتبع تلك الأصول إذا بيعت مما يتعلق بها ; فيكون للمشتري , وما لا يتبعها , فيبقى على ملك البائع , ومعرفة ذلك ينحسم بها النزاع بين الطرفين , ويعرف كل ما له وما عليه , لأن ديننا لم يترك شيئا لنا فيه مصلحة أو علينا فيه مضرة إلا بينه , فإذا طبق هذا الدين ونفذت أحكامه ; لم يبق مجال للنزاع والخصومات , ومن ذلك ما نحن بصدد الحديث عنه ; فقد يبيع الإنسان شيئا من ماله , وهذا الشيء يتعلق به توابع ومكملات ومرافق , أو يكون له نماء متصل أو منفصل , فيقع اختلاف بين المتبايعين : أيهما يستحق هذه التوابع ; ولأجل الحكم بينهما في هذا الاختلاف ; عقد الفقهاء رحمهم الله بابا في الفقه الإسلامي سموه : " باب بيع الأصول والثمار " , بينوا فيه ذلك .
* فإذا باع دارا ; شمل البيع بناءها وسقفها , لأن ذلك كله داخل في مسمى الدار , وشمل أيضا ما يتصل بها مما هو من مصلحتها ; كالأبواب المنصوبة , والسلالم , والرفوف المسمرة بها , والآليات المركبة فيها , كالرافعات , والأدوات الكهربائية , والقناديل المعلقة للإضاءة , وخزانات المياه المدفونة في الأرض , أو المثبتة فوق السطوح , والأنابيب الممدة لتوزيع الماء , وأدوات التكييف المثبتة في أماكنها لتكييف الهواء أو لتسخين الماء , ويشمل البيع أيضا ما في الدار من أشجار وزراعة , وما أقيم فيها من مظلات , ويشمل البيع أيضا ما في باطن أرض الدار من معدن جامد .
أما ما كان مودعا في الدار وما هو منفصل عنها ; فلا يشمله البيع ; كالأخشاب , والحبال , والأواني , والفرش المنفصلة , وما دفن في أرضها للحفظ ; كالحجارة , والكنوز , وغيرها , فكل هذه الأشياء لا يشملها البيع ; لأنها منفصلة عن الدار ; فلا تدخل في مسماها ; إلا ما كان يتعلق بمصلحتها , كالمفاتيح , فإنه يتبعها , ولو كان منفصلا عنها .
* وإذا باع أرضا , شمل البيع كل ما هو متصل بها مما يستمر بقاؤه فيها ; كالغراس , والبناء.
* وكذا لو باع بستانا ; شمل البيع أرضه , وشجره , وحيطانه , وما فيه من منازل , ولو باع أرضا فيها زرع لا يحصد إلا مرة , كالبر والشعير , فهو للبائع , ولا يشمله العقد , وإن كان في الأرض المبيعة زرع يجز مرارا , كالقث , أو يلقط مرارا ; كالقثاء والباذنجان , فإن أصوله تكون لمشتري الأرض تبعا للأرض , وأما الجزة واللقطة الظاهرتان عند البيع , فإنهما تكونان للبائع .
* وكل ما ذكر من هذا التفصيل فيما يتبع البائع وما يتبع المشتري عند بيع الأصول إذا لم يوجد شرط بينهما , أما إذا وجد شرط يلحق هذه الأشياء بأحدهما دون الآخر ; وجب العمل به , لقوله صلى الله عليه وسلم : المسلمون على شروطهم
* ومن باع نخلا قد أبّر طلعه , فثمره للبائع , لقول النبي صلى الله عليه وسلم : من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر , فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترطه المبتاع متفق عليه , والتأبير هو التلقيح , ومثل النخل في هذا الحكم شجر العنب والتوت والرمان , إذا بيع بعد ظهور ثمره ; كان ثمره للبائع , وما قبل التأبير في النخل والظهور في العنب ونحوه يكون للمشتري ; لمفهوم الحديث الشريف في النخيل , وقياس غيره عليه .
* ومن هذا تفهم كمال هذه الشريعة الإسلامية , وحلها لمشاكل الناس , وأنها تعطي كل ذي حق حقه ; من غير ظلم ولا إضرار بالآخرين ; فما من مشكلة إلا وضعت لها حلا كافيا , مشتملا على المصلحة والحكمة , تشريع من حكيم حميد , يعلم مصالح عباده وما يضرهم في كل زمان ومكان .
وصدق الله العظيم حيث يقول : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا فلا يحسم النزاع بين الناس ويحقق المصالح ويقنع النفوس المؤمنة ; إلا حكم الله ورسوله , أما أنظمة البشر , فهي قاصرة قصور البشر , وتدخلها الأهواء والنزعات ; كما قال الله تعالى : وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ فتبا وبعدا وسحقا لعقول تستبدل حكم الله ورسوله بقوانين البشر , أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ نسأل الله أن ينصر دينه , ويعلي كلمته , ويحمي المسلمين من كيد أعدائهم , إنه سميع مجيب .
باب في أحكام بيع الثمار
* المراد بالثمار ما على النخيل وغيرها من الثمار المقصودة للأكل .
* إذا بيعت هذه الثمار دون أصولها ; فإنه لا يصح ذلك قبل بدو صلاحها ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها نهى البائع والمبتاع متفق عليه ; فنهى صلى الله عليه وسلم البائع عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها ; لئلا يأكل المال بالباطل , ونهى المشتري ; لأنه يعين على أكل المال بالباطل , وفي " الصحيحين " : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهو . قيل : وما زهوها ؟ قال : تحمار أو تصفار والنهي في الحديثين يقتضي فساد المبيع وعدم صحته .
* وكذا لا يجوز بيع الزرع قبل اشتداد حبه لما روى مسلم عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو , وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة ; نهى البائع والمشتري فدل هذا الحديث على منع بيع الزرع حتى يبدو صلاحه , وبدو صلاحه أن يبيض ويشتد ويأمن العاهة .
* والحكمة في النهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه وعن بيع الزرع قبل اشتداد حبه , لأنه في تلك الفترة معرض للآفات غالبا , معرض للتلف ; كما بيّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : أرأيت إن منع الله الثمرة ; بم يأخذ أحدكم مال أخيه وقال في السنبل : حتى يبيض ويأمن العاهة والعاهة هي الآفة التي تصيبه فيفسد , وفي ذلك رمة بالناس , وحفظ لأموالهم , وقطع للنزاع الذي قد يفضي إلى العداوة والبغضاء .
* ومن هنا ندرك حرمة مال المسلم ; فقد قال صلى الله عليه وسلم : أرأيت إن منع الله الثمرة ; بم يستحل أحدكم مال أخيه ؟ ففي هذا تنبيه وزجر للذين يحتالون على الناس لاقتناص أموالهم بشتى الحيل ; كما أن في الحديث حثا للمسلم على حفظ ماله وعدم إضاعته ; حيث نهى النبي صلى الله عليه وسلم المشتري أن يشتري الثمرة قبل بدو صلاحها وغلبة السلامة عليها , لأنها لو تلفت وقد بذل فيها ماله ; لضاع عليه , وصعب استرجاعه من البائع أو تعذر .
كما نفهم من الحديث الشريف تعليق الحكم بالغالب , لأن الغالب على الثمرة قبل بدو صلاحها التلف ; فلا يجوز بيعها , والغالب عليها بعد بدو صلاحها السلامة , فيجوز بيعها . ونأخذ من الحديث أيضا أنه لا يجوز للإنسان أن يخاطر بماله ويعرضه للضياع , ولو عن طريق المعاوضة غير المأمونة العاقبة .
* وحيث علمنا مما سبق أنه لا يجوز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها ; فإنما يعني ذلك إذا بيعت منفردة عن أصولها بشرط البقاء , أما إذا كانت تابعة لأصولها أو بغير شرط البقاء , فإن ذلك يجوز , وذلك في ثلاث صور ذكرها الفقهاء رحمهم الله :
الصورة الأولى : إذا بيع الثمر قبل بدو صلاحه بأصوله ; بأن يبيع الثمر مع الشجر , فيصح ذلك , ويدخل الثمر تبعا , وكذا إذا باع الزرع الأخضر مع أرضه ; جاز ذلك , ودخل الزرع الأخضر تبعا .
الصورة الثانية : إذا بيع الثمر قبل بدو صلاحه أو الزرع الأخضر لمالك الأصل ; أي : مالك الشجر أو مالك الأرض , جاز ذلك أيضا ; لأنه إذا باعهما لمالك الأصل , فقد حصل التسليم للمشتري على الكمال لملكه الأصل والقرار , فصح البيع ; على خلاف في هذه الصورة ; لأن بعض العلماء يرى أن هذه الصورة تدخل في عموم النهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه .
الصورة الثالثة : بيع الثمر قبل بدو صلاحه والزرع قبل اشتداد حبه بشرط القطع في الحال , وكان يمكن الانتفاع بهما إذا قطعا , لأن المنع من البيع لخوف التلف وحدوث العاهة , وهذا مأمون فيما يقطع في الحال , أما إذا لم ينتفع بهما إذا قطعا , فإنه لا يصح بيعهما , لأن ذلك إفساد وإضاعة للمال , وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال .
* ويجوز على الصحيح من قولي العلماء بيع ما يتكرر أخذه كالقت والبقل والقثاء والباذنجان , فيجوز بيع لقطته وجزته الحاضرة والمستقبلة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " الصحيح أن هذه لم تدخل في نهي النبي صلى الله عليه وسلم , بل يصح العقد على اللقطة الموجودة واللقطة المعدومة إلى أن تيبس المقثاة , لأن الحاجة داعية إلى ذلك , فيجوز بيع المقاثي دون أصولها " .
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله : " وإنما نهى عن بيع الثمار التي يمكن تأخير بيعها حتى يبدو صلاحها , فلم تدخل المقاثي في نهيه " انتهى .
باب في وضع الجوائح
* الجوائح جمع جائحة , وهي الآفة التي تصيب الثمار فتهلكها , مأخوذة من الجوح وهو الاستئصال .
* فإذا بيعت الثمرة بعد بدو صلاحها , حيث يجوز بيعها عند ذلك , فأصيبت بآفة سماوية أتلفتها , والآفة السماوية هي ما لا صنع للآدمي فيها ; كالريح , والحر , والعطش , والمطر , والبرد , والجراد . .. ونحو ذلك من الآفات القاهرة التي تأتي على الثمار فتتلفها , فإذا كانت هذه الثمرة التالفة قد بيعت ولم يتمكن المشتري من أخذها حتى أصيبت وتلفت , فإن المشتري يرجع على البائع , ويسترد منه الثمن الذي دفعه له ; لحديث جابر رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح رواه مسلم , فدل هذا الحديث على أن الثمرة التالفة تكون من ملك البائع , وأنه لا يستحق على المشتري من ثمنها شيئا , فإن تلفت كلها ; رجع المشتري بالثمن كله , وإن تلف بعضها , رجع المشتري على البائع فيما يقابله من الثمن , لعموم الحديث , وسواء كان البيع قبل بدو الصلاح أو بعده ; لعموم الحديث , ولقوله صلى الله عليه وسلم : بم تأخذ مال أخيك بغير حق ؟
وإذا كان التالف يسيرا لا ينضبط ; فإنه يفوت على المشتري , ولا يكون من مسئولية البائع ; لأن هذا مما جرت به العادة , ولا يسمى جائحة , ولا يمكن التحرز منه , كما لو أكل منه الطير أو تساقط في الأرض ونحو ذلك , وحدده بعض العلماء بما دون الثلث , والأقرب أنه لا يتحدد بذلك , بل يرجع فيه إلى العرف ; لأن التحديد يحتاج إلى دليل .
* وقد علل العلماء رحمهم الله تضمين البائع جائحة الثمرة بأن قبض الثمرة على رءوس الشجر بالتخلية قبض غير تام , فهو كما لو لم يقبضها .
* هذا ما يتعلق بتلف الثمرة بجائحة سماوية , أما إذا تلفت بفعل آدمي بنحو حريق ; فإنه حينئذ يخير المشتري بين فسخ البيع ومطالبة البائع بما دفع من الثمن ويرجع البائع على المتلف فيطالبه بضمان ما أتلف , وبين إمضاء البيع ومطالبة المتلف ببدل ما أتلف .
* وعلامة بدو الصلاح في غير النخل - أي : العلامة التي يعرف بها صلاح الثمرة الذي علق عليه النبي صلى الله عليه وسلم جواز بيعها في غير النخل - تختلف باختلاف الشجر ; فبدو الصلاح في العنب : أن يتموه حلوا ; لقول أنس : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العنب حتى يسود رواه أحمد ورواته ثقات , وعلامة بدو الصلاح في بقية الثمار كالتفاح والبطيخ والرمان والمشمش والخوخ والجوز ونحو ذلك : أن يبدو فيه النضج ويطيب أكله ; لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الثمرة حتى تطيب متفق عليه , وفي لفظ : حتى يطيب أكلها وبدو الصلاح في نحو قثاء أن يؤكل عادة , وعلامة بدو الصلاح في الحب أن يشتد ويبيض , لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل اشتداد الحب غاية لصحة بيعه .
باب فيما يتبع المبيع وما لا يتبعه
باب في ما يتبع المبيع وما لا يتبعه هناك أشياء تدخل تبع المبيع , فتكون للمشتري ; ما لم يستثنها البائع , من ذلك :
* من باع عبدا أو دابة , تبع المبيع ما على العبد من ثياب العادة , وما على الدابة من اللجام والمقود والنعل , فيدخل ما ذكر في مطلق البيع ; لجريان العادة به , وما لم تجر العادة بتبعيته للمبيع ولم يكن من حاجة المبيع , كمال العبد وما عليه من ثياب الجمال ; فهذا لا يتبع المبيع ; لقوله صلى الله عليه وسلم : من باع عبدا وله مال ; فماله لبائعه ; إلا أن يشترط المبتاع رواه مسلم ; فدل على أن مال العبد لا يدخل معه في البيع إذا بيع , لأن البيع إنما يقع على العبد , والمال زائد عنه , فهو كما لو كان له عبدان , فباع أحدهما , ولأن العبد وماله لسيده , فإذا باع العبد ; بقي المال .
* فإذا اشترط المشتري دخول المال الذي مع العبد في البيع , دخل , لقوله صلى الله عليه وسلم : إلا أن يشترط المبتاع
باب في أحكام السلم
* السلم أو السلف تعريفه
هو تعجيل الثمن , وتأجيل المثمن , ويعرفه الفقهاء رحمهم الله بأنه عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض في مجلس العقد .
* وهذا النوع من التعامل جائز بالكتاب والسنة والإجماع : - قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ قال ابن عباس رضي الله عنهما : " أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه " , ثم قرأ هذه الآية .
- ولما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث , قال : من أسلف في شيء ( وفي لفظ : في ثمر ) ; فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم متفق عليه , فدل هذا الحديث على جواز السلم بهذه الشروط .
- وقد حكى ابن المنذر وغيره إجماع العلماء على جوازه . وحاجة الناس داعية إليه ; لأن أحد المتعاقدين يرتفق بتعجيل الثمن , والآخر يرتفق برخص المثمن .
* ويشترط لصحة السلم شروط خاصة زائدة على شروط البيع :
الشرط الأول : انضباط صفات السلعة المسلم فيها ; لأن ما لا يمكن ضبط صفاته يختلف كثيرا , فيفضي إلى المنازعة بين الطرفين ; فلا يصح السلم فيما تختلف صفاته ; كالبقول , والجلود , والأواني المختلفة , والجواهر .
الشرط الثاني : ذكر جنس المسلم فيه ونوعه , فالجنس كالبر , والنوع كالسلموني مثلا , وهو نوع من البر .
الشرط الثالث : ذكر قدر المسلم فيه بكيل أو وزن أو ذرع , لقوله صلى الله عليه وسلم : من أسلف في شيء ; فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم متفق عليه , ولأنه إذا جهل مقدار المسلم فيه ; تعذر الاستيفاء .
الشرط الرابع : ذكر أجل معلوم , لقوله صلى الله عليه وسلم : إلى أجل معلوم وقوله تعالى : إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ فدلت الآية الكريمة والحديث الشريف على اشتراط التأجيل في السلم , وتحديد الأجل بحد يعلمه الطرفان .
الشرط الخامس : أن يوجد المسلم فيه غالبا في وقت حلول أجله ; ليمكن تسليمه في وقته , فإن كان المسلم فيه لا يوجد في وقت الحلول ; لم يصح السلم ; كما لو أسلم في رطب وعنب إلى الشتاء .
الشرط السادس : أن يقبض الثمن تاما معلوم المقدار في مجلس العقد , لقوله صلى الله عليه وسلم : من أسلف في شيء , فليسلف في كيل معلوم . .. الحديث ; أي : فليعط . قال الإمام الشافعي رحمه الله : " لأنه لا يقع اسم السلف فيه حتى يعطيه ما أسلفه قبل أن يفارق من أسلفه , ولأنه إذا لم يقبض الثمن في المجلس , صار بيع دين بدين , وهذا لا يجوز " .
الشرط السابع : أن يكون المسلم فيه غير معين , بل يكون دينا في الذمة , فلا يصح السلم في دار وشجرة , لأن المعين قد يتلف قبل تسليمه , فيفوت المقصود , ويكون الوفاء وتسليم السلعة المسلم فيها في مكان العقد إن كان يصلح لذلك , فإن كان لا يصلح , كما لو عقدا في بر أو بحر , فلا بد من ذكر مكان الوفاء , وحيث تراضيا على مكان التسليم , جاز ذلك , وإن اختلفا ; رجعنا إلى محل العقد حيث كان يصلح لذلك كما سبق .
* ومن أحكام المسلم أنه لا يجوز بيع السلعة المسلم فيها قبل قبضها لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يقبضه , ولا تصح الحوالة عليه , لأن الحوالة لا تصح إلا على دين مستقر , والسلم عرضة للفسخ .
* ومن أحكام السلم أنه إذا تعذر وجود المسلم فيه وقت حلوله , كما لو أسلم في ثمرة , فلم تحمل الشجر تلك السنة ; فلرب السلم الصبر إلى أن يوجد المسلم فيه فيطالب به , أو الفسخ ويطالب برأس ماله ; لأن العقد إذا زال وجب رد الثمن , فإن كان الثمن تالفا ; رد بدله إليه , والله أعلم . وإباحة هذه المعاملة من يسر هذه الشريعة الإسلامية وسماحتها ; لأن في هذه المعاملة تيسيرا على الناس وتحقيقا لمصالحهم , مع خلوها من الربا وسائر المحذورات , قلله الحمد على تيسيره .
باب في أحكام القرض
بسم الله الرحمن الرحيم
* القرض لغة : القطع ; لأن المقرض يقطع شيئا من ماله يعطيه للمقترض , وتعريفه شرعا : أنه دفع مال لمن ينتفع به ويرد بدله . وهو من باب الإرفاق , وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم منيحة ; لأنه ينتفع به المقترض , ثم يعيده إلى المقرض .
* والإقراض مستحب , وفيه أجر عظيم , قال صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين , إلا كان كصدقة مرة رواه ابن ماجه , وقد قيل : إن القرض أفضل من الصدقة ; لأنه لا يقترض إلا محتاج , وفي الحديث الصحيح : من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا , نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة فالقرض فعل معروف , وفيه تفريج للضائقة عن المسلم , وقضاء لحاجته . وليس الاقتراض من المسألة المكروهة ; فقد اقترض النبي صلى الله عليه وسلم .
* ويشترط لصحة القرض أن يكون المقرض ممن يصح تبرعه ; فلا يجوز لولي اليتيم مثلا أن يقرض من مال اليتيم , وكذلك يشترط معرفة قدر المال المدفوع في القرض , ومعرفة صفته ; ليتمكن من رد بدله إلى صاحبه , فالقرض يصبح دينا في ذمة المقترض , يجب عليه رده إلى صاحبه عندما يتمكن من ذلك , من غير تأخير .
* ويحرم على المقرض أن يشترط على المقترض زيادة في القرض ; فقد أجمع العلماء على أنه إذا شرط عليه زيادة , فأخذها , فهو ربا ; فما تفعله البنوك اليوم من الإقراض بالفائدة ربا صريح , سواء كان قرضا استهلاكيا أو إنمائيا كما يسمونه , فلا يجوز للمقرض - سواء كان بنكا أو فردا أو شركة - أن يأخذ زيادة في القرض مشترطة , بأي اسم سمى هذه الزيادة , وسواء سميت هذه الزيادة ربحا أو فائدة أو هدية أو سكن دار أو ركوب سيارة , ما دام أن هذه الزيادة أو هذه الهدية أو هذه المنفعة جاءت عن طريق المشارطة , وفي الحديث : كل قرض جر نفعا ; فهو ربا وفي الحديث عن أنس مرفوعا : إذا أقرض أحدكم قرضا ; فأهدى إليه , أو حمله على الدابة , فلا يركبها , ولا يقبله ; إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك رواه ابن ماجه , وله شواهد كثيرة , وقد ثبت عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه , أنه قال : " إذا كان لك على رجل حق , فأهدى إليك حمل تبن ; فلا تأخذه ; فإنه ربا " , وهذا له حكم الرفع ; فلا يجوز لمقرض قبول هدية ولا غيرها من المنافع من المقترض إذا كان هذا بسبب القرض ; للنهي عن ذلك , ولأن القرض إنما هو عقد إرفاق بالمحتاج , وقربة إلى الله , فإذا شرط فيه الزيادة أو تحراها وقصدها وتطلع إليها ; فقد أخرج القرض عن موضوعه الذي هو التقرب إلى الله بدفع حاجة المقترض إلى الربح من المقترض ; فلا يصير قرضا . فيجب على المسلم أن ينتبه لذلك ويحذر منه ويخلص النية في القرض وفي غيره من الأعمال الصالحة , فإن القرض ليس القصد منه النماء الحسي , وإنما القصد منه النماء المعنوي , وهو التقرب إلى الله ; بدفع حاجة المحتاج , واسترجاع رأس المال , فإذا كان هذا هو القصد في القرض ; فإن الله ينزل في المال البركة والنماء الطيب .
* هذا ; وينبغي أن يُعلم أن الزيادة الممنوع أخذها في القرض هي الزيادة المشترطة ; كأن يقول : أقرضك كذا وكذا بشرط أن ترد علي المال بزيادة كذا وكذا , أو أن تسكنني دارك أو دكانك , أو تهدي إلي كذا وكذا , أو لا يكون هناك شرط ملفوظ به , ولكن هناك قصد للزيادة وتطلع إليها , فهذا هو الممنوع المنهي عنه .
أما لو بذل المقترض الزيادة من ذات نفسه وبدافع منه , بدون اشتراط من المقرض , أو تطلع وقصد , فلا مانع من أخذ الزيادة حينئذ ; لأن هذا يعتبر من حسن القضاء , ولأن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكرا فرد خيرا منه , وقال : خيركم أحسنكم قضاء وهذا من مكارم الأخلاق المحمودة عرفا وشرعا , ولا يدخل في القرض الذي يجر نفعا , لأنه لم يكن مشروطا في القرض من المقرِض ولا متواطأ عليه , وإنما ذلك تبرع من المستقرض . وكذلك إذا بذل المقترض للمقرض نفعا معتادا بينهما قبل القرض ; بأن كان من عادة المقترض بذل هذا النفع , ولم يكن الدافع إليه هو القرض , فلا مانع من قبوله , لانتفاء المحذور .
* ثم إنه يجب على المقترض الاهتمام بأداء ما عليه من دين القرض ورده إلى صاحبه ; من غير مماطلة ولا تأخير ; حينما يقدر على الوفاء , لقول الله تعالى : هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ
* وبعض الناس يتساهل في الحقوق عامة , وفي شأن الديون خاصة , وهذه خصلة ذميمة , جعلت كثيرا من الناس يحجمون عن بذل القروض والتوسعة على المحتاجين , مما قد يلجئ المحتاج إلى الذهاب إلى بنوك الربا والتعامل معها بما حرم الله ; لأنه لا يجد من يقرضه قرضا حسنا , والمقرض لا يجد من يسدد له قرضه تسديدا حسنا , حتى ضاع المعروف بين الناس .
باب في أحكام الرهن
* الرهن لغة يراد به الثبوت والدوام , يقال : ماء راهن , أي : راكد . والرهن شرعا : توثقة دين بعين يمكن استيفاؤه منها أو من ثمنها , أي : جعل عين مالية وثيقة بدين .
* والرهن جائز بالكتاب والسنة والإجماع .
- قال تعالى : وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ
- وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة .
- وأجمع العلماء على جواز الرهن في السفر , والجمهور أجازوه أيضا في الحضر .
* والحكمة في مشروعيته حفظ الأموال والسلامة من الضياع . وقد أمر الله بتوثيق الدين بالكتاب , قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ إلى قوله تعالى : وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ وهذا من رحمة الله بعباده , حيث يرشدهم إلى ما فيه خيرهم
* ويشترط لصحة الرهن معرفة قدره وجنسه وصفته , وأن يكون الراهن جائز التصرف , مالكا للمرهون , أو مأذونا له فيه .
* ويجوز للإنسان أن يرهن مال نفسه على دين غيره .
* ويشترط في العين المرهونة أن تكون مما يصح بيعه ; ليتمكن من الاستيفاء من الرهن .
* ويصح اشتراط الرهن في صلب العقد , ويصح بعد العقد ; لقوله تعالى : وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فجعله الله سبحانه بدلا من الكتابة , والكتابة إنما تكون بعد وجوب الحق .
* والرهن يلزم من جانب الراهن فقط ; لأن الحظ فيه لغيره , فلزم من جهته , ولا يلزم من جانب المرتهن , فله فسخه , لأن الحظ فيه له وحده .
* ويجوز أن يرهن نصيبه من عين مشتركة بينه وبين غيره ; لأنه يجوز بيع نصيبه عند حلول الدين , ويوفي منه الدين . ويجوز رهن المبيع على ثمنه ; لأن ثمنه دين في الذمة , والمبيع ملك للمشتري ; فجاز رهنه به , فإذا اشترى دارا أو سيارة مثلا بثمن مؤجلأ وحال لم يقبض ; فله رهنها حتى يسدد له الثمن .
* ولا ينفذ تصرف أحد الطرفين المرتهن أو الراهن في العين المرهونة إلا بإذن الطرف الآخر ; لأنه إذا تصرف فيه بغير إذنه ; فوت عليه حقه ; لأن تصرف الراهن يبطل حق المرتهن في التوثيق , وتصرف المرتهن تصرف في ملك غيره .
* وأما الانتفاع بالرهن فحسبما يتفقان عليه : فإن اتفقا على تأجيره أو غيره , جاز , وإن لم يتفقا ; بقي معطلا حتى يفك الرهن . ويمكَّن الراهن من عمل ما فيه إصلاح للرهن , كسقي الشجر , وتلقيحه , ومداواته , لأن ذلك مصلحة للرهن .
* ونماء الرهن المتصل كالسمن وتعلم الصنعة , ونماؤه المنفصل كالولد والثمرة والصوف وكسبه : ملحق به , يكون رهنا معه , ويباع معه لوفاء الدين ; وكذا سائر غلاته ; لأنها تابعة له , وكذا لو جُني عليه ; فأرش الجناية يلحق بالرهن ; لأنه بدل جزء منه .
* ومؤنة الرهن من طعامه وعلف الدواب وعمارته وغير ذلك على الراهن ; لحديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه , له غنمه , وعليه غرمه رواه الشافعي والدارقطني , وقال : " إسناده حسن صحيح " , ولأن الرهن ملك للراهن ; فكان عليه نفقته . وعلى الراهن أيضا أجرة المخزن الذي يودع فيه المال المرهون وأجرة حراسته ; لأن ذلك يدخل ضمن الإنفاق عليه , وكذا أجرة رعي الماشية المرهونة .
* وإن تلف بعض الرهن وبقي بعضه , فالباقي رهن بجميع الدين , لأن الدين كله متعلق بجميع أجزاء الرهن , فإذا تلف البعض ; بقي البعض الآخر رهنا بجميع الدين .
* وإن وفى بعض الدين , لم ينفك شيء من الرهن حتى يسدده كله , فلا ينفك منه شيء حتى يؤدي جميع الدين .
* وإذا حل الدين الذي به رهن وجب على المدين تسديده كالدين الذي لا رهن به ; لأن هذا مقتضى العقد بينهما , قال الله تعالى : فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فإن امتنع من الوفاء ; صار مماطلا , وحينئذ يجبره الحاكم على وفاء الدين , فإن امتنع ; حبسه وعزره حتى يوفي ما عليه من الدين من عنده , أو يبيع الرهن ويسدد من قيمته , فإن امتنع , فإن الحاكم يبيع الرهن , ويوفي الدين من ثمنه , لأنه حق وجب على المدين , فقام الحاكم مقامه عند امتناعه , ولأن الرهن وثيقة للدين ليباع عند حلوله , وإن فضل من ثمنه شيء عن الدين , فهو لمالكه , يرد عليه , لأنه ماله , وإن بقي من الدين شيء لم يغطه ثمن الرهن ; فهو في ذمة الراهن , يجب عليه تسديده .
* ومن أحكام الرهن أنه إذا كان حيوانا يحتاج إلى نفقة وكان في قبضة المرتهن ; فإن الشارع الحكيم رخص له أن يركبه وينفق عليه إن كان يصلح للركوب , ويحلبه وينفق عليه إن كان يصلح للحلب , قال النبي صلى الله عليه وسلم : الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا , ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا , وعلى الذي يركب ويشرب النفقة رواه البخاري , أي : ويجب على الذي يركب الظهر ويشرب اللبن النفقة في مقابلة انتفاعه , وما زاد عما يقابل النفقة من المنفعتين يكون لمالكه .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : " دل الحديث وقواعد الشريعة وأصولها على أن الحيوان المرهون محترم في نفسه لحق الله تعالى , وللمالك فيه حق الملك , وللمرتهن حق الوثيقة , فإذا كان بيده , فلم يحلبه , ذهب نفعه باطلا , فكان مقتضى العدل والقياس ومصلحة الراهن والمرتهن والحيوان أن يستوفي المرتهن منفعة الركوب والحلب ويعوض عنهما بالنفقة , فإذا استوفى المرتهن منفعته , وعوض عنها نفقة , كان في هذا جمع بين المصلحتين وبين الحقين " انتهى .
قال بعض الفقهاء رحمهم الله : الرهن قسمان : ما يحتاج إلى مؤنة , وما لا يحتاج إلى مؤنة .
وما يحتاج إلى مؤنة نوعان : حيوان مركوب ومحلوب ; تقدم حكمه . وما ليس بمركوب ولا محلوب ; كالعبد والأمة ; فهذا النوع لا يجوز للمرتهن أن ينتفع به إلا بإذن مالكه , فإذا أذن له مالكه أن ينفق عليه وينتفع به في مقابلة ذلك , جاز ; لأنه نوع معاوضة .
والقسم الثاني : ما لا يحتاج إلى مؤنة , كالدار والمتاع ونحوه , وهذا النوع لا يجوز للمرتهن أن ينتفع به ; إلا بإذن الراهن أيضا ; إلا إن كان الرهن بدين قرض ; فلا يجوز للمقرض أن ينتفع به كما سبق , لئلا يكون قرضا جر نفعا , فيكون من الربا .
باب في أحكام الضمان
* ومن التوثيقات الشرعية للديون الضمان , وهو مأخوذ من الضمن ; لأن ذمة الضامن صارت في ضمن ذمة المضمون عنه , وقيل : مشتق من التضمن , لأن ذمة الضامن تتضمن الحق المضمون , وقيل : مشتق من الضم ; لضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق فيثبت الحق في ذمتيهما جميعا .
* ومعنى الضمان شرعا : التزام ما وجب على غيره , مع بقائه على مضمون عنه , والتزام ما قد يجب أيضا ; كأن يقول : ما أعطيت فلانا ; فهو عليّ .
* والضمان جائز بالكتاب والسنة والإجماع : - قال تعالى : وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ أي : ضامن .
- وروى الإمام الترمذي مرفوعا : الزعيم غارم أي : ضامن .
- وقد أجمع العلماء على جواز الضمان في الجملة . والمصلحة تقتضي ذلك , بل قد تدعو الحاجة والضرورة إليه , وهو من التعاون على البر والتقوى , ومن قضاء حاجة المسلم , وتنفيس كربته .
* ويشترط لصحته أن يكون الضامن جائز التصرف , لأنه تحمل مال , فلا يصح من صغير ولا سفيه محجور عليه , ويشترط رضاه أيضا , فإن أكره على الضمان ; لم يصح ; لأن الضمان تبرع بالتزام الحق , فاعتبر له الرضى كالتبرع بالأموال .
* والضمان عقد إرفاق يقصد به نفع المضمون وإعانته ; فلا يجوز أخذ العوض عليه , ولأن أخذ العوض على الضمان يكون كالقرض الذي جر نفعا ; فالضامن يلزمه أداء الدين عن المضمون عند مطالبته بذلك , فإذا أداه للمضمون له ; فإنه سيسترده من المضمون عنه على صفة القرض , فيكون قرضا جر نفعا , فيجب الابتعاد عن مثل هذا ,
وأن يكون الضمان مقصودا به التعاون والإرفاق , لا الاستغلال وإرهاق المحتاج .
* ويصح الضمان بلفظ : أنا ضمين , أو : أنا قبيل , أو : أنا حميل , أو : أنا زعيم , وبلفظ : تحملت دينك , أو : ضمنته , أو : هو عندي , وبكل لفظ يؤدي معنى الضمان , لأن الشارع لم يحد ذلك بعبارة معينة , فيرجع فيه إلى العرف .
* ولصاحب الحق أن يطالب من شاء من الضامن أو المضمون , لأن حقه ثابت في ذمتهما ; فملك مطالبة من شاء منهما , ولقوله صلى الله عليه وسلم : الزعيم غارم رواه أبو داود والترمذي وحسنه , والزعيم هو الضامن , والغارم معناه الذي يؤدي شيئا لزمه , وهذا قول الجمهور .
وذهب بعض العلماء إلى أن صاحب الحق لا يجوز له مطالبة الضامن , إلا إذا تعذرت مطالبة المضمون عنه , لأن الضمان فرع , ولا يصار إليه إلا إذا تعذر الأصل , ولأن الضمان توثيق للحق كالرهن , والرهن لا يستوفى منه الحق إلا عند تعذر الاستيفاء من الراهن , ولأن مطالبة الضامن مع وجود المضمون عنه ويسرته فيها استقباح من الناس , لأن المعهود عندهم أنه لا يطالب الضامن إلا عند تعذر مطالبة المضمون عنه أو عجزه عن التسديد , هذا هو المتعارف عند الناس . هذا معنى ما ذكره الإمام ابن القيم , وقال : " هذا القول في القوة كما ترى " .
* ومن مسائل الضمان أن ذمة الضامن لا تبرأ إلا إذا برئت ذمة المضمون عنه من الدين بإبراء أو قضاء , لأن ذمة الضامن فرع عن ذمة المضمون وتبع لها , ولأن الضمان وثيقة , فإذا برئ الأصل , زالت الوثيقة ; كالرهن .
* ومن مسائل الضمان أنه يجوز تعدد الضامنين فيجوز أن يضمن الحق اثنان فأكثر , سواء ضمن كل واحد منهما جميعه أو جزءا منه , ولا يبرأ أحد منهم -59- إلا ببراءة الآخر , ويبرءون جميعا ببراءة المضمون عنه .
* ومن مسائل الضمان أنه لا يشترط في صحته معرفة الضامن للمضمون عنه , كأن يقول : من استدان منك ; فأنا ضمين , ولا يشترط معرفة الضامن للمضمون له , لأنه لا يشترط رضى المضمون له والمضمون عنه ; فلا يشترط معرفتهما .
* ومن مسائل الضمان أنه يصح ضمان المعلوم وضمان المجهول إذا كان يئول إلى العلم ; لقوله تعالى : وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ لأن حمل البعير غير معلوم , لكنه يئول إلى العلم , فدلت الآية على جوازه .
* ومن مسائل الضمان أنه يصح ضمان عادة المبيع - والعهدة هي الدرك - , بأن يضمن الثمن إذا ظهر المبيع مستحقا لغير البائع .
* ومن مسائل الضمان أنه يجوز ضمان ما يجب على الشخص , كأن يضمن ما يلزمه من دين ونحوه .
باب في أحكام الكفالة
* الكفالة هي التزام إحضار من عليه حق مالي لربه . فالعقد في الكفالة واقع على بدن المكفول , فتصح الكفالة ببدن كل إنسان عليه حق مالي ; كالدين , ولا تصح الكفالة ببدن من عليه حد , لأن الكفالة استيثاق , والحدود مبناها على الدرء بالشبهات ; فلا يدخل فيها الاستيثاق , ولا تصح الكفالة ببدن من عليه قصاص , لأنه لا يمكن استيفاؤه من غير الجاني , ولا يجوز استيفاؤه من الكفيل إذا تعذر عليه إحضار المكفول .
* ويشترط لصحة الكفالة أن تكون برضى الكفيل , لأنه لا يلزمه الحق ابتداء إلا برضاه .
* ويبرأ الكفيل بموت المكفول المتعذر إحضاره ويبرأ كذلك بتسليم المكفول نفسه لرب الحق في محل التسليم وأجله , لأنه أتى بما يلزم الكفيل , وإذا تعذر إحضار المكفول مع حياته أو غاب ومضى زمن يمكن إحضاره فيه , فإن الكفيل يضمن ما عليه من الدين ; لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : الزعيم غارم
* ومن مسائل الكفالة أنه يجوز ضمان معرفة الشخص كما لو جاء إنسان ليستدين من إنسان , فقال : أنا لا أعرفك فلا أعطيك . فقال شخص آخر : أنا أضمن لك معرفته , أي : أعرِّفك من هو وأين هو ; فإنه يلزم بإحضاره إذا غاب , ولا يكفي أن يذكر اسمه ومكانه , فإن عجز عن إحضاره مع حياته , ضمن ما عليه , لأنه هو الذي دفع الدائن أن يعطيه ماله بتكفله لمعرفته , فكأنه قال : ضمنت لك حضوره متى أردت , فصار ذلك كما لو قال : تكفلت لك ببدنه .
باب في أحكام الحوالة
* الحوالة لغة مشتقة من التحول ; لأنها تحول الدين من ذمة إلى ذمة أخرى , ومن ثم عرفها الفقهاء بأنها نقل دين من ذمة إلى ذمة أخرى .
* وهي ثابتة بدليل السنة والإجماع : - قال صلى الله عليه وسلم : إذا أتبع أحدكم على مليء ; فليتبع وفي لفظ : من أحيل بحقه على مليء , فليحتل
- وقد حكى غير واحد من العلماء الإجماع على ثبوتها .
* وفيها إرفاق بين الناس , وتسهيل لسبل معاملاتهم , وتسامح , وتعاون على قضاء حاجاتهم , وتسديد ديونهم , وتوفير راحتهم .
* وقد ظن بعض الناس أن الحوالة على غير وفق القياس ; لأنها بيع دين بدين , وبيع الدين بالدين ممنوع , لكنه جاز في الحوالة على غير وفق القياس , وقد رد هذا العلامة ابن القيم , وبين أنها جارية على وفق القياس ; لأنها من جنس إيفاء الحق , لامن جنس البيع . قال : " وإن كانت بيع دين بدين , فلم ينه الشارع عن ذلك , بل قواعد الشرع تقتضي جوازه , فإنها اقتضت نقل الدين وتحويله من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه " انتهى .
* ولا تصح الحوالة إلا بشروط :
الشرط الأول : أن تكون على دين مستقر في ذمة المحال عليه ; لأن مقتضاها إلزام المحال عليه بالدين , وإذا كان هذا الدين غير مستقر ; فهو عرضة للسقوط ; فلا تثبت الحوالة عليه ; فلا تصح الحوالة على ثمن مبيع في مدة الخيار , ولا تصح الحوالة من الابن على أبيه إلا برضاه .
الشرط الثاني : اتفاق الدينين المحال به والمحال عليه ; أي : تماثلهما في الجنس ; كدراهم على دراهم , وتماثلهما في الوصف ; كأن يحيل بدراهم مضروبة على دراهم مضروبة , ونقود سعودية مثلا على نقود سعودية مثلها , وتماثلهما في الوقت , أي : في الحلول والتأجيل , فلو كان أحد الدينين حالا والآخر مؤجلا , أو أحدهما يحل بعد شهر والآخر يحل بعد شهرين ; لم تصح الحوالة , وتماثل الدينين في المقدار ; فلا تصح الحوالة بمائة مثلا على تسعين ريالا ; لأنها عقد إرفاق ; كالقرض , فلو جاز التفاضل فيها ; لخرجت عن موضوعها - وهو الإرفاق - إلى طلب الزيادة بها , وهذا لا يجوز كما لا يجوز في القرض , لكن لو أحال ببعض ما عليه من الدين , أو أحال على بعض ما له من الدين ; جاز ذلك , ويبقى الزائد بحاله لصاحبه .
الشرط الثالث : رضى المحيل لأن الحق عليه , فلا يلزمه أن يسدده عن طريق الحوالة , ولا يشترط رضى المحال عليه ; كما لا يشترط أيضا رضى المحتال إذا أحيل على مليء غير مماطل , بل يجبر على قبول الحوالة , ومطالبة المحال عليه بحقه , لقوله صلى الله عليه وسلم : مطل الغني ظلم , وإذا أتبع أحدكم على مليء ; فليتبع متفق عليه , وفي لفظ : من أحيل بحقه على مليء , فليحتل أي : ليقبل الحوالة , والمليء هو القادر على الوفاء , الذي لا يعرف بمماطلة , فإن كان المحال عليه غير مليء , لم يلزم المحال قبول الحوالة عليه , لما في ذلك من الضرر عليه .
* وبهذه المناسبة ; فالنصيحة لمن عليهم حقوق للناس وعندهم المقدرة على تسديدها أن يبادروا بإبراء ذممهم بأدائها لأصحابها أو لمن أحيل عليهم بها , وأن لا يلطخوا سمعتهم بالمماطلة والمراوغة ; فكثيرا ما نسمع التظلمات من أصحاب الحقوق بسبب تأخير حقوقهم وتساهل المدينين بتسديدها من غير عذر شرعي ; كما أننا كثيرا ما نسمع مماطلة الأغنياء بتسديد الحوالات الموجهة إليهم , وإتعاب المحالين , حتى أصبحت الحوالة شبحا مخيفا , ينفر منها كثير من الناس , بسبب ظلم الناس .
* وإذا صحت الحوالة ; بأن اجتمعت شروطها المذكورة , فإن الحق ينتقل بها من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه , وتبرأ ذمة المحيل من هذا الحق ; لأن معناها تحويل الحق من ذمة إلى ذمة , فلا يسوغ للمحال أن يرجع إلى المحيل ; لأن حقه انتقل إلى غيره , فعليه أن يصرف وجهته ومطالبته إلى المحال عليه , فيستوفي منه أو يصطلح معه على أي شكل من الأشكال في نوعية الاستيفاء , فالحوالة الشرعية وفاء صحيح وطريق مشروع , وفيها تيسير على الناس إذا استغلت استغلالا صحيحا واستعملت استعمالا حسنا ولم يكن فيها مخادعة ولا مراوغة .
باب في أحكام الوكالة
* الوكالة - بفتح الواو وكسرها - : التفويض , تقول : وكلت أمري إلى الله ; أي : فوضته إليه , واصطلاحا : استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة .
* وهي جائزة بالكتاب والسنة والإجماع .
- قال تعالى : فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وقال تعالى : قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ وقال تعالى : وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا
- ووكل صلى الله عليه وسلم عروة بن الجعد في شراء الشاة , وأبا رافع في تزوجه صلى الله عليه وسلم ميمونة , وكان يبعث عماله لقبض الزكاة .
- وذكر الموفق وغيره إجماع الأمة على جواز الوكالة في الجملة , والحاجة داعية إليها , إذ لا يمكن كل أحد فعل ما يحتاج إليه بنفسه .
* ما تنعقد به الوكالة تنعقد الوكالة بكل قول يدل على الإذن ; ك : افعل كذا , أو : أذنت لك في فعل كذا . .. ويصح القبول على الفور وعلى التراخي بكل قول أو فعل يدل على القبول ; لأن قبول وكلائه عليه الصلاة والسلام كان متراخيا عن توكيله إياهم .
وتصح الوكالة مؤقتة ومعلقة بشرط ; كأن يقول : أنت وكيلي شهرا , وكقوله : إذا تمت إجارة داري ; فبعها . ويعتبر تعيين الوكيل ; فلا تنعقد بقوله : وكلت أحد هذين , أو بتوكيل من لا يعرفه .
* ما يصح التوكيل فيه يصح التوكيل في كل ما تدخله النيابة من حقوق الآدميين من العقود والفسوخ ; فالعقود مثل البيع والشراء والإجارة والقرض والمضاربة , والفسوخ كالطلاق والخلع والعتق والإقالة , وتصح الوكالة في كل ما تدخله النيابة من حقوق الله من العبادات ; كتفريق الصدقة , وإخراج الزكاة , والنذر , والكفارة , والحج , والعمرة ; لورود الأدلة بذلك . وأما ما لا تدخله النيابة من حقوق الله تعالى , فلا يصح التوكيل فيه , وهو العبادات البدنية ; كالصلاة والصوم والطهارة من الحدث ; لأن ذلك يتعلق ببدن من هو عليه .
* وتصح الوكالة في إثبات الحدود واستيفائها , لقوله صلى الله عليه وسلم : واغد يا أنيس إلى امرأة هذا , فإن اعترفت , فارجمها متفق عليه .
* وليس للوكيل أن يوكل فيما وُكِّل فيه , إلا في مسائل , وهي :
الأولى : إذا أجاز له الموكل ذلك ; بأن يقول : وكِّل إذا شئت , أو يقول : اصنع ما شئت .
الثانية : إذا كان العمل الموكَّل فيه لا يتولاه مثله ; لكونه من أشراف الناس المترفعين عن مثل ذلك العمل .
الثالثة : إذا عجز عن العمل الذي وكل فيه .
الرابعة : إذا كان لا يحسن العمل الذي وكل فيه . وفي هذه الأحوال لا يجوز له أن يوكل إلا أمينا ; لأنه لم يؤذن له في توكيل من ليس بأمين .
* والوكالة عقد جائز من الطرفين , لأنها من جهة الموكل إذن , ومن جهة الوكيل بذل نفع , وكلاهما غير لازم , فلكل واحد منهما فسخها في أي وقت شاء .
* مبطلات الوكالة تبطل الوكالة بفسخ أحدهما أو موته أو جنونه المطبق ; لأن الوكالة تعتمد الحياة والعقل , فإذا انتفيا ; انتفت صحتها , وتبطل بعزل الموكل للوكيل , وتبطل بالحجر على السفيه وكيلا كان أو موكلا ; لزوال أهلية التصرف .
* ما يجوز فيه التوكيل والتوكل : ومن له التصرف في شيء ; فله التوكيل والتوكل فيه , ومن لا يصح تصرفه بنفسه ; فنائبه أولى . ومن وكل في بيع أو شراء ; لم يبع ولم يشتر من نفسه , لأن العرف في البيع بيع الرجل من غيره , ولأنه تلحقه تهمة , وكذا لا يصح بيعه وشراؤه من ولده ووالده وزوجته وسائر من لا تقبل شهادته له , لأنه متهم في حقهم كتهمته في حق نفسه .
* ما يتعلق بالموكل وما يتعلق بالوكيل من التصرفات يتعلق بالموكل حقوق العقد من تسليم الثمن وقبض المبيع والرد بالعيب وضمان الدرك , والوكيل في البيع يسلم المبيع ولا يستلم الثمن بغير إذن الموكل أو قرينة تدل على الإذن ; كما لو باعه في محل يضيع فيه الثمن لو لم يقبضه , والوكيل في الشراء يسلم الثمن ; لأنه من تتمته وحقوقه , والوكيل في الخصومة لا يقبض , والوكيل في القبض يخاصم , لأنه لا يتوصل إليه إلا بها .
* ما يلزم الوكيل ضمانه وما لا يلزمه :
الوكيل أمين لا يضمن ما تلف بيده من غير تفريط ولا تعد , فإن فرط أو تعدى أو طلب منه المال فامتنع من دفعه لغير عذر , ضمن . ويقبل قول الوكيل فيما وكل فيه من بيع وإجارة أنه قبض الثمن والأجرة وتلفا بيده , ويقبل قوله في قدر الثمن والأجرة , والله أعلم .
باب في أحكام الحجر
* إن الإسلام جاء لحفظ الأموال وحفظ حقوق الناس , ولذلك شرع الحجر على من يستحقه , حفاظا على أموال الناس وحقوقهم .
* والحجر لغة المنع , ومنه سمي الحرام حجرا ; لأنه ممنوع منه , قال تعالى : وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا أي : حراما محرما , وسمي أيضا العقل حجرا , قال تعالى : هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ أي : عقل , لأن العقل يمنع صاحبه من تعاطي ما يقبح وتضر عاقبته .
* ومعنى الحجر في الشرع : منع إنسان من تصرفه في ماله .
* ودليله من القرآن الكريم : قوله تعالى : وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ إلى قوله تعالى : وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فدلت الآيتان على الحجر على السفيه واليتيم في ماله ; لئلا يفسده ويضيعه , وأنه لا يدفع إليه إلا بعد تحقق رشده فيه . وقد حجر النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الصحابة لأجل قضاء ما عليه من الديون .
* والحجر نوعان :
النوع الأول : حجر على الإنسان لأجل حظ غيره , كالحجر على المفلس لحظ الغرماء , والحجر على المريض بالوصية بما زاد على الثلث لحظ الورثة .
النوع الثاني : حجر على الإنسان لأجل مصلحته هو ; لئلا يضيع ماله ويفسده , كالحجر على الصغير والسفيه والمجنون ; بدليل قوله تعالى : وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ قيل : المراد الأولاد والنساء , فلا يعطيهم ماله تبذيرا , وقيل : المراد السفهاء والصغار والمجانين , لا يعطون أموالهم ; لئلا يفسدوها , وأضافها إلى المخاطبين ; لأنهم الناظرون عليها والحافظون لها .
* النوع الأول : الحجر على الإنسان لحظ غيره والمراد هنا الحجر على المفلس , والمفلس هو من عليه دين حال لا يتسع له ماله الموجود , فيمنع من التصرف في ماله ; لئلا يضر بأصحاب الديون . أما المدين المعسر الذي لا يقدر على وفاء شيء من دينه ; فإنه لا يطالب به , ويجب إنظاره ; لقوله تعالى : وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ
وفي فضل إنظار المعسر يقول النبي صلى الله عليه وسلم : من سره أن يظله الله في ظله , فلييسر على معسر وأفضل من الإنظار إبراء المعسر من دينه , لقوله تعالى : وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ أما من له قدرة على وفاء دينه ; فإنه لا يجوز الحجر عليه , لعدم الحاجة إلى ذلك , لكن يؤمر بوفاء ديونه إذا طالب الغرماء بذلك ; لقوله صلى الله عليه وسلم : مطل الغني ظلم أي : مطل القادر على وفاء دينه ظلم ; لأنه منع أداء ما وجب عليه أداؤه من حقوق الناس , فإن امتنع من تسديد ديونه ; فإنه يسجن . قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله : " ومن كان قادرا على وفاء دينه , وامتنع , أجبر على وفائه بالضرب والحبس , نص على ذلك الأئمة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم " , قال : " ولا أعلم فيه نزاعا " انتهى .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته رواه أحمد وأبو داود وغيرهما , وعرضه : شكواه , وعقوبته : حبسه ; فالمماطل بقضاء ما عليه من الحق يستحق العقوبة بالحبس والتعزير , ويكرر عليه ذلك حتى يوفي ما عليه , فإن أصر على المماطلة , فإن الحاكم يتدخل فيبيع ماله ويسدد منه ديونه , لأن الحاكم يقوم مقام الممتنع , ولأجل إزالة الضرر عن الدائنين , وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا ضرر ولا ضرار
ومما مر يتضح أن المدين له حالتان :
الحالة الأولى : أن يكون الدين مؤجلا عليه ; فهذا لا يطالب بالدين حتى يحل , ولا يلزمه أداؤه قبل حلوله , وإذا كان ما لديه من الحال أقل مما عليه من الدين المؤجل ; فإنه لا يحجر عليه من أجل ذلك , ولا يمنع من التصرف في ماله .
الحالة الثانية : أن يكون الدين حالا
فللمدين حينئذ حالتان :
الأولى: أن يكون ماله أكثر من الدين الذي عليه ; فهذا لا يحجر عليه في ماله , ولكن يؤمر بوفاء الدين إذا طالب بذلك دائنه , فإن امتنع ; حبس وعزر حتى يوفي دينه , فإن صبر على الحبس والتعزير , وامتنع من تسديد الدين , فإن الحاكم يتدخل ويوفي دينه من ماله ويبيع ما يحتاج إلى بيع من أجل ذلك .
والثانية : أن يكون ماله أقل مما عليه من الدين الحالِّ ; فهذا يُحجر عليه التصرف في ماله إذا طالب غرماؤه بذلك ; لئلا يضر بهم ; لحديث كعب بن مالك رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ وباع ماله رواه الدارقطني والحاكم وصححه , وقال ابن الصلاح : " إنه حديث ثابت " , وإذا حجر عليه في هذه الحالة , فإنه يعلن عنه , ويظهر للناس أنه محجور عليه ; لئلا يغتروا به ويتعاملوا معه , فتضيع أموالهم " .
ويتعلق بالحجر عليه أربعة أحكام :
الحكم الأول : أنه يتعلق حق الغرماء بماله الموجود قبل الحجر , وبماله الحادث بعد الحجر ; بإرث أو أرش جناية أو هبة أو وصية أو غير ذلك , فيلحقه الحجر كالموجود قبل الحجر , فلا ينفذ تصرف المحجور عليه في ماله بعد الحجر بأي نوع من أنواع التصرف , ولا يصح إقراره لأحد على شيء من ماله , لأن حقوق الغرماء متعلقة بأعيانه , فلم يقبل الإقرار عليه , وحتى قبل الحجر عليه يحرم عليه التصرف في ماله تصرفا يضر بغرمائه .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : " إذا استغرقت الديون ماله , لم يصح تبرعه بما يضر بأرباب الديون , سواء حجر عليه الحاكم أو لم يحجر عليه , هذا مذهب مالك واختيار شيخنا ( يريد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ) " , قال : " وهو الصحيح , وهو الذي لا يليق بأصول المذهب غيره , بل هو مقتضى أصول الشرع وقواعده , لأن حق الغرماء قد تعلق بماله , ولهذا يحجر عليه الحاكم , ولولا تعلق حق الغرماء بماله , لم يسع الحاكم الحجر عليه , فصار كالمريض مرض الموت , وفي تمكين هذا المدين من التبرع إبطال حقوق الغرماء , والشريعة لا تأتي بمثل هذا ; فإنما جاءت بحفظ حقوق أرباب الحقوق بكل طريق , وسد الطريق المفضية إلى إضاعتها " انتهى كلامه رحمه الله .
الحكم الثاني : أن من وجد عين ماله الذي باعه عليه أو أقرضه إياه أو أجره إياه قبل الحجر عليه ; فله أن يرجع به ويسحبه من عند المفلس
, لقوله صلى الله عليه وسلم : من أدرك متاعه عند إنسان أفلس , فهو أحق به متفق عليه ; وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله أنه يشترط لرجوع من وجد ماله عند المفلس المحجور عليه ستة شروط :
الشرط الأول: كون المفلس حيا إلى أن يأخذ ماله منه ; لما رواه أبو داود ; أنه صلى الله عليه وسلم قال : فإن مات ; فصاحب المتاع أسوة الغرماء
الشرط الثاني: بقاء ثمنها كله في ذمة المفلس , فإن قبض صاحب المتاع شيئا من ثمنه , لم يستحق الرجوع به .
الشرط الثالث: بقاء العين كلها في ملك المفلس , فإن وجد بعضها فقط ; لم يرجع به ; لأنه لم يجد عين ماله , وإنما وجد بعضها .
الشرط الرابع: كون السلعة بحالها , لم يتغير شيء من صفاتها .
الشرط الخامس: كون السلعة لم يتعلق بها حق الغير ; بأن لا يكون المفلس قد رهنها ونحو ذلك .
الشرط السادس: كون السلعة لم تزد زيادة متصلة كالسمن , فإذا توافرت هذه الشروط , جاز لصاحب السلعة أن يسحبها إذا ظهر إفلاس من هي عنده , للحديث السابق .
الحكم الثالث : انقطاع المطالبة عنه بعد الحجر عليه إلى أن ينفك عنه الحجر , فمن باعه أو أقرضه شيئا خلال هذه الفترة , طالبه به بعد فك الحجر عنه .
الحكم الرابع: أن الحاكم يبيع ما له , ويقسم ثمنه بقدر ديون غرمائه الحالة ; لأن هذا هو المقصود من الحجر عليه , وفي تأخير ذلك مطل وظلم لهم , ويترك الحاكم للمفلس ما يحتاج إليه من مسكن ومؤنة ونحو ذلك , أما الدين المؤجل ; فلا يحل بالإفلاس , ولا يزاحم الديون الحالة , لأن الأجل حق للمفلس ; فلا يسقط ; كسائر حقوقه , ويبقى في ذمة المفلس , ثم بعد توزيع ماله على أصحاب الديون الحالة , فإن سددها ولم يبق منها شيء ; انفك عنه الحجر بلا حكم حاكم ; لزوال موجبه , وإن بقي عليه شيء من ديونه الحالة ; فإنه لا ينفك عنه الحجر ; إلا بحكم الحاكم ; لأنه هو الذي حكم بالحجر عليه , فهو الذي يحكم بفك الحجر عنه .
* النوع الثاني من أنواع الحجر : وهو الحجر على الإنسان لحظ نفسه بحفظ ماله وتوفيره له , لأن هذا الدين دين الرحمة , الذي لم يترك شيئا فيه مصلحة إلا حث على تعاطيه , ولا شيئا فيه مضرة , إلا حذر منه , ومن ذلك أنه أفسح المجال للإنسان الذي فيه أهلية للتصرف ومزاولة التجارة في حدود المباح والكسب الطيب , لما في ذلك من المصلحة التي تعود على الفرد والجماعة ,
أما إذا كان الإنسان غير مؤهل لطلب الكسب ومزاولة التجارة ; لصغر سنه أو سفهه أو فقدان عقله ; فإن الإسلام يمنعه من التصرف , ويقيم عليه وصيا يحفظ له ماله وينميه , حتى يزول عنه المانع , ثم يسلم ماله موفورا إليه . قال تعالى : وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا إلى قوله تعالى : وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ذلكم هو ما يسمى بالحجر على الإنسان لحظ نفسه , لأن المصلحة في ذلك تعود عليه . وهذا النوع من الحجر يعم الذمة والمال ; فلا يتصرف من انطبق عليه في ماله ببيع ولا تبرع ولا غيرهما , ولا يتحمل في ذمته دينا أو ضمانا أو كفالة ونحوها , لأن ذلك يفضي إلى ضياع أموال الناس . ولا يصح تصرف غير السفهاء معهم , بأن يعطيهم ماله بيعا أو قرضا أو وديعة أو عارية , ومن فعل ذلك , فإنه يسترد ما أعطاهم إن وجده باقيا بعينه , فإن تلف في أيديهم أو أتلفوه , فإنه يذهب هدرا , لا يلزمهم ضمانه ; لأنه فرط بتسليطهم عليه وتقديمه إليهم برضاه واختياره . أما لو تعدى المحجور عليه لصغر ونحوه على نفس أو مال بجناية ; فإنه يضمن , ويتحمل ما ترتب على جنايته من غرامة ; لأن المجني عليه لم يفرط ولم يأذن لهم بذلك , والقاعدة الفقهية تقول : إن ضمان الإتلاف يستوي فيه الأهل وغيره .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله : " يضمن الصبي والمجنون والنائم ما أتلفوه من الأموال , وهذا من الشرائع العامة التي لا تتم مصالح الأمة إلا بها , فلو لم يضمنوا جنايات أيديهم , لأتلف بعضهم أموال بعض , وادعى الخطأ وعدم القصد " .
* ويزول الحجر عن الصغير بأمرين :
الأمر الأول : بلوغه سن الرشد : ويعرف ذلك بعلامات . الأولى : إنزاله المني يقظة أو مناما , قال تعالى : وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا والحلم هو أن يرى الطفل في منامه ما ينزل به المني الدافق .
الثانية : إنبات الشعر الخشن حول قبله .
الثالثة : بلوغه خمس عشرة سنة , قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني , وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني متفق عليه , ومعنى أجازني , أي : أمضاني للخروج للقتال , فدل على أن بلوغ خمس عشرة سنة من الولادة يكون بلوغا , وفي رواية في تعليل منعه في العرضة الأولى : " قال : ولم يرني بلغت " .
الرابعة : وتزيد الجارية على الذكر علامة رابعة تدل على بلوغها , وهي الحيض ; لقوله صلى الله عليه وسلم : لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار رواه الترمذي وحسنه . الأمر الثاني مع البلوغ : الرشد : وهو الصلاح في المال ; لقوله تعالى : وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ويعرف رشده بأن يمتحن , فيمنح شيئا من التصرف , فإذا تصرف مرارا , فلم يغبن غبنا فاحشا , ولم يبذل ماله في حرام أو فيما لا فائدة فيه ; فهذا دليل على رشده .
* ويزول الحجر عن المجنون بأمرين
الأول : زوال الجنون ورجوع العقل إليه
والثاني : أن يكون رشيدا كما سبق في حق الصغير إذا بلغ .
ويزول عن السفيه بزوال السفه واتصافه بالرشد في تصرفاته المالية .
* ويتولى مال كل من هؤلاء الثلاثة - الصبي والمجنون والسفيه - حال الحجر أبوه إذا كان عدلا رشيدا ; لكمال شفقته , ثم من بعد الأب وصيه , لأنه نائبه , فأشبه وكيله في حال الحياة .
* ويجب على من يتولى أموالهم ممن ذكر أن يتصرف لهم بالأحظ لهم ; لقوله تعالى : وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي : لا تتصرفوا في مال اليتيم إلا بما فيه مصلحة وتنمية له , والآية الكريمة وإن كانت نصت على مال اليتيم ; فإنها تتناول مال السفيه والمجنون بالقياس على مال اليتيم.
* وعلى ولي مال اليتيم ونحوه المحافظة عليه , وعدم إهماله والمخاطرة به أو أكله ظلما , قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا وقد وعظ الله أولياء اليتامى بأن يتذكروا حالة أولادهم لو كانوا تحت ولاية غيرهم ; فكما يحبون أن يحسن إلى أولادهم ; فليحسنوا هم إلى أولاد غيرهم من اليتامى إذا كانوا تحت ولايتهم , قال تعالى : وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ولما كان هؤلاء لا يستطيعون حفظ أموالهم وتصريفها بما ينميها لهم , أقام الله عليهم أولياء يتولون عنهم ذلك , وينظرون في مصالحهم , وأعطى هؤلاء الأولياء توجيهات يسيرون عليها حال ولايتهم على هؤلاء , فنهى الأولياء عن إعطاء القصار أموالهم وتمكينهم منها , لئلا يفسدوها أو يضيعوها .
قال تعالى : وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : " ينهى الله سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها الله للناس قياما ; أي : تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها , ومن هنا يؤخذ الحجر على السفهاء " انتهى .
وكما نهى الله عن تمكين هؤلاء القصار من أموالهم , وجعلها تحت ولاية أهل النظر والإصلاح ; فإنه سبحانه وتعالى يحذر هؤلاء الأولياء من التصرف فيها ; إلا بما يصلحها وينميها , فيقول سبحانه وتعالى : وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ أي : لا تتصرفوا في مال اليتيم إلا بما فيه غبطة ومصلحة لليتيم .
عن ابن عباس رضي الله عنهما ; قال : " لما أنزل الله تعالى قوله : وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وقوله : إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا انطلق من كان عنده يتيم , فعزل طعامه عن طعامه , وشرابه من شرابه , فجعل يفضل الشيء , فيحبس له حتى يأكله أو يفسد , فاشتد ذلك عليهم , فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم , فأنزل الله : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ قال : " فخلطوا طعامهم بطعامهم , وشرابهم بشرابهم " .
* ومن الإحسان في أموال اليتامى إشغالها في الاتجار طلبا للربح والنمو , فلوليه الاتجار به , وله دفعه لمن يتجر به مضاربة , لأن عائشة رضي الله عنها أبضعت مال محمد بن أبي بكر رضي الله عنهم , وقال عمر رضي الله عنه : " اتجروا بأموال اليتامى ; كيلا تأكلها الصدقة "
* كما أن ولي اليتيم ينفق عليه من ماله بالمعروف .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ويستحب إكرام اليتيم وإدخال السرور عليه ودفع الإهانة عنه ; فجبر قلبه من أعظم مصالحه " انتهى .
* ولولي اليتيم شراء الأضحية له من ماله إذا كان اليتيم موسرا , لأنه يوم سرور وفرح , ولوليه أيضا تعليمه بالأجرة من ماله ; لأن ذلك من مصالحه .
* وإذا كان ولي اليتيم فقيرا ; فله أن يأكل من مال اليتيم قدر أجرته لقاء ما يقدمه من خدمة لماله , قال تعالى : وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ أي : ومن كان محتاجا إلى النفقة وهو يحفظ مال اليتيم ويتعاهده , ( فليأكل ) منه ( بالمعروف ) .
قال الإمام ابن كثير : " نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجا أن يأكل منه " , وعن عائشة قالت : " أنزلت هذه الآية في والي اليتيم : وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ بقدر قيامه عليه " .
قال الفقهاء : له أن يأخذ أقل الأمرين أجرة مثله أو قدر حاجته , روي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فقال : إن عندي يتيما عنده مال وليس لي مال ; أآكل من ماله ؟ ; قال : كل بالمعروف غير مسرف أما ما زاد عن هذا الحد الذي رخص الله فيه ; فلا يجوز أكله من مال اليتيم ; فقد توعد الله عليه بأشد الوعيد , قال تعالى : وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وقال تعالى : وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا أي : إن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثم عظيم وخطأ كبير فاجتنبوه , وقال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا قال الإمام ابن كثير : " أي : إذا أكلوا أموال اليتامى بلا سبب , فإنما يأكلون نارا تتأجج في بطونهم يوم القيامة " .
وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اجتنبوا السبع الموبقات . قيل : يا رسول الله ! وما هن ؟ قال : الشرك بالله , والسحر , وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق , وأكل الربا , وأكل مال اليتيم , والتولي يوم الزحف , وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات
* ثم إنه سبحانه أمر بدفع أموال اليتامى إليهم عندما يزول عنهم اليتم ويتأهلوا للتصرف فيها على السداد موفرة كاملة , قال تعالى : وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وقال : إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وقال تعالى : فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا أي : وكفى بالله محاسبا وشاهدا ورقيبا على الأولياء في حال نظرهم للأيتام وحال تسليمهم لأموالهم هل هي كاملة موفرة أو منقوصة مبخوسة .
باب في أحكام الصلح
بسم الله الرحمن الرحيم
* الصلح في اللغة : قطع المنازعة , ومعناه في الشرع : أنه معاقدة يتوصل بها إلى إصلاح بين متخاصمين . وهو من أكبر العقود فائدة , ولذلك حسن فيه استعمال شيء من الكذب إذا دعت الحاجة إلى ذلك .
* والدليل على مشروعية الصلح : الكتاب , والسنة , والإجماع : - قال الله تعالى : وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وقال : وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا إلى قوله تعالى : فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وقال تعالى : لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا وقال تعالى : فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ
- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : الصلح جائز بين المسلمين ; إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا صححه الترمذي , وكان صلى الله عليه وسلم يقوم بالإصلاح بين الناس .
* والصلح الجائز هو العادل , الذي أمر الله به ورسوله , وهو ما يقصد به رضى الله تعالى ثم رضى الخصمين .
* ولا بد أن يكون من يقوم بالإصلاح بين الناس عالما بالوقائع , عارفا بالواجب , قاصدا للعدل , ودرجة المصلح بين الناس أفضل من درجة الصائم القائم , أما إذا خلا الصلح من العدل ; صار ظلما وهضما للحق , كأن يصلح بين قادر ظالم وضعيف مظلوم بما يرضى به القادر ويمكنه من الظلم ويهضم به حق الضعيف ولا يمكنه من أخذ حقه ,
والصلح إنما يكون في حقوق المخلوقين التي لبعضهم على بعض مما يقبل الإسقاط والمعاوضة , أما حقوق الله تعالى , كالحدود والزكاة ; فلا مدخل للصلح فيها , لأن الصلح فيها هو أداؤها كاملة .
* والصلح بين الناس يتناول خمسة أنواع :
النوع الأول : الصلح بين المسلمين وأهل الحرب
النوع الثاني : صلح بين أهل العدل وأهل البغي من المسلمين .
النوع الثالث : صلح بين الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما .
النوع الرابع : إصلاح بين متخاصمين في غير المال
النوع الخامس : إصلاح بين متخاصمين في الأموال وهو المراد هنا , وهذا النوع من الصلح ينقسم إلى قسمين : الأول : صلح عن إقرار , والثاني : صلح عن إنكار . 1 - والصلح عن الإقرار نوعان : نوع يقع على جنس الحق , ونوع يقع على غير جنسه . - فالذي يقع على جنسه مثل ما إذا أقر له بدين معلوم أو بعين مالية في يده , فصالحه على أخذ بعض الدين وإسقاط بقيته , أو على هبة بعض العين وأخذ البعض الآخر . وهذا النوع من الصلح يصح إذا لم يكن مشروطا في الإقرار , كأن يقول من عليه الحق : أقر لك بشرط أن تعطيني أو تعوضني كذا , أو يقول صاحب الحق : أبرأتك أو وهبتك بشرط أن تعطيني كذا , فإن كان هذا الصلح مشروطا على نحو ما ذكرنا ; لم يصح ; لأن صاحب الحق له المطالبة بجميع الحق . ويشترط لصحة هذا النوع من الصلح أيضا أن لا يمنعه حقه بدونه ; لأن ذلك أكل لمال الغير بالباطل , وهو محرم , ولأن من عليه الحق يجب دفعه لصاحبه بدون قيد ولا شرط . ويشترط أيضا لصحة هذا النوع من الصلح أن يكون صاحب الحق ممن يصح تبرعه , فإن كان ممن لا يصح تبرعه , لم يصح , كما لو كان وليا لمال يتيم أو مجنون ; لأن هذا تبرع , وهو لا يملكه .
والحاصل أنه يجوز المصالحة عن الحق الثابت بشيء من جنسه , شريطة أن لا يمتنع من عليه الحق من أدائه بدون هذا الصلح , وشريطة أن يكون صاحب الحق ممن يصح تبرعه , فإذا توفر ذلك ; جازت هذه المصالحة ; لأنها تكون حينئذ من باب التبرع , والإنسان لا يمنع من إسقاط بعض حقه , كما لا يمنع من استيفائه كله , ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كلم غرماء جابر رضي الله عنه ليضعوا عنه .
- والنوع الثاني من نوعي الصلح عن الإقرار أن يصالح عن الحق بغير جنسه ; كما لو اعترف له بدين أو عين , ثم تصالحا على أن يأخذ عن ذلك عوضا من غير جنسه , فإن صالحه عن نقد بنقد آخر من جنسه , فهذا صرف تجري عليه أحكام الصرف , وإن صالح عن النقد بغير نقد ; اعتبر ذلك بيعا تجري عليه أحكام البيع , وإن صالح عنه بمنفعة كسكنى داره ; اعتبر ذلك إجارة تجري عليها أحكام الأجرة , وإن صالحه عن غير النقد بمال آخر ; فهو بيع .
2 - الصلح عن إنكار , ومعناه أن يدعي شخص على آخر بعين له عنده ; أو بدين في ذمته له , فيسكت المدعى عليه وهو يجهل المدعى به , ثم يصالح المدعي عن دعواه بمال حالٍّ أو مؤجل , فيصح الصلح في هذه الحالة في قول أكثر أهل العلم ; لقوله عليه الصلاة والسلام : الصلح جائز بين المسلمين ; إلا صلحا حرم حلالا , أو أحل حراما رواه أبو داود والترمذي وقال : " حسن صحيح " , وصححه الحاكم , وقد كتب بهذا الحديث عمر إلى أبي موسى رضي الله عنهما , فصلح الاحتجاج به لهذه الاعتبارات .
وفائدة هذا النوع من الصلح للمدعى عليه أنه يفتدي به نفسه من الدعوى واليمين , وفائدته للمدعي إراحته من تكليف إقامة البينة وتفادي تأخير حقه الذي يدعيه .
والصلح عن الإنكار يكون في حق المدعي في حكم البيع , لأنه يعتقده عوضا عن ماله , فلزمه حكم اعتقاده , فكأن المدعى عليه اشتراه منه , فتدخله أحكام البيع من جهته , كالرد بالعيب , والأخذ بالشفعة إذا كان مما تدخله الشفعة .
وحكم هذا الصلح في حق المدعى عليه أنه إبراء عن الدعوى ; لأنه دفع المال افتداء ليمينه وإزالة للضرر عنه وقطعا للخصومة وصيانة لنفسه عن التبذل والمخاصمات ; لأن ذوي النفوس الشريفة يأنفون من ذلك , ويصعب عليهم , فيدفعون المال للإبراء من ذلك , فلو وجد فيما صالح به عيبا ; لم يستحق رده به ; ولا يؤخذ بالشفعة ; لأنه لا يعتقده عوضا عن شيء , وإن كذب أحد المتصالحين في الصلح عن الإنكار , كأن يكذب المدعي , فيدعي شيئا يعلم أنه ليس له , أو يكذب المنكر في إنكاره ما ادعي به عليه , وهو يعلم أنه عليه , ويعلم بكذب نفسه في إنكاره , إذا حصل شيء من هذا الكذب من جانب المدعي أو المنكر ; فالصلح باطل في حق الكاذب منهما باطنا ; لأنه عالم بالحق , قادر على إيصاله لمستحقه , وغير معتقد أنه محق في تصرفه , فما أخذه بموجب هذا الصلح حرام عليه ; لأنه أخذه ظلما وعدوانا , لا عوضا عن حق يعلمه , وقد قال الله تعالى : وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وإن كان هذا الصلح فيما يظهر للناس صحيح , لأنهم لا يعلمون باطن الحال , لكن ذلك لا يغير من الحقيقة شيئا عند من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء , فعلى المسلم أن يبتعد عن مثل هذا التصرف السيئ والاحتيال الباطل .
ومن مسائل الصلح عن الإنكار أنه لو صالح عن المنكر أجنبي بغير إذنه , صح الصلح في ذلك , لأن الأجنبي يقصد بذلك إبراء المدعى عليه وقطع الخصومة عنه ; فهو كما لو قضى عنه دينه , لكن لا يطالبه بشيء مما دفع ; لأنه لا يستحق الرجوع عليه به ; لأنه متبرع .
* ويصح الصلح عن الحق المجهول سواء كان لكل منهما على الآخر أو كان لأحدهما , إذا كان هذا المجهول يتعذر علمه , كحساب بينهما مضى عليه زمن طويل , ولا علم لكل منهما عما عليه لصاحبه ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم لرجلين اختصما في مواريث درست بينهما : استهما , وتواخيا الحق , وليحلل أحدكما صاحبه رواه أبو داود وغيره , ولأنه إسقاط حق , فصح في المجهول للحاجة , ولئلا يفضي إلى ضياع المال أو بقاء شغل الذمة , وأمره صلى الله عليه وسلم بتحليل كل منهما لصاحبه يدل على أخذ الحيطة لبراءة الذمة وعلى عظم حق المخلوق .
* ويصح الصلح عن القصاص بالدية المحددة شرعا أو أقل أو أكثر ; ولأن المال غير متعين ; فلا يقع العوض في مقابلته .
* ولا يصح الصلح عن الحدود لأنها شرعت للزجر , ولأنها حق لله تعالى وحق للمجتمع ; فالصلح عنها يبطلها , ويحرم المجتمع من فائدتها , ويفسح المجال للمفسدين والعابثين .
باب في أحكام الجوار والطرقات
تناول الفقهاء أحكام الجوار وأحكام الطرقات ; لما لهذا الموضوع من الأهمية البالغة :
* فقد تعرض مشاكل بين الجيران يجب حلها وحسمها , لئلا تفضي إلى النزاع والعداوة , وحلها يكون بطرق :
- منها : إجراء الصلح بينهم بما يحقق العدل والمصلحة .
- ومن ذلك : لو احتاج الجار إلى إجراء الماء مع أرض جاره أو سطحه وتصالحا على ذلك بعوض , جاز هذا الصلح ; لدعاء الحاجة إلى ذلك , ثم إن كان هذا العوض في مقابل الانتفاع مع بقاء ملك صاحب الأرض أو السطح عليه ; فهذا العقد يعتبر إجارة , وإن كان مع زوال الملك ; اعتبر بيعا .
- وإذا احتاج الجار إلى ممر في ملك جاره , وبذله له عن طريق البيع أو عن طريق الصلح ; جاز هذا ; لدعاء الحاجة إليه , ولا ينبغي للمالك أن يستغل حاجة جاره فيرهقه ببذل العوض أو يمتنع من استخدام هذا الممر فيحرج جاره ويحول بينه وبين مصلحته , وإذا امتد غصن من شجرته في هواء جاره أو في قرار ملكه ; وجب على مالك الغصن إزالته : إما بقطعه أو ليه إلى ناحية أخرى ; ليخلي ملك الغير , فإن أبى مالك الغصن أن يعمل شيئا من ذلك ; فلصاحب الهواء أو القرار أن يزيل ضرره بأحد هذه الإجراءات , لأنه بمنزلة الصائل , فيدفعه بأسهل ما يمكن , وإن تصالحا على بقاء الغصن ; جاز ذلك , سواء كان بعوض على الصحيح , أو على أن ثمرته بينهما . - وحكم العرق إذا حصل في أرض الجار حكم الغصن على ما مر بيانه .
- ولا يجوز أن يحدث الإنسان في ملكه ما يضر بجاره , كحمام أو مخبز أو مطبخ أو مقهى يتعدى ضرره , أو مصنع يقلق جاره حركاته وأصواته , أو فتح نوافذ تطل على بيت جاره .
- وإذا كان بينه وبين جاره جدار مشترك , حرم أن يتصرف فيه بفتح طاق أو غرز وتد إلا بإذنه , ولا يجوز له وضع الخشب على الجدار المشترك أو الخاص بالجار إلا عند الضرورة , إذا لم يمكنه التسقيف إلا به , وكان الجدار يتحول وضع الخشب ; فحينئذ يمكن من وضع الخشب ; لحديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم : لا يمنعن جار جاره أن يضع خشبه على جداره ثم يقول أبو هريرة : ما لي أراكم عنها معرضين ؟ والله لأرمين بها بين أكتافكم , متفق عليه ,
فدل هذا الحديث على أنه لا يجوز للجار أن يمنع جاره من وضع الخشب في جداره , ويجبره الحاكم إذا امتنع ; لأنه حق ثابت لجاره بحكم الجوار . هذا بعض ما يتعلق بالجوار من أحكام .
* أما ما يتعلق في الطرقات : - فلا يجوز مضايقة المسلمين في طرقاتهم بل يجب إفساح الطريق , وإماطة الأذى عنه ; لأن ذلك من الإيمان ; كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم .
- ولا يجوز أن يحدث في ملكه ما يضايق الطريق ; كأن يبني فوق الطرق سقفا يمنع مرور الركبان والأحمال , أو يبني دكة للجلوس عليها .
- ولا يجوز له أن يتخذ موقفا لدابته أو سيارته بطريق المارة , لأن ذلك يضيق الطريق , أو يسبب الحوادث .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " لا يجوز لأحد أن يخرج شيئا في طريق المسلمين من أجزاء البناء , حتى إنه ينهى عن تجصيص الحائط ; إلا أن يدخل رب الحائط منه في حده بقدر غلظه . .. " انتهى .
- ويمنع في الطريق الغرس والبناء والحفر ووضع الحطب والذبح فيها وطرح القمامة والرماد وغير ذلك مما فيه ضرر على المارة . ويجب على المسئولين عن تنظيم البلد من رجال البلديات منع هذه الأشياء , ومعاقبة المخالفين بما يردعهم , وقد كثر التساهل في هذا الأمر المهم , فصار كثير من الناس يحتجزون الطرقات لمصالحهم الخاصة , يوقفون فيها سياراتهم , ويضعون فيها الأحجار والحديد والإسمنت لبناياتهم , ويحفرون فيها الحفر , وغير ذلك , والبعض الآخر من الناس يلقي الأذى في الأسواق من الفضلات والنجاسات والقمامات , غير مبالين بمضارة المسلمين , وهذا كله مما حرمه الله ورسوله , قال الله تعالى : وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وقال النبي صلى الله عليه وسلم : المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده وقال صلى الله عليه وسلم : الإيمان بضع وسبعون شعبة : أعلاها قول : لا إله إلا الله , وأدناها إماطة الأذى عن الطريق , والحياء شعبة من الإيمان إلى غير ذلك من الأحاديث التي تحث على احترام حقوق المسلمين والامتناع من أذيتهم , ومن أعظم أذية المسلمين مضايقتهم في طرقاتهم وإلقاء العراقيل فيها .
باب في أحكام الشفعة
* تعريف الشفعة لغة : الشفعة - بإسكان الفاء - مأخوذة من الشفع , وهو الزوج ; لأن الشفيع بالشفعة يضم الربيع إلى ملكه الذي كان منفردا .
* والشفعة ثابتة بالسنة الصحيحة , شرعها الله تعالى سدا لذريعة المفسدة المتعلقة بالشركة . قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله : " ومن محاسن الشريعة وعدلها وقيامها بمصالح العباد إتيانها بالشفعة ; فإن حكمة الشارع اقتضت رفع الضرر عن المكلفين مهما أمكن , ولما كانت الشركة منشأ الضرر في الغالب ; رفع هذا الضرر بالقسمة تارة وبالشفعة تارة , فإذا أراد بيع نصيبه وأخذ عوضه ; كان شريكه أحق به من الأجنبي , ويزول عنه ضرر الشركة , ولا يتضرر البائع ; لأنه يصل إلى حقه من الثمن , وكانت من أعظم العدل وأحسن الأحكام المطابقة للعقول والفطر ومصالح العباد " . ومن هنا يعلم أن التحيل لإسقاط الشفعة مناقض لهذا المعنى الذي قصده الشارع , ومضاد له .
* وكانت الشفعة معروفة عند العرب في الجاهلية , كان الرجل إذا أراد بيع منزل أو حائطه , أتاه الجار والشريك والصاحب إليه فيما باعه , فيشفعه , ويجعله أولى رجل به , فسميت الشفعة , وسمي طالبها شافعا .
* والشفعة في عرف الفقهاء : استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه بعوض مالي , فيأخذ الشفيع نصيب شريكه البائع بثمنه الذي استقر عليه العقد في الباطن .
* فيجب على المشتري أن يسلم الشقص المشفوع فيه إلى الشافع بالثمن الذي تراضيا عليه في الباطن , لما روى أحمد والبخاري عن جابر رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم , فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق ; فلا شفعة ففي الحديث دليل على إثبات الشفعة للشريك وأنها لا تجب إلا في الأرض والعقار دون غيرهما من العروض والأمتعة والحيوان ونحوها , وقال صلى الله عليه وسلم : لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فدل الحديث على أنه لا يحل له أن يبيع حتى يعرض على شريكه .
قال ابن القيم : " حرم على الشريك أن يبيع نصيبه حتى يؤذن شريكه , فإن باع ولم يؤذنه , فهو أحق به , وإن أذن في البيع وقال : لا غرض لي فيه , لم يكن له الطلب بعد البيع , وهذا مقتضى حكم الشرع , ولا معارض له بوجه , وهو الصواب المقطوع به " انتهى .
وهذا الذي قاله ابن القيم من أن الشفعة تسقط بإسقاط صاحبها لها قبل البيع هو أحد القولين في المسألة ,
والقول الثاني - وهو قول الجمهور - : أنها لا تسقط بذلك , ولا يكون مجرد الإذن بالبيع مبطلا لها , والله أعلم .
* والشفعة حق شرعي , يجب احترامه , ويحرم التحيل لإسقاطه ; لأن الشفعة شرعت لدفع الضرر عن الشريك , فإذا تحيل لإسقاطها , لحقه الضرر , وكان تعديا على حقه المشروع , قال الإمام أحمد رحمه الله : " لا يجوز شيء من الحيل في إبطالها ولا إبطال حق مسلم " , وقد قال صلى الله عليه وسلم : لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل
* ومن الحيل التي تفعل لإسقاط الشفعة أن يظهر أنه وهب نصيبه لآخر , وهو في الحقيقة قد باعه عليه , ومن الحيل لإسقاط الشفعة أن يرفع الثمن في الظاهر حتى لا يتمكن الشريك من دفعه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " وما وجد من التصرفات لأجل الاحتيال على إسقاط الشفعة ; فهو باطل , ولا تغير حقائق العقود بتغير العبارة " انتهى .
* وموضوع الشفعة هو الأرض التي لم تجر قسمتها , ويتبعها ما فيها من غراس وبناء , فإن جرت قسمة الأرض , لكن بقي مرافق مشتركة بين الجيران , كالطريق والماء ونحو ذلك ; فالشفعة باقية في أصح قولي العلماء ; لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم : فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق ; فلا شفعة إذ مفهومه أنه إذا وقعت الحدود ولم تصرف الطرق أن الشفعة باقية .
قال ابن القيم : " وهو أصح الأقوال في شفعة الجوار , ومذهب أهل البصرة , وأحد الوجهين في مذهب أحمد , واختيار الشيخ " انتهى .
وقال الشيخ تقي الدين : " تثبت شفعة الجوار مع الشركة في حق من حقوق الملك من طريق وماء ونحو ذلك , نص عليه أحمد , واختاره ابن عقيل وأبو محمد وغيرهم , وقال الحارثي : هذا الذي يتعين المصير إليه , وفيه جمع بين الأحاديث , وذلك أن الجوار لا يكون مقتضيا للشفعة إلا مع اتحاد الطريق ونحوه ; لأن شرعية الشفعة لدفع الضرر , والضرر إنما يحصل في الأغلب مع المخالطة في الشيء المملوك أو في طريق ونحوه " انتهى .
* والشفعة إنما تثبت بالمطالبة بها فور علمه بالبيع , فإن لم يطلبها وقت علمه بالبيع , سقطت , فإن لم يعلم بالبيع , فهو على شفعته , ولو مضى عدة سنين . قال ابن هبيرة : " اتفقوا على أنه إذا كان غائبا ; فله إذا قدم المطالبة بالشفعة " . وتثبت الشفعة للشركاء على قدر ملكهم ; لأنه حق يستفاد بسبب الملك , فكانت على قدر الأملاك , فإن تنازل عنها أحد الشركاء ; أخذ الآخر الكل , أو ترك الكل ; لأن في أخذ البعض إضرارا بالمشتري , والضرر لا يزال بالضرر .
كتاب الشركات
باب في أحكام الشراكة وأنواع الشركات
بسم الله الرحمن الرحيم
* موضوع الشركات ينبغي التعرف على أحكامه لكثرة التعامل به ; إذ لا يزال الاشتراك في التجارة وغيرها مستمرا بين الناس , وهو من باب التعاون على تحصيل المصالح بتنمية الأموال واستثمارها وتبادل الخبرات .
* فالشركة في التجارة وغيرها مما جاءت بجوازه نصوص الكتاب والسنة .
- قال الله تعالى : وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ والخلطاء هم الشركاء , ومعنى : لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يظلم بعضهم بعضا , فدلت الآية الكريمة على جواز الشركة , والمنع من ظلم الشريك لشريكه .
- والدليل من السنة على جواز الشركة قوله صلى الله عليه وسلم : قال الله تعالى : أنا ثالث الشريكين أي : معهما بالحفظ والرعاية والإمداد وإنزال البركة في تجارتهما ; ما لم يخن أحدهما صاحبه , فإذا خانه ; خرجت من بينهما أي : نزعت البركة من تجارتهما , ففي الحديث مشروعية الشركة والحث عليها مع عدم الخيانة ; لأن فيها التعاون , والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه .
* وينبغي اختيار من ماله من حلال للمشاركة , وتجنب من ماله من الحرام أو من المختلط بالحلال والحرام .
* وتجوز مشاركة المسلم للكافر بشرط أن لا ينفرد الكافر بالتصرف , بل يكون بإشراف المسلم ; لئلا يتعامل الكافر بالربا أو المحرمات إذا انفرد عن إشراف المسلم .
* والشركة تنقسم إلى قسمين : شركة أملاك وشركة عقود .
- فشركة الأملاك هي اشتراك في استحقاق , كالاشتراك في تملك عقار أو تملك مصنع أو تملك سيارات أو غير ذلك .
- وشركة العقود هي الاشتراك في التصرف , كالاشتراك في البيع أو الشراء أو التأجير أو غير ذلك , وهي إما اشتراك في مال وعمل أو اشتراك في عمل بدون مال , وهي خمسة أنواع :
النوع الأول : أن يكون الاشتراك في المال والعمل , وهذا النوع يسمى شركة العنان .
النوع الثاني : اشتراك في مال من جانب وعمل من جانب آخر , وهذا ما يسمى بالمضاربة .
النوع الثالث : اشتراك في التحمل بالذمم دون مال , وهذا ما يسمى بشركة الوجوه .
