منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات
ترجمات المادة
التصنيفات
الوصف المفصل
منْهجٌ ودرَاساتٌ لآيات الأسماءِ والصِّفات
__________ قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: قال المحقق في المقدمة: محاضرة ألقاها بالجامعة الإسلامية بتاريخ 13 / رمضان / 1382. بيّن فيها اعتقاد السلف في الأسماء والصفات، وردّ فيها على المخالفين عقلًا ونقلًا.
(1/85)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد؛ فإنا نريد أن نوضح لكم معتقد السلف، والطريق الذي هو المَنْجَى نحو آيات الصفات: أولًا: اعلموا أن كثرة الخوض والتعمق في آيات الصفات، وكثرة الأسئلة في ذلك الموضوع هذا من البدع التي يكرهها السلف. اعلموا أن مبحث آيات الصفات دل القرآن العظيم على أنه يتركَّز على ثلاثة أسس، من جاء بها كلِّها فقد وافق الصواب، وكان على الاعتقاد الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والسلف الصالح، ومن أخل بواحد من تلك الأسس الثلاثة فقد ضل. وكل هذه الأسس الثلاثة يدل عليه قرآن عظيم. أحد هذه الأسس الثلاثة: الأول منها: هو تنزيه الله جل وعلا عن أن يشبه شيءٌ من صفاته شيئًا من صفات المخلوقين، وهذا الأصل يدل عليه قوله تعالى: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} [الشورى: 11]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَال} [النحل: 74]. الثاني من هذه الأسس: هو الإيمان بما وصف الله به نفسه، لأنه لا يصف اللهَ أعلمُ بالله من الله {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140]. وما وصفه
(1/87)
به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه لا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال في حقه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4]. فيلزم على كل مكلف أن يؤمن بما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وينزه ربه جل وعلا عن أن تشبه صفته صفة الخلق. فحيث أخل بأحد هذين الأصلين وقع في هوة ضلال، لأن من تنطَّع بين يدي ربِّ السموات والأرض، وتجرَّأ هذه الجراءة العظيمة، ونفى عن ربه وصفًا أثبته ربه لنفسه، فهذا مجنون. فالله جل وعلا يثبت لنفسه صفات كمال وجلال. فكيف يليق بمسكين جاهل أن يتقدم بين يدي رب السموات والأرض، ويقول: هذا الذي وصفتَ به نفسَك لا يليق بك، ويلزمه من النقص كذا وكذا وكذا، فأنا أؤوله وأنفيه، وآتي ببدله من تلقاء نفسي، من غير استناد إلى كتاب وسنة، سبحانك هذا بهتان عظيم!. ومن ظنَّ أن صفةَ خالق السموات والأرض تشْبهُ شيئًا من صفات الخلق، فهذا مجنون جاهل ملحد ضال. ومن آمن بصفات ربه جل وعلا، منزِّهًا ربه عن مشابهة صفات الخلق، فهو مؤمن منزه سالم من ورطة التشبيه والتعطيل. وهذا التحقيق هو مضمون {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11] هذه الآيةُ فيها تعليمٌ عظيم يحل جميع الإشكالات ويجيب عن جميع الأسئلة حول الموضوع، ذلك لأن الله قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} بعد قوله: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ}،
(1/88)
ومعلوم أن السمع والبصر من حيث هما سمع وبصر يتصف بهما جميع الحيوانات. فكأن الله يشير للخلق بأن يقول: لا تنفوا عني صفة سمعي وبصري، بادعاء أن الحوادث تسمع وتبصر، وأن ذلك تشبيه، لا وكلَّا، بل أثبتوا لي صفة سمعي وصفة بصري على أساس {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، فالله جل وعلا له صفات لائقة بكماله وجلاله. والمخلوقات لهم صفات مناسبة لحالهم وكل هذا حق ثابت لا شك فيه. إلا أن صفة رب السموات والأرض أعلى وأكمل من أن تشبه شيئًا صفات المخلوقين. فمن نفى عن الله وصفًا أثبته لنفسه، فقد جعل نفسه أعلم بالله من الله. سبحانك هذا بهتان عظيم! ومن ظن أن صفة ربه تشبه شيئًا من صفات الخلق، فهذا مجنون ضال ملحد لا عقل له، يدخل في قوله: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالمِينَ (98)} [الشعراء: 97، 98] فمن يسوِّي رب العالمين بغيره فهو مجنون! ثم اعلموا أن المتكلمين الذين خاضوا في الكلام، وجاءوا بأدلة يسمونها أدلة عقلية، ركَّبوها في أقيسة منطقية، قسموا صفات الله جل وعلا إلى ستة أقسام. قالوا: هناك صفة نفسية، وصفة معنى، وصفة معنوية، وصفة فعلية، وصفة سلبية، وصفة جامعة. أما الصفات الإضافية فقد جعلوها أمورًا اعتبارية لا وجود لها في الخارج، وسببوا بذلك إشكالات عظيمة وضلالًا مبينًا. ثم إنّا نبين لكم على تقسيم المتكلمين ما جاء في القرآن العظيم من وصف الخالق جل وعلا بتلك الصفات، ووصف المخلوقين بتلك
(1/89)
الصفات. وبيان القرآن العظيم أن صفة خالق السموات والأرض حق، وأن صفة المخلوق حق، وأنه لا مناسبة بين صفة الخالق وبين صفة المخلوق. فصفة الخالق لائقة بذاته، وصفة المخلوق مناسبة لعجزه وفنائه وافتقاره، وبين الصفة والصفة من المخالفة كمثل ما بين الذات والذات. أما هذا الكلام الذي يُدْرَس في أقطار الدنيا اليوم في المسلمين؛ فإن أغلبهم إنما يثبتون من الصفات التي يسمونها صفات المعاني، سبعَ صفاتٍ فقط، وينكرون سائرها من المعاني. وصفة المعنى عندهم في الاصطلاح ضابطها: هي ما دل على معنى وجودي قائم بالذات، والذي اعترفوا به منها سبع صفات هي القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام. ونفوا غير هذه الصفات من صفات المعاني التي سنبينها ونبين أدلتها من كتاب الله. وأنكر هذه المعاني السبعة المعتزلة، وأثبتوا أحكامها، فقالوا: هو قادر بذاته، سميع بذاته، عليم بذاته، حي بذاته. ولم يثبتوا قدرةً ولا علمًا ولