×
حديث: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» دراسة حديثية نفسية: قال المؤلف: «وفيما يلي من الصفحات نعيش في رحاب هذا الحديث الشريف فهمًا ودراسةً واستنباطًا للأحكام القيمة والدروس النافعة لكل مسلمٍ، ولكل مستقيمٍ على هذا الدين، ولكل من يريد رفعة درجاته وتكفير سيئاته، ولكل داعيةٍ يريد سلوك صراط الله تعالى على فهمٍ وبصيرةٍ».

 حديث: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» دراسة حديثية نفسية

إعداد

أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

أستاذ السنة وعلومها بجامعة الإمام

محمد بن سعود الإسلامية بالرياض

دار ابن الأثير

1427هـ


بسم الله الرحمن الرحيم

 المقـدمـة

الحمد لله الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين؛ الذي بعثه الله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الذين اقتفوا أثره وسلكوا نهجه وآزروه في المحن والشدائد، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 أما بعد...

فإن دين الإسلام دين كامل وشامل، دين السعادة والراحة والطمأنينة، ارتضاه الله لهذه الأمة، وأكمله على حبيبه وخير خلقه؛ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا)) [المائدة:3] فلا يقبل دين عند الله سواه كما قال تعالى: ((وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) [آل عمران:85].

وإن الشريعة الإسلامية قد تميزت عن سائر النظم والنظريات والأديان، في القديم والحديث، بما لديها من مصادر للتشريع وتلقي العلوم والمعارف، تلك المصادر التي تستمد قوة بقائها وصلاحيتها من الله تعالى، خالق البشر وفاطرهم، والعالم بحاجاتهم وأحوالهم، فوضع هذه المصادر لتكون هدىً ورحمةً لهم، في تحقيق المنافع ودرء المفاسد. ورأس هذه المصادر الكتاب والسنة كما جاء في الحديث: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما:كتاب الله وسنة نبيه»([1]).

 فكل من يريد معرفة الشريعة والعمل بها فلا بد له من الرجوع إلى هذين المصدرين الأساسيين، والنهل من هذين المنبعين الصافيين، والعض على هذين الأساسين المتينين بالنواجذ، حتى يفوز برضا الرب تبارك وتعالى، ويدخل الجنات العلى.

واستشعاراً بأهمية المصدر الثاني من هذين المصدرين قمنا بدراسة بعض الأحاديث النبوية المشرقة؛ دراسة حديثية توجيهية، ومنها هذا الحديث النبوي الرائع الذي يهتم بمبدأ عظيم من مبادئ الإسلام وهو «الإحسان». ذلك المبدأ الذي أمر الله به في كتابه العزيز في قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) [النحل:90].

 قال ابن مسعود: «هذه أجمع آية في القرآن لخير يمتثل، ولشر يجتنب».

 وقال النقاش: يقال: «زكاة العدل الإحسان، وزكاة القدرة العفو، وزكاة الغنى المعروف، وزكاة الجاه كتب الرجل إلى إخوانه»([2]).

وفيما يلي من الصفحات نعيش في رحاب هذا الحديث الشريف فهماً ودراسةً واستنباطاً للأحكام القيمة والدروس النافعة لكل مسلمٍ، ولكل مستقيمٍ على هذا الدين، ولكل من يريد رفعة درجاته وتكفير سيئاته، ولكل داعيةٍ يريد سلوك صراط الله تعالى على فهمٍ وبصيرةٍ.

وتأتي هذه الأهمية العظيمة في مثل هذه الأوقات التي اختلطت فيها المفاهيم بين غلوٍ وتقصيرٍ، وإفراطٍ وتفريطٍ، ومزجٍ للمصطلحات، وعدم تمييزٍ بينها، وإعمال بعضها في موضع الآخر، وإهمالٍ لكثير منها، فطبّق الإسلام منقوصاً، وحدث عدم التوازن، وحمّل ما لا يحتمل، فجُرّت الويلات على الإسلام وأهله، فوجب البيان مستنداً لحديث الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام.

وقد توخيت في هذا البيان محاولة التوسط بين الإيجاز والإطناب، مذكراً للعالمِ، ومعلماً للمتعلمِ، ومنبهاً للغافلِ، فيه الإشارة تغني عن صريح العبارةِ، والإيجاز عن الإطنابِ.

 أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علمنا ويعلمنا ما ينفعنا ويزيدنا هدىً وتقىً, وعلماً نافعاً، وعملاً صالحاً، وأن يجعل هذا العمل من المدخرات، وأن يعفو عن الزلل والتقصير. إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه/

فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

ص. ب. 41961 الرياض -11531

Email: [email protected]


نص الحديث

قال الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه:

حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا إسماعيل ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ خَالِدٍ الحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: «ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ الله كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؛ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ, وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ, وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ, فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ».

[رواه مسلم وغيره من أصحاب السنن]


 الوقفة الأولى: تخريـج الحديـث

هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه: كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الأمر بإحسان الذبح، برقم: (1955).

وأبو داود في سننه: كتاب الضحايا، باب في النهي أن تصبر البهائم والرفق بالذبيحة، برقم: (2814) بلفظ: «فإذا قتلتم فأحسنوا، قال: غير مسلم، يقول: فأحسنوا القتلة».

والترمذي في جامعه: كتاب الديات، باب ما جاء في النهي عن المثلة، برقم: (1409).

وقد ذكره النسائي في سننه في خمسة مواضع وهي:

- كتاب الضحايا، باب الأمر بإحداد الشفرة، برقم: (4410).

- كتاب الضحايا، باب ذكر المنفلتة التي لا يقدر على أخذها، برقم: (4416).

- كتاب الضحايا، باب حسن الذبح، برقم: (4417) و(4418) و(4419).

وابن ماجه في سننه: كتاب الذبائح، باب إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، برقم: (3170).

والدارمي في سننه: كتاب الأضاحي، باب في حسن الذبيحة، برقم: (1970) بلفظ: «ثم ليرح ذبيحته».

وفي مسند أحمد في أربعة مواضع:

كتاب مسند الشاميين، حديث: شداد بن أوس رضي الله عنه (4/123).

 وبلفظ: «ثم ليرح ذبيحته» (4/123).

 وبلفظ: «وليحدن أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» (4/124).

 وبلفظ: «وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» (4/125).

وخرّج الطبراني في المعجم الأوسط (2/383) برقم: (1667) ما يكون شاهداً لهذا الحديث.

فعن شداد بن أوسٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الله تعالى كتب العدل، وإذا أراد أحدكم أن يذبح فليحد شفرته، وليرح ذبيحته».

وخرّجه ابن عدي (6/426) نحوه من حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل محسن فأحسنوا، فإذا قتل أحدكم فليكرم مقتوله، وإذا ذبح فليحد شفرته، وليرح ذبيحته».

وقال ابن رجب: هذا الحديث خرجه مسلم دون البخاري من رواية أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن شداد بن أوس، وتركه البخاري لأنه لم يخرج في صحيحه لأبي الأشعث شيئاً،وهو شامي ثقة([3]).

وقال الذهبي في السير: «لم يخرج له البخاري، ولا لأبي سلام، لأنهما لا يكادان يصرحان باللقاء، وهو لا يقنع بالمعاصرة»([4]).


 الوقفة الثانية: مع كلمات الحديث

 يحسن بنا قبل أن نبدأ بالشرح نقف وقفةً قصيرةً حول شرح معاني المفردات.

«ثنتان»: أي: خصلتان اثنتان، هما؛ إحسان القتلة وإحسان الذبحة([5]).

«كتب»: بمعنى فرض كما جاء في قوله تعالى: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) [البقرة:183].

قال الطبري: يعني بقوله: ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)): فرض عليكم الصيام([6]).

و بمعنى أوجب: كما قال السندي في شرح الحديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء): أي أوجب عليكم الإحسان في كل شيء([7]).

وقال الطيبي: أي أوجب مبالغة لأن الإحسان هنا مستحب([8]). والمراد بالإيجاب الندب المؤكد([9]).

وبمعنى أمر: يقول صاحب التحفة في شرح هذا الحديث: أي أمركم بالإحسان في كل شيء([10]).

«الإحسان»: قال القرطبي: «وأما الإحسان فقد قال علماؤنا: الإحسان مصدر أحسن يُحسن إحساناً، ويقال على معنيين: أحدهما متعد بنفسه، كقولك: أحسنت كذا، أي حسّنته وكملته، وهو منقول بالهمزة من حسن الشيء. وثانيهما: متعد بحرف جر، كقولك: أحسنت إلى فلان، أي أوصلت إليه ما ينتفع به»([11]).

وقال الشوكاني: وأما الإحسان فمعناه اللغوي يرشد إلى أنه التفضل بما لم يجب كصدقة التطوع، ومن الإحسان فعل ما يثاب عليه العبد مما لم يوجبه الله عليه في العبادات وغيرها، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الإحسان بأن يعبد اللهَ العبدُ حتى كأنه يراه, فإن لم يكن يراه فإن الله يراه. فقال في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - الثابت في الصحيحين: قال جبريل - عليه السلام - ما الإحسان يا رسول الله ؟ قال: «والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»([12]). وهذا هو معنى الإحسان شرعاً([13]).

«على كل شيء»: على بمعنى «إلى» أي: كتب الإحسان إلى كل شيء([14]).

 أو بمعنى «في» أي: أمركم بالإحسان في كل شيء([15]).

أو بمعنى «اللام» متعلقة بالإحسان، ولا بد من «على» أخرى محذوفة بمعنى الاستعلاء المجازي متعلقة بكتب، والتقدير: كتب على الناس الإحسان لكل شيء([16]).

«القتلة»: يقول ابن الأثير: القتلة بالكسر: الحالة من القتل، وبفتحها: المرة منه. وقد تكرر في الحديث، ويفهم المراد بهما من سياق اللفظ([17]).

«إحسان القتل»: اختيار أسهل الطرق وأقلها ألماً([18]).

ويقول السندي: إحسان القتلة: أن لا يمثل ولا يزيد في الضرب([19]).

ويقول النووي: وقوله: «فأحسنوا القتلة» عام في كل قتيل من الذبائح، والقتل قصاصاً، وفي حد ونحو ذلك([20]).

«الذبحة»: يقول النووي: وقع في كثير من النسخ أو أكثرها «فأحسنوا الذَبح» بفتح الذال بغير هاء، وفي بعضها «الذِبحة» بكسر الذال وبالهاء كالقِتلة، وهي الهيئة والحالة([21]).

«إحسان الذبح»: الرفق بها؛ فلا يصرعها بعنف, ولا يجرها للذبح بعنف, ولا يذبحها بحضرة أخرى([22]).

 «وليُحد»: من الإحداد بضم الياء، يقال: أحدّ السكين وحدَّدها واستحدّها بمعنىً([23]).

يقول الفيروز آبادي: «وحدّ السكين وأحدّها وحدّدها مسحها بحجر أو مبرد فحدّت»([24]).

ويقول الرازي: وتحديد الشفرة وإحدادها واستحدادها بمعنىً([25]). أي:ليجعله حاداً سريع القتل([26]).

 «شَفْرة»: بفتح الشين وسكون الفاء: السكين العظيم, والجمع: شفار([27]).

«وليُرِحْ»: بضم الياء وكسر الراء من «أراح» إذا حصلت راحة. أي: فليرح ذبيحته بإحداد السكين وتعجيل إمرارها([28]).

 «الذبح»: يقول الرازي: الذبح معروف وبابه قطع، والذبح بالكسر ما يذبح، ومنه قوله تعالى: ((وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)) [الصافات:107] والذبيح المذبوح، والأنثى ذبيحة. وإنما جاءت بالهاء لغلبة الاسم عليها([29]).


 الوقفة الثالثة:  الإحسان مبدأ إسلامي عظيم

 إن الشريعة الإسلامية قد اهتمت بحاجات الإنسان بكاملها مراعيةً بذلك مصلحته الفردية ومصلحة مجتمعه الذي يعيش فيه، دون النظر إلى لونه أو جنسه أو ماهيته، والفارق بين الإنسان والآخر هو فارق واحد لا غيره وهو التقوى، فعلى أساس هذا الفارق يكرم الإنسان ويهان ,كما قال تعالى: ((يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) [الحجرات:13] فمن الأشياء التي تدل على التقوى وتزيد فيه، الإحسان مع كل أحد، وفي كل شيء، ولقد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم عناية كاملة بهذا الجانب اتضحت في أوامره ونواهيه وأفعاله وأقواله وتقريره مؤكداً ومستفيضاً على ما جاء به القرآن من ترغيب خاص على اختياره.

فقد أمر الله بالإحسان في كتابه العزيز في قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) [النحل:90].

 قال ابن مسعود رضي الله عنه : «هذه أجمع آية في القرآن لخير يمتثل، ولشر يجتنب»([30]).

و من أمره قوله تعالى: ((وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) [البقرة:195].

* والإحسان من أعلا مقامات التعامل مع الله ومع الخلق، والنصوص من الكتاب والسنة الدالة عليه كثيرة، منها قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)) [النحل:128].

وقوله تعالى: ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)) [العنكبوت:69].

وقوله تعالى: ((كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)) [المرسلات:43-44].

وقوله تعالى: ((لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ)) [الزمر:34].

 * والإحسان صفة حميدة، صفة الأنبياء والمرسلين وصفة عباد الله المخلصين كما ذكر تعالى عن نوح: ((سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)) [الصافات:79-80] .

وقال عن إبراهيم: ((سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)) [الصافات:109-110] .

 وقال عن موسى وهارون: ((سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)) [الصافات:120-121] .

 وقال عن إل ياسين: ((سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)) وكما ذكر عن عدد من الأنبياء في قوله تعالى: (( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ )) [الأنعام:84] .

وكما قال تعالى عن أوصاف أهل الجنة: (( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )) [المرسلات:43].

وقال في موضع آخر: (( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ )) [الذاريات:16] .

فالإحسان خلق فاضل يجب أن يتلبس به المسلم في جميع مراحل عمره، وينبغي الالتزام به في جميع شؤونه، يقول الشيخ الجزائري منبهًا أهمية الإحسان في ميادين كثيرة, وفي أبواب الدين كلها، يحسن أن ننقله هنا ونكتفي به، قال: «والإحسان في باب العبادات أن تؤدى العبادة أيا كان نوعها من صلاة أو صيام أو حج أو غيرها أداءً صحيحاً, باستكمال شروطها وأركانها, واستيفاء سننها وآدابها, وهذا لا يتم للعبد إلا إذا كان شعوره قوياً بمراقبة الله عز وجل حتى كأنه يراه تعالى ويشاهده، أو على الأقل يشعر نفسه بأن الله تعالى مطلع عليه، وناظر إليه, فبهذا وحده يمكنه أن يحسن عبادته ويتقنها, فيأتي بها على الوجه المطلوب, وهذا ما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»([31]).

وفي باب المعاملات فهو للوالدين ببرهما بالمعروف، وطاعتهما في غير معصية الله، وإيصال الخير إليهما، وكف الأذى عنهما، والدعاء والاستغفار لهما, وإنفاذ عهدهما, وإكرام صديقهما.

وهو للأقارب ببرهم ورحمتهم والعطف عليهم، وفعل ما يجمل فعله معهم وترك ما يسيء إليهم.

وهو لليتامى بالمحافظة على أموالهم، وصيانة حقوقهم، وتأديبهم وتربيتهم بالحسنى، والمسح على رؤوسهم.

وهو للمساكين بسد جوعهم، وستر عورتهم، وعدم احتقارهم وازدراءهم، وعدم المساس بهم بسوء، وإيصال النفع إليهم بما يستطيع.

وهو لابن السبيل بقضاء حاجته, وسد خلته, ورعاية ماله, وصيانة كرامته, وبإرشاده إن استرشد, وهدايته إن ضل.

وهو للخادم بإتيانه أجره قبل أن يجف عرقه، وبعدم إلزامه ما لا يلزمه، أو تكليفه بما لا يطيق, وبصون كرامته، واحترام شخصيته.

وهو لعموم الناس بالتلطف في القول لهم, ومجاملتهم في المعاملة، وبإرشاد ضالهم، وتعليم جاهلهم، والاعتراف بحقوقهم، وبإيصال النفع إليهم، وكف الأذى عنهم.

وهو للحيوان بإطعامه إن جاع، ومداواته إن مرض، وبعدم تكليفه ما لا يطيق وحمله على ما لا يقدر، وبالرفق به إن عمل، وإراحته إن تعب.

وهو في الأعمال البدنية بإجادة العمل، وإتقان الصنعة، وبتخليص سائر الأعمال من الغش، وهكذا» اهـ كلامه([32]).

هذا ملخص لميادين الإحسان التي سنفصلها إن شاء الله، وخلاصة القول في أهميتها أن النبي صلى الله عليه وسلم ربى أصحابه على هذه الخصلة النبيلة، والخلق المتين، فوصل مجتمع الصحابة إلى أعلى قمة في الإحسان، فنعموا بالحياة الطيبة، بل مما ساعد ذلك على انتشار الإسلام. فسموا بحسن خلقهم وإحسانهم إلى الناس، وتواضعهم مع خلق الله.

وهنا همسة في أذن كل داعية ومعلم ومربي الناس الخير ليجيب كل واحد على هذا السؤال, أين نحن من هذه الصفة الحميدة التي لا تأتي إلا بالخير، فما تخلق بها أحد إلا جملته، وما اعتزل عنها أحد إلا شانته. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الرفق الذي هو جزء من الإحسان فقال: «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ»([33]).

 ولعل في الوقفات الآتية ما يجلي مفهوم هذا المبدأ العظيم، ويوسِّعه، ويرسخه في النفوس.


 الوقفة الرابعة: الإحسان مع الله تعالى

 الإحسان: هذه الكلمة التي تعني: الوصول للقمة في التعامل مع الله سبحانه، وفي التعامل مع خلق الله جل وعلا.

 ولتجلية هذا المعنى العظيم نبيّن في هذه الوقفة شيئا من مقتضيات الإحسان مع الله تعالى، مبتدئين بما جاء به النص الكريم، كما في حديث جبريل عليه السلام الذي ذكرت فيه مراتب الدين: فعن ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه ، قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ؛ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَن الْإِسْلَامِ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِن اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَن الْإِيمَانِ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِالله، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَن الْإِحْسَانِ؟ قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَن السَّاعَةِ؟ قَالَ: مَا المَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِن السَّائِلِ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَن أَمَارَتِهَا؟ قَالَ: أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ. قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَن السَّائِلُ؟ قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ»([34]).

فذكر في تعريف الإحسان: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

وقد شرح العلماء هذا الحديث وأطنبوا في شرحه، فنذكر فيما يلي ما يتعلق بالإحسان، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الإحسان: الإخلاص في التوحيد([35]).

وقال صاحب التحفة: و الْإِحْسَانُ: مَصْدَرٌ؛ تَقُولُ: أَحْسَنَ يُحْسِنُ إِحْسَانًا. وَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، تَقُولُ: أَحْسَنْت كَذَا إِذَا أَتْقَنْته، وَأَحْسَنْت إِلَى فُلَانٍ إِذَا أَوْصَلْت إِلَيْهِ النَّفْعَ, وَالْأَوَّلُ هُوَ المُرَادُ لِأَنَّ المَقْصُودَ إِتْقَانُ الْعِبَادَةِ وَقَدْ يُلْحَظُ الثَّانِي بِأَنَّ المُخْلِصَ مَثَلًا مُحْسِنٌ بِإِخْلَاصِهِ إِلَى نَفْسِهِ([36]).

وقال النووي: قَوْله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُد الله كَأَنَّك تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك» هَذَا مِنْ جَوَامِع الْكَلِم الَّتِي أُوتِيهَا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ أَحَدنَا قَامَ فِي عِبَادَة وَهُوَ يُعَايِن رَبّه سُبْحَانه وَتَعَالَى لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِمَّا يَقْدِر عَلَيْهِ مِن الْخُضُوع وَالْخُشُوع وَحُسْن السَّمْت وَاجْتِمَاعه بِظَاهِرِهِ وَبَاطِنه عَلَى الِاعْتِنَاء بِتَتْمِيمِهَا عَلَى أَحْسَن وُجُوههَا إِلَّا أَتَى بِهِ، فَقَالَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُعْبُدْ الله فِي جَمِيع أَحْوَالك كَعِبَادَتِك فِي حَال الْعِيَان فَإِنَّ التَّتْمِيم المَذْكُور فِي حَال الْعِيَان إِنَّمَا كَانَ لِعِلْمِ الْعَبْد بِاطِّلَاعِ الله سُبْحَانه وَتَعَالَى عَلَيْهِ؛ فَلَا يُقْدِم الْعَبْد عَلَى تَقْصِير فِي هَذَا الْحَال لِلِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ.وَهَذَا المَعْنَى مَوْجُود مَعَ عَدَم رُؤْيَة الْعَبْد فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْمَل بِمُقْتَضَاهُ، فَمَقْصُودُ الْكَلَامِ الْحَثُّ عَلَى الْإِخْلَاص فِي الْعِبَادَة، وَمُرَاقَبَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي إِتْمَام الْخُشُوع وَالْخُضُوع وَغَيْر ذَلِكَ([37]).

 وقال صاحب التحفة: وَإِحْسَانُ الْعِبَادَةِ الْإِخْلَاصُ فِيهَا وَالْخُشُوعُ وَفَرَاغُ الْبَالِ حَالَ التَّلَبُّسِ بِهَا وَمُرَاقَبَةُ المَعْبُودِ([38]).

وقال السندي في شرح سنن النسائي: وَالْحَاصِل أَنَّ الْإِحْسَان هُوَ مُرَاعَاة الْخُشُوع وَالْخُضُوع وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا فِي الْعِبَادَة عَلَى وَجْه رَعَاهُ لَوْ كَانَ رَائِيًا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ رَائِيًا حَال الْعِبَادَة لَمَا تَرَكَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِن الْخُشُوع وَغَيْره، وَلَا مَنْشَأ لِتِلْكَ المُرَاعَاة حَال كَوْنه رَائِيًا إِلَّا كَوْنه تَعَالَى رَقِيبًا عَالِمًا مُطَّلِعًا عَلَى حَاله، وَهَذَا مَوْجُود وَإِنْ لَمْ يَكُن الْعَبْد يَرَاهُ تَعَالَى وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْلِيله «فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك» أَيْ: وَهُوَ يَكْفِي فِي مُرَاعَاة الْخُشُوع بِذَلِكَ الْوَجْه([39]).

وقد نبه الحافظ ابن حجر في الفتح على ضلال بعض الصوفية حيث حملوا هذا الحديث على مزاعمهم الباطلة، فيقول: «وَأَقْدَمَ بَعْض غُلَاة الصُّوفِيَّة عَلَى تَأْوِيل الْحَدِيث بِغَيْرِ عِلْم فَقَالَ: فِيهِ إِشَارَة إِلَى مَقَام المَحْو وَالْفَنَاء, وَتَقْدِيره فَإِنْ لَمْ تَكُنْ - أَيْ: فَإِنْ لَمْ تَصِرْ - شَيْئًا وَفَنِيت عَنْ نَفْسك حَتَّى كَأَنَّك لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فَإِنَّك حِينَئِذٍ تَرَاهُ. وَغَفَلَ قَائِل هَذَا - لِلْجَهْلِ بِالْعَرَبِيَّةِ - عَنْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ المُرَاد مَا زَعَمَ لَكَانَ قَوْله: «تَرَاهُ» مَحْذُوف الْأَلِف ; لِأَنَّهُ يَصِير مَجْزُومًا, لِكَوْنِهِ عَلَى زَعْمه جَوَاب الشَّرْط, وَلَمْ يَرِد فِي شَيْء مِنْ طُرُق هَذَا الْحَدِيث بِحَذْفِ الْأَلِف, وَمَن ادَّعَى أَنَّ إِثْبَاتهَا فِي الْفِعْل المَجْزُوم عَلَى خِلَاف الْقِيَاس فَلَا يُصَار إِلَيْهِ إِذْ لَا ضَرُورَة هُنَا. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ مَا اِدَّعَاهُ صَحِيحًا لَكَانَ قَوْله «فَإِنَّهُ يَرَاك» ضَائِعًا لِأَنَّهُ لَا ارْتِبَاط لَهُ بِمَا قَبْله. وَمِمَّا يُفْسِد تَأْوِيله رِوَايَة كَهْمَس فَإِنَّ لَفْظهَا «فَإِنَّك إِنْ لَا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك» وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة سُلَيْمَان التَّيْمِيِّ, فَسَلَّطَ النَّفْي عَلَى الرُّؤْيَة لَا عَلَى الْكَوْن الَّذِي حَمَلَ عَلَى ارْتِكَاب التَّأْوِيل المَذْكُور, وَفِي رِوَايَة أَبِي فَرْوَة «فَإِنْ لَمْ تَرَهُ فَإِنَّهُ يَرَاك» وَنَحْوه فِي حَدِيث أَنَس وَابْن عَبَّاس, وَكُلّ هَذَا يُبْطِل التَّأْوِيل المُتَقَدِّم. وَالله أَعْلَم([40]).

هذا هو الإحسان مع الله عز وجل كما جاء في الحديث، ويمكن أن نلخص شيئاً من مقتضياته:

والإحسان في التعامل مع الله إخلاص العبادة له سبحانه كما قال تعالى: ((قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ)) [الزمر:11] وقال أيضاً: ((قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي)) [الزمر:14] وقال أيضاً: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) [البينة:5] وقال أيضاً: ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)) [الكهف:110].

قال العلماء رحمهم الله تعالى: إن هذه الآية تشتمل على شرطي قبول العبادة، وهما: أن يكون العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن يكون موافقاً لشريعة النبي صلى الله عليه وسلم.

 وكما جاء في الحديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَن الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»([41]).

 وقال النووي في شرحه: «مَعْنَاهُ أَنَا غَنِيّ عَن المُشَارَكَة وَغَيْرهَا, فَمَنْ عَمِلَ شَيْئًا لِي وَلِغَيْرِي لَمْ أَقْبَلهُ, بَلْ أَتْرُكهُ لِذَلِكَ الْغَيْر. وَالمُرَاد أَنَّ عَمَل المُرَائِي بَاطِل لَا ثَوَاب فِيهِ, وَيَأْثَم بِهِ»([42]).

وقد جاء وعيد شديد لمن يعمل لأجل الناس ولا يخلص العمل لله وحده، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ؛ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ الله عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ المَالِ كُلِّهِ؛ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ: كَذَبْتَ؛ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ, ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ, ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ»([43]).

قال النووي في شرحه: قَوْله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَازِي وَالْعَالِم وَالْجَوَاد, وَعِقَابهمْ عَلَى فِعْلهمْ ذَلِكَ لِغَيْرِ الله, وَإِدْخَالهم النَّار: دَلِيل عَلَى تَغْلِيط تَحْرِيم الرِّيَاء وَشِدَّة عُقُوبَته, وَعَلَى الْحَثّ عَلَى وُجُوب الْإِخْلَاص فِي الْأَعْمَال, كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) وَفِيهِ: أَنَّ الْعُمُومِيَّات الْوَارِدَة فِي فَضْل الْجِهَاد إِنَّمَا هِيَ لِمَنْ أَرَادَ الله تَعَالَى بِذَلِكَ مُخْلِصًا, وَكَذَلِكَ الثَّنَاء عَلَى الْعُلَمَاء وَعَلَى المُنْفِقِينَ فِي وُجُوه الْخَيْرَات كُلّه مَحْمُول عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ للهِ تَعَالَى مُخْلِصًا([44]).

ومن الإحسان مع الله امتثال أوامره واجتناب نواهيه، وبالأخص التوقي من الشرك لأنه من أكبر الكبائر قال تعالى: ((نَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) [النساء:48].

ولا شك أن أعظم الذنوب الشرك والكفر بالله تعالى، ولذا ورد النهي الشديد عن الوقوع فيه؛ وإن ترتب على ذلك إزهاق النفس، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: «أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِالله شَيْئًا وَإِنْ قُطِّعْتَ وَحُرِّقْتَ، وَلَا تَتْرُكْ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا؛ فَمَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ، وَلَا تَشْرَب الخَمْرَ فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ»([45]).

ولا شك أن أغلى شيء في الدنيا الإيمان فليحافظ الإنسان عليه فبدونه لا يدخل الجنة،كما جاء في الحديث عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ الله قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْنَدَ ظَهْرَهُ إِلَى قُبَّةِ أَدَمٍ فَقَالَ: «أَلَا لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، اللَّهمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهمَّ اشْهَدْ»([46]) الحديث.

وفي رواية أحمد: قَالَ جَابِرٌ رضي الله عنه : أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحَيْمًا أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ: «أَلَا لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ»([47]).

ومصداقه من قوله تعالى: ((إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)) [المائدة:72].

والشرك بالله من أعظم الذنوب كما جاء في الحديث: عَنْ عَبْدِ الله رضي الله عنه قَالَ: «سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اﷲ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ ﷲِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ.قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ.قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ»([48]).

وإن المشرك لا تنفعه أعماله، كما جاء في الحديث عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ الله ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ ؟قَالَ: لَا يَنْفَعُهُ؛ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ»([49]).

قال النووي في شرحه: مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث: أَنَّ مَا كَانَ يَفْعَلهُ مِن الصِّلَة وَالْإِطْعَام وَوُجُوه الْمَكَارِم لَا يَنْفَعهُ فِي الْآخِرَة ; لِكَوْنِهِ كَافِرًا, وَهُوَ مَعْنَى قَوْله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ يَقُلْ رَبّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْم الدِّين» أَيْ لَمْ يَكُنْ مُصَدِّقًا بِالْبَعْثِ, وَمَنْ لَمْ يُصَدِّق بِهِ كَافِر, وَلَا يَنْفَعهُ عَمَل([50]).

وقال تعالى: ((لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) [الزمر:65].

فمن أشرك بالله شيئاً فقد فسدت عباداته كلها من صلاة وصوم وجهاد وصدقة، نسأل الله السلامة من جميع أنواع الشرك.

ومن أعظم الإحسان مع الله تعالى أن يخلص التوحيد له سبحانه بأنواعه الثلاثة: من الألوهية، والربوبية، والأسماء والصفات.

 والتوحيد: إفراد الله تعالى بما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات. وقد اجتمعت في قوله تعالى: ((رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)) [مريم:65].

 فنؤمن إيماناً جازماً بأن الله وحده هو المستحق للعبادة, ونصرف جميع أنواع العبادات له وحده، كما قال تعالى: ((وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)) [البقرة:163] فلا معبود سواه.

كما نؤمن إيماناً جازماً بأن الله هو الخالق والمالك والمدبر لهذا الكون ولجميع الخلائق، كما قال تعالى: ((لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) [الأعراف:54] وقال تعالى: ((وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) [آل عمران:189] وقال: (( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ )) [يونس:32].

وكذلك نثبت له الأسماء والصفات ما أثبته لنفسه في كتابه أو أثبته رسوله في سنته كما يليق بجلاله تبارك وتعالى بدون تحريف, ولا تعطيل, ولا تكييف, ولا تمثيل، كما قال تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)) [الشورى:11]، ((وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [الأعراف:180]([51]).

وقد ضل في باب الأسماء والصفات بعض الأمة الإسلامية فانقسموا فيه إلى فرق متناقضة بين تعطيل معاني الأسماء والصفات وبين تشبيهه وتمثيله تعالى بخلقه، متأثرين بعلم الكلام والفلسفة الذي كان سائداً في حقبة تاريخية، وقد رجع بعض كبار علمائها إلى مذهب أهل السنة والجماعة. فيقول الرازي بعد مدة من حياته:

نهاية إقدام العقول عقال                     وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا              وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا               سوى أن جمعنا فيه قيـل وقالوا

ثم قال: «لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية؛ فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طه:5]، ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)) [فاطر:10] (يعنى: فأثبت) وأقرأ في النفي: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11]، ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)) [مريم:65] (يعني: فأنفي المماثلة، وأنفي الإحاطة به علماً) ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي»([52]).

ومن الإحسان مع الله تعالى حسن الظن به تبارك وتعالى، وقد جاء في الحديث التأكيد عليه فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ الله تَعَالَى: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي؛ فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»([53]).

ويترتب جزاء الله بحسب ظن العبد به إن خيراً فخير وإن شراً فشر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي؛ إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ»([54]).

يقول صاحب التحفة: أَيْ أَنَا أُعَامِلُهُ عَلَى حَسَبِ ظَنِّهِ بِي وَأَفْعَلُ بِهِ مَا يَتَوَقَّعُهُ مِنِّي مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ, وَالْمُرَادُ الْحَثُّ عَلَى تَغْلِيبِ الرَّجَاءِ عَلَى الْخَوْفِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بالله([55]).

وعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ»([56]).

وبالأخص عند الموت فعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِثَلَاثٍ يَقُولُ: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ بِالله الظَّنَّ»([57]).

قال صاحب التحفة نقلاً عن القرطبي: وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْقِيَامِ بِمَا عَلَيْهِ, مُوقِنًا بِأَنَّ الله يَقْبَلُهُ وَيَغْفِرُ لَهُ لِأَنَّهُ وَعَدَ بِذَلِكَ وَهُوَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَإِن اعْتَقَدَ أَوْ ظَنَّ أَنَّ الله لَا يَقْبَلُهَا وَأَنَّهَا لَا تَنْفَعُهُ فَهَذَا هُوَ الْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ الله وَهُوَ مِن الْكَبَائِرِ([58]).

فأحسن الظن بالله تعالى، وحذار ثم حذار من سوء الظن به، فإنه من الموبقات، قال تعالى: ((وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)) [الفتح:6].

 ومن الإحسان مع الله إتيان العبادات كما شرعه على لسان محمد صلى الله عليه وسلم مراعياً جميع آدابه وأحكامه.

كما جاء في فضل الوضوء عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ قَالَ: «تَوَضَّأَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يَوْمًا وُضُوءًا حَسَنًا ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا ثُمَّ خَرَجَ إِلَى المَسْجِدِ لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ غُفِرَ لَهُ مَا خَلَا مِنْ ذَنْبِهِ»([59]).

وأوعد بالنار لمن لم يكمل الوضوء كما جاء في حديث عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه قَالَ: «تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَا هَا، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلَاةُ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِن النَّارِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا»([60]).

وفي رواية مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أوعدهم بالنار، ثم أمرهم بإسباغ الوضوء؛ فعَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «رَجَعْنَا مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَدِينَةِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِمَاءٍ بِالطَّرِيقِ تَعَجَّلَ قَوْمٌ عِنْدَ الْعَصْرِ فَتَوَضَّئُوا وَهُمْ عِجَالٌ، فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ لَمْ يَمَسَّهَا المَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِن النَّارِ أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ»([61]).

وكذلك ورد حث شديد على مراعاة الإحسان في الصلاة كما قال تعالى: (( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ )) [الماعون:7] وذكر في موضع آخر أن التكاسل بالصلاة وعدم الخشوع فيها من صفات المنافقين، كما قال تعالى: ((إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا)) [النساء:142].

يقول الشيخ السعدي في تفسير هذه الآية: «يخبر تعالى عن المنافقين بما كانوا عليه من قبيح الصفات وشنائع السمات وأن طريقتهم مخادعة الله تعالى، أي: بما أظهروه من الإيمان وأبطنوه من الكفران...ومن صفاتهم أنهم (إذا قاموا إلى الصلاة) التي هي أكبر الطاعات العملية إن قاموا ((قَامُوا كُسَالَى)) متثاقلين لها متبرمين من فعلها، والكسل لا يكون إلا من فقد الرغبة من قلوبهم، فلولا أن قلوبهم فارغة من الرغبة إلى الله وإلى ما عنده، عادمة للإيمان، لم يصدر منهم الكسل»([62]).

وكما بيّن النبي صلى الله عليه وسلم عن حالهم فعن أُبَيَّ بْن كَعْبٍ رضي الله عنه قال: «صَلَّى رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا صَلَاةَ الصُّبْحِ فَقَالَ أَشَهِدَ فُلَانٌ الصَّلَاةَ ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَفُلَانٌ ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ أَثْقَلِ الصَّلَاةِ عَلَى المُنَافِقِينَ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَالصَّفُّ الْأَوَّلُ عَلَى مِثْلِ صَفِّ المَلَائِكَةِ وَلَوْ تَعْلَمُونَ فَضِيلَتَهُ لَابْتَدَرْتُمُوهُ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ، وَمَا كَانُوا أَكْثَرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ»([63]).

و عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه بَعْدَ الظُّهْرِ، فَقَامَ يُصَلِّي الْعَصْرَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ ذَكَرْنَا تَعْجِيلَ الصَّلَاةِ أَوْ ذَكَرَهَا، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ، يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ حَتَّى إِذَا اصْفَرَّت الشَّمْسُ فَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ أَوْ عَلَى قَرْنَي الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ الله فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا»([64]).

وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الخشوع في الصلاة فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً ثُمَّ رَقِيَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: فِي الصَّلَاةِ وَفِي الرُّكُوعِ إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ وَرَائِي كَمَا أَرَاكُمْ»([65]).

قال الحافظ في شرحه: قوله: «كما أراكم» يعني مِنْ أَمَامِيْ... «وَفِي الْحَدِيث الْحَثّ عَلَى الْخُشُوع فِي الصَّلَاة وَالْمُحَافَظَة عَلَى إِتْمَام أَرْكَانهَا وَأَبْعَاضهَا, وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَبِّهَ النَّاس عَلَى مَا يَتَعَلَّق بِأَحْوَالِ الصَّلَاة, وَلَا سِيَّمَا إِنْ رَأَى مِنْهُمْ مَا يُخَالِف الْأولَى»([66]).

كما أخبر في رواية أن أجر الصلاة بحسب خشوعه في الصلاة فعَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَمَّارًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ لَا أَرَاكَ إِلَّا قَدْ خَفَّفْتَهُمَا. قَالَ: هَلْ نَقَصْتُ مِنْ حُدُودِهَا شَيْئًا ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ خَفَّفْتَهُمَا، قَالَ: إِنِّي بَادَرْتُ بِهِمَا السَّهْوَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي وَلَعَلَّهُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا عُشْرُهَا وَتُسْعُهَا أَوْ ثُمُنُهَا أَوْ سُبُعُهَا حَتَّى انْتَهَى إِلَى آخِرِ الْعَدَدِ»([67]).

وقال أيضاً: فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله وَكَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ، قَالَ: لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا، أَوْ قَالَ: لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ»([68]).

وعن فضل صلاة الجماعة: عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى المَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَل المَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ: اللَّهمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهمَّ ارْحَمْهُ، وَلَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ»([69]).

وكذلك الإحسان مع الله في الزكاة أن يخرجها مقدار ما فرضه الله عليه طيباً به نفسه، وقد حث الله عليه في كتابه العزيز في مواضع عديدة: مثل قوله تعالى: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)) [البقرة:267].

 وقال: ((وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ)) [المنافقون:10].

وقال أيضاً: ((إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)) [البقرة:271].

وكما جاء في الحديث أن من يتصدق بدينار بصدق نية وإخلاص قلب يتقدم ألف دينار فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ, وَلَا يَقْبَلُ الله إِلَّا الطَّيِّبَ, وَإِنَّ الله يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ, ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ»([70]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، قَالُوا: وَكَيْفَ؟ قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ تَصَدَّقَ بِأَحَدِهِمَا، وَانْطَلَقَ رَجُلٌ إِلَى عُرْضِ مَالِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا»([71]).

يقول السندي في شرحه: «وَظَاهِر الْأَحَادِيث أَنَّ الْأَجْر عَلَى قَدْر حَال الْمُعْطِي لَا عَلَى قَدْر المَال الْمُعْطَى؛ فَصَاحِب الدِّرْهَمَيْنِ حَيْثُ أَعْطَى نِصْف مَاله فِي حَالٍ لَا يُعْطِي فِيهَا إِلَّا الْأَقْوِيَاءُ، يَكُونُ أَجْرُهُ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِهِ، بِخِلَافِ الْغَنِيّ فَإِنَّهُ مَا أَعْطَى نِصْفَ مَالِهِ وَلَا فِي حَالٍ لَا يُعْطَى فِيهَا عَادَةً، وَيَحْتَمِل أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّ الْكَلَامَ فِيمَا إِذَا صَارَ إِعْطَاءُ الْفَقِيرِ الدِّرْهَمَ سَبَبًا لِإِعْطَاءِ ذَلِكَ الْغَنِيِّ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ، وَحِينَئِذٍ يَزِيدُ أَجْرُ الْفَقِيرِ؛ فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ أَجْرِ الْغَنِيِّ وَأَجْر زِيَادَة دِرْهَم لَكِنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا المَعْنَى وَلَا يُنَاسِبهُ، وَالله تَعَالَى أَعْلَمُ»([72]).

وكذلك الإحسان في الصيام بأن يصوم لله تعالى إيماناً به واحتساباً للأجر،كما جاء في الحديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»([73]).

قال الحافظ في الفتح: «وَالمُرَاد بِالْإِيمَانِ الِاعْتِقَاد بِحَقِّ فَرْضِيَّةِ صَوْمِهِ, وَبِالِاحْتِسَابِ طَلَب الثَّوَابِ مِن الله تَعَالَى. وَقَالَ الْخَطَّابِيّ: اِحْتِسَابًا أَيْ عَزِيمَة, وَهُوَ أَن يَصُومَهُ عَلَى مَعْنَى الرَّغْبَة فِي ثَوَابِهِ طَيِّبَةً نَفْسُهُ بِذَلِكَ غَيْرَ مُسْتَثْقِل لِصِيَامِهِ وَلَا مُسْتَطِيل لِأَيَّامِهِ»([74]).

كما قال في الأضاحي: عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى الله مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ؛ إِنَّهَا لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا،وَأَظْلَافِهَا،وَأَنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِن الله بِمَكَانٍ قَبْلَ أَن يَقَعَ مِن الْأَرْضِ،فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا»([75]).

قال صاحب التحفة: «أَيْ إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّهُ تَعَالَى يَقْبَلُهُ وَيَجْزِيكُمْ بِهَا ثَوَابًا كَثِيرًا فَلْتَكُنْ أَنْفُسُكُمْ بِالتَّضْحِيَةِ طَيِّبَةً غَيْرَ كَارِهَةٍ لَهَا»([76]).

ومن لم يراع آداب الصوم فإنه لا يستفيد من صومه كما جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ ﷲِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»([77]).

قال الحافظ في الفتح: «وَالْمُرَاد بِقَوْلِ الزُّورِ: الْكَذِبُ, وَالْجَهْلِ: السَّفَهُ, وَالْعَمَلِ بِهِ أَيْ بِمُقْتَضَاهُ»وقَوْلُهُ: «فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَن يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» قَالَ ابْن بَطَّال: لَيْسَ مَعْنَاهُ أَن يُؤْمَرَ بِأَن يَدَعَ صِيَامَهُ, وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ التَّحْذِير مِنْ قَوْلِ الزُّورِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ, وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ «مَنْ بَاع الْخَمْر فَلْيُشَقِّصْ الْخَنَازِير» أَيْ يَذْبَحْهَا, وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِذَبْحِهَا وَلَكِنَّهُ عَلَى التَّحْذِيرِ وَالتَّعْظِيمِ لِإِثْم بَائِع الْخَمْر.

وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: «لَيْسَ المَقْصُود مِنْ شَرْعِيَّةِ الصَّوْمِ نَفْس الْجُوعِ وَالْعَطَشِ, بَلْ مَا يَتْبَعُهُ مِنْ كَسْرِ الشَّهَوَات وَتَطْوِيعِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ لِلنَّفْسِ الْمُطْمَئِنَّةِ, فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لَا يَنْظُرُ الله إِلَيْهِ نَظَر الْقَبُولِ»([78]).

وإذا راعى الصائم آداب الصيام فإنه يؤجر بلا حساب، كما جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ ؛قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ ؛فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ؛ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ الله مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ»([79]).

وكذلك أمر بالإحسان في الحج، بأن يحج الإنسان خالصاً لله مع مراعاة آدابه، مجتنباً اللهو والرفث والفسوق والجدال، كما قال تعالى: ((الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ)) [البقرة:197] وكما جاء في الحديث: عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَـمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ حَجَّ للهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»([80]).

وسماه في حديث آخر حجاً مبروراً الذي جزاءه الجنة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ»([81]).

وقال النووي في شرحه: قَوْله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالْحَجّ المَبْرُور لَيْسَ لَهُ جَزَاء إِلَّا الْجَنَّة» الْأَصَحّ الْأَشْهَر: أَنَّ المَبْرُور هُوَ الَّذِي لَا يُخَالِطهُ إِثْم, مَأْخُوذ مِن الْبِرّ وَهُوَ الطَّاعَة, وَقِيلَ: هُوَ المَقْبُول, وَمِنْ عَلَامَة الْقَبُول أَنْ يَرْجِع خَيْرًا مِمَّا كَانَ, وَلَا يُعَاوِد المَعَاصِي, وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا رِيَاء فِيهِ, وَقِيلَ: الَّذِي لَا يُعْقِبهُ مَعْصِيَة, وَهُمَا دَاخِلَانِ فِيمَا قَبْلهمَا, وَمَعْنَى (لَيْسَ لَهُ جَزَاء إِلَّا الْجَنَّة): أَنَّهُ لَا يَقْتَصِر لِصَاحِبِهِ مِن الْجَزَاء عَلَى تَكْفِير بَعْض ذُنُوبه, بَلْ لَا بُدّ أَنْ يَدْخُل الْجَنَّة. وَالله أَعْلَم([82]).

وليحرص الإنسان على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا النسك وغيره من المناسك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يردد هذه الكلمة بكثرة «خذوا عني مناسككم» كما جاء في الحديث عن جَابِر رضي الله عنه يَقُولُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَقُولُ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ»([83]).

وفي مسند أحمد عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «دَفَعَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَأَوْضَعَ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ فَأَرَاهُمْ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ وَأَمَرَهُمْ بِالسَّكِينَةِ وَقَالَ: لِتَأْخُذْ أُمَّتِي مَنْسَكَهَا فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَلْقَاهُمْ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا»([84]).

بل التلبية التي يرفع بها الإنسان في الحج هي تدل على الإحسان مع الله بأن يخلص له التوحيد، ويجتنب الشرك، فلنمعن النظر في مفرادات التلبية التي علّمها النبي صلى الله عليه وسلم أمته: عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَبَّيْكَ اللَّهمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ»([85]).

فهذه الكلمات تحمل بين جوانبها إقراراً تاماً بالعبودية لله تعالى وتوحيده سبحانه وتعالى، وتنزيهه عن كل ما لا يليق بجلاله عز وجل، فهذا الورد كله إثبات التوحيد لله عز وجل، ونفي النقيض عنه، وهذا من أعظم الإحسان مع الله عزوجل. بخلاف ما كان المشركون يفعلونه من الشرك بالله عز وجل حتى في كلمات التلبية كما روى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: «كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْلَكُمْ قَدْ قَدْ.فَيَقُولُونَ: إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، يَقُولُونَ هَذَا وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ»([86]).

قال الإمام النووي: قَوْله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قَدْ قَدْ) قَالَ الْقَاضِي: رُوِيَ بِإِسْكَانِ الدَّال وَكَسْرهَا مَعَ التَّنْوِين, وَمَعْنَاهُ: كَفَاكُمْ هَذَا الْكَلَام فَاقْتَصِرُوا عَلَيْهِ وَلَا تَزِيدُوا, وَهُنَا اِنْتَهَى كَلَام النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ثُمَّ عَادَ الرَّاوِي إِلَى حِكَايَة كَلَام الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: (إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَك... إِلَى آخِره) مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ هَذِهِ الْجُمْلَة, وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: اِقْتَصِرُوا عَلَى قَوْلكُمْ: (لَبَّيْكَ لَا شَرِيك لَك).وَالله أَعْلَم([87]).

وعند تأملي لآيات الحج وجدت أن هناك رابطاً عظيماً بين التوحيد ونفي الشرك وبين الحج، مثل قوله تعالى: ((وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)) [الحج:26]، وقوله تعالى: ((وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)) [آل عمران:97].

فنصل إلى قناعة تامة بأن الحج إلى بيت الله الحرام بجميع أقواله وأعماله وشعائره - كأي عبادة أخرى - تنطلق من (لا إله إلا الله) لتحقيق تعميق (لا إله إلا الله)في النفوس بجلاء ووضوح، ابتداء من إقامة بيت الله الحرام، وبناء الكعبة المشرفة، ثم تشريع الحج إلى هذا البيت العظيم، وهكذا في كل أعمال الحج؛ حيث لا يخلو نسك أو ركن منه إلا وفيه علامة أو إشارة إلى توحيد الخالق عز وجل قولاً أو عملاً، سواء كان هذا التوحيد في الربوبية، أو الألوهية، أو في الأسماء والصفات، وذلك لأهميته العظيمة في حياة الإنسان، وهي الحقيقة التي أرسل الله الرسل والأنبياء لترسيخها في نفوس الناس والعمل بمقتضياتها، وإزالة كل ما هو لغير الله من هذه النفوس من عبادةٍ للأحجار, أو الأشجار, أو الكواكب, أو البشر, أو القبور, أو الأضرحة،يقول الله تعالى: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)) [النحل:36] وقال أيضاً: ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)) [الكهف:110] وكذا قوله جل وعلا: ((قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [آل عمران:64] و غيرها من الآيات كثيرة جداً، حتى قال بعض العلماء: إن غالبية سور القرآن تتضمن نوعي التوحيد، لذا فليربط المسلم بين أول حياته وآخرها، وأول أعماله وآخرها بتوحيد الله سبحانه, يبدأ حياته موحداً ويعيش موحداً ويموت موحداً، كما قال تعالى: (( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ )) [الأنعام:163]([88]).