النوع الرابع : اشتراك فيما يكسبان بأبدانهما , وهذا ما يسمى بشركة الأبدان .
النوع الخامس : اشتراك في كل ما تقدم , بأن يفوض أحدهما إلى الآخر كل تصرف مالي وبدني , فيشمل شركة العنان والمضاربة والوجوه والأبدان , ويسمى هذا النوع بشركة المفاوضة .
هذا مجمل أنواع الشركات , ولنبينها بالتفصيل واحدة واحدة ; لداعي الحاجة إلى بيانها , فنقول :
باب في أحكام شركة العنان
* وهي بكسر العين , سميت بذلك لتساوي الشريكين في المال والتصرف ; كالفارسين إذا سويا بين فرسيهما وتساويا في السير فكان عنانا فرسيهما سواء , وذلك أن كل واحد من الشريكين يساوى الآخر في تقديمه ماله وعمله في الشركة .
فحقيقة شركة العنان أن يشترك شخصان فأكثر بماليهما , بحيث يصيران مالا واحدا يعملان فيه بيديهما , أو يعمل فيه أحدهما ويكون له من الربح أكثر من نصيب الآخر .
* وشركة العنان بهذا الاعتبار المذكور جائزة بالإجماع ; كما حكاه ابن المنذر رحمه الله , وإنما اختلف في بعض شروطها .
* وينفذ تصرف كل من الشريكين في مال الشركة بحكم الملك في نصيبه والوكالة في نصيب شريكه ; لأن لفظ الشركة يغني عن الإذن من كل منهما للآخر .
* واتفقوا على أنه يجوز أن يكون رأس مال الشركة من النقدين المضروبين ; لأن الناس يشتركون بهما من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير .
واختلفوا في كون رأس المال في شركة العنان من العروض , فقال بعضهم : لا يجوز ; لأن قيمة أحد المالين قد تزيد قبل بيعه ولا تزيد قيمة المال الآخر , فيشارك أحدهما الآخر في نماء ماله .
والقول الثاني جواز ذلك , وهو الصحيح , لأن مقصود الشركة تصرفهما في المالين جميعا , وكون ربح المالين بينهما ; وهو حاصل في العروض كحصوله في النقود .
* ويشترط لصحة شركة العنان أن يشترطا لكل من الشريكين جزءا من الربح مشاعا معلوما كالثلث والربع ; لأن الربح مشترك بينهما ; فلا يتميز نصيب كل منهما إلا بالاشتراط والتحديد , فلو كان نصيب كل منهما من الربح مجهولا , أو شرط لأحدهما ربح شيء معين من المال , أو ربح وقت معين , أو ربح سفرة معينة ; لم يصح في جميع هذه الصور ; لأنه قد يربح المعين وحده , وقد لا يربح , وقد لا يحصل غير الدراهم المعينة , وذلك يفضي إلى النزاع وضياع تعب أحدهما دون الآخر , وذلك مما تنهى عنه الشريعة السمحة ; لأنها جاءت بدقع الغرر والضرر .
باب في أحكام شركة المضاربة
* شركة المضاربة سميت بذلك أخذا من الضرب في الأرض , وهو السفر للتجارة , قال الله تعالى : وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أي : يطلبون رزق الله في المتاجر والمكاسب ,
ومعنى المضاربة شرعا : دفع مال معلوم لمن يتجر به ببعض ربحه .
* وهذا النوع من التعامل جائز بالإجماع , وكان موجودا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم , وأقره , وروي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وغيرهم , ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة رضي الله عن الجميع , والحكمة تقتضي جواز المضاربة بالمال ; لأن الناس بحاجة إليها ; لأن الدراهم والدنانير لا تنمو إلا بالتقليب والتجارة .
قال العلامة ابن القيم : " المضارب أمين وأجير ووكيل وشريك , فأمين إذا قبض المال , ووكيل إذا تصرف فيه , وأجير فيما يباشره بنفسه من العمل , وشريك إذا ظهر فيه الربح , ويشترط لصحة المضاربة تقدير نصيب العامل ; لأنه يستحقه بالشرط " . وقال ابن المنذر : " أجمع أهل العلم على أن للعامل أن يشترط على رب المال ثلث الربح أو نصفه أو ما يجمعان عليه بعد أن يكون ذلك معلوما جزءا من أجزاء , فلو سمى له كل الربح أو دراهم معلومة أو جزءا مجهولا ; فسدت " انتهى .
* وتعيين مقدار نصيب العامل من الربح يرجع إليهما : فلو قال رب المال للعامل : اتجر به والربح بيننا ; صار لكل منهما نصف الربح ; لأنه أضافه إليهما إضافة واحدة لا مرجح لأحدهما على الآخر فيها , فاقتضى ذلك التسوية في الاستحقاق , كما لو قال : هذه الدار بيني وبينك ; فإنها تكون بينهما نصفين , وإن قال رب المال للعامل : اتجر به ولي ثلاثة أرباع ربحه أو ثلثه , أو قال له : اتجر به ولك ثلاثة أرباع ربحه أو ثلثه صح ذلك ; لأنه متى علم نصيب أحدهما ; أخذه , والباقي للآخر ; لأن الربح مستحق لهما , فإذا قدر نصيب أحدا منه ; فالباقي للآخر بمفهوم اللفظ , وإن اختلفا لمن الجزء المشروط ; فهو للعامل , قليلا كان أو كثيرا ; لأنه يستحقه بالعمل , وهو يقل ويكثر ; فقد يشترط له جزء قليل لسهولة العمل , وقد يشترط له جزء كثير لصعوبة العمل , وقد يختلف التقدير لاختلاف العاملين في الحذق وعدمه , وإنما تقدر حصة العامل بالشرط ; بخلاف رب المال ; فإنه يستحقه بماله لا بالشرط .
* وإذا فسدت المضاربة فربحها يكون لرب المال ; لأنه نماء ماله , ويكون للعامل أجرة مثله ; لأنه إنما يستحق بالشرط , وقد فسد الشرط تبعا لفساد المضاربة .
* وتصح المضاربة مؤقتة بوقت محدد بأن يقول رب المال : ضاربتك على هذه الدراهم لمدة سنة .
وتصح المضاربة معلقة بشرط ; كأن يقول صاحب المال : إذا جاء شهر كذا ; فضارب بهذا المال , أو يقول : إذا قبضت مالي من زيد ; فهو معك مضاربة ; لأن المضاربة إذن في التصرف , فيجوز تعليقه على شرط مستقبل .
* ولا يجوز للعامل أن يأخذ مضاربة من شخص آخر إذا كان ذلك يضر بالمضارب الأول إلا بإذنه , وذلك كأن يكون المال الثاني كثيرا يستوعب وقت العامل فيشغله عن التجارة بمال الأول , أو يكون مال المضارب الأول كثيرا يستوعب وقته ومتى اشتغل عنه بغيره تعطلت بعض تصرفاته فيه , فإن أذن الأول , أو لم يكن عليه ضرر ; جاز للعامل أن يضارب لآخر .
وإن ضارب العامل لآخر مع ضرر الأول بدون إذنه ; فإن العامل يرد حصته من ربحه في مضاربته مع الثاني في شركته مع المضارب الأول , فيدفع لرب المضاربة الثانية نصيبه من الربح , ويؤخذ نصيب العامل , ويضم لربح المضاربة الأولى , ويقسم بينه وبين صاحبها على ما شرطاه ; لأن منفعة العامل المبذولة في المضاربة الثانية قد استحقت في المضاربة الأولى .
* ولا ينفق العامل من مال المضاربة لا لسفر ولا لغيره ; إلا إذا اشترط على صاحب المال ذلك ; لأنه يعمل في المال بجزء من ربحه ; فلا يستحق زيادة عليه إلا بشرط ; إلا أن يكون هناك عادة في مثل هذا فيعمل بها .
* ولا يقسم الربح في المضاربة قبل إنهاء العقد بينهما إلا بتراضيهما ; لأن الربح وقاية لرأس المال , ولا يؤمن أن يقع خسارة في بعض المعاملة , فتجبر من الربح , وإذا قسم الربح مع بقاء عقد المضاربة ; لم يبق رصيد يجبر منه الخسران ; فالربح وقاية لرأس المال , لا يستحق العامل منه شيئا إلا بعد كمال رأس المال .
* والعامل أمين يجب عليه أن يتقي الله فيما ولي عليه , ويقبل قوله فيما يدعيه من تلف أو خسران , ويصدق فيما يذكر أنه اشتراه لنفسه لا للمضاربة أو اشتراه للمضاربة لا لنفسه ; لأنه مؤتمن على ذلك , والله أعلم .
باب في شركات الوجوه والأبدان والمفاوضة
أولا : شركة الوجوه :
* شركة الوجوه هي أن يشترك اثنان فأكثر فيما يشتريان بذمتيهما , وما ربحا فهو بينهما على ما شرطاه , سميت بذلك لأنها ليس لها رأس مال , وإنما تبذل فيها الذمم والجاه وثقة التجار بهما , فيشتريان ويبيعان بذلك , ويقتسمان ما يحصل لهما من ربح على حسب الشرط ; لقوله صلى الله عليه وسلم : المسلمون على شروطهم وهذا النوع من الشركة يشبه شركة العنان , فأعطي حكمها.
* وكل واحد من الشريكين وكيل عن صاحبه وكفيل عنه بالثمن ; لأن مثل هذا النوع من الشركة على الوكالة والكفالة .
* ومقدار ما يملكه كل واحد منهما من هذه الشركة على حسب الشرط , من مناصفة , أو أقل , أو أكثر . ويتحمل كل واحد من الخسارة على قدر ما يملك في الشركة , فمن له نصف الشركة ; فعليه نصف الخسارة . .. وكذا . ويستحق كل من الشركاء من الربح على حسب الشرط من نصف أو ربع أو ثلث ; لأن أحدهما قد يكون أوثق وأرغب عند التجار وأبصر بطرق التجارة من الشخص الآخر , ولأن عمل كل منهما قد يختلف عن عمل الآخر , فيتطلع إلى زيادة نصيبه في مقابل ذلك , فيرجع إلى الشرط الجاري بينهما في ذلك .
* و لكل واحد من الشركاء في شركة الوجوه من الصلاحيات مثل ما للشركاء في شركة العنان
ثانيا : شركة الأبدان
* شركة الأبدان هي أن يشترك اثنان فأكثر فيما يكتسبان بأبدانهما , سميت بذلك لأن الشركاء بذلوا أبدانهم في الأعمال لتحصيل المكاسب , واشتركوا فيما يحصلون عليه من كسب .
* ودليل جواز هذا النوع من الشركة ما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه ; قال : " اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر , فجاء سعد بأسيرين , ولم أجئ أنا وعمار بشيء " قال أحمد : " أشرك بينهم النبي صلى الله عليه وسلم , فدل هذا الحديث على صحة الشركة في مكاسب الأبدان " .
* وإذا تم الاتفاق بينهم على ذلك ; فما تقبله أحدهم من عمل ; لزم بقية الشركاء فعله , فيطالب كل واحد بما تقبله شريكه من أعمال ; لأن هذا هو مقتضاها .
* وتصح شركة الأبدان ولو اختلفت صنائع المشتركين ; كخياط مع حداد . .. وهكذا , ولكل واحد من الشركاء أن يطالب بأجرة العمل الذي تقبله هو أو صاحبه , ويجوز للمستأجر من أحدهم دفع الأجرة إلى أي منهم ; لأن كل واحد منهم كالوكيل عن الآخر , فما يحصل لهم من العمل أو الأجرة ; فهو مشترك بينهم .
* وتصح شركة الأبدان في تملك المباحات كالاحتطاب , وجمع الثمار المأخوذة من الجبال , واستخراج المعادن .
* وإن مرض أحد شركاء الأبدان ; فالكسب الذي تحصل عليه الآخر بينهما ; لأن سعدا وعمارا وابن مسعود اشتركوا , فجاء سعد بأسيرين وأخفق الآخران , وشرك بينهم النبي صلى الله عليه وسلم . وإن طالب الصحيح المريض بأن يقيم مقامه من يعمل ; لزمه ذلك ; لأنهما دخلا على أن يعملا , فإذا تعذر على أحدهما العمل بنفسه ; لزمه أن يقيم مقامه من يعمل بدلا عنه , لتوفية العقد حقه , فإن امتنع العاجز عن العمل من إقامة من يعمل بدله بعد مطالبته بذلك ; فلشريكه أن يفسخ عقد الشركة .
* وإن اشترك أصحاب دواب أو سيارات على أن يحملوا عليها بالأجرة , وما حصلوا عليه فهو بينهم صح ذلك ; لأنه نوع من الاكتساب , ويصح أيضا دفع دابة أو سيارة لمن يعمل عليها , وما تحصل من كسب ; فهو بينهما , وإن اشترك ثلاثة من أحدهم دابة ومن الآخر آلة ومن الثالث العمل على أن ما تحصل فهو بينهم ; صح ذلك .
وتصح شركة الدلالين بينهم إذا كانوا يقومون بالنداء على بيع السلع وعرضها وإحضار الزبون , وما تحصل ; فهو بينهم
ثالثا : شركة المفاوضة
* وشركة المفاوضة هي أن يفوض كل من الشركاء إلى صاحبه كل تصرف مالي وبدني من أنواع الشركة ; فهي الجمع بين شركة العنان والمضاربة والوجوه والأبدان , أو يشتركون في كل ما يثبت لهم وعليهم .
* ويصح هذا النوع من الشركة ; لأنه يجمع أنواعا يصح كل منها منفردا فيصح إذا جمع مع غيره .
* والربح يوزع في هذه الشركة على ما شرطوا , ويتحملون من الخسارة على قدر ملك كل واحد منهم من الشركة بالحساب . وهكذا شريعة الإسلام وسعت دائرة الاكتساب في حدود المباح , فأباحت للإنسان أن يكتسب منفردا ومشتركا مع غيره , وعاملت الناس حسب شروطهم ما لم تكن شروطا جائرة محرمة ; مما به يعلم صلاحية هذه الشريعة لكل زمان ومكان .
نسأل الله أن يرزقنا التمسك بها والسير على نهجها ; إنه سميع مجيب .
كتاب المزارعة والمساقاة والإجارة
باب في أحكام المزارعة والمساقاة
بسم الله الرحمن الرحيم
* المساقاة والمزارعة من جملة الأعمال التي يزاولها الناس من قديم الزمان ; لحاجتهم إليهما , فقد يكون في ملك الإنسان شجر لا يستطيع القيام عليه واستثماره , أو تكون له أرض زراعية لا يستطيع العمل عليها واستغلالها , وعند آخر القدرة على العمل وليس في ملكه شجر ولا أرض , ومن ثم أبيحت المزارعة والمساقاة لمصلحة الطرفين , وهكذا كل التعامل الشرعي قائم على العدل وتحقيق المصالح ودفع المفاسد .
* فالمساقاة عرفها الفقهاء : بأنها دفع شجر مغروس أو شجر غير مغروس مع أرض إلى من يغرسه فيها ويقوم بسقيه وما يحتاج إليه حتى يثمر , ويكون للعامل جزء مشاع من ثمر ذلك الشجر والباقي لمالكه . و المزارعة : دفع أرض لمن يزرعها , أو دفع أرض وحب لمن يزرعه فيها ويقوم عليه , بجزء مشاع منه , والباقي لمالك الأرض وقد يكون الجزء المشروط في المساقاة والمزارعة لمالك الأرض أو الشجر والباقي للعامل.
* والدليل على جواز المساقاة والمزارعة حديث ابن عمر رضي الله عنهما : " أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع " متفق عليه , وروى مسلم : " أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخلها وأرضها على أن يعملوها من أموالهم ولهم شطر ثمرها " أي : نصفه , وروى الإمام أحمد : " أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع إلى أهل خيبر أرضها ونخلها مقاسمة على النصف " فدل هذا الحديث على صحة المساقاة
قال الإمام ابن القيم : " وفي قصة خيبر دليل على جواز المساقاة والمزارعة بجزء من الغلة من ثمر أو زرع ; فإنه صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر , واستمر على ذلك إلى حين وفاته , ولم ينسخ ألبتة , واستمر عمل الخلفاء الراشدين عليه , وليس من باب المؤاجرة , بل من باب المشاركة , وهو نظير المضاربة سواء " انتهى .
وقال الموفق بن قدامة : " وهذا عمل به الخلفاء الراشدون مدة خلافتهم , واشتهر ذلك , فلم ينكر , فكان إجماعا , قال : " ولا يجوز التعويل على ما خالف الحديث والإجماع , وكثير من أهل النخيل والشجر يعجزون عن عمارته وسقيه ولا يمكنهم الاستئجار عليه , وكثير من الناس لا شجر لهم ويحتاجون إلى الثمر ; ففي تجويزها دفع الحاجتين وتحصيل لمصلحة الفئتين " انتهى .
* وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله أنه يشترط لصحة المساقاة أن يكون الشجر المساقى عليه له ثمر يؤكل فلا يصح على شجر لا ثمر له , أو له ثمر لا يؤكل ; لأن ذلك غير منصوص عليه .
* ومن شروط صحة المساقاة تقدير نصيب العامل أو المالك بجزء معلوم مشاع من الثمرة ; كالثلث والربع , سواء قل الجزء المشروط أو كثر , فلو شرطا كل الثمرة لأحدهما ; لم يصح ; لاختصاص أحدهما بالغلة , أو شرطا آصعا معلومة من الثمرة ; كعشرة آصع , أو عشرين صاعا ; لم تصح ; لأنه قد لا يحصل إلا ذلك , فيختص به من شرط له دون الآخر , وكذا لو شرط له في المساقاة دراهم معينة ; لم تصح ; لأنه قد لا يحصل من الغلة ما يساويها , وكذا لو شرط لأحدهما ثمرة شجرة معينة أو أشجار معينة ; لم تصح المساقاة ; لأنه قد لا يحصل من الشجر غير تلك المعينة , فيختص بالغلة أحدهما دون الآخر , أو لا تحمل تلك الشجرة أو الأشجار المعينة , فينحرم الشروط له من الغلة , ويحصل الغرر والضرر .
* والصحيح الذي عليه الجمهور أن المساقاة عقد لازم لا يجوز فسخها إلا برضى الآخر * لا بد من تحديد مدتها , ولو طالت , مع بقاء الشجر .
* ويلزم العامل كل ما فيه صلاح الثمرة ; من حرث , وسقي , وإزالة ما يضر الشجر والثمرة من الأغصان , وتلقيح النخل , وتجفيف الثمر , وإصلاح مجاري الماء , وتوزيعه على الشجر .
* وعلى صاحب الشجر ما يحفظ الأصل - وهو الشجر - ; كحفر البئر , وبناء الحيطان , وتوفير الماء في البئر . .. ونحو ذلك , وعلى المالك كذلك تحصيل المواد التي تقوي الأشجار كالسماد ونحوه . وليس دفع الحب مع الأرض شرطا في صحة المزارعة , فلو دفع إليه الأرض فقط ليزرعها العامل ببذر من عنده ; صح ذلك ; كما هو قول جماعة من الصحابة , وعليه عمل الناس , ولأن الدليل الذي استفيد منه حكم المزارعة هو حديث معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر بشطر ما يخرج منها , ولم يرد في هذا الحديث أن البذر على المسلمين .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : " والذين اشترطوا البذر من رب الأرض قاسوها على المضاربة , وهذا القياس مع أنه مخالف للسنة الصحيحة وأقوال الصحابة , فهو من أفسد القياس ; فإن المال في المضاربة يرجع إلى صاحبه , ويقسمان الربح ; فهذا نظير الأرض في المزارعة , وأما البذر الذي لا يعود نظيره إلى صاحبه , بل يذهب كما يذهب نفع الأرض ; فإلحاقه بالأصل الذاهب أولى من إلحاقه بالأصل الباقي " انتهى .
* والمزارعة مشتقة من الزرع , وتسمى مخابرة ومواكرة , والعامل فيها يسمى مزارعا ومخابرا ومواكرا .
* والدليل على جوازها السنة المطهرة الصحيحة كما سبق , والحاجة داعية إلى جوازها ; لأن من الناس من يملك أرضا زراعية ولا يستطيع العمل فيها , ومن الناس من يستطيع العمل في الزراعة ولا يملك أرضا زراعية ; فاقتضت الحكمة التشريعية جواز المزارعة لينتفع الطرفان : هذا بأرضه , وهذا بعمله , وليحصل التعاون على تحصيل المصلحة ودفع المضرة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله : " المزارعة أصل من الإجارة , لاشتراكهما في المغنم والمغرم " .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله : " هي أبعد عن الظلم والضرر من الإجارة ; فإن أحدهما غانم ولا بد ( يعني : في الإجارة ) ,
وأما المزارعة ; فإن حصل الزرع , اشتركا فيه , وإلا اشتركا في الحرمان " .
* ويشترط لصحة المزارعة بيان مقدار ما للعامل أو لصاحب الأرض من الغلة وأن يكون جزءا مشاعا منها ; كثلث ما يخرج من الأرض أو ربعه ونحو ذلك ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها , وإذا عرف نصيب أحدهما ; فالباقي يكون للآخر ; لأن الغلة لهما , فإذا عين نصيب أحدهما ; تبين نصيب الآخر , ولو شرط لأحدهما آصعا معلومة كعشرة آصع أو زرع ناحية معينة من الأرض والباقي للآخر ; لم تصح , أو اشترط صاحب الأرض أن يأخذ مثل بذره ويقتسمان الباقي , لم تصح المزارعة ; لأنه قد لا يخرج من الأرض إلا ذلك , فيختص به دون الآخر , ولحديث رافع بن خديج رضي الله عنه , قال : " كراء الأرض بالذهب والفضة لا بأس به , كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات وإقبال الجداول وأشياء من الزرع , فيهلك هذا ويسلم هذا , ولم يكن للناس كراء إلا هذا ; فلذلك زجر عنه " يعني : النبي صلى الله عليه وسلم , وذلك لما فيه من الضرر المؤدي إلى التشاجر وأكل أموال الناس بالباطل , فدل الحديث على تحريم المزارعة على ما يفضي إلى الضرر والجهالة ويوجب المشاجرة بين الناس .
قال ابن المنذر : " قد جاءت الأخبار عن رافع بعلل تدل على أن النهي كان لتلك العلل , وهي التي كانوا يعتادونها " , قال : " كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه , فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه " انتهى .
باب في أحكام الإجارة
* هذا العقد يتكرر في حياة الناس في مختلف مصالحهم وتعاملهم اليومي والشهري والسنوي ; فهو جدير بالتعرف على أحكامه ; إذ ما من تعامل يجري بين الناس في مختلف الأمكنة والأزمان , إلا وهو محكوم بشريعة الإسلام وفق ضوابط شرعية ترعى المصالح وترفع المضار .
* والإجارة مشتقة من الأجر , وهو العوض , قال تعالى : لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا *
وهي شرعا : عقد على منفعة مباحة من عين معينة أو موصوفة في الذمة مدة معلومة , أو على عمل معلوم بعوض معلوم .
* وهذا التعريف مشتمل على غالب شروط صحة الإجارة وأنواعها : - فقولهم : " عقد على منفعة " : يخرج به العقد على الرقبة ; فلا يسمى إجارة , وإنما يسمى بيعا . - وقولهم : " مباحة " : يخرج به العقد على المنفعة المحرمة ; كالزنى . - وقولهم : " معلومة " : يخرج به المنفعة المجهولة ; فلا يصح العقد عليها . - وقولهم : " من عين معينة أو موصوفة في الذمة أو عمل معلوم " : يؤخذ منه أن الإجارة على نوعين
النوع الأول : أن تكون الإجارة على منفعة عين معينة أو عين موصوفة : مثال المعينة : آجرتك هذه الدار , ومثال الموصوفة : آجرتك بعيرا صفته كذا للحمل أو الركوب .
النوع الثاني : أن تكون الإجارة على أداء عمل معلوم ; كأن يحمله إلى موضع كذا , أو يبني له جدارا . - وقولهم : مدة معلومة " ; أي : يشترط أن تكون الإجارة على المنفعة لمدة محددة ; كيوم أو شهر .
- وقولهم : " بعوض معلوم " ; معناه : أنه لا بد أن يكون مقدار الإجارة معلوما . وبهذا يتضح أن مجمل شروط صحة الإجارة بنوعيها : أن يكون عقد الإجارة على المنفعة لا على العين , وأن تكون المنفعة مباحة , وأن تكون معلومة , وإذا كانت الإجارة على عين غير معينة ; فلا بد أن تكون مما ينضبط بالوصف , وأن تكون مدة الإجارة معلومة , وأن يكون العوض في الإجارة معلوما أيضا.
* والإجارة الصحيحة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع : - قال تعالى : فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وقال تعالى : لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا - وقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يدله الطريق في سفره للهجرة . - وقد حكى ابن المنذر الإجماع على جوازها , والحاجة تدعو إليها ; لأن الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان .
* ويصح استئجار الآدمي لعمل معلوم كخياطة ثوب , وبناء جدار , أو ليدله على طريق ; كما ثبت في " صحيح البخاري " عن عائشة رضي الله عنها في حديث الهجرة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم استأجر هو وأبو بكر رضي الله عنه عبد الله ابن أريقط الليثي , وكان هاديا خريتا " والخريت هو الماهر بالدلالة .
* ولا يجوز تأجير الدور والدكاكين والمحلات للمعاصي كبيع الخمر , وبيع المواد المحرمة ; كبيع الدخان والتصوير ; لأن ذلك إعانة على المعصية .
* ويجوز للمستأجر أن يؤجر ما استأجره لآخر يقوم مقامه في استيفاء المنفعة لأنها مملوكة له , فجاز له أن يستوفيها بنفسه وبنائبه , لكن بشرط أن يكون المستأجر الثاني مثل المستأجر الأول في استيفاء المنفعة أو دونه , لا أكثر منه ضررا ; كما لو استأجر دارا للسكنى ; جاز أن يؤجرها لغيره للسكنى أو دونها , ولا يجوز أن يؤجرها لمن يجعل فيها مصنعا أو معملا .
* ولا تصح الإجارة على أعمال العبادة والقربة كالحج , والأذان ; لأن هذه الأعمال يتقرب بها إلى الله , وأخذ الأجرة عليها يخرجها عن ذلك , ويجوز أخذ رزق من بيت المال على الأعمال التي يتعدى نفعها ; كالحج والأذان والإمامة وتعليم القرآن والفقه والقضاء والفتيا ; لأن ذلك ليس معاوضة , وإنما هو إعانة على الطاعة , ولا يخرجه ذلك عن كونه قربة , ولا يخل بالإخلاص . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " والفقهاء متفقون على الفرق بين الاستئجار على القرب وبين رزق أهلها ; فرزق المقاتلة والقضاة والمؤذنين والأئمة جائز بلا نزاع , وأما الاستئجار ; فلا يجوز عند أكثرهم " , وقال أيضا : " وما يؤخذ من بيت المال ; فليس عوضا وأجرة , بل رزقا للإعانة على الطاعة , فمن عمل منهم لله ; أثيب , وما يأخذه رزق للإعانة على الطاعة ".
* ما يلزم كلا من المؤجر والمستأجر
- فيلزم المؤجر بذل كل ما يتمكن به المستأجر من الانتفاع بالمؤجر , كإصلاح السيارة المؤجرة وتهيئتها للحمل والسير , وعمارة الدار المؤجرة وإصلاح ما فسد من عمارتها وتهيئة مرافقها للانتفاع . - وعلى المستأجر عندما ينتهي أن يزيل ما حصل بفعله . - و الإجارة عقد لازم من الطرفين - المؤجر والمستأجر - لأنها نوع من البيع , فأعطيت حكمه , فليس لأحد الطرفين فسخها إلا برضى الآخر ; إلا إذا ظهر عيب لم يعلم به المستأجر حال العقد ; فله الفسخ .
- ويلزم المؤجر أن يسلم العين المؤجرة للمستأجر , ويمكنه من الانتفاع بها , فإن أخره شيئا ومنعه من الانتفاع به كل المدة أو بعضها ; فلا شيء له من الأجرة , أو لا يستحقها كاملة ; لأنه لم يسلم له ما تناوله عقد الإجارة , فلم يستحق شيئا , وإذا مكن المستأجر من الانتفاع , لكنه تركه كل المدة أو بعضها , فعليه جميع الأجرة ; لأن الإجارة عقد لازم , فترتب مقتضاها , وهو ملك المؤجر الأجرة , وملك المستأجر المنافع
* وينفسخ عقد الإجارة بأمور
أولا : إذا تلفت العين المؤجرة : كما لو أجره دوابه فماتت , أو استأجر دارا فانهدمت , أو اكترى أرضا لزرع فانقطع ماؤها .
ثانيا : وتنفسخ الإجارة أيضا بزوال الغرض الذي عقدت من أجله ; كما لو استأجر طبيبا ليداويه فبرئ ; لتعذر استيفاء العقود عليه .
* ومن استؤجر لعمل شيء فمرض أقيم مقامه من ماله من يعمله نيابة عنه , إلا إذا اشترط مباشرته العمل بنفسه ; لأن المقصود قد لا يحصل بعمل غيره ; فلا يلزم حينئذ المستأجر قبول عمل غيره , لكن يخير حينئذ المستأجر بين الصبر والانتظار حتى يبرأ الأجير وبين الفسخ لتعذر وصوله إلى حقه .
* والأجير على قسمين خاص ومشترك : فالأجير الخاص هو من استؤجر مدة معلومة يستحق نفعه في جمعها لا يشاركه فيها أحد , والمشترك هو من قدر نفعه بالعمل ولا يختص به واحد بل يتقبل أعمالا لجماعة في وقت واحد . - فالأجير الخاص لا يضمن ما جنت يده خطأ ; كما لو انكسرت الآلة التي يعمل بها ; لأنه نائب عن المالك , فلم يضمن ; كالوكيل , وإن تعدى أو فرط ; ضمن ما تلف . - أما الأجير المشترك ; فإنه يضمن ما تلف بفعله ; لأنه لا يستحق إلا بالعمل ; فعمله مضمون عليه , وما تولد عن المضمون فهو مضمون .
* وتجب أجرة الأجير بالعقد ولا يملك المطالبة بها إلا بعدما يسلم العمل الذي في ذمته , أو استيفاء المنفعة , أو تسليم العين المؤجرة ومضي المدة مع عدم المانع ; لأن الأجير إنما يوفي أجره إذا قضى عمله أو ما في حكمه , ولأن الأجرة عوض ; فلا تستحق إلا بتسليم المعوض .
* هذا ويجب على الأجير إتقان العمل وإتمامه , ويحرم عليه الغش في العمل والخيانة فيه , كما يجب عليه أيضا مواصلة العمل في المدة التي استؤجر فيها , ولا يفوت شيئا منها بغير عمل , وأن يتقي الله في أداء ما عليه , ويجب على المستأجر إعطاء أجرته كاملة عندما ينهي عمله ; لقوله صلى الله عليه وسلم : أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ; قال : قال الله تعالى : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة , ومن كنت خصمه ; خصمته : رجل أعطى بي ثم غدر , ورجل باع حرا فأكل ثمنه , ورجل استأجر أجيرا , فاستوفى منه العمل , ولم يعطه أجره رواه البخاري وغيره . فعمل الأجير أمانة في ذمته , يجب عليه مراعاتها بإتقان العمل وإتمامه والنصح فيه , وأجرة الأجير دين في ذمة المستأجر , وحق واجب عليه , يجب عليه أداؤه من غير مماطلة ولا نقص .
باب في أحكام السبق
بسم الله الرحمن الرحيم
* المسابقة : هي المجاراة بين حيوان وغيره , وكذا المسابقة بالسهام .
* وهي جائزة بالكتاب والسنة والإجماع : - قال الله تعالى : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا إن القوة الرمي وقال تعالى : إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ أي : نترامى بالسهام أو نتجارى على الأقدام . - وعن أبي هريرة مرفوعا : " لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر " رواه الخمسة ; فالحديث دليل على جواز السباق على جعل
- وقد حكى الإجماع على جوازه في الجملة غير واحد من أهل العلم . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " السباق بالخيل والرمي بالنبل ونحوه من آلات الحرب مما أمر الله به ورسوله مما يعين على الجهاد في سبيل الله " .
وقال أيضا : " السبق والصراع ونحوهما طاعة إذا قصد به نصرة الإسلام , وأخذ السبق ( أي : العوض عليه ) أخذ بالحق , ويجوز اللعب بما قد يكون فيه مصلحة بلا مضرة , ويكره لعبه بأرجوحة " .
وقال الشيخ : " وما ألهى وشغل عما أمر الله به , فهو منهي عنه , وإن لم يحرم جنسه ; كالبيع , والتجارة , وأما سائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو وسائر ضروب اللعب هما لا يستعان به في حق شرعي ; فكله حرام " انتهى . وقد اعتنى العلماء بهذا الباب , وسموه باب الفروسية , وصنفوا فيه المصنفات المشهورة .
* والفروسية أربعة أنواع :
أحدها : ركوب الخيل والكر والفر بها .
والثاني : الرمي بالقوس والآلات المستعملة في كل زمان بحسبه .
والثالث : المطاعنة بالرماح .
الرابع : المداورة بالسيوف . ومن استكمل الأنواع الأربعة ; استكمل الفروسية .
* ويجوز السباق على الأقدام وسائر الحيوانات والمراكب قال الإمام القرطبي رحمه الله : " لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب , وعلى الأقدام , وكذا الترامي بالسهام واستعمال الأسلحة ; لما في ذلك من التدرب على الحرب " انتهى . وقد سابق النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها , وصارع ركانة فصرعه , وسابق سلمة بن الأكوع رجلا من الأنصار بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
* ولا تجوز المسابقة على عوض إلا في المسابقة على الإبل والخيل والسهام ; لقوله صلى الله عليه وسلم : لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر رواه الخمسة عن أبي هريرة ; أي : لا يجوز أخذ الجعل على السبق إلا إذا كانت المسابقة على الإبل أو الخيل أو السهام ; لأن تلك من آلات الحرب المأمور بتعلمها وإحكامها , ومفهوم الحديث أنه لا يجوز أخذ العوض عن المسابقة فيما سواها , وقيل : إن الحديث يحتمل أن يراد به أن أحق ما بذل فيه السبق هذه الثلاثة ; لكمال نفعها وعموم مصلحتها , فيدخل فيها كل مغالبة جائزة ينتفع بها في الدين , لقصة ركانة وأبي بكر
. وقال الإمام ابن القيم : " الرهان على ما فيه ظهور الإسلام ودلالته وبراهينه من أحق الحق وأولى بالجواز من الرهان على النضال وسبق الخيل " انتهى .
* و يشترط لصحة المسابقة خمسة شروط
الشرط الأول: تعيين المركوبين في المسابقة بالرؤية .
الشرط الثاني: اتحاد المركوبين في النوع , وتعيين الرماة ; لأن القصد معرفة حذقهم ومهارتهم في الرمي .
الشرط الثالث: تحديد المسافة , ليعلم السابق والمصيب , وذلك بأن يكون لابتدائها ونهايتها حد لا يختلفان فيه ; لأن الغرض معرفة الأسبق , ولا يحصل إلا بالتساوي في الغاية.
الشرط الرابع: أن يكون العوض معلوما مباحا .
الشرط الخامس: الخروج عن شبه القمار , بأن يكون العوض من غير المتسابقين , أو من أحدهما فقط , فإن كان العوض من المتسابقين , فهو محل خلاف : هل يجوز , أو لا يجوز إلا بمحلل - وهو الدخيل الذي يكون شريكا في الربح بريئا من الخسران - , واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عدم اشتراط المحلل , وقال : " عدم المحلل أولى وأقرب إلى العدل من كون السبق من أحدهما , وأبلغ في حصول مقصود كل منهما , وهو بيان عجز الآخر , وأكل المال بهذا أكل بحق . .. " إلى أن قال : " وما علمت من الصحابة من اشترط المحلل , وإنما هو معروف عن سعيد بن المسيب , وعنه تلقاه الناس " انتهى .
* ومما سبق يتبين أن المسابقة المباحة على نوعين
النوع الأول : ما يترتب عليه مصلحة شرعية ; كالتدرب على الجهاد , والتدرب على مسائل العلم.
النوع الثاني : ما كان المقصود منه اللعب الذي لا مضرة فيه . فالنوع الأول والذي يجوز أخذ العوض عليه بشروطه السابقة.
والنوع الثاني مباح بشرط أن لا يشغل عن واجب أو يلهي عن ذكر الله وعن الصلاة , وهذا النوع لا يجوز أخذ العوض عليه , وقد توسع الناس اليوم في هذا النوع الأخير , وأنفذوا فيه كثيرا من الأوقات والأموال , وهو مما لا فائدة للمسلمين فيه , ولا حول لا قوة إلا بالله .
باب في أحكام العارية
بسم الله الرحمن الرحيم
قد عرف الفقهاء رحمهم الله العارية بأنها إباحة نفع عين يباح الانتفاع بها وتبقى بعد استيفاء المنفعة ليردها إلى مالكها .
فخرج بهذا التعريف ما لا يباح الانتفاع به , فلا تحل إعارته , وخرج به أيضا ما لا يمكن الانتفاع به إلا مع تلف عينه ; كالأطعمة والأشربة .
والعارية مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع :
قال تعالى : وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ أي : المتاع يتعاطاه الناس بينهم , فذم الذين يمنعونه ممن يحتاج إلى استعارته , وقد استدل بهذه الآية الكريمة من يرى وجوب الإعارة , وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا كان المالك غنيا .
- واستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرسا لأبي طلحة , واستعار من صفوان بن أمية أدراعا .
و بذل العارية للمحتاج إليها قربة ينال بها المعير ثوابا جزيلا ; لأنها تدخل في عموم التعاون على البر والتقوى .
ويشترط لصحة الإعارة أربعة شروط
أحدها : أهلية المعير للتبرع ; لأن الإعارة فيها نوع من التبرع ; فلا تصح من صغير ولا مجنون وسفيه .
الشرط الثاني : أهلية المستعير للتبرع له , بأن يصح منه القبول .
الشرط الثالث : كون نفع العين المعارة مباحا , فلا تباح إعارة عبد مسلم لكافر ولا صيد ونحوه لمحرم ; لقوله تعالى : وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
الشرط الرابع : كون العين المعارة مما يمكن الانتفاع به مع بقائه كما سبق .
* و للمعير استرجاع العارية متى شاء إلا إذا ترتب على ذلك الإضرار بالمستعير ; كما لو أذن له بشغله بشيء يتضرر المستعير إذا استرجعت العارية ; كما لو أعاره سفينة لحمل متاعه ; فليس له الرجوع ما دامت في البحر , وكما لو أعاره حائطا ليضع عليه أطراف خشبه ; فليس له الرجوع في الحائط ما دام عليه أطراف الخشب .
* ويجب على المستعير المحافظة على العارية أشد مما يحافظ على ماله ; ليردها سليمة إلى صاحبها ; لقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا فدلت الآية على وجوب رد الأمانات , ومنها العارية , وقال صلى الله عليه وسلم : على اليد ما أخذت حتى تؤديه وقال صلى الله عليه وسلم : أد الأمانة إلى من ائتمنك فدلت هذه النصوص على وجوب المحافظة على ما يؤتمن عليه الإنسان وعلى وجوب رده إلى صاحبه سالما , وتدخل في هذا العموم العارية ; لأن المستعير مؤتمن عليها ; ومطلوبة منه , وهو إنما أبيح له الانتفاع بها في حدود ما جرى به العرف ; فلا يجوز له أن يسرف في استعمالها إسرافا يؤدي إلى تلفها , ولا أن يستعملها فيما لا يصلح استعمالها فيه ; لأن صاحبها لم يأذن له بذلك , وقد قال الله تعالى : هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ فإن استعملها في غير ما استعيرت له فتلفت ; وجب عليه ضمانها ; لقوله صلى الله عليه وسلم : على اليد ما أخذت حتى تؤديه رواه الخمسة , وصححه الحاكم ; فدل على وجوب رد ما قبضه المرء وهو ملك لغيره , ولا يبرأ إلا بمصيره إلى مالكه أو من يقوم مقامه . وإن تلفت في انتفاع بها بالمعروف ; لم يضمنها المستعير ; لأن المعير قد أذن له في هذا الاستعمال , وما ترتب على المأذون ; فهو غير مضمون .
ولا يجوز للمستعير أن يعير العين المعارة لأن من أبيح له شيء ; لم يجز له أن يبيحه لغيره ; ولأن في ذلك تعريضا لها للتلف .
هذا ; وقد اختلف العلماء في ضمان المستعير للعارية إذا تلفت في يده في غير ما استعيرت له فذهب جماعة إلى وجوب ضمانها عليه سواء تعدى أو لم يتعد ; لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : على اليد ما أخذت حتى تؤديه وذلك مثل ما لو ماتت الدابة أو احترق الثوب أو سرقت العين المعارة , وذهب جماعة آخرون إلى عدم ضمانها إذا لم يتعد ; لأنها لا تضمن إلا بالتعدي عليها , ولعل هذا القول هو الراجح ; لأن المستعير قبضها بإذن مالكها , فكانت أمانة عنده كالوديعة .
على أنه يجب على المستعير المحافظة على العارية والاهتمام بها والمسارعة إلى ردها إلى صاحبها إذا انتهت مهمته منها , وأن لا يتساهل بشأنها , أو يعرضها للتلف ; لأنها أمانة عنده ; ولأن صاحبها أحسن إليه , و هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ
باب في أحكام الغصب
الغصب لغة : أخذ الشيء ظلما , ومعناه في اصطلاح الفقهاء : الاستيلاء على حق غيره قهرا بغير حق .
والغصب محرم بإجماع المسلمين ; لقوله تعالى : وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ والغصب من أعظم أكل المال بالباطل , ولقوله صلى الله عليه وسلم : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام وقال صلى الله عليه وسلم : لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه
والمال المغصوب قد يكون عقارا وقد يكون منقولا ; لقوله صلى الله عليه وسلم : من اقتطع شبرا من الأرض ظلما ; طوقه من سبع أرضين فيلزم الغاصب أن يتوب إلى الله عز وجل , ويرد المغصوب إلى صاحبه , ويطلب منه العفو ; قال صلى الله عليه وسلم : من كانت عنده لأخيه مظلمة ; فليتحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم ( يعني : يوم القيامة ) : إن كانت له حسنات ; أخذ من حسناته وأعطيت للمظلوم , وإن لم تكن له حسنات ; أخذ من سيئات المظلوم , فطرحت عليه , وطرح في النار أو كما قال صلى الله عليه وسلم , فإن كان المغصوب باقيا ; رده بحاله , وإن كان تالفا ; رد بدله . قال الإمام الموفق : " أجمع العلماء على وجوب رد المغصوب إذا كان بحاله لم يتغير " انتهى .
وكذلك يلزمه رد المغصوب بزيادته , سواء كانت متصلة أو منفصلة ; لأنها نماء المغصوب ; فهي لمالكه كالأصل .
وإن كان الغاصب قد بنى في الأرض المغصوبة أو غرس فيها لزمه قلع البناء والغراس إذا طالبه المالك بذلك , لقوله صلى الله عليه وسلم : ليس لعرق ظالم حق رواه الترمذي وغيره وحسنه , وإن كان ذلك يؤثر على الأرض ; لزمه غرامة نقصها , ويلزمه أيضا إزالة آثار الغراس والبناء المتبقية , حتى يسلم الأرض لمالكها سليمة .
ويلزمه أيضا دفع أجرتها منذ أن غصبها إلى أن سلمها ; أي : أجرة مثلها ; لأنه منع صاحبها من الانتفاع بها في هذه المدة بغير حق .
وإن غصب شيئا وحبسه حتى رخص سعره ضمن نقصه على الصحيح .
وإن خلط المغصوب مع غيره مما يتميز - كحنطة بشعير - ; لزم الغاصب تخليصه ورده , وإن خلطه بما لا يتميز - كما لو خلط حنطة بمثلها - ; لزمه رد مثله كيلا أو وزنا من غير المخلوط , وإن خلطه بدونه أو أحسن منه أو خلطه بغير جنسه مما لا يتميز ; بيع المخلوط , وأعطي كل منهما قدر حصته من الثمن , وإن نقص المغصوب في هذه الصورة عن قيمته منفردا , ضمن الغاصب نقصه .
ومما ذكروه في هذا الباب قولهم : " والأيدي المترتبة على يد الغاصب كلها أيدي ضمان " : ومعناه أن الأيدي التي ينتقل إليها المغصوب عن طريق الغاصب كلها تضمن المغصوب إذا تلف فيها , وهذه الأيدي عشر : يد المشتري وما في معناه , ويد المستأجر , ويد القابض تملكا بلا عوض كيد المتهب , ويد القابض لمصلحة الدافع كالوكيل , ويد المستعير , ويد الغاصب , ويد المتصرف في المال كالمضارب , ويد المتزوج للمغصوبة , ويد القابض تعويضا بغير بيع , ويد المتلف للمغصوب نيابة عن غاصبه , وفي كل هذه الصور : إذا علم الثاني بحقيقة الحال , وأن الدافع إليه غاصب ; فقرار الضمان عليه ; لتعديه على ما يعلمه غير مأذون فيه من مالكه , وإن لم يعلم بحقيقة الحال ; فالضمان على الغاصب الأول .
وإذا كان المغصوب مما جرت العادة بتأجيره لزم الغاصب أجرة مثله مدة بقائه بيده ; لأن المنافع مال متقوم , فوجب ضمانها كضمان العين .
وكل تصرفات الغاصب الحكمية باطلة , لعدم إذن المالك .
وإن غصب شيئا , وجهل صاحبه , ولم يتمكن من رده إليه ; سلمه إلى الحاكم الذي يضعه في موضعه الصحيح , أو تصدق به عن صاحبه , وإذا تصدق به ; صار ثوابه لصاحبه , وتخلص منه الغاصب .
وليس اغتصاب الأموال مقصورا على الاستيلاء عليها بالقوة , بل ذلك يشمل الاستيلاء عليها بطريق الخصومة الباطلة والأيمان الفاجرة : قال الله تعالى : وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وقال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فالأمر شديد والحساب عسير .
وقال صلى الله عليه وسلم : من غصب شبرا من الأرض طوقه من سبع أرضين وقال صلى الله عليه وسلم ; من قضيت له بحق أخيه ; فلا يأخذه , فإنما أقطع له قطعة من نار
باب في أحكام الإتلافات
إن الله حرم الاعتداء على أموال الناس وابتزازها بغير حق , وشرع ضمان ما أتلف منها بغير حق , ولو عن طريق الخطأ .
فمن أتلف مالا لغيره وكان ذا المال محترما , وأتلفه بغير إذن صاحبه , فإنه يجب عليه ضمانه . قال الإمام الموفق : " لا نعلم فيه خلافا , وسواء في ذلك العمد والسهو , والتكليف وعدمه " .
وكذا من تسبب في إتلاف مال كما لو فتح بابا فضاع ما كان مغلقا عليه , أو حل وعاء فانساب ما في الوعاء وتلف , ضمن ذلك.
وكذا لو حل رباط دابة أو قيدها فذهبت وضاعت , ضمنها.
وكذا لو ربط دابة بطريق ضيق , فنتج عن ذلك أن عثر بها إنسان فتلف أو تضرر , ضمنه ; لأنه قد تعدى بالربط في الطريق.
وكذا لو أوقف سيارة في الطريق , فنتج عن ذلك أن اصطدم بها سيارة أخرى أو شخص , فنجم عن ذلك ضرر ; ضمنه ; لما رواه الدراقطني وغيره : من وقف دابة في سبيل المسلمين , أو في سوق من أسواقهم , فوطئت بيد أو رجل ; فهو ضامن .
وكذا لو ترك في الطريق طينا أو خشبة أو حجرا أو حفر فيه حفرة , فترتب على ذلك تلف المار أو تضرره , أو ألقى في الطريق قشر بطيخ ونحوه , أو أرسل فيه ماء فانزلق به إنسان فتلف أو تضرر ; ضمنه فاعل هذه الأشياء في جميع هذه الصور , لتعديه بذلك. وما أكثر ما يجري التساهل في هذه الأمور في وقتنا ! وما أكثر ما يحفر في الطريق ويسد وتوضع فيه العراقيل ! وما أكثر الأضرار الناجمة عن تلك التصرفات دون حسيب أو رقيب , حتى إن أحدهم ليستولي على الشارع , ويستعمله لأغراضه الخاصة , ويضايق المارة , ويضر بهم , ولا يبالي بما يلحقه من الإثم من جراء ذلك .
ومن الأمور الموجبة للضمان ما لو اقتنى كلبا عقورا فاعتدى على المارة وعقر أحدا فإنه يضمنه ; لتعديه باقتناء هذا الكلب .
وإن حفر بئرا في فنائه لمصلحته ; ضمن ما تلف بها ; لأنه يلزمه أن يحفظها بما يصنع ضرر المارة , فماذا تركها بدون ذلك ; فهو متعد .
وإذا كان له بهائم , وجب عليه حفظها في الليل من إفساد زروع الناس , فإن تركها وأفسدت شيئا , ضمنه ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن على أهل الأموال حفظها بالنهار , وما أفسدت بالليل مضمون عليهم رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ; فلا يضمن صاحب البهيمة ما أتلفت بالنهار ; إلا إن أرسلها صاحبها بقرب ما تتلفه عادة.
قال الإمام البغوي رحمه الله : " ذهب أهل العلم إلى أن ما أفسدت الماشية المرسلة بالنهار من مال الغير فلا ضمان على ربها , وما أفسدته بالليل , ضمنه مالكها ; لأن في العرف أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها بالنهار , وأصحاب المواشي يحفظونها بالليل , فمن خالف هذه العادة ; كان خارجا عن العرف , هذا إذا لم يكن مالك الدابة معها , فإن كان معها ; فعليه ضمان ما أفسدته " انتهى .
وقد ذكر الله قصة داود وسليمان وحكمهما في ذلك , فقال سبحانه : وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " صح بنص القرآن الثناء على سليمان بتفهيم الضمان بالمثل ; فإن النفش رعي الغنم ليلا , وكان ببستان عنب , فحكم داود بقيمة المتلف , فاعتبر الغنم , فوجدها بقدر القيمة , فدفعها إلى أصحاب الحرث , وقضى سليمان بالضمان على أصحاب الغنم , وأن يضمنوا ذلك بالمثل , بأن يعمروا البستان حتى يعود كما كان , ولم يضيع عليهم مغله من حين الإتلاف إلى حين العود , بل أعطى أصحاب البستان ماشية أولئك ; ليأخذوا من نمائها بقدر نماء البستان , فيستوفوا من نماء غنمه نظير ما فاتهم من نماء حرثهم , واعتبر الضمانين فوجدهما سواء , وهذا هو العلم الذي خصه الله به وأثنى عليه بإدراكه " انتهى .
وإذا كانت البهيمة بيد راكب أو قائد أو سائق ; ضمن جنايتها بمقدمها ; كيدها وفمها , لا ما جنت بمؤخرها كرجلها , لحديث : الرجل جبار وفي رواية أبي هريرة : رجل العجماء جبار والعجماء البهيمة , سميت بذلك لأنها لا تتكلم , وجبار - بضم الجيم - ; أي : جناية البهائم هدر .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " كل بهيمة عجماء , كالبقر والشاة وغيرها ; فجناية البهائم غير مضمونة إذا فعلت بنفسها , كما لو انفلتت ممن هي في يده وأفسدت ; فلا ضمان على أحد , ما لم تكن عقورا , ولا فرط صاحبها في حفظها في الليل أو في أسواق المسلمين ومجامعهم , وكذا قال غير واحد : إنه إنما يكون جبارا إذا كانت منفلتة ذاهبة على وجهها ليس لها قائد ولا سائق , إلا الضارية " انتهى .
وإذا صال عليه آدمي أو بهيمة , ولم يندفع إلا بالقتل , فقتله ; فلا ضمان عليه ; لأنه قتله دفاعا عن نفسه , ودفاعه عن نفسه جائز , فلم يضمن ما ترتب عليه ; ولأن قتله لدفع شره ; ولأنه إذا قتله دفعا لشره ; كان الصائل هو القاتل لنفسه . قال الشيخ تقي الدين : " عليه أن يدفع الصائل عليه , فإن لم يندفع إلا بالقتل ; كان له ذلك باتفاق الفقهاء .
و مما لا ضمان في إتلافه آلات اللهو , والصليب , وأواني الخمر , وكتب الضلال والخرافة والخلاعة والمجون , لما روى أحمد عن ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ مدية , ثم خرج إلى أسواق المدينة , وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام , فشققت بحضرته , وأمر أصحابه بذلك , فدل الحديث على طلب إتلافها وعدم ضمانها , لكن لا بد أن يكون إتلافها بأمر السلطة ورقابتها ; ضمانا للمصلحة , ودفعا للمفسدة .
باب في أحكام الوديعة
الإيداع : توكيل في الحفظ تبرعا .
والوديعة لغة : من ودع الشيء إذا تركه , سميت بذلك لأنها متروكة عند المودع .
وهي شرعا : اسم للمال المودع عند من يحفظه بلا عوض .
و يشترط لصحة الإيداع ما يعتبر للتوكيل من البلوغ والعقل والرشد ; لأن الإيداع توكيل في الحفظ .
ويستحب قبول الوديعة لمن علم من نفسه أنه ثقة قادر على حفظها لأن في ذلك ثوابا جزيلا ; لما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ولحاجة الناس إلى ذلك , أما من لا يعلم من نفسه القدرة على حفظها ; فيكره له قبولها .
ومن أحكام الوديعة أنها إذا تلفت عند المودع ولم يفرط , فإنه لا يضمنها , كما لو تلفت من بين ماله ; لأنها أمانة , والأمين لا يضمن إذا لم يتعد , وورد في حديث فيه ضعف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أودع وديعة ; فلا ضمان عليه رواه ابن ماجه , ورواه الدارقطني بلفظ : ليس علي المستودع غير المغل ضمان والمغل : الخائن , وفي رواية بلفظ : " لا ضمان على مؤتمن " ولأن المستودع يحفظها تبرعا , فلو ضمن , لامتنع الناس من قبول الودائع , فيترتب على ذلك الضرر بالناس وتعطيل المصلحة . أما المعتدي على الوديعة أو المفرط في حفظها ; فإنه يضمنها إذا تلفت ; لأنه متلف لمال غيره .
* ومن أحكام الوديعة أنه يجب على المودع حفظها في حرز مثلها كما يحفظ ماله ; لأن الله تعالى أمر بأدائها في قوله : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ولا يمكن أداؤها إلا بحفظها ; ولأن المودع حينما قبل الوديعة ; فقد التزم بحفظها , فيلزمه ما التزم به .
* وإذا كانت الوديعة دابة ; لزم المودع إعلافها , فلو قطع العلف عنها بغير أمر صاحبها , فتلفت ; ضمنها ; لأن إعلاف الدابة مأمور به , ومع كونه يضمنها ; فإنه يأثم أيضا بتركه إعلافها أو سقيها حتى ماتت ; لأنه يجب عليه علفها وسقيها لحق الله تعالى ; لأن لها حرمة .
* ويجوز للمودع أن يدفع الوديعة إلى من يحفظ ماله عادة ; كزوجته وعبده وخازنه وخادمه , وإن تلفت عند أحد من هؤلاء من غير تعد ولا تفريط ; لم يضمن ; لأن له أن يتولى حفظها بنفسه أو من يقوم مقامه , وكذا لو دفعها إلى من يحفظ مال صاحبها , برئ منها ; لجريان العادة بذلك . أما لو سلما إلى أجنبي منه ومن صاحبها , فتلفت ; ضمنها المودع ; لأنه ليس له أن يودعها عند غيره من غير عذر , إلا إذا كان إيداعها عند الأجنبي لعذر اضطره إلى ذلك , كما لو حضره الموت أو أراد سفرا ويخاف عليها إذا أخذها معه ; فلا حرج عليه في ذلك , ولا يضمن إذا تلفت .
* وإن حصل خوف , أو أراد المودع أن يسافر , فإنه يجب عليه رد الوديعة إلى صاحبها أو وكيله , فإن لم يجد صاحبها ولا وكيله ; فإنه يحملها معه في السفر إذا كان ذلك أحفظ لها , فإن لم يكن السفر أحفظ لها ; دفعها إلى الحاكم ; لأن الحاكم يقوم مقام صاحبها عند غيبته , فإن لم يمكن إيداعها عند الحاكم ; أودعها عند ثقة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يهاجر ; أودع الودائع التي كانت عنده لأم أيمن رضي الله عنها , وأمر عليا أن يردها إلى أهلها , وكذا من حضره الموت وعنده ودائع للناس , فإنه يجب عليه ردها إلى أصحابها , فإن لم يجدهم ; أودعها عند الحاكم أو عند ثقة .
و التعدي على الوديعة يوجب ضمانها إذا تلفت , كما لو أودع دابة فركبها لغير علفها أو سقيها , أو أودع ثوبا فلبسه لغير خوف من عث , وكما لو أودع دراهم في حرز فأخرجها من حرزها , أو كانت مشدودة فأزال الشد عنها , فإنه يضمن الوديعة إذا تلفت في هذه الحالات ; لأنه قد تعدى بتصرفه هذا .
والمودع أمين تقبل قوله إذا ادعى أنه ردها إلى صاحبها أو من يقوم مقامه , ويقبل قوله أيضا إذا ادعى أنها تلفت من غير تفريطه مع يمينه ; لأنه أمين ; لأن الله تعالى سماها أمانة بقوله : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا والأصل براءته إذا لم تقم قرينة على كذبه , وكذا لو ادعى تلفها بحادث ظاهر كالحريق ; فإنه لا يقبل قوله إلا إذا أقام بينة على وجود ذلك الحادث .
ولو طلب منه صاحب الوديعة ردها إليه , فتأخر من غير عذر حتى تلفت ; ضمنها ; لأنه فعل محرما بإمساكها بعد طلب صاحبها لها , والله أعلم .
أبواب إحياء الموات وتملك المباحات
باب في أحكام إحياء الموات
بسم الله الرحمن الرحيم
الموات - بفتح الميم والواو - : هو ما لا روح فيه , والمراد به هنا الأرض التي لا مالك لها .
ويعرفه الفقهاء - رحمهم الله - بأنه الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم .
فيخرج بهذا التعريف شيئان :
الأول: ما جرى عليه ملك معصوم من مسلم وكافر بشراء أو عطية أو غيرها .
الثاني: ما تعلقت به مصلحة ملك المعصوم ; كالطرق , والأفنية , ومسيل المياه , أو تعلقت به مصالح العامر من البلد ; كدفن الموتى وموضع القمامة والبقاع المرصدة لصلاة العيدين والمحتطبات والمراعي ; فكل ذلك لا يملك بالإحياء .
فإذا خلت الأرض عن ملك معصوم واختصاصه , وأحياها شخص ; ملكها , لحديث جابر رضي الله عنه مرفوعا : من أحيا أرضا ميتة فهي له رواه أحمد والترمذي وصححه , وورد بمعناه أحاديث , وبعضها في " صحيح البخاري " .
وعامة فقهاء الأمصار على أن الموات يملك بالإحياء , وإن اختلفوا في شروطه ; إلا موات الحرم وعرفات ; فلا يملك بالإحياء ; لما فيه من التضييق في أداء المناسك , واستيلائه على محل الناس فيه سواء .
ويحصل إحياء الموات بأمور
الأول : إذا أحاطه بحائط منيع مما جرت العادة به ; فقد أحياه , لقوله صلى الله عليه وسلم : من أحاط حائطا على أرض , فهي له رواه أحمد وأبو داود عن جابر , وصححه ابن الجارود , وعن سمرة مثله , وهو يدل على أن التحويط على الأرض مما يستحق به ملكها , والمقدار المعتبر ما يسمى حائطا في اللغة , أما لو أدار حول الموت أحجارا ونحوها كتراب أو جدار صغير لا يمنع ما وراءه أو حفر حولها خندقا ; فإنه لا يملكه بذلك , لكن يكون أحق بإحيائه من غيره , ولا يجوز له بيعه إلا بإحيائه.
الثاني : إذا حفر في الأرض الموات بئرا , فوصل إلى مائها ; فقد أحياها , فإن حفر البئر ولم يصل إلى الماء ; لم يملكها بذلك , وإنما يكون أحق بإحيائها من غيره ; لأنه شرع في إحيائها.
الثالث : إذا أوصل إلى الأرض الموات ماء أجراه من عين أو نهر , فقد أحياها بذلك ; لأن نفع الماء للأرض أكثر من الحائط .
الرابع : إذا حبس عن الأرض الموات الماء الذي كان يغمرها ولا تصلح معه للزراعة , فحبسه عنها حتى أصبحت صالحة لذلك , فقد أحياها ; لأن نفع الأرض بذلك أكثر من نفع الحائط الذي ورد في الدليل أنه يملكها بإقامته عليها . ومن العلماء من يرى أن إحياء الموات لا يقف عند هذه الأمور , بل يرجع فيه إلى العرف ; فما عده الناس إحياء ; فإنه يملك به الأرض الموات , واختار ذلك جمع من أئمة الحنابلة وغيرهم ; لأن الشرع ورد بتعليق الملك عليه ولم يبينه , فوجب الرجوع إلى ما كان إحياء في العرف .
ولإمام المسلمين إقطاع الأرض الموات لمن يحييها لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث العقيق , وأقطع وائل بن حجر أرضا بحضرموت , وأقطع عمر وعثمان وجمعا من الصحابة
لكن لا يملكه بمجرد الإقطاع حتى يحييه , بل يكون أحق به من غيره , فإن أحياه ; ملكه , وإن عجز عن إحيائه , فللإمام استرجاعه وإقطاعه لغيره ممن يقدر على إحيائه ; لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استرجع الإقطاعات من الذين عجزوا عن إحيائها .
ومن سبق إلى مباح غير الأرض الموات كالصيد , والحطب , فهو أحق به .
وإذا كان يمر بأملاك الناس ماء مباح ( أي : غير مملوك ) كماء النهر وماء الوادي , فللأعلى أن يسقي منه ويحبس الماء إلى الكعب ثم يرسله للأسفل ممن يليه , ويفعل الذي يليه كذلك ثم يرسله لمن بعده . .. وهكذا ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم : اسق يا زبير ! ثم احبس الماء حتى يصل إلى الجدر متفق عليه.
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري , قال : نظرنا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ثم احبس الماء حتى يصل إلى الجدر فكان ذلك إلى الكعبين , أي : قاسوا ما وقعت فيه القصة , فوجدوه يبلغ الكعبين , فجعلوا ذلك معيارا لاستحقاق الأول فالأول .
وروى أبو داود وغيره عن عمرو بن شعيب , أنه صلى الله عليه وسلم قضى في سيل مهزور ( واد بالمدينة مشهور ) : أن يمسك الأعلى حتى يبلغ السيل الكعبين , ثم يرسل الأعلى على الأسفل
أما إن كان الماء مملوكا ; فإنه يقسم بين الملاك بقدر أملاكهم , ويتصرف كل واحد في حصته بما شاء .
ولإمام المسلمين أن يحمي مرعى لمواشي بيت مال المسلمين , كخيل الجهاد , وإبل الصدقة ; ما لم يضرهم بالتضييق عليهم ; لما روى ابن عمر رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين فيجوز للإمام أن يحمي العشب في أرض الموات لإبل الصدقة وخيل المجاهدين ونعم الجزية والضوال إذا احتاج إلى ذلك ولم يضيق على المسلمين .
باب في أحكام الجعالة
وتسمى الجعل والجعيلة أيضا , وهي ما يعطاه الإنسان على أمر يفعله ; كأن يقول : من فعل كذا ; فله كذا من المال , بأن يجعل شيئا معلوما من المال لمن يعمل له عملا معلوما , كبناء حائط .
ودليل جواز ذلك قوله تعالى : وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ أي : لمن دل على سارق صواع الملك حمل بعير , وهذا جعل , فدلت الآية على جواز الجعالة .
ودليلها من السنة حديث اللديغ , وهو في " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي سعيد , أنهم نزلوا على حي من أحياء العرب , فاستضافوهم , فأبوا , فلدغ سيد ذلك الحي , فسعوا له بكل شيء , فأتوهم , فقالوا : هل عند أحد منكم من شيء ; قال بعضهم : إني والله لأرقي , ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا ; فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلا . فصالحوهم على قطيع من غنم , فانطلق ينفث عليه ويقرأ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فكأنما نشط من عقال , فأوفوهم جعلهم , وقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم , فذكروا ذلك له , فقال : أصبتم , اقتسموا واجعلوا لي معكم سهما .
فمن عمل العمل الذي جعلت عليه الجعالة بعد علمه بها استحق الجعل ; لأن العقد استقر بتمام العمل , وإن قام بالعمل جماعة ; اقتسموا الجعل الذي عليه بالسوية ; لأنهم اشتركوا في العمل الذي يستحق به العوض فاشتركوا في العوض , فإن عمل العمل قبل علمه بما جعل عليه , لم يستحق شيئا ; لأنه عمل غير مأذون فيه , فلم يستحق به عوضا , وإن علم بالجعل في أثناء العمل ; أخذ من الجعل ما عمله بعد العلم .
والجعالة عقد جائز لكل من الطرفين فسخها فإن كان الفسخ من العامل , لم يستحق شيئا من الجعل ; لأنه أسقط حق نفسه , وإن كان الفسخ من الجاعل , وكان قبل الشروع في العمل , فللعامل أجرة مثل عمله ; لأنه عمله بعوض لم يسلم له .
والجعالة تخالف الإجارة في مسائل
منها : أن الجعالة لا يشترط لصحتها العلم بالعمل المجاعل عليه ; بخلاف الإجارة ; فإنها يشترط فيها أن يكون العمل المؤاجر عليه معلوما .
ومنها : أن الجعالة لا يشترط فيها معرفة مدة العمل , بخلاف الإجارة , فإنها يشترط فيها أن تكون مدة العمل معلومة .
ومنها : أن الجعالة يجوز فيها الجمع بين العمل والمدة , كأن يقول : من خاط هذا الثوب في يوم ; فله كذا , فإن خاطه في اليوم , استحق الجعل , وإلا ; فلا ; بخلاف الإجارة ; فإنها لا يصح فيها الجمع بين العمل والمدة .
ومنها : أن العامل في الجعالة لم يلتزم العمل ; بخلاف الإجارة , فإن العامل فيها قد التزم بالعمل .
ومنها : أن الجعالة لا يشترط فيها تعيين العامل ; بخلاف الإجارة ; فإنها يشترط فيها ذلك .
ومنها : أن الجعالة عقد جائز لكل من الطرفين فسخها بدون إذن الآخر ; بخلاف الإجارة ; فإنها عقد لازم , لا يجوز لأحد الطرفين فسخها ; إلا برضى الآخر .
وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله أن من عمل لغيره عملا بعير جعل ولا إذن من صاحب العمل لم يستحق شيئا ; لأنه بذل منفعة من غير عوض , فلم يستحقه , ولأنه لا يلزم الإنسان شيء لم يلتزمه , إلا أنه يستثنى من ذلك شيئان :
الأول : إذا كان العامل قد أعد نفسه للعمل بالأجرة كالدلال والحمال ونحوهما ; فإنه إذا عمل عملا بإذن يستحق الأجرة , لدلالة العرف على ذلك , ومن لم يعد نفسه للعمل , لم يستحق شيئا , ولو أذن له ; إلا بشرط
الثاني : من قام بتخليص متاع غيره من هلكة ; كإخراجه من البحر أو الحرق أو وجده في مهلكة يذهب لو تركه , فله أجرة المثل , وإن لم يأذن له ربه ; لأنه يخشى هلاكه وتلفه على صاحبه ; ولأن في دفع الأجرة ترغيبا في مثل هذا العمل , وهو إنقاذ الأموال من الهلكة
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " من استنقذ مال غيره من الهلكة ورده ; استحق أجرة المثل , ولو بغير شرط , في أصح القولين , وهو منصوص أحمد وغيره "
. وقال العلامة ابن القيم رحمه الله : " فمن عمل في مال غيره عملا بغير إذنه ليتوصل بذلك العمل إلى غيره أو فعله حفظا لمال المالك وإحرازا له من الضياع ; فالصواب أنه يرجع عليه بأجرة عمله , وقد نص عليه أحمد في عدة مواضع " انتهى .
باب في أحكام اللقطة
* اللقطة - بضم اللام وفتح القاف - هي مال ضل عن صاحبه غير حيوان , وهذا الدين الحنيف جاء بحفظ المال ورعايته , وجاء باحترام مال المسلم والمحافظة عليه , ومن ذلك اللقطة .
* فإذا ضل مال عن صاحبه , فلا يخلو من ثلاث حالات :
الحالة الأولى : أن يكون مما لا تتبعه همة أوساط الناس ; كالسوط , والرغيف , والثمرة , والعصا , فهذا يملكه آخذه وينتفع به بلا تعريف ; لما روى جابر قال : رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط والحبل يلتقطه الرجل " رواه أبو داود
الحالة الثانية : أن يكون مما يمتنع من صغار السباع : إما لضخامته كالإبل والخيل والبقر والبغال , وإما لطيرانه كالطيور , وإما لسرعة عدوها كالظباء , وإما لدفعها عن نفسها بنابها كالفهود , فهذا القسم بأنواعه يحرم التقاطه , ولا يملكه آخذه بتعريفه ; لقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ضالة الإبل : " ما لك ولها ؟ ! معا سقاؤها وحذاؤها , ترد الماء , وتأكل الشجر , حتى يجدها ربها " متفق عليه , وقال عمر : " من أخذ الضالة ; فهو ضال " أي : مخطئ , وقد حكم صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بأنها لا تلتقط , بل تترك ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها . ويلحق بذلك الأدوات الكبيرة ; كالقدر الضخمة والخشب والحديد وما يحتفظ بنفسه ولا يكاد يضيع ولا ينتقل عن مكانه , فيحرم أخذه كالضوال , بل هو أولى .
الحالة الثالثة : أن يكون المال الضال من سائر الأموال ; كالنقود والأمتعة وما لا يمتنع من صغار السباع ; كالغنم والفصلان والعجول , فهذا القسم إن أمن واجده نفسه عليه ; جاز له التقاطه ,
وهو ثلاثة أنواع :
النوع الأول : حيوان مأكول , كفصيل وشاة ودجاجة . .. فذا يلزم واجده إذا أخذه الأحظ لمالكه من أمور ثلاثة :
أحدها : أكله وعليه قيمته في الحال .
الثاني : بيعه والاحتفاظ بثمنه لصاحبه بعد معرفة أوصافه .
الثالث : حفظه والإنفاق عليه من ماله , ولا يملكه , ويرجع بنفقته على مالكه إذا جاء واستلمه ; لأنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الشاة , قال : خذها ; فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب متفق عليه , ومعناه : أنا ضعيفة , معرضة للهلاك , مترددة بين أن تأخذها أنت أو يأخذها غيرك أو يأكلها الذئب .
قال ابن القيم في الكلام على هذا الحديث الشريف : فيه جواز التقاط الغنم , وأن الشاة إذا لم يأت صاحبها , فهي ملك الملتقط , فيخير بين أكلها في الحال وعليه قيمتها , وبين بيعها وحفظ ثمنها , وبين تركها والإنفاق عليها من ماله , وأجمعوا على أنه لو جاء صاحبها قبل أن يأكلها الملتقط ; له أخذها.
النوع الثاني : ما يخشى فساده , كبطيخ وفاكهة , فيفعل الملتقط الأحظ لمالكه من أكله ودفع قيمته لمالكه , وبيعه وحفظ ثمنه حتى يأتي مالكه.
النوع الثالث : سائر الأموال ما عدا القسمين السابقين ; كالنقود والأواني , فيلزمه حفظ الجميع أمانة بيده , والتعريف عليه في مجامع الناس .
* ولا يجوز له أخذ اللقطة بأنواعها إلا إذا أمن نفسه عليها وقوي على تعريف ما يحتاج إلى تعريف , لحديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه , قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب والورق ؟ فقال : اعرف وكاءها وعفاصها , ثم عرفها سنة , فإن لم تعرف ; فاستنفقها , ولتكن وديعة عندك , فإن جاء طالبها يوما من الدهر , فادفعها إليه وسأله عن الشاة ; فقال : فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب " , وسئل عن ضالة الإبل ; فقال : ما لك ولها ؟ ! معها سقاؤها وحذاؤها , ترد الماء , وتأكل الشجر , حتى يجدها ربها " متفق عليه .
- ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : اعرف وكاءها وعفاصها الوكاء : ما يربط به الوعاء الذي تكون فيه النفقة . والعفاص : الوعاء الذي تكون فيه النفقة .
- ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : ثم عرفها سنة أي : اذكرها للناس في مكان اجتماعهم من الأسواق وأبواب المساجد والمجامع والمحافل , " سنة " , أي : مدة عام كامل ; ففي الأسبوع الأول من التقاطها ينادى عليها كل يوم ; لأن مجيء صاحبها في ذلك الأسبوع أحرى , ثم بعد الأسبوع ينادى عليها حسب عادة الناس في ذلك.
- والحديث يدل على وجوب التعريف باللقطة وفي قوله صلى الله عليه وسلم : اعرف وكاءها وعفاصها دليل على وجوب معرفة صفاتها , حتى إذا جاء صاحبها ووصفها وصفا مطابقا لتلك الصفات ; دفعت إليه , وإن اختلف وصفه لها عن الواقع ; لم يجز دفعها إليه.
- وفي قوله صلى الله عليه وسلم : فإن لم تعرف ; فاستنفقها دليل على أن الملتقط يملكها بعد الحول وبعد التعريف , لكن لا يتصرف فيها قبل معرفة صفاتها ; أي : حتى يعرف وعاءها ووكاءها وقدرها وجنسها وصفتها , فإن جاء صاحبها بعد الحول , ووصفها بما ينطبق على تلك الأوصاف , دفعها إليه ; لقوله صلى الله عليه وسلم : فإن جاء طالبها يوما من الدهر ; فادفعها إليه
* وقد تبين مما سبق أنه يلزم نحو اللقطة أمور :
أولا : إذا وجدها , فلا يقدم على أخذها إلا إذا عرف من نفسه الأمانة في حفظها والقوة على تعريفها بالنداء عليها حتى يعثر على صاحبها , ومن لا يأمن نفسه عليها , لم يجز له أخذها , فإن أخذها ; فهو كغاصب , لأنه أخذ مال غيره على وجه لا يجوز له أخذه , ولما في أخذها حينئذ من تضييع مال غيره .
ثانيا : لا بد له قبل أخذها من ضبط صفاتها بمعرفة وعائها ووكائها وقدرها وجنسها وصنفها , والمراد بوعائها ظرفها الذي هي فيه كيسا كان أو خرقة , والمراد بوكائها ما تشد به ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك , والأمر يقتضي الوجوب.
ثالثا : لا بد من النداء عليها وتعريفا حولا كاملا في الأسبوع الأول كل يوم ثم بعد ذلك ما جرت به العادة , ويقول في التعريف مثلا : من ضاع له شيء ونحو ذلك , وتكون المناداة عليها في مجامع الناس كالأسواق وعند أبواب المساجد في أوقات الصلوات , ولا ينادى عليها في المساجد ; لأن المساجد لم تبن لذلك ; لقوله صلى الله عليه وسلم : من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد , فليقل : لا ردها الله عليك .
رابعا : إذا جاء طالبها , فوصفها بما يطابق وصفها ; وجب دفعها إليه بلا بينة ولا يمين ; لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك , ولقيام صفتها مقام البينة واليمين , بل ربما يكون وصفه لها أظهر وأصدق من البينة واليمين , ويدفع معها نماءها المتصل والمنفصل , أما إذا لم يقدر على وصفها , فإنها لا تدفع إليه ; لأنها أمانة في يده , فلم يجز دفعها إلى من لم يثبت أنه صاحبها
خامسا : إذا لم يأت صاحبها بعد تعريفها حولا كاملا ; تكون ملكا لواجدها , ولكن يجب عليه قبل التصرف فيها ضبط صفاتها ; بحيث لو جاء صاحبها في أي وقت , ووصفها ; ردها عليه إن كانت موجودة , أو رد بدلها إن لم تكن موجودة ; لأن ملكه لها مراعى يزول بمجيء صاحبها.
سادسا : واختلف العلماء في لقطة الحرم : هل هي كلقطة الحل تملك بالتعريف بعد مضي الحول أو لا تملك مطلقا ؟ فبعضهم يرى أنها تملك بذلك ; لعموم الأحاديث , وذهب الفريق الآخر إلى أنها لا تملك , بل يجب تعريفها دائما , ولا يملكها ; لقوله في مكة المشرفة : ولا تحل لقطتها إلا لمعرف واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ; حيث قال : " لا تملك بحال ; للنهي عنها , ويجب تعريفها أبدا " , وهو ظاهر الخبر في النهي عنها .
سابعا : من ترك حيوانا بفلاة لانقطاعه بعجزه عن المشي أو عجز صاحبه عنه ملكه آخذه ; لخبر : من وجد دابة قد عجز أهلها عنها , فسيبوها , فأخذها ; فهي له رواه أبو داود ; ولأنها تركت رغبة عنها فأشبهت سائر ما ترك رغبة عنه , ومن أخذ نعله ونحوه من متاعه ووجد في موضعه غيره ; فحكمه حكم اللقطة , لا يملكه بمجرد وجوده , بل لا بد من تعريفه , وبعد تعريفه يأخذ منه قدر حقه ويتصدق بالباقي .
ثامنا : إذا وجد الصبي والسفيه لقطة , فأخذها فإن وليه يقوم مقامه بتعريفها , ويلزمه أخذها منهما ; لأنهما ليسا بأهل للأمانة والحفظ , فإن تركها في يدهما , فتلفت , ضمنها ; لأنه مضيع لها , فإذا عرفها وليهما , فلم تعرف , ولم يأت لها أحد ; فهي لهما ملكا مراعى ; كما في حق الكبير والعاقل .
تاسعا : تاسعا : لو أخذها من موضع ثم ردها فيه ; ضمنها ; لأنها أمانة حصلت في يده ; فلزمه حفظها كسائر الأمانات , وتركها تضييع لها .
* تنبيه : من هدي الإسلام في شأن اللقطة تدرك عنايته بالأموال وحفظها وعنايته بحرمة مال المسلم وحفاظه عليه , وفي الجملة ندرك من ذلك كله حث الإسلام على التعاون على الخير , نسأل الله سبحانه أن يثبتنا جميعا على الإسلام ويتوفانا مسلمين .
باب في أحكام اللقيط
* أحكام اللقيط لها علاقة كبيرة بأحكام اللقطة , إذ اللقطة تختص بالأموال الضائعة , واللقيط هو الإنسان الضائع , مما به يظهر شمول أحكام الإسلام لكل متطلبات الحياة , وسبقه في كل مجال حيوي مفيد , على نحو يفوق ما تعارف عليه عالم اليوم من إقامة دور الحضانة والملاجئ للحفاظ على الأيتام ومن لا عائل لهم من الأطفال والعجزة , ومن ذلك عناية الإسلام بأمر اللقيط , وهو الطفل الذي يوجد منبوذا أو يضل عن أهله ولا يعرف نسبه في الحالين . فيجب على من وجده على تلك الحال أن يأخذه وجوبا كفائيا , إذا قام به من يكفي , سقط الإثم عن الباقين , وإن تركه الكل , أثموا , مع إمكان أخذهم له ; لقوله تعالى : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فعموم الآية يدل على وجوب أخذ اللقيط ; لأنه من التعاون على البر والتقوى ; ولأن في أخذه إحياء لنفسه , فكان واجبا كإطعامه عند الضرورة وإنجائه من الغرق .
* واللقيط حر في جميع الأحكام ; لأن الحرية هي الأصل , والرق عارض , فإذا لم يعلم , فالأصل عدمه . * وما وجد معه من المال أو وجد حوله ; فهو له , عملا بالظاهر ; ولأن يده عليه , فينفق عليه منه ملتقطه بالمعروف , لولايته عليه , وإن لم يوجد معه شيء ; أنفق عليه من بيت المال ; لقول عمر رضي الله عنه للذي أخذ اللقيط لما وجده : اذهب ; فهو حر , ولك ولاؤه , وعلينا نفقته ومعنى ولاؤه : ولايته , وقوله : " وعلينا نفقته " ; يعني : من بيت مال المسلمين . وفي لفظ أن عمر رضي الله عنه قال : " وعلينا رضاعه " ; يعني : في بيت المال ; فلا يجب على الملتقط الإنفاق عليه ولا رضاعه , بل يجب ذلك في بيت المال , فإن تعذر ; وجبت نفقته على من علم بحاله من المسلمين ; لقوله تعالى : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ولما في ترك الإنفاق عليه من هلاكه ; ولأن الإنفاق عليه من باب المواساة , كقرى الضيف .
* وحكمه من ناحية الدين , أنه إن وجد في دار الإسلام أو في بلد كفار يكثر فيها المسلمون , فهو مسلم , لقوله صلى الله عليه وسلم : كل مولود يولد على الفطرة وإن وجد في بلد كفار خالصة , أو يقل فيها عدد المسلمين , فهو كافر تبعا للدار . وحضانته تكون لواجده إذا كان أمينا ; لأن عمر رضي الله عنه أقر اللقيط في يد أبي جميلة حين علم أنه رجل صالح , وقال : " لك ولاؤه " ; أي : ولايته , ولسبقه إليه , فكان أولى به .
* وينفق عليه واجده مما وجد معه من نقد أو غيره ; لأنه وليه , وينفق عليه بالمعروف . * فإن كان واجده لا يصلح لحضانته ; لكونه فاسقا أو كافرا واللقيط مسلم ; لم يقر بيده ; لانتفاء ولاية الفاسق وولاية الكافر على المسلم ; لأنه يفتنه عن دينه . وكذلك لا تقر حضانته بيد واجده إذا كان بدويا يتنقل في الواضع ; لأن في ذلك إتعابا للصبي , فيؤخذ منه ويدفع إلى المستقر في البلد ; لأن مقام الطفل في الحضر أصلح له في دينه ودنياه , وأحرى للعثور على أهله ومعرفة نسبه .
و ميراث اللقيط إذا مات وديته إذا جني عليه بما يوجب الدية يكونان لبيت المال إذا لم يكن له من يرثه من ولده , وإن كان له زوجة ; فلها الربع . ووليه في القتل العمد العدوان الإمام ; لأن المسلمين يرثونه , والإمام ينوب عنهم , فيخير بين القصاص والدية لبيت المال ; لأنه ولي من لا ولي له . وإن جني عليه فيما دون النفس عمدا ; انتظر بلوغه ورشده ليقتص عند ذلك أو يعفو .
وإن أقر رجل أو أقرت امرأة بأن اللقيط ولده أو ولدها لحق به ; لأن في ذلك مصلحة له باتصال نسبه , ولا مضرة على غيره فيه ; بشرط أن ينفرد بادعائه نسبه , وأن يمكن كونه منه , وإن ادعاه جماعة ; قدم ذو البينة , وإن لم يكن لأحد منهم بينة , أو كانت لهم بينات متعارضة , عرض معهم على القافة , فمن ألحقته القافة به , لحقه ; لقضاء عمر رضي الله عنه بذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم , والقافة قوم يعرفون الأنساب بالشبه , ويكفي قائف واحد , ويشترط فيه أن يكون ذكرا عدلا مجربا في الإصابة .
باب في أحكام الوقف
* الوقف هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة , والمراد بالأصل : ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالدور والدكاكين والبساتين ونحوها , والمراد بالمنفعة : الغلة الناتجة عن ذلك الأصل كالثمرة والأجرة وسكنى الدار ونحوها .
* وحكم الوقف أنه قربة مستحب في الإسلام , والدليل على ذلك السنة الصحيحة : - ففي " الصحيحين " : أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله ! إني أصبت مالا بخيبر لم أصب قط مالا أنفس عندي منه ; فما تأمرني فيه ; قال : " إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها , غير أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث " فتصدق بها عمر في الفقراء وذوي القربى والرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف .
- وروى مسلم في " صحيحه " , عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : إذا مات ابن آدم , انقطع عمله ; إلا من ثلاث : صدقة جارية , أو علم ينتفع به من بعده , أو ولد صالح يدعو له
- وقال جابر : لم يكن أحد من أصحاب رسول الله ذو مقدرة إلا وقف " - وقال القرطبي رحمه الله : ولا خلاف بين الأئمة في تحبيس القناطر والمساجد , واختلفوا في غير ذلك .
* ويشترط أن يكون الواقف جائز التصرف , بأن يكون بالغا حرا رشيدا ; فلا يصح الوقف من الصغير والسفيه والمملوك
* وينعقد الوقف بأحد أمرين
الأول : القول الدال على الوقف ; كأن يقول : وقفت هذا المكان , أو جعلته مسجدا .
الأمر الثاني : الفعل الدال على الوقف في عرف الناس - كمن جعل داره مسجدا , وأذن للناس في الصلاة فيه إذنا عاما - , أو جعل أرضه مقبرة , وأذن للناس في الدفن فيها
* وألفاظ التوقيف قسمان :
القسم الأول : ألفاظ صريحة , كأن يقول : وقفت , وحبست , وسبلت , وسميت . .. هذه الألفاظ صريحة ; لأنها لا تحتمل غير الوقف , فمتى أتى بصيغة منها ; صار وقفا , من غير انضمام أمر زائد إليها .
والقسم الثاني : ألفاظ كناية ; كأن يقول : تصدقت , وحرمت , وأبدت . .. سميت كناية لأنها تحتمل معنى الوقف وغيره , فمتى تلفظ بواحد من هذه الألفاظ ; اشترط اقتران نية الوقف معه , أو اقتران أحد الألفاظ الصريحة أو الباقي من ألفاظ الكناية معه , واقتران الألفاظ الصريحة ; كأن يقول : تصدقت بكذا صدقة موقوفة أو محبسة أو مسبلة أو محرمة أو مؤبدة , واقتران لفظ الكناية بحكم الوقف ; كأن يقول : تصدقت بكذا صدقة لا تباع ولا تورث .
* ويشترط لصحة الوقف شروط وهي :
أولا : أن يكون الواقف جائز التصرف كما سبق .
ثانيا : أن يكون الموقوف مما ينتفع به انتفاعا مستمرا مع بقاء عينه , فلا يصح وقف ما لا يبقى بعد الانتفاع به ; كالطعام .
ثالثا : أن يكون الموقوف معينا ; فلا يصح وقف غير المعين ; كما لو قال : وقفت عبدا من عبيدي أو بيتا من بيوتي .
رابعا : أن يكون الوقف على بر ; لأن المقصود به التقرب إلى الله تعالى ; كالمساجد والقناطر والمساكين والسقايات وكتب العلم والأقارب ; فلا يصح الوقف على غير جهة بر , كالوقف على معابد الكفار , وكتب الزندقة , والوقف على الأضرحة لتنويرها أو تبخيرها , أو على سدنتها ; لأن ذلك إعانة على المعصية والشرك والكفر
خامسا : ويشترط لصحة الوقف إذا كان على معين أن يكون ذلك المعين يملك ملكا ثابتا ; لأن الوقف تمليك ; فلا يصح على من لا يملك , كالميت والحيوان .
سادسا : ويشترط لصحة الوقف أن يكون منجزا ; فلا يصح الوقف المؤقت ولا المعلق , إلا إذا علقه على موته ; صح ذلك ; كأن يقول إذا مت ; فبيتي وقف على الفقراء ; لما روى أبو داود : " أوصى عمر إن حدث به حدث , فإن سمعا ( أرض له ) صدقة , , واشتهر , ولم ينكر , فكان إجماعا , ويكون الوقف المعلق على الموت من ثلث المال ; لأنه يكون في حكم الوصية .
* ومن أحكام الوقف أنه يجب العمل بشرط الواقف إذا كان لا يخالف الشرع , لقوله صلى الله عليه وسلم : المسلمون على شروطهم , إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا ولأن عمر رضي الله عنه وقف وقفا وشرط فيه شرطا , ولو لم يجب اتباع شرطه ; لم يكن فيه فائدة , فإذا شرط منه مقدارا معينا أو شرط تقديما لبعض المستحقين على بعض أو جمعهم أو اشترط اعتبار وصف في المستحق أو اشترط عدمه أو شرط النظر على الوقف وغير ذلك ; لزم العمل بشرطه , ما لم يخالف كتابا ولا سنة . فإن لم يشترط شيئا , استوى في الاستحقاق الغني والفقير والذكر والأنثى من الموقوف عليهم .
* وإذا لم يعين ناظرا للوقف , أو عين شخصا ومات فالنظر يكون للموقوف عليه إن كان معينا , وإن كان الوقف على جهة كالمساجد , أو من لا يمكن حصرهم كالمساكين ; فالنظر على الوقف للحاكم , يتولاه بنفسه , أو ينيب عنه من يتولاه .
* ويجب على الناظر أن يتقي الله ويحسن الولاية على الوقف ; لأن ذلك أمانة اؤتمن عليها .
* وإذا وقف على أولاده استوى الذكور والإناث في الاستحقاق ; لأنه شرك بينهم , وإطلاق التشريك يقتضي الاستواء في الاستحقاق ; كما لو أقر لهم بشيء ; فإن المقر به يكون بينهم بالسوية ; فكذلك إذا وقف عليهم شيئا , ثم بعد أولاده لصلبه ينتقل الوقف إلى أولاد بنيه دون ولد بناته ; لأنهم من رجل آخر , فينسبون إلى آبائهم , ولعدم دخولهم في قوله تعالى : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ومن العلماء من يرى دخولهم في لفظ الأولاد ; لأن البنات أولاده ; فأولادهن أولاد أولاده حقيقة , والله أعلم.
