×
مقدمة في أصول التفسير: هذه المقدمة من نفائس ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، فقد ذكر فيها قواعد نافعة لفهم أصول التفسير، وهي صغيرة الحجم، تقع في 46 صفحة بحسب مجموع الفتاوى في الجزء رقم 13 من ص 329 حتى ص 375. وقد ألفها شيخ الإسلام ابن تيمية استجابة لرغبة بعض طلابه، وقد أشار إلى ذلك في المقدمة، وفي هذه الصفحة شرح لها كتبه الشيخ محمد بن عمر بن سالم بازمول - أثابه الله -.

  

 شرح مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية

لشيخ الإسلام  أحمد بن عبد الحليم  بن عبد السلام ابن  تيمية

 رحمه الله تعالى

إن الحمد لله، نحمده، و نستعينه، و نستغفره، ونعوذ بالله، من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .

يَاأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَتَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ

يَآأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوْا رَبَّكُمُ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيْراً وَنِسَآءً وَاتَّقُوْا اللَّهَ الَّذِيْ تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْباً

يَاأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً.

أما بعد: 

فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أمّـا بعد:

فهذا كتاب لم أكتبه، وشرح لم أدونه!

إنما ألقيت دروساً في شرح كتاب "مقدمة في أصول التفسير" لابن تيمية رحمه الله، فقام بعض إخواني - جزاه الله خيرا -  بتسجيل هذه الدروس، وتفريغها، ضابطاً الآيات، والأحاديث، مع تخريجها، ودفع لي هذه الأوراق لأنظر فيها؛

فرأيت عبارات تستساغ سمعاً لا قراءة، وكلمات موهمة في المراد، مع إحالات تحتج إلى عزو وبيان، وتكرار في المعاني، يصلح في الكلام لا في الكتابة، فحذفت المكرر من لفظه، وأقمت عبارته، لتسهل قراءته، وبينت العزو، ونقلت الكثير من الإحالات بنصها، وحذفت المعاد من المعاني في ثناياه؛ فكان هذا الشرح لكتاب مقدمة في أصول التفسير؛ الذي أقدمه لطلاب العلم، عسى أن يكون عوناً لهم في فهم هذه الأصول، ولعل شادياً للعلم يقرؤه فيعجبه ، فيدعو لجامعه.

ولا يفوتني تسجيل شكري وتقديري لمن قام بقراءة الكتاب علي أثناء الدرس، وتسجيله، وتفريغه، فقام بجهد كبير، أسأل الله العلي القدير أن يجعله في موازين حسناته، وأن يرفع من قدره، إنه سميع مجيب.

 وأخيراً أسأل الله عزوجل أن يرحم ابن تيمية ويسكنه فسيح جناته، فقد قعد هذه الأصول، وأسسها، وصنف كتاباً عز نظيره في كتب الناس، فاللهم ارحمه واغفر له، وأرفع درجته، واسكنه الفردوس، برحمتك يا ارحم الراحمين، واجزه اللهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، يا رحمن يا رحيم.

اللهم تقبل عملي خالصاً لوجهك الكريم، وداعياً إلى سنة نبيك الرؤوف الرحيم

الدرس الأول : الأحد 23/2/1423هـ

  نبذة مختصرة عن سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (الأحزاب:70) (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب:71) ألا وإن أصدق الكلام كلام الله تعالى وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

أما بعد : فهذا هو الدرس الأول ويتعلق بتعريف مختصر بشيخ الإسلام ابن تيمية وكتابه وبالعلم الذي هذا هو موضوعه .

شيخ الإسلام اسمه : أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية ، ولد سنة 661هـ يعني بعد الغزو التتري بخمس سنوات فإن الغزو التتري تحرك إلى العالم الإسلامي عام 656هـ . ولد رحمه الله في مدينة حرَّان وهي مدينة موجودة الآن من ضمن ديار بكر في تركيا ضمن محافظة اسمها (أورفا).

يلقب بتقي الدين ويكنى بأبي العباس كان أبوه مفتياً للحنابلة ، وكان جده عبد السلام هو الحاكم الشرعي، يعني : القاضي في مدينة حرَّان.

كان شيخ الإسلام نادرة عصره وأعجوبة بين أقرانه شهد له العلماء الموافقون والمخالفون شهدوا له بالعلم وبالمعرفة وبطول الباع.

يقول ابن الزملكاني : إذا حضر في مجلسه أهل الفقه (الشافعية، المالكية، الحنفية، الحنابلة) خرجوا من عنده وهم يظنون أنه لا يحسن غير الفقه، وإذا تكلم في الفرق والملل والنِّحَل استفاد كل أهل ملة وكل أهل نِحلة شيئاً يتعلق بنحلتهم وبعقيدتهم وملتهم.

ولا يعرف أنه انقطع في مناظرة قط.

بارك الله في وقته رغم كثرة المشاغل والحروب والمشاكل السياسية التي مر بها - رحمه الله - فإن أعداءه تكالبوا عليه :

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه     فالقوم  أعداء  له  وخصوم

حسدوه لأنه أظهر مخالفة ما استقروا عليه من بدع مخالِفة لما عليه أهل السنة والجماعة، ووضع الله له القبول عند السلطان في أخريات حياته – رحمه الله .

خالف أهل عصره في مسائل وافقوا فيها أهل البدعة الضلالة ، من هذه المسائل العظيمة التي اشتد النكير عليه فيها – رحمه الله - :

1- المسألة الأولى : تحريم شد الرحل لزيارة القبور حتى ولو كان القبر المشدود إليه قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبور الأنبياء أو قبور الصالحين وهو في هذه الفتوى انطلق من حديث النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى )( ) فبيَّن أن هذا الحديث : يمنع من شد الرحل إلى غير هذه المساجد الثلاث ، فكيف يجوز أن نشد الرحل إلى القبور ولو كانت قبور أنبياء أو قبور صالحين أو حتى قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول :  " لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا"( ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : "اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا لَعَنَ اللَّهُ قَوْمًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ"( ) . فقام عليه أهل عصره من هذا الباب وحرفوا كلامه وقالوا : ينهى عن زيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم  والواقع أنه لم ينه عن زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، و إنما ينهى عن شد الرحل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم.

2- المسألة الثانية : مسألة الطلاق : وتشتمل على عدة فروع خالف فيها أهل عصره ، فقد خالف أهل عصره في إيقاع الطلقات الثلاث إذا كانت بفم واحد في مجلس واحد فكان يرى – رحمه الله – أن الصواب فيها ما كان عليه الأمر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمن أبي بكر رضي الله عنه بأن الطلقات الثلاث بهذه الصورة لا تقع إلا طلقة واحدة ، وله في بعض فتاواه ما يُعلم أنه يرى : أن للحاكم الشرعي إيقاع الطلقات الثلاث بهذه الصورة أو إيقاعها واحدة بحسب ما يراه الحاكم الشرعي من حال المسلم الذي حصلت له هذه الواقعة ، فقام أهل عصره عليه واتهموه بخرق الإجماع .

أيضاً كان يرى : أن من أوقع الطلاق على هيئة يمين أن الذي يلزمه كفارة يمين ولا يقع الطلاق .

وقرر في مسائل العقيدة مسائل كثيرة خالف فيها كلامهم : فقرر أن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود ، وأنكر مسألة (المعنى النفسي) لأنها تؤول إلى أن القرآن الذي بين أيدينا ليس هو كلام الله وإنما هو كلام يدل على المعنى النفسي القائم في ذات الله سبحانه وتعالى أتى به جبريل إنباءً عن المعنى النفسي القائم بالله سبحانه وتعالى ، فلما رأى أن هذا الكلام خلاف كلام السلف أنكره وأبطله وقام على أهل عصره فيه وبسبب هذه المسألة ألَّف كتاب : (التسعينية) ، المعروف في مسألة خلق القرآن ، وفي مسألة الزيارة ألَّف رسالة كبيرة في مسألة الزيارة ، وألًّف : (الرد على البكري) أيضاً في هذا الموضوع ، وله في الطلاق عدة مجلدات يتكلم فيها عن مسألة الطلاق .

ووضع الله له القبول بين الناس ، حج إلى مكة المكرمة سنة 680هـ.

جاء في مجموع الفتاوى قول ابن تيمية رحمه الله: "أخبرنا الأصيل المسند نجم الدين أبو العز يوسف بن يعقوب بن محمد بن على المجاور الشيباني قراءة عليه وأنا أسمع في الحرم سنة 680هـ"اهـ( ).

وحج مرة ثانية في سنة 692 هـ يعني وعمره 31 سنة كما نص على ذلك ابن كثير رحمه الله في (البداية والنهاية) في أحداث هذه السنة.

ألف مؤلفات عظيمة وقام بالرد على الفلاسفة والمناطقة وأهل الكلام وألف كتاباً عظيماً في هذا الباب اسمه : (درء تعارض العقل والنقل)، وفتح الله عليه الفتوح ، وفيه يصدق ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم: "من عمِل بما علِم أورثه الله علم ما لم يعلم"[ .

يذكُر عنه أحد تلامذته وهو : أبو عبد الله بن رُشَيْق يقول : كان يقول : كنت أُطالع في تفسير الآية نحو مائة تفسير ثم أقول : اللهم يا معلِّم إبراهيم علمني ويا مفهِّم سليمان فهمني . وكان يقول رحمه الله : كتب التفسير فيها الغثُّ والسمين . وتكلم أهل التفسير وأجادوا ولم يبق إلا مواضع مختلفة هي التي أفردها بمزيد الكلام .

وكان في أواخر حياته يندم على اشتغاله بالرد على الفلاسفة والمناطقة واليونان علماً أن ردَّه سدَّ ثغرة في هذا الباب ورفع إثماً عن الأمة في قيامه بهذا الأمر ولكنه مع هذا ندم في أواخر حياته وكان يتمنى لو أنه صنف تفسيراً للقرآن الكريم أو شرحاً لكتاب صحيح الإمام البخاري كما ذكر هذا عن بعض تلامذته .

أوذي كثيراً وسجن في سجن القلعة بدمشق وهو إلى الآن قائم بجوار المسجد الأموي ، وسجن بمصر وحاولوا قتله بطرق ملتوية فأرسلوه إلى الإسكندرية وأشاعوا عدم رضى السلطان عنه يريدون أن يقوم أحد المتهورين فيقتله فلما وصل إلى الإسكندرية وضع له القبول بين الناس فتاب جماعة من أهل الفسوق من فسوقهم وفجورهم. وجماعة من أهل البدع تركوا ضلالاتهم وتعلموا على يد الشيخ فكان وجوده في الإسكندرية مصدر إزعاج لمن أرسله من القاهرة إلى الإسكندرية ، وكان له بمصر نشاط علميٌ كبير، وفيها وضع ما يسمى (بالفتاوى المصرية) وفيها ألف (الرد على البكري) لما ذهب إلى مصر.

وكان يقول : "ما يفعل أعدائي بي أنا قتلي شهادة وسجني خلوة وإخراجي من بلدي سياحة جنتي في صدري أينما ذهبت فهي معي" . نقل هذا عنه تلميذه ابن القيم في (الوابل الصيب).

اختلف في سبب اشتهار هذه العائلة بـ ( آل تيمية ) فقيل : ( تيمية ) هي جدة لهم ، فإن الشيخ محمد ابن تيمية المعروف بـ ( ابن تيمية ) لما جاء في طريق الحج؛ شاهد طفلة مولودة في تيماء في طريق الشام فلما رجع إلى بلده وجد أهله وضعوا مولودة فقال : هذه تيمية، تشبه تلك البنت ، فقال : تيمية فعرفت بهذا . وقيل : إن تيمية لقب لقبوا به لأمر آخر لا يحضرني الآن .

اشتهر شيخ الإسلام ابن تيمية في جميع العلوم؛

فهو في التفسير حامل رايته وفي الحديث أهل روايته ودرايته.

وفي الفقه صاحب الباع الطويل في الاستدلال والانتقاد.

وفي أصوله يرجع إلى كلامه في تحرير المسائل.

فتح الله عليه من العلوم ما الله به عليم يحتار من ينظر في كلامه إذا ما تكلم في المسألة من أين يأتي بهذه الاستدلالات وهذه المادة العلمية.

حاربه أعداؤه في حياته وبعد موته، آذوا تلامذته وحرقوا كتبه وأتلفوا جزءاً كبيراً منها ولكن الله سبحانه وتعالى حفظها حتى وصلت إلينا، ومن صور حفظها أن بعض العلماء وهو ابن عروة الحنبلي أولع بحبها فألف كتاباً في ترتيب مسند الإمام أحمد على أبواب البخاري ثم عمل له شرحاً فصار في هذا الشرح إذا جاء لموضع فيه رسالة لابن تيمية يوردها فكانت هذه الطريقة من الطرق التي حفظ الله عز وجل بها كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .         

لم يتزوج لانشغاله بالعلم والجهاد ونحو ذلك من الأمور السياسية والمشاكل إلى آخره .

كان يقوم على خدمته أخ له ، يذكرون أنه كان لا يقرب الطعام حتى يأتيه وإذا اتسخت ثيابه يأخذونها ويغسلونها مات سنة 728 هـ بسجن القلعة . قال الإمام أحمد : بيننا وبين أهل البدع الجنائز، وكذا كان يوم موته يوماً مشهوداً، في تلك السنين وفي تلك الأيام يقولون : حُصِر الناس فكانوا يزيدون على مائة ألف وغُلِّقت الحوانيت - وهي الدكاكين - وغلقت الأسواق وسُدَّت الطرق من أجل جنازته رحمه الله . وهذه من علامات أهل السنة أن أهل البدع إذا ماتوا الناس لا ينشغلون بهم .   

