رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زوجاته
التصنيفات
الوصف المفصل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فمن المعلوم أن النبيَّ ﷺ تزوج الكثير من النساء لأسباب اجتماعية وتشريعية وسياسية كثيرة لا مجال لذكرها هنا، ولكن هذا الزواج النبوي يتيح لنا معرفة أخلاق النبي ﷺ مع أزواجه، فإن أخلاق الرجل الحقيقية هي التي يتعامل بها مع نسائه وأهل بيته، فكيف كانت أخلاقه ﷺ مع زوجاته؟
كيف كان يعلمهن ويوجههن ويتلطف معهن؟
كيف كان يؤانسهن ويتحبب إليهن؟
كيف كان يواجه أخطاءهن ويتعامل مع غيرتهن؟
سئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبيُّ ﷺ يصنع في أهله؟ قالت: كان في مهنة أهله – أي يساعدها في أعمالها في البيت – فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة. [رواه البخاري].
وقالت: «كان ﷺ بشرًا من البشر، يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه». [رواه أحمد وصححه الألباني].
هذا هو حال سيد الأولين والآخرين عليه الصلاة والسلام، يعيش عيشة المساكين، ويرحم نساءه فيساعدهن في أعمالهن، ولا يكلفهن ما يعجزن عنه عن عمل، بل كان ﷺ خفيف المؤونة حسن العشرة، واسع الحلم، طلق المحيَّا، راضيًا بالقليل، إذا سأل أهله: هل عندكم من طعام، وقلن: لا.. سكت ولم يعاتب، وربما بات طاويًا دون أن يظهر شيئًا من الاعتراض أو الضجر.
قال ابن كثير «في تفسيره»: «وكان من أخلاقه ﷺ أنه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقته، ويضاحك نساءه، حتى إنه كان سابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها يتودد إليها بذلك... ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله ﷺ، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها... وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلًا قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك ﷺ، وقد قال الله تعالى: } لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ { [الأحزاب: 21] .
إشاعة البهجة والسرور والسعادة
كان النبي ﷺ حريصًا على إسعاد من حوله وبخاصة أزواجه ﷺ اللاتي نالهن الحظ الأوفر من الجناب النبوي واللطف المحمدي.
تقول عائشة رضي الله عنها: دخل عليَّ أبو بكرٍ وعندي جاريتان تدففان وتضربان، فانتهرهما أبو بكر، فقال النبي ﷺ : «دعهما يا أبا بكر، فإن لكل قوم عيدًا، وإن عيدنا اليوم». [متفق عليه].
وفي لوحة أخرى من لوحات البهجة والسرور التي كان النبي ﷺ يغمر بها أزواجه: ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت مع النبي ﷺ في بعض أسفاره، وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدّن. فقال للناس «تقدموا» فتقدموا. ثم قال لي: «تعالي حتى أسابقك» فسبقته. فسكت عني، حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت، خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: «تقدموا» فتقدموا، ثم قال لي: «تعالى حتى أسابقك» فسابقته فسبقني، فجعل يضحك وهو يقول: «هذه بتلك» [رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني].
وفي موقف جديد من مواقف البهجة والسرور والسعادة في الحياة الزوجية النبوية: ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنها أن جارًا لرسول الله ﷺ فارسيًّا كان طيب المرق، فصنع لرسولِ الله ﷺ، ثم جاء يدعوه، فقال ﷺ: «وهذه» لعائشة. فقال: لا.
فقال رسول الله ﷺ: «لا». فعاد يدعوه،
فقال رسول الله ﷺ: «وهذه». قال: لا.
فقال رسول الله ﷺ: «لا». ثم عاد يدعوه،
فقال رسول الله ﷺ: «وهذه». قال: نعم.
فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله. [رواه مسلم].
إن هذا الموقف لا يمكن أن تتناساه المرأة، بل يظل مصدرًا لسعادتها كلما تذكرته أو خطر ببالها لما فيه من التقدير، واللطف، والإيناس، وجميل المعاشرة، وحقوق الصحبة.
المودة والرحمة
قال تعالى: } وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ { [الروم: 21].
* وصور المودة والرحمة في عشرة النبي ﷺ لأزواجه كثيرة جدًّا، ومن ذلك أنه ﷺ دخل على صفية وهي تبكي. فقال لها: «ما يبكيك؟» قالت: قالت لي حفصة: إني بنت يهودي. فقال ﷺ لصفية: «إنك لابنة نبيّ، وإن عمك لنبيّ، وإنك لتحت نبي، ففيم تفخر عليك؟» ثم قال ﷺ لحفظة: «اتقي الله يا حفصة». [رواه الترمذي]. أي اتركي هذا الكلام الذي هو من عادات الجاهلية.