ولو قال : وقف على أبنائي , أو : بني فلان , اختص الوقف بذكورهم ; لأن لفظ البنين وضع لذلك حقيقة , قال تعالى : أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ إلا أن يكون الموقوف عليهم قبيلة , كبني هاشم وبني تميم ; فيدخل فيهم النساء ; لأن اسم القبيلة يشمل ذكرها وأنثاها .
* لكن إذا وقف على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتسوية بينهم , وإن لم يمكن حصرهم واستيعابهم , كبني هاشم وبني تميم , لم يجب تعميمهم ; لأنه غير ممكن , وجاز الاقتصار على بعضهم وتفضيل بعضهم على بعض .
* والوقف من العقود اللازمة بمجرد القول ; فلا يجوز فسخه ; لقوله عليه الصلاة والسلام : لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث قال الترمذي : " العمل على هذا الحديث عند أهل العلم " . فلا يجوز فسخه ; لأنه مؤبد , ولا يباع , ولا يناقل به ; إلا أن تتعطل منافعه بالكلية , كدار انهدمت ولم تمكن عمارتها من ريع الوقف , أو أرض زراعية خربت وعادت مواتا ولم يمكن عمارتها بحيث لا يكون في ريع الوقف ما يعمرها ; فيباع الوقف الذي هذه حاله , ويصرف ثمنه في مثله ; لأنه أقرب إلى مقصود الواقف , فإن تعذر مثله كاملا , صرف في بعض مثله , ويصير البديل وقفا بمجرد شرائه .
* وإن كان الوقف مسجدا , فتعطل ولم ينتفع به في موضعه كأن خربت محلته ; فإنه يباع ويصرف ثمنه في مسجد آخر , وإذا كان على مسجد وقف زاد ريعه عن حاجته ; جاز صرف الزائد إلى مسجد آخر ; لأنه انتفاع به في جنس ما وقف له , وتجوز الصدقة بالزائد من غلة الوقف على المسجد على المساكين .
* وإذا وقف على معين ; كما لو قال : هذا وقف على زيد , يعطى منه كل سنة مائة , وكان في ريع الوقف فائض عن هذا القدر ; فإنه يتعين إرصاد الزائد , وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله : " إن علم أن ريعه يفضل دائما , وجب صرفه ; لأن بقاءه فساد له " .
* وإذا وقف على مسجد , فخرب , وتعذر الإنفاق عليه من الوقف صرف في مثل من المساجد
باب في أحكام الهبة والعطية
* الهبة : هي التبرع من جائز التصرف في حياته لغيره بمال معلوم * وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يهدي ويهدى إليه , ويعطي ويعطى ; فالهبة والهدية من السنة المرغب فيها لما يترتب عليها من المصالح , قال : صلى الله عليه وسلم : تهادوا تحابوا وعن عائشة رضي الله عنها ; قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها " وقال صلى الله عليه وسلم : تهادوا ; فإن الهدية تسل السخية
* وتلزم الهبة إذا قبضها الموهوب له بإذن الواهب فليس له الرجوع فيها , أما قبل القبض ; فله الرجوع , بدليل حديث عائشة رضي الله عنها : " أن أبا بكر نحلها جذاذ عشرين وسقا من ماله بالعالية , فلما مرض ; قال : يا بنية ! كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا , ولو كنت حزتيه أو قبضتيه ; كان لك ; فإنما هو اليوم مال وارث ; فاقتسموه على كتاب الله تعالى "
* وإن كانت الهبة في يد المتهب وديعة أو عارية , فوهبها له ; فاستدامته لها تكفي عن قبضها ابتداء .
* وتصح به الدين لمن هو في ذمته , ويعتبر ذلك إبراء له , ويجوز هبة كل ما يجوز بيعه .
* ولا تصح الهبة المعلقة على شرط مستقبل كأن يقول : إذا حصل كذا ; فقد وهبتك كذا .
* ولا تصح الهبة مؤقتة , كأن يقول : وهبتك كذا شهرا أو سنة ; لأنها تمليك للعين , فلا تقبل التوقيت ; كالبيع , لكن يستثنى من التعليق تعليق الهبة بالموت ; كأن يقول : إذا مت , فقد وهبتك كذا وكذا , وتكون وصية تأخذ أحكامها .
* ولا يجوز للإنسان أن يهب لبعض أولاده ويترك بعضهم أو يفضل بعضهم على بعض في الهبة بل يجب عليه العدل بينهم , بتسوية بعضهم ببعض , لحديث النعمان بن بشير : أن أباه أتى به النبي صلى الله عليه وسلم لما نحله نحلة ليشهد عليها النبي صلى الله عليه وسلم , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أكل ولدك نحلت مثل هذا ؟ . فقال : لا . فقال : " أرجعه " . ثم قال : اتقوا الله , واعدلوا بين أولادكم متفق عليه , فدل على وجوب العدل بين الأولاد في العطية , وأنها تحرم الشهادة على تخصيص بعضهم أو تفضيله تحملا وأداء إن علم ذلك .
* وإذا وهب الإنسان هبة وقبضها الموهوب له , حرم عليه الرجوع فيها وسحبها منه , لحديث ابن عباس مرفوعا : " العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه " فدل هذا على تحريم الرجوع في الهبة ; إلا ما استثناه الشارع , وهو الأب ; فله أن يرجع فيما وهبه لولده , ولقوله صلى الله عليه وسلم : لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها , إلا الوالد فيما يعطي ولده رواه الخمسة وصححه الترمذي .
* كما أن للوالد أن يأخذ ويمتلك من مال ولده ما لا يضر الولد ولا يحتاجه ; لحديث عائشة : " إن أطيب ما أكلتم من كسبكم , وإن أولادكم من كسبكم " رواه الترمذي وحسنه , ورواه غيره , وله شواهد تدل بمجموعها على أن للوالد الأخذ والتملك والأكل من مال ولده ما لا يضر الوالد ولا يتعلق بحاجته , بل إن قوله صلى الله عليه وسلم : أنت ومالك لأبيك يقتضي إباحة نفسه لأبيه كإباحة ماله , فيجب على الولد أن يخدم أباه بنفسه , ويقضي له حوائجه . وليس للوالد أن يتملك من مال الولد ما يضره أو تتعلق به حاجته ; لقوله صلى الله عليه وسلم : لا ضرر ولا ضرار وليس للولد مطالبة أبيه بدين ونحوه ; لأن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأبيه يقتضيه دينا عليه , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أنت ومالك لأبيك فدل على أنه لا يحق للولد مطالبة والده بالدين , وقد قال الله تعالى : وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا فأمر سبحانه بالإحسان إلى الوالدين , ومن الإحسان إليهما عدم مطالبتهما بالحق الذي عليهما للولد , ما عدا النفقة الواجبة على الوالد , فللولد مطالبته بها , لضرورة حفظ النفس إذا كان الولد يعجز عن الكسب , ولقوله صلى الله عليه وسلم لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف
* والهدية تذهب الحقد وتجلب المحبة ; لقوله صلى الله عليه وسلم : تهادوا ; فإن الهدايا تذهب وحر الصدور
* ولا ينبغي رد الهدية وإن قلت , وتسن الإثابة عليها ; لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها , وذلك من محاسن الدين , ومكارم الشيم .
كتاب المواريث
باب في تصرفات المريض المالية
بسم الله الرحمن الرحيم
* حالة الصحة تختلف عن حالة المرض من حيث نفوذ تصرفات الإنسان في ماله في حدود الشرع والرشد من غير استدراك عليه , والصدقة في هذه الحالة أفضل من الصدقة في حالة المرض وأعظم أجرا . قال الله تعالى : وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
وفي " الصحيحين " : أن النبي لما سئل : أي الصدقة أفضل ; قال : أن تصدق وأنت صحيح شحيح , تأمل الغنى , وتخشى الفقر , ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم ; قلت : لفلان كذا , وقد كان لفلان
* والمرض ينقسم إلى قسمين :
أولا : مرض غير مخوف : أي : لا يخاف منه الموت في العادة , كوجع ضرس وعين وصداع يسير , فهذا القسم من المرض يكون تصرف المريض فيه لازما كتصرف الصحيح , وتصح عطيته من جميع ماله , ولو تطور إلى مرض مخوف ومات منه , اعتبارا بحاله حال العطية ; لأنه في حال العطية في حكم الصحيح.
ثانيا : مرض مخوف : بمعنى أنه يتوقع منه الموت عادة ; فإن تبرعات المريض في هذا المرض وعطاياه تنفذ من ثلثه لا من رأس المال , فإن كانت في حدود الثلث فما دون ; نفذت , وإن زادت عن ذلك ; فإنها لا تنفذ , إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت , لقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة في أعمالكم رواه ابن ماجه والدارقطني , فدل هذا الحديث وما ورد بمعناه على الإذن بالتصرف في ثلث المال عند الوفاة , وهو مذهب جمهور العلماء , ولأنه في حال المرض المخوف يغلب موته به , فكانت عطيته من رأس المال تجحف بالوارث , فردت إلى الثلث كالوصية
. ومثل حالة المرض المخوف في حكم التصرف المالي حالة الخطر , كمن وقع الوباء في بلده , أو كان بين الصفين في القتال , أو كان في لجة البحر عند هيجانه ; فإنه لا ينفذ تبرعه في تلك الحال فيما زاد على الثلث , إلا بإجازة الورثة بعد الموت , ولا يصح تبرعه في تلك الحال لأخد ورثته بشيء ; إلا بإجازة الورثة إن مات في هذه الحال , فإن عوفي من المرض المخوف ; نفذت عطاياه كلها ; لعدم المانع.
ومن كان مرضه مزمنا , ولم يلزمه الفراش , فتبرعاته تصح من جميع ماله كتبرعات الصحيح ; لأنه لا يخاف منه تعجيل الموت ; فهو كالهرم , أما إن لزم من به مرض مزمن الفراش ; فهو كمن مرضه مخوف , لا تصح وصاياه إلا في حدود الثلث , ولغير الوارث ; إلا إذا أجازها الورثة ; لأنه مريض ملازم للفراش , يخشى عليه التلف.
* ويعتبر مقدار الثلث عند موته ; لأنه وقت لزوم الوصايا , ووقت استحقاقها , فتنفذ الوصايا والعطايا من ثلثه حينئذ , فإن ضاق عنها , قدمت العطايا على الوصايا ; لأنها لازمة في حق المريض , فقدمت على الوصية ; كالعطية في حال الصحة .
* وهناك فروق بين الوصية والعطية ; فقد قال الفقهاء رحمهم الله : إن الوصية تفارق العطية في أربعة أشياء
أحدها : أنه يسوى بين المتقدم المتأخر في الوصية ; لأنها تبرع بعد الموت , يوجب دفعة واحدة , أما العطية ; فيبدأ بالأول فالأول فيها ; لأنها تقع لازمة في حق المعطى.
الثاني : أن المعطي لا يملك الرجوع في العطية بعد قبضها ; بخلاف الوصية ; فإن الموصي يملك الرجوع فيها ; لأنها لا تلزم إلا بالموت .
الثالث : أن العطية يعتبر القبول لها عند وجودها ; لأنها تملك في الحال ; بخلاف الوصية ; فإنها تمليك بعد الموت ; فاعتبر القبول عند وجوده , فلا حكم لقبولها قبل الموت
الرابع : أن العطية يثبت الملك فيها عند قبولها ; بخلاف الوصية , فإنها لا تملك قبل الموت ; لأنها تمليك بعده ; فلا تتقدمه .
باب في أحكام الوصايا
* الوصية لغة مأخوذة من وصيت الشيء إذا وصلته , سميت بذلك لأنها وصل لما كان في الحياة بما بعد الموت ; لأن الموصي وصل بعض التصرف الجائز له في حياته ليستمر بعد موته .
* والوصية في اصطلاح الفقهاء : هي الأمر بالتصرف بعد الموت , أو بعبارة أخرى : هي التبرع بالمال بعد الموت .
* والدليل على مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع . - قال الله تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ وقال تعالى : مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ - وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم .
- وأجمع العلماء على جوازها .
* والوصية تارة تكون واجبة وتارة مستحبة - فتجب الوصية بما له وما عليه من الحقوق التي ليس فيها إثباتات لئلا تضيع , قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين ; إلا ووصيته مكتوبة عنده فإذا كان عنده ودائع للناس أو في ذمته حقوق لهم , وجب عليه أن يكتبها ويبينها .
- وتكون الوصية مستحبة بأن يوصي بشيء من ماله يصرف في سبل البر والإحسان ليصل إليه ثوابه بعد وفاته ; فقد أذن له الشارع بالتصرف عند الموت بثلث المال , وهذا من لطف الله بعباده ; لتكثير الأعمال الصالحة لهم .
* وتصح الوصية حتى من الصبي العاقل كما تصح منه الصلاة , وتثبت بالإشهاد وبالكتابة المعروفة بخط الموصي.
* ومن أحكام الوصية أنها تجوز بحدود ثلث المال فأقل , وبعض العلماء يستحب أن لا تبلغ الثلث ; فقد ورد عن أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم : - فقد قال أبو بكر رضي الله عنه : " رضيت بما رضي الله به لنفسه " يعني : في قوله تعالى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ - وقال علي رضي الله عنه : " لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أوصي بالربع " - وقال ابن عباس رضي الله عنهما : " لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع ; فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الثلث , والثلث كثير
* ولا تجوز الوصية بأكثر من الثلث لمن له وارث ; إلا بإجازة الورثة ; لأن ما زاد على الثلث حق لهم , فإذا أجازوا الزيادة عليه , صح ذلك , وتعتبر إجازتهم لها بعد الموت .
* ومن أحكام الوصايا أنها لا تصح لأحد من الورثة ; لقوله صلى الله عليه وسلم : لا وصية لوارث رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه , وله شواهد , وقال الشيخ تقي الدين : " اتفقت الأمة عليه " , وذكر الشافعي أنه متواتر , فقال : " وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح : لا وصية لوارث ويأثرونه عمن لقوه من أهل العلم ; إلا إذا أجاز الورثة الوصية للوارث ; فإنما تصح ; لأن الحق لهم , وتعتبر صحة إجازتهم الوصية بالزيادة على الثلث لغير الوارث وإجازتهم الوصية للوارث إذا كانت الإجازة صادرة منهم في مرض موت الموصي أو بعد وفاته . .. "
* ومن أحكام الوصية أنها إنما تستحب في حق من له مال كثير ووارثه غير محتاج , لقوله تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ والخير هو المال الكثير عرفا ; فتكره وصية من ماله قليل ووارثه محتاج ; لأنه يكون بذلك قد عدل عن أقاربه المحاويج إلى الأجانب , ولقوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص : إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس وقال الشعبي : " ما من مال أعظم أجرا من مال يتركه الرجل لولده ويغنيهم به عن الناس " , وقال علي لرجل : " إنما تركت شيئا يسيرا , فدعه لورثتك " وكان كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يوصوا .
* وإذا كان قصد الموصي المضارة بالوارث ومضايقته فإن ذلك يحرم عليه ويأثم به ; لقوله تعالى : غَيْرَ مُضَارٍّ وفي الحديث : " إن الرجل ليعمل بطاعة الله ستين سنة , ثم يحضره الموت , فيضار في الوصية , فتجب له النار " وقال ابن عباس : " الإضرار في الوصية من الكبائر " قال الإمام الشوكاني رحمه الله : " قوله : غَيْرَ مُضَارٍّ أي : يوصي حال كونه غير مضار لورثته بوجه من وجوه الضرار , كأن يقر بشيء ليس عليه , أو يوصي بوصية لا مقصد له فيها إلا الضرار بالورثة , أو يوصي لوارث مطلقا أو لغيره بزيادة على الثلث ولم تجز الورثة , وهذا القيد - أعني قوله : غَيْرَ مُضَارٍّ راجع إلى الوصية والدين المذكورين ; فهو قيد لها , فما صدر من الإقرارات بالديون أو الوصايا المنهي عنها أو التي لا مقصد لصاحبها إلا المضارة لورثته , فهو باطل مردود , لا ينفذ منه شيء , لا الثلث ولا دونه " انتهى كلام الشوكاني رحمه الله .
* ومن أحكام الوصايا جواز الوصية بكل المال لمن لا وارث له ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس وورد جواز ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه , وقال به جمع من العلماء ; لأن المنع من الوصية بما زاد عن الثلث لأجل حق الورثة , فإذا عدموا ; زال المانع ; لأنه لم يتعلق به حق وارث ولا غريم ; فأشبه ما لو تصدق بماله في حال صحته
. قال الإمام ابن القيم : " الصحيح أن ذلك له ; لأنه إنما منعه الشارع فيما زاد على الثلث إذا كان له ورثة , فمن لا وارث له لا يعترض عليه فيما صنع في ماله . .. " انتهى كلام ابن القيم .
* ومن أحكام الوصايا أنه إذا لم يف ثلث مال الموصي بها ولم تجز الورثة الزيادة على الثلث , فإن النقص يدخل على الجميع بالقسط فيتحاصون , ولا فرق بين متقدمها ومتأخرها ; لأنها كلها تبرع بعد الموت , فوجبت دفعة واحدة , تساوى أصحابها في الأصل وتفاوتوا في المقدار , فوجبت المحاصة , كمسائل العول في الفرائض إذا زادت على أصل المسألة .
مثال ذلك : لو أوصى لشخص بمائة ريال , ولآخر بمائة ريال , ولثالث بخمسين ريالا , ولرابع بثلاثين ريالا , ولخامس بعشرين ريالا , وثلث ماله مائة ريال فقط , ومجموع الوصايا ثلاث مائة ريال , فإذا نسبت مبلغ الثلث إلى مبلغ مجموع الوصايا ; بلغ ثلثه , فيعطى كل واحد ثلث ما أوصى له به فقط .
* ومن أحكام الوصايا أن الاعتبار بصحتها وعدم صحتها بحالة الموت , فلو أوصى لوارث , فصار عند الموت غير وارث كأخ حجب بابن تجدد ; صحت الوصية اعتبارا بحال الموت ; لأنه الحال الذي يحصل به الانتقال إلى الوارث والموصى له , وبعكس ذلك , لو أوصى لغير وارث , فصار عند الموت وارثا ; فإنها لا تصح الوصية ; كما لو أوصى لأخيه مع وجود ابنه حال الوصية , ثم مات ابنه , فإنها تبطل الوصية إن لم تجزها الورثة ; لأن أخاه صار عند الموت وارثا .
ويترتب على هذا الحكم أيضا أنه لا يصح قبول الوصية ولا يملك الموصى له العين الموصى بها إلا بعد موت الموصي ; لأن ذلك وقت ثبوت حقه , ولا يصح القبول قبل موت الموصي . قال الموفق : " لا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن اعتبار الوصية بالموت , وإن كانت الوصية لغير معين كالفقراء كالمساكين أو من لا يمكن حصرهم كبني تميم أو على مصلحة كالمساجد ; لم تفتقر إلى قبول , ولزمت بمجرد الموت , أما إذا كانت على معين , فإنها تلزم بالقبول بعد الموت " .
* ومن أحكام الوصية أنه يجوز للموصي الرجوع فيها ونقضها أو الرجوع في بعضها لقول عمر : " يغير الرجل ما شاء في وصيته " وهذا متفق عليه بين أهل العلم , فإذا قال : رجعت في وصيتي , أو : أبطلتها . .. ونحو ذلك ; بطلت ; لا سبق من أن الاعتبار بحالة موت الموصي من حيث القبول ولزوم الوصية ; فكذلك للموصي أن يرجع عنها في حياته , فلو قال : إن قدم زيد ; فله ما وصيت به لعمرو . فقدم زيد في حياة الموصي ; فالوصية له , ويكون الموصي بذلك قد رجع عن الوصية لعمرو , وإن لم يقدم زيد إلا بعد وفاة الموصي ; فالوصية لعمرو ; لأنه لما مات الموصي قبل قدومه استقرت الوصية للأول وهو عمرو .
* ومن أحكام الوصية أنه يخرج الواجب في تركة الميت من الديون والواجبات الشرعية كالزكاة والحج والنذور والكفارات أولا , وإن لم يوص به ; لقوله تعالى : مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ولقول علي رضي الله عنه : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدين قبل الوصية , رواه الترمذي وأحمد وغيره , فدل على تقديم الدين على الوصية , وفي " الصحيح " : " اقضوا الله ; فالله أحق بالوفاء " فيبدأ بالدين , ثم الوصية , ثم الإرث ; بالإجماع .
والحكمة في تقديم ذكر الوصية على الدين في الآية الكريمة , وإن كانت تتأخر عنه في التنفيذ : أنها لما أشبهت الميراث في كونها بلا عوض ; كان في إخراجها مشقة على الوارث , فقدمت في الذكر , حثا على إخراجها , واهتماما بها , وجيء بكلمة ( أو ) التي للتسوية , فيستويان في الاهتمام , وإن كان الدين مقدما عليها .
* ومن هنا ; فإن أمر الوصية مهم , حيث نوه الله بشأنها في كتابه الكريم , وقدمها في الذكر على غيرها ; اهتماما بها , وحثا على تنفيذها , ما دامت تتمشى على الوجه المشروع , وقد توعد الله من تساهل بشأنها أو غير فيها وبدل من غير مسوغ شرعي , فقال سبحانه : فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ قال الإمام الشوكاني في تفسيره : " والتبديل التغيير , وهذا وعيد لمن غير الوصية المطابقة للحق التي لا جنف فيها ولا مضارة , وأنه يبوء بالإثم , وليس على الموصي من ذلك شيء , فقد تخلص مما كان عليه بالوصية به . .. " انتهى .
* ومن أحكام الوصية صحتها لكل شخص يصح تملكه , سواء كان مسلما أو كافرا ; لقوله تعالى : إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا قال محمد ابن الحنفية : " هو وصية المسلم لليهودي والنصراني " وقد كسا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخا له وهو مشرك , وأسماء وصلت أمها وهي راغبة عن الإسلام , وصفية أم المؤمنين أوصت بثلثها لأخ لها يهودي , ولقوله تعالى : لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
وإنما تصح وصية المسلم للكافر المعين كما ورد , وأما الكافر غير المعين ; فلا تصح الوصية له ; كما لو أوصى لليهود أو النصارى أو فقرائهم , وكذا لا تصح الوصية للكافر المعين بما لا يجوز تمليكه إياه وتمكينه منه , كالمصحف , والعبد المسلم , أو السلاح .
وتصح الوصية لحمل تحقق وجوده قبل صدور الوصية ويعرف ذلك بأن تضعه أمه قبل تمام ستة أشهر من صدور الوصية إذا كان لها زوج أو سيد , أو تضعه لأقل من أربع سنين إن لم تكن ذات زوج أو سيد ; لأن مثل هذا الحمل يرث , فالوصية له تصح من باب أولى , وإن وضعته ميتا , بطلت الوصية .
ولا تصح الوصية لحمل غير موجود حينها , كما لو قال : أوصيت لمن تحمل به هذه المرأة ; لأنها وصية لمعدوم .
وإذا أوصى بمبلغ كبير من المال يحج به عنه فإنه يصرف منه حجه بعد أخرى حتى ينفد , وإن كان المبلغ قليلا ; حج به من حيث بلغ , وإن نص على أن المبلغ الكثير كله يصرف في حجة واحدة ; صرف في حجة واحدة ; لأنه قصد بذلك نفع من يحج , ولا يصح حج الوصي أو الوارث عنه في تلك الصور ; لأن الموصي قصد غير ما في الظاهر .
ولا تصح الوصية لمن لا يصح تمليكه ; كالجني , والبهيمة , والميت
ولا تصح الوصية على جهة معصية : كالوصية للكنائس ومعابد الكفرة والمشركين , وكالوصية لعمارة الأضرحة وإسراجها أو لسدنتها , سواء كان الموصي مسلما أو كافرا
. قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " لو حبس الذمي من مال نفسه شيئا على معابدهم ; لم يجز للمسلمين الحكم بصحته ; لأنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله , ومما أنزل الله أن لا يتعاونوا على شيء من الكفر والفسوق والعصيان ; فكيف يعاونون بالحبس على المواضع التي يكفر فيها ؟ ! "
ولا تصح الوصية على طباعة الكتب المنسوخة , كالتوارة والإنجيل , أو طباعة الكتب المنحرفة ; ككتب الزندقة والإلحاد
ومن أحكام الوصية أنه يشترط أن يكون الموصى به مالا أو منفعة مباحة
ولو كان مما يعجز في تسليمه ; كالطير في الهواء , والحل الذي في البطن , واللبن الذي في الضرع , أو كان معدوما ; كما لو أوصى بما يحمل حيوانه أو شجرته أبدا أو مدة معينة كسنة , فإن حصل شيء من المعدوم ; فهو للموصى له , وإن لم يحصل شيء ; بطلت الوصية ; لأنها لم تصادف محلا .
وتصح الوصية بالمجهول كما لو أوصى بعبد أو شاة , ويعطى الموصى له حينئذ ما يقع عليه الاسم حقيقة أو عرفا .
ومن أحكام الوصايا أنه : لو أوصى بثلث ماله , فاستحدث مالا بعد الوصية دخل في الوصية ; لأن الثلث إنما يعتبر عند الموت في المال الموجود حينه .
ومن أحكام الوصايا أنه : لو أوصى لشخص بشيء معين من ماله , فتلف ذلك المعين قبل موت الموصي أو بعده ; بطلت الوصية ; لزوال حق الموصى له بتلف ما أوصي له به .
ومن أحكام الوصايا أنه : إذا لم يحدد مقدار الموصى به , كما لو أوصى بسهم من ماله فإنه يفسر بالسدس ; لأن السهم في كلام العرب هو السدس , وبه قال علي وابن مسعود ; ولأن السدس أقل سهم مفروض , فتنصرف الوصية إليه , وإن أوصى بشيء من ماله , ولم يبين مقداره ; فإن الوارث يعطي الموصى له ما شاء مما يتمول ; لأن الشيء لا حد له في اللغة ولا في الشرع , فيصدق على أقل شيء يتمول , وما لا يتمول لا يحصل به المقصود , والله أعلم .
أحكام الموصى إليه ( الناظر على الوصية وغيرها )
الموصى إليه : هو المأمور بالتصرف بعد الموت في المال وغيره مما للموصي التصرف فيه حال الحياة , وتدخله النيابة ; لأن الموصى إليه نائب عن الموصي في ذلك .
ودخول الموصى إليه في تلك النيابة وقبوله لها مندوب إليه وقربة يثاب عليها , لكن ذلك يشرع لمن عنده المقدرة على العمل ويجد من نفسه توفر الأمانة ; لقوله تعالى : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وقوله صلى الله عليه وسلم : والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ولفعل الصحابة رضي الله عنهم ; فقد أوصى إلى الزبير رضي الله عنه جماعة من الصحابة , وأوصى أبو عبيدة إلى عمر رضي الله عنهما , وأوصى عمر إلى بنته حفصة رضي الله عنها ثم إلى الأكابر من ولده . أما من لا يقوى على القيام على الوصية , أو لا يأمر نفسه على حفظها , فلا يجوز له الدخول في الوصاية .
ويشترط في الموصى إليه أن يكون مسلما ; فلا يصح الإيصاء إلى كافر
ويشترط فيه أيضا أن يكون مكلفا ; فلا يصح الإيصاء إلى صبي ولا إلى مجنون , ولا إلى أبله ; لأن هؤلاء ليسوا من أهل الولاية والتصرف , لكن يصح تعليق الإيصاء إلى صبي ببلوغه ; لقوله صلى الله عليه وسلم : أميركم زيد , فإن قتل , فجعفر
ويصح الإيصاء إلى المرأة إذا كان فيها كفاءة للقيام بشئون الوصية ; لأن عمر رضي الله عنه أوصى إلى حفصة رضي الله عنها ; ولأن المرأة من أهل الشهادة , فيصح الإيصاء إليها كالرجل .
وتصح الوصية إلى من لا يقدر على مزاولة العمل لكن عنده تفكير سليم , ويضم إليه قادرا أمينا يتعاون معه .
ويصح أن يوصي إلى أكثر من واحد , سواء أوصى إليهم دفعة واحدة أو أوصى إليهم واحدا بعد واحد , إذ لم يعزل الأول .
وإذا أوصى إلى جماعة فإنهم يشتركون في العمل , وليس لأحدهم التصرف في الوصية دون الآخر , وإن مات أحدهم أو غاب ; أقام الحاكم مقامه من يصلح .
ويصح قبول الموصى إليه الوصية في حياة الموصي وبعد موته وله عزل نفسه متى شاء في حياة الموصي وبعد موته , وللموصي أيضا عزل الموصى إليه متى شاء ; لأنه وكيل .
ولا يجوز للموصى إليه أن يوصي إلى غيره ; إلا أن يجعل ذلك إليه ; بأن يأذن له الموصي بالإيصاء إلى غيره متى شاء ; كأن يقول : أذنت لك أن توصي إلى من شئت .
ويشترط لصحة الإيصاء أن يكون في تصرف معلوم ليعلم الموصى إليه ما أوصي به إليه حتى يقوم بحفظه والتصرف فيه .
ويشترط أيضا أن يكون التصرف الموصى به مما يصح للموصي فعله كقضاء دينه , وتفرقة ثلثه , والنظر لصغاره . .. ونحو ذلك ; لأن الموصى إليه يتصرف بالإذن , فلم يجز له التصرف إلا فيما يملكه الموصي ; كالوكالة ; ولأن الموصي أصل والوصي فرع , ولا يملك الفرع ما لا يملكه الأصل ; فلا تصح الوصية بما لا يملكه الموصى ; كتوصية المرأة بالنظر في حق أولادها الأصاغر ; لأنه لا ولاية عليهم لغير الأب .
وتتحدد الوصية بما عينت فيه ; فمن وصى في شيء ; لم يكن وصيا في غيره , فلو أوصى إلى شخص في قضاء ديونه ; لم يكن وصيا على أولاده ; لأن تصرفه يقتصر على ما أذن له فيه كالوكيل .
وتصح وصية الكافر إلى مسلم إذا كانت تركته من المباح , فإن كانت من المحرم كالخمر والخنزير ; لم تصح ; لأن المسلم لا يجوز له أن يتولى ذلك .
وإن قال الموصي للموصى إليه : ضع ثلثي حيث شئت ; أو : تصدق به على من شئت لم يجز للوصي أن يأخذ منه شيئا ; لأنه لم يأذن له بذلك , ولا يجوز له أيضا أن يعطيه لولده وورثته ; لأنه متهم في حقهم .
ومن أحكام الوصايا أن من مات بمكان لا حاكم فيه ولا وصي كمن مات في برية ; جاز لبعض من حضره من المسلمين تولي تركته , وعمل الأصلح من بيع وغيره ; لأنه موضع ضرورة , إذ في تركه إتلاف له , وحفظه من فروض الكفايات , ويكفنه ويجهزه من تركته .
باب في أحكام المواريث
إن موضوع المواريث موضوع مهم وجدير بالعناية , فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على تعلمه وتعليمه في أحاديث كثيرة : منها : قوله صلى الله عليه وسلم : تعلموا الفرائض , وعلموها الناس ; فإنها نصف العلم , وهو ينسى , وهو أول علم ينزع من أمتي رواه ابن ماجه , وفي رواية : فإني امرؤ مقبوض , وسن العلم سيقبض وتظهر الفتن , حتى يختلف اثنان في الفريضة , فلا يجدان من يفصل بينهما رواه أحمد والترمذي والحاكم .
وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم , فقد أهمل هذا العلم ونسي ; فلا وجود لتعليمه في المساجد إلا نادرا , ولا في مدارس المسلمين إلا في بعض الجهات التعليمية على شكل ضعيف لا يفي بالغرض ولا يضمن بقاء هذا العلم . فيجب على المسلمين أن يهبوا لإحياء هذا العلم والحفاظ عليه في المساجد والمدارس والجامعات ; فإنهم بأمس الحاجة إليه , وسيسألون عنه .
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال : العلم ثلاثة , وما سوى ذلك فضل : آية محكمة , وسنة قائمة , وفريضة عادلة وعن عمر رضي الله عنه : " تعلموا الفرائض ; فإنها من دينكم " وقال عبد الله : " من تعلم القرآن ; فليتعلم الفرائض "
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم عن الفرائض : إنها نصف العلم أن للإنسان حالتين : حالة حياة , وحالة موت . وفي الفرائض معظم الأحكام المتعلقة بالموت , بينما يتعلق باقي العلم بأحكام الحياة , وقيل : صارت نصف العلم ; لأنها يحتاج إليها الناس كلهم , وقيل في معناه غير ذلك , والمهم أن في ذلك توجيها للاهتمام بهذا العلم .
ويسمى هذا العلم بالفرائض , جمع فريضة , مأخوذ من الفرض , وهو التقدير ; لأن أنصباء الورثة مقدرة ; فالفريضة نصيب مقدر شرعا لمستحقه , وعلم الفرائض هو العلم بقسمة المواريث من حيث فقه أحكامها ومعرفة الحساب الموصل إلى قسمتها .
ويتعلق بتركة الميت خمسة حقوق : فيبدأ بمؤنة ; تجهيزه من ثمن كفن ومؤنة تغسيله وأجرة حفر قبره , ثم تقضى منها ديونه , سواء كانت لله كالزكوات والكفارات والنذور والحج الواجب أو كانت للآدميين , ثم تخرج وصاياه ; بشرط أن تكون في حدود الثلث فأقل , ثم يقسم الباقي بعد ذلك بين الورثة حسبما شرعه الله عز وجل , يقدم أصحاب الفروض , فإن بقي شيء , فهو للعصبة على ما سيأتي بيانه .
ولا يجوز تغيير المواريث عن وضعها الشرعي وذلك كفر بالله عز وجل , قال الله تعالى : تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ قال الإمام الشوكاني رحمه الله في " تفسيره " : " والإشارة بقوله : ( تلك ) إلى الأحكام المتقدمة ( يعنى : في المواريث ) , وسماها حدودا , لكونها لا تجوز مجاوزتها ولا يحل تعديها , وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في قسمة المواريث وغيرها من الأحكام الشرعية كما يفيده عموم اللفظ ; يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إلى أن قال : " وأخرج ابن ماجه عن أنس ; قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قطع ميراث وارثه ; قطع الله ميراثه من الجنة يوم القيامة انتهى . فمن تصرف في المواريث عن مجراها الشرعي , فورث غير وارث , أو حرم الوارث من كل حقه أو بعضه , أو ساوى بين الرجل والمرأة في الميراث ; كما في بعض الأنظمة القانونية الكفرية ; مخالفا بذلك حكم الله في جعله للذكر مثل حظ الأنثيين ; فهو كافر مخلد في النار والعياذ بالله , إلا أن يتوب إلى الله قبل موته
. إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون النساء والصغار من الميراث , ويجعلونه للذكور الكبار الذين يركبون الخيل ويحملون السلاح , فجاء الإسلام بإبطال ذلك , وقال الله تعالى : لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وهذا لدفع ما كانت عليه الجاهلية من عدم توريث النساء والصغار , وفي قوله تعالى : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وفي قوله : وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ إبطال لما عليه بعض الجاهليات المعاصرة من تسوية المرأة بالرجل في الميراث محادة لله ورسوله وتعديا لحدود الله , فالجاهلية القديمة منعت المرأة من الميراث بالكلية , والجاهلية المعاصرة أعطتها ما لا تستحقه , ودين الإسلام أنصفها وأكرمها وأعطاها حقها اللائق بها , فقاتل الله الكفار والمنافقين والملحدين الذين يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
باب في أسباب الإرث وبيان الورثة
أسباب الإرث وبيان الورثة
الإرث هو انتقال مال الميت إلى حي بعده حسبما شرعه الله .
وله أسباب ثلاثة :
أولها : الرحم : أي : القرابة , وهم قرابة النسب , قال الله تعالى : وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ سواء قربت القرابة من الميت أو بعدت , إذا لم يكن دونها من يحجبها . وتشمل أصولا وفروعا وحواشي : فالأصول هم الآباء والأجداد وإن علوا بمحض الذكور , والفروع هم الأولاد وأولاد البنين وإن نزلوا , والحواشي هم الإخوة وبنوهم وإن نزلوا والأعمام وإن علوا وبنوهم وإن نزلوا .
والثاني : النكاح : وهو عقد الزوجية الصحيح , ولو لم يحصل به وطء ولا خلوة ; لعموم قوله تعالى : وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إلى قوله : وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ويتوارث بعقد الزوجية الزوجان من الجانبين ; فكل منهما يرث الآخر للآية الكريمة , ويتوارث به الزوجان أيضا في عدة الطلاق الرجعي ; لأن الرجعية زوجة , وقولهم : " عقد الزوجية الصحيح " : يخرج به العقد غير الصحيح ; فلا توارث بالنكاح الفاسد ; لأن وجوده كعدمه.
والثالث : ولاء العتاقة ; وهو عصوبة , سببها نعمة المعتق على رقيقه بالعتق , ويورث بها من جانب واحد فقط , فالمعتق يرث عتيقه دون العكس , ويخلف المعتق من بعده عصبته بالنفس دون العصبة بالغير أو مع الغير . والدليل على التوريث بالولاء قوله صلى الله عليه وسلم : الولاء لحمة كلحمة النسب رواه ابن حبان في " صحيحه " والحاكم وصححه , فشبه الولاء بالنسب , والنسب يورث به ; فكذا الولاء , وهذا بالإجماع , وفي " الصحيحين " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنما الولاء لمن أعتق .
أقسام الورثة باعتبار الجنس :
الورثة ينقسمون باعتبار الجنس إلى ذكور وإناث
والوارثون من الذكور عشرة
الابن وابنه وإن نزل بمحض الذكور ; لقوله تعالى : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وابن الابن يعد ابنا ; لقوله تعالى : يَا بَنِي آدَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
والأب وأبوه وإن علا بمحض الذكور ; كأبي الأب وأبي الجد ; لقوله تعالى : وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ والجد أب , وقد أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم السدس .
والأخ مطلقا , سواء كان شقيقا أو لأب أو لأم ; لقوله تعالى : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ الآية , فهذه في الإخوة لغير الأم , وقال في الإخوة لأم : وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ
وابن الأخ لغير أم , أما ابن الأخ لأم ; فلا يرث ; لأنه من ذوي الأرحام .
والعم لغير أم وابنه وإن نزل بمحض الذكور ; لقوله صلى الله عليه وسلم : ألحقوا الفرائض بأهلها ; فما بقي ; فلأولى رجل ذكر
والزوج ; لقوله تعالى : وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ
والعاشر ذو الولاء , وهو المعتق أو من يحل محله , لقوله صلى الله عليه وسلم : الولاء لحمة كلحمة النسب وقوله : وإنما الولاء لمن أعتق
والوارثات من النساء سبع
البنت وبنت الابن وإن نزل أبوها بمحض الذكور ; لقوله تعالى : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ
والأم والجدة ; لقوله تعالى : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ وعن بريدة مرفوعا : " للجدة السدس إذا لم يكن دونها أم " رواه أبو داود .
والأخت مطلقا شقيقة أو لأب أو لأم ; لقوله تعالى : وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ولقوله تعالى : إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ إلى قوله : فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ
والزوجة , لقوله تعالى : وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ الآية .
والمعتقة , لقوله صلى الله عليه وسلم : إنما الولاء لمن أعتق
هذه جملة الوارثين من الذكور والإناث . وعند التفصيل يبلغ الرجال خمسة عشر وتبلغ الإناث عشرا , ويعرف ذلك بالتأمل والرجوع إلى المصادر . والله تعالى أعلم .
أنواع الورثة باعتبار الإرث :
والورثة باعتبار الإرث ثلاثة أنواع نوع يرث بالفرض , ونوع يرث بالتعصيب , ونوع يرث لكونه من ذوي الأرحام .
فصاحب الفرض : هو الذي يأخذ نصيبا مقدرا شرعا لا يزيد إلا بالرد ولا ينقص إلا بالعول
والعصبة : هم الذين يرثون بلا تقدير
وذوو الأرحام هم الذين يرثون عند عدم أصحاب الفروض غير الزوجين وعدم العصبات .
وذوو الفروض عشرة أصناف :الزوجان , والأبوان , والجد , والبنات , وبنات الابن , والأخوات من كل جهة , والأخوة من الأم ذكورا وإناثا , ونتكلم على كل صنف من هؤلاء بشيء من التفصيل :
باب في ميراث الأزواج والزوجات
للزوج النصف مع عدم الولد وولد الابن , والربع مع وجوب الولد أو ولد الابن : لقوله تعالى : وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ
وللزوجة فأكثر الربع مع عدم الفرع الوارث , والثمن مع وجوده : لقوله تعالى : وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ
والمراد بالفرع الوارث أولاد الميت وأولاد بنيه .
باب في ميراث الآباء والأجداد
ولكل من الأب والجد : السدس فرضا مع ذكور الولد وولد الابن ; لقوله تعالى : وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ
ويرث الأب والجد بالتعصيب مع عدم الولد وولد الابن , لقوله تعالى : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فأضاف الميراث إلى الأبوين الأب والأم , وقدر نصيب الأم , ولم يقدر نصيب الأب , فكان له الباقي تعصيبا .
ويرث الأب والجد بالفرض والتعصيب معا مع إناث الأولاد وأولاد البنين , لقوله صلى الله عليه وسلم : ألحقوا الفرائض بأهلها ; فما بقي ; فلأولى رجل ذكر أي : فلأقرب رجل من الميت , والأب هو أقرب ذكر بعد الابن وابنه .
فتلخص أن للأب ثلاث حالات :
الحالة الأولى : يرث فيها بالفرض فقط , وذلك مع وجود ابن الميت لصلبه أو ابن ابنه وإن نزل .
والحالة الثانية : يرث فيها بالتعصيب فقط مع عدم الولد وولد الابن .
والحالة الثالثة : يرث فيها بالفرض والتعصيب معا مع وجود الإناث من ولد الميت أو من ولد ابنه .
والجد مثل الأب في مثل هذه الحالات ; لتناول النصوص له إذا عدم الأب .
ويزيد الجد على الأب حالة رابعة , وهي ما إذا وجد معه إخوة أشقاء أو لأب , فقد اختلف في هذه الحالة : هل يكون فيها مثل الأب يحجب الإخوة أو لا يحجبهم ويشاركونه في الميراث ويكون كواحد منهم يتقاسمون المال أو ما أبقت الفروض على كيفيات معروفة في هذا الباب ; لأن الجد والإخوة تساووا في الإدلاء بالأب ; فالجد أبوه , والإخوة أبناؤه , فيتساوون في الميراث ; كما ذهب إلى ذلك جماعة من الصحابة ; كعلي , وابن مسعود , وزيد بن ثابت , وهو قول الإمام مالك والشافعي وصاحبي أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه , واستدلوا بأدلة وتوجيهات وأقيسة كثيرة مذكورة في الكتب المطولة .
والقول الثاني أن الجد يسقط الإخوة كما يسقطهم الأب , وذهب إلى ذلك أبو بكر الصديق وابن عباس وابن الزبير , وروي عن عثمان وعائشة وأبي كعب وجابر وغيرهم , وهو قول الإمام أبي حنيفة , ورواية عن الإمام أحمد , واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحم الله الجميع , ولهم أدلة كثيرة , وهذا القول أقرب إلى الصواب من القول الأول , والله أعلم .
باب في ميراث الأمهات
* للأم ثلاث حالات :
الحالة الأولى : ترث فيها السدس , وذلك مع وجود الفرع الوارث من أولاد الميت أو أولاد بنيه , أو مع وجود اثنين فأكثر من الإخوة ; لقوله تعالى : وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ إلى قوله تعالى : فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ
الحالة الثانية : ترث فيها الثلث , وذلك مع عدم الفرع الوارث من الأولاد وأولاد البنين , وعدم الجمع من الإخوة والأخوات ; لقوله تعالى : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ
الحالة الثالثة : ترث فيها ثلث الباقي إذا اجتمع زوج وأب وأم أو زوجة وأب وأم , وتسمى هاتان المسألتان بالعمريتين ; لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى فيهما أن للأم ثلث الباقي بعد الموجود من الزوجين
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وقوله أصوب , لأن الله إنما أعطى الأم الثلث إذا ورثه أبواه ; يعني : في قوله تعالى : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ والباقي بعد فرض الزوجين هو ميراث الأبوين يقتسمانه كما اقتسما الأصل وكما لو كان على الميت دين أو وصية فإنهما يقتسمان ما بقي أثلاثا " انتهى .
باب في ميراث الجدة
* المراد بالجدة هنا الجدة الصحيحة , وهي كل جدة أدلت بمحض الإناث ; كأم الأم وأمهاتها المدليات بإناث خلص ; وكأم الأب وكل جدة أدلت بمحض الذكور ; كأم أبي الأب وأم أبي أبي الأب , أو أدلت بإناث إلى ذكور , كأم أم الأب وأم أم أم أبي الأب , أما الجدة المدلية بذكور إلى إناث كأم أبي الأم وأم أبي أم الأب ; فهذه لا ترث ; لأنها من ذوي الأرحام .
* فضابط الجدة الوارثة هي من أدلت بإناث خلص أو بذكور خلص أو بإناث إلى ذكور , وضابط الجدة غير الوارثة هي : من أدلت بذكور إلى إناث , وبعبارة أخرى : من أدلت بذكر بين أنثيين هي إحداهما .
* ودليل توريث الجدة السنة والإجماع :
- فأما السنة ; فمنها حديث قبيصة بن ذؤيب ; قال : " جاءت الجدة إلى أبي بكر , فسألته ميراثها , فقال : ما لك في كتاب الله شيء , وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا , فارجعي حتى أسأل الناس . فسأل الناس , فقال المغيرة بن شعبة : حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس . فقال : هل معك غيرك ؟ فقام محمد بن مسلمة فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة , فأنفذه لها أبو بكر " قال : " ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر , فسألته ميراثها , فقال : ما لك في كتاب الله شيء , ولكن هو ذاك السدس , فإن اجتمعتما ; فهو بينكما , وأيكما خلت فهو لها " رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي .
وعن بريدة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للجدة السدس إذا لم يكن دونها أم " رواه أبو داود وصححه ابن السكن وابن خزيمة وابن الجارود
فهذان الحديثان يفيدان استحقاق الجدة السدس , وهي - كما قال الصديق وعمر رضي الله عنهما - ليس لها في كتاب الله شيء ; لأن الأم المذكورة في كتاب الله مقيدة بقيود توجب اختصاص الحكم بالأم الدنيا , فالجدة وإن سميت أما ; لم تدخل في لفظ الأم المذكورة في الفرائض , وإن دخلت في لفظ الأمهات في قوله تعالى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس ; فثبت ميراثها إذا بالسنة .
وكذا ثبت ميراثها بإجماع العلماء ; فلا خلاف بين أهل العلم في توريث أم الأم وأم الأب , واختلفوا فيما عداهما ; فورث ابن عباس وجماعة من العلماء الجدات وإن كثرن إذا كن في درجة واحدة ; إلا من أدلت بأب غير وارث ; كأم أبي الأم , وورث بعضهم ثلاث جدات فقط هن أم الأم وأم الأب وأم الجد أبي الأب
* ويشترط لتوريث الجدة عدم وجود الأم ; لأن الجدة تدلي بها , ومن أدلى بواسطة ; حجبته تلك الواسطة , إلا ما استثني , وهذا بإجماع أهل العلم أن الأم تحجب الجدة من جميع الجهات .
كيفية توريث الجدات :
* إذا انفردت واحدة من الجدات , ولم يكن دونها أم ; أخذت السدس كما سبق , ليس لها أكثر منه , والقول بأن لها الثلث عند عدم الولد وعدم الجمع من الإخوة كالأم في ذلك قول شاذ لا يعول عليه .
* وإذا وجد جمع من الجدات : فإن تساوين في الدرجة ; فإنهن يشتركن في السدس ; لأن الصحابة شركوا بينهن ; ولأنهن ذوات عدد , لا يشاركهن ذكر , فاستوى كثيرهن وواحدتهن كالزوجات , ولعدم المرجح لإحداهن .
ومن قربت منهن إلى الميت ; فالسدس لها وحدها , سواء كانت من جهة الأم أو من جهة الأب , وتسقط البعدى ; لأنهن أمهات يرثن ميراثا واحدا , فإذا اجتمعن مع اختلاف الدرجة , فالميراث لأقربهن .
* وترث الجدة أم الأب مع وجود الأب , وترث الجدة أم الجد مع وجود الجد , ولا تسقط بمن أدلت في هذه الحالة ; على خلاف القاعدة : أن من أدلى بواسطة ; حجبته تلك الواسطة ; لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال في الجدة مع ابنها : " إنها أول جدة أطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم سدسا مع ابنها وابنها حي " رواه الترمذي , والعلة في ذلك أنها لا ترث ميراث من أدلت به حتى تسقط به إذا وجد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وقول من قال : من أدلى بشخص ; سقط به : باطل طردا وعكسا , باطل طردا بولد الأم مع الأم , وعكسا بولد الابن مع عمهم وولد الأخ مع عمهم وأمثال ذلك مما فيه سقوط شخص بشخص لم يدل به , وإنما العلة أنها ترث ميراثه , فكل من ورث ميراث شخص ; سقط به إذا كان أقرب منه , والجدات يقمن مقام الأم فيسقطن بها , وإن لم يدلين بها , والله أعلم " .
باب في ميراث البنات
* البنت الواحدة تأخذ النصف بشرطين :
الشرط الأول: انفرادها عمن يشاركها من أخواتها
والشرط الثاني: انفرادها عمن يعصبها من إخوتها.وذلك لقوله تعالى : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فقوله : وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً يؤخذ منه اشتراط انفرادها عمن يشاركها من أخواتها , وقوله تعالى : لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يؤخذ منه اشتراط عدم المعصب
* وبنت الابن تأخذ النصف بثلاثة شروط :
الشرط الأول: عدم المعصب لها , وهو أخوها أو ابن عمها الذي في درجتها .
والشرط الثاني: عدم المشارك لها ; وهو أختها أو بنت عمها التي في درجتها .
والشرط الثالث: عدم الفرع الوارث الذي هو أعلى منها ,
* والبنات اثنتان فأكثر تأخذان الثلثين , وذلك بشرطين :
الشرط الأول: أن يكن اثنتين فأكثر .
والشرط الثاني: عدم المعصب , وهو ابن الميت لصلبه وذلك لقوله تعالى : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ فاستفيد من قوله : لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ اشتراط عدم المعصب في ميراث البنات الثلثين , واستفيد من قوله تعالى : فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ اشتراط كونهن اثنتين فأكثر .
* لكن قد أشكل لفظ : فَوْقَ اثْنَتَيْنِ في الآية الكريمة ; إذ ظاهره أن البنتين لا يأخذن الثلثين , وإنما تأخذه الثلاث فأكثر ; كما هو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما , والجمهور من أهل العلم على خلافه , وأن البنتين تأخذان الثلثين بدليل حديث جابر رضي الله عنه ; قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنتيها من سعد , فقالت : يا رسول الله ! هاتان ابنتا سعد بن الربيع , قتل أبوهما معك في أحد شهيدا , وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا , ولا تنكحان إلا بمال . فقال : يقضي الله في ذلك فنزلت آية الميراث , فأرسل رسول الله إلى عمهما , فقال : أعط ابنتي سعد الثلثين , وأمهما الثمن , وما بقي فهو لك رواه الخمسة إلا النسائي , وحسنه الترمذي , وهو يدل على أن للبنتين الثلثين , وهو نص في محل النزاع , وتفسير من النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وبيان لمعناها , لا سيما وأن سبب نزولها قصة ابنتي سعد بن الربيع , وسؤال أمهما عن شأنهما , وحين نزلت أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمهما . ويجاب عن لفظة " فَوْقَ اثْنَتَيْنِ التي استدل بها من رأى عدم توريث البنتين الثلثين حتى يكن ثلاثا فأكثر بأجوبة :
منها : أن هذا من باب مطابقة الكلام بعضه لبعض ; لأنه سبحانه وتعالى قال : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ فالضمير في ( كن ) مجموع يطابق الأولاد إن كان الأولاد نساء ; فاجتمع في الآية الكريمة ثلاثة أمور :
لفظ ( الأولاد ) وهو جمع , وضمير ( كن ) وهو ضمير جمع , و ( نساء ) وهو اسم جمع ; فناسب التعبير بفرق اثنتين .
ومن الأجوبة عن هذا الإشكال : أن الله تعالى جعل للذكر مثل حظ الأنثيين , فإذا أخذ الذكر الثلثين والأنثى الثلث ; علم قطعا أن حظ الأنثيين الثلثان ; لأنه إذا كان للواحدة مع الذكر الثلث ; فلأن يكون لها مع الأنثى الثلث أولى وأحرى , وهذا من التنبيه بالأدنى على الأعلى , فإذا كان سبحانه قد ذكر ميراث الواحدة نصا وميراث الثنتين تنبيها ; فإن كلمة فَوْقَ اثْنَتَيْنِ تفيد أن الفرض لا يزيد بزيادة العدد , حتى ولو كن فوق اثنتين , والله أعلم .
* وبنتي الابن مثل بنات الصلب في استحقاقهن الثلثين , سواء كانتا أختين أو بنتي عم متحاذيتين ; فتأخذان الثلثين قياسا على بنتي الصلب ; لأن بنت الابن كالبنت , لكن لا بد لهما من توفر ثلاثة شروط :
الشرط الأول: أن يكن اثنتين فأكثر .
والشرط الثاني: عدم المعصب , وهو ابن الابن , سواء كان أخا لهما أو كان ابن عم لهما في درجتهما .
الشرط الثالث : عدم الفرع الوارث الذي هو أعلى منهما من ابن صلب أو ابن ابن أو بنات صلب أو بنات ابن واحدة فأكثر , والله أعلم .
باب في ميراث الأخوات الشقائق
* قد ذكر الله سبحانه وتعالى ميراث الأخوات الشقائق والأخوات لأب مع الأخوة لغير أم واحدتهن وجماعتهن , بقوله في آخر سورة النساء : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وذكر ميراث الأخوات لأم واحدة كانت أو أكثر مع الأخوة لأم بقوله تعالى : وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ في أول السورة .
* فالأخت الشقيقة تأخذ النصف بأربعة شروط
الشرط الأول: عدم المعصب لها , وهو الأخ الشقيق ; لقوله تعالى : وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
الشرط الثاني: عدم المشارك لها , وهو الأخت الشقيقة ; لقوله تعالى : إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ
الشرط الثالث: عدم الأصل من الذكور الوارثين , والمراد به الأب والجد من قبل الأب على الصحيح.
الشرط الرابع: عدم الفرع الوارث , وهو الابن وابن الابن وإن نزل , والبنت وبنت الابن وإن نزل أبوها .
ودليل هذين الشرطين أن الإخوة والأخوات إنما يرثون في مسألة الكلالة , والكلالة هو من لا والد له ولا ولد .
والأخت لأب تأخذ النصف بخمسة شروط وهي الشروط الأربعة السابقة في حق الأخت الشقيقة , والخامس عدم الأخ الشقيق والأخت الشقيقة ; لأن الموجود منهما أقوى منها .
- " والأختان الشقيقتان فأكثر يأخذن الثلثين , لقوله تعالى : فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وإنما يأخذن الثلثين بأربعة شروط :
الشرط الأول : أن يكن اثنتين فأكثر , للآية الكريمة : فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ
الشرط الثاني : عدم المعصب لهما , وهو الأخ الشقيق فأكثر لقوله تعالى : وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
الشرط الثالث : عدم الفرع الوارث , وهم الأولاد وأولاد البنين , لقوله تعالى : إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ الآية .
الشرط الرابع : عدم الأصل من الذكور الوارث , وهو الأب بالإجماع , والجد على الصحيح .
والأخوات لأب ثنتان فأكثر يأخذن الثلثين للإجماع على دخولهن - في عموم آية الكلالة : إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ لكن لا يأخذن الثلثين إلا إذا تحقق خمسة شروط : الشروط الأربعة السابقة في الشقائق , والشرط الخامس : عدم الأشقاء والشقائق , فلو كان هناك من الأشقاء , واحدا كان أو أكثر , ذكرا كان أو أنثى لم ترث الأخوات لأب الثلثين , بل يحجبن بالذكر وبالشقيقتين إلا إذا كان معهن من يعصبهن , وأما إذا كان الوجود شقيقة واحدة , فإن للأخت أو الأخوات لأب السدس تكملة الثلثين .
وإذا وجد بنت واحدة وبنت ابن فأكثر ; فللبنت النصف , ولبنت الابن فأكثر معها السدس ; تكملة الثلثين , لقضاء ابن مسعود رضي الله عنه بذلك , وقوله : " إنه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها , رواه البخاري , ولأنه قد اجتمع من بنات الميت أكثر من واحدة , فكان لهن الثلثان , لقوله تعالى : فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ واختصت بنت الصلب بالنصف لأنها أقرب , فبقي لبنت الابن فأكثر السدس ; تكملة الثلثين , وذلك بعد توفر هذين الشرطين :
الشرط الأول : عدم المعصب لها , وهو ابن الابن المساوي لا في الدرجة , سواء كان أخا لها أو ابن عم .
الشرط الثاني : عدم الفرع الوارث الذي هو أعلى منها سوى صاحبة النصف ; فإنها لا تأخذ السدس إلا معها .
والأخت لأب مع الأخت الشقيقة تأخذ السدس تكملة الثلثين , والدليل على ذلك إجماع العلماء كما حكاه غير واحد , وقياسها على بنت الابن مع بنت الصلب , لكن لا تأخذ الأخت لأب السدس إلا بشرطين :
الشرط الأول : أن تكون مع أخت شقيقة وارثة النصف فرضا , فلو تعددت الشقيقات , أسقطن الأخت لأب ; لاستكمالهن الثلثين .
الشرط الثاني : عدم المعصب لها , وهو أخوها , فإن كان معها أخوها , فالباقي بعد الشقيقة لهما تعصيبا للذكر مثل حظ الأنثيين , والله أعلم .
باب في ميراث الأخوات مع البنات وميراث الأخوة لأم .
إذا وجد بنت فأكثر مع أخت شقيقة أو لأب فأكثر , فإن الموجود من البنات واحدة فأكثر يأخذ نصيبه , ثم إن جمهور العلماء من الصحابة والتابعين يرون أن الأخوات من الأبوين أو من الأب يكن عصبة مع البنات ( وهو ما يسمى لدى الفرضيين بالتعصيب مع الغير ) , فيأخذن ما فضل عن نصيب الموجود من البنات أو بنات الابن , بدليل الحديث الذي رواه البخاري وغيره " أن أبا موسى سئل عن ابنة وبنت ابن وأخت ; فقال : للابنة النصف , وللأخت النصف , وقال للسائل : ائت ابن مسعود . فسئل ابن مسعود , وأخبر بقول أبي موسى , فقال : " لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين , أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم : للبنت النصف , ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين , وما بقي فللأخت " ففي هذا الحديث دلالة ظاهرة على أن الأخت مع البنت عصبة تأخذ الباقي بعد فرضها وفرض ابنة الابن .
ويرث الواحد من الأخوة لأم السدس سواء كان ذكرا أم أنثى , ويرث الاثنتين فأكثر منهم الثلث بينهم بالسوية الذكر والأنثى سواء , لقوله تعالى : وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ
وقد أجمع العلماء على أن المراد بالأخوة في هذه الآية الكريمة الأخوة لأم , وقرأها ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص : ( وله أخ أو أخت من أم ) .
وقد ذكرهم الله تعالى من غير تفضيل , فاقتضى ذلك تسوية الأنثى بالذكر قال الإمام ابن القيم : " وهو القياس الصحيح والميزان الموافق لدلالة القرآن وفهم أكابر الصحاب ".
يشترط لاستحقاق ولد الأم السدس ثلاث شروط
الشرط الأول : عدم الفرع الوارث
الشرط الثاني : عدم الأصل من الذكور الوارثين .
الشرط الثالث : انفراده .
ويشترط لاستحقاق الأخوة لأم الثلث ثلاثة شروط
الشرط الأول : أن يكونوا اثنين فأكثر ; ذكرين كانوا أو أنثيين أو ذكر وأنثى أو أكثر من ذلك .
الشرط الثاني : عدم الفرع الوارث من الأولاد وأولاد البنين وإن نزلوا .
الشرط الثالث : عدم الأصل من الذكور الوارثين وهو الأب والجد من قبله .
ويختص الأخوة لأم بأحكام خمسة
الحكم الأول والثاني : أنه لا يفضل ذكرهم على أنثاهم في الميراث اجتماعا وانفرادا , لقوله تعالى في حالة الانفراد : وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ وقوله تعالى في حالة الاجتماع : فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ
والكلالة في قول الجمهور : من ليس له ولد ولا والد , فشرط في توريثهم عدم الولد والوالد , والولد يشمل الذكر والأنثى , والوالد يشمل الأب والجد , وفي قوله تعالى : فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ دليل على عدم تفضيل ذكرهم على أنثاهم لأن الله سبحانه شرك بينهم في الاستحقاق , والتشريك إذا أطلق اقتضى المساواة ,
والحكمة في ذلك - والله أعلم - أنهم يرثون بالرحم المجردة ; فالقرابة التي يرثون بها قرابة أنثى فقط , وهم فيها سواء ; فلا معنى لتفضيل ذكرهم على أنثاهم ; بخلاف قرابة الأب .
الحكم الثالث : أن ذكرهم يدلي بأنثى ويرث ; بخلاف غيرهم ; في أنه إذا أدلى بأنثى لا يرث ; كابن البنت
الحكم الرابع : أنهم يحجبون من أدلوا به نقصانا ; أي : أن الأم التي أدلوا بها تحجب بهم من الثلث إلى السدس ; بخلاف غيرهم ; فإن المدلى به يحجب المدلي .
الحكم الخامس : أنهم يرثون مع من أدلوا به , فإنهم يرثون مع الأم التي أدلوا بها , وغيرهم لا يرث مع من أدلى به , كابن الابن , فإنه لا يرث مع الابن وهذا تشاركهم فيه الجدة أم الأب وأم الجد ; فإنها تدلي بابنها وترث معه والتحقيق أن الواسطة لا تحجب من أدلى بها , إلا إذا كان يخلفها بأخذ نصيبها , أما إذا كان لا يأخذ نصيبها ; فإنها لا تحجبه ; كما هو الشأن في الأخوة لأم ; فإنهم لا يأخذون نصيب الأم عند عدمها , والجدة أم الأب وأم الجد لا تأخذان نصيبها وإنما يرثان بالأمومة خلفا عن الأم , والله أعلم .
باب في التعصيب
" التعصيب لغة مصدر عصب يعصب تعصيبا فهو معصب , مأخوذ من العصب ; يعني : الشد والإحاطة والتقوية , ومنه العصائب , وهي العمائم .
والعصبة في الفرائض ( جمع عاصب ) لفظ يطلق على الواحد , فيقال : زيد عصبة , ويطلق على الجماعة , وعصبة الرجل قرابته من جهة أبيه , سموا عصبة لأنهم عصبوا به ; أي : أحاطوا به , وكل شيء استدار حول شيء , فقد عصب به ; فالأب طرف , والابن طرف , والأخ جانب , والعم جانب , وقيل : سموا بذلك لتقوي بعضهم ببعض , من العصب , وهو الشد والمنع ; فبعضهم يشد بعضا ويمنع من تطاول الغير عليه .
والعاصب في اصطلاح الفرضيين هو من يرث بلا تقدير , لأنه إذا انفرد ; حاز جميع المال , وإذا كان مع صاحب فرض , أخذ ما بقي بعد الفرض ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ألحقوا الفرائض بأهلها , فما بقي فلأولى رجل ذكر
* وينقسم العصبة إلى ثلاثة أقسام :
عصبة بالنفس , وعصبة بالغير وعصبة مع الغير :
القسم الأول: العصبة بالنفس وهم المجمع على إرثهم من الرجال إلا الزوج والأخ من الأم , وهم أربعة عشر : الابن , وابن الابن وإن نزل , والأب , والجد من قبل الأب وإن علا , والأخ الشقيق , والأخ لأب , وابناهما وإن نزلا , والعم الشقيق والعم لأب وإن علوا , وابناهما وإن نزلا , والمعتق والمعتقة .
القسم الثاني: العصبة بالغير وهم أربعة أصناف :
الأول: البنت فأكثر مع الابن فأكثر .
الثاني: بنت الابن فأكثر مع ابن الابن فأكثر إذا كان في درجتها , سواء كان أخاها أو ابن عمها , أو مع ابن الابن الذي هو أنزل منها إذا احتاجت إليه . ودليل هذين الصنفين من العصبة بالغير قوله تعالى : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فهذه الآية الكريمة تناولت الأولاد وأولاد الابن .
الثالث: الأخت الشقيقة فأكثر مع الأخ الشقيق فأكثر .
الرابع: الأخت لأب فأكثر مع الأخ لأب فأكثر .
ودليل هذين الصنفين قوله تعالى : وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ مثل حظ الأنثيين , فتناولت الآية الكريمة ولد الأبوين وولد الأب فهؤلاء الأربعة من الذكور : الابن , وابن الابن , والأخ الشقيق , والأخ لأب ; ترث معهم أخواتهم عن طريق التعصيب بهم , أما من عداهم من الذكور ; فلا ترث أخواتهم معهم شيئا , وذلك كأبناء الإخوة والأعمام وأبناء الأعمام .
القسم الثالث: العصبة مع الغير وهم صنفان :
الأول : الأخت الشقيقة فأكثر مع البنت فأكثر أو بنت الابن فأكثر .
الثاني : الأخت لأب فأكثر مع البنت فأكثر أو بنت الابن فأكثر , وهذا قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أن الأخوات لأبوين أو لأب عصبة مع البنات أو بنات الابن ,ودليلهم ما رواه الجماعة إلا مسلما والنسائي : أن أبا موسى رضي الله عنه سئل عن بنت وبنت ابن وأخت ; فقال : للبنت النصف , وللأخت النصف . وقال للسائل : ائت ابن مسعود . فلما أتى ابن مسعود , وأخبره بقول أبى موسى ; قال : " قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين , أقضي فيها بما قضى النبي : للبنت النصف , ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين , وما بقي فللأخت "
* هذا , والعصبة بالنفس من انفرد منهم حاز جميع المال لقوله تعالى : وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فورث في هذه الآية الأخ جميع مال أخته , وينفرد العصبة بالنفس بهذا الحكم , ويشاركون بقية العصبة في أنهم إذا كانوا مع أصحاب الفروض يأخذون ما بقي ; لقوله صلى الله عليه وسلم : ألحقوا الفرائض بأهلها ; فما بقي فلأولى رجل ذكر وإن لم يبق شيء بعد الفروض ; سقطوا .
هذا وللعصبة جهات ست هي : جهة البنوة , ثم جهة الأبوة , ثم جهة الأخوة , ثم جهة بني الأخوة , ثم جهة الولاء , والولاء كما سبق هو عصوبة سببها نعمة العتق على رقيقه بالعتق , ودليلها قوله صلى الله عليه وسلم : إنما الولاء لمن أعتق
وإذا اجتمع عاصبان فأكثر , فلهم حالات أربع
الأولى : أن يتحدا في الجهة والدرجة والقوة , وحينئذ يشتركان في الميراث ; كالأبناء والإخوة الأشقاء والأعمام .
الثانية : أن يختلفا في الجهة , فيقدم في الميراث الأقوى جهة ; كالابن والأب , فيقدم الابن في التعصيب على الأب .
الثالثة : أن يتحدا في الجهة ويختلفا في الدرجة , كما لو اجتمع ابن وابن ابن , فيقدم الابن على ابن الابن ; لأنه أقرب درجة .
الرابعة : أن يتحدا في الجهة والدرجة ويختلفا في القوة ; بحيث يكون أحدهما أقوى من الآخر , فيقدم الأقوى ; كما لو اجتمع أخ شقيق وأخ لأب فيقدم الأخ الشقيق ; لأنه أقوى , لإدلائه بأبوين , والأخ لأب يدلي بالأب فقط .
باب الحجب
هذا الباب له أهمية خاصة بين أبواب المواريث ; لأن معرفة تفاصيله يترتب عليها إيصال الحقوق إلى مستحقيها , وعدم المعرفة بأحكام هذا الباب يترتب عليها خطورة عظيمة ; لأنه قد يعطي الميراث لمن لا يستحقه شرعا ويحرم المستحق , ومن هنا قال بعض العلماء : يحرم على من لا يعرف الحجب أن يفتي في الفرائض .
والحجب لغة المنع , يقال : حجبه : إذا منعه من الدخول , والحاجب لغة الصانع , ومنه حاجب السلطان , لأنه يمنع من الدخول عليه .
وأما الحجب في اصطلاح الفرضيين فمعناه : منع من قام به - سبب الإرث من الإرث بالكلية أو من أوفر حظيه .
* وينقسم الحجب في الفرائض إلى قسمين :
القسم الأول: حجب الأوصاف ويكون فيمن اتصف بأحد موانع الإرث الثلاثة , وهي : الرق , أو القتل , أو اختلاف الدين , فمن اتصف بواحد من هذه الأوصاف ; لم يرث , ويكون وجوده كعدمه .
القسم الثاني: حجب الأشخاص : وهو منع شخص معين من الإرث بالكلية , ويسمى حجب الحرمان أو منعه من إرث أكثر إلى إرث أقل , ويسمى حجب النقصان وسبب هذا الحجب بنوعيه وجود شخص أحق منه , ولذلك سمي حجب الأشخاص , وهو سبعة أنواع , أربعة منها تحصل بسبب الازدحام , وثلاثة منها تحصل بسبب الانتقال من فرض إلى فرض , وهذه السبعة هي :
أولا : انتقال من فرض إلى فرض أقل منه ; كانتقال الزوج من النصف إلى الربع مثلا .
ثانيا : انتقال من تعصيب إلى تعصيب أقل منه ; كانتقال الأخت لغير أم من كونها عصبة مع الغير إلى كونها عصبة بالغير
ثالثا : انتقال من فرض إلى تعصيب أقل منه ; كانتقال ذوات النصف منه إلى التعصيب بالغير .
رابعا : انتقال من تعصيب إلى فرض أقل منه ; كانتقال الأب والجد من الإرث بالتعصيب إلى الإرث بالفرض .
خامسا : ازدحام في فرض ; كازدحام الزوجات في الربع والثمن مثلا
سادسا : ازدحام في تعصيب ; كازدحام العصبات في المال أو فيما أبقت الفروض .
سابعا : ازدحام بسبب العول ; كازدحام أصحاب " الفروض في الأصول التي يدخلها العول , فإن كل واحد منهم يأخذ فرضه ناقصا بسبب العول .
وللحجب قواعد يدور عليها :
القاعدة الأولى: أن من أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة وذلك كابن الابن مع الابن , والجدة مع الأم , والجد مع الأب , والأخوة مع الأب .
القاعدة الثانية: أنه إذا اجتمع عاصبان فأكثر ; قدم الأقدم جهة وذلك كالابن مع الأب أو مع الجد ; فالتعصيب يكون للابن ; لأنه أقدم جهة , وإن اتحد الموجودان في الجهة , قدم منهما الأقرب إلى الميت , كما لو اجتمع ابن وابن ابن آخر , أو اجتمع أخ شقيق وابن أخ شقيق آخر . .. وكذا , فإن تساوى الموجودون في الجهة والقرب ; قدم الأقوى منهم , كما لو اجتمع أخ شقيق وأخ لأب ; فإنه يقدم الشقيق لقوته , لكونه يدلي بالأبوين , والأخ يدلى بالأب فقط .
القاعدة الثالثة: وهي في حجب الحرمان : أن الأصول لا يحجبهم إلا أصول ; فالجد لا يحجبه إلا الأب أو الجد الذي هو أقرب منه , والجدة لا يحجبها إلا الأم أو الجدة التي هي أقرب منها , والفروع لا تحجبهم إلا فروع ; فابن الابن لا يحجبه إلا الابن أو ابن الابن الذي و أعلى منه , والحواشي وهم الأخوة وبنوهم والأعمام وبنوهم يحجبهم أصول وفروع وحواش ; فمثلا الأخوة لأب : يسقطون بالابن وابن الابن دان نزل , وبالأب , وبالجد على الصحيح , وبالأخ الشقيق , والأخت الشقيقة إذا كانت عصبة مع الغير , وهكذا نجد أن الأخ لأب حجب بأصول وفروع وحواش .
نعود فنقول : إن باب الحجب باب مهم جدا , فيجب على من يفتي في الفرائض أن يتقن قواعده ويتأمل في دقائقه ويطبقها على وقائع الأحوال ; لئلا يخطئ في فتواه , فيغير المواريث عن مجراها الشرعي , ويحرم من يستحق , وبعطي من لا يستحق , والله ولي التوفيق .
باب توريث الإخوة مع الجد
قد أخذ أحمد والشافعي ومالك في هذه المسألة بمذهب زيد بن ثابت رضي الله عنه كما أخذ به أبو يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية وجمع من أهل العلم .
وحاصله أن الأخوة إذا اجتمعوا مع الجد : فإما أن يكونوا من الأبوين فقط , أو من الأب فقط , أو من مجموع الصنفين .
فإذا كان معه أحد الصنفين فقط , فله معهم حالتان :
الحالة الأولى : أن لا يكون معهم صاحب فرض : فله حينئذ معهم ثلاث حالات :
الحالة الأولى: أن تكون المقاسمة أحظ له من ثلث المال , وضابطها أن يكون الأخوة أقل من مثليه ; بأن يكونوا مثلا ونصفا فما دون ذلك , وذلك منحصر في خمس صور : الأولى : جد وأخت ; فله في هذه الصورة الثلثان الثانية : جد وأخ ; فله في هذه الصورة نصف المال.
الثالثة : جد وأختان , فله في هذه الصورة النصف كالتي قبلها , وهو أكثر من الثلث .
الرابعة : جد وثلاث أخوات ; فله في هذه الصورة الخمسان , و ما أكثرهن الثلث , لأن العدد في الجامع للكسرين خمسة عشر ; فثلثه خمسة وخمساه ستة , وهي أكثر من الخمسة بواحد . الخامسة : جد وأخ وأخت ; فله في هذه الصورة مثل ما له في التي قبلها .
الحالة الثانية: أن تستوي له المقاسمة وثلث المال , وضابطها أن يكون الإخوة مثليه , وينحصر ذلك في ثلاث صور : الأولى : جد وأخوان الثانية : جد وأخ وأختان . الثالثة : جد وأربع أخوات . فيستوي له المقاسمة والثلث في تلك الصور , فإن قاسم ; أخذ ثلثا , وإن لم يقاسم ; فكذلك .
واختلف : هل يعبر حينئذ بالمقاسمة فيكون إرثه بالتعصيب , أو يعبر بالثلث فيكون إرثه بالفرض , أو يخير بين أن يعبر بالمقاسمة أو بالثلث ; ورجح بعضهم التعبير بالثلث دون المقاسمة , لأن الأخذ بالفرض إن أمكن أولى , لقوة الفرض وتقديم ذوي الفروض على العصبة , والله أعلم .
الحالة الثالثة: أن يكون ثلث المال أحظ من المقاسمة , فيأخذه فرضا , وضابطها أن يكونوا أكثر من مثليه , ولا تنحصر صور هذه الحالة كما انحصرت صور الحالتين اللتين قبلا ; فأقلا جد وأخوان وأخت , أو جد وخمس أخوات . أو جد وأخ وثلاث أخوات... إلى ما فوق .
الحالة الثانية : أن يكون مع الجد والإخوة صاحب فرض : وله معهم حينئذ سبع حالات , وهي إجمالا : تعين المقاسمة , تعين ثلث الباقي , تعين سدس جميع المال , استواء المقاسمة وثلث الباقي , استواء المقاسمة وسدس جميع المال , استواء ثلث الباقي وسدس جميع المال , استواء المقاسمة وسدس جميع المال وثلث الباقي , وتفصيلها كالآتي :
فالحالة الأولى: أن تكون المقاسمة أحظ له من ثلث الباقي ومن سدس المال , ومثال ذلك : زوج وجد وأخ , مما كان فيه الفرض قدر النصف , وكانت الإخوة أقل من مثليه .
ووجه تعين المقاسمة في ذلك أن الباقي بعد نصف الزوج النصف الآخر على الجد والأخ , ولا شك أن نصفه - وهو الربع - أكثر حن ثلث الباقي ومن السدس , لكن الباقي لا ينقسم على الجد والأخ , فيضرب اثنان في أصل المسألة اثنين تبلغ أربعة , للزوج واحد في اثنين باثنين , وللجد والأخ واحد في اثنين باثنين , لكل واحد واحد .
وهذه صورتها : ز وج جد أخ
الحالة الثانية : أن يكون ثلث الباقي أحظ من المقاسمة ومن السدس ومثال ذلك : أم وجد وخمسة أخوة , مما كان فيه الفرض دون النصف , وكانت الإخوة أكثر من مثليه .ووجه تعين ثلث الباقي في ذلك أن الباقي بعد سدس الأم خمسة على الجد وخمسة الأخوة , وثلثها واحد وثلثان , ولا شك أن ذلك أكثر من المقاسمة والسدس , لكن الباقي ليس له ثلث صحيح , فتضرب الثلاثة مخرج الثلث في أصل المسألة ستة تبلغ ثمانية عشر , فللأم من أصلها واحد في ثلاثة بثلاثة وللجد ثلث الباقي خمسة , يبقى عشرة على خمسة أخوة , لكل واحد اثنان .
وهذه صورتها :
6 \ 3 18
أم 1 3
جد 2 \ 3 - 1 5
5 إخوة 1 \ 3 - 3 10 \ 2
الحالة الثالثة : أن يكون سدس المال أحظ له من المقاسمة ومن ثلث الباقي , ومثال ذلك : زوج وأم وجد وأخوان , مما كان فيه الفرض قدر الثلثين , وكان الإخوة أكثر من مثله بواحد , ولو أنثى .
ووجه تعين السدس في ذلك أن الباقي بعد نصف الزوج وسدس الأم اثنان على الجد والأخوين , ولا شك أن السدس أكثر من ثلث الباقي ومن المقاسمة , لكن يبقى واحد لا ينقسم على الأخوين , فيضرب اثنان عدد رءوسها في أصل المسألة ستة ; تبلغ اثني عشر , للزوج من أصلها ثلاثة في اثنين بستة , وللأم من أصلها واحد في اثنين باثنين , وللجد من أصلها واحد في اثنين باثنين , وللإخوة من أصلها واحد في اثنين باثنين , لكل واحد واحد .
وهذه صورتها :
6 \ 2 12
زوج 3 6
أم 1 2
جد 1 2
2 أخوان 1 2 \ 1
الحالة الرابعة : أن تستوي له المقاسمة وثلث الباقي , ويكونان أحظ هن سدس المال , ومثال ذلك : أم وجد وأخوان , مما كان فيه الفرض دون النصف , وكان الأخوة مثليه .
ووجه استواء المقاسمة وثلث الباقي : أن الباقي بعد سدس الأم خمسة على الجد والأخوين ; فثلث الباقي واحد وثلثان , وهو مساو للمقاسمة , لكن لا ثلث للباقي صحيح , فتضرب ثلاثة - وهي مخرج الثلث - في أصل المسألة ستة , تبلغ ثمانية عشر , للأم من أصلها واحد في ثلاثة بثلاثة , يبقى خمسة عشر , للجد خمسة بالمقاسمة , أو لكونها ثلث الباقي , وللأخوة عشرة , لكل واحد خمسة .
وهذه صورتها :
3 \ 6 18
أم 1 3
3 جد 2 \ 3 1 5
أخوان 1 \ 3 3 10 \ 5
الحالة الخامسة: أن تستوي له المقاسمة وسدس المال , ويكونان أحظ له من ثلث الباقي , ومثال ذلك زوج وجدة وجد وأخ , مما كان فيه الفرض قدر الثلثين , وكان الموجود من الإخوة مثله .
ووجه استواء المقاسمة والسدس : أن الباقي بعد نصف الزوج وسدس الجدة اثنان على الجد والأخ , فللجد واحد بالمقاسمة أو لكونه السدس , وللأخ واحد .
وهذه صورتها : زوج جدة جد أخ
الحالة السادسة: أن يستوي له سدس المال وثلث الباقي , ومثاله زوج وجد وثلاثة إخوة , مما كان فيه الفرض قدر النصف , وكانت الإخوة أكثر من مثليه .
ووجه استواء السدس وثلث الباقي أن الباقي بعد نصف الزوج النصف الآخر على الجد والإخوة الثلاثة ; فالسدس قدر ثلث الباقي , لكن ليس للباقي ثلث صحيح , فتضرب مخرج الثلث ثلاثة في أصل المسألة - وهو اثنان - تبلغ ستة , للزوج من أصلها واحد في ثلاثة بثلاثة , يبقى ثلاثة , للجد منها واحد , وهو ثلث الباقي , ويساوي سدس الكل , وللإخوة اثنان ورءوسهم ثلاثة لا تنقسم وتباين , فنضرب مصح المسألة ستة في رءوس الأخوة ثلاثة , فتبلغ ثمانية عشر , للزوج منها ثلاثة في ثلاثة بتسعة وللجد واحد في ثلاثة بثلاثة , وللإخوة اثنان في ثلاثة بستة , لكل واحد اثنان .
وهذه صورتها : زوج جد ثلاثة إخوة
الحالة السابعة: أن تستوي له ثلاثة الأمور المقاسمة وثلث الباقي وسدس المال , مثال ذلك : زوج وجد وأخوان , مما كان الفرض فيه قدر النصف , وكان الإخوة مثليه .
ووجه استواء الأمور الثلاثة : أن الباقي بعد نصف الزوج هو النصف الآخر على الجد والأخوين ; فثلث الباقي والمقاسمة والسدس متساوية , لكن لا ثلث للباقي صحيح , فتضرب مخرج الثلث ثلاثة في أصل المسألة اثنين , تبلغ ستة , للزوج من أصلها واحد في ثلاثة بثلاثة , يبقى ثلاثة , للجد منها واحد بكل حال , ويبقى اثنان للأخوين , لكل واحد واحد وهذه صورتها : زوج جد أخوان
فائدة :
للجد باعتبار ما يفضل عن الفرض وجودا وعدما أربعة أحوال
الحال الأول : أن يفضل عن الفرض أكثر من السدس , فللجد خير الأمور الثلاثة من المقاسمة وثلث الباقي وسدس المال .
الحال الثاني : أن يبقى قدر السدس , فهو للجد فرضا .
الحال الثالث : أن يبقى دون السدس ; فيعال للجد بتمام السدس .
الحال الرابع : أن لا يبقى شيء لاستغراق الفروض جميع المال ; فيعال بالسدس للجد
وفي هذه الثلاثة الأحوال تسقط الأخوة ; إلا الأخت في الأكدرية ; كما يأتي .
فائدة :
يعطى الجد ثلث الباقي في بعض الأحوال قياسا على الأم في العمريتين لأن كلا منهما له ولادة , ولأنه لو لم يكن ثم ذو فرض ; أخذ ثلث المال , فإذا أخذ صاحب الفرض فرضه ; أخذ الجد ثلث الباقي , والباقي للإخوة , ولم يعط الجد الثلث كاملا لإضراره بالإخوة , ووجه إعطائه السدس أنه لا ينقص عنه مع الولد الذي هو أقوى ; فمع غيره أولى .
باب في المعادة
* ما تقدم من بحث الجد والأخوة وما إذا كان معه أحد الصنفين فقط . الإخوة الأشقاء , أو الإخوة لأب , أما إذا كان معه مجموع الصنفين - أي " : إخوة أشقاء وإخوة لأب ; فإن الإخوة الأشقاء يعادون الجد بهم إذا احتاجوا إليهم ; فإذا أخذ الجد نصيبه ; رجع الأشقاء على أولاد الأب , فأخذوا ما بأيديهم , وإن كان الموجود شقيقة واحدة , أخذت كمال فرضها , وما بقي ; فلولد الأب .
* فالشقيق يعد ولد الأب على الجد لاتحادهم في الأخوة من الأب ولأن جهة الأم في الشقيق محجوبة بالجد , فيدخل ولد الأب معه في حساب القسمة على الجد , لينقص بسببه عن المقاسمة إلى الثلث أو إلى ثلث الباقي أو إلى سدس المال .
* وأيضا إنما عد أولاد الأبوين أولاد الأب على الجد ; لأنهم يقولون للجد : منزلتنا ومنزلتهم معك واحدة , فيدخلون معنا في القسمة , ونزاحمك بهم . ثم يقولون لأولاد الأب : أنتم لا ترثون معنا , وإنما أدخلناكم معنا في المقاسمة ; لحجب الجد , فنأخذ ما يخصكم , كأن لم يكن معنا جد .
متى تكون المعادة ؟ إنما تكون المعادة إذا كان ولد الأبوين أقل من مثلي الجد , وبقي بعد الفرض أكثر من الربع , فإن كانوا مثليه فأكثر ; فلا داعي للمعادة .
صور المعادة :
صور المعادة ثمان وستون صورة , ووجه حصرها في هذا العدد أن مسائل المعادة لا بد فيها أن يكون الأشقاء دون المثلين , وينحصر ما دون المثلين في خمس صور , وهي: جد وشقيقة , جد وشقيقتان , جد وثلاث شقائق , جد وشقيق , جد وشقيق وشقيقة. ويكون مع من ذكر في هذه الصور الخمس من الأب من يكمل المثلين أو دونهما
فيتصور مع الشقيقة خمس صور , وهي : شقيقة وأخت لأب , شقيقة وأختان لأب , شقيقة وثلاث أخوات لأب , شقيقة وأخ لأب , شقيقة وأخ وأخت لأب .
ويتصور مع الشقيقتين ثلاث صور , وهي : شقيقتان وأخت لأب شقيقتان وأختان لأب , شقيقتان وأخ لأب .
ويتصور مع الشقيق ثلاث صور , وهي : شقيق وأخت لأب , شقيق وأختان لأب , شقيق وأخ لأب .
ويتصور مع ثلاث الشقائق صورة واحدة , وهي : ثلاث شقائق وأخت ويتصور مع الأخ الشقيق والأخت الشقيقة صورة واحدة , وهي : شقيق وشقيقة وأخت لأب .
ومجموع هذه الصورة ثلاث عشرة صورة . ثم لا يخلو : إما إن لا يكون معهم صاحب فرض , أو يكون .
وعلى الثاني ; فالفرض إما ربع , أو سدس , أو ربع وسدس , أو نصف ; فهذه خمس حالات , تضرب في الثلاث عشرة صورة , يحصل خمس وستون .
والصورة السادسة والستون: أن يكون مع الجد والإخوة صاحبا نصف وسدس كبنت وبنت ابن وجد وأخت لأب والسابعة والستون أن يكون معهم أصحاب ثلثين كبنتين وجد وشقيقة وأخت لأب .
والثامنة والستون أن يكون معهم صاحبا نصف وثمن ; كبنت وزوجة وجد .
هل يتصور أن يأخذ الإخوة لأب شيئا مع الأشقاء في صورة المعادة ؟
أما إذا كان في الأشقاء ذكر أو كانتا شقيقين فأكثر ; فلا يتصور أن يبقى لهم شيء وإن كانت شقيقة واحدة فلها إلى تمام النصف , فإن بقي شيء فهو لولد الأب .
فمن الصورة التي يبقى فيها لولد الأب شيء الزيديات الأربع , نسبة لزيد ; لأنه الذي حكم فيها بذلك , وهي :
1- العشرية وهي جد وشقيقة وأخ لأب , فأصلها من خمسة عدد الرءوس , وإنما نسبت إلى العشرة لصحتها منها , ووجه صحتها من عشرة أن للشقيقة النصف ولا نصف للخمسة صحيح , فيضرب مخرج النصف اثنان في أصل المسألة خمسة تبلغ عشرة : للجد خمساها أربعة , وللأخت نصفها وهذه صورتها : جد شقيقة أخ لأب
2- العشرينية نسبة إلى العشرين ; لصحتها منها , وهي جد وشقيقة وأختان لأب ; فأصلها من خمسة عدد الرءوس ; كالتي قبلها , للجد منها سهمان بالمقاسمة , وللشقيقة نصف المال , ولا نصف صحيح للخمسة , فيضرب مخرج النصف اثنان في أصل المسألة خمسة ; يحصل عشرة , للجد من أصلها اثنان في اثنين بأربعة , وللأخت النصف خمسة , يبقى واحد للأختين لأب بينهما مناصفة , ولا ينقسم عليهن , فتضرب عدد رءوسهما اثنين في مصح المسألة عشرة , يحصل عشرون : للجد أربعة في اثنين بثمانية , وللشقيقة خمسة في اثنين بعشرة , وللأختين لأب واحد في اثنين باثنين , لكل واحدة واحد .
وهذه صورتها : جد شقيقة أختان لأب ولك أن تقول في هذه : أصلها من خمسة , للجد منها اثنان بالمقاسمة , وللشقيقة النصف اثنان ونصف , يبقى نصف للأختين لأب , لكل واحدة ربع , ومخرج الربع من أربعة , تضربه في أصل المسألة خمسة , بعشرين : للجد من أصلها اثنان في أربعة بثمانية , وللشقيقة النصف عشرة , وللأختين لأب اثنان لكل واحدة واحد .
3- مختصرة زيد وهي أم وجد وشقيقة وأخ وأخت لأب , سميت بذلك لأن تصحيحها من مائة وثمانية باعتبار المقاسمة , وتصح بالاختصار من أربعة وخمسين , كان أصلها من ستة . للأم سدس واحد , يبقى خمسة على الجد والإخوة مقاسمة , ورؤوسهم ستة لا تنقسم , فتضرب عدد الرءوس ستة في أصل المسألة ستة ; تبلغ ستة وثلاثين : للأم من أصلها واحد في ستة بستة , والباقي خمسة في ستة بثلاثين , للجد منها بالمقاسمة عشرة , يبقى عشرون للشقيقة نصف المال ثمانية عشر , يبقى اثنان على الأخ والأخت لأب , ورؤوسهم ثلاثة لا تنقسم وتباين , فنضرب ثلاثة في ستة وثلاثين ; تبلغ مائة وثمانية : للأم ستة في ثلاثة بثمانية عشر , وللجد عشرة في ثلاثة بثلاثين , وللشقيقة ثمانية عشر في ثلاثة بأربعة وخمسين , وللأخ والأخت لأب اثنان في ثلاثة بستة , للأخ أربعة وللأخت اثنان . ثم ننظر فنجد بين الأنصباء ومصح المسألة توافقا بالنصف , فترجع المسألة إلى نصفها أربعة وخمسين , ويرجع نصيب الشقيقة إلى نصفه سبعة وعشرين , ويرجع نصيب الجد إلى نصفه خمسة عشر , ونصيب الأخ لأب إلى نصفه اثنين , ونصيب الأخت لأب إلى نصفه واحد .
وهذه صورتها : أم جد أخت شقيقة أخ الأب أخت الأب
4- تسعينية زيد وهي أم وجد وشقيقة وأخوان وأخت لأب , سميت بذلك نسبة إلى التسعين , لصحتها منها , ووجه صحتها من تسعين أن الأحظ للجد هنا ثلث الباقي بعد سدس الأم , فيكون أصلها من ثمانية عشر إن اعتبر ثلث الباقي مع السدس , ويصح أن يجعل أصلها من ستة مخرج السدس : للأم واحد , يبقى خمسة لا ثلث لها صحيح , فيضرب مخرج الثلث ثلاثة في ستة بثمانية عشر : للأم أصلها السدس , واحد في ثلاثة بثلاثة , يبقى خمسة عشر , للجد منها خمسة , ثلث الباقي , وللأخت الشقيقة نصف المال تسعة , يبقى واحد للإخوة للأب , غير منقسم , فتضرب عدد رءوسهم خمسة في أصل المسألة أو مصحها ثمانية عشر بتسعين , ومنها تصح للأم ثلاثة في خمسة بخمسة عشر , وللجد خمسة في خمسة بخمسة وعشرين , وللأخت الشقيقة تسعة في خمسة بخمسة وأربعين , وللإخوة لأب واحد في خمسة بخمسة , لكل من الأخوين اثنان , وللأنثى واحد .
وهذه صورتها على الطريقتين : أم جد شقيقة أخوان أخت لأب أم جد شقيقة أخوان لأب أخت لأب هذا ; وبقي ما يسمى بحساب المواريث , وبتكون من باب الحساب وباب المناسخات وباب قسمة التركات , وهذا محله كتب الفرائض .
باب في التوريث بالتقدير والاحتياط
ما سبق كله هو حديث عما إذا تحقق موت المورث وتحقق كذلك وجود الوارث عند موت المورث , وهذا واضح لا إشكال فيه .
لكن هنا حالات يلتبس فيها الأمر ; فلا تعرف حال المورث والوارث ; فقد يكون لبعض الورثة أحوال تتردد بين الوجود والعدم , وذلك كالحمل في البطن والغرقى والهدمى ونحوهم والمفقود , وتردد بين كون الوارث ذكرا أو كونه أنثى , وذلك كالخنثى المشكل والحمل في البطن .
وبناء على هذا التردد في تلك الأحوال والأصناف من الورثة والمورثين , أفردت بأبواب خاصة تسمى أبواب التوريث بالتقدير والاحتياط , وهي :
1- باب الخنثى المشكل .
2- وباب الحمل .
3- وباب المفقود .
4- وباب الغرقى والهدمى .
باب في ميراث الخنثى
فالخنثى مأخوذ من الانخناث , وهو اللين والتكسر والتثني , يقال : خنث فم السقاء : إذا كسره إلى خارج وشرب منه . وهو في اصطلاح الفرضيين شخص له آلة رجل وآلة أنثى , أو ليس له آلة أصلا .
والجهات التي يمكن وجوده فيها : البنوة , والأخوة , والعمومة , والولاء , إذ كل واحد من المذكورين يمكن كونه ذكرا أو كونه أنثى . ولا يمكن أن يكون الخنثى المشكل أبا ولا أما ولا جدا ولا جدة ; إذ لو كان كذلك , لاتضح أمره فلم يبق مشكلا , ولا يمكن كذلك أن يكون الخنثى المشكل زوجا ولا زوجة ; لأنه لا يصح تزويجه ما دام مشكلا .
وقد خلق الله بني آدم ذكرا وإناثا ; كما قال تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وقال تعالى : لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ وقد بين سبحانه حكم كل واحد منهما , ولم يبين حكم من هو ذكر وأنثى , فدل على أنه لا يجتمع الوصفان في شخص واحد , وكيف يتأتى ذلك وبينهما مضادة ؟ ! وقد جعل سبحانه وتعالى للتمييز بينهما علامات مميزة , ومع ذلك قد يقع الاشتباه ; بأن يوجد للشخص آلة ذكر وآلة أنثى .
* وقد أجمع العلماء على أن الخنثى يورث بحسب ما يظهر فيه من علامات مميزة : فمثلا : إن بال من حيث يبول الرجل , ورث ميراث رجل , وإن بال من حيث تبول الأنثى ; ورث ميراث أنثى ; لأن دلالة البول على الذكورة أو الأنوثة من أوضح الدلالات وأعمها ; لوجودها من الصغير والكبير ; فبوله من إحدى الآلتين وحدا يدل على أنه من أهلها , وتكون الآلة التي لا يبول منها بمنزلة العضو الزائد والعيب في الخلقة , فإن بال من الآلتين معا , اعتبر الأكثر منهما , وإن كان في ابتداء الأمر يبول من آلة واحدة , ثم صار يبول من " الآلتين اعتبرنا الآلة التي أبتدأ البول منها , فإن استوت الآلتان في خروج البول منهما وقتا وكمية ; فإنه ينتظر به إلى ظهور علامة أخرى من العلامات التي تظهر عند البلوغ , ويبقى مشكلا إلى آنذاك , لكنه يرجى اتضاح حاله عند البلوغ .
والعلامات التي توجد عند البلوغ منها ما هو خاص بالرجال كنبات الشارب ونبات اللحية وخروج المني من ذكره , فإذا تبين فيه واحدة من هذه العلامات , فهو رجل , ومنها علامات تختص بالنساء , وهي الحيض والحبل وتفلك الثديين , فإذا تبين فيه علامة من هذه العلامات ; فهو أنثى .
* فإن لم يظهر فيه شيء من علامات الرجال ولا علامات الإناث عند البلوغ ; بقي مشكلا لا يرجى اتضاح حاله , وللعلماء في كيفية توريثه وتوريث من معه في الحالتين مذاهب : - فمنهم من يرى أن الخنثى المشكل يعامل بالأضر دون من معه , فيعطى الأقل من نصيبه إذا قدر ذكرا أو نصيبه إذا قدر أنثى , وإن كان لا يرث في أحد التقديرين , لم يعط شيئا .
- ومن العلماء من يرى أنه يعامل الخنثى ومن معه في الحالتين بالأضر , ويوقف الباقي إلى اتضاح حال الخنثى أو اصطلاح الورثة على اقتسامه .
- ومن العلماء من يرى أن الخنثى المشكل يعطى نصف نصيب ذكر وأنثى إن ورث بهما متفاضلا , وإن ورث بأحد التقديرين دون الآخر ; فله نصف التقدير الذي يرث به , وهذا الحكم يعمل به سواء كان يرجى اتضاح حال الخنثى أو لا يرجى .
- ومن العلماء من يرى التفصيل , فإن كان يرجى اتضاح حال الخنثى ; عومل هو ومن معه بالأضر , فيعطى هو ومن معه المتيقن من ميراثه , ويوقف الباقي إلى اتضاح حاله , وإن كان لا يرجى اتضاح حاله ; فإن الخنثى يعطى نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى إن ورث بالتقديرين , وإن ورث بأحد التقديرين ; أعطي نصف ما يستحقه به . والله تعالى أعلم .
باب ميراث الحمل
قد يكون من جملة الورثة حمل , ومعلوم حينئذ ما يحصل من الإشكال الناشئ عن جهالة الحالة التي يكون عليها من حياة أو موت وتعدد وانفراد وأنوثة وذكورة , والحكم يختلف غالبا باختلاف تلك الاحتمالات , من هنا اهتم العلماء رحمهم الله بشأنه , فعقدوا له بابا خاصا في كتب المواريث .
والحمل ما يحمل في البطن من الولد , والمراد به هنا ما في بطن الآدمية إذا توفي المورث وهي حامل به , وكان يرث أو يحجب بكل تقدير , أو يرث أو يحجب في بعض التقادير , إذا انفصل حيا.
* والحمل الذي يرث بالإجماع هو الذي يتحقق فيه شرطان :
الشرط الأول : وجوده في الرحم حين موت المورث , ولو نطفة .
الشرط الثاني : انفصاله حيا حياة مستقرة ; لقوله صلى الله عليه وسلم : إذا استهل المولود ورث رواه أبو داود , ونقل عن ابن حبان تصحيحه , ومعنى استهلال المولود بكاؤه عند ولادته برفع صوته , وقيل : معنى الاستهلال أن يوجد منه دليل الحياة من بكاء أو عطاس أو حركة , ولا يختص ذلك بالبكاء ; فالاستهلال بعد الولادة دليل على انفصاله حيا حياة مستقرة , وبه يتحقق الشرط الثاني .
أما الشرط الأول - وهو وجوده في الرحم حين موت المورث - , فيستدل على تحققه بأن تلده في المدة المحددة للحمل , ولها أقل ولها أكثر بحسب الأحوال , وذلك أن للحمل المولود بعد وفاة المورث ثلاث حالات :
الحالة الأولى: أن تلده حيا قبل مضي زمن أقل مدة الحمل من موت المورث ; ففي هذه الحالة يرث مطلقا ; لأن حياته بعد الولادة في هذه المدة دليل على أنه كان موجدا قبل موت المورث , وأقل مدة الحمل ستة أشهر بإجماع العلماء ; لقوله تعالى : وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا مع قوله تعالى : وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ فإذا طرح الحولان وهما أربعة وعشرون شهرا من ثلاثين شهرا ; بقي ستة أشهر , وهي أقل مدة الحمل –
الحالة الثانية: أن تلده بعد مضي زمن أكثر مدة الحمل من موت المورث ; ففي هذه الحالة لا يرث , لأن ولادته بعد هذه المدة تدل على حدوثه بعد موت المورث .
* وقد اختلف العلماء في تحديد أكثر مدة الحمل على ثلاثة أقوال :
الأول : أن أكثر مدة الحمل سنتان ; لقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : لا يبقى الولد في بطن أهه أكثرهن سنتين ومثل هذا لا مجال للاجتهاد فيه ; فله حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم
الثاني : أن أكثر مدة الحمل أربع سنين ; لأن ما لا نص فيه يرجع فيه إلى الوجود , وقد وجد بقاء الحمل في بطن أمه إلى أربع سنين .
الثالث : أن أكثر مدة الحمل خمس سنين .
وأرجح الأقوال - والله أعلم - أن أكثر مدة الحمل أربع سنين ; لأنه لم يثب بالتحديد دليل , فيرجع فيه إلى الوجود , وقد وجد أربع سنين , والله أعلم .
الحالة الثالثة : أن تلده فيما فوق , الحد الأدنى لمدة الحمل ودون الحد الأعلى لها ; ففي هذه الحالة : إن كانت تحت زوج أو سيد يطؤها في هذه المدة ; فإن الحمل لا يرث من الميت , لأنه غير متحقق الوجود حين موت المورث , لاحتمال أن يكون من وطء حادث بعد موت المورث , وإن كانت لا توطأ في هذه المدة لعدم الزوج أو السيد أو غيبتهما أو تركهما الوطء عجزا أو امتناعا ; فإن الحمل يرث ; لأنه متحقق الوجود .
* هذا وقد اتفق العلماء على أن المولود إذا استهل بعد ولادته , فقد تحققت ولادته حيا حياة مستقرة , واختلفوا فيما سوى الاستهلال ; كالحركة والرضاع أو التنفس , فمن العلماء من يقتصر على الاستهلال ولا يلحق به غيره من هذه الأمور , ومنهم من يعمم فيلحق بالاستهلال كل ما دل على حياة المولود , وهذا هو الراجح ; لأن الاستهلال لا يقتصر تفسيره على الصراخ فقط , بل يشمل الحركة ونحوا عند بعض العلماء , وحتى لو اقتصر تفسير الاستهلال على الصوت والصراخ ; فإن ذلك لا يمنع الاستدلال بالعلامات الأخرى والله أعلم .
كيفية توريث الحمل إذا كان في الورثة حمل , وطلبوا القسمة قبل وضعه ومعرفة حالته من حيث الإرث وعدمه ; فالذي ينبغي في هذه الحالة الانتظار حتى يعرف مصير الحمل , خروجا من الخلاف , ولتكون القسمة مرة واحدة .
* فإن لم يرض الورثة بالتأخير والانتظار إلى وضع الحمل ; فهل يمكنون من القسمة ; اختلف العلماء رحمهم الله في ذلك على قولين :
القول الأول: أنهم لا يمكنون وذلك ; للشك في شأن الحمل , وجهالة حالته , وتعدد الاحتمالات في شأنه تعددا يترتب عليه اختلاف كبير في مقدار إرثه لإرث من معه .
القول الثاني: أن الورثة يمكنون من طلبهم , ولا يجبرون على الانتظار , لأن فيه إضرارا بهم ; إذ ربما يكونون أو يكون بعضم فقراء , ومدة الحمل قد تطول , والحمل يحتاط له , فيوقف له ما يضمن سلامة نصيبه ; فلا داعي للتأخير .
وهذا والقول الراجح فيما يظهر , لكن اختلف أصحاب هذا القول في المقدار الذي يوقف له , لأن الحمل في البطن لا يعلم حقيقته إلا الله , تتجاذبه احتمالات كثيرة , من حياته وموته , وتعدده وانفراده , وذكوريته وأنوثيته , ولا شك أن هذه الاحتمالات المتعددة تؤثر على مقدار إرثه وإرث من معه ; لذلك اختلفوا في المقدار الذي يوقف للحمل على أقوال :
القول الأول: أنه لا ضبط لعدد الحمل ; لأنه لا يعلم أكثر عدد ما تحمل به المرأة من الأجنة , لكن ينظر في حالة الورثة الذين يرثون مع الحمل , فمن يرث في بعض التقادير دون بعض , أو كان نصيبه غير مقدر ; كالعاصب ; فهذا لا يعطى شيئا , ومن يرث في جميع التقادير متفاضلا ; فإنه يعطى الأنقص , ومن لا يختلف نصيبه في جميع التقادير ; فإنه يعطى نصيبه كاهلا , ثم يوقف الباقي بعد هذه الاعتبارات ; إلا أن ينكشف أمر الحمل
القول الثاني: أنه يعامل الحمل بالأحظ , ويعامل الورثة معه بالأضر , فيوقف للحمل الأكثر من ميراث ذكرين أو أنثيين , ويعطى الوارث معه اليقين من نصيبه , فإذا ولد الحمل , وتبين أمره ; أخذ من الموقوف ما يستحقه ورد الباقي إن كان أكثر من نصيبه أو أخذه كاملا إن كان قدر نصيبه , وإن كان أنقص من نصيبه ; رجع على الورثة بما نقص
القول الثالث: أنه يوقف للحمل حظ ابن واحد أو بنت واحدة أيهما أكثر , لأن الغالب المعتاد أن لا تلد الأنثى أكثر من واحد في بطن واحد , فينبني الحكم على الغالب , ويأخذ القاضي من الورثة كفيلا بالزيادة على نصيب الواحد , لأن الحمل عاجز عن النظر لنفسه , فينظر له القاضي احتياطا .
والراجح من هذه الأقوال ما كان فيه الاحتياط أكثر , وهو القول الثاني ; لأن ولادة الاثنين في بطن واحد كثيرة الوقوع , وما زاد على الاثنين نادر , وأخذ الكفيل كما في القول الثالث قد يتعذر , وحتى لو وجد الكفيل ; فقد يعتريه ما يعتريه , فيعجز عن التحمل , فيضيع حق الحمل إذا تبين أكثر من واحد .
فعلى القول المرجح يجعل للحمل ستة مقادير , لأنه إما أن ينفصل حيا حياة مستقرة , وإما أن ينفصل ميتا , وإذا انفصل حيا حياة مستقرة , فإما أن يكون ذكرا فقط , أو أنثى فقط , أو ذكرا وأنثى , أو ذكرين , أو أنثيين , فهذه ستة مقادير , يجعل لكل تقدير مسألة , وتجرى عليها العملية الحسابية , وينظر في أحوال الورثة : فمن كان يرث في جميع المسائل متساويا , أعطيته نصيبه كاملا , ومن كان يرث فيها متفاضلا ; أعطيته الأنقص , ومن كان يرث في بعضها دون بعض ; لم تعطه شيئا , ويوقف الباقي إلى أن يتضح حال الحمل كما سبق , والله أعلم .
باب في ميراث المفقود
المفقود لغة اسم مفعول من فقد الشيء : إذا عدمه , والفقد أن تطلب الشيء فلا تجده , والمراد بالمفقود هنا من انقطع خبره وجهل حاله , فلا يدرى أحي و أم ميت , سواء كان سبب ذلك سفره أو حضوره قتالا أو انكسار سفينة أو أسره في أيدي أهل الحرب أو غير ذلك .
ولما كان حال المفقود وقت فقده محتملا مترددا بين كونه موجودا أو معدوما , ولكل حالة من الحالتين أحكام تخصها : أحكام بالنسبة لزوجته , وأحكام بالنسبة لإرثه من غيره وإرث غيره منه وإرث غيره معه , ولم يترجح أحد الاحتمالين على الآخر , كان لا بد من ضرب مدة يتأكد فيها من واقعه , تكون فرصة للبحث عنه , ويكون مضيها بدون معرفة شيء عنه دليلا على عدم وجوده .
* وبناء على ذلك ; اتفق العلماء على ضرب تلك المدة , لكن اختلفوا في مقدارها على قولين :
القول الأول: أنه يرجع في تقدير المدة إلى اجتهاد الحاكم ; لأن الأصل حياة المفقود , ولا يخرج عن هذا الأصل إلا بيقين أو ما في حكمه , وهذا قول الجمهور , سواء كان يغلب عليه السلامة أم الهلاك , وسواء فقد قبل التسعين من عمره أو بعدها , فينتظر حتى تقوم بينة بموته أو تمضي مدة يغلب على الظن أنه لا يعيش فوقها .
القول الثاني: التفصيل , وذلك أن للمفقود حالتين :
الأولى : أن يكون الغالب عليه الهلاك , كمن يفقد في مهلكة , أو بين الصفين , أو من مركب غرق فسلم بعض أهله وهلك بعض , أو يفقد بين أهله , كأن يخرج لصلاة ونحوها ; فلا يرجع فهذا ينتظر أربع سنين منذ فقد ; لأنها مدة يتكرر فيها تردد المسافرين والتجار , فانقطاع خبره إلى هذه المدة يغلب على الظن أنه غير حي .
الثانية : أنه يكون الغالب على المفقود السلامة ; كمن سافر لتجارة أو سياحة أو طلب علم , فخفي خبره ; فهذا ينتظر تتمة تسعين سنة منذ ولد , لأن الغالب أنه لا يعيش أكثر من هذا
والراجح هو القول الأول , وهو أنه يرجع في تحديد مدة الانتظار المفقود إلى اجتهاد الحاكم ; لأن ذلك يختلف باختلاف الأوقات والبلدان والأشخاص ; لأنه في زماننا توفرت وسائل الإعلام والمواصلات , حتى صار العالم كله بمثابة البلد الواحد , مما يختلف الحال به عن الزمان السابق اختلافا كبيرا كله فإذا مات مورث المفقود في مدة الانتظار المذكورة : - فإن لم يكن له وارث غير المفقود ; وقف جميع ماله , إلى أن يتضح الأمر , أو تمضي المدة .
- وإن كان له ورثة غير المفقود , فقد اختلف العلماء في كيفية مسألتهم على أقوال , أرجحها قول أكثر العلماء : أنه يعامل الورثة الذين مع المفقود بالأضر , فيعطى كل منهم إرثه المتيقن , ويوقف الباقي , وذلك بأن تقسم المسألة على اعتبار المفقود حيا , ثم تقسم على اعتباره ميتا , فإن كان يرث في المسألتين متفاضلا ; يعطى الأنقص , ومن يرث فيهما متساويا يعطى نصيبه كاملا , ومن يرث في إحدى المسألتين فقط ; لا يعطى شيئا , ويوقف الباقي إلى تبين أمر المفقود .
هذا في توريث المفقود من غيره , وأما توريث غيره منه , فإنه إذا مضت مدة انتظاره , ولم يتبين أمره , فإنه يحكم بموته , ويقسم ماله الخاص وما وقف له من مال مورثه على ورثته الموجودين حين الحكم بموته , دون من مات في مدة الانتظار , لأن الحكم بموت المفقود جاء متأخرا عن وفاة من مات في مدة الانتظار , ومن شرط الإرث حياة الوارث بعد موت المورث .
باب في ميراث الغرقى والهدمى
* هذه المسألة كثيرة الوقوع , عظيمة الإشكال , ألا وهي مسألة الموت الجماعي , الذي يموت فيه جماعة من المتوارثين , لا يعرف من السابق بالوفاة ليكون موروثا ومن المتأخر ليكون وارثا , وكثيرا ما يقع هذا في هذا العصر نتيجة لحوادث الطرق التي يذهب فيها الجماعات من الناس , كحوادث السيارات والطائرات والقطارات , وكذا حوادث الهدم والحريق والغرق والقصف في الحروب وغير ذلك .
* فإذا حصل شيء من ذلك ; فلا يخلو الأمر من خمس حالات :
الحالة الأولى: أن يعلم أن الجماعة مات أفرادها جميعا في آن واحد لم يسبق أحدهم الآخر , ففي هذه الحالة لا توارث بينهم بالإجماع , لأن من شرط الإرث تحقق حياة الوارث بعد موت المورث , وهذا الشرط مفقود هنا
الحالة الثانية : أن يعلم تأخر موت أحدهم بعينه عن موت الآخر ولم ينس , فالمتأخر يرث المتقدم بالإجماع ; لتحقق حياة الوارث بعد موت المورث .
الحالة الثالثة : أن يعلم تأخر موت بعضهم عن موت البعض الآخر من غير تعيين للمتقدم والمتأخر .
الحالة الرابعة: أن يعلم تأخر موت بعضهم عن موت البعض الآخر بعينه , لكن نسي .
الحالة الخامسة : أن يجهل واقع موتهم ; فلا يدرى أماتوا جميعا أم ماتوا متفاوتين .
" ففي هذه الأحوال الثلاث الأخيرة مجال للاحتمال ومسرح للاجتهاد والنظر , وقد اختلف العلماء رحمهم الله فيها على قولين :
القول الأول : عدم التوارث في هذه الأحوال الثلاث جميعا , وهي قول جماعة من الصحابة , منهم : أبو بكر الصديق وزيد بن ثابت وابن عباس رضي الله عنهم , وقال به الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي , وهو تخريج في مذهب أحمد , لأن من شروط الإرث تحقق حياة الوارث بعد موت المورث , وهذا الشرط ليس بمتحقق هنا , بل ومشكوك فيه , ولا توريث مع الشك , ولأن قتلى وقعة اليمامة وقتلى وقعة صفين وقتلى الحرة لم يورث بعضهم من بعض .
القول الثاني : أنه يورث كل واحد من الآخر , وهو قول جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ; منهم عمر بن الخطاب وعلي رضي الله عنهما , وهو ظاهر مذهب أحمد رحمه الله , ووجه هذا القول أن حياة كل منهم كانت ثابتة بيقين , والأصل بقاؤها إلى ما بعد موت الآخر , ولأن عمر رضي الله عنه لما وقع الطاعون في الشام جعل أهل البيت يموتون عن آخرهم , فكتب بذلك إلى عمر , فأمر أن يورثوا بعضهم من بعض
ويشترط للتوريث أن لا يختلف ورثة الموتى المشتبه في ترتب موتهم , فيدعي ورثة كل ميت تأخر موت مورثهم , وليس هناك بينة ; فإنهم حينئذ يتحالفون , ولا توارث .
وكيفية التوريث على هذا القول : أن يورث كل واحد من تلاد مال الآخر ; أي : من ماله القديم ; دون طريفه , أي : ماله الجديد الذي ورثه ممن مات معه في الحادث , وذلك بأن تفرض أن أحدهم مات أولا , فتقسم ماله القديم على ورثته الأحياء ومن مات معه , فصا حصل لمن مات معه من ماله بهذه القسمة ; قسمته بين ورثته الأحياء فقط , دون من مات معه , لئلا يرث مال نفسه , ثم تعكس العملية مع الآخر , فتفرضه مات أولا , وتعمل معه ما عملته مع الأول .
* والراجح في هذه المسألة هو القول الأول , وهو عدم التوارث ; لأن الإرث لا يثبت بالاحتمال والشك , وواقع الموتى في هذه المسألة مجهول , والمجهول كالمعدوم , وتقدم موت أحدهم في هذه الحالة مجهول ; فهو كالمعدوم , وأيضا الميراث إنما حصل للحي ليكون خليفة للميت ينتفع بماله بعده , وهذا مفقود هنا , مع ما يلزم على القول بتوارثهم من التناقض ; لأن توريث أحدهم من صاحبه يقتضي أنه متأخر عنه بالوفاة , وتوريث صاحبه منه يقتضي أنه متقدم , فيكون كل واحد منهما متقدما متأخرا , فعلى هذا القول الراجح - وهو عدم التوارث - يكون مال كل منهم لورثته الأحياء فقط دون من مات معه , عملا باليقين , وابتعادا عن الاشتباه , والله أعلم .
باب في التوريث بالرد
* الرد لغة : الصرف والإرجاع , يقال : رده ردا : أرجعه وصرفه , والارتداد الرجوع , ومنه سميت الردة , لأنها رجوع عن الدين الصحيح .
* والرد في اصطلاح الفرضيين هو صرف الباقي من التركة عن فروض الورثة إذا لم يكن هناك عاصب يستحقه إلى أصحاب الفروض بقدر فروضهم .
* وذلك أن الله سبحانه قدر فروض الورثة بالنصف والربع والثمن والثلثين والثلث والسدس , وبين كيفية توريث العصبة من الذكور والإناث , وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألحقوا الفرائض بأهلها ; فما بقي ; فلأولى رجل ذكر فكان هذا الحديث الشريف مبينا للقرآن ومرتبا للورثة بنوعيهم : أصحاب الفروض والعصبات , فإذا وجد أصحاب فروض وعصبة , فالحكم واضح , ذلك بأن يعطى ذوو الفروض فروضهم , وما بقي بعدها يعطى للعصبة , الآن لم يبق شيء ; سقط العصبة ; عملا بهذا الحديث الشريف , وإن وجد عصبة فقط ; أخذوا المال بالتعصيب على عدد رءوسهم .
" إنما الإشكال فيما إذا وجد أصحاب فروض لا تستغرق فروضهم التركة , ولم يوجد عصبة يأخذون الباقي ; فالباقي في هذه الحالة يرد على أصحاب الفروض بقدر فروضهم ; غير الزوجين , وذلك للأدلة الآتية :
أولا : أولا : قوله تعالى : وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ وأصحاب الفروض من ذوي أرحام الميت , فهم أولى بماله , وأحق من غيرهم .
ثانياً : قول النبي صلى الله عليه وسلم : من ترك مالا ; فهو لورثته رواه البخاري ومسلم , وهذا عام في جميع المال الذي يتركه الميت , ومنه ما يبقى بعد الفروض , فيكون أصحاب الفروض أحق به ; لأنه من مال مورثهم .
ثالثا : جاء في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه , أنه قال للنبي وهو لما جاءه يعوده من مرض أصابه : " يا رسول الله ! لا يرثني إلا ابنة لي " ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم حصر الميراث في بنته , ولو كان ذلك خطأ ; لم يقره ; فدل الحديث على أن صاحب الفرض يأخذ ما بقي بعده فرضه إذا لم يكن هناك عاصب , وهذا هو الرد .
* والذين يرد عليهم هم جميع أصحاب الفروض , ما عدا الزوجين لأن الزوجين قد يكونان من غير ذوي الأرحام ; فلا يدخلان في عموم قوله تعالى : وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ
* وقد اتفق أهل العلم على أنه لا يرد على الزوجين ; إلا ما روي عن عثمان رضي الله عنه , أنه رد على زوج وهذا يحتمل أنه أعطاه لسبب غير الرد ; ككونه عصبة أو ذا رحم , فأعطاه من أجل ذلك , لا من أجل الرد . والله أعلم .
باب ميراث ذوي الأرحام
* ذوو الأرحام في اصطلاح الفرضيين كل قريب ليس بذي فرض ولا عصبة , وهم على سبيل الإجمال أربعة أصناف :
الصنف الأول : من ينتمي إلى الميت , وهم أولاد البنات وأولاد بنات البنين وإن نزلوا .
الصنف الثاني : من ينتمي إليهم الميت , وهم الأجداد الساقطون والجدات السواقط وإن علوا .
الصنف الثالث : من ينتمي إلى أبوي الميت , وهم أولاد الأخوات وبنات الإخوة وأولاد الإخوة للأم ومن يدلي بهم وإن نزلوا :
الصنف الرابع : من ينتمي إلى أجداد الميت وجداته , وهم : الأعمام للأم , والعمات مطلقا , وبنات الأعمام مطلقا , والخؤولة مطلقا , وإن تباعدوا , وأولادهم وإن نزلوا .
* هذه أصنافهم على سبيل الإجمال , وهم يرثون إذا لم يوجد أحد من أصحاب الفروض غير الزوجين , ولم يوجد أحد من العصبة , وذلك لأدلة , منها :
أولا : قوله تعالى : وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أي : بعضهم أحق بميراث البعض الآخر في حكم الله تعالى
ثانيا : عموم قوله تعالى : لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ فلفظ الرجال والنساء والأقربين يشمل ذوي الأرحام , ومن ادعى التخصيص ; فعليه الدليل .
ثالثا : قول الرسول صلى الله عليه وسلم : الخال وارث من لا وارث له رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي , وقال : " حديث حسن .
ووجه الدلالة منه أنه جعل الخال وارثا عند عدم الوارث بالفرض أو التعصيب , وهو من ذوي الأرحام , فيلحق به غيره منهم .
هذه بعض أدلة من يرى توريث ذوي الأرحام وهو مروي عن جماعة من الصحابة , منهم عمر وعلي رضي الله عنهما , وهو مهذب الحنابلة والحنفية والوجه الثاني في مذهب الشافعية إذا لم ينتظم بيت المال .
* وقد اختلف القائلون بتوريث ذوي الأرحام في كيفية توريثهم على أقوال , أشهرها قولان :
القول الأول : أنهم يرثون بالتنزيل ; بأن ينزل كل واحد منهم منزلة من أدلى به , فيجعل له نصيبه ; فأولاد البنات وأولاد بنات البنين بمنزلة أمهاتهم , والعم لأم والعمات بمنزلة الأب , والأخوال والخالات وأبو الأم بمنزلة الأم , وبنات الإخوة وبنات بنيهم بمنزلة آبائهن . .. وهكذا .
والقول الثاني: أن توريث ذوي الأرحام كتوريث العصبات , فيقدم الأقرب فالأقرب منهم , والله تعالى أعلم .
باب في ميراث المطلقة
من المعلوم أن عقد الزوجية هو مما جعله الله سببا من أسباب الإرث , حيث يقول جل شأنه : وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ
* فما دام عقد الزوجية باقيا فالإرث باق , ما لم يكن هناك مانع من موانع الإرث .
* وإذا حل عقد الزوجية بالطلاق حلا كاملا - وهو ما يسمى بالطلاق البائن - فإنه ينتفي الإرث , لأنه إذا عدم السبب ; عدم المسبب ; إلا أنها قد تكون هناك ملابسات حول الطلاق تجعله لا يمنع الإرث , كما أنه إذا لم يحل عقد النكاح بالطلاق حلا كاملا ; فإن التوارث بين الزوجين لا ينتفي , ما دامت في العدة , وهو ما يسمى بالطلاق الرجعي , ولذا يعقد الفقهاء بابا يسمونه باب ميراث المطلقة
* فالمطلقات إجمالا ثلاثة أنواع :
النوع الأول: المطلقة الرجعية , سواء حصل طلاقها في حال صحة المطلق أو مرضه .
الثاني : المطلقة البائن , التي حصل طلاقها في حال صحة المطلق .
الثالث : المطلقة البائن , التي حصل طلاقها في حال مرض موت المطلق .
فالمطلقة الرجعية ترث بالإجماع إذا مات المطلق , وهي في العدة ; لأنها زوجة لها ما للزوجات ما دامت في العدة .
* والمطلقة البائن في حال الصحة لا ترث بالإجماع , لانقطاع صلة الزوجية ; من غير تهمة تلحق الزوج في ذلك , وكذا إذا حصل هذا الطلاق في مرض الزوج غير المخوف .
* والمطلقة البائن في مرض الزوج المخوف , وهو غير متهم بقصد حرمانها من الميراث , لا ترث أيضا .
* والمطلقة البائن في مرض الموت المخوف , إذا كان الزوج متهما فيه بقصد حرمان الزوجة من الميراث ; فإنها ترث في العدة وبعدها ; ما لم تتزوج أو ترتد .
" والدليل على توريث المطلقة طلاقا بائنا يتهم فيه الزوج : أن عثمان رضي الله عنه قضى بتوريث زوجة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه , وقد طلقها في مرض موته فبتها واشتهر هذا القضاء بين الصحابة , ولم ينكر , مع قاعدة سد الذرائع ; لأن هذا المطلق قصد قصدا فاسدا في الميراث , فعومل بنقيض قصده , وهذا المعنى لا ينحصر في زمن العدة حتى يقصر التوريث على زمن العدة , والله أعلم .
* ويتوارث الزوجان بعقد النكاح إذا مات أحدهما قبل الدخول والخلوة لعموم الآية الكريمة , وهي قوله تعالى : وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إلى قوله : وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ الآية , لأن علاقة الزوجية علاقة وثيقة وشريفة , يترتب عليها أحكام وتبنى عليها مصالح عظيمة , فجعل الله لكل منهما نصيبا من مال الآخر إذا مات ; كما جعل لأقربائه , وهذا مما يؤكد على الزوجين أن ينظر كل منهما إلى الآخر نظرة احترام وتوقير .
وهذه هي أحكام الإسلام , كلها خير وبركة , نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا عليه ويميتنا عليه .
باب في التوارث مع اختلاف الدين
* اختلاف الدين هو أن يكون المورث على ملة والوارث على ملة أخرى .
* وتحت ذلك مسألتان:
المسألة الأولى: إرث الكافر من المسلم وإرث المسلم من الكافر اختلف العلماء في هذه المسألة على أربعة أقوال :
القول الأول : أنه لا توارث بين مسلم وكافر مطلقا , وهو قول أكثر أهل العلم , لقوله صلى الله عليه وسلم لا يرث المسلم الكافر , ولا الكافر المسلم متفق عليه .
القول الثاني : أنه لا توارث بين مسلم وكافر إلا بالولاء ; لحديث : لا يرث المسلم النصراني ; إلا أن يكون عبده أو أمته رواه الدارقطني ; فهو يدل على إرث المسلم لعتيقه النصراني ويقاس عليه العكس , وهو إرث النصراني مثلا لعتيقه المسلم .
القول الثالث : أنه يرث الكافر من قريبه المسلم إذا أسلم قبل قسمة التركة ; لحديث : كل قسم قسم في الجاهلية , فهو على ما قسم , وكل قسم أدركه الإسلام ; فإنه على ما قسم الإسلام فالحديث يدل على أنه لو أسلم كافر قبل قسم ميراث مورثه المسلم ; ورث .
القول الرابع : أنه يرث المسلم من الكافر دون العكس ; لحديث : الإسلام يزيد ولا ينقص وتوريث المسلم من الكافر زيادة , وعدم توريثه منه نقص , والحديث يدل على أن الإسلام يجلب الزيادة ولا يجلب النقص .
والراجح - والله أعلم - القول الأول , وهو عدم التوارث بين المسلم والكافر ; لصحة دليله وصراحته ; بخلاف بقية الأقوال ; فإن أدلتها إما غير صحيحة وإما غير صريحة فلا تعارض دليل القول الأول .
المسألة الثانية: توارث الكفار بعضهم من بعض للكفار حالتين :
الحالة الأولى: أن يكونوا على دين واحد ; كاليهودي مثلا مع اليهودي , والنصراني مع النصراني , ففي هذه الحالة لا خلاف في إرث بعضهم من بعض
الحالة الثانية : أن تختلف أديانهم ; كاليهود مع النصارى أو المجوس أو الوثنيين ; ففي هذه الحالة اختلف العلماء في حكم توريث بعضهم من بعض , ومبنى الاختلاف هو هل الكفر ملة واحدة أو ملل متعددة ;
القول الأول : وهو قول الحنفية والشافعية مع اتحاد الدار , ورواية في مذهب الحنابلة , وهو قول الجمهور : أن الكفر بجميع أشكاله واختلاف نحله ملة واحدة , فيتوارث الكفار بعضهم من بعض دون نظر إلى اختلاف دياناتهم ; لعموم النصوص في توارث الآباء والأبناء ; فلا يخص من عمومها إلا ما استثناه الشارع , ولقوله تعالى : وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
القول الثاني : أن الكفر ثلاث ملل , فاليهودية ملة , والنصرانية ملة , وبقية الكفر ملة ; لأنهم يجمعهم أنهم لا كتاب لهم ; فلا يرث اليهودي من النصراني ولا يرث أحدهما من الوثني .
القول الثالث : أن الكفر ملل متعددة , فلا يرث أهل كل ملة من أهل الملة الأخرى ; بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم : لا يتوارث أهل ملتين شتى رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه .
ولعل هذا القول هو الراجح ; لهذا الحديث , وهو نص في محل النزاع , ولعدم التناصر بين أهل الملل ; فلا توارث بينهم ; كالمسلمين مع الكفار , ولأنه قد تعارض موجب الإرث مع المانع من الإرث وهو اختلاف الدين ; لأن اختلاف الدين يوجب المباينة من كل وجه , فقوي المانع , ومنع موجب الإرث , فلم يعمل الموجب , لقيام المانع .
والذين يرون أن الكفر ملة واحدة يرون أن اختلاف الدار مانع من توارث بعض الكفار من بعض ; لعدم التناصر والتآزر بينهم , وهذا المعنى موجود مع اختلاف الملل , فعلى هذا القول الذي يظهر لنا أن الراجح أنه لا يرث النصراني مثلا قريبه اليهودي أو قريبه المجوسي أو الوثني , ولا يرث الوثني مثلا قريبه اليهودي , وإنما يتوارث النصارى فيما بينهم , واليهود فيما بينهم , والمجوس فيما بينهم , وكذا بقيه الملل الكفرية . والله أعلم .
باب في حكم توريث القاتل
* قد تتوفر أسباب الإرث , ولكنه لا يتحقق لمانع عارض هذه الأسباب فمنع من تحقق مقتضاها .
* وموانع الإرث كثيرة , منها قتل الوارث لمورثة , وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : ليس لقاتل ميراث وقوله صلى الله عليه وسلم : لا يرث القاتل شيئا ولأجل سد الذريعة ; لأن الوارث قد يحمله حب المال على قتل مورثه لأجل الحصول على ماله , والقاعدة المعروفة أن من تعجل شيئا قبل أوانه ; عوقب بحرمانه .
* وحرمان القاتل من الميراث مجمع عليه بين أهل العلم في الجملة , إن اختلفوا في تحديد نوعية القتل الذي منع من الإرث - والصحيح من مذهب الشافعي رحمه الله أن القاتل لا يرث بحال , أيا كان نوع القتل ; لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : لا يرث القاتل شيئا ولأن القاتل حرم من الميراث لئلا يجعل القتل ذريعة إلى استعمال الميراث , فوجب أن يحرم بكل حال ; لحسم الباب .
فعلى هذا لا يرث كل من له دخل في القتل , ولو كان بحق , كالمقتص , ومن حكم بالقتل ; كالقاضي , وكذا الشاهد , وحتى لو كان القتل بغير قصد ; كالقتل الذي يحصل من نائم ومجنون وطفل , وكذا لو كان القتل ناتجا عن فعل مأذون فيه شرعا , كالمؤدب والمداوي إذا ترتب على التأديب والعلاج موت المؤدب والمعالج .
- وذهب الحنابلة إلى أن القتل الذي يمنع الإرث هو القتل بغير حق , وهو ما وجب ضمانه بقود أو دية أو كفارة ; كالقتل العمد وشبه العمد والخطأ وما جرى مجراه كالقتل بالسبب والقتل من الصبي والمجنون والنائم , وما ليس بمضمون بشيء مما ذكر ; فإنه لا يمنع الميراث ; كالقتل قصاصا أو حدا أو دفعا عن النفس أو كان القاتل عادلا والمقتول باغيا أو كان القتل ناتجا عن فعل مأذون به شرعا , كالتأديب والعلاج .
- وكذا مذهب الحنفية , إلا أنهم اعتبروا القتل بالتسبب لا يمنع الميراث , كما لو حفر بئرا أو وضع حجرا في الطريق , فانقتل بذلك مورثه , وكذا القتل بغير قصد لا يمنع الميراث ; كالقتل من الصبي والمجنون .
- وعند المالكية أن القاتل له حالتان :
الحالة الأولى: أن يكون قتل مورثه عمدا عدوانا ; ففي هذه الحالة لا يرث من مال مورثه ولا من ديته .
الحالة الثانية : أن يكون قتل مورثه خطأ ; ففي هذه الحالة يرث من ماله , ولا يرث من ديته , ووجه توريثه من المال عندهم في هذه الحالة أنه لم يتعجله بالقتل , ووجه كونه لم يرث من الدية , لأنها واجبة عليه , ولا معنى لكونه يرث من شيء يجب عليه .
وباستعراض هذه الأقوال نجد القول الوسط منها , وهو أن القتل الذي يوجب الضمان على القاتل يمنع الميراث , والقتل الذي لا يوجب الضمان على القاتل لا يمنع الميراث , كما قال به الحنابلة والحنفية , لأن ما أوجب الضمان يكون القاتل فيه غير معذور ومتحملا لمسئوليته , فيترتب على ذلك حرمانه من الميراث , وما لا يوجب الضمان يكون القاتل معذورا فيه وغير متحمل لمسئوليته ; فلا يمنعه من الميراث , ولو عملنا بقول الشافعية , فجعلنا كل قتل يمنع الميراث , لكان ذلك سببا لعدم إقامة الحدود الواجبة ولعدم استيفاء الحقوق كالقصاص ونحوه .
فعلى هذا يكون عموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ليس للقاتل ميراث مخصوص بما إذا كان القتل بغير حق وغير مضمون .
كتاب النكاح
باب في أحكام النكاح
بسم الله الرحمن الرحيم
* هذا الموضوع له أهمية بالغة , جعلت الفقهاء يجعلون له في مصنفاتهم مكانا رحبا , يفصلون فيه أحكامه , ويوضحون فيه مقاصده وآثاره ; لأنه مشروع في الكتاب والسنة والإجماع : قال الله تعالى : فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ولما ذكر النساء التي يحرم التزوج منهن قال تعالى : وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ والنبي صلى الله عليه وسلم حث على الزواج ورغب فيه , فقال : يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة ; فليتزوج ; فإنه أغض للبصر , وأحصن للفرج وقال عليه الصلاة والسلام : تزوجوا ; فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة
النكاح يترتب عليه مصالح عظيمة - منها : بقاء النسل البشري , وتكثير عدد المسلمين , وإغاظة الكفار بإنجاب المجاهدين في سبيل الله والمدافعين عن دينه .
- ومنها : إعفاف الفروج , وإحصانها , وصيانتها من الاستمتاع المحرم الذي يفسد المجتمعات البشرية - ومنها : قيام الزوج على المرأة بالرعاية والإنفاق ; قال تعالى : الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ - ومنها : حصول السكن والأنس بين الزوجين , وحصول الراحة النفسية ; قال تعالى : وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا وقال تعالى : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا - ومنها : أنه حماية للمجتمعات البشرية من الوقوع في الفواحش الخلقية التي تهدم الأخلاق وتقضي على الفضيلة - ومنها : حفظ الأنساب , وترابط القرابة والأرحام بعضها ببعض , وقيام الأسر الشريفة التي تسودها الرحمة والصلة والنصرة على الحق - - ومنها : الترفع ببني الإنسان عن الحياة البهيمية إلى الحياة الإنسانية الكريمة .
. .. إلى غير ذلك من المصالح العظيمة التي تترتب على النكاح الشرعي الشريف النظيف القائم على كتاب الله وسنة رسول . * والنكاح عقد شرعي يقتضي حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر , كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : استوصوا بالنساء خيرا , فإنهن عوان عندكم , استحللتم فروجهن بكلمة الله
" وعقد النكاح ميثاق بين الزوجين , قال تعالى : وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا فهو عقد يوجب على كل من الزوجين نحو الآخر الوفاء بمقتضاه ; قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ
* ويباح لمن عنده المقدرة والأمن من الحيف أن يتزوج بأكثر من واحدة ; -257- قال تعالى : فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً والعدل المطلوب هنا هو العدل المستطاع , وهو التسوية بين الزوجات في النفقة والكسوة والمسكن والمبيت .
* وإباحة تعدد الزوجات من محاسن هذه الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان ; لما فيه من المصالح العظيمة للرجال والنساء والمجتمعات : - لأنه من المعلوم كثرة عدد النساء عن عدد الرجال مع ما يعتري الرجال من الأخطار التي تقلل عددهم , كأخطار الحروب والأسفار , مما ينقرض معه كثرة الرجال , ويتوفر به عدد النساء , فلو قصر الرجل على واحدة , تعطل كثير من النساء .
- وكذلك معروف ما يعتري المرأة من الحيض والنفاس , فلو منع الرجل من التزوج بأخرى ; لمرت عليه فترات كثيرة يحرم فيها من المتعة والإنجاب .
- ومعروف أن الاستمتاع بالمرأة استمتاعا كاملا ومثمرا ينتهي ببلوغها سن اليأس , وهو بلوغ الخمسين من عمرها ; بخلاف الرجل , فنه يستمر صلاحيته للاستمتاع والإنجاب إلى سن الهرم , فلو قصر على واحدة ; لفات عليه خير كثير , وتعطل عنده منفعة الإنجاب والنسل .
- إضافة إلى أنه إذا كان من المعلوم أن عدد النساء يزيد على عدد الرجال في غالب المجتمعات البشرية ; فإن قصر الرجل على امرأة واحدة يترك كثيرا من النساء لا عائل لهن , وبالتالي يفضي هذا إلى الفساد الخلقي , وضياع كثير من النساء , أو حرمانهن من متعة الحياة وزينتها .
والحكم البالغة في إباحة تعدد الزوجات كثيرة ; فقاتل الله من يحاول سد هذا الطريق وتعطيل هذه المصالح .
والنكاح من حيث الحكم الشرعي على خمسة أنواع : تارة يكون واجبا , وتارة يكون مستحبا , وتارة يكون حراما , وتارة يكون مكروها : - فيكون النكاح واجبا على من يخاف على نفسه الزنا إذا تركه ; لأنه طريق لإعفاف نفسه من الحرام , وفي هذه الحالة قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( وإن احتاج الإنسان إلى النكاح , وخاف العنت بتركه , قدمه على الحج الواجب " . وقال غيره : " يكون له أفضل من الحج التطوع والصلاة والصوم التطوع , .
قالوا : ولا فرق في هذه الحالة بين القادر على الإنفاق والعاجز عنه . قال الشيخ تقي الدين : ( ظاهر كلام أحمد والأكثرين عدم اعتبار الطول , لأن الله وعد عليه الغنى بقوله : إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وقد كان النبي يصبح وما عنده شيء , ويمسي وما عنده شيء , وزوج رجلا لم يقدر على خاتم من حديد ) .
- ويستحب النكاح مع وجود الشهوة وعدم الخوف من الزنى لاشتماله على مصالح كثيرة للرجال والنساء .
- ويباح النكاح مع عدم الشهوة والميل إليه ; كالعنين والكبير وقد يكون مكروها في هذه الحالة , لأنه يفوت على المرأة الغرض الصحيح من النكاح , وهو إعفافها , ويضر بها .
- ويحرم النكاح على المسلم إذا كان في دار كفار حربيين لأن فيه تعريضا لذريته للخطر واستيلاء الكفار عليهم , ولأنه لا يأمن على زوجته منهم .
ويسن نكاح المرأة الدينة ذات العفاف والأصل الطيب لحديث أبي هريرة رضي الله عنه ; أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها , ولجمالها , ولدينها ; فاظفر بذات الدين , تربت يداك , متفق عليه وقد ورد النهي عن نكاح المرأة لغير دينها ; قال صلى الله عليه وسلم: لا تنكحوا النساء لحسنهن فلعله يرديهن , ولا لمالهن فلعله يطغيهن , وانكحوهن للدين .
وقد حث النبي على اختيار البكر , فقال لجابر رضي الله عنه : فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك , متفق عليه , ولما في زواج البكر من الألفة التامة , حيث لم يسبق لها التزوج بمن قد يكون قلبها متعلقا به ; فلا تكون حاجتها للزوج الأخير تامة .
ويسن اختيار الزوجة الولود أي : بأن تكون من نساء يعرفن بكثرة الأولاد ; لحديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : تزوجوا الودود الولود ; فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة رواه النسائي وغيره , وجاء بمعناه أحاديث .
وحكم التزوج يختلف باختلاف حال الشخص وقدرته الجسمية والمالية واستعداده لتحمل مسئوليته : وقد حث النبي الشباب على الزواج المبكر لأنهم أحوج إليه من غيرهم ; قال صلى الله عليه وسلم: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة ; فليتزوج ; فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج , ومن لم يستطع , فعليه بالصوم , فإنه له وجاء رواه البخاري ومسلم وغيرهما .
والباءة : قيل : هي الجماع , وقيل : هي مؤن النكاح , ولا تنافي بين القولين ; لأن التقدير من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤن النكاح . وقوله : أغض للبصر ; أي : أدفع لعين المتزوج عن النظر إلى الأجنبية . وقوله : " أحصن للفرج " ; أي : أشد منعا وحفظا له من الوقوع في الفاحشة , ثم قال : " ومن لم يستطع , أي : لا يقدر على النكاح ومؤنه . ( فعليه بالصوم " ; أي : يتخذ الصوم علاجا بديلا .
" فإنه له وجاء ; أي : يدفع الشهوة ويجنبه خطرها كما يقطع الوجاء , وهو الاختصاء , لأن الصائم بتقليل الطعام والشراب يحصل له انكسار الشهوة , ويحصل له شعور خاص في حال الصيام من خشية الله وتقواه , كما قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قال تعالى : وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فأمر بمقاومة الشهوة واتقاء خطرها بأمرين مرتبين :
الأمر الأول : الزواج عند المقدرة عليه
والثاني : الصيام لمن لم يقدر على الزواج ; مما يدل على أنه لا يجوز للإنسان أن يترك نفسه في مدارج الخطر .
وهذا كقوله تعالى : وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ إلى قوله تعالى : وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
باب في أحكام الخطبة
قال عليه الصلاة والسلام : إذا خطب أحدكم امرأة , فقدر أن يرى منها بعض ما يدعوه إلى نكاحها ; فليفعل رواه أحمد وأبو داود , وفي حديث آخر : انظر إليها ; فإنه أحرى أن يؤدم بينكما فدل ذلك على الإذن في النظر إلى ما يظهر من المخطوبة غالبا , وأن يكون ذلك من غير علمها , ومن غير خلوة بها .
قال الفقهاء : ويباح لمن أراد خطبة امرأة وغلب على ظنه إجابته : نظر ما يظهر غالبا , بلا خلوة , إن أمن من الفتنة " انتهى .
وفي حديث جابر : فكنت أتخبأ لها , حتى رأيت منها بعض ما دعاني إلى نكاحها فدل ذلك على أنه لا يخلو بها , ولا تكون هي عالمة بذلك , وأنه لا ينظر منها إلا ما جرت العادة بظهوره من جسمها , وأن هذه الرخصة تختص بمن غلب على ظنه إجابته إلى تزوجها , فإن لم يتيسر له النظر إليها ; بعث إليها امرأة ثقة تتأملها ثم تصفها له , لما روي : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أم سليم تنظر امرأة رواه أحمد .
ومن استشير في خاطب أو مخطوبة ; وجب عليه أن يذكر ما فيه من مساوئ وغيرها , ولا يكون ذلك من الغيبة .
ويحرم التصريح بخطبة المعتدة كقوله : أريد أن أتزوجك ; لقوله تعالى : وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ فأباح التعريض في خطبة المعتدة ، وهو أن يقول مثلا : إني في مثلك لراغب ، أو : لا تفوتيني بنفسك ، فدل ذلك على تحريم التصريح ; كقوله : أريد أن أتزوجك ; لأن التصريح لا يحتمل غير النكاح ; فلا يؤمن أن يحملها الحرص على أن تخبر بانقضاء عدتها قبل انقضائها .
قال الإمام ابن القيم : حرم خطبة المعتدة صريحا ، حتى حرم ذلك في عدة الوفاة ، وإن كان المرجع في انقضائها ليس إلى المرأة ، فإن إباحة الخطبة قد تكون ذريعة إلى استعجال المرأة بالإجابة ، والكذب في انقضاء عدتها ، وتباح خطبة المعتدة تصريحا وتعريضا لمطلقها طلاقا بائنا دون الثلاث ; لأنه يباح له نكاحها في عدتها " .
قال الشيخ تقي الدين : " يباح التصريح والتعريض من صاحب العدة فيها إن كان ممن يحل له التزوج بها في العدة " .
* وتحرم خطبته على خطبة أخيه المسلم ; فمن خطب امرأة ، وأجيب إلى ذلك ; حرم على غيره خطبتها ، حتى يأذن بذلك أو يرد ; لقوله : " لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك " ، رواه البخاري والنسائي ، وروى مسلم : " لا يحل للمؤمن أن يخطب على خطبة أخيه حتى يذر " ، وفي حديث ابن عمر : " لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه " ، متفق عليه ، وللبخاري : " لا يخطب الرجل على خطبة الرجل حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له " ، فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على تحريم خطبة المسلم على خطبة أخيه لما في ذلك من الإفساد على الخاطب الأول ، وإيقاع العداوة بين الناس ، والتعدي على حقوقهم ، فإن رد الخاطب الأول ، أو أذن للخاطب الثاني ، أو ترك تلك المرأة ; جاز للثاني أن يخطب تلك المرأة ; لقوله : لا حتى يأذن أو يترك وهذا من حرمة المسلم ، وتحريم التعدي عليه .
وبعض الناس لا يبالي بذلك ، فيقدم على خطبة المرأة ، وهو يعلم أنه مسبوق إلى خطبتها ، وأنها قد حصلت الإجابة ، فيعتدي على حق أخيه ، ويفسد ما تم من خطبته ، وهذا محرم شديد التحريم ، وحري بمن أقدم على خطبة امرأة وهو مسبوق إليها مع إثمه الشديد أن لا يوفق وأن يعاقب. فعلى المسلم أن يتنبه لذلك ، وأن يحترم حقوق إخوانه المسلمين ; فإن حق المسلم على أخيه المسلم عظيم ; لا يخطب على خطبته ، ولا يبيع على بيعه ، ولا يؤذيه بأي نوع من الأذى .
باب في عقد النكاح وأركانه وشروطه
* يستحب عند إرادة عقد النكاح تقديم خطبة قبله تسمى خطبة ابن مسعود ، يخطبها العاقد أو غيره من الحاضرين ، ولفظها : إن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله ; فلا مضل له ، ومن يضلل ، فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، رواه الخمسة ، وحسنه الترمذي ، ويقرأ بعد هذه الخطبة ثلاث آيات من كتاب الله :
الأولى : قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
الثانية : قوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
الثالثة : قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
وأما أركان عقد النكاح
فهي ثلاثة :
الركن الأول : وجود الزوجين الخاليين من الموانع التي تمنع صحة النكاح ; بأن لا تكون المرأة مثلا من اللواتي يحرمن على هذا الرجل بنسب أو رضاع أو عدة أو غير ذلك ، ولا يكون الرجل مثلا كافرا والمرأة مسلمة . .. وغير ذلك من الموانع الشرعية التي سنبينها إن شاء الله .
الركن الثاني : حصول الإيجاب ، وهو اللفظ الصادر من الولى أو من يقوم مقامه ; بأن يقول للزوج : زوجتك فلانة أو أنكحتكها .
الركن الثالث : حصول القبول ، وهو اللفظ الصادر من الزوج أو من يقوم مقامه ; بأن يقول : قبلت هذا النكاح أو هذا التزويج .
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم أن النكاح ينعقد بكل لفظ يدل عليه ، ولا يقتصر على لفظ الإنكاح والتزويج
* ووجهة نظر من قصره على لفظ الإنكاح والتزويج : أنهما اللفظان اللذان ورد بهما القرآن ; كقوله تعالى : فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا وكقوله تعالى : وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ لكن ذلك في الواقع لا يعني الحصر في هذين اللفظين . والله أعلم .
* وينعقد النكاح من أخرس بكتابة أو إشارة مفهوهة
* وإذا حصل الإيجاب والقبول ; انعقد النكاح ، ولو كان المتلفظ هازلا لم يقصد معناه حقيقة ; لقوله : ثلاث هزلهن جد ، وجدهن جد : الطلاق ، والنكاح ، والرجعة " ، رواه الترمذي .
وأما شروط صحة النكاح
فهي أربعة :
الشرط الأول : تعيين كل من الزوجين ، فلا يكفي أن يقول : زوجتك بنتي : إذا كان له عدة بنات ، أو يقول : زوجتها ابنك ، وله عدة أبناء ، ويحصل التعيين بالإشارة إلى المتزوج ، أو تسميته ، أو وصفه بما يتميز به.
الشرط الثاني : رضا كل من الزوجين بالآخر ، فلا يصح إن أكره أحدهما عليه ; لحديث أبي هريرة : " لا تنكح الأيم حتى تستأمر ، ولا البكر حتى تستأذن " متفق عليه ; إلا الصغير منهما الذي لم يبلغ والمعتوه ; فلوليه أن يزوجه بغير إذنه .
الشرط الثالث : أن يعقد على المرأة وليها ; لقوله : لا نكاح إلا بولي " ، رواه الخمسة إلا النسائي ، فلو زوجت المرأة نفسها بدون وليها فنكاحها باطل ; لأن ذلك ذريعة إلى الزنى ، ولأن المرأة قاصرة النظر عن اختيار الأصلح لها ، والله تعالى خاطب الأولياء بالنكاح ، فقال تعالى : وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وقال تعالى : فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ وغير ذلك من الآيات .
وولي المرأة هو : أبوها ، ثم وصيه فيها ، ثم جدها لأب وإن علا ، ثم ابنها ، ثم بنوه وإن نزلوا ، ثم أخوها لأبوين ، ثم أخوها لأب ، ثم بنوهما ، ثم عمها لأبوين ، ثم عمها لأب ، ثم بنوهما ، ثم أقرب عصبتها نسبا ; كالإرث ، ثم المعتق ، ثم الحاكم .
الشرط الرابع : الشهادة على عقد النكاح لحديث جابر مرفوعا : " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل " ; فلا يصح إلا بشاهدين عدلين .
قال الترمذي : العمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي ومن بعدهم من التابعين وغيرهم ; قالوا : لا نكاح إلا بشهود ، ولم يختلف في ذلك من مضى منهم ; إلا قوم من المتأخرين من أهل العلم .
باب الكفاءة في النكاح
باب الكفاءة في النكاح الكفاءة لغة : المساواة والمماثلة ، والمراد بها هنا المساواة بين الزوجين في خمسة أشياء :
أحدها : الدين ; فلا يكون الفاجر والفاسق كفء العفيفة العدل ; لأنه مردود الشهادة والرواية ، وذلك نقص في إنسانيته .
الثاني : المنصب ، وهو النسب ; فلا يكون العجمي - وهو من ليس من العرب - كفء العربية .
الثالث : الحرية ; فلا يكون العبد ولا المبعض كفء الحرة ; لأنه منقوص بالرق .
الرابع : الصناعة ; فلا يكون صاحب صناعة دنيئة كالحجام والحائك كفء بنت من هو صاحب صناعة جليلة كالتاجر .
الخامس : اليسار بالمال بحسب ما يجب لها من المهر والنفقة ; فلا يكون المعسر كفء الموسرة ، لأن عليها ضررا في إعساره ; لإخلاله بنفقتها .
* فإذا اختلف أحد الزوجين عن الآخر في واحد من هذه الأمور الخمسة ، فقد انتفت الكفاءة ، وذلك لا يؤثر على صحة النكاح ; لأن الكفاءة ليست شرطا في صحته ; لأمر النبي فاطمة بنت قيس أن تنكح أسامة بن زيد ، فنكحها بأمره متفق عليه ، ولكن تكون الكفاءة شرطا للزوم النكاح فقط ; فلو زوجت امرأة بغير كفئها فلمن لم يرض بذلك من المرأة أو أوليائها فسخ النكاح ، لأن رجلا زوج بنته من ابن أخيه ليرفع بها خسيسته ، فجعل النبي لها الخيار ، وبعض العلماء يرى أن الكفاءة شرط لصحة النكاح ، وهو رواية عن أحمد .
قال الشيخ تقي الدين : الذي يقتضيه كلام أحمد أن الرجل إذا تبين له أنه ليس بكفء ، ; فرق بينهما ، وأنه ليس للولي أن يزوج المرأة من غير كفء ، ولا للزوج أن يتزوج ، ولا للمرأة أن تفعل ذلك ، وأن الكفاءة ليست بمنزلة الأمور المالية مثل مهر المرأة : إن أحبت المرأة والأولياء طلبوه وإلا تركوه ، ولكنه أمر ينبغي لهم اعتباره " انتهى .
باب في المحرمات في النكاح
المحرمات في النكاح قسمان : القسم الأول : اللاتي يحرمن تحريما مؤبدا : وهن أربع عشرة : سبع يحرمن بالنسب ، وسبع يحرمن بالسبب ، وهن المذكورات في قوله تعالى : وَلَا تَنْكِحُوا الآيتين .
أولا : اللاتي يحرمن بالنسب : وبيانهن كما يلي : - الأم والجدة ; لقوله تعالى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ - والبنت ، وبنت الابن ، وبنت البنت ، وبنت بنت الابن ; لقوله تعالى : وَبَنَاتُكُمْ
- والأخت ; شقيقة كانت ، أو لأب ، أو لأم ; لقوله تعالى : وَأَخَوَاتُكُمْ - وبنت الأخت وبنت ابنه وبنت بنته ; لقوله تعالى : وَبَنَاتُ الْأُخْتِ - وبنت الأخ وبنت بنت الأخ وبنت ابنه ; لقوله تعالى : وَبَنَاتُ الْأَخِ - والعمة والخالة ; لقوله تعالى : وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ
ثانياً : اللاتي يحرمن بالسبب : وبيانهن كما يلي : - الملاعنة على الملاعن ; لما روى الجوزجاني عن سهل بن سعد ، قال : " مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا " قال الموفق : لا نعلم أحدا قال بخلاف ذلك .
- ويحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب من الأقسام السابقة ، فكل امرأة حرمت بالنسب من الأقسام السابقة ; حرم مثلها بالرضاع ; كالأمهات والأخوات ; لقوله تعالى : وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وقال النبي : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب متفق عليه .
- وتحرم بالعقد زوجة أبيه وزوجة جده ; لقوله تعالى : وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ
- وتحرم زوجة ابنه وإن نزل ; لقوله تعالى : وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ
- وتحرم عليه أم زوجته وجداتها بمجرد العقد ، لقوله تعالى : وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ
- وتحرم بنت الزوجة وبنات أولادها إذا دخل بالأم ; لقوله تعالى : وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ
هذا ; ويناسب أن نقرأ الآية الكريمة متصلة بعد أن بينا ما ذكر فيها من أنواع المحرمات من النساء في النكاح قال تعالى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
القسم الثاني : ما كان تحريمه منهن مؤقتا : وهو نوعان :
النوع الأول : ما يحرم من أجل الجمع : - فيحرم الجمع بين الأختين لقوله تعالى : وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وكذا يحرم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها لقوله : لا تجمعوا بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها متفق عليه ، وقد بين الحكمة في ذلك حين قال عليه الصلاة والسلام : إنكم إذا فعلتم ذلك ; قطعتم أرحامكم " ، وذلك لما يكون بين الضرائر من الغيرة ، فإذا كانت إحداهما من أقارب الأخرى ، حصلت القطيعة بينهما ، فإذا طلقت المرأة وانتهت عدتها ; حلت أختها وعمتها وخالتها ; لانتفاء المحذور . - ولا يجوز أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة لقوله تعالى : فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ وقد أمر النبي من تحته أكثر من أربع لما أسلم أن يفارق ما زاد عن أربع .
النوع الثاني : ما كان تحريمه لعارض يزول : - فيحرم تزوج المعتدة من الغير لقوله تعالى : وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ومن الحكمة في ذلك أنه لا يؤمن أن تكون حاملا ، فيفضي ذلك إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب .
- ويحرم تزوج الزانية إذا علم زناها حتى تتوب وتنقضي عدتها ; لقوله تعالى : وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
- ويحرم على الرجل أن يتزوج من طلقها ثلاثا حتى يطأها زوج غيره بنكاح صحيح ; لقوله تعالى : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ إلى قوله : فَإِنْ طَلَّقَهَا يعني : الثالثة ، فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ - ويحرم تزوج المحرمة حتى تحل من إحرامها .
وكذا لا يجوز للمحرم أن يعقد النكاح على امرأة وهو محرم لقوله : لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب رواه الجماعة إلا البخاري .
- ولا يحل أن يتزوج كافر امرأة مسلمة لقوله تعالى : وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا
- ولا يتزوج المسلم امرأة كافرة لقوله تعالى : وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وقوله تعالى : وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ إلا الحرة الكتابية ، فيجوز للمسلم أن يتزوجها ; لقوله تعالى : وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني : حل لكم ، وتكون هذه الآية مخصصة لعموم الآيتين السابقتين في تحريم نكاح الكافرات على المسلمين وقد أجمع أهل العلم على ذلك .
ويحرم على الحر المسلم أن يتزوج الأمة المسلمة ; لأن ذلك يفضي إلى استرقاق أولاده منها ، إلا إذا خاف على نفسه من الزنى ، ولم يقدر على مهر الحرة أو ثمن الأمة ، فيجوز له حينئذ تزوج الأمة المسلمة لقوله تعالى : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ إلى قوله : ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ
ويحرم على العبد أن يتزوج سيدته للإجماع ، ولأنه يتنافى كونها سيدته مع كونه زوجها ، لأن لكل منهما أحكاما .
ويحرم على السيد أن يتزوج مملوكته لأن عقد الملك أقوى من عقد النكاح ، ولا يجتمع عقد مع ما هو أضعف منه .
والوطء بملك اليمين حكمه حكم الوطء في العقد فيما سبق إلى أمد ، فمن حرم وطؤها بعقد كالمعتدة والمحرمة والزانية والمطلقة ثلاثا ; حرم وطؤها بملك اليمين ; لأن العقد إذا حرم لكونه طريقا إلى الوطء ، فلأن يحرم الوطء من باب أولى .
باب في الشروط في النكاح
المراد بالشروط في النكاح ما يشرطه أحد الزوجين في العقد على الآخر مما له فيه مصلحة ، ومحلها ما كان في العقد أو اتفقا عليه قبله ، وهي تنقسم إلى قسمين : صحيح ، وفاسد .
أولا : الشروط الصحيحة في النكاح
- ومن الصحيح عند الأكثرين إذا شرطت عليه طلاق ضرتها لأن لها في ذلك فائدة ، وقال البعض الآخر من العلماء بعدم صحة هذا الشرط ; لأن النبي نهى أن تشترط طلاق أختها لتكفأ ما في صحفتها والنهي يقتضي الفساد .
- ومن الشروط الصحيحة في النكاح إذا شرطت عليه أن لا يتسرى أو لا يتزوج عليها فإن وفى ، وإلا فلها الفسخ ، لحديث : " إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج
- وكذا لو شرطت عليه أن لا يخرجها من دارها أو بلادها صح هذا الشرط ، ولم يكن له إخراجها إلا بإذنها .
- وكذا لو شرطت أن لا يفرق بينها وبين أولادها أو أبويها صح هذا الشرط ، فإن خالفه ، فلها الفسخ .
- ولو شرطت زيادة في مهرها ، أو كونه من نقد معين صح الشرط ، وكان لازما ، يجب عليه الوفاء به ، ولها الفسخ بعدمه ، وخيارها في ذلك على التراخي ، فتفسخ متى شاءت ; ما لم يوجد منها ما يدل على رضاها مع علمها بمخالفته لما شرطته عليه ; فحينئذ يسقط خيارها .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للذي قضى عليه بلزوم ما شرطته عليه زوجته فقال الرجل : إذا يطلقننا . فقال عمر : مقاطع الحقوق عند الشروط ولحديث : المؤمنون على شروطهم
قال العلامة ابن القيم : " يجب الوفاء بهذه الشروط التي هي أحق أن يوفيها ، وهو مقتضى الشرع والعقل والقياس الصحيح ، فإن المرأة لم ترض ببذل بضعها للزوج إلا على هذا الشرط ، ولو لم يجب الوفاء به ; لم يكن العقد عن تراض ، وكان إلزاما بما لم تلتزمه وبما لم يلزمها الله به ورسوله .
ثانيا : الشروط الفاسدة في النكاح
والشروط الفاسدة في النكاح نوعان :
ا ) شروط فاسدة تبطل العقد : ، وهي أنواع ثلاثة :
الأول : نكاح الشغار وهو أن يزوجه موليته بشرط أن يزوجه الآخر موليته ولا مهر بينهما ، سمي شغارا من الشغور وهو الخلو من العوض ، وقيل : سمي شغارا من شغر الكلب إذا رفع رجله ليبول ، شبه قبحه بقبح بول الكلب ، وهذا النوع جعل فيه امرأة بدل امرأة ، وقد أجمعوا على تحريمه ، وهو باطل ، يجب التفريق فيه ، سواء كان مصرحا فيه بنفي المهر أو مسكوتا عنه ، لحديث ابن عمر : أن النبي نهى عن الشغار والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق ، متفق عليه .
وقال الشيخ تقي الدين : " وفصل الخطاب أن الله حرم نكاح الشغار لأن الولي يجب عليه أن يزوج موليته إذا خطبها كفء ، ونظره لها نظر مصلحة لا نظر شهوة ، والصداق حق لها لا له ، وليس للولي ولا للأب أن يزوجها إلا لمصلحتها ، وليس له أن يزوجها لغرضه لا لمصلحتها ، وبمثل هذا تسقط ولايته ، ومتى كان غرضه أن يعاوض فرجها بفرج الأخرى ; لم ينظر في مصلحتها ، وصار كمن زوجها على مال له لا لها ، وكلاهما لا يجوز ، وعلى هذا ; لو سمى صداقا حيلة والمقصود المشاغرة ; لم يجز ; كما نص عليه أحمد ; لأن مقصوده أن يزوجها بتزوجه الأخرى ، والشرع بين أنه لا يقع هذا إلا لغرض الولي لا لمصلحة المرأة ، سواء سمي مع ذلك صداقا أو لم يسم ; كما قاله معاوية وغيره ، وأحمد جوزه مع الصداق المقصود دون الحيلة ; مراعاة لمصلحة المرأة في الصداق انتهى .
فإذا سمي لكل واحدة منهما مهر مستقل كامل ، بلا حيلة ، مع أخذ موافقة المرأتين ; صح ذلك ، لانتفاء الضرر .
ثانيا : نكاح المحلل وهو أن يتزوجها بشرط أنه متى حللها للأول ، طلقها ، أو نوى التحليل بلا شرط يذكر في العقد ، أو اتفقا عليه قبل العقد ، ففي جميع هذه الأحوال يبطل النكاح ; لقوله صلى الله عليه وسلم : ألا أخبركم بالتيس المستعار ؟ ، قالوا : بلى يا رسول الله ! قال : هو المحلل ، لعن الله المحلل والمحلل له رواه ابن ماجه والحاكم وغيره .
إذا علق عقد النكاح على شرط مستقبل كأن ; يقول : زوجتك إذا جاء رأس الشهر ، أو : إن رضيت أمها ، فلا ينعقد النكاح مع ذلك ; لأن النكاح عقد معاوضة ، فلم يصح تعليقه على شرط .
وكذا لو زوجه إلى مدة ، كما لو قال : زوجتك وإذا جاء غد ، فطلقها أو قال : زوجتها شهرا أو سنة ، بطل هذا النكاح المؤقت وهو نكاح المتعة .
قال الشيخ تقي الدين : " الروايات المستفيضة المتواترة متواطئة على أن الله تعالى حرم المتعة بعد إحلالها " .
وقال القرطبي : " الروايات كلها متفقة على أن زمن إباحة المتعة لم يطل ، وأنه حرم ، ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها ; إلا من لا يلتفت إليه من الروافض
شروط فاسدة لا تفسد النكاح
- لو شرط في عقد النكاح إسقاط حق من حقوق المرأة كأن شرط أن لا مهر لها ، أو لا نفقة ، أو شرط أن يقسم لها أقل من ضرتها ; فإنه في هذه الأحوال يفسد الشرط ويصع النكاح ، لأن ذلك الشرط يعود إلى معنى زائد في العقد ، لا يلزم ذكره ، ولا يضر الجهل به .
- ومن ذلك أنه إذا شرطها مسلمة ، فبانت كتابية ، فالنكاح صحيح ، وله خيار الفسخ .
- ومن ذلك أنه إذا شرطها بكرا أو جميلة أو ذات نسب ، فبانت بخلاف ما اشترط فله الفسخ ، لفوات شرطه .
- ومن ذلك أنه إذا تزوج امرأة على أنها حرة ، فتبين أنها أمة فإن كان ممن لا يحل له تزوج الإماء ، فرق بينهما ، وإن كان ممن يحل له ذلك ; فله الخيار .
- وكذا لو تزوجت المرأة رجلا حرا ، فبان عبدا فلها الخيار ، وإن عتقت أمة تحت عبد ; فلها الخيار ; لأن بريرة لما عتقت تحت عبد ، اختارت مفارقته كما رواه البخاري وغيره .
باب في العيوب في النكاح
هناك عيوب تثبت الخيار في النكاح :
فمنها : - أن من وجدت زوجها لا يقدر على الوطء لكونه عنينا أو مقطوع الذكر فلها الفسخ ، وإن ادعت أنه عنين ، فأقر بذلك ، أجل سنة ، فإن وطئ فيها ، وإلا ، فلها الفسخ .
- وإن وجد الرجل في زوجته عيبا يمنع الوطء ; كالرتق ولا يمكن زواله ، فله الفسخ .
- وكذا من وجد منهما في الآخر عيبا مشتركا ; كالباسور ، والجنون ، والبرص ، والجذام ، وقرع الرأس ، وبخر الفم فله الخيار ; لما في ذلك من النفرة .
قال العلامة ابن القيم : . " كل عيب ينفر أحد الزوجين من الآخر ، ولا يحصل به مقصود النكاح ، يوجب الخيار ، وإنه أولى من البيع " انتهى .
- ولو حدث بأحد الزوجين عيب بعد العقد فللآخر الخيار . ويثبت الخيار لمن لم يرض بالعيب من الزوجين ، ولوكان به عيب مثله أو مغاير له ; لأن الإنسان لا يأنف من عيب نفسه ، ومن رضي منهما بعيب الآخر ; بأن قال : رضيت به ، أو وجد منه دليل الرضى ، مع علمه بالعيب ; فلا خيار له بعد ذلك .
وحيث يثبت لأحدهما الخيار ; فإنه لا يتم إلا عند الحاكم ; لأنه يحتاج إلى اجتهاد ونظر ، فيفسخه الحاكم بطلب من له الخيار ، أو يأذن لمن له الخيار فيفسخ .
وإن تم الفسخ قبل الدخول ، فلا مهر لها ; لأن الفسخ إن كان منها ; فقد جاءت الفرقة من قبلها ، و إن كان منه ; فقد دلست عليه العيب ، فكان الفسخ بسببها .
وإن كان الفسخ بعد الدخول ، فلها المهر المسمى في العقد ، لأنه وجب بالعقد ، واستقر بالدخول ; فلا يسقط .
ولا يصح تزويج الصغيرة والمجنونة والمملوكة بمن فيه عيب يرد به النكاح لأن وليهن لا ينظر لهن إلا بما فيه الحظ والمصلحة لهن ، وإن لم يعلم وليهن بالعيب ; فسخ النكاح إذا علم ; إزالة للضرر عنهن .
وإذا رضيت الكبيرة العاقلة مجبوبا أو عنينا لم يمنعها وليها ، لأن الحق في الوطء لها دون غيرها .
وإن رضيت بالتزوج من مجنون ومجذوم وأبرص فلوليها منعها منه ; لأن في ذلك ضررا يخشى تعديه إلى الولد ، وفيه منغصة على أهلها .
باب في أنكحة الكفار
المراد بالكفار أهل الكتاب وغيرهم كالمجوس والوثنيين والمراد ما يقرون عليه من أنكحتهم لو أسلموا أو ترافعوا إلينا حال كفرهم .
فنكاح الكفار حكمه حكم نكاح المسلمين في الصحة ووقوع الطلاق والظهار . والإيلاء ووجوب النفقة والقسم .
ويحرم عليهم من النساء ما يحرم على المسلمين ، فقد جاء في القرآن الكريم إضافة المرأة إلى الكافر في قوله تعالى : وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ و امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ فأضاف المرأة إلى الكافر ، والإضافة تقتضي زوجية صحيحة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " الصواب أن أنكحتهم المحرمة في الإسلام حرام مطلقا ، إذا لم يسلموا ; عوقبوا عليها ، وإن أسلموا ; عفي لهم عنها ; لعدم اعتقادهم تحريمها ، وأما الصحة والفساد ; فالصواب أنها صحيحة من وجه فاسدة من وجه ، فإن أريد بالصحة إباحة التصرف ; فإنما يباح لهم بشرط الإسلام ، وإن أريد نفوذه وترتب أحكام الزوجية عليه من حصول الحل به للمطلق ثلاثا ووقوع الطلاق فيه وثبوت الإحصان به ; فصحيح " انتهى .
ومن أحكام أنكحة الكفار أنهم يقرون على فاسدها بشرطين :
الشرط الأول : إذا اعتقدوا صحتها في شرعهم ، وما لا يعتقدون حله ; لا يقرون عليه ; لأنه ليس من دينهم .
الشرط الثاني : أن لا يترافعوا إلينا ، فإن ترافعوا ; لم نقرهم عليه ; لقوله تعالى : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فإذا اعتقدوا صحة نكاحهم في شرعهم ، ولم يترافعوا إلينا ; لم نتعرض لهم ; بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر ، ولم يعترض عليهم في أنكحتهم مع علمه أنهم يستبيحون محارمهم ، وأسلم خلق كثير في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، فأقرهم على أنكحتهم ، ولم يكشف عن كيفيتها .
وإن أتونا قبل عقد نكاحهم ; عقدناه على حكم ديننا ; بإيجاب وقبول وولي وشاهدي عدل منا ; قال تعالى : وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ
أما إن أتونا بعد عقد النكاح فيما بينهم ، فإننا لا نتعرض لكيفية صدوره * وكذلك إذا أسلم الزوجان على نكاح ; فإننا لا نتعرض لكيفية صدوره وتوفر شروطه فيما سبق ، لكننا ننظر فيه وقت الترافع أو وقت إسلامهم ، فإن كانت الزوجة تباح في هذا الوقت لعدم الموانع الشرعية ، أقرا على نكاحهما ، لأن ابتداء النكاح حينئذ لا مانع منه ; فلا مانع من استدامته ، وإن كانت الزوجة في هذا الوقت الذي ترافعا أو أسلما فيه لا يباح ابتداء العقد له عليها ; فرق بينهما ، لأن منع ابتداء العقد يمنع من استدامته ، وإن كان المهر الذي سمي لها في حال الكفر صحيحا ; أخذته ، لأنه وجب بالعقد ، ولا مانع من استيفائها له ، وإن كان فاسدا - كالخمر والخنزير - : فإن كانت قبضته ; فقد استقر ، وليس لها غيره ، لأنها قبضته بحكم الشرك ، فبرئت ذمة من هو عليه منه ، ولأن في التعرض له مشقة وتنفير عن الإسلام ، فيعفى عنه كما عفي عن غيره من الأعمال الكفرية ، وإن لم تكن قد قبضت المهر الفاسد ; فإنه يفرض لها مهر المثل ، وإن كانت قد قبضت بعض المهر الفاسد ولم تقبض بقيته ; فإنه يجب لها قسط الباقي من مهر المثل ، وإن لم يسم لها مهر أصلا ; فإنه يفرض لها مهر المثل ; لخلو النكاح من تسمية المهر .
* وإذا أسلم الزوجان معا بأن تلفظا بالإسلام دفعة واحدة ; فإنما يبقيان على نكاحهما لأنه لم يوجد منهما اختلاف دين ، وإن أسلم زوج كتابية ، ولم تسلم هي بقيا على نكاحهما ; لأن للمسلم أن يتزوج الكتابية ابتداء ، فاستدامته لنكاحها من باب أولى .
* وإن أسلمت كافرة تحت كافر قبل الدخول بطل النكاح ، لقوله تعالى : فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وليس لها شيء من المهر ، لمجيء الفرقة من قبلها .
* وإن أسلم زوج غير كتابية قبل الدخول بطل النكاح ، لقوله تعالى : وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وعليه نصف المهر ; لمجيء الفرقة من قبله . " وإن أسلم أحد الزوجين غير الكتابيين أو أسلمت كافرة تحت كافر بعد الدخول وقف الأمر على انقضاء العدة ، فإن أسلم الآخر فيها ; دام النكاح ، وإن لم يسلم فيها ، تبين أن النكاح قد انفسخ منذ أسلم الأول .
* ومن أسلم وتحته أكثر من أربع وأسلمن ، أو كن كتابيات اختار منهم أربعا ; لأن قيس بن الحارث أسلم وتحته ثمان نسوة ، فقال له النبي 3 : اختر منهن أربعا وقاله أيضا لغيره ، والله أعلم .
باب في الصداق في النكاح
الصداق مأخوذ من الصدق ، لأنه يشعر برغبة الزوج في الزوجة ، وهو عوض يسمى في عقد النكاح أو بعده . " أما حكمه ، فهو واجب ، ودليله الكتاب والسنة والإجماع .
- قال تعالى : وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا - ولفعله صلى الله عليه وسلم ، فلم يكن يخلي النكاح من صداق ، وقال : التمس ولو خاتما من حديد
- وأجمع أهل العلم على مشروعيته . " أما مقداره ; فلا يتقدر أقله ولا أكثره بحد معين ; فكل ما صح أن يكون ثمنا أو أجرة ; صح أن يكون صداقا ، وإن قل أو كثر ; إلا أنه ينبغي الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فيه ، بأن يكون في حدود أربعمائة درهم ، وهي صداق بنات النبي صلى الله عليه وسلم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " الصداق المقدم إذا كثر وهو قادر على ذلك ; لم يكره ; إلا أن يقترن بذلك ما يوجب الكراهة من معنى المباهاة ونحو ذلك ، فأما إن كان عاجزا عن ذلك ، كره ، بل يحرم إذا لم يتوصل إليه إلا بمسألة أو غيرها من الوجوه المحرمة ، فأما إن كثر ، وهو مؤخر في ذمته ، فينبغي أن يكره ; لما فيه من تعريض نفسه لشغل الذمة " انتهى كلامه .
والخلاصة أن كثرة الصداق لا تكره إذا لم تبلغ حد المباهاة والإسراف ، ولم تثقل كاهل الزوج ; بحيث تحوجه إلى الاستعانة بغيره عن طريق المسألة ونحوها ، ولم تشغل ذمته بالدين ، وهي ضوابط قيمة تكفل المصلحة وتدفع المضرة .
ويتبين من خلال ما سبق أن ما وصل إليه الناس في قضية المهور من المغالاة الباهظة التي لا يراعى فيها جانب الزوج الفقير والتي أصبحت صعبة المرتقى في طريق الزواج ; أن هذه المغالاة لا شك في كراهتها أو تحريمها ، خصوصا وأنه يكون إلى جانبها تكاليف أخرى ; من شراء الأقمشة الغالية الثمن ، والمصاغات الباهظة ، والحفلات والولائم المشتملة على الإسراف والتبذير وإهدار الأطعمة واللحوم في غير مصلحة تعود إلى الزوجين ; لا شك أن كل ذلك من الآصار والأغلال والتقاليد السيئة التي يجب محاربتها والقضاء عليها وتنقية طريق الزواج من عراقيلها .
وفي حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا : أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة رواه أحمد والبيهقي والحاكم وغيرهم .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ألا لا تغالوا في صدق النساء ، فإنه لو كان مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله ، كان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه ، ولا أصدقت امرأة من بناته ، أكثر من اثنتي عشرة أوقية ، وإن الرجل ليغلي بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في قلبه ، وحتى يقول : كلفت فيك علق القربة أخرجه النسائي وأبو داود .
ومنه تعلم أن كثرة الصداق قد تكون سببا في بغض الزوج لزوجته حينما يتذكر ضخامة صداقها ، ولهذا كان أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة ; كما في حديث عائشة ، فتيسير الصداق يسبب البركة في الزوجة ويزرع لها المحبة في قلب الزوج .
* والحكمة في مشروعية الصداق أن فيه معاوضة عن الاستمتاع ، وفيه تعزيز لجانب الزوجة وتقدير لمكانتها في حق الزوج .
* وتستحب تسميته الصداق ، وتحديده في العقد ، لقطع النزاع . ويجوز أن يسمى ويحدد بعد العقد ; لقوله تعالى : لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً فدلت الآية على أن فرض الصداق قد يتأخر عن العقد .
وأما نوعية الصداق فكما يفهم أن كل ما جاز أن يكون ثمنا في بيع أو أجرة في إجارة وقيمة لشيء ; جاز أن يكون صداقا ، سواء كان من عين أو دين معجل أو مؤجل أو منفعة معلومة ، وهذا مما يدل على أنه مطلوب تيسير الصداق ، وحسب الظروف والأحوال ، تيسير الزواج الذي يتعلق به مصالح عظيمة للأفراد والمجتمعات .
وهذه بعض المسائل الهامة التي تتعلق بالصداق :
أولا : أن الصداق ملك للمرأة ليس لوليها منه شيء ; إلا ما سمحت به له عن طيب نفس ، لقوله تعالى : وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ ولأبيها خاصة أن يأخذ من صداقها ، ولو لم تأذن ; ما لا يضرها ولا تحتاج إليه ; لقوله صلى الله عليه وسلم : أنت ومالك لأبيك
ثانيا : يبدأ تملك المرأة لصداقها من العقد كما في البيع ، ويتقرر كاملا بالوطء ، أو الخلوة بها ، وبموت أحدهما.
ثالثا : إذا طلقها قبل الدخول أو الخلوة ، وقد سمى لها صداقا فلها نصفه ، لقوله تعالى : وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ أي : لكم ولهن ، فاقتضى أن النصف له والنصف لها بمجرد الطلاق ، وأيهما عفا لصاحبه عن نصيبه منه وهو جائز التصرف ; صح عفوه ; لقوله تعالى : إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ثم رغب في العفو ; فقال تعالى : وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ أي : لا ينس الزوجان التفضل من كل واحد منهما على الآخر ، ومن جملة ذلك أن تتفضل المرأة بالعفو عن النصف ، أو يتفضل الرجل عليها بإكمال المهر ، وهو إرشاد للرجال والنساء من الأزواج إلى ترك التقصي من بعضهم على بعض والمسامحة فيما لأحدهما على الآخر ; للوصلة التي قد وقعت بينهما .
رابعا : كل ما قبض بسبب النكاح ككسوة لأبيها أو أخيها فهو من المهر
خامسا : إذا أصدقها مالا مغصوبا أو محرما صح النكاح ، ووجب لها مهر المثل بدل الصداق المحرم .
سادسا : إذا عقد النكاح ولم يجعل للمرأة مهرا صح النكاح ، ويسمى ذلك بالتفويض ، ويقدر لها مهر المثل ; لقوله تعالى : لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً أي : أو ما لم تفرضوا لهن فريضة ، ولحديث ابن مسعود في رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقا ولم يدخل بها حتى مات ، فقال رضي الله عنه : لها صداق نسائها ، لا وكس ولا شطط ، وعليها العدة ، ولها الميراث وقال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق بمثل ما قضيت رواه الترمذي وغيره وصححه .