من الأمور التي حصلت له وتدل على كمال فضله – رحمه الله – أنه لما جاء أحد الأمراء في مصر واستتب له الأمر بعد الأمير السابق الذي آذى ابن تيمية ، جاء أمير آخر وكان يرى صواب ما عليه ابن تيمية وكان يرى أن هؤلاء المشايخ يعادونه ويحسدونه فلما استتب الأمر للأمير نادى ابن تيمية ونادى المشايخ ثم انفرد بابن تيمية وقال له : إن هؤلاء المشايخ آذوك وكانوا يريدون قتلك وفعلوا وفعلوا أفتني بقتلهم وأنا أقتلهم – يقول الذي نقل الواقعة : فانتبه شيخ الإسلام إلى أن هذا الأمير إنما يريد أن يأخذ فتوى منه بقتل هؤلاء العلماء بسبب أنهم كانوا يقفون ضده مع الأمير السابق فانتبه شيخ الإسلام لهذا فقال للأمير : إن هؤلاء العلماء هم الذين تقوم بهم الدولة وأنت إذا أضعتهم لا تجد مثلهم ولم يسمح للأمير بمبرر ولو صغير منه بأن يقوم ضد هؤلاء العلماء رغم أنهم كانوا يكيدون لابن تيمية ، ولذلك يقول ابن مخلوف – وهو الفقيه المالكي الذي قام ضد ابن تيمية وأمر بسجنه في مصر وإيذائه - يقول : رحم الله ابن تيمية لما قدر علينا أحسن ونحن لما قدرنا عليه أسأنا وكدنا له.

لشيخ الإسلام ابن تيمية العديد من المؤلفات الناطقة الشاهدة بعلمه من أفضلها وأنفسها الكتب التالية : (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) ، (الصارم المسلول في الرد على شاتم الرسول) ، وألف هذا الكتاب لأنه ظهر رجل يقال له : العساف النصراني أظهر سب النبي صلى الله عليه وسلم والانتقاص منه فاجتمع ابن تيمية – وكان في الثلاثينيات من عمره – مع بعض العلماء وأفتوا بوجوب عقوبة هذا الذي يقال له : العساف النصراني ، وكان هذا من جلساء الأمير ، فانزعج الأمير لهذا الأمر فأتى بهؤلاء المشايخ ومنهم ابن تيمية فضربهم أمام الناس وبعد هذا قام شيخ الإسلام وألف كتابه : الصارم المسلول في الرد على شاتم الرسول .

من كتبه النفيسة :

(شرح العمدة) ولم يتمه.

و(مقدمة في أصول التفسير).

ومنها (شرح الأصفهانية).

و(التدمرية).

و(الواسطية).

و(اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم)

وله فتاوى كثيرة من أنفس ما يكون.

ويتضمن مجموع الفتاوى المطبوع جملة كبيرة من كتبه ورسائله رحمه الله.

أيضاً من كتبه النفيسة :

منها (منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية).

ومنها (الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح).

وله كتاب في إبطال التحليل ، وكان قد انتشر في عصره التحليل في النكاح وهو : أن المرأة إذا طلقت من زوجها ثلاث طلقات لا يحل لها أن ترجع إلى زوجها الأول حتى تنكح زوجاً غيره فكانوا يأتون بمحلل يعقد العقد على هذه المرأة ثم يطلقها يحللها للزوج الأول، وقد جاء في الحديث وصف هذا المحلل بالتيس المستعار ، فألف كتاباً في إبطال هذا الأمر عرف بـ (إبطال التحليل).

ومن كتبه: "مقدمة في أصول التفسير"، التي نعقد هذه الدروس لشرحها؛

هذا الكتاب مع صغر حجمه إلا أنه أصل فيه أصولاً نفيسة حتى إن العلماء لما جاءوا بعده أشادوا به وصاروا يوردون قطعاً كبيرة منه في ثنايا مصنفاتهم؛

فابن كثير  رحمه الله  أورد جملة كبيرة منه في أول تفسيره.

والسيوطي في ( الإتقان ) أورد جملة كبيرة من هذا الكتاب في ثنايا كتابه وكان يصفه بالنفاسة.

أدار – رحمه الله – هذا الكتاب على فصول تكلم فيها عن عدة مسائل؛

تكلم في فصل قاعدة أن الرسول مامات حتى فسر جميع القرآن.

وفصل  عن تفسير الصحابة والتابعين ونوع الاختلاف الحاصل بينهم في التفسير.

ثم تكلم عن أنواع التفسير بالرواية والدراية، التفسير بالمنقول والتفسير بالرأي.

ثم تكلم في فصل عن أهمية تفسير التابعين. وركز الكلام على أهمية تفسير الصحابة.

ثم ختم الكلام عن خطر التفسير بالرأي.

مورداً أثناء ذلك جملة من القواعد والفوائد، مما أثرى كتابه وجعله متميزاً على غيره من الكتب.

تعريف (أصول التفسير):

(أصول التفسير) علم مركب إضافي، لابد عند تعريفه من تعريف المضاف على حده، ثم يُعرّف المضاف إليه، ثم يعرف العلم بإضافة أحد اللفظين إلى الآخر. فأقول:

الأصل في اللغة : ما ينبني عليه غيره ، وقد يطلق في اللغة ويراد به : القاعدة .

والقاعدة هي : القضية الكلية المحيطة بمجموعة جزئياتها( ).

والتفسير في اللغة : الكشف والبيان .

وفي اصطلاح العلماء هو : معرفة مراد الله عز وجل من كلامه المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بحسب الطاقة البشرية .

وبإضافة لفظة (أصول) إلى (التفسير) ينتج عندنا أن (أصول التفسير) هي القضايا الكلية المحيطة بجزئياتها والتي ينبني عليها فهم القرآن ومعرفة مراد الله بحسب الطاقة البشرية .

فموضوع الكتاب : ذكر القواعد والأصول التي ينبني عليها فهم القرآن الكريم بمعنى : أن من أحاط علماً بهذه القواعد سهل عليه التعامل مع القرآن الكريم.

والذي لاحظته : أن هذا الكتاب - أعني: (مقدمة في أصول التفسير) - مَنْ أحسن قراءته وفهمه استطاع أن يتعامل مع كتب التفسير بالمأثور، خاصة مع أقوال السلف المتنوعة في تفسير الآيات ويعرف كيف يستفيد منها.

وعِلْم أصول التفسير من العلوم المعروفة المتداولة عند أهل العلم يعرف بقواعد التفسير، ويسمى بعلوم القرآن.

هذا العلم مرَّ في نشأته حتى أصبح مفرداً مستقلاً بمصنفات و تآليف بأربعة أحوال :

الحال الأولى : كان عبارة عن قواعد مبثوثة في ثنايا كلام السلف رضوان الله عليهم في الأحاديث والتفسير كلمة هنا عن ابن عباس، كلمة هنا عن ابن مسعود، حديث يدخل في قواعد التفسير، قضايا مبثوثة، أول صورة بدأ فيها هذا العلم ونشأ فيها هذا العلم على هيئة قضايا مبثوثة في ثنايا الحديث والتفسير .

المرحلة الثانية : صار العلماء يجعلون الكلام عن أصول التفسير في مقدمات تفاسيرهم، فلما يأتي واحد منهم ويؤلف تفسيراً يجعل في مقدمة التفسير الكلام عن شئ من أصول التفسير.

المرحلة الثالثة : أفردوا فيها أنواعاً من هذا العلم بالتصنيف فتجد هناك كتاب في ناسخ القرآن ومنسوخه وتجد هناك كتاب في مبهمات القرآن وهكذا .  

المرحلة الرابعة : أفرد فيها هذا العلم بالتأليف وكانت على صورتين :

1- جاءت مؤلفات ومصنفات جمعت مجموعة من أنواعه دون استقصاء مثل : كتاب (فنون الأفنان) لابن الجوزي المتوفى سنة 597 هـ فإنه جمع جملة من القواعد المتعلقة بهذا العلم : أصول التفسير لكنه لم يستقص.

2- صورة التأليف المفرد في هذا العلم ولكن بهيئة استقصاء للتعريف بالنوع لا مفردات النوع . فمثلاً يعرِّف بناسخ القرآن ومنسوخه لكن يورد كل مفردات ناسخ القرآن ومنسوخه ، ويمثل هذه الصورة الجامعة كتاب : (البرهان في علوم القرآن للزركشي) ، وكتاب : (الإتقان في علوم القرآن) للسيوطي

وهذه المراحل الأربع متداخلة فقد يوجد من حيث التسلسل التاريخي مصنفات مفردة قبل مقدمات التفاسير ولكن مرادي بيان الهيئة العامة لنشأة هذا العلم كتأليف.

ويعتبر هذا الكتاب (مقدمة في أصول التفسير) من الكتب المصنفة في علوم القرآن، لكن بغير استقصاء لجميع الأنواع، وبغير استقصاء للمسائل المتعلقة بتعريف النوع.

استمداد هذا العلم : من كلام الله ومن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كلام الصحابة والتابعين . وكل القواعد التي ستمر علينا هي مستمدة من هذه الأصول والموضوعات

ومسائله : هي المسائل التي تتعلق بالقرآن من جهة ما يبين معناه، كسبب النزول واختلاف أقاويل السلف في الآية والمطلق والمقيد والعام والخاص.

شرح كتاب

 مقدَّمة في أصول التفسير 

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحرَّاني رحمه الله تعالى :

بسم الله الرحمن الرحيم(1)

رَبِّ يَسِّرْ وَأَعِنْ بِرَحْمَتِك

الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا(2).

أَمَّا بَعْدُ :

فَقَدْ سَأَلَنِي بَعْضُ الْإِخْوَانِ أَنْ أَكْتُبَ لَهُ مُقَدِّمَةً( ) تَتَضَمَّنُ قَوَاعِدَ كُلِّيَّةً تُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ( ).

وَمَعْرِفَةِ تَفْسِيرِهِ وَمَعَانِيهِ(1)

وَالتَّمْيِيزِ فِي مَنْقُولِ ذَلِكَ وَمَعْقُولِهِ(1) بَيْنَ الْحَقِّ وَأَنْوَاعِ الْأَبَاطِيلِ(2) وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الدَّلِيلِ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْأَقَاوِيلِ(3); فَإِنَّ الْكُتُبَ الْمُصَنَّفَةَ فِي التَّفْسِيرِ مَشْحُونَةٌ بِالْغَثِّ وَالسَّمِينِ وَالْبَاطِلِ الْوَاضِحِ وَالْحَقِّ الْمُبِينِ. وَالْعِلْمُ إمَّا نَقْلٌ مُصَدَّقٌ عَنْ مَعْصُومٍ وَإِمَّا قَوْلٌ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مَعْلُومٌ(1) وَمَا سِوَى هَذَا فَإِمَّا مُزَيَّفٌ مَرْدُودٌ وَإِمَّا مَوْقُوفٌ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ بَهْرَجٌ وَلَا مَنْقُودٌ . وَحَاجَةُ الْأُمَّةِ مَاسَّةٌ إلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسُنُ وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ التَّرْدِيدِ وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ(2)

وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ  مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ( )وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ وَمَنْ دَعَا إلَيْهِ هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَمَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ. قَالَ تَعَالَى : ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى.وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً. قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ (طـه:123-126)( ).

وَقَالَ تَعَالَى : ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (المائدة:15-16)( ).

وَقَالَ تَعَالَى : ﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ (إبراهيم:1-2)( ).

وَقَالَ تَعَالَى : ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ (الشورى:51-52)( ).

وَقَدْ كَتَبْت هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ مُخْتَصَرَةً( )بِحَسَبِ تَيْسِيرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ إمْلَاءِ

الْفُؤَادِ( )وَاَللَّهُ الْهَادِي إلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ . 

 فَصْلٌ يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ لِأَصْحَابِهِ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ كَمَا بَيَّنَ لَهُمْ أَلْفَاظَهُ

 فَقَوْلُهُ تَعَالَى : ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ﴾ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا(1).

وَقَدْ قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ : كَعُثْمَانِ بْنِ عفان وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا : فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا; وَلِهَذَا كَانُوا يَبْقَوْنَ مُدَّةً فِي حِفْظِ السُّورَةِ( ).

وَقَالَ أَنَسٌ : كَانَ الرَّجُلُ إذَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ جَلَّ فِي أَعْيُنِنَا( ).

وَأَقَامَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى حِفْظِ الْبَقَرَةِ عِدَّةَ سِنِينَ قِيلَ: ثَمَانِ سِنِينَ ذَكَرَهُ مَالِكٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ وَقَالَ : ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ وَقَالَ: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ﴾ وَتَدَبُّرُ الْكَلَامِ بِدُونِ فَهْمِ مَعَانِيهِ لَا يُمْكِنُ( ).

وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : ﴿إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ وَعَقْلُ الْكَلَامِ مُتَضَمِّنٌ لِفَهْمِه( ).

وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ فَهْمُ مَعَانِيهِ دُونَ مُجَرَّدِ أَلْفَاظِهِ فَالْقُرْآنُ أَوْلَى بِذَلِكَ( ).

وَأَيْضًا فَالْعَادَةُ تَمْنَعُ أَنْ يَقْرَأَ قَوْمٌ كِتَابًا فِي فَنٍّ مِنْ الْعِلْمِ كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَلَا يستشرحوه فَكَيْفَ بِكَلَامِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ عِصْمَتُهُمْ وَبِهِ نَجَاتُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ وَقِيَامُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ؟( ).

وَلِهَذَا كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ قَلِيلًا جِدًّا وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي التَّابِعِينَ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الصَّحَابَةِ فَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ بَعْدَهُمْ( ).

وَكُلَّمَا كَانَ الْعَصْرُ أَشْرَفَ كَانَ الِاجْتِمَاعُ والائتلاف وَالْعِلْمُ وَالْبَيَانُ فِيهِ أَكْثَرَ وَمِنْ التَّابِعِينَ مَنْ تَلَقَّى جَمِيعَ التَّفْسِيرِ عَنْ الصَّحَابَةِ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا؛

وَلِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ : إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ.

وَلِهَذَا يَعْتَمِدُ عَلَى تَفْسِيرِهِ الشَّافِعِيُّ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي التَّفْسِيرِ يُكَرِّرُ الطُّرُقَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّابِعِينَ تَلَقَّوْا التَّفْسِيرَ عَنْ الصَّحَابَةِ كَمَا تَلَقَّوْا عَنْهُمْ عِلْمَ  السُّنَّةِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَتَكَلَّمُونَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالِاسْتِدْلَالِ كَمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي بَعْضِ السُّنَنِ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالِاسْتِدْلَالِ.

 فَصْل الْخِلَافُ بَيْنَ السَّلَفِ فِي التَّفْسِيرِ قَلِيلٌ وَخِلَافُهُمْ فِي الْأَحْكَامِ أَكْثَرُ مِنْ خِلَافِهِمْ فِي التَّفْسِيرِ

وَغَالِبُ مَا يَصِحُّ عَنْهُمْ مِنْ الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى اخْتِلَافِ تَنَوُّعٍ لَا اخْتِلَافِ تَضَادٍّ وَذَلِكَ صِنْفَانِ

( ): "أَحَدُهُمَا": أَنْ يُعَبِّرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ الْمُرَادِ بِعِبَارَةِ غَيْرِ عِبَارَةِ صَاحِبِهِ تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى فِي الْمُسَمَّى غَيْرِ الْمَعْنَى الْآخَرِ مَعَ اتِّحَادِ الْمُسَمَّى بِمَنْزِلَةِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَكَافِئَةِ الَّتِي بَيْنَ الْمُتَرَادِفَةِ وَالْمُتَبَايِنَةِ. كَمَا قِيلَ فِي اسْمِ السَّيْفِ: الصَّارِمُ وَالْمُهَنَّدُ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَأَسْمَاءِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَسْمَاءِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ كُلَّهَا تَدُلُّ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ( ) فَلَيْسَ دُعَاؤُهُ بِاسْمِ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مُضَادًّا لِدُعَائِهِ بِاسْمِ آخَرَ;

بَلْ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾.

وَكُلُّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ الْمُسَمَّاةِ وَعَلَى الصِّفَةِ الَّتِي  تَضَمَّنَهَا الِاسْمُ( ).

كَالْعَلِيمِ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالْعِلْمِ.

وَالْقَدِيرُ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالْقُدْرَةِ.

وَالرَّحِيمُ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالرَّحْمَةِ( ).

وَمَنْ أَنْكَرَ دَلَالَةَ أَسْمَائِهِ عَلَى صِفَاتِهِ مِمَّنْ يَدَّعِي الظَّاهِرَ : فَقَوْلُهُ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ غُلَاةِ الْبَاطِنِيَّةِ الْقَرَامِطَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَا يُقَالُ هُوَ حَيٌّ وَلَا لَيْسَ بِحَيِّ ; بَلْ يَنْفُونَ عَنْهُ النَّقِيضَيْنِ ; فَإِنَّ أُولَئِكَ الْقَرَامِطَةَ الْبَاطِنِيَّةَ لَا يُنْكِرُونَ اسْمًا هُوَ عِلْمٌ مَحْضٌ كَالْمُضْمَرَاتِ وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مِنْ صِفَاتِ الْإِثْبَاتِ؛

فَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى مَقْصُودِهِمْ كَانَ مَعَ دَعْوَاهُ الْغُلُوَّ فِي الظَّاهِرِ مُوَافِقًا لِغُلَاةِ الْبَاطِنِيَّةِ فِي ذَلِكَ. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ( ).

وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ وَعَلَى مَا فِي الِاسْمِ مِنْ صِفَاتِهِ،  وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي فِي الِاسْمِ الْآخَرِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ.

وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلُ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَد وَالْمَاحِي وَالْحَاشِرِ وَالْعَاقِبِ.

وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ : مِثْلُ الْقُرْآنِ وَالْفُرْقَانِ وَالْهُدَى وَالشِّفَاءِ وَالْبَيَانِ وَالْكِتَابِ . وَأَمْثَالِ ذَلِكَ( ).

فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ السَّائِلِ تَعْيِينَ الْمُسَمَّى عَبَّرْنَا عَنْهُ بِأَيِّ اسْمٍ كَانَ إذَا عُرِفَ مُسَمَّى هَذَا الِاسْمِ.

وَقَدْ يَكُونُ الِاسْمُ عَلَمًا وَقَدْ يَكُونُ صِفَةً كَمَنْ يَسْأَلُ عَنْ قَوْلِهِ : ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ مَا ذِكْرُهُ ؟

فَيُقَالُ لَهُ : هُوَ الْقُرْآنُ مَثَلًا أَوْ هُوَ مَا أَنْزَلَهُ مِنْ الْكُتُبِ . فَإِنَّ الذِّكْرَ مَصْدَرٌ . وَالْمَصْدَرُ تَارَةً يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ وَتَارَةً إلَى الْمَفْعُولِ. 

فَإِذَا قِيلَ ذِكْرُ اللَّهِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي كَانَ مَا يُذْكَرُ بِهِ مِثْلَ قَوْلِ الْعَبْدِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ.

وَإِذَا قِيلَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ كَانَ مَا يَذْكُرُهُ هُوَ وَهُوَ كَلَامُهُ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ : ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ وَهُدَاهُ هُوَ مَا أَنْزَلَهُ مِنْ الذِّكْرِ وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا﴾ ﴿قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا﴾.

وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الذِّكْرَ هُوَ كَلَامُهُ الْمُنَزَّلُ أَوْ هُوَ ذِكْرُ الْعَبْدِ لَهُ فَسَوَاءٌ قِيلَ ذِكْرِي كِتَابِي أَوْ كَلَامِي أَوْ هُدَايَ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ كَانَ الْمُسَمَّى وَاحِدًا.

وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ السَّائِلِ مَعْرِفَةَ مَا فِي الِاسْمِ مِنْ الصِّفَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى تَعْيِينِ الْمُسَمَّى مِثْلَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الْقُدُّوسِ السَّلَامِ الْمُؤْمِنِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ اللَّهُ ; لَكِنَّ مُرَادَهُ مَا مَعْنَى كَوْنِهِ قُدُّوسًا سَلَامًا مُؤْمِنًا وَنَحْوَ ذَلِكَ . إذَا عُرِفَ هَذَا فَالسَّلَفُ كَثِيرًا مَا يُعَبِّرُونَ عَنْ الْمُسَمَّى بِعِبَارَةِ تَدُلُّ عَلَى عَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الصِّفَةِ مَا لَيْسَ فِي الِاسْمِ الْآخَرِ كَمَنْ يَقُولُ : أَحْمَد هُوَ الْحَاشِرُ وَالْمَاحِي وَالْعَاقِبُ , وَالْقُدُّوسُ هُوَ الْغَفُورُ  وَالرَّحِيمُ أَيْ أَنَّ الْمُسَمَّى وَاحِدٌ لَا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ هَذِهِ الصِّفَةُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ اخْتِلَافَ تَضَادٍّ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ.

مِثَالُ ذَلِكَ تَفْسِيرُهُمْ لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛

فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ " الْقُرْآنُ ": أَيْ اتِّبَاعُهُ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ: "هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ"( ).

وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ " الْإِسْلَامُ "؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ :  "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَعَلَى جَنَبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ وَفِي السُّورَيْنِ أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ وَدَاعٍ يَدْعُو عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ قَالَ : فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْإِسْلَامُ وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللَّهِ وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ وَالدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ".

فَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مُتَّفِقَانِ( ); لِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ، وَلَكِنْ كُلٌّ مِنْهُمَا نَبَّهَ عَلَى وَصْفٍ غَيْرِ الْوَصْفِ الْآخَرِ، كَمَا أَنَّ لَفْظَ "صِرَاطٍ" يُشْعِرُ بِوَصْفِ ثَالِثٍ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : هُوَ " السُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ ".

وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : "هُوَ طَرِيقُ الْعُبُودِيَّةِ".

وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : "هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ"صلى الله عليه وسلم.

وَأَمْثَالُ ذَلِكَ( ). فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ أَشَارُوا إلَى ذَاتٍ وَاحِدَةٍ ; لَكِنْ وَصَفَهَا كُلٌّ مِنْهُمْ بِصِفَةِ مِنْ صِفَاتِهَا .

"الصِّنْفُ الثَّانِي"( ): أَنْ يَذْكُرَ كُلٌّ مِنْهُمْ مِنْ الِاسْمِ الْعَامِّ بَعْضَ أَنْوَاعِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَتَنْبِيهِ الْمُسْتَمِعِ عَلَى النَّوْعِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَدِّ الْمُطَابِقِ لِلْمَحْدُودِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ.

مِثْلَ سَائِلٍ أَعْجَمِيٍّ سَأَلَ عَنْ مُسَمَّى "لَفْظِ الْخُبْزِ" فَأُرِيَ رَغِيفًا وَقِيلَ لَهُ : هَذَا. فَالْإِشَارَةُ إلَى نَوْعِ هَذَا لَا إلَى هَذَا الرَّغِيفِ وَحْدَهُ.

مِثَالُ ذَلِكَ مَا نُقِلَ فِي قَوْلِهِ : ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾؛

فَمَعْلُومٌ أَنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ يَتَنَاوَلُ الْمُضَيِّعَ لِلْوَاجِبَاتِ وَالْمُنْتَهِكَ لِلْمُحَرَّمَاتِ( ).

وَالْمُقْتَصِدُ يَتَنَاوَلُ فَاعِلَ الْوَاجِبَاتِ وَتَارِكَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالسَّابِقُ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ سَبَقَ فَتَقَرَّبَ بِالْحَسَنَاتِ مَعَ الْوَاجِبَاتِ. فَالْمُقْتَصِدُونَ هُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾، ثُمَّ إنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَذْكُرُ هَذَا فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ : السَّابِقُ الَّذِي يُصَلِّي فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ( )وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يُصَلِّي فِي أَثْنَائِهِ وَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ الَّذِي يُؤَخِّرُ الْعَصْرَ إلَى الِاصْفِرَارِ.

وَيَقُولُ [ الْآخَرُ ]: السَّابِقُ وَالْمُقْتَصِدُ وَالظَّالِمُ قَدْ ذَكَرَهُمْ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْمُحْسِنَ بِالصَّدَقَةِ وَالظَّالِمَ بِأَكْلِ الرِّبَا وَالْعَادِلَ بِالْبَيْعِ وَالنَّاسُ فِي الْأَمْوَالِ إمَّا مُحْسِنٌ وَإِمَّا عَادِلٌ وَإِمَّا ظَالِمٌ؛ فَالسَّابِقُ الْمُحْسِنُ بِأَدَاءِ  الْمُسْتَحَبَّاتِ مَعَ الْوَاجِبَاتِ وَالظَّالِمُ آكِلُ الرِّبَا أَوْ مَانِعُ الزَّكَاةِ وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَلَا يَأْكُلُ الرِّبَا.

وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ.

فَكُلُّ قَوْلٍ فِيهِ ذِكْرُ نَوْعٍ دَاخِلٍ فِي الْآيَةِ ذُكِرَ لِتَعْرِيفِ الْمُسْتَمِعِ بِتَنَاوُلِ الْآيَةِ لَهُ وَتَنْبِيهِهِ بِهِ عَلَى نَظِيرِهِ; فَإِنَّ التَّعْرِيفَ بِالْمِثَالِ قَدْ يَسْهُلُ أَكْثَرَ مِنْ التَّعْرِيفِ بِالْحَدِّ الْمُطْلَقِ( ).

وَالْعَقْلُ السَّلِيمُ يَتَفَطَّنُ لِلنَّوْعِ كَمَا يَتَفَطَّنُ إذَا أُشِيرَ لَهُ إلَى رَغِيفٍ فَقِيلَ لَهُ : هَذَا هُوَ الْخُبْزُ.

وَقَدْ يَجِيءُ كَثِيرًا مِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي كَذَا لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَذْكُورُ شَخْصًا ; كَأَسْبَابِ النُّزُولِ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّفْسِيرِ.

كَقَوْلِهِمْ : إنَّ آيَةَ الظِّهَارِ نَزَلَتْ فِي امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ.

وَإِنَّ آيَةَ اللِّعَانِ نَزَلَتْ فِي عويمر العجلاني أَوْ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ.

وَأَنَّ آيَةَ الْكَلَالَةِ نَزَلَتْ فِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.

وَأَنَّ قَوْلَهُ : ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ.

وَأَنَّ قَوْلَهُ : ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾ نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ.

وَأَنَّ قَوْلَهُ : ﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ تَمِيمٍ الداري وَعَدِيِّ بْنِ بَدَاءٍ.

وَقَوْلَ أَبِي أَيُّوبَ إنَّ قَوْلَهُ : ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ﴾ نَزَلَتْ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ الْحَدِيثَ.

وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرٌ مِمَّا يَذْكُرُونَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي قَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ أَوْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ فِي قَوْمٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ؛

فَاَلَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ لَمْ يَقْصِدُوا أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ مُخْتَصٌّ بِأُولَئِكَ الْأَعْيَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ; فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَلَا عَاقِلٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ(1).

وَالنَّاسُ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ هَلْ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ أَمْ لَا ؟ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ عمومات الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَخْتَصُّ بِالشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا يُقَالُ إنَّهَا تَخْتَصُّ بِنَوْعِ ذَلِكَ الشَّخْصِ فَيَعُمُّ مَا يُشْبِهُهُ وَلَا يَكُونُ الْعُمُومُ فِيهَا بِحَسَبِ اللَّفْظِ.

وَالْآيَةُ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مُعَيَّنٌ إنْ كَانَتْ أَمْرًا وَنَهْيًا فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَلِغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ بِمَنْزِلَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ خَبَرًا بِمَدْحِ أَوْ ذَمٍّ فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ

بِمَنْزِلَتِهِ [ أَيْضًا ]( ).

وَمَعْرِفَةُ " سَبَبِ النُّزُولِ " يُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْآيَةِ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالسَّبَبِ يُورِثُ الْعِلْمَ بِالْمُسَبِّبِ ; وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ مَا نَوَاهُ الْحَالِفُ رُجِعَ إلَى سَبَبِ يَمِينِهِ وَمَا هَيَّجَهَا وَأَثَارَهَا( ).

وَقَوْلُهُمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا يُرَادُ بِهِ تَارَةً أَنَّهُ سَبَبُ النُّزُولِ وَيُرَادُ بِهِ تَارَةً أَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ السَّبَبُ كَمَا تَقُولُ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ كَذَا( ).

 وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِ الصَّاحِبِ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْنَدِ كَمَا يَذْكُرُ السَّبَبَ الَّذِي أُنْزِلَتْ لِأَجْلِهِ أَوْ يَجْرِي مَجْرَى التَّفْسِيرِ مِنْهُ الَّذِي لَيْسَ بِمُسْنَدِ؟

فَالْبُخَارِيُّ يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرُهُ لَا يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ، وَأَكْثَرُ الْمَسَانِدِ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ كَمُسْنَدِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ; بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَ سَبَبًا نَزَلَتْ عَقِبَهُ فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ يُدْخِلُونَ مِثْلَ هَذَا فِي الْمُسْنَدِ( ).

وَإِذَا عُرِفَ هَذَا؛ فَقَوْلُ أَحَدِهِمْ: نَزَلَتْ فِي كَذَا، لَا يُنَافِي قَوْلَ الْآخَرِ نَزَلَتْ فِي كَذَا إذَا كَانَ اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُهُمَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ بِالْمِثَالِ. وَإِذَا ذَكَرَ أَحَدُهُمْ لَهَا سَبَبًا نَزَلَتْ لِأَجْلِهِ وَذَكَرَ الْآخَرُ سَبَبًا ; فَقَدْ يُمْكِنُ صِدْقُهُمَا بِأَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ عَقِبَ تِلْكَ الْأَسْبَابِ، أَوْ تَكُونَ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً لِهَذَا السَّبَبِ وَمَرَّةً لِهَذَا السَّبَبِ( ).

وَهَذَانِ الصِّنْفَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي تَنَوُّعِ التَّفْسِيرِ:

تَارَةً لِتَنَوُّعِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.

وَتَارَةً لِذِكْرِ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْمُسَمَّى وَأَقْسَامِهِ كَالتَّمْثِيلَاتِ؛

هُمَا الْغَالِبُ فِي تَفْسِيرِ سَلَفِ الْأُمَّةِ الَّذِي يُظَنُّ أَنَّهُ مُخْتَلِفٌ.

وَمِنْ التَّنَازُعِ الْمَوْجُودِ عَنْهُمْ مَا يَكُونُ اللَّفْظُ فِيهِ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ;

إمَّا لِكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا فِي اللَّفْظِ كَلَفْظِ (قَسْوَرَةٍ) الَّذِي يُرَادُ بِهِ الرَّامِي وَيُرَادُ بِهِ الْأَسَدُ. وَلَفْظِ (عَسْعَسَ) الَّذِي يُرَادُ بِهِ إقْبَالُ اللَّيْلِ وَإِدْبَارُهُ.

وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُتَوَاطِئًا فِي الْأَصْلِ لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ أَوْ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ كَالضَّمَائِرِ فِي قَوْلِهِ : ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى﴾، ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ وَكَلَفْظِ : ﴿وَالْفَجْرِ. وَلَيَالٍ عَشْرٍ. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛

فَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كُلُّ الْمَعَانِي الَّتِي قَالَهَا السَّلَفُ، وَقَدْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛

فَالْأَوَّلُ إمَّا لِكَوْنِ الْآيَةِ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ فَأُرِيدَ بِهَا هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً.

وَإِمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعْنَيَاهُ إذْ قَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنْبَلِيَّةُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ.

وَإِمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُتَوَاطِئًا فَيَكُونُ عَامًّا إذَا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهِ مُوجِبٌ فَهَذَا النَّوْعُ إذَا صَحَّ فِيهِ الْقَوْلَانِ كَانَ مِنْ الصِّنْفِ الثَّانِي( ).

وَمِنْ الْأَقْوَالِ الْمَوْجُودَةِ عَنْهُمْ وَيَجْعَلُهَا بَعْضُ النَّاسِ اخْتِلَافًا أَنْ يُعَبِّرُوا عَنْ الْمَعَانِي بِأَلْفَاظِ مُتَقَارِبَةٍ لَا مُتَرَادِفَةٍ فَإِنَّ التَّرَادُفَ فِي اللُّغَةِ قَلِيلٌ( ).

وَأَمَّا فِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ فَإِمَّا نَادِرٌ وَإِمَّا مَعْدُومٌ( ).

 وَقَلَّ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ بِلَفْظِ وَاحِدٍ يُؤَدِّي جَمِيعَ مَعْنَاهُ ; بَلْ يَكُونُ فِيهِ تَقْرِيبٌ لِمَعْنَاهُ وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ إعْجَازِ الْقُرْآنِ( ).

فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا﴾إنَّ الْمَوْرَ هُوَ الْحَرَكَةُ كَانَ تَقْرِيبًا إذْ الْمَوْرُ حَرَكَةٌ خَفِيفَةٌ سَرِيعَةٌ( )

وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : " الْوَحْيُ " الْإِعْلَامُ، أَوْ قِيلَ: ﴿أَوْحَيْنَا إلَيْكَ﴾ أَنْزَلْنَا إلَيْك أَوْ قِيلَ : ﴿وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرائِيلَ﴾ أَيْ أَعْلَمْنَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ؛ فَهَذَا كُلُّهُ تَقْرِيبٌ لَا تَحْقِيقٌ، فَإِنَّ الْوَحْيَ هُوَ إعْلَامٌ سَرِيعٌ خَفِيٌّ، وَالْقَضَاءُ إلَيْهِمْ أَخَصُّ مِنْ الْإِعْلَامِ فَإِنَّ فِيهِ إنْزَالًا إلَيْهِمْ وَإِيحَاءً إلَيْهِمْ( ).

وَالْعَرَبُ تُضَمِّنُ الْفِعْلَ مَعْنَى الْفِعْلِ وَتُعَدِّيهِ تَعْدِيَتَهُ وَمِنْ هُنَا غَلِطَ مَنْ جَعَلَ بَعْضَ الْحُرُوفِ تَقُومُ مَقَامَ بَعْضٍ كَمَا يَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ : ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ﴾ أَيْ مَعَ نِعَاجِهِ و ﴿مَنْ أَنْصَارِي إلَى اللَّهِ﴾ أَيْ مَعَ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ( ).

وَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَهُ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ مِنْ التَّضْمِينِ فَسُؤَالُ النَّعْجَةِ يَتَضَمَّنُ جَمْعَهَا وَضَمَّهَا إلَى نِعَاجِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ﴾ضُمِّنَ مَعْنَى يُزِيغُونَك وَيَصُدُّونَك( ).

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ ضُمِّنَ مَعْنَى نَجَّيْنَاهُ وَخَلَّصْنَاهُ( ). وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : ﴿يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ ضُمِّنَ يُرْوَى بِهَا وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ( ).

وَمَنْ قَالَ: "لَا رَيْبَ لَا شَكَّ" فَهَذَا تَقْرِيبٌ، وَإِلَّا فَالرَّيْبُ فِيهِ اضْطِرَابٌ وَحَرَكَةٌ( )، كَمَا قَالَ : "دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك"، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ: "مَرَّ بِظَبْيٍ حَاقِفٍ فَقَالَ: لَا يَرِيبُهُ أَحَدٌ"( )، فَكَمَا أَنَّ الْيَقِينَ ضُمِّنَ السُّكُونَ وَالطُّمَأْنِينَةَ فَالرَّيْبُ ضِدُّهُ ضُمِّنَ الِاضْطِرَابَ وَالْحَرَكَةَ.

وَلَفْظُ "الشَّكِّ" وَإِنْ قِيل: إنَّهُ يَسْتَلْزِمُ هَذَا الْمَعْنَى; لَكِنَّ لَفْظَهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.

وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : ذَلِكَ الْكِتَابُ هَذَا الْقُرْآنُ فَهَذَا تَقْرِيبٌ; لِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَالْإِشَارَةُ بِجِهَةِ الْحُضُورِ غَيْرُ الْإِشَارَةِ بِجِهَةِ الْبُعْدِ وَالْغَيْبَةِ وَلَفْظُ "الْكِتَابِ" يَتَضَمَّنُ مِنْ كَوْنِهِ مَكْتُوبًا مَضْمُومًا مَا لَا يَتَضَمَّنُهُ لَفْظُ الْقُرْآنِ مِنْ كَوْنِهِ مَقْرُوءًا مُظْهَرًا بَادِيًا فَهَذِهِ الْفُرُوقُ مَوْجُودَةٌ فِي الْقُرْآنِ( )، فَإِذَا قَالَ أَحَدُهُمْ : ﴿أَنْ تُبْسَلَ﴾ أَيْ تَحْبِسَ وَقَالَ الْآخَرُ : تُرْتَهَنَ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ اخْتِلَافِ التَّضَادِّ وَإِنْ كَانَ الْمَحْبُوسُ قَدْ يَكُونُ مُرْتَهَنًا وَقَدْ لَا يَكُونُ إذْ هَذَا تَقْرِيبٌ لِلْمَعْنَى كَمَا تَقَدَّمَ( ).

وَجَمْعُ عِبَارَاتِ السَّلَفِ فِي مِثْلِ هَذَا نَافِعٌ جِدًّا ; فَإِنَّ مَجْمُوعَ عِبَارَاتِهِمْ أَدَلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْ عِبَارَةٍ أَوْ عِبَارَتَيْنِ وَمَعَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِلَافٍ مُحَقَّقٍ بَيْنَهُمْ كَمَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ( ).

وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ عَامَّةَ مَا يُضْطَرُّ إلَيْهِ عُمُومُ النَّاسِ مِنْ الِاخْتِلَافِ مَعْلُومٌ بَلْ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَوْ الْخَاصَّةِ كَمَا فِي عَدَدِ الصَّلَوَاتِ وَمَقَادِيرِ رُكُوعِهَا وَمَوَاقِيتِهَا وَفَرَائِضِ الزَّكَاةِ وَنُصُبِهَا وَتَعْيِينِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَالطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَالْمَوَاقِيتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ( ).  ثُمَّ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ وَفِي الْمُشَرَّكَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ رَيْبًا فِي جُمْهُورِ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ( )بَلْ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ عَامَّةُ النَّاسِ هُوَ عَمُودُ النَّسَبِ مِنْ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْكَلَالَةِ ; مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَمِنْ نِسَائِهِمْ كَالْأَزْوَاجِ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِي الْفَرَائِضِ ثَلَاثَ آيَاتٍ مُفَصَّلَةٍ  ذَكَرَ فِي الْأُولَى الْأُصُولَ وَالْفُرُوعَ وَذَكَرَ فِي الثَّانِيَةِ الْحَاشِيَةَ الَّتِي تَرِثُ بِالْفَرْضِ كَالزَّوْجَيْنِ وَوَلَدِ الْأُمِّ وَفِي الثَّالِثَةِ الْحَاشِيَةَ الْوَارِثَةَ بِالتَّعْصِيبِ وَهُمْ الْإِخْوَةُ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ وَاجْتِمَاعُ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ نَادِرٌ ; وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَالِاخْتِلَافُ قَدْ يَكُونُ لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ أَوْ لِذُهُولِ عَنْهُ وَقَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ سَمَاعِهِ وَقَدْ يَكُونُ لِلْغَلَطِ فِي فَهْمِ النَّصِّ وَقَدْ يَكُونُ لِاعْتِقَادِ مُعَارِضٍ رَاجِحٍ فَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّعْرِيفُ بِجُمَلِ الْأَمْرِ دُونَ تَفَاصِيلِهِ( ).

 فَصْلٌ الِاخْتِلَافُ فِي التَّفْسِيرِ عَلَى " نَوْعَيْنِ " مِنْهُ مَا مُسْتَنَدُهُ النَّقْلُ فَقَطْ وَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ بِغَيْرِ ذَلِكَ؛

إذْ الْعِلْمُ؛

إمَّا نَقْلٌ مُصَدَّقٌ.

وَإِمَّا اسْتِدْلَالٌ مُحَقَّقٌ .

وَالْمَنْقُولُ؛

إمَّا عَنْ الْمَعْصُومِ.

وَإِمَّا عَنْ غَيْرِ الْمَعْصُومِ .

وَالْمَقْصُودُ بِأَنَّ جِنْسَ الْمَنْقُولِ - سَوَاءٌ كَانَ عَنْ الْمَعْصُومِ أَوْ غَيْرِ الْمَعْصُومِ وَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ - مِنْهُ مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ وَالضَّعِيفِ وَمِنْهُ مَا لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ فِيهِ.

وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْمَنْقُولِ، وَهُوَ مَا لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى الْجَزْمِ بِالصِّدْقِ مِنْهُ؛ عَامَّتُهُ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَالْكَلَامُ فِيهِ مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ. 

وَأَمَّا مَا يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ نَصَبَ عَلَى الْحَقِّ فِيهِ دَلِيلًا( ).

فَمِثَالُ مَا لَا يُفِيدُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهُ اخْتِلَافُهُمْ فِي لَوْنِ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ.

وَفِي الْبَعْضِ الَّذِي ضَرَبَ بِهِ مُوسَى مِنْ الْبَقَرَةِ.

وَفِي مِقْدَارِ سَفِينَةِ نُوحٍ وَمَا كَانَ خَشَبُهَا.

وَفِي اسْمِ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ.

 وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْأُمُورُ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهَا النَّقْلُ فَمَا كَانَ مِنْ هَذَا مَنْقُولًا نَقْلًا صَحِيحًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم - كَاسْمِ صَاحِبِ مُوسَى أَنَّهُ الْخَضِرُ - فَهَذَا مَعْلُومٌ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ كَانَ مِمَّا يُؤْخَذُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ( )، - كَالْمَنْقُولِ عَنْ كَعْبٍ وَوَهْبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَأْخُذُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ - فَهَذَا لَا يَجُوزُ تَصْدِيقُهُ وَلَا تَكْذِيبُهُ إلَّا بِحُجَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : "إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ فَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِحَقِّ فَتُكَذِّبُوهُ وَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِبَاطِلِ فَتُصَدِّقُوهُ" ( ).

وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَمَتَى اخْتَلَفَ التَّابِعُونَ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ أَقْوَالِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ.

وَمَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ نَقْلًا صَحِيحًا فَالنَّفْسُ إلَيْهِ أَسْكَنُ مِمَّا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ؛

لِأَنَّ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ أَقْوَى.

وَلِأَنَّ نَقْلَ الصَّحَابَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَقَلُّ مِنْ نَقْلِ التَّابِعِينَ.

وَمَعَ جَزْمِ  الصَّاحِبِ فِيمَا يَقُولُهُ فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ نُهُوا عَنْ تَصْدِيقِهِمْ؟( ).

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاخْتِلَافِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ صَحِيحُهُ وَلَا تُفِيدُ حِكَايَةُ الْأَقْوَالِ فِيهِ هُوَ كَالْمَعْرِفَةِ لِمَا يُرْوَى مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.

وَأَمَّا " الْقِسْمُ الْأَوَّلُ " الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ فَهَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ فَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْمَغَازِي أُمُورٌ مَنْقُولَةٌ عَنْ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ وَالنَّقْلُ الصَّحِيحُ يَدْفَعُ ذَلِكَ ; بَلْ هَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا مُسْتَنَدُهُ النَّقْلُ وَفِيمَا قَدْ يُعْرَفُ بِأُمُورِ أُخْرَى غَيْرِ النَّقْلِ( ).

فَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمَنْقُولَاتِ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الدِّينِ قَدْ نَصَبَ اللَّهُ الْأَدِلَّةَ عَلَى بَيَانِ مَا فِيهَا مِنْ صَحِيحٍ وَغَيْرِهِ( ).

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَنْقُولَ فِي التَّفْسِيرِ أَكْثَرُهُ كَالْمَنْقُولِ فِي الْمَغَازِي وَالْمَلَاحِمِ; وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد ثَلَاثَةُ أُمُورٍ لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ : التَّفْسِيرُ وَالْمَلَاحِمُ وَالْمَغَازِي وَيُرْوَى لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ أَيْ إسْنَادٌ( ); لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا الْمَرَاسِيلُ مِثْلُ مَا يَذْكُرُهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ إسْحَاقَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ والواقدي وَنَحْوِهِمْ فِي الْمَغَازِي;

فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالْمَغَازِي أَهْلُ الْمَدِينَةِ،

ثُمَّ أَهْلُ الشَّامِ،

ثُمَّ أَهْلُ الْعِرَاقِ؛

فَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَعْلَمُ بِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ  عِنْدَهُمْ.

وَأَهْلُ الشَّامِ كَانُوا أَهْلَ غَزْوٍ وَجِهَادٍ فَكَانَ لَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِالْجِهَادِ وَالسِّيَرِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا عَظَّمَ النَّاسُ كِتَابَ أَبِي إسْحَاقَ الفزاري الَّذِي صَنَّفَهُ فِي ذَلِكَ وَجَعَلُوا الأوزاعي أَعْلَمَ بِهَذَا الْبَابِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ.

وَأَمَّا "التَّفْسِيرُ" فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ ; لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمُجَاهِدِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَطَاوُوسِ وَأَبِي الشَّعْثَاءِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَمْثَالِهِمْ.

وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْهُ أَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمِنْ ذَلِكَ مَا تَمَيَّزُوا بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ.

وَعُلَمَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي التَّفْسِيرِ مِثْلُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ الَّذِي أَخَذَ عَنْهُ مَالِكٌ التَّفْسِيرَ وَأَخَذَهُ عَنْهُ أَيْضًا ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَخَذَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ( ).

و" الْمَرَاسِيلُ " إذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهَا وَخَلَتْ عَنْ الْمُوَاطَأَةِ قَصْدًا أَوْ الِاتِّفَاقِ بِغَيْرِ قَصْدٍ كَانَتْ صَحِيحَةً قَطْعًا( ).

فَإِنَّ النَّقْلَ إمَّا أَنْ يَكُونَ صِدْقًا مُطَابِقًا لِلْخَبَرِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَذِبًا تَعَمَّدَ صَاحِبُهُ الْكَذِبَ أَوْ أَخْطَأَ فِيهِ; فَمَتَى سَلِمَ مِنْ الْكَذِبِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ كَانَ صِدْقًا بِلَا رَيْبٍ( ). فَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ جَاءَ مِنْ جِهَتَيْنِ أَوْ جِهَاتٍ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُخْبِرَيْنِ لَمْ يَتَوَاطَآ عَلَى اخْتِلَافِهِ وَعُلِمَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا تَقَعُ الْمُوَافَقَةُ فِيهِ اتِّفَاقًا  بِلَا قَصْدٍ عُلِمَ أَنَّهُ صَحِيحٌ( ).

مِثْلُ شَخْصٍ يُحَدِّثُ عَنْ وَاقِعَةٍ جَرَتْ وَيَذْكُرُ تَفَاصِيلَ مَا فِيهَا مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَيَأْتِي شَخْصٌ آخَرُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُوَاطِئْ الْأَوَّلَ فَيَذْكُرُ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ الْأَوَّلُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ فَيُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ حَقٌّ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا كَذَّبَهَا عَمْدًا أَوْ خَطَأً لَمْ يَتَّفِقْ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَأْتِيَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِتِلْكَ التَّفَاصِيلِ الَّتِي تَمْنَعُ الْعَادَةُ اتِّفَاقَ الِاثْنَيْنِ عَلَيْهَا بِلَا مُوَاطَأَةٍ مِنْ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَتَّفِقُ أَنْ يَنْظِمَ بَيْتًا وَيَنْظِمَ الْآخَرُ مِثْلَهُ أَوْ يَكْذِبَ كِذْبَةً وَيَكْذِبَ الْآخَرُ مِثْلَهَا أَمَّا إذَا أَنْشَأَ قَصِيدَةً طَوِيلَةً ذَاتَ فُنُونٍ عَلَى قَافِيَةٍ وَرَوِيٍّ فَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنَّ غَيْرَهُ يُنْشِئُ مِثْلَهَا لَفْظًا وَمَعْنًى مَعَ الطُّولِ الْمُفْرِطِ بَلْ يُعْلَمُ بِالْعَادَةِ أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْهُ وَكَذَلِكَ إذَا حَدَّثَ حَدِيثًا طَوِيلًا فِيهِ فُنُونٌ وَحَدَّثَ آخَرُ بِمِثْلِهِ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَاطَأَهُ عَلَيْهِ أَوْ أَخَذَهُ مِنْهُ أَوْ يَكُونَ الْحَدِيثُ صِدْقًاً( ).

وَبِهَذِهِ الطَّرِيقِ يُعْلَمُ صِدْقُ عَامَّةِ مَا تَتَعَدَّدُ جِهَاتُهُ الْمُخْتَلِفَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهَا كَافِيًا إمَّا لِإِرْسَالِهِ وَإِمَّا لِضَعْفِ نَاقِلِهِ( )؛

لَكِنْ مِثْلُ هَذَا لَا تُضْبَطُ بِهِ الْأَلْفَاظُ وَالدَّقَائِقُ الَّتِي لَا تُعْلَمُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ فَلَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ إلَى طَرِيقٍ يَثْبُتُ بِهَا مِثْلُ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ وَالدَّقَائِقِ؛

وَلِهَذَا ثَبَتَتْ بِالتَّوَاتُرِ غَزْوَةُ بَدْرٍ وَأَنَّهَا قَبْلَ أُحُدٍ بَلْ يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ حَمْزَةَ وَعَلِيًّا وَعُبَيْدَةَ بَرَزُوا إلَى عتبة وَشَيْبَةَ وَالْوَلِيدِ، وَأَنَّ عَلِيًّا قَتَلَ الْوَلِيدَ وَأَنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ قَرْنَهُ ثُمَّ يُشَكُّ فِي قَرْنِهِ هَلْ هُوَ عتبة أَوْ شَيْبَةُ.

وَهَذَا الْأَصْلُ( ) يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ فَإِنَّهُ أَصْلٌ نَافِعٌ فِي الْجَزْمِ بِكَثِيرِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ فِي الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْمَغَازِي وَمَا يُنْقَلُ مِنْ أَقْوَالِ النَّاسِ وَأَفْعَالِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَلِهَذَا إذَا رُوِيَ الْحَدِيثُ الَّذِي يَتَأَتَّى فِيهِ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَجْهَيْنِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَمْ يَأْخُذْهُ عَنْ الْآخَرِ جُزِمَ بِأَنَّهُ حَقٌّ، لَا سِيَّمَا إذَا عُلِمَ أَنَّ نَقَلَتَهُ لَيْسُوا مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ وَإِنَّمَا يُخَافُ عَلَى أَحَدِهِمْ النِّسْيَانُ وَالْغَلَطُ;

فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ الصَّحَابَةَ كَابْنِ مَسْعُودٍ وأبي بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمْ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُمْ كَمَا يَعْلَمُ الرَّجُلُ مِنْ حَالِ مَنْ جَرَّبَهُ وَخَبَرَهُ خِبْرَةً بَاطِنَةً طَوِيلَةً أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَسْرِقُ أَمْوَالَ النَّاسِ وَيَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَيَشْهَدُ بِالزُّورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ بِالْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ مِثْلَ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ وَالْأَعْرَجِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَأَمْثَالِهِمْ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فِي الْحَدِيثِ  فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُمْ مِثْلِ مُحَمَّدِ بْنِ سيرين وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَوْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَوْ عُبَيْدَةَ السلماني أَوْ عَلْقَمَةَ أَوْ الْأَسْوَدِ أَوْ نَحْوِهِمْ .

وَإِنَّمَا يُخَافُ عَلَى الْوَاحِدِ مِنْ الْغَلَطِ; فَإِنَّ الْغَلَطَ وَالنِّسْيَانَ كَثِيرًا مَا يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ وَمِنْ الْحُفَّاظِ مَنْ قَدْ عَرَفَ النَّاسُ بُعْدَهُ عَنْ ذَلِكَ جِدًّا كَمَا عَرَفُوا حَالَ الشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَعُرْوَةَ وقتادة وَالثَّوْرِيِّ وَأَمْثَالِهِمْ لَا سِيَّمَا الزُّهْرِيُّ فِي زَمَانِهِ وَالثَّوْرِيُّ فِي زَمَانِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ : إنَّ ابْنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ لَا يُعْرَفُ لَهُ غَلَطٌ مَعَ كَثْرَةِ حَدِيثِهِ وَسَعَةِ حِفْظِهِ.

 و " الْمَقْصُودُ " أَنَّ الْحَدِيثَ الطَّوِيلَ إذَا رُوِيَ مَثَلًا مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ امْتَنَعَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ غَلَطًا كَمَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا; فَإِنَّ الْغَلَطَ لَا يَكُونُ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضِهَا فَإِذَا رَوَى هَذَا قِصَّةً طَوِيلَةً مُتَنَوِّعَةً وَرَوَاهَا الْآخَرُ مِثْلَمَا رَوَاهَا الْأَوَّلُ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ امْتَنَعَ الْغَلَطُ فِي جَمِيعِهَا كَمَا امْتَنَعَ الْكَذِبُ فِي جَمِيعِهَا مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ( )؛

وَلِهَذَا إنَّمَا يَقَعُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ غَلَطٌ فِي بَعْضِ مَا جَرَى فِي الْقِصَّةِ مِثْلِ حَدِيثِ اشْتِرَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْبَعِيرَ مِنْ جَابِرٍ ; فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ طُرُقَهُ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ( ).

وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فَإِنَّ جُمْهُورَ مَا فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِمَّا يُقْطَعُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ; لِأَنَّ غَالِبَهُ مِنْ هَذَا النَّحْوِ; وَلِأَنَّهُ قَدْ تَلَقَّاهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى خَطَأٍ; فَلَوْ كَانَ الْحَدِيثُ كَذِبًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ; وَالْأُمَّةُ مُصَدِّقَةٌ لَهُ قَابِلَةٌ لَهُ لَكَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَصْدِيقِ مَا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذِبٌ، وَهَذَا إجْمَاعٌ عَلَى الخطأ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَإِنْ كُنَّا نَحْنُ بِدُونِ الْإِجْمَاعِ نُجَوِّزُ الْخَطَأَ أَوْ الْكَذِبَ عَلَى الْخَبَرِ فَهُوَ كَتَجْوِيزِنَا قَبْلَ أَنْ نَعْلَمَ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْعِلْمِ الَّذِي ثَبَتَ بِظَاهِرِ أَوْ قِيَاسٍ ظَنِّيٍّ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي الْبَاطِنِ; بِخِلَافِ مَا اعْتَقَدْنَاهُ، فَإِذَا أَجْمَعُوا عَلَى الْحُكْمِ جَزَمْنَا بِأَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا.

وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ عَلَى أَنَّ " خَبَرَ الْوَاحِدِ " إذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ تَصْدِيقًا لَهُ أَوْ عَمَلًا بِهِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ( ).

وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُونَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد إلَّا فِرْقَةً قَلِيلَةً مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ اتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ; وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ يُوَافِقُونَ الْفُقَهَاءَ وَأَهْلَ الْحَدِيثِ وَالسَّلَفَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ كَأَبِي إسْحَاقَ وَابْنِ فورك.

وَأَمَّا ابْنُ الباقلاني فَهُوَ الَّذِي أَنْكَرَ ذَلِكَ وَتَبِعَهُ مِثْلُ أَبِي الْمَعَالِي وَأَبِي حَامِدٍ وَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ وَابْنِ الْخَطِيبِ والآمدي وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ .

وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَأَبُو الطَّيِّبِ وَأَبُو إسْحَاقَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ  وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو يَعْلَى وَأَبُو الْخَطَّابِ وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ الزاغوني وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ . وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ شَمْسُ الدِّينِ السَّرَخْسِيُّ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ.

