التحميد
ترجمات المادة
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
التَّحمِيدُ([1])
إنَّ الحمدَ للَّهِ، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده اللَّهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلَّا اللَّهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسوله، صلَّى اللَّهُ عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أمَّا بعد:
فاتَّقوا اللَّه - عباد اللَّه - حقَّ التَّقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
أيُّها المسلمون:
معرفة اللَّه أصلُ الدِّين، واللَّه سبحانه تعرَّف إلى عباده بأسمائه وصفاته، وذِكْرُ أسماءِ اللَّه وصفاته وأفعاله في القرآن أكثرُ من آيات الحلال والحرام، ومِنْ أسمائه سبحانه: «الحَمِيد» الذي له من الصِّفات وأسباب الحمد ما يقتضي أن يكون محمُوداً وإنْ لم يحمده غيره، واسمه الحميد قرنه تعالى في كتابه بالعزِّة والوِلاية والمجد والغِنى والحِكمة.
وحَمْدُهُ سبحانه هو مدحه والثَّناء عليه بصفات كماله ونُعوت جلاله والإخبارُ بمحاسنه مع حُبِّه وتعظيمه، فيُحمَد سبحانه على كمالِهِ وجمالِهِ في نفسه، وعلى أفعاله وإكرامِه وإحسانِه إلى خلقه.
واللَّه تعالى حِمَد نفسه وأثنى عليها، وهو يُحِبُّ المدح والحَمْد، ومَدْحُه سبحانه لنفسه أعظم المدح وأعلاه، ولا أحد أعلمُ منه بما يستحقه من الحمد، فلا يُحصي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه، قال عليه الصلاة والسلام: «لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ المَدْحُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ» (متفق عليه)، قال النَّوَوِيُّ رحمه اللَّه: «حَقِيقَةُ هَذَا مَصْلَحَةٌ لِلعِبَادِ؛ لِأَنَّهم يُثْنُون عَلَيْهِ فيثيبهم فينتفعون بِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ، لَا يَنْفَعُهُ مَدْحُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُ تَرْكُهُمْ ذَلِكَ».
وافتتح اللَّه الخلق بالحمد، فقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾.
وخمس سور في كتابِهِ افتتحها بالحمد، أخبر فيها أنه خلق السموات والأرض، وأنزل الكتاب، وأرسل الرسل، وأمات وأحيا خلقه كل ذلك بحمده، وحَمِد نفسَه على ربوبيته الشاملةِ لذلك كلِّه في افتتاح كتابه العظيم، فقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
وحملةُ العرش يَحْمَدون اللَّه لا يفترون، ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾، وجميعُ الملائكة يحمدون اللَّهَ، ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾.
وما من نبيٍّ إلَّا كان يُظهر الحمدَ لربِّه على اختلاف الأحوال، فقال اللَّه لنوح عليه السلام: ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾، وقال إبراهيم عليه السلام: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾، وقال داود وسليمان عليهما السلام: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وأمر اللَّهُ نبيِّنا محمَّداً ﷺ أن يحمد اللَّه: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾، وأمَرَ سبحانه عبادَه أنْ يحمدوه: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا﴾، ومن صفات المؤمنين الموعودين بالجنَّة أنَّهم حامدون للَّه، ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ﴾، ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ﴾.
وأَخْبَر تعالى أنَّ الحمد له في كلِّ زمانٍ ومكانٍ فقال: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾.
وحَمْد اللَّه قد ملأ السَّماواتِ والأرضَ وما بينهما، فما من شيء في الكون إلا وهو يحمد اللَّه ويسبحه ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾.
والحمدُ للَّه ذِكْرٌ عظيم يُحبُّه اللَّه، وهو أحقُّ ما قاله العبدُ من الكلام، ولا يخلو موطن منه في يومِهِ وليلتِه، فعلى التَّوحيد والحمد يدور الدِّين كلُّه، قال سبحانه: ﴿هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، قال شيخ الإسلام رحمه اللَّه: «والحمد إنَّما يَتِمُّ بالتَّوحيد، وهو مناطٌ للتَّوحيد ومُقدمةٌ له، ولهذا يُفتَتَح به الكلام، ويُثَنَّى بالتَّشهد».
وفي العبادات شرع اللَّه لعبادِهِ افتتاح الصَّلاة بالحمد، وكان النَّبي ﷺ يُنوِّع صيغ الحمد في أوَّل صلاة الليل والنَّهار، وسمِعَ النَّبي ﷺ رجلاً في الصَّلاة يقول: «اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيراً، وَالحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيراً، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، فَقَالَ: عَجِبْتُ لَهَا، فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ» (رواه مسلم).