فانظر كيف حوّل النبي ﷺ الإهانة إلى تكريم، فكون صفية رضي الله عنها يهودية الأصل ليس مدعاة لاحتقارها، لأنها آمنت بالله ورسوله، وتزوجت من رسول الله ﷺ، وأصبحت أمًّا للمؤمنين، ثم إنها تنتمي إلى نبيين من أنبياء بني إسرائيل وهما هارون وموسى عليهما السلام، فذهب بذلك ما كانت تفخر به حفصة عليها.
* ومن صور المودة والرحمة في العشرة الزوجية النبوية ذلك الحوار الجميل بين النبي ﷺ وعائشة، فقد قال لها النبيّ ﷺ: «إني لأعرف غضبك ورضاك» قالت: كيف تعرف ذلك يا رسول الله؟ قال: «إنك إن كنت راضيةً قلت: بلى ورب محمد، وإن كنت ساخطة قلت: لا ورب إبراهيم» فقالت: أجل والله يا رسول الله، إني لا أهجر إلا اسمك. [متفق عليه].
فانظر كيف يتجنب النبي ﷺ إلى زوجته، ويتودد إليها، ويخبرها بعلمه التام بأحوالها حتى من طريقتها في الكلام والقسم.
وانظر كيف كان النبي ﷺ يتعامل معها وهي حائض، ومعلوم أن المرأة حال الحيض تكون في حالة من التوتر والتغير النفسي، الذي لابد أن يقابله مزيد من المودة والرحمة والحب واللطف الزائد، قالت رضي الله عنها: كنت أشرب وأنا حائص، ثم أناوله النبي ﷺ، فيضع فاه على موضع فيّ فيشرب، وأتعرق العرق ([1]) وأنا حائض، ثم أناوله النبيَّ ﷺ فيضع فاه على موضع فيّ» [رواه مسلم].
أين هذا من الذين لا يطيقون زوجاتهم أثناء الحيض، وكأنها ارتكبت جرمًا تستحق بسببه الطرد والإبعاد!!
* ومن صور المودة والرحمة في العشرة النبوية ما رواه أنس بن مالك قال: «خرجنا إلى المدينة قادمين من خيبر، فرأيت النبي ﷺ يجلس عند بعيره فيضع ركبته، وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب». [رواه البخاري].
وهذا من أعظم مواقف الرحمة والمودة وتقدير ضعف المرأة ورقتها، حيث يسمح النبي ﷺ لصفية زوجته أن تضع رجلها على ركبته الشريفة حتى تركب بعيرها.
وكانت رضي الله عنها تزوره في معتكفه في العشر الأواخر من رمضان، فيتحدث معها، ثم يقوم معها ويخرج من معتكفه لتوصيلها.
العدل النبوي
إن العدل هو الأساس الذي بنيت عليه الحياة الزوجية في البيت النبوي، وقد كان ﷺ يطبق هذا الأساس تطبيقًا صارمًا، حيث كان يقسم بين أزواجه ما يقدر على قسمته من مبيت ونفقة وحسن عشرة بالقسط التام سفرًا وحضرًا.
· فكان ﷺ يبيت عند كل واحدة ليلة، وينفق على كل واحدة ما في يديه بالسوية.
· وبني لكل واحدة حجرة خاصة هي بيتها.
· وكان إذا سافر أقرع بينهن، وسافر بالتي تخرج لها القرعة. ولما حجّ حجة الوداع وهي حجته الوحيدة، أخذ نساءه كلهن معه، ليتحقق العدل في ذلك أيضًا.
وكان من تمام عدله أنه استمر على ذلك حتى في مرض موته، حيث كان يًدَارُ به على نسائه كل واحدةٍ في نبوتها، حتى شق عليه ذلك، فأنَّ أزواجه أن يمرض في بيت عائشة، فمكث فيه حتى وافاه الأجل بين سحرها ونحرها رضي الله عنها.
وكان ﷺ يعتذر إلى الله تعالى فيما لا يستطيع فيه العدل بين أزواجه وهو الميل القلبي، فكان يقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك». [رواه أبو داود والترمذي].
ومن الموقف التي ظهر فيها عدل النبي ﷺ مع أزواجه: ما روته أم سلمه أنها أتت بطعام في صحفة لها إلى رسول الله ﷺ وأصحابه، فجاءت عائشة رضي الله عنها متزرةً بكساء ومعها فِهْرٌ – أي حجر – ففلقت به الصحفة، فجمع النبي ﷺ بين فلقتي الصحفة وقال: «غارت أمكم، غارت أمكم» ثم أخذ صحفة عائشة فبعث بها إلى أمن سلمة، وأعطى صحفة أم سلمة عائشة». [رواه البخاري].