وقد يكون التفويض لمقدار المهر معناه أن يزوجها على ما يشاء أحدهما أو أجنبي ، فيصح العقد في هذه الحالة ، ويقدر لها مهر المثل ، والذي يقدر مهر المثل هو الحاكم ، فيقدره بمهر مثلها من نسائها ; أي : قرابتها ممن يماثلها ; كأمها وخالتا وعمتا ، فيعتبر الحاكم بمن يساويها منهن القربى فالقربى في مال وجمال وعقل وأدب وسن وبكارة وثيوبة . .. فإن لم يكن لها أقارب ، ففيمن يشبهها من نساء بلدها .
وإن فارقها قبل الدخول بطلاق فلها المتعة بقدر يسر زوجها وعسره ; لقوله تعالى : لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ والأمر يقتضي الوجوب ، وأداء الواجب إحسان .
وإن كانت المفارقة بموت أحدهما قبل الدخول ; تقرر لها مهر المثل ، وورثه الآخر ; لأن ترك تسميته الصداق لا يقدح في صحة النكاح ، ولحديث ابن مسعود الذي سبق ذكره .
وإذا حصل الدخول أو الخلوة ; تقرر لها مهر المثل ; لما روى أحمد وغيره من قضاء الخلفاء الراشدين : إن من أغلق بابا أو أرخى سترا ، فقد وجب المهر .
وإن حصلت الفرقة من قبلها قبل الدخول فليس لها شيء ; كما لو ارتدت أو فسخت النكاح بسبب وجود عيب في الزوج .
سابعا : للمرأة قبل الدخول منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال لأنها لو سلمت نفسها ، ثم أرادت التراجع حتى تقبضه ; لم يمكنها ذلك ، فإن كان الصداق مؤجلا ; فليس لها منع نفسها ; لأنها رضيت بتأخيره ، وكذا لو سلمت نفسها ، ثم أرادت الامتناع حتى تقبض صداقها فليس لها ذلك .
باب في وليمة العرس
* أصل الوليمة تمام الشيء واجتماعه ، يقال : أولم الرجل : إذا اجتمع عقله وخلقه . ثم نقل هذا المعنى إلى تسمية طعام العرس به ; لاجتماع الرجل والمرأة بسبب الزواج ، ولا يقال لغير طعام العرس وليمة من حيث اللغة وعرف الفقهاء . وهناك أطعمة تصنع لمناسبات كثيرة ، لكل منها اسم خاص .
* وحكم وليمة العرس أنها سنة باتفاق أهل العلم ، وقال بعضهم بوجوبها ، لأمره صلى الله عليه وسلم بها ، ولوجوب إجابة الدعوة إليها ; فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حين أخبره أنه تزوج : أولم ولو بشاة متفق عليه ، وأولم النبي صلى الله عليه وسلم على زوجاته زينب وصفية وميمونة بنت الحارث
ووقت إقامة وليمة العرس موسع ، يبدأ من عقد النكاح ، إلى انتهاء أيام العرس .
* ومقدار وليمة العرس قال بعض الفقهاء : إنه لا ينقص عن شاة ، والأولى الزيادة عليها ; لمفهوم حديث عبد الرحمن بن عوف : أولم ولو بشاة هذا مع تيسر ذلك ، وإلا ; فبحسب المقدرة .
وقد أولم النبي صلى الله عليه وسلم على صفية بحيس ، وهو الدقيق والسمن والأقط ، يخلط بعضها ببعض ، ووضعه على نطع صغير فدل ذلك على إجزاء الوليمة بغير ذبح الشاة .
* ولا يجوز الإسراف في وليمة العرس كما يفعل الآن من ذبح الأغنام الكثيرة والإبل وتكثير الطعام على وجه البذخ والإسراف ثم لا تؤكل ، بل يكون مآل تلك الأطعمة واللحوم إلقاؤها في الزبالات وإهدارها ; فهذا مما تنهى عنه الشريعة ، ولا تستسيغه العقول السليمة ، ويخشى على فاعله ومن رضي به من العقوبة وزوال النعمة ، إضافة إلى ما يصحب تلك الولائم الفخمة من أشر وبطر واجتماعات لا تسلم في الغالب من المنكرات ، وقد تقام هذه الولائم في الفنادق ، ويحصل فيها من تساهل النساء بالستر والاحتشام واختلاط الرجال بهن ما يخشى من عواقبه الوخيمة ، وقد يتخلل تلك الاحتفالات أغان ومزامير ، ويجلب لها المطربون الفسقة والمصورون الظلمة الذين يصورون النساء ويصورون العريسين ، وتهدر في هذه الحفلات أموال كثيرة من غير فائدة ، بل على سبيل الفساد والإفساد ، فليتق الله من يعملون هذه الأعمال ، وليخشوا من عقوبته ; قال تعالى : وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا وقال تعالى : وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ وقال تعالى : كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ والآيات في هذا كثيرة معلومة .
ويجب على من دعي لحضور وليمة العرس أن يجيب الدعوة إذا توفرت فيها هذه الشروط
الشرط الأول : أن تكون هي الوليمة الأولى ، فإن تكرر إقامة الولائم لهذه المناسبة ; لم يجب عليه حضور ما زاد على الأول ; لقوله صلى الله عليه وسلم : الوليمة أول يوم حق ، والثاني معروف ، والثالث رياء وسمعة رواه أبو داود وغيره .
وقال الشيخ تقي الدين : " يحرم الأكل والذبح الزائد على المعتاد في بقية الأيام ، ولو العادة فعله ، أو لتفريح أهله ، ويعزر إن عاد " .
الشرط الثاني : أن يكون الداعي مسلما .
الشرط الثالث : أن يكون الداعي من غير العصاة المجاهرين بالمعصية الذين يجب هجرهم .
الشرط الرابع : أن يعينه الداعي بالدعوة ويخصه ، بأن لا تكون الدعوة عامة .
الشرط الخامس : أن لا يكون في الوليمة منكر ; كخمر وأغان ومزامير ومطربين ; كما يحصل في بعض الولائم في هذا الوقت .
فإذا توافرت هذه الشروط ، وجبت إجابة الدعوة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : شر الطعام طعام الوليمة ، يمنعها من يأتيها ، ويدعى إليها من يأباها ، ومن لا يجب ; فقد عصى الله ورسوله رواه مسلم .
ويسن إعلان النكاح - أي : إظهاره وإشاعته - ، لقوله صلى الله عليه وسلم : أعلنوا النكاح وفي لفظ : أظهروا النكاح رواه ابن ماجه .
ويسن الضرب عليه بالدف ; لقوله صلى الله عليه وسلم : فصل ما بين الحلال والحرام الصوت والدف في النكاح رواه النسائي وأحمد والترمذي وحسنه .
باب في عشرة النساء
يراد بالعشرة لغة : الاجتماع والمخالطة ، فيقال لكل جماعة : عشرة ومعشر .
والمراد بها هنا ما يكون بين الزوجين من الألفة والانضمام ; لأنه يلزم كلا من الزوجين معاشرة الآخر بالمعروف ; فلا يماطله بحقه ، ولا يتكره لبذله ، ولا يتبعه أذى ومنة ; لقوله تعالى : وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وقال تعالى : وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وقال النبي صلى الله عليه وسلم : خيركم خيركم لأهله وقال صلى الله عليه وسلم : لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد ، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ، لعظم حقه عليها وقال صلى الله عليه وسلم : إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها ، لعنتها الملائكة حتى تصبح
ويسن لكل من الزوجين تحسين الخلق لصاحبه ، والرفق به وتحمل أذاه ، لقوله تعالى : وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إلى قوله : وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ قيل : هو كل واحد من الزوجين ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : استوصوا بالنساء خيرا ; فإنهن عوان عندكم
وينبغي للزوج إمساك زوجته حتى مع كراهته لها لقوله تعالى : وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا قال ابن عباس في معنى الآية الكريمة : ربما رزق منا ولدا ، فجعل الله فيه خيرا كثيرا ، وفي الحديث الصحيح : لا يفرك مؤمن مؤمنة ، إن سخط - منها خلقا ; رضي منها آخر
ويحرم مطل كل واحد من الزوجين بما يلزمه للزوج الآخر وكراهته لبذله .
وإذا تم العقد ; لزم تسليم الزوجة التي يوطأ مثلها إذا طلب الزوج تسليمها في بيته ; إلا إذا شرطت عليه في العقد بقاءها في دارها أو بلدها .
* وللزوج أن يسافر بها سفرا لا معصية فيه ولا خطر لأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يسافرون بنسائهم لكن غالب الأسفار المتعارف عليها في هذا الزمان هي الأسفار إلى البلاد الخارجية الكافرة وبلاد الإباحية والفساد ; فلا يجوز السفر إلى هذه البلاد لمجرد النزهة والتفرج ; لما في ذلك من الخطر الشديد على الدين والأخلاق ، ويجب على المرأة وعلى أوليائها الامتناع من سفرها مع زوجها لهذه البلاد .
وما تعورف عليه في هذا الزمان لدى كثير من المترفين من الشباب وذوي الثروة من السفر صبيحة الزواج إلى البلاد الخارجية الكافرة لإمضاء شهر العسل كما يسمونه ، وهو في الواقع شهر السم ; لأنه شهر محرم ، يؤدي إلى شرور كثيرة ; من خلع الحجاب ، والتزيي بزي الكفار ، ومشاهدة أفعال الكفار وتقاليدهم السخيفة ، وزيارة أمكنة اللهو ، حتى ترجع المرأة متأثرة بتلك الأخلاق الرذيلة ، زاهدة بأخلاق مجتمعها المسلم ، فإن هذا السفر حرام شديد التحريم ، يجب الأخذ على يد مرتكبيه ، ومنعهم منه ، ويجب على أولياء المرأة منعها من ذلك السفر ، وتخليصها من هذا الزوج المستهتر ; لأنها أمانة في أعناقهم ، ولو رضيت هي به ; فإنها قاصرة النظر لنفسها ، وما جعل الولي فيما عليها إلا لمنعها من مثل ذلك .
* ويحرم على الزوج وطء زوجته حال حيضها لقوله تعالى : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ
* وللزوج إجبار زوجته على إزالة وسخ ، وأخذ ما تعافه النفس من شعر يجوز أخذه وظفر ، ومنعها من كل ما له رائحة كريهة لأن ذلك ينفره عنها .
* ويجبرها على غسل نجاسة وأداء واجب كالصلوات الخمس ، فلو امتنعت عن أدائها ; ألزمها بذلك وأدبها ، فإن صلت ، وإلا حرمت عليه الإقامة معها ، وكذا عليه إجبارها على ترك المحرمات واجتنابها ; لقوله تعالى : الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وقال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ وقال تعالى : وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا وأثنى الله على نبيه إسماعيل عليه السلام بقوله : وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ
فالزوج مسئول عن زوجته وهو مسترعى عليها ، ومسئول عن رعيته . خصوصا وأنها تربي أولاده ، وترأس أسرته ، فإذا فسدت أخلاقها ، واختل دينها ، أفسدت عليه أولاده وأهل بيته .
فعلى المسلمين أن يتقوا الله في نسائهم ، ويتفقدوا تصرفاتهن ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : استوصوا بالنساء خيرا
ويلزم الزوج أن يبيت عند زوجته إذا كانت حرة ليلة من أربع ليال إن طلبت منه ذلك ; لأن أكثر ما يمكن أن يجمع معها من النساء ثلاث مثلا ، ولأن كعب بن سوار قضى بذلك عند عمر بن الخطاب واشتهر ولم ينكر ، هذا رأي بعض الفقهاء هذا دليله وتعليله ، لكن في هذا الاستدلال والتعليل عند الشيخ تقي الدين نظر ; حيث يرى أن التزوج بأربع لا يقتضي أنه إذا تزوج بواحدة فقط يكون حال الانفراد كحال الاجتماع . والله أعلم .
* ويلزم الزوج الوطء إذا قدر عليه كل ثلث سنة مرة إذا طلبت الزوجة ذلك ; لأن الله تعالى قدر ذلك في أربعة أشهر في حق المؤلي ; فكذلك في حق غيره ، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية وجوبه بقدر كفاية الزوجة ما لم يضره أو يشغله عن طلب معيشة من غير تقدير بمدة .
وإن سافر الزوج فوق نصف سنة ، وطلبت الزوجة قدومه لزمه ذلك ; إلا في سفر حج واجب أو غزو واجب أو كان لا يقدر على القدوم ، فإن أبى القدوم من غير عذر يمنعه ، وطلبت الزوجة التفريق بينهما ، فرق بينهما الحاكم بعد مراسلته ; لأنه ترك حقا عليه تتضرر الزوجة بتركه .
وقال الشيخ تقي الدين : " وحصول الضرر للزوجة بترك الوطء مقتض للفسخ بكل حال ، سواء كان بقصد من الزوج أو بغير قصد ، ولو مع قدرته أو عجزه ; كالنفقة وأولى " .
ويحرم على كل من الزوجين التحدث بما يجري بينهما من أمور الاستمتاع فقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ، فينشر سرها وتنشر سره فدل ذلك على تحريم إفشاء الزوجين ما يجري بينهما من أمور الاستمتاع من قول أو فعل .
* وللزوج منع زوجته من الخروج من منزله لغير حاجة ضرورية ; فلا يتركها تذهب حيث شاءت ، ويحرم عليها الخروج بلا إذنه لغير ضرورة ، ويستحب للزوج أن يأذن لها بالخروج لتمرض محرمها كأخيها وعمها لما في ذلك من صلة الرحم .
* وليس له أن يمنعها من زيارة أبويها لها في بيته ، إلا إذا خاف منهما ضررا بإفسادها عليه بسبب زيارتهما لها ; فله منعهما حينئذ من زيارتها .
وله منعها من تأجير نفسها والتحاقها بالوظائف ; لأنه يقوم بكفايتها ، ولأن ذلك يفوت عليه حقه عليها ، ويعطل تربيتها لأولادها ، ويعرضها للخطر الخلقي ، خصوصا في هذا الزمان ، الذي قل فيه الحياء والاحتشام ، وكثر فيه دعاة السوء والإجرام ، وصارت النساء تخالط الرجال في المكاتب ومجالات الأعمال ، وربما تحصل الخلوة المحرمة ; فالخطر شديد ، والابتعاد عنه واجب أكيد .
* وله منعها من إرضاع ولدها من غيره إلا لضرورة ولا يلزم الزوجة طاعة أبويها إذا طلبا منها فراق زوجها ولا طاعتهما في زيارتها لها إذا كان زوجها لا يرضى بذلك ، بل طاعة زوجها أحق .
وقد روى الإمام أحمد وغيره أن عمة حصين أتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أذات زوج أنت " ; قالت : نعم . قال : انظري أين أنت منه ; فإنما هو جنتك ونارك
* ويجب على الزوج إذا كان له أكثر من زوجة أن يساوي بينهن في القسم بتوزيع الزمن بينهن ; لقوله تعالى : وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وقال تعالى : فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وتمييزه لبعضهن عن بعض ميل يدع الأخرى كالمعلقة ، وعماد القسم الليل والمبيت ; لأن الليل يأوي فيه الإنسان إلى منزله ، ويسكن إلى أهله ، وينام على فراشه مع زوجته عادة ، ومن معاشه في الليل كالحارس ونحوه ; فإنه يقسم بين نسائه في النهار ، ويكون النهار في حقه كالليل في حق غيره .
ويقسم للحائض والنفساء من زوجاته والمريضة لأن القصد السكن والأنس ، وذلك يحصل بمبيته عندها ، ولو لم يطأ ، وليس له أن يقدم بعضهن على بعض في بداية القسم ، إلا بالقرعة ، أو برضاهن بذلك ، لأن البداءة بها دون غيرها تفضيل لها ، والتسوية بينهن واجبة ، وليس له أن يسافر بإحداهن إلا بقرعة أو برضاهن ; لأنه صلى الله عليه وسلم : كان إذا أراد السفر ; أقرع بين نسائه ، فمن خرج سهمها ، خرج بها معه
باب ما يسقط نفقة الزوجة وقسمها
* المرأة إذا سافرت بلا إذن زوجها أو سافرت بإذنه لحاجتها الخاصة بها فإنه يسقط حقها عليه من قسم ونفقة ; لأنها إن كان سفرها بغير إذنه ; فهي عاصية كالناشز ، وإن كان سفرها بإذنه لحاجتها الخاصة ; فقد تعذر على زوجها الاستمتاع بها لسبب من جهتها .
* ومن ذلك أنه لو أرادها أن تسافر معه ، فأبت ذلك فلا نفقة لها ; لأنها عاصية بذلك .
* ومن ذلك أنها إن امتنعت من المبيت معه في فراشه سقط حقها عليه من النفقة والقسم أيضا ; لأنها بذلك تكون عاصية كالناشز .
ويحرم على الزوج أن يدخل على زوجة من زوجاته في ليلة ليست لها إلا لضرورة ، وكذا في نهارها ; إلا لحاجة .
ومن وهبت قسمها لضرتها بإذن الزوج أو وهبته للزوج فجعله لزوجة أخرى جاز ذلك ; لأن الحق في ذلك لهما ، وقد رضيا بتلك الهبة ، وقد وهبت سودة رضي الله عنها قسمها لعائشة رضي الله عنها ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لها يومين وإذا رجعت الواهبة وطالبت بقسمها ; قسم لها الزوج في المستقبل .
ويجوز للزوجة أن تسامح زوجها عن حقها في القسم والنفقة ليمسكها وتبقى في عصمته ; لقوله تعالى : وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ قالت عائشة رضي الله عنها : هي المرأة تكون عند الرجل ، لا يستكثر منها ، فيريد طلاقها ، تقول : أمسكني ولا تطلقني ، وأنت في حل من النفقة علي والقسم ، وسودة حين أسنت وخشيت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : يومي لعائشة رضي الله عنها
* ومن تزوج بكرا ومعه غيرها ; أقام عندها سبعا ثم دار على نسائه بعد السبع ، ولا يحتسب عليها تلك السبع ، وإن تزوج ثيبا ; أقام عندها ثلاثة ، ثم دار على نسائه ، ولا يحتسب عليها تلك الثلاث ; لحديث أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه : من السنة إذا تزوج البكر على الثيب ، أقام عندها سبعا وقسم ، وإذا تزوج الثيب ; أقام عندها ثلاثا ثم قسم قال أبو قلابة : لو شئت لقلت : إن أنسا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم . رواه الشيخان .
* وإن أحبت الثيب أن يقيم عندها سبعا ، فعل ، وقضى مثلهن للبواقي من ضراتها ، ثم بعد ذلك يبتدئ القسم عليهن ليلة ليلة ، وذلك لحديث أم سلمة رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوجها ، أقام عندها ثلاثة أيام ، وقال : إنه ليس بك هوان على أهلك ، فإن شئت ، سبعت لك ، وإن سبعت لك ، سبعت لنسائي رواه أحمد ومسلم وغيرهما .
ومما يتعلق بهذا الموضوع مبحث النشوز ، وهو معصية الزوجة لزوجها فيما يجب عليها له مأخوذ من النشز ، وهو ما ارتفع من الأرض ، فكأنها ارتفعت وتعالت عما فرض عليها من المعاشرة بالمعروف .
ويحرم على الزوجة فعل ذلك من غير مبرر ، فإذا ظهر للزوج من زوجته شيء من علامات النشوز كأن لا تجيبه إلى الاستمتاع ، أو تتثاقل إذا طلبها ، فإنه عند ذلك يعظها ويخوفها بالله ويذكرها بحقه عليها وما عليها من الإثم إذا خالفته ، فإن أصرت على النشوز بعد الوعظ فإنه يهجرها في المضجع بأن يترك مضاجعتها ولا يكلمها مدة ثلاثة أيام ، فإن أصرت بعد الهجر ; فإنه يضربها ضربا غير مبرح ( أي : غير شديد ) ; لقوله تعالى : وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ وإذا ادعى كل من الزوجين ظلم الآخر له ، وتعذر الإصلاح بينهما فإن الحاكم يبعث حكمين عدلين من أهلهما ، لأن الأقارب أخبر بالعلل الباطنة وأقرب إلى الأمانة والنظر في المصلحة ، وعليهما أن ينويا الإصلاح ، لقوله تعالى : وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا والحكمان يفعلان الأصلح من جمع وتفريق بعوض أو بدون عوض ، وما انتهيا إليه ; عمل به ; حلا للإشكال . والله أعلم .
كتاب الطلاق
باب في أحكام الخلع
بسم الله الرحمن الرحيم
الخلع فراق الزوج لزوجته بعوض بألفاظ مخصوصة ، سمي بذلك لأن المرأة تخلع نفسها من الزوج كما تخلع اللباس ; لأن كلا من الزوجين لباس للآخر ; قال تعالى : هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ
فمن المعلوم أن الزواج ترابط بين الزوجين وتعاشر بالمعروف ، ينتج عنه بناء أسرة وإنشاء جيل ; قال تعالى : وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً فإذا لم يتحقق هذا المعنى من الزواج ; بحيث لم توجد المودة من الطرفين ، أو لم توجد من الزوج وحده ; ساءت العشرة ، وتعسر العلاج ; فإن الزوج مأمور بتسريح الزوجة بإحسان ; قال تعالى : فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وقال تعالى : وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا وأما إذا وجدت المحبة من جانب الزوج ، ولم توجد من جانب الزوجة ; بأن كرهت خلق زوجها ، أو كرهت خلقه ، أو كرهت نقص دينه ، أو خافت إثما بترك حقه ; فإنه في هذه الحالة يباح لها أن تطلب فراقه على عوض تبذله له تفتدي به نفسها ; لقوله تعالى : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ أي : إذا علم الزوج أو الزوجة أنهما إذا بقيا على الزوجية لا يؤدي كل واحد منما الواجب عليه نحو الآخر ، فيحصل من جراء ذلك أن يعتدي الزوج على زوجته ، أو تخاف المرأة أن تعصي زوجها ; فلا حرج على الزوجة أن تفتدي نفسها من الزوج بعوض ، ولا حرج على الزوج في أخذ ذلك العوض ، ويخلي سبيلها .
وحكمة ذلك أن الزوجة تتخلص من زوجها على وجه لا رجعة فيه ، ففيه حل عادل للاثنين ، ويسن للزوج أن يجيبها حينئذ ، وإن كان الزوج يحبها ; استحب لها أن تصبر ولا تفتدي منه .
والخلع مباح إذا توفر سببه الذي أشارت إليه الآية الكريمة ، وهو خوف الزوجين إذا بقيا على النكاح أن لا يقيما حدود الله ، وإذا لم يكن هناك حاجة للخلع ; فإنه يكره ، وعند بعض العلماء أنه يحرم في هذه الحال ; لقوله صلى الله عليه وسلم : أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس ; فحرام عليها رائحة الجنة رواه الخمسة إلا النسائي .
قال الشيخ تقي الدين : الخلع الذي جاءت به السنة أن تكون المرأة مبغضة للرجل ، فتفتدي نفسها منه كالأسير
وإن كان الزوج لا يحبها ، ولكنه يمسكها لغرض أن تمل وتفتدي منه ; فإنه يكون بذلك ظالما لها ، ويحرم عليه أخذ العوض منها ، ولا يصح الخلع ; لقوله تعالى : وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ أي : لا تضاروهن في العشرة لتترك بعض ما أصدقت أو كله أو تترك حقا من حقوقها التي لها على زوجها ; إلا إذا كان عضله لها في تلك الحال لكونها غير عفيفة من الزنا ، ففعل ذلك ليسترجع منها الصداق الذي أعطاها ، جاز له ذلك ; لقوله تعالى : إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ قال ابن عباس في معنى الآية : هذا في الرجل تكون له المرأة ، وهو كاره لصحبتها ، ولا علمه مهر ، فيضرها لتفتدي به ، فنهى تعالى عن ذلك ، ثم قال : إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يعني : الزنا ; فله أن يسترجع منها الصداق الذي أعطاها ، ويضاجرها حتى تتركه له ، ويخالعها
والدليل على جواز المخالعة عند حصول السبب المسوغ لها الكتاب والسنة والإجماع .
- أما الكتاب ; فالآية التي أسلفنا تلاوتها ، وهي قوله تعالى : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ
- وأما السنة ; ففي الصحيح أن امرأة ثابت بن قيس رضي الله عنه قالت : يا رسول الله ! ما أعيب عليه من دين ولا خلق ، ولكن أكره الكفر في الإسلام ( أي : كفران العشير المنهي عنه والتقصير فيما يجب له بسبب شدة البغض له ) . فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم : أتردين عليه حديقته ؟ . قالت : نعم . فأمرها بردها ، وأمره بفراقها رواه البخاري .
- وأما الإجماع ; فقد قال ابن عبد البر : " لا نعلم أحدا خالف في ذلك إلا المزني ; فإنه زعم أن الآية منسوخة بقوله تعالى : وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا
ويشترط لصحة الخلع بذل عوض ممن يصح تبرعه ، وأن يكون صادرا من زوج يصح طلاقه ، وأن لا يعضلها بغير حق حتى تبذله ، وأن يكون بلفظ الخلع ، أما إن كان بلفظ الطلاق ، أو بلفظ كناية الطلاق مع نيته ; فهو طلاق ، ولا يملك رجعتها ، لكن له أن يتزوجها بعقد جديد ، ولو لم تنكح زوجا غيره ، إذا لم يسبقه من عدد الطلاق ما يصير به ثلاثا ، أما إن وقع بلفظ الخلع أو الفسخ أو الفداء ، ولم ينوه طلاقا ; كان فسخا ، لا ينقص به عدد الطلاق ، ورد ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ، واحتج بقوله تعالى : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ثم قال تعالى : فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ثم قال تعالى : فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فذكر تطليقتين ، ثم ذكر الخلع ، ثم ذكر تطليقة بعده ، فلو كان الخلع طلاقا ; لكان رابعا ، والله أعلم .
باب في أحكام الطلاق
الطلاق في اللغة التخلية ، يقال : طلقت الناقة : إذا سرحت حيث شاءت . ومعناه شرعا : حل قيد النكاح أو بعضه .
وأما حكمه ; فهو يختلف باختلاف الظروف والأحوال ، تارة يكون مباحا ، وتارة يكون مكروها ، وتارة يكون مستحبا ، وتارة يكون واجبا ، وتارة يكون حراما ، فتأتي عليه الأحكام الخمسة .
- فيكون مباحا إذا احتاج إليه الزوج ; لسوء خلق المرأة ، والتضرر بها ، مع عدم حصول الغرض من الزواج مع البقاء عليه .
- ويكره الطلاق إذا كان لغير حاجة بأن كانت حال الزوجين مستقيمة ، وعند بعض الأئمة يحرم في هذه الحال ; لحديث : أبغض الحلال إلى الله الطلاق رواه أبو داود وابن ماجه ، ورجاله ثقات ، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث حلالا ، مع كونه مبغوضا عند الله ، فدل على كراهته في تلك الحال مع إباحته ، ووجه كراهته أن فيه إزالة للنكاح المشتمل على المصالح المطلوبة شرعا .
- ويستحب الطلاق في حال الحاجة إليه بحيث يكون في البقاء على الزوجية ضرر على الزوجة ; كما في حال الشقاق بينها وبين الزوج ، وفي حال كراهتها له ; فإن في بقاء النكاح مع هذه الحال ضرر على الزوجة ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : لا ضرر ولا ضرار
- ويجب الطلاق على الزوج إذا كانت الزوجة غير مستقيمة في دينها ; كما إذا كانت تترك الصلاة أو تؤخرها عن وقتها ، ولم يستطع تقويمها ، أو كانت غير نزيهة في عرضها ; فيجب عليه طلاقها في تلك الحال على أصح القولين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " إذا كانت تزني ; لم يكن له أن يمسكها على تلك الحال ، وإلا ; كان ديوثا " .
وكذا إذا كان الزوج غير مستقيم في دينه ; وجب على الزوجة طلب الطلاق منه ، أو مفارقته بخلع وفدية ، ولا تبقى معه وهو مضيع لدينه .
وكذا يجب على الزوج الطلاق إذا آلى من زوجته ; بأن حلف على ترك وطئها ، ومضت عليه أربعة أشهر ، وأبى أن يطأها ويكفر عن يمينه ، بل استمر على الامتناع عن وطئها ; فإنه حينئذ يجب عليه طلاقها ، ويجبر عليه ; لقوله تعالى : لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
- ويحرم الطلاق على الزوج في حال حيض الزوجة ونفاسا وفي طهر وطئها فيه ولم يتبين حملها ، وكذا إذا طلقا ثلاثا ، ويأتي بيان هذا إن شاء الله .
ودليل مشروعية الطلاق الكتاب والسنة والإجماع . - قال تعالى : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ وقال تعالى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ
- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما الطلاق لمن أخذ بالساق رواه ابن ماجه والدارقطني ، ولغيره من الأحاديث .
- وقد حكى الإجماع على مشروعية الطلاق غير واحد من أهل العلم .
والحكمة فيه ظاهرة ، وهو من محاسن هذا الدين الإسلامي العظيم ; فإن فيه حلا للمشكلة الزوجية عند الحاجة إليه ; قال تعالى : فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وقال تعالى : وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا
فإذا لم يكن هناك مصلحة في البقاء على الزوجية ، أو حصل الضرر على الزوجة في البقاء مع الرجل ، أو كان أحدهما فاسد الأخلاق غير مستقيم في دينه ; ففي الطلاق فرج ومخرج .
وكم تعاني المجتمعات التي تمنع الطلاق من الويلات والمفاسد والانتحارات وفساد الأسر ; فالإسلام العظيم أباح الطلاق ووضع له ضوابط تحقق بها المصلحة وتندفع بها المفسدة شأنه في كل تشريعاته العظيمة المشتملة على المصالح العاجلة والآجلة ، فالحمد لله على فضله وإحسانه .
وأما من يصح منه إيقاع الطلاق فهو الزوج المميز المختار الذي يعقله ، أو وكيله ; لقوله صلى الله عليه وسلم : إنما الطلاق لمن أخذ بالساق
- وأما من زال عقله وهو معذور في ذلك ; كالمجنون ، والمغمى عليه ، والنائم ، ومن أصابه مرض أزال شعوره ; كالبرسام ، ومن أكره على شرب مسكر ، أو أخذ بنجا ونحوه لتداو ; فكل هؤلاء لا يقع طلاقهم إذا تلفظوا به في حال زوال العقل بسبب من هذه الأسباب ; لقول علي رضي الله عنه : كل الطلاق جائز ; إلا طلاق المعتوه ذكره البخاري في " صحيحه " ، ولأن العقل هو مناط الأحكام .
- وأما إن زال عقله بتعاطيه مسكرا ، وكان ذلك باختياره ، ثم طلق في هذه الحال ; ففي وقوع طلاقه خلاف بين أهل العلم على قولين : أحدهما : أنه يقع ، وهو قول الأئمة الأربعة وجمع من أهل العلم .
- وإن أكره على الطلاق ظلما ، فطلق لرفع الإكراه والظلم ; لم يقع طلاقه ; لحديث : لا طلاق ولا عتاق في إغلاق رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ، والإغلاق : الإكراه ، ولقوله تعالى : مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ والكفر أعظم من الطلاق ، وقد عفي عن المكره عليه ; فالطلاق من باب أولى ، فإن كان الإكراه على الطلاق بحق كالمؤلي إذا أبى الفيئة ; وقع طلاقه .
- ويقع الطلاق من الغضبان الذي يتصور ما يقول ، أما الغضبان الذي أخذه الغضب ، فلم يدر ما يقول ; فإنه لا يقع طلاقه .
- ويقع الطلاق من الهازل ; لأنه قصد التكلم به ، وإن لم يقصد إيقاعه . والله أعلم .
باب في الطلاق السني والطلاق البدعي
الطلاق السني هو الطلاق الذي وقع على الوجه المشروع الذي شرعه الله ورسوله ، وذلك بأن يطلقا طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه ويتركها حتى تنقضي عدتها ; فهذا طلاق سني من جهة العدد ; بحيث إنه طلقها واحدة ثم تركها حتى انقضت عدتها ، وسني من جهة الوقت ; حيث إنه طلقها في طهر لم يصبها فيه ; لقوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ قال ابن مسعود رضي الله عنه في معنى الآية الكريمة : " يعني : طاهرات من غير جماع " ، وقال علي رضي الله عنه : لو أن الناس أخذوا بما أمر الله به من الطلاق ; ما أتبع رجل نفسه امرأة أبدا ; يطلقها تطليقة ، ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاثا ، فإن شاء ; راجعها يعني : ما دامت في العدة ، وذلك أن الله أعطى المطلق فرصة يتمكن فيها من مراجعة زوجته إذا ندم على طلاقها ، وهو لم يستغرق ما له من عدد الطلاق ، وهي لا تزال في العدة ، فإذا استنفد ما له من عدد الطلاق ; فقد أغلق عن نفسه باب الرجعة .
والطلاق البدعي هو الذي يوقعه صاحبه على الوجه المحرم ، وذلك بأن يطلقها ثلاثا بلفظ واحد ، أو يطلقها وهي حائض أو نفساء ، أو يطلقها في طهر وطئها فيه ولم يتبين حملها ، والنوع الأول يسمى بدعيا في العدد ، والنوع الثاني بدعي في الوقت .
- والبدعي في العدد يحرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره ، لقوله تعالى : فَإِنْ طَلَّقَهَا يعني : الثالثة ; فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ
- والبدعي في الوقت يستحب له أن يراجعها منه ; لحديث ابن عمر رضي الله عنهما : أنه طلق امرأته وهي حائض ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بمراجعتها رواه الجماعة ، وإذا راجعها ; وجب عليه إمساكها حتى تطهر ، ثم إن شاء طلقها .
ويحرم على الزوج أن يطلق طلاقا بدعيا ، سواء في العدد أو الوقت ; لقوله تعالى : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ولقوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أي : طاهرات من غير جماع ، ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا طلق امرأته ثلاثا ; قال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟ ! وكان عمر إذا أتي برجل طلق ثلاثا ، أوجعه ضربا ولما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض ; تغيظ ، وأمره بمراجعتها .
كل ذلك مما يدل على وجوب التقيد بأحكام الطلاق عددا ووقتا ، وتجنب الطلاق المحرم في العدد أو الوقت ، ولكن كثيرا من الرجال لا يفقهون ذلك ، أو لا يهتمون به ، فيقعون في الحرج والندامة ، ويلتمسون بعد ذلك المخارج مما وقعوا فيه ، ويحرجون المفتين ، وكل ذلك من جراء التلاعب بكتاب الله .
وبعض الرجال يجعل الطلاق سلاحا يهدد به زوجته إذا أراد إلزامها بشيء أو منعها من شيء ، وبعضهم يجعله محل اليمين في تعامله ومحادثته مع الناس ; فليتق الله هؤلاء ، ويبعدوا عن ألسنتهم التفوه بالطلاق ; إلا عند الحاجة إليه ، وفي وقته وعدده المحددين .
وألفاظ الطلاق تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : ألفاظ صريحة : وهي الألفاظ الموضوعة له ، التي لا تحتمل غيره ، وهي لفظ الطلاق وما تصرف منه ; من فعل ماض ; ك ( طلقتك ) ، واسم فاعل ; ك ( أنت طالق ) ، واسم المفعول ، كأن يقول : ( أنت مطلقة ) ; دون المضارع والأمر ; مثل : ( تطلقين ) و ( اطلقي ) ، واسم الفاعل من الرباعي ; ك ( أنت مطلقة ) ; فلا يقع بهذه الألفاظ الثلاثة طلاق ; لأنها لا تدل على الإيقاع .
القسم الثاني : ألفاظ كنائية : وهي الألفاظ التي تحتمل الطلاق وغيره ، كأن يقول لها : أنت خلية وبرية وبائن ، وأنت حرة ، أو : اخرجي والحقي بأهلك . . . وما أشبه ذلك
والفرق بين الألفاظ الصريحة وألفاظ الكناية في الطلاق أن الصريحة يقع بها الطلاق ، ولو لم ينوه ، سواء كان جادا أو هازلا أو مازحا ; لقوله صلى الله عليه وسلم : ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : النكاح ، والطلاق ، والرجعة رواه الخمسة إلا النسائي . وأما الكناية ; فلا يقع بها طلاق ; إلا إذا نواه نية مقارنة للفظه ; لأن هذه الألفاظ تحتمل الطلاق وغيره من المعاني ; فلا تتعين للطلاق إلا بنيته ، فإذا لم ينو بها الطلاق ; لم يقع ; إلا في ثلاث حالات :
الأولى : إذا تلفظ بالكناية في حال خصومة بينه وبين زوجته .
الثانية : إذا تلفظ بها في حال غضب .
الثالثة : إذا تلفظ بها في جواب سؤالها له الطلاق .
ففي هذه الأحوال يقع بالكناية طلاق ، ولو قال : لم أنوه ; لأن القرينة تدل على أنه نواه ; فلا يصدق بقوله : لم أنوه . والله أعلم .
ويجوز للزوج أن يوكل من يطلق عنه سواء كان الوكيل أجنبيا أو كانت الزوجة ; فيجوز أن يوكلها فيه ، ويجعل أمرها بيدها ، فيقوم الوكيل مقامه في الصريح والكناية ولعدد ، ما لم يحدد له حدا فيه .
ولا يقع الطلاق منه ولا من وكيله إلا بالتلفظ به فلو نواه بقلبه ; لم يقع ، حتى يتلفظ ويحرك لسانه به ; لقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم فلا يقع الطلاق إلا بالتلفظ به ; إلا في حالتين :
الحالة الأولى : إذا كتب صريح الطلاق كتابة تقرأ ، ونواه ; وقع ، وإن لم ينوه ; فعلى قولين ، والذي عليه الأكثر أنه يقع .
الحالة الثانية : التي يقع فيها الطلاق بدون تلفظ إشارة الأخرس بالطلاق إذا كانت مفهومة .
وأما عدد الطلاق فيعتبر بالرجال حرية ورقًّا لا بالنساء ; لأن الله خاطب به الرجال خاصة ، كما قال تعالى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وقال تعالى : وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما الطلاق لمن أخذ بالساق فيملك الحر ثلاث تطليقات ، وإن كان تحته أمة ، ويملك العبد تطليقتين ، وإن كان تحته حرة ; ففي حال حرية الزوجين يملك الزوج ثلاثا بلا خلاف ، وفي حال رق الزوجين يملك الزوج طلقتين بلا خلاف ، وإنما الخلاف فيما إذا كان أحد الزوجين حرا والآخر رقيقا ، والصحيح أن الاعتبار بحالة الزوج حرية ورقا كما سبق ; لأن الطلاق حق للزوج ; فاعتبر به .
ويجوز الاستثناء في الطلاق ويراد به إخراج بعض الجملة بلفظ ( إلا ) أو ما يقوم مقامها ، والاستثناء هنا إما أن يكون من عدد الطلقات ; كأن يقول : أنت طالق ثلاثا إلا واحدة ، وإما أن يكون من عدد المطلقات ; كأن يقول : نسائي طوالق إلا فاطمة مثلا ، وعلى كل يشترط لصحته في الحالتين أن يكون المستثنى مقدار نصف المستثنى منه فأقل ، فإن كان المستثنى أكثر من نصف المستثنى منه ; كما لو قال : أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين ; لم يصح ، ويشترط أيضا التلفظ بالاستثناء إذا كان موضوعه الطلقات ، فلو قال : أنت طالق ثلاثا ، ونوى : إلا واحدة ; وقعت الثلاث ; لأن العدد نص فيما يتناوله ; فلا يرتفع بالنية ; لأنه أقوى منها ، ويجوز الاستثناء بالنية من النساء ، فلو قال : نسائي طوالق ، ونوى : إلا فلانة ; صح الاستثناء ; فلا تطلق من نوى استثناءها ، لأن لفظة ( نسائي ) تصلح للكل وللبعض ; فله ما نوى .
ويجوز تعليق الطلاق بالشروط ومعناه : ترتيبه على شيء حاصل أو غير حاصل ب ( إن ) أو إحدى أخواتها ; كأن يقول : إن دخلت الدار ; فأنت طالق ; فقد رتب وقوع الطلاق على حصول الشرط ، وهو دخول الدار ، وهذا هو التعليق .
ولا يصح التعليق إلا من زوج ; فلو قال : إن تزوجت فلانة ; فهي طالق ، ثم تزوجها ; لم يقع ; لأنه حين التعليق ليس زوجا لها ; لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا : لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ، ولا عتق فيما لا يملك ، ولا طلاق فيما لا يملك رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه ، والله تعالى يقول : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ فدلت الآية والحديث على أنه لا يقع الطلاق على الأجنبية وهذا بالإجماع إذا كان منجزا ، وعلى قول الجمهور إذا كان معلقا على تزوجها ونحوه .
فإذا علق الطلاق على شرط ; لم تطلق قبل وجوده ، وإذا حصل شك في الطلاق ، ويراد به الشك في وجود لفظه أو الشك في عدده أو الشك في حصول شرطه :
- فأما إن شك في وجود الطلاق منه فإن زوجته لا تطلق بمجرد ذلك ; لأن النكاح متيقن ; فلا يزول بالشك .
- وإن شك في حصول الشرط الذي علق عليه الطلاق كأن يقول : إذا دخلت الدار ، فأنت طالق . ثم يشك في أنها دخلتها ; فإنها لا تطلق بمجرد الشك لما سبق .
- وإن تيقن وجود الطلاق منه ، وشك في عدده لم يلزمه إلا واحدة ; لأنها متيقنة ، وما زاد عليها مشكوك فيه ، واليقين لا يزول بالشك ، وهذه قاعدة عامة نافعة في كل الأحكام ، وهي مأخوذة من قوله صلى الله عليه وسلم : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ومن قوله لمن كان على طهارة متيقنة وأشكل عليه حصول الناقض : لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا وغيرهما من الأحاديث .
وهذا مما يدل على سماحة هذه الشريعة وكمالها ; فالحمد لله رب العالمين .
باب في الرجعة
الرجعة إعادة مطلقة غير بائن إلى ما كانت عليه بغير عقد .
ودليلها : الكتاب ، والسنة ، وإجماع أهل العلم .
- أما الكتاب ; ففي قوله تعالى : وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وقوله تعالى : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وقال تعالى : فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ
- وأما السنة ; ففي قوله صلى الله عليه وسلم في قضية ابن عمر : مره فليراجعها وطلق النبي صلى الله عليه وسلم حفصة ثم راجعها .
- وأما الإجماع ; فقال ابن المنذر : " أجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلق دون الثلاث والعبد إن طلق دون اثنتين ; أن لهما الرجعة في العدة " .
والحكمة في ذلك إعطاء الزوج الفرصة ليتروى ويستدرك إذا ندم على الطلاق وأراد استئناف العشرة مع زوجته ، فيجد الباب مفتوحا أمامه ، وهذا من رحمة الله بعباده .
وأما شروط صحة الرجعة فهي :
أولا : أن يكون الطلاق دون ما يملك من العدد ; بأن طلق حر دون الثلاث ، وعبد دون اثنتين ، فإن استوفى ما يملك من الطلاق ; لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره .
ثانيا : أن تكون المطلقة مدخولا بها ، فإن طلقها قبل الدخول ، فليس له رجعة ; لأنها لا عدة عليها ; لقوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا
ثالثا : أن يكون الطلاق بلا عوض ، فإن كان على عوض ; لم تحل له إلا بعقد جديد برضاها ; لأنها لم تبذل العوض إلا لتفتدي نفسها منه ، ولا يحصل مقصودها مع ثبوت الرجعة .
رابعا : أن يكون النكاح صحيحا ، أما إن طلق في نكاح فاسد ، فليس له رجعة ; لأنها تبين بالطلاق.
خامسا : أن تكون الرجعة في العدة ، لقوله تعالى : وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ أي : أولى برجعتهن في حالة العدة .
سادسا : أن تكون الرجعة منجزة ; فلا تصح معلقة ; كما لو قال : إذا حصل كذا ; فقد راجعتك .
وهل يشترط أن يقصد الزوجان بالرجعة الإصلاح ؟
قال بعض العلماء : يشترط ذلك ; لأن الله يقول : إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " لا يمكن من الرجعة إلا من أراد إصلاحا وإمساكا بمعروف " .
وقال البعض الآخر : لا يشترط ذلك ; لأن الآية إنما تدل على التحضيض على الإصلاح ، والمنع من الإضرار ، لا على اشتراط ذلك ، والقول الأول أظهر . والله أعلم .
وتحصل الرجعة بلفظ ( راجعت امرأتي ) ، ونحو ذلك ; مثل : رددتها ، أمسكتها ، أعدتها . . . وما أشبه ذلك .
وتحصل الرجعة أيضا بوطئها إذا نوى به الرجعة على الصحيح .
وإذا راجعا ; فإنه يسن أن يشهد على ذلك ، وقيل : يجب الإشهاد ; لقوله تعالى : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وهو رواية عن الإمام أحمد ، وقال الشيخ تقي الدين : " لا تصح الرجعة مع الكتمان بحال " .
والمطلقة الرجعية زوجة ما دامت في العدة ، لها ما للزوجات من نفقة وكسوة ومسكن ، وعليها ما على الزوجة من لزوم المسكن ، وتتزين له لعله يراجعها ، ويرث كل منهما صاحبه إذا مات في العدة ، وله السفر والخلوة بها ، وله وطؤها .
وينتهي وقت الرجعة بانتهاء العدة ، فإذا طهرت الرجعية من الحيضة الثالثة ; لم تحل له ; إلا بنكاح جديد بولي وشاهدي عدل ; لمفهوم قوله تعالى : وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ أي : في العدة ; فمفهوم الآية أنها إذا فرغت عدتها ; لم تبح ; إلا بعقد جديد بشرطه ، وإذا راجعها في العدة رجعة صحيحة مستوفية لشروطها ; لم يملك من الطلاق إلا ما بقي من عدده .
وإذا استوفى ما يملك من الطلاق ; حرمت عليه ; حتى يطأها زوج غيره بنكاح صحيح ; فيشترط لحلها للأول ثلاثة شروط : أن تنكع زوجا غيره ، وأن يكون النكاح صحيحا ، وأن يطأها الزوج الثاني في الفرج ; لقوله تعالى : فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
قال العلامة ابن القيم : " وإباحتها له بعد زوج من أعظم النعم ، وكانت شريعة التوراة ما لم تتزوج ، وشريعة الإنجيل المنع من الطلاق ألبتة ، وشريعتنا أكمل وأقوم بمصالح العباد ، فأباح له أربعا ، وأن يتسرى بما شاء ، وملكه أن يفارقها ، فإن تاقت نفسه إليها ; وجد السبيل إلى ردها ، فإذا طلقها الثالثة ; لم يبق له عليها سبيل بردها إلا بعد نكاح ثان رغبة " انتهى . أي : لا بد أن يكون نكاح الثاني لها نكاح رغبة فيها ، لا نكاح حيلة يقصد به تحليها للأول ، وإلا كان تيسا مستعارا ، كما سماه النبي ، ونكاحه باطل ، لا تحل به للأول . والله أعلم .
باب في أحكام الإيلاء
الإيلاء هو الحلف ، مصدر إلى يؤلي إيلاء ، والألية اليمين ، يقال : آلى من امرأته إيلاء : إذا حلف أن لا يجامعها ،
ومن ثم عرفه الفقهاء بأنه : حلف زوج يمكنه الوطء بالله أو صفة من صفاته على ترك وطء زوجته في قبلها أبدا أو أكثر من أربعة أشهر .
ومن هذا التعريف يمكننا أن نستخلص أن الإيلاء لا يتم إلا بتوفر شروط خمسة :
الأول : أن يكون من زوج يمكنه الوطء .
الثاني : أن يحلف بالله أو بصفة من صفاته لا بطلاق أو عتق أو نذر ،
الثالث : أن يحلف على ترك الوطء في القبل .
الرابع : أن يحلف على ترك الوطء أكثر من أربعة أشهر .
الخامس : أن تكون الزوجة ممن يمكن وطؤها .
فإذا توافرت هذه الشروط ; صار مؤليا ، يلزمه حكم الإيلاء ، وإن اختل واحد منها ; لم يكن مؤليا .
ودليل الإيلاء قوله تعالى : لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي : للأزواج الذين يحلفون على ترك وطء زوجاتهم مهلة أربعة أشهر ، فإن وطئوا زوجاتهم وكفروا عن أيمانهم ; فإن الله يغفر لهم ما حصل منهم ، وإن مضت هذه المدة وهم مصرون على ترك وطء زوجاتهم ; فإنهم يوقفون ويؤمرون بوطء زوجاتهم والتكفير عن أيمانهم ، فإن أبوا ; أمروا بالطلاق بعد مطالبة المرأة .
وهذا إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية من إطالة مدة الإيلاء ، وفي هذا التشريع الحكيم العادل إزالة للضرر عن المرأة وإزاحة للظلم عنها .
والإيلاء محرم في الإسلام لأنه يمين على ترك واجب وينعقد الإيلاء من كل زوج يصح طلاقه سواء كان مسلما أو كافرا أو حرا أو عبدا ، وسواء كان بالغا أو مميزا ويطالب بعد البلوغ ، ومن الغضبان والمريض الذي يرجى برؤه ; لعموم الآية الكريمة ، وحتى من الزوجة التي لم يدخل بها ; لعموم الآية .
ولا ينعقد الإيلاء من زوج مجنون ومغمى عليه لعدم تصورهما لما يقولان ; فالقصد معدوم منهما .
ولا ينعقد الإيلاء من زوج عاجز عن الوطء عجزا حسيا كالمجبوب والمشلول ; لأن الامتناع عن الوطء في حقهما ليس بسبب اليمين .
فإذا قال لزوجته : والله لا أطؤك أبدا ، أو عين مدة تزيد على أربعة أشهر ، أو غياه بشيء لا يتوقع حصوله قبل أربعة أشهر كنزول عيسى وخروج الدجال ; فهو مول في كل هذه الصور ، وكذا لو غياه بفعل محرما أو تركها واجبا ; كقوله : والله لا أطؤك حتى تتركي الصلاة ، أو تشربي الخمر ; فهو مول ; لأنه علقه بممنوع شرعا أشبه الممنوع حسا .
وفي كل هذه الأحوال تضرب مدة الإيلاء ; لقوله تعالى : لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وفي الصحيح عن ابن عمر ; قال : إذا مضى أربعة أشهر ممن حلف على مدة تزيد عليها ; فهو مول ، يوقف حتى يطلق ، ولا يقع به الطلاق حتى يطلق وذكره البخاري عن بضعة عشر صحابيا ، وقال سليمان بن يسار : أدركت بضعة عشر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كلهم يوقفون المولي وهو مذهب جماهير العلماء ; كما أنه ظاهر الآية الكريمة .
فإذا مضى أربعة أشهر من يمينه - ولا تحتسب منها أيام عذرها - ، فإذا مضت :
- فإن حصل منه وطء لزوجته ; فقد فاء ; لأن الفيئة هي الجماع ، وقد أتى به ، قال ابن المنذر : " أجمع كل من نحفظ عنه أن الفيء الجماع " ، وأصل الفيء الرجوع إلى فعل ما تركه ، وبذلك تحصل المرأة على حقها منه .
- وأما إن أبى أن يطأ من آلى منها بعد مضي المدة المذكورة فإن الحاكم يأمره بالطلاق إن طلبت المرأة ذلك منه ; لقوله تعالى : وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي : إن لم يفئ ، بل عزم وحقق إيقاع الطلاق ; وقع ، فإن أبى أن يفيء وأبى أن يطلق ; فإن الحاكم يطلق عليه أو يفسخ ; لأنه يقوم مقام المؤلي عند امتناعه ، والطلاق تدخله النيابة .
وقد ألحق الفقهاء بالمؤلي في هذه الأحكام من ترك وطء زوجته إضرارا بها بلا يمين أكثر من أربعة أشهر وهو غير معذور وكذا ألحقوا بالمؤلي من ظاهر من زوجته ولم يكفر واستمر على ذلك أكثر من أربعة أشهر ; لأن كلا من هذين تارك لوطء زوجته إضرارا بها ، فأشبها المؤلي ، والله تعالى أعلم .
قالوا : وإن انقضت مدة الإيلاء ، وبأحد الزوجين عذر يمنع الجماع أمر الزوج أن يفيء بلسانه ، فيقول : متى قدرت ; جامعتك ; لأن القصد بالفيئة ترك ما قصده من الإضرار بها ، واعتذاره يدل على ترك الإضرار ، ثم متى قدر ; وطئ أو طلق ; لزوال عجزه الذي أخر من أجله .
باب في أحكام الظهار
الظهار يراد به هنا أن يقول الرجل لزوجته إذا أراد الامتناع من الاستمتاع بها : أنت علي كظهر أمي ، أو أختي ، أو من تحرم عليه بنسب أو رضاع أو مصاهرة ; فمتى شبه زوجته بمن تحرم عليه أو ببعضها ; ظاهر منها .
وحكمه أنه محرم ; لقوله تعالى : الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا أي : يقولون كلاما فاحشا باطلا ، لا يعرف في الشرع ، بل هو كذب بحت ، وحرام محض ، وقول منكر ، وذلك لأن المظاهر يحرم على نفسه ما لم يحرمه الله عليه ، ويجعل زوجته في ذلك مثل أمه ، وهي ليست كذلك .
وكان الظهار طلاقا في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام ; أنكره ، واعتبره يمينا مكفرة ; فيحرم على المظاهر والمظاهر منها استمتاع كل منهما بالآخر قبل أن يكفر الزوج في ظهاره بجماع ودواعيه ; لقوله تعالى : وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا الآيات ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للمظاهر : لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به صححه الترمذي .
فيلزم المظاهر إذا عزم على وطء المظاهر منها أن يخرج الكفارة قبله ; لقوله تعالى : فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فدلت الآيتان الكريمتان على وجوب كفارة الظهار بوطء المظاهر منها وأنه يلزم إخراجها قبل الوطء عند العزم عليه ، وأن تحريم زوجته عليه باق حتى يكفر ، وهذا قول أكثر أهل العلم .
وكفارة الظهار تجب على الترتيب عتق رقبة ، فإن لم يجد الوقبة أو لم يجد ثمنها ; صيام شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع الصيام لمرض ونحوه ; أطعم ستين مسكينا ; لقوله تعالى : وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا
ومعنى : يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ بأن يقول أحدهم لامرأته : أنت علي كظهر أمي ونحوه . ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا أي : يريدون أن يجامعوا زوجاتهم اللاتي ظاهروا منهن . فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي : يجب عليهم أن يكفروا قبل الجماع بتحرير رقبة من الرق إذا كان يملكها أو يقدر على شرائها بثمن فاضل عن كفايته وكفاية من يمونه .
ويشترط في الرقبة أن تكون مؤمنة ; لقوله تعالى في كفارة القتل : وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فيقاس عليها كفارة الظهار ، وحملا للمطلق على المقيد ، ويشترط في الرقبة أيضا أن تكون سليمة من العيوب التي تضر بالعمل ضررا بينا ; لأن المقصود بالعتق تمليك الرقيق منافعه ، وتمكينه من التصرف لنفسه ، ولا يحصل هذا مع ما يضر بالعمل ضررا بينا ; كالعمى وشلل اليد أو الرجل ونحو ذلك .
ويشترط لصحة التكفير بالصوم .
أولا : أن لا يقدر على العتق .
ثانيا : أن يصوم شهرين متتابعين ، بأن لا يفصل بين أيام الصيام وبين الشهرين إلا بصوم واجب ; كصوم رمضان ، أو إفطار واجب ; كالإفطار للعيد وأيام التشريق ، أو الإفطار لعذر يبيحه ; كالسفر والمرض ; فالإفطار في هذه الأحوال لا يقطع التتابع .
ثالثا : أن ينوي الصيام من الليل عن الكفارة .
وإن كفر بالإطعام ; اشترط لصحة ذلك :
أولا : أن لا يقدر على الصيام .
ثانيا : أن يكون المسكين المطعم مسلما حرا يجوز دفع الزكاة إليه .
ثالثا : أن يكون مقدار ما يدفع لكل مسكين لا ينقص عن مد من البر ونصف صاع من غيره .
ويشترط لصحة التكفير عموما النية ; لقوله صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى
والدليل من السنة المطهرة مع دليل القرآن على كفارة الظهار وترتيبها على هذا النمط ما روت خولة بنت مالك بن ثعلبة رضي الله عنها ; قالت : ظاهر مني أوس بن الصامت ، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجادلني فيه ويقول : اتقي الله ; فإنه ابن عمك . فما برح حتى نزل القرآن : قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا فقال : يعتق رقبة . فقالت : لا يجد . فقال : فيصوم شهرين متتابعين . قالت : يا رسول الله ! إنه شيخ كبير ; ما به من صيام . قال : فليطعم ستين مسكينا . قالت : ما عنده من شيء يتصدق به . قال : فإني سأعينه بعرق من تمر . قالت : يا رسول الله ! فإني سأعينه بعرق آخر . قال : قد أحسنت ، اذهبي فأطعمي بها عنه ستين مسكينا وارجعي إلى ابن عمك والعرق ستون صاعا ، رواه أبو داود .
هذا ديننا العظيم ، فيه حل لكل مشكلة ، ومن ذلك المشاكل الزوجية ; فها هو يحل مشكلة الظهار ، وهي مشكلة كانت مستعصية في أيام الجاهلية ، بحيث لم يجدوا لها حلا إلا الفراق بين الزوجين وتشتيت الأسرة ; فما أعظمه من دين !
ثم نجده في إيجاب الكفارة راعى ظروف الزوج ، وشرع لكل حالة ما يناسبها مما يستطيع الزوج فعله ; من عتق ، إلى صيام ، إلى إطعام ; فلله الحمد .
باب في أحكام اللعان
إن الله سبحانه حرم القذف ( وهو رمي البريء بفعل الفاحشة ) ، وتوعد عليه بأشد الوعيد ، فقال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ
وأوجب جلد القاذف إذا لم يستطع إقامة البينة بأربعة شهود يشهدون بصحة ما قال ثمانين جلدة ، وأن يعتبر فاسقا لا تقبل شهادته ; إلا إن تاب وأصلح ; قال تعالى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
هذا إذا قذف غير زوجته ; فإنه تتخذ معه هذه الإجراءات الصارمة ، أما إذا قذف زوجته بالزنى ; فله حل آخر ، وذلك بأن يعتاض عن هذه الإجراءات بما يسمى باللعان ، وهو شهادات مؤكدات بأيمان من الجانبين ، مقرونة بلعنة وغضب ; كما يأتي بيانه .
فإذا قذف رجل امرأته بالزنى ، ولم يستطع إقامة البينة فله إسقاط حد القذف عنه بالملاعنة ; لقوله تعالى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ
فيقول الزوج أربع مرات : أشهد بالله لقد زنت زوجتي هذه ، ويشير إليها إن كانت حاضرة ، ويسميها إن كانت غائبة بما تتميز به ، ويزيد في الشهادة الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ثم تقول هي أربع مرات : أشهد بالله لقد كذب فيما رماني به من الزنا ، ثم تقول في الخامسة : وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين . وخصت بالغضب لأن المغضوب عليه هو الذي يعرف الحق ويجحده .
ويشترط لصحة اللعان أن يكون بين زوجين مكلفين ، وأن يقذفها بزنى ، وأن تكذبه في ذلك ويستمر تكذيبها له إلى انقضاء اللعان ، وأن يتم بحكم حاكم .
فإذا تم اللعان على الصفة التي ذكرنا مستوفيا لشروط صحته ; فإنه يترتب عليه :
أولا : سقوط حد القذف عن الزوج .
ثانيا : ثبوت الفرقة بينهما وتحريمها عليه تحريما مؤبدا .
ثالثا : ينتفي عنه نسب ولدها إن نفاه في اللعان ; بأن قال : ليس هذا الولد مني .
ويحتاج الزوج إلى اللعان إذا رأى امرأته تزني ولم يمكنه إقامة البينة ، أو قامت عنده قرائن قوية على ممارستها الزنا ، كما لو رأى رجلا يعرف بالفجور يدخل عليها .
والحكمة في مشروعية اللعان للزوج لأن العار يلحقه بزناها ، ويفسد فراشه ، ولئلا يلحقه ولد غيره ، وهو لا يمكنه إقامة البينة عليها في الغالب ، وهي لا تقر بجريمتها ، وقوله غير مقبول عليها ، فلم يبق سوى تحالفهما بأغلظ الأيمان ; فكان في تشريع اللعان حلا لمشكلته ، وإزالة للحرج عنه .
ولما لم يكن له شاهد إلا نفسه ; مكنت المرأة أن تعارض أيمانه بأيمان مكررة مثله تدرأ بها الحد عنها ، وإن نكل عن الأيمان ; وجب عليه حد القذف ، وإن نكلت هي بعد حلفه ; صارت أيمانه مع نكولها بينة قوية لا معارض لها .
قال العلامة ابن القيم : " وهو الذي يقوم عليه الدليل ، ومذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم الحكم بحدها إذا نكلت ، وهو الصحيح ، ويدل عليه القرآن ، وجزم به الشيخ وغيره " انتهى .
والدليل من السنة على مشروعية اللعان عند الحاجة إليه ما اتفق عليه الشيخان عن ابن عمر ; أنه لما سئل عن المتلاعنين : أيفرق بينهما ؟ قال : " سبحان الله ! نعم ، إن أول من سئل عن ذلك فلان بن فلان ; قال : يا رسول الله ! أرأيت لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة ; كيف يصنع ؟ إن تكلم ; تكلم بأمر عظيم ، وإن سكت ; سكت على مثل ذلك " . قال : " فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه ، ولما كان بعد ذلك ، أتاه فقال : إن الذي سألتك عنه ابتليت به . فأنزل الله عز وجل هذه الآيات في سورة النور : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ فتلاهن عليه ، ووعظه ، وذكره ، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، فقال : لا والذي بعثك بالحق نبيا ; ما كذبت عليها . ثم دعاها ، ووعظها ، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، قالت : لا والذي بعثك بالحق نبيا ; إنه لكاذب . فبدأ بالرجل ، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله إن كان من الكاذبين ، ثم ثنى بالمرأة ، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ، ثم فرق بينهما
باب في أحكام لحوق النسب
وعدم لحوقه
إذا ولدت زوجة إنسان أو أمته مولودا يمكن كونه منه ; فإنه يلحقه نسبه ، ويكون ولدا له ، وذلك كأن تلده على فراشه ; لقوله صلى الله عليه وسلم : الولد للفراش
وإمكان كونه منه في حالات :
الحالة الأولى : أن تكون في عصمة زوجها ، وتلده بعد نصف سنة منذ أمكن وطؤه إياها واجتماعه بها ، سواء كان حاضرا أو غائبا ، وذلك لتحقق إمكان كونه منه ، ولم يوجد ما ينافي ذلك .
الحالة الثانية : أن لا تكون في عصمة زوجها ، وتلده لدون أربع سنين منذ أبانها ، فيلحقه نسب المولود ; لأن أكثر مدة الحمل أربع سنين ، فإذا ولدته لدون هذا الحد ; أمكن كونه ممن طلقها ، فيلحق به .
ويشترط لإلحاق الولد بالزوج أو المطلق في هاتين الحالتين : أن يكون كل منهما ممن يولد لمثله ; بأن يكون قد بلغ عشر سنين فأكثر ; لقوله صلى الله عليه وسلم : مروا أولادكم بالصلاة لسبع ، واضربوهم عليها لعشر ، وفرقوا بينم في المضاجع فأمره صلى الله عليه وسلم بالتفريق بين الأولاد في هذا السن دليل على إمكان الوطء ، وهو سبب الولادة ، فدل على أن ابن عشر سنين يمكن إلحاق النسب به ، وإن لم يحكم ببلوغه في هذا السن ; لأن الحكم بالبلوغ لا يتم إلا بتحقق علاماته ، وإنا اكتفينا بإمكان الوطء منه لإلحاق النسب به ; حفظا لنسب المولود واحتياطا له .
الحالة الثالثة : إذا طلق زوجته طلاقا رجعيا ، فتلد بعد مضي أربع سنين منذ طلقها ، وقبل انقضاء عدتها ; فإنه يلحقه نسب الولد ، وكذا لو ولدت مطلقته الرجعية قبل مضي أربع سنين من انقضاء عدتها ; فإنه يلحق نسب مولودا ، لأن الرجعية في حكم الزوجات ; فأشبه ما بعد الطلاق ما قبله .
ومن الأمور التي يلحق السيد بها مولود أمته : أن يعترف شخص بأنه قد وطئ أمته ، أو تقوم البينة عليه بذلك ، ثم تلد هذه الأمة لستة أشهر فأكثر من هذا الوطء الذي ثبت باعترافه أو بالبينة ; فإنه يلحقه نسب هذا المولود ; لأنها بذلك صارت فراشا له ، فتدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم : الولد للفراش
ومن ذلك : أن يعترف السيد بوطء أمته ، ثم يبيعها أو يعتقها بعد اعترافه بذلك ، وتلد لدون ستة أشهر من البيع أو العتق لها ، ويعيش المولود ; فإنه يلحقه نسبه ; لأنه أقل مدة الحمل ستة أشهر ، فإذا ولدت دونها ، وعاش مولودها ; فإنه بذلك يعلم أنها حملت به قبل أن يبيعها ، وهي حينذاك فراش له ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " الولد للفراش "
وينتفي كون الولد من الزوج في حالتين
الحالة الأولى : إذا ولدته لدون ستة أشهر منذ زواجها وعاش ; لأن هذه المدة لا يمكن أن تحمل وتلد فيها ، فتكون حينئذ حاملا به قبل أن يتزوجا .
الحالة الثانية : إذا طلقا طلاقا بائنا ، ثم تلد بعد مضي أكثر من أربع سنين من طلاقه لها ; فإنه لا يلحقه نسب ذلك المولود ; لأننا نعلم أنا حملت بعد ذلك النكاح .
ولا يلحق السيد نسب ولد أمته إذا ادعى أنه قد استبرأها بعد وطئه لها ; لأنه باستبرائه لها تيقن براءة رحمها منه ، فيكون هذا المولود من غيره ، والقول قوله في حصول الاستبراء ، لأنه أمر خفي لا يمكن الاطلاع عليه إلا بعسر ومشقة ، لكن لا يقبل قوله في ذلك ; إلا إذا حلف عليه ; لأنه بذلك ينكر حق الولد في النسب ; فلا بد من يمينه في ادعاء الاستبراء .
وإذا حصل إشكال في مولود ; فإنه يقدم الفراش على الشبه ; كأن يدعي سيد ولد أمته ، ويدعيه واطئ بشبهة ; فهو للسيد ، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم : الولد للفراش
ويتبع الولد في النسب أباه ; لقوله تعالى : ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ
ويتبع في الدين خير أبويه دينا ، فلو تزوج نصراني وثنية ، أو بالعكس ; فيكون الولد تابعا للنصراني منهما .
ويتبع الولد في الحرية والرق أمه ; إلا مع شرط أو غرر .
من هذا العرض السريع لأحكام لحوق النسب في ندرك حرص الإسلام على حفظ الأنساب ; لما يترتب على ذلك من الصالح ; لصلة الأرحام والتوارث والولاية وغير ذلك ; قال تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ فليس المقصود من معرفة الأنساب هو التفاخر والحمية الجاهلية ، وإنما المقصود به التعاون والتواصل والتراحم .
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه .
باب في أحكام العدة
أحكام العدة
من آثار الطلاق العدة ، ويراد بها التربص المحدود شرعا .
ودليلها الكتاب والسنة والإجماع :
- فأما الكتاب ; فقوله تعالى : وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وقوله تعالى : وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ هذا بالنسبة للمفارقة في الحياة ، وأما بالنسبة للوفاة ; فقد قال الله تعالى فيها : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا
- والدليل من السنة حديث عائشة رضي الله عنها ; قالت : أمرت بريرة أن تعتد بثلاث حيض رواه ابن ماجه ، ولغيره من الأحاديث .
وأما الحكمة في مشروعية العدة فهي استبراء رحم المرأة من الحمل ; لئلا يحصل اختلاط الأنساب ، وكذلك إتاحة الفرصة للزوج المطلق ليراجع إذا ندم وكان الطلاق رجعيا ، ومن الحكمة أيضا تعظيم عقد النكاح ، وأن له حرمة ، وتعظيم حق الزوج المطلق ، وفيها أيضا صيانة حق الحمل فيما لو كانت المفارقة حاملا . وبالجملة ; فالعدة حريم للنكاح السابق .
وأما من تلزمها العدة فالعدة تلزم كل امرأة فارقت زوجها بطلاق أو خلع أو فسخ أو مات عنها ; بشرط أن يكون الزوج المفارق لها قد خلا بها وهي مطاوعة مع علمه بها وقدرته على وطئها ، سواء كانت الزوجة حرة أو أمة ، وسواء كانت بالغة أو صغيرة يوطأ مثلها .
وأما من فارقها زوجها حيا بطلاق أو غيره قبل الدخول بها ; فلا عدة عليها ; لقوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ومعنى : " تعتدونها " أي : تحصونها بالأقراء أو الأشهر ، ومعنى : " تمسوهن " أي : تجامعوهن ; فدلت الآية الكريمة على أنه لا عدة على من طلقت قبل الدخول بها ، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم ، وذكر المؤمنات هنا من باب التغليب ; لأنه لا فرق بين الزوجات المؤمنات والكتابيات في هذا الحكم باتفاق أهل العلم .
أما المفارقة بالوفاة ; فتعتد مطلقا ، سواء كانت الوفاة قبل الدخول أو بعده ; لعموم قوله تعالى : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ولم يرد ما يخصصها .
وأما أنواع المعتدات فهن على سبيل الإجمال ست : الحامل ، والمتوفى عنها زوجها من غير حمل منه ، والحائل التي تحيض وقد فورقت في الحياة ، والحائل التي لا تحيض لصغر أو إياس وهي مفارقة في الحياة ، ومن ارتفع حيضها ولم تدر ما رفعه ، وامرأة المفقود ، وهاك بيان ذلك على التفصيل .
فالحامل تعتد بوضع الحمل ; سواء كانت مفارقة في الحياة أو بالموت ; لقوله تعالى : وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فدلت الآية الكريمة على أن عدة الحامل تنتهي بوضع حملها ، سواء كانت متوفى عنها أو مفارقة في الحياة ، وذهب بعض السلف إلى أن الحامل المتوفى عنها تعتد بأبعد الأجلين ، لكن حصل الاتفاق بعد ذلك على انقضاء عدتها بوضع الحمل .
- لكن ليس كل حمل تنقضي بوضعه العدة ، وإنما المراد الحمل الذي قد تبين فيه خلق إنسان ، فأما لو ألقت مضغة لم تتبين فيها الخلقة ; فإنها لا تنقضي بها العدة .
- وكذلك يشترط لانقضاء العدة بوضع الحمل أن يلحق هذا الحمل بالزوج المفارق ، فإن لم يلحق هذا الحمل الزوج المفارق ; لكون هذا الزوج لا يولد لمثله لصغره أو لمانع خلقي ، أو تكون قد ولدته لدون ستة أشهر منذ عقد عليها وأمكن اجتماعه بها وعاش هذا المولود ; فإنها لا تنقضي عدتها به منه ; لعدم لحوقه به .
- وأقل مدة الحمل ستة أشهر ; لقوله تعالى : وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا مع قوله تعالى : وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ فإذا أسقطنا مدة الرضاع - وهي حولان ; أي : أربعة وعشرون شهرا - من ثلاثين شهرا ; يبقى ستة أشهر ، وهي أقل مدة الحمل وما دونها لم يوجد من يعيش لدونها .
وأما أكثر مدة الحمل فموضع خلاف بين أهل العلم ، والراجح أنه يرجع فيه إلى الوجود ، قال الموفق ابن قدامة : " ما لا نص فيه ; يرجع فيه إلى الوجود ، وقد وجد لخمس سنين وأكثر " .
وغالب مدة الحمل تسعة أشهر ; لأن غالب النساء يلدن فيها ; فاعتبر ذلك .
- هذا وللحمل حرمة في الشريعة الإسلامية ; فلا يجوز الاعتداء عليه والإضرار به ، وإذا سقط ميتا بعدما نفخت فيه الروح بسبب الجناية عليه ; وجبت فيه الدية والكفارة ، وإذا وجب على الحامل حد شرعي من جلد أو رجم ; أخر تنفيذ الحد على أمه حتى تلد ، ولا يجوز لأمه أن تسقطه بشرب دواء ونحوه .
كل ذلك مما يدل على شمول هذه الشريعة ، وأنها تراعي حتى الأجنة في البطون ، وتجعل لهم حرمة ; فالحمد لله رب العالمين على هذه الشريعة الكاملة العادلة ، ونسأله أن يرزقنا التمسك بها والعمل بأحكامها ; مخلصين له الدين ولو كره الكافرون .
والمتوفى عنها إذا كانت غير حامل ; تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام ، سواء كانت وفاته قبل الدخول بها أو بعده ، وسواء كانت الزوجة ممن يوطأ مثلها أم لا ، وذلك لعموم قوله تعالى : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا
قال العلامة ابن القيم : " عدة الوفاة واجبة بالموت ، دخل أو لم يدخل بها ; لعموم القرآن والسنة واتفاق الناس ، وليس المقصود من عدة الوفاة استبراء الرحم ، ولا هي تعبد محض ; لأنه ليس في الشريعة حكم واحد ، إلا وله معنى وحكمة يعقله من عقله ويخفى على من خفي عليه " انتهى
وقال الوزير وغيره : اتفقوا على أن عدة المتوفى عنها زوجها ما لم تكن حاملا أربعة أشهر وعشر ، انتهى .
- والأمة المتوفى عنها تعتد نصف هذه المدة المذكورة ; فعدتها شهران وخمسة أيام بلياليها ; لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على تنصيف عدة الأمة في الطلاق ; فكذا عدة الموت .
قال الموفق ابن قدامة : " في قول عامة أهل العلم ، منهم : مالك ، والشافعي ، وأصحاب الرأي " ، وقال في " المبدع " : " أجمع الصحابة على أن عدة الأمة على النصف من عدة الحرة " ، وإلا ; فظاهر الآية العموم .
هذا ; ولعدة الوفاة أحكام تختص بها
- فمن أحكامها أنه يجب أن تعتد المتوفى عنها في المنزل الذي مات زوجها وهي فيه ; فلا يجوز لها أن تتحول عنه ، إلا لعذر ; لقوله صلى الله عليه وسلم : امكثي في بيتك وفي لفظ : اعتدي في البيت الذي أتاك فيه نعي زوجك وفي لفظ : حيث أتاك الخبر رواه أهل السنن.
- فإن اضطرت إلى التحول إلى بيت غيره : فإن خافت على نفسها من البقاء فيه أو حولت عنه قهرا أو كان البيت مستأجرا وحولها مالكه أو طلب أكثر من أجرته ; فإنها في هذه الأحوال تنتقل حيث شاءت دفعا للضرر .
- ويجوز للمعتدة من وفاة الخروج من البيت لحاجتها في النهار ، لا في الليل ; لأن الليل مظنة الفساد ، ولقوله صلى الله عليه وسلم للمعتدات من الوفاة : تحدثن عند إحداكن ، حتى إذا أردتن النوم ; فلتأت كل واحدة إلى بيتها
- ومن أحكام عدة المتوفى عنها وجوب الإحداد على المعتدة مدة العدة والإحداد : اجتنابها ما يدعو إلى جماعها ويرغب في النظر إليها .
قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله : " هذا من تمام محاسن هذه الشريعة وحكمتها ورعايتها على أكمل الوجوه ، فإن الإحداد على الميت من تعظيم مصيبة الموت التي كان أهل الجاهلية يبالغون فيها أعظم مبالغة ، وتمكث المرأة في أضيق بيت وأوحشه ، لا تمس طيبا ، ولا تدهن ، ولا تغتسل . . . إلى غير ذلك مما هو تسخط على الرب وأقداره ، فأبطل الله بحكمه سنة الجاهلية ، وأبدلنا به الصبر والحمد . ولما كانت مصيبة الموت لا بد أن تحدث للمصاب من الجزع والألم والحزن ما تتقاضاه الطباع ; سمح لها الحكيم الخبير في اليسير من ذلك ( يعني : لغير الزوجة ، وهو ثلاثة أيام ) ; تجد بها نوع راحة ، وتقضي بها وطرا من الحزن ، وما زاد ; فمفسدته راجحة ، فمنع منه . والمقصود أنه أباح لهن الإحداد على موتاهن ثلاثة أيام ، وأما الإحداد على الزوج ; فإنه تابع للعدة بالشهور ، وأما الحامل ; فإذا انقضى حملها ; سقط وجوب الإحداد ، وذكر أنه يستمر إلى حين الوضع ; فإنه من توابع العدة ، ولهذا قيد بمدتها ، وهو حكم من أحكام العدة ، وواجب من واجباتها ، فكان معها وجودا وعدها إلى أن قال : " وهو من مقتضياتها ومكملاتها ، وهي إنما تحتاج إلى التزين لتتحبب إلى زوجها ، فإذا مات وهي لم تصل إلى آخر ; اقتضى تمام حق الأول وتأكيد المنع من الثاني قبل بلوغ الكتاب أجله : أن تمنع مما تصنعه النساء لأزواجهن ; مع ما في ذلك من سد الذريعة إلى طمعها في الرجال وطمعهم فيها بالزينة " انتهى كلامه رحمه الله .
فيجب على المعتدة من الوفاة في هذا الإحداد أن تجتنب عمل الزينة في بدنها بالتحسين بالأصباغ والخضاب ونحوه ، وتتجنب لبس الحلي بأنواعه ، وتتجنب الطيب بسائر أنواعه ، وهو كل ما يسمى طيبا ، وتجتنب الزينة في الثياب ; فلا تلبس الثياب التي فيها زينة ، وتقتصر على الثياب التي لا زينة فيها ; فتجتنب كل ذلك مدة العدة .
- وليس للإحداد لباس خاص ، فتلبس المحدة ما جرت عادتا بلبسه ، ما لم يكن فيه زينة .
- وإذا خرجت من العدة ; لم يلزمها أن تفعل شيئا أو تقول شيئا ; كما يظنه بعض العوام .
وعدة الآيسة ثلاثة أشهر ; لقوله تعالى : وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ .
والمطلقة إذا كانت تحيض ، ولم يكن فيها حمل ; تعتد بثلاث حيض لقوله تعالى : وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ أي : والمطلقات ينتظرن بأنفسهن وتمكث إحداهن بعد طلاق زوجها " ثلاثة قروء " أي : ثلاث حيض ، ثم بعد ذلك تتزوج إن شاءت ، وتفسير الأقراء بالحيض مروي عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم ، ولأنه ورد تفسير الأقراء بالحيض في لسان الشرع ; ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمستحاضة : فإذا أتى قرؤك ; فلا تصلي
- ولا بد أن تكون الحيض كاملة ; فلا تعتد بحيضة طلقت فيها ; فالطلاق في الحيض يقع مع التحريم ، لكن لا تعتد بتلك الحيضة التي طلقت فيها .
- وإن كانت المطلقة أمة ; اعتدت بحيضتين ; لما روي : قرء الأمة حيضتان ولأن هذا قول عمر وابنه وعلي بن أبي طالب ، ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة ، ويكون ذلك مخصصا لعموم قوله تعالى : وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وكان القياس أن تكون عدتها حيضة ونصف حيضة ، لكن الحيض لا يتبعض ، فصارت حيضتين .
وأما المطلقة الآيسة من الحيض لكبرها والصغيرة التي لم تحض بعد ; فإنها تعتد بثلاثة أشهر ; لقوله تعالى : وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ أي : واللائي لم يحضن من نسائكم فعدتهن ثلاثة أشهر .
قال الإمام موفق الدين ابن قدامة وغيره : " أجمع أهل العلم على أن عدة الحرة الآيسة والصغيرة التي لم تحض ثلاثة أشهر " .
ومن بلغت ولم تحض ; اعتدت عدة الآيسة ، ثلاثة أشهر ، لدخولها في عموم قوله تعالى : وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ، وإن كانت المطلقة الآيسة أو الصغيرة أم ولد ; فعدتها شهران ; لقول عمر رضي الله عنه : عدة أم الولد حيضتان ، ولو لم تحض ; كانت عدتها شهرين وذلك لأن الأشهر بدل من القروء ، وذهب بعض العلماء إلى أن عدتها شهر ونصف ; لأن عدة الأمة نصف عدة الحرة ، وعدة الحرة التي لا تحيض ثلاثة أشهر ، فتكون عدة الأمة الأيسة شهرا ونصف شهر .
وأما المطلقة التي كانت تحيض ، ثم ارتفع حيضها ، وانقطع انقطاعا طارئا لا لكبر فهذه لها حالتان :
الحالة الأولى : أن لا تعلم السبب الذي منع حيضها ; فهذه عدتها سنة : تسعة أشهر للحمل ، وثلاثة أشهر للعدة ( أي : عدة الآيسة ) .
قال الإمام الشافعي رحمه الله : " هذا قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار ، لا ينكره منهم منكر علمناه ، ولأن الغرض من العدة هو العلم ببراءة رحمها من الحمل ، فإذا مضت تسعة الأشهر ; دلت على براءة رحمها منه ، فتعتد حينئذ عدة الآيسة ثلاثة أشهر ، فيكون المجموع اثني عشر شهرا ، وبها يحصل العلم ببراءة رحمها من الحمل والحيض ".
الحالة الثانية : أن تعلم السبب الذي به ارتفع حيضها ; كالمرض والرضاع وتناول الدواء الذي يرفع الحيض ; فهذه تنتظر زوال ذلك المانع ، فإن عاد الحيض بعد زواله ; اعتدت به ، وإن زال المانع ولم يعد الحيض ; فالصحيح أنها تعتد سنة كالتي ارتفع حيضها ولم تدر سبب رفعه ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، وهو رواية عن الإمام أحمد .
وأما المستحاضة ، فلها حالات :
الحالة الأولى : أن تكون تعرف قدر أيام عادتها قبل الاستحاضة ، وتعرف وقتها ; فهذه تنقضي عدتها بمضي المدة التي يحصل لها بها مقدار ثلاث حيض حسب أيام عادتها .
الحالة الثانية : أن تنسى أيام عادتها ، ولكن يكون دمها متميزا ; فهذه تعتبر الدم المتميز حيضا تعتد به إن صلح أن يكون حيضا .
الحالة الثالثة : أن تنسى عادتها وليس لها تمييز يعتبر ; فهذه تعتد عدة الآيسة ثلاثة أشهر .
ومن الأحكام المتعلقة بالعدة مسألة خطبة المعتدة فالمعتدة من وفاة والمعتدة البائن بطلاق يحر التصريح بخطبتهما ; كقوله : أريد أن أتزوجك ونحوه ; دون التعريض ، كأن يقول لها : إني في مثلك لراغب ; لقوله تعالى : وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ ، ويباح للرجل أن يخطب من أبانها دون الثلاث ومن طلقها طلاقا رجعيا تصريحا وتعريضا ; لأنه يباح له أن يتزوج من أبانها دون الثلاث ، وأن يراجع مطلقته الرجعية ما دامت في عدتها .
وأما زوجة المفقود - وهو من انقطع خبره ، فلم تعلم حياته ولا موته - ; فتنتظر زوجته قدومه أو تبين خبره في مدة يضربها القاضي تكون كافية للاحتياط في شأنه ، وتبقى في عصمته في تلك المدة ; لأن الأصل حياته ، فإذا تمت مدة الانتظار المضروبة ; حكم بوفاته ، واعتدت زوجته عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام ، وقد حكم الصحابة رضي الله عنهم بذلك .
قال الإمام ابن القيم : " حكم الخلفاء في امرأة المفقود كما ثبت عن عمر ، وقال أحمد : ما في نفسي شيء منه ، خمسة من الصحابة أمروا أن تتربص " .
قال ابن القيم : " قول عمر هو أصح الأقوال وأحراها بالقياس . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : هو الصواب " انتهى .
فإذا انتهت عدتها ; حلت للأزواج ، ولا تفتقر إلى طلاق ولي زوجها بعد اعتدادها للوفاة ، فإن تزوجت ، وقدم زوجها الأول ; فالصحيح أنه يخير بين استرجاعها وبين إمضاء تزوجها من الثاني ، ويأخذ صداقه ، سواء كان قدومه بعد دخول الزوج الثاني أو قبله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " الصواب في امرأة المفقود مذهب عمر وغيره من الصحابة ، وهو أنها تتربص أربع سنين ، ثم تعتد للوفاة ، ويجوز لها أن تتزوج بعد ذلك ، وهي زوجة الثاني ظاهرا وباطنا ، ثم إذا قدم زوجها الأول بعد تزوجها ; خير بين امرأته وبين مهرها ، ولا فرق بين ما قبل الدخول وبعده ، وهو ظاهر مذهب أحمد " ، ثم قال : " والتخيير فيه بين المرأة والمهر هو أعدل الأقوال " انتهى .
باب في الاستبراء
الاستبراء هو تربص يقصد منه العلم ببراءة رحم ملك يمين ، مأخوذ من البراءة ، وهي التمييز والقطع . فمن ملك أمة يوطأ مثلها ببيع أو هبة أو سبي أو غير ذلك ; حرم عليه وطؤها ومقدماته قبل استبرائها ; لقوله صلى الله عليه وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فلا يسقي ماءه زرع غيره رواه أحمد والترمذي وأبو داود ، وفي حديث آخر رواه أبو داود : لا توطأ حامل حتى تضع
واستبراء الأمة الحامل ينتهي بوضع الحمل ; لعموم قوله تعالى : وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ
وغير الحامل إن كانت تحيض ، فاستبراؤها بحيضة ، لقوله صلى الله عليه وسلم في سبي أوطاس : لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة رواه أحمد وأبو داود ; فدل هذا الحديث على وجوب استبراء الأمة المسبية وغيرها قبل وطئها ، ودل على بيان ما تستبرأ به الحامل والحائض من المسبيات.
وأما الأمة الآيسة من الحيض والأمة الصغيرة ; فتستبرآن بمضي شهر ; لقيام الشهر مقام الحيضة في العدة .
والحكمة في استبراء الأمة قبل وطئها يبينها قوله صلى الله عليه وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ; فلا يسقي ماءه زرع غيره فبين أن الغرض من الاستبراء تجنب اختلاط المياه واشتباه الأنساب .
بسم الله الرحمن الرحيم
باب في أحكام الرضاع
قال تعالى في سياق بيان المحرمات من النساء : وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ
وفي " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب .وقوله صلى الله عليه وسلم : يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة رواه الجماعة .
والرضاع لغة : مص اللبن من الثدي أو شربه ، وشرعا : هو مص من دون الحولين لبنا ثاب عن حمل أو ضربه أو نحوه .
والرضاع حكمه حكم النسب في النكاح والخلوة والمحرمية وجواز النظر على ما يأتي تفصيله . ولكن لا تثبت له هذه الأحكام إلا بشرطين :
الشرط الأول : أن يكون خمس رضعات فأكثر لحديث عائشة رضي الله عنها ; قالت : أنزل في القرآن : عشر رضعات معلومات يحرمن ، فنسخ من ذلك خمس رضعات ، وصار إلى خمس رضعات معلومات يحرمن ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك رواه مسلم ، وهذا من نسخ التلاوة دون الحكم ، وهو مبين لما أجمل في الآية والأحاديث في موضوع الرضاع .
الشرط الثاني : أن تكون خمس الرضعات في الحولين ; لقوله تعالى : وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ فدلت هذه الآية الكريمة على أن الرضاع المعتبر ما كان في الحولين ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : لا يحرمن الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام قال الترمذي : " حديث حسن صحيح " ، ومعناه أنه لا يحرم من الرضاع إلا ما وصل إلى الأمعاء ووسعها ; فلا يحرم القليل الذي لم ينفذ إليها ويوسعها ، ولا يحرم إلا ما كان قبل الفطام ; أي : ما كان في زمن الصغر ، وقام مقام الغذاء ; فالذي يثبت الحرمة حيث يكون الرضيع طفلا يسد اللبن جوعه وينبت لحمه ، فيكون ذلك جزءا منه .
وحد الرضعة أن يمتص الثدي ثم يقطع امتصاصه لتنفس أو انتقال من ثدي لآخر أو لغير ذلك ; فيحتسب له بذلك رضعة ، فإن عاد ; فرضعتان . . . وهكذا ; ولو في مجلس واحد ، وذلك لأن الشارع اعتبر عدد الرضعات ولم يحدد الرضعة ، فيرجع في تحديدها إلى العرف .
ولو وصل اللبن إلى جوف الطفل بغير الرضاع فحكمه حكم الرضاع ; كما لو قطر في فمه أو أنفه ، أو شربه من إناء ونحوه ; أخذ ذلك حكم الرضاع ; لأنه يحصل به ما يحصل بالرضاع من التغذية ; بشرط أن يحصل من ذلك خمس مرات .
وأما ما ينشره الرضاع من الحرمة فمتى أرضعت امرأة طفلا دون الحولين خمس رضعات فأكثر ; صار المرتضع ولدها في تحريم نكاحها عليه وفي إباحة نظره إليها وخلوته بها ، ويكون محرما لها ; لقوله تعالى : وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ولا يكون ولدا لها في بقية الأحكام ; فلا تجب نفقتها عليه ، ولا توارث بينهما ، ولا يعقل عنها ، ولا يكون وليا لها ; لأن النسب أقوى من الرضاع ; فلا يساويه إلا فيما ورد فيه النص ، وهو التحريم ، وما يتفرع عليه من المحرمية والخلوة .