والفاتحة سورة الحمد لا تَصِحُّ صلاةٌ إلا بها، وإذا رفع العبد من الركوع قال: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ»، فإجابة اللَّه لعبده معلَّقة على حمده للَّه، مما يجعل الحمد روحَ الصلاة وعِمادَها، وكان النَّبي ﷺ يُكثِر من حمدِهِ لِرَبِّه في هذا الرُّكن، ويُنَوِّع صيغه، ويصف حَمْدَه بالكثرة والطِّيب والبركة، وسمع رجلاً يقول بعد الركوع: «رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ، فَقَالَ: رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ مَلَكاً يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ» (رواه البخاري).
وَمَنْ قَضى صَلاتُهُ فَحَمدِ اللَّه وَكبَّره وسبَّحه غُفِرت خَطَايَاه وإنْ كانَتْ مثلَ زَبَدِ البَحر، ويُدرِك بها المرء مَنَازل المتَصَدِّقين بِأمْوَالهِم (رواه مسلم).
وفي الحجِّ كان النَّبي ﷺ يَحمد اللَّه في أكثر مواطنه وشِعار الحج: التَّلبية، وهي مشتملةٌ على إفراد اللَّه بكمالِ الحمد «إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ» (متفق عليه).
والخُطب الشَّرعية في الجُمَع والأعياد والمجامِع العظام وكلُّ أمر ذي شأن يُسْتَفتح بحمد اللَّه.
وحمد اللَّه والثَّناء عليه يأخذ بالألباب، جاء ضِمَادٌ الأَزْدِيُّ إلى النَّبي ﷺ فسَمِعَه يُثْنِي على الرَّب ويحمده في مطلع كلماته: «إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ …، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ؛ فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ ضِمَادٌ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الكَهَنَةِ وَقَوْلَ السَّحَرَةِ وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ، وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ البَحْرِ - أَيْ: قَعْرَهُ الأَقْصَى -، فَقَالَ - لِلنَّبِيِّ ﷺ -: هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الإِسْلَامِ، قَالَ: فَبَايَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وَعَلَى قَوْمِكَ - أَيْ: بَايِعْ عَنْ قَوْمِكَ -، قَالَ: وَعَلَى قَوْمِي» (رواه مسلم).
ومجالسُ الذِّكر التي فيها حمد اللَّه تَحْضُرُهَا الملائكة، فَيُخبرون اللَّهَ أنَّهم يُسبِحونَهُ ويُكبِّرونه ويُهلِّلُونه ويحمَدُونه ويسألونَه؛ فيَغفِر لهم (متفق عليه).
والدُّعاءُ المفتتح بالحمد حريٌّ بالإجابة، قال النَّبي ﷺ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ - أَيْ: دَعَا -؛ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ» (رواه الترمذي).
وكما أنَّ الحمد ملازمٌ للعبدِ في عباداته فهو ملازمٌ له في أحواله، فكان الرسول ﷺ إذا أكل طعاماً قال: «الحَمْدُ لِلَّهِ حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ» (رواه البخاري).
وحَمْدُ اللَّه عَقِب الأكل والشُّرب من أسباب رِضوان اللَّه والقُربِ منه، قال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا» (رواه مسلم).
ونعمة الملبس قرينة الطعام والشَّراب وكان النَّبي ﷺ إذا لبس ثوباً سمَّاه باسمه وقال: «اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ كَسَوْتَنِيهِ» (رواه أحمد).
وأمر النبيُّ ﷺ مَن عَطَس أن يقول: «الحَمْدُ لِلَّهِ» (رواه البخاري)، وإذا رجع مِنْ سفر قال: «آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» (متفق عليه).
وأوصى النَّبي ﷺ مَن أَوَى إلى فراشه: أَنْ يحمد اللَّه قبل نومه ثلاثاً وثلاثين مرة، فذلك مع التَّسبيح والتَّكبير خير من خادم (رواه مسلم).
ومَنْ ردَّ اللَّه عليه روحه بعد نومه فقد أنعم عليه بزيادةٍ في عمره يزداد فيه من الخير، وكان الرسول ﷺ إذا استيقظ من منامه قال: «الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أمَاتَنَا، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» (رواه مسلم).
وحَمْدُ اللَّه وتسبِيحُه يشرح الصَّدر ويُعين على الأمور، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾.
ومَن حرَّك لسانه بالحمد مرة واحدة كان له بكل تحميدة أجر صدقة بماله، قال عليه الصلاة والسلام: «كُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ» (رواه مسلم).
والحمد إحدى أربع كلماتٍ هي أحبُّ الكلام إلى اللَّه، وهي أحبُّ إلى النَّبي ﷺ ممَّا طلعت عليه الشمس من الدُّنيا وما فيها (رواه مسلم).
ومَن لازم الحمد سبق غيره، قال النبي ﷺ: «مَنْ قَالَ: حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، مِئَةَ مَرَّةٍ؛ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلَّا أَحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ، أَوْ زَادَ عَلَيْهِ» (رواه مسلم).