 ومن الإحسان الاعتراف بنعم الله على العبد، فلله على الإنسان مننٌ لا تحصى, ونعمٌ لا تعدّ، كما ذكر تعالى بعض ما سخرها الله لعباده في قوله تعالى: (( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ )) [إبراهيم:34].

 وكذلك عدّد في سورة النحل بعض نعمه فقال: (( وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ * هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ )) [النحل:19] وقال تعالى: (( وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ )) [النحل:54] . فعلى العبد أن يتذكر نعم الله عليه وإحسانه به، فيحسن مع الله كما أحسن الله إليه، لأن جزاء الإحسان الإحسان. كما قال تعالى: ((هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ)) [الرحمن:60].

 ومن الإحسان مع الله أن يشكر الله على نعمه بلسانه بحمده والثناء عليه بما هو أهله، وبجوارحه بتسخيرها في طاعته عز وجل، وكذلك ينظر إلى علمه تعالى واطلاعه على السرائر والخفايا، قال تعالى: (( وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )) [الملك:14] وليمتلئ قلبه منه مهابةً ووقاراً وتعظيماً وتبجيلاً، وليخجل من معصيته وليستحي من مخالفته، وليخش عقابه وبطشه، قال تعالى: ((إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ)) [البروج:12] وقال تعالى: ((وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)) [هود:102] فلينظر العبد إلى ألطاف الله ونعمه عليه متمثلاً قوله تعالى: ((وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) [البقرة:195].

فيتضح مما سبق بأن الإحسان مع الله يتمثل في توحيده تبارك وتعالى، وإخلاص العبادة له، واجتناب الشرك، كما يتمثل في قضاء الإنسان حياته العملية كلها متمثلاً أوامره ومجتنباً نواهيه.


 الوقفة الخامسة: الإحســان مــع الخلــق

الإحسان للخلق, وفي التعامل معهم هو الركن الثاني من أركان التعامل، بل هو أعلى درجات التعامل معهم، فالله جل وعلا؛ ذكر لفظ الإحسان في تعاملاتٍ مختلفةٍ، قال تعالى في شأن الوالدين: ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)) [الإسراء:23] وقال سبحانه في شأن الناس عامة: ((وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا))((وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [النحل:125] وقال في شأن المجادلة مع أهل الكتاب: ((وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [العنكبوت:46] وقال سبحانه في شأن الدعوة: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)) [النحل:125]، تلك الآيات الدالة على منهجية تعامل المسلم مع غيره، تلك المنهجية العالية التي نفصلها في المباحث الآتية:

 المبحث الأول: الإحسان مع الوالدين:

1- لقد وردت نصوصٌ كثيرةٌ في الكتاب والسنة في بيان حقوق الوالدين والحث على برهما والإحسان إليهما، قال تعالى: (( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا )) [الإسراء:24].

قال الإمام القرطبي: «أمر الله سبحانه بعبادته وتوحيده، وجعل بر الوالدين مقروناً بذلك كما قرن شكرهما بشكره فقال: (( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)) وقال: ((اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)) [لقمان:14] وفي صحيح البخاري عن عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الصَّلاَةُ لِوَقْتِهَا» قَالَ قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْن ِ» قَالَ قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله»([89]). فأخبر صلى الله عليه وسلم أن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام ورتب ذلك بـ«ثم» «التي تعطي الترتيب والمهلة»([90]).

 وقال تعالى: ((وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)) [النساء:36].

 قال القرطبي رحمه الله أيضاً: «قال العلماء: فأحق الناس بعد الخالق المنان بالشكر والإحسان والتزام البر والطاعة له والإذعان, من قرن الله الإحسان إليه بعبادته, وطاعته وشكره بشكره, وهما الوالدان, فقال تعالى: ((أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ))»([91]).

 وقال تعالى: ((وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)) [العنكبوت:8].

2- والإحسان للوالدين من الوصايا العشر التي ذكرت في الأنعام في قوله تعالى: ((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)) [الأنعام:151].

3- وكما أنه من المواثيق التي أخذ الله بها من بني إسرائيل قال تعالى: ((وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)) [البقرة:83].

4- وكما أنه من أفضل الأعمال بعد الصلاة كما ذكر في حديث ابن مسعود السابق: فعَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الصَّلاَةُ لِوَقْتِهَا» قَالَ قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْن ِ» قَالَ قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله»([92]).

ويكون برهما والإحسان إليهما بطاعتهما فيما لا يخالف الشرع؛ لأنه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، يقول القرطبي: «عقوق الوالدين مخالفتهما في أغراضهما الجائزة لهما، كما أن برهما موافقتهما على أغراضهما»([93]).

5- وأنه مقدمٌ على الجهاد في سبيل الله.كما مر في حديث ابن مسعود السابق، وقد جاء في أحاديث أخرى أيضاً، فعَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَىٰ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْجِهَادِ. فَقَالَ: «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ»([94]).

 وعَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه : أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنِّي جِئْتُ أَبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَلَقَدْ تَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ قَالَ:«ارْجِعْ إلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا»([95]).

قال جمهور العلماء: يحرم الجهاد إذا منع الأبوان أو أحدهما بشرط أن يكونا مسلمين، لأن برهما فرض عين عليه والجهاد فرض كفاية، فإذا تعين الجهاد بالنفير من الإمام فلا إذن، لقوله: «فإذا استنفرتم فانفروا»([96]).

6- وأن رضا الوالدين سبب رضا الرب وسخطهما سبب في سخط الرب.

عن عبدِ الله بنِ عَمْرٍو رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «رِضاَ الرَّبِّ في رِضَا الْوَالِدِ وسَخَطُ الرَّبِّ في سَخَطِ الْوَالِدِ»([97]).

7- وبر الوالدين سبب في استجابة الدعاء وتفريج الكربات.

عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ يَتَمَشَّوْنَ أَخَذَهُمُ المَطَرُ. فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ. فَانْحَطَّتْ عَلَىٰ فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ. فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالاً عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لله، فَادْعُوا اللّهَ تَعَالَىٰ بِهَا، لَعَلَّ اللّهَ يَفْرُجُهَا عَنْكُمْ. فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ. وَامْرَأَتِي. وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ أَرْعَىٰ عَلَيْهِمْ. فَإِذَا أَرَحْتُ عَلَيْهِمْ، حَلَبْتُ، فَبَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ فَسَقَيْتُهُمَا قَبْلَ بَنِيَّ. وَأَنَّهُ نَأَى بِي ذَاتَ يَوْمٍ الشَّجَرُ فَلَمْ آتِ حَتَّىٰ أَمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا. فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ. فَجِئْتُ بِالْحِلاَبِ فَقُمْتُ عِنْدَ رُؤُوسِهِمَا. أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا. وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِيَ الصِّبْيَةَ قَبْلَهُمَا. وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ. فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حَتَّىٰ طَلَعَ الْفَجْرُ. فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذٰلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً، نَرَىٰ مِنْهَا السَّمَاءَ. فَفَرَجَ اللّهُ مِنْهَا فُرْجَةً. فَرَأَوْا مِنْهَا السَّمَاءَ.»([98]) الحديث.

قال النووي: «في هذا الحديث فضل بر الوالدين وفضل خدمتهما وإيثارهما عمن سواهما من الأولاد والزوجة وغيرهم، وقال: ويدل على أنه يستحب للإنسان أن يدعو في حال كربه وفي دعاء الاستسقاء وغيره بصالح عمله ويتوسل إلى الله تعالى به لأن هؤلاء فعلوه فاستجيب لهم، وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في معرض الثناء عليهم وجميل فضائلهم»([99]).

8- وبر الوالدين سبب في مد العمر وزيادة الرزق.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرهُ أنْ يُمَدَّ لَهُ في عُمْرِهِ، وَيُزَادُ لَهُ في رزقِهِ، فَلْيَبَرَّ والِدَيْهِ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»([100]).

معنى الزيادة في العمر البركة فيه والتوفيق للطاعات وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة وصيانتها عن الضياع في غير ذلك. وقيل: بقاء ذكره الجميل بعد موته فكأنه لم يمت([101]).

9- وبر الوالدين سبب في دخول الجنة من أفضل أبوابها.

عن أبي الدَّرداءِ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، فإِن شِئْتَ فأَضِعْ ذلكَ البابَ أو احْفَظْهُ»([102]).

قال العلماء: خيرها وأفضلها وأعلاها, يقال هو من أوسط قومه أي: من خيارهم وعليه فالمراد بكونه أوسط أبوابها من التوسط بين شيئين فالباب الأيمن أولها وهو الذي يدخل منه من لا حساب عليه ثم ثلاثة أبواب باب الصلاة وباب الصيام وباب الجهاد([103]).

10 - وبر الوالدين سبب في بر الأبناء.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عِفّوا عَنْ نِساءِ النّاسِ تَعِفُّ نِساؤُكُمْ، وَبِرّوا آباءَكُمْ تَبِرّكُمْ أَبْناؤُكُمْ»([104]).

11 - و أمر ببر الوالدين وإن كانا مشركين فيما لا يكون سخط الله عز وجل.

قال تعالى: (( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )) [لقمان:15].

 وقال تعالى: ((وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)) [العنكبوت:8].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مَرَّ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَىٰ عَبْدِ الله بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ، وَهُوَ فِي ظِلِّ أَجَمَةٍ، َقَالَ: قَدْ غَبَّرَ عَلَيْنَا ابْنُ أَبي كَبْشَةَ، فَقَالَ ابْنُهُ عَبْدُ الله بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ، وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ، لَئِنْ شِئْتَ لآتيَنَّكَ بِرَأْسِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَا، وَلَكِنْ بِرَّ أَبَاكَ، وَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُ»([105]).

قال المناوي: أجمع أكثر العلماء على أنه يجب تعظيم الوالدين والإحسان إليهما إحساناً غير مقيد بكونهما مؤمنين([106]).

وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنها: قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي، وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدَهُمْ. فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ الله. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: «نَعَمْ. صِلِي أُمَّكِ»([107]).

قال الخطابي: يستنبط منه وجوب نفقة الأب الكافر والأم الكافرة وإن كان الولد مسلماً([108]).

 فيفهم مما سبق أن البر بالوالدين من أفضل القربات، وأحبها إلى العزيز الجبار، وهو خلق الأنبياء، ودأب الأخيار، وشيم الصالحين، وهو سبب في زيادة العمر، وسعة الرزق، وتفريج الكربات، وإجابة الدعوات، وانشراح الصدر، وطيب الحياة، وهو من أسباب بر الأبناء وصلاحهم، ودليل على صدق الإيمان، وكرم النفس، وحسن الوفاء، كما أن العقوق جحودٌ للفضل، ونكرانٌ للجميل، ودليلٌ على الحمق والجهل، وعنوانٌ على الخسةِ والدناءةِ وحقارةِ الشأن وضعةِ النفس، كما أنه ذنب عظيم، وكبيرة من الكبائر، وقرين الشرك، وموجب للعقوبة في الدنيا، وسبب لرد العمل، ودخول النار في الأخرى([109]).

12- وقد ورد النهي الشديد بعدم الإحسان إليهما وعقوقهما: فعن معاذ رضي الله عنه قال: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر كلمات، قال: «لا تُشْرِكْ بالله شَيْئاً وإِنْ قُتِلْتَ وحُرِّقْتَ، ولا تَعُقَّنَّ وَالِدَيْكَ وإِنْ أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ»([110]).

قال ابن حجر: «شرط للمبالغة باعتبار الأكمل أيضاً، أي لا تخالف واحداً منهما وإن غلا في شيء أمرك به وإن كان فراق زوجة أو هبة مال»([111]).

13- كما جاء في حديث آخر أن الولد وما يملك لأبيه فعن عائشة رضي الله عنها، أنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ، يُخَاصِمُ أَبَاهُ فِي دَيْنٍ عَلَيْهِ، فَقَالَ نبيُّ الله: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ»([112]).

عن عائشة رضي الله عنها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أَوْلادَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ، فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلادِكُمْ»([113])([114]).

14- وكما أن عقوق الوالدين من المحرمات فعن المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: قَالَ: «إنَّ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ([115]) الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَمَنْعاً وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلاثاً: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإضَاعَةَ المَالِ»([116]).

خص الأمهات بالذكر، وإن كان عقوق الآباء أيضاً حراماً، لأن العقوق إليهن أسرع من الآباء لضعف النساء، وللتنبيه على أن بر الأم مقدم على بر الأب في التلطف والحنو ونحو ذلك، ولأن ذكر أحدهما يدل على أن الآخر مثله بالضرورة، ولكن تعيين الأم لما ذكرنا([117]).

15- وإن عقوق الوالدين قد يعجل الله عقوبته في الدنيا فعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ الله لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ». قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ([118]). وعقوق الوالدين يندرج في قطيعة الرحم بالأولى.

 والعقوق له صور متعددة، ومنها: سب الوالدين. وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر كما جاء في الحديث فعَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اﷲ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِن أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ» قِيْلَ: يَا رَسُولَ الله! كَيْفَ يَلْعَن الرَّجُل وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: «يَسُبُّ الرَّجُل أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ. وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ»([119]).

وفي رواية لمسلم: «مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ الله وَهَلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ. يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ. وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ»([120]).

وأن من لاعن والديه أو سابهما فهو ملعون على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.

فعن علي رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «... لَعَنَ اللّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ»([121]).

و عن علي رضي الله عنه أيضاً قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «... وَلَعَنَ الله مَنْ سَبَّ وَالِدَيْهِ»([122]).

وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم العقوق من أكبر الكبائر فعَنْ أَبِي بكرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِالله، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ»([123]).

16- والعاق لوالديه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة فعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ الله عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ الله عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالمَرْأَةُ المُتَرَجِّلَةُ، وَالدَّيُّوثُ، وَثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالمُدْمِنُ عَلَى الخَمْرِ، وَالمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى»([124]).

17- وقد دعا جبريل عليه السلام على العاق لوالديه وأمّن عليه النبي صلى الله عليه وسلم فعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صَعِدَ المِنْبَرَ فقَالَ: «آمينَ آمينَ آمينَ». قيلَ: يَا رَسولَ اللَّهِ، إنَّكَ حِينَ صَعِدْتَ المِنْبَرَ، قُلْتَ: آمينَ آمينَ آمينَ، قال: «إِنَّ جِبْرِيلَ أتَاني فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ الله قُلْ: آمين، فَقُلْتُ: آمين، ومَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُما، فَلمْ يَبَرَّهُمَا، فَماتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ الله قُلْ: آمين، فَقُلْتُ: آمين. ومَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ، فَلمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ فَماتَ فَدَخَلَ النّارَ فَأَبْعَدَهُ الله قُلْ: آمين، فقُلْتُ: آمين»([125]).

لذا يجب على الإنسان أن يتحرى الإحسان إلى الوالدين بطلب رضاهما وببرهما لكي ينال رضا الله، والدرجات العلى في الجنة، ويعطي لأمه النصيب الأوفر من البر، لأن حقها أعظم من حق الأب وكما جاء في الحديث أن للأم ثلاثة أمثال حق الأب. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَىٰ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: «أُمُّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ»([126]).

وعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْد ِيكَرِبَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الله يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ» (ثَلاَثاً). «إِنَّ الله يُوصِيكُمْ بِآبَائِكُمْ. إِنَّ الله يُوصِيكُمْ بِالأَقْرَبِ فَالأَقْرَبِ»([127]). لأن ما تقاسيه من تعب الحمل والولادة والرضاع والتربية فوق ما يقاسيه الوالد من تعب تحصيل مؤنثه وكسوته بنحو الضعف([128]).

ومقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، قَالَ الْعُلَمَاء: وَسَبَب تَقْدِيم الأُمّ كَثْرَة تَعَبهَا عَلَيْه, وَشَفَقَتهَا، وَخِدْمَتهَا, وَمُعَانَاة المَشَاقّ فِي حَمْله, ثُمَّ وَضْعه, ثُمَّ إِرْضَاعه, ثُمَّ تَرْبِيَته وَخِدْمَته وَتَمْرِيضه, وَغَيْر ذَلِك، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية.

 وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: ((وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) [الأحقاف:15].

وفي قوله تعالى: ((وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)) [لقمان:14].

 فعلى الأبناء أن يكونوا أكثر بارين بأمهاتهم ولو ترتب على ذلك حرمانهم من بعض المنافع؛ وفي مسند أحمد عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: أتى رجل أبا الدرداء فقال: إن امرأتي بنت عمي، وأنا أحبها، وإن والدتي تأمرني أن أطلقها، فقال: لا آمرك أن تطلقها ولا آمرك أن تعصي والدتك، ولكن أحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الوالدة أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأمسك وإن شئت فدع»([129]).

وما أجمل ما قال الشاعر:

لأمـك حق لو علمت كـبير فكم ليلة باتت بثقلك تشتـكي وفي الوضع لو تدري عليها مشقة فكم غسلت عنك الأذى بيمينها وتفديك مما تشتـكيه بنفـسها وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها فآه لذي عقل ويتبـع الهـوى فدونك فارغب في عميم دعائها

كثيرك يا هـذا لديـه يسير لها مـن جـواها أنة وزفير فمن غصص منها الفؤاد يطير وما حجرها إلا لديك سـرير ومن ثديها شـرب لديك نمير حنـوًا وإشفاقًا وأنت صـغير وآه لأعمى القلب وهو بصـير فأنت لما تدعـو إليـه فقـير

18- كما أن العقوق سبب في وقوع البلاء. فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «كان رجلٌ في بني إسرائيلَ يُقالُ لهُ جُرَيجٌ يُصلّي، فجاءتهُ أُمّهُ فدعَتهُ، فأبى أن يُجيبَها فقال: أُجيبُها أو أُصلّي ؟ ثمّ أتَتْهُ فقالت: اللهمّ لا تُمتهُ حتّى تُريَهُ وُجوهَ المومِساتِ. وكان جُرَيجٌ في صَومَعتهِ، فقالت امرأةٌ: لأَفْتِنَنّ جُرَيجاً. فتعَرّضَتْ لهُ فكلّمَتْهُ، فأبى. فأتَتْ راعياً فأمكَنَتْهُ من نفسِها، فوَلَدَتْ غُلاماً فقالت: هو من جُرَيجٍ. فأتوهُ وكَسروا صَومعتَهُ، وأنزلوهُ وسَبّوهُ، فتوضّأَ وصلّى، ثمّ أتى الغُلامَ فقال: مَن أبوكَ يا غُلامُ ؟ قال: الراعي. قالوا: نبني صَومعتَكَ من ذهب ؟ قال: لا، إلاّ من طينٍ»([130]).

 19- والعقوق عقابه شديدٌ، وعاقبته وخيمةٌ في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ )) [محمد:23] وعقوق الأم يدخل في قطع الرحم من باب أولى، بل للأم علاقة قوية في القرب أو البعد في النسب، وسمي الأقارب أولي الأرحام نسبة إلى رحم الأم، التي بها تقوى علاقة الأبناء أو تضعف بأقاربه. وأكبر وعيد ورد في حق مرتكب العقوق هو حرمانه رحمة الله التي وسعت كل شيء وحرمانه الجنة التي عرضها السماوات والأرض، فعن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن على الخمر، والمنان بما أعطى»([131]).

20- بعض أسباب العقوق: ويحسن بنا أن نتطرق إلى بيان بعض أسباب العقوق لكي يتجنبها الآباء حفظاً لفلذات أكبادهم من الإقدام على العقوق، ولعل من أهمها([132]):

 عدم القيام بتربية الأبناء تربية إسلامية، والآباء والأمهات لا يمكن لهم أن يتوقعوا بر الأبناء بهم إذا لم يربوهم تربيةً حسنةً، بل لا يمكن لهم أن يتوقعوا دعاء الأبناء لهم بدونه لقوله تعالى: ((وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)) [الإسراء:24] فإذا لم يعلّموهم الأخلاق الحسنة والآداب الإسلامية في صغرهم فكيف لهم أن يتوقعوا الدعاء لهم؟! ولذا أكد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فعن أيوب بن موسى عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما نحل والد ولدًا من نحل أفضل من أدب حسن»([133]).

 جهل الأبناء لحقوق الأمهات، فالجهل له دورٌ كبيرٌ في عدم أداء الحقوق، وقد يكون الجهل ناتجًا عن عدم تثقيف الولد في صغره من قبل الآباء والأمهات.

 الخلافات العائلية، إذا كان الوالدان في خلافٍ دائمٍ، يتهم الزوج زوجته والزوجة زوجها، هذا لا يحترم زوجته، والزوجة لا تحترم زوجها، فينعدم أو يقل الاحترام في قلوب الأبناء تجاه الآباء والأمهات، وأما الآباء فلقوتهم والخوف من بطشهم لا يستطيع الأولاد إظهار ما يدل على قلة احترامهم لهم، ولكن الأمهات لشفقتهن وعطفهن على الأولاد يجترئون على عصيانهن وعدم البر بهن ورفع الصوت عليهن، والعياذ بالله. وقد يأمر الوالد في بيئة الخلافات العائلية ولده بعصيان أمه وعدم البر بها.

 رفقة السوء، فإن لهم دورًا كبيرًا في سوء الأخلاق وعدم البر بالأمهات، فإن القرين بالمقارن يقتدي. كما جاء في الحديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ». قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ([134]).

 الطاعة العمياء من الولد بعد زواجه لزوجته، فبعض الأولاد - هداهم الله - بعد زواجهم تصير زوجاتهم محور فلكهم، لا يفعلون شيئاً إلا بإذنهن، وبر الوالدين كذلك لا يكون إلا برضاهن.

 الدلال الزائد والترفيه المبالغ فيه في التربية قد يؤدي إلى العقوق، والعاقل لا يربي أولاده على ذلك، بل عليه بالحزم مع العطف والحنان في حد معقول، فيستعمل الدلال في موقعه، والحزم في موقعه، لا الدلال الزائد في كل حين، ولا الحزم في كل وقت.

 قد ينشأ الابن في محيط ديني مع حلقات التحفيظ ومجالس العلم، ومع ذلك إذا صدر منه ما يدل على العقوق، فهناك خللٌ في التربية، مثل الخلافات العائلية، أو القسوة في التربية، أو عدم العدل بين الأولاد، فهذه الأمور لها أثرٌ كبيرٌ على أخلاق الابن إذا كبر، وقد يصل إلى العقوق. فيتنبه إلى هذا الأمر فلا يستمرأ فيكون سبباً للعقوق.

فضل الأم كبيرٌ، وحقها عظيمٌ، يفوق حقوق جميع العباد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك الذي يتوقع من الأم العاقلة ألا تستغل هذا الفضل في إحراج الابن بأوامر لا تقرها عقول سوية، مثل أن يطلق الابن زوجته بدون سبب معقول، أو تنهى عن السفر لأمور مباحة أو مستحبة مثل سفر العمرة، والحكمة والحوار الهادئ والنقاش المعقول إذا كانت مطلوبة من المعلم والداعي، فالأم كذلك أن تختارها لقضاء حاجاتها من الابن، بل هي أول معلمة ومربية بالنسبة لولدها، وهي تعلم نفسية ابنها ومزاجها، فلا تحرجه بأوامر غير معقولة، ولا تخاطبه بأسلوب تجرح مشاعره حتى لا تكون سبباً مباشراً في عقوقه. فمثل هذه الأساليب تجلب العقوق، ويتربى الابن والبنت عليها.

 من الأبناء من يصل أمر المال عنده فوق بر الأم، وخاصة بعد وفاة الأب، في الإرث، فنقول لهؤلاء الأبناء: اتقوا الله في أمهاتكم، ولا تؤذوهن في أمور لا تبقى في حال واحدة، فالأموال اليوم لكم وغدًا لورثتكم، واتقوا آهات الأمهات، قد جرحت قلوبهن بفقد أزواجهن، ثم تزيدون في جرحها وألمها لأموال لم تكن بأيديكم أمس، وتذهب غدًا بأيدي ورثتكم، ولا تنسوا قول الله تعالى في حق الآباء والأمهات: ((إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا )) [الإسراء:24]، وهذه المعاملة ليست من الرحمة، بل هي من القسوة وقد تبعث الأم على بث الشكوى إلى الله فتفسد دنياكم وأخراكم.

 نعم قد يؤدي عدم إشباع الحاجات النفسية إلى العقوق، وخاصة إذا كان الوالدان في خلاف دائمٍ، أو في انشغالٍ عن الأولاد، الأب مشغولٌ في أمور دنياه، والأم مشغولةٌ في الزيارات ونزول الأسواق وتتبع الموضات، وتتم التربية في حضن الخادمة، ففي هذه الحالة لا ينشأ الولد على احترام الوالدين، ولا يتربى على الأخلاق الحسنة، ولا يعرف حقوق الآباء والأمهات.

الفقر والحرمان واليتم، هذه أمورٌ قد تؤدي إلى عقوق الأم، وليس في كل حين إذا نشأ في بيئة صالحة، وربته أمه على أخلاق فاضلة وعلمته حقوق العباد، ولم يصحب رفقة السوء، فكم من اليتامى أو المحرومين من وسائل الترفيه هم أبر إلى أمهاتهم من أولاد الأثرياء. ولكن ليحذر عدم التوازن مع هذه الفئة حتى لا يؤدي إلى العقوق.

 وفي الختام نحب أن نقدم بعض النصائح والتوجيهات وبعض طرق البر والإحسان للوالدين، نقدمها للأبناء لتكون حافزا قويا لهم إلى القيام بالبر بآبائهم وأمهاتهم، وبالأخص للذين قد فرطوا في حقهم، ويريدون تداركه لأن حال أهل زماننا لا يخفى على كل أحدٍ، وقد أشار فضيلة الشيخ ابن العثيمين رحمه الله إلى حال بعض منا قائلاً: «إن من الناس من لا ينظر والديه الذين أنجباه وربياه إلا نظرة احتقار وسخرية وازدراء، يكرم امرأته ويهين أمه، ويقرب صديقه ويبعد أباه، إذا جلس عند والديه فكأنه على جمرٍ يستثقل الجلوس ويستطيل الزمن، اللحظة عندهما كالساعة أو أكثر»([135]). فإليكم البعض منها:

 إعتاق الوالدين إن كانا رقيقين أو أحدهما.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَجْزِي وَلَدٌ وَالِداً إِلاَّ أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكاً فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ»([136]).

الدعاء لهما. قال تعالى: ((وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)) [الإسراء:24].

وقال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: ((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)) [نوح:28].

وقال تعالى حكاية عن إبراهيم: ((قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)) [مريم:47].

طاعتهما واجتناب معصيتهما، والإحسان إليهما بالقول والفعل, وخفض الجناح لهما, والإصغاء إلى كلامهما, والبعد عن زجرهما, كما قال تعالى: (( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا )) [الإسراء:24].

 بر الوالدين بعد وفاتهما.

فإذا كان الإنسان مقصراً في حياة الوالدين وأراد أن يستدرك ما قد فاته فعليه أن يراعي بأمور آتية؛

أ- أن يكون الولد صالحاً في نفسه؛ لأن صلاحه يفيد أبويه وهما أموات, كما جاء في الحديث فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»([137]).

ب- كثرة الدعاء لهما والاستغفار عنهما:

قال تعالى: (( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ )) [إبراهيم:41] .

 وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الله - تَبَارَكَ وتَعالى - لَيَرْفَعُ لِلرَّجُلِ الدَّرَجَةَ، فَيَقُولُ: أَنَّى لِي هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: بِدُعَاءِ وَلَدِكَ (لكَ)»([138]).

وذكر ابن أبي الدينا من حديث ابن سيرين «أَنَّ الرَّجُلَ لَيمُوتُ وَالدَاهُ وَهوَ عَاقٌّ لَهُمَا فَيَدعو اللهَ لهُمَا مِن بَعدِهِما فيَكتبَهُ اﷲُ مِنَ البَارِّين»([139]).

جـ - إنفاذ عهدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما:

عن أبي أسيد رضي الله عنه قال: ينما أنا جالسٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، هل بقي عليّ من بر أبويّ شيء بعد موتهما أبرهما به؟ قال: «نَعَمْ، خِصالٌ أَرْبَعَة: الصَّلاةُ عَلَيْهِمَا، وَالاسْتِغْفارُ لَهُما، وَإنْفاذُ عَهْدِهِما، وَإِكْرامُ صَدِيِقِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ التَّي لا رَحِمَ لَكَ إِلاّ مِنْ قِبَلِهِما،فَهُوَ الذي بَقِيَ عَلَيْكَ مِنْ بِرِّهِما بَعْدَ مَوْتِهِما»([140]).

وعَنْ عَبْدِ الله بن عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ مِنْ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةَ الْرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ، بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ»([141]).

قال النووي: وفي هذا فضل صلة أصدقاء الأب والإحسان إليهم وإكرامهم، وهو متضمن لبر الأب وإكرامه لكونه بسببه، وتلتحق به أصدقاء الأم والأجداد والمشايخ والزوج والزوجة([142]). وقال القاري: وإنما كان أبرّ لأنه إذا حفظ غيبته فهو بحفظ حضوره أولى، وإذا راعى أهل ودّه فكأن مراعاة أهل رحمه أحرى([143]).

وعن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنه قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصِلَ أَبَاهُ فِي قَبْرِهِ فَلْيَصِلْ إِخْوَانَ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ»([144]).

وروي عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَر رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ الله، وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ، وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ: فَقُلْنَا لَهُ: أَصْلَحَكَ الله، إِنَّهُمْ الْأَعْرَابُ، وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ. فَقَالَ عَبْدُ الله: إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ»([145]).

د - التصدق عنهما، لأن الصدقة عن الميت يستفيد منه الميت كما جاء في الحديث: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ نَعَمْ»([146]).

قال الإمام النووي في شرحه: وَفِي هَذَا الْحَدِيث: أَنَّ الصَّدَقَة عَنْ المَيِّت تَنْفَع المَيِّت وَيَصِلُهُ ثَوَابهَا, وَهُوَ كَذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاء, وَكَذَا أَجْمَعُوا عَلَى وُصُول الدُّعَاء وَقَضَاء الدَّين بِالنُّصُوصِ الْوَارِدَة فِي الْجَمِيع([147]).

هـ - قضاء ديونهما: إن الدَّين شأنه عظيم، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على قضاء الدين، ولم يصلّ على الميت الذي كان عليه ديناً فعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ؛ فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا. فَصَلَّى عَلَيْهِ. ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى, فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله صَلِّ عَلَيْهَا. قَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قِيلَ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ. فَصَلَّى عَلَيْهَا, ثُمَّ أُتِيَ بِالثَّالِثَةِ فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا. قَالَ: هَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا.قَالَ: فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ. قَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ. قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ الله وَعَلَيَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ»([148]).

ثم لما جاءه الفتوح كان يقضى الدين من بيت مال المسلمين ويصلي على الجنائز، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ المُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ, فَيَسْأَلُ هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلًا, فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ لِدَيْنِهِ وَفَاءً صَلَّى, وَإِلَّا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ, فَلَمَّا فَتَحَ الله عَلَيْهِ الْفُتُوحَ قَالَ: أَنَا أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنْ المُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ, وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ»([149]).

وقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعان جابر بن عبد الله في قضاء ديون والده, فعَنْ فِرَاسٍ قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ: «حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله الْأَنصَارِيُّ رَضِيَ الله عَنْهُمَا أَنَّ أَبَاهُ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ سِتَّ بَنَاتٍ وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا, فَلَمَّا حَضَرَ جِدَادُ النَّخْلِ أَتَيْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ وَالِدِي اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا كَثِيرًا, وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ الْغُرَمَاءُ, قَالَ: اذْهَبْ فَبَيْدِرْ([150]) كُلَّ تَمْرٍ عَلَى نَاحِيَتِهِ. فَفَعَلْتُ. ثُمَّ دَعَوْتُهُ فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ أُغْرُوا بِي تِلْكَ السَّاعَةَ فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ أَطَافَ حَوْلَ أَعْظَمِهَا بَيْدَرًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: ادْعُ أَصْحَابَكَ فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّى الله أَمَانَةَ وَالِدِي. وَأَنَا وَالله رَاضٍ أَنْ يُؤَدِّيَ الله أَمَانَةَ وَالِدِي وَلَا أَرْجِعَ إِلَى أَخَوَاتِي بِتَمْرَةٍ. فَسَلِمَ وَالله الْبَيَادِرُ كُلُّهَا حَتَّى أَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْبَيْدَرِ الَّذِي عَلَيْهِ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّه لَمْ يَنْقُصْ تَمْرَةً وَاحِدَةً»([151]).

فمن الإحسان للوالدين أن يقضى دينهما في حياتهما، وبعد مماتهما.

و- الحج والعمرة عنهما: فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: «إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا؛ أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً اقْضُوا الله فَالله أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ»([152]).

قال ابن حجر: وَفِيهِ أَنَّ وَفَاء الدَّيْن المَالِيّ عَنْ المَيِّت كَانَ مَعْلُومًا عِنْدهمْ مُقَرَّرًا وَلِهَذَا حَسُنَ الْإِلْحَاق بِهِ. وَفِيهِ إِجْزَاء الْحَجّ عَنْ المَيِّت,.. وَفِيهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ حَجّ وَجَبَ عَلَى وَلِيّه أَنْ يُجَهِّز مَنْ يَحُجّ عَنْهُ مِنْ رَأْس مَاله كَمَا أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاء دُيُونه, فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ دَيْن الْآدَمِيّ مِنْ رَأْس المَال فَكَذَلِكَ مَا شُبِّهَ بِهِ فِي الْقَضَاء, وَيَلْتَحِق بِالْحَجِّ كُلّ حَقّ ثَبَتَ فِي ذِمَّته مِنْ كَفَّارَة أَوْ نَذْر أَوْ زَكَاة أَوْ غَيْر ذَلِكَ([153])

وفي صحيح مسلم عَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: «بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ وَإِنَّهَا مَاتَتْ. قَالَ: فَقَالَ: وَجَبَ أَجْرُكِ وَرَدَّهَا عَلَيْكِ المِيرَاثُ. قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: صُومِي عَنْهَا. قَالَتْ: إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: حُجِّي عَنْهَا»([154]).

قال النووي: وَفِيهَا: قَضَاءُ الدَّيْن عَنْ المَيِّت, وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَيْهِ, وَلَا فَرْق بَيْن أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهُ وَارِثٌ أَوْ غَيْره فَيَبْرَأُ بِهِ بِلَا خِلَاف... فِيهِ دَلَالَة ظَاهِرَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور, أَنَّ النِّيَابَةَ فِي الْحَجّ جَائِزَة عَنْ المَيِّت وَالْعَاجِز المَأْيُوس مِنْ بُرْئِهِ([155]).

وجاء في المسند عن ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنه قال: «أَمَرَتْ امْرَأَةُ سَلْمَانَ بْنِ عَبْدِ الله الجُهَنِيَّ أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أُمِّهَا تُوُفِّيَتْ وَلَمْ تَحْجُجْ أَيُجْزِئُ عَنْهَا أَنْ تَحُجَّ عَنْهَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّهَا دَيْنٌ فَقَضَتْهُ عَنْهَا أَكَانَ يُجْزِئُ عَنْ أُمِّهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَلْتَحْجُجْ عَنْ أُمِّهَا»([156]).

ز- إيفاء نذرهما: فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رضي الله عنه اسْتَفْتَى رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ فَقَالَ: اقْضِهِ عَنْهَا»([157]).

قال ابن حجر: فيه جَوَاز الصَّدَقَة عَنْ المَيِّت, وَأَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعهُ بِوُصُولِ ثَوَاب الصَّدَقَة إِلَيْهِ وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مِنْ الْوَلَد, وَهُوَ مُخَصِّص لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: (( وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى )) [النجم:39]([158]).

فما أحرانا بمراعاة هذه الآداب عسى أن نكتب عند الله من البارين بالآباء ونكون من الأبرار الأخيار، ونحوز برضا الله في الآخرة. يقول الشيخ السعدي: ألا وإن بر الوالدين وصلة الأرحام منجاةٌ للعبد من شرور الدنيا والآخرة, وموصلةٌ إلى دار السلام([159]).


 المبحث الثاني: إحسان الزوجين مع بعضهما البعض:

أولاً: إحسان الزوج مع الزوجة:

إن الزواج نعمةٌ من نعم الله تعالى، وآيةٌ من آياته، امتن به على عباده، كما قال تعالى: ((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) [الروم:21] وكما أنه من سنن المرسلين، قال الله تعالى مخاطباً نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً)) [الرعد:38] وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ المُرْسَلِينَ: الحَيَاءُ، وَالتَّعَطُّرُ، وَالسِّوَاكُ، وَالنِّكَاحُ»([160]).

وإن الله جعل الزواج طبيعةً وجبلةً في الكائنات في هذه الدنيا، به يسكن بعضها إلى بعض، ويحصل التناسل والنماء والتكاثر، قال تعالى: ((وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) [الذاريات:49]

وإن من سعادة الدنيا؛ المرأة الصالحة للرجل الصالح، قال تعالى: ((وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ)) [النور:26] وجاء في الحديث: عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ, وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا: المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ»([161]).

والزواج في الشرع: قال ابن قدامة: النكاح في الشرع: «عقد التزويج، فعند إطلاقه ينصرف إليه، ما لم يصرفه عنه دليل»([162]).

 وقيل: «عقدٌ به يستباح استمتاع كلٍ من الزوجين بالآخر على وجهٍ مشروعٍ»([163]).

 والقصد من الزواج كما بيّن فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: «..لا يقصد بعقد النكاح مجرد الاستمتاع، بل يقصد به مع ذلك معنى آخر؛ هو تكوين الأسر الصالحة، والمجتمعات السليمة»([164]).

 والزواج مشروع لقوله تعالى: ((فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ)) [النساء:3].

ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَن اسْتَطَاعَ مِنْكُم الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»([165]).

وعن أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: «جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِن النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَنْتُم الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَالله إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ، وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي، وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»([166]).

وعن سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قال: «رَدَّ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا»([167]).

وللزواج حكمٌ كثيرةٌ منها؛ إعفاف المرء نفسه وزوجه عن الوقوع في الحرام، وحفظ النوع الإنساني من الزوال والانقراض، وعمارة هذا الكون وتكثير الأمة، وحفظ الأنساب، وإقامة الأسر السوية، وحفظ النسل ورعايته بالقيام بمهام التربية له، ارتياح النفس واستقرارها وأمنها، وتحقيق السعادة والأنس والمودة والألفة بين الأفراد([168]).

 يقول العلامة الموفق ابن قدامة: «مصالح النكاح أكثر، فإنه يشتمل على تحصين الدين وإحرازه، وتحصين المرأة وحفظها، والقيام بها، وإيجاد النسل، وتكثير الأمة، وتحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من المصالح»([169]).

فبالنكاح يتكون البيت المسلم، وركناه الأساسيان الزوجان، فليحرص كل من الزوجين بمصلحة الطرف الآخر ببذل ما فيه قصارى جهدهما، وقد أمر الله كلاً من الزوجين أن يكونا محسنين مع الآخر، فأمر الزوج أن يعاشر زوجته بالمعروف، وحسن العشرة: لفظٌ جامعٌ ترجع إليه جميع الحقوق، والمراد بحسن العشرة إحسان الصحبة، وكف الأذى، وعدم مطل الحقوق مع القدرة، وإظهار البشر والطلاقة والانبساط، وإدخال الفرح والسرور. كما يشير إليه قوله تعالى: ((وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)) [النساء:19].

يقول ابن كثير رحمه الله: «أي طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها فافعل أنت بها مثله، كما قال تعالى: ((وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)) [البقرة:228] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»([170])، وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقته، ويضاحك نساءه، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين يتودد إليها بذلك، قالت: «سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته، وذلك قبل أن أحمل اللحم، ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني، فقال: هذه بتلك»([171])... ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل معهن العَشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها([172])، وكان ينام مع المرأة من نساءه في شعار واحد، يضع عن كتفيه الرداء، وينام بالإزار، وكان إذا صلى العِشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم([173]). وقد قال الله: (( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)) [الأحزاب:21]([174]).

وحينما كان يستيقظ من الليل للتهجد، بعد فراغه من الصلاة يتحدث مع زوجته إن كانت يقظانةً يؤانسها بذلك فعَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي مِن اللَّيْلِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ اضْطَجَعَ، فَإِنْ كُنْتُ يَقْظَانَةً تَحَدَّثَ مَعِي، وَإِنْ كُنْتُ نَائِمَةً نَامَ حَتَّى يَأْتِيَهُ المُؤَذِّنُ»([175]).

ومن الإحسان إليها أن يطعمها مما يطعم، ويلبسها مما يلبس، وأن ينفق عليها بالمعروف، بطيب نفس بما يستطيع، قال تعالى: ((لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا)) [الطلاق:7].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فَاتَّقُوا الله فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ الله, وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اﷲ, وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ؛ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ. وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ؛ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ»([176]).

وعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي: أَنَّهُ شَهِدَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ الله، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَذَكَّرَ، وَوَعَظَ، فَذَكَرَ فِي الحَدِيثِ قِصَّةً فَقَالَ: «أَلَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ، لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ, وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ, فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا. أَلَا إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ: فَلَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ، أَلَا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ: أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ، وَطَعَامِهِنَّ». قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَمَعْنَى قَوْلِهِ «عَوَانٌ عِنْدَكُمْ» يَعْنِي: أَسْرَى فِي أَيْدِيكُمْ([177]).

ففي هذا الحديث ذكرت حقوق الزوجين باختصار وهو تفسير لقوله تعالى: ((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا)) [النساء:34].

يقول القرطبي: دلت هذه الآية على تأديب الرجال نساءهم، فإذا حفظن حقوق الرجال فلا ينبغي أن يسيء الرجل عشرتها.. وأمر الله أن يبدأ النساء بالموعظة أولاً، ثم بالهجران، والهجر في المضاجع هو أن يضاجعها ويوليها ظهره ولا يجامعها، فإن الزوج إذا أعرض عن فراشها فإن كانت محبةً للزوج فذلك يشق عليها فترجع للصلاح، وإن كانت مبغضةً فيظهر النشوز منها فيتبين أن النشوز من قبلها، فإن لم ينجعا - أي الموعظة والهجران - فالضرب، فإنه هو الذي يصلحها له ويحملها على توفية حقه, والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح، وهو الذي لا يكسر عظماً ولا يشين جارحةً كاللكزة ونحوها، فإن المقصود منه الصلاح لا غير، فإن أطعن فلا سبيل للزوج للبغي عليها، وفي قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا )) [النساء:34] إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب؛ أي إن كنتم تقدرون عليهن فتذكروا قدرة الله، فيده بالقدرة فوق كل يد, فلا يستعلي أحد على امرأته. فالله بالمرصاد, فلذلك حسن الاتصاف هنا بالعلو والكبر([178]).

وعَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: «أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، أَوْ اكْتَسَبْتَ، وَلَا تَضْرِبْ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحْ وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ، قَالَ أَبُو دَاوُد: «وَلَا تُقَبِّحْ» أَنْ تَقُولَ: قَبَّحَكِ اللَّه»([179]).

يقول الشارح: قَالَ الْعَلْقَمِيّ: وَهَذَا أَمْر إِرْشَاد يَدُلّ عَلَى أَنَّ مِنْ كَمَالِ المُرُوءَة أَنْ يُطْعِمهَا كُلَّمَا أَكَلَ، وَيَكْسُوهَا إِذَا اِكْتَسَى. وَفِي الْحَدِيث إِشَارَة إِلَى أَنَّ أَكْله يُقَدَّم عَلَى أَكْلهَا, وَأَنَّهُ يَبْدَأ فِي الْأَكْل قَبْلهَا, وَحَقّه فِي الْأَكْل وَالْكِسْوَة مُقَدَّم عَلَيْهَا لِحَدِيثِ: «اِبْدَأْ بِنَفْسِك ثُمَّ بِمَنْ تَعُول»([180]).

ويكون الإطعام والكساء مما يطعم هو ويكتسي، وأما متى وجوبه فهو إذا قدر على إطعام نفسه، فيجب عليه إطعامها.

ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنةٌ حيث كان ينفق على أهله.

فعن عمرَ رضي الله عنه قال: «كانت أموالُ بني النَّضيرِ ممّا أفاءَ اللهُ على رسولهِ صلى الله عليه وسلم ممّا لم يُوجِفِ المسلمون عليهِ بخَيلٍ ولا رِكاب، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصةً، وكان يُنفِقُ على أهلهِ نَفَقةَ سَنَتهِ، ثمَّ يجعلُ ما بقيَ في السلاحِ والكُراعِ عُدَّةً في سبيلِ الله»([181]).

وإذا كان الزوج شحيحاً يجوز للمرأة أن تتصرف في مال زوجها بالمعروف؛ حيث أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأم معاوية أن تأخذ من مال زوجها سراً ما يكفيها وأولادها، كما جاء في الحديث عن عائشةَ رضيَ الله عنها: «قالت هندٌ أُمّ مُعاويةَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ أبا سفيانَ رجلٌ شَحيحٌ، فهل عليَّ جُناحٌ أن آخُذَ مِن مالهِ سِرّاً؟ قال: «خُذي أنتِ وبنوكِ مايَكفيكِ بالمعروف»([182]).

والمراد بالمعروف القدر الذي عرف بالعادة أنه الكفاية. وفيه دليل على وجوب نفقة الزوجة على زوجها وهو مجمع عليه([183]).

 وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإنفاق على الزوجة صدقةً يثاب الزوج عليها.فعن عامر بن سعدٍ رضي الله عنه قال: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَعودني وأنا مريضٌ بمكة، فقلتُ: لي مالٌ، أوصي بمالي كلِّه؟ قال: «لا.»قلتُ: فالشطر؟ قال: «لا». قلت: فالثلث؟ قال: «الثلث، والثلث كثير, أن تَدَعَ وَرَثتكَ أغنياءَ خير من أن تَدَعهم عالةً يتكففونَ الناس في أيديهم. ومهما أَنفقتَ فهو لك صَدَقة، حتى اللقمةَ ترفعها في في امرأتِكَ»([184]).

قال النووي: فيه أن المباح إذا قصد به وجه الله تعالى صار طاعةً ويثاب عليه، وقد نبه صلى الله عليه وسلم على هذا بقوله: «حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك» لأن زوجة الإنسان هي من أخص حظوظه الدنيوية وشهواته وملاذه المباحة، وإذا وضع اللقمة في فيها فإنما يكون ذلك في العادة عند الملاعبة والملاطفة والتلذذ بالمباح، فهذه الحالة أبعد الأشياء عن الطاعة وأمور الآخرة، ومع هذا فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه إذا قصد بهذه اللقمة وجه الله تعالى حصل له الأجر بذلك، فغير هذه الحالة أولى بحصول الأجر إذا أراد وجه الله تعالى([185]).

بل جعله النبي صلى الله عليه وسلم من أفضل الصدقات، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ الله، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ»([186]).

يقول النووي: مَقْصُود الْبَاب: الْحَثّ عَلَى النَّفَقَة عَلَى الْعِيَال, وَبَيَان عِظَمِ الثَّوَاب فِيهِ ; لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَجِب نَفَقَته بِالْقَرَابَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَكُون مَنْدُوبَةً، وَتَكُون صَدَقَةً وَصِلَةً, وَمِنْهُمْ مَنْ تَكُون وَاجِبَة بِمِلْكِ النِّكَاح أَوْ مِلْك الْيَمِين, وَهَذَا كُلّه فَاضِل مَحْثُوث عَلَيْهِ, وَهُوَ أَفْضَل مِنْ صَدَقَة التَّطَوُّع([187]).

وقد أمر الزوج أن لا ينسى الإحسان مع زوجته حتى عند الطلاق قال تعالى: ((الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)) [البقرة:229].

كان الناس في الجاهلية يؤذون النساء بطلاقهن ما شاءوا ثم يراجعونهن قبل انقضاء عدتهن فلا يتركونهن حتى يتزوجن بغيرهم فنهى الله عن الإضرار بهن كما جاء في الحديث عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ النَّاسُ وَالرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ مَا شَاءَ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَهِيَ امْرَأَتُهُ إِذَا ارْتَجَعَهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ طَلَّقَهَا مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ، حَتَّى قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ: وَالله لَا أُطَلِّقُكِ فَتَبِينِي مِنِّي وَلَا آوِيكِ أَبَدًا. قَالَتْ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: أُطَلِّقُكِ فَكُلَّمَا هَمَّتْ عِدَّتُكِ أَنْ تَنْقَضِيَ رَاجَعْتُكِ، فَذَهَبَتْ المَرْأَةُ حَتَّى دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ فَأَخْبَرَتْهَا، فَسَكَتَتْ عَائِشَةُ حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ، فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ: [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ] قَالَتْ عَائِشَةُ: فَاسْتَأْنَفَ النَّاسُ الطَّلَاقَ مُسْتَقْبَلًا مَنْ كَانَ طَلَّقَ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ طَلَّقَ»([188]).