ويصير المرتضع ولدا لمن ينسب لبنها إليه بسبب حملها منه ، أو بسبب وطئه لها بنكاح أو شبهه ; للحوق نسب الحمل به في تلك الأحوال ، والرضاع فرع عنه ، فيكون المرتضع ولدا له في الأحكام المذكورة في حق المرضعة فقط ، وهي تحريم النكاح وجواز النظر والخلوة والمحرمية دون بقية الأحكام .
وتكون محارم من نسب إليه اللبن كآبائه وأولاده وأمهاته وأجداده وجداته وإخوته وأخواته وأولادهم وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته يكونون محارم للمرتضع ، وتكون محارم المرضعة كآبائها وأولادها وأمهاتها وأخواتها وأعمامها ونحوهم محارم للمرتضع .
وكما تثبت الحرمة على المرتضع تنتشر كذلك على فروعه من أولاده وأولاد أولاده دون أصوله وحواشيه ; فلا تنتشر الحرمة على من هو أعلى منه من آبائه وأمهاته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته ، كما لا تنتشر إلى من هو في درجته من حواشيه وهم إخوانه وأخواته .
ومن رضع من لبن امرأة موطوءة بعقد باطل أو بزنا صار ولدا للمرضعة فقط ; لأنه لما لم تثبت الأبوة من النسب ، لم يثب من الرضاع ، وهو فرعها .
ولبن البهيمة لا يحرم ، فلو ارتضع طفلان من بهيمة لم ينشر الحرمة بينهما .
واختلف في لبن المرأة إذا در لها لبن بدون حمل وبدون وطء تقدم ، ورضع منه طفل فقيل : لا ينشر الحرمة ; لأنه ليس بلبن حقيقة ، بل رطوبة متولدة ، ولأن اللبن ما أنشز العظم وأنبت اللحم ، وهذا ليس كذلك ، والقول الثاني : أنه ينشر الحرمة ، واختاره الموفق وغيره .
ويثبت الرضاع بشهادة امرأة مرضية في دينها .
قال شيخ الإسلام : " إذا كانت معروفة بالصدق ، وذكرت أنها أرضعت طفلا خمس رضعات ; قبل على الصحيح ، ويثبت حكم الرضاع " انتهى .
وإن شك في وجود الرضاع ، أو شك في كماله خمس رضعات ، وليس هناك بينة فلا تحريم ; لأن الأصل عدم الرضاع ، والله أعلم .
باب في أحكام الحضانة
الحضانة مشتقة من الحضن ، وهو الجنب ; لأن المربي يضم الطفل إلى حضنه ، والحاضنة هي المربية . هذا معناها لغة .
وأما معناها شرعا ; فهي حفظ - صغير ونحوه عما يضره وتربيته بعمل مصالحه البدنية والمعنوية .
والحكمة فيها ظاهرة ، ذلك أن الصغير ومن في حكمه ممن لا يعرف مصالحه كالمجنون والمعتوه يحتاج إلى من يتولاه ويحافظ عليه بجلب منافعه ودفع المضار عنه وتربيته التربية السليمة ،
وقد جاءت شريعتنا بتشريع الحضانة لهؤلاء ; رحمة بهم ، ورعاية لشئونهم ، وإحسانا إليهم ; لأنهم لو تركوا ; لضاعوا وتضرروا ، وديننا دين الرحمة والتكافل والمواساة ، ينهى عن إضاعتهم ، ويوجب كفالتهم ، وهي حق للمحضون على قرابته ، وحق للحاضن بتولي شئون قريبه كسائر الولايات .
وهي تجب للحاضنين على الترتيب :
- فأحق الناس بالحضانة الأم :
قال الإمام موفق الدين بن قدامة رحمه الله : " إذا افترق الزوجان ولهما ولد طفل أو معتوه ; فأمه أولى الناس بكفالته إذا كملت الشرائط فيها ، ذكرا كان أو أنثى ، وهو قول مالك وأصحاب الرأي ، ولا نعلم أحدا خالفهم " انتهى .
- فإذا تزوجت الأم ; انتقلت الحضانة منها إلى غيرها ، وسقط حقها فيها ; لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاءته امرأة ، فقالت : يا رسول الله ! إن ابني هذا كان بطني له وعاء ، وثديي له سقاء ، وحجري له حواء ، وإن أباه طلقني ، وأراد أن ينزعه مني ؟ فقال : لأنت أحق به ما لم تنكحي رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه ; فدل الحديث على أن الأم أحق بحضانة ولدها إذا طلقها أبوه وأراد انتزاعه منها ، وأنها إذا تزوجت ; سقط حقها من الحضانة .
وتقديم الأم في حضانة ولدها لأنها أشفق عليه وأقرب إليه ، ولا يشاركها في القرب إلا أبوه ، وليس له مثل شفقتها ، ولا يتولى الحضانة بنفسه ، وإنما يدفعه إلى امرأته ، وأمه أولى به من امرأة أبيه ، وقال ابن عباس لرجل : " ريحها وفراشها وحجرها خير له منك حتى يشب ويختار لنفسه "
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " الأم أصلح من الأب ; لأنها أوثق بالصغير ، وأخبر بتغذيته وحمله وتنويمه وتنويله ، وأخبر وأرحم به ، فهي أقدر وأخبر وأصبر في هذا الموضع ; فتعينت في حق الطفل غير المميز بالشرع " انتهى .
- ثم بعد سقوط حق الأم للحضانة تنتقل إلى أمهاتها جدات الطفل القربى فالقربى ; لأنهن في معنى الأم ; لتحقق ولادتهن وشفقتهن على المحضون أكمل من غيرهن .
- ثم بعد الجدات اللاتي من قبل الأم تنتقل الحضانة إلى أبي الطفل ; لأنه أصل النسب ، وأقرب من غيره ، وأكمل شفقة ; فقدم على غيره .
- ثم بعد سقوط حق الأب من الحضانة تنتقل إلى أمهات الأب - أي : الجدات من قبل الأب القربى فالقربى - ; لأنهن يدلين بعصبة قريبة ، وقدمن على الجد ، لأن الأنوثة مع التساوي توجب الرجحان ; كما قدمت الأم على الأب .
- ثم بعد سقوط حق الجدات من قبل الأب في الحضانة تنتقل إلى الجد من قبل الأب ، الأقرب فالأقرب ; لأنه في معنى أبي المحضون ، فينزل منزلته .
- ثم بعد الجد تنتقل الحضانة إلى أمهات الجد القربى فالقربى ; لأنهن يدلين بالجد ، ولما فيهن من وصف الولادة ; فالمحضون بعض منهن .
- ثم بعد أمهات الجد تنتقل الحضانة إلى أخوات المحضون ; لأنهن يدلين بأبويه أو بأحدهما ، فتقدم الأخت لأبوين لقوة قرابتها ولتقدمها في الميراث ، ثم الأخت لأم ; لأنها تدلي بالأمومة ، والأم مقدمة على الأب ، ثم الأخت لأب ، وقيل : الأولى تقديم الأخت لأب على الأخت لأم ; لأن الولاية للأب ، وهي أقوى في الميراث ، لأنها أقيمت فيه مقام الأخت لأبوين عند عدمها ، وهذا وجيه .
- ثم بعد الأخوات تنتقل الحضانة إلى الخالات ; لأن الخالات يدلين بالأم ، ولما في " الصحيحين " ; أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الخالة بمنزلة الأم وتقدم خالة لأبوين ، ثم خالة لأم ، ثم خالة لأب ; كالأخوات .
- ثم بعد الخالات تنتقل إلى العمات ; لأنهن يدلين بالأب ، وهو مؤخر عن الأم .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " العمة أحق من الخالة ، وكذا نساء الأب أحق ، فيقدمن على نساء الأم ; لأن الولاية للأب ، وكذا أقاربه ، وإنما قدمت الأم على الأب لأنه لا يقوم مقامها هنا أحد في مصلحة الطفل ، وإنما قدم الشارع خالة بنت حمزة على عمتها صفية ; لأن صفية لم تطلب ، وجعفر طلب نائبا عن خالتها ، فقضى لها بها في غيبتها " .
وقال رحمه الله : " مجموع أصول الشريعة تقديم أقارب الأب على أقارب الأم ، فمن قدمهن في الحضانة ; فقد خالف الأصول والشريعة " انتهى .
- ثم بعد العمات تنتقل الحضانة إلى بنات الإخوة .
- ثم بعدهن إلى بنات الأخوات .
- ثم بعد بنات الإخوة وبنات الأخوات تنتقل الحضانة إلى بنات الأعمام .
- ثم إلى بنات العمات .
- ثم بعدهن تنتقل الحضانة لباقي العصبة الأقرب فالأقرب ; الإخوة ثم بنوهم ، ثم الأعمام ، ثم بنوهم .
فإن كانت المحضونة أنثى ; اشترط كون الحاضن من محارمها ، فإن لم يكن محرما لها ; سلمها إلى ثقة يختارها .
باب في موانع الحضانة
من موانع الحضانة الرق ; فلا حضانة لمن فيه رق ، ولو قل ; لأن الحضانة ولاية ، والرقيق ليس من أهل الولاية ، ولأنه مشغول بخدمة سيده ، ومنافعه مملوكة لسيده .
ولا حضانة لفاسق ; لأنه لا يوثق به فيها ، وفي بقاء المحضون عنده ضرر عليه ; لأنه يسيء تربيته ، وينشئه على طريقته .
ولا حضانة لكافر على مسلم ; لأنه أولى بعدم الاستحقاق من الفاسق ; لأن ضرره أكثر ; فإنه يفتن المحضون في دينه ويخرجه عن الإسلام بتعليمه الكفر وتربيته عليه .
ولا حضانة لمزوجة بأجنبي من محضون ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم لوالدة الطفل : أنت أحق به ما لم تنكحي ولأن الزوج يملك منافعها ، ويستحق منعها من الحضانة ، والمراد بالأجنبي هنا من ليس من عصبات المحضون ، فلو تزوجت بقريب محضونها ; لم تسقط حضانتها .
فإن زال أحد هذه الموانع ; بأن عتق الرقيق ، وتاب الفاسق ، وأسلم الكافر ، وطلقت المزوجة ; رجع من زال عنه المانع من هؤلاء إلى حقه في الحضانة ; لوجود سببها ، مع انتفاء المانع منها .
وإذا أراد أحد أبوي المحضون سفرا طويلا ، ولم يقصد به المضارة ، إلى بلد بعيد ليسكنه ، وهو وطريقه آمنان ، فالحضانة تكون للأب ، سواء كان هو المسافر أو المقيم ; لأنه هو الذي يقوم بتأديب ولده والمحافظة عليه ، فإذا كان بعيدا عنه ; لم يتمكن من ذلك ، وضاع الولد .
وإن كان السفر إلى بلد قريب دون مسافة القصر لغرض السكنى فيه ; -354- فالحضانة للأم ، سواء كانت هي المسافرة أو المقيمة ; لأنها أتم شفقة على المحضون ، ولأنه يمكن لأبيه الإشراف عليه في تلك الحالة .
أما إذا كان السفر لحاجة ، ثم يرجع ، أو كان الطريق أو البلد المسافر إليه مخوفين ; فإن الحضانة تكون للمقيم منهما ; لأن في السفر بالمحضون إضرارا به في هاتين الحالتين .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : " لو أراد الم ضرار والاحتيال على إسقاط حضانة الأم ، فسافر ليتبعه الولد ; فهذه حيلة مناقضة لما قصده الشارع ; فإنه جعل الأم أحق بالولد من الأب مع قرب الدار وإمكان اللقاء كل وقت . . . " .
إلى أن قال : " وأخبر ( يعني : النبي صلى الله عليه وسلم ) أن من فرق بين والدة وولدها ; فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة ، ومنع أن تباع الأم دون ولدها والولد دونها ، وإن كانا في بلد واحد ، فكيف يجوز مع هذا التحيل على التفريق بينها وبين ولدها تفريقا تعز معه رؤيته ولقاؤه ، ويعز عليها الصبر عنه وفقده ، هذا من أمحل المحال ، بل قضاء الله ورسوله أحق ; أن الولد للأم ، سافر الأب أو أقام ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال : أنت أحق به ما لم تنكحي فكيف يقال : أنت أحق به ما لم يسافر الأب ؟ وأين هذا في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو فتاوى أصحابه أو القياس الصحيح ؟ فلا نص ولا قياس ولا مصلحة " انتهى .
تخيير الغلام بين أبويه
وأما تخيير الغلام بين أبويه فيحصل عند بلوغه السابعة من عمره ، فإذا بلغ سبع سنين وهو عاقل ; فإنه يخير بين أبويه ، فيكون عند من اختار منهما ، قضى بذلك عمر وعلي رضي الله عنهما ، وروى الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : إن زوجي يريد أن يذهب بابني . فقال : يا غلام ! هذا أبوك وهذه أمك ; فخذ بيد أيهما شئت . فأخذ بيد أمه ، فانطلقت به فدل الحديث على أن الغلام إذا استغنى بنفسه ; -355- يخير بين أبويه ; فإنه إذا بلغ حدا يستطيع معه أن يعرب عن نفسه ، فمال إلى أحد الأبوين ; دل على أنه أرفق به وأشفق عليه ، فقدم لذلك .
ولا يخير إلا بشرطين :
أحدهما : أن يكون الأبوان من أهل الحضانة .
والثاني : أن يكون الغلام عاقلا ، فإن كان معتوها ; بقي عند الأم ; لأنها أشفق عليه وأقوم بمصالحه .
وإذا اختار الغلام العاقل أباه ; صار عنده ليلا ونهارا ; ليحفظه ويعلمه ويؤدبه ، لكن لا يمنعه من زيارة أمه ; لأن منعه من ذلك تنشئة له على العقوق وقطيعة الرحم ، وإن اختار أمه ; صار عندها ليلا وعند أبيه نهارا ; ليعلمه ويؤدبه ، وإن لم يختر واحدا منهما ; أقرع بينهما ; لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر إلا بالقرعة .
والأنثى إذا بلغت سبع سنين ; فإنها تكون عند أبيها إلى أن يتسلمها زوجها ; لأنه أحفظ لها وأحق بولايتها من غيره ، ولا تمنع الأم من زيارتها مع عدم المحذور ، فإن كان الأب عاجزا عن حفظ البنت أو لا يبالي بها لشغله أو قلة دينه ، والأم تصلح لحفظها ; فإنها تكون عند أمها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وأحمد وأصحابه إنما يقدمون الأب إذا لم يكن عليها في ذلك ضرر ، فلو قدر أنه عاجز عن حفظها وصيانتها ، ويهملها لاشتغاله عنها ، والأم قائمة بحفظها وصيانتها ; فإنها تقدم في هذه الحال ، فمع وجود فساد أمرها مع أحدهما ; فالآخر أولى بها بلا ريب " .
وقال رحمه الله : " وإذا قدر أن الأب تزوج بضرة ، وهو يتركها عند ضرة أمها ، لا تعمل مصلحتها ، بل تؤذيها وتقصر في مصلحتها ، وأمها تعمل مصلحتها ولا تؤذيها ; فالحضانة هنا للأم قطعا " انتهى ، والله أعلم .
باب في نفقة الزوجة
النفقات جمع نفقة ، وهي لغة : الدراهم ونحوها من الأموال ، وشرعا : كفاية من يمؤنه بالمعروف قوتا وكسوة ومسكنا وتوابعها .
وأول ما يجب على الإنسان النفقة على زوجته ، . فيلزم الزوج نفقة زوجته قوتا وكسوة وسكنى بما يصلح لمثلها ،
قال تعالى : لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وقال تعالى : وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف رواه مسلم وأبو داود .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ويدخل في وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ جميع الحقوق التي للمرأة وعليها ، وأن مرد ذلك إلى ما يتعارفه الناس بينهم ، ويجعلونه معدودا ، ويتكرر " انتهى .
ويعتبر الحاكم تقدير نفقة الزوجة بحال الزوجين يسارا وإعسارا أو يسار أحدهما وإعسار الآخر عند التنازع بينهما :
فيفرض للموسرة تحت الموسر من النفقة قدر كفايتها مما تأكل الموسرة تحت الموسر في محلهما ، ويفرض لها من الكسو ما يلبس مثلها من الموسرات بذلك البلد ، ومن الفرش والأثاث كذلك ما يليق بمثلها في ذلك البلد . ويفرض للفقيرة تحت الفقير من القوت والكسو والفرش والأثاث ما يليق بمثلها في البلد . ويفرض للمتوسطة مع المتوسط والغنية تحت الفقير والفقير تحت الغني ما بين الحد الأعلى - وهو نفقة الموسرين - والحد الأدنى - وهو نفقة الفقيرين - بحسب العرف والعادة ، لأن ذلك هو اللائق بحالهما .
وعلى الزوج مؤونة نظافة زوجته من دهن وسدر وصابون ومن ماء للشرب والطهارة والنظافة .
وما ذكر هو ما إذا كانت الزوجة في عصمته ،
أما إذا طلقها وصارت في العدة : فإن كان طلاقا رجعيا ; فإنها تجب نفقتها عليه ما دامت في العدة كالزوجة ; لأنها زوجة ; بدليل قوله تعالى : وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ
وأما المطلقة البائن بينونة كبرى أو بينونة صغرى ; فلا نفقة لها ولا سكنى ; لما في " الصحيحين " من حديث فاطمة بنت قيس : طلقها زوجها ألبتة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : لا نفقة لك ولا سكنى
قال العلامة ابن القيم رحمه الله : " المطلقة البائن لا نفقة لها ولا سكنى بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة ، بل الموافقة لكتاب الله ، وهي مقتضى القياس ، ومذهب فقاء الحديث " انتهى .
إلا أن تكون المطلقة البائن حاملا ; فلها النفقة ; لقوله تعالى : وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وقوله تعالى : أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ولقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس : لا نفقة لك ; إلا أن تكوني حاملا ولأن الحمل ولد للمطلق ، فلزمه الإنفاق عليه ، ولا يمكنه ذلك إلا بالإنفاق على أمه .
قال الموفق وغيره : " وهذا بإجماع أهل العلم ، لكن اختلف العلماء هل النفقة للحمل أو للحامل من أجل الحمل " .
ويتفرع على القولين أحكام كثيرة موضعها كتب الفقه والقواعد الفقهية .
وتسقط نفقة الزوجة عن زوجها بأسباب متعددة :
- منها : إذا حبست عنه ; سقطت نفقتها ; لفوات تمكنه من الاستمتاع بها ، والنفقة إنما تجب في مقابل الاستمتاع .
- ومنها : إذا نشزت عنه ; فإنها تسقط نفقتها ، والنشوز هو معصيتها إياه فيما يجب عليها له ، كما لو امتنعت من فراشه ، أو امتنعت من الانتقال معه إلى مسكن يليق بها ، أو خرجت من منزله بغير إذنه ; فلا نفقة لها في هذه الأحوال ; لأنها تعتبر ناشزا ، لا يتمكن من الاستمتاع بها والنفقة في نظير تمكينها من الاستمتاع .
- ومنها : لو سافرت لحاجتها ; فإنها تسقط نفقتها ، لأنها بذلك منعت نفسها منه بسبب لا من جهته ، فسقطت نفقتها .
والمرأة المتوفى عنها لا نفقة لها من تركة الزوج ; لأن المال انتقل من الزوج إلى الورثة ، ولا سبب لوجوب النفقة عليها ، فتكون نفقتها على نفسها ، أو على من يمونها إذا كانت فقيرة .
وإن كانت المتوفى عنها حاملا ; وجبت نفقتها في حصة الحمل من التركة إن كان للمتوفى تركة ، وإلا وجبت نفقتها على وارث الحمل الموسر .
وإذا اتفق الزوجان على دفع قيمة النفقة أو اتفقا على تعجيلها أو على تأخيرها مدة طويلة أو قليلة جاز ذلك ; لأن الحق لهما ، وإن اختلفا ; وجب دفع نفقه كل يوم من أوله جاهزة ، وإن اتفقا على دفعها حبا ; جاز ذلك ; لاحتياجه إلى كلفة ومؤنة ، فلا يلزمها قبوله إلا برضاها .
وتجب لها الكسوة كل عام من أوله ، فيعطيها كسوة السنة ، ومن غاب عن زوجته ولم يترك لها نفقة ، أو كان حاضرا ولم ينفق عليها ; لزمته نفقة ما مضى ; لأنه حق يجب مع اليسار والإعسار ، فلم يسقط بمضي الزمان .
ويبدأ وقت وجوب نفقة الزوجة على زوجها من حين تسليم نفسها له ، فإن أعسر بالنفقة ; فلها فسخ نكاحا منه ; لحديث أبي هريرة مرفوعا : في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته ، قال : يفرق بينهما رواه الدارقطني ، ولقوله تعالى : فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وليس الإمساك مع ترك النفقة إمساكا بمعروف .
وإن غاب زوج موسر ، ولم يدع لامرأته نفقة ، وتعذر أخذها من ماله أو استدانتها عليه فلها الفسخ بإذن الحاكم ، فإن قدرت على ماله ; أخذت قدر كفايتها ; لما في " الصحيحين " ، أنه صلى الله عليه وسلم قال لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف لما ذكرت له أن زوجها لا يعطيها ما يكفيها وولدها .
ومن هذا وغيره ندرك كمال هذه الشريعة ، وإعطاءها كل ذي حق حقه ، شأنها في كل تشريعاتها الحكيمة ; فقبح الله قوما يعدلون عنها إلى غيرها من القوانين الكفرية ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
باب في نفقة الأقارب والمماليك
المراد هنا بأقارب الإنسان كل من يرثه بفرض أو تعصيب ، والمراد بالمماليك ما تحت ملك الإنسان من الأرقاء والبهائم .
ويشترط لوجوب الإنفاق على القريب إذا كان من عمودي النسب ، وهم والدا المنفق وأجداده وإن علوا وأولاده وإن نزلوا :
- أن يكون المنفق عليه منهم فقيرا لا يملك شيئا ، أو لا يملك ما يكفيه ، ولا يقدر على التكسب .
- وأن يكون المنفق غنيا ، عنده ما يفضل عن قوته وقوت زوجته ومملوكه .
- وأن يكون المنفق والمنفق عليه على دين واحد .
وإن يكون المنفق عليه من غير أولاد المنفق وآبائه ; اشترط زيادة على ذلك كون المنفق وارثا للمنفق عليه .
والدليل على وجوب نفقة الوالدين على ولدهما قوله تعالى : وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ومن الإحسان الإنفاق عليهما ، بل ذلك من أعظم الإحسان إلى الوالدين .
والدليل على وجوب نفقة الأولاد على أبيهم قوله تعالى : وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي : وعلى المولود له ، وهو الأب . " رزقهن " ; أي : طعام الوالدات . " وكسوتهن " ; أي : لباسهن . " بالمعروف " ; أي : بما جرت به عادة أمثالهن في بلدن على قدر الميسرة من غير إسراف ولا إقتار ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف
والدليل على وجوب نفقة القريب الذي يرثه المنفق بفرض أو تعصيب قوله تعالى : وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ ولأن بين المتوارثين قرابة تقتضي كون الوارث أحق بمال الموروث من سائر الناس ; فينبغي أن يختص بوجوب صلته بالنفقة دون غيره ممن لا يرث .
وفي هذه الآية ، وهي قوله تعالى : وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ أي : على وارث الولد غير والده - الذي يكون بحيث لو مات هذا الولد وله مال ورثه - من الإنفاق على الطفل مثل ما على والده من ذلك .
وقال تعالى : وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ
وغير ذلك من الأدلة الدالة على وجوب نفقة الأقارب المحتاجين على قريبهم الغني .
وروى أبو داود ; أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم : من أبر ؟ قال : أمك وأباك ، وأختك وأخاك وللنسائي وصححه الحاكم من حديث طارق المحاربي : وابدأ بمن تعول : أمك وأباك ، وأختك وأخاك ، ثم أدناك أدناك وهذا الحديث يفسر قوله تعالى : وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ
والوالد تجب عليه نفقة ولده كاملة ، ينفرد بها ، لقوله صلى الله عليه وسلم لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف فدل هذا الحديث الشريف على انفراد الأب بنفقة ابنه ، مع قوله تعالى : وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وقوله : فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فأوجب على الأب نفقة الرضاع دون أمه .
أما الفقير الذي له أقارب أغنياء ، وليس منهم الأب ; فإنهم يشتركون في الإنفاق عليه كل بقدر إرثه منه ; لأن الله تعالى رتب النفقة على الإرث ; بقوله : وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فوجب أن يترتب مقدار النفقة على مقدار الإرث ، فمن له جدة أو أخ شقيق مثلا ; وجب على الجدة سدس نفقته ، والباقي على الشقيق ; لأنهما يرثانه كذلك ، وعلى هذا فقس .
وأما نفقة المماليك من الأرقاء والبهائم فإنه يجب على السيد نفقة رقيقه من قوت وكسوة وسكنى بالمعروف ; لقوله صلى الله عليه وسلم : وللمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ، لا يكلف من العمل ما لا يطيق رواه الشافعي في " مسنده " ، وروى مسلم في " الصحيحين " من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ; أنه قال : " إخوانكم خولكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده ; فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا تكلفوهم ما يغلبهم " مع قوله تعالى : قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ففي هذه النصوص دليل على وجوب نفقة الرقيق على مالكه .
وإن طلب الرقيق نكاحا ; زوجه سيده أو باعه ; لقوله تعالى : وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ والأمر يقتضي الوجوب عند الطلب .
وإن طلبته أمة ; خير سيدها بين وطئها أو تزويجها أو بيعا ; إزالة للضرر عنها .
ويجب على من يملك بهيمة علفها وسقيها وما يصلحها ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : عذبت امرأة في هرة حبستها ، حتى ماتت جوعا ; فلا هي أطعمتها ، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض متفق عليه .
فدل هذا الحديث على وجوب النفقة على الحيوان المملوك لأن السبب في دخول تلك المرأة النار ترك الهرة بدون إنفاق ، وإذا كان هذا في الهرة ; فغيرها من الحيوانات التي تحت ملكه من باب أولى .
ولا يجوز لمالك البهيمة أن يحملها ما تعجز عنه ; لأن ذلك تعذيب لها .
ولا يجوز له أن يحلب من لبنها ما يضر ولدها ; لقوله صلى الله عليه وسلم : لا ضرر ولا ضرار
ويحرم عليه لعن البهيمة وضربها في وجهها ووسمها فيه ، فإن عجز مالك البهيمة عن الإنفاق عليها أجبر على بيعها أو تأجيرها أو ذبحها إن كانت مما تؤكل ; لأن بقاءها في ملكه مع عدم الإنفاق عليها ظلم ، والظلم تجب إزالته .
كتاب القصاص والجنايات
باب في أحكام القتل وأنواعه
بسم الله الرحمن الرحيم
قد عرف فقهاؤنا رحمهم الله الجنايات بأنها جمع جناية ، وهي لغة التعدي على بدن أو مال أو عرض .
وقد عقدوا للنوع الأول منها - وهو التعدي على البدن - كتاب الجنايات ، وعقدوا للنوع الثاني والثالث - وهما التعدي على المال والعرض - كتاب الحدود .
والتعدي على البدن هو ما يوجب قصاصا أو مالا أو كفارة .
وقد أجمع المسلمون على تحريم القتل بغير حق ودليل ذلك من الكتاب والسنة .
- قال الله تعالى : وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ
- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة رواه مسلم وغيره ، والأحاديث بمعناه كثيرة .
فمن قتل مسلما عدوانا ; فقد توعده الله تعالى بقوله : وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا
وحكمه أنه فاسق ; لارتكابه كبيرة من كبائر الذنوب .
وأمره إلى الله : إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له ، قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ فهو داخل تحت المشيئة ; لأن ذنبه دون الشرك .
وهذا إذا لم يتب ، أما إذا تاب ; فتوبته مقبولة ; فقد قال الله تعالى : قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
لكن لا يسقط عنه حق المقتول في الآخرة بمجرد التوبة ، بل يأخذ المقتول من حسنات القاتل بقدر مظلمته ، أو يعطيه الله من عنده ، ولا يسقط حق المقتول بالقصاص ; لأن القصاص حق لأولياء المقتول .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله : " التحقيق أن القتل تتعلق به ثلاثة حقوق حق لله ، وحق للمقتول ، وحق للولي ، فإذا سلم القاتل نفسه طوعا للولي ندما وخوفا من الله ، وتاب توبة نصوحا ; سقط حق الله بالتوبة ، وحق الأولياء باستيفاء القصاص أو الصلح أو العفو ، وبقي حق المقتول ، يعوضه الله يوم القيامة عن عبده التائب ، ويصلح بينه وبينه " .
والقتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام عند أكثر أهل العلم ، وهي : القتل العمد ، والقتل شبه العمد ، والقتل الخطأ .
- فأما العمد والخطأ ; فقد ورد ذكرهما في القرآن الكريم ; قال تعالى : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا الآية إلى قوله : وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا
- وأما شبه العمد ; فثبت في السنة المطهرة ، كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ; أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ، ولا يقتل صاحبه ، وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس ، فتكون دماء في غير ضغينة ولا حمل سلاح رواه أحمد وأبو داود .
وعن عبد الله بن عمرو ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل ، منها أربعون في بطونها أولادها رواه الخمسة إلا الترمذي .
فالقتل العمد : هو أن يقصد من يعلمه آدميا معصوما فيقتله بما يغلب على الظن موته به .
فنأخذ من هذا التعريف أن القتل لا يكون عمدا إلا إذا توفرت فيه هذه الشروط
الشرط الأول : وجود القصد من القاتل ، وهي إرادة القتل .
الشرط الثاني : أن يعلم أن الشخص الذي قصد قتله آدمي معصوم الدم .
الشرط الثالث : أن تكون الآلة التي قتله بها مما يصلح للقتل عادة ، سواء كان محددا أو غير محدد .
فإن اختل شرط من هذه الشروط ; لم يكن القتل عمدا ; لأن عدم القصد لا يوجب القود ، وحصول القتل بما لا يغلب على الظن موته به يكون اتفاقا لسبب أوجب الموت غيره .
وللعمد تسع صور معلومة بالاستقراء :
إحداها : أن يجرحه بما له نفوذ في البدن ; كسكين وشوكة ونحو ذلك من المحددات .قال الموفق : " لا اختلاف فيه بين العلماء فيما علمناه " .
الثانية : أن يقتله بمثقل كبير كالحجر ونحوه ، فإن كان الحجر صغيرا ; فليس بعمد ; إلا إن كان في مقتل ، أو في حال ضعف قوة المجني عليه من مرض أو صغر أو كبر أو حر أو برد ونحوه ، أو ردد ضربه بالحجر الصغير ونحوه حتى مات ، ومثل قتله بالمثقل لو ألقى عليه حائطا أو دهسه بسيارة أو ألقاه من مرتفع فمات .
الثالثة : أن يلقيه إلى حيوان مفترس كأسد ، أو إلى حية ; لأنه إذا تعمد إلقاءه إلى هذه القواتل ; فقد تعمد قتله بما يقتل غالبا .
الرابعة : أن يلقيه في نار أو ماء يغرقه ولا يمكنه التخلص منهما .
الخامسة: أن يخنقه بحبل أو غيره أو يسد فمه وأنفه فيموت من ذلك .
السادسة : أن يحبسه ويمنع عنه الطعام والشراب فيموت من ذلك في مدة يموت فيها غالبا ، ويتعذر عليه الطلب ; لأن هذا يقتل غالبا .
السابعة : أن يقتله بسحر يقتل غالبا ، والساحر يعلم أن ذلك غالبا يقتل .
الثامنة : أن يسقيه سما لا يعلم به ، أو يخلطه بطعامه ، فيأكله جاهلا بوجود السم فيه .
التاسعة : أن يشهد عليه شهود بما يوجب قتله من زنا أو ردة أو قتل ، فيقتل ثم يرجع الشهود عن شهادتهم ، ويقولون : تعمدنا قتله ، فيقتلون به ; لأنهم توصلوا إلى قتله بما يقتل غالبا .
وشبه العمد قد عرفه الفقهاء رحمهم الله بقولهم : " هو أن يقصد جناية لا تقتل غالبا ، فيموت بها المجني عليه ، سواء كان ذلك بقصد العدوان عليه ، أو لأجل تأديبه ، فيسرف في ذلك ، وسمي هذا النوع من الجنايات شبه العمد ; لأن الجاني قصد الفعل وأخطأ في القتل " .
قال ابن رشد : " من قصد ضرب رجل بعينه بآلة لا تقتل غالبا ; كان حكمه مترددا بين العمد والخطأ ، فشبهه للعمد من جهة قصد ضربه ، وشبهه للخطأ من جهة ضربه بما لا يقصد به القتل " انتهى .
ومن أمثلة شبه العمد ما لو ضربه في غير مقتل بسوط أو عصا صغير أو لكزه بيده أو لكمه في غير مقتل فمات كان ذلك شبه عمد ، تجب به الكفارة في مال الجاني ، وهي عتق رقبة ، فإن لم يجد ; صام شهرين متتابعين كما يجب في الخطأ ، ووجبت الدية مغلظة في مال عاقلة الجاني ; لحديث أبي هريرة : اقتتلت امرأتان من هذيل ، فرمت إحداهما الأخرى بحجر ، فقتلتها وما في بطنها ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها متفق عليه .
فدل الحديث على عدم وجوب القصاص في شبه العمد ، وعلى أن ديته تكون على عاقلة الجاني ، لأنه قتل لا يوجب قصاصا فكانت ديته على العاقلة كالخطأ .
قال ابن المنذر : " أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أنها على العاقلة " .
وقال الموفق وغيره : " لا نعلم خلافا أنها على العاقلة . . . " انتهى .
وأما قتل الخطأ ; فقد عرفه الفقهاء بقولهم : وهو أن يفعل ما له فعله ; مثل أن يرمي صيدا أو هدفا ، فيصيب آدميا معصوما لم يقصده ، فيقتله أو يقتل مسلما في صف كفار يظنه كافرا .
وعمد الصبي والمجنون يجري مجرى الخطأ ، لأنهما ليس لهما قصد ; فهما كالمكلف المخطئ .
ويجري مجرى الخطأ أيضا القتل بالتسبب ، كما لو حفر بئرا أو حفرة في طريق ، أو أوقف فيه سيارة ، فتلف بسبب ذلك إنسان
وجب بالقتل الخطأ الكفارة في مال القاتل ، وهي عتق رقبة مؤمنة ، فإن لم يجد الرقبة ، أو وجدها ولم يقدر على ثمنها ; صام شهرين متتابعين ، وتجب الدية على عاقلته ، وهم ذكور عصابته .
ومن قتل مسلما في صف كفار يظنه كافرا فإنه لا يجب فيه إلا الكفارة فقط ; لقوله تعالى : وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا
فجعل قتل الخطأ على قسمين
: - قسم فيه الكفارة على القاتل والدية على عاقلته ، وهو قتل المؤمن خطأ في غير صف الكفار ، وفيما إذا كان القتيل من قوم بيننا وبينهم عهد .
- وقسم تجب فيه الدية فقط ، وهو قتل المؤمن بين الكفار يظنه القاتل كافرا .
قال الإمام الشوكاني رحمه الله في " فتح القدير " : فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أي : فإن كان المقتول من قوم عدو لكم ، وهم الكفار الحربيون ، وهذه مسألة المؤمن الذي يقتله المسلمون في بلاد الكفار الذين كان منهم ، ثم أسلم ولم يهاجر ، وهم يظنون أنه لم يسلم ، وأنه باق على دين قومه ; فلا دية على قاتله ، بل عليه تحرير رقبة مؤمنة
واختلفوا في وجه سقوط الدية ; فقيل : وجهه أن أولياء القتيل كفار ، لا حق لهم في الدية ، وقيل : وجهه أن هذا الذي آمن ولم يهاجر حرمته قليلة ; لقول الله تعالى : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وقال بعض أهل العلم : إن ديته واجبة لبيت المال . . . " انتهى .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " هذا في المسلم الذي هو بين الكفار معذور كالأسير ، والمسلم الذي لا تمكنه الهجرة والخروج من صفهم ، فأما الذي يقف في صف قتالهم باختياره ; فلا يضمن بحال ; لأنه عرض نفسه للتلف بلا عذر " .
والدليل على وجوب دية قتل الخطأ على عاقلة القاتل حديث أبي هريرة رضي الله عنه : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة ، ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ميراثها لزوجها وبنتيها ، وأن العقل على عصبتها متفق عليه .
فدل الحديث على أن دية الخطأ على العاقلة ، وقد أجمعوا على ذلك .
والحكمة في ذلك - والله أعلم - أن إيجاب الدية في مال المخطئ فيه ضرر عظيم من غير ذنب تعمده ، والخطأ يكثر وقوعه ; ففي تحميله ضمان خطئه إجحاف بماله ، ولا بد من إيجاب بدل للمقتول ; لأنه نفس محترمة ، وفي إهدار دمه إضرار بورثته ، لا سيما عائلته ، فالشارع الحكيم أوجب على من عليهم موالاة القاتل ونصرته أن يعينوه على ذلك ، وذلك كإيجاب النفقات ، وفكاك الأسير ، ولأن العاقلة يرثون المعقول عنه لو مات في الجملة ; فهم يتحملون عنه جنايته الخطأ من قبيل : " الغنم بالغرم " .
وحمل القاتل الكفارة لأمور :
أولا : احترام النفس الذاهبة .
ثانيا : لكون القتل لا يخلو من تفريطه .
ثالثا : لئلا يخلو القاتل عن تحمل شيء ، حيث لم يحمل من الدية .
فكان في جعل الدية على العاقلة والكفارة على القاتل عدة حكم ومصالح ، فسبحان الحكيم العليم ، الذي شرع للناس ما يصلحهم وينفعهم في دينهم ودنياهم .
ولا يدخل في العاقلة الرقيق والفقير والصغير والمجنون والأنثى والمخالف لدين الجاني ; لأن هؤلاء ليسوا من أهل النصرة والمواساة .
وتؤجل دية الخطأ على العاقلة ثلاث سنين ، ويجتهد الحاكم في تحميل كل منهم ما يستطيع ، ويبدأ بالأقرب فالأقرب .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " لا تؤجل الدية على العاقلة إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك . . . " انتهى .
باب في أحكام القصاص
أجمع العلماء على مشروعية القصاص في القتل العمد إذا توفرت شروطه ; لقوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى وقوله تعالى : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وهذا في شريعة التوراة ، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه ، وقال تعالى : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
قال الإمام الشوكاني رحمه الله : " أي لكم في هذا الحكم الذي شرعه الله لكم حياة ; لأن الرجل إذا علم أنه يقتل قصاصا إذا قتل آخر ، كف عن القتل ، وانزجر عن التسرع إليه والوقوع فيه ، فيكون ذلك بمنزلة الحياة للنفوس الإنسانية ، وهذا نوع من البلاغة بليغ ، وجنس من الفصاحة رفيع ; فإنه جعل القصاص الذي هو موت حياة باعتبار ما يؤول إليه من ارتداع الناس عن قتل بعضهم بعضا ; إبقاء على أنفسهم ، واستدامة لحياتهم ، وجعل هذا الخطاب موجها إلى أولي الألباب ; لأنهم هم الذين ينظرون في العواقب ، ويتحامون ما فيه الضرر الآجل ، وأما من كان مصابا بالحمق والطيش والخفة ; فإنه لا ينظر عند ثورة غضبه وغليان مراجل طيشه إلى عاقبة ، ولا يفكر في أمر مستقبل ; كما قال بعض فتاكهم :
سأغسل عني العار بالسيف جالبا علي قضاء الله ما كان جالبا
ثم علل سبحانه هذا الحكم الذي شرعه لعباده بقوله : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي : تتحامون القتل بالمحافظة على القصاص ، فيكون ذلك سببا للتقوى . . . " انتهى .
وجاءت السنة النبوية بأن ولي القصاص يخير بين استيفائه ، وبين العفو إلى أخذ الدية ، أو العفو مجانا ، وهو أفضل ; فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ; أنه قال : من قتل له قتيل ; فهو بخير النظرين : إما أن يودى ، وإما أن يقاد رواه الجماعة إلا الترمذي ، وقال الله تعالى : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ
فدلت الآية الكريمة والحديث على أن الولي يخير بين القصاص والدية ، فإن شاء ; اقتص ، وإن شاء ; أخذ الدية ، وعفوه مجانا أفضل ; لقوله تعالى : وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ولحديث أبي هريرة : ما عفا رجل عن مظلمة ; إلا زاده الله بها عزا رواه أحمد ومسلم والترمذي .
فالعفو عن القصاص أفضل ما لم يؤد ذلك إلى مفسدة ; فقد اختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن العفو لا يصلح في قتل الغيلة ; لتعذر الاحتراز منه ; كالقتل مكابرة ، وذكر القاضي وجها أن قاتل الأئمة يقتل حدا لأن فساده عام ، وذكر العلامة ابن القيم على قصة العرنيين : " أن قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدا ; فلا يسقطه العفو ، ولا تعتبر فيه المكافأة ، وهو مذهب أهل المدينة ، وأحد الوجهين في مذهب أحمد ، واختيار الشيخ ، وأفتى به رحمه الله . . . " انتهى .
ولا يستحق ولي القتيل القصاص إلا بتوفر شروط أربعة :
أحدها : عصمة المقتول ; بأن لا يكون مهدر الدم ، لأن القصاص شرع لحقن الدماء ، ومهدر الدم غير محقون ، فلو قتل مسلم كافرا حربيا أو مرتدا قبل توبته أو قتل زانيا ; لم يضمنه بقصاص ، ولا دية ، لكنه يعزر لافتياته على الحاكم .
الثاني : أن يكون القاتل بالغا عاقلا ، لأن القصاص عقوبة مغلظة ، لا يجوز إيقاعها على الصغير والمجنون ; لعدم وجرد القصد منهما ، أو لأنه ليس لهما مقصود صحيح ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يبلغ ، وعن المجنون حتى يفيق قال الإمام موفق الدين ابن قدامة : " لا خلاف بين أهل العلم في أنه لا قصاص على صبي ولا مجنون ، وكذلك كل زائل العقل بسبب يعذر فيه ; كالنائم والمغمى عليه " .
الشرط الثالث : المكافأة بين المقتول وقاتله حال جنايته ; بأن يساويه في الدين والحرية والرق ; فلا يكون القاتل أفضل من المقتول بسلام أو حرية :
- فلا يقتل مسلم بكافر ; لقوله صلى الله عليه وسلم : ولا يقتل مسلم بكافر رواه البخاري وأبو داود .
- ولا يقتل حر بعبد ; لما رواه أحمد عن علي رضي الله عنه : من السنة أن لا يقتل حر بعبد
ولأن المجني عليه إذا لم يكن مساويا للقاتل فيما ذكر ; كان أخذه به أخذا لأكثر من الحق .
ولا يؤثر التفاضل بين الجاني والمجني عليه في غير ما ذكر ، فيقتل الجميل بالدميم ، والشريف بضده ، والكبير بالصغير ، ويقتل الذكر بالأنثى ، والصحيح بالمجنون والمعتوه ; لعموم قوله تعالى : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وقوله تعالى : الْحُرُّ بِالْحُرِّ
الشرط الرابع : عدم الولادة ، بأن لا يكون المقتول ولدا للقاتل ولا لابنه وإن سفل ، ولا لبنته وإن سفلت ; فلا يقتل أحد الأبوين وإن علا بالولد وإن سفل ; لقوله صلى الله عليه وسلم : لا يقتل والد بولده قال ابن عبد البر " هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق مستفيض عندهم . . . انتهى .
وبهذا الحديث ونحوه تخص العمومات الواردة بوجوب القصاص ، وهو قول جمهور أهل العلم .
ويقتل الولد بكل من الأبوين ; لعموم قوله تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى وإنما خص منه الوالد إذا قتل ولده بالدليل .
فإذا توافرت هذه الشروط الأربعة ; استحق أولياء القتيل القصاص .
وتشريع القصاص فيه رحمة بالناس وحفظ لدمائهم كما قال تعالى : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ فتبا لقوم يقولون : إن القصاص وحشية وقسوة ، وهؤلاء لم ينظروا إلى وحشية الجاني حين إقدامه على قتل البريء ، وإقدامه على بث الرعب في البلد ، وإقدامه على ترميل النساء وتيتيم الأطفال وهدم البيوت ، هؤلاء يرحمون المعتدي ولا يرحمون البريء ; فتبا لعقولهم ، وتبا لقصورهم ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
والقصاص هو فعل مجني عليه أو فعل وليه بجان مثل فعله أو شبهه ، وحكمته التشفي وبرد حرارة الغيظ ; فقد شرع الله القصاص زجرا عن العدوان ، واستدراكا لما في النفوس ، وإذاقة للجاني ما أذاقه المجني عليه ، وفيه بقاء وحياة النوع الإنساني .
وكانت الجاهلية تبالغ في الانتقام ، وتأخذ في الجريمة غير المجرم ، وهذا جور لا يحصل به المقصود ، بل هو زيادة فتنة وإشاطة للدماء ، وقد جاء دين الإسلام وشريعته الكاملة بتشريع القصاص وإيقاع العقاب بالجاني وحده ; فحصل بذلك العدل والرحمة وحقن الدماء .
وقد سبق بيان شرط وجوب القصاص ، لكن تلك الشروط ولو توفرت ووجب القصاص ; فإنه لا يجوز تنفيذه ; إلا بعد توفر شروط أخرى ذكرها الفقهاء رحمهم الله ، وسموها : شروط استيفاء القصاص وهي ثلاثة شروط :
الشرط الأول : أن يكون مستحق القصاص مكلفا ; أي : بالغا عاقلا ، فإن كان مستحق القصاص أو بعض مستحقيه صبيا أو مجنونا ; لم يستوفه لهما وليهما ; لأن القصاص لما فيه من التشفي والانتقام ، ولا يحصل ذلك لمستحقه باستيفاء غيره ; فيجب الانتظار في تنفيذ القصاص ، ويحبس الجاني إلى حين بلوغ الصغير وإفاقة المجنون من مستحقيه ; لأن معاوية حبس هدبة بن خشرم في قصاص ، حتى بلغ ابن القتيل ، وكان ذلك في عصر الصحابة ، فلم ينكر ، فكان إجماعا من الصحابة الذين في عصر معاوية .
فإن احتاج الصغير أو المجنون من أولياء القصاص إلى نفقة ; فلولي المجنون فقط العفو إلى الدية ; لأن المجنون لا يدري متى يزول بخلاف الصبي .
الشرط الثاني : اتفاق الأولياء والمشتركين في القصاص على استيفائه ، وليس لبعضهم أن ينفرد به دون البعض الآخر ، لأن الاستيفاء حق مشترك ، لا يمكن تبعيضه ، فإذا استوفى بعضهم ; كان مستوفيا لحق غيره بغير إذنه ، ولا ولاية عليه .
وإن كان من بقي من الشركاء في استحقاق القصاص غائبا أو صغيرا أو مجنونا ، انتظر قدوم الغائب وبلوغ . الصغير وعقل المجنون منهم .
ومن مات من مستحقي القصاص ; قام وارثه مقامه .
وإن عفا بعض المشتركين في استحقاق القصاص ; سقط القصاص .
- 380- ويشترك في استحقاق القصاص جميع الورثة بالنسب والسبب : الرجال والنساء ، الكبار والصغار ، وقال بعض العلماء : إن العفو يختص بالعصبة فقط ، وهو قول الإمام مالك ، ورواية عن الإمام أحمد ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية .
الشرط الثالث : أن يؤمن الاستيفاء أن يتعدى إلى غير الجاني ; لقوله تعالى : وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا
فإذا أفضى القصاص إلى التعدي ; فهو إسراف ، وقد دلت الآية الكريمة على المنع منه ، فإذا وجب القصاص على حامل أو من حملت بعد وجوب القصاص عليها ; لم تقتل حتى تضع ولدا ; لأن قتلها يتعدى إلى الجنين ، وهو بريء ، وقد قال الله تعالى : وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثم بعد وضعه : إن وجد من يرضعه ; أعطي لمن يرضعه ، وقتلت : لزوال المانع من القصاص ، لقيام غيرها مقامها في إرضاع الولد ، وإن لم يوجد من يرضعه ; تركت حتى تفطمه لحولين ; لقوله صلى الله عليه وسلم : إذا قتلت المرأة عمدا ، لم تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملا ، وحتى تكفل ولدها ، وإذا زنت ; لم ترجم حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملا ، وحتى تكفل ولدها رواه ابن ماجه ، ولقوله صلى الله عليه وسلم للمرأة المقرة بالزنا : " ارجعي حتى تضعي ما في بطنك " ثم قال لها : " ارجعي حتى ترضعيه "
فدل الحديثان والآية على تأخير القصاص من أجل الحمل ، وهو إجماع ، وهذا يدل على كمال هذه الشريعة وعدالتها ، حيث راعت حق الأجنة في البطون ; فلم تجز إلحاق الضرر بهم ، وراعت حق الأطفال والضعفة ، فدفعت عنهم الضرر ، وكفلت لهم ما يبقي عليهم حياتهم ; فلله الحمد على هذه الشريعة السمحاء الكاملة الشاملة لمصالح العباد .
وإذا أريد تنفيذ القصاص ; فلا بد أن يتم تنفيذه بإشراف الإمام أو نائبه ; ليمنع الجور في تنفيذه ، ويلزم بالوجه الشرعي في ذلك .
ويشترط في الآلة التي ينفذ بها القصاص أن تكون ماضية ; كسيف وسكين ; لقوله صلى الله عليه وسلم : إذا قتلتم ; فأحسنوا القتلة
ويمنع استيفاء القصاص بآلة كالة ; لأن ذلك إسراف في القتل .
ثم إن كان الولي يحسن الاستيفاء على الوجه الشرعي ، وإلا ; أمره الحاكم أن يوكل من يقتص له .
والصحيح من قولي العلماء أنه يفعل بالجاني كما فعل بالمجني عليه ; لقوله تعالى : وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وقوله تعالى : فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ والنبي صلى الله عليه وسلم أمر برض رأس يهودي لرضه رأس جارية من الأنصار .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : " والكتاب والميزان على أنه يفعل بالجاني كما فعل بالمجني عليه ، كما فعل صلى الله عليه وسلم ، وقد اتفق على ذلك الكتاب والسنة وآثار الصحابة . . . " انتهى .
فعلى هذا ; لو قطع يديه ، ثم قتله ; فعل به ذلك ، وإن قتله بحجر أو غرقه أو غير ذلك ; فعل به مثل ما فعل ، وإن أراد ولي القصاص أن يقتص على ضرب عنقه بالسيف ; فله ذلك ، وهو أفضل ، وإن قتله بمحرم ; تعين قتله بالسيف ، ومثل قتل السيف في الوقت الحاضر قتله بإطلاق الرصاص عليه ممن يحسن الرمي .
باب في القصاص في الأطراف
القصاص في الأطراف والجروح ثابت بالكتاب والسنة والإجماع :
- قال الله تعالى : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ
- وفي " الصحيحين " في قصة كسر ثنية الربيع قال صلى الله عليه وسلم : كتاب الله القصاص
فمن أقيد بأحد في النفس ; أقيد به في الطرف والجروح إذا توفرت شروط القصاص السابقة ، وهي : العصمة ، والتكليف ، والمكافأة ، وعدم الولادة ، وذلك بأن يكون المجني عليه معصوما ، والجاني مكلفا ، ويكون المجني عليه مكافئا للجاني في الحرية والرق ، ويكون الجاني غير والد للمجني عليه ، ومن لا يقاد بأحد بالنفس ; لا يقاد به في الطرف والجروح ، هذه هي القاعدة في هذا الباب .
وموجب القصاص في الأطراف والجروح هو موجب القصاص في النفس ، وهو العمد المحض ; فلا قود في الخطأ ولا في شبه العمد ، ويجري القصاص في الأطراف ، فتؤخذ العين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، واليد باليد ، والرجل بالرجل ; اليمنى باليمنى ، واليسرى باليسرى ، من كل ما ذكر ، ويكسر سن الجاني بسن المجني عليه المماثلة لها ، ويؤخذ الجفن بالجفن ، الأعلى بالأعلى ، والأسفل بالأسفل ، وتؤخذ الشفة بالشفة ; العليا بالعليا ، والسفلى بالسلفي ; لقوله تعالى : وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ولأن كلا من الجفن والشفة له حد ينتهي إليه ، وتؤخذ الإصبع بالإصبع التي تماثلها في موضعها وفي اسمها ، وتؤخذ الكف بالكف المماثلة ; اليمنى باليمنى ، واليسرى باليسرى ، ويؤخذ الرفق بمثله ; الأيمن بالأيمن ، والأيسر بالأيسر ; للمماثلة فيهما ، ويؤخذ الذكر بالذكر ، لأن له حدا ينتهي إليه ، ويمكن القصاص فيه من غير حيف ; لعموم قوله تعالى : وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ
ويشترط للقصاص في الطرف ثلاثة شروط
الشرط الأول : الأمن من الحيف ، وذلك بأن يكون القطع من مفصل أو له حد ينتهي إليه ، فإن لم يكن كذلك ، لم يجز القصاص ، فلا قصاص في جراحة لا تنتهي إلى حد ; كالجائفة ، وهي التي تصل إلى باطن الجوف ; لأنها ليس لها حد ينتهي القطع إليه ، ولا قصاص في كسر عظم غير سن ; ككسر الساق والفخذ والذراع ; لعدم إمكان المماثلة ، أما كسر السن ; فيجري فيه القصاص ; بأن يبرد سن الجاني حتى يؤخذ منه قدر ما كسر من سن المجني عليه .
الشرط الثاني : التماثل بين عضوي الجاني والمجني عليه في الاسم والموضع ; فلا تؤخذ يمين بيسار ولا يسار بيمين من الأيدي والأرجل والأعين والآذان ونحوها ، لأن كل واحد منها يختص باسم ، وله منفعة خاصة ; فلا تماثل ، ولا تؤخذ خنصر ببنصر من الأصابع ، للاختلاف في الاسم ، ولا يؤخذ عضو أصلي بعضو زائد .
الشرط الثالث : استواء العضوين من الجاني والمجني عليه في الصحة والكمال ، فلا يؤخذ يد أو رجل صحيحة بيد أو رجل شلاء ، ولا تؤخذ يد أو رجل كاملة الأصابع أو الأظفار بناقصتها ، ولا تؤخذ عين صحيحة بعين قائمة ، وهي التي بياضها وسوادها صافيان غير أنها لا تبصر ; لعدم التساوي ، ولا يؤخذ لسان ناطق بلسان أخرس ; لنقصه ، ويؤخذ العضو الناقص بالعضو الكامل ، فتؤخذ الشلاء بالصحيحة ، وناقصة الأصابع بكاملة الأصابع ، لأن المعيب من ذلك كالصحيح في الخلقة ، وإنما نقص في الصفة ، ولأن المقتص يأخذ بعض حقه ; فلا حيف ، وإن شاء أخذ الدية بدل القصاص .
وأما القصاص في الجروح
- فيقتص في كل جرح ينتهي إلى عظم ; لإمكان الاستيفاء فيه بلا حيف ولا زيادة ، وذلك كالشجة الموضحة في الرأس والوجه ، وكجرح العضد والساق والفخذ والقدم ; لقوله تعالى : وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ
- وأما ما لا ينتهي إلى عظم ، فلا يجوز القصاص فيه من الجراحات ، سواء كانت شجة أو غيرها ; كالجائفة ، وهي التي تصل إلى باطن جوف ; كبطن وصدر ونحر ; لعدم الأمن من الحيف والزيادة .
روى ابن ماجه مرفوعا : لا قود في المأمومة ولا في الجائفة ولا في المنقلة والمأمومة : هي الشجة التي تصل إلى جلدة الدماغ ، والجائفة : هي التي تصل إلى باطن جوف ، والمنقلة : هي التي تشم الرأس وتنقل العظام . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " القصاص في الجراح ثابت بالكتاب والسنة والإجماع بشرط المساواة ، فإذا شجه ; فله شجه كذلك ، فإذا لم يمكن ; مثل أن يكسر عظما باطنا ، أو شجه دون الموضحة ; فلا يشرع القصاص ، بل تجب الدية .
وأما القصاص في الضربة بيده أو بعصا أو سوط ونحو ذلك :
قال الشيخ : فقالت طائفة : لا قصاص فيه ، بل فيه التعزير ، والمأثور عند الخلفاء وغيرهم من الصحابة والتابعين : أن القصاص مشروع في ذلك ، وهو نص أحمد وغيره من الفقهاء ، وبذلك جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الصواب .
قال عمر : إني ما أرسل عمالي ليضربوا أبشاركم ، فوالذي نفسي بيده ; من فعل ; لأقصنه ، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه رواه أحمد . ومعناه أن يضرب الوالي رعيته ضربا غير جائز ، فأما الضرب المشروع ; فلا قصاص فيه بالإجماع " انتهى كلام الشيخ .
وقال ابن القيم رحمه الله : " قالت الشافعية والحنفية والمالكية ومتأخرو الأصحاب : لا قصاص في اللطمة والضربة ، وحكى بعضهم الإجماع ، وخرجوا عن محض القياس وموجب النصوص وإجماع الصحابة ، وقال تعالى : وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ فالواجب للملطوم أن يفعل بالجاني عليه كما فعل به ; فلطمة بلطمة ، وضربة بضربة ، في محلها ، بالآلة التي لطمه بها ، أو مثلها أقرب إلى المماثلة المأمور بها حسا وشرعا من تعزير بغير جنس اعتدائه وصفته ، وهذا هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه ، ومحض القياس ، ونصوص أحمد " انتهى .
باب في القصاص من الجماعة للواحد
إذا اشترك جماعة في قتل شخص عمدا عدوانا اقتص له منهم جميعا ، وقتلوا به على الصحيح من قولي العلماء رحمهم الله ، لعموم قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى إلى قوله تعالى : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ولإجماع الصحابة على ذلك ; فقد روى سعيد بن المسيب . أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلا واحدا ، وقال رضي الله عنه : " لو تمالأ عليه أهل صنعاء ; لقتلتهم به جميعا " وثبت عن آخرين من الصحابة أيضا قتل الجماعة بالواحد ، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم ، فكان إجماعا .
قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله : " اتفق الصحابة وعامة الفقهاء على قتل الجميع بالواحد ، وإن كان أصل القصاص يمنع ذلك ; لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء " انتهى
وقال ابن رشد : " فإن مفهومه ( أي : القصاص ) : أن القتل إنما شرع لينفي القتل كما نبه عليه القرآن ، فلو لم تقتل الجماعة بالواحد ; لتذرع الناس إلى القتل ; بأن يتعمدوا قتل الواحد بالجماعة ، ولأن التشفي والزجر لا يحصل إلا بقتل الكل " انتهى .
ويشترط لقتل الجماعة بالواحد أن يصلح فعل كل واحد منهم للقتل لو انفرد ، وذلك بأن يباشر الجميع القتل ، ويكون فعل كل واحد منهم قاتلا لو انفرد .
فإن لم يصح فعل كل واحد منهم للقتل لو انفرد ، وكانوا قد تمالئوا وتواطئوا على قتل المجني عليه ; وجب القصاص منهم جميعا ; لأن غير المباشر صار ردئا للمباشر .
ومن أكره شخصا على قتل آخر ، فقتله وجب القصاص على المكره والمكره إذا توفرت شروطه ; لأن القاتل قصد استبقاء نفسه بقتل غيره ، والمكره تسبب إلى القتل بما يفضي إليه غالبا .
ومن أمر صغيرا أو مجنونا بقتل شخص ، فقتله وجب القصاص على الآمر وحده ; لأن المأمور آلة للآمر ، ولا يمكن إيجاب القصاص عليه ، فوجب أن يكون على المتسبب به .
وكذا إذا كان المأمور مكلفا ( أي : بالغا عاقلا ) ، لكنه يجهل تحريم القتل ; كمن نشأ بغير بلاد الإسلام ، فيجب القصاص على الآمر ; لتعذره في حق المأمور ; لجهله ، فيكون على المتسبب به .
وأما إن كان المأمور بالغا عاقلا لا يجهل التحريم ; فإنه يجب القصاص عليه ; لمباشرته القتل بغير حق ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق سواء كان الآمر سلطانا أو سيدا أو غير ذلك ، ويكون على الآمر في هذه الحالة التعزير بما يراه الإمام ، لأنه ارتكب معصية ، وليرتدع عن ذلك .
وإذا اشترك اثنان في قتل شخص عمدا عدوانا ، وكان أحدهما لا تتوفر فيه شروط وجوب القصاص ، والآخر تتوفر فيه ، وجب القصاص على من تتوفر فيه الشروط منهما ، لأنه شارك في القتل العمد العدوان ، وامتنع القصاص في حق شريكه لمعنى فيه ، لا لقصور في سبب القصاص ، فيجب على من لا مانع به منه ، ومن أمسك إنسانا لآخر حتى قتله قتل القاتل وحبس الممسك حتى يموت .
وكما يقتص للواحد من الجماعة في النفس ; فإنه يقتص له منهم في الطرف والجراح ، فإذا قطع جماعة طرفا أو جرحوا جرحا يوجب القود ، ولم تتميز أفعال بعضهم عن بعض ، كما لو وضعوا حديدة على يد شخص ، وتحاملوا عليها حتى انقطعت اليد ، فيجب قطع أيديهم جميعا ; لما روي عن علي رضي الله عنه ; أنه شهد عنده شاهدان على رجل بسرقة ، فقطع يده ، ثم جاءا بآخر ، وقالا : هذا السارق ، وأخطأنا في الأول . فرد شهادتهما على الثاني ، وغرمهما دية الأول ، وقال : لو علمت أنكما تعهدتما ; لقطعتكما رواه البخاري وغيره ، فدل على أن القصاص على كل منهما لو تعمدا ، وقياسا على قتل الجماعة بالواحد .
وسراية الجناية على النفس وما دونها لها حكم الجناية ، لأنها أثرها ، وأثر المضمون مضمون ، فلو قطع إصبعا ، فتآكلت الإصبع الأخرى أو اليد وسقطت من مفصله ; وجب القود في اليد ، وإن سرت الجناية إلى النفس ; فمات المجني عليه وجب القصاص .
ولا يجوز أن يقتص في عضو أو جرح قبل برئه ; لحديث جابر : أن رجلا جرح رجلا ، فأراد أن يستقيد ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح رواه الدارقطني وغيره ، وذلك لمصلحة المجني عليه ; إذ قد تسري الجناية إلى طرف آخر أو إلى النفس ; فلا بد أن يعرف مدى نهاية الجناية ، فلو اقتص قبل البرء ، ثم سرت الجناية بعد ذلك فلا شيء له ; لأنه استعجل فبطل حقه ، ولحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أقدني . فقال : حتى تبرأ . ثم جاء إليه ، فقال : أقدني . فأقاده . ثم جاء إليه ، فقال : يا رسول الله ! قد عرجت . قال : نهيتك فعصيتني ، فأبعدك الله وبطل عرجك ، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ منه صاحبه رواه أحمد والدارقطني .
وبهذا تعلم أيها المسلم محاسن الشريعة ، واشتمالها على العدالة التامة والرحمة العامة ، وصدق الله العظيم : وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
فتبا لقوم يستبدلون بها غيرها من أحكام الطاغوت والقوانين الوضعية الناقصة الظالمة ، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا والحمد لله رب العالمين .
باب في أحكام الديات
الديات جمع دية ، وهي المال المودى إلى مجني عليه أو وليه بسبب جناية ، يقال : وديت القتيل : إذا أعطيت ديته ، فالدية مصدر ودى ، والهاء فيها بدل من الواو التي حذفت ; مثل : عدة وصلة من الوعد والوصل .
والدليل على وجوب الدية : الكتاب ، والسنة ، والإجماع .
- قال الله تعالى : وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ الآية .
- وفي الحديث الصحيح : من قتل له قتيل ; فهو بخير النظرين : إما أن يفدي ، وإما أن يقتل رواه الجماعة .
فتجب الدية على كل من أتلف إنسانا بمباشرة ; كما لو ضربه أو دهسه بسيارة ، أو قتله بتسبب ; كمن حفر بئرا في طريق أو وضع فيه حجرا فتلف بسبب ذلك إنسان ، سواء كان التالف مسلما أو ذميا أو مستأمنا أو مهادنا ; لقوله تعالى : وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ
فإن كانت الجناية التي تلف بسببها المجني عليه عمدا محضا فإن الدية تجب كلها في مال الجاني حالة ، لأن الأصل يقتضي أن بدل المتلف يجب على متلفه ،
قال الموفق ابن قدامة : " أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال القاتل لا تحملها العاقلة ، وهذا يقتضيه الأصل ، قال تعالى : وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى انتهى .
وإنما خولف هذا الأصل في دية الخطأ لكثرة الخطأ ، فإن جنايات الخطأ تكثر ، ودية الآدمي كثيرة ، فإيجابها على الجاني في ماله يجحف به ، فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل تخفيفا عنه ; لأنه معذور ، والعامد لا عذر له ; فلا يستحق التخفيف عنه ، ولأنه قد وجب عليه القصاص ، فإذا عفي عنه ; فإنه يتحمل الدية ; فداء عن نفسه ، وتجب عليه الدية حالة كسائر بدل المتلفات .
* وأما دية القتل شبه العمد ودية القتل الخطأ ، فإنهما يكونان على عاقلة القاتل ; لحديث أبي هريرة رضي الله عنه ; قال : اقتتلت امرأتان من هذيل ، فرمت إحداهما الأخرى بحجر ، فقتلتها وما في بطنها ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها متفق عليه ، فدل الحديث على أن دية شبه العمد تتحملها عاقلة القاتل .
وأما دية الخطأ ; فقال ابن المنذر : " أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أنها على العاقلة " ، وقال الموفق : " لا نعلم خلافا أنها على العاقلة " ، وكذا دية ما يجري مجرى الخطأ ، كانقلاب النائم على إنسان فيقتله ، وحفر البئر تعديا فيقع فيها إنسان فيموت .
وما ترتب على الفعل المأذون به شرعا من تلف ، فهو غير مضمون ; كما لو أدب الرجل ولده أو زوجته ، أو أدب سلطان أحدا من رعيته ، ولم يسرف واحد من هؤلاء في التأديب ، ومات المؤدب لم يجب شيء على المؤدب ; لأنه فعل ما له فعله شرعا ، ولم يتعد فيه ، فإن أسرف في التأديب ، فزاد فوق المعتاد ، فتلف المؤدب ; ضمنه ، لتعديه بالإسراف .
* وإن كان التأديب لامرأة حامل ، فأسقطت حملها بسببه وجب على المؤدب ضمان الحمل بغرة عبد أو أمة ; لما في " الصحيحين " : أنه صلى الله عليه وسلم قضى في إملاص المرأة بعبد أو أمة وهو قول أكثر أهل العلم .
* ومن أفزع حاملا فأسقطت جنينها بسبب ذلك كما لو طلبها سلطان ، أو استعدى عليها رجل بالشرط ; وجب ضمان الجنين على من أفزعها ; لهلاكه بسببه ; لما روي عن عمر رضي الله عنه ; " أنه بعث إلى امرأة مغيبة كان يدخل عليها ، فقالت : يا ويلها ! ما لها ولعمر ؟ فبينما هي في الطريق ، إذ فزعت ، فضربها الطلق ، فألقت ولدا ، فصاح صيحتين ثم مات . فاستشار عمر - أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : ليس عليك شيء . فقال علي : إن كانوا قالوا في هواك ; فلم ينصحوا لك ، إن ديته عليك ; لأنك أفزعتها فألقته "
* ومن أمر شخصا مكلفا أن ينزل بئرا أو يصعد شجرة ونحوها ، ففعل ، وهلك بسبب نزوله أو صعوده لم يضمنه الآمر ، لأنه لم يجن ولم يتعد عليه في ذلك .
فإن كان المأمور غير مكلف ; ضمنه الآمر ; لأنه تسبب في إتلافه .
ولو استأجر شخصا لنزول البئر وصعود الشجرة ، فمات بسبب ذلك ; لم يضمنه المستأجر ، لأنه لم يجن ولم يتعد .
* ومن دعا من يحفر له بئرا بداره ، فمات بهدم لم يلقه عليه أحد فهو هدر ; لعدم التعدي عليه .
ومن ذلك ندرك مدى اهتمام الإسلام بحفظ الأرواح وحقن دماء الأبرياء .
لكن في وقتنا هذا كثر التهاون بهذه المسئولية على أيدي أولئك الذين يتهورون في قيادة السيارات ، فيعرضون أرواحهم وأرواح غيرهم للهلاك ، وكم هلك بسبب ذلك من الأرواح البريئة المحرمة ، فقد تذهب الجماعة بأسرها أو العائلة بأكملها على يد طائش متهور لا يقدر المسئولية ولا ينظر في العواقب ، وقد يكون السبب في ذلك آباء هؤلاء الأطفال المتهورين ، حين يشترون لهم السيارات الفارهة ، ويسلمونها لهم ، ليزهقوا بها الأرواح البريئة ، إنهم بذلك يسلمونهم سلاحا فتاكا يعبثون به ويحصدون به الأنفس ويروِّعون به الآمنين .
فيجب على هؤلاء أن يتقوا الله في أولادهم وفي أرواح المسلمين ، ويجب على ولاة الأمور وفقهم الله أن يأخذوا على يد الجميع بما يضمن سلامة الجميع واستتباب الأمن ; فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن .
باب في مقادير الديات
* مقادير ديات النفس تختلف باعتبار الإسلام والحرية والذكورة والأنوثة وكون الشخص المقتول موجودا للعيان أو حملا في البطن .
* وأكثرها مقدار دية الحر المسلم ، حيث تبلغ ألف مثقال من الذهب ، أو اثني عشر ألف درهم من الدراهم الإسلامية التي كل عشرة منها سبعة مثاقيل ، أو مائة من الإبل ، أو مائتي بقرة ، أو ألفي شاة ; لحديث أبي داود عن جابر رضي الله عنه : فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل ، وعلى أهل البقر مائتي بقرة ، وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعن عكرمة عن ابن عباس : أن رجلا قتل ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألف درهم رواه أبو داود وابن ماجه ، وفي كتاب عمرو بن حزم : على أهل الذهب ألف دينار رواه النسائي وغيره .
* قد اختلف أهل العلم ، هل هذه المذكورات أصول للدية ، بحيث إذا دفع من تلزمه واحدا منها ; يلزم الولي قبوله ، سواء كان ولي الجناية من أهل ذلك النوع أم لا ; لأنه أتى بالأصل في قضاء الواجب عليه . هذا قول جماعة من أهل العلم .
والقول الثاني أن الأصل هو الإبل فقط ، وهو قول جهور العلماء لقوله صلى الله عليه وسلم : في النفس المؤمنة مائة من الإبل وقوله صلى الله عليه وسلم : ألا إن في قتيل عمد الخطأ مائة من الإبل ولأبي داود أن عمر قام خطيبا ، فقال : ( ألا إن الإبل قد غلت ; فقوِّم على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا ، وعلى أهل البقر مائتي بقرة ، وعلى أهل الشاء ألفي شاة ، وعلى أهل الحلل مائتي حلة ) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم غلَّظ في الإبل دية العمد ، وخفف بها دية الخطأ ، وأجمع على ذلك أهل العلم ; فهي الأصل .
وهذا القول هو الراجح ، وعليه ; فيكون ما عدا الإبل من الأصناف المذكورة يكون معتبرا بها من باب التقويم .
* وتغلظ الدية في قتل العمد وشبهه ، فتجعل المائة من الإبل أرباعا : خمس وعشرون بنت مخاض ، وخمس وعشرون بنت لبون ، وخمس وعشرون حقة ، وخمس وعشرون جذعة ; لما روى الزهري عن السائب بن يزيد ، قال : كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباعا : خمسا وعشرين جذعة ، وخمسا وعشرين حقة ، وخمسا وعشرين بنت لبون ، وخمسا وعشرين بنت مخاض فإن جاء بالإبل على هذا النمط ، لزم ولي الجناية أخذها ، وإن شاء دفع قيمتها حسب ما تساوي هذه الأصناف في كل عصر بحسبه .
* وتكون الدية في الخطأ مخففة ; بحيث تجعل المائة من الإبل خمسة أنواع : عشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون من بني مخاض ، هذه الأصناف أو قيمتها حسب ما تساوي في كل عصر بحسبه .
وبنت المخاض ما تم لها سنة ، وبنت اللبون ما تم لها سنتان ، والحقة ما تم لها ثلاث سنوات ، والجذعة ما تم لا أربع سنين .
* ودية الحر الكتابي سواء كان ذميا أو مستأمنا أو معاهَدا نصف دية المسلم ، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن النبى صلى الله عليه وسلم قضى بأن عقل أهل الكتاب نصف عقل المسلمين رواه أحمد وأبو داود وغيرهما .
* ودية المجوسي الذمي أو المعاهد أو المستأمن ودية الوثني المعاهد أو المستأمن : ثمانمائة درهم إسلامي ; لما روى ابن عدي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعا : دية المجوسي ثمانمائة درهم وهو قول أكثر أهل العلم .
* ونساء أهل الكتاب والمجوس وعبدة الأوثان على النصف من دية ذكرانهم ; كما أن دية نساء المسلمين على النصف من دية ذكرانهم .
قال ابن المنذر : " أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل ، وفي كتاب عمرو بن حزم : " دية المرأة على النصف من دية الرجل " .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله : " لما كانت المرأة أنقص من الرجل ، والرجل أنفع منها ، ويسد ما لا تسده المرأة من المناصب الدينية والولايات وحفظ الثغور والجهاد وعمارة الأرض وعمل الصنائع التي لا تتم مصالح العالم إلا بها ، والذب عن الدنيا والدين ; لم تكن قيمتهما مع ذلك متساوية ، وهي الدية ، فإن دية الحر جارية مجرى قيمة العبد وغيره من الأموال ; فاقتضت حكمة الشارع أن جعل قيمتها على النصف من قيمته ، لتفاوت ما بينهما " .
* ويستوي الذكر والأنثى فيما يوجب دون ثلث الدية لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا : " عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديته " أخرجه النسائي ، وقال سعيد بن المسيب : " إنه السنة " .
وقال الإمام ابن القيم : " وإن خالف فيه أبو حنيفة والشافعي وجماعة ، وقالوا : هي على النصف في القليل والكثير ، ولكن السنة أولى ، والفرق فيما دون الثلث وما زاد عليه ، أن ما دونه قليل ، فجبرت مصيبة المرأة فيه بمساواتها للرجل ، ولهذا استوى الجنين الذكر والأنثى في الدية ; لقلة ديته ، وهي الغرة ، فنزل ما دون الثلث منزلة الجنين . . . " انتهى .
* ودية القن قيمته ذكرا كان أو أنثى ، صغيرا أو كبيرا ، بالغة ما بلغت ، وهذا مجمع عليه إذا كانت قيمته دون دية الحر ، فإن بلغت دية الحر فأكثر ; فذهب أحمد في المشهور عنه ومالك والشافعي وأبو يوسف إلى أن فيه قيمته بالغة ما بلغت .
ويجب في الجنين ذكرا كان أو أنثى إذا سقط ميتا بسبب جناية على أمه عمدا أو خطأ غرة عبد أو أمة ، قيمتها خمس من الإبل ; لحديث أبي هريرة رضي الله عنه ; قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة متفق عليه .
وتورث الغرة عنه ، كأنه سقط حيا ; لأنها دية له ، وهو مذهب الجمهور ، وتقدر الغرة بخمس من الإبل ; أي : بعشر دية أمه .
باب في ديات الأعضاء والمنافع
أولا : دية الأعضاء
* قال بعض العلماء : في الآدمي خمسة وأربعون عضوا ، وهذه الأعضاء منها ما في الإنسان منه شيء واحد ، ومنها ما في الإنسان منه اثنان فأكثر :
* فإذا تلف ما في الإنسان منه شيء واحد كالأنف واللسان والذكر ، ففيه دية تلك النفس التي قطع منها على التفصيل السابق ، سواء كان ذكرا أو أنثى ، حرا أو عبدا أو ذميا أو غيره ; لأن في إتلاف هذا العضو الذي لم يخلق الله في الإنسان منه إلا شيئا واحدا إذهاب منفعة الجنس ; فهو كإذهاب النفس ، فوجبت فيه دية النفس ، وهذا محل وفاق ، وفي حديث عمرو بن حزم أنه صلى الله عليه وسلم قال : وفي الذكر الدية ، وفي الأنف إذا أوعب جدعا الدية ، وفي اللسان الدية رواه أحمد والنسائي واللفظ له ، وصححه أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي .
* وما في الإنسان منه شيئان ; كالعينين ، والأذنين ، والشفتين ، واللَّحْيين ( وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان ) ، وثديي المرأة وثندوتي الرجل واليدين والرجلين والأنثيين ; في إتلاف الاثنين مما ذكر الدية كاملة ، وفي إتلاف أحدهما نصفها ، لأن فيهما منفعة وجمالا ، وليس في البدن غيرهما من جنسهما .
قال الموفق : " لا نعلم فيه مخالفا " .
وفي كتاب عمرو بن حزم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له : وفي الأنف إذا أوعب جدعا الدية ، وفي اللسان الدية ، وفي الشفتين الدية ، وفي البيضتين الدية ، وفي الصلب الدية ، وفي العينين الدية ، وفي الرجل الواحدة نصف الدية
قال ابن عبد البر رحمه الله : " كتاب عمرو بن حزم معروف عند العلماء ، وما فيه متفق عليه ; إلا قليلا " .
* وما في الإنسان منه ثلاثة أشياء : إذا أتلفها جميعا ; ففيها دية كاملة ، وفي الواحد منها ثلث الدية ، وذلك كالأنف ; فإنه يشمل ثلاثة أشياء هي : المنخران والحاجز بينهما ، فتوزع الدية عليها كما توزع الأصابع .
* وما في الإنسان منه أربعة أشياء ; ففيها جميعا إذا أتلفت دية كاملة ، وفي الواحد منها ربع الدية ، وذلك كالأجفان الأربعة ; لأن فيها جمالا ظاهرا ونفعا كاملا ; حيث تكن العين ، وتحفظها من الحر والبرد ، فوجبت فيها الدية ، وفي بعضها بقدره .
* وفي أصابع اليدين الدية كاملة ، وكذا أصابع الرجلين دية كاملة إذا قطعت جميعا ، وفي كل أصبع عشر الدية ; لحديث ابن عباس مرفوعا : دية أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل لكل أصبع رواه الترمذي وصححه ، وللبخاري عنه مرفوعا : هذه وهذه سواء ( يعني : الخنصر والإبهام ) فدل الحديثان على وجوب الدية في أصابع اليدين والرجلين ، وأن في كل أصبع عشرها .
* وفي كل أنملة من أصابع اليدين والرجلين ثلث عشر الدية ; لأن في كل إصبع ثلاثة مفاصل ، فتقسم دية الإصبع على عددها ، كما قسمت دية اليد على الأصابع بالسوية ، والإبهام فيه مفصلان ، في كل مفصل منهما نصف عشر الدية لما سبق .
* وفي كل سن نصف عشر الدية ( خمس من الإبل ) ; لحديث عمرو بن حزم مرفوعا : وفي السن خمس من الإبل رواه النسائي .
قال الموفق : " لا نعلم خلافا في أن دية الأسنان خمس خمس في كل سن " .
ثانيا : دية المنافع
* وأما المنافع ; فالمراد بها منافع تلك الأعضاء المذكورة ; كالسمع ، والبصر ، والشم ، والكلام ، والمشي ، فكل عضو له منفعة خاصة .
* ومن ذلك الحواس الأربع ، وهي : السمع ، والبصر ، والشم ، والذوق ، ففي كل حاسة منها إذا ذهبت بسبب الجناية دية كاملة .
قال ابن المنذر : " أجمع عوام أهل العلم على أن في السمع الدية " .
وقال الموفق : " لا خلاف في وجوب الدية بذهاب السمع " .
وفي كتاب عمرو بن حزم : " وفي المشام الدية "
ولقضاء عمر رضي الله عنه في رجل ضرب رجلا فذهب سمعه وبصره ونكاحه وعقله بأربع ديات والرجل حي ولا يعرف له مخالف من الصحابة .
* وتجب الدية كاملة في إذهاب كل من الكلام والعقل والمشي والأكل والنكاح وعدم استمساك البول والغائط ; لأن في كل واحدة من هذه منفعة كبيرة ، ليس في البدن مثلها .
* ويجب في كل واحد من الشعور الأربعة الدية كاملة ، وهي شعر الرأس وشعر اللحية وشعر الحاجبين وأهداب العينين ، وفي الحاجب الواحد نصف الدية ، وفي الهدب الواجب ربع الدية ; لأن الدية تتوزع عليها بعددها .
ومن هنا نعلم ما للحية في الإسلام من احترام وقيمة ، حيث أوجب في إتلافها دية كاملة ، وذلك لعظيم منفعتها وجمالها ووقارها ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتوفيرها وإكرامها ، ونهى عن حلقها وقصها والتعدي عليها ; فتبا لقوم حاربوها واعتدوا عليها بحلقها وإزالتها من وجوههم تشبها بالنساء وتشبها بالكفار والمنافقين وتحولا من الرجولة والشهامة إلى الميوعة . . . وهكذا .
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
فيجب على هؤلاء أن يراجعوا رشدهم ، ويحكموا عقولهم ، ويطيعوا رسولهم صلى الله عليه وسلم ، ويوفروا لحاهم التي خلقها الله جمالا لهم وعلامة على رجولتهم .
باب في أحكام الشجاج وكسر العظام
الشجاج : جمع شجة ، وهي الجرح في الرأس والوجه خاصة ، سميت بذلك من الشج ، وهو لغة : القطع ; لأنها تقطع الجلد ، فإن كان القطع في غير الرأس والوجه ; سمى جرحا لا شجة .
وتنقسم الشجة باعتبار تسميتها المنقولة عن العرب إلى عشرة أقسام ، كل قسم له اسم خاص وحكم خاص :
الأولى: الحارصة : وهي التي تحرص الجلد ، أي : تشقه قليلا ولا تدميه ، وتسمى القاشرة ، أي : لأنها تقشر الجلد .
الثانية: البازلة : وهي التي يسيل منها الدم قليلا ، وتسمى الدامعة ; تشبيها بخروج الدمع من العين .
الثالثة: الباضعة : وهي التي تبضع اللحم ; أي : تشقه بعد الجلد .
الرابعة: المتلاحمة : وهي الغائصة في اللحم ، ولذلك اشتقت منه .
الخامسة: السمحاق : وهي التي تنفذ من اللحم ، ولا يبقى بينها وبين العظم سوى جلدة رقيقة تسمى السمحاق ، سميت الجراحة الواصلة إليها باسمها . وهذه الخمس المذكورة من الشجاج ليس في ديتها مبلغ مقدر من الشارع ، فيقدر فيها حكومة ، يجتهد الحاكم في تقديرها .
السادسة: الموضحة : وهي التي توضح العظم وتبرزه ، وديتها خمسة أبعرة ; لحديث عمرو بن حزم : وفي الموضحة خمس من الإبل -
السابعة: الهاشمة وهي التي توضح العظم وتهشمه ; أي : تكسره ، ويجب فيها عشر من الإبل ، يروى ذلك عن زيد بن ثابت رضي الله عنه ، ولم يعرف له مخالف في عصره من الصحابة .
الثامنة: المنقلة : وهي التي توضح العظم وتهشمه وتنقل العظام بحيث تحتاج إلى جمع لتلتئم ، ويجب فيها خمس عشرة من الإبل ، لحديث عمرو بن حزم الذي كتبه له النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل
التاسعة: المأمومة : وهي التي تصل إلى أم الدماغ ; أي : جلدة الدماغ .
العاشرة: الدامغة : وهي التي تخرق تلك الجلدة .
ويجب في كل واحدة من هاتين الشجتين المأمومة والدامغة ثلث الدية ; لحديث عمرو بن حزم : وفي المأمومة ثلث الدية والدامغة أبلغ منها ; فهي أولى منها ، والغالب أن صاحبها لا يسلم ، ولذلك لم يرد بخصوصها تقدير -
وفي الجراحة الجائفة ثلث الدية ; لما في كتاب عمرو بن حزم : وفي الجائفة ثلث الدية
قال الإمام الموفق : " وهو قول عامة أهل العلم ، منهم أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل الحديث وأصحاب الرأي " .
والمراد بالجائفة : الجراحة التي تصل إلى باطن جوف بطن وظهر وصدر وحلق ومثانة .
* وأما ما يجب في كسر العظام
- فيجب في الضلع إذا جبر بعد كسر ; كما كان بعير ، ويجب في كل واحدة من الترقوتين بعير ; لما روي عن عمر رضي الله عنه ; أنه قال : " في الضلع جمل ، وفي الترقوة جمل " والترقوة هي العظم المستدير حول العنق من النحر إلى الكتف ، ولكل إنسان ترقوتان .
- 404- وإن انجبر الضلع أو الترقوة بدون استقامة ، وجب في ذلك حكومة
ويجب في كسر الذراع ، وهو الساعد الجامع لعظمي الزند والعضد ، إذا جبر مستقيما : بعيران ، كما يجب ذلك أيضا في كسر الفخذ وكسر الساق وكسر الزند ، لما روى سعيد عن عمرو بن شعيب : أن عمرو بن العاص رضي الله عنه كتب إلى عمر في أحد الزندين إذا كسر ; فكتب إليه عمر : أن فيه بعيرين ، وإذا كسر الزندان ، ففيهما أربعة من الإبل ، ولم يظهر له مخالف من الصحابة .
هذا ما ورد فيه التقدير من الجراح والكسور ، وما عداه . من الجرح وكسر العظام كخرز الصلب وعظم العانة ; ففيه حكومة ،
والحكومة معناها أن يقوم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به ، ثم يقوم وهي به قد برئت ; فما نقص من القيمة ; فللمجني عليه مثل نسبته من الدية .
مثال ذلك : لو قدر أن قيمته لو كان عبدا سليما ستون ، وقيمته بالجناية خمسون ; ففيه سدس ديته ، لأن الناقص بالتقويم واحد من ستة ، وهو سدس قيمته ، فيكون للمجني عليه سدس ديته .
قال الموفق رحمه الله : " الصحيح أنه لا تقدير في غير الخمس : الضلع والترقوتين والزندين ; لأن التقدير إنما ثبت بالتوقيف ، ومقتضى الدليل وجوب الحكومة في هذه العظام الباطنة كلها يعني سوى هذه الخمس لقضاء عمر . .. " . انتهى .
قال الفقهاء رحمهم الله : فإن كانت الجراحة التي تقدر فيها الحكومة في محل له مقدر في الشرع ، وذلك كالشجة التي هي دون الموضحة ; فلا يجوز أن يبلغ بحكومتها أرش الموضحة ; لأن الجراحة لو كانت موضحة ; لم تزد غرامتها على خمس من الإبل ; فما دونها من باب أولى .
-405- وإذا برئ المجني عليه ، وعاد كما كان ; لم تنقصه الجناية شيئا ; فإنه يقوم وقت جريان الدم ; لأنه لابد في هذه الحالة من نقصه ، للخوف عليه ; ولتأثير الجناية عليه حينئذ .
باب في كفارة القتل
الكفارة سميت بذلك اشتقاقا من الكفر ، وهو الستر ، لأنها تستر الذنب
والدليل على وجوب كفارة القتل الكتاب والسنة والإجماع .
- قال الله تعالى : وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا إلى قوله تعالى : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا
- وروى أبو داود والنسائي ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في القاتل : أعتقوا عنه ، يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار
وإنما تجب الكفارة في قتل الخطأ وشبه العمد ، وأما القتل العمد العدوان ، فلا كفارة فيه ، لقوله تعالى : وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ولم يذكر فيه كفارة ; وروي أن سويد بن الصامت قتل رجلا ، فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم عليه القود ، ولم يوجب كفارة ، وعمرو بن أمية الضمري قتل رجلين عمدا ، فوداهما النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يوجب عليه كفارة ، ولأن الكفارة وجبت في الخطأ لتمحو إثمه ; لكونه لا يخلو من تفريط ; فلا تلزم في موضع عظم الإثم فيه ; بحيث لا يرتفع بها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " لا كفارة في قتل العمد ، ولا في اليمين الغموس ، وليس ذلك تخفيفا عن مرتكبها " .
وذكر موفق الدين ابن قدامة وغيره : " أن القتل الخطأ لا يوصف بتحريم ولا إباحة ; لأنه كقتل المجنون ، لكن النفس الذاهبة به معصومة محرمة ، فلذلك وجبت الكفارة فيها . .. انتهى .
ومعناه أن الحكمة في تشريع الكفارة في القتل الخطأ ترجع إلى أمرين :
الأمر الأول : أن الخطأ لا يخلو من تفريط من القاتل ،
الأمر الثاني : النظر إلى حرمة النفس الذاهبة به .
وأما العمد ; فلا تجب فيه الكفارة ; لأن إثمه لا يرتفع بالكفارة ; لعظمه وشدته ، لكن القاتل عمدا إذا تاب إلى الله تعالى ، ومكن من نفسه ; ليقتص منه ; فإن ذلك يخفف عنه الإثم ، فيسقط عنه حق الله بالتوبة ، وحق الأولياء بالقصاص أو العفو عنه ، ويبقى حق القتيل يرضيه الله بما شاء ، هذا معنى ما قرره العلامة ابن القيم في كتابه " الجواب الكافي " .
