×
وما آتاكم الرسول فخذوه: فإن السنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم، فهي تبيِّن عقائد الإسلام وعباداته وآدابه وشرائعه، وهي تقرر ما في القرآن وتؤكده، أو تبيّنه وتفسره، كما أنها تستقل بتشريع الأحكام، وتنص على تحليل الحلال وتحريم الحرام، مما لم يرد فيه نص من القرآن. وهذه المقالة تُلقي الضوء على مكانة السنة النبوية في شرع الله، وبيان أنها والكتاب لا يفترقان في إيمانِ العبد.

 وما آتاكم الرسول فخذوه


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله المحمود بكل لسان، والصلاة والسلام على النبي المصطفى العدنان، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ما غرد طائر وارتفع أذان، أما بعد..

فإن السنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم، فهي تبيِّن عقائد الإسلام وعباداته وآدابه وشرائعه، وهي تقرر ما في القرآن وتؤكده، أو تبيّنه وتفسره، كما أنها تستقل بتشريع الأحكام، وتنص على تحليل الحلال وتحريم الحرام، مما لم يرد فيه نص من القرآن([1]).

هذا, وقد ظهر في هذه العصور المتأخرة طوائف شتى، منهم من رفض السنة بالكلية، وزعم الاكتفاء بالقرآن، وهذا الصنف مُكذِّب بالقرآن والسنة؛ لأن الله تعالى يقول: }وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا{ [الحشر: 7]. وصنف حكم هواه وفكره في سنة النبي ﷺ‬، فقبل منها ما شاء مما استساغه عقله، ورد ما شاء مما لم يستسغه عقله، فأحدث بذلك فتنة بين المسلمين، وجرأ العوام على رفض السنة والطعن فيها.

وصنف آخر سلط على أحاديث النبي ﷺ‬ وجوه التأويلات البعيدة والتحريفات الغريبة، محاولا بذلك التقريب بين الإسلام والحضارة الغربية المعاصرة، ونسي هؤلاء قوله تعالى: }وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ{ [البقرة: 120].

وصنف رابع تهاون بالسنة تهاونا عظيما، فكلما دُعي إلى شيء من الالتزام بالسنة قال: هذه سنة ليست بفريضة، فلا تحاول إلزامي بها, وكثير من هؤلاء قد عدُّوا كثيرا من الواجبات سننا، وكثيرا من المحرمات مكروهات؛ اتباعا للهوى، وبُعدا عن سبيل المؤمنين، فصلاة الجماعة عندهم سنة, وليست واجبة، ورد السلام عندهم سنة, وليس واجبا، وحلق اللحية عندهم مكروه, وليس محرما، وكذلك الإسبال وشرب الدخان وغير ذلك. ولنفترض أن هذه الأمور لا تتعدى السُّنية, ولا تتجاوز الكراهة، فلماذا لا نعمل بسنة النبي ﷺ‬؟ ولماذا نقتحم لجج المكروهات؟ هل كان الصحابة يسألون عن حكم الشيء، فإن كان سنة تركوه، وإن كان مكروها فعلوه؟ لماذا لا نقف عند حدود الأدب مع سنة النبي ﷺ‬؟ لماذا لا نعظم السنة, ونقبلها, ونطبقها في كل أمورنا؟ لماذا نستهين بكثير من السنن, ونزعم أننا غير مطالبين بها؟

  

 مكانة السنّة في القرآن

* أليس الله تعالى قد أمر بطاعة نبيه واتباع سنته؟ فقال سبحانه: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ{ [الأنفال: 20]، وقال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ{ [الأنفال: 24].

* أليس الله تعالى قد ربط الهداية بطاعة نبيه ﷺ‬ واتباع سنته فقال سبحانه: }وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ{ [الأعراف: 158]. وقال سبحانه: }وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا{ [النور: 54].

* أليس الله تعالى قد كتب رحمته لأتباع النبي ﷺ‬ وضمن لهم الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة؟ قال تعالى: }وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ...{ إلى قوله: }فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{ [الأعراف: 156-157].