يقول ابن كثير: «هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة، فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم الله عزوجل إلى ثلاث تطليقات، وأباح الرجعة في المرة والثنتين، وأبانها بالكلية في الثالثة، فقال: ((الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ))»([189]).

وحتى بعد الطلاق أمر الزوج بالإحسان إلى زوجته قال تعالى في متعة النساء: ((وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ)) [البقرة:236] وقال أيضاً: ((وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)) [البقرة:241] ففي الآية الأولى جعله حقاً على المحسنين دون غيرهم, وفي الآية الثانية جعله حقاً على المتقين وقيده بالمعروف في كلتا الحالتين. وفي الآيتين: حثٌ للأزواج على التمتيع كي يدخلوا في زمرة المتقين والمحسنين.

وكذلك من الإحسان إليهن العدل بين الزوجات، إذا تزوج المسلم بأكثر من زوجةٍ، فعليه أن يعدل بينهن في الأمور الظاهرة، لأن العدل شرط أساسي في التعدد، كما قال تعالى: ((وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا)) [النساء:3] قال الطبري: «فإن خفتم أن لا تعدلوا - فيما يلزمكم من العدل بين ما زاد على الواحدة من النساء عندكم بنكاح فيما أوجبه الله لهن عليكم - فانكحوا واحدةً منهن»([190]).

وقد ورد وعيدٌ شديدٌ لمن لا يعدل بينهن فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ»([191]).

قال صاحب العون: «وَالْحَدِيث دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِب عَلَى الزَّوْج التَّسْوِيَة بَيْن الزَّوْجَات, وَيَحْرُم عَلَيْهِ المَيْل إِلَى إِحْدَاهُنَّ, وَقَالَ تَعَالَى: (( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ)) [النساء:129] وَالمُرَاد: المَيْل فِي الْقَسْم وَالْإِنْفَاق لَا فِي المَحَبَّة لِأَنَّهَا مِمَّا لَا يَمْلِكهُ الْعَبْد»([192]).

وكان النبي عليه الصلاة والسلام يدعو الله أن يتجاوز عنه في ميل القلب فكان يقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك». فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ: «اللَّهمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ، وَلَا أَمْلِكُ. قَالَ أَبُو دَاوُد: يَعْنِي: الْقَلْبَ»([193]).

وكذلك من الإحسان إليهن عدم المبالغة في ضربهن، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن التجاوز في الضرب لتأديبهن، كما جاء في الحديث: عَنْ عَبْدِ الله بْنِ زَمْعَةَ: وَعَظَهُمْ فِي النِّسَاءِ وَقَالَ: «عَلَامَ يَضْرِبُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ ضَرْبَ الْعَبْدِ ثُمَّ يُضَاجِعُهَا مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ»([194]).

وفي رواية: عَنْ عَبْدِ الله بْنِ زَمْعَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ النِّسَاءَ فَوَعَظَ فِيهِنَّ وَقَالَ: «عَلَامَ يَضْرِبُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ وَلَعَلَّهُ أَنْ يُضَاجِعَهَا مِنْ آخِرِ النَّهَارِ أَوْ آخِرِ اللَّيْلِ»([195]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ, فَإِنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ, وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ؛ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ, وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ, فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ»([196]).

قال الحافظ: قَوْلُهُ: (اِسْتَوْصُوا) قِيلَ مَعْنَاهُ تَوَاصَوْا بِهِنَّ, وَالْبَاء لِلتَّعْدِيَةِ وَالِاسْتِفْعَال بِمَعْنَى الْإِفْعَال كَالِاسْتِجَابَةِ بِمَعْنَى الْإِجَابَة, وَقَالَ الطِّيبِيُّ: السِّين لِلطَّلَبِ وَهُوَ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ اُطْلُبُوا الْوَصِيَّة مِنْ أَنْفُسكُمْ فِي حَقّهنَّ, أَوْ اُطْلُبُوا الْوَصِيَّة مِنْ غَيْركُمْ بِهِنَّ، كَمَنْ يَعُود مَرِيضًا فَيُسْتَحَبّ لَهُ أَنْ يَحُثَّهُ عَلَى الْوَصِيَّة، وَالْوَصِيَّة بِالنِّسَاءِ آكَد لِضَعْفِهِنَّ وَاحْتِيَاجهنَّ إِلَى مَنْ يَقُوم بِأَمْرِهِنَّ, وَقِيلَ: مَعْنَاهُ اِقْبَلُوا وَصِيَّتِي فِيهِنَّ, وَاعْمَلُوا بِهَا, وَارْفُقُوا بِهِنَّ,وَأَحْسِنُوا عِشْرَتهنَّ. قُلْت: وَهَذَا أَوْجَه الْأَوْجُهِ فِي نَظَرِي([197]).

قال الإمام النووي: وَفِي هَذَا الْحَدِيث مُلَاطَفَة النِّسَاء، وَالْإِحْسَان إِلَيْهِنَّ، وَالصَّبْر عَلَى عِوَج أَخْلَاقهنَّ، وَاحْتِمَال ضَعْف عُقُولهنَّ, وَكَرَاهَة طَلَاقهنَّ بِلَا سَبَب، وَأَنَّهُ لَا يَطْمَع بِاسْتِقَامَتِهَا. وَالله أَعْلَم([198]).

ويقول الشوكاني: فيه الإرشاد إلى ملاطفة للنساء والصبر على ما لا يستقيم من أخلاقهن، والتنبيه على أنهن خلقن على تلك الصفة التي لا يفيد معها التأديب، ولا ينجع عندها النصح، فلم يبق إلا الصبر والمحاسنة، وترك التأنيب والمخاشنة([199]).

فليترفق الزوج بزوجتها، ولا يؤذيها بفعلٍ أو قولٍ، وأن يغض طرفه عن بعض ما يصدر منها من نقصٍ أو تقصيرٍ ما لم يؤدِّ ذلك إلى الإخلال بشرع الله, كما قال تعالى ((وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)) [النساء:19].

وكما جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً؛ إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ؛ أَوْ قَالَ: غَيْرَهُ»([200]).

يقول الشوكاني: فيه الإرشاد إلى حسن العشرة والنهي عن البغض للزوجة بمجرد كراهة خلق من أخلاقها، فإنها لا تخلو مع ذلك عن أمر يرضاه منها، وإذا كانت مشتملة على المحبوب والمكروه فلا ينبغي ترجيح مقتضى الكراهة على مقتضى المحبة([201]).

فليعلم المسلم أن زوجته إذا أخطأت مرة أو مرتين فإنها كم مرة أحسنت إليه، إن كره منها أمرًا فكم من الخدمات تقوم بها تجاهه وتجاه أولاده، اسمع قصة هذا الرجل الذي جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكو سوء خلق زوجته، فوقف على بابه ينتظر خروجَه، فسمع امرأة عمر تستطيل عليه بلسانه وتخاصمه، وعمر ساكت لا يرد عليها، فانصرف الرجل راجعًا، وقال: إن كان هذا حال عمر مع شدته وصلابته وهو أمير المؤمنين فكيف حالي؟ وخرج عمر فرآه مولّيًا عن بابه فناداه وقال: ما حاجتك أيها الرجل؟ فقال: يا أمير المؤمنين! جئت أشكو إليك سوء خلق امرأتي واستطالتها عليّ، فسمعت زوجتك كذلك فرجعت وقلت: إذا كان هذا حال أمير المؤمنين مع زوجته فكيف حالي؟ فقال عمر: يا أخي إني أحتملها لحقوق لها عليّ، إنها لطباخة لطعامي، خبازة لخبزي، غسالة لثيابي، مرضعة لولدي، ويسكن قلبي بها عن الحرام، فأنا أحتملها لذلك، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين! وكذلك زوجتي، قال عمر: فاحتملها يا أخي، فإنما هي مدة يسيرة([202]).

ومن الإحسان إليها أن يساعدها في أمور البيت، ولا شك أن الأصل أن تقوم الزوجة بأعمال البيت وخدمة زوجها وأولادها، ولكن مما يديم الصحبة والمودة هو أن يساعد الرجل أهله في شؤون البيت، وخاصة الأعمال التي تحتاج القوة وتجلب المشقة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يخيط ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه، كما في الأثر عن عائشة رضي الله عنها: عن الأسود قال: سألت عائشة: «ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله - تعني خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة»([203]).

 قال ابن حجر في شرح الحديث: وقد وقع مفسراً في الشمائل للترمذي من طريق عمرة عن عائشة بلفظ: «ما كان إلا بشرًا من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه». ولأحمد وابن حبان من رواية عروة عنها: «يخيط ثوبه، ويخصف نعله» وزاد ابن حبان: «ويرقع دلوه». وفيه الترغيب في التواضع، وترك التكبر، وخدمة الرجل أهله([204]).

ومن الإحسان إليها أن يعفها بتلبية رغبتها الفطرية حتى تقصر طرفها عن الحرام، ولأن ذلك من تمام إحسان العشرة، ولذلك جعل الشرع للمولى - من يحلف أن لا يطأ زوجته - مدة أربعة أشهر، فإن لم يفعل فرق بينهما، لقوله تعالى: ((لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [البقرة:226].

وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى هذا الجانب في أحاديث، منها قوله لعبد الله بن عمرو رضي الله عنه : «يَا عَبْدَ الله أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ؛ صُمْ وَأَفْطِرْ, وَقُمْ وَنَمْ,فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا, فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ. فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً. قَالَ: فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ الله دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا تَزِدْ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَمَا كَانَ صِيَامُ نَبِيِّ الله دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام؟ قَالَ: نِصْفَ الدَّهْرِ. فَكَانَ عَبْدُ الله يَقُولُ بَعْدَ مَا كَبِرَ: يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»([205]).

وكذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون عن التبتل، فعن سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه يَقُولُ: «رَدَّ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا»([206]).

وكذلك يدل عليه قصة سلمان وأبي الدرداء - رضي الله عنهما - فعَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «آخَى النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ, فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ, فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً, فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا. فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا, فَقَالَ: كُلْ. قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ. قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ. قَالَ: فَأَكَلَ, فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ قَالَ: نَمْ فَنَامَ, ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ, قَالَ سَلْمَانُ: قُمْ الْآنَ. فَصَلَّيَا. فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا,وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا,فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ, فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ سَلْمَانُ»([207]).

وورد أن كعب بن سور كان جالساً عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فجاءت امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين! ما رأيت رجلاً قط أفضل من زوجي، والله إنه ليبيت ليله قائماً، ويظل نهاره صائماً، فاستغفر لها وأثنى عليها، واستحيت المرأة وقامت راجعةً، فقال كعب: يا أمير المؤمنين! هلا أعديت المرأة على زوجها، فقال: وما ذاك ؟ فقال: إنها جاءت تشكوه، إذا كانت هذه حاله في العبادة متى يتفرغ لها ؟ فبعث عمر إلى زوجها، فجاء فقال لكعب: اقض بينهما، فإنك فهمت من أمرهما ما لم أفهم، قال: فإني أرى كأنها امرأة عليها ثلاث نسوةٍ، هي رابعتهن، فأقضي له بثلاثة أيامٍ ولياليهن يتعبد فيهن، ولها يوم وليلة، فقال عمر: والله ما رأيك الأول بأعجب إلي من الآخر، اذهب فأنت قاض على أهل البصرة([208]).

* * *

وكذلك عليه أن يحفظ أسرار البيت؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إن من أشر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرّها»([209]).

فما يقع في بعض مجالس النساء - وبعض مجالس الرجال أيضًا - من نشر ما يدور بين الزوجين من أحاديث وأسرار أو خلافات عند الأقارب والأصدقاء والصديقات، وخصوصًا الأمور الشخصية المتعلقة بالمعاشرة فهو من المنكرات الصريحة، روى أبو داود حديثاً طويلاً عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَلَّى صلاةً، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الرِّجَالِ فَقَالَ: «هَلْ مِنْكُمْ الرَّجُلُ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ فَأَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ وَأَلْقَى عَلَيْهِ سِتْرَهُ وَاسْتَتَرَ بِسِتْرِ الله؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: ثُمَّ يَجْلِسُ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا، فَعَلْتُ كَذَا. قَالَ: فَسَكَتُوا. قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ: هَلْ مِنْكُنَّ مَنْ تُحَدِّثُ؟ فَسَكَتْنَ. فَجَثَتْ فَتَاةٌ. قَالَ مُؤَمَّلٌ فِي حَدِيثِهِ: فَتَاةٌ كَعَابٌ عَلَى إِحْدَى رُكْبَتَيْهَا، وَتَطَاوَلَتْ لِرَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَرَاهَا، وَيَسْمَعَ كَلَامَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله إِنَّهُمْ لَيَتَحَدَّثُونَ, وَإِنَّهُنَّ لَيَتَحَدَّثْنَهُ, فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا مَثَلُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ شَيْطَانَةٍ لَقِيَتْ شَيْطَانًا فِي السِّكَّةِ فَقَضَى مِنْهَا حَاجَتَهُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ..»([210]).

ومن الإحسان إليها أن يعلّمها أمور دينها من مسائل التوحيد والعبادات والمعاملات وغيرها؛ لأن هذا أنفع لها في دينها ودنياها، وأبرأ لذمة الزوج عند الله تعالى، لقوله تعالى: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)) [التحريم:6] ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ, وَالْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ, وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ, وَالمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا, وَالخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ, قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ»([211]).

وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم لمن يحرص على إصلاح الزوجة والأهل وتعليمها وحثها على السلوك المستقيم والخلق الفاضل، ووعد بأن له أجران، فعن أَبي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌلَهُمْ أَجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،وَالْعَبْدُ المَمْلُوكُ إِذَا أَدَّى حَقَّ الله وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ»([212]).

وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رَحِمَ الله رَجُلاً قَامَ مِن اللَّيْلِ فَصَلَّى وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا المَاءَ، رَحِمَ الله امْرَأَةً قَامَتْ مِن اللَّيْلِ فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ المَاءَ»([213]).

هذه بعض مواد الإحسان ومقرراته التي على الزوج لزوجته لكي يعمل بها، فيستمر الود والوئام والرحمة بينهما، ويكون هذا البيت لبنة صالحة في بناء المجتمع كله.

ثانياً: إحسان الزوجة إلى زوجها:

كما أمر الشارع الرجل أن يحسن إلى زوجته كذلك أمر الزوجة أن تحسن إلى زوجها وأكد على هذا الأمر، لأن حقه عظيم, وطاعته واجبة في غير معصية الله عز وجل، ولو كان السجود لغير الله جائزاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء أن يسجدن لأزواجهن كما جاء في الحديث: عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: «أَتَيْتُ الحِيرَةَ فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لمَرْزُبَانٍ لَهُمْ فَقُلْتُ: رَسُولُ الله أَحَقُّ أَنْ يُسْجَدَ لَهُ. قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: إِنِّي أَتَيْتُ الحِيرَةَ فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لمَرْزُبَانٍ لَهُمْ فَأَنْتَ يَا رَسُولَ الله أَحَقُّ أَنْ نَسْجُدَ لَكَ. قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ مَرَرْتَ بِقَبْرِي أَكُنْتَ تَسْجُدُ لَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَلَا تَفْعَلُوا لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ النِّسَاءَ أَنْ يَسْجُدْنَ لِأَزْوَاجِهِنَّ لمَا جَعَلَ الله لهُمْ عَلَيْهِنَّ مِن الحَقِّ»([214]).

قال صاحب التحفة: قَوْلُهُ: (لَأَمَرْت المَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا) أَيْ لِكَثْرَةِ حُقُوقِهِ عَلَيْهَا وَعَجْزِهَا عَنْ الْقِيَامِ بِشُكْرِهَا. وَفِي هَذَا غَايَةُ المُبَالَغَةِ لِوُجُوبِ إِطَاعَةِ المَرْأَةِ فِي حَقِّ زَوْجِهَا فَإِنَّ السَّجْدَةَ لَا تَحِلُّ لِغَيْرِ الله([215]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ المَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا»قَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ([216]).

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي النَّيْلِ: وَقَضِيَّةُ السُّجُودِ ثَابِتَةٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ, وَمِنْ حَدِيثِ سُرَاقَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ, وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ, وَمِنْ حَدِيثِ عِصْمَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَعَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ([217]).

وقَالَ أيضاً بَعْدَ ذِكْرِ أَحَادِيثَ مَا لَفْظُهُ: «فَهَذِهِ أَحَادِيثُ فِي أَنَّهُ لَوْ صَلُحَ السُّجُودُ لِبَشَرٍ لَأَمَرْت بِهِ الزَّوْجَةَ لِزَوْجِهَا، يَشْهَدُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ وَيُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا»([218]).

ومن الإحسان إلى الزوج أن تطيعه في غير معصية الله عزوجل فلا تترفع عليه، وقد حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم النساء على الطاعة لأزواجهن؛ لأنهم سبب دخول الجنة والابتعاد عن النار، وكذا بالعكس إذا عصينهم، فكما جاء في الحديث عَنْ حُصَيْنِ بْنِ مِحْصَنٍ أَنَّ عَمَّةً لَهُ أَتَت النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ فَفَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا فَقَالَ لَهَا: «أَذَاتُ زَوْجٍ أَنْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَيْنَ أَنْتِ مِنْهُ؟ قَالَ يَعْلَى: فَكَيْفَ أَنْتِ لَهُ؟ قَالَتْ: مَا آلُوهُ إِلَّا مَا عَجَزْتُ عَنْهُ. قَالَ: انْظُرِي أَيْنَ أَنْتِ مِنْهُ فَإِنَّهُ جَنَّتُكِ وَنَارُكِ»([219]).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا صلت المرأة خمسها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت»([220]).

ومن الإحسان إليه أن تبذل ما فيه قصارى جهدها في خدمته؛ لأن فيه خيراً كثيراً، وهو من مقتضيات النكاح ومن مقاصد الزواج السامية.

وهو من سلوك الصحابيات المكرمات فقد صح عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أنها كانت تخدم الزبير في بيته وفرسه وكانت تنقل النوى من مزرعته من بُعد ثلثي فرسخٍ: فعَن ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ أَسْمَاءَ قَالَتْ: «كُنْتُ أَخْدُمُ الزُّبَيْرَ خِدْمَةَ الْبَيْتِ، وَكَانَ لَهُ فَرَسٌ وَكُنْتُ أَسُوسُهُ فَلَمْ يَكُنْ مِن الْخِدْمَةِ شَيْءٌ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ سِيَاسَةِ الْفَرَسِ، كُنْتُ أَحْتَشُّ لَهُ، وَأَقُومُ عَلَيْهِ، وَأَسُوسُهُ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّهَا أَصَابَتْ خَادِمًا، جَاءَ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ فَأَعْطَاهَا خَادِمًا، قَالَتْ: كَفَتْنِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ فَأَلْقَتْ عَنِّي مَئُونَتَهُ»([221]). الحديث.

وعند البخاري عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَتْ: «تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ وَمَا لَهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلَا مَمْلُوكٍ وَلَا شَيْءٍ غَيْرَ نَاضِحٍ وَغَيْرَ فَرَسِهِ فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ, وَأَسْتَقِي المَاءَ, وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ, وَأَعْجِنُ وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ، وَكَانَ يَخْبِزُ جَارَاتٌ لِي مِن الْأَنصَارِ وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ, وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِي وَهِيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ, فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي، فَلَقِيتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِن الْأَنصَارِ، فَدَعَانِي ثُمَّ قَالَ: إِخْ إِخْ لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ، وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ وَكَانَ أَغْيَرَ النَّاسِ، فَعَرَفَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي قَد اسْتَحْيَيْتُ. فَمَضَى فَجِئْتُ الزُّبَيْرَ فَقُلْتُ: لَقِيَنِي رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى رَأْسِي النَّوَى وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَنَاخَ لِأَرْكَبَ، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ. فَقَالَ: وَالله لَحَمْلُكِ النَّوَى كَانَ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ. قَالَتْ: حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ تَكْفِينِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَنِي»([222]).

وكذلك لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على فاطمة رضي الله عنها عملها في بيت علي رضي الله عنه مع أنها شكت النبي صلى الله عليه وسلم من مشقة العمل، فعن عَلِيّ رضي الله عنه قال: «إنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْها السَّلَام أَتَت النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِن الرَّحَى, وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَقِيقٌ فَلَمْ تُصَادِفْهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ. قَالَ: فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا فَذَهَبْنَا نَقُومُ، فَقَالَ: «عَلَى مَكَانِكُمَا». فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى بَطْنِي.فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا أَوْ أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا فَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ, وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ, وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ»([223]).

يقول ابن حجر: وَيُسْتَفَاد مِنْ قَوْله «أَلَا أَدُلّكُمَا عَلَى خَيْر مِمَّا سَأَلْتُمَا» أَنَّ الَّذِي يُلَازِم ذِكْر الله يُعْطَى قُوَّة أَعْظَم مِن الْقُوَّة الَّتِي يَعْمَلهَا لَهُ الْخَادِم, أَوْ تَسْهُل الْأُمُور عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَكُون تَعَاطِيه أُمُوره أَسْهَلَ مِنْ تَعَاطِي الْخَادِم لَهَا, هَكَذَا اسْتَنْبَطَهُ بَعْضهمْ مِن الْحَدِيث, وَالَّذِي يَظْهَر أَنَّ المُرَاد أَنَّ نَفْع التَّسْبِيح مُخْتَصّ بِالدَّارِ الْآخِرَة وَنَفْع الْخَادِم مُخْتَصّ بِالدَّارِ الدُّنْيَا, وَالْآخِرَة خَيْرٌ وَأَبْقَى([224]).

وقد ضعف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قول من يقول بأن المرأة لا تجب عليها الخدمة([225]).

ويقول العلامة ابن القيم رحمه الله: إن العقود المطلقة إنما تنزل على العرف، والعرف خدمة المرأة، وقيامها بمصالح البيت الداخلة، وقولهم _ أي الذين لم يوجبوا الخدمة على المرأة -: إن خدمة فاطمة وأسماء كانت تبرعاً وإحساناً يرده أن فاطمة كانت تشتكي ما تلقى من الخدمة، فلم يقل لعليٍ: لا خدمة عليها وإنما هي عليك، وهو لا يحابي في الحكم أحداً، ولما رأى أسماء العلف على رأسها،...لم يقل: لا خدمة عليها، وإن هذا ظلمٌ لها بل أقره على استخدامها، وأقر سائر أصحابه على استخدام أزواجهم مع علمه بأن منهن الكارهة والراضية، هذا أمرٌ لا ريب فيه([226]).

وهنا همسة في أذن كل أخت مسلمة: أين نحن من هذه النماذج المشرقة، وبالأخص التي تطالب باستقدام الخادمات الأجنبيات بدون حاجة ماسة، وتجر على بيتها الويلات والبلايا في بعض الأحيان دينياً وخلقياً واقتصادياً، والفضائح والجرائم التي تنشر في المجلات والصحف خير شاهد وأصدق دليل على الواقع، وزد على هذا بعد استقدامها أن البعض منا يبخس من حقها، ويكلفها ما لا تحتمل، وأحيانا يسفرها والجنين تتحرك في أحشائها وقد جرى العار عليها وعلى أسرتها، والله المستعان.

ومن الإحسان إلى الزوج أن تسره إذا رآها، وتطيعه إذا أمرها، وتحفظ عرضه وماله إذا غاب عنها، وتربي أولاده أحسن تربية، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «قِيلَ لِرَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلا تُخَالِفُهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهَا بِمَا يَكْرَهُ»([227]).

وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «مَا اسْتَفَادَ المُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى الله خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ: إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ»([228]).

وقال السندي في شرحه: قَوْله (إِنْ أَمَرَهَا) بَيَان صَلَاحهَا إِنْ أُرِيد صَلَاح الزَّوْجَة وَمَا يَحْصُل بِهِ أُمُور المَعِيشَة، أَوْ صِفَة لِلزَّوْجَةِ لِبَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُور مَطْلُوبَة فِي الزَّوْجَة وَإِنْ كَانَ بَعْضهَا غَيْر مَرْعِيَّة فِي الصَّلَاح. (سَرَّتْهُ) أَيْ لِحُسْنِهَا ظَاهِرًا, أَوْ لِحُسْنِ أَخْلَاقهَا بَاطِنًا, أَوْ لِدَوَامِ اشْتِغَالهَا بِطَاعَةِ الله تَعَالَى وَالتَّقْوَى. (أَبَرَّتْهُ) بِفِعْلِ المُقْسَم عَلَيْهِ. قَوْله: (فِي نَفْسهَا) بِحِفْظِهَا مِنْ تَمْكِين أَحَد مِنْهَا([229]).

فعلى كل امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحفظ فرجها وتتجنب ما يدنس عرضها ويسئ سمعتها، ولا تقدم على ما يوحي بخفة دينها ونقصان حيائها، وتحذر من التبرج وإظهار الزينة لغير محارمها، وأن تربي أولادها التربية الحسنة وتعودهم جميل الخلال ومحاسن الأخلاق، وتحفظ مال زوجها فلا تصرفه فيما لا يريد ولا يرضيه، كما لا ينفقها في أمور مضرة أو غير نافعة.

 ومن شقاء الرجل أن يرى المرأة فيراها فتسوءه، وتحمل لسانها عليه، وإن غاب عنها لم يأمنها على نفسها وماله، فإياكن أيتها الزوجات من عصيان أزواجكن وعليكن الجد والاجتهاد في طاعتهم، ولتكن إحداكن مثالاً واقعياً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ»([230]).

وإياكن من رفع اللسان على أزواجكن وإيذائهم ولو شيئاً يسيراً، لأن هذا سبب دعاء الحور العين عليكن؛ كما جاء في الحديث عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُؤْذِي امْرَأَةٌ زَوْجَهَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا قَالَتْ زَوْجَتُهُ مِنْ الحُورِ الْعِينِ: لَا تُؤْذِيهِ قَاتَلَكِ الله فَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَكَ دَخِيلٌ يُوشِكُ أَنْ يُفَارِقَكِ إِلَيْنَا». قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ([231]).

وكذلك من إحسان المرأة إلى زوجها أن تلبي رغبة زوجها في الفراش، لأنه من مقاصد النكاح، ومن أسباب الحفظ من الوقوع في المحظور، ولذلك حث الشرع على الزواج كما جاء في الحديث: عَنْ عَبْدِ الله رضي الله عنه قَالَ قَالَ لَنَا رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَن اسْتَطَاعَ مِنْكُم الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»([232]).

وإذا رأى رجل امرأةً فأعجبته فعليه أن يمتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يأتي امرأته وليقض وطره فإن معها مثل الذي معها. فعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ جَابِرٌ رضي الله عنه : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا أَحَدُكُمْ أَعْجَبَتْهُ المَرْأَةُ فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ فَلْيَعْمِدْ إِلَى امْرَأَتِهِ فَلْيُوَاقِعْهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نفسه»([233]).

 وفي الرواية الأخرى: «أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى امْرَأَةً فَأَتَى امْرَأَتَهُ زَيْنَبَ وَهِيَ تَمْعَسُ مَنِيئَةً([234])لَهَا فَقَضَى حَاجَتَهُ, ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: إِنَّ المَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ, وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ, فَإِذَا أَبْصَرَ أَحَدُكُمْ امْرَأَةً فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ»([235]).

 وعند الترمذي عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رضي الله عنه أيضا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى امْرَأَةً, فَدَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ فَقَضَى حَاجَتَهُ وَخَرَجَ, وَقَالَ: إِنَّ المَرْأَةَ إِذَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَتْ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ, فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ امْرَأَةً فَأَعْجَبَتْهُ فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ, فَإِنَّ مَعَهَا مِثْلَ الَّذِي مَعَهَا»([236])

يقول الإمام النووي: وَمَعْنَى الْحَدِيث: أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِمَنْ رَأَى امْرَأَة فَتَحَرَّكَتْ شَهْوَته أَنْ يَأْتِي امْرَأَته أَوْ جَارِيَته إِنْ كَانَتْ لَهُ, فَليُوَاقِعهَا لِيَدْفَع شَهْوَته, وَتَسْكُن نَفْسه, وَيَجْمَع قَلْبه عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ.

وقَوْله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ المَرْأَة تُقْبِل فِي صُورَة شَيْطَان وَتُدْبِر فِي صُورَة شَيْطَان) قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ: الْإِشَارَة إِلَى الْهَوَى وَالدُّعَاء إِلَى الْفِتْنَة بِهَا لِمَا جَعَلَهُ الله تَعَالَى فِي نُفُوس الرِّجَال مِن المَيْل إِلَى النِّسَاء, وَالِالْتِذَاذ بِنَظَرِهِنَّ, وَمَا يَتَعَلَّق بِهِنَّ, فَهِيَ شَبِيهَة بِالشَّيْطَانِ فِي دُعَائِهِ إِلَى الشَّرّ بِوَسْوَسَتِهِ وَتَزْيِينه لَهُ. وَيُسْتَنْبَط مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهَا أَلَّا تَخْرُج بَيْن الرِّجَال إِلَّا لِضَرُورَةٍ, وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ الْغَضّ عَنْ ثِيَابهَا, وَالْإِعْرَاض عَنْهَا مُطْلَقًا... وَفِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْس بِطَلَبِ الرَّجُل اِمْرَأَته إِلَى الْوِقَاع فِي النَّهَار وَغَيْره, وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَغِلَة بِمَا يُمْكِن تَرْكه, لِأَنَّهُ رُبَّمَا غَلَبَتْ عَلَى الرَّجُل شَهْوَة يَتَضَرَّر بِالتَّأْخِيرِ فِي بَدَنه أَوْ فِي قَلْبه وَبَصَره. وَالله أَعْلَم([237]).

وقد ورد أيضا أن الملائكة تلعنها إن امتنعت عن تلبيته، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ فَبَات َغَضْبَانَ عَلَيْهَا, لَعَنَتْهَا المَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ»([238]).

قال الشوكاني نقلاً عن ابن أبي جمرة: الظاهر أن الفراش كناية عن الجماع، ويقويه قوله: «الولد للفراش». أي: لمن يطأ في الفراش([239]).

إن امتناع المرأة من زوجها إذا دعاها منع لحق من حقوقه التي أعطاه الله - سبحانه وتعالى - إياه، وهذا يستوجب لعنة الملائكة، مما فيه تهديد لمن صدر منه هذا الأمر، قال ابن حجر: وفيه الإرشاد إلى مساعدة الزوج وطلب مرضاته، قال المهلب: هذا الحديث يوجب أن منع الحقوق - في الأبدان كانت أو في الأموال - مما يوجب سخط الله، إلا أن يتغمدها بعفوه([240]).

فقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلبية نداء الزوج لزوجته وإن كانت في أصعب الأعمال وأشقها, فأمرها أن تأتيه وإن كانت تخبز على التنور؛ فعن طَلْقِ بنِ عَلي رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله: «إذَا الرجل دعا زَوْجَتَهُ لِحَاجَتِهِ فَلْتَأْتِه، وإنْ كانَتْ عَلَى التَّنُّورِ»([241]).

أو كانت على قتب, فعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْتُجِبْ، وَإِنْ كَانَتْ عَلى ظَهْرِ قَتَب ٍ»([242]).

قال المناوي: قال أبو عبيدة: كنا نرى أن معناه وهي تسير على ظهر بعير فجاء التفسير في حديث: إن المرأة كانت إذا حضر نفاسها أقعدت على قتب فيكون أسهل لولادتها نقله الزمخشري وأقره، والقصد الحث على طاعة الزوج حتى في هذه الحالة، فكيف غيرها([243]

ولذلك نهيت المرأة عن صيام التطوع إلا بإذن زوجها كما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَصُم المَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ, وَلَا تَأْذَنْ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاهِدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ, وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ كَسْبِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّ نِصْفَ أَجْرِهِ لَهُ»([244]).

قال الإمام النووي: قَوْله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَصُم المَرْأَة وَبَعْلهَا شَاهِد إِلَّا بِإِذْنِهِ) هَذَا مَحْمُول عَلَى صَوْم التَّطَوُّع وَالمَنْدُوب الَّذِي لَيْسَ لَهُ زَمَن مُعَيَّن([245]).

وكذلك لا تأذن لأحد في بيت زوجها إلا بإذنه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه...» الحديث([246]).

يقول النووي: وَالمُخْتَار أَنَّ مَعْنَاهُ أَلَّا يَأْذَنَّ لِأَحَدٍ تَكْرَهُونَهُ فِي دُخُول بُيُوتكُمْ وَالْجُلُوس فِي مَنَازِلكُمْ سَوَاء كَانَ المَأْذُون لَهُ رَجُلًا أَجْنَبِيًّا أَوْ اِمْرَأَة أَوْ أَحَدًا مِنْ مَحَارِم الزَّوْجَة. فَالنَّهْي يَتَنَاوَل جَمِيع ذَلِكَ([247]).

ومن الإحسان إلى الزوج أن لا تترفع المرأة عليه لأنه قيمها قال تعالى: ((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ)) [النساء:34].

قال الشوكاني في فتح القدير: هذه الجملة مستأنفة مشتملة على بيان العلة التي استحق بها الرجال الزيادة، كأنه قيل: كيف استحق الرجال ما استحقوا مما لم تشاركهم فيه النساء، فقال: ((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ)) الخ، والمراد: أنهم يقومون بالذب عنهن كما تقوم الحكام والأمراء بالذب عن الرعاية، وهم أيضا يقومون بما يحتجن إليه من النفقة والكسوة والمسكن، وجاء بصيغة المبالغة في قوله ((قَوَّامُونَ )) ليدل على أصالتهم في هذا الأمر([248]).

وفضل الرجل على المرأة غير منكورٍ، بل هو مما يتوقف عليه سير الأمور؛ إذ إن نظام العالم يدل على أنه لا بد لكل سفينةٍ من ربانٍ ولكل مجتمعٍ من قوامٍ، فكذلك المجتمع العائلي، يحتاج إلى الراعي والقيم، واستحق الرجال هذه المزية لتفضيل الله إياهم على النساء بما فضلهم به من كون الخلفاء والحكام والسلاطين والأمراء والغزاة فيهم وغير ذلك من الأمور، ثم فرض عليه السعي، وكلفه الإنفاق، و هذا من المعلوم أن من يكلف بالإنفاق على مجتمعٍ ما يعطى حق الرعاية والقوامة على هذا المجتمع.

ومن الإحسان إلى الزوج أن لا يكفرنه، لأن كفران العشير من أسباب دخول النار كما جاء في الحديث: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ إِلَى المُصَلَّى, فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ, فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ.فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ, وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ, مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ..» الحديث([249]).

و عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ, يَكْفُرْنَ قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ, وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ, لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ»([250]).

قال ابن حجر: وَقَوْله «لَوْ أَحْسَنْت إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْر» فِيهِ إِشَارَة إِلَى وُجُود سَبَب التَّعْذِيب؛ لِأَنَّهَا بِذَلِكَ كَالمُصِرَّةِ عَلَى كُفْر النِّعْمَة, وَالْإِصْرَار عَلَى المَعْصِيَة مِنْ أَسْبَاب الْعَذَاب([251]).

فالله الله من كفران العشير، وإيذاء الزوج بالقول أو بالعمل، والنشوز عليه، والإعراض عنه، بل لا بد من خفض الجناح له، والتلطف له قولاً وعملاً، وإيناسه عند الوحشة، ورباطة جأشه عند البلية والمصيبة، وإليكن ما فعلت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها حينما جاءها النبي صلى الله عليه وسلم من غار حراء يرجف فؤاده، خائفاً ومندهشاً مما حصل، فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي, فأخذت خديجة رضي الله عنها تهدئ روعه وتثبت فؤاده وقالت قولتها المشهورة: «كَلَّا وَالله مَا يُخْزِيكَ الله أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ»([252]) ثم انْطَلَقَتْ بِهِ إلى وَرَقَةَ بْن نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْن عَمِّها لكي يثبت فؤاده ويذهب عنه الرعب والخوف، وتحصل له الطمأنينة والسكون من قوله.


 المبحث الثالث: الإحسان إلى الأولاد:

إن الأولاد نعمةٌ عظيمةٌ من نعم الله تعالى، قال تعالى: ((وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ)) [النحل:72].

وهم قرة عين لوالديهم، قال تعالى: ((وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)) [الفرقان:74].

 كما أنهم زينة الحياة الدنيا، قال تعالى: ((الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)) [الكهف:46].

وحتى يكون الأبناء قرة أعين لآبائهم وأمهاتهم وزينة لحياتهم، لا بد من الإحسان إليهم، وذلك بتربيتهم التربية الإسلامية الصالحة، وتنشئتهم على العقيدة الإسلامية الصحيحة منذ نعومة أظافرهم. وقد أمر الله تعالى بذلك في قوله: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)) [التحريم:6] وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسئولٌ عن رعيته، والمرأة راعيةٌ على بيت بعلها وهي مسئولةٌ عنهم»([253]).

وقد حث الإسلام على العناية بالأطفال حتى يكونوا ثروةً للأمة، ويساهموا في استعادة مجد الأمة وعزها، وأكد على تربيتهم بالتربية الإسلامية، فكلما بذل الإنسان في التربية رزقه الله من صلاح الولد، وإذا ما أهمل في التربية وتكاسل فيها وجد الاعوجاج في سلوك الولد. وإن ما نرى من الفساد والانحلال الخلقي، والظلم والقتل، وتفشي الفواحش والأمراض، فإن السبب الرئيس لذلك كله سوء التربية وإهمال الوالدين أولادهما, و تخلي الأم عن دورها ووظيفتها الأساسية. فيحذر من ذلك. ولعلي أذكر بعض مجالات الإحسان إلى الأولاد.

1- فمن الإحسان إلى الأولاد اختيار الزوجة الصالحة التي تتفهم دورها ووظيفتها تجاه أولادها وزوجها وتقوم بهما على أحسن وجه، وهي الركن الرئيسي في هذا العمل، وعملها هذا له دور تاريخي في حياة المجتمعات، فقد تقدِّم ولدًا مصلحًا للمجتمع يقود الأمة إلى الخير والقوة. فينبغي لمن يريد بناء بيت مسلم أن يبحث له أولاً عن الزوجة المسلمة، وإلا سيظل البنيان متخاذلاً كثير الثغرات([254]).

وقد حث الشرع على هذا كما في الحديث الذي رواه ابن ماجه عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ وَانْكِحُوا الأَكْفَاءَ وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ»([255]).

 يقول ابن عمر رضي الله عنهما: «كما أن لولدك عليك حقًّا، كذلك لولدك عليك حقٌ».

 ولا تبرأ بهذه الذمة إلا المرأة التي عندها خلقٌ ودينٌ، ولذا حث النبي صلى الله عليه وسلم على اختيار امرأةٍ متدينةٍ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تُنْكَحُ المَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا, وَلِحَسَبِهَا, وَجَمَالِهَا, وَلِدِينِهَا, فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ»([256])

2 - ومن الإحسان إليهم القيام بحقوقهم منذ اللحظة الأولى من ولادتهم، من الأذان والعقيقة. وأن يعوّد الطفل إذا بدأ ينطق بكلمة التوحيد وبالأذكار الأخرى خفيفة مثل سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر، وتغرس في قلبه معاني هذه الكلمات الجميلة، ولكن لا تصب صبًّا بل شيئًا فشيئًا؛ لأن عملية التربية والتعليم تحتاج إلى صبر وحلم. وإذا بلغ الطفل مرحلة بحيث يمكن أن يحفظ بعض الأشياء يُبدأ بتحفيظ قصار السور بدءًا بسورة الفاتحة، وتعويده على قراءة الأذكار المهمة مثل: أذكار النوم، الطعام، دخول دورة المياه، ويحكى له بعض القصص للأنبياء والصالحين وخاصة من السيرة النبوية.

وعندما يبلغ الطفل السابعة من عمره تبدأ مرحلة جديدة، وهي مرحلة التميز وهذه المرحلة ذات أهمية كبيرة، إن استغلت في تربية سليمة فهي مكسب عظيم للطفل إلى مماته، والعكس بالعكس، كما قال الشاعر:

إن الغصون إذا قومتها اعتدلت              ولا يلين إذا قومته الخشب

قد ينفع الأدب الأحداث في مهل           وليس ينفع في ذي الشيبة الأدب

 وليتذكر الوالد أن أحسن الهدايا التي يمكن له أن يقدمها لفلذة كبده هي التربية الحسنة وتعليم الأدب الحسن، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدًا مِنْ نَحْلٍ أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ»([257]).

فعلى الأبوين تعليم الطفل ما يجوز له وما لا يجوز وما يجب عليه مما يحرم، سواء في العبادات والعقائد والمعاملات والأخلاق، كل ذلك في نطاق فهمه وإدراكه، مثل أن يرسخ في ذهنه أن الله واحدٌ وأنه فوق العرش وأنه سميعٌ بصيرٌ، وأن العبد يجب عليه أن يصلي لله، ويصوم لله، ويحلف بالله، وأن محمدًا رسول الله، ويغرس في قلبه محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن كتاب الله نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والأجر والثواب الذي يحصل لمن يتلوه ويحفظه، وأن لله ملائكة مقربين ومنهم من يكتب أعمال العبد ويحاسب عليه يوم القيامة، ويعلَّم الصدق والأمانة، ويبيَّن له تحريم الكذب والغش والكلام السيء، وأن الله تعالى يغضب على الكذاب والغشاش، ولينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّم الحسن رضي الله عنه وهو صغير أن الصدقة لا تحل لآل محمد صلى الله عليه وسلم، فعن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «أَخَذَ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنْهُمَا تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «كِخْ كِخْ» لِيَطْرَحَهَا، ثُمَّ قَالَ: «أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ»([258]).

 قال ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: «وَفِي الْحَدِيثِ دَفْعُ الصَّدَقَاتِ إِلَى الإِمَامِ, وَالانْتِفَاعُ بِالمَسْجِدِ فِي الأُمُورِ الْعَامَّةِ, وَجَوَازُ إِدْخَالِ الأَطْفَالِ المَسَاجِدَ وَتَأْدِيبُهُمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَمَنْعُهُمْ مِمَّا يَضُرُّهُمْ وَمِنْ تَنَاوُلِ المُحَرَّمَاتِ وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مُكَلَّفِينَ لِيَتَدَرَّبُوا بِذَلِكَ»([259]).

 ومن هنا وجب على الأب أن يدرك خطورة ما يُطعِم أهله وأولاده، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يمنع الطفل الصغير من أكل تمرة الصدقة فالأب أولى أن يراعي ما يطعم أهله، أمن الحلال يطعمهم أم من الحرام؟ كسبه طيب أم خبيث؟ يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: «ليتق الله العبد ولا يطعمهم إلا طيبًا، لَبكاء الصبي بين يدي أبيه متسخطًا يطلب منه خبزًا أفضل من كذا وكذا، يراه الله بين يديه»([260]).

وفي هذه المرحلة يؤمر الطفل بجميع العبادات التي يستطيع فعلها، منها:

أ- أمره بأداء الصلوات الخمس، ويتطور هذا الأمر بتأكيده عليها بضربه ضربًا غير شديد ولا مؤثر تأثيرًا مستقبليًّا كالضرب على الرأس أو الصدر ونحوه إن لم يصل الصلوات لوقتها، وذلك إذا بلغ العاشرة كما ورد ذلك في الحديث، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مُرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي المَضَاجِعِ»([261]).

يقول صاحب عون المعبود: قَالَ الطِّيبِيُّ: جَمَعَ بَيْن الْأَمْر بِالصَّلَاةِ وَالْفَرْق بَيْنهمْ فِي المَضَاجِع فِي الطُّفُولِيَّة تَأْدِيبًا لَهُمْ وَمُحَافَظَة لِأَمْرِ الله كُلّه وَتَعْلِيمًا لَهُمْ وَالمُعَاشَرَة بَيْن الْخَلْق, وَأَنْ لَا يَقِفُوا مَوَاقِف التُّهَم فَيَجْتَنِبُوا المَحَارِم. انْتَهَى. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَوْله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا بَلَغَ عَشْر سِنِينَ فَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا» يَدُلّ عَلَى غِلَاظ الْعُقُوبَة لَهُ إِذَا تَرَكَهَا مُدْرِكًا([262]).

والسيرة تدلنا على أولاد كان أحدهم مؤهلاً أن يؤم القوم وهو دون سن المراهقة، وذلك لحرصه على تعلم هذه الشعيرة الإسلامية، اقرأ هذه القصة اللطيفة عن عمرو بن سلمة وهو يؤم قومه: عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا بِمَاءٍ مَمَرَّ النَّاسِ وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا الرُّكْبَانُ فَنَسْأَلُهُمْ مَا لِلنَّاسِ؟ مَا لِلنَّاسِ؟ مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُونَ: يَزْعُمُ أَنَّ الله أَرْسَلَهُ أَوْحَى إِلَيْهِ أَوْ أَوْحَى الله بِكَذَا فَكُنْتُ أَحْفَظُ ذَلِكَ الْكَلامَ وَكَأَنَّمَا يُقَرُّ فِي صَدْرِي، وَكَانَت الْعَرَبُ تَلَوَّمُ بِإِسْلامِهِم الْفَتْحَ فَيَقُولُونَ: اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ. فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الْفَتْحِ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلامِهِمْ وَبَدَرَ أَبِي قَوْمِي بِإِسْلامِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: جِئْتُكُمْ وَالله مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَقًّا فَقَالَ: صَلُّوا صَلاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، وَصَلُّوا صَلاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَت الصَّلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا، فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِّي لمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِن الرُّكْبَانِ، فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ، وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّي فَقَالَت امْرَأَةٌ مِن الحَيِّ: أَلا تُغَطُّوا عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ؟ فَاشْتَروْا فَقَطَعُوا لِي قَمِيصًا فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ فَرَحِي بِذَلِكَ الْقَمِيصِ»([263]).

 والصلاة من أهم أركان الإسلام بعد الشهادتين، لذا ليس معنى الحديث أننا لا نأمر أولادنا إلا إذا بلغوا سبع سنوات، بل ندربهم على الوضوء والصلاة ونعلمهم كيفية الوضوء والصلاة وما يفسدهما شيئًا فشيئًا حتى إذا بلغوا سبع سنوات نحتم عليهم أداء الصلوات الخمس غير أن التشديد والتأديب على تركها لا يكون إلا إذا بلغوا عشر سنوات. روى أبو داود وغيره حَدَّثَنَا عن هِشَام بْن سَعْدٍ حَدَّثَنِي مُعَاذُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ خُبَيْبٍ الْجُهَنِيُّ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَيْهِ - أي: على معاذ والقائل:هشام بن سعد - فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: مَتَى يُصَلِّي الصَّبِيُّ؟ فَقَالَتْ: كَانَ رَجُلٌ مِنَّا يَذْكُرُ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «إِذَا عَرَفَ يَمِينَهُ مِنْ شِمَالِهِ فَمُرُوهُ بِالصَّلاةِ»([264]). لذا على الوالدين أن يحرصا على تعليم أولادهم كيفية الوضوء والصلاة منذ نعومة أظفارهم.

ب- صيام رمضان، وهو من أركان الإسلام وموجب للتقوى وموصل لرضاء المولى سبحانه، والولد إذا أطاق الصيام يؤمر به للتدريب عليه بدون إيجاب، والسلف كانوا يعوّدون أولادهم على الصيام عند استطاعتهم تحمل الجوع والعطش، ويستحب في أول الأمر للتدريب على الصيام ترصيد بعض الجوائز الخفيفة لمن يكمل صومه من أول النهار إلى غروب الشمس، ولا بأس أن تكون هذه الجائزة بشكل إعداد أكلة محببة عند الطفل، والصحابة كانوا يصوّمون أطفالهم صيام عاشوراء ويخرِجونهم إلى المسجد ويشغلونهم ببعض اللعب، روى مسلم عَن الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ قَالَتْ: «أَرْسَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ الَّتِي حَوْلَ المَدِينَةِ: مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ مِنْهُمْ إِنْ شَاءَ الله، وَنَذْهَبُ إِلَى المَسْجِدِ فَنَجْعَلُ لَهُم اللُّعْبَةَ مِن الْعِهْنِ فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهَا إِيَّاهُ عِنْدَ الإِفْطَارِ. وفي رواية: وَنَصْنَعُ لَهُم اللُّعْبَةَ مِن الْعِهْنِ فَنَذْهَبُ بِهِ مَعَنَا، فَإِذَا سَأَلُونَا الطَّعَامَ أَعْطَيْنَاهُم اللُّعْبَةَ تُلْهِيهِمْ حَتَّى يُتِمُّوا صَوْمَهُمْ»([265]).

وعندما رأى عمر رضي الله عنه سكران في رمضان قال: «وَيْلَكَ وَصِبْيَانُنَا صِيَامٌ فَضَرَبَهُ»([266]).