فمن قتل نفسا محرمة ، ولو كان مملوكه ، أو كان كافرا معاهدا أو مستأمنا ، مولودا أو جنينا بأن ضرب بطن حامل فألقت جنينا ميتا ، من قتل واحدا من هؤلاء ; وجبت عليه الكفارة ، لعموم قوله تعالى : وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا
وسواء انفرد بقتل النفس أو شارك في ذلك غيره ، وسواء كان القتل بمباشرة أو تسبب ; كمن حفر بئرا متعديا في حفرها ، أو نصب سكينا . .. ونحو ذلك من كل فعل نتج عنه وفاة شخص .
قال الموفق : " يلزم كل واحد من شركائه كفارة ، هذا قول أكثر أهل العلم . منهم مالك والشافعي وأصحاب الرأي " انتهى .
وتجب الكفارة على القاتل ، سواء كان كبيرا أو صغيرا أو مجنونا ، وسواء كان حرا أو عبدا ; لعموم الآية .
والكفارة عتق رقبة مؤمنة ، فإن لم يجد ; فصيام شهرين متتابعين ، ولا يجزئ الإطعام فيها ، فإذا لم يستطع الصوم ; بقي في ذمته ، ولا يجزئ عنه الإطعام ; لأنه تعالى لم يذكره ، والأبدال في الكفارات تتوقف على النص دون القياس .
ويكفر العبد بالصوم ; لأنه لا مال له يعتق منه .
وإن كان القاتل مجنونا أو صغيرا ، كفر عنه وليه بعتق ; لعدم إمكان الصوم منهما ، ولا تدخله النيابة ، وقد وجبت الكفارة على كل منهما ; لأنه حق مالي يتعلق بالقتل أشبه الدية ، ولأنها عبادة مالية أشبهت الزكاة .
وتتعدد الكفارة بتعدد القتل كتعدد الدية لتعدد القتل ، فلو قتل عدة أشخاص ; وجبت عليه عدة كفارات بعددهم .
وإن كان القتل مباحا - كقتل الباغي والمرتد والزاني المحصن والمقتول قصاصا أو حدا - أو لأجل الدفاع عن النفس ; فلا كفارة في ذلك كله ، لعدم حرمة المقتول .
* تنبيه : أداء كفارة القتل مما يتساهل فيه بعض الناس اليوم ، خصوصا في حوادث السيارات التي تذهب فيها أنفس كثيرة ، فقد يستثقل من تحمل المسئولية في ذلك الصيام ، ولا سيما إذا تعددت عليه الكفارات ; فلا يصوم ، وتبقى ذمته مشغولة ، كما أن هناك ظاهرة أخرى ; وهي أن عاقلة القاتل لا تتحمل دية الخطأ ، وإن تحمل أحد منهم شيئا منها ; فإنه يظنه من باب التبرع ، ولذلك نرى بعض من حصل منهم القتل الخطأ يسألون الناس سداد الدية ، وهذا تعطيل لحكم شرعي عظيم ، أدى إلى جهل الكثير به ، وربما يكون بعض المتسولين باسم تلك الغرامة متحيلا ، فيجب الأخذ على يده وردعه - عن أكل المال بالباطل والتحيل بواسطة حمل بعضهم صور صكوك غير شرعية ولا حقيقية ، وقد يكون مضى عليها حين طويل من الدهر .
باب في أحكام القسامة
القسامة لغة : اسم مصدر ، من قولهم : أقسم إقساما وقسامة ، أي : حلف حلفا ، والمراد بها هنا الأيمان ، أي : أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم .
وتشرع القسامة في القتيل إذا وجد ولم يعلم قاتله واتهم به شخص .
والدليل عليها السنة والإجماع .
ففي " الصحيحين " عن سهل بن أبي حثمة ، أن عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود خرجا إلى خيبر ، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه ، فأتى يهود ، فقال : أنتم قتلتموه . فقالوا : لا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم " وفي رواية : تأتون بالبينة ؟ قالوا : ما لنا بينة . فقال : " أتحلفون " ; . قالوا : وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر ؟ ! فقال : " تبرئكم يهود بخمسين يمينا . فقالوا : كيف نأخذ أيمان قوم كفار ; فوداه بمائة من الإبل
فدل ذلك على مشروعية القسامة ، وأنها أصل من أصول الشرع ، مستقل بنفسه ، وقاعدة من قواعد الأحكام ، فتخصص بها الأدلة العامة .
وأما شروط القسامة
- فمن أهمها وجود اللوث ، وهو العداوة الظاهرة بين القتيل والمتهم بقتله ، كالقبائل التي يطلب بعضها بعضا بالثأر ، وكل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن أنه قتله من أجله ; فللأولياء حينئذ أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم أنه قتله ، وإن كانوا غائبين .
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن اللوث لا يختص بالعداوة ، بل يتناول كل ما يغلب على الظن صحة الدعوى ; كتفرق جماعة عن قتيل وشهادة من لا يثبت القتل بشهادتهم . .. ونحو ذلك .
قال أحمد : " أذهب إلى القسامة إذا كان ثم لطخ ، وإذا كان ثم سبب بين ، وإذا كان ثم عداوة ، وإذا كان مثل المدعى عليه يفعل مثل هذا " .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقا على ذلك : " فذكر أمورا أربعة : اللطخ : وهو التكلم في عرضه كالشهادة المردودة ، والسبب البين كالتفرق عن قتيل ، والعداوة ، وكون المطلوب من المعروفين بالقتل ، وهذا هو الصواب " .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله : " وهذا من أحسن الاستشهاد ؟ فإنه اعتماد على ظاهر الأمارات المغلبة على الظن صدق المدعى ، فيجوز له أن يحلف بناء على ذلك ، ويجوز للحاكم - بل يجب عليه - أن يثبت له حق القصاص أو الدية ، مع علمه أنه لم ير ولم يشهد . .. " انتهى .
لكن لا ينبغي للأولياء أن يحلفوا إلا بعد الاستيثاق من غلبة الظن ، وينبغي للحاكم أن يعظهم ويعرفهم ما في اليمين الكاذبة من العقوبة .
- ومن شروط القسامة : أن يكون المدعى عليه القتل فيها مكلفا ; فلا يصح الدعوى فيها على صغير ولا مجنون .
- ومن شروطها إمكان القتل من المدعى عليه ، فإن لم يمكن منه القتل ; لبعده عن مكان الحادث وقت وقوعه ؟ لم تسمع الدعوى عليه .
* وصفة القسامة ، أنها إذا توفرت شروط إقامتها ; يبدأ بالمدعين ، فيحلفون خمسين يمينا توزع عليهم على قدر إرثهم من القتيل : أن فلانا هو الذي قتله ، ويكون لك بحضور المدعى عليه . فإن أبى الورثة أن يحلفوا ، أو امتنعوا من تكميل الخمسين يمينا ؟ فإنه يحلف المدعى عليه خمسين يمينا إذا رضي والمدعون بأيمانه ، فإذا حلف برئ ، وإن لم يرض المدعون بتحليف المدعى عليه .
فدى الإمام القتيل بالدية من بيت المال ، لأن الأنصار لما امتنعوا من قبول أيمان اليهود ؟ فدى النبي - صلى الله عليه وسلم القتيل من بيت المال ، ولأنه لم يبق سبيل لإثبات الدم على المدعى عليه ، فوجب الغرم من بيت المال ، لئلا يضيع دم المعصوم هدرا بلا مبرر لإهداره .
* وقد اختلف الفقهاء في الذي يثبت في القسامة إذا توفرت شروطها وحلف أولياء القتيل خمسين يمينا ، والصحيح أنها إذا توفرت شروط القصاص بعد توفر شروط القسامة وتمامها إنما يثبت بها القصاص على المدعى عليه ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم : يحلف خمسون منكم على رجل منهم ، فيدفع إليكم برمته وفي لفظ لمسلم : " ويسلم إليكم " فتقوم القسامة مقام البينة .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله عن ثبوت الحكم بالقسامة : " وليس إعطاء بمجرد الدعوى ، وإنما هو بالدليل الظاهر الذي يغلب على الظن صدقه ، فوق تغليب الشاهدين ، وهو اللوث والعداوة الظاهرة والقرينة الظاهرة ؟ فقوى الشارع هذا السبب باستحلاف خمسين من أولياء المقتول الذين يستحيل اتفاقهم كلهم على رمي البريء بدم ليس منه ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ولو يعطى أناس بدعواهم لا يعارض القسامة بوجه ; فإنما نفى الإعطاء بدعوى مجردة . .. انتهى .
قال الفقهاء رحمهم الله : ومن مات في زحمة جمعة أو طواف فإنه تدفع ديته من بيت المال ; لما روي عن عمر وعلي : " أنه قتل رجل في زحام الناس بعرفة ، فجاء أهله إلى عمر ، فقال : بينتكم على قاتله . فقال علي : يا أمير المؤمنين ! لا يطل دم امرئ مسلم ، إن علمت قاتله ، وإلا ; فأعط ديته من بيت المال
كتاب الحدود والتعزيرات
باب في أحكام الحدود
بسم الله الرحمن الرحيم
الحدود جمع حد ، وهو لغة المنع ، وحدود الله تعالى محارمه التي منع من ارتكابها وانتهاكها .
والحدود في الاصطلاح الشرعي عقوبة مقدرة شرعا في معصية لتمنع من الوقوع في مثلها .
والأصل في مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " الحدود صادرة عن رحمة الخلق وإرادة الإحسان إليهم ، ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهم ; كما يقصد الوالد تأديب ولده ، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض . .. انتهى .
* والحكمة في تشريع الحدود أنها شرعت زواجر للنفوس ونكالا وتطهيرا ، فهي عقوبة مقدرة لحق الله تعالى ، ثم لأجل مصلحة المجتمع ; فالله تعالى أوجبها على مرتكبي الجرائم التي تتقاضاها الطباع البشرية ; فهي من أعظم مصالح العباد في المعاش والمعاد ; فلا تتم سياسة الملك إلا بزواجر عقوبات لأصحاب الجرائم ، منها ينزجر العاصي ويطمئن المطيع وتتحقق العدالة في الأرض ويأمن الناس على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم ، كما هو المشاهد في المجتمعات التي تقيم حدود الله ; فإنه يتحقق فيها من الأمن والاستقرار وطيب العيش ما لا ينكره منكر ؟ بخلاف المجتمعات التي عطلت حدود الله ، وزعمت أنها وحشية ، وأنها لا تليق بالحضارة المعاصرة ، فحرمت مجتمعاتها من هذه العدالة الإلهية ، ومن نعمة الأمن والاستقرار ، وإن كانت تملك من الأسلحة والأجهزة الدقيقة ما تملك ; فإن ذلك لا يغني عنها شيئا ، حتى تقيم حدود الله التي شرعها لمصالح عباده ; فإن المجتمعات البشرية لا تحكم بالحديد والآلة فقط ، وإنما تحكم بشريعة الله وحدوده ، وإنما الحديد والأجهزة آلة لتنفيذ الحدود الشرعية ، إذا أحسن استعمالها ، وكيف يسمي هؤلاء المنحرفون حدود الله التي هي هدى ورحمة للعالمين ؟ ! كيف يسمونها وحشية ولا يسمون عمل المجرم المعتدي وحشية وهو يروع الآمنين ويجني على الأبرياء ويخلخل أمن المجتمع ؟ ! إن هذا هو الوحشية ، وإن الذي يشفق عليه أظلم منه وأشد منه وحشية ، ولكن إذا انتكست العقول وفسدت الفطر فإنها ترى الحق باطلا والباطل حقا ؟ كما قال الشاعر :
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم
هذا ، ولا يجوز تطبيق الحد على الجاني ; إلا إذا توفرت شروط تطبيقه وهي كما يلي :
الشرط الأول : أن يكون مرتكب الجريمة بالغا عاقلا ; لقوله صلى الله عليه وسلم : رفع القلم عن ثلاثة : الصغير حتى يبلغ ، والمجنون حتى يفيق ، والنائم حتى يستيقظ رواه أهل السنن وغيرهم ، فإذا كانت العبادة لا تجب على هؤلاء ; فالحد أولى بالسقوط ؟ لعدم التكليف ، ولأنه يدرأ بالشبهة .
الشرط الثاني : أن يكون مرتكب الجريمة عالما بالتحريم ، فلا حد على من يجهل التحريم ; لقول عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم : " لا حد إلا على من علمه " ولم يعلم لهم مخالف من الصحابة ، وقال الموفق ابن قدامة : " هو قول عامة أهل العلم " .
فإذا توفرت هذه الشروط في مرتكب الجريمة التي يترتب عليها الحد الشرعي ; فإنه يقيمه عليه الإمام أو نائبه لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحدود ، ثم خلفاؤه من بعده كانوا يقيمونها ، وقد وكل النبي صلى الله عليه وسلم من يقيم الحد نيابة عنه ; حيث قال : " واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت ; فارجمها " وأمر صلى الله عليه وسلم برجم ماعز ولم يحضره ، وقال في سارق : اذهبوا به فاقطعوه ولأن الحد يحتاج إلى اجتهاد ، ولا يؤمن فيه الحيف ، فوجب أن يتولاه الإمام أو نائبه ، ضمانا للعدالة في تطبيقه ، سواء كانت الحدود لحق الله تعالى كحد الزنى أو كانت لحق الآدمي كحد القذف .
قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله : الحدود التي ليست لقوم معينين تسمى حدود الله وحقوق الله ; مثل قطاع الطريق والسراق والزناة ونحوهم ، ومثل الحكم في الأموال السلطانية والوقوف والوصايا التي ليست لمعين ; فهذه من أهم أمور الولايات ، يجب على الولاة البحث عنها وإقامتها من غير دعوى أحد بها ، وتقام الشهادة من غير دعوى أحد بها ، وتجب إقامتها على الشريف والوضيع والقوي والضعيف . .. انتهى .
ولا تجوز إقامة الحد في المسجد وإنما تقام خارجه ; لحديث حكيم بن حزام : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يستقاد بالمسجد ، وأن تنشد الأشعار ، وأن تقام فيه الحدود . .. والمراد الأشعار غير النزيهة .
وتحرم الشفاعة في الحد بعد أن يبلغ السلطان لأجل إسقاطه وعدم إقامته ، ويحرم على أولي الأمر قبول الشفاعة في ذلك ; لقوله صلى الله عليه وسلم : من حالت شفاعته دون حد من حدود الله ; فقد ضاد الله في أمره وقال صلى الله عليه وسلم في الذي أراد أن يعفو عن السارق : فهلا قبل أن تأتيني به
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : لا يحل تعطيله ( أي : الحد ) لا بشفاعة ولا هدية ولا غيرها ، ولا تحل الشفاعة فيه ، ومن عطله لذلك وهو قادر على إقامته ; فعليه لعنة الله
وقال رحمه الله : " ولا يجوز أن يؤخذ من السارق والزاني والشارب وقاطع الطريق ونحوه مال يعطل به الحد لا لبيت المال ولا لغيره ، وهذا المال المأخوذ لتعطيل الحد سحت خبيث ، وإذا فعل ولي الأمر ذلك جمع بين فسادين عظيمين : تعطيل الحد وأكل السحت وترك الواجب وفعل المحرم ، وأجمعوا على أن المال المأخوذ من الزاني والسارق والشارب والمحارب ونحو ذلك لتعطيل الحد سحت خبيث ، وهو أكثر ما يوجد من إفساد أمور المسلمين ، وهو سبب سقوط حرمة المتولي وسقوط قدره وانحلال أمره . .. " انتهى كلامه رحمه الله .
فالجرائم لا يحسمها ويقي المجتمع من شرها إلا إقامة الحدود الشرعية على مرتكبيها ، وأما أخذ الغرامة المالية منهم وسجنهم وما أشبه ذلك من العقوبات الوضعية ، فهو ضياع وظلم وزيادة شر .
قال فقهاؤنا رحمهم الله : إن الجنايات التي تجب فيها الحدود خمس هي : الزنى والسرقة ، وقطع الطريق ، وشرب الخمر ، والقدف ، وما عدا ذلك يجب فيه التعزير ; كما يأتي بيانه إن شاء الله .
وقالوا : أشد الجلد في الحدود جلد الزنى ثم جلد القذف ، ثم جلد الشرب ، ثم جلد التعزير ; لأن الله تعالى خص الزنى بمؤيد تأكيد ; لقوله وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ وما دونه أخف منه في العدد ; فلا يجوز أن يزيد عليه في الصفة .
وقالوا : من مات في حد ، فهو هدر ، ولا شيء على من حده ، لأنه أتى به على الوجه المشروع بأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم .
أما لو تعدى الوجه المشروع في إقامة الحد ، ثم تلف المحدود ; فإنه يضمنه بديته ، لأنه تلف بعدوانه ، فأشبه ما لو ضربه في غير الحد .
قال الموفق رحمه الله : بغير خلاف نعلمه
باب في حد الزنى
وقال الفقهاء رحمهم الله : ويجب في إقامة حد الزنى حضور إمام أو نائبه ، وحضور طائفة من المؤمنين ; لقوله تعالى : وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
والزنى من أعظم الجرائم ، وهو يتفاوت في الشناعة والإثم والقبح ; فالزنى بذات زوج والزنى بذات المحرم والزنى بحليلة الجار من أعظم أنواعه .
ولما كان الزنى من أعظم الجرائم وكبار المعاصي ; لما فيه من اختلاط الأنساب الذي يبطل بسببه التعارف والتناصر على الحق ، وفيه هلاك الحرث والنسل ، لما كان يشتمل على هذه الآثار القبيحة ; رتب الله عليه هذا الحد الصارم ، وهو رجم الزاني بالحجارة حتى يموت أو جلده وتغريبه عن بلده ; ليحصل بذلك الردع عن ارتكابه ، إضافة إلى ما ينشأ عنه من الأمراض التي تفتك بالمجتمعات ، ولذلك نهى عنه الشارع أشد النهي ، فقال تعالى : وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ورتب على ارتكابه تلك العقوبة المؤلمة .
وقد عرف الفقهاء رحمهم الله الزنى بأنه فعل الفاحشة في قبل أو دبر .
وقال ابن رشد : " هو كل وطء وقع على غير نكاح صحيح ولا شبه نكاح ولا ملك يمين ، وهذا متفق عليه في الجملة من علماء الإسلام ، وإن كانوا اختلفوا فيما هو شبهة يدرأ الحد أو لا . . " انتهى .
فإذا كان الزاني محصنا مكلفا ; رجم بالحجارة حتى يموت ، رجلا كان أو امرأة ، في قول أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار ، ولم يخالف في ذلك إلا الخوارج .
والرجم مع ذلك ثابت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية المتواترة -
وكان الرجم مذكورا في القرآن الكريم ، ثم نسخ لفظه وبقي حكمه ، وذلك في قوله تعالى : " والشيخ والشيخة إذا زنيا ، فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم " .
ومع ثبوت الرجم بالقرآن المنسوخ لفظه دون حكمه ، وبالسنة المتواترة والإجماع ; فقد تجرأ الخوارج ومن في حكمهم من بعض الكتاب المعاصرين إلى إنكار الرجم ; تبعا لأهوائهم ، وتخطيا للأدلة الشرعية وإجماع المسلمين .
والمحصن الذي يجب رجمه إذا زنى هو من وطئ امرأته المسلمة أو الذمية بنكاح صحيح وهما بالغان عاقلان حران ، فإن اختل شرط من هذه الشروط المذكورة في أحد الزوجين ; فلا إحصان .
والشروط تتلخص في الآتي :
1- أن يحصل منه الوطء في القبل .
2- أن يكون الوطء في نكاح صحيح .
3- حصول الكمال في كل منهما ; بأن يكون بالغا حرا عاقلا .
وخص الثيب بالرجم لكونه تزوج فعلم ما يقع به العفاف عن الفروج المحرمة ، واستغنى عنها ، وأحرز نفسه عن التعرض لحد الزنى ، فزال عذره من جميع الوجوه ، وكملت في حقه النعمة ، ومن كملت في حقه النعمة ، فجنايته أفحش ; فهو أحق بزيادة العقوبة .
وإذا زنى المكلف الحر غير المحصن ، جلد مائة جلدة ; لقوله تعالى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وخفف عنه عقوبة المحصن ، وهي القتل ، وصار إلى الجلد ; لما حصل له من العذر ، فيحقن دمه ، ويزجر عن الزنى بإيلام جميع بدنه بأعلى أنواع الجلد ، وهو ضرب الجلد ، وقال تعالى : وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ أي : لا ترحموهما بترك إقامة الحد عليهما ، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فإن الإيمان ليقتضي الصلابة في الدين ، والاجتهاد في إقامة أحكامه .
وثبت مع الجلد تغريبه عاما بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لما روى الترمذي وغيره : أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب ، وأن أبا بكر ضرب وغرب ، وأن عمر ضرب وغرب ، وقال : " البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام "
وإذا كان الزاني مملوكا ; جلد خمسين جلدة ; لقوله تعالى في الإماء : فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ولا فرق بين الذكر والأنثى ، والعذاب المذكور في القرآن الكريم هو الجلد ، والرجم وإن كان قد ذكر في القرآن ، فإنه نسخ لفظه وتلاوته وبقي حكمه .
ولا تغريب على الرقيق ; لأن في ذلك إضرارا بسيده ، ولأن السنة لم يرد فيها تغريب المملوك إذا زنى ; فقد قال صلى الله عليه وسلم في الأمة إذا لم تحصن : " إذا زنت ، فاجلدوها ، ثم إن زنت ; فاجلدوها " ولم يذكر تغريبا .
ولا يجب الحد إلا إذا خلا الوطء من الشبهة لقوله صلى الله عليه وسلم : ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم فلا حد على من وطئ امرأة يظنها زوجته ، أو وطئها بعقد باطل اعتقد صحته ، أو وطئ في نكاح مختلف فيه ، أو كان يجهل تحريم الزنى وهو قريب عهد بالإسلام أو نشأ في بادية بعيدة عن دار الإسلام ، أو كانت المرأة مكرهة على الزنى .
قال ابن المنذر : " أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الحدود تدرأ بالشبهات . .. انتهى .
وهذا من يسر هذه الشريعة ; لأن الشبهة تدل على عدم تعمده للجريمة ، والله تعالى يقول : وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
ومن شروط وجوب إقامة الحد على الزاني : ثبوت وقوع الزنى منه ، ولا يثبت إلا بأحد أمرين :
الأمر الأول : أن يقر به أربع مرات ، وذلك لحديث ماعز بن مالك رضي الله عنه فإنه اعترف عند النبي صلى الله عليه وسلم أربع مرات : الأولى ، ثم الثانية . .. ورده حتى أكمل أربع مرات ، فلو كان ما دونها يكفي ; لأقام الحد عليه به .
ويشترط لصحة الإقرار بالزنى أن يصرح بحقيقة الوطء ، وأن لا يرجع عن إقراره حتى يقام عليه الحد ، فلو لم يصرح بذكر حقيقة الزنى ; لم يحد ; لاحتمال أنه أفاد غيره مما لا يوجب الحد من الاستمتاع المحرم ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لماعز رضي الله عنه حينما أقر عنده : " لعلك قبلت ، أو غمزت " قال : لا . وكرر معه صلى الله عليه وسلم الاستيضاح ، حتى زالت كل الاحتمالات ، ولو رجع عن إقراره قبل إقامة الحد عليه لم يقم عليه ، وذلك لما ثبت من تقريره صلى الله عليه وسلم ماعزا وغيره مرة بعد مرة لعله يرجع ، ولقوله صلى الله عليه وسلم لما هرب : فهلا تركتموه ، لعله يتوب فيتوب الله عليه
الأمر الثاني : أن يشهد به عليه أربعة شهود ، لقوله تعالى : لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وقوله تعالى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ولقوله تعالى : فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ
ويشترط لصحة شهادتهم عليه شروط :
الأول : أن يشهدوا عليه في مجلس واحد.
الثاني : أن يشهدوا عليه بزنى واحد ; أي : واقعة واحدة . ..
الثالث : أن يصفوا الزنى بما يدفع كل الاحتمالات عن إرادة غيره من الاستمتاع المحرم ; لأن الزنى قد يعبر به عما لا يوجب الحد ، فلا بد من تصريحهم به لتنتفي الشبهة .
الرابع : أن يكونوا رجالا عدولا ; فلا تقبل فيه شهادة النساء ولا شهادة الفساق .
الخامس : أن لا يكون فيهم من به مانع من عمى أو غيره . ..
فإن اختل شرط من هذه الشروط ; وجب إقامة حد القذف عليهم ; لأنهم قذفة ، والله تعالى يقول : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً
وثبوت الزنى بالبينة المذكورة أو الإقرار متفق عليه بين العلماء ، وقد اختلفوا هل يثبت بأمر ثالث ، وهو الحبل ، كما لو حملت امرأة لا زوج لها ولا سيد : فقال بعضهم : لا يثبت بذلك حد ; لأنه يحتمل أنه من وطء إكراه أو شبهة . وقال بعضهم : بل تحد بذلك إن لم تدع شبهة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين ; وهو الأشبه بالأصول الشرعية ، ومذهب أهل المدينة ; فإن الاحتمالات الباردة لا يلتفت إليها " .
وقال ابن القيم : " وحكم عمر برجم الحامل بلا زوج ولا سيد وهو مذهب مالك ، وأصح الروايتين عن أحمد ، اعتمادا على القرينة الظاهرة " .
وكما يجب الحد بالزنى إذا توفرت شروط إقامته ، كذلك يجب الحد باللواط وهو فعل الفاحشة في الدبر ، وهو جريمة خبيثة ، وشذوذ قبيح مخالف للفطرة السليمة .
قال الله تعالى في قوم لوط : أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وتحريمه معلوم بالكتاب والسنة والإجماع .
وقد وصف الله اللوطية بأنهم يمارسون فاحشة لم يسبقهم إليها أحد في العالمين ; فهم شذاذ في العالم ، ووصفتم بأنهم عادون ومسرفون ومجرمون ، وأحل بهم عقوبة لم ينزلها بغيرهم ، لقبح جريمتهم ; حيث خسف بهم الأرض ، وأمطر عليهم حجارة من سجيل .
وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاعل والمفعول به
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " الصحيح الذي عليه الصحابة أنه يقتل الاثنان : الأعلى والأسفل ، إن كانا محصنين أو غير محصنين " . قال : " ولم يختلف الصحابة في قتله ، وبعضهم يرى أنه يرفع على أعلى جدار في القرية ، ويلقى ، ويتبع بالحجارة .
وقال الموفق : " ولأنه ( أي : قتل اللوطي ) إجماع الصحابة ; فإنهم أجمعوا على قتله ، وإنما اختلفوا في صفتها .
وقال ابن رجب : " الصحيح قتله ، سواء كان محصنا أو غير محصن ; لقوله تعالى : وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ وعن أحمد : " حده الرجم ، بكرا كان أو ثيبا " ، وهو قول مالك وغيره ، وأحد قولي الشافعي ; لقوله صلى الله عليه وسلم : من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط ; فاقتلوا الفاعل والمفعول به رواه أبو داود ، وفي رواية : فارجموا الأعلى والأسفل
ومن اللوطية إتيان الرجل زوجته في دبرها ; قال الله تعالى : فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد " يعني : الفرج " . قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ يقول : في الفرج ، ولا تعدوه إلى غيره ، فمن فعل شيئا من ذلك ; فقد اعتدى .
ومثل هذا يجب أن يعاقب عقوبة رادعة ، فإن استمر على فعل هذه الجريمة ; وجب على زوجته طلب مفارقته والابتعاد عنه ; لأنه نذل سافل ، لا يصلح لها البقاء معه على هذه الحال .
باب في حد القذف
عرف الفقهاء رحمهم الله القذف بأنه الرمي بزنى أو لواط ، وهو في الأصل الرمي بقوة ، ثم استعمل في الرمي بالزنى واللواط .
وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ هذه عقوبة القاذف العاجلة في الدنيا : الجلد ، ورد شهادته ، واعتباره فاسقا ناقصا سافلا إذا لم يثبت ما قال ، وأما عقوبته في الآخرة ; فقد بينها الله تعالى بقوله إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اجتنبوا السبع الموبقات وعد منها قذف المحصنات الغافلات المؤمنات .
وقد أجمع المسلمون على تحريم القذف ، وعدوه من الكبائر .
وقد أوجب الله الحد الرادع على القاذف ، فإذا قذف المكلف المختار محصنا بزنى أو لواط ، فإنه يجلد ثمانين جلدة ; لقوله تعالى : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ومعنى الآية الكريمة : إن الذين يقذفون بالزنا المحصنات الحرائر العفائف العاقلات ، ثم لم يأت هؤلاء القذفة بأربعة شهداء على ما رموهن به ; فاجلدوهم ثمانين جلدة ، ولا فرق بين كون المقذوف ذكرا أو أنثى ، وإنما خص النساء بالذكر ; لخصوص الواقعة ، ولأن قذف النساء أشنع وأغلب .
وإنما استحق القاذف هذه العقوبة صيانة لأعراض المسلمين عن التدنيس ، ولأجل كف الألسن عن هذه الألفاظ القذرة التي تلطخ أعراض الأبرياء ، وصيانة للمجتمع الإسلامي عن شيوع الفاحشة فيه .
والمحصن الذي يجب الحد بقذفه هو الحر المسلم العاقل العفيف الذي يجامع مثله .
قال ابن رشد : " اتفقوا على أن من شروط المقذوف أن يجتمع فيه خمسة أوصاف : البلوغ ، والحرية ، والعفاف ، والإسلام ، وأن يكون معه آلة الزنى ، فإن انخرم من هذه الأوصاف وصف ; لم يجب الحد " .
وحد القذف حق للمقذوف ; يسقط بعفوه ، ولا يقام إلا بطلبه فإذا عفا المقذوف عن القاذف ; سقط الحد عنه ، ولكنه يعزر بما يردعه عن التمادي في القذف المحرم المتوعد عليه باللعن والعذاب الأليم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " لا يحد القاذف إلا بالطلب إجماعا " انتهى .
ومن قذف غائبا لم يحد حتى يحضر المقذوف ويطالب أو تثبت مطالبته بذلك في غيبته .
وألفاظ القذف تنقسم إلى قسمين
ألفاظ صريحة لا تحتمل غير القذف ; فلا يقبل منه تفسيره لغير القذف .
وألفاظ كنايات تحتل القذف وغيره ، فإذا فسرها بغير القذف ، قبل منه .
فالألفاظ الصريحة ، مثل قوله : يا زاني ! يا لوطي ! يا عاهر ! وكنايته مثل : يا قحبة ! يا فاجرة ! يا خبيثة ! فإذا قال القاذف : أردت بالقحبة أنها تتصنع للفجور ، أو قال : أردت بالفاجرة أنها مخالفة لزوجها فيما يجب طاعته فيه ، وأردت بالخبيثة أنها خبيثة الطبع ; قبل منه هذا التفسير ، ولم يجب عليه حدة لأن لفظه يحتمل ، والحدود تدرأ بالشبهات .
وإذا قذف جماعة لا يتصور منهم الزنى أو قذف أهل بلد لم يحد ; وإنما يعزر بذلك ; لأنه مقطوع بكذبه ، فلا عار عليهم بذلك ، وإنما يعزر لأجل تجنب هذه الألفاظ القبيحة والشتائم البذيئة ، وذلك معصية يجب تأديبه عليها ، ولو لم يطالبه أحد منهم .
ومن قذف نبيا من الأنبياء كفر ، لأن ذلك ردة عن الإسلام .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وقذف نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، أي : كقذف النبي صلى الله عليه وسلم في الحكم بردة القاذف " .
وقال الشيخ في القاذف إذا تاب قبل علم المقذوف هل تصح توبته الأشبه أنه يختلف باختلاف الناس ، وقال أكثر العلماء : إن علم به المقذوف ; لم تصح توبته ، وإلا ; صحت ، ودعا له ، واستغفر . .. " انتهى .
ومن هذا يتبين لنا خطر اللسان ، وما يترتب على ألفاظه من مؤاخذات ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم وقال تعالى : مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ فيجب على الإنسان أن يحفظ لسانه ، ويزن ألفاظه ، ويسدد أقواله ، قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا
باب في حد المسكر
المسكر : اسم فاعل من أسكر الشراب فهو مسكر ، إذا جعل صاحبه سكران ، والسكران خلاف الصاحي ، والسكر في الاصطلاح هو اختلاط العقل .
- * والخمر محرم بالكتاب والسنة والإجماع :
- قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ والخمر كل ما خامر العقل أي غطاه من أي مادة كان .
وفي الصحيحين وغيرهما : كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام كل شراب أسكر فهو حرام فكل شراب أسكر كثيره ; فقليله حرام ، وهو خمر ، من أي شيء كان ، سواء كان من عصير العنب أو من غيره .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الخمر ما خامر العقل فكل شيء يستر العقل يسمى خمرا ; لأنها سميت بذلك ، لمخامرتها للعقل ; أي : سترها له .
وهذا قول جمهور أهل اللغة .
* قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله : " والحشيشة نجسة في الأصح ، وهي حرام ، سواء سكر منها أم لم يسكر ، والمسكر منها حرام باتفاق المسلمين ، وضررها من بعض الوجوه أعظم من ضرر الخمر ، وظهورها في المائة السادسة " انتهى كلامه .
وهذه الحشيشة وسائر المخدرات من أعظم ما يفتك اليوم بشباب المسلمين ، وهي أعظم سلاح يصدره الأعداء ضدنا ، ويروجها المفسدون في الأرض من اليهود وعملائهم ; ليفتكوا بالمسلمين ، ويفسدوا شبابهم ، ويعطلوهم عن الاتجاه للعمل لمجتمعاتهم والجهاد لدينهم وصد عدوان المعتدين على شعوبهم وبلادهم ، حتى أصبح كثير من شباب المسلمين مخدرين ، عالة على مجتمعهم ، أو يعيشون رهن السجون ، كل ذلك من آثار رواج تلك المخدرات والمسكرات في بلاد المسلمين ; فلا حول ولا قوة . إلا بالله العلي العظيم .
والخمر حرام بأي حال ، لا يجوز شربه ، لا لذة ولا لتداو ولا لعطش ولا غيره :
أما تحريم التداوي بالخمر فلقوله صلى الله عليه وسلم : إنه ليس بدواء ، ولكنه داء رواه مسلم . وقال ابن مسعود رضي الله عنه : إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم
- أما تحريم شربه لدفع العطش ; فلأنه لا يحصل به ري ، بل فيه من الحرارة ما يزيد العطش .
وإذا شرب المسلم خمرا أو شرب ما خلط به كالكولونيا ونحوها من الأطياب التي فيها كحول تسكر ، متى شرب المسلم شيئا من ذلك مختارا عالما أن كثيره يسكر ; فإنه يجب أن يقام عليه الحد ; لقوله صلى الله عليه وسلم : من شرب الخمر ، فاجلدوه رواه أبو داود وغيره .
ومقدار حد الخمر ثمانون جلدة لأن عمر استشار الناس في حد الخمر ، فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : اجعله كأخف الحدود ثمانين . فضرب عمر ثمانين ، وكتب إلى خالد وأبي عبيدة في الشام رواه الداراقطني وغيره وكان هذا بمحضر المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم ، فلم ينكره أحد منهم .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : " الحق أن عمر حد الخمر بحد القذف ، وأقره الصحابة "
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " حد الشرب ثابت بالسنة وإجماع المسلمين أربعون ، والزيادة يفعلها الإمام عند الحاجة إذا أدمن الناس الخمر وكانوا لا يرتدعون بدونها " .
وقال : " الصحيح أن الزيادة على الأربعين إلى الثمانين ليست واجبة على الإطلاق ، ولا محرمة على الإطلاق ، بل يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام ، كما جوزنا له الاجتهاد في صفة الضرب فيه . .. " انتهى .
ويثبت حد الخمر بإقرار الشارب أو بشهادة عدلين .
واختلف العلماء : هل يثبت حد الخمر على من وجدت فيه رائحتها على قولين : فقيل : لا يحد بل يعزر ، وقيل : يقام عليه الحد إذا لم يدع شبهة ، وهو رواية عن أحمد وقول مالك واختيار الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله .
قال شيخ الإسلام : " من قامت عليه شواهد الحال بالجناية كرائحة الخمر أولى بالعقوبة ممن قامت عليه شهادة به أو إخباره عن نفسه التي تحتمل الصدق والكذب ، وهذا متفق عليه بين الصحابة " .
وقال ابن القيم رحمه الله : " حكم عمر وابن مسعود بوجوب الحد برائحة الخمر في الرجل أو غيره ، ولم يعلم لهما مخالف " . انتهى .
وخطر الخمر عظيم ، وهي مطية الشيطان التي يركبها للإضرار بالمسلمين ; إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ
والخمر أم الخبائث ، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم فيها عشرة ، حيث قال : لعن الله الخمر ، وشاربها ، وساقيها ، وبائعها ، ومبتاعها ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وحاملها ، والمحمولة إليه فيجب على المسلمين أن يقفوا في مقاومتها موقف الحزم والشجاعة ; بحسم مادتها ، وعقوبة من يتعاطاها أو يروجها بالعقوبة الرادعة ; فإنها تجر إلى كل شر ، وتوقع في كل رذيلة ، وتثبط عن كل خير ، كفى الله المسلمين شرها وخطرها .
وقد ورد في الحديث أن قوما في آخر الزمان يستحلونها ، وقد يسمونها بغير اسمها ، ويشربونها ; فيجب على المسلمين أن يكونوا حذرين متيقظين لأولئك الأشرار .
باب في أحكام التعزير
التعزير لغة : المنع ، ويطلق التعزير ويراد به النصرة ; لأنه يمنع المعادي من الإيذاء ، قال تعالى : وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ يعني : النبي صلى الله عليه وسلم ويقال عزرته بمعنى وقرته ، ويقال عزرته بمعنى أدبته . فهو من الأضداد .
ومعنى التعزير في الاصطلاح الفقهي التأديب ، سمى بذلك لأنه يمنع مما لا يجوز فعله ، ولأنه طريق إلى التوقير ; لأن المعزر إذا امتنع بسببه من فعل ما لا ينبغي ; حصل له الوقار
. وحكم التعزير في الإسلام أنه واجب في فعل كل معصية لا حد فيها ولا كفارة ; من فعل المحرمات ، وترك الواجبات ، ويفعله ولي الأمر إذا رأى المصلحة فيه ، ويتركه إذا رأى المصلحة في تركه ، ولا يحتاج في إقامة التعزير إلى مطالبة ، فيعزر المعتدي ولو لم يطالب المعتدي عليه ، ومرجعه إلى اجتهاد الحاكم ; حيث كانت الجرائم تتفاوت في الشدة والضعف والكثرة والقلة .
والصحيح أنه ليس فيه حد معين ، لكن إذا كانت المعصية في عقوبتها مقدر من الشارع كالزنى والسرقة ; فلا يبلغ بالتعزير الحد المقدر .
وقد يصل التعزير إلى القتل إذا اقتضته المصلحة ، مثل قتل الجاسوس ، وقتل المفرق لجماعة المسلمين ، والداعي إلى غير كتاب الله وسنة ونبيه . .. وغير ذلك مما لا يندفع إلا بالقتل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وهذا أعدل الأقوال ، وعليه دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين ، فقد أمر بضرب الذي أحلت له امرأته جاريتها مائة ، وأبو بكر وعمر أمرا بضرب رجل وامرأة وجدا في لحاف واحد مائة مائة ، وضرب عمر صبيغا ضربا كثيرا .
وقال الشيخ : " إذا كان المقصود دفع الفساد ، ولم يندفع إلا بالقتل ، قتل ، وحينئذ ; فمن تكرر منه جنس الفساد ، ولم يرتدع بالحدود المقدرة ، بل استمر على الفساد ، فهو كالصائل الذي لا يندفع إلا بالقتل ، فيقتل " .
ولا حد لأقل التعزير ; لتفاوت الجرائم بالشدة والضعف واختلاف الأحوال والأزمان ، فجعلت العقوبات على بعض الجرائم راجعة إلى اجتهاد الحاكم بحسب الحاجة والمصلحة ، ولا تخرج عما أمر الله به ونهى عنه ، وكما يكون التعزير بالضرب يكون بالحبس والصفع والتوبيخ والعزل عن الولاية ونحو ذلك ...
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وقد يكون التعزير بالنيل من عرضه . كيا ظالم ! يا معتدي ! وبإقامته من المجلس . .
والذين أجازوا الزيادة في التعزير على عشرة أسواط أجابوا عن قوله صلى الله عليه وسلم : لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط ; إلا في حد من حدود الله متفق عليه ، بأن المراد بالحد هنا المعصية ، لا العقوبات المقدرة في الشرع ، بل المراد المحرمات ، وحدود الله محارمه ، فيعزر بحسب المصلحة وعلى قدر الجريمة .
ولا يجوز أن يكون التعزير بقطع عضو أو بجرح المعزر أو حلق لحيته ، لما في ذلك من المثلة والتشويه ; كما لا يجوز أن يعزر بحرام ; كسقيه خمرا .
ومن عرف بأذية الناس وأذى مالهم بعينه ; حبس حتى يموت أو يتوب .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : " يحبس وجوبا ، ذكره غير واحد من الفقهاء ، ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف ; لأنه من نصيحة المسلمين وكف الأذى عنهم .
وقال : " العمل في السلطنة بالسياسة هو الحزم ، فلا يخلو منه إمام ، ما لم يخالف الشرع ، فإذا ظهرت أمارات العدل ، وتبين وجهه بأي طريق ، فثم شرع الله ; فلا يقال : إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع ، بل موافقة لما جاء به ، بل جزء من أجزائه ، ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحكم ، وإنما هي شرع حق ، فقد حبس صلى الله عليه وسلم في التهمة ، وعاقب في التهمة لما ظهرت آثار الريبة ، فمن أطلق كلا منهم وخلى سبيله ، لو حلفه مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض . فقوله مخالف للسياسة الشرعية ، بل يعاقبون أهل التهم ، ولا يقبلون الدعوى التي تكذبها العادة والعرف .
وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله في أهل الشعوذة : " يعزر الذي يمسك الحية ويدخل النار ونحوه " .
ويعزر من ينتقص مسلما بأنه مسلماني ، ومن قال لذمي : يا حاج ! أو سمى من زار القبور والمشاهد حاجا . .. ونحو ذلك .
وإذا ظهر كذب المدعي بما يؤذي به المدعى عليه ; عزر ، ويلزمه ما غرم بسببه ظلما ; لتسببه في ظلمه بغير حق .
باب في حد السرقة
قال تعالى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا
وأجمع المسلمون على وجوب قطع يد السارق في الجملة .
والسارق عنصر فاسد في المجتمع ، إذا ترك ، سرى فساده في جسم الأمة ; فلا بد من حسمه بتطبيق الحد المناسب لردعه ، ومن ثم شرع الله سبحانه وتعالى قطع يده ، تلك اليد الظالمة التي امتدت إلى ما لا يجوز لها الامتداد إليه ، تلك اليد التي تهدم ولا تبني ، تأخذ ولا تعطي .
والسرقة هي : أخذ مال على وجه الاختفاء من مالكه أو نائبه ، إذا كان هذا الآخذ ملتزما لأحكام الإسلام ، وكان المال المأخوذ بلغ النصاب ، وقد أخذه من حرز مثله ، وكان مالك المال المأخوذ معصوما ، ولا شبهة للآخذ منه .
فلا بد أن يستجمع السارق والمسروق منه والمال المسروق وكيفية السرقة أوصافا محددة تضمنها هذا التعريف ، متى اختل وصف منها ، انتفى القطع ، وهذه الأوصاف هي :
أن يكون الأخذ على وجه الخفية ، فإن لم يكن على وجه الخفية ; فلا قطع ; كما لو انتهب المال على وجه الغلبة والقهر على مرأى من الناس ، أو اغتصبه ; لأن صاحب المال حينئذ يمكنه طلب النجدة والأخذ على يد الغاشم والغاصب .
قال الإمام ابن القيم : " إنما قطع السارق دون المنتهب والمغتصب لأنه لا يمكن التحرز منه ، فإنه ينقب الدور ويهتك الحرز ويكسر القفل ، فلو لم يشرع قطعه ; لسرق الناس بعضهم بعضا ، وعظم الضرر ، واشتدت المحنة انتهى .
وقال صاحب " الإفصاح " : اتفقوا على أن المختلس والمنتهب والغاصب على عظم جنايتهم وآثامهم لا قطع على واحد منهم ، ويسوغ كف عدوان هؤلاء بالضرب والنكال والسجن الطويل والعقوبة الرادعة .
ومن الأوصاف التي توجب القطع في السرقة أن يكون المسروق مالا محترما ; لأن ما ليس بمال لا حرمة له ; كآلة اللهو والخمر والخنزير والميتة ، وما كان مالا ، لكنه غير محترم ، لكون مالكه كافرا حربيا ، فلا قطع فيه ; لأن الكافر الحربي حلال الدم والمال .
ومن الأوصاف التي يجب توافرها في القطع في السرقة : أن يكون المسروق نصابا ، وهو ثلاثة دراهم إسلامية ، أو ربع دينار إسلامي ، أو ما يقابل أحدهما من النقود الأخرى ، أو أقيام العروض المسروقة في كل زمان بحسبه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدا رواه أحمد ومسلم وغيرهما ، وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم .
وفي تخصيص القطع بهذا القدر حكمة ظاهرة ، فإن هذا القدر يكفي المقتصد في يومه له ولمن يمونه غالبا ; فانظر كيف تقطع اليد في سرقة ربع دينار مع أن ديتها لو جنى عليها خمس مائة دينار ، لأنها لما كانت أمينة كانت ثمينة ، ولما خانت هانت ، ولهذا لما اعترض بعض الملاحدة - وهو المعري - بقوله :
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
أجابه بعض العلماء بقوله :
عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
ومن الأوصاف التي يجب توافرها للقطع في السرقة : أن يأخذ المسروق من حرز ; وحرز المال ما العادة حفظه فيه ; لأن الحرز معناه الحفظ ، والحرز يختلف باختلاف الأموال والبلدان وعدل السلطان وجوره وقوته وضعفه ; فالأموال الثمينة حرزها في الدور والدكاكين والأبنية الحصينة وراء الأبواب والأغلاق الوثيقة ، وما دون ذلك حرزه بحسبه على عادة البلد ، فإن سرقه من غير حرز ، كما لو وجد بابا مفتوحا ، أو حرزا مهتوكا ، فأخذ منه ; فلا قطع عليه .
ولا بد أن تنتفي الشبهة عن السارق فيما أخذ ، فإن كان له شبهة يظنها تسوغ له الأخذ ; لم يقطع ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم فلا قطع عليه بسرقته من مال أبيه ولا بسرقته من مال ولده ; لأن نفقة كل منهما تجب في مال الآخر ، وذلك شبهة تدرأ عنه الحد ، وهكذا كل من له استحقاق في مال ، فأخذ منه ; فلا قطع عليه ، لكن يحرم عليه هذا الفعل ، ويؤدب عليه ، ويرد ما أخذ .
ولا بد مع توافر ما سبق من الصفات من ثبوت السرقة إما بشهادة عدلين يصفان كيفية السرقة وحرزها وقدر المسروق وجنسه ; لتزول الاحتمالات والشبهات ، وإما بإقرار السارق مرتين على نفسه بالسرقة ; لما روى أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم أتي بلص قد اعترف ، فقال له : ما إخالك سرقت قال : بلى . فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا ، فأمر به ، فقطع
ولا بد في إقراره أن يصف السرقة ، ليندفع احتمال أنه يظن القطع فيما لا قطع فيه ، وليعلم توافر شروط أو عدم توافرها .
ولا بد أن يطالب المسروق منه بماله ، فلو لم يطالب لم يجب القطع لأن المال يباح بإباحة صاحبه وبذله له ، فإذا لم يطالب ; احتمل أنه سمح به له ، وذلك شبهة تدرأ الحد .
وإذا وجب القطع لتكامل شروطه ; قطعت يده اليمنى لقراءة ابن مسعود في قوله تعالى فاقطعوا أيمانهما ومحل القطع من مفصل الكف لأن اليد آلة السرقة فعوقب بإعدام آلتها واقتصر القطع على الكف ; لأن اليد إذا أطلقت انصرفت إليه وبعد قطعها يعمل لها ما يحسم الدم ويندمل به الجرح من أنواع العلاج المناسبة في كل زمان بحسبه .
باب في حد قطاع الطريق
الله سبحانه يريد للمسلمين أن يسيروا في أرضه آمنين ; لتبادل مصالحهم ، وتنمية أموالهم ، وصلة الرحم فيما بينهم ، وتعاونهم على البر والتقوى ، ولا سيما السفر إلى بيته العتيق ; لأداء شعيرة الحج والعمرة .
فمن أراد أن يعوق سيرهم ، أو يسد طريقهم ، أو يخوفهم في أسفارهم . فقد شرع له حدا رادعا ، يزيل هذا العائق ، ويميط الأذى عن الطريق ، قال تعالى : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
والمراد بالمحاربين الذين يسعون في الأرض فسادا : قطاع الطريق وهم الذين يعرضون للناس في الصحراء أو البنيان ، فيغصبونهم المال مجاهرة لا سرقة .
ويشترط لتطبيق الحد عليهم أن يبلغ ما أخذوه نصاب السرقة ، وأن يأخذوه من حرز ، بأن يأخذوا المال من يد صاحبه وهو في القافلة ، وأن يثبت قطعهم للطريق بإقرارهم أو بشهادة عدلين .
وحدهم يختلف باختلاف جرائمهم :
فمن قتل منهم وأخذ المال ; قتل حتما وصلب حتى يشتهر أمره ، ولا يجوز العفو عنه بإجماع العلماء . كما حكاه ابن المنذر .
ومن قتل ولم يأخذ المال ; قتل حتما ولم يصلب .
ومن أخذ المال ، ولم يقتل . قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد ، وحسمت عن النزيف ، ثم خلي .
ومن أخاف السبيل فقط ، ولم يقتل ، ولم يأخذ مالا ; نفي من الأرض ; بأن يشرد ; فلا يترك يأوي إلى بلد ، بل يطارد .
فتختلف عقوبتهم باختلاف جرائمهم ، لقوله تعالى : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ فهذه الآية نزلت في قطاع الطريق عند أكثر السلف ، وهي الأصل في حكمهم .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا قتلوا وأخذوا المال ; قتلوا وصلبوا ، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال ; قتلوا ولم يصلبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا ، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، واذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا - مالا ; نفوا من الأرض رواه الشافعي .
ولو قتل بعضهم ; ثبت حكم القتل عليهم جميعا ، وإن قتل بعضهم وأخذ المال بعضهم . قتلوا جميعا وصلبوا .
ومن تاب منهم قبل القدرة عليه ، سقط عنه ما كان واجبا لله تعالى من نفي عن البلد وقطع يد ورجل وتحتم قتل ، وأخذ بما للآدميين من الحقوق من نفس وطرف ومال ; إلا أن يعفى له عنها من مستحقيها ; لقوله تعالى : إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " اتفقوا على أن قاطع الطريق واللص ونحوهما إذا رفعوا إلى ولي الأمر ، ثم تابوا . بعد ذلك ; لم يسقط الحد عنهم ; بل تجب إقامته ، وإن تابوا ، وإن كانوا صادقين في التوية .
فاستثناء التوبة قبل القدرة عليهم فقط . فالتائب بعد القدرة عليه باق فيهن وجب عليه الحد ; للعموم والمفهوم والتفصيل ، ولئلا يتخذ ذريعة إلى تعطيل حدود الله ; إذ لا يعجز من وجب عليه الحد أن يظهر التوبة ليتخلص من العقوبة .
ومن صال على نفسه من يريد قتله أو صال على حرمته كأمه وبنته وأخته وزوجته من يريد هتك أعراضهن ، أو صال على ماله من يريد أخذه أو إتلافه ; فله الدفع عن ذلك ، سواء كان الصائل آدميا أو بهيمة ، فيدفعه بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه ; لأنه لو منع من الدفع ; لأدى ذلك إلى تلفه وأذاه في نفسه وحرمته وماله ، ولأنه لو لم يجز ذلك ; لتسلط الناس بعضهم على بعض ، وإن لم يندفع الصائل إلا بالقتل ، فله قتله ، ولا ضمان عليه ; لأنه قتله لدفع شره ، وإن قتل المصول عليه ; فهو شهيدة لقوله عليه الصلاة والسلام : من أريد ماله بغير حق ، فقاتل ، فقتل ; فهو شهيد وروى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه ; قال : جاء رجل ، فقال : يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي ; قال : فلا تعطه . قال : أرأيت إن قاتلني ; قال : قاتله . قال : أرأيت إن قتلني ; قال : فأنت شهيد . قال : أرأيت إن قتلته ; قال : هو في النار
وهذا الدفع عن نفسه وعن حرمته يجب عليه إذا لم يؤد إلى الفتنة ; لقوله تعالى : وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ
ويلزمه الدفع عن نفس غيره وعن حرمة غيره ; لقوله : انصر أخاك ظالما أو مظلما ومعنى نصرته إذا كان ظالما منعه من الظلم .
وإذا دخل لص في منزل إنسان ; فحكمه حكم الصائل ; بأن يدفعه بالأسهل فالأسهل .
ومن نظر في بيت رجل من خصاص باب أو نافذة أو من فوق سطح ; فله دفعه ومنعه من ذلك ، ولو أصاب عينه ففقأها ; فهي هدر ، وكذا لو طعنه بعود ، فأتلف عينه ; فهي هدر لحديث : من اطلع في بيت ، ففقئت عينه ; فلا دية ولا قصاص
وهذا لحرمة المسلم وحرمة ماله وعرضه وكرامته عند الله .
وهذا هو عدل الإسلام ، وحفاظه على سلامة المجتمع ، وانتظام مصالحه ; لتعمر البلاد ، ويأمن العباد ، وتنتظم المواصلات بين الأقطار ، فيسير الناس فيها ليالي وأياما آمنين .
ولا صلاح للبشرية إلا بتطبيق هذا التشريع الحكيم . فقد عجزت أنظمة الأرض كلها وقواها المادية أن تحقق للناس شيئا من الأمن المنشود بدون تطبيق هذه الشريعة ، وصدق الله العظيم : أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
باب في قتال أهل البغي
قال الله تعالى : وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فأوجب تعالى في هذه الآية الكريمة على المؤمنين قتال الباغين إذا لم يقبلوا الصلح .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : من أتاكم ، وأمركم جميع على رجل واحد ، يريد أن يفرق جماعتكم ; فاقتلوه رواه مسلم .
وقال صلى الله عليه وسلم : من خرج على أمتي وهم جميع ، فاضربوا عنقه بالسيف ، كائنا من كان رواه مسلم أيضا .
وأجمع الصحابة على قتال الباغي .
والبغي في الأصل معناه الجور والظلم والعدول عن الحق ; فأهل البغي هم أهل الجور والظلم والعدول عن الحق ومخالفة ما عليه أئمة المسلمين ، ذلك أنه لا بد سليمان من جماعة وإمام ، قال تعالى : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وقال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وقال النبي صلى الله عليه وسلم : أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة ، وإن تأمر عليكم عبد وهذا من الضروريات ; لأن بالناس حاجة إلى ذلك ; لحماية البيضة ، والذب عن الحوزة ، واقامة الحدود ، واستيفاء الحقوق ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر . ..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين ، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها ; فإن بني آدم لا تتم مصالحهم إلا باجتماع الجماعة بعضهم إلى بعض ، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس ، وقد أوجبه الشارع في الاجتماع القليل العارض ; تنبيها بذلك على أنواع الاجتماع " -
وقال رحمه الله : " من المعلوم أن الناس لا يصلحون إلا بولاة ، ولو تولى من الظلمة ، فهو خير لهم من عدمهم ; كما يقال : سنة من إمام جائر خير من ليلة بلا إمارة . .. ، انتهى .
فإذا خرج على الإمام قوم لهم شوكة ومنعة بتأويل مشتبه يريدون خلعه أو مخالفته وشق عصا الطاعة وتفريق الكلمة ; فهم بغاة ظلمة ; فيجب على الإمام أن يراسلهم فيسألهم عما ينقمون عليه ، فإن ذكروا مظلمة ، أزالها ، وإن ادعوا شبهة ; كشفها ; لقوله تعالى : فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
والإصلاح إنما يكون بذلك ، فإن كان ما ينقمون منه مما لا يحل فعله ، أزاله ، وإن كان حلالا ، لكن التبس عليهم ، فاعتقدوا أنه مخالف للحق ، بين لهم دليله ، وأظهر لهم وجهه ، فإن فاءوا ورجعوا إلى الحق والتزموا الطاعة ; تركهم ، وإن لم يرجعوا ، قاتلهم وجوبا ، وعلى رعيته معونته ; لقوله تعالى : فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فيجب قتالهم حتى يندفع شرهم ; وتطفأ فتنتهم . -
ويتجنب في قتالهم الأمور التالية :
باب في قتال أهل البغي
قال الله تعالى : وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فأوجب تعالى في هذه الآية الكريمة على المؤمنين قتال الباغين إذا لم يقبلوا الصلح .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : من أتاكم ، وأمركم جميع على رجل واحد ، يريد أن يفرق جماعتكم ; فاقتلوه رواه مسلم .
وقال صلى الله عليه وسلم : من خرج على أمتي وهم جميع ، فاضربوا عنقه بالسيف ، كائنا من كان رواه مسلم أيضا .
وأجمع الصحابة على قتال الباغي .
والبغي في الأصل معناه الجور والظلم والعدول عن الحق ; فأهل البغي هم أهل الجور والظلم والعدول عن الحق ومخالفة ما عليه أئمة المسلمين ، ذلك أنه لا بد سليمان من جماعة وإمام ، قال تعالى : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وقال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وقال النبي صلى الله عليه وسلم : أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة ، وإن تأمر عليكم عبد وهذا من الضروريات ; لأن بالناس حاجة إلى ذلك ; لحماية البيضة ، والذب عن الحوزة ، واقامة الحدود ، واستيفاء الحقوق ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر . ..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين ، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها ; فإن بني آدم لا تتم مصالحهم إلا باجتماع الجماعة بعضهم إلى بعض ، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس ، وقد أوجبه الشارع في الاجتماع القليل العارض ; تنبيها بذلك على أنواع الاجتماع " -
وقال رحمه الله : " من المعلوم أن الناس لا يصلحون إلا بولاة ، ولو تولى من الظلمة ، فهو خير لهم من عدمهم ; كما يقال : سنة من إمام جائر خير من ليلة بلا إمارة . .. ، انتهى .
فإذا خرج على الإمام قوم لهم شوكة ومنعة بتأويل مشتبه يريدون خلعه أو مخالفته وشق عصا الطاعة وتفريق الكلمة ; فهم بغاة ظلمة ; فيجب على الإمام أن يراسلهم فيسألهم عما ينقمون عليه ، فإن ذكروا مظلمة ، أزالها ، وإن ادعوا شبهة ; كشفها ; لقوله تعالى : فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
والإصلاح إنما يكون بذلك ، فإن كان ما ينقمون منه مما لا يحل فعله ، أزاله ، وإن كان حلالا ، لكن التبس عليهم ، فاعتقدوا أنه مخالف للحق ، بين لهم دليله ، وأظهر لهم وجهه ، فإن فاءوا ورجعوا إلى الحق والتزموا الطاعة ; تركهم ، وإن لم يرجعوا ، قاتلهم وجوبا ، وعلى رعيته معونته ; لقوله تعالى : فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فيجب قتالهم حتى يندفع شرهم ; وتطفأ فتنتهم . -
ويتجنب في قتالهم الأمور التالية :
أولا : يحرم قتالهم بما يعم ; كالقذائف المدمرة .
ثانيا : يحرم قتل ذريتهم ومدبرهم وجريحهم ومن ترك القتال منهم .
ثالثا : من أسر منهم ; حبس حتى تخمد الفتنة .
رابعا: لا تغنم أموالهم ; لأنها كأموال غيرهم من المسلمين ، لا يجوز اغتنامها ; لبقاء ملكهم عليها ، وبعد انقضاء القتال وخمود الفتنة من وجد منهم ماله بيد غيره ; أخذه ، وما تلف منه حال الحرب ; فهو هدر ، ومن قتل من الفريقين في الحرب غير مضمون .
قال الزهري : " هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون ، فأجمعوا أنه لا يقاد أحد ، ولا يؤخذ مال على تأويل القرآن ; إلا ما وجد بعينه " انتهى .
وقال في الإفصاح : " اتفقوا على أن ما يتلفه أهل العدل على أهل البغي ; فلا ضمان فيه ، وما يتلفه أهل البغي كذلك " .
وإن اقتتلت طائفتان من المسلمين ، ولم تكن واحدة منهما في طاعة الإمام ، بل لعصبية بينهما ، أو طلب رئاسة ، فهما ظالمتان ; لأن كلا منهما باغية على الأخرى ; حيث لا ميزة لواحدة منهما ، فتضمن كل واحدة منهما ما أتلفته على الأخرى ، وإن كانت إحداهما تقاتل بأمر الإمام . فهي محقة ، والأخرى باغية كما سبق .
وإن أظهر قوم رأي الخوارج كتكفير مرتكبي الكبيرة ، واستحلال دماء المسلمين ، وسب الصحابة ; فإنهم يكونون خوارج بغاة فسقة ، فإن أضافوا إلى ذلك الخروج عن قبضة إمام المسلمين ; وجب قتالهم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الخوارج : " أهل السنة متفقون على أنهم مبتدعة ، وأنه يجب قتالهم بالنصوص الصحيحة ، بل قد اتفق الصحابة على قتالهم ، ولا خلاف بين علماء السنة أنهم يقاتلون مع أئمة العدل ، وهل يقاتلون مع أئمة الجور ; نقل عن بعض أهل العلم أنهم يقاتلون ، وكذلك من نقض العهد من أهل الذمة ، وهو قول الجمهور ، وقالوا : يغزى مع كل أمير برا كان أو فاجرا إذا كان الغزو الذي يفعله جائزا ، فإذا قاتل الكفار أو المرتدين أو ناقضي العهد أو الخوارج قتالا مشروعا ; قوتل معه ، وإن كان قتالا غير جائز ، لم يقاتل معه " انتهى كلامه .
وإن لم يخرج هؤلاء الذين أظهروا رأي الخوارج عن قبضة الإمام ، ولم يشقوا عصا الطاعة ، لم يقاتلوا ، وأجريت عليهم أحكام الإسلام ، لكن يجب تعزيرهم ، والإنكار عليهم ، وعدم تمكينهم من إظهار رأيهم ونشر بدعتهم بين المسلمين .
هذا على القول بعدم تكفيرهم ، كما عليه الجمهور ، وأما من يرى كفر الخوارج ، فإنه يجب عنده قتالهم بكل حال .
باب في أحكام الردة
المرتد في اللغة : هو الراجع ، يقال : ارتد فهو مرتد : إذا رجع ، قال تعالى : وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ أي : لا ترجعوا .
والمرتد في الاصطلاح : هو الذي يكفر بعد إسلامه طوعا بنطق أو اعتقاد أو شك أو فعل .
والمرتد له حكم في الدنيا وحكم في الآخرة
أما حكمه في الدنيا ; فقد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله . من بدل دينه فاقتلوه وأجمع العلماء على ذلك ، وما يتبع ذلك من عزل زوجته عنه ومنعه من التصرف في ماله قبل قتله .
وأما حكمه في الآخرة . فقد بينه الله تعالى بقوله : وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
والردة تحصل بارتكاب ناقض من نواقض الإسلام ، سواء كان جادا أو هازلا أو مستهزئا ; قال تعالى : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
أما المكره إذا نطق بسبب الإكراه ; فإنه لا يرتد ، لقوله تعالى . مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ
ونواقض الإسلام التي تحصل بها الردة كثيرة .
من أعظمها الشرك بالله تعالى ; فمن أشرك بالله تعالى ; بأن دعا غير الله من الموتى والأولياء والصالحين ، أو ذبح لقبورهم ، أو نذر لها ، أو طلب الغوث والمدد من الموتى ; كما يفعل عباد القبور اليوم ، فقد ارتد عن دين الإسلام ; قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم ; كفر إجماعا . وكذلك من جحد بعض الرسل أو بعض الكتب الإلهية ; فقد ارتد ; لأنه مكذب لله ، جاحد لرسول من رسله أو كتاب من كتبه . وكذلك من جحد الملائكة أو جحد البعث بعد الموت ; فقد كفر ; لأنه مكذب للكتاب والسنة والإجماع . وكذلك من سب الله تعالى أو سب نبيا من أنبيائه ; فقد كفر . وكذلك من ادعى النبوة ، أو صدق من يدعيها بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم ; فقد كفر ، لأنه مكذب لقوله تعالى : وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ومن جحد تحريم الزنى ، أو جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المجمع على تحريمها كلحم الخنزير والخمر ، أو حرم شيئا مجمعا على حله ; مما لا خلاف في حله ; كالمذكاة من بهيمة الأنعام ; فقد كفر . وكذلك متى جحد وجوب عبادة من العبادات الخمس الواردة في قوله صلى الله عليه وسلم : بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج بيت الله الحرام ومن استهزأ بالدين ، أو امتهن القرآن الكريم ، أو زعم أن القرآن نقص منه شيء ، أو كتم منه شيء فلا خلاف في كفره " . .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام وباتفاق جميع المسلمين أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام أو اتباع غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو كافر ، وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض " . ...
وقال : " ومن سخر بوعد الله أو بوعيده ، أو لم يكفر من دان بغير الإسلام كالنصارى ، أو شك في كفرهم ، أو صحح مذهبهم ; كفر إجماعا " .
وقال : " من سب الصحابة أو أحدا منهم ، واقترن بسبه دعوى أن عليا إله أو نبي ، وأن جبريل غلط ; فلا شك في كفره " ; انتهى كلامه رحمه الله .
ومن حكم القوانين الوضعية بدل الشريعة الإسلامية ; يرى أنها أصلح للناس من الشريعة الإسلامية ، أو اعتنق فكرة الشيوعية أو القومية العربية بديلا عن الإسلام ، فلا شك في ردته .
وأنواع الردة كثيرة ، مثل من ادعى علم الغيب ، . ومثل من لم يكفر المشركين أو يشك في كفرهم أو يصحح ما هم عليه ، ومثل من يعتقد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه ، أو أن حكم غير النبي صلى الله عليه وسلم أحسن من حكمه ، ومثل من أبغض شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن استهزأ بشيء من دين الرسول أو ثوابه أو عقابه ، وكذلك من ظاهر المشركين وأعانهم على المسلمين ، ومن اعتقد أن بعض الناس يجوز له الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ; كغلاة الصوفية ، ومن أعرض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به ; كل هذه الأمور من أسباب الردة ومن نواقض الإسلام .
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : " ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف ; إلا المكره ، وكلها من أعظم ما يكون خطرا ، وأكثر ما يكون وقوعا ; فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه ، نعوذ بالله من موجبات غضبه ، وأليم عقابه " .
هذه نماذج من نواقض الإسلام ، وهي أكثر مما ذكر بكثير ; فعليك أن تتعلمها وتعرفها ; لتحذر منها وتتجنبها ; فإن من لا يعرف الشرك ; يوشك أن يقع فيه وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : يوشك أن تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية .
وإني أنصحك أن تقرأ كتاب " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم " لشيخ الإسلام ابن تيمية ، وكتاب " المسائل التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية " للشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وشرحها للعلامة العراقي محمود شكري الألوسي رحمه الله .
فمن ارتد عن دين الإسلام ; فإنه يجب أن يستتاب ويمهل ثلاثة أيام ، فإن تاب ، وإلا قتل ; لقول عمر رضي الله عنه لما بلغه أن رجلا كفر بعد إسلامه فضربت عنقه قبل استتابته ، فقال : فهلا حبستموه ثلاثا ، فأطعمتموه كل يوم رغيفا ، واستتبتموه ; لعله يتوب أو يراجع أمر الله ، اللهم إني لم أحضر ولم أرض إذ بلغني رواه مالك في " الموطأ " ; ولأن الردة لا تكون إلا لشبهة ، ولا تزول في الحال ; فوجب أن ينتظر مدة يرتئي فيها ، وأما الدليل على وجوب قتله إذا لم يتب ; فقول النبي صلى الله عليه وسلم : من بدل دينه ; فاقتلوه رواه البخاري وأبو داود .
والذي يتولى قتله هو الإمام أو نائبه ; لأنه قتل لحق الله ، فكان إلى ولي الأمر .
والحكمة في وجوب قتل المرتد : أنه لما عرف الحق وتركه ; صار مفسدا في الأرض ، لا يصلح للبقاء ; لأنه عضو فاسد ، يضر المجتمع ، ويسيء إلى الدين .
وتحصل توبة المرتد بإتيانه بالشهادتين ; لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله . فإذا قالوها ، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ومن كانت ردته بسبب جحوده لشيء من ضروريات الدين ، فتوبته مع إتيانه بالشهادتين إقراره بما جحده .
ويمنع المرتد من التصرف في ماله ، لتعلق حق الغير به ; كمال المفلس ، ويقضى ما عليه من ديون ، وينفق عليه من ماله وعلى عياله مدة منعه من التصرف فيه ، فإن أسلم المرتد ; أخذ ماله ومكن من التصرف فيه لزوال المانع ، وإن مات على ردته أو قتل مرتدا ، صار ماله فيئا لبيت مال المسلمين من حين موته ، لأنه لا وارث له ; فلا يرثه أحد من المسلمين ; لأن المسلم لا يرث الكافر ، ولا يرثه أحد من الكفار ، ولو من أهل الدين الذي انتقل إليه ، لأنه لا يقر على ردته ، والمرتد لا يرث من كافر ولا مسلم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في حكم قبول توبة من سب الله تعالى أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم :
فقال بعضهم : لا تقبل توبته في أحكام الدنيا كترك قتله وتوريثه والتوريث منه ، وإنما يقتل على كل حال ; لعظم ذنبه وفساد عقيدته واستخفافه بالله تعالى .
والقول الثاني : أنه تقبل توبته ; لقوله تعالى : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ
وكذلك اختلف العلماء رحمهم الله في قبول توبة من تكررت ردته :
فقال بعضهم : إنها لا تقبل في الدنيا ; فلا بد من تنفيذ حكم المرتد فيه ، ولو تاب ، لقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا
وقيل : تقبل توبته ; لقوله تعالى : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ فالآية عامة ، تتناول بعمومها من تكررت ردته .
كما اختلفوا في قبول توبة الزنديق وهو المنافق . الذي يظهر الإسلام ويخفي الكفر :
فقيل : لا تقبل توبته ; لأنه لا يبين منه ما يظهر رجوعه إلى الإسلام ، والله تعالى يقول : إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فإذا أظهر التوبة ، لم يزد على ما كان قبلها ، وهو إظهار الإسلام وإخفاء الكفر . .
وقيل : تقبل توبة الزنديق ; لقوله تعالى : إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كف عن المنافقين بما أظهروا من الإسلام .
ومن الزنادقة : الحلولية ، والإباحية ، ومن يفضل متبوعه على محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن يرى أنه إذا حصلت له المعرفة ; سقط عنه الأمر والنهي ، أو أنه إذا حصلت له المعرفة ، جاز له التدين بدين اليهود والنصارى وأمثالهم من الطوائف المارقة عن الإسلام من غلاة الصوفية وغيرهم .
كما اختلف العلماء رحمهم الله في صحة إسلام الطفل المميز ووقوع الردة منه ; فقيل : تحصل منه الردة إذا ارتكب شيئا من أسبابها ، لأن من صح إسلامه ، صحت ردته ، والمميز يصح إسلامه ، فتصح ردته ، لكن لا يقتل حتى يستتاب بعد البلوغ ويمهل ثلاثة أيام ، فمن تاب ; قبلت توبته ، وإن بقي على ردته ; قتل .
وقد اختلفوا فيمن ترك الصلاة تهاونا مع إقراره بوجوبها ، والصحيح أنه يكفر ، لقوله صلى الله عليه وسلم : بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة وقوله صلى الله عليه وسلم : العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها ، فقد كفر ولقوله تعالى : مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وقال تعالى : فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ فدلت الآية الكريمة على أن من لم يقم الصلاة ; فليس من إخواننا في الدين ، ولم يقل : وأقروا بوجوب الصلاة ، وإنما قال : وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وقال النبي صلى الله عليه وسلم : بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ... الحديث ، ولم يقل : والإقرار بوجوب الصلاة ، وإنما قال : وإقام الصلاة
وقد كثر اليوم التهاون بالصلاة ، والتكاسل عنها ، والأمر خطير جدا ، فيجب على من يتهاون بالصلاة أن يتوب إلى الله ، وينقذ نفسه من النار ; فإن الصلاة هي عمود الإسلام ، وهي تنهى عن الفحشاء والآثام
كتاب الأطعمة
باب في أحكام الأطعمة
بسم الله الرحمن الرحيم
لما كان الطعام يتغذى به جسم الإنسان ، وينعكس أثره على أخلاقه وسلوكه ; فالأطعمة الطيبة يكون أثرها طيبا على الإنسان ، والأطعمة الخبيثة بضد ذلك ، ولذلك أمر الله العباد بالأكل من الطيبات ، ونهاهم عن الخبائث :
قال تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا
وقال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
وقال تعالى : يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا
وقال تعالى : قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ
والأطعمة جمع طعام ، وهو ما يؤكل ويشرب .
والأصل فيها الحل ، لقوله تعالى : هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وغير ذلك من نصوص الكتاب والسنة التي تدل على أن الأصل في الأطعمة الحل . إلا ما استثني .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " الأصل فيها الحل لمسلم عمل صالحا ، لأن الله تعالى إنما أحل الطيبات لمن يستعين بها على طاعته ، لا على معصيته . لقوله تعالى : لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ولهذا لا يجوز أن يستعان بالمباح على المعصية ; كمن يعطي اللحم والخبز من يشرب عليه الخمر ويستعين به على الفواحش ، ومن أكل الطيبات ولم يشكر ; فمذموم ، قال تعالى : ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ أي : عن الشكر عليه انتهى . .
فالله تعالى أباح لعباده المؤمنين الطيبات لكي ينتفعوا بها ، وقال تعالى : يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ
وقد بين الله لعباده ما حرمه عليهم من المطاعم والمشارب ، قال تعالى : وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ فما لم يبين تحريمه ، فهو حلال ; كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله فرض فرائض . فلا تضيعوها ، وحد حدودا ; فلا تعتدوها ، وحرم أشياء ، فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان ; فلا تبحثوا عنها قال النووي رحمه الله : " حديث حسن ، رواه الدارقطني وغيره . "
فكل ما لم يبين الله ولا رسوله تحريمه من المطاعم والمشارب والملابس ; فلا يجوز تحريمه ; فإن الله قد فصل لنا ما حرم ; فما كان حراما فلا بد أن يكون تحريمه مفصلا ; فكما أنه لا يجوز إباحة ما حرم الله ; فكذلك لا يجوز تحريم ما عفا الله عنه ولم يحرمه .
والقاعدة في ذلك أن كل طعام طاهر لا مضرة فيه . فهو مباح ; بخلاف الطعام النجس ، كالميتة ، والدم ، والرجيع ، والبول ، والخمر ، والحشيشة ، والمتنجس ، وهو الذي خالط النجاسة ; فإنه يحرم ، لأنه خبيث مضر ، لقوله تعالى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ الآية .
فأما الميتة ; فهي ما فارقته الحياة بدون ذكاة شرعية ، وحرمت لما فيها من خبث التغذية ، والغاذي شبيه بالمغتذي ، ومن محاسن الشريعة تحريمه ، فإن اضطر إليه . أبيح له ، وانتفى وجه الخبث منه حال الاضطرار ; لأنه غير مستقل بنفسه في المحل المغتذى به ، بل هو متولد من القابل والفاعل ، فإن ضرورته تمنع قبول الخبث الذي في المغتذى به ، فلم تحصل تلك المفسدة ، لأنها مشروطة بالاختيار الذي به يقبل المحل خبث التغذي ، فإذا زال الاختيار . زال شرط القبول ، فلم تحصل المفسدة أصلا .
وأما الدم ; فالمراد به المسفوح منه ، وكان أهل الجاهلية يجعلونه في المباعر ، ويشوونه ، ويأكلونه ، فأما ما يبقى في خلل اللحم بعد الذبح وما يبقى في العروق ; فمباح ، حتى لو مسه بيده فظهر عليها أو مسه بقطنة ; لم ينجس. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " الصحيح أنه إنما يحرم الدم المسفوح المصبوب المهراق ، فأما ما يبقى في عروق اللحم ; فلم يحرمه أحد من العلماء " انتهى .
ولا يحل من الأطعمة ما فيه مضرة كالسم والخمر والحشيشة والدخان التبغ ; لقوله تعالى : وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ فالآية الكريمة تدل على تحريم أكل أو شرب كل ما فيه مضرة ، مع أدلة أخرى تدل على تحريم الأطعمة والأشربة الضارة للعقول والأبدان
والأطعمة المباحة على نوعين : حيوانات ونباتات كالحبوب والثمار ، فيباح منها كل ما لا مضرة فيه .
والحيوانات على نوعين : حيوانات تعيش في البر ، وحيوانات تعيش في البحر .
فحيوانات البر مباحة ; إلا أنواعا منها حرمها الشارع .
ومن ذلك : الحمر الأهلية ; لحديث جابر رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل متفق عليه .
قال ابن المنذر : " لا خلاف بين أهل العلم اليوم في تحريمها ".
وحرم من حيوانات البر أيضا ما له ناب يفترس به ; لقول أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع متفق عليه ، ويستثنى من ذلك الضبع ، فيحل ، لحديث جابر : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكل الضبع
قال العلامة ابن القيم رحمه الله : " إنما حرم ما له ناب من السباع العادية بطبعها كالأسد ، وأما الضبع ، فإنما فيها أحد الوصفين ، وهو كونها ذات ناب وليست من السباع العادية ، والسبع إنما حرم لما فيه من القوة السبعية التي تورث للمغتذي بها شبها ، ولا تعد الضبع من السباع العادية ، لا لغة ولا عرفا . .. " انتهى .
- والطيور مباحة ; إلا ما استثني ; فيحرم من الطير ما له مخلب - يصيد به ، وهو الظفر الذي يصيد به الحيوانات ; كالعقاب والبازي والصقر ; لقول ابن عباس : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع ، وعن كل ذي مخلب من الطيور رواه أبو داود وغيره .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : " قد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ، وصحت صحة لا مطعن فيها من حديث علي وابن عباس وأبي هريرة " اه .
ويحرم من الطيور أيضا ما يأكل الجيف كالنسر ، والرخم ، والغراب ، وذلك لخبث ما يتغذى به .
ويحرم من الحيوانات ما يستخبث كالحية ، والفأرة ، والحشرات .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " أكل الحيات والعقارب حرام مجمع عليه ، فمن أكلها مستحلا لها ، استتيب ، ومن اعتقد التحريم وأكلها ، فهو فاسق عاص لله ورسوله " .
وتحرم الحشرات لأنها من الخبائث .
ويحرم من الحيوانات أيضا ما تولد من مأكول وغيره ، كالبغل من الخيل والحمر الأهلية ; تغليبا لجانب التحريم .
وقد أجمل بعض العلماء ما يحرم من حيوانات البر في ستة أنواع هي :
1- ما نص عليه بعينه ; كالحمر الأهلية .
2- ما وضع له حد وضابط ; كما له ناب من السباع أو مخلب من الطير .
3- ما يأكل الجيف ; كالرخم والغراب .
4- ما يستخبث ، كالفأرة والحية .
5- ما تولد من مأكول وغير مأكول ; كالبغل .
6- ما أمر الشارع بقتله أو نهى عن قتله ; كالفواسق الخمس والهدهد والصرد .
وما عدا ما ذكر من الحيوانات والطيور ; فهو حلال على أصل الإباحة ، كالخيل ، وبهيمة الأنعام ، والدجاج ، والحمر الوحشية ، والظباء ، والنعامة ، والأرنب ، وسائر الوحوش ; لأن ذلك كله مستطاب ، فيدخل في قوله تعالى : أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ
ويستثنى من ذلك الجلالة من البقر والإبل ، وهي التي أكثر علفها النجاسة ، فيحرم كلها ; لما روى أحمد وأبو داود وغيرهما من حديث ابن عمر : نهى عن أكل الجلالة وألبانها ومن حديث عمرو بن شعيب : نهى عن لحوم الحمر الأهلية ، وعن ركوب الجلالة وكل لحمها وسواء في ذلك بهيمة الأنعام أو الدجاج ونحوه ، ولينها وبيضها نجس حتى تحبس ثلاثا وتطعم الطاهر فقط .
قال ابن القيم : " أجمع المسلمون على أن الدابة إذا علفت بالنجاسة ثم حبست وعلفت الطاهرات ، حل لبنها ولحمها ، وكذا الزرع والثمار : إذا سقيت بالماء النجس ، ثم سقيت بالطاهر ; حلت ; لاستحالة وصف الخبيث وتبدله بالطيب " انتهى .
ويكره أكل بصل وثوم ونحوهما مما له رائحة كريهة خصوصا عند حضور المساجد ; لقوله صلى الله عليه وسلم : من أكل من هذه الشجرة ، فلا يقربن مصلانا
ومن اضطر إلى محرم بأن خاف التلف إن لم يأكله غير السم ; حل له منه ما يسد رمقه ( أي : يمسك قوته ويحفظها ) ; لقوله تعالى : فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ومن اضطر إلى طعام غيره مع عدم اضطرار . صاحب ذلك الطعام إليه ; لزم بدله له بقدر ما يسد رمقه بقيمته . . .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " إن كان المضطر فقيرا ، لم يلزمه عوض ; إذ إطعام الجائع وكسوة العاري فرض كفاية ، ويصيران فرض عين على المعين إذا لم يقم غيره به . اه .
ومن اضطر إلى نفع مال الغير مع بقاء عينه كثياب لدفع برد ، أو حبل أو دلو لاستقاء ماء ، وكقدر لطبخ ، وجب بذله له مجانا ، مم عدم حاجة صاحبه إليه ; لأن الله تعالى ذم على منعه بقوله : وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ
قال ابن عباس وابن مسعود وغيرهما : الماعون هو ما يتعاطاه الناس بينهم ويتعاورونه من الفأس والقدر والدلو وأشباه ذلك .
ومن مر بثمر بستان في شجره ، أو متساقط عنه ، ولا حائط عليه ، ولا ناظر ; فله الأكل منه مجانا من غير حمل ، روي ذلك عن ابن عباس وأنس بن مالك وغيرهم ، وليس له صعود شجرة ، ولا رميها بشيء ، ولا الأكل من ثمر مجموع ; إلا لضرورة .
فتلخص أن للمار بالبستان أن يأكل من ثمره بشروط :
الأول: أن يكون لا حائط عليه وليس عنده حارس .
الثاني: أن يكون الثمر على الشجر أو متساقطا عنه لا مجموعا .
الثالث: أن لا يحتاج إلى صعود الشجر ، بل يتناوله من غير صعود .
الرابع: أن لا يحمل معه منه شيء .
الخامس: يشترط عند الجمهور أن يكون محتاجا .
فإن اختل شرط من هذه الشروط ; لم يجز له الأكل .
وتجب على المسلم ضيافة المسلم المجتاز به في القرى يوما وليلة ، أما المدن ; فلا تجب فيها الضيافة ; لأنه يجد فيها المطاعم والفنادق ; فلا يحتاج إلى الضيافة ; بخلاف القرى والبوادي .
ودليل وجوب الضيافة في الحالة المذكورة قوله صلى الله عليه وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم ضيفه . قالوا : وما جائزته يا رسول الله ; قال : يومه وليلته متفق عليه ، فدل الحديث على وجوب الضيافة ; لقوله : من كان يؤمن بالله ... إلخ ، وتعليق الإيمان بإكرام الضيف يدل على وجوبه ، وفي الصحيحين : إن نزلتم بقوم ، فأمروا لكم بما ينبغي للضيف ; فاقبلوا ، وإن لم يفعلوا ; فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي له
وقصة إبراهيم الخليل عليه السلام مع ضيفه وتقديمه العجل لهم تدل على أن الضيافة من دين إبراهيم ، وتدل على أنه يقدم للضيف أكثر مما يأكل ، وهذا من محاسن هذا الدين ، ومن مكارم الأخلاق التي لا تزال متواترة في ذريته ، حتى أكدها الإسلام ، وحث عليها ، بل إن دين الإسلام جعل لابن السبيل حقا ضمن الحقوق العشرة المذكورة في قوله تعالى : وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا إلى قوله : وَابْنِ السَّبِيلِ وقال تعالى : فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ بل جعل له حقا في الزكاة ضمن الأصناف الثمانية ، وابن السبيل هو المسافر المنقطع به ..
فلله الحمد على هذا الدين الكامل والتشريع الحكيم الذي هو هدى ورحمة .
باب في أحكام الذكاة
لما كان من شرط حل الحيوان البري أن يكون مذكى الذكاة الشرعية ، وأن ما لم تجر عليه تلك الذكاة يكون ميتة حراما ; كان بحث الذكاة ومعرفة ما يلزم لها مهما جدا .
وقد عرفها الفقهاء رحمهم الله بأنها : ذبح أو نحر الحيوان المأكول البري بقطع حلقومه ومريئه أو عقر الممتنع منه ، سميت بذلك أخذا من المعنى اللغوي ، إذ الذكاة في اللغة إتمام الشيء ; لأن ذبح الحيوان معناه إتمام زهوقه ، قال تعالى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ إلى قوله : إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ أي : أدركتموه وفيه حياة ، فأتممتم زهوقه ، ثم استعمل ذلك في الذبح ، سواء كان بعد إصابة سابقة ، أو ابتداء .
وحكم الذكاة أنها لازمة ، لا يحل شيء من الحيوان المقدور عليه بدونها ; لأن غير المذكى يكون ميتة ، وقد أجمع أهل العلم على أن الميتة حرام إلا لمضطر ، وقال تعالى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ إلا السمك والجراد وكل ما لا يعيش إلا في الماء ، فيحل بدون ذكاة ; لحل ميتته ، لحديث ابن عمر يرفعه : أحل لنا ميتتان ودمان : فأما الميتتان : الحوت والجراد ، وأما الدمان : فالكبد والطحال رواه أحمد وغيره ، وقال صلى الله عليه وسلم في البحر : هو الطهور ماؤه الحل ميتته
ويشترط للذكاة أربعة شروط
الشرط الأول: أهلية المذكي ، بأن يكون عاقلا ، ذا دين سماوي ، من المسلمين أو أهل الكتاب ، فلا يباح ما ذكاه مجنون أو سكران أو طفل لم يميز ، لأنه لا يصح من هؤلاء قصد التذكية ، لعدم العقلية فيهم ، ولا يحل ما ذكاه كافر وثني أو مجوسي أو مرتد أو قبوري ممن ينادون الموتى ويلوذون بالأضرحة ويطلبون من أصحابها المدد . . لأن هذا شرك أكبر .
وأما الكافر الكتابي ، وهو اليهودي أو النصراني ; فتحل ذبيحته ، لقوله تعالى : وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ أي : ذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى حل لكم أيها المسلمون ، وهذا بإجماع المسلمين ; قال الإمام البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما : " طعامهم ذبائحهم "
ومفهوم الآية الكريمة أن الكافر غير الكتابي لا تحل ذبيحته ، وهذا بالإجماع . .
والحكمة في إباحة ذبيحة الكافر الكتابي دون غيره من الكفار : أن أهل الكتاب يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ، وتحريم الميتات ; لما جاءت به أنبياؤهم ، بخلاف بقية الكفار ، فإنهم يذبحون للأصنام ويستحلون الميتات .
الشرط الثاني: توفر الآلة : فتباح الذكاة بكل محدد . ينهر الدم بحده ، سواء كان من الحديد أو الحجر أو غير ذلك ، ما عدا السن والظفر ; فلا يحل الذبح بهما ; لقوله : ما أنهر الدم ، فكل ، ليس السن والظفر متفق عليه .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : " هذا تنبيه على عدم التذكية بالعظام : إما لنجاسة بعضها ، أو لتنجيسها على مؤمني الجن ، وتمام الحديث : وسأحدثكم عن ذلك : أما السن ; فعظم أي : ذلك عظم ، فلا يحل الذبح به ، وقال : وأما الظفر ، فمدى الحبشة أي : فسكين الحبشة ، فلا يحل الذبح
الشرط الثالث: قطع الحلقوم ، وهو مجرى النفس ، وقطع المريء ، وهو مجرى الطعام والشراب ، وأحد الودجين ، وهما الوريدان .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " وتقطع المريء والحلقوم والودجان ، والأقوى أن قطع ثلاثة من الأربعة يبيح ، سواء كان فيها الحلقوم أو لم يكن ، فإن قطع الودجين أبلغ من قطع الحلقوم وأبلغ في إنهار الدم . "
والسنة نحر إبل ، بأن يطعنها بمحدد في لبتها ، وهي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر ، وذبح غيرها في حلقه .
والحكمة في تخصيص الذكاة في المحل المذكور ، وفي قطع هذه الأشياء خاصة ، لأجل خروج الدم السيال ; لأن هذا المحل مجمع العروق ، ولأن ذلك أسرع في زهوق الروح ، فيكون أطيب للحم ، وأخف على الحيوان ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا ذبحتم ذبيحة ; فأحسنوا الذبحة
وما عجز عن ذبحه في المحل المذكورة لعدم التمكن منه ; كالصيد والنعم المتوحشة والواقعة في بئر ونحوها ، تكون ذكاته بجرحه في أي موضع من بدنه ، ويكفي ذلك في ذكاته ; لحديث رافع قال : ند بعير ، فأهوى إليه رجل بسهم ، فحبسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ند عليكم ; فاصنعوا به هكذا متفق عليه ، وروي ذلك عن علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم .
وما أصيب من الحيوانات كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ، إذا أدركت وفيها حياة مستقرة ، فذكيت ; حلت ، لقوله تعالى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ إلى قوله : وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ أي : إلا ما أدركتم وفيه حياة ، فذكيتموه ; فليس بمحرم . والمنخنقة : هي التي التف على عنقها حبل ونحوه فخنقها . والموقوذة : هي التي ضربت بشيء ثقيل . والمتردية : هي التي تسقط من شيء مرتفع . والنطيحة : هي التي نطحها حيوان آخر برأسه . وما أكل السبع ، أي : افترسه الذئب ونحوه .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الذكاة المجزية في هذه الأنواع : " متى ذبح ، فخرج الدم الأحمر الذي يخرج من المذكى في العادة ، ليس هو دم الميتة ; فإنه يحل أكله ، ولو مع عدم تحركه بيد أو رجل أو طرف عين أو مصع ذنب ونحو فلك في الأصح . .. " انتهى . .
الشرط الرابع: أن يقول الذابح عند حركة يده بالذبح : بسم الله ; لقوله تعالى : وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ
قال الإمام ابن القيم : " ولا ريب أن ذكر اسم الله على الذبيحة يطيبها ويطرد الشيطان عن الذابح والمذبوح ، فإذا أخل به ; لابس الشيطان الذابح والمذبوح ، فأثر خبثا في الحيوان ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا ذبح سمى ، فدلت الآية على أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها ، وإن كان الذابح مسلما . .. انتهى .
ويسن مع التسمية التكبير .
وللذكاة آداب
فيكره أن يذبح بآلة كالة ; لقوله صلى الله عليه وسلم : وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته
ويكره أن يحدها والحيوان يبصره ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن تحد الشفار وأن توارى عن البهائم رواه أحمد .
ويكره أن يوجه الحيوان إلى غير القبلة .
ويكره أن يكسر عنقه أو يسلخه قبل أن يبرد .
والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى ، وذبح البقر والغنم مضجعة على جانبها الأيسر . والله أعلم .
باب في أحكام الصيد
الصيد مصدر صاد يصيد صيدا ، وهو اقتناص حيوان حلال متوحش طبعا غير مقدور عليه ، ويطلق على المصيد ، فيقال للحيوان : صيد ، تسمية للمفعول باسم الصدر .
وحكم الاصطياد : أنه إذا كان لحاجة الإنسان ; فهو جائز من غير كراهة ، وأما إذا كان للهو واللعب لا لأجل الحاجة ; فهو مكروه ، وإن ترتب عليه ظلم للناس بالاعتداء على زروعهم وأموالهم ، فهو حرام .
والدليل على جوازه في غير الحالة الأخيرة :
قوله تعالى : وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وقوله تعالى : وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا أرسلت كلبك المعلم ، وذكرت اسم الله عليه ، فكل متفق عليه . .
والصيد بعد إصابته وإمساكه له حالتان
الحالة الأولى : أن يدرك وهو حي حياة مستقرة ; فهذا لا بد من ذكاته الذكاة الشرعية التي سبق بيانها ، ولا يحل بالاصطياد .
الحالة الثانية : أن يدرك مقتولا بالاصطياد ، أو حيا حياة غير مستقرة ; ففي هذه الحالة يكون حلالا إذا توفرت فيه شروط
الشرط الأول : أن يكون الصائد من أهل الذكاة ; أي : ممن تحل ذبيحته . لأن الصائد بمنزلة المذكي ، فيشترط فيه الأهلية . بأن يكون عاقلا مسلما أو كتابيا ; فلا يحل ما صاده مجنون أو سكران ، لعدم العقلية ، ولا ما صاده مجوسي أو وثني ونحوه من سائر الكفار ، كما لا تحل ذكاتهم .
الشرط الثاني : الآلة ، وهي نوعان
الأول : محدد يشترط فيه ما يشترط في آلة الذبح ، بأن ينهر الدم ، ويكون غير سن وظفر ، وأن يجرح الصيد بحده لا بثقله ، فإذا كانت الآلة التي قتل بها الصيد غير محددة ، كالحصاة والعصا والفخ والشبكة وقطع الحديد ، فإنه لا يحل ما قتل به من الصيد ; إلا الرصاص الذي يطلق من البنادق اليوم ، فيحل ما قتل به من الصيد ; لأن فيه قوة الدفع التي تخرق وتنهر الدم كالمحدد وأشد
الثاني : الجارحة من الكلاب والطيور التي يصاد بها ، فيباح ما قتلته من الصيد إن كانت معلمة ، سواء كانت مما يصيد بنابه كالكلب أو بمخلبه كالطير ; لقوله تعالى : وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ومعنى قوله : تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ أي : تؤدبونهن آداب أخذ الصيد من العلم الذي علمكم الله ، وتعليم الجارح : أنه إذا أرسله ; استرسل ، وإذا أشلاه ، استشلى ، وإذا أخذ الصيد ; أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه ، ولا يمسكه لنفسه .
الشرط الثالث : أن يرسل الآلة قاصدا للصيد . ، لقوله صلى الله عليه وسلم : إذا أرسلت كلبك المعلم ، وذكرت اسم الله عليه ، فكل متفق عليه ، فدل الحديث على أن إرسال الجارحة بمنزلة الذبح ، فيشترط له القصد ، فلو سقطت الآلة من يده ، فقتلت صيدا ; لم يحل ; لعدم القصد منه ، وكذا لو استرسل الكلب من نفسه ، فقتل صيدا ، لم يحل ; لعدم إرسال صاحبه له ، وعدم قصده ، ومن رمى صيدا ، فأصاب غيره ، بأن قتل جماعة من الصيود ، حل الجميع ; لوجود القصد .
الشرط الرابع : التسمية عند إرسال السهم أو الجارحة ; بأن يقول : بسم الله ، لقوله تعالى : وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وقوله تعالى : فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا أرسلت كلبك المعلم ، وذكرت اسم الله عليه ; فكل متفق عليه - .
فإن ترك التسمية ; لم يحل الصيد ، لمفهوم الآية والأحاديث .
ويسن أن يقول مع التسمية : الله أكبر ، كما يقال ذلك في الذكاة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذبح ، يقول : بسم الله ، والله أكبر
تنبيهان :
التنبيه الأول : هناك حالات يحرم فيها الصيد :
فيحرم على المحرم قتل صيد البر أو اصطياده والإعانة على صيده بدلالة أو إشارة أو غير ذلك ; لقوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ
ويحرم عليه الأكل مما صاده أو كان له تأثير في اصطياده أو صيد من أجله ; لقوله تعالى : وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا
وكذلك هناك محل يحرم فيه الصيد ، فيحرم قتل صيد الحرم على المحرم وغير المحرم بالإجماع ، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما ; قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ; لا يعضد شوكه ، ولا يختلى خلاه ، ولا ينفر صيده . .. الحديث .
التنبيه الثاني : يحرم اقتناء الكلب لغير ما رخص فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو أحد ثلاثة أمور : إما لصيد ، أو لحراسة ماشية ، أو لحراسة زرع ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : من اتخذ كلبا ; إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع ; انتقص من أجره كل يوم قيراط متفق عليه . .
وبعض الناس لا يبالى بهذا الوعيد ، فيقتني الكلب لغير هذه الأغراض الثلاثة التي رخص فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ; لأجل المفاخرة وتقليد الكفار ، ولا يبالي بنقصان الأجر الذي يترتب على ذلك ، لكن لو كان ينقص في دنياه شيئا ; لما صبر عليه ; فلا حول ولا قوة إلا بالله .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة لا تدخل البيت الذي فيه الكلب ، والصورة ; فليتق المسلم ربه ، ولا يظلم نفسه بإيقاعها في الإثم وحرمانها من الأجر . والله المستعان .
كتاب الأيمان والنذور
باب في أحكام الأيمان
بسم الله الرحمن الرحيم
الأيمان جمع يمين ، واليمين : توكيد الحكم بذكر معظم على وجه مخصوص ، سمي بذلك أخذا من اليد اليمنى ; لأن الحالف يعطي يمينه ويضرب على يمين صاحبه ; كما في العهد والمعاقدة .
واليمين التي تجب بها الكفارة هي اليمين التي يحلف فيها باسم الله أو بصفة من صفاته ، كأن يقول : والله ، أو : ووجه الله ، أو : وعظمته وكبريائه وجلاله وعزته ورحمته ، أو : وعهده ، أو : وإرادته ، أو : بالقرآن ، أو : بالمصحف .
والحلف بغير الله تعالى محرم ، وهو شرك ; لقوله صلى الله عليه وسلم : من كان حالفا ; فليحلف بالله أو ليصمت متفق عليه ، وقال : ومن حلف بغير الله ; فقد كفر أو أشرك وقال صلى الله عليه وسلم : ليس منا من حلف بالأمانة رواه أبو داود .
فدلت هذه الأحاديث على تحريم الحلف بغير الله ، وأنه شرك ، كأن يقول : والنبي ، وحياتك ، والأمانة ، والكعبة . .. وما أشبه ذلك .
قال ابن عبد البر : وهذا أمر مجمع عليه .
وقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية : " يحرم الحلف بغير الله ، وقال ابن مسعود : لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا .
وقال الشيخ موجها كلام ابن مسعود هذا : " لأن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق ، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك . .. انتهى .
ويشترط لوجوب الكفارة إذا حلف بالله ثم نقض اليمين ثلاثة شروط :
الشرط الأول: أن تكون اليمين منعقدة ، بأن يقصد الحالف عقدها على أمر مستقبل ممكن قال الله تعالى لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فدلت الآية على أن الكفارة لا تجب إلا في الأيمان المنعقدة
ولا يكون العقد إلا في المستقبل من الزمان دون الماضي . لعدم إمكان البر والحنث فيه ، لكن إذا حلف على أمر ماض كاذبا متعمدا ، فهي اليمين الغموس ; لأنها تغمسه في الإثم ، ثم في النار ، ولا كفارة فيها ، لأنها أعظم من أن تكفر ، وهي من الكبائر .
وإذا تلفظ باليمين بدون قصد لها ; كما لو قال : لا والله ، وبلى والله وهو لا يقصد اليمين ، وإنما جرى على لسانه هذا اللفظ بدون قصد ، فهو لغو ، لا كفارة فيه ، لقوله تعالى : لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا : اللغو في اليمين كلام الرجل في بيته: لا والله، وبلى والله رواه أبو داود . .
وكذا لو حلف عن قصد يظن صدق نفسه فبان بخلافه
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " وكذا لو عقدها على زمن مستقبل ، ظانا صدقه ، فلم يكن كمن حلف على غيره يظن أنه يطيعه فلم يفعل " انتهى .
الشرط الثاني : أن يحلف مختارا ، فإن حلف مكرها لم تنعقد يمينه ; لقوله صلى الله عليه وسلم : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فدل على أن المكره على الحلف معفو عنه .
الشرط الثالث: أن يحنث فيها ; بأن يفعل ما حلف على تركه ، أو يترك ما حلف على فعله مختارا ذاكرا ليمينه ، فإذا حنث ناسيا ليمينه أو مكرها فلا كفارة عليه ; لأنه لا إثم عليه ; لقوله صلى الله عليه وسلم : عفي لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه
وإن استثنى في يمينه كما لو قال : والله لأفعلن كذا إن شاء الله ; لم يحنث في يمينه إذا نقضها ، بشرط أن يقصد الاستثناء متصلا باليمين لفظا أو حكما ; لقوله صلى الله عليه وسلم : من حلف فقال : إن شاء الله ، لم يحنث رواه أحمد وغيره ، فإن لم يقصد الاستثناء ، بل قصد بقوله : إن شاء الله : مجرد التبرك بهذا اللفظ ، لا التعليق ، أو لم يقل : إن شاء الله ، إلا بعد مضي وقت انتهاء التلفظ باليمين . من غير عذر ، لم ينفعه هذا الاستثناء ، وقيل : ينفعه الاستثناء ، وإن لم يرده إلا بعد الفراغ من اليمين ، حتى لو قال له بعض الحاضرين : قل : إن شاء الله ، نفعه . قال شيخ الإسلام : " وهو الصواب "
ونقض اليمين تارة يكون واجبا ، وتارة يكون محرما ، وتارة يكون مباحا :
فيجب نقض اليمين إذا حلف على ترك واجب ; كما لو حلف لا يصل رحمه ، أو حلف على فعل محرم ; كما لو حلف ليشربن خمرا ، فهنا يجب عليه أن ينقض يمينه ، ويكفر عنها .
وقد يحرم نقض اليمين ; كما لو حلف على ترك محرم أو فعل واجب ; فإنه يجب عليه الوفاء باليمين ، ولا يجوز له نقضها .
ويباح نقض اليمين فيما إذا حلف على فعل مباح أو على تركه .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما حلفت على يمين ، فرأيت غيرها خيرا منها ، إلا أتيت الذي هو خير ، وكفرت عن يميني وقال عليه الصلاة والسلام : من حلف على يمين ، فرأى غيرها خيرا منها ، فليأت الذي هو خير ، وليكفر عن يمينها
ومن حرم على نفسه شيئا مباحا سوى زوجته كالطعام والشراب واللباس ; كما لو قال : ما أحل الله علي حرام ، أو قال : هذا الطعام حرام علي ، فإنه لا يحرم عليه ; فله تناوله ، ويكون عليه كفارة يمين ; لقوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ إلى قوله تعالى : قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ أي : التكفير عن تحريم الحلال .
أما لو حرم زوجته ; فإن ذلك يعتبر ظهارا ، تجب فيه كفارة الظهار ، ولا تكفي فيه كفارة اليمين .
ومما يجب التنبيه عليه في هذا الباب حكم الحلف بملة غير الإسلام ; كما لو قال : هو يهودي أو نصراني إن فعل كذا وكذا ! أو إن لم يفعله ! وهذا من الألفاظ البغيضة ; فهذا محرم شديد التحريم ، لما في " الصحيحين " ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من حلف على ملة غير الإسلام كاذبا متعمدا ; فهو كما قال وفي رواية الإمام أحمد : من قال : إنه بريء من الإسلام : فإن كان كاذبا ; فهو كما قال وإن كان صادقا ; لم يعد إلى الإسلام سالما
نسأل الله العافية من مقالة السوء ، ونسأله أن يسدد أقوالنا وأفعالنا ونياتنا ; إنه قريب مجيب .
باب في كفارة اليمين
من رحمة الله بعباده أن شرع لهم الكفارة التي بها تحلة اليمين .
قال الله تعالى : قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إذا حلفت على يمين ، فرأيت غيرها خيرا منها ; فأت الذي هو خير ، وكفر عن يمينك
وكفارة اليمين فيها تخيير وفيها ترتيب ، فيخير من لزمته بين إطعام عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع من الطعام ، أو كسوة عشرة مساكين لكل واحد منهم ثوب يجزئه في صلاته ، أو عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب ، فمن لم يجد شيئا من هذه الثلاثة المذكورة ; صام ثلاثة أيام .
فتبين بهذا التفصيل أن كفارة اليمين تجمع تخييرا وترتيبا ; تخييرا بين الإطعام والكسوة والعتق ، وترتيبها بين ذلك وبين الصيام .
والدليل على هذا قول الله تعالى : فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ
ومعنى الآية الكريمة إجمالا أن كفارة ما عقدتم من الأيمان إذا حنثتم فيها : إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم ; أي : من خير وأمثل قوت عيالكم ، أو كسوتهم مما يصح أن يصلى فيه ، أو عتق رقبة ، واشترط الجمهور كونها مؤمنة ، وقد بدأ سبحانه وتعالى بالأسهل فالأسهل ; فأي هذه الخصال فعل ، أجزأ بالإجماع .
واشترط الجمهور في صيام ثلاثة الأيام أن تكون متتابعة ، لقراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعة ) .
وهنا يغلط كثير من العوام ، فيظنون أنهم مخيرون بين الصيام وبين بقية خصال الكفارة ، فيصومون ، مع قدرتهم على الإطعام أو الكسوة ، والصيام في هذه الحالة لا يجزئهم ولا يبرئ ذمتهم من كفارة اليمين ; لأنه لا يجزئ إلا عند العجز عن الإطعام أو الكسوة أو العتق ; فيجب التنبيه والتنبيه لمثل هذا الأمر .
ويجوز تقديم الكفارة على الحنث ، ويجوز تأخيرها عنه ، فإن قدمها ، كانت محللة لليمين ، وإن أخرها ; كانت مكفرة له .
والدليل على ذلك ما ثبت في " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : إذا حلفت على يمين ، فرأيت غيرها خيرا منها ; فأت الذي هو خير ، وكفر : عن يمينك فدل هذا الحديث على جواز تأخير الكفارة عن الحنث ، ولأبي داود فكفر عن يمينك ، ثم ائت الذي هو خير فدل هذا الحديث على جواز تقديم الكفارة على الحنث ، فدلت الأحاديث على جواز التقديم والتأخير .
ومن السنة ومن حق الأخ على أخيه المسلم إبرار قسمه إذا أقسمه عليه ، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه ، قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع : أمرنا بعيادة المريض ، واتباع الجنائز ، وتشميت العاطس ، وإبرار القسم أو المقسم ، ونصر المظلوم ، وإجابة الداعي ، وإفشاء السلام
وإن كرر الأيمان قبل التكفير على فعل واحد موجبها واحد ، ثم حنث فيها ; فعليه كفارة واحدة . ..
وكذا لو حلف يمينا واحدة على عدة أشياء ; كما لو قال : والله لا آكل ولا أشرب ولا ألبس ، ثم حنث في أحد من هذه الأشياء ; فعليه كفارة واحدة ، وانحلت البقية ، لأنها يمين واحدة . أما إذا حلف عدة أيمان على عدة أفعال ثم حنث فيها ، فعليه كفارة لكل يمين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " من كرر أيمانا قبل التكفير ; فروايات ، ثالثها - وهو الصحيح - : إن كانت على فعل ، فكفارة ، وإلا ; فكفارات " انتهى .
وإن حلف لا يفعل شيئا ففعله ناسيا أو مكرها أو جاهلا أنه المحلوف عليه لم يحنث ، ولم تجب عليه كفارة ، لقوله تعالى : رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ولأن فعل المكره غير منسوب إليه ، وقد رفع الله عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " إذا حلف على إنسان قاصدا إكرامه ; لا يحنث مطلقا ، إلا إذا كان قاصدا إلزامه ; فإنه يحنث ... " انتهى .
تنبيه : يقول الله تعالى بعدما ذكر كفارة اليمين : وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ فأمر سبحانه بحفظ الأيمان ، ومعناه عدم المسارعة إلى اليمين ، أو المسارعة إلى الحنث فيها ، أو أنها لا تترك بدون كفارة ، وعلى كل ، ففي الآية الكريمة الأمر باحترام اليمين ، وعدم الاستهانة بها
ومما يجب التنبيه عليه أن بعض الناس إذا حلف ; يحتال على مخالفة اليمين ويظن أنه بهذه الحيلة يسلم من تبعة اليمين .
وقد نبه الإمام ابن القيم رحمه الله على ذلك بقوله : " ومن الحيل الباطلة : لو حلف لا يأكل هذا الرغيف ، أو لا يسكن في الدار هذه السنة ، أو لا يأكل هذا الطعام ; قالوا : يأكل الرغيف ويدع منه لقمة واحدة ، ويسكن السنة كلها إلا يوما واحدا ، ويأكل الطعام كله إلا القدر اليسير منه ولو أنه لقمة ، وهذه حيلة باطلة باردة ، ومتى فعل ذلك ; فقد أتى بحقيقة الحنث ، وفعل نفس ما حلف عليه ، ثم يلزم هذا المتحيل أن يجوز للمكلف كل ما نهى الشارع عن جملته ، فيفعله إلا القدر اليسير منه ; فإن البر والحنث في الأيمان نظير الطاعة والمعصية في الأمر والنهي ، ولذلك لا يبرأ إلا بفعل المحلوف عليه جميعه لا يفعل بعضه كما لا يكون مطيعا إلا بفعله جميعه ، ويحنث بفعل بعضه كما يعصي بفعل بعضه " انتهى . .
ومن الناس من يحلف على عدم فعل شيء ثم يوكل من يفعله بدلا عنه وهذا من الحيل التي لا تبرئ ذمته من تبعة اليمين ; إلا إذا كان قاصدا عدم مباشرة فعل الشيء بنفسه ; فله ما نوي .
وعلى كل حال ; فشأن الأيمان شأن عظيم ، لا يجوز التساهل به ، ولا الاحتيال للتخلص من حكمه .
باب في أحكام النذر
النذر لغة : الإيجاب ، تقول : نذرت كذا : إذا أوجبته على نفسك . وتعريفه شرعا : إلزام مكلف مختار نفسه شيئا لله تعالى .
والنذر نوع من أنواع العبادة ، لا يجوز صرفه لغير الله تعالى ، فمن نذر لغير الله تعالى من قبر أو ملك أو نبي أو ولي ; فقد أشرك بالله الشرك الأكبر المخرج من الملة ; لأنه بذلك قد عبد غير الله ; فالذين ينذرون لقبور الأولياء والصالحين اليوم قد أشركوا بالله الشرك الأكبر والعياذ بالله ; فعليهم أن يتوبوا إلى الله ، ويحذروا من ذلك ، وينذروا قومهم لعلهم يحذرون .
وحكم النذر ابتداء أنه مكروه ، وقد حرمه طائفة من العلماء ، لما روى ابن عمر رضي الله عنها ; أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر ، وقال : لإنه لا يرد شيئا ، لإنما يستخرج به من البخيل قال في " المنتقى " : " رواه الجماعة إلا الترمذي " ، ولأن الناذر يلزم نفسه بشيء لا يلزمه في أصل الشرع ، فيحرج نفسه ويثقلها بهذا النذر ، ولأنه مطلوب من المسلم فعل الخير بدون نذر .
لكن إذا نذر فعل طاعة ، وجب عليه الوفاء بذلك : لقوله تعالى : وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ
وقال تعالى في وصف الأبرار : يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا
وقال تعالى : وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من نذر أن يطيع الله ; فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله ; فلا يعصه
وقال الإمام ابن القيم : " الملتزم الطاعة لله لا يخرج عن أربعة أقسام : إما أن تكون بيمين ، مجردة ، أو بنذر مجرد ، أو بيمين مؤكدة بنذر ، أو بنذر مؤكد بيمين ; كقوله : وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ فعليه أن يفي به ، وإلا دخل في قوله : فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ وهو أولى باللزوم من أن يقول : لله علي كذا انتهى .
وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله أنه يشترط لانعقاد النذر أن يكون الناذر بالغا عاقلا مختارا ; لقوله صلى الله عليه وسلم : رفع القلم عن ثلاثة الصغير حتى يبلغ ، والمجنون حتى يفيق ، والنائم حتى يستيقظ فدل الحديث على أنه لا يلزم النذر من هؤلاء ; لرفع القلم عنهم .
ويصح النذر من الكافر إذا نذر عبادة ، ويلزمه الوفاء به إذا أسلم ; لحديث عمر رضي الله عنه ; قال : إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أوف بنذرك
والنذر الصحيح خمسة أقسام
أحدها: النذر المطلق مثل أن يقول : لله علي نذر ، ولم يسم شيئا ; فيلزمه كفارة يمين ، سواء كان مطلقا أو معلقا ; لما روى عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين رواه ابن ماجه والترمذي ، وقال : " حسن صحيح غريب " ; فدل هذا الحديث على وجوب الكفارة إذا لم يسم ما نذر لله عز وجل . .
الثاني: نذر اللجاج والغضب وهو تعليق نذره بشرط يقصد المنع منه أو الحمل عليه أو التصديق أو التكذيب ; كما لو قال : إن كلمتك ، أو : إن لم أخبر بك ، أو : إن لم يكن هذا الخبر صحيحا ، أو : إن كان كذبا ، فعلي الحج أو العتق . .. ونحو ذلك ; فهذا النذر يخير بين فعل ما نذره أو كفارة يمين ، لحديث عمران بن حصين ; قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين " رواه سعيد في سننه .
الثالث: نذر المباح نذر المباح كما لو نذر أن يلبس ثوبه أو يركب دابته ، ويخير بين فعله وبين كفارة يمين إن لم يفعله ; كالقسم الثاني ، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه لا شيء عليه في نذر المباح ; لما روى الإمام البحاري : بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب ، إذا هو برجل قائم ، فسأل عنه ; فقالوا : أبو إسرائيل ، نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم وأن يصوم . فقال : مروه ; فليتكلم ، وليستطل ، وليقعد ، وليتم صومه
الرابع: نذر المعصية كنذر شرب الخمر وصوم أيام الحيض ويوم النحر ; فلا يجوز الوفاء بهذا النذر ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم : من نذر أن يعصي الله ، فلا يعصه فدل هذا الحديث على أنه لا يجوز الوفاء بنذر المعصية ; لأن المعصية لا تباح في حال من الأحوال ، ومن نذر المعصية النذر للقبور أو لأهل القبور ، وهو شرك أكبر كما سبق ، ويكفر عن هذا النذر كفارة يمين عند بعض أهل العلم ، وهو مروي عن ابن مسعود وابن عباس وعمران بن حصين وسمرة بن جندب رضي الله عنهم ، وذهب جماعة من أهل العلم إلى عدم انعقاد نذر المعصية ، وأنه لا يلزمه به كفارة ، وهو رواية عن أحمد ومذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، وقال : " ومن أسرج قبرا أو مقبرة أو جبلا أو شجرة أو نذر لها أو لسكانها أو المضافين إلى ذلك المكان ; لم يجز ، ولا يجوز الوفاء به إجماعا ، ويصرف في المصالح ; ما لم يعلم ربه . .. " انتهى .
الخامس: نذر التبرر : وهو نذر الطاعة كفعل الصلاة والصيام والحج ونحوه ، سواء كان مطلقا ( أي : غير معلق على حصول شرط ) ; كما لو قال : لله علي أن أصلي أو أصوم . .. ، أو معلقا على حصول شرط ، كقوله : إن شفى الله مريضي ; فلله علي كذا ، فإذا وجد الشرط ; لزمه الوفاء به ; لقوله صلى الله عليه وسلم : من نذر أن يطيع الله ; فليطعه رواه البخاري ، ولقوله تعالى : يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ولقوله تعالى : وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ والله أعلم .
كتاب القضاء
باب في أحكام القضاء في الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " والواجب اتخاذ ولاية القضاء دينا وقربة ; فإنهما من أفضل القربات ، وإنما فسد حال الأكثر بطلب الرئاسة والمال بها . .. انتهى .
والأصل في ذلك الكتاب والسنة والإجماع :
قال الله تعالى : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قال تعالى : يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ
وقد تولاه النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه ، ونصب القضاة في الأقاليم التي دخلت تحت الحكم الإسلامي ، وكذلك خلفاؤه من بعده .
وأجمع المسلمون على نصب القضاة للفصل بين الناس .
والقضاء في اللغة معناه : إحكام الشيء والفراغ منه ; قال تعالى : فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وله معان أخرى ، وأما معناه اصطلاحا ، فهو تبيين الحكم الشرعي والإلزام به وفصل الخصومات .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في القاضي : " هو من جهة الإثبات شاهد ، ومن جهة الأمر والنهي مفت ، ومن جهة الإلزام بذلك ذو سلطان . .. " انتهى .
وحكم القضاء في الإسلام أنه فرض كفاية . لأن أمر الناس لا يستقيم
قال الإمام أحمد : " لا بد للناس من حاكم لئلا تذهب الحقوق " .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " قد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر ، وهو تنبيه على أنواع الاجتماع . .. انتهى .
ويجب على من يصلح للقضاء الدخول فيه إذا لم يوجد غيره ، وفى ذلك فضل عظيم لمن قوي عليه ، وفيه خطر عظيم في حق من لم يؤد الحق فيه .
ويجب على إمام المسلمين أن يعين القضاة حسب المصلحة التي تدعو إلى ذلك ، لئلا تضيع الحقوق ، ويختار أفصل من يجده علما وورعا ، ومن لم يعرف صلاحيته ; سأل عنه .
ويجب على القاضي أن يجتهد في إقامة العدل بين الناس غاية ما يمكنه ، ولا يلزمه ما يعجز عنه ، ويفرض له ولي الأمر من بيت المال ما يكفيه حتى يتفرغ للقيام بالقضاء ، وقد فرض الخلفاء الراشدون للقضاة من بيت المال ما يكفيهم .
وصلاحيات القاضي يرجع فيها إلى العرف في كل زمان بحسبه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ما يستفيده بالولاية ( يعني : من الصلاحيات ) لا حد له شرعا ، بل يتلقى من الألفاظ والأحوال والعرف ، لأن كل ما لم يحدد شرعا ; يحمل على العرف ; كالحرز والقبض " . قال : " وولاية الأحكام يجوز تبعيضها ، ولا يجب أن يكون عالما في غير ولايته ; فإن منصب الاجتهاد ينقسم ، حتى لو ولاه المواريث ; لم يجب أن يعرف غير الفرائض والوصايا وما يتعلق بذلك ، وإن ولاه عقود الأنكحة وفسخها ; لم يجب أن يعرف إلا ذلك ، وعلى هذا ; إذا قال : اقض فيما تعلم ; كما يقول : أفت فيما تعلم ; جاز ، ويسمى ما لا يعلم خارجا عن ولايته ، كما نقول في الحاكم الذي ينزل على حكمه الكفار وفي الحكمين في جزاء الصيد . .. " انتهى .
وفي هذا الزمان قد اتخذت وزارة العدل نظاما يسير عليه القضاة في ولاياتهم ، وتتحدد به صلاحياتهم ; فيجب الرجوع إليه ، والتقيد به ; لأن في ذلك ضبطا للأمور ، وتحديد الصلاحيات ، وهو لا يخالف نصا من كتاب الله ولا من سنة رسول الله ; فيجب العمل به .
ويشترط فيمن يتولى القضاء أن تتوفر فيه عشر صفات تعتبر حسب الإمكان :
أن يكون مكلفا - أي : بالغا عاقلا - ; لأن غير المكلف تحت ولاية غيره ; فلا يكون واليا على غيره ;
وأن يكون ذكرا ; لقوله صلى الله عليه وسلم : ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة
وأن يكون حرا ، لأن الرقيق مشغول بحقوق سيده .
وأن يكون مسلما ، لأن الإسلام شرط للعدالة ، ولأن المطلوب إذلال الكافر ، وفي توليته القضاء رفعة واحترام له .
وأن يكون عدلا ; فلا تجوز تولية الفاسق ; لقوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا وإذا كان لا يقبل خبره ; فعدم قبول حكمه من باب أولى .
وأن يكون سميعا ، لأن الأصم لا يسمع كلام الخصمين .
وأن يكون بصيرا ، لأن الأعمى لا يعرف المدعي من المدعى عليه .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " قياس المذهب تجوز ولايته كما تجوز شهادته ; إذ لا يعوزه إلا معرفة عين الخصم ، ولا يحتاج إلى ذلك ، بل يقضي على موصوف كما قضى داود بين الملكين ، ويتوجه أن يصح مطلقا ، ويعرف بأعيان الشهود والخصم كما يعرف بمعاني كلامهم في الترجمة ، إذ معرفة كلامه وعينه سواء . .. " انتهى .
ويشترط في القاضي أن يكون متكلما ; لأن الأخرس لا يمكنه النطق بالحكم ، ولا يفهم جميع الناس إشارته .
وأن يكون مجتهدا ; ولو في مذهبه الذي يقلد فيه إماما من الأئمة ; بأن يعرف القول الراجح فيه من المرجوح . ..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وهذه الشروط تعتبر حسب الإمكان ، وتجب ولاية الأمثل فالأمثل ، وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره ، فيولى الأنفع من الفاسقين وأقلهما شرا ، وأعدل المقلدين وأعرفهما بالتقليد " .
قال صاحب " كتاب الفروع " : " وهو كما قال " . .
وقال في الإنصاف في تولية المقلد : " وعليه العمل من مدة طويلة ، وإلا ، تعطلت أحكام الناس . .
وذكر ابن القيم أن المجتهد هو العالم بالكتاب والسنة ، ولا ينافي اجتهاده تقليد غيره أحيانا ; فلا تجد أحدا من الأئمة إلا وهو مقلد من هو أعلم منه في بعض الأحكام :
باب في آداب القاضي
المراد بالآداب هنا الأخلاق التي ينبغي له التخلق بها .
قال الإمام أحمد رحمه الله : " حسن الخلق أن لا تغضب ولا تحقد " .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله : " الحاكم محتاج إلى ثلاثة أشياء لا يصح له الحكم إلا بها : معرفة الأدلة ، والأسباب ، والبينات ; فالأدلة تعرفه الحكم الشرعي الكلي ، والأسباب تعرفه ثبوته في هذا المحل المعين أو انتفاءه عنه ، والبينات تعرفه طريق الحكم عند التنازع ، ومتى أخطأ في واحد من هذه الثلاثة ، أخطأ في الحكم " انتهى .
وينبغي للقاضي أن يكون قويا من غير عنف ، لئلا يطمع فيه الظالم ، وأن يكون لينا من غير ضعف ; لئلا يهابه صاحب الحق .
قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله : " إن الولاية لها ركنان : القوة والأمانة ، وينبغي للقاضي أن يكون حليما ; لئلا يغضب من كلام الخصم ، فيمنعه ذلك من الحكم ; فالحلم زينة العلم وبهاؤه وجماله ، وضده الطيش والعجلة والحدة والتسرع وعدم الثبات ، وينبغي له أن يكون ذا أناة ( أي : تؤدة وتأن ) ، لئلا تؤدي عجلته إلى ما لا ينبغي ، وأن يكون ذا فطنة ; لئلا يخدعه بعض الخصم ، وأن يكون عفيفا ( أي : كافا نفسه عن الحرام ) ، وأن يكون بصيرا بأحكام من قبله من القضاة ، ويكون مجلسه في وسط البلد إذا يمكن ; ليستوي أهل البلد في المضي إليه ، ولا بأس بالقضاء في المسجد ، وقد جاء عن عمر وعثمان وعلي أنهم كانوا يقضون في المسجد ، ويجب على القاضي أن يعدل بين الخصمين في لحظه ولفظه ومجلسه ودخولهما عليه ، روى أبو داود عن ابن الزبير ; قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم فوجب أن يعدل بينهما في مجلسه وفي ملاحظته لهما وكلامه لهما " .
قال الإمام ابن القيم : " نهى عن رفع أحد الخصمين عن الآخر ، وعن الإقبال عليه ، وعن مشاورته والقيام له دون خصمه ; لئلا يكون ذريعة إلى انكسار قلب الآخر وضعفه عن القيام بحجته وثقل لسانه بها ، ولا يتنكر للخصوم ; لما في التنكر لهم من إضعاف نفوسهم وكسر قلوبهم وإخراس ألسنتهم عن التكلم بحججهم " .
ويحرم على القاضي أن يسار أحد الخصمين أو يلقنه حجته أو يضيفه أو يعلمه كيف يدعي ; إلا أن يترك ما يلزمه في الدعوى .
وينبغي للقاضي أن يحضر مجلسه الفقهاء ، وأن يشاورهم فيما يشكل عليه إن أمكن ، فاذا اتضح له الحكم ; حكم به ، وإلا ; أخره حتى يتضح .
ويحرم على القاضي أن يقضي وهو غضبان غضبا كثيرا ، لما في الحديث المتفق عليه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان ولأن الغضب يشوش عليه قلبه وذهنه ، ويمنعه من كمال الفهم ، ويحول بينه وبين استيفاء النظر ، ويعمي عليه طريق العلم والقصد .
ويقاس على الغضب كل ما يشوش الفكر ، كحالة الجوع ، والعطش ، وشدة الهم ، أو الملل ، أو النعاس ، أو برد مؤلم ، أو حر مزعج ، أو في حالة احتباس بول أو غائط ; لأن ذلك كله يشغل الفكر الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب ; فهو في معنى الغضب .
ويحرم على الحاكم قبول رشوة ; لحديث ابن عمر ; قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .
والرشوة نوعان :
أحدهما: أن يأخذ من أحد الخصمين ليحكم له بالباطل .
والثاني: أن يمتنع من الحكم بالحق للمحق حتى يعطيه الرشوة ، وهذا من أعظم الظلم .
وكذا يحرم على القاضي قبول هدية ممن لم يكن يهاديه قبل ولايته القضاء ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : هدايا العمال غلول رواه أحمد ، ولأن قبول الهدية ممن لم تجر عادته بمهاداته ذريعة إلى قضاء حاجته .
ويكره للقاضي تعاطي البيع والشراء إلا بوكيل لا يعرف أنه له ; خشية المحاباة ; فإن المحاباة في البيع والشراء كالهدية .
ولا يحكم القاضي لنفسه ولا لمن لا تقبل شهادته له كوالده وولده وزوجته ولا يحكم على عدوه ، لقيام التهمة في هذه الأحوال ، ومتى عرضت قضية تختص به أو لمن لا تقبل شهادته له ; أحالها إلى غيره ; فقد حاكم عمر أبيا إلى زيد بن ثابت ، وحاكم علي رجلا عراقيا إلى شريح ، وحاكم عثمان طلحة إلى جبير بن مطعم رضي الله عنهم .
ويستحب للقاضي أن يقدم النظر في القضايا التي تستدعي حالة أصحابها سرعة النظر فيها ، كقضايا المساجين ، وقضايا القصار من الأيتام والمجانين ، ثم قضايا الأوقاف والوصايا التي ليس لها ناظر .
ولا ينقض من أحكام القاضي إلا ما خالف الكتاب والسنة ، أو خالف إجماعا قطعيا ، فما كان كذلك ; وجب نقضه ; لمخالفته الكتاب والسنة أو الإجماع .
وبهذا الاستعراض السريع لآداب القاضي ; يتبين عدالة القضاء في الإسلام ، وما يكون عليه القضاة من مستوى رفيع مما تعجز كل نظم الأرض عن الإتيان بمثله أو قريب منه ، وصدق الله العظيم : أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
فقبح الله قوما أعرضوا عن هذا الحكم الرباني واستبدلوه بالقانون الشيطاني ، وهؤلاء قد بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ
باب في طريق الحكم وصفته
إذا حضر إلى القاضي خصمان ; أجلسهما بين يديه ، وقال : أيكما المدعي ; أو انتظر حتى يبدأ المدعي بالكلام ، فإذا ادعى ; استمع دعواه .
فإن جاءت على الوجه الصحيح . سأل القاضي المدعى عليه : ما موقفه حيال هذه الدعوى ؟
فإن أقر بها . حكم عليه للمدعي بهذه الدعوى .
وإن أنكر المدعى عليه هذه الدعوى ; قال القاضي للمدعي : إن كانت لك بينة فأحضرها . لأن على المدعي حينئذ تصحيح دعواه ليحكم له بها ، فإن أحضر بينة ; سمع القاضي شهادتها وحكم بها .
ولا يحكم القاضي بعلمه ; لأن ذلك يفضى إلى تهمته .
قال العلامة ابن القيم : " لأن ذلك ذريعة إلى حكمه بالباطل ، ويقول : حكمت بعلمي " .
قال : " وقد ثبت عن أبي بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية المنع من ذلك ، ولا يعرف لهم في الصحابة مخالف ، ولقد كان سيد الحكام صلوات الله وسلامه عليه يعلم من المنافقين ما يبيح دماءهم وأموالهم ، ويتحقق ذلك ، ولا يحكم فيهم بعلمه ، مع براءته عند الله وملائكته وعباده من كل تهمة .
قال : " ولكن يجوز له ( أي : القاضي ) الحكم بما تواتر عنده وتضافرت به الأخبار بحيث اشترك في العلم به هو وغيره ، ويجوز له الاعتماد على سماعه بالاستفاضة ; لأنها من أظهر البينات ، ولا يتطرق إلى الحاكم تهمة إذا استند إليها ; فحكمه بها حكم بحجة ، لا بمجرد علمه الذي لا يشاركه فيه غيره انتهى .
وإن قال المدعي : ما لي بينة ، أعلمه القاضي أن له اليمين على خصمه ; لما روى مسلم وأبو داود : أن رجلين اختصما إلى النبى صلى الله عليه وسلم حضرمي وكندي ، فقال الحضرمي : يا رسول الله ! إن هذا غلبني على أرض لي . فقال الكندي : هي أرضى وفي يدي وليس له فيها حق . فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي : ألك بينة . قال : لا . قال : فلك يمينه
قال الإمام ابن القيم : " وهذه قاعدة الشريعة المستمرة ، لأن اليمين إنما كانت في جانب المدعى عليه حيث لم يترجح المدعي بشيء غير الدعوى ، فيكون جانب المدعى عليه أولى باليمين ; لقوته بأصل براءة الذمة ، فكان هو أقوى المتداعيين باستصحاب الأصل ، فكانت اليمين من جهته " انتهى
فإذا طلب المدعي تحليف المدعى عليه ; حلفه القاضي وخلى سبيله ; لأن الأصل براءة ذمته .
ولكن يشترط لصحة يمين المدعى عليه أن تكون على صفة جوابه للمدعي ، وأن تكون بعد أمر الحاكم له بطلب المدعي تحليفه ; لأن الحق في اليمين للمدعي ، فلا تستوفى إلا بطلبه .
فإن نكل المدعى عليه عن اليمين وأبى أن يحلف ، قضي عليه بالنكول ، فإنه لولا صدق المدعي ، لدفع المدعى عليه دعواه باليمين ، فلما نكل عنها ; كان نكوله قرينة ظاهرة دالة على صدق المدعي ، فقدمت على أصول براءة الذمة .
والقضاء بالنكول هو مذهب جماعة من أهل العلم ، وقد قضى به عثمان رضي الله عنه ، وقال جماعة من أهل العلم : ترد اليمين على المدعى ولا سيما إذا قوي جانبه .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : " الذي جاءت به الشريعة أن اليمين تشرع من جهة أقوى المتداعيين ; فأي الخصمين ترجح جانبه ; جعلت اليمين من جهته ، وهذا مذهب الجمهور كأهل المدينة وفقهاء الحديث كأحمد والشافعي ومالك وغيرهم " ، وقال : " كما حكم به الصحابة وصوبه أحمد وغيره " ، وقال : " ما هو ببعيد يحلف ويأخذ ، واختاره الشيخ " .
وقال أبو عبيد : " رد اليمين له أصل في الكتاب والسنة " .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ليس المنقول عن الصحابة في النكول ورد اليمين بمختلف ، بل هذا له موضع وهذا له موضع ; فكل موضع أمكن المدعي معرفته والعلم به ، فرد المدعى عليه اليمين ; فإنه إن حلف استحق ، وإن لم يحلف لم يحكم له بنكول المدعى عليه ، وهذه كحكومة عثمان بن عفان " .
قال ابن القيم : " وهذا الذي اختاره شيخنا هو فصل النزاع في النكول ورد اليمين " .
وقال : " إذا كان المدعى عليه منفردا بمعرفة الحال ، فإذا لم يحلف ; قضي عليه ، وأما إذا كان المدعي هو المنفرد ، رد عليه ، فإذا لم يحلف ; لم يقض له بنكول المدعى عليه . فهذا التحقيق أحسن ما قيل في النكول ورد اليمين " انتهى .
وإذا حلف المنكر وخلى الحاكم سبيله كما سبق ، ثم أحضر المدعي بينة بعد ذلك ، فإن كان قد سبق منه نفيها ، بأن قال : ما لي بينة ; فإنها لا تسمع بعد ذلك ; لأنه مكذب لها بقوله : ما لي بينة ، وإن لم يكن نفاها ; سمعت ، وحكم بها القاضي .
ولا تكون يمين المنكر مزيلة للحق ، لأن الدعوى لا تبطل بالاستحلاف ، ويمين المنكر إنما تكون مزيلة للخصومة لا مزيلة للحق ، وكذا لو قال : لا أعلم لي بينة ، ثم وجدها ، فإنها تسمع ويحكم بها ; لأنه ليس بمكذب لها ، والله أعلم .
باب في شروط صحة الدعوى
لا تصح الدعوى إلا محررة ، فإن كانت بدين على ميت مثلا ، ذكر موته ونوع الدين وقدره وكل المعلومات التي بها تتضح الدعوى ، لأن الحكم مرتب عليها ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإنما أقضي على نحو ما أسمع فدل الحديث على وجوب تحرير الدعوى ، ليتبين للحاكم وجه الحكم .
ولا تصح الدعوى أيضا إلا معلومة المدعى به ، فلا تصح بمجهول ، بل لا بد أن تكون بشيء معلوم ، ليتأتى الإلزام به إذا ثبت ; إلا الدعوى بما يصح مجهولا ، كالوصية بشيء من ماله وعبد من عبيده جعله مهرا ونحوه ، فتصح الدعوى بمثل هذا ، وإن كان مجهولا .
ولا بد أن يصرح بالدعوى ; فلا يكفي قوله : لي عنده كذا ، حتى يقول : وأنا مطالبه به ، ولا بد أن يكون المدعى به حالا ; فلا تصح الدعوى بدين مؤجل ; لأنه لا يجب الطلب به قبل حلوله ، ولا يحبس عليه .
ويشترط لصحة الدعوى انفكاكها عما يكذبها ; فلا تصح الدعوى على إنسان أنه قتل أو سرق منذ عشرين سنة وسنه أقل من ذلك ; لأن الحس يكذبها .
وإن ادعى عقد بيع أو إجارة ; اشترط لصحة الدعوى ذكر شروط العقد ; لأن الناس يختلفون في الشروط ، وقد لا يكون ذلك العقد صحيحا عند القاضي .
وإن ادعى الإرث ; فلا بد من ذكر سببه ، لأن أسباب الإرث تختلف ; فلابد من تعيين السبب .
ويعتبر لصحة الدعوى تعيين المدعى به إن كان حاضرا في المجلس أو البلد ; ليزول اللبس ، وإن كان المدعى به غائبا ; فلا بد من وصفه بما يصح به السلم ; بأن يذكر ما يضبطه من الصفات.
ويشترط لصحة البينة عدالتها ، لقوله تعالى : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وقوله تعالى : مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ وقوله تعالى : إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا واختلف الفقهاء رحمهم الله : هل لا بد من عدالة البينة ظاهرا وباطنا أو تكفي العدالة ظاهرا على قولين ، الراجح منهما اعتبار العدالة ظاهرا ; لقبوله شهادة الأعرابي ، ولقول عمر رضي الله عنه : المسلمون عدول
ويحكم القاضي بالبينة العادلة ما لم يعلم خلافها ، فإن علم خلاف ما شهدت به ، لم يجز له الحكم بها " .
ومن جهل القاضي عدالته من الشهود ; سأل عنه ممن له به خبرة باطنه بصحبة أو معاملة أو جوار ، قال عمر رضي الله عنه لرجل زكى رجلا عنده : أنت جاره ; قال : لا . قال : صحبته في السفر الذي تظهر فيه جواهر الرجال ; : قال : لا . قال : عاملته بالدينار والدرهم ; قال : لا . قال : لست تعرفه " .
وإن تعارض الجرح والتعديل في الشاهد قدم الجرح ; لأن الجارح معه زيادة علم خفيت على المزكي ، والجارح يخبر عن أمر باطن ، والمزكي يخبر عن أمر ظاهر فقط ، والجارح مثبت ، والمزكي ناف ، والمثبت مقدم على النافي .
وتعديل الخصم للبينة وحده أو تصديقه لها تعديل ; لأن البحث عن عدالتها لحقه ، ولأن إقراره بعدالة البينة إقرار بما يوجب الحق عليه لخصمه ، فيؤخذ بقراره .
وإذا علم القاضي عدالة البينة ; حكم بها ، ولم يحتج إلى التزكية ، وكذا لو علم عدم عدالتها ، لم يحكم بها ، وإن ارتاب في الشهود ; سألهم كيف تحملوا الشهادة ; وأين تحملوها ؟
قال الإمام ابن القيم : " وذلك واجب عليه متى عدل عنه أثم وجار في الحكم ، وشهد رجلان عند علي رضي الله عنه على رجل أنه سرق ، فاستراب منهما ، فأمرهما بقطع يده ، فهربا " .
وإن جرح الخصم الشهود ، كلف إقامة البينة بالجرح ; لحديث : البينة على المدعي فينظر ثلاثة أيام ، فإن لم يأت ببينة على الجرح ، حكم عليه بالبينة ; لأن عجزه عن إقامة البينة على الجرح في المدة المذكورة دليل على عدم ما ادعاه .
وإن جهل القاضي حال البينة ; طلب من المدعي تزكيتهم ; لتثبت عدالتهم ، فيحكم بما شهدوا به ، ولا بد في تزكية الشخص من شاهدين يشهدان بعدالته ، وقيل : يكفي في التزكية شاهد واحد .
ويحكم على الغائب مسافة قصر إذا ثبت عليه الحق ، لأن هندا قالت : يا رسول الله ! إن أبا سفيان رجل شحيح ، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي ، قال : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف متفق عليه . فدل على صحة الحكم على الغائب ، ثم إذا حضر الغائب ; فهو على حجته ; لزوال المانع .
والحكم بثبوت أصل الحق لا يبطل دعوى قضائه أو البراءة منه ونحو ذلك مما يسقط ذلك الحق.
ويعتبر في القضاء على الغائب أن يكون في غير محل ولاية القاضي ، أما لو كان غائبا في محل ولايته ، ولا حاكم فيه ; فإن القاضي يكتب إلى من يصلح للقضاء بالحكم بينهما ، فإن تعذر ، فإلى من يصلح بينهما ، فإن تعذر ، قال للمدعي : حقق دعواك ، فإن فعل ; أحضر خصمه ، وإن بعدت المسافة .
وذكر الإمام أحمد أن مذهب أهل المدينة أنهم يقضون على الغائب ، وقال : "هذا مذهب حسن".
قال الزركشي : " فلم ينكر أحمد سماع الدعوى ولا البينة " ، وحكى قول أهل المدينة والعراق ، وكأنه عنده محل وفاق .
وتسمع الدعوى أيضا على غير المكلف ، ويحكم بها ; لحديث هند ، ثم إذا كلف بعد الحكم عليه ; فهو على حجته .
باب في القسمة بين الشركاء
دليل القسمة بين الشركاء من الكتاب والسنة والإجماع :
قال الله تعالى : وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ وقال تعالى : وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى الآية .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : الشفعة فيما لم يقسم وكان صلى الله عليه وسلم يقسم الغنائم.
وذكر الإجماع عليها غير واحد مق العلماء .
والحاجة داعية إليها ; إذ لا سبيل إلى إعطاء ذوي الحقوق حقوقهم من الشيء المشترك إلا بالقسمة .
والقسمة إفراز الأنصباء بعضا عن بعض .
وهي نوعان : قسمة تراض ، وقسمة إجبار
النوع الأول: قسمة التراضي هي التي لا بد أن يتفق عليها جميع الشركاء ، ولا تجوز بدون رضاهم ، وهي التي لا تمكن إلا بحصول ضرر ، ولو على بعض الشركاء ، أو برد عوض من أحد الشركاء على الآخر ، وتكون في الدور الصغار والدكاكين الضيقة والأرض المختلفة أجزاؤها بسبب بناء أو شجر في بعضها أو كون بعضها يتعلق به رغبة تخصه دون البعض الآخر .
فهذا النوع من المشترك لا تجوز قسمته إلا باتفاق الشركاء وتراضيهم ; لقوله : لا ضرر ولا ضرار رواه أحمد وغيره ; فهو يدل بعمومه على عدم جواز قسم ما لا ينقسم إلا بضرر إلا بالتراضي .
وهذه القسمة تأخذ حكم البيع ، برد ما فيه عيب ، ويدخلها خيار المجلس والشرط ونحوه ، ولا يجبر من امتنع من قبولها من الشركاء ، لكن متى طلب أحد الشركاء بيع هذا المشترك ; أجبر الممتنع ، فإن أبى ; باعه الحاكم عليهما ، وقسم الثمن بينها على قدر حصصهما .
وضابط الضرر الذي يمنع هذه القسمة هو نقص القيمة بالقسمة ، سواء انتفعوا به مقسوما أم لا ; فلا يعتبر ضرر كونهما لا ينتفعان به مقسوما .
النوع الثاني : قسمة الإجبار
وهى ما لا ضرر في قسمته ، ولا رد عوض في قسمته ، سميت بذلك لأن الحاكم يجبر الممتنع منهما إذا كملت شروطها ، وذلك . كالقرية والبستان والدار الكبيرة والأرض الواسعة والدكاكين الواسعة والمكيل والموزون من جنس واحد .
ويشترط لإجبار الممتنع من هذه القسمة ثلاثة شروط
أن يثبت عند الحاكم ملك الشركاء ، وأن يثبت أن لا ضرر ، وأن يثبت إمكان تعديل السهام في العين المقسمة من غير شيء يجعل فيها .
فإذا توافرت هذه الشروط ، وطلب أحد الشركاء القسمة ، أجبر شريكه الآخر عليها ، وإن امتنع من القسمة مع شريكه ; لأن القسمة تزيل الضرر الحاصل في الشركة ، وتمكن كل واحد من التصرف في نصيبه والانتفاع به بإحداث الغراس والبناء مما لا يتمكن منه مع بقاء الشركة ،
وإن كان أحد الشركاء غير مكلف ، قسم عنه وليه ، وإن كان غائبا ; قسم عنه الحاكم بطلب شريكه .
وهذه القسمة في الحقيقة إفراز لحق أحد الشريكين عن الآخر ، ولا تأخذ حكم البيع ; لأنها تخالفه في الأحكام . .
ويجوز للشركاء أن يتقاسموا بأنفسهم أو بقاسم ينصبونه هم أو يسألون الحاكم نصبه .
وتعديل السهام يكون بالأجزاء إن تساوى المقسوم كالمكيلات والموزونات غير المختلفة ، وتعدل بالقيمة إن اختلفت أجزاء المقسوم في القسمة ، فيجعل السهم من الرديء أكثر من السهم من الجيد ، فإن لم يمكن التعديل بالأجزاء ولا بالقيمة ، عدلت بالرد ; بأن يجعل لمن يأخذ الرديء أو القليل دراهم على من يأخذ الجيد أو الأكثر .
فإذا اقتسموا أو اقترعوا ; لزمت القسمة ، لأن القاسم كالحاكم ، والقرعة كحكم الحاكم ، يلزم العمل بها ، وكيف اقترعوا بالحصى أو غيره ، جاز ، والأحوط القرعة بأن يكتب اسم كل شريك على رقعة ، ثم تجمع وتلف وتدفع إلى شخص لم يحضر ولم يرها ، ويؤمر بأن يخرج الرقاع ويضعها على الأسهم ، فمن وجد اسمه على سهم ; فهو له .
وإن خير أحدهما الآخر ; لزمت القسمة برضاهم وتفرقهم .
ومن ادعى غلطا فيما تقاسماه . بأنفسهما وأشهدا على رضاهما به ; لم يلتفت إليه ; لأنه رضي بالقسم على الصورة التي وقعت ، ورضاه بالزيادة في نصيب شريكه يلزمه .
ومن ادعى غلطا فيما قسمه قاسم حاكم أو قاسم نصباه ; قبل ببينة ، وإلا ، حلف منكر له ; لأن الأصل عدم ذلك ، فان أقام بينة على الغلط ; قبلت ونقضت القسمة ; لأن سكوته قد استند إلى ظاهر حال القاسم ، فإذا قامت البينة بغلطه ; كان له الرجوع فيما غلط به .
وإن ادعى كل من الشريكين شيئا أنه له ; تحالفا ، ونقضت القسمة ، لأن ذلك المدعى به لم يخرج عنهما ، ولا مرجح لأحدهما على الآخر .
ومن ظهر في نصيبه عيب قد جهله ; خير بين الفسخ والإمساك مع الأرش ; لأن ظهور العيب في نصيبه نقص ، فيخير بين الأرش والفسخ كالمشتري ، والله أعلم .
باب في بيان الدعاوى والبينات
الدعاوى جمع دعوى ، وهي لغة الطلب ، قال الله تعالى : وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ أي : يطلبون ويتمنون .
والدعوى في اصطلاح الفقهاء : إضافة الإنسان إلى نفسه استحقاق شيء في يد غيره أو ذمته .
والبينات جمع بينة ، وهى العلامة الواضحة ، وهي كل ما يبين الحق من شهيد أو يمين .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله : " البينة في الشرع اسم لما يبين الحق ويظهر ، وقد نصب سبحانه على الحق علامات وأمارات تدل عليه وتبينه ، فمن أهدر العلامات والأمارات بالكلية ، فقد عطل كثيرا من الأحكام ، وضيع كثيرا من الحقوق . .. انتهى .
والفرق بين المدعي والمدعى عليه أن المدعي هو الذي إذا سكت ترك ، فهو المطالب ، والمدعى عليه هو الذي إذا سكت ، لم يترك ; فهو المطالب .
ويشترط لصحة الدعوى وصحة الإنكار أن يكون من جائز التصرف ، وهو الحر المكلف الرشيد .
وإذا تداعيا عينا بأن ادعى كل منهما أنها له وهي بيد أحدهما ; فهي لمن هي بيده مع يمينه .
ويسمى من كانت العين بيده منهما الداخل ، ويسمى من لم تكن العين بيده بالخارج .
فإن أقام كل منهما بينته أن العين المدعى بها له ، قضي بها للخارج لحديث ابن عباس مرفوعا : لو يعطى الناس بدعواهم . لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه رواه أحمد ومسلم ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر رواه الترمذي ، فدل الحديثان على أن البينة على المدعي ، فإذا أقامها ، قضي بها له ، وأن اليمين على من أنكر إذا لم يكن مع المدعي بينة ، وذهب أكثر أهل العلم في هذه المسألة أن العين تكون لمن هي بيده ، وهو ما يسمى بالداخل ، وأن الحديث محمول على ما إذا لم يكن مع من هي بيده بينة ، وإلا ; فاليد مع بينته أقوى ، والأخذ بقول الأكثر أولى .
وإن لم تكن العين التي تداعياها بيد أحد ، وليس هناك ظاهر يعمل به ولا بينة لأحدهما ; تحالفا ; بأن يحلف كل واحد أنه لا حق للآخر فيها ، وقسمت بينهما بالسوية ; لاستوائهما في الدعوى ، مع عدم المرجح لأحدهما ، وإن دل الظاهر لأحدهما ، عمل به .
فلو تنازع الزوجان في قماش البيت ونحوه ، فما يصلح للرجل يكون للزوج ، وما يصلح للمرأة يكون للزوجة ، وما يصلح للاثنين ، فلهما .
باب في الشهادات
الشهادة مشتقة من المشاهدة ; لأن الشاهد يخبر عما شاهده وعلمه .
وهل يشترط في أداء الشهادة أن يكون ، ذلك بلفظ : ( أشهد ) أو ( شهدت ) ; هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة . والقول الثاني - وهو رواية عن أحد وقول جماعة من الأئمة - : أن ذلك لا يلزم ، واختاره الشيخ تقي الدين ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما .
قال الشيخ : " ولا يشترط في أداء الشهادة لفظ ( أشهد ) ، وهو مقتضى قول أحمد وغيره ، ولا أعلم نصا يخالفه ، ولا يعرف عن صحابي ولا تابعي اشتراط لفظ الشهادة " .
وقال ابن القيم : " الإخبار شهادة محضة في أصح الأقوال ، وهو قول الجمهور ، فإنه لا يشترط في صحة الشهادة لفظ : ( أشهد ) ، بل متى قال الشاهد : رأيت كيت وكيت ، أو : سمعت ، أو نحو ذلك ، كانت شهادة منه ، وليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم موضع واحد يدل على اشتراط لفظ الشهادة ، ولا عن رجل واحد من الصحابة ، ولا قياس ولا استنباط يقتضيه ، بل الأدلة المتضافرة من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة ولغة العرب تنفي ذلك انتهى .
وتحمل الشهادة في غير حق الله تعالى فرض كفاية إذا قام به من يكفي ; سقط عن بقية المسلمين ، لحصول الغرض ، وإن لم يوجد إلا من يكفي ; تعين عليه ; لقوله تعالى : وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا أي : إذا دعوا لتحمل الشهادة ، فعليهم الإجابة ، والآية عامة في الدعوة للتحمل والأداء ، وقال ابن عباس وغيره في معنى الآية : المراد به التحمل للشهادة وإثباتها عند الحاكم ، ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك لإثبات الحقوق والعقود ; فكان واجبا كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وأما أداء الشهادة ; فهو فرض عين على من تحملها متى دعي إليها ; لقوله تعالى : وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ومعنى الآية الكريمة : إذا دعيتم إلى إقامة الشهادة ، فلا تخفوها ولا تغلوها ، وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ أي : فاجر قلبه ، وهذا وعيد شديد بمسخ القلب ، وإنما خصه لأنه موضع العلم بالشهادة ، فدلت الآية الكريمة على فرضية أداء الشهادة عينا على من تحمل متى دعي إليه :
قال الإمام العلامة ابن القيم : " التحمل والأداء حق يأثم بتركه " ، وقال : " قياس المذهب أن الشاهد إذا كتم الشهادة بالحق ; ضمنه ، لأنه أمكنه تخليص حق صاحبه ، فلم يفعل ، فلزمه الضمان ; كما لو أمكنه تخليصه من هلكة فلم يفعل . .. " انتهى .
ويعتبر لوجوب التحمل والأداء انتفاء الضرر عن الشاهد ، فإن كان يلحقه بذلك ضرر في نفسه أو عوضه أو ماله أو أهله ; لم يجب عليه ، لقوله تعالى : وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ولحديث : لا ضرر ولا ضرار والله أعلم .
ويجب على الشاهد أن يكون على علم بما يشهد به فلا يحل له أن يشهد إلا بما يعلم ; قال تعالى : وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ وقال تعالى : إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي : يعلم ما شهد به على بصيرة ويقين ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة ; فقال : أترى الشمس ; قال : نعم . فقال : على مثلها فاشهد أو دع رواه الخلال في جامعه ، وقال البيهقي : " لم يرد من طريق يعتمد عليها " ، وقال ابن حجر : " ولكن معنى الحديث صحيح " .
والعلم يحصل بأحد أمور : إما بسماع ، أو رؤية من مشهود عليه ، فيشهد بما سمع أو رأى ، وإما بسماع الشاهد عن طريق الاستفاضة فيما يتعذر علمه بدونها غالبا كالنسب والموت ، لكن لا يشهد بالاستفاضة إلا إذا بلغته عن عدد يقع بهم العلم .
ويشترط فيمن تقبل شهادته ستة شروط
أحدها: البلوغ : فلا تقبل شهادة الصبيان إلا فيما بينهم .
قال العلامة ابن القيم : " عمل الصحابة وفقهاء المدينة بشهادة الصبيان على تجارح بعضهم بعضا ; فإن الرجال لا يحضرون معهم ، ولو لم تقبل شهادتهم ; لضاعت الحقوق وتعطلت وأهملت ، مع غلبة الظن أو القطع بصدقهم ، ولا سيما إذا جاءوا مجتمعين قبل تفرقهم إلى بيوتهم ، وتواطئوا على خبر واحد ، وفرقوا وقت الأداء ، واتفقت كلمتهم ، فإن الظن الحاصل حينئذ بشهادتهم أقوى بكثير من الظن الحاصل من شهادة رجلين ، وهذا مما لا يمكن دفعه وجحده . .. ) انتهى .
الثاني: العقل : فلا تقبل شهادة مجنون ولا معتوه ، وتقبل الشهادة ممن يخنق أحيانا إذا تحمل وأدى في حال إفاقته ; لأنها شهادة من عاقل أشبه من لم يجن .
الثالث: الكلام : فلا تقبل شهادة الأخرس ، ولو فهمت إشارته ; لأن الشهادة يعتبر فيها اليقين ، وإنما اكتفي بإشارة الأخرس في الأحكام الخاصة به كنكاحه وطلاقه للضرورة ، لكن لو أدى الأخرس الشهادة بخطه ; قبلت لدلالة الخط على اللفظ .
الرابع: الإسلام : لقوله تعالى : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ فلا تقبل شهادة الكافر إلا على الوصية في حال السفر ، فقبل شهادة كافرين عليها عند عدم غيرهما ; لقوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ الآية ، وهذا لأجل الضرورة .
الخامس: الحفظ : فلا تقبل شهادة المغفل والمعروف بكثرة السهو والغلط ; لأنه لا تحصل الثقة بقوله ، ولا يغلب على الظن صدقه ، لاحتمال أن يكون ذلك من غلطه ، وتقبل شهادة من يقل منه السهو . والغلط ، لأن ذلك لا يسلم منه أحد .
السادس: العدالة : وهي لغة الاستقامة ، من العدل ، - وهو ضد الجور ، والعدالة شرعا : استواء أحواله في دينه ، واعتدال أقواله وأفعاله ، ودليل اشتراط العدالة في الشاهد قوله تعالى : مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ وقوله : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وقد قال جمهور العلماء : إن العدالة صفة زائدة على الإسلام ، وهي أن يكون ملتزما بالواجبات والمستحبات ، ومجتنبا للمحرمات والمكروهات .
وقال شيح الإسلام ابن تيمية " رحمه الله : " ورد شهادة من عرف بالكذب متفق عليها بين الفقهاء " ، وقال : " والعدل في كل زمان ومكان وطائفة بحسبها ، فيكون الشهيد في كل قوم من كان ذا عدل منهم ، وإن كان لو كان في غيرهم ، لكان عدله على وجه آخر ، وبهذا يمكن الحكم بين الناس ، وإلا ، لو اعتبر في شهود كل طائفة أن لا يشهد عليهم إلا من يكون قائما بأداء الواجبات وترك المحرمات ، كما كان الصحابة ; لبطلت الشهادات . كلها أو غالبها " وقال : " يتوجه أن تقبل شهادة المعروفين بالصدق ، وإن لم يكونوا ملتزمين للحدود ، عندالضرورة ، مثل : الحبس ، وحوادث البدو ، وأهل القرية الذين لا يوجد فيهم عدل " انتهى
قال الفقهاء رحمهم الله : ويعتبر للعدالة شيئان :
أحدهما: أداء الفرائض - أي : الصلوات الخمس والجمعة بسننها الراتبة ; فلا تقبل شهادة من داوم على ترك السنن الرواتب والوتر .
قال الإمام أحمد رحمه الله فيمن يواظب على ترك سنة الصلاة : " إنه رجل سوء ; لأنه بالمداومة يكون راغبا عن السنة ، وتلحقه التهمة " .
وكما يعتبر أداء الفرائض يعتبر اجتناب المحارم ; بأن لا يأتي كبيرة ، ولا يدمن على صغيرة .
وقد نهى الله عن قبول شهادة القاذف ، وقيس عليه كل مرتكب لكبيرة ، والكبيرة ما فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة ; كأكل الربا ، وشهادة الزور ، والزنا ، والسرقة ، وشرب المسكر . .. وغير ذلك ; فلا تقبل شهادة الفاسق .
والثاني: استعمال المروءة - أي : الإنسانية - ، وهو فعل ما يجمله ويزينه ، كالسخاء ، وحسن الخلق ، وحسن المجاورة ، واجتناب ما يدنسه ويشينه عادة من الأمور الدنيئة المزرية به ; كالمغني ، والمتمسخر ، وهو الذي يأتي بما يضحك الناس من قول أو فعل .
قال الشيخ : " وتحرم محاكاة الناس للضحك ، ويعزر هو ومن يأمره ; لأنه أذى " .
أقول : وهذا يتناول التمثيليات اليوم ، وقد أصبح الغناء في هذا الزمان من الفنون التي يشجع أهلها ويشاد بها ; فلا حول ولا قوة إلا بالله .
ومتى زالت هذه الموانع من الشخص ، فبلغ الصبي ، وعقل المجنون ، وأسلم الكافر ، وتاب الفاسق ; قبلت شهاداتهم ; لعدم المانع من قبولها وتوفر الشروط ، والله أعلم . .
ولا تقبل شهادة عمودي النسب وهم الآباء وإن علوا ، والأولاد وإن سفلوا بعضهم لبعض ; فلا تقبل شهادة الأب لابنه ، ولا شهادة الابن لأبيه ، للتهمة في ذلك ; بسبب قوة القرابة بينهما .
وتقبل شهادة الأخ لأخيه ، والصديق لصديقه ; لعموم الآيات ، وانتفاء التهمة .
ولا تقبل شهادة أحد الزوجين لصاحبه ; لأن كلا منهما ينتفع بمال صاحبه ، ولقوة الوصلة بينهما مما يقوي التهمة ، وتقبل الشهادة عليهم من هؤلاء ; لقوله تعالى : كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فلو شهد على أبيه أو ابنه أو زوجته أو شهدت عليه ; قبلت .
ولا تقبل شهادة من يجر إلى نفسه نفعا بتلك الشهادة أو يدفع عنها بها ضررا .
ولا تقبل شهادة عدو على عدوه .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله : " منعت الشريعة من قبول شهادة العدو على عدوه ; لئلا تتخذ ذريعة إلى بلوغ غرضه من عدو بالشهادة الباطلة . .. " انتهى .
وضابط العداوة المانعة من قبول الشهادة هنا أن من سره مساءة شخص أو غمه فرحه ، فهو عدوه .
والمراد العداوة الدنيوية ، أما العداوة في الدين ، فليست مانعة من قبول الشهادة ، فتقبل شهادة مسلم على كافر ، وشهادة سني عل مبتدع ، لأن الدين يمنع ارتكاب المحرم .
ولا تقبل شهادة من عرف بعصبية وإفراط في حمية لقبيلته ، لحصول التهمة في ذلك .
وأما عدد الشهود ; فهو يختلف باختلاف المشهود به :
فلا يقبل لثبوت الزنى واللواط إلا أربعة رجال ; لقوله تعالى : لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ولأنه مأمور فيه بالستر ، ولهذا غلظ فيه النصاب .
ويقبل في إثبات عسرة من عرف بالغنى وادعى أنه فقير ثلاثة رجال ; لحديث : حتى تشهد ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة رواه مسلم .
ويقبل لإثبات بقية الحدود غير حد الزنى كحد القذف وحد المسكر والسرقة وقطع الطريق والقصاص رجلان ، ولا تقبل فيها شهادة النساء
وما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال غالبا ; كنكاح وطلاق ورجعة ; يقبل فيها رجلان ، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله قبول شهادة النساء على الرجعة ; لأن حضورهن عند الرجعة أيسر من حضورهن عند كتابة الوثائق .
ويقبل في المال وما يقصد به المال ، كالبيع ، والأجل ، والإجارة . .. ونحو ذلك ; يقبل فيها رجلان ، أو رجل وامرأتان ، لقوله تعالى : وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وسياق الآية الكريمة يدل على اختصاص ذلك بالأموال -
قال العلامة ابن القيم رحمه الله : " اتفق المسلمون على أنه يقبل في الأموال رجل وامرأتان ، وكذا توابعها من البيع والأجل فيه والخيار فيه والرهن والوصية للمعين وهبته والوقف عليه وضمان المال وإتلافه ودعوى رق مجهول النسب وتسمية المهر وتسمية عوض الخلع " انتهى .
والحكمة والله أعلم في قبول شهادة المرأة في المال ، أنه تكثر فيه المعاملة ، ويطلع عليه الرجال والنساء غالبا ، فوسع الشرع في باب ثبوته .
وقد جعل سبحانه المرأة على النصف من الرجل في عدة أحكام أحدها هذا ، والثاني في الميراث ، والثالث في الدية ، والرابع في العقيقة ، والخامس في العتق .
وقد بين سبحانه الحكمة : في ذلك بقوله : أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى أي تذكرها إن ضلت ، وذلك لضعف العقل ; فلا تقوم الواحدة مقام الرجل ، وفي منع قبولها بالكلية إضاعة لكثير من الحقوق وتعطيل لها ، فضم إليها في الشهادة نظيرتها ; لتذكرها إذا نسيت ، فتقوم شهادة المرأتين مقام شهادة الرجل .
ويقبل أيضا في المال وما يقصد به المال أيضا رجل واحد ويمين المدعي ، لقول ابن عباس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد " رواه أحمد وغيره .
قال الإمام أحمد رحمه الله : " مضت السنة أنه يقضى باليمين مع الشاهد " .
قال ابن القيم : " ولا يعارض ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : اليمين على المدعى عليه فإن المراد به إذا لم يكن مع المدعي إلا مجرد الدعوى ; فإنه لا يقضى له بمجرد الدعوى ، فأما إذا ترجح جانبه بشاهد أو لوث أو غيره ، لم يقض له بمجرد دعواه ، بل بالشاهد المجتمع من ترجيح جانبه ومن اليمين . .. " انتهى .
- وما لا يطلع عليه الرجال غالبا كعيوب النساء تحت الثياب والبكارة والثيوبة والحيض والولادة والرضاع واستهلال المولود ونحو ذلك يقبل فيه شهادة امرأة عدل ; لحديث حذيفة : أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة وحدها رواه الدارقطني وغيره ، وفي إسناده مقال ، وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة المرأة الواحدة في الرضاع كما في الصحيحين .
باب في كتاب القاضي إلى القاضي
باب في كتاب القاضي إلى القاضي والشهادة على الشهادة ورجوع الشهود
كتاب القاضي إلى القاضي قد تدعو الحاجة إليه ، فإن من له حق في غير بلده لا يمكنه إثباته والطلب به إلا عن طريق إثباته عند قاضي ذلك البلد والكتابة بذلك إليه ، لاستكمال بقية الإجراءات الحكمية ; إذ يتعذر السفر بالشهود ، وربما كانوا معروفين في بلد دون بلد ، فيتعذر إثبات الحق بدون كتاب القاضي إلى قاض آخر .
وقد أجمعت الأمة على قبول كتاب القاضي إلى القاضي لإثبات الحقوق وتنفيذها ، وقد كتب سليمان عليه السلام إلى بلقيس وكتب النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي وإلى قيصر وإلى كسرى يدعوهم إلى الإسلام ، وكاتب صلى الله عليه وسلم عماله وسعاته ، فدل ذلك على مشروعية العمل به .
ويقبل في كل حق لأدمي ، ولا يقبل في حدود الله ; كحد الزنى وشرب الخمر ; لأن حقوق الله تعالى مبنية على الستر والدرء بالشبهات
وكتاب القاضي إلى القاضي على نوعين :
النوع الأول: يكون فيما حكم به القاضي الكاتب لينفذه القاضي المكتوب إليه ، وهذا يقبل ، ولو كان كل من الكاتب والمكتوب إليه في بلد واحد ، لأن حكم الحاكم يجب إمضاؤه على كل حال ، وإلا ، تعطلت الأحكام ، وكثرت الخصومات .
والنوع الثاني: أن يكتب القاضي فيا ثبت عنده إلى قاض آخر ليحكم به ، ويشترط لقبول هذا النوع أن يكون بين الكاتب والمكتوب إليه مسافة قصر فأكثر لأنه نقل شهادة إلى المكتوب إليه ، فلم يجز مع القرب .
وصورة الثبوت أن يقول : ثبت عندي أن لفلان على فلان كذا وكذا .
والثبوت ليس بحكم ، بل خبر بالثبوت .
قال الشيخ : " ويجوز نقله إلى مسافة قصر فأكثر ، ولو كان الذي ثبت عنده لا يرى جواز الحكم به ; لأن الذي ثبت عنده ذلك الشيء يخبر بثبوت ذلك عنده ، وللحاكم الذي اتصل به ذلك الثبوت الحكم به إذا كان يرى حجته ، ويجوز أن يكون القاضي المكتوب إليه غير معين ، كأن يقول : إلى كل من يصل إليه كتابي من قضاة المسلمين ; من غير تعيين ، ويلزم من وصل إليه قبوله ، لأنه كتاب حاكم من محل ولايته وصل إلى حاكم ، فلزم قبوله ، كما لو كتب إلى معين .
ويشترط لقبول كتاب القاضي إلى القاضي أن يشهد به القاضي الكاتب شاهدين عدلين يضبطان معناه وما يتعلق به من الحكم . هذا قول ، والقول الآخر : يجوز العمل بكتاب القاضي إلى القاضي إذا عرف خطه ، وإن لم يشهد ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، وفي وقتنا هذا يمكن أن يكتفى بختم المحكمة الرسمي عن الإشهاد .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : " أجمع الصحابة على العمل بالكتاب ، وكذا الخلفاء بعدهم ، وليس اعتماد الناس في العلم إلا على الكتب ، فإن لم يعمل بما فيها ; تعطلت الشريعة " .
وقال : " ولم يزل الخلفاء والقضاة والأمراء والعمال يعتمدون على كتب بعضهم لبعض ، ولا يشهدون حاملها على ما فيها ، ولا يقرءونه عليه ، هذا عمل الناس من زمن نبيهم إلى الآن " .
قال : " والقصد حصول العلم بنسبة الخط إلى كاتبه ، فإذا عرف وتيقن ; كان كنسبة اللفظ إليه ، وقد جعل الله في خط كل كاتب ما يتميز به عن خط غيره ; كتميز صورته وصورته ، والناس يشهدون شهادة ولا يستريبون فيها على أن هذا فيه خط فلان " .
وقال الشيخ تقي الدين : " ومن عرف خطه . بقرار أو إنشاء أو عقد أو شهادة ، عمل به . .. " انتهى.
وأما الشهادة على الشهادة ; فهي أن يقول شخص لآخر : اشهد على شهادتي بكذا ، أو اشهد أني أشهد بكذا ، ونحو ذلك ، ففيها معنى النيابة ، ويسمى الشاهد الأصلي شاهد الأصل ، والنائب عنه شاهد الفرع .
قال أبو عبيد : " أجمعت العلماء من أهل الحجاز والعراق على إمضاء الشهادة على الشهادة هي الأموال " .
وسئل الإمام أحمد عن الشهادة على الشهادة ; فقال : " هي جائرة " .
ولأن الحاجة داعية إليها ، لأنها لو لم تقبل ، لتعطلت الشهادة على الوقوف وما يتأخر إثباته عند الحاكم أو ماتت شهوده ، وفي ذلك ضرر على الناس ومشقة شديدة ; فوجب قبولها كشهادة الأصل .
ويشترط لقبول الشهادة على الشهادة شروط :
أولا: أن يأذن شاهد الأصل لشاهد الفرع ; لأنها في معني النيابة ، ولا ينوب عنه إلا بإذن .
ثانيا: أن تكون فيما يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاصي ، وهو حقوق الآدميين دون حقوق الله تعالى .
ثالثا: أن تتعذر شهادة الأصلي بموت أو مرض أو غيبة مسافة قصر أو خوف من سلطان أو غيره .
رابعا: أن يستمر عذر شاهد الأصل إلى الحكم .
خامسا: دوام عدالة شاهد الأصل وشاهد الفرع إلى صدور الحكم .
سادسا: أن يعين شاهد الفرع شاهد الأصل الذي تحمل عنه الشهادة .
وأما الرجوع عن الشهادة :
فإنه إذا رجع شهود المال بعد الحكم ، فإنه لا ينقض ; لأنه قد تم ، ووجب المشهود به للمشهود له ، وهما متهمان بإرادة نقض الحكم ، فينفذ الحكم ، ويلزمهم الضمان ، بأن يضمنوا المال الذي شهدوا به ، لأنهم أخرجه من يد مالكه بغير حق ، وحالوا بينه وبينه .
وإن حكم القاضي بشاهد ويمين ، ثم رجع الشاهد ، غرم المال كله ، لأنه حجة للدعوى ، واليمين قول الخصم ، وقول الخصم ليس مقبولا على خصمه ، وإنما هو شرط للحكم .
وإن رجع الشهود عن الشهادة قبل الحكم ; ألغي ، ولا حكم ولا ضمان ، والله أعلم .
وأما الرجوع عن الشهادة :
فإنه إذا رجع شهود المال بعد الحكم ، فإنه لا ينقض ; لأنه قد تم ، ووجب المشهود به للمشهود له ، وهما متهمان بإرادة نقض الحكم ، فينفذ الحكم ، ويلزمهم الضمان ، بأن يضمنوا المال الذي شهدوا به ، لأنهم أخرجه من يد مالكه بغير حق ، وحالوا بينه وبينه .
وإن حكم القاضي بشاهد ويمين ، ثم رجع الشاهد ، غرم المال كله ، لأنه حجة للدعوى ، واليمين قول الخصم ، وقول الخصم ليس مقبولا على خصمه ، وإنما هو شرط للحكم .
وإن رجع الشهود عن الشهادة قبل الحكم ; ألغي ، ولا حكم ولا ضمان ، والله أعلم .
باب في اليمين في الدعاوى
اليمين من جملة الطرق القضائية ، حيث قال : واليمين على من أنكر
فاليمين من جانب المنكر إذا لم يكن للمدعي بينة ، وهي تقطع الخصومة عند التنازع ، ولا تقطع الحق ، فلو تمكن المدعي من إقامة البينة فيما بعد ; مكن من ذلك ، وسمعت بينته ، وحكم له بها ، وكذا لو تراجع الحالف عن اليمين بعدما حلف ، وأدى ما عليه من الحق ; قبل منه ذلك ، وحل للمدعى أخذه . .
ومجال اليمين في دعوى حقوق الأدميين خاصة ، فهي التي يستحلف فيها ، أما حقوق الله تعالى ، فلا يستحلف فيها ، وذلك كالعبادات والحدود ، فإذا قال : دفعت زكاتي أو ما علي من كفارة أو نذر ; قبل منه ، ولم يستحلف ، وكذا لا يستحلف منكر لحد عليه من حدود الله ، لأنها يستحب سترها ، ولأنه لو أقر بها ، ثم رجع عن إقراره ، قبل منه ، وخلي سبيله ، فلئلا يستحلف مع عدم الإقرار أولى .
ولا يعتد باليمين في دعوى حقوق الأدميين إلا إذا أمره بها الحاكم بعد طلب المدعي ، ولكون على صفة جوابه للمدعي .
ولا بد أن يكون أداؤها في مجلس الحاكم .
ولا تكون اليمين إلا بالله تعالى ، لأن الحلف بغير الله شرك .
ويكفي فيها الإتيان بلفظ الجلالة في اليمين ، فإذا قال : والله ; كفى ; لأن هذا القسم جاء في كتاب الله تعالى ; مثل قوله تعالى : وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ولأن لفظ الجلالة علم على الله تعالى ، لا يسمى به غيره .
ولا تغلظ اليمين إلا فيما له أهمية كبرى ; كجناية لا توجب قودا أو عتقا ، فللحاكم تغليظها باللفظ ; كوالله ، الذي لا إله غيره ، عالم الغيب والشهادة ، الطالب ، الغالب ، الضار ، النافع ، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
ومن توجه عليه حق لجماعة ، حلف لكل واحد يمينا ، لأن حق كل واحد منهم غير حق الآخرة إلا إذا رضوا يمينا واحدة ، فيكتفى بها ; لأن الحق لهم ، وقد رضوا بإسقاطه .
باب في أحكام الإقرار
الإقرار هو الاعتراف بالحق ، مأخوذ من المقر ، وهو المكان ، كأن المقر يجعل الحق في موضعه .
وهو إخبار عما في نفس الأمر من حق الغير ، لا إنشاء لحق جديد .
قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله : " التحقيق أن يقال : إن المخبر إن أخبر بما على نفسه ; فهو مقر ، وإن أخبر بما على غيره لنفسه ، فهو مدع ، وإن أخبر بما على غيره لغيره : فإن كان مؤتمنا عليه ; فهو مخبر ، وإلا ، فهو شاهد ; فالقاضي والوكيل والكاتب والوصي والمأذون له ، كل هؤلاء ما أدوه مؤتمنون فيه ، فإخبارهم بعد العزل ليس إقرارا ، وإنما هو خبر محض ، وليس الإقرار بإنشاء ، وإنما هو إظهار وإخبار لما هو في نفس الأمر " انتهى .
ويشترط لصحة الإقرار أن يكون المقر مكلفا ، فلا يصح من صبي ، ولا مجنون ونائم ، ويصح من الصغير المأذون له في التجارة في حدود ما أذن له فيه .
ويشترط أن يكون المقر قد أقر في حالة اختياره ، فلا يصح الإقرار من مكره ; إلا أن يمر بغير ما أكره على الإقرار به .
ويشترط لصحة الإقرار أيضا أن لا يكون المقر محجورا عليه ، فلا يصح من سفيه إقرار بمال.
ويشترط أيضا أن لا يقر بشيء في يد غيره أو تحت ولاية غيره ; كما لو أقر أجنبي على صغير أو على وقف في ولاية غيره أو اختصاصه .
وإن ادعى المقر أنه أكره على الإقرار ، ولم يقر باختياره ; قبل منه ذلك مع قرينة تدل على صدقه أو بينة على دعواه .
ويصح إقرار المريض بمال لغير وارثه ; لعدم التهمة ، ولأن حالة المرض أقرب إلى الاحتياط لنفسه لما يراد منه .
وإن ادعى إنسان على شخص بشيء ، فصدقه المدعى عليه ، صح تصديقه ، واعتبر إقرارا يؤاخذ به ; لقوله صلى الله عليه وسلم : لا عذر لمن أقر
ويصح الإقرار بكل ما أدى معناه من الألفاظ كأن يقول لمن ادعى عليه : صدقت ، أو : نعم ، أو : أنا مقر بذلك .
ويصح استثناء النصف فأقل في الإقرار ; فلو قال : له علي عشرة إلا خمسة ; لزمه خمسة ، وقد ورد الاستئناء في كتاب الله عز وجل ; قال الله تعالى : فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا واختار كثير من العلماء جواز استثناء أكثر من النصف .
ويشترط لصحة الاستثناء في الإقرار أن يكون متصلا باللفظ ، فلو قال : له علي مائة ، ثم سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه ، ثم قال : زيوفا ، أو : مؤجلة ; لزمه مائة جيدة حالة ، وما أتى به بعد سكوته لا يلتفت إليه ; لأنه يرفع به حقا قد لزمه .
وإن باع شيئا أو وهبه أو أعتقه ، ثم أقر أن ذلك الشيء كان لغيره ; لم يقبل منه ، ولم ينفسخ البيع ولا غيره ; لأنه إقرار على غيره ، ويلزمه غرامته للمقر له ; لأنه فوته عليه .
ويصح الإقرار بالشيء المجمل وهو ما احتمل أمرين فأكثر على السواء عند المقر
فإذا قال إنسان : لفلان علي شيء ، أو : له علي كذا ، صح الإقرار ، وقيل للمقر : فسره ، ليتأتى إلزامه به ، فإن أبى تفسيره ، حبس حتى يفسره ، لوجوب تفسيره عليه ; لأنه حق عليه يجب عليه بيانه وأداؤه لصاحبه ، وإن قال : لا علم لي بما أقررت به ; حلف وغرم أقل ما يقع عليه الاسم ، وإن مات قبل تفسيره ; لم يؤاخذ وارثه بشيء ، وان خلف تركة ، لاحتمال أن يكون المقر به غير مال .
وإن قال : له علي ألف إلا قليلا ، حمل الاستثناء على ما دون النصف .
وإن قال : له علي ما بين درهم . وعشرة ; لزمه ثمانية ; لأن ذلك هو مقتضى لفظه ; لأن الثانية هي ما بين واحد وعشرة . -
وإن قال : له علي ما بين درهم إلى عشرة ; لزمه تسعة ، لعدم دخول الغاية في المغيى ، وعند بعض العلماء أن الغاية إن كانت من جنس المغيى ; دخلت ، وإلا ، فلا .
وإن قال : له ما بين هذا الحائط إلى هذا الحائط ، لم يدخل الحائطان ; لأنه إنما أقر بما بينهما .
وإن أقر لشخص بشجرة أو بشجر ; لم يشمل إقراره الأرض التي عليها ذلك الشجر ; فلا يملك الغرس في مكانها لو ذهبت ، ولا يملك رب الأرض قلعها ، لأن الظاهر وضعها بحق .
أما لو أقر ببستان فإنه يشمل الأشجار والبناء والأرض ; لأنه اسم للجميع .
وإن قال : له علي تمر في جراب أو سكين في قراب أو ثوب في منديل ; فهو مقر بالمظروف دون الظرف ، وهكذا كل مقر بشيء جعله ظرفا أو مظروفا ; لأنهما شيئان متغايران ، لا يتناول الأول منهما الثاني ، ولأنه لا يلزم أن يكون الظرف والمظروف لواحد ، والإقرار لا يلزم مع الاحتمال .
وإن قال : هذا الشيء مشترك بيني وبين فلان ; رجع في بيان حصة الشريك إلى المقر ، وقيل : يكون بينهما نصفين ، لأن هذا هو مقتضى القاعدة في أن مطلق الشركة يقتضي التسوية بين المشتركين ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ
ويجب على من عنده حق الإقرار به إذا دعت الحاجة إلى ذلك ; لقوله تعالى : كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وقوله تعالى : وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ
قال الموفق في " الكافي " : " والإملال هو الإقرار ، والحكم بالإقرار واجب ، لقول النبى صلى الله عليه وسلم : واغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت ، فارجمها ولرجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا والغامدية بقرارهم ، ولأنه إذا وجب الحكم بالبينة ; فلأن يجب بالإقرار مع بعده عن الريبة من باب أولى " .
والحمد لله رب العالمين .
تم الاختصار ، ونسأل الله أن يعفو عما حصل فيه من الخطأ والنقص ، وأن ينفعنا والقراء الكرام بما فيه من الصواب ، وأن يوفق الجميع للعلم النافع والعمل الصالح .