* أليس الله تعالى قد علق الإيمان على التحاكم إلى رسول الله ﷺ‬ والرضا بحكمه؟ فقال سبحانه: }فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا{ [النساء: 65]، وقال تعالى: }وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ{ [الأحزاب: 36]،

وقال تعالى: }فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ{ [النساء: 59].

قال الإمام الشافعي رحمه الله في قوله تعالى: }فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ{ أي: إلى ما قاله الله والرسول، أي: إلى الكتاب والسنة.

* أليس الله تعالى قد حذر من مخالفة الرسول ﷺ‬ ورتب على ذلك الهلاك والفتنة؟ قال تعالى: }فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{ [النور: 63].

وقال تعالى: }وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا{ [الفرقان: 27-28].

* أليس الله تعالى قد ربط محبته باتباع نبيه ﷺ‬؟ قال تعالى: }قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ{ [آل عمران: 31].

* أليس الله تعالى قد جعل سنة النبي ﷺ‬ من الوحي المعصوم؟ قال تعالى: }وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى{ [النجم: 3-4].

فيا أيها الفضلاء, هذا كتاب الله ينطق بالحق, ويدعونا إلى التمسك بسنة الحبيب المصطفى ﷺ‬، فلماذا غشيت أبصار بعضنا عن هذه الآيات الكريمات؟ ولماذا يروغ بعضنا عنها روغان الثعالب؟

 مكانة السنّة في السنّة

وقد حفلت سنة النبي ﷺ‬ بالأمر بالاتباع, والنهي عن الابتداع, والحث على التمسك بما جاء عن النبي ﷺ‬ من أقوال أو أفعال أو تقريرات، ومما ورد في ذلك:

1- قول النبي ﷺ‬: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى» قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى» [رواه البخاري].

2- وقال النبي ﷺ‬: «دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافُهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» [متفق عليه].

3- وعن العرباض بن سارية – رضي الله عنه - قال: وعظنا رسول الله ﷺ‬ موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فأوصِنا. قال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» [رواه أبو داود والترمذي, وقال: حسن صحيح].

  

 النبي أولى بك من نفسك

أخي الحبيب، ألا تعلم أن النبي ﷺ‬ ينبغي أن يكون أحب إليك من نفسك؟ أي – والله - أخي الحبيب، ينبغي أن يكون النبي ﷺ‬ أحب إليك من نفسك، وذلك بطاعته واتباعه والانقياد له. قال الله: }النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ{ [الأحزاب: 6].

قال ابن القيم رحمه الله: (وهو دليل على أن من لم يكن الرسول أولى به من نفسه, فليس من المؤمنين، وهذه الأولوية تتضمن أمورا:

* منها: أن يكون أحب إلى العبد من نفسه؛ لأن الأولوية أصلها الحب، ونفس العبد أحب له من غيره، ومع هذا يجب أن يكون الرسول أولى به من نفسه, وأحب إليه منها، فبذلك يحصل له اسم الإيمان.

* ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم وسائر لوازم المحبة من الرضا بحكمه والتسليم لأمره، وإيثاره على ما سواه.

* ومنها: ألا يكون للعبد حكم على نفسه أصلا، بل الحكم على نفسه للرسول ﷺ‬ يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده أو الوالد على ولده، فليس له في نفسه تصرف قط إلا ما تصرف فيه الرسول الذي هو أولى به منها.

فيا عجبا! كيف تحصل هذه الأولوية لعبد قد عزل ما جاء به الرسول ﷺ‬ عن منصب التحكيم، ورضي بحكم غيره واطمأن إليه أعظم من اطمئنانه إلى الرسول ﷺ‬، وزعم أن الهدى لا يُتلقى من مشكاته، وإنما يُتلقى من دلالة العقول، وأن الذي جاء به لا يفيد اليقين، إلى غير ذلك من الأقوال التي تتضمن الإعراض عنه، وعما جاء به، والحوالة في العلم النافع إلى غيره، ذلك هو الضلال البعيد، ولا سبيل إلى ثبوت هذه الأولوية إلا بعزل كل ما سواه، وتوليته في كل شيء، وعرض ما قاله كل أحد سواه على ما جاء به، فإن شهد له بالصحة قبله، وإن شهد له بالبطلان رده، وإن لم تتبين شهادته له بصحة, ولا ببطلان، جعله بمنـزلة أحاديث أهل الكتاب، ووقفه حتى يتبين أي الأمرين أولى به.