 وقال ابن حجر رحمه الله في شرح الباب: قَوْلُهُ (بَابٌ صَوْمُ الصِّبْيَانِ) أَيْ هَلْ يُشْرَع أَمْ لا؟ وَالجُمْهُور عَلَى أَنَّهُ لا يَجِبُ عَلَى مَنْ دُون الْبُلُوغ, وَاسْتَحَبَّ جَمَاعَةٌ مِن السَّلَف مِنْهُم ابْن سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ وَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيّ أَنَّهُمْ يُؤْمَرُونَ بِهِ لِلتَّمْرِينِ عَلَيْهِ إِذَا أَطَاقُوهُ, وَحَدَّهُ أَصْحَابُهُ بِالسَّبْعِ وَالْعَشْرِ كَالصَّلاةِ([267]).

ج - التدريب على الصدقة والإنفاق، وليعلم ولي أمر الطفل أن الزكاة واجبة فيما يملكه الطفل إذا بلغ النصاب، ويؤدي عنه وليه، ولا يترك أمواله محبوسة في خزانة حتى لا تأكله النفقات بل يتجر بها بأمانة وصدق، ولا يمكّن من التصرف في أمواله كيف شاء، لأن بها قوام الحياة، وهؤلاء سفهاء قد يتصرفون فيها بما يذهب أموالهم كلها، ولكن يتمرن الطفل على العطاء والصدقات كما يتمرن على الصلاة والصوم، فيعطى بعض ماله ليتصدق به، وكذا الوالد يجعل في يد ولده ريالاً أو ريالين ليدفع إلى فقير محتاج، وبذا يتربى على حب الصدقة والعطاء ومواساة الفقراء والمساكين، ومساعدة المحتاج.

فالمهم أن الطفل يؤمر بجميع ما يستطيع القيام به من بقية أحكام الإسلام وتشريعاته، ويدرب عليها شيئا فشيئا.

3 - ومن الإحسان إليهم تهيئة الجو المناسب لنمو قدراتهم ومواهبهم بطريق طبيعي، فلِيسودَ البيتَ مبدأُ الاحترام المتبادل: الصغير يحترم الكبير، والكبير يعطف على الصغير. فالمودة والصفا الذي هو سر سعادة المرء في بيته لا يتأتى إلا بالاحترام المتبادل، كل يحترم رأي الآخر، ويبدي حبه للآخر بأجمل أسلوب، ويعتذر بأحسن الأعذار إذا أخطأ، وأيضًا الصغير يحترم الكبير ويطيعه في معروف، والكبير يرحم الصغير ويعطف عليه ويقضي حاجته ويساعده في التعليم والتربية،عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا، فَلَيْسَ مِنَّا»([268]). وفي رواية: «لَيْسَ مِنَّا؛ مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا, وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبِيرِنَا»([269]).

 ومن احترام الصغير للكبير: طاعتهم في معروف، والقيام بخدمتهم، وعدم رفع الصوت عليهم، ومناداتهم بما يحبون، وتكريمهم كما يليق بمرتبتهم، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على هذا بقوله: «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ الله إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ المُسْلِمِ, وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالجَافِي عَنْهُ, وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ المُقْسِطِ»([270]).

 ومن عطف الكبير على الصغير النفقة عليهم، والتلطف بهم، ومشاركتهم في مجالسهم، والقيام بتعليمهم وتربيتهم، وعدم تكليفهم بما لا يطيقون. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة حيث كان يعطف عليهم، ويقبلهم، ويلطف معهم بالقول والعمل، ويداعبهم، ولهذه المداعبة مع الأطفال أثر بالغ في تربية النشء وإدخال السرور في قلوبهم، ولا يناقض مروءة الرجل ومهابته التي يجب الاتصاف بها، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يداعب الحسن والحسين رضي الله عنهما، بل يداعب أولاد صحابته رضوان الله عليهم، بل يداعب زوجته عائشة رضي الله عنها لكونها صغيرة السن عند زواجها، روى البخاري في الأدب المفرد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدلع لسانه للحسن فيرى الصبي حمرة لسانه.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال عن الحسن والحسين: «هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِن الدنيا»([271]). وكان صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس وهو حامل أمامة بنت أبي العاص فعن أَبي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ عَلَى عَاتِقِهِ فَصَلَّى فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَفَعَهَا»([272]).

بل كان يترك أولاد الصحابة يلعبون به؛ فعَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَتْ: «أَتَيْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ. قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَنَهْ سَنَهْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَهِيَ بِالحَبَشِيَّةِ حَسَنَةٌ. قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ فَزَبَرَنِي أَبِي. قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهَا, ثُمَّ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبْلِي وَأَخْلِقِي, ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي, ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي. قَالَ عَبْدُ الله: فَبَقِيَتْ حَتَّى ذكر يَعْنِي مِنْ بَقَائِهَا»([273]).

وكان يمازح أولاد الصحابة، روى البخاري أيضًا في صحيحه عن أَبي التَّيَّاحِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: «إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لأَخٍ لِي صَغِيرٍ: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ» وفي لفظ آخر للبخاري ومسلم: «كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ قَالَ: أَحْسِبُهُ قَالَ: كَانَ فَطِيمًا قَالَ: فَكَانَ إِذَا جَاءَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَرَآهُ قَالَ: «أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ» قَالَ فَكَانَ يَلْعَبُ بِهِ»([274]).

 قال النووي رحمه الله: وَفِي هَذَا الْحَدِيث فَوَائِد مِنْهَا:

جَوَاز تَكْنِيَة مَنْ لَمْ يُولَد لَهُ, وَتَكْنِيَة الطِّفْل, وَأَنَّهُ لَيْسَ كَذِبًا.

 وَجَوَاز الْمِزَاح فِيمَا لَيْسَ إِثْمًا.

وَجَوَاز تَصْغِير بَعْض المُسَمَّيَات.

وَجَوَاز لَعِب الصَّبِيّ بِالْعُصْفُورِ, وَتَمْكِين الْوَلِيّ إِيَّاهُ مِنْ ذَلِكَ.

وَجَوَاز السَّجْع بِالْكَلامِ الْحَسَن بِلا كُلْفَة, وَمُلاطَفَة الصِّبْيَان وَتَأْنِيسهمْ.

وَبَيَان مَا كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ مِنْ حُسْن الْخُلُق وَكَرَم الشَّمَائِل وَالتَّوَاضُع, وَزِيَارَة الأَهْل لأَنَّ أُمّ سُلَيْمٍ وَالِدَة أَبِي عُمَيْر هِيَ مِنْ مَحَارِمه صلى الله عليه وسلم([275]).

وروى أبو داود والترمذي وأحمد عن أَبي أُسَامَةَ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: رُبَّمَا قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا ذَا الأُذُنَيْنِ» قَالَ أَبُو أُسَامَةَ يَعْنِي يُمَازِحُهُ»([276]). وهذا من جملة مداعباته صلى الله عليه وسلم وحسن أخلاقه.

 وربما مج رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه أحد الأطفال مداعبةً له كما فعل ذلك مع محمود الربيع، وهذا الصحابي الصغير يتذكر عمل الرسول صلى الله عليه وسلم طيلة حياته لما أثر هذا الفعل في نفسه يقول رضي الله عنه : «عَقَلْتُ مِن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِي وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ دَلْوٍ»([277]).

وروى أبو داود عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: «قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَوْ خَيْبَرَ وَفِي سَهْوَتِهَا سِتْرٌ, فَهَبَّتْ رِيحٌ فَكَشَفَتْ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَنْ بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ لُعَبٍ, فَقَالَ: مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ قَالَتْ: بَنَاتِي. وَرَأَى بَيْنَهُنَّ فَرَسًا لَهُ جَنَاحَانِ مِنْ رِقَاعٍ فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي أَرَى وَسْطَهُنَّ؟ قَالَتْ: فَرَسٌ. قَالَ: وَمَا هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ؟ قَالَتْ: جَنَاحَانِ. قَالَ: فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ!؟ قَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ لِسُلَيْمَانَ خَيْلاً لَهَا أَجْنِحَةٌ؟ قَالَتْ: فَضَحِكَ حَتَّى رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ»([278]).

وفي حديث آخر من مداعبته صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها وتأكيدها رضي الله عنها على هذا المعنى مع الجارية الحديثة السن: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِي المَسْجِدِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّتِي أَسْأَمُ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الجَارِيَةِ الحَدِيثَةِ السِّنِّ الحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ»([279]).

 قال النووي رحمه الله: وَفِي هَذَا الْحَدِيث بَيَان مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مِن الرَّأْفَة وَالرَّحْمَة وَحُسْن الْخُلُق وَالمُعَاشَرَة بِالمَعْرُوفِ مَعَ الأَهْل وَالأَزْوَاج وَغَيْرهمْ([280]).

 4 - ومن الإحسان إليهم العدل بينهم: إن العدل من أجلّ وسائل التربية الإسلامية، فهو يقوي أواصر المحبة والمودة بين الأبناء، ويقوي ارتباطهم بوالديهم، وتفضيل بعضهم على بعض سبب رئيس لما يحصل بين الأبناء من كراهة وبغضاء، ولذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أشد الحذر، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: «سألتْ أمي أبي بعض الموهبة لي من ماله ثم بدا له فوهبها لي فقالت: لا أرضى حتى تُشهِد النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيدي وأنا غلامٌ فأتى بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمه بنت رواحة سألتني بعض الموهبة لهذا، قال: «ألك ولد سواه»، قال: نعم، قال: فأراه قال: «لا تُشهِدني على جورٍ». وفي رواية: «أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟» قال: بلى، قال: «فلا إذًا»([281]).

 قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: يتعين على الإنسان أن يعدل بين أولاده، وينبغي له إذا كان أحدهم أكثر من غيره أن يخفي ذلك ما أمكنه، وأن لا يفضله بما يقتضيه الحب من إيثار بشيء من الأشياء، فإنه أقرب إلى صلاح الأولاد وبرِّهم به واتفاقهم فيما بينهم؛ ولهذا لما ظهر لإخوة يوسف من محبة يعقوب الشديدة ليوسف وعدم صبره عنه وانشغاله به عنهم سعوا في أمر وخيم، وهو التفريق بينه وبين أبيه فقالوا: (( إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ )) [يوسف:9] وهذا صريحٌ جداً أن السبب الذي حملهم على ما فعلوا من التفريق بينه وبين أبيه هو تميزه بالمحبة([282]).

 والعدل يكون في كل شيء؛ في العطايا والحديث، والقبلة، والابتسامة، والتشجيع على الخير، وتقويم السلوك، والدعاء لهم بالخير والصلاح، ونرى بعض الآباء يعجبان بالمتميز من أولادهما دون غيره, ويعاملانه معاملة غير التي يعاملان بها الآخر، وهذا يحطم ثقة غير المتميز بنفسه, ويزرع بذور الحقد على أخيه المتميز، كما أن ذلك يجر المتميز للاستكبار على إخوته وسوء التعامل معهم وبالتالي على قطيعة الرحم إذا كبروا.

 سئل أحد الصالحين: أي ولديك أحب إليك؟ قال: هما مني بمنزلة السمع والبصر، فمن منا يفرق بين سمعه وبصره؟!

 وهناك قضية يجب مراعاتها في قضية العدل بين الأبناء، ألا وهي العدل بين الذكور والإناث، فلا نفضل ذكراً على أنثى ولا العكس، ولا نكن من الجاهليين الذين قال الله فيهم: (( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ )) [النحل:59] .

 وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على حسن تربية الفتاة والإحسان إليها بالأخص فعن عُرْوَةَ بْن الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَتْهُ قَالَتْ: «جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ تَسْأَلُنِي، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئًا فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِن النَّار»([283]).

يقول ابن حجر: قَوْله: (فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ) وَاَلَّذِي يَقَع فِي أَكْثَر الرِّوَايَات بِلَفْظِ الْإِحْسَان، وَفِي رِوَايَة عَبْد المَجِيد فَصَبَرَ عَلَيْهِنَّ, وَمِثْله فِي حَدِيث عُقْبَةَ بْن عَامِر فِي «الْأَدَب المُفْرَد»، وَكَذَا وَقَعَ فِي ابْن مَاجَهْ وَزَادَ: «وَأَطْعَمَهُنَّ وَسَقَاهُنَّ وَكَسَاهُنَّ» وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ «فَأَنْفَقَ عَلَيْهِنَّ وَزَوَّجَهُنَّ وَأَحْسَنَ أَدَبهنَّ»، وَفِي حَدِيث جَابِر عِنْدَ أَحْمَد وَفِي الْأَدَب المُفْرَد «يُؤْوِيهِنَّ وَيَرْحَمهُنَّ وَيَكْفُلهُنَّ» زَادَ الطَّبَرِيُّ فِيهِ «وَيُزَوِّجهُنَّ» وَلَهُ نَحْوه مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة فِي «الْأَوْسَط» وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَفِي «الْأَدَب المُفْرَد» مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد «فَأَحْسَنَ صُحْبَتهنَّ وَاتَّقَى الله فِيهِنَّ» وَهَذِهِ الْأَوْصَاف يَجْمَعهَا لَفْظ «الْإِحْسَان» الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي حَدِيث الْبَاب.

وَفِي الْحَدِيث تَأْكِيد حَقِّ الْبَنَات لِمَا فِيهِنَّ مِن الضَّعْف غَالِبًا عَن الْقِيَام بِمَصَالِح أَنْفُسهنَّ, بِخِلَافِ الذُّكُور لِمَا فِيهِمْ مِنْ قُوَّة الْبَدَن وَجَزَالَة الرَّأْي وَإِمْكَان التَّصَرُّف فِي الْأُمُور المُحْتَاج إِلَيْهَا فِي أَكْثَر الْأَحْوَال. وَقَالَ النَّوَوِيّ تَبَعًا لِابْنِ بَطَّال: إِنَّمَا سَمَّاهُ اِبْتِلَاء لِأَنَّ النَّاس يَكْرَهُونَ الْبَنَات, فَجَاءَ الشَّرْع بِزَجْرِهِمْ عَنْ ذَلِكَ, وَرَغَّبَ فِي إِبْقَائِهِنَّ وَتَرْك قَتْلهنَّ بِمَا ذَكَرَ مِن الثَّوَاب المَوْعُود بِهِ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ وَجَاهَدَ نَفْسه فِي الصَّبْر عَلَيْهِنَّ([284]).

كما يدل على فضل تربيتهن قوله صلى الله عليه وسلم: «من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين وضم أصابعه»([285]).

5 - ومن الإحسان إليهم تعويدهم على خصال الكرم والشجاعة والجرأة في الحق، وقد كان الصحابة والسلف الصالح يشجعون أبناءهم ويعودونهم على الثقة بالنفس، روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أخبروني بشجرةٍ تشبه أو كالرجل المسلم لا يتحات ورقها، تؤتي أكلها كل حين» قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة, ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي النخلة» فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة، فقال: ما منعك أن تكلم؟ قال: لم أركم تكلمون فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئا، قال عمر: لأن تكون قلتها أحب إليّ من كذا وكذا»([286]).

 فما أجمل أن نربي أبناءنا على الشجاعة والجرأة في الحق، وبذلك يمكننا أيضًا أن نعالج ظاهرة الخوف عند الأطفال، هذا عمر رضي الله عنه الذي شجع ابنه على التكلم أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرح عند ما مر بشارع من شوارع المدينة وكان عبد الله بن الزبير يلعب مع بعض الغلمان وهو طفلٌ صغيرٌ، فهرب الغلمان كلهم من هيبة عمر إلا عبد الله بن الزبير، فقال عمر له: لمَ لمْ تهرب مع الصبيان؟ فقال ابن الزبير: لست جانيًا فأفر منك، وليست الطريق ضيقةً فأوسعها لك.

 ومن علاج ظاهرة الخوف تعويد الأطفال على العبادة منذ صغرهم, وتقوية ثقتهم بأنفسهم بالخلطة الممدوحة التي يُطبع بها الطفل على الشجاعة والجرأة في الحق.

 ومما يغرس الشجاعة والثقة بالنفس أن يعلم الطفل مواقف أبناء الصحابة وما كانوا عليه من الشجاعة وتسابقهم على الشهادة في سبيل الله، ففي غزوة بدر «كان عمير بن أبي وقاص يتوارى ويختفي فقيل له: مالك؟ فقال: أتوارى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا أحب الشهادة وأخاف أن يردني، فلما عُرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم رده لصغره، فبكى فأجازه».

 فمثل هذا الموقف ليس ببعيد عن أبنائنا إذا ربّيناهم تربيةً سليمةً على الإيمان بالقضاء والقدر، والشجاعة والإقدام، وتجنبنا الأساليب التربوية الخاطئة التي تزرع الخوف والجبن في نفوس أبنائنا وتنزع ثقتهم بأنفسهم.

6- ومن الإحسان إليهم الدعاء لهم بصلاح الدين والدنيا، فهذا دأب الأنبياء والصالحين مع أولادهم، فهذا أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام يدعو لصلاح نفسه وذريته، كما قال تعالى: (( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )) [البقرة:129].

 وقال أيضا: (( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ )) [إبراهيم:35] إلى أن قال: (( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ )) [إبراهيم:41].

وذكر أن من صفات عباد الرحمن الدعاء لأنفسهم ولذريتهم قال تعالى: ((وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)) [الفرقان:74]

 للدعاء شأنٌ عظيمٌ في الإسلام غفل عنه كثير من الآباء، يقول تعالى: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)) [غافر:60] فكان المطلوب من الآباء الدعاء للذرية والأولاد، ولكن انعكس الأمر عند بعض الآباء فإنهم لم يدعوا لصلاح أبنائهم وبناتهم بل دعوا عليهم بالويل والعذاب لأدنى خطأ صدر من أحدهم، ويرجع ذلك إلى جهالة الوالدين بتأثير الدعاء وقلة صبرهم وحلمهم.

 فعلى الوالدين الصفح والتغاضي والصبر على الأطفال، فهم لم تتكامل عقولهم لذا يقع منهم الخطأ، فإذا حصل منهم الخطأ أو سوء خلق معهما فلا يدْعُوَا عليهم بالموت والمرض والعاهات والمصائب, لأنه لو قبلت دعوتهم لتأسفوا وندموا على فعلهم, قال تعالى: ((وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ)) [يونس:11]، فالواجب على الوالدين الصبر والتحمل والتأديب بالضرب المناسب، فإن الطفل يتأثر بالضرب، أما الدعاء عليه فليس هو علاج نافع، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء على الأولاد فقال: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم»([287]).

 وليعلم أن من الدعوات المستجابات دعوة الوالد على الولد، قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن؛ دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده»([288]).

 وعَنْ أُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ وَدَّاعٍ الْخُزَاعِيَّةِ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «دُعَاءُ الْوَالِدِ يُفْضِي إِلَى الْحِجَابِ»([289]).

 فالدعاء سلاحٌ عظيمٌ في أيدي الآباء يمكن أن يحطموا به أبناءهم إذا لم يستخدموه الاستخدام الصحيح، فعلى الوالدين أن يتجنبا الدعاء على الأولاد وهو أمر خطير يخلفه الندم والأسف إن قُبل دعاؤهما، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة؛ عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وكان جريج رجلاً عابداً فاتخذ صومعة فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي فقالت، يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: أي رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات، فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاؤوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب؟ قال: لا أعيدوها من طينٍ كما كانت ففعلوا..»([290])

 ولو استشعر الآباء مثل هذه الأحاديث لارتدعوا عن الدعاء على أولادهم لما له من أثر سيء على مستقبل أفلاذ أكبادهم، بل حذوا حذو الأنبياء في الدعوة لأبنائهم بالهداية والصلاح، فحريٌ بكل مسلم أن يقتدي بهؤلاء الأخيار، وما أحسن أن يقول الوالد إذا أخطأ ولده: هداك الله، وأصلحك الله ومثل هذه الكلمات.

7- ومن الإحسان إليهم إيجاد عوامل مساعدة للتربية: لتربية النشء تربيةً صالحةً سليمةً عدة عوامل وأسباب، على المسلم أن يبذل كل الجهود لإيجاد هذه العوامل والأسباب حتى يكون بيته بيتًا مثالياً يشار إليه بالبنان، ومن أراد أن يكون بيته محفوفًا بالمودة والرحمة والحب والحنان فليعمل بالعوامل الآتية:

اختيار المثل الأعلى للناشئ، لأننا إن لم نختر له اختار لنفسه حسب ما يراه في المجتمع من القدوات السيئة من الفنانين والمطربين واللاعبين، فعلى الأبوين أن يوجدا القدوة الصالحة والمثل الأعلى لأولادهم، وأهمية اختيار القدوة الصالحة للابن والبنت تتبين من خلال هذا الحديث الذي رواه البخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً، ارموا وأنا مع بني فلان» قال: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لكم لا ترمون؟ قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارموا فأنا معكم كلكم»([291])

ففي هذا الحديث قدم لأصحابه المثل الأعلى الذي يسيرون على منهجه في هذا الموقف وهو إسماعيل عليه السلام، ولا شك أن الأبوين لن يجدا أفضل ولا أعظم قدوة من قدوة المسلمين جميعًا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم.

 ولذا يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه :«كنا نعلم أولادنا مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم كما نعلمهم السورة من القرآن».

وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: «من كان متأسياً فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأقومها هديًا، وأحسنها حالاً، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم».

والأفضل أن يجد الطفل القدوة في الأب والأم والمدرس والإخوان والأخوات الكبار وغيرهم، وبالأخص في الأبوين، فليعلم الأبوان أنهما قدوة لأولادهما قبل كل واحد، وهما بمنزلة الرئتين في الجسد، إن صلحتا صلح الدم وصح الجسم وقوي البدن، وإن فسدتا فسد الدم وسقم الجسم وضعف البدن عن محاربة الأمراض المهاجمة من الخارج، فعلى الأبوين أن يكونا قدوةً صالحةً. وكون الأبوين قدوة ليس معناه تلقين الأولاد بأعمال فاضلة وحثهم على أخلاق جميلة فقط، بل معناه أن يطبق كل منهما ما يأمر به ولده ويحث عليه، لأن المعاني المجردة وإن بلغت في الجمال والكمال مبلغًا لا تؤثر على الولد ما يؤثر تطبيق هذه المعاني في حياة الأبوين، والطفل يتعلم بالقدوة والمثل أكثر بكثير من القول المجرد، فإذا رآهما يصليان أو يصلي أحدهما أحب أن يحاكيهما في الصلاة، ويقلد أباه في المعاملة مع الزميل في العمل، والعلاقة مع الجار، والحديث مع البائع، بل يحب أن يكون مثل أبيه إذا كبر، وذلك لأنه يظنه أكمل إنسان في العالم في نظره، ومن هنا تأتي أهمية مطابقة العمل للقول لما له من أثر بالغ في تربية الطفل، لذا حث ديننا الحنيف على العمل قبل القول وأنكر على من يقول ولا يفعل، قال تعالى: (( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ )) [الصف:3] .

 وأن يحاول الأب قدر المستطاع مرافقة أطفاله وأولاده. فليعلم كل أب أن عليه مسؤولية كبيرة تجاه أولاده، فهو المؤدب والمربي والمعلّم والموجّه، ولذا يتعين على الولي والقيم أن يكون حاضرًا في البيت بعد الفراغ من كسب العيش، ولا يقضي جل أوقاته مع الأصدقاء والزملاء عبثًا فيسهر مع العابثين, ويلهي مع اللاهين، ولا يكثر من الأسفار بدون حاجةٍ، لأن كثير الأسفار لا يستطيع أن يهيئ لأهله ما به قوام العيش، ولا أنه يربي أولاده كما ينبغي، والرجل قد يضطر أن يمضي وقتًا أطول خارج البيت في مكان العمل أو سفر اضطراري، فإنه إن لم يكن بجسمه في بيته فلا أقل أن يوجه أهله إلى الخير بين آنٍ وآخر عن طريق الهاتف وغيره من الوسائل السريعة.

والأولاد الذين يتربون بعيدين عن أنظار والديهم يعتريهم الفساد في الأخلاق والعادات ما إذا علم الوالدان ما تركا أولادهما للحظة واحدة، والأب الواعي إن لم يتمكن مشاركتهم في كل وقت لظروف العمل فعليه أن يخصص لهم بعض أوقاته في الصباح والمساء يتحدث معهم يسأل عن مشاكلهم ويحلها بطريقة مناسبة، يوجههم إلى قراءة كتاب مناسب لأعمارهم ثم يسألهم ما استفادوا منه، ويشاركهم أحيانًا في لعبة هادفة مسلية، والحذر كل الحذر من أن يتركوهم في الشارع يعبث بهم العابثون، ويفسدهم المفسدون.

ومن الأمور التي تجب على الأبوين مراعاتها ألا يفعلا فعلاً يتعلق بالجنس أمام الأولاد وإن كانوا صغارًا؛ لأنه قد يتعلق هذا الفعل بأذهانهم وقد يحاول الولد بأن يفعل ذلك مع من هو في سنه وذلك أمرٌ خطيرٌ، فهذا أنس رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أراد أن يدخل على أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقى الستر، فروى البخاري ومسلم عَنْ أَنَسٍ في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب ووليمته قَالَ: «فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ، فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ مَعَهُ فَأَلْقَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ. وَنَزَلَ الْحِجَابُ»([292]).

وأن يختار الأبوان لأولادهما معلِّماً يصلح أن يكون قدوةً لهم، فالأوامر المجردة بدون أن يعملها المربي لا تجدي، فالقدوة عامل مهم في تربية النشء، ولذا ينبه عليه عمرو بن عتبة معلِّمَ ولده بقوله: «ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك، فإن عيونهم معقودةٌ بعينك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت»([293]).

 وليكن أمام أعينه قول الشاعر أبي الأسود الدؤلي:

يا أيـها الرجل الـمعلـم غيره تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا ابـدأ بـنفـسك فـانهها عـن غـيها فـهنـاك يسمع ما تقول ويـشـتـفى لا تنـه عـن خـلـق وتـأتي مـثلـه

هلا لـنفسك كان ذا التعليم كـيمـا يـصـح به وأنـت سقيم فإذا انـتـهـت عـنه فأنت حكيم بالقـول مـنـك وينفـع الـتعليم عار عليك إذا فعـلت عــظـيـم

ومن المهم التعامل معهم بالرفق واللين، وفي الصحيح عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الله رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ»([294]). والإسلام يأمر بالرفق في جميع الأمور مع جميع فئات الناس؛ الصغار والكبار، والصغار أحق بالرفق واللين في تربيتهم وتوجيههم؛ والصغير إذا وجِّه إلى عمل طيب بأسلوب هادئ وقول حسن لا بد أن يقبل، ولكن إذا قدمت النصيحة بالشدة والقسوة إنه قد يعاند في قبولها وإن مال إليها بقلبه، يقول ابن الجوزي رحمه الله: «واعلم أن رياضة النفس تكون بالتلطف والتنقل من حال إلى حال، ولا ينبغي أن يؤخذ أولاً بالعنف، ولكن بالتلطف، ثم يمزج الرغبة والرهبة»([295]).

 وانظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يوجه طفلاً برفق ولين، وهذا الطفل كان يرمي النخل ويأكل منها، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح رأسه وتلطف به ثم نهى عن رمي النخلة، ففي المسند عن رَافِعِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «كُنْتُ وَأَنَا غُلامٌ أَرْمِي نَخْلاً لِلأَنْصَارِ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ: إِنَّ هَاهُنَا غُلامًا يَرْمِي نَخْلَنَا فَأُتِيَ بِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «يَا غُلامُ لِمَ تَرْمِي النَّخْلَ؟ قَالَ: قُلْتُ: آكُلُ. قَالَ: فَلا تَرْمِ النَّخْلَ وَكُلْ مَا يَسْقُطُ فِي أَسَافِلِهَا. ثُمَّ مَسَحَ رَأْسِي وَقَالَ: اللَّهمَّ أَشْبِعْ بَطْنَهُ»([296]).

إيجــاد البديــل:

 الطفل عادة يميل إلى اللهو واللعب واللامبالاة وإلى ما يرى أقرانه يفعلونه، ولا يبالي هل هذا العمل ينفعه أم يضره، فعلى المربي أن يمنع الطفل عما يضره خَلقًا وخُلقًا، ولكن مجرد النهي عما يضره لا ينفع حتى يوجد له المربي البديل المناسب لهذا العمل، فمثلاً يحب الطفل مشاهدة التلفاز وقد يصل الحال إلى الإدمان، فإذا نهي لم ينتهِ حتى نهيئ له ما يشغله وهو في الوقت نفسه مما يحبه الأطفال ويميلون إليه، مثل أي وسيلة ترويح مباحة من الألعاب والأرجوحة وأشرطة سمعية مسجلة بأصوات الأطفال الجميلة من القراءات والأناشيد. وإذا رأى ولده يصاحب الأشرار فعلى المربي أن يدله على الأولاد الذين هم في سن ولده ويرتادون المساجد ويحضرون حلقات التحفيظ ودروس المشايخ.

الجليس الصالح:

 الإنسان مدني بالطبع، ويتأثر بمن حوله، وأكثرهم تأثيرًا عليه الأصدقاء والأصحاب، والجليس الصالح له أثر حسن، وأما الجليس السيء فله أثر سيء على صاحبه، ويوضح ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالجَلِيسِ السَّوْءِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ وَكِيرِ الحَدَّادِ؛ لا يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ الْمِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وَكِيرُ الحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ أَوْ ثَوْبَكَ أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً»([297]).

يقول النووي رحمه الله في شرح الحديث:, وَفِيهِ فَضِيلَة مُجَالَسَة الصَّالِحِينَ وَأَهْل الْخَيْر وَالمُرُوءَة وَمَكَارِم الأَخْلاق وَالْوَرَع وَالْعِلْم وَالأَدَب, وَالنَّهْي عَنْ مُجَالَسَة أَهْل الشَّرّ وَأَهْل الْبِدَع, وَمَنْ يَغْتَاب النَّاس, أَوْ يَكْثُر فُجْرُهُ وَبَطَالَته. وَنَحْو ذَلِكَ مِن الأَنْوَاع الْمَذْمُومَة.

والأولاد أشد تعلماً وتأثرًا بأصدقائهم من الكبار، لعدم نضج عقولهم ولأنهم في سن التعلم، فكل شيء يرى في صديقه يتعلمه ويأخذه دون إدراك منه هل هذا الشيء يفيده أم يضره، يقول ابن الجوزي رحمه الله: «أما تدبير الأولاد فحفظهم من مخالطة تفسد... وليحمل على صحبة الأشراف والعلماء، وليحذر من مصاحبة الجهال والسفهاء، فإن الطبع لص. ونقل عن إبراهيم الحربي قوله: أول فساد الصبيان بعضهم من بعض»([298]). فهنا يأتي دور الآباء والأمهات حيث يوجهون أولادهم لاختيار أصدقاء صالحين وتجنب الأشرار ويساعدونهم في ذلك، والطريقة الأمثل والأيسر في إيجاد الجليس الصالح للأولاد هو أن يسعى الأبوان في إيجاد علاقات متينة مع الأسر التي عرفت بالصلاح والصدق والإكثار من الزيارات واللقاءات فيما بين أفراد هذه الأسر، وأن يقطعا أو يضعفا علاقتهما بالأسر التي لا تنتهج المنهج السوي في تربية أولادها.

الألعـاب الهادفـة:

 لا شك أن اللعب طبيعة فطرية في نفس الطفل، وللألعاب الهادفة أهمية كبيرة في بناء الجسم وتنمية الذكاء، يقول الغزالي: وينبغي أن يؤذن له - للطفل- بعد الفراغ من المكتب أن يلعب لعبًا جميلاً يستفرغ إليه تعب الكتّاب بحيث لا يتعب في اللعب، فإن منعَ الصبي من اللعب وإرهاقه بالتعليم دائمًا يميت القلب ويبطل ذكاءه، وينغص العيش عليه حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه رأسًا([299]).

 والأب الحريص على أولاده يسعى لإيجاد ألعاب مفيدة مناسبة لعمر الطفل وجنسه، فالأولاد الذكور عادةً يميلون إلى ألعاب تقوي أجسامهم وتظهر رجولتهم المبكرة، أما البنات فميلهن إلى ألعاب خفيفة أكثر من الميل إلى ألعاب القوى مثل الدمى والعرائس وألعاب أدوات البيت والمطبخ والأرجوحة. فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: «قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَوْ خَيْبَرَ وَفِي سَهْوَتِهَا سِتْرٌ فَهَبَّتْ رِيحٌ فَكَشَفَتْ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَنْ بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ لُعَبٍ فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ قَالَتْ: بَنَاتِي وَرَأَى بَيْنَهُنَّ فَرَسًا لَهُ جَنَاحَانِ مِنْ رِقَاعٍ فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي أَرَى وَسْطَهُنَّ؟ قَالَتْ: فَرَسٌ قَالَ: وَمَا هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ؟ قَالَتْ: جَنَاحَانِ قَالَ: فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ»! قَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ لِسُلَيْمَانَ خَيْلاً لَهَا أَجْنِحَةٌ، قَالَتْ: فَضَحِكَ حَتَّى رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ»([300]).

 وعنها أيضًا أَنَّهَا كَانَتْ تَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: «وَكَانَتْ تَأْتِينِي صَوَاحِبِي فَكُنَّ يَنْقَمِعْنَ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: فَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ. وفِي حَدِيثِ جَرِيرٍ: كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ فِي بَيْتِهِ وَهُنَّ اللُّعَبُ»([301]).

 قال ابن حجر رحمه الله: «وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى جَوَاز ا تِّخَاذ صُوَر الْبَنَات وَاللَّعِب مِنْ أَجْل لَعِب الْبَنَات بِهِنَّ, وَخُصَّ ذَلِكَ مِنْ عُمُوم النَّهْي عَن ا تِّخَاد الصُّوَر, وَبِهِ جَزَمَ عِيَاض وَنَقَلَهُ عَن الْجُمْهُور, وَأَنَّهُمْ أَجَازُوا بَيْع اللَّعِب لِلْبَنَاتِ لِتَدْرِيبِهِنَّ مِنْ صِغَرهنَّ عَلَى أَمْر بُيُوتهنَّ وَأَوْلادهنَّ. قَالَ: وَذَهَبَ بَعْضهمْ إِلَى أَنَّهُ مَنْسُوخ, وَإِلَيْهِ مَالَ ابْن بَطَّال».

 قال الشيخ ابن عثيمين: «أما الذي لا يوجد له تخطيط كامل وإنما وجد فيه شيء من الأجزاء والرأس ولكن لم تتبين فيه الخلقة فهذا لا شك في جوازه، وأنه من جنس البنات اللاتي كانت عائشة رضي الله عنها تلعب بهن، وأما إذا كان كامل الخلقة وكأنما تشاهد إنسانًا ولا سيما إن كان له حركة أو صوت فإن في نفسي من جواز هذه شيئا، لأنه يضاهي خلق الله تمامًا، والظاهر أن اللعب التي كانت عائشة تلعب بهن ليس على هذا الوصف، فاجتنابها أولى».

 ويكون لعب الفتى بما يعوده على الرجولة والشجاعة وتحمل الصعاب، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : «علموا أولادكم السباحة والرماية، ومروهم فليثبوا على ظهور الخيل وثبًا».

 وقد نادى علماء التربية الحديثة بضرورة اللعب للأطفال، وبينوا أنه سبب في تعلم الطفل وتفتح قدراته العقلية، وأن الطفل الذي لا يتحرك ولا يلعب يعتبر طفلاً شاذًّا.

ومن الألعاب المستحبة الرماية والسباحة وركوب الخيل لما في ذلك من الإعداد للجهاد، وروى الترمذي وغيره عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الله لَيُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلاثَةً الجَنَّةَ؛ صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الخَيْرَ، وَالرَّامِيَ بِهِ، وَالمُمِدَّ بِهِ، وَقَالَ: ارْمُوا وَارْكَبُوا وَلأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا، كُلُّ مَا يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ المُسْلِمُ بَاطِلٌ إِلاّ رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ، وَمُلاعَبَتَهُ أَهْلَهُ فَإِنَّهُنَّ مِن الحَقِّ»([302]).

 والألعاب المباحة كثيرة، وكل لعب ليس فيه محذور شرعي ولم يمنع من القيام بالواجبات فهو مباح، مثل الكرة بأنواعها، والجري والسباق، والرسم والتشكيل لغير ذوات الأرواح، وألعاب الكمبيوتر وخاصة فيما يتعلق بالمسابقات في أمور الدين؛ في التجويد والحديث والسيرة والثقافة العامة، وليحذر الأب من جلب ألعاب فيها محذور شرعي.

وإن أطفال اليوم رجال الغد فلا بد من الاهتمام بهم، وإذا تركناهم فريسةً للأعداء فيندم الإنسان ولات ساعة مندمٍ، وإن أعداء الإسلام يركزون في السيطرة على عقول الناشئة؛ لأن من سيطر على أطفال اليوم فإنه قد سيطر على رجال المستقبل، وقد خطط له الأعداء وبذلوا أموالاً طائلةً في ذلك، ولا خلاص لنا من ذلك إلا بالعودة الصحيحة للدين الإسلامي، وتربية الناشئة تربية إسلامية سليمة.

فالله الله معاشر الآباء في أولادكم، أدوا إليهم حقوقهم التي تتمثل في اختيار والدته، وحسن تسميته، وذبح العقيقة عنه يوم سابعه، وختانه، ورحمته والرفق به، والنفقة عليه، وحسن تربيته، حتى إذا بلغ زوجه، ثم خيره بين أن يبقى تحت رعايته، وبين أن يستقل بنفسه، ويبني مجده بيده، وإياكم ثم إياكم من التكاسل والإهمال في تربيتهم، والاهتمام بتثقيفهم وتأديبهم، وأخذهم بتعاليم الإسلام، وتمرينهم على أداء فرائضه وسننه وآدابه، لأنهم أمانة في أعناقكم وتسألون عنهم يوم القيامة كما جاء في الحديث: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ؛ فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ, وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ, وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْئُولَةٌ, وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ, أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ»([303]). ويوم القيامة لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم([304]).


 المبحث الرابع: الإحسان مع الأرحام:

لقد جعل الله الناس شعوبا وقبائل للتعارف فيما بينهم قال تعالى: ((يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) [الحجرات:13] فالروابط التي تجمع الناس كثيرة ومتنوعة ولكن من أهمها رابطة الوالدين ثم الرحم، وهم كما يقول فضيلة الشيخ ابن العثيمين رحمه الله: «الأرحام والأنساب هم الأقارب، وليسوا - كما يفهم البعض - أقارب الزوج أو الزوجة، لأنهم أصهار، والأرحام والأنساب هم أقارب الإنسان نفسه كأمه وأبيه وابنه وبنته، وكل من كان بينه وبينه صلة من قبل أبيه أو من قبل أمه، أو من قبل ابنه أو من قبل ابنته»([305]). ومن نعم الله تعالى على الإنسان أن جعل له الأرحام الذين يرتاح بلقائهم، ويهرع إليهم عند المصائب والمحن، ويستأنس بهم عند الوحشة والخوف، ويستعين بهم عند الملمات والبليات، وحقهم عظيم فقد جعل الله ذلك في المرتبة الثالثة بعد ذكر حق الله المتضمن لحقه وحق رسوله، وحق الوالدين، قال تعالى: ((وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى)) [النساء:36].

وهو من الميثاق الذي أخذ الله من بني إسرائيل، قال تعالى: ((وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)) [البقرة:83]

وقد ذكره الله تعالى مع الأمر بالعدل والإحسان قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) [النحل:90].

وقال تعالى أيضا: ((وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ)) [الإسراء:26].

 وكما أمر أولي الفضل أن ينفقوا على أقاربهم فقال تعالى: ((وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [النور:22].

وكذلك وردت نصوص كثيرة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على الحث بصلة الأرحام, فمنها ما روى أبو أيوب الْأَنْصَارِيُّ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَالَ: «يَا رَسُولَ الله أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ؟ فَقَالَ الْقَوْمُ: مَا لَهُ مَا لَهُ. فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَبٌ مَا لَهُ.فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعْبُدُ الله لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، ذَرْهَا، قَالَ: كَأَنَّهُ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ»([306]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَلَقَ الله الخَلْقَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتْ الرَّحِمُ فَأَخَذَتْ بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ, فَقَالَ لَهُ: مَهْ ؟ قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِن الْقَطِيعَةِ. قَالَ: أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ, وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ.قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ: فَذَاكِ.قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: (( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ )) [محمد:22]»([307]).

و عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: قَالَ الله: «أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِيَ الرَّحِمُ, شَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِن اسْمِي, مَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ, وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ»([308]).

والإحسان إلى الأرحام: القيام بصلتهم بالمعروف بالمال وبالعون على الحاجة، وبدفع الضرر, وبطلاقة الوجه, وبالدعاء, وبالزيارات, والهدايا والنفقات، وبالعطف والحنان, ولين الجانب, وبشاشة الوجه, والإكرام والاحترام, وكل ما تعارف الناس عليه من صلة، والمعنى الجامع: إيصال ما أمكن من الخير ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة.

قَالَ الْقُرْطُبِيّ: الرَّحِم الَّتِي تُوصَل عَامَّة وَخَاصَّة, فَالْعَامَّة رَحِم الدِّين وَتَجِب مُوَاصَلَتهَا بِالتَّوَادُدِ وَالتَّنَاصُح وَالْعَدْل وَالْإِنْصَاف وَالْقِيَام بِالْحُقُوقِ الْوَاجِبَة وَالمُسْتَحَبَّة. وَأَمَّا الرَّحِم الْخَاصَّة فَتَزِيد لِلنَّفَقَةِ عَلَى الْقَرِيب وَتَفَقُّد أَحْوَالهمْ وَالتَّغَافُل عَنْ زَلَّاتهمْ. وَتَتَفَاوَت مَرَاتِب اِسْتِحْقَاقهمْ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيث قال بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي قَالَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ الله، مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: أُمَّكَ. قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ. قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ. قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبَاكَ، ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ»([309]).

 وَقَالَ ابْن أَبِي جَمْرَة: تَكُون صِلَة الرَّحِم بِالمَالِ, وَبِالْعَوْنِ عَلَى الْحَاجَة, وَبِدَفْعِ الضَّرَر, وَبِطَلَاقَةِ الْوَجْه, وَبِالدُّعَاءِ. وَالمَعْنَى الْجَامِع إِيصَال مَا أَمْكَنَ مِن الْخَيْر, وَدَفْع مَا أَمْكَن مِن الشَّرّ بِحَسَبِ الطَّاقَة, وَهَذَا إِنَّمَا يَسْتَمِرّ إِذَا كَانَ أَهْل الرَّحِم أَهْل اِسْتِقَامَة, فَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا أَوْ فُجَّارًا فَمُقَاطَعَتهمْ فِي الله هِيَ صِلَتهمْ, بِشَرْطِ بَذْل الْجَهْد فِي وَعْظهمْ, ثُمَّ إِعْلَامهمْ إِذَا أَصَرُّوا أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ تَخَلُّفهمْ عَن الْحَقّ, وَلَا يَسْقُط مَعَ ذَلِكَ صِلَتهمْ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ بِظَهْرِ الْغَيْب أَنْ يَعُودُوا إِلَى الطَّرِيق المُثْلَى([310]).

وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في البر وصلة الأرحام كما في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ دَعَا رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ، فَقَالَ: يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِن النَّارِ، يَا بَنِي مُرَّةَ بنِ كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِن النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِن النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِن النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِن النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِن النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِن النَّارِ؛ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِن الله شَيْئًا غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا»([311]).

قال النووي: قَوْله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَإِنِّي لَا أَمْلِك لَكُمْ مِن الله شَيْئًا) مَعْنَاهُ: لَا تَتَّكِلُوا عَلَى قَرَابَتِي فَإِنِّي لَا أَقْدِر عَلَى دَفْع مَكْرُوه يُرِيدهُ الله تَعَالَى بِكَمْ...وَمَعْنَى الْحَدِيث: سَأَصِلُهَا, شُبِّهَتْ قَطِيعَة الرَّحِم بِالْحَرَارَةِ وَوَصْلهَا بِإِطْفَاءِ الْحَرَارَة بِبُرُودَةٍ([312]).

ومن الإحسان إليهم دعوتهم إلى الإيمان إن كانوا كفاراً، وإلى الاستقامة والثبات على الصالحات إن كانوا مسلمين؛ كما حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إيمان عمه أبي طالب، فعَن ابْنِ المُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ. فَقَالَ: أَيْ عَمِّ! قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ الله. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ الله بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَالَا يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ. فَنَزَلَتْ: (( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ )) [التوبة:113] وَنَزَلَتْ: ((إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ))»([313]).

وهذا يدل على شدة حرصه صلى الله عليه وسلم على إيصال النفع لعمه مكافأةً لما قدم له من العون والنصرة في الجهود الدعوية، ولكن قضاء الله فوق إرادة كل أحد فلم يوفق للإيمان ومات على الكفر متعصبا لجاهليته, فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ: قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.قَالَ: لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرَنِي قُرَيْشٌ يَقُولُونَ: إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الجَزَعُ لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ. فَأَنْزَلَ الله: (( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ))»([314]).

وكذلك الصحابة رضي الله عنهم أجمعين كانوا يحرصون على صلة أرحامهم؛ فهذا عمر بن الخطاب رضي الله يهدي لأخيه من الرضاعة وهو مشرك، فعَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ المَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله لَوْ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ. فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ» ثُمَّ جَاءَتْ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا حُلَلٌ فَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ الله عَنْهُ مِنْهَا حُلَّةً فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله كَسَوْتَنِيهَا وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ, قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا, فَكَسَاهَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ الله عَنْهُ أَخًا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا»([315]).

وكذلك صنع عثمان رضي الله عنه مع أخيه من الرضاعة عبد الله بن أبي سرح يوم فتح مكة وقد هدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه فعَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَسَمَّاهُمْ وَابْن أَبِي سَرْحٍ فَذَكَرَ الحَدِيثَ قَالَ: وَأَمَّا ابْنُ أَبِي سَرْحٍ فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ جَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ الله بَايِعْ عَبْدَ الله؟ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلَاثًا. كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ, ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ؟ فَقَالُوا: مَا نَدْرِي يَا رَسُولَ الله مَا فِي نَفْسِكَ أَلَا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ؟ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: كَانَ عَبْدُ الله أَخَا عُثْمَانَ مِن الرِّضَاعَةِ»([316]).

وللإحسان إلى الأرحام آثارٌ عظيمةٌ منها:

أنها سبب في البركة في الرزق وطول العمر؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»([317]).

يقول ابن حجر: قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَى الْبَسْطِ فِي الرِّزْق الْبَرَكَة فِيهِ, وَفِي الْعُمُر حُصُولُ الْقُوَّةِ فِي الْجَسَدِ, لِأَنَّ صِلَةَ أَقَارِبِهِ صَدَقَةٌ وَالصَّدَقَةُ تُرَبِّي المَالَ وَتَزِيدُ فِيهِ فَيَنْمُو بِهَا وَيَزْكُو,.. أَوْ المَعْنَى أَنَّهُ يُكْتَبُ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ كَأَنْ يُقَالَ إِنْ وَصَلَ رَحِمَهُ فَلَهُ كَذَا وَإِلَّا فَكَذَا, أَوْ المَعْنَى بَقَاءُ ذِكْرِهِ الْجَمِيلِ بَعْدَ المَوْتِ([318]).

كما أن صلة الرحم يفيد المشرك بعد إسلامه؛ فعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ الله أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ وَصِلَةِ رَحِمٍ فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ»([319]).

وإن الإنفاق على الأرحام سبب زيادة الأجر والثواب كما جاء في الحديث عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الحَارِثِ رَضِيَ الله عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً وَلَمْ تَسْتَأْذِن النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهَا فِيهِ قَالَتْ أَشَعَرْتَ يَا رَسُولَ الله أَنِّي أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِي. قَالَ: أَوَفَعَلْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ»([320]).

وعَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ الله رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَتْ: «كُنْتُ فِي المَسْجِدِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ، وَكَانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِ الله وَأَيْتَامٍ فِي حَجْرِهَا, قَالَ: فَقَالَتْ لِعَبْدِ الله: سَلْ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حَجْرِي مِن الصَّدَقَةِ. فَقَالَ: سَلِي أَنْتِ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِن الْأَنصَارِ عَلَى الْبَابِ حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِي, فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلَالٌ. فَقُلْنَا: سَل النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي وَأَيْتَامٍ لِي فِي حَجْرِي؟ وَقُلْنَا: لَا تُخْبِرْ بِنَا فَدَخَلَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: مَنْ هُمَا؟ قَالَ: زَيْنَبُ قَالَ: أَيُّ الزَّيَانِبِ؟ قَالَ: امْرَأَةُ عَبْدِ الله قَالَ: نَعَمْ لَهَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ»([321]).

قال ابن حجر: قَوْله: (وَلَهَا أَجْرَانِ: أَجْر الْقَرَابَة وَأَجْر الصَّدَقَة) أَيْ: أَجْر صِلَة الرَّحِمِ وَأَجْر مَنْفَعَة الصَّدَقَة,... وَفِي الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى الصَّدَقَةِ عَلَى الْأَقَارِبِ([322]).