وهذا الموقف تتجلى فيه أخلاق النبوة ،ويظهر من خلاله حسن عشرة النبي ﷺ لأزواجه، فقد تنازل النبي ﷺ عن حقِّه، وقدّر ما جبلت عليه المرأة من الغيرة، وبين ذلك لأصحابه بقوله: «غارت أمكم» ولم يعنقها أو يضربها أو يسبها ولكنه في نفس الوقت قضى بالعدل في هذا الموقف، فبعث صحفة عائشة السليمة إلى أم سلمة، وجعل لعائشة الصحفة المكسورة.
التذكير بالله تعالى
كان النبي ﷺ يذكر أزواجه بالله عز وجل، ويرغبهن في طاعته، ويحذرهن من معصيته والغفلة عنه.
ففي الحديث عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: استيقظ رسول الله ﷺ ليلى فزعًا يقول: «سبحان الله ماذا أنزل الله من الخزائن؟ وماذا أنزل من الفتن؟ من يوقظ صواحب الحجرات – يعني أزواجه حتى يصلين قيام الليل – ربَّ كاسية في الدنيا عارية في الآخرة» . [رواه البخاري].
وكان ﷺ إذا دخل العشر – أي العشر الأواخر من رمضان – شدَّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله. [متفق عليه].
وعن زينب بنت جحش أن النبي ﷺ استيقظ من نومه وهو يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردْم يأجوج ومأجوج» فقالت له: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصاحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث».
التربية والتعليم
وكان النبي ﷺ يعلم أزواجه العلم النافع، ويوجههن إلى حسن الاستدلال من كتاب الله تعالى، فقد قال عليه الصلاة والسلام عند حفصة: «لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها» فقالت حفصة: بلى يا رسولا الله. فانتهرها.
فقالت حفصة: } وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا {.
فقال النبي ﷺ: «قد قال الله عز وجل: }ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا {» [مريم: 72 ]. [رواه مسلم].
وفي حديث عائشة أنها سألت النبي ﷺ عن السلام على أهل القبور فقالت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: «قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإن إن شاء الله بكم لاحقون» [رواه مسلم].
الاقتصاد وعدم الغلو
وكان النبي ﷺ يعلم أزواجه الاقتصاد وعدم الغلو في العبادة، فقد دخل يومًا فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال:
«ما هذا الحبل؟» قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت به. فقال النبي ﷺ: «لا، حلّوه، ليصلّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد». [متفق عليه].
التأديب والحزم
كان النبي ﷺ حازمًا مع أزواجه إذا اقتضى الأمر ذلك مما يدلّ على أن رحمته بهن وحسن عشرته لهن لم تكن ناتجة عن ضعف أو عدم قدرة على التأديب والحزم، بل كانت نتاج حسن خلقه ﷺ الذي قال الله تعالى فيه: } وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ { [القلم: 4].
ومن دلائل حزمه ﷺ أنه اعتزل نساءه جميعًا وهجرهن شهرًا كاملًا، وذلك بعد أن سألنه ما لا يقدر عليه من النفقة، ثم نزلت الآية: } يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ، وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا { [الأحزاب: 28-29] فأمره الله غز وجل بتخييرهن فبدأ بعائشة فقال لها: «يا عائشة، إني أريد أن أعرض عليك أمرًا لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك» قالت: وما هو يا ر سول الله؟ فتلا عليها الآية. فقالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة.
الوفاء
تميزت الحياة الزوجية في البيت النبوي بالوفاء والاعتراف بالجميل وذكر المعروف، وإن غضب من غضب، يدل على ذلك وفاء النبي ﷺ لزوجته الأولى خديجة التي لم يتزوج عليها النبي ﷺ حتى ماتت، تلك المرأة التي وقفت بجانب النبي ﷺ، وواسته بنفسها ومالها، فكان النبي ﷺ يتذكر تلك المواقف، ويتثنى عليها، حتى أن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على امرأةٍ لرسول الله ﷺ ما غرت على خديجة؛ لكثرة ذكر رسول الله ﷺ لها وثنائه عليها. [رواه البخاري].
وكان ﷺ إذا ذبح الشاة يقول: «أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة». قالت عائشة: فأغضبته يومًا فقلت: خديجة! فقال: «إني قد رُزِقت حبها» [متفق عليه].
([1]) أتعرق العرق: آخذ بقايا اللحم التي على العظم بأسناني.