والحمد مع التَّهليل يَعْدِل عتق رقاب، ويوجب حطَّ الخطايا والسيئات، و«مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ؛ غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الجَنَّةِ» (رواه الترمذي).
وصيغةٌ من الحمد ثوابُها مضاعف، قال النَّبي ﷺ لِجُوَيْرِيَّةَ رضي اللَّه عنها: «لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ اليَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» (رواه مسلم).
والحمدُ والتَّسبيحُ خفيفٌ على اللِّسان ثقيل في الميزان، قال عليه الصلاة والسلام: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ» (متفق عليه).
«وَالحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ المِيزَانَ - أَيْ: مِنَ الأَجْرِ -» (رواه مسلم)، والحمد مع التَّسبيح يملأ ما بين السموات والأرض.
وكما أنَّ الحمد فاتحة كُلِّ أمرٍ فهو خاتمته، فـ«مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ؛ إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ» (رواه الترمذي).
وبعدَ أنْ أكمل اللَّه الدِّين على يد النَّبي ﷺ وأتمَّ عليه النِّعمة ودنا أجله قال اللَّه له: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ﴾.
ونبيُّنا محمَّدٌ ﷺ أكثرُ الخلق حمداً للَّه، ويوم القيامة يَبْعَثُه اللَّهُ مقاماً محموداً يَحْمَدُه عليه الخلائق كلُّهم، ويأتي وبيده لِواء الحمد - صورةً ومعنًى - يقف تحته الخلق كلُّهم، قال عليه الصَّلاةُ والسَّلام: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُ عَنْهُ الأَرْضُ وَلَا فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الحَمْدِ وَلَا فَخْرَ، آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي» (رواه أحمد).
وكما افتتح اللَّه الخلق بالحمد ختم هذا العالم بالحمد، فقال: ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، قال ابن كثيرٍ رحمه اللَّه: «أَيْ: ونَطَقَ الكونُ أجمعُه - ناطقُهُ وبهيمُهُ - لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، بِالحَمْدِ فِي حُكْمِهِ وَعَدْلِهِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُسْنِدِ القَوْلَ إِلَى قَائِلٍ بَلْ أَطْلَقَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ المَخْلُوقَاتِ شَهِدَت لَهُ بِالحَمْدِ».
وحمدهُ سبحانه ثابتٌ له في الدُّنيا، ودائمٌ في الآخرة، فإذا دخل أهل الجنَّةِ الجنَّةَ أول كلمة يقولونها: الحَمد لِلَّهِ، قال سبحانه: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾، وهم فيها يُلْهَمُون التَّسبيح والتَّحميد كما يُلْهَمُون النَّفس، ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، قال البغويُّ رحمه اللَّه: «يريد يَفتتحون كلامهم بالتَّسبيح، ويَخْتِمونه بالتَّحميد».
وبعدُ، أيُّها المسلمون:
فحمد اللَّه ملأ الدُّنيا والآخرة والسَّمواتِ والأرض وما بينهما وما فيهما، ومَنْ كَفَرَ مِنَ العِباد به أو بنعمِهِ فاللَّه غنيٌّ عنهم، قال سبحانه: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾، والنِّعم ابتدأت بحمده وانتهت إلى حمده، وهو سبحانه المَعْبُود المَحْمُود، وبالحمد والشُّكر تدوم النِّعم وتزيد؛ فأكثروا من حمد اللَّه والثَّناء عليه ومدحِ دينه وشرعه، فمدح ما يُحبه اللَّه مدح وحمد له.
أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم
﴿وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾
بارك اللَّه لي ولكم في القرآن العظيم …
الخطبة الثانية
الحمد للَّهِ على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلَّا اللَّهُ وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمداً عبدُهُ ورسوله، صلَّى اللَّهُ عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّمَ تسليماً مزيداً.
أيُّها المسلمون:
الحمد قرين التَّسبيح وتابع له، فالتَّسبيح تنزيهُ اللَّه عن النَّقائص، والحمد إثباتُ الكمال والجمال له على الإجمال والتَّفصيل، وكلٌّ منهما مستلزمٌ للآخر، وإذا ذُكِر أحدهما مفرداً شمِل معنى الآخَرِ وتضمَّنه.
وذِكْرُ العبد ربَّهُ أَمارة صدق محبَّتِهِ لِمولاه، ومَنْ عَرَف رَبَّهُ وحمده في الرَّخاءِ عرفهُ في الشِّدة، ومَنْ ذَكَرَهُ كثيراً كان من المفلحين.
ثمَّ اعلموا أنَّ اللَّهَ أمركم بالصلاة والسلام على نبيِّه …
([1]) أُلقيت يوم الجمعة، الثاني من شهر ربيع الأول، سنة ثلاث وأربعين وأربع مئة وألف من الهجرة، في المسجد النبوي.