وَإِذَا كَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَصْدِيقِ الْخَبَرِ مُوجِبًا لِلْقَطْعِ بِهِ فَالِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، كَمَا أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى الْأَحْكَامِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِبَاحَةِ( ).

و الْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ تَعَدُّدَ الطُّرُقِ مَعَ عَدَمِ التَّشَاعُرِ أَوْ الِاتِّفَاقِ فِي الْعَادَةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمَضْمُونِ الْمَنْقُولِ ; لَكِنَّ هَذَا يُنْتَفَعُ بِهِ كَثِيرًا فِي عِلْمِ أَحْوَالِ النَّاقِلِينَ.

وَفِي مِثْلِ هَذَا يُنْتَفَعُ بِرِوَايَةِ الْمَجْهُولِ وَالسَّيِّئِ الْحِفْظِ وَبِالْحَدِيثِ الْمُرْسَلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ;

وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَكْتُبُونَ مِثْلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَيَقُولُونَ: إنَّهُ يَصْلُحُ لِلشَّوَاهِدِ وَالِاعْتِبَارِ مَا لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِهِ؛

قَالَ أَحْمَد : قَدْ أَكْتُبُ حَدِيثَ الرَّجُلِ لِأَعْتَبِرَهُ( ). وَمَثَّلَ هَذَا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ قَاضِي مِصْرَ ; فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ حَدِيثًا وَمِنْ خِيَارِ النَّاسِ ; لَكِنْ بِسَبَبِ احْتِرَاقِ كُتُبِهِ وَقَعَ فِي حَدِيثِهِ الْمُتَأَخِّرِ غَلَطٌ فَصَارَ يَعْتَبِرُ بِذَلِكَ وَيَسْتَشْهِدُ بِهِ وَكَثِيرًا مَا يَقْتَرِنُ هُوَ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَاللَّيْثُ حُجَّةٌ ثَبَتٌ إمَامٌ.

وَكَمَا أَنَّهُمْ يَسْتَشْهِدُونَ وَيَعْتَبِرُونَ بِحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ سُوءُ حِفْظٍ، فَإِنَّهُمْ أَيْضًا يُضَعِّفُون مِنْ حَدِيثِ الثِّقَةِ الصَّدُوقِ الضَّابِطِ أَشْيَاءَ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ غَلِطَ فِيهَا بِأُمُورِ يَسْتَدِلُّونَ بِهَا وَيُسَمُّونَ هَذَا "عِلْمَ عِلَلِ الْحَدِيثِ"؛ وَهُوَ مِنْ أَشْرَفِ عُلُومِهِمْ بِحَيْثُ يَكُونُ الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ ثِقَةٌ ضَابِطٌ وَغَلِطَ فِيهِ وَغَلَطُهُ فِيهِ عُرِفَ;

إمَّا بِسَبَبِ ظَاهِرٍ كَمَا عَرَفُوا "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ وَأَنَّهُ صَلَّى فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ" وَجَعَلُوا رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ لِتَزَوُّجِهَا حَرَامًا( )،

وَلِكَوْنِهِ لَمْ يُصَلِّ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ( ).  

وَكَذَلِكَ أَنَّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ، وَعَلِمُوا أَنَّ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ : "إنَّهُ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ"( )، مِمَّا وَقَعَ فِيهِ

الْغَلَطُ.

وَعَلِمُوا أَنَّهُ تَمَتَّعَ وَهُوَ آمِنٌ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَنَّ قَوْلَ عُثْمَانَ لِعَلِيِّ : "كُنَّا يَوْمَئِذٍ خَائِفِينَ"( )مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ.

وَأَنَّ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْبُخَارِيِّ: "أَنَّ النَّارَ لَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا آخَرَ"( ) مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ.

وَهَذَا كَثِيرٌ( ). وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ طَرَفَانِ:

طَرَفٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ هُوَ بَعِيدٌ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ فَيَشُكُّ فِي صِحَّةِ أَحَادِيثَ أَوْ فِي الْقَطْعِ بِهَا مَعَ كَوْنِهَا مَعْلُومَةً مَقْطُوعًا بِهَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ.

وَطَرَفٌ مِمَّنْ يَدَّعِي اتِّبَاعَ الْحَدِيثِ وَالْعَمَلِ بِهِ كُلَّمَا وَجَدَ لَفْظًا فِي حَدِيثٍ قَدْ رَوَاهُ ثِقَةٌ أَوْ رَأَى حَدِيثًا بِإِسْنَادِ ظَاهِرُهُ الصِّحَّةُ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ مَا جَزَمَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ حَتَّى إذَا عَارَضَ الصَّحِيحَ الْمَعْرُوفَ أَخَذَ يَتَكَلَّفُ لَهُ التَّأْوِيلَاتِ الْبَارِدَةَ أَوْ يَجْعَلُهُ دَلِيلًا لَهُ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ مَعَ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ يَعْرِفُونَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا غَلَطٌ( ).

 وَكَمَا أَنَّ عَلَى الْحَدِيثِ أَدِلَّةً يُعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ صِدْقٌ وَقَدْ يُقْطَعُ بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَدِلَّةٌ يُعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ كَذِبٌ وَيُقْطَعُ بِذَلِكَ( )؛

مِثْلُ مَا يُقْطَعُ بِكَذِبِ مَا يَرْوِيهِ الْوَضَّاعُونَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْغُلُوِّ فِي الْفَضَائِلِ:

مِثْلِ حَدِيثِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَأَمْثَالِهِ مِمَّا فِيهِ أَنَّ مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَ لَهُ كَأَجْرِ كَذَا وَكَذَا نَبِيًّا.

وَفِي التَّفْسِيرِ مِنْ هَذِهِ الْمَوْضُوعَاتِ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ مِثْلُ الْحَدِيثِ الَّذِي يَرْوِيهِ الثَّعْلَبِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ والزمخشري فِي فَضَائِلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ سُورَةً سُورَةً فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ( ).

و الثَّعْلَبِيُّ هُوَ فِي نَفْسِهِ كَانَ فِيهِ خَيْرٌ وَدِينٌ وَكَانَ حَاطِبَ لَيْلٍ يَنْقُلُ مَا وُجِدَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ مِنْ صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ وَمَوْضُوعٍ( ).

و" الْوَاحِدِيُّ " صَاحِبُهُ كَانَ أَبْصَرَ مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ ; لَكِنْ هُوَ أَبْعَدُ عَنْ السَّلَامَةِ وَاتِّبَاعِ السَّلَفِ( ).

والبغوي تَفْسِيرُهُ مُخْتَصَرٌ مِنْ الثَّعْلَبِيِّ لَكِنَّهُ صَانَ تَفْسِيرَهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ وَالْآرَاءِ الْمُبْتَدَعَةِ( ).

وَالْمَوْضُوعَاتُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ كَثِيرَةٌ مِثْلُ الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الصَّرِيحَةِ فِي الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ( ).

وَحَدِيثِ عَلِيٍّ الطَّوِيلِ فِي تَصَدُّقِهِ بِخَاتَمِهِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ( ).

وَمِثْلُ مَا رُوِيَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ أَنَّهُ عَلِيٌّ ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ أُذُنُك يَا عَلِيٌّ.

 فَصْلٌ وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي( ) مِنْ مُسْتَنَدَيْ الِاخْتِلَافِ

وَهُوَ مَا يُعْلَمُ بِالِاسْتِدْلَالِ لَا بِالنَّقْلِ فَهَذَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ الْخَطَأُ مِنْ جِهَتَيْنِ حَدَثَتَا بَعْدَ تَفْسِيرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانِ;

فَإِنَّ التَّفَاسِيرَ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَلَامُ هَؤُلَاءِ صِرْفًا( )لَا يَكَادُ يُوجَدُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ مِثْلَ تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَوَكِيعٍ وَعَبْدِ بْنِ حميد وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إبْرَاهِيمَ دحيم، وَمِثْلَ تَفْسِيرِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ بْنِ راهويه وبقي بْنِ مخلد وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ وَسُفْيَانَ بْنِ عيينة وَسَنِيدٍ وَابْنِ جَرِيرٍ( ) وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ماجه، وَابْنِ مردويه:

إحْدَاهُمَا : قَوْمٌ اعْتَقَدُوا مَعَانِيَ ثُمَّ أَرَادُوا حَمْلَ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا( ).

والثَّانِيَةُ : قَوْمٌ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ بِمُجَرَّدِ مَا يُسَوِّغُ أَنْ يُرِيدَهُ بِكَلَامِهِ مَنْ كَانَ مِنْ النَّاطِقِينَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْمُتَكَلِّمِ بِالْقُرْآنِ وَالْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ وَالْمُخَاطَبِ بِهِ( ).

فالْأَوَّلُونَ رَاعَوْا الْمَعْنَى الَّذِي رَأَوْهُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَا تَسْتَحِقُّهُ أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ مِنْ الدَّلَالَةِ وَالْبَيَانِ( ).

والْآخَرُونَ رَاعَوْا مُجَرَّدَ اللَّفْظِ، وَمَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْعَرَبِيُّ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَا يَصْلُحُ لِلْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَلِسِيَاقِ الْكَلَامِ .

ثُمَّ هَؤُلَاءِ كَثِيرًا مَا يَغْلَطُونَ فِي احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى فِي اللُّغَةِ كَمَا يَغْلَطُ فِي ذَلِكَ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ، كَمَا أَنَّ الْأَوَّلِينَ كَثِيرًا مَا يَغْلَطُونَ فِي صِحَّةِ الْمَعْنَى الَّذِي فَسَّرُوا بِهِ الْقُرْآنَ كَمَا يَغْلَطُ فِي ذَلِكَ الآخرون، وَإِنْ كَانَ نَظَرُ الْأَوَّلِينَ إلَى الْمَعْنَى أَسْبَقَ وَنَظَرُ الآخرين إلَى اللَّفْظِ أَسْبَقُ .

وَالْأَوَّلُونَ صِنْفَانِ : تَارَةً يَسْلُبُونَ لَفْظَ الْقُرْآنِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ وَأُرِيدَ بِهِ.

وَتَارَةً يَحْمِلُونَهُ عَلَى مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُرَدْ بِهِ.

وَفِي كَلَا الْأَمْرَيْنِ قَدْ يَكُونُ مَا قَصَدُوا نَفْيَهُ أَوْ إثْبَاتَهُ مِنْ الْمَعْنَى بَاطِلًا فَيَكُونُ خَطَؤُهُمْ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ.

وَقَدْ يَكُونُ حَقًّا فَيَكُونُ خَطَؤُهُمْ فِي الدَّلِيلِ لَا فِي الْمَدْلُولِ( ).

وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ وَقَعَ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ( ).

فَاَلَّذِينَ أَخْطَئُوا فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ - مِثْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ - اعْتَقَدُوا مَذْهَبًا يُخَالِفُ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ كَسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَعَمَدُوا إلَى الْقُرْآنِ فَتَأَوَّلُوهُ عَلَى آرَائِهِمْ؛

تَارَةً يَسْتَدِلُّونَ بِآيَاتِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا.

وَتَارَةً يَتَأَوَّلُونَ مَا يُخَالِفُ مَذْهَبَهُمْ بِمَا يُحَرِّفُونَ بِهِ الْكَلِمَ عَنْ  مَوَاضِعِهِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ فِرَقُ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ والجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهِمْ( )

وَهَذَا كَالْمُعْتَزِلَةِ مَثَلًا فَإِنَّهُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كَلَامًا وَجِدَالًا، وَقَدْ صَنَّفُوا تَفَاسِيرَ عَلَى أُصُولِ مَذْهَبِهِمْ;

مِثْلِ تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كيسان الْأَصَمِّ شَيْخِ إبْرَاهِيمَ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ الَّذِي كَانَ يُنَاظِرُ الشَّافِعِيَّ.

وَمِثْلِ كِتَابِ أَبِي عَلِيٍّ الجبائي.

وَالتَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَد الهمداني.

وَلِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى الرُّمَّانِيِّ.

وَالْكَشَّافِ لِأَبِي الْقَاسِمِ الزمخشري؛

فَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ اعْتَقَدُوا مَذَاهِبَ الْمُعْتَزِلَةِ( ).

وَأُصُولُ الْمُعْتَزِلَةِ خَمْسَةٌ يُسَمُّونَهَا هُمْ : التَّوْحِيدُ وَالْعَدْلُ وَالْمَنْزِلَةُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَإِنْفَاذُ الْوَعِيدِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ .

وتَوْحِيدُهُمْ هُوَ تَوْحِيدُ الجهمية الَّذِي مَضْمُونُهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ وَغَيْرُ ذَلِكَ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَا يُرَى، وَإِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، وَإِنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ، وَإِنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ، وَلَا حَيَاةٌ، وَلَا سَمْعٌ، وَلَا بَصَرٌ، وَلَا كَلَامٌ وَلَا مَشِيئَةٌ وَلَا صِفَةٌ مِنْ الصِّفَاتِ.

وَأَمَّا عَدْلُهُمْ فَمِنْ مَضْمُونِهِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَشَأْ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ وَلَا خَلَقَهَا كُلَّهَا وَلَا هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا كُلِّهَا; بَلْ عِنْدَهُمْ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لَمْ يَخْلُقْهَا اللَّهُ، لَا خَيْرَهَا وَلَا شَرَّهَا، وَلَمْ يُرِدْ إلَّا مَا أَمَرَ بِهِ شَرْعًا وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ.

وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مُتَأَخِّرُو الشِّيعَةِ كَالْمُفِيدِ وَأَبِي جَعْفَرٍ الطوسي وَأَمْثَالِهِمَا، وَلِأَبِي جَعْفَرٍ هَذَا تَفْسِيرٌ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ; لَكِنْ يُضَمُّ إلَى ذَلِكَ قَوْلُ الْإِمَامِيَّةِ الِاثْنَيْ عَشَرِيَّةَ; فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ وَلَا مَنْ يُنْكِرُ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ.