فمن سلك هذه الطريقة استقام له سفر الهجرة إلى الرسول ﷺ‬، واستقام له علمه وعمله، وأقبلت وجوه الحق إليه من كل جهة)([2]).

 مواقف السلف من اتباع السنة

لقد أحب سلف هذه الأمة سنة النبي ﷺ‬، فعملوا بها، ودعوا إليها، وذبوا عنها، وتحملوا الأذى في سبيل نشرها، وحاربوا أعداءها حتى ظهرت كلمة أهل السنة والجماعة, واندثرت مذاهب أهل الأهواء والبدع.

 أولا: الصحابة:

1- فهذا الصديق – رضي الله عنه - يقول: (لست تاركا شيئا كان رسول الله ﷺ‬ يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ).

2- وهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يستلم الحجر الأسود, ويقول: إني لأعلم أنك حجر لا تضر, ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ‬ يقبلك ما قبلتك.

3- وأخرج سعيد بن منصور عن عمران بن حصين أنهم كانوا يتذاكرون الحديث، فقال رجل: دعونا من هذا، وجيئونا بكتاب الله، فقال عمر: إنك أحمق، أتجد في كتاب الله الصلاة مفسرة؟ أتجد في كتاب الله الصيام مفسرا؟ إن القرآن أحكم ذلك والسنة تفسره.

4- وهذا علي بن أبي طالب – رضي الله عنه - يقول: ما كنت لأدع سنة رسول الله ﷺ‬ لقول أحد من الناس.

5- ويقول: لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخفين أحق بالمسح من ظاهرهما، ولكن رأيت رسول الله ﷺ‬ يمسح على ظاهرهما.

6- وقال عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه: الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة.

7- وقال أبي بن كعب رضي الله عنه: عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ليس من عبد على سبيل وسنة، ذكر الرحمن, ففاضت عيناه من خشية الله، فمسته النار أبدا، وإن اقتصادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة.

8- وهذا ابن عمر - رضي الله عنهما - كان إذا رآه أحد ظن أن به شيئا من تتبعه آثار النبي ﷺ‬. قال نافع مولاه: لو نظرت إلى ابن عمر - رضي الله عنهما - إذا اتبع سنة النبي ﷺ‬ لقلت: هذا مجنون.

9- وقال ابن عباس – رضي الله عنهما: أما تخافون أن تعذبوا, ويخسف بكم؟ أن تقولوا: قال رسول الله ﷺ‬ وقال فلان.

10- وقال أيضا: أيها الناس، توشك أن تنـزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم: قال رسول الله ﷺ‬, وتقولون: قال أبو بكر وعمر.

 ثانيا: التابعون ومن بعدهم:

1- قال أبو العالية: عليكم بالأمر الأول الذي كانوا عليه قبل أن يفترقوا.

2- وقال الأوزاعي: أصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم.

3- وقال يوسف بن أسباط: إذا بلغك عن رجل بالمشرق أنه صاحب سنة، فابعث إليه بالسلام، فقد قل أهل السنة.

4- وقال أيوب: إني لأخبر بموت الرجل من أهل السنة, فكأني أفقد بعض أعضائي.

5- وقال أيضا: إن من سعادة الحدث والأعجمي أن يوفقهما الله لعالم من أهل السنة.

6- وقال أبو بكر بن عياش: السنة في الإسلام أعز من الإسلام في سائر الأديان.

7- وقال سفيان الثوري: استوصوا بأهل السنة خيرا؛ فإنهم غرباء.

8- وقال الجنيد: الطرق كلها مسدودة إلا على المقتفين آثار رسول الله ﷺ‬، والمتبعين سنته وطريقته، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه، كما قال تعالى: }لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ{ [الأحزاب: 21].

 حوار مع جاهل بالسنة

قال الإمام الآجري في كتاب "الشريعة": ينبغي لأهل العلم والعقل إذا سمعوا قائلا يقول: قال رسول الله ﷺ‬ في شيء قد ثبت عند العلماء، فعارض إنسان جاهل فقال: لا أقبل إلا ما كان في كتاب الله تعالى.