وحديث أبي طلحة في قصة تصدقه بحديقته بيرحاء حيث أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسمه على أقاربه، فعن أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: «كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنصَارِ بِالمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ, وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ, وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ المَسْجِدِ, وَكَانَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ, قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)) قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: (( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)) وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاء, وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لله أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ الله, فَضَعْهَا يَا رَسُولَ الله حَيْثُ أَرَاكَ الله. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ, ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ, وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ: وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ الله. فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ»([323]). فإن الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم صدقة وصلة.

وقد ورد وعيد شديد لمن يقطع الأرحام، فقطيعة الرحم سبب اللعنة قال تعالى: (( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ )) [محمد:23]

وقال أيضاً: ((وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)) [الرعد:25].

- كما أن عقوبة قطيعة الرحم معجلة لصاحبه في الدنيا؛ فعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِن ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ الله لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ؛ مِنْ الْبَغْيِ, وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ»قَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ([324]).

- كما أن قاطع الرحم لا يدخل الجنة فعَن ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: إِنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ رضي الله عنه أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ»([325]).

 قال ابن حجر: قَوْله: «لَا يَدْخُل الجَنَّة قَاطِع» قَالَ سُفْيَان: يَعْنِي قَاطِع رَحِم.

- وإن أعمال قاطع رحم لا تقبل عند الله حينما تعرض كل خميس؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ تُعْرَضُ كُلَّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ فَلَا يُقْبَلُ عَمَلُ قَاطِعِ رَحِمٍ»([326]).

وفِي «الْأَدَب المُفْرَد» مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه رَفَعَهُ: «إِنَّ أَعْمَال بَنِي آدَم تُعْرَض كُلّ عَشِيَّة خَمِيس لَيْلَة جُمُعَة, فَلَا يُقْبَل عَمَل قَاطِع رَحِم» وَلِلطَّبَرَانِيّ مِنْ حَدِيث ابْن مَسْعُود رضي الله عنه :«إِنَّ أَبْوَاب السَّمَاء مُغْلَقَة دُون قَاطِع الرَّحِم» وَفِي «الْأَدَب المُفْرَد» مِنْ حَدِيث ابْن أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه رَفَعَهُ «: إِنَّ الرَّحْمَة لَا تَنْزِل عَلَى قَوْم فِيهِمْ قَاطِع الرَّحِم» وَذَكَرَ الطِّيبِيُّ أَنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ يُرَاد بِالْقَوْمِ الَّذِينَ يُسَاعِدُونَهُ عَلَى قَطِيعَة الرَّحِم وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِ, وَيُحْتَمَل أَنْ يُرَاد بِالرَّحْمَةِ المَطَر، وَأَنَّهُ يُحْبَس عَن النَّاس عُمُومًا بِشُؤْمِ التَّقَاطُع([327]).

وإن من الإحسان إلى الأرحام استمرار الوصل إليهم وإن قطعوه؛ لأن بعض الناس لا يصل أقاربه إلا إذا وصلوه، وهذا في الحقيقة ليس بصلة بل هو مكافأة لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالمُكَافِئِ وَلَكِن الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا»([328]).

يقول ابن حجر: وَقَالَ شَيْخنَا فِي «شَرْح التِّرْمِذِيّ» المُرَاد بِالْوَاصِلِ فِي هَذَا الْحَدِيث الْكَامِل, فَإِنَّ فِي المُكَافَأَة نَوْع صِلَة, بِخِلَافِ مَنْ إِذَا وَصَلَهُ قَرِيبه لَمْ يُكَافِئهُ فَإِنَّ فِيهِ قَطْعًا بِإِعْرَاضِهِ عَنْ ذَلِكَ, وَهُوَ مِنْ قَبِيل «لَيْسَ الشَّدِيد بِالصُّرْعَةِ, وَلَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَة الْعَرَض» اِنْتَهَى. وَأَقُول: لَا يَلْزَم مِنْ نَفْي الْوَصْل ثُبُوت الْقَطْع فَهُمْ ثَلَاث دَرَجَات: وَاصِل وَمُكَافِئ وَقَاطِع, فَالْوَاصِل مَنْ يَتَفَضَّل وَلَا يُتَفَضَّل عَلَيْهِ, وَالمُكَافِئ الَّذِي لَا يَزِيد فِي الْإِعْطَاء عَلَى مَا يَأْخُذ, وَالْقَاطِع الَّذِي يُتَفَضَّل عَلَيْهِ وَلَا يَتَفَضَّل. وَكَمَا تَقَع المُكَافَأَة بِالصِّلَةِ مِن الْجَانِبَيْنِ كَذَلِكَ يَقَع بِالمُقَاطَعَةِ مِن الْجَانِبَيْنِ, فَمَنْ بَدَأَ حِينَئِذٍ فَهُوَ الْوَاصِل, فَإِنْ جُوزِيَ سُمِّيَ مَنْ جَازَاهُ مُكَافِئًا, وَالله أَعْلَم([329]).

ولذلك أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على من يبادر إلى وصل أرحامه وإن قطعوه؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَالَ: «يَا رَسُولَ الله إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي, وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ, وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُم المَلَّ, وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِن الله ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ»([330]).

يقول النووي: وَمَعْنَاهُ كَأَنَّمَا تُطْعِمهُمْ الرَّمَاد الْحَارّ, وَهُوَ تَشْبِيه لِمَا يَلْحَقهُمْ مِن الْأَلَم بِمَا يَلْحَق آكِل الرَّمَاد الْحَارّ مِن الْأَلَم, وَلَا شَيْء عَلَى هَذَا المُحْسِن, بَلْ يَنَالهُم الْإِثْم الْعَظِيم فِي قَطِيعَته, وَإِدْخَالهم الْأَذَى عَلَيْهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّك بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ تُخْزِيهِمْ وَتُحَقِّرهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ لِكَثْرَةِ إِحْسَانك وَقَبِيح فِعْلهمْ مِن الْخِزْي وَالْحَقَارَة عِنْد أَنْفُسهمْ كَمَنْ يُسَفّ المَلّ. وَقِيلَ: ذَلِكَ الَّذِي يَأْكُلُونَهُ مِنْ إِحْسَانك كَالمَلِّ يُحَرِّق أَحْشَاءَهُمْ. وَالله أَعْلَم([331]).

 كما يفهم من الحديث السابق أن صلة الأرحام سبب تأييد الملائكة. فليبادر الإنسان إلى الإحسان إلى أرحامه بكل ما يستطيع من الوسائل، حتى ينال ثواب الدنيا والآخرة ويسلم من العقاب الدنيوي والأخروي.


 المبحث الخامس: الإحسان إلى الجيران:

 إن من حقوق العباد على الإنسان حق جيرانه، وقد أمر الله تعالى بحفظه والقيام بحقه والوصاية برعي ذمته وإيصال النفع إليه ودفع الضرر عنه في مواضع عديدة من كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ((وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا)) [النساء:36] فقد أكد تعالى ذكر الجار بعد ذكر الوالدين والأقربين.

وفي الحديث: روت عَائِشَة رَضِيَ الله عَنْهَا عَن النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»([332]).

قال ابن حجر في الفتح: أَيْ: يَأْمُر عَن الله بِتَوْرِيثِ الْجَار مِنْ جَاره([333]).

والجار هو من يجاورك، واختلف الناس في حد الجيرة حتى أوصل البعض إلى أربعين دارا من كل جهة، ولكن مما لا شك فيه أنه يشرع الإحسان إلى كل أحد من المسلمين مع مراعاة الأقرب فالأقرب، وَاسْم الْجَار يَشْمَل المُسْلِم وَالْكَافِر، وَالْعَابِد وَالْفَاسِق، وَالصَّدِيق وَالْعَدُوّ، وَالْغَرِيب وَالْبَلَدِيّ، وَالنَّافِع وَالضَّارّ، وَالْقَرِيب وَالْأَجْنَبِيّ، وَالْأَقْرَب دَارًا وَالْأَبعَد, وَلَهُ مَرَاتِب بَعْضهَا أَعْلَى مِنْ بَعْض, فَأَعْلَاهَا مَن اِجْتَمَعَتْ فِيهِ الصِّفَات الْأُوَل كُلّهَا ثُمَّ أَكْثَرهَا وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى الْوَاحِد, وَعَكْسه مَنْ اجْتَمَعَتْ فِيهِ الصِّفَات الْأُخْرَى كَذَلِكَ, فَيُعْطِي كُلّ حَقّه بِحَسَبِ حَاله, وَقَدْ تَتَعَارَض صِفَتَانِ فَأَكْثَر فَيُرَجِّح أَوْ يُسَاوِي, وقد قيل: إن الْجِيرَان ثَلَاثَة: جَار لَهُ حَقّ وَهُوَ المُشْرِك لَهُ حَقّ الْجِوَار, وَجَار لَهُ حَقَّانِ وَهُوَ المُسْلِم لَهُ حَقّ الْجِوَار وَحَقّ الْإِسْلَام, وَجَار لَهُ ثَلَاثَة حُقُوق مُسْلِم لَهُ رَحِم؛ لَهُ حَقّ الْجِوَار وَالْإِسْلَام وَالرَّحِم»([334]).

وإن الإحسان إلى الجار ومراعاة حقوقه من المكرمات, ومن الخصال الكريمة, والآداب الأصيلة، والخلق الحسن، حتى كان أهل الجاهلية يراعون حقوق الجار، ويحترمون شخصيته، ويحفظون ما يتعلق به، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على القيام بحقوقه، والإحسان إليه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ, وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ, وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ»([335]).

يقول الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي جَمْرَة مبيِّناً حق الجار وطرق الإحسان إليه: «حِفْظ الْجَار مِنْ كَمَالِ الْإِيمَان, وَكَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّة يُحَافِظُونَ عَلَيْهِ, وَيَحْصُل امْتِثَال الْوَصِيَّة بِهِ بِإِيصَالِ ضُرُوب الْإِحْسَان إِلَيْهِ بِحَسَبِ الطَّاقَة كَالْهَدِيَّةِ, وَالسَّلَام, وَطَلَاقَة الْوَجْه عِنْدَ لِقَائِهِ, وَتَفَقُّد حَاله, وَمُعَاوَنَته فِيمَا يَحْتَاج إِلَيْهِ إِلَى غَيْر ذَلِكَ. وَكَفّ أَسْبَاب الْأَذَى عَنْهُ عَلَى اخْتِلَاف أَنْوَاعه حِسِّيَّة كَانَتْ أَوْ مَعْنَوِيَّة. وَقَدْ نَفَى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَان عَمَّنْ لَمْ يَأْمَن جَاره بَوَائِقه كَمَا فِي الْحَدِيث الَّذِي يَلِيه, وَهِيَ مُبَالَغَة تُنْبِئ عَنْ تَعْظِيم حَقّ الْجَار وَأَنَّ إِضْرَاره مِن الْكَبَائِر. قَالَ: وَيَفْتَرِق الْحَال فِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْجَارِ الصَّالِح وَغَيْر الصَّالِح. وَاَلَّذِي يَشْمَل الْجَمِيع إِرَادَة الْخَيْر لَهُ, وَمَوْعِظَته بِالْحُسْنَى, وَالدُّعَاء لَهُ بِالْهِدَايَةِ, وَتَرْك الْإِضْرَار لَهُ إِلَّا فِي المَوْضِع الَّذِي يَجِب فِيهِ الْإِضْرَار لَهُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْل, وَاَلَّذِي يَخُصّ الصَّالِح هُوَ جَمِيع مَا تَقَدَّمَ, وَغَيْر الصَّالِح كَفّه عَنْ الَّذِي يَرْتَكِبهُ بِالْحُسْنَى عَلَى حَسَب مَرَاتِب الْأَمْر بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن المُنْكَر, وَيَعِظ الْكَافِر بِعَرْضِ الْإِسْلَام عَلَيْهِ وَيُبَيِّن مَحَاسِنه وَالتَّرْغِيب فِيهِ بِرِفْقٍ, وَيَعِظ الْفَاسِق بِمَا يُنَاسِبهُ بِالرِّفْقِ أَيْضًا وَيَسْتُر عَلَيْهِ زَلته عَن غَيْره, وَيَنْهَاهُ بِرِفْقٍ, فَإِنْ أَفَادَ فَبِهِ وَإِلَّا فَيَهْجُرهُ قَاصِدًا تَأْدِيبه عَلَى ذَلِكَ مَعَ إِعْلَامه بِالسَّبَبِ لِيَكُفّ.([336]).

ومن الإحسان إلى الجار عدم إيذائه بالقول أو بالفعل؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِي جَارَهُ, وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ, وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ»([337]).

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ, وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ, وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ»([338]).

قال النووي: قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ الله: مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ مَنْ الْتَزَمَ شَرَائِع الْإِسْلَام لَزِمَهُ إِكْرَام جَاره وَضَيْفه, وَبِرِّهِمَا. وَكُلّ ذَلِكَ تَعْرِيف بِحَقِّ الْجَار, وَحَثّ عَلَى حِفْظه([339]).

قال الحافظ: المُرَاد بِقَوْلِهِ يُؤْمِن الْإِيمَان الْكَامِل, وَخَصَّهُ بِالله وَالْيَوْم الْآخِر إِشَارَة إِلَى المَبْدَأ وَالمَعَاد([340]).

وقد ورد أن الذي يؤذي جاره فهو ناقص الإيمان؛ فعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالله لَا يُؤْمِنُ, وَالله لَا يُؤْمِنُ, وَالله لَا يُؤْمِنُ, قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ»([341]).

قَالَ ابْن بَطَّال: فِي هَذَا الْحَدِيث تَأْكِيد حَقِّ الْجَار لِقَسَمِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ, وَتَكْرِيره الْيَمِين ثَلَاث مَرَّات, وَفِيهِ نَفْي الْإِيمَان عَمَّنْ يُؤْذِي جَاره بِالْقَوْلِ أَوْ الْفِعْل وَمُرَاده الْإِيمَان الْكَامِل, وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَاصِي غَيْر كَامِل الْإِيمَان. وَقَالَ النَّوَوِيّ عَنْ نَفْي الْإِيمَان فِي مِثْل هَذَا جَوَابَانِ: أَحَدهمَا: أَنَّهُ فِي حَقّ المُسْتَحِلّ, وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ لَيْسَ مُؤْمِنًا كَامِلًا اهـ. وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون المُرَاد أَنَّهُ لَا يُجَازَى مُجَازَاة المُؤْمِن بِدُخُولِ الْجَنَّة مِنْ أَوَّل وَهْلَة مَثَلًا, أَوْ أَنَّ هَذَا خَرَجَ مَخْرَج الزَّجْر وَالتَّغْلِيظ, وَظَاهِره غَيْر مُرَاد, وَالله أَعْلَم([342]).

وكذلك ورد أن الذي لا يأمن جاره بوائقه لا يدخل الجنة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»([343]).

بوائقه معناه شره, كما في رواية عند أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالله لَا يُؤْمِنُ, وَالله لَا يُؤْمِنُ, وَالله لَا يُؤْمِنُ, قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: الجَارُ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ الله وَمَا بَوَائِقُهُ؟ قَالَ: شَرُّهُ»([344]).

يقول الإمام النووي: الْبَوَائِق جَمْع بَائِقَة وَهِيَ الْغَائِلَة وَالدَّاهِيَة وَالْفَتْك, وَفِي مَعْنَى «لَا يَدْخُل الْجَنَّة» جَوَابَانِ يَجْرِيَانِ فِي كُلِّ مَا أَشْبَهَ هَذَا. أَحَدهمَا: أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى مَنْ يَسْتَحِلّ الْإِيذَاء مَعَ عِلْمه بِتَحْرِيمِهِ; فَهَذَا كَافِرٌ لَا يَدْخُلُهَا أَصْلًا. وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ جَزَاؤُهُ أَنْ لَا يَدْخُلهَا وَقْت دُخُول الْفَائِزِينَ إِذَا فُتِحَتْ أَبْوَابهَا لَهُمْ, بَلْ يُؤَخَّر ثُمَّ قَدْ يُجَازَى, وَقَدْ يُعْفَى عَنْهُ فَيَدْخُلهَا أَوَّلًا([345]).

بل أمر بإكرامه والإحسان إليه؛ فعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ, وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ, وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ»([346]).

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن إيمان العبد لا يكمل إيماناً كاملاً حتى يحب لجاره ما يحب لنفسه، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ أَوْ قَالَ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»([347]).

وأن من يحسن إلى جاره فهو من خيار الناس؛ فعَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ الله خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ, وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ الله خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ»([348]).

ومن السعادة أن تجد جاراً صالحاً؛ فعَنْ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ سَعَادَةِ المَرْءِ: الجَارُ الصَّالِحُ, وَالمَرْكَبُ الهَنِيءُ, وَالمَسْكَنُ الْوَاسِعُ»([349]).

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من جار السوء فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول»([350]).

وإيذاء الجار والخيانة في أهله أو ماله يزداد إثمه؛ فعن الْمِقْدَاد بْن الْأَسْوَدِ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا؟ قَالُوا: حَرَّمَهُ الله وَرَسُولُهُ فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرَةِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ. قَالَ: فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ؟ قَالُوا: حَرَّمَهَا الله وَرَسُولُهُ فَهِيَ حَرَامٌ. قَالَ: لَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ»([351]).

 وإِنَّ من الإحسان إلى الْجَار أَنْ يُعَلِّمهُ مَا يَحْتَاج إِلَيْهِ كما في قصة عمر رضي الله عنه حين سمع أن النبي صلى الله اعتزل نساءه، وفيه: «وَكَانَ لِي صَاحِبٌ مِن الْأَنصَارِ إِذَا غِبْتُ أَتَانِي بِالخَبَرِ, وَإِذَا غَابَ كُنْتُ أَنَا آتِيهِ بِالخَبَرِ, وَنَحْنُ نَتَخَوَّفُ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْنَا فَقَدْ امْتَلَأَتْ صُدُورُنَا مِنْهُ, فَإِذَا صَاحِبِي الْأَنْصَارِيُّ يَدُقُّ الْبَابَ فَقَالَ: افْتَحْ افْتَحْ. فَقُلْتُ: جَاءَ الْغَسَّانِيُّ؟ فَقَالَ: بَلْ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ اعْتَزَلَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْوَاجَهُ. فَقُلْتُ: رَغِمَ أَنْفُ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ»([352]).

يقول النووي: فِي هَذَا اسْتِحْبَاب حُضُور مَجَالِس الْعِلْم وَاسْتِحْبَاب التَّنَاوُب فِي حُضُور الْعِلْم إِذَا لَمْ يَتَيَسَّر لِكُلِّ وَاحِد الْحُضُور بِنَفْسِهِ([353]).

 ومن الإحسان إليه التواد بالهدايا؛ فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ خَلِيلِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَانِي: «إِذَا طَبَخْتَ مَرَقًا فَأَكْثِرْ مَاءَهُ ثُمَّ انْظُرْ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِكَ فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ»([354]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَا نِسَاءَ المُسْلِمَاتِ لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ»([355]).

 يقول القرطبي: فحض عليه السلام على مكارم الأخلاق لما يترتب عليها من المحبة وحسن العشرة ودفع الحاجة والمفسدة, فإن الجار قد يتأذى بقُتار قِدر جاره، وربما تكون له ذرية فتهيج من ضعفائهم الشهوة, ويعظم على القائم عليهم الألم والكلفة، لا سيما إن كان القائم ضعيفاً أو أرملة, فتعظم المشقة ويشتد منهم الألم والحسرة.. وكل هذا يندفع بتشريكهم في شيء من الطبيخ يدفع إليهم([356]).

ولا فرق في هذا بين المسلم والكافر؛ فعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ عَمْرٍو ذُبِحَتْ لَهُ شَاةٌ فِي أَهْلِهِ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ». قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ([357]).

يقول صاحب التحفة: حَمَلَهُ عَبْدُ الله بْنُ عَمْرٍو الرَّاوِي عَلَى الْعُمُومِ, فَإِنَّهُ أَمَرَ لَمَّا ذُبِحَتْ لَهُ شَاةٌ أَنْ يُهْدِيَ مِنْهَا لِجَارِهِ الْيَهُودِيِّ([358]).

فخلاصة الكلام أن الجار حقه عظيم، فليحب الإنسان له ما يحب لنفسه، ويجلب له كل الخير ويدفع عنه كل الشر بما استطاع إليه من سبيل، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وكل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله.


 المبحث السادس: الإحسان مع عامة المسلمين:

إن الإسلام دين الرحمة والشفقة للبشرية بأجمعها، فقد اهتم بجميع الحاجيات التي يحتاجها الإنسان، والنصوص من الكتاب والسنة مليئة بالتوجيهات والإرشادات التي تجلب النفع وتدفع الشر من الإنسان، فلذا يجب على الإنسان أن يختار الدين الإسلامي لأن الدين عند الله الإسلام، قال تعالى: ((إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ)) [آل عمران:19]. فلا يُقْبَل دينٌ سواه، قال تعالى: ((وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) [آل عمران:85] وإن رب العالمين هو الذي أكمله ورضيه قال تعالى: ((الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا)) [المائدة:3]، فمن آمن بالله وبجميع شرائعه فهو مؤمنٌ ومسلمٌ، وأخٌ ناصحٌ لإخوانه المسلمين, فعليه أن يكون أخاً ناصحاً وصاحباً مشفقاً مع إخوانه المسلمين، وليحرص على الإحسان مع إخوانه, لأن هذا من مقتضيات الأخوة الدينية، كما امتن الله في قوله: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)) [آل عمران:103] وقد صرح بها في قوله تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)) [الحجرات:10] وهذه الأخوة الدينية أشد من الأخوة بالنسب، قال تعالى: ((لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) [المجادلة:22].

وإن الأخوة في دينه والإحسان مع إخوانه المسلمين من أفضل القربات، وألطف ما يستفاد من الطاعات، فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على التواد والتحاب فيما بينهم كما جاء في الحديث عَن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ المُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بالسهر والحمى»([359]).

وعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ المُؤْمِنَ لِلمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ»([360]).

 وإن لهذه الأخوة حقوقا وآدابًا - وهي من جملة الإحسان- لابد من مراعاتها والقيام بها وقد ذكرت بعضها في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ سِتٌّ. قِيلَ: مَا هُنَّ؟ يَا رَسُولَ الله! قَالَ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ, وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ, وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ, وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ الله فَشَمِّتْهُ, وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ, وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ»([361]).

وعنه رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «حَقُّ المُسلِمِ عَلَى المُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلَامِ، وعِيَادَةُ المَرِيضِ، واتِّبَاعُ الجَنَائِزِ، وإجابَةُ الدَّعْوَةِ، وتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ».([362])

وعن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قال: «أَمَرَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ. وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ. أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ المَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الجَنَازَةِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإبْرَارِ الْقَسَمِ، أَوِ المُقْسِمِ، وَنَصْرِ المَظْلُومِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ»([363])

هذه الأحاديث تبين بعض حقوق المسلم على المسلم، كما أن هناك حقوقاً ذكرت في أحاديث أخرى، فيحسن بنا أن نوضح هذه الحقوق بشيء من الإيجاز غير المخل، لأنها من أحسن طرق الإحسان إلى المسلم، فإليكموها:

1- إلقاء السلام ورده:

وقد كان لهذا الحق عناية من الرسول صلى الله عليه وسلم فبين حكمه، ورغب فيه في أحاديث كثيرة، وكان صلى الله عليه وسلم يسلم على الصبيان والشبان والشيوخ على حد سواء, وحتى المجالس التي فيها أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود وغيرهم كان يسلم عليهم؛ فعَن الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ: «أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى قَطِيفَةٍ فَدَكِيَّةٍ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَرَاءَهُ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِي الحَارِثِ بْنِ الخَزْرَجِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، قَالَ: حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ الله بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ الله ابْنُ أُبَيٍّ، فَإِذَا فِي المَجْلِسِ أَخْلَاطٌ مِن المُسْلِمِينَ وَالمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ وَالمُسْلِمِينَ، وَفِي المَجْلِسِ عَبْدُ الله بْنُ رَوَاحَةَ، فَلَمَّا غَشِيَتْ المَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ عَبْدُ الله بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ ثُمَّ قَالَ: لَا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا، فَسَلَّمَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى الله وَقَرَأَ عَلَيْهِم الْقُرْآنَ»([364]). الحديث.

 وأما التسليم على الصبيان فقد رواه أَنَس رضي الله عنه ، فقَالَ: مر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن صبيان فقال: «السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا صِبْيَانُ».([365])

وعن أنس رضي الله عنه :«أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يَزُورُ الأنْصَارَ، وَيُسَلِّمُ عَلَى صِبْيَانِهِمْ، وَيَمْسَحُ رُؤُوسَهُمْ»([366]).

قال ابن بطال: وفـيه تدريب لهم على تعليم السنن، ورياضة لهم على الآداب الشرعية ليبلغوا حد التكليف وهم متأدبون بأدب الإسلام([367]).

وأما رد السلام على الصبي: ولو سلم الصبي على رجل لزم الرجل رد السلام, هذا هو الصواب الذي أطبق عليه الجمهور([368]).

والأفضل أن يرد السلام على أكمل وجه؛ قال تعالى: ((وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا)) [النساء:86] وكلما زاد الإنسان بألفاظ السلام يكون أعظم أجراً؛ فعن عِمْرَانَ بنَ حُصَيْنٍ رضي الله عنه ، أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النبيِّ فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، قال: فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «عَشْرٌ» ثم جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «عِشْرُونَ» ثمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ثَلاَثُونَ»([369]).

قال النووي: ابتداء السلام سُنَّة مستـحبة لـيس بواجب، وهو سُنَّة علـى الكفـاية، فإن كان الـمسلِّـم جماعة، كفـى عنهم تسلـيـم واحد منهم، ولو سلَّـموا كلُّهم كان أفضل([370]).

وأولى الناس بالله من بدأهم بالسلام؛ فعَنْ أَبِي أُمَامَة َ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِالله مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ»([371]).

وللسلام فضائل جمة، منها أنه من أفضل الأعمال في الإسلام ؛فعَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اﷲ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ, وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ».([372])

وهو سبب في دخول الجنة بأمن وعدم خوف؛ فَعَنْ عَبْدِ الله بْنِ سَلاَمٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلاَمَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا باللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلاَمٍ»([373]).

قال الصديقي: والـمراد دخولها مع الناجين، وإلا فدخولها لأهل الإيمان واجب بالوعد الذي لا يخـلف. ويحتمل أن الـمراد مطلق دخولها مع الناجين فـيكون فـيه تبشير فاعل هذه الأمور بالـموت علـى الإسلام لـيكون من أهلها([374]).

كما أنه بركة على المسلِّم والمسلَّم عليه؛ فعن سَعِيدٍ بنِ المُسَيَّبِ، قالَ: قالَ أَنَسٌ رضي الله عنه : «قالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «يَا بُنَيَّ إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمَ يكُونُ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ»([375]).

وهو كذلك صدقة عن سلامى ابن آدم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ سُلامَىٰ مِن ابْنِ آدَمَ صَدَقَةٌ حِينَ يُصْبِحُ» فشق ذلك على المسلمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ سَلاَمَكَ عَلَى عِبادِ الله صَدَقَةٌ. وَإمَاطَتُكَ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ. وَإنَّ أَمْرَكَ بالمعروفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيَكَ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ»([376]).

وهو كذلك سبب المغفرة؛ فعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا»([377]).

2- إجابــة دعوتــه:

لقد أمر صلى الله عليه وسلم بإجابة الدعوة في أحاديث كثيرة منها ما روي عن عبدِالله بن عُمرَ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا دُعِي أحدُكُم إلى الوليمة فلْيأتِها»([378]).

وعنه رضي الله عنه أيضا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى وَلِيمَةِ عُرْسٍ فَلْيُجِبْ»([379]).

قال الشافعي ومن تبعه: تقع الوليمة على كل دعوة تتخذ لسرور حادث؛ من نكاحٍ أو ختانٍ وغيرهما، لكن الأشهر استعمالها عند الإطلاق في النكاح, وتقيد في غيره فيقال: وليمة الختان ونحو ذلك([380]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ, وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لقبلت»([381]).

وعند الترمذي: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ, وَلَوْ دُعِيتُ عَلَيْهِ لَأَجَبْتُ». قَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيثُ أَنَسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ([382]).

قال صاحب التحفة: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى حُسْنِ خُلُقِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوَاضُعِهِ وَجَبْرِهِ لِقُلُوبِ النَّاسِ, وَعَلَى قَبُولِ الْهَدِيَّةِ وَإِجَابَةِ مَنْ يَدْعُو الرَّجُلَ إِلَى مَنْزِلِهِ. وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ الَّذِي يَدْعُوهُ إِلَيْهِ شَيْءٌ قَلِيلٌ([383]).

فإذا دعاك أخوك المسلم أجبه إلا أن تكون هناك معصية فلا تجبه، وإن استطعت إنكارها باللسان أو اليد فلك قبولها.

3- النصـــح:

لقد أمر صلى الله عليه وسلم بالنصيحة لكل مسلمٍ؛ كما في الحديث: «وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ»([384]).

وجعل النصيحة عماد الدين وقوامها؛ فعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَة»، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «للهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ»([385]).

قال الخطابي رحمه الله: النصيحة كلمةٌ جامعةٌ معناها حيازة الحظ للمنصوح له، وهو من وجيز الأسماء ومختصر الكلام، وليس في كلام العرب كلمة مفردة يستوفى بها العبارة عن معنى هذه الكلمة([386]).

وأما نصيحة عامة المسلمين وهم من عدا ولاة الأمر فإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم, وكف الأذى عنهم، فيعلمهم ما يجهلونه من دينهم، ويعينهم عليه بالقول والفعل، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفقٍ وإخلاصٍ، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم ورحمة صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير, ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم وأعراضهم، وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل، وحثهم على التخلق بالأخلاق الحسنة، وتنشيط هممهم إلى الطاعات([387]).

3- تشميته إذا عطس:

فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا عطَسَ أحدُكم فليقل: الحمد لله، وليقلْ له أخوه أو صاحبه: يَرْحَمُكَ الله، فإذا قال له يَرحمكَ الله، فليقل: يَهْدِيكُمُ الله وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ»([388]).

في هذا الحديث مشروعية التشميت بالشرط المذكور.واختلف العلماء في حكمه فمنهم من قال: إنه فرض عين مستدلاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم المروي عن أبي هريرة رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الله يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، فَإذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ الله، كَانَ حَقّاً على كُل مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: يَرْحَمُكَ الله»([389]) حيث جاء بلفظ الوجوب الصريح، وبلفظ «الحق» الدال عليه، وبلفظ «على» الظاهرة فيه، وبصيغة الأمر التي هي حقيقة فيه، وجمهور العلماء قالوا: إنها فرض كفاية. وهذا هو الصحيح؛ لأن الأحاديث الصحيحة الدالة على الوجوب لا تنافي كونه على الكفاية، فإن الأمر بتشميت العاطس وإن ورد في عموم المكلفين ففرض الكفاية يخاطب به الجميع على الأصح ويسقط بفعل البعض([390]).

4- عيادته إذا مرض:

لقد رغب الرسول صلى الله عليه وسلم على عيادة المريض في أحاديث كثيرة؛ منها ما مضى من الأحاديث التي تبين حقوق المسلم على المسلم، ومعها ما روي عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فُكُّوا العانيَ - يعني الأسيرَ - وأطعِموا الجائعَ، وعُودوا المريض»([391]).

وعن أبي سعيدٍ الخُدري رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «عُودوا المَرْضَى، واتَّبِعوا الجَنَائِزَ تُذَكِّرْكُم الآخِرَةَ»([392]).

5- اتباع جنازتــه:

لقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم أمته على اتباع الجنائز، وبين أن له أجراً عظيماً؛ فعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَهِدَ الجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّىٰ عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ. وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدَفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ» وَمَا الْقِيرَطَانِ؟ قَالَ: «مِثْلُ الجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ»([393]).

وفي رواية أخرى: «وَمَنِ اتَّبَعَهَا حَتَّىٰ تُوضَعَ فِي الْقَبْرِ»([394]).

وعنْ أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنِ اتَّبَعَ جَنازَةَ مُسْلم، إِيماناً واحْتِساباً، وَكانَ مَعَهُ حتى يُصَلَّى عليها وَيُفْرَغَ مِن دَفْنِها، فإنَّهُ يَرْجِعُ منَ الأجْرِ بقيراطَيْنِ كلُّ قِيراطٍ مِثلُ أُحُدٍ. ومَن صَلَّى عليها ثمَّ رَجَعَ قَبلَ أنْ تُدْفَنَ فإنَّه يَرْجِعُ بِقيراطٍ»([395]).

قال النووي: فيه الحث على الصلاة على الجنازة واتباعها ومصاحبتها حتى تدفن.

وقوله: «حتى توضع في القبر» فيه دليل لمن يقول: يحصل القيراط الثاني بمجرد الوضع في اللحد وإن لم يلق عليه التراب، والصحيح أنه لا يحصل إلا بالفراغ من إهالة التراب لظاهر الروايات الأخرى حتى يفرغ منها، تتأول هذه الرواية على أن المراد: يوضع في اللحد ويفرغ منها ويكون المراد الإشارة إلى أنه لا يرجع قبل وصولها القبر([396]).

6- نصر المظلــوم:

لقد أمر صلى الله عليه وسلم بنصر المظلوم في أحاديث كثيرة منها ما روي عن ابن عُمَرَ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِماً أو مَظْلُوماً»، قيلَ: يا رَسُولَ الله هٰذا نَصْرُهُ مظلوماً، فكيفَ أَنْصُرُهُ ظالِماً؟ قالَ: «تُمْسِكُهُ مِنَ الظُّلْمِ فَذَاكَ نَصْرُكَ إيَّاهُ»([397]) وفي رواية أخرى:«إِنْ كَانَ ظَالِماً فَلْيَنْهَهُ،فَإِنَّهُ لَهُ نَصْرٌ وَإِنْ كَانَ مَظْلُوماً فَلْيَنْصُرْهُ»([398]).

قال ابن بطال: النصر عند العرب الإعانة، وتفسيره نصر الظالـم بمنعه من الظلـم من تسمية الشيء بما يؤول إلـيه، وهو من وجيز البلاغة([399]).

واتقاء الظلم من علامة الأخوة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ y أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ»([400])

قال ابن حجر: والدفاع عن ظلم المسلم أخص من ترك الظلم، وقد يكون ذلك واجباً، وقد يكون مندوباً، بحسب اختلاف الأحوال.([401])

وفي رواية مسلم: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ. لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ، وَلاَ يَحْقِرُهُ»([402])

 فالقيام بهذه الحقوق من أعظم الإحسان مع أخيك المسلم لأن الإحسان مع عامة المسلمين يجتمع في قاعدةٍ عظيمةٍ وهي: كل ما يجلب الخير له ويدفع الشر عنه، وزيادة على ما مضى فهذه بعض طرق الإحسان إلى أخيك المسلم، ويمكن أن نفقطها في النقاط التالية:

 ومن الإحسان مع المسلمين أن يحب لهم ما يحب لنفسه: وهذا من كمال الإيمان كما جاء في الحديث عَن أَنَسٍ رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»([403]).

قال النووي: قَالَ الْعُلَمَاء رَحِمَهُم الله: مَعْنَاهُ لَا يُؤْمِن الْإِيمَان التَّامّ, وَإِلَّا فَأَصْلُ الْإِيمَان يَحْصُل لِمَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَة. وَالمُرَاد يُحِبّ لِأَخِيهِ مِن الطَّاعَات وَالْأَشْيَاء المُبَاحَات.

 قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح: وَهَذَا قَدْ يُعَدُّ مِن الصَّعْب المُمْتَنِع, وَلَيْسَ كَذَلِكَ, إِذْ مَعْنَاهُ: لَا يَكْمُل إِيمَان أَحَدكُمْ حَتَّى يُحِبّ لِأَخِيهِ فِي الْإِسْلَام مِثْل مَا يُحِبّ لِنَفْسِهِ, وَالْقِيَام بِذَلِكَ يَحْصُل بِأَنْ يُحِبّ لَهُ حُصُول مِثْل ذَلِكَ مِنْ جِهَةٍ لَا يُزَاحِمهُ فِيهَا, بِحَيْثُ لَا تَنْقُص النِّعْمَة عَلَى أَخِيهِ شَيْئًا مِن النِّعْمَة عَلَيْهِ, وَذَلِكَ سَهْل عَلَى الْقَلْب السَّلِيم, إِنَّمَا يَعْسُرُ عَلَى الْقَلْب الدَّغِل. عَافَانَا الله وَإِخْوَانَنَا أَجْمَعِينَ. وَالله أَعْلَم([404]).

وهو من الحقوق الستة للمسلم؛ كما جاء في الحديث عن عَلِيٍ رضي الله عنه قَالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لِلْمُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ سِتٌ بِالمَعْرُوفِ: يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ، وَيُجيِبُهُ إذَا دَعَاهُ، وَيُشَمِّتُهُ إذَا عَطَسَ, وَيَعُودُهُ إذَا مَرِضَ، وَيَتَّبِعُ جَنَازَتَهُ إذَا مَاتَ، وَيُحِبُّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»([405]).

كما أنه شرط لتحقيق الإيمان الكامل؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»([406]).

وفي رواية عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا يُوْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتّى يُحِبَّ لِلنّاسِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَحَتَّى يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلا لله عَزَّ وَجَلَّ»([407]).

قال ابن حجر: فإن قيل: فيلزم أن يكون من حصلت له هذه الخصلة مؤمناً كاملاً وإن لم يأت ببقية الأركان، أجيب: بأن هذا ورد مورد المبالغة، أو يستفاد من قوله: «لأخيه المسلم» ملاحظة بقية صفات المسلم، وقد صرح ابن حبان من رواية ابن أبي عدي عن حسين المعلم بالمراد ولفظه: «لَا يَبْلُغُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الخَيْرِ»([408]).

ومعنى الحقيقة هنا الكمال، ضرورة أن من لم يتصف بهذه الصفة لا يكون كافراً، وأن هذه الخصلة من شعب الإيمان، وهي داخلة في التواضع([409]).

وإليك ذكر بعض الأسباب التي تجلب محبة إخوانه المسلمين:

إفشاء السلام: كما سبق في الحديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؛ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ»([410]).

قال النووي: وفي إفشائه تمكن ألفة المسلمين بعضهم لبعض، وإظهار شعارهم المميز لهم من غيرهم من أهل الملل، مع ما فيه من رياضة النفس ولزوم التواضع وإعظام حرمات المسلمين.([411])

و تعاطي الهدايا: كما جاء في الحديث: عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ عَبْدِ الله الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: «تَصَافَحُوا يَذْهَبِ الْغِلُّ وَتَهَادَوْا تَحَابُّوا وَتَذْهَب الشَّحْنَاءُ»([412]).

و إجابة الدعوة: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ, وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لقبلت»([413]).

وعند الترمذي: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ, وَلَوْ دُعِيتُ عَلَيْهِ لَأَجَبْتُ». قَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيثُ أَنَسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ([414]).

قال صاحب التحفة: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى حُسْنِ خُلُقِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوَاضُعِهِ وَجَبْرِهِ لِقُلُوبِ النَّاسِ, وَعَلَى قَبُولِ الْهَدِيَّةِ، وَإِجَابَةِ مَنْ يَدْعُو الرَّجُلَ إِلَى مَنْزِلِهِ. وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ الَّذِي يَدْعُوهُ إِلَيْهِ شَيْءٌ قَلِيلٌ([415]).

والزيارة: فلها أثر طيب على قلب الأخ المسلم,كما أن الزائر يحوز أجراً عظيماً، وتدعو له الملائكة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَادَ مَرِيضًا أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِي الله نَادَاهُ مُنَادٍ: أَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ وَتَبَوَّأْتَ مِنْ الجَنَّةِ مَنْزِلًا». قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ([416]).

وعَنْه رضي الله عنه أيضا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى, فَأَرْصَدَ الله لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ. قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ: لَا غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي الله عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكَ بِأَنَّ الله قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ»([417]).

 ومن الإحسان إلى أخيه المسلم نصرته في المصيبة، وتفريج كرباته، وعونه على الظالم، وستر عيوبه، فعن عَبْد الله بْن عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ, وَلَا يُسْلِمُهُ, وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ الله فِي حَاجَتِهِ, وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ الله عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ, وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ»([418]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحَاسَدُوا, وَلَا تَنَاجَشُوا, وَلَا تَبَاغَضُوا, وَلَا تَدَابَرُوا, وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ, وَكُونُوا عِبَادَ الله إِخْوَانًا, المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ, وَلَا يَخْذُلُهُ, وَلَا يَحْقِرُهُ, التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, بِحَسْبِ امْرِئٍ مِن الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ, كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ»([419]).

وليعلم المسلم أن خذلان أخيه المسلم سبب في خذلان الله له, كما أن نصرة المسلم سبب في نصر الله له،كما جاء في الحديث عن جَابِر بن عَبْدِ الله وَ أَبي طَلْحَةَ بن سَهْلٍ الأنْصَارِي رضي الله عنهما قالا: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِن امْرِىءٍ يَخْذُلُ امْرأً مُسْلِماً في مَوْضِعٍ يُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلاَّ خَذَلَهُ الله في مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتهُ، وَمَا مِن امْرِىءٍ يَنْصُرُ مُسْلِماً في مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلاَّ نَصَرَهُ الله في مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ».([420])

 ومن الإحسان مع المسلم الإنفاق عليه بطيب نفس محتسباً الأجر والثواب من عند الله، ومن ذلك الصدقة والإيثار وهو أعلاه، قال تعالى: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)) [الحشر:9]، فأنفق على إخوانك المسلمين ولا تخش من ذي العرش إقلالا، لأنه ورد وعيدٌ شديدٌ لمن يمسك يده، فقد قال تعالى: ((هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)) [محمد:38].

 وقال تعالى: ((الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)) [البقرة:268].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأسماء رضي الله عنها: «لَا تُوكِي فَيُوكَى عَلَيْكِ» حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدَةَ وَقَالَ: «لَا تُحْصِي فَيُحْصِيَ الله عَلَيْكِ»([421]).

ولقد ضرب الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أروع الأمثلة في الإنفاق على إخوانهم المسلمين التي لا يجود بمثلها الزمان ووقائعها أغرب من الخيال ومن أروع ما يحكي لنا التاريخ صورة خروج الأنصار للقيا إخوانهم من المهاجرين وترحابهم الغالي بهم وإيثارهم على أنفسهم، فمنهم من يشاطر أخاه في بيته، ومنهم من يشاطره في ماله، وحدائقه التي يملكها، ومنهم من يعرض زوجاته عليه أيتهن أحب ينزل له عنها كما جاء في الحديث: «أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع فقَالَ سعد لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِنِّي أَكْثَرُ الْأَنْصَارِ مَالًا فَأَقْسِمُ مَالِي نِصْفَيْنِ, وَلِي امْرَأَتَانِ؛ فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ فَسَمِّهَا لِي أُطَلِّقْهَا فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجْهَا. قَالَ: بَارَكَ الله لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ أَيْنَ سُوقُكُمْ». الحديث([422]).

وكذلك قصة الأنصاري الذي أقرى ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه : «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلَّا المَاءُ. فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: أَنَا. فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ. فَقَالَ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي. فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ, وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ, وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً. فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا, وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا, وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا, ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ. فَجَعَلَا يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ. فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ضَحِكَ الله اللَّيْلَةَ أَوْ عَجِبَ مِنْ فَعَالِكُمَا فَأَنْزَلَ الله: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )) [الحشر:9]([423]).

ومن ذلك أيضا ما حدث في التاريخ يوم اليرموك؛ روى القرطبي عن حذيفة العدوي قال: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من الماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به، فقلت له: أسقيك ؟ فأشار برأسه أن نعم، فإذا أنا برجل يقول: آه!آه!، فأشار إلي ابن عمي أن انطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك ؟ فأشار أن نعم. فسمع آخر يقول: آه! آه!، فأشار هشام أن انطلق إليه، فجئته فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات([424]).

وكما أثر عن السلف أنه كان منهم من يتفقد عيال أخيه وأولاده بعد موته أربعين سنة يقوم بحاجتهم ويتردد كل يوم إليهم ويمونهم من ماله، فكانوا لا يفقدون من أبيهم إلا عينه بل كانوا يرون منه ما لم يروا من أبيهم في حياته، وكان الواحد منهم يتردد إلى باب دار أخيه ويسأل ويقول: هل لكم زيت؟ هل لكم ملح ؟ هل لكم حاجة ؟ وكان يقوم بها حيث لا يعرفه أخوه، وبهذا تظهر الشفقة والأخوة([425]).

 ومنها الوفاء بالعهد: لأن نقض عهد المسلم نقض لعهود المسلمين أجمعين، وقد أمر الله تعالى في محكم تنزيله بإيفاء العهود قال تعالى: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)) [المائدة:1] وقال تعالى: ((وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا)) [الإسراء:34]

وكذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على هذه الخصلة النبيلة فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ, وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ»([426]).

وعن عليّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «... ذِمَّةُ المسلمينَ واحدةٌ، فمَن أخفَرَ مسلماً فعليهِ لعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعينَ، لا يُقبَلُ منه صَرفٌ ولا عَدلٌ»([427])

 قال النووي في شرحه: معناه من نقض أمان مسلم فتعرض لكافر أمنه مسلم([428]).

ومنها كف اللسان واليد عن المسلم، فعن عبدِ الله بن عَمْرٍو رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ وَيَدهِ»([429])

قال النووي: معناه من لم يؤذ مسلماً بقول ولا فعل، وخص اليد بالذكر لأن معظم الأفعال بها، وقد جاء القرآن العزيز بإضافة الاكتساب والأفعال إليها، والمراد بالنفي نفي الإسلام الكامل، وليس المراد نفي أصل الإسلام عن من لم يكن بهذه الصفة.([430])

 ومنها عدم هجرانه، فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ. يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هٰذَا وَيُعْرِضُ هٰذَا. وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ»([431]).

قال العلماء: نفي الحل دال على التحريم، فيحرم هجران المسلم فوق ثلاثة أيام. ودل مفهومه على جوازه ثلاثة أيام. وحكمه جواز ذلك هذه المدة، لأن الإنسان مجبول على الغضب وسوء الخلق ونحو ذلك فعفي له هجر أخيه ثلاثة أيام ليذهب العارض تخفيفاً على الإنسان ودفعاً للإضرار به، ففي اليوم الأول يسكن غضبه، وفي الثاني يراجع نفسه، وفي الثالث يعتذر، وما زاد على ذلك كان قطعاً لحقوق الأخوّة، وقد فسر معنى الهجر بقوله: «يلتقيان... إلى آخره» وهو الغالب من حال المتهاجرين عند اللقاء. وفيه دلالة على زوال الهجر له بردّ السلام، وإليه ذهب الجمهور([432]).

وأن من يهجر أخاه المسلم يتوقف في قبول عمله حتى يترك الهجران ؛كما جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِالله شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا, أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا, أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا..وفِي حَدِيثِ الدَّرَاوَرْدِيِّ إِلَّا المُتَهَاجِرَيْنِ»([433]).

فهذه الحقوق العامة، وهذه الحرمة المؤكدة للمال والعرض والدم ثابتةٌ بعقد الإسلام، وهي تزداد تأكداً وتوثقاً في حق الإخوة والأصحاب، فليحذر المسلم من المساس بأخيه المسلم بأي شيءٍ من الأذى قولاً أو فعلاً، وأن يبذل ما فيه قصارى جهده لأن ينفع أخاه المسلم بأي طريقٍ كان.

خلاصة القول في الإحسان إلى المسلم بعامة أن يفعل كل ما يؤدي إلى نفعه ولو كان شيئاً قليلاً، وأن يدفع عنه كل ما يؤدي إلى ضرره ولو كان قليلاً.


 المبحث السابع: الإحسان لغير المسلمين:

المسلم في هذه الحياة يقيم علاقاته مع الناس أياً كانوا ولو كانوا كفاراً على أساس الحسنى إذا كان الكافر غير حربيٍ، ومن ذلك:

التعامل بالقسط والعدل في جميع أمورهم امتثالاً لقوله تعالى: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) [المائدة:8].

وكما نهي المسلمون أن يعتدوا عليهم كما قال تعالى: ((يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) [المائدة:2].

قال القرطبي: قال أبو عبيدة والفراء: معنى «لا يجرمنكم» أي: لا يكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا الحق إلى الباطل، والعدل إلى الظلم([434])

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا حَكَمْتُمْ فاعْدِلُوا، وإذا قَتَلَتُمْ فَأَحْسِنُوا، فإنَّ الله - عَزَّ وَجَلَّ - مُحْسِنٌ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ»([435]).

وإن البغض الذي أمر به المسلم لا يتجه إلى ذات الإنسان وإنما لما يحمل من الكفر، أو المعصية، فإذا انتفى الكفر، أو انتفت المعصية زال هذا الكره والبغض، وهو يتجزأ بحسب قوة المعصية وعظمها والاستمرار عليها، وبحسب ما وصل إليه من الكفر، فليس العصاة والكفرة على درجةٍ واحدةٍ.