وَمِنْ أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ مَعَ الْخَوَارِجِ إنْفَاذُ الْوَعِيدِ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ شَفَاعَةً وَلَا يُخْرِجُ مِنْهُمْ أَحَدًا مِنْ النَّارِ( ).

وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ رَدَّ عَلَيْهِمْ طَوَائِفُ مِنْ الْمُرْجِئَةِ والكرامية والكلابية وَأَتْبَاعِهِمْ; فَأَحْسَنُوا تَارَةً وَأَسَاءُوا أُخْرَى حَتَّى صَارُوا فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا رَأْيًا ثُمَّ حَمَلُوا أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُمْ سَلَفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا فِي رَأْيِهِمْ وَلَا فِي تَفْسِيرِهِمْ.

وَمَا مِنْ تَفْسِيرٍ مِنْ تَفَاسِيرِهِمْ الْبَاطِلَةِ إلَّا وَبُطْلَانُهُ يَظْهَرُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَذَلِكَ مِنْ جِهَتَيْنِ:

تَارَةً مِنْ الْعِلْمِ بِفَسَادِ قَوْلِهِمْ.

وَتَارَةً مِنْ الْعِلْمِ بِفَسَادِ مَا فَسَّرُوا بِهِ الْقُرْآنَ، إمَّا دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِمْ، أَوْ جَوَابًا عَلَى الْمُعَارِضِ لَهُمْ( ).

وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَكُونُ حَسَنَ الْعِبَارَةِ فَصِيحًا وَيَدُسُّ الْبِدَعَ فِي كَلَامِهِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ كَصَاحِبِ الْكَشَّافِ وَنَحْوِهِ، حَتَّى إنَّهُ يُرَوِّجُ عَلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ مِمَّنْ لَا يَعْتَقِدُ الْبَاطِلَ مِنْ تَفَاسِيرِهِمْ الْبَاطِلَةِ مَا شَاءَ اللَّهُ.

وَقَدْ رَأَيْت مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَذْكُرُ فِي كِتَابِهِ وَكَلَامِهِ مِنْ تَفْسِيرِهِمْ مَا يُوَافِقُ أُصُولَهُمْ الَّتِي يَعْلَمُ أَوْ يَعْتَقِدُ فَسَادَهَا وَلَا يَهْتَدِي لِذَلِكَ( ).

ثُمَّ إنَّهُ لِسَبَبِ تَطَرُّفِ هَؤُلَاءِ وَضَلَالِهِمْ دَخَلَتْ الرَّافِضَةُ الْإِمَامِيَّةُ ثُمَّ الْفَلَاسِفَةُ ثُمَّ الْقَرَامِطَةُ وَغَيْرُهُمْ فِيمَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ وَتَفَاقَمَ الْأَمْرِ فِي الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَالرَّافِضَةِ، فَإِنَّهُمْ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ بِأَنْوَاعِ لَا يَقْضِي الْعَالِمُ مِنْهَا عَجَبَهُ.

فَتَفْسِيرُ الرَّافِضَةِ كَقَوْلِهِمْ : ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ هُمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ.

و ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ أَيْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ فِي الْخِلَافَةِ.

و ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ هِيَ عَائِشَةُ.

و ﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ.

و ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ.

و ﴿اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ.

و ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إمَامٍ مُبِينٍ﴾ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.

و ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ. عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.

و ﴿إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ هُوَ عَلِيٌّ وَيَذْكُرُونَ الْحَدِيثَ الْمَوْضُوعَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ تَصَدُّقُهُ بِخَاتَمِهِ فِي الصَّلَاةِ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ لَمَّا أُصِيبَ بِحَمْزَةِ. وَمِمَّا يُقَارِبُ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ( )مَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ﴾ أَنَّ الصَّابِرِينَ رَسُولُ اللَّهِ وَالصَّادِقِينَ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَانِتِينَ عُمَرُ وَالْمُنْفِقِينَ عُثْمَانُ وَالْمُسْتَغْفِرِين عَلِيٌّ.

وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ : ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ أَبُو بَكْرٍ ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾ عُمَرُ ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ عُثْمَانُ ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا﴾ عَلِيٌّ( ).

وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ : ﴿وَالتِّينِ﴾ أَبُو بَكْرٍ ﴿وَالزَّيْتُونَ﴾ عُمَرُ ﴿وَطُورِ سِينِينَ﴾ عُثْمَانُ ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾ عَلِيٌّ.

وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْخُرَافَاتِ( )الَّتِي تَتَضَمَّنُ؛

تَارَةً تَفْسِيرَ اللَّفْظِ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِحَالِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَا تَدُلُّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَشْخَاصِ.

وقوله تعالى : ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا﴾ كُلُّ ذَلِكَ نَعْتٌ لِلَّذِينَ مَعَهُ وَهِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا النُّحَاةُ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ . والْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّهَا كُلَّهَا صِفَاتٌ لِمَوْصُوفِ وَاحِدٍ وَهُمْ الَّذِينَ مَعَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا مُرَادًا بِهِ شَخْصٌ وَاحِدٌ!

وَتَتَضَمَّنُ تَارَةً جَعْلَ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ مُنْحَصِرًا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ : إنَّ قَوْلَهُ : ﴿إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ أُرِيدَ بِهَا عَلِيٌّ وَحْدَهُ.

وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : أَنَّ قَوْلَهُ : ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ﴾ أُرِيدَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ وَحْدَهُ.

وَقَوْلِهِ : ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ﴾ أُرِيدَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ وَحْدَهُ.

وَنَحْوِ ذَلِكَ( ).

و تَفْسِيرُ ابْنِ عَطِيَّةَ وَأَمْثَالِهِ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَسْلَمُ مِنْ الْبِدْعَةِ مِنْ تَفْسِيرِ الزمخشري، وَلَوْ ذُكِرَ كَلَامُ السَّلَفِ الْمَوْجُودُ فِي التَّفَاسِيرِ الْمَأْثُورَةِ عَنْهُمْ عَلَى وَجْهِهِ لَكَانَ أَحْسَنَ وَأَجْمَلَ( )فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَنْقُلُ مِنْ تَفْسِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ التَّفَاسِيرِ وَأَعْظَمِهَا قَدْرًا، ثُمَّ إنَّهُ يَدَعُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ السَّلَفِ لَا يَحْكِيهِ بِحَالِ، وَيَذْكُرُ مَا يَزْعُمُ أَنَّهُ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِمْ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ قَرَّرُوا أُصُولَهُمْ بِطُرُقِ مِنْ جِنْسِ مَا قَرَّرَتْ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ أُصُولَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى السُّنَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ; لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَيَعْرِفَ أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ التَّفْسِيرِ عَلَى الْمَذْهَبِ؛

فَإِنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةَ إذَا كَانَ لَهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَوْلٌ وَجَاءَ قَوْمٌ فَسَّرُوا الْآيَةَ بِقَوْلِ آخَرَ لِأَجْلِ مَذْهَبٍ اعْتَقَدُوهُ، وَذَلِكَ الْمَذْهَبُ لَيْسَ مِنْ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ، صَارُوا مُشَارِكِينَ لِلْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي مِثْلِ هَذَا.

و فِي الْجُمْلَةِ مَنْ عَدَلَ عَنْ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَفْسِيرِهِمْ إلَى مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ كَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ بَلْ مُبْتَدِعًا وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا مَغْفُورًا لَهُ خَطَؤُهُ( ).

فَالْمَقْصُودُ بَيَانُ طُرُقِ الْعِلْمِ وَأَدِلَّتِهِ وَطُرُقِ الصَّوَابِ.

وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْقُرْآنَ قَرَأَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَتَابِعُوهُمْ وَأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِتَفْسِيرِهِ وَمَعَانِيهِ.

كَمَا أَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِالْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم؛

فَمَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ وَفَسَّرَ الْقُرْآنَ بِخِلَافِ تَفْسِيرِهِمْ فَقَدْ أَخْطَأَ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ جَمِيعًا( ).

وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ لَهُ شُبْهَةٌ يَذْكُرُهَا إمَّا عَقْلِيَّةٌ وَإِمَّا سَمْعِيَّةٌ( ).

كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.

والْمَقْصُودُ هُنَا : التَّنْبِيهُ عَلَى مَثَارِ الِاخْتِلَافِ فِي التَّفْسِيرِ، وَأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِهِ الْبِدَعَ الْبَاطِلَةَ الَّتِي دَعَتْ أَهْلَهَا إلَى أَنْ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَفَسَّرُوا كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِغَيْرِ مَا أُرِيدَ بِهِ وَتَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ( ).

فَمِنْ أُصُولِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ:

أَنْ يَعْلَمَ الْإِنْسَانُ الْقَوْلَ الَّذِي خَالَفُوهُ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ.

وَأَنْ يَعْرِفَ أَنَّ تَفْسِيرَ السَّلَفِ يُخَالِفُ تَفْسِيرَهُمْ.

وَأَنْ يَعْرِفَ أَنَّ تَفْسِيرَهُمْ مُحْدَثٌ مُبْتَدَعٌ( ).

ثُمَّ أَنْ يَعْرِفَ بِالطُّرُقِ الْمُفَصَّلَةِ فَسَادَ تَفْسِيرِهِمْ بِمَا نَصَبَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى بَيَانِ الْحَقِّ( ).

وَكَذَلِكَ وَقَعَ مِنْ الَّذِينَ صَنَّفُوا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَتَفْسِيرِهِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ جِنْسِ مَا وَقَعَ فِيمَا صَنَّفُوهُ مِنْ شَرْحِ الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرِهِ( ).

وَأَمَّا الَّذِينَ يُخْطِئُونَ فِي الدَّلِيلِ لَا فِي الْمَدْلُولِ؛

فَمِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَالْوُعَّاظِ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ، يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِمَعَانٍ صَحِيحَةٍ; لَكِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا( )؛

مِثْلَ كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي فِي حَقَائِقِ  التَّفْسِيرِ وَإِنْ كَانَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مَا هُوَ مَعَانٍ بَاطِلَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْخَطَأُ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ جَمِيعًا حَيْثُ يَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدُوهُ فَاسِدًا.

 فَصْلٌ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَمَا أَحْسَنُ طُرُقِ التَّفْسِيرِ ؟

فَالْجَوَابُ : أَنَّ أَصَحَّ الطُّرُقِ فِي ذَلِكَ:

أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ، فَمَا أُجْمِلَ فِي مَكَانٍ فَإِنَّهُ قَدْ فُسِّرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَمَا اُخْتُصِرَ مِنْ مَكَانٍ فَقَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ( )..

فَإِنْ أَعْيَاك ذَلِكَ فَعَلَيْك بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهَا شَارِحَةٌ لِلْقُرْآنِ وَمُوَضِّحَةٌ لَهُ( )؛ ; بَلْ قَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ : كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنْ الْقُرْآنِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾. وَقَالَ تَعَالَى : ﴿وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾؛ وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : "أَلَا إنِّي أُوتِيت الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ" يَعْنِي السُّنَّةَ. 

وَالسُّنَّةُ أَيْضًا تَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ كَمَا يَنْزِلُ الْقُرْآنُ; لَا أَنَّهَا تُتْلَى كَمَا يُتْلَى.

وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةِ كَثِيرَةٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذَلِكَ( ).

 َالْغَرَضُ أَنَّك تَطْلُبُ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فَمِنْ السُّنَّةِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ : "بِمَ تَحْكُمُ؟

قَالَ : بِكِتَابِ اللَّهِ.

قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ؟

قَالَ : بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ.

قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ؟

قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي .

قَالَ : فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَدْرِهِ وَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ" وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمَسَانِدِ وَالسُّنَنِ بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ( ).

وَحِينَئِذٍ إذَا لَمْ نَجِدْ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ رَجَعْنَا فِي ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ أَدْرَى بِذَلِكَ لِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي اخْتَصُّوا بِهَا; وَلِمَا لَهُمْ مِنْ الْفَهْمِ التَّامِّ وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ; لَا سِيَّمَا عُلَمَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ، مِثْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.

قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطبري : حَدَّثَنَا أَبُو كريب قَالَ أَنْبَأَنَا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ أَنْبَأَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ : "وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ مَا نَزَلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ  فِيمَنْ نَزَلَتْ وَأَيْنَ نَزَلَتْ وَلَوْ أَعْلَمُ مَكَانَ أَحَدٍ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تناوله الْمَطَايَا لَأَتَيْته"( ).

وَقَالَ الْأَعْمَشُ أَيْضًا عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يَعْرِفَ مَعَانِيَهُنَّ وَالْعَمَلَ بِهِنَّ.

وَمِنْهُمْ الْحَبْرُ الْبَحْرُ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ حَيْثُ قَالَ : "اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ"( ).

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ : نِعْمَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ.

ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ داود عَنْ إسْحَاقَ الْأَزْرَقِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : نِعْمَ التُّرْجُمَانُ لِلْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ.

ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ عَنْ الْأَعْمَشِ بِهِ كَذَلِكَ.

فَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْعِبَارَةُ، وَقَدْ مَاتَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَمَّرَ بَعْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَمَا ظَنُّك بِمَا كَسَبَهُ مِنْ الْعُلُومِ بَعْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ؟.

وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ: اسْتَخْلَفَ عَلِيٌّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الْمَوْسِمِ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَرَأَ فِي خُطْبَتِهِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ - وَفِي  رِوَايَةِ سُورَةِ النُّورِ - فَفَسَّرَهَا تَفْسِيرًا لَوْ سَمِعَتْهُ الرُّومُ وَالتُّرْكُ وَالدَّيْلَمُ لَأَسْلَمُوا.

وَلِهَذَا غَالِبُ مَا يَرْوِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السدي الْكَبِيرُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ: ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَكِنْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ يَنْقُلُ عَنْهُمْ مَا يَحْكُونَهُ مِنْ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّتِي أَبَاحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ : "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو;

وَلِهَذَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَدْ أَصَابَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ زَامِلَتَيْنِ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْهُمَا بِمَا فَهِمَهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْإِذْنِ فِي ذَلِكَ( ).

وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الإسرائيلية تُذْكَرُ لِلِاسْتِشْهَادِ لَا لِلِاعْتِقَادِ فَإِنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :

أَحَدُهَا : مَا عَلِمْنَا صِحَّتَهُ مِمَّا بِأَيْدِينَا مِمَّا يَشْهَدُ لَهُ بِالصِّدْقِ فَذَاكَ صَحِيحٌ .

و الثَّانِي : مَا عَلِمْنَا كَذِبَهُ بِمَا عِنْدَنَا مِمَّا يُخَالِفُهُ.

و الثَّالِثُ : مَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَلَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَلَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُكَذِّبُهُ وَتَجُوزُ حِكَايَتُهُ لِمَا تَقَدَّمَ( )، وَغَالِبُ ذَلِكَ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ تَعُودُ إلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ، وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرًا وَيَأْتِي عَنْ الْمُفَسِّرِينَ خِلَافٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ:

كَمَا يَذْكُرُونَ فِي مِثْلِ هَذَا أَسْمَاءَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَلَوْنَ كَلْبِهِمْ وَعِدَّتَهُمْ وَعَصَا مُوسَى مِنْ أَيِّ الشَّجَرِ كَانَتْ ؟ وَأَسْمَاءَ الطُّيُورِ الَّتِي أَحْيَاهَا اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ وَتَعْيِينَ الْبَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْقَتِيلُ مِنْ الْبَقَرَةِ وَنَوْعَ الشَّجَرَةِ الَّتِي كَلَّمَ اللَّهُ مِنْهَا مُوسَى إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَبْهَمَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِهِ تَعُودُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فِي دُنْيَاهُمْ وَلَا دِينِهِمْ، وَلَكِنَّ نَقْلَ الْخِلَافِ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ( )، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ( )وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ( ) رَجْمًا بِالْغَيْب( )وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ( ) قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾.   

فَقَدْ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى الْأَدَبِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَتَعْلِيمِ مَا يَنْبَغِي فِي مِثْلِ هَذَا؛

فَإِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ضَعَّفَ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَسَكَتَ عَنْ الثَّالِثِ فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ; إذْ لَوْ كَانَ بَاطِلًا لَرَدَّهُ كَمَا رَدَّهُمَا( ).

 ثُمَّ أَرْشَدَ إلَى أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى عِدَّتِهِمْ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ فَيُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا : ﴿قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ﴾، فَإِنَّهُ مَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ إلَّا قَلِيلٌ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ; فَلِهَذَا قَالَ : ﴿فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا﴾ أَيْ : لَا تُجْهِدْ نَفْسَك فِيمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَلَا تَسْأَلْهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ  لَا يَعْلَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا رَجْمَ الْغَيْبِ.

فَهَذَا أَحْسَنُ مَا يَكُونُ فِي حِكَايَةِ الْخِلَافِ: أَنْ تُسْتَوْعَبَ الْأَقْوَالُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ وَأَنْ يُنَبَّهَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهَا وَيُبْطَلَ الْبَاطِلُ وَتُذْكَرَ فَائِدَةُ الْخِلَافِ وَثَمَرَتُهُ ; لِئَلَّا يَطُولَ النِّزَاعُ وَالْخِلَافُ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ فَيَشْتَغِلُ بِهِ عَنْ الْأَهَمِّ( ).

فَأَمَّا مَنْ حَكَى خِلَافًا فِي مَسْأَلَةٍ وَلَمْ يَسْتَوْعِبْ أَقْوَالَ النَّاسِ فِيهَا فَهُوَ نَاقِصٌ; إذْ قَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ فِي الَّذِي تَرَكَهُ( ) أَوْ يَحْكِي الْخِلَافَ وَيُطْلِقُهُ وَلَا يُنَبِّهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْأَقْوَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ أَيْضًا.

فَإِنْ صَحَّحَ غَيْرَ الصَّحِيحِ عَامِدًا فَقَدْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ. أَوْ جَاهِلًا فَقَدْ أَخْطَأَ.

كَذَلِكَ مَنْ نَصَبَ الْخِلَافَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ أَوْ حَكَى أَقْوَالًا مُتَعَدِّدَةً لَفْظًا وَيَرْجِعُ حَاصِلُهَا إلَى قَوْلٍ أَوْ قَوْلَيْنِ مَعْنًى فَقَدْ ضَيَّعَ الزَّمَانَ وَتَكَثَّرَ بِمَا لَيْسَ بِصَحِيحِ(( فَهُوَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.

 فَصْلٌ إذَا لَمْ تَجِدْ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا وَجَدْته عَنْ الصَّحَابَةِ

َفقَدْ رَجَعَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِ التَّابِعِينَ( )؛

كَمُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ فَإِنَّهُ كَانَ آيَةً فِي التَّفْسِيرِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ : حَدَّثَنَا  أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثَ عرضات مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا( ).

وَبِهِ( ) إلَى التِّرْمِذِيِّ قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَهْدِيٍّ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مُعَمَّرٍ عَنْ قتادة قَالَ : مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ إلَّا وَقَدْ سَمِعْت فِيهَا شَيْئًا وَبِهِ إلَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عيينة عَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ : قَالَ مُجَاهِدٌ : لَوْ كُنْت قَرَأْت قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمْ أَحْتَجْ أَنْ أَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْقُرْآنِ مِمَّا سَأَلْت( ).

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا أَبُو كريب قَالَ : حَدَّثَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ عَنْ عُثْمَانَ الْمَكِّيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ : رَأَيْت مُجَاهِدًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَمَعَهُ أَلْوَاحُهُ قَالَ : فَيَقُولُ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ اُكْتُبْ حَتَّى سَأَلَهُ عَنْ التَّفْسِيرِ كُلِّهِ.

وَلِهَذَا كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ : إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ .

وَكَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.

وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.

وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ.

وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.

وَمَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ.

وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ.

وَأَبِي الْعَالِيَةِ.

وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ.

وقتادة.

وَالضِّحَاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ.

وَغَيْرِهِمْ مِنْ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ؛

فَتُذْكَرُ أَقْوَالُهُمْ فِي الْآيَةِ فَيَقَعُ فِي عِبَارَاتِهِمْ تَبَايُنٌ فِي الْأَلْفَاظِ يَحْسَبُهَا مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ اخْتِلَافًا فَيَحْكِيهَا أَقْوَالًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ الشَّيْءِ بِلَازِمِهِ أَوْ نَظِيرِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ  يَنُصُّ عَلَى الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ وَالْكُلُّ بِمَعْنَى وَاحِدٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمَاكِنِ فَلْيَتَفَطَّنْ اللَّبِيبُ لِذَلِكَ وَاَللَّهُ الْهَادِي( ).

وَقَالَ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ وَغَيْرُهُ: أَقْوَالُ التَّابِعِينَ فِي الْفُرُوعِ لَيْسَتْ حُجَّةً فَكَيْفَ تَكُونُ حُجَّةً فِي التَّفْسِيرِ؟! يَعْنِي: أَنَّهَا لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ خَالَفَهُمْ، وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا إذَا أَجْمَعُوا عَلَى الشَّيْءِ فَلَا يُرْتَابُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً، فَإِنْ اخْتَلَفُوا فَلَا يَكُونُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ، وَلَا عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى لُغَةِ الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ عُمُومِ لُغَةِ الْعَرَبِ أَوْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ( ).

فَأَمَّا تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ فَحَرَامٌ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : "مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ" .

حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى الثَّعْلَبِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنٍ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : "مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ ".

وَبِهِ إلَى التِّرْمِذِيِّ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حميد حَدَّثَنِي حَسَّانُ بْنُ هِلَالٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ أَخُو حَزْمٍ القطعي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الجوني عَنْ جُنْدُبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : "مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ". قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَقَدْ  تَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي سُهَيْلِ بْنِ أَبِي حَزْمٍ. وَهَكَذَا رَوَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ شَدَّدُوا فِي أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَأَمَّا الَّذِي رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وقتادة وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ فَلَيْسَ الظَّنُّ بِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْقُرْآنِ وَفَسَّرُوهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَوْ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَقَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَسَلَكَ غَيْرَ مَا أُمِرَ بِهِ، فَلَوْ أَنَّهُ أَصَابَ الْمَعْنَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكَانَ قَدْ أَخْطَأَ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ الْأَمْرُ مِنْ بَابِهِ كَمَنْ حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَإِنْ وَافَقَ حُكْمُهُ الصَّوَابَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ; لَكِنْ يَكُونُ أَخَفَّ جُرْمًا مِمَّنْ أَخْطَأَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَهَكَذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْقَذَفَةَ كَاذِبِينَ فَقَالَ : ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ فَالْقَاذِفُ كَاذِبٌ، وَلَوْ كَانَ قَدْ قَذَفَ مَنْ زَنَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِخْبَارُ بِهِ وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلِهَذَا تَحَرَّجَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ عَنْ تَفْسِيرِ مَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ؛

كَمَا رَوَى شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ : أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إذَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَمْ أَعْلَمْ؟

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ : حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ يَزِيدَ  عَنْ الْعَوَّامِ بْنِ حوشب عَنْ إبْرَاهِيمَ التيمي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ : ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾ فَقَالَ : أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إنْ أَنَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ؟ مُنْقَطِعٌ.

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَيْضًا حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ حميد عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ : ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾ فَقَالَ: هَذِهِ الْفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا الْأَبُّ ؟ ثُمَّ رَجَعَ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ : إنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ يَا عُمَرُ ( ).

وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حميد حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَفِي ظَهْرِ قَمِيصِهِ أَرْبَعُ رِقَاعٍ فَقَرَأَ : ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾ فَقَالَ: مَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ قَالَ:  إنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ فَمَا عَلَيْك أَنْ لَا تَدْرِيهِ.

وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا رضي الله عنهما إنَّمَا أَرَادَا اسْتِكْشَافَ عِلْمِ كَيْفِيَّةِ الْأَبِّ وَإِلَّا فَكَوْنُهُ نَبْتًا مِنْ الْأَرْضِ ظَاهِرٌ لَا يُجْهَلُ; لقوله تعالى تَعَالَى : ﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا. وَعِنَبًا وَقَضْبًا. وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا. حَدَائِقَ غُلْبًا﴾.

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ آيَةٍ لَوْ سُئِلَ عَنْهَا بَعْضُكُمْ لَقَالَ فِيهَا فَأَبَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا. إسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ : ﴿يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ فَقَالَ  لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَمَا : ﴿يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: إنَّمَا سَأَلْتُك لِتُحَدِّثَنِي فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُمَا يَوْمَانِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمَا. فَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ يَعْنِي ابْنَ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ : جَاءَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ إلَى جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَسَأَلَهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ. فَقَالَ: أُحَرِّجُ عَلَيْك إنْ كُنْت مُسْلِمًا لَمَا قُمْت عَنِّي أَوْ قَالَ : أَنْ تُجَالِسَنِي( ).

وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ: إنَّا لَا نَقُولُ فِي الْقُرْآنِ شَيْئًا.

وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: إنَّهُ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ إلَّا فِي الْمَعْلُومِ مِنْ الْقُرْآنِ.

وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَقَالَ: لَا تَسْأَلْنِي عَنْ الْقُرْآنِ وَسَلْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ يَعْنِي عِكْرِمَةَ.

وَقَالَ ابْنُ شوذب : حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ قَالَ : كُنَّا نَسْأَلُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ فَإِذَا سَأَلْنَاهُ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ سَكَتَ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْ .

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنِي أَحْمَد بْنُ عبدة الضبي حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: لَقَدْ أَدْرَكْت فُقَهَاءَ الْمَدِينَةِ وَإِنَّهُمْ  لَيُعَظِّمُونَ الْقَوْلَ فِي التَّفْسِيرِ، مِنْهُمْ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَنَافِعٌ .

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ : مَا سَمِعْت أَبِي تَأَوَّلَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ قَطُّ.

وَقَالَ أَيُّوبُ وَابْنُ عَوْنٍ وَهُشَامٌ الدستوائي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سيرين قَالَ سَأَلْت عُبَيْدَةَ السلماني عَنْ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَقَالَ : ذَهَبَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ فَاتَّقِ اللَّهَ وَعَلَيْك بِالسَّدَادِ( ).

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : حَدَّثَنَا مُعَاذٌ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : إذَا حَدَّثْت عَنْ اللَّهِ فَقِفْ حَتَّى تَنْظُرَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ( ).

حَدَّثَنَا هشيم عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ : كَانَ أَصْحَابُنَا يَتَّقُونَ التَّفْسِيرَ وَيَهَابُونَهُ.

وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ قَالَ : قَالَ الشَّعْبِيُّ وَاَللَّهِ مَا مِنْ آيَةٍ إلَّا وَقَدْ سَأَلْت عَنْهَا وَلَكِنَّهَا الرِّوَايَةُ عَنْ اللَّهِ( ).

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : حَدَّثَنَا هشيم أَنْبَأَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : اتَّقُوا التَّفْسِيرَ فَإِنَّمَا هُوَ الرِّوَايَةُ عَنْ اللَّهِ .

فَهَذِهِ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ وَمَا شَاكَلَهَا عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ مَحْمُولَةٌ عَلَى تَحَرُّجِهِمْ عَنْ الْكَلَامِ فِي التَّفْسِيرِ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ، فَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ لُغَةً وَشَرْعًا فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ; وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَقْوَالٌ فِي التَّفْسِيرِ وَلَا مُنَافَاةَ; لِأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيمَا عَلِمُوهُ وَسَكَتُوا عَمَّا جَهِلُوهُ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَإِنَّهُ كَمَا يَجِبُ السُّكُوتُ عَمَّا  لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ الْقَوْلُ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ مِمَّا يَعْلَمُهُ; لقوله تعالى : ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾، وَلِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ : "مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامِ مِنْ نَارٍ"( ).

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا. وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ. وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ. وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ( ). وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.