قيل له: أنت رجل سوء، وأنت ممن حذرناك النبي ﷺ‬ وحذر منك العلماء.

وقيل له: يا جاهل، إن الله أنزل فرائضه جملة، وأمر نبيه أن يبين للناس ما نزل إليهم. قال الله عز وجل: }وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ{ [النحل: 44].

وقيل لهذا المعارض لسنن رسول الله ﷺ‬: يا جاهل، قال الله تعالى: }وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ{ أين تجد في كتاب الله تعالى أن الفجر ركعتان؟ وأن الظهر أربع؟ وأن العصر أربع؟ والمغرب ثلاث؟ وأن العشاء الآخرة أربع؟

أين تجد أحكام الصلاة ومواقيتها, وما يصلحها, وما يبطلها إلا من سنن النبي ﷺ‬؟

ومثله الزكاة، أين تجد في كتاب الله تعالى من مائتي درهم خمسة دراهم؟ ومن عشرين دينارا نصف دينار؟ ومن أربعين شاة شاة؟ ومن خمس من الإبل شاة؟ ومن جميع أحكام الزكاة، أين تجد هذا في كتاب الله تعالى؟

وكذلك جميع فرائض الله التي فرضها في كتابه، لا يعلم الحكم فيها إلا بسنن رسول الله ﷺ‬.

هذا قول علماء المسلمين، ومن قال غير هذا خرج عن ملة الإسلام، ودخل في ملة الملحدين، نعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى([3]).

 أسباب السعادة والشقاء

قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا{ [النساء: 59].

قال ابن القيم رحمه الله: فأمر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله... أما أولو الأمر فلا تجب طاعة أحدهم إلا إذا اندرجت تحت طاعة الرسول، لا طاعة مفردة مستقلة... ثم قال تعالى: }فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ{ وهذا دليل قاطع على أنه يجب رد موارد النـزاع في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كله إلى الله ورسوله لا إلى أحد غير الله ورسوله، فمن أحال الرد على غيرهما فقد ضاد أمر الله، ومن دعا عند النـزاع إلى حكم غير الله ورسوله فقد دعا بدعوى الجاهلية، فلا يدخل العبد في الإيمان حتى يرد كل ما تنازع فيه المتنازعون إلى الله ورسوله، ولهذا قال تعالى: }إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ{ ثم قال تعالى: }ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا{ أي: هذا الذي أمرتكم به من طاعتي وطاعة رسولي وأولياء الأمر، ورد ما تنازعتم فيه إليّ وإلى رسولي خير لكم في معاشكم ومعادكم، وهو سعادتكم في الدارين، فهو خير لكم, وأحسن عاقبة.

فدل هذا على أن طاعة الله ورسوله، وتحكيم الله ورسوله هو سبب السعادة عاجلاً وآجلاً، ومن تدبر العالم والشرور الواقعة فيه علم أن كل شر في العالم سببه مخالفة الرسول والخروج عن طاعته، وكل خير في العالم, فإنه بسبب طاعة الرسول. وكذلك شرور الآخرة وآلامها وعذابها إنما هو من موجبات مخالفة الرسول ومقتضياتها، فعاد شر الدنيا والآخرة إلى مخالفة الرسول, وما يترتب عليه.

فلو أن الناس أطاعوا الرسول حق طاعته لم يكن في الأرض شر قط، وهذا كما أنه معلوم في الشرور العامة والمصائب الواقعة على الأرض، فذلك هو في الشر والألم والغم الذي يصيب العبد في نفسه، فإنما هو بسبب مخالفة الرسول، ولأن طاعته هي الحصن الذي من دخله كان من الآمنين، والكهف الذي من لجأ إليه كان من الناجين، فعلم أن شرور الدنيا والآخرة إنما هو الجهل بما جاء به الرسول، والخروج عنه([4]).

وصلى الله على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه وسلم.



([1]) انظر: دعوة الإسلام ص (259).

([2]) زاد المهاجر إلى ربه ص(20-21).

([3]) الشريعة (1/410-412).

([4]) زاد المهاجر إلى ربه ص(29-30).