وهذا لا يعني عدم التعامل بالحسنى، والمخالقة الطيبة، فهذا التعامل لا يتعارض مع الكره الإيماني فذاك في التعامل، ويندرج تحت قوله تعالى: ((وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)) [البقرة:83] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقِ الله حَيْثُمَا كُنْتَ, وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا, وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ». قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ([436])

والكره الإيماني يندرج تحت قوله تعالى: ((لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) [المجادلة:22].

وعندما نقول الكره الإيماني فلا يتنافى مع الحب الغريزي ولو مع اختلاف الدين، كمحبة الوالد لولده والعكس، ومحبة الزوج لزوجته الكافرة التي من أهل الكتاب، فهذا حب غريزي.

فيراعى العدل والقسط في أمور البيع والشراء وجميع المعاملات معهم, فلا يجوز للمسلم أن يغش الكافر في بيعه, أو أن يكذب معه, أو أن يبخس من حقه, أو أن يظلمه؛ لأن جميع زواجر الشريعة ممنوعةٌ مع المسلم ومع الكافر على حد سواء.

وكذلك إذا كان جار المسلم كافراً فله حق الجوار، وتراعى حقوقه.كما جاء في الحديث: عَنْ مُجَاهِدٍ «أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ عَمْرٍو ذُبِحَتْ لَهُ شَاةٌ فِي أَهْلِهِ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»: قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ([437]).

قال الحافظ ابن حجر: وَقَدْ حَمَلَهُ عَبْدُ الله بْنُ عَمْرٍو الرَّاوِي عَلَى الْعُمُومِ, فَإِنَّهُ أَمَرَ لَمَّا ذُبِحَتْ لَهُ شَاةٌ أَنْ يُهْدِيَ مِنْهَا لِجَارِهِ الْيَهُودِيِّ. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: «الْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ: جَارٌ لَهُ حَقٌّ وَهُوَ المُشْرِكُ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ, وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ وَهُوَ المُسْلِمُ؛ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الْإِسْلَامِ، وَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ مُسْلِمٌ لَهُ رَحِمٌ؛ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَالْإِسْلَامِ وَالرَّحِمِ»([438]).

وكذلك التهادي إلى الكفار جائزٌ؛ لأنه جاء في الحديث أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أهدى لأخيه المشرك؛ كما جاء في الحديث عن ابْن عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا يَقُولُ: «رَأَى عُمَرُ حُلَّةً سِيَرَاءَ تُبَاعُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله ابْتَعْ هَذِهِ وَالْبَسْهَا يَوْمَ الجُمُعَةِ وَإِذَا جَاءَكَ الْوُفُودُ, قَالَ: إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ. فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا بِحُلَلٍ فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ بِحُلَّةٍ فَقَالَ: كَيْفَ أَلْبَسُهَا وَقَدْ قُلْتَ فِيهَا مَا قُلْتَ؟ قَالَ: إِنِّي لَمْ أُعْطِكَهَا لِتَلْبَسَهَا وَلَكِنْ تَبِيعُهَا أَوْ تَكْسُوهَا. فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ»([439]).

 وإن كان الكافر له قرابة بالمسلمين فيتأكد حقه من الصلة والهدية والإحسان ما لم يترتب على ذلك محظور شرعي؛ كما جاء في الحديث عن أسماء بنت أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: «أَتَتْنِي أُمِّي رَاغِبَةً فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ^ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ ^ آصِلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى فِيهَا (( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ)) [الممتحنة:8] »([440])

وأمها كانت مشركةً كما جاء في رواية أخرى: عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَتْ: «قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ»([441]).

فأجازها النبي صلى الله عليه وسلم بصلة أمها مع أنها مشركة، وباقية على الشرك غير راغبة في الإسلام.

 يقول ابن حجر: إنها لَوْ جَاءَتْ رَاغِبَة فِي الْإِسْلَام لَمْ تَحْتَجْ أَسْمَاء أَنْ تَسْتَأْذِن فِي صِلَتهَا لِشُيُوعِ التَّأَلُّف عَلَى الْإِسْلَام مِنْ فِعْل النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْره فَلَا يُحْتَاج إِلَى اسْتِئْذَانه فِي ذَلِكَ([442]).

وإذا كان معاهداً يلزم على المسلمين الوفاء بالعهد, والمعاهد هو من كان له مع المسلمين بأمان عهد شرعي سواء كان بعقد جزية، أو هدنة من سلطان، أو أمان من مسلم فيحرم على المسلمين قتله, أو الاعتداء عليه أو على ماله وعرضه بلا خلاف بين أهل الإسلام حتى يرجع إلى مأمنه، ويدل على ذلك قوله تعالى: ((وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)) [التوبة:6].

 وكما جاء في الحديث: عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»([443])

وبالأخص إذا كان له عهد من ولي أمر المسلمين، بل من آحاد المسلمين كما جاء في الحديث: «المُؤْمِنُونَ تَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ»([444]).

وعند أبي داود عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ, يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ, وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ, وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ, يَرُدُّ مُشِدُّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ, وَمُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ, لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِر, وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِه»([445]).

قال ابن حجر: وَدَخَلَ فِي قَوْله «أَدْنَاهُمْ» أَيْ أَقَلُّهُمْ كُلّ وَضِيع بِالنَّصِّ وَكُلّ شَرِيف بِالْفَحْوَى([446]).

ومن الإحسان إليهم كف اليد عن مالهم إلا بحق الإسلام؛ فعن المِقْدَامِ بنِ مَعْدِيكَرِبَ رضي الله عنه عنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، قالَ: «ألاَ لاَ يَحِلُّ ذُو نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَلاَ الْحِمَارُ الأَهْلِيُّ، وَلاَ اللُّقَطَةُ مِنْ مَالِ مُعَاهِدٍ، إلاَّ أنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا.وَأَيُّمَا رَجُلٍ ضَافَ قَوْماً فَلَمْ يَقْرُوهُ، فَإنَّ لَهُ أنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ»([447]).

يدل هذا الحديث على أن اللقطة من مال المعاهد كاللقطة من مال المسلم. وهذا محمول على التقاطها من محل غالب أهله أو كلهم ذميون، وإلا فاللقطة لا تعرف من مال أي إنسان عند التقاطها([448]).

 كما ورد الأمر بعدم ظلمهم أو انتقاصهم أو تكليفهم فوق طاقتهم أو أخذ شيء منهم من غير طيب نفس؛ فعن صَفْوَانَ بن سُلَيْمٍ عن عِدَّةٍ مِنْ أبْنَاءِ أصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم عن آبَائِهِمْ دِنْيَةً عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، قالَ: «ألاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِداً أوْ انْتَقَصَهُ أوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أوْ أخَذَ مِنْهُ شَيْئاً بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»([449]).

ومن الإحسان إليهم نصر المظلوم منهم. وبالأخص إذا رفع أمرهم إلى الحاكم، وقد أجمع العلماء على أنه يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين المسلم والذمي إذا ترافعا إليهم([450]).

ورد السلام عليهم. لحديث النبي صلى الله عليه وسلم المروي عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ»([451]).

قال النووي: اتفق العلماء على الرد على أهل الكتاب إذا سلموا، لكن لا يقال لهم: وعليكم السلام، بل يقال: «عليكم» فقط أو «وعليكم»([452]).

وأما الابتداء بالسلام عليهم فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، فعن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ تَبْدَأوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلاَمِ، فإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ»([453]).

قال النووي: اختلف العلماء في ابتداءهم بالسلام. والذي عليه أكثر العلماء وعامة السلف تحريم ابتداءهم بالسلام. واحتج الجائزون بعموم الأحاديث وبإفشاء السلام، وهي حجة باطلة لأنه عام مخصوصة بهذا الحديث([454]).

ويجوز للمسلم عيادة مرضاهم؛ فعن أنَسٍ رضي الله عنه قال: «كان غُلامٌ يهوديٌّ يَخدُمُ النبيّ صلى الله عليه وسلم فمَرِضَ، فأتاهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَعودُهُ، فقعَد عندَ رأسهِ فقال لهُ: أسلِمْ. فنظَرَ إلى أبيهِ وهوَ عندَهُ، فقال له: أطِع أبا القاسِم صلى الله عليه وسلم. فأسلمَ.فخَرَجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الحمدُ لله الذي أنقَذَهُ منَ النار»([455]).

وفي الحديث دليل على جواز زيارة أهل الذمة إذا كان الزائر يرجو بذلك حصول مصلحة دينية كإسلام المريض([456]).

وعدم تعذيبهم بعذاب الله فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تعذيبهم بعذاب الله؛ فعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه حَرَّقَ قَوْمًا فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فَقَال َ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ الله» وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»([457]).

قال العيني: هذا يدل على أن كل من بدل دينه يقتل ولا يحرق بالنار([458]).

ومن الإحسان إليهم عدم الغدر بهم، أو التمثيل بقتلاهم، وعدم قتل صبيانهم ونسائهم وأُجَرائِهم، ومن كان مختلياً للعبادة.

فقد ورد في هذه المناهي أحاديث كثيرة، منها:

 عن بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قالَ: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذَا بَعَثَ أميراً علـى جيشٍ أو سَرِيَّةٍ أَمَرَهُ فـي خاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى الله ومَنْ مَعَهُ من الـمؤمنـينَ خيراً، ثم قالَ: «اغْزُوا باسمِ الله، فَقَاتِلُوا فـي سبـيلِ الله، وقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بالله، اغْزُوا ولا تَغُلُّوا ولا تَغْدِرُوا ولا تَـمْثُلُوا ولاَ تَقْتُلُوا ولـيداً»([459]).

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: «كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ جُيُوشَهُ قَالَ: «اخْرُجُوا بِاسْمِ الله تَعَالَىٰ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله مَنْ كَفَرَ بِالله، لاَ تَغْدِرُوا وَلا تَغُلُّوا وَلاَ تُمَثِّلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ وَلاَ أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ»([460]).

قال الصنعاني: فيه دليل على أنه لا يجوز قتل من كان متخلياً للعبادة من الكفار كالرهبان لإعراضه عن ضر المسلمين([461]).

عن ابن عمر رضي الله عنه قال: «وُجِدَتْ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةٌ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَهَىَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ»([462]).

عن رَبَاحِ بْنِ الرَّبِيعِ أَخِي حَنْظَلَةَ الْكَاتِبِ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ, فَمَرَّ رَبَاحٌ وَأَصْحَابُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ مِمَّا أَصَابَتِ المُقَدِّمَةُ, فَوَقَفُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا, وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ خَلْقِهَا, حَتَّى لَحِقَهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَتِهِ, فَانْفَرَجُوا عَنْهَا, فَوَقَفَ عَلَيْهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ» فَقَالَ لِأَحَدِهِم ُ: «الحَقْ خَالِدًا فَقُلْ لَهُ لَا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً وَلَا عَسِيفًا([463])»([464]).

قال الخطابي: في الحديث دليل على أن المرأة إذا قاتلت قتلت، ألا ترى أنه جعل العلة في تحريم قتلها لأنها لا تقاتل، فإذا قاتلت قتلت دل على جواز قتلها([465]).

 ومن أعظم الإحسان لهم دعوتهم إلى الإسلام وهو مقتضى التعامل معهم بالرحمة الوارد في قوله تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء:107]، وتكون دعوتهم بمختلف الوسائل المشروعة، ومنها ما جاء في الأحاديث الآتية:

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَ مُعَاذاً رضي الله عنه إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ. فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ الله عَزَّ وَجَلَّ. فَإِذَا عَرَفُوا الله، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الله فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ. فَإِذَا فَعَلُوا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الله قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَىٰ فُقَرَائِهِمْ. فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا، فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ»([466]).

قال النووي: وفيه أن السنة أن الكفار يدعون إلى التوحيد قبل القتال، وفيه أنه لا يحكم بإسلامه إلا بالنطق بالشهادتين، وهذا مذهب أهل السنة([467]).

وكما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم بكتابته لهرقل الذي قال فيه: «بِسْمِ الله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ الله إلَىٰ هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلاَمٌ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الهُدَىٰ، أَمَّا بَعْدُ، فَإنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ الله أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ. وَإنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إثْمَ الأَرِيسِيِّينَ. ((قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) [آل عمران:64]»([468]).

فهذه النصوص تدلنا على عناية الإسلام بغير المسلمين، وأن ديننا دين السماحة واليسر، يعطي كل ذي حق حقه، فما أحسن ديننا وأعظمه!!

وخلاصة الكلام أن الكافر نبغضه لكفره، ولكن هذا لا يمنع التعامل معه في الأمور المباحة بالحسنى.

ويجب على المسلمين أن يتمسكوا بالكتاب والسنة في جميع حياتهم، ويقتدوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في جميع أمورهم، ومنها كيفية التعامل مع غير المسلمين.


 المبحث الثامن: الإحسان مع الحيوانات:

إن الله تبارك وتعالى أوجد خلائقَ كثيرةً بقدرته جل وعلا، وسخرها للإنسان لكي يتمتع بها؛ قال تعالى: (( اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )) [الجاثية:13] فمن الخلائق التي سخرها الله لابن آدم الأنعام والدواب، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركب الدابة في السفر لا ينسى الدعاء شكراً لله تبارك وتعالى على نعمة تسخيره هذه الدواب، فعن ابْن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: «إنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ......» الحديث([469]).

الشاهد من الحديث قوله: «سَخَّرَ لَنَا» ومعنى «مقرنين»: مطيقين. أي: ما كنا نطيق قهره واستعماله لولا تسخير الله تعالى إياه لنا([470]).

 فكما أبيح للإنسان أن يتمتع بها فلا ينسى الإحسان لها، ومن ذلك:

إطعامها وسقيها إذا جاعت وعطشت: لقول النبي صلى الله عليه وسلم المروي عَنْ عَبْدِ الله بْنِ جَعْفَرٍ رضي الله عنه قَالَ: «أَرْدَفَنِي رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِن النَّاسِ وَكَانَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَتِهِ هَدَفًا أَوْ حَائِشَ نَخْلٍ قَالَ: فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِن الْأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ, وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ, فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ, فَقَالَ: مَنْ رَبُّ هَذَا الجَمَلِ؟ لِمَنْ هَذَا الجَمَلُ؟ فَجَاءَ فَتًى مِن الْأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ الله.فَقَالَ: أَفَلَا تَتَّقِي الله فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ الله إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ»([471]).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِن الْعَطَشِ فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِن الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ بِي, فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ فَسَقَى الْكَلْبَ. فَشَكَرَ الله لَهُ فَغَفَرَ لَهُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ الله وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ فَقَالَ: نَعَمْ فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ»([472]).

وَقَدْ ورد أَنَّ الْقِصَّة المَذْكُورَة وَقَعَ نَحْوهَا لِامْرَأَةٍ, فيحمل عَلَى التَّعَدُّد([473]).

كما صرح بالإحسان مع الجمل في قصة طويلة عند الدارمي عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ وَكَانَ لَا يَأْتِي الْبَرَازَ حَتَّى يَتَغَيَّبَ فَلَا يُرَى، فَنَزَلْنَا بِفَلَاةٍ مِن الْأَرْضِ لَيْسَ فِيهَا شَجَرٌ وَلَا عَلَمٌ. فَقَالَ: يَا جَابِرُ اجْعَلْ فِي إِدَاوَتِكَ مَاءً ثُمَّ انْطَلِقْ بِنَا. قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى لَا نُرَى؛ فَإِذَا هُوَ بِشَجَرَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُ أَذْرُعٍ فَقَالَ: يَا جَابِرُ انْطَلِقْ إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَقُلْ: يُقَلْ لَكِ: الحَقِي بِصَاحِبَتِكِ حَتَّى أَجْلِسَ خَلْفَكُمَا. فَرَجَعَتْ إِلَيْهَا. فَجَلَسَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُمَا ثُمَّ رَجَعَتَا إِلَى مَكَانِهِمَا, فَرَكِبْنَا مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَرَسُولُ الله بَيْنَنَا كَأَنَّمَا عَلَيْنَا الطَّيْرُ تُظِلُّنَا فَعَرَضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ ابْنِي هَذَا يَأْخُذُهُ الشَّيْطَانُ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَ مِرَارٍ.قَالَ: فَتَنَاوَلَ الصَّبِيَّ فَجَعَلَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُقَدَّمِ الرَّحْلِ ثُمَّ قَالَ: اخْسَأْ عَدُوَّ الله أَنَا رَسُولُ الله (صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ), اخْسَأْ عَدُوَّ الله أَنَا رَسُولُ الله (صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ثَلَاثًا, ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَيْهَا. فَلَمَّا قَضَيْنَا سَفَرَنَا مَرَرْنَا بِذَلِكَ المَكَانِ فَعَرَضَتْ لَنَا المَرْأَةُ مَعَهَا صَبِيُّهَا وَمَعَهَا كَبْشَانِ تَسُوقُهُمَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله اقْبَلْ مِنِّي هَدِيَّتِي فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا عَادَ إِلَيْهِ بَعْدُ. فَقَالَ: خُذُوا مِنْهَا وَاحِدًا وَرُدُّوا عَلَيْهَا الْآخَرَ. قَالَ: ثُمَّ سِرْنَا وَرَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَنَا كَأَنَّمَا عَلَيْنَا الطَّيْرُ تُظِلُّنَا؛ فَإِذَا جَمَلٌ نَادٌّ حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَ سِمَاطَيْنِ خَرَّ سَاجِدًا. فَحَبَس رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: عَلَيَّ النَّاسَ مَنْ صَاحِبُ الجَمَلِ؟ فَإِذَا فِتْيَةٌ مِن الْأَنْصَارِ قَالُوا: هُوَ لَنَا يَا رَسُولَ الله. قَالَ: فَمَا شَأْنُهُ؟ قَالُوا: اسْتَنَيْنَا عَلَيْهِ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً وَكَانَتْ بِهِ شُحَيْمَةٌ, فَأَرَدْنَا أَنْ نَنْحَرَهُ فَنَقْسِمَهُ بَيْنَ غِلْمَانِنَا, فَانْفَلَتَ مِنَّا.قَالَ: بِيعُونِيهِ قَالُوا: لَا بَلْ هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ الله. قَالَ: أَمَّا لِي فَأَحْسِنُوا إِلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَهُ أَجَلُهُ. قَالَ المُسْلِمُونَ عِنْدَ ذَلِكَ: يَا رَسُولَ الله نَحْنُ أَحَقُّ بِالسُّجُودِ لَكَ مِن الْبَهَائِمِ. قَالَ: لَا يَنْبَغِي لِشَيْءٍ أَنْ يَسْجُدَ لِشَيْءٍ, وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَانَ النِّسَاءُ لِأَزْوَاجِهِنَّ»([474]).

وقد ورد وعيد شديد على من لا يطعمها ويسقيها بدخول النار؛ فعَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا عَن النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دَخَلَت امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ»([475]).

وَظَاهِر هَذَا الْحَدِيث أَنَّ المَرْأَة عُذِّبَتْ بِسَبَبِ قَتْل هَذِهِ الْهِرَّة بِالْحَبْسِ, قَالَ عِيَاض: يُحْتَمَل أَنْ تَكُون المَرْأَة كَافِرَةً فَعُذِّبَتْ بِالنَّارِ حَقِيقَة, أَوْ بِالْحِسَابِ لِأَنَّ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَاب عُذِّبَ.. ثُمَّ يُحْتَمَل أَنْ تَكُون المَرْأَة كَافِرَة فَعُذِّبَتْ بِكُفْرِهَا وَزِيدَتْ عَذَابًا بِسَبَبِ ذَلِكَ, أَوْ مُسْلِمَة وَعُذِّبَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ. قَالَ النَّوَوِيّ: الَّذِي يَظْهَر أَنَّهَا كَانَتْ مُسْلِمَة وَإِنَّمَا دَخَلَتْ النَّار بِهَذِهِ المَعْصِيَة([476]).

رحمتها والإشفاق عليها؛ لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ا تخاذها غرضاً فمن الإحسان إليها أن لا تُتَّخذَ غرضاً, عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا»([477]).

وعن هشام بن زيد قال: دخلت مع أنس على الحكم بن أيوب فرأى غلماناً أو فتياناً نصبوا دجاجةً يرمونها, فقال أنس رضي الله عنه : «نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تصبر البهائم»([478]).

بل هو ملعون على لسان النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: «مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِفِتْيَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ, قَدْ نَصَبُوا طَيْرًا وَهُمْ يَرْمُونَهُ, وَقَدْ جَعَلُوا لِصَاحِبِ الطَّيْرِ كُلَّ خَاطِئَةٍ مِنْ نَبْلِهِمْ, فَلَمَّا رَأَوْا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا, فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ لَعَن الله مَنْ فَعَلَ هَذَا. إِنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَن اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا»([479]).

وفي رواية «أن ابْن عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا دَخَلَ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَغُلَامٌ مِنْ بَنِي يَحْيَى رَابِطٌ دَجَاجَةً يَرْمِيهَا, فَمَشَى إِلَيْهَا ابْنُ عُمَرَ حَتَّى حَلَّهَا, ثُمَّ أَقْبَلَ بِهَا وَبِالْغُلَامِ مَعَهُ فَقَالَ: ازْجُرُوا غُلَامَكُمْ عَنْ أَنْ يَصْبِرَ هَذَا الطَّيْرَ لِلْقَتْلِ فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُصْبَرَ بَهِيمَةٌ أَوْ غَيْرُهَا لِلْقَتْلِ»([480]).

يقول النووي: قَالَ الْعُلَمَاء: صَبْر الْبَهَائِم: أَنْ تُحْبَس وَهِيَ حَيَّة لِتُقْتَل بِالرَّمْيِ وَنَحْوه, وَهُوَ مَعْنَى: لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوح غَرَضًا, أَيْ لَا تَتَّخِذُوا الْحَيَوَان الْحَيّ غَرَضًا تَرْمُونَ إِلَيْهِ, كَالْغَرَضِ مِن الْجُلُود وَغَيْرهَا, وَهَذَا النَّهْي لِلتَّحْرِيمِ, وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِوَايَة ابْن عُمَر: «لَعَنْ الله مَنْ فَعَلَ هَذَا»وَلِأَنَّهُ تَعْذِيب لِلْحَيَوَانِ وَإِتْلَاف لِنَفْسِهِ, وَتَضْيِيع لِمَالِيَّتِهِ, وَتَفْوِيت لِذَكَاتِهِ إِنْ كَانَ مُذَكًّى, وَلِمَنْفَعَتِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُذَكًّى([481]).

وإذا ذبح حيوانًا لا بد أن يختار له أيسر الطرق لإِرَاحَة الذَّبِيحَةِ بِتَحْدِيدِ الشَّفْرَةِ وَتَعْجِيلِ إِمْرَارِهَا وَغَيْرِهِ, وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الأمر في الحديث الذي نحن بصدده: «فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ, وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ, وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ, وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ».

قال النووي: قَوْله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَلْيُحِدَّ) هُوَ بِضَمِّ الْيَاء يُقَال: أَحَدّ السِّكِّين وَحَدَّدَهَا وَاسْتَحَدَّهَا بِمَعْنًى, وَلْيُرِحْ ذَبِيحَته, بِإِحْدَادِ السِّكِّين وَتَعْجِيل إِمْرَارهَا وَغَيْر ذَلِكَ, وَيُسْتَحَبّ أَلَّا يُحِدّ السِّكِّين بِحَضْرَةِ الذَّبِيحَة, وَأَلَّا يَذْبَح وَاحِدَة بِحَضْرَةِ أُخْرَى, وَلَا يَجُرّهَا إِلَى مَذْبَحهَا. وَقَوْله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَة) عَامّ فِي كُلّ قَتِيل مِنْ الذَّبَائِح, وَالْقَتْل قِصَاصًا, وَفِي حَدّ وَنَحْو ذَلِكَ. وَهَذَا الْحَدِيث مِنْ الْأَحَادِيث الْجَامِعَة لِقَوَاعِد الْإِسْلَام. وَالله أَعْلَم([482]).

وقال ابن حجر: «قَالَ ابْن أَبِي جَمْرَة: فِيهِ رَحْمَة الله لِعِبَادِهِ حَتَّى فِي حَال الْقَتْل, فَأَمَرَ بِالْقَتْلِ, وَأَمَرَ بِالرِّفْقِ فِيهِ. وَيُؤْخَذ مِنْهُ قَهْره لِجَمِيعِ عِبَاده لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُك لِأَحَدٍ التَّصَرُّف فِي شَيْء إِلَّا وَقَدْ حَدّ لَهُ فِيهِ كَيْفِيَّة([483]).

ويقول صاحب التحفة: وَالْإِحْسَانُ فِيهَا الِاخْتِيَارُ أَسْهَلُ الطُّرُقِ وَأَقَلُّهَا أَلَمًا, قَالَ الْقَارِي: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَكُرِهَ السَّلْخُ قَبْلَ التَّبَرُّدِ, وَكُلُّ تَعْذِيبٍ بِلَا فَائِدَةٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ. وَلمَا أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ عَن ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا أَضْجَعَ شَاةً يُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَهَا, وَهُوَ يَحُدُّ شَفْرَتَهُ, فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتُرِيدُ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَتَيْنِ هَلَّا أَحْدَدْت شَفْرَتَك قَبْلَ أَنْ تُضْجِعَهَا» ؟ اِنْتَهَى([484]).

وعدم اصطيادها بغير حاجة، فعَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ إِنْسَانٍ قَتَلَ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا إِلَّا سَأَلَهُ الله عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا. قِيلَ: يَا رَسُولَ الله وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: يَذْبَحُهَا فَيَأْكُلُهَا, وَلَا يَقْطَعُ رَأْسَهَا يَرْمِي بِهَا»([485]).

وعدم التفرقة بين الأفراخ وأمها، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الله عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ, فَرَأَيْنَا حُمَرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا, فَجَاءَت الحُمَرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ, فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا. وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ: مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ؟ قُلْنَا: نَحْنُ. قَالَ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ»([486]).

وعدم تعذيبهم بعذاب الله أي حرقهم بالنار فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا, كما في تتمة الحديث السابق: «وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا. فَقَالَ: مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ؟ قُلْنَا: نَحْنُ. قَالَ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ»([487]).

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي الْحَدِيث دَلَالَة عَلَى أَنَّ تَحْرِيق بُيُوت الزَّنَابِير مَكْرُوهَة, وَأَمَّا النَّمْل فَالْعُذْر فِيهِ أَقَلّ وَذَلِكَ أَنَّ ضَرَره قَدْ يَزُول مِنْ غَيْر إِحْرَاق, قَالَ: وَالنَّمْل عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدهمَا مُؤْذٍ ضَرَّار فَدَفْع عَادِيَته جَائِز, وَالضَّرْب الْآخَر الَّذِي لَا ضَرَر فِيهِ, وَهُوَ الطِّوَال الْأَرْجُل لَا يَجُوز قَتْله([488]).

وأن لا يقطع من البهيمة وهي حيةٌ فقد ورد النهي فيه, لأن فيه إيذاءً لها. فعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِينَةَ وَهُمْ يَجُبُّونَ أَسْنِمَةَ الْإِبِلِ, وَيَقْطَعُونَ أَلْيَاتِ الْغَنَمِ, فَقَالَ: «مَا قُطِعَ مِنْ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ». قَالَ أَبُو عِيسَى: وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ([489]).

وأن لا يضرب وجهها؛ كما جاء في الحديث عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن الضَّرْبِ فِي الْوَجْهِ, وَعَن الْوَسْمِ فِي الْوَجْهِ»([490]).

يقول الإمام النووي: وَأَمَّا الضَّرْب فِي الْوَجْه فَمَنْهِيّ عَنْهُ فِي كُلّ الْحَيَوَان المُحْتَرَم مِن الْآدَمِيّ وَالْحَمِير وَالْخَيْل وَالْإِبِل وَالْبِغَال وَالْغَنَم وَغَيْرهَا, لَكِنَّهُ فِي الْآدَمِيّ أَشَدّ, لِأَنَّهُ مَجْمَع الْمَحَاسِن, مَعَ أَنَّهُ لَطِيف لِأَنَّهُ يَظْهَر فِيهِ أَثَر الضَّرْب, وَرُبَّمَا شَانَهُ, وَرُبَّمَا آذَى بَعْض الْحَوَاسّ([491]).

وعدم لعنها؛ كما جاء عند أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ يَسِيرُ فَلَعَنَ رَجُلٌ نَاقَةً. فَقَالَ: أَيْنَ صَاحِبُ النَّاقَةِ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا. قَالَ: أَخِّرْهَا فَقَدْ أُجِبْتَ فِيهَا»([492]).

وقد نهي عن اللعن بالعموم؛ لأن اللعنة ترجع إلى صاحبها إذا لم يستحقها من أرسلت إليه، فعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَتْ: سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَعَنَ شَيْئًا صَعِدَت اللَّعْنَةُ إِلَى السَّمَاءِ, فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُونَهَا, ثُمَّ تَهْبِطُ إِلَى الْأَرْضِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا دُونَهَا, ثُمَّ تَأْخُذُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذَا لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا, رَجَعَتْ إِلَى الَّذِي لُعِنَ, فَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ أَهْلًا وَإِلَّا رَجَعَتْ إِلَى قَائِلِهَا»([493]).

واللعن ليس من صفات المؤمن كما جاء فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه : أَنَّ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُون لَعَّانًا»([494]).

 وَفِي التِّرْمِذِيّ عَن ابْن مَسْعُود رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ المُؤْمِن بِالطَّعَّانِ, وَلَا اللَّعَّان, وَلَا الْفَاحِش, وَلَا الْبَذِيء» وَقَالَ: حَدِيث حَسَن([495]).

ركوبها بالمعروف، وعدم ا تخاذها منابر أو كراسي، وقد نهى عنه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:«إيَّاكم أنْ تَتَّخِذُوا ظُهُورَ دَوَابِّكُمْ مَنَابِرَ؛ فإنَّ الله إنَّمَا سَخَّرَهَا لَكُم لِتُبَلِّغَكُم إلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالغِيهِ إلاَّ بِشَقِّ الأنْفُسِ، وَجَعَلَ لَكُم الأرْضَ فَعَلَيْهَا فاقْضُوا حَاجَاتِكُم»([496]).

في الحديث مع الإقرار لحق ابن آدم من الأنعام وتسخيرها له تحذير من ا تخاذ الدواب منابر وكراسي.

وظاهر الحديث يعارض فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته وهو واقف على دابته كما ذكر في قصة حجة الوداع...فَأَجَازَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا, حَتَّى إِذَا زَاغَت الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ, فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ... إلى أن ذكر الراوي: «ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى المَوْقِفَ فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ, وَجَعَلَ حَبْلَ المُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ, وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَت الشَّمْسُ..» الحديث([497]).

 وعن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه «أنَّ خُزاعة قتَلوا رَجُلاً من بني لَيثٍ عامَ فتْحِ مَكةَ بقَتيلٍ منهم قَتَلوه، فأُخْبِرَ بذلكَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فرَكِبَ راحلَتَه فخطَبَ»([498]).

قال الخطابي: فدل على أن الوقوف على ظهورها إذا كان لإرب أو بلوغ وطر لا يدرك مع النزول إلى الأرض جائز, وأن النهي انصرف إلى الوقوف عليها لا لمعنى يوجبه بأن يستوطنه الإنسان ويتخذه مقعداً فيتعب الدابة ويضر بها من غير طائل([499]).

كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بركوب الدواب بشرط صلاحيتها لذلك. عن معاذ ابن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ علىٰ قوم وهم وقوف على دواب لهم، ورواحل، فقال لهم: «ارْكَبُوهَا سَالِمَةً، ودَعُوهَا سَالِمَةً، ولا تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِيَّ لأحاديثكم فِي الطُّرُقِ والأسواق، فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهَا، وأَكْثَرُ ذِكْراً لله - تَبَارَكَ وتَعالىٰ - مِنْهُ»([500]).

فالحديث فيه نهي عن ركوبها وهي غير مستطيعة على الحمل، وعن ا تخاذها كراسي، ومفهومه جواز ركوبها في حالة صلاحها وعدم ا تخاذها كراسي.

وأن يستعملها في الأغراض التي خلقت لأجلها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ثم أقبل على الناس فقال: «بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها فقالت: إنا لم نخلق لهذا, إنما خلقنا للحرث. فقال الناس: سبحان الله بقرة تكلم!! فقال: فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم. وبينما رجل في غنمه إذ عدا الذئب فذهب منها بشاة, فطلب حتى كأنه استنقذها منه. فقال له الذئب: هذا استنقذتها مني فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري. فقال الناس: سبحان الله ذئب يتكلم!! قال: فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم»([501]).

قال الحافظ في الفتح: اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الدَّوَابّ لَا تُسْتَعْمَل إِلَّا فِيمَا جَرَت الْعَادَة بِاسْتِعْمَالِهَا فِيهِ, وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون قَوْلهَا إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى مُعْظَم مَا خُلِقَتْ لَهُ, وَلَمْ تُرِد الْحَصْر فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ غَيْر مُرَاد اِتِّفَاقًا, لِأَنَّ مِنْ أَجْل مَا خُلِقَتْ لَهُ أَنَّهَا تُذْبَح وَتُؤْكَل بِالِاتِّفَاقِ([502]).

فيفهم مما سبق أن الإحسان مطلوب مع جميع الخلائق حتى مع الحيوانات. فأين حقوق الحيوان، ومنظمات حقوق الإنسان، وغيرها لتدرس هذه المقررات العظيمة مع الحيوان فكيف مع الإنسان؟!


 المبحث التاسع: الإحسان مع الجمادات:

إن الإسلام اهتم بحفظ الجمادات أيضًا، لأنها خلقت بإذن الله، وكل الخلائق تعبد الله بالتسبيح والتمجيد له، كما قال تعالى: ((تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)) [الإسراء:44].

يقول ابن كثير: وقوله: ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)) [الإسراء:44] أي: وما من شيء من المخلوقات إلا يسبح بحمد الله، ((وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)) [الإسراء:44] أي: لا تفقهون تسبيحهم أيها الناس لأنها بخلاف لغتكم، وهذا عامٌ في الحيوانات والنبات والجماد، وهذا أشهر القولين([503]).

وقال تعالى: ((لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) [الحشر:21].

يقول ابن كثير: «إذا كان الجبل في غلظه وقساوته لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل فكيف يليق بكم أيها البشر أن لا تلين قلوبكم وتخشع، وتتصدع من خشية الله»([504]).

وقال تعالى: ((وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا)) [الرعد:31].

والجواب محذوف وهو: «لكان هذا القرآن». لكن حذف إيجازاً لما في ظاهر الكلام من الدلالة عليه([505]).

وقال تعالى: ((ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) [البقرة:74].

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن من الحجارة لما يهبط، أي: يتردى من رأس الجبل إلى الأرض والسفح من خوف الله وخشيته([506]).

وكما جاء في الحديث عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: «كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفًا, كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقل الماء؛ فقال: اطلبوا فضلةً من ماء. فجاءوا بإناء فيه ماءٌ قليلٌ فأدخل يده في الإناء ثم قال: حي على الطهور المبارك والبركة من الله. فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل»([507]).

ومن الجمادات ما كانت تعظم النبي صلى الله عليه وسلم وتمتثل بأمره؛ كما جاء في الحديث ذكر مَشْي إِحْدَى الشَّجَرَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى حِين دَعَاهُمَا النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ وَكَانَ لَا يَأْتِي الْبَرَازَ حَتَّى يَتَغَيَّبَ فَلَا يُرَى, فَنَزَلْنَا بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ لَيْسَ فِيهَا شَجَرٌ وَلَا عَلَمٌ, فَقَالَ: يَا جَابِرُ اجْعَلْ فِي إِدَاوَتِكَ مَاءً ثُمَّ انْطَلِقْ بِنَا. قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى لَا نُرَى, فَإِذَا هُوَ بِشَجَرَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُ أَذْرُعٍ. فَقَالَ: يَا جَابِرُ انْطَلِقْ إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَقُلْ: يُقَلْ لَكِ الحَقِي بِصَاحِبَتِكِ حَتَّى أَجْلِسَ خَلْفَكُمَا. فَرَجَعَتْ إِلَيْهَا فَجَلَسَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُمَا ثُمَّ رَجَعَتَا إِلَى مَكَانِهِمَا...» الحديث([508]).

ومنها ما كانت تسلم عليه، فعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ»([509]).

يقول الإمام النووي: فِيهِ مُعْجِزَة لَهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي هَذَا إِثْبَات التَّمْيِيز فِي بَعْض الْجَمَادَات, وَهُوَ مُوَافِق لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْحِجَارَة: ((وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)) وَقَوْله تَعَالَى: ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)) وَفِي هَذِهِ الْآيَة خِلَاف مَشْهُور, وَالصَّحِيح أَنَّهُ يُسَبِّحُ حَقِيقَة, وَيَجْعَلُ الله تَعَالَى فِيهِ تَمْيِيزًا بِحَسْبِهِ كَمَا ذَكَرْنَا, وَمِنْهُ الْحَجَر الَّذِي فَرَّ بِثَوْبِ مُوسَى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَكَلَام الذِّرَاع المَسْمُومَة, وَمَشْي إِحْدَى الشَّجَرَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى حِين دَعَاهُمَا النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَأَشْبَاه ذَلِكَ([510]).

وكذلك ما ثبت أن الجذع بكى حينما قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وترك الجذع؛ فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رَضِيَ الله عَنْهُمَا: أَنَّ امْرَأَةً مِن الْأَنْصَارِ قَالَتْ لِرَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا رَسُولَ الله أَلَا أَجْعَلُ لَكَ شَيْئًا تَقْعُدُ عَلَيْهِ فَإِنَّ لِي غُلَامًا نَجَّارًا قَالَ: إِنْ شِئْتِ. قَالَ: فَعَمِلَتْ لَهُ الْمِنْبَرَ, فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ قَعَدَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ الَّذِي صُنِعَ فَصَاحَت النَّخْلَةُ الَّتِي كَانَ يَخْطُبُ عِنْدَهَا حَتَّى كَادَتْ تَنْشَقُّ. فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَخَذَهَا فَضَمَّهَا إِلَيْهِ, فَجَعَلَتْ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّتُ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ, قَالَ: بَكَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِن الذِّكْرِ»([511]).

وعند الترمذي بلفظ «حن الجذع حنين الناقة» فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ إِلَى لِزْقِ جِذْعٍ وَاتَّخَذُوا لَهُ مِنْبَرًا, فَخَطَبَ عَلَيْهِ فَحَنَّ الجِذْعُ حَنِينَ النَّاقَةِ, فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَّهُ فَسَكَنَ». قَالَ أَبُو عِيسَى: وَحَدِيثُ أَنَسٍ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ([512]).

وكما ثبت للنبي موسى عليه السلام أن الحجر فر بثيابه بأمر من ربه لكي يبرأ موسى من العيب الذي كان يتهمه قومه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا لَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ, فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا: مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلَّا مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ؛ إِمَّا بَرَصٌ وَإِمَّا أُدْرَةٌ وَإِمَّا آفَةٌ، وَإِنَّ الله أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى, فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى الحَجَرِ ثُمَّ اغْتَسَلَ, فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إِلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا وَإِنَّ الحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الحَجَرَ, فَجَعَلَ يَقُولُ: ثَوْبِي حَجَرُ ثَوْبِي حَجَرُ. حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ الله وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ, وَقَامَ الحَجَرُ فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ وَطَفِقَ بِالحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ فَوَالله إِنَّ بِالحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا, فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا )) [الأحزاب:69]»([513]).

يقول ابن حجر: وَفِيهِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ فِي خَلْقِهِمْ وَخُلُقِهِمْ عَلَى غَايَةِ الْكَمَالِ, وَأَنَّ مَنْ نَسَبَ نَبِيًّا مِن الْأَنْبِيَاءِ إِلَى نَقْصٍ فِي خِلْقَتِهِ فَقَدْ آذَاهُ وَيُخْشَى عَلَى فَاعِلِهِ الْكُفْرُ. وَفِيهِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ, وَأَنَّ الْآدَمِيَّ يَغْلِبُ عَلَيْهِ طِبَاعُ الْبَشَرِ, لِأَنَّ مُوسَى عَلِمَ أَنَّ الْحَجَرَ مَا سَارَ بِثَوْبِهِ إِلَّا بِأَمْرٍ مِن الله, وَمَعَ ذَلِكَ عَامَلَهُ مُعَامَلَةَ مَنْ يَعْقِلُ حَتَّى ضَرَبَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بَيَانَ مُعْجِزَةٍ أُخْرَى لِقَوْمِهِ بِتَأْثِيرِ الضَّرْبِ بِالْعَصَا فِي الْحَجَرِ([514]).

فيتضح مما سبق أن لله آياتٍ بيناتٍ في خلقه، فلا يقدم الإنسان على إفساده، لأن الله لا يحب الفساد، وبالعكس يحفظها ويستفيد منها بالمعروف من دون إسرافٍ ولا تقتيرٍ، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم من الإسراف في الماء وإن كان الإنسان على نهرٍ جارٍ, فعَنْ عَبْدِ الله ابْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: «مَا هَذَا السَّرَفُ؟ فَقَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ؟ قَالَ: نَعَمْ وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ»([515]).

قال صاحب عون المعبود: أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى النَّهْي عَن الْإِسْرَاف فِي المَاء وَلَوْ فِي شَاطِئ الْبَحْر, لمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَد وَابْن مَاجَهْ عَن عَبْد الله ابْن عَمْرو رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأ, فَقَالَ: مَا هَذَا السَّرَف يَا سَعْد ؟ قَالَ: أَفِي الْوُضُوء سَرَف ؟ قَالَ: نَعَمْ, وَإِنْ كُنْت عَلَى نَهَر جَارٍ»([516]).

فليحرص الإنسان على مبدأ الإحسان مع جميع الخلائق من الحيوانات والجمادات. وإن المسلم يؤجر بكل شيء يستفيد منه ذوات الأرواح, كما جاء في الحديث عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا, أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا, فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ,أَوْ إِنْسَانٌ, أَوْ بَهِيمَةٌ, إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ»([517]).

فهذه بعض الآداب وطرق الإحسان إلى الحيوانات والجمادات، فليبذل الإنسان ما فيه قصارى جهده على إيصال النفع إلى جميع الخلائق بما استطاع إليه سبيلا، ويمسك شره عنها، عسى أن يكون من عباده الصالحين.


 الوقفة السادسة: الإحسان في العمل

إن ديننا يحث المسلمين على الإحسان في كل شيء حتى في عمله ووظيفته وصناعته ومهاراته وزراعته، ومن الإحسان في العمل أن يقوم بالعمل حق قيامه من الإنجاز والإتقان وضبط المواعيد، قال تعالى: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)) [المائدة:1]

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه»([518]).

يقول الشيخ الجزائري: وهو- الإحسان - في الأعمال البدنية بإجادة العمل، وإتقان الصنعة، وبتخليص سائر الأعمال من الغش([519]).

ومن الإحسان في الزراعة احتساب الأجر فيها, فقد جاء في الحديث عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ, أَوْ إِنْسَانٌ, أَوْ بَهِيمَةٌ, إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ»([520]).

يقول النووي: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث فَضِيلَة الْغَرْس, وَفَضِيلَة الزَّرْع, وَأَنَّ أَجْر فَاعِلِي ذَلِكَ مُسْتَمِرّ مَا دَامَ الْغِرَاس وَالزَّرْع, وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي أَطْيَب المَكَاسِب وَأَفْضَلهَا فَقِيلَ: التِّجَارَة, وَقِيلَ: الصَّنْعَة بِالْيَدِ, وَقِيلَ: الزِّرَاعَة, وَهُوَ الصَّحِيح, وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث أَيْضًا أَنَّ الثَّوَاب وَالْأَجْر فِي الْآخِرَة مُخْتَصّ بِالمُسْلِمِينَ, وَأَنَّ الْإِنْسَان يُثَاب عَلَى مَا سُرِقَ مِنْ مَاله أَوْ أَتْلَفَتْهُ دَابَّة أَوْ طَائِر وَنَحْوهمَا([521]).

وكما نعلم أن الأنصار كانوا يشتغلون بالزراعة, كما يقول الصحابي رافع رضي الله عنه : «كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ المَدِينَةِ حَقْلًا, وَكَانَ أَحَدُنَا يُكْرِي أَرْضَهُ فَيَقُولُ: هَذِهِ الْقِطْعَةُ لِي وَهَذِهِ لَكَ, فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ ذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ ذِهِ, فَنَهَاهُم النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»([522]).

وألا يلهو الإنسان بزراعته عن ذكر الله وعن الجهاد؛ لأنه ورد وعيد على صاحبه، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ, وَرَأَى سِكَّةً وَشَيْئًا مِنْ آلَةِ الْحَرْثِ فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَدْخُلُ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ الله الذُّلَّ»([523]).

يقول ابن حجر: إِمَّا أَنْ يُحْمَل مَا وَرَدَ مِن الذَّمّ عَلَى عَاقِبَة ذَلِكَ وَمَحَلّه مَا إِذَا اِشْتَغَلَ بِهِ فَضَيَّعَ بِسَبَبِهِ مَا أُمِرَ بِحِفْظِهِ, وَإِمَّا أَنْ يُحْمَل عَلَى مَا إِذَا لَمْ يُضَيِّع إِلَّا أَنَّهُ جَاوَزَ الْحَدّ فِيهِ. وَالَّذِي يَظْهَر أَنَّ كَلَام أَبِي أُمَامَةَ مَحْمُول عَلَى مَنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ, أَمَّا مَنْ لَهُ عُمَّال يَعْمَلُونَ لَهُ وَأَدْخَلَ دَاره الْآلَة المَذْكُورَة لِتُحْفَظ لَهُمْ فَلَيْسَ مُرَادًا([524]).

فيفهم مما سبق أن الاشتغال بالزراعة ليس منهيًا عنه بالعموم- وبالأخص إذا قام الإنسان بزكاتها - لأن من أهل الجنة من يشتهي الزرع؛ كما جاء في الحديث عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ, فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ قَالَ: بَلَى وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ. قَالَ: فَبَذَرَ فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ فَكَانَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ. فَيَقُولُ الله: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ فَإِنَّهُ لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ, فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَالله لَا تَجِدُهُ إِلَّا قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ, فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»([525]).

قال ابن حجر: قَالَ ابْن المُنِير: وَجْهه أَنَّهُ نُبِّهَ بِهِ عَلَى أَنَّ أَحَادِيث النَّهْي عَن كِرَاء الْأَرْض إِنَّمَا هِيَ عَلَى التَّنْزِيه لَا عَلَى الْإِيجَاب, لِأَنَّ الْعَادَة فِيمَا يَحْرِص عَلَيْهِ ابْن آدَم أَنَّهُ يُحِبّ اسْتِمْرَار الانْتِفَاع بِهِ, وَبَقَاء حِرْص هَذَا الرَّجُل عَلَى الزَّرْع حَتَّى فِي الْجَنَّة دَلِيل عَلَى أَنَّهُ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ, وَلَوْ كَانَ يَعْتَقِد تَحْرِيم كِرَاء الْأَرْض لَفَطَمَ نَفْسه عَن الْحِرْص عَلَيْهَا حَتَّى لَا يَثْبُت هَذَا الْقَدْر فِي ذِهْنه هَذَا الثُّبُوت([526]).

واستعمال الطرق المباحة في الزراعة لزيادة الإنتاج، فهذا لا ينافي التوكل، بل هذا من التدبير الجائز، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تأبير النخل ثم أباحه حينما نقص الإنتاج، وذكر قاعدة مهمة في امتثال أوامره فعن رَافِع بْن خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمَ نَبِيُّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِينَةَ وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ، يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ فَقَالَ: «مَا تَصْنَعُونَ ؟» قَالُوا: كُنَّا نَصْنَعُهُ.قَالَ: «لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا». فَتَرَكُوهُ فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ. قَالَ: فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ, وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ»([527]).

 فيفهم من هذا الحديث أن (التكنولوجيا) الزراعية الحديثة، و(التقنية) التي تزيد القدرة الإنتاجية للزرع يستحب استعمالها، والاستفادة من منافعها، وأن هذا لا ينافي التوكل، بل هو من أخذ الأسباب المشروعة.

وإخراج زكاتها، وقد جاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فِيمَا سَقَت السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ, وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْر»([528]).

 ويرجع إلى كتب الفقه لمعرفة التفاصيل في مقدار الزكاة.

وإخراج الزكاة سبب النماء في الإنتاج والعصمة من الآفات، وإن الله يحفظه من كل مكروه, ويبارك في عمله, كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قصة رجل من بني إسرائيل الذي كان يراعي حقوق العباد في زرعه؛ فعَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ ؟ فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ, فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ, فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدْ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ المَاءَ كُلَّهُ, فَتَتَبَّعَ المَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ المَاءَ بِمِسْحَاتِهِ, فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ الله مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ. لِلِاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ, فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ الله لِمَ تَسْأَلُنِي عَن اسْمِي؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ لِاسْمِكَ, فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟ قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ, وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا, وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ...وفي رواية: «وَأَجْعَلُ ثُلُثَهُ فِي المَسَاكِينِ وَالسَّائِلِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ»([529]).

قال النووي في شرحه: «وَفِي الْحَدِيث فَضْل الصَّدَقَة وَالْإِحْسَان إِلَى المَسَاكِين وَأَبْنَاء السَّبِيل, وَفَضْل أَكْل الْإِنْسَان مِنْ كَسْبه, وَالْإِنْفَاق عَلَى الْعِيَال».

وإن البخل وإمساك اليد يستوجب رفع البركة منه، وحلول غضب الله على صاحبه، كما يجلب الدمار والهلاك لزرعه، وإصابة آفات سماوية لحقله، وقصة أصحاب الجنة خير دليل وأصدق شاهد على قولنا؛ فلما بخلوا وأرادوا منع الفقراء والمساكين من الوصول إلى حديقتهم أنزل الله على حديقتهم آفة سماوية فاستحالت عن النضارة والزهرة وكثرة الثمار إلى أن صارت سوداء مدلهمة، لا ينتفع بشيء منها. قال تعالى: (( إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )) [القلم:33] .

يقول ابن كثير: «ذكر بعض السلف أن هؤلاء قد كانوا من أهل اليمن، وقيل: كانوا من أهل الحبشة، وكان أبوهم قد خلف لهم هذه الجنة، وكانوا من أهل الكتاب، وقد كان أبوهم يسير فيها سيرة حسنة، فكان ما استغله منها يرد فيها ما يحتاج إليه، ويدخر لعياله قوت سنتهم، ويتصدق بالفاضل. فلما مات وورثه بنوه، قالوا: لقد كان أبونا أحمق إذ كان يصرف من هذه شيئا للفقراء، ولو أنا منعناهم لتوفر ذلك علينا. فلما عزموا على ذلك عوقبوا بنقيض قصدهم، فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية، ورأس المال والربح والصدقة، فلم يبق لهم شيء»([530]).

وكما جاء في الحديث عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا, وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»([531]).

قال النووي: قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا فِي الْإِنْفَاق فِي الطَّاعَات وَمَكَارِم الْأَخْلَاق وَعَلَى الْعِيَال وَالضِّيفَان وَالصَّدَقَات وَنَحْو ذَلِكَ, بِحَيْثُ لَا يُذَمُّ وَلَا يُسَمَّى سَرَفًا, وَالْإِمْسَاك المَذْمُوم هُوَ الْإِمْسَاك عَن هَذَا([532]).

ومن الإحسان في الصناعة أن يجيدها ويتقنها لأن الغش في جميع الأمور منهي عنه، فعلى المسلم أن يتجنب الغش في جميع أعماله، فقد ورد الوعيد الشديد في ذلك، كما جاء في الحديث عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا, وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا»([533]).

وعند الترمذي تفصيل لهذه الواقعة فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى صُبْرَةٍ مِنْ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا, فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا, فَقَالَ: «يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ مَا هَذَا؟» قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ الله. قَالَ: «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ؟» ثُمَّ قَالَ: «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا» قَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ, وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ كَرِهُوا الْغِشَّ, وَقَالُوا: الْغِشُّ حَرَامٌ([534]).

يقول صاحب التحفة: قَالَ النَّوَوِيُّ: كَذَا فِي الْأُصُولِ وَمَعْنَاهُ مِمَّن اهْتَدَى بِهَدْيِي وَاقْتَدَى بِعِلْمِي وَعَمَلِي وَحُسْنِ طَرِيقَتِي، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَرْضَ فِعْلَهُ: لَسْت مِنِّي. وَهَكَذَا فِي نَظَائِرِهِ مِثْلِ قَوْلِهِ: مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا. وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَكْرَهُ تَفْسِيرَ مِثْلِ هَذَا أَوْ يَقُولُ: بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْلِ, بَلْ يُمْسِكُ عَن تَأْوِيلِهِ لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ وَأَبْلَغَ فِي الزَّجْرِ انْتَهَى. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْغِشِّ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ([535]).

وأن لا يحتقر المهن والحرف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث أمته على التكسب بالحرف والعمل باليد؛ كما جاء في الحديث، عَن الْمِقْدَامِ رضي الله عنه عَن رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ, وَإِنَّ نَبِيَّ الله دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِه ِ»([536]).

يقول ابن حجر: وَوَقَعَ فِي المُسْتَدْرَك عَن ابْن عَبَّاس بِسَنَدٍ وَاهٍ«كَانَ دَاوُدُ زَرَّادًا, وَكَانَ آدَمُ حَرَّاثًا, وَكَانَ نُوحٌ نَجَّارًا, وَكَانَ إِدْرِيسُ خَيَّاطًا, وَكَانَ مُوسَى رَاعِيًا».

وَفِي الْحَدِيث فَضْل الْعَمَل بِالْيَدِ, وَتَقْدِيم مَا يُبَاشِرهُ الشَّخْص بِنَفْسِهِ عَلَى مَا يُبَاشِرهُ بِغَيْرِهِ, وَالْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِ دَاوُدَ بِالذِّكْرِ أَنَّ اقْتِصَاره فِي أَكْلِهِ عَلَى مَا يَعْمَلُهُ بِيَدِهِ لَمْ يَكُنْ مِن الْحَاجَةِ لِأَنَّهُ كَانَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى, وَإِنَّمَا ابْتَغَى الْأَكْلَ مِنْ طَرِيقِ الْأَفْضَلِ, وَلِهَذَا أَوْرَدَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِصَّتَهُ فِي مَقَامِ الاحْتِجَاجِ بِهَا عَلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ أَنَّ خَيْرَ الْكَسْبِ عَمَلُ الْيَدِ, وَهَذَا بَعْدَ تَقْرِيرِ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا, وَلَا سِيَّمَا إِذَا وَرَدَ فِي شَرْعِنَا مَدْحُهُ وَتَحْسِينُهُ مَعَ عُمُوم قَوْله تَعَالَى: ((فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)). وَفِي الْحَدِيث أَنَّ التَّكَسُّب لَا يَقْدَح فِي التَّوَكُّل, وَأَنَّ ذِكْرَ الشَّيْء بِدَلِيلِهِ أَوْقَعُ فِي نَفْسِ سَامِعِهِ([537]).

وكان النبي زكريا عليه السلام نجارا, فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ زَكَرِيَّاءُ نَجَّارًا»([538]).

يقول النووي: فِيهِ جَوَاز الصَّنَائِع, وَأَنَّ النِّجَارَة لَا تُسْقِط المُرُوءَة, وَأَنَّهَا صَنْعَة فَاضِلَة. وَفِيهِ فَضِيلَة لِزَكَرِيَّاء صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَإِنَّهُ كَانَ صَانِعًا يَأْكُل مِنْ كَسْبه([539]).

وأن التكسب بعمل اليد خير من المسألة، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ منعه»([540]).

يقول النووي: فِيهِ الْحَثّ عَلَى الصَّدَقَة, وَالْأَكْل مِنْ عَمَل يَده, وَالِاكْتِسَاب بِالمُبَاحَاتِ كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيش النَّابِتَيْنِ فِي مَوَات([541]).

كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم صحابيا أن يحتطب في الغابة ويتعفف عن المسألة، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَجُلًا مِن الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ, فَقَالَ: أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ؟ قَالَ: بَلَى حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ, وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِن المَاءِ. قَالَ: ائْتِنِي بِهِمَا؟ قَالَ: فَأَتَاهُ بِهِمَا.فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟ قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ. قَالَ: مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ؟ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا قَالَ: رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ. فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ. وَقَالَ: اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ؟ فَأَتَاهُ بِهِ. فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُودًا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ, فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا, فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ المَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. إِنَّ المَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ, أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ, أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ»([542]).

فيفهم مما سبق أن التكسب بعمل اليد له فضلٌ كبيرٌ، وشرفٌ عظيمٌ، وأيضا الإتقان في جميع الأعمال مطلوبٌ، فليتقن الإنسان عمله، وينفع عباد الله، وأن يحذر من الغش والخديعة في مهاراته وأعماله. وذلك كله من الإحسان.


 الوقفة السابعة: الإحسان في الدعوة إلى الله

فلا يخفى على مسلم بصير بدينه أن الدعوة إلى الله وتبليغ دينه إلى عامة الناس من أهم الواجبات، قال تعالى: ((وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) [آل عمران:104].

 والدعوة إلى الله فضلها كبيرٌ, وأجرها عظيمٌ عند الله، فقد قال تعالى: ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) [فصلت:33]، وقال تعالى: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) [آل عمران:110]. وفضلها يتضح أكثر فيما جاء في الصحيح من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فوالله لأن يُهدَى بك رجلٌ واحدٌ خيرٌ لك من حمر النعم»([543]) وقوله صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله»([544]).

 ومن فضلها أيضًا أن الدعوة ميراث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ((يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)) [المائدة:67]، ويكرم الداعية بمعية النبي صلى الله عليه وسلم لقيامه بمهمة الدعوة لقوله تعالى: ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)) [يوسف:108].

 فعلى الداعية إلى الله أن يجد ويجتهد في تبليغ دين الله حسب طاقته وبكل ما يملك من طاقاته ووسائله؛ بالكتابة والخطابة والتوجيه والكلمة والدروس.

ومن الإحسان في الدعوة أن يتصف الداعية بصفات حميدة وأخلاق حسنة، ومنها ما يلي:

1- الإخلاص: لا يمكن أن تنجح الدعوة ويصل الداعية إلى هدفه المنشود إلا بالإخلاص لله وحده، لا أجرًا في الدنيا ولا رياءً ولا سمعةً، وإنما طمعًا في ثواب الله وأجره، وإصلاحاً لعقيدة الناس وعباداتهم ومعاملاتهم وأخلاقهم، ويكون شعاره: ((يَاقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي)) [هود:51].

2- محبة الله ورسوله: الداعية والمربي من أعظم المحبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فكلما يعظم هذا الحب في القلوب فيعظم في السلوك، فعليه أن يكون ثابتًا على استمرار المحبة في جميع الأوقات والأمكنة والأحوال والظروف، لا أن يكون الحب دعوى، أو في وقت دون آخر، فهذا مخادعة للنفس، ومجانبة للطريق، فالمحب ثابت في مبدئه لمن أحبه لا يكون في حال دون حال.

3- العلم: فالداعية يجب أن تكون دعوته على بينة وعلم بما يدعو إليه، يقول تعالى: ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)) [يوسف:108]، والذي يدعو بغير علم قد يدعو إلى الشر ويحسبه معروفًا، أو ينهى عن المعروف ويحسبه منكرًا.فليعلم الداعية أن (لا أدري) نصف العلم، فلا يقول فيما لا يعلم، والله سبحانه وتعالى قد حرم أن يقول الناس على الله ما لا يعلمون، قال تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [الأعراف:33].

4- الحلم والرفق: إن عملية الدعوة تحتاج إلى كثير من الرفق بالمدعو، وديننا الإسلامي دين المحبة والأخوة، ودين التواد والتراحم، وأشاع هذه الصفة في المجتمع ليسود الود والوئام، وتتفشى الأخوة والترابط، وتعلو السماحة والبشر، تمثلت هذه المعاني في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم وسلوكه، وعلاقاته وارتباطاته، قال تعالى: ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) [القلم:4] ومما جعل دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ناجحة كونه صلى الله عليه وسلم لينًا هينًا رفيقًا بشوشًا حليمًا، يقول تعالى: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)) [آل عمران:159]، وقد أوصى الله سبحانه موسى وهارون عليهما السلام بالقول اللين مع فرعون وهو من أطغى الطغاة، قال تعالى: (( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى )) [طه:44].

5- كما عليه أن يكون طليق الوجه فلا يكن عبوسًا: فإن طلاقة الوجه تبشر بالخير، ويقبل عليه الناس، والوجه العبوس يسبب نفور الناس منه. وهو من المعروف الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته: فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحْقِرَنَّ مِن المَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ»([545]).

 قال النووي: فِيهِ الْحَثّ عَلَى فَضْل المَعْرُوف, وَمَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَإِنْ قَلَّ, حَتَّى طَلَاقَة الْوَجْه عِنْد اللِّقَاء.

6- الصبر: إن الداعية قد يواجه في دعوته عدم القبول، وقد يتلقى مقابل دعوته السخرية والاستهزاء، والداعية الناجح هو الذي يصبر في مثل هذه المواقف ويتحمل الأذى ولا يغضب، وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر فقال: ((وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا)) [المزمل:10]، وقال تعالى: (( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ )) [الحجر:99].

ويدخل فيه المواصلة والاستمرار في الدعوة، وعدم الاستعجال للنتائج والثمار. فليبذل كل داعية بما أوتي من قوة في سبيل دعوته، يقول الشاعر:

على المرء أن يسعى إلى الخير جهده           وليس عليه أن تتم المقاصد

وخير من قول الشاعر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد»([546]).

7- التواضع وعدم الكبر: إن الناس يحبون المتواضع الذي لا يتجبر عليهم ولا يتكبر، وللداعية في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتعاهد الناس ويقوم بحاجاتهم مع عظم مسئولياته، كما جاء في الحديث عَن حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الْخُزَاعِيِّ رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الجَنَّةِ ؟كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَاعِفٍ ؛لَوْ أَقْسَمَ عَلَى الله لَأَبَرَّهُ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ ؟كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ» وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: «إِنْ كَانَت الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ المَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ»([547]).

 وفي مسند أحمد عن ابنة لخباب قالت: «خرج خباب في سرية فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعاهدنا حتى كان يحلب عنزا لنا، قالت:فكان يحلبها حتى يطفح أو يفيض»([548]).

8- أن يصفي الداعية والمربي قلبه من كل شائبة، فيكون شعاره العميق في نفسه: (المحبة) المحبة للآخرين، يحب الخير لهم، ويكره الشر أن يصيبهم، يحب ولا يبغض، محبة يظهر أثرها على أقواله، ويتصورها الناظر في أفعاله.

وأن يجلي المربي والداعية هذه المحبة في علاقاته مع الآخرين سواء حال الدعوة، أو حال التعامل العام، فلا يفصل بين سلوك وآخر، ولا بين حال وأخرى، يحبهم حال دعوته كما يحبهم حال بيعه وشرائه معهم، وحال سمره ومحادثاته، وحال توجيهه وتدريسه، وهكذا.، وأن تتمثل تلك المحبة برنامجاً عملياً في حياته فيكون خلقاً له لا تخلقاً ولا تصنعاً، فيدرب نفسه على ذلك ولو بالتخلق في البداية، فالحلم بالتحلم، والعلم بالتعلم، وعليه فتكون المحبة خلقاً متأصلاً فيه، وأن يدلل على محبته لهم فيما يظهر عليه من سلوك وتصرفات، فيطعم جائعهم، ويعطي فقيرهم، ويرحم ضعيفهم، ويتصدق على محتاجهم، ويشفع لمتشفعهم، كما يهدي ويهب ويتصدق وكل ذلك بنفس رضية، وابتسامة حانية، وقلب أيبض، لا يبتغي من وراء ذلك جزاءً ولا شكورًا إلا من الله سبحانه وتعالى. فليعي هذا المربون والدعاة.

أن لا يناقض قوله فعله: من المهم للداعية أن لا يكون ممن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم, فإن هذه خصلة ذميمة قال تعالى: (( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ )) [الصف:3] كما أنكر تعالى على بني إسرائيل هذه الخصلة الذميمة بقوله: ((أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)) [البقرة:44] فالتناقض بين القول والفعل علامة على ضعف المحبة لله تعالى ولرسوله عليه الصلاة والسلام.

ومن الإحسان في الدعوة اتخاذ الوسائل المناسبة والطرق المفيدة في الدعوة والسير على القواعد الدعوية المهمة؛ومنها:

اختيار أقوى الطرق تأثيرًا إلى قلب المدعو وقد أشير إلى بعضها في هذه الآية الكريمة، قال تعالى: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [النحل:125].

فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناس بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، أي: من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق, ولين, وحسن خطاب، كما قال تعالى: ((وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)) [العنكبوت:46].

البدء بالأهم فالمهم: ويدل عليه حديث معاذ حينما بعثه إلى اليمن، ففي الصحيحين أن معاذًا رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلواتٍ في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب»([549]).

 ومما يجب على الداعية أن يعرف أن أهم ما يدعو إليه الناسَ هو توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة, وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام مصداقًا لقوله تعالى: ((أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ)) [نوح:3]، ثم يدخل في الدعوة إلى الله ببقية الشرائع.

تنوع البرامج: البرامج الدعوية إذا كانت على نمط واحد فإن المدعو قد يمل، لذا لا بد من تقديم البرامج المتنوعة، إذا كانت البرامج متنوعة تشد انتباه المستمعين، وتترك أثرًا عميقًا في قلوبهم ومن ثمّ على سلوكهم.

أن يجتنب الإفراط والتفريط في الدعوة، فلا يقصر ولا يتجاوز الحد، والطريق الوسط هو المطلوب في جميع الأمور، وخير الأمور أواسطها.

معرفة المكان والزمان والحال الذي يمارس فيها الدعوة، فكل ذلك يعين على نجاح دعوته، والسير فيها سيراً حسناً.

إعطاء كل ذي حق حقه، في نوعية الخطاب والكلام، فالرجال يختلفون عن النساء، والصغار يختلفون عن الكبار، وهكذا.

ومن الإحسان في الدعوة إلى الله عز وجل تقدير المصالح والمفاسد الشرعية، فيعمل للمصالح وتكثيرها، ويدرأ المفاسد ويقللها. وهذه قاعدة عظيمة من قواعد الشرع، وأصل عظيم من أصوله، فيتنبه إليه.

 فهذه بعض الخصال التي إذا اتصف بها الداعي أصبح داعية حقاً إلى الله بعمله قبل أن يكون بكلامه، وبسلوكه قبل أن يكون بتوجيهه، ويكون محسنًا في دعوته، فيؤتى أجره مرتين أو ثلاثاً، فياله من فضل عظيم يجده الداعية والمربي والموجه في دنياه وآخرته، جعلني الله وإياكم كذلك.

 والحاجة إلى الدعوة إلى الله في هذا الزمن أصبحت أشد من أي زمن مضى لما انتشر من الجهل والمعاصي والضلالات العقدية والمذهبية وغيرها. وفق الله الجميع للقيام بالدعوة.


 الوقفة الثامنة: أثر الإحسان على الفرد في الدنيا والآخرة

إن الإسلام أمر المسلمين على التعامل بالحسنى في كل شيء، لأن له ثمراتٍ ناضجةً، وآثارًا حميدةً، تعود على الفرد في الدنيا والآخرة، منها:

 ازدياد إيمان العبد: إن من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وأن الإحسان من أعلى مراتب الطاعات، بل هو لب الطاعات، ولذلك اقترنه جبريل مع السؤال بالإيمان والإسلام حينما سأل النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما في حديث جبريل الشهير: عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ. قَالَ: مَا الْإِسْلَامُ ؟ قَالَ: الْإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ الله، وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ.قَالَ: مَا الْإِحْسَانُ ؟ قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ. قَالَ: مَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ: مَا المَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ، وَسَأُخْبِرُكَ عَن أَشْرَاطِهَا؛ إِذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ رَبَّهَا، وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الْإِبِلِ الْبُهْمُ فِي الْبُنْيَانِ، فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا الله، ثُمَّ تَلَا النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ )) الْآيَةَ، ثُمَّ أَدْبَرَ، فَقَالَ: رُدُّوهُ فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا، فَقَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ»([550]).

 فالإحسان سبب زيادة إيمان العبد، بل أعلا مراتب العبودية لله سبحانه وتعالى.

 ذوق طعم الإيمان: إن الإحسان مع الخلق، وبالأخص بعباد الله الصالحين يورث حبهم في الله، بل الإنسان لا يقدم على الإحسان إلا إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان، وممتلئاً بحب عباد الله، وهذا سبب ذوق طعم الإيمان كما جاء في الحديث: عَن أَنَسٍ رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ ؛مَنْ كَانَ الله وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لله، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ الله مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»([551]).

 ذوق طعم العبادات: لأنك متى أتيت بالعبادات كأنك ترى الله فإن لم تكن تراه فإنه يراك فقد قمت بحق العبادة، وإن للعبادات لذة وحلاوة يجدها من قام بها مراعياً أركانها وآدابها، و كثير من قصص السلف شاهدة على قولنا، فعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، فَأَصَابَ رَجُلٌ امْرَأَةَ رَجُلٍ مِن المُشْرِكِينَ، فَحَلَفَ أَنْ لَا أَنْتَهِيَ حَتَّى أُهَرِيقَ دَمًا فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، فَخَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلًا فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَكْلَؤُنَا؟ فَانْتَدَبَ رَجُلٌ مِن المُهَاجِرِينَ وَرَجُلٌ مِن الْأَنْصَارِ. فَقَالَ: كُونَا بِفَمِ الشِّعْبِ. قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلَانِ إِلَى فَمِ الشِّعْبِ اضْطَجَعَ المُهَاجِرِيُّ وَقَامَ الْأَنْصَارِيُّ يُصَلي، وَأَتَى الرَّجُلُ فَلَمَّا رَأَى شَخْصَهُ عَرَفَ أَنَّهُ رَبِيئَةٌ لِلْقَوْمِ، فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَوَضَعَهُ فِيهِ، فَنَزَعَهُ حَتَّى رَمَاهُ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ، ثُمَّ انْتَبَهَ صَاحِبُهُ، فَلَمَّا عَرِفَ أَنَّهُمْ قَدْ نَذِرُوا بِهِ هَرَبَ، وَلَمَّا رَأَى المُهَاجِرِيُّ مَا بِالْأَنْصَارِيِّ مِن الدَّمِ قَالَ: سُبْحَانَ الله! أَلَا أَنْبَهْتَنِي أَوَّلَ مَا رَمَى؟ قَالَ: كُنْتُ فِي سُورَةٍ أَقْرَؤُهَا فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ أَقْطَعَهَا»([552]).

 وقال ميمون بن حيان: «ما رأيت مسلم بن يسار ملتفتًا في صلاته قط، خفيفة ولا طويلة، ولقد انهدمت ناحية المسجد، ففزع أهل السوق لهدته، وإنه لفي المسجد في صلاة فما التفت».

وجاء في بعض تراجم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه كان إذا كبر للإحرام في صلاته يهابه من حوله لوقاره وخشوعه.

فهذه النماذج المشرقة تدلنا أنهم وجدوا لذة العبادة، وهي لم تحصل لهم إلا بإحسانهم في عباداتهم.

 الفلاح في الآخرة ودخول الجنة: إن الإحسان في العبادة يجلب الخشوع والخضوع فيها، وهو سبب من أسباب الفلاح في الآخرة، كما قال تعالى: (( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ )) [المؤمنون:2]، وهو سبب دخول الجنة كما قال تعالى في صفات أهل الجنة: (( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ )) [الذاريات:16]. وقال في موضع آخر: (( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ )) [المرسلات:44].

 الإحسان دليل التقوى كما قال تعالى: ((وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)) [آل عمران:133] ثم ذكر خصال التقوى ومنها الإحسان مع الناس فقال تعالى: ((الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) [آل عمران:134].

 فوصف الله المتقين بأنهم ينفقون في السراء والضراء، ويعفون عن الناس، ويحتملون أذاهم، ويحسنون إليهم.

 كما أن الإحسان تكفير للسيئات: الإحسان إلى الخلق من الآدميين وغيرهم، وتفريج الكربات، والتيسير على المعسرين، يدفع السيئات قال تعالى: ((إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)) [هود:114]، يقول السعدي: والحسنة: اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله تعالى([553]).

 كما أنه من الخلق الحسن، يقول السعدي: وأول الخلق الحسن: أن تكف عنهم أذاك من كل وجه، وتعفو عن مساوئهم وأذيتهم لك، ثم تعاملهم بالإحسان القولي، والإحسان الفعلي([554]). وقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «وخالق الناس بخلق حسن»([555]).

 وصاحب الخلق الحسن يكون أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة: كما روى جَابِر رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا, وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيْهِقُونَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ الله قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ فَمَا المُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: المُتَكَبِّرُونَ». قَالَ أَبُو عِيسَى: وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ([556]).

 كما أن المحسن يتمتع بمحبة الله: قال تعالى: ((وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) [البقرة:195].

 يقول فضيلة الشيخ العثيمين رحمه الله: وهي محبة حقيقية على ظاهرها، وليس المراد بها الثواب ولا إرادة الثواب خلافا للأشاعرة وغيرهم من أهل التحريف.

وقال: وهل الأمر للوجوب أو للاستحباب ؟ فالجواب: أما الإحسان الذي به تمام الواجب فالأمر فيه للوجوب، وأما الإحسان الذي به كمال العمل فالأمر فيه للاستحباب([557]).

 إثبات معية الله عزوجل للمحسن: فقد ذكر تعالى في القرآن أن الله مع المتقين وكذلك مع المحسنين، فهذا من أعظم الفوائد للعبد، كما قال تعالى: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)) [البقرة:194] وقال أيضا: ((إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)) [النحل:128] ففيه فضيلة التقوى والإحسان، حيث ينال بها العبد معية الله، ومعلوم إذا كان الله معك ينصرك، ويؤيدك.

 كما أن المحسن محبوب عند الناس: فإذا أحب الله العبد أحبه جبريل، وأحبه جميع الناس، كما جاء في الحديث عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَحَبَّ الله الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ الله يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ, فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ. فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ الله يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ. ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأرض»([558]).

 كما أن رحمة الله قريب من المحسن: إن الإحسان يجلب رحمة الله عزوجل، كما قال تعالى: ((إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)) [الأعراف:56].

 كما أن المحسن يكون سليم الصدر، وهذا سبب دخول الجنة: فإذا كان الإنسان يحسن مع الله ومع الناس بل مع الحيوانات والجمادات يكون صدره سليما من الغل والحسد والكبر لإخوانه وهو سبب دخول الجنة، كما جاء في الحديث: عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ, فَطَلَعَ رَجُلٌ مِن الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ، قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ, فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ, فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ المَرَّةِ الْأُولَى, فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا, فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى, فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِعَهُ عَبْدُ الله بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ.قَالَ: نَعَمْ. قَالَ أَنَسٌ: وَكَانَ عَبْدُ الله يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا, غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ الله عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ, قَالَ عَبْدُ الله: غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا, فَلَمَّا مَضَتْ الثَّلَاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ, قُلْتُ: يَا عَبْدَ الله إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ, وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ, فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ, فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ. قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي, فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنْ المُسْلِمِينَ غِشًّا, وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ الله إِيَّاهُ. فَقَالَ عَبْدُ الله: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ, وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ»([559]).

 يكون المحسن من أشجع الناس: لأن المحسن يعيش وهو بعيد من العقد النفسية، وهذا يورثه شجاعة وجرأة.فكان الرسول صلى الله عليه وسلم أشجع الناس؛ لأنه كان من أحسن الناس، كما جاء في الحديث: عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ, ذُكِرَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ, وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ, وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ, وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ المَدِينَةِ لَيْلَةً فَانْطَلَقُوا قِبَلَ الصَّوْتِ، فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَنْ تُرَاعُوا يَرُدُّهُمْ, ثُمَّ قَالَ لِلْفَرَسِ: وَجَدْنَاهُ بَحْرًا أَوْ إِنَّهُ لَبَحْرٌ»([560]).

قال الحافظ: فَجَمَعَ صِفَات الْقُوَى الثَّلَاث الْعَقْلِيَّة وَالْغَضَبِيَّة وَالشَّهْوَانِيَّة, فَالشَّجَاعَة تَدُلّ عَلَى الْغَضَبِيَّة, وَالْجُود يَدُلّ عَلَى الشَّهْوَانِيَّة, وَالْحُسْن تَابِع لِاعْتِدَالِ الْمِزَاج المُسْتَتْبِع لِصَفَاءِ النَّفْس الَّذِي بِهِ جَوْدَة الْقَرِيحَة الدَّالّ عَلَى الْعَقْل, فَوُصِفَ بِالْأَحْسَنِيَّة فِي الْجَمِيع([561]).

وعن جُبَيْر بْن مُطْعِمٍ رضي الله عنه : بَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ النَّاسُ مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْنٍ, فَعَلِقَهُ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ, فَوَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَعْطُونِي رِدَائِي، لَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَلَا كَذُوبًا وَلَا جَبَانًا»([562]).

قال الحافظ: فَأَشَارَ بِعَدَمِ الْجُبْن إِلَى كَمَالِ الْقُوَّة الْغَضَبِيَّة وَهِيَ الشَّجَاعَة, وَبِعَدَمِ الْكَذِب إِلَى كَمَالِ الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة وَهِيَ الْحِكْمَة, وَبِعَدَمِ الْبُخْل إِلَى كَمَالِ الْقُوَّة الشَّهْوَانِيَّة وَهُوَ الْجُود([563]).

والإحسان سبب لعلاج الأمراض بمختلف أنواعها، فالصدقة من الإحسان، وقد جاء في الحديث: «داووا مرضاكم بالصدقة»([564]).

وورد أيضا عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ, وَتَدْفَعُ عَن مِيتَةِ السُّوءِ». قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ([565]).

أيضا: «صدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، وفعل المعروف يقي مصارع السوء»([566]).

وغيرها من الفوائد كثيرة، وما ذكر فهو غيض من فيض من ثماره الطيبة.


 الوقفة التاسعة: أثر الإحسان على المجتمع

إن للإحسان آثارًا جميلةً وفوائدَ جمةً تعود على المجتمع المسلم، وفيما يلي بيان لبعضها؛ منها:

شيوع الألفة والمحبة في المجتمع: ديننا الإسلامي دين المحبة والأخوة، ودين التواد والتراحم، أشاع مبدأ الإحسان في المجتمع ليسود الود والوئام، وتتفشى الأخوة والترابط، وتعلو السماحة والبشر، تمثلت هذه المعاني في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم وسلوكه، وعلاقاته وارتباطاته، قال تعالى: ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) [القلم:4]. وقال تعالى: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)) [آل عمران:159].

هذه المعاني العظيمة عند انتشارها بين المسلمين ترتفع الأحقاد والضغائن، و تختفي الشحناء والبغضاء، ويندحر الشيطان وأعوانه.

شيوع التراحم والتناصر في المجتمع: إن المجتمع الذي ينشأ أبناؤه على الإحسان مع الله ومع الخلق يكون من أسعد المجتمعات, يقوى فيهم التناصر والتعاون على الخير, ويكونون يداً واحدةً في الشدائد والمحن، ويصدق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ»([567]).

أيضا عَن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ المُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بالسهر والحمى»([568]).

استحقاق أجر المحبة في الله: إن التحاب في الله تعالى والأخوة في دينه من أفضل القربات، وألطف ما يستفاد من الطاعات، فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على التوادد والتحابب فيما بينهم كما جاء في الحديث عَن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ المُتَحَابِّينَ لَتُرَى غُرَفُهُمْ فِي الجَنَّةِ كَالْكَوْكَبِ الطَّالِعِ الشَّرْقِيِّ أَوْ الْغَرْبِيِّ، فَيُقَالُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ المُتَحَابُّونَ فِي الله عَزَّ وَجَلَّ»([569]).

و في الحديث القدسي: قال الله عز وجل: «حقت محبتي للمتحابين فيّ، وحقت محبتي للمتواصلين فيّ، وحقت محبتي للمتناصحين فيّ، وحقت محبتي للمتزاورين فيّ، وحقت محبتي للمتباذلين فيّ، المتحابون فيّ على منابر من نور يغبطهم بمكانهم النبيون والصديقون والشهداء»([570]).

 وهم صنف من السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه»([571]).

الإنفاق والإيثار: إن هذا المجتمع يتمتع أفراده بصفة الإنفاق والإيثار، كما تمثلت في سلوك الصحابة الكرام التي وصلت إلى ذروتها حتى آثروا بعضهم على أنفسهم مع ما ينالهم من الضيق في العيش، كما أشار القرآن إلى هذه الصفة الحميدة فيهم في قوله تعالى: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)) [الحشر:9].

ولقد حفظت لنا كتب التاريخ عجائب تذكر بأمثلة الصحابة رضي الله عنهم في الإنفاق والإيثار، ويكفي للمثال قصة صاحب الغار أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومن أروع القصص من حياته ما حدث في غزوة تبوك، يقول زَيْد بْن أَسْلَمَ عَن أَبِيهِ: قَال سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: «أَمَرَنَا رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ عِنْدِي مَالًا؛ فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، قَالَ: فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ ؟ قُلْتُ: مِثْلَهُ، وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمْ الله وَرَسُولَهُ، قُلْتُ: وَالله لَا أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا». قَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ([572]).

 وإن النبي صلى الله عليه وسلم ربى الصحابة على هذه الخصلة النبيلة، وإن المتأمل في مجتمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم في اتصافهم بهذه الخصلة يرى في أولئك البررة خير مثال يحتذى في علو همتهم وصادق عزيمتهم، وتسابقهم في الإنفاق في السراء والضراء، وإيثار الآخرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.

استشعار المسؤولية: إن المحسنين ليسوا أسعد الناس حالاً فحسب بل هم مع ذلك أقدر على العمل والإنتاج، وأكثر احتمالاً للمسؤولية، وأصلح لمواجهة الشدائد ومعالجة الصعاب، وأجدر بالإتيان بعظائم الأمور التي تنفعهم وتنفع الناس، علو الهمة وعزة النفس، فهذا عقبة بن نافع أحد قادة بني أمية يقف رحمه الله في أقصى المغرب بعد أن خاض بجواده بحر الظلمات المسمى بالمحيط الأطلسي يقف قائلاً: «اللهم رب محمد لو لا هذا البحر لفتحت الدنيا في سبيل إعلاء كلمتك اللهم فاشهد».

وهذا قتيبة الباهلي الذي توغل في آخر المشرق وأبى إلا أن يدخل بلاد الصين، فقال له أحد أتباعه محذراً مشفقاً: لقد أوغلت في بلاد الترك يا قتيبة، والحوادث بين أجنحة الدهر تقبل وتدبر، فأجابه قتيبة بقوله الخالد: «بثقتي بنصر الله توغلت، وإذا انقضت المدة لم تنفع العدة»، فلما رأى ذلك المحذر عزمه وتصميمه على المضي قال له: «اسلك سبيلك يا قتيبة فهذا عزمٌ لا يفله إلا الله».

 ولكن مع هذه الفتوحات العظيمة لم يظلموا الناس ولم يطغوا ولم يتجبروا عليهم، بل عاملوهم كما يعاملون أبناءهم وإخوانهم بالإحسان في كل شيء، ولذلك دخلوا في دين الله أفواجاً.

لذا نوصي الإخوة القراء أن يكون المسلم صاحب همة، وأن يجعل هدفه في الحياة الذروة في كل شيء، كما يقول الشاعر:

وإذا كانت النفوس كباراً              تعبت في مرادها الأجسام

مجتمع يكون أفراده من أحسن الناس خلقًا، وأكثرهم حلمًا وسماحةً وتواضعًا، وأحرصهم على مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويمكن أن نرى هذا الأنموذج الرفيع في مجتمع الصحابة، حيث كانوا من خير المجتمعات وأزكاها، تمثلوا أخلاق الإسلام وتعاليمه وآدابه في جميع شئونهم، وكان من نتيجة ذلك أن مجتمعهم وصل إلى أعلى قمة في الإحسان، فنعموا بالحياة الطيبة، وقويت هيبتهم في نفوس أعدائهم، وشهد لهم الأعداء قبل الأصدقاء بحسن خلقهم، وإن مما ساعد انتشار الإسلام حسن خلقهم وإحسانهم مع الناس، وتواضعهم مع خلق الله.

المنهج السوي: إن هذا المجتمع يقوم بمنهاجٍ سويٍ في جميع الأشياء، لأن أفراده اكتملوا جسديًا وخلقيا لتعودهم بهذه الصفة النبيلة، فلا تعتريه عوائق نفسية، ولا عقد داخلية، أو تيارات فكرية منحرفة، مجتمع يعيش أفراده بالراحة النفسية والفكرية، فلا قلق في النفس، ولا اضطراب في الفكر، ولكن - مع الأسف الشديد - ابتلينا في هذه الأيام بهذه الأفكار الضالة, والتيارات الهدامة، والآراء الشاذة التي أثرت في عقول بعض شبابنا هداهم الله إلى الصواب والحق؛ لأنهم لم يتصفوا بهذا المبدأ العظيم الذي يرشدهم إلى الإحسان مع جميع الخلائق، كما قال تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء:107].

اجتماع الكلمة التي ينتج عنها حصول القوة للمسلمين والانتصار على عدوهم، ويصدق عليهم قول الله تعالى: ((وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)) [الأنفال:46]، فبهذا يكون الدين غالبًا، ولو كرهه الكافرون كما قال تعال: (( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ )) [التوبة:33].

ولكن الناظر في واقع المسلمين اليوم يصيبه الألم والحزن لضعفهم، وتخلفهم، وتشتتهم أمام أعدائهم، ويرجع السبب في ذلك إلى تهرب كثير من الناس من تطبيق مبدأ الإحسان في حياتهم، لذا نرى لزاماً على المسلمين أن يستشعر كل فرد منهم مسئوليته تجاه أفراد مجتمعه، ويبذل ما فيه قصارى جهده لائتلاف الكلمة, ورأب الصدع، والبعد عن كل ما يشتت كلمة المسلمين، ويمزق جمعهم، فهذا من أعظم خطوات البناء في تقوية أساس المجتمع.

فهذه بعض آثار الإحسان على الفرد والمجتمع، أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلني وإياكم من المحسنين.


 الخـاتـمـة

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد...

فقد كنا وأنتم فيما مضى من الصفحات مع هذا الحديث العظيم الذي يدل على مبدأ عظيم من مبادئ الدين. وبحثنا بشيء من الإيجاز والإشارة مما يغني عن التطويل وصريح العبارة عن أهم مواضع هذا الحديث، فمن أهم ما خرجنا به من القضايا العظيمة:

* إن الإحسان مبدأ إسلامي عظيم.

* وهو ثالث الثلاثة التي سأل عنها جبريل النبي صلى الله عليه وسلم.

* ومن الخصال التي يجد بها العبد حلاوة الإيمان الإحسان، وأن التلذذ بهذه الحلاوة بقدر مراعاة العبد جانب الإحسان في الأعمال.

* والإحسان على قسمين:

 أ - الإحسان مع الله عز وجل.

ب- الإحسان مع الخلق.

* من الإحسان ما هو واجب ومستحب؛ فالإحسان الذي به تمام الوجوب فهو واجب، وأما الإحسان الذي به كمال العمل فهو مستحب.

* كما تعرفنا من خلال هذه العجالة السريعة على معنى الإحسان، وأهميته في الإسلام، وأقسامه، وأتينا بشيء من الإطناب على مبحث الإحسان مع الخلق: من الوالدين، والزوجين مع بعضهما البعض، والأولاد، والأرحام، والجيران، والعامة من المسلمين، وغير المسلمين، مستدلين من الكتاب والسنة، وأقوال السلف الصالح رحمهم الله أجمعين.

كما تعرضنا لمبحث الإحسان مع الحيوانات والجمادات، والإحسان في العمل، والإحسان في الدعوة، وقبل الختام تحدثنا عن آثار الإحسان على الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة، ثم الخاتمة.

 فعلى المسلم الحصيف أن يحاول جهده وإمكاناته بالتمسك بهذا الجانب، حتى يحور برضا الرب تبارك وتعالى، وفق الله تعالى ذلك لكل مسلم، إنه سميع قريب مجيب.

 هذا وأسأل الله تعالى أن يجعل هذا الجهد المتواضع من المدخرات في الحياة وبعد الممات. وما كان فيه من صواب وخير فمن الله وحده، فأسأل الله تعالى الثواب والجزاء الحسن عليه، وما كان فيه غير ذلك فمني ومن الشيطان, وأسأل الله العفو عن التقصير والزلل والخطأ، ومن وجد من إخواني وأخواتي القراء والقارئات ما يحتاج إلى نصح وتوجيه، أو اقتراح فأنا له من الشاكرين. لأن هذا من التعاون على البر والتقوى، وقد أمر الله به في محكم تنزيله في قوله تعالى: ((وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) [المائدة:2].

 وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

وكتبـــه:

فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض

ص.ب 41961، الرياض 11531

الرياض 10/1/1427هـ

 [email protected]




([1]) الموطأ للإمام مالك، كتاب القدر، باب النهي عن القول بالقدر، ص:564. وينظر ما كتبته عن هذا الحديث في الرسالة المستقلة.

([2]) تفسير القرطبي، المجلد الخامس، 10/ 165.

([3]) ينظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي، ص:279.

([4]) سير أعلام النبلاء للذهبي:4/358.

([5]) شرح سنن النسائي للسندي، (المجلد الرابع) 7/ 229.

([6]) تفسير الطبري 3/ 152.

([7]) شرح سنن النسائي للسندي (المجلد الرابع) 7/ 227.

([8]) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي 2/ 310.

([9]) شرح سنن ابن ماجه للسندي، (المجلد الرابع) 7/ 227.

([10]) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي 2/ 310.

([11]) تفسير القرطبي، المجلد الخامس، 10/ 166.

([12]) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان، برقم: (50)، ومسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، برقم: (9).

([13]) فتح القدير للشوكاني 3/ 188.

([14]) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي 2/ 310.

([15]) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي 2/ 310, وعون المعبود شرح سنن أبي داود، 8/ 10.

([16]) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي 2/ 310.

([17]) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 4/ 13، ولسان العرب لابن منظور، المجلد السابع، 14/67.

([18]) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي 2/ 310.

([19]) شرح سنن النسائي للسندي، (المجلد الرابع) 7/ 227.

([20]) شرح صحيح مسلم للنووي، (المجلد الخامس) 13/ 107.

([21]) المرجع السابق.

([22]) عون المعبود شرح سنن أبي داود للعظيم آبادي 8/ 10.

([23]) شرح صحيح مسلم للنووي، (المجلد الخامس) 13/ 107.

([24]) القاموس المحيط للفيروزآبادي، 1/297.

([25]) مختار الصحاح للرازي ص:126.

([26]) شرح سنن النسائي للسندي، (المجلد الرابع) 7/ 227.

([27]) القاموس المحيط للفيروزآبادي، 2/63.

([28]) شرح مسلم للنووي، (المجلد الخامس) 13/ 107.

([29]) مختار الصحاح للرازي ص:219.

([30]) تفسير القرطبي، المجلد الخامس، 10/ 165.

([31]) سبق تخريجه ص(15).

([32]) ينظر: منهاج المسلم للشيخ أبي بكر الجزائري، ص:152-153.

([33]) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، برقم: (2594).

([34]) سبق تخريجه ص(15).

([35]) معالم التنزيل للبغوي 2/632.

([36]) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي، 3/354.

([37]) شرح مسلم للنووي، المجلد الأول، (1/157-158).

([38]) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي، 3/354.

([39]) شرح سنن النسائي للسندي، المجلد الرابع، 8/99.

([40]) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني 1/ 120.

([41]) صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله، برقم: (2985).

([42]) شرح صحيح مسلم للنووي، المجلد التاسع، (18/ 115-116).

([43]) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، برقم: (1905).

([44]) شرح صحيح مسلم للنووي، المجلد الخامس، (13/ 50-51).

([45]) سنن ابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، برقم: (4034).

([46]) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب كون هذه الأمة نصف أهل الجنة، برقم: (221).

([47]) مسند أحمد (3/349).

([48]) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب: قوله تعالى: فلا تجعلوا لله أندادا، برقم: (4477)، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده (86).

([49]) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على الكفر لا ينفعه، برقم: (214).

([50]) شرح صحيح مسلم للنووي، المجلد الأول (3/87).

([51]) ينظر: القول المفيد شرح كتاب التوحيد للعثيمين:1/ 8- 20 بتلخيص.

([52]) نقلاً من كتاب: درأ تعارض العقل والنقل لابن تيمية، 1 / 160.

([53]) صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: ﴿ãNà2â‘Éj‹yÛãƒuﷺ‬ ª!$# ¼çm|¡øÿtR 3 ﴾، برقم: (7405).

([54]) مسند أحمد، مسند المكثرين (2/391).

([55]) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي، للمباركفوري 3/282.

([56]) سنن الدارمي، كتاب: الرقاق، باب: في حسن الظن بالله، برقم: (2731).

([57]) صحيح مسلم، كتاب: الجنة وصفة نعيمها، باب: الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت، برقم: (2877).

([58]) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي، للمباركفوري 3/282.

([59]) صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء والصلاة عقبه، برقم: (232).

([60]) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من رفع صوته بالعلم، برقم: (60).

([61]) صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما، برقم: (241).

([62]) تيسير الكريم الرحمن للسعدي، ص:174.

([63]) سنن النسائي، كتاب الإمامة، باب الجماعة إذا كانوا اثنين، برقم: (844).

([64]) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب في وقت صلاة العصر، برقم: (413).

([65]) صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة، برقم: (419).

([66]) فتح الباري شرح صحيح البخاري لاين حجر العسقلاني (1/515).

([67]) مسند أحمد (4/319).

([68]) مسند أحمد (5/310).

([69]) صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب فضل صلاة الجماعة، برقم: (647).

([70]) صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب، برقم: (1410).

([71]) سنن النسائي، كتاب الزكاة، باب جهد المقل، برقم: (2528).

([72]) شرح سنن النسائي للسندي، المجلد الثالث 5/ 59-60.

([73]) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب صوم رمضان احتساباً من الإيمان، برقم: (38).

([74]) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني 4/115.

([75]) جامع الترمذي، كتاب الأضاحي، باب ما جاء في فضل الأضحية، برقم: (1493).

([76]) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي، 2/ 372.

([77]) صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم، برقم: (1903).

([78]) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني 4/117بتصرف.

([79]) صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام، برقم: (1151).

([80]) صحيح البخاري، كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور، برقم: (1521).

([81]) صحيح البخاري، كتاب الحج، باب وجوب العمرة وفضلها، برقم: (1773).

([82]) صحيح مسلم بشرح النووي، المجلد الثالث، 9 / 118- 119.

([83]) صحيح مسلم، كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً، برقم: (1297).

([84]) مسند أحمد (3/332).

([85]) صحيح البخاري، كتاب الحج، باب التلبية، برقم: (1549).

([86]) صحيح مسلم، كتاب الحج، باب التلبية وصفتها ووقتها، برقم: (1185).

([87]) شرح مسلم للنووي، المجلد الثالث، (8/90).

([88]) من أراد التوسع في هذه النقطة فليراجع كتابنا: معالم التوحيد في الحج.

([89]) صحيح البخاري، كتاب: الأدب، باب: البر والصلة، برقم:(2782)، ورواه مسلم، كتاب: البر والصلة، باب: تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة، برقم:(85).

([90]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي،المجلد الخامس، 10/238.

([91]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي،المجلد الثالث، 5/183.

([92]) صحيح البخاري، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: فضل الصلاة لوقتها، برقم:(527)، ورواه مسلم، كتاب: الإيمان، باب: بيان كون الإيمان باﷲ تعالى أفضل الأعمال، برقم:(85).

([93]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي،المجلد الخامس، 10/238.

([94]) صحيح البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: الجهاد بإذن الوالدين، برقم:(3004)، ورواه مسلم، كتاب: البر والصلة، باب: بر الوالدين وأنهما أحق به، برقم:(2549).

([95]) رواه الإمام أحمد في المسند، برقم: (2/160).

([96]) ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، المجلد الخامس، 10/240، بتصرف.

([97]) سنن الترمذي، كتاب: البر والصلة، باب: ماجاء في رضا الوالدين، برقم:(1899)، وصححه الشيخ الألباني، ينظر: صحيح الجامع الصغير، 1 / 658، ح:3506.

([98]) صحيح البخاري، كتاب: الأنبياء، باب: حديث الغار، برقم: (3465).، ورواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: قصة أصحاب الغار الثلاثة، برقم:(2743).

([99]) شرح النووي لصحيح مسلم، (المجلد السادس) 17 / 50.

([100]) المسند للإمام أحمد (3/266).

([101]) شرح النووي لصحيح مسلم، (المجلد السادس) 16/ 59 بتصرف.

([102]) سنن الترمذي، كتاب: البر والصلة، باب: ماجاء في الفضل في رضا الوالدين، برقم: (1900)، وقال الترمذي: هذا حديثٌ صحيحٌ، ورواه ابن ماجه، كتاب: الأدب، باب: بر الوالدين، برقم:(3663).

([103]) فيض القدير، محمد عبد الرؤوف المناوي, 6 / 371.

([104]) المستدرك، الحاكم، كتاب: البر والصلة، 4 / 170، برقم:(7336)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

([105]) المعجم الأوسط للطبراني، 1/80،برقم:(229)، وذكره الهيثمي، كتاب: علامات النبوة، باب: في عبدالله بن عبدالله بن سلول، برقم:(15761)، وقال: رواه البزار ورجاله ثقات.

([106]) فيض القدير للمناوي، 3 / 199.

([107]) صحيح البخاري، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب: الهدية للمشركين، برقم: (2620)، ورواه مسلم، كتاب: الزكاة، باب: فضل النفقة والصدقة على الأقربين، برقم:(1003).

([108]) فتح الباري شرح صحيح البخاري للعسقلاني، 5 / 553.

([109]) ينظر كتاب: عقوق الوالدين، للشيخ محمد بن إبراهيم الحمد، ص:10-11 بتصرف.

([110]) المسند الإمام أحمد (5/238)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب: الوصايا، باب: وصية الرسول ^، برقم:(7110)، وقال: رجاله ثقات إلا أن عبد الرحمن بن جبير بن نفير لم يسمع من معاذ.

([111]) مرقاة المفاتيح، 1 / 238.

([112]) صحيح ابن حيان، كتاب: البر والإحسان، باب: حق الوالدين (2/142)، وصححه المحقق شعيب الأرنؤوط، ورواه الإمام أحمد في المسند (2/204).

([113]) سنن النسائي، كتاب: البيوع، باب: الحث على الكسب، برقم:(4455)، وصححه الشيخ الألباني، صحيح سنن النسائي، برقم:(4145).

([114]) وهذا الإنفاق يجب أن لا يكون مضرا بالابن فإن أضر به لم يصبح ملزماً.

([115]) وَأَمَّا عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِن (الْعَقّ) وَهُوَ الْقَطْع. وَذَكَر الْأَزْهَرِيُّ أَنَّهُ يُقَال: (عَقَّ) وَالِده يَعُقّهُ بِضَمِّ الْعَيْنُ عَقًّا وَعُقُوقًا إِذَا قَطَعَهُ, وَلَمْ يَصِل رَحِمَهُ. وَجَمْع (الْعَاقِّ) عَقَقَةٌ بِفَتْحِ الْحُرُوف كُلِّهَا, وَ(عُقُق) بِضَمِّ الْعَيْن وَالْقَاف. وَقَالَ صَاحِب الْمُحْكَم: رَجُل عُقُقٌ وَعَقَقٌ وَعَقٌّ وَعَاقٌّ بِمَعْنَى وَاحِد, وَهُوَ الَّذِي شَقَّ عَصَا الطَّاعَة لِوَالِدِهِ. هَذَا قَوْل أَهْل اللُّغَة. وَأَمَّا حَقِيقَة الْعُقُوق الْمُحَرَّم شَرْعًا فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح رَحِمَهُ الله فِي فَتَاوِيه: الْعُقُوق الْمُحَرَّم كُلّ فِعْل يَتَأَذَّى بِهِ الْوَالِد أَوْ نَحْوه تَأَذِّيًا لَيْسَ بِالْهَيِّنِ مَعَ كَوْنِهِ لَيْسَ مِن الْأَفْعَال الْوَاجِبَة. قَالَ: وَرُبَّمَا قِيلَ طَاعَة الْوَالِدَيْنِ وَاجِبَة فِي كُلّ مَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ. وَمُخَالَفَة أَمْرهمَا فِي ذَلِكَ عُقُوق. (ينظر: شرح صحيح مسلم للنووي، المجلد الأول، 1/91-92).

 والعقوق ضد البر، قال ابن منظور: «وعق والده يعقه عقا وعقوقا ومعقة: شق عصا طاعته، وعق والديه قطعهما ولم يصل رحمه منهما ». (ينظر: لسان العرب لابن منظور، 10/256).

([116]) صحيح البخاري، كتاب: الأدب، باب: عقوق الوالدين من الكبائر، برقم:(5975)، ورواه مسلم، كتاب: الأقضية، باب: النهي عن كثرة المسائل، برقم:(593).

([117]) عمدة القارئ شرح صحيح البخاري، 12 / 245.

([118]) جامع الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق، باب منه، برقم: (2511) وسنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في النهي عن البغي، برقم: (4902).

([119]) صحيح البخاري، كتاب: الأدب، باب: لا يسب الرجل والديه، برقم:(5973).

([120]) صحيح مسلم، كتاب: الإيمان، باب: الكبائر وأكبرها، برقم:(90).

([121]) جزء من حديث رواه مسلم، كتاب: الأضاحي، باب: تحريم الذبح لغير الله، برقم:(1978).

([122]) جزء من حديث أخرجه الإمام أحمد (1/108).

([123]) صحيح البخاري، كتاب: الشهادات، باب: ما قيل في شهادة الزور، برقم:(2654)، ورواه مسلم، كتاب: الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها، برقم:(87).

([124]) سنن النسائي، كتاب الزكاة، باب المنان بما أعطى، برقم:(2563).

([125]) صحيح ابن حبان، كتاب: البر والإحسان، باب: حق الوالدين، برقم:(409)، وصححه المحقق شعيب الأرنؤوط.

([126]) صحيح البخاري، كتاب: الأدب، باب: من أحق الناس بحسن الصحبة، برقم: (5971)، ورواه مسلم، كتاب: البر والصلة، باب: بر الوالدين، برقم:(2548).

([127]) سنن ابن ماجه، كتاب: الأدب، باب: بر الوالدين، برقم:(3661).

([128]) مرقاة المفاتيح، 5 / 32.

([129]) مسند أحمد (5/197).

([130]) صحيح البخاري، كتاب: المظالم، باب: إذا هدم حائط فتبين مثله، برقم: (2482)، ورواه مسلم، كتاب: البر والصلة، باب: تقديم بر الوالدين، برقم:(2550).

([131]) سبق تخريجه ص(63).

([132]) يراجع لكتابنا: تربية الطفل المسلم، وكتاب: البيت المسلم.

([133]) جامع الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في أدب الولد، برقم: (1952).

([134]) جامع الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في أخذ المال بحقه، برقم: (2378).

([135]) الضياء اللامع للعثيمين, 2/ 507.

([136]) صحيح مسلم، كتاب: العتق، باب: فضل عتق الوالد، برقم:(1510).

([137]) صحيح مسلم، كتاب: الوصية، باب: ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، برقم:(1631).

([138]) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب: الأدعية، باب: دعاء الولد لوالده، برقم: (17240)، وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير عاصم بن بهدلة وهو حسن الحديث.

([139]) ذكره المناوي في فيض القدير، وقال: قال العراقي: مرسل صحيح الإسناد. (فيض القدير، 6/141).

([140]) سنن أبي داود، كتاب: الأدب، باب: في بر الوالدين، برقم:(5142)، المسند للإمام أحمد، (3/497)، وحسنه المحقق أحمد شاكر، حاشية المسند، 12 / 435، ح:16004، وضعفه الشيخ الألباني، ضعيف سنن أبي داود، ص:508، ح:1101.

([141]) جزء من حديث رواه مسلم، كتاب: البر والصلة، باب: فضل صلة أصدقاء الأب، برقم: (2552).

([142]) شرح النووي لصحيح مسلم (المجلد السادس)، 16 / 93.

([143]) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، 8/ 680.

([144]) جزء من حديث رواه ابن حبان، كتاب: البر والإحسان، باب: حق الوالدين، برقم:(432)، وقال المحقق: إسناده صحيح على شرط البخاري.

([145]) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل صلة أصدقاء الأب والأم ونحوهما، برقم: (2552).

([146]) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب موت الفجأة، برقم: (1388).

([147]) شرح النووي لصحيح مسلم (المجلد الثالث) 7/90.

([148]) صحيح البخاري، كتاب الحوالات، باب: إن أحال دين الميت على رجل جاز، برقم: (2291).

([149]) صحيح البخاري، كتاب الحوالات، باب من تكفل عن الميت دينا فليس له أن يرجع، برقم: (2297).

([150]) وَقَوْله: «اِذْهَبْ فَبَيْدِرْ» بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَة وَسُكُون التَّحْتَانِيَّة بَعْدهَا دَال مَكْسُورَة بِصِيغَةِ فِعْل الْأَمْر, أَيْ اِجْعَلْ كُلّ صِنْف فِي بَيْدَر - أَيْ جَرِين - يَخُصّهُ. (ينظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، 5/414).

([151]) صحيح البخاري، كتاب الوصايا، باب: قضاء الوصي ديون الميت بغير محضر من الورثة، برقم: (2781).

([152]) صحيح البخاري، كتاب الحج، باب: الحج والنذر عن الميت، برقم: (1852).

([153]) فتح الباري شرح صحيح البخاري للعسقلاني، 4/ 66.

([154]) صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت، برقم: (1149).

([155]) شرح صحيح مسلم للنووي،(المجلد الثالث) 7/26-27.

([156]) مسند أحمد (1/279).

([157]) صحيح البخاري، كتاب الوصايا، باب ما يستحب لمن توفي فجأة أن يتصدقوا، برقم: (2761).

([158]) فتح الباري شرح صحيح البخاري للعسقلاني، 5/ 390.

([159]) ينظر: المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ السعدي، قسم الخطب، 6/215.

([160]) جامع الترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء في فضل التزويج والحث عليه، برقم: (1080).

([161]) صحيح مسلم، كتاب الرضاع، باب: خير متاع الدنيا المرأة الصالحة، برقم: (1467).

([162]) المغني لاين قدامة:7/333.

([163]) ينظر كتاب: الزواج والدراسة للدكتور فهد السنيدي ص:12.

([164]) كتاب الزواج للعثيمين، ص:11.

([165]) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: من استطاع، برقم: (5065).

([166]) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، برقم: (5063).

([167]) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب ما يكره من التبتّل والخصاء، برقم: (5074).

([168]) ينظر فقه السنة للسيد سابق، 2/ 10-12.

([169]) المغني لابن قدامة، 9/343.

([170]) جامع الترمذي، كتاب المناقب، باب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، برقم: (3895).

([171]) سنن أبي داود، كتاب الجهاد، باب في السبق على الرجل، برقم: (2578), وابن ماجه، كتاب النكاح، باب حسن معاشرة النساء، برقم: (1979).

([172]) صحيح مسلم، كتاب الرضاع، باب القسم بين الزوجات، برقم: (1462).

([173]) ينظر ما في معناه في صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: ((إن في خلق السماوات والأرض) برقم: (4203).

([174]) تفسير ابن كثير 2/ 211-212. والآية من سورة الأحزاب برقم: (21).

([175]) مسند أحمد (6/35).

([176]) قطعة من حديث طويل رواه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، برقم: (1218).

([177]) جامع الترمذي، كتاب الرضاع، باب ما جاء في حق المرأة على زوجها، برقم: (1163).

([178]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، المجلد الثالث، 5/169-173 بتصرف.

([179]) سنن أبي داود، كتاب النكاح، باب في حق المرأة على زوجها، برقم: (2142).

([180]) عون المعبود شرح سنن أبي داود 6/181.

([181]) صحيح البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: المجن ومن يترس بترس صاحبه، برقم: (2904).

([182]) صحيح البخاري، كتاب: البيوع، باب: من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم، برقم: (2211)، ورواه مسلم بنحوه، كتاب: الأقضية، باب: قضية هند، برقم:(1714).

([183]) نيل الأوطار للشوكاني، 4 / 122.

([184]) صحيح البخاري، كتاب: النفقات، باب: فضل النفقة على الأهل، برقم:(5354)، ورواه مسلم، كتاب: الوصية، باب: الوصية بالثلث، برقم:(1628).

([185]) شرح النووي لصحيح مسلم، المجلد الرابع، 11 / 64.

([186]) صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب فضل النفقة على العيال والمملوك، برقم: (995).

([187]) شرح النووي، المجلد الثالث، 7 / 81-82.

([188]) جامع الترمذي، كتاب الطلاق، باب ما جاء في طلاق المعتوه، برقم: (1912).

([189]) تفسير ابن كثير، 1/399.

([190]) تفسير الطبري، 6/373.

([191]) سنن أبي داود، كتاب النكاح، باب في القسم بين الزوجات، برقم: (2133).

([192]) عون المعبود شرح سنن أبي داود، 6/171.

([193]) سنن أبي داود، كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء، برقم: (2134).

([194]) مسند أحمد (4/17).

([195]) مسند أحمد (4/17).

([196]) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم وذريته، برقم: (3331).

([197]) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، 6/368.

([198]) شرح النووي لصحيح مسلم، المجلد الرابع، 10/57.

([199]) نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار للشوكاني، المجلد الثالث، 6/358.

([200]) صحيح مسلم، كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء، برقم: (1469).

([201]) نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار للشوكاني، المجلد الثالث، 6/358-359.

([202]) كتاب الكبائر للذهبي ص:179.

([203]) رواه البخاري في الأذان، باب من كان في حاجة أهله فأقيمت الصلاة فخرج, برقم: (676).

([204]) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، 2/163.

([205]) صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب حق الجسم في الصوم، برقم: (1975).

([206]) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب ما يكره من التبتل والخصاء، برقم: (5074).

([207]) صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع، برقم: (1968).

([208]) ينظر: المصنف لابن عبد الرزاق، كتاب الطلاق، باب حق المرأة على زوجها، (7/1488)، وطبقات ابن سعد:7/52, وقد ذكرها ابن قدامة في كتابه «المغنى» (10/238).

([209]) رواه مسلم في النكاح، باب تحريم إفشاء سر المرأة, برقم: (1437).

([210]) رواه أبو داود في النكاح، باب ما يكره من ذكر الرجل ما يكون من إصابته أهله, برقم: (2174).

([211]) صحيح البخاري، كتاب الوصايا، باب تأويل قول الله تعالى: ﴿ .`ÏB ω÷èt/ 7p§‹Ï¹uﷺ‬ ÓÅ»qム!$pkÍ5 ÷ﷺ‬ﷺ‬& AûøïyŠ 3 ﴾، برقم: (2751).

([212]) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب تعليم الرجل أمته وأهله، برقم: (97).

([213]) رواه أبو داود في الصلاة، باب قيام الليل، برقم: (1308)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار، باب الترغيب في قيام الليل، برقم: (1611)، وأحمد في باقي مسند المكثرين (2/250).

([214]) سنن أبي داود، كتاب النكاح، باب في حق الزوج على المرأة، برقم: (2140).

([215]) تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 2/204.

([216]) جامع الترمذي، كتاب الرضاع، باب ما جاء في حق الزوج على المرأة، برقم: (1159).

([217]) نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، المجلد الثالث، 6/361.

([218]) نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار للشوكاني، المجلد الثالث، 6/361-362.

([219]) مسند أحمد (4/341).

([220]) رواه ابن حبان في صحيحه، كتاب النكاح، ذكر إيجاب الجنة للمرأة إذا أطاعت زوجها مع إقامة الفرائض لله جل وعلا، برقم: (4163).

([221]) صحيح مسلم، كتاب السلام، باب جواز إرداف المرأة الأجنبية إذا أعيت، برقم: (2182).

([222]) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب الغيرة، برقم: (5224).

([223]) صحيح البخاري، كتاب النفقات، باب: عمل المرأة في بيت زوجها، برقم: (5361).

([224]) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني 9/506.

([225]) ينظر «مجموع الفتاوى» (34/90) لابن تيمية.

([226]) ينظر: زاد المعاد لابن القيم، 5/187-188. بتصرف يسير.

([227]) رواه النسائي في النكاح،باب أي النساء خير,برقم:(3233), وأبو داود في الزكاة،باب حقوق المال, برقم: (1664) وأحمد في باقي مسند المكثرين (7373).

([228]) سنن ابن ماجه، كتاب النكاح، باب أفضل النساء، برقم: (1857).

([229]) ينظر: «شرح سنن ابن ماجه للسندي».

([230]) رواه مسلم في النكاح، باب خير متاع الدنيا المرأة الصالحة، برقم: (1467).

([231]) جامع الترمذي، كتاب الرضاع، باب ما جاء في كراهية الدخول على المغيبات، برقم: (1174).

([232]) رواه مسلم في النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، برقم: (1400).

([233]) رواه مسلم في النكاح، باب ندب من رأى امرأة فوقعت في نفسه إلى أن يأتي امرأته، برقم: (1403).

([234]) قَالَ أَهْل اللُّغَة: هِيَ الْجِلْد أَوَّل مَا يُوضَع الدِّبَاغ, وَقَالَ الْكِسَائِيّ: يُسَمَّى مَنِيئَة مَا دَامَ فِي الدِّبَاغ, وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هُوَ فِي أَوَّل الدِّبَاغ مَنِيئَة, ثُمَّ أَفِيق بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَكَسْر الْفَاء, وَجَمْعه أُفُق, كَقَفِيزِ وَقُفُز, ثُمَّ أَدِيم. وَالله أَعْلَم. (ينظر: شرح صحيح مسلم للنووي، المجلد الثالث، 9/178).

([235]) رواه مسلم في النكاح، باب ندب من رأى امرأة فوقعت في نفسه إلى أن يأتي امرأته، برقم: (1403).

([236]) جامع الترمذي، كتاب الرضاع، باب ما جاء في الرجل يرى المرأة تعجبه، برقم: (1078) وقَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيثُ جَابِرٍ حَدِيثٌ صَحِيحٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

([237]) شرح صحيح مسلم للنووي، المجلد الثالث، 9/178-179.

([238]) صحيح البخاري، كتاب: النكاح، باب: إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها، برقم: (5193)، ورواه مسلم، كتاب: النكاح، باب: تحريم امتناعها من فراش زوجها، برقم: (1436).

([239]) نيل الأوطار للشوكاني، المجلد الثالث، 6/ 362.

([240]) فتح الباري شرح صحيح البخاري للعسقلاني، 10 / 267.

([241]) سنن الترمذي، كتاب: الرضاع، باب: حق الزوج على المرأة، برقم:(1160)، وقال الترمذي: حديث حسن، وصححه الشيخ الألباني، صحيح سنن الترمذي، 1 / 340، برقم:(927).

([242]) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب: النكاح، باب: حق الزوج على المرأة، برقم: (7660). وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح خلا محمد بن ثعلبة بن سَواء.

([243]) فيض القدير للمناوي، 1 / 344.

([244]) صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب ما أنفق العبد من مال مولاه، برقم: (1026).

([245]) شرح صحيح مسلم للنووي، المجلد الثالث، 7/115.

([246]) جزء من حديث رواه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، برقم: (1218).

([247]) شرح صحيح مسلم للنووي، المجلد الثالث، 8/ 188.

([248]) فتح القدير للشوكاني، 1/ 460.

([249]) صحيح البخاري، كتاب الحيض، باب: ترك الحائض الصوم، برقم: (304).

([250]) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب كفران العشير، برقم: (29).

([251]) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني 9/299.

([252]) صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، بدء الوحي، برقم: (2).

([253]) رواه البخاري في العتق، باب كراهية التطاول على الرقيق، وقوله: عبدي أو أمتي, برقم: (2554)، ومسلم في الإمارة، باب فضيلة الأمير العادل وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عليهم,برقم: (1829).

([254]) دستور الأسرة في ظلال القرآن ص:112. (بتصرف).

([255]) رواه ابن ماجه في النكاح، باب الأكفاء, برقم: (1968).

([256]) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب الأكفاء في الدين، برقم: (5090).

([257]) رواه الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في أدب الولد, برقم: (1952).

([258]) رواه البخاري في الزكاة، باب ما يذكر في الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم, برقم: (1491)، ومسلم في الزكاة، باب تحريم الزكاة على النبي صلى الله عليه وسلم, برقم: (1069).

([259]) فتح الباري شرح صحيح البخاري للعسقلاني 3/ 355.

([260]) كتاب الورع لأحمد ص:119-120.

([261]) رواه أبو داود في الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، برقم: (495) وروى مثله الترمذي عن عبد الملك بن الربيع بن السبرة عن أبيه عن جده في الصلاة، باب ما جاء متى يؤمر الصبي بالصلاة، برقم: (407).

([262]) عون المعبود شرح سنن أبي داود للعظيم آبادي، 2/ 162-163.

([263]) رواه البخاري في المغازي، باب: وقال الليث...، برقم: (4302).

([264]) رواه أبو داود في الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة, برقم: (497).

([265]) رواه البخاري في الصوم، باب صوم الصبيان، برقم: (1960), ومسلم في الصيام، باب من أكل في عاشوراء فليكف بقية يومه, برقم: (1136).

([266]) ذكره البخاري تعليقًا في كتاب الصوم، باب صوم الصبيان.

([267]) فتح الباري شرح صحيح البخاري للعسقلاني، 4/200.

([268]) رواه أبو داود في الأدب, باب في الرحمة, برقم:(4943)، وأحمد في مسند المكثرين من الصحابة (2/185).

([269]) رواه الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في رحمة الصبيان, برقم: (1920).

([270]) رواه أبو داود، في كتاب الأدب، باب في تنزيل الناس منازلهم، برقم: (4843).

([271]) انظر شرح السنة للبغوي، باب بر الوالدين 13/36 وسنده حسن.

([272]) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله، برقم: (5996).

([273]) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب من ترك صبية غيره حتى تلعب به، برقم: (5993).

([274]) رواه البخاري في الأدب، باب الانبساط إلى الناس، برقم: (6129), وفي باب الكنية للصبي وقبل أن يولد للرجل, برقم:(6203), ومسلم في الآداب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته، برقم: (2150).

([275]) شرح صحيح مسلم للنووي، المجلد الخامس، 14/123-124.

([276]) رواه أبو داود في الأدب، باب ما جاز في المزاح، برقم: (5002) والترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في المزاح, برقم: (1992), وأحمد في باقي مسند المكثرين (3/117).

([277]) رواه البخاري في العلم، باب متى يصح سماع الصغير، برقم: (77)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة لعذر، برقم: (33).

([278]) رواه أبو داود في الأدب، باب في اللعب بالبنات، برقم: (4932).

([279]) رواه البخاري في النكاح، باب حسن المعاشرة مع الأهل، برقم: (5190) ومسلم في صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه، في أيام العيد، برقم: (892).

([280]) شرح صحيح مسلم للنووي، المجلد الثاني، 6/184.

([281])رواه البخاري في الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، برقم: (2650).

([282]) فوائد مستنبطة من قصة يوسف، للسعدي ص 23-24.

([283]) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله، برقم: (5995).

([284]) فتح الباري شرح صحيح البخاري 10/428-429 بتصرف.

([285]) رواه مسلم في البر والصلة، باب فضل الإحسان إلى البنات، برقم: (2631).

([286]) رواه البخاري في العلم، باب الحياء في العلم، برقم: (131)، ومسلم في صفات المنافقين، باب مثل المؤمن مثل النخلة، برقم: (2811).

([287]) رواه مسلم في الزهد، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر، برقم: (3009).

([288]) رواه أبو داود في الوتر، باب الدعاء بظهر الغيب، برقم: (1536)، والترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في دعوة الوالدين، برقم: (1905).

([289]) رواه ابن ماجه في الدعاء، باب دعوة الوالد ودعوة المظلوم، برقم: (3863).

([290]) رواه مسلم في البر والصلة، باب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها، برقم: (2550).

([291]) رواه البخاري في الجهاد والسير، باب التحريض على الرمي، وقول الله عز وجل: ((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم)) برقم: (2899).

([292]) رواه البخاري في تفسير القرآن، باب قوله: لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم، برقم: (4793) ومسلم في النكاح، باب زواج زينب بنت جحش، برقم: (1428).

([293]) تأديب الناشئين بأدب الدنيا والدين لابن عبد ربه ص:125.

([294]) رواه البخاري في استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب إذا عرض الذمي وغيره بسب النبي صلى الله عليه وسلم، برقم: (6927)، ومسلم في البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، برقم: (2165).

([295]) الطب الروحاني لابن الجوزي ص:58.

([296]) رواه أحمد في أول مسند البصريين (5/31) والترمذي في البيوع، باب ما جاء في الرخصة في أكل الثمرة للمار بها، برقم: (1288) وأبو داود في الجهاد، باب من قال إنه يأكل مما سقط، برقم: (2622), وابن ماجه في التجارات، باب ما مر على ماشية قوم أو حائط هي يصيب منه، برقم: (2299).

([297]) رواه البخاري في البيوع، باب في العطار وبيع المسك، برقم: (2101) ومسلم في البر والصلة والآداب، باب استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السوء، برقم: (2628).

([298]) صيد الخاطر لابن الجوزي ص:220.

([299]) إحياء علوم الدين للغزالي، الجزء الثالث، ص:71.

([300]) رواه أبو داود في الأدب، باب في اللعب بالبنات، برقم: (4932).

([301]) رواه البخاري في الأدب، باب الانبساط إلى الناس، برقم:(6130) ومسلم في فضائل الصحابة، باب في فضل عائشة رضي الله عنها، برقم: (2440).

([302]) رواه الترمذي في كتاب:فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله،برقم: (1637)، وابن ماجه في الجهاد، باب الرمي في سبيل الله، برقم: (2811)، وأحمد في مسند الشاميين، برقم: (16849).

([303]) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب: ﴿قوا أنفسكم وأهليكم ناراً ﴾، برقم: (5188).

([304]) هذا الفصل لخصناه من كتابنا: تربية الطفل. ومن أراد التوسع في هذا الباب فليراجع الكتاب.

([305]) ينظر: الضياء اللامع للعثيمين (2/505) بتصرف.

([306]) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب فضل صلة الرحم،برقم: (5983).

([307]) صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وتقطعوا أرحامكم، برقم: (4832).

([308]) سنن أبي داود، كتاب الزكاة، باب في صلة الرحم، برقم: (1694).

([309]) جامع الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في بر الوالدين، برقم: (1897).

([310]) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، 10/418.

([311]) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى: ﴿ ö‘É‹Rﷺ‬&uﷺ‬ y7s?uŽÏ±t㠚úüÎ/uø%F{$# ﴾، برقم: (204).

([312]) شرح صحيح مسلم للنووي, (المجلد الأول)، 1/192.

([313]) صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب قصة أبي طالب، برقم: (3884).

([314]) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يغرغر، برقم: (25).

([315]) صحيح البخاري، كتاب الجمعة، باب يلبس أحسن ما يجد، برقم: (886).

([316]) سنن أبي داود، كتاب الجهاد، باب: قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام، برقم:(2683).

([317]) صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب من أحب البسط في الرزق، برقم:(2067).

([318]) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، 4 / 302.

([319]) صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب من تصدق في الشرك ثم أسلم، برقم:(1436).

([320]) صحيح البخاري، كتاب الهبة وفضلها، باب هبة المرأة لغير زوجها، برقم:(2592).

([321]) صحيح البخاري، كتاب الزكاة, باب الزكاة على الزوج وعلى الأيتام في الحجر، برقم: (1466).

([322]) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني 3/ 329-330.

([323]) صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب، برقم:(1461).

([324]) جامع الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب منه، برقم: (2551).

([325]) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب إثم القاطع، برقم: (5984).

([326]) مسند أحمد (2/483)، وقال المنذري: رواته ثقات, ينظر: (الترغيب والترهيب للمنذري 5/27).

([327]) فتح الباري شرح صحيح البخاري لاين حجر العسقلاني، 10/415.

([328]) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب: ليس الواصل بالمكافئ، برقم: (5991).

([329]) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، 10/423-424.

([330]) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: صلة الرحم وتحريم قطيعتها، برقم: (2558)

([331]) شرح صحيح مسلم للنووي، 4/1982.

([332]) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب الوصاة بالجار، برقم: (6014).

([333]) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني،10/441.

([334]) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني10/441 -442، بتصرف.

([335]) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب: الحث على إكرام الجار، برقم: (47).

([336]) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، 10/ 442.

([337]) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب: الحث على إكرام الجار، برقم: (47).

([338]) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب: الحث على إكرام الجار، برقم: (47).

([339]) شرح صحيح مسلم للنووي،(المجلد الأول)، 2/18.

([340]) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، 10 /446.

([341]) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه، برقم: (6016).

([342]) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، 10 /444.

([343]) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب: تحريم إيذاء الجار، برقم: (46).

([344]) مسند أحمد (4/31).

([345]) شرح صحيح مسلم للنووي، (المجلد الأول)، 2/17.

([346]) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب: الحث على إكرام الجار، برقم: (48).

([347]) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب: الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب..، برقم: (45).

([348]) جامع الترمذي، كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في حق الجوار، برقم: (1944) و قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

([349]) مسند أحمد، مسند المكيين، برقم: (3/407). وقال المنذري: رواته رواة الصحيح. (ينظر: الترغيب والترهيب للمنذري 5/ 45).

([350]) رواه ابن حبان في صحيحه، (ينظر: الترغيب والترهيب للمنذري 5/ 38).

([351]) مسند أحمد (6/8). و قَالَ الْمُنْذِرِيُّ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، ينظر:(الترغيب والترهيب للمنذري 5/ 35).

([352]) صحيح البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: تبتغي مرضاة أزواجك، برقم: (4913).

([353]) شرح صحيح مسلم للنووي (المجلد الرابع) 10/ 86.

([354]) صحيح مسلم، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: الوصية بالجار، برقم: (2625).

([355]) صحيح البخاري، كتاب: الأدب، باب: لا تحقرن جارة لجارتها، برقم: (6017).

([356]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، المجلد الثالث، 5/185.

([357]) جامع الترمذي، كتاب البر والصلة والآداب، باب ما جاء في حق الجوار، برقم: (1943).

([358]) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي، 3/128.

([359]) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين، برقم: (2586).

([360]) صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، برقم: (481).

([361]) صحيح مسلم،كتاب السلام، باب: من حق المسلم على المسلم رد السلام، برقم: (2162).

([362]) صحيح البخاري، كتاب: الجنائز، باب: الأمر باتباع الجنائز،برقم:(1239)، ورواه مسلم، كتاب: السلام، باب: من حق المسلم للمسلم رد السلام، برقم:(2162).

([363]) صحيح البخاري، كتاب:النكاح، باب: حق إجابة الوليمة، برقم:(5175)، ورواه مسلم، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب، برقم:(2066).

([364]) صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: [ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب]، برقم: (4566).

([365]) المسند للإمام أحمد (3/183).

([366]) سنن النسائي الكبرى، كتاب: المناقب، باب: أبناء الأنصار رضي الله عنهم، برقم:(8291)، وابن حبان في صحيحه، كتاب: البر والإحسان، باب: الرحمة، برقم:(459).

([367]) فتح الباري شرح صحيح البخاري، للعسقلاني، 9/ 27.

([368]) شرح النووي لصحيح مسلم، (المجلد الخامس) 14 / 123.

([369]) جامع الترمذي، كتاب: الاستئذان والآداب، باب: ما جاء في ذكر فضل السلام، برقم: (2689).

([370]) كتاب الأذكار للنووي، 1 / 246.

([371]) سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب فضل من بدأ السلام برقم: (5197).

([372]) صحيح البخاري، كتاب: الإيمان، باب: إطعام الطعام من الإسلام، برقم:(12)، ورواه مسلم، كتاب: الإيمان، باب: تفاضل الإسلام، برقم:(39).

([373]) سنن الترمذي، كتاب: الأطعمة، باب: ماجاء في فضل إطعام الطعام، برقم:(1854)، وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الشيخ الألباني،ينظر: صحيح الجامع الصغير، 2 / 2298، برقم:(7865).

([374]) دليل الفالحين، 5 / 322.

([375]) سنن الترمذي، كتاب: الاستئذان والآداب، باب: ماجاء في التسليم إذا دخل بيته، برقم: (2698)، وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ.

([376]) المسند للإمام أحمد، برقم: (2/328).

([377]) سنن الترمذي، كتاب:الآداب والاستئذان، باب: ما جاء في المصافحة، برقم:(2727).

([378]) صحيح البخاري، كتاب: النكاح، باب: حق إجابة الوليمة والدعوة، برقم:(5173)،ورواه مسلم، كتاب: النكاح، باب: الأمر بإجابة الداعي، برقم: (1429).

([379]) صحيح مسلم، كتاب: النكاح، باب: الأمر إلى إجابة الداعي، برقم:(1429).

([380]) فتح الباري شرح صحيح البخاري للعسقلاني، 10 / 300.

([381]) صحيح البخاري، كتاب الهبة وفضلها، باب القليل من الهبة، برقم: (2568).

([382]) جامع الترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء في قبول الهدية، برقم:(1338).

([383]) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي للمباركفوري، 2/ 279.

([384]) صحيح مسلم،كتاب السلام، باب: من حق المسلم على المسلم رد السلام، برقم: (2162).

([385]) صحيح مسلم، كتاب: الإيمان، باب: بيان أن الدين النصيحة، برقم: (55).

([386]) معالم السنن، للخطابي، 4 / 117.

([387]) شرح النووي لصحيح مسلم (المجلد الأول)، 2/32. وسبل السلام للصنعاني، 4/2072.

([388]) صحيح البخاري، كتاب: الأدب، باب: إذا عطس كيف يشمت، برقم:(6224).

([389]) صحيح البخاري، كتاب: الأدب، باب: إذا تثاءب فليضع يده على فيه، برقم:(6226).

([390]) فتح الباري لابن حجر العسقلاني، 12 / 249.

([391]) صحيح البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: فكاك الأسير، برقم:(3046).

([392]) المسند للإمام أحمد (3/31).

([393]) صحيح البخاري، كتاب: الجنائز، باب: من انتظر حتى تدفن، برقم:(1325)، ورواه مسلم، كتاب: الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنازة، برقم:(945).

([394]) صحيح مسلم، كتاب: الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنازة، برقم:(945).

([395]) صحيح البخاري، كتاب: الإيمان، باب: اتباع الجنائز من الإيمان، برقم:(47).

([396]) شرح النووي لصحيح مسلم، (المجلد الثالث), 7 / 12.

([397]) صحيح البخاري، كتاب: المظالم والغصب، باب: أعن أخاك ظالما أو مظلوماً، برقم:(2443)، ورواه مسلم، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً، برقم: (2584).

([398]) صحيح مسلم، كتاب: البر والصلة، باب: نصر الأخ ظالما أو مظلوماً، برقم: (2584).

([399]) فتح الباري شرح صحيح البخاري، 6 / 572.

([400]) جزء من حديث أخرجه البخاري، كتاب: المظالم، باب: لا يظلم المسلم المسلم، برقم: (2442).

([401]) فتح الباري شرح صحيح البخاري، 5 / 385.

([402]) صحيح مسلم، كتاب: البر والصلة، باب: تحريم ظلم المسلم وخذله، برقم:(2564).

([403]) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، برقم: (13).

([404]) شرح صحيح مسلم للنووي، المجلد الأول، (2/ 16-17).

([405]) سنن الترمذي، كتاب: الاستئذان، باب: ماجاء في تشميت العاطس، برقم:(2736)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حسنٌ.

([406]) صحيح البخاري، كتاب: الإيمان، باب: من الإيمان أن يحب لأخيه مايحب لنفسه، برقم: (13)، ورواه مسلم، كتاب: الإيمان، باب:الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، برقم:(45).

([407]) المسند للإمام أحمد (3/272).

([408]) صحيح ابن حبان، كتاب: الإيمان، باب: صفات المؤمنين، برقم:(235). وصححه المحقق شعيب الأرنؤوط.

([409]) فتح الباري شرح صحيح البخاري، 1 / 82.

([410]) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، برقم: (54).

([411]) شرح النووي لصحيح مسلم، (المجلد الأول)، 2 / 30.

([412]) رواه الإمام مالك في المؤطا، كتاب الجامع، باب ما جاء في المصافحة، برقم: (2641) وصححه الألباني في صحيحه، برقم: (525).

([413]) صحيح البخاري، كتاب الهبة وفضلها، باب القليل من الهبة، برقم: (2568).

([414]) جامع الترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء في قبول الهدية، برقم:(1338).

([415]) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي للمباركفوري، 2/ 279.

([416]) جامع الترمذي، كتاب البر والصلة والآداب، باب ما جاء في زيارة الإخوان، برقم: (2008).

([417]) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الحب في الله، برقم: (2567).

([418]) صحيح البخاري، كتاب المظالم، باب: لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، برقم: (2442).

([419]) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم، برقم: (2564).

([420]) سنن أبي داود، كتاب: الأدب، باب: الرجل يذب عن عرض أخيه (4884)، وحسنه الشيخ الألباني، ينظر: صحيح الجامع الصغير، 2 / 992، ح:5690.

([421]) صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة، برقم: (1433).

([422]) صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب: إخاء النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، برقم: (3780).

([423]) صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب قول الله: ((ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) برقم: (3798).

([424]) تفسير القرطبي، ص:6507.

([425]) إحياء علوم الدين للغزالي، 2 / 190- 191.

([426]) مسند أحمد (3/135).

([427]) صحيح البخاري، كتاب الحج، باب حرم المدينة، برقم: (1870).

([428]) شرح النووي لصحيح مسلم، المجلد الثالث، 9/ 113.

([429]) صحيح البخاري، كتاب: الإيمان، باب: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، برقم: (10)، ورواه مسلم، كتاب: الإيمان، باب: تفاضل الإيمان، برقم:(40).

([430])شرح النووي لصحيح مسلم، المجلد الأول، 2 / 9.

([431]) صحيح البخاري، كتاب: الأدب، باب: الهجرة، برقم:(6077)، ورواه مسلم، كتاب: البر والصلة، باب: تحريم الهجر فوق ثلاث، برقم:(2560).

([432]) شرح النووي لصحيح مسلم، (المجلد السادس)، 16 / 100، وسبل السلام، 4 / 1991.

([433]) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: النهي عن الشحناء والتهاجر، برقم: (2565).

([434]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، المجلد الثالث (6/45).

([435]) المعجم الأوسط للطبراني 6 /40، برقم:(5735)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب: الأحكام، باب: في العدل والجور، (5 / 355)، برقم:(9001)، وقال: رجاله ثقات.

([436]) جامع الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في معاشرة الناس، برقم: (1987).

([437]) جامع الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في حق الجوار، برقم: (1943).

([438]) فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر: (10/441-442).

([439]) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب صلة الأخ المشرك، برقم: (5981).

([440]) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب صلة الوالد المشرك، برقم: (5979).

([441]) صحيح البخاري، كتاب الهبة وفضلها، باب الهدية للمشركين، برقم: (2620).

([442]) فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر:10/ 413.

([443]) صحيح البخاري، كتاب الديات، باب إثم من قتل ذميا بغير جرم، برقم: (6914).

([444]) سنن النسائي، كتاب القسامة، باب سقوط القود من المسلم للكافر، برقم: (4749).

([445]) سنن أبي داود، كتاب الجهاد، باب في السرية ترد على أهل العسكر، برقم: (2751).

([446]) فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني:6/ 274.

([447]) سنن أبي داود، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في أكل السباع، برقم:(3804)، وصححه الشيخ الألباني، صحيح سنن أبي داود، برقم: (3229).

([448]) سبل السلام شرح بلوغ المرام للصنعاني، 3 / 1259.

([449]) سنن أبي داود، كتاب: الخراج، باب: في تعشير أهل الذمة، برقم:(3052)، وصححه الشيخ الألباني، صحيح الجامع الصغير، 1 / 518، برقم:(2655).

([450]) عون المعبود شرح سنن أبي داود، للعظيم آبادي، 12 / 131.

([451]) صحيح البخاري، كتاب: الاستئذان، باب: كيف الرد على أهل الذمة، برقم:(6258)،ورواه مسلم، كتاب: السلام، باب: النهي عن الابتداء في السلام، برقم:(2163).

([452]) شرح النووي لصحيح مسلم،(المجلد الخامس)، 14 / 119.

([453]) صحيح مسلم، كتاب: السلام، باب: النهي عن ابتداء أهل الكتاب السلام، برقم:(2167).

([454]) شرح النووي لصحيح مسلم، (المجلد الخامس)، 14 / 119.

([455]) صحيح البخاري، كتاب: الجنائز،باب: إذا أسلم الصبي، برقم:(1356).

([456]) نيل الأوطار للشوكاني، 4 / 208.

([457]) صحيح البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: لا يعذب بعذاب الله، برقم:(3017).

([458]) عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني، 14 / 233.

([459]) صحيح مسلم،كتاب: الجهاد والسير، باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته، برقم: (1731).

([460]) المسند للإمام أحمد (1/300).

([461]) نيل الأوطار للشوكاني، 4 / 67.

([462]) صحيح البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: قتل النساء في الحرب، برقم: (3015)، ورواه مسلم، كتاب: الجهاد، باب: تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب، برقم: (1744).

([463]) العسيف هو الأجير والتابع. ينظر: (عون المعبود شرح سنن أبي داود، محمد شمس الحق العظيم آبادي، 7 / 329).

([464]) مسند أحمد (3/488).

([465]) عون المعبود شرح سنن أبي داود، محمد شمس الحق العظيم آبادي، 7 / 329.

([466]) صحيح البخاري، كتاب: الزكاة،باب: وجوب الزكاة، برقم:(1395)، ورواه مسلم، كتاب: الإيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين، برقم:(19).وينظر ما كتبته حول هذا الحديث في كتاب:(حديث بعث معاذ...).

([467]) شرح النووي لصحيح مسلم، (المجلد الأول)، 1 / 170.

([468]) جزء من حديث أخرجه البخاري، كتاب: بدء الوحي، باب: بدء الوحي، برقم:(7)، ومسلم، كتاب: الجهاد والسير، باب: كتاب النبي ^ إلى هرقل، برقم:(1773).

([469]) صحيح مسلم، كتاب: الحج، باب: ما يقوله إذا ركب في سفر الحج وغيره، برقم:(1342).

([470]) شرح النووي لصحيح مسلم، (المجلد الثالث)، 9 / 93.

([471]) سنن أبي داود، كتاب الجهاد، باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم، برقم: (2549).

([472]) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، برقم: (6009).

([473]) فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني 10/439.

([474]) سنن الدارمي، المقدمة، ما أكرمه الله به نبيه من إيمان الشجر به، برقم: (17).

([475]) صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب خمس من الدواب، برقم: (3318).

([476]) فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني:6/357-358.

([477]) صحيح مسلم، كتاب الصيد والذبائح، باب: النهي عن صبر البهائم، برقم: (1957).

([478]) صحيح البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب ما يكره من المثلة والمصبورة والمجثمة، برقم: (5513).

([479]) صحيح مسلم، كتاب الصيد والذبائح، باب: النهي عن صبر البهائم، برقم: (1958).

([480]) صحيح البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب: ما يكره من المثلة والمصبورة، برقم: (5514).

([481]) شرح صحيح مسلم للنووي (المجلد الخامس) 13/108.

([482]) شرح صحيح مسلم للنووي (المجلد الخامس) 13/107.

([483]) شرح صحيح البخاري للعسقلاني، 9/644.

([484]) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي 2/ 310.

([485]) سنن النسائي، كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة أكل العصافير، برقم: (4354).

([486]) سنن أبي داود، كتاب: الجهاد، باب:في كراهية حرق العدو بالنار، برقم: (2675) وصححه الشيخ الألباني، صحيح الجامع، 1 / 523، ح:2691.

([487]) المرجع السابق.

([488]) عون المعبود شرح سنن أبي داود للعظيم آبادي، 7/335.

([489]) جامع الترمذي، كتاب الأطعمة، باب ما قطع من الحي فهو ميت، برقم: (1480).

([490]) صحيح مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن ضرب الحيوان في وجهه، برقم: (2116).

([491]) شرح صحيح مسلم للنووي (المجلد الخامس)، 14/97.

([492]) مسند أحمد (2/428).

([493]) سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في اللعن، برقم: (4905).

([494]) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها، برقم: (2597).

([495]) جامع الترمذي، كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في اللعنة، برقم: (1977).

([496]) سنن أبي داود، كتاب: الجهاد، باب:الوقوف على الدابة، برقم:(2567)، وصححه الشيخ الألباني، صحيح الجامع، 1 / 523، ح:2691.

([497]) صحيح مسلم،كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، برقم: (1218).

([498]) صحيح البخاري، كتاب: العلم، باب: كِتابة العِلم، برقم:(112).

([499]) ينظر: معالم السنن، للخطابي.

([500]) المسند، الإمام أحمد (3/439)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد،كتاب: الأذكار، باب: رُبَّ مركوبة أكثر ذكراً لله من راكبها،برقم:(17156)، وقال: رواه أحمد وإسناده حسن.

([501]) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، برقم: (3471).

([502]) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني 6/518.

([503]) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، 5/76.

([504]) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، 8/105.

([505]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، المجلد الخامس، 9/319.

([506]) جامع البيان عن تأويل آي القرآن لأبي جعفر الطبري 2/ 135.

([507]) صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة، برقم: (3579).

([508]) سنن الدارمي، المقدمة، ما أكرمه الله به نبيه من إيمان الشجر به، برقم: (17).

([509]) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم...، برقم: (2277).

([510]) شرح صحيح مسلم للنووي، (المجلد الخامس)، 15/36- 37.

([511]) صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب:النجار، برقم: (2095).

([512]) جامع الترمذي، كتاب المناقب، باب في آيات إثبات نبوة النبي، برقم: (3627).

([513]) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب:حديث الخضر مع موسى، برقم: (3404). والآية من [الأحزاب:69].

([514]) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني 6/438.

([515]) سنن ابن ماجه، كتاب الطهارة، باب ما جاء في القصد في الوضوء، برقم: (425)، ومسند أحمد، مسند المكثرين (2/221).

([516]) عون المعبود شرح سنن أبي داود للعظيم آبادي، 1/170.

([517]) صحيح البخاري، كتاب المزارعة، باب فضل الزرع والغرس، برقم: (2320).

([518]) حسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير، برقم: (1880).

([519]) ينظر: منهاج المسلم للشيخ أبي بكر الجزائري، ص:152-153 بتصرف.

([520]) صحيح البخاري، كتاب المزارعة، باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه، برقم: (2320).

([521]) شرح صحيح مسلم للنووي، المجلد الرابع، 10/ 213.   

([522]) صحيح البخاري، كتاب المزارعة، باب ما يكره من الشروط في المزارعة، برقم: (2332).

([523]) صحيح البخاري، كتاب المزارعة، باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع، برقم: (2321).     

([524]) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، 5/5.     

([525]) صحيح البخاري، كتاب المزارعة، باب: كراء الأرض بالذهب والفضة، برقم: (2348).

([526]) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، 5/27.   

([527]) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب: وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكر... برقم: (2362).  

([528]) صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب: العشر فيما يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري، برقم: (1483).         

([529]) صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب الصدقة في المساكين، برقم: (2984).

([530]) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، 8/223.

([531]) صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب قول الله: ﴿ $¨Bﷺ‬'sù ô`tB 4‘sÜôãﷺ‬& 4’s+¨?$#uﷺ‬ ÇÎÈ s-£‰|¹uﷺ‬ 4Óo_ó¡çtù:$$Î/ ﴾ برقم: (1442).

([532]) شرح صحيح مسلم للنووي، (المجلد الثالث) 7/ 95.

([533]) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: من غشنا، برقم: (101).

([534]) جامع الترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية الغش في البيوع، برقم: (1315).

([535]) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي 2/272.

([536]) صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده، برقم: (2072).

([537]) فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، 4/306.

([538]) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب: في فضائل زكريا عليه السلام، برقم: (2379).

([539]) شرح صحيح مسلم للنووي(المجلد الخامس)، 15/135.

([540]) صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة برقم: (1470)، وصحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس، برقم: (1042).       

([541]) شرح صحيح مسلم للنووي (المجلد الثالث)، 7/131.    

([542]) سنن أبي داود، كتاب الزكاة، باب ما تجوز فيه المسألة، برقم: (1641).         

([543]) صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي ^ الناس، برقم: (2942).        

([544]) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب: فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره، برقم: (1893).

([545]) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء، برقم: (2626).           

([546]) صحيح البخاري، كتاب الطب، باب من لم يرق، برقم: (5752).  

([547]) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب الكبر، برقم: (6071).      

([548]) مسند أحمد (6/372).

([549]) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، برقم: (19).

([550]) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، برقم: (50).

([551]) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، برقم: (43).

([552]) سنن أبي داود، كتاب الطهارة، باب الوضوء من الدم، برقم: (198).           

([553]) بهجة قلوب الأبرار للسعدي: ص:79.       

([554]) بهجة قلوب الأبرار للسعدي: ص:80.       

([555]) جامع الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في معاشرة الناس، برقم: (1987).       

([556]) جامع الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في معالي الأخلاق، برقم: (2018).     

([557]) تفسير القرآن الكريم للشيخ العثيمين 2/391.

([558]) صحيح البخاري، كتاب بدأ الخلق، باب ذكر الملائكة، برقم: (3209).       

([559]) مسند أحمد، مسند المكثرين، برقم: (3/166).

([560]) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل، برقم: (6033)، وسنن ابن ماجه، كتاب الجهاد، باب الخروج في النفير، برقم: (2772).

([561]) فتح الباري شرح صحيح البخاري للعسقلاني 6/571.

([562]) صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الشجاعة في الحرب، برقم: (2821).

([563]) فتح الباري شرح صحيح البخاري للعسقلاني 6/571.

([564]) رواه أبو الشيخ في الثواب عن أبي أمامة، وحسنه الألباني، ينظر: صحيح الجامع الصغير للألباني, 3/140، برقم: (3353).

([565]) جامع الترمذي، كتاب الزكاة، باب: ما جاء في فضل الصدقة، برقم: (664).

([566]) صححه الألباني، ينظر: صحيح الجامع الصغير، برقم: (3654).

([567]) صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، برقم: (481).

([568]) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين، برقم: (2586).          

([569]) مسند أحمد (3/87).  

([570]) أخرجه أحمد (5/229)، والطبراني في الكبير (20/80)، والحاكم في المستدرك (4/186) وصححه، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم: (4321).      

([571]) صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، برقم: (660).

([572]) جامع الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب أبي بكر وعمر، برقم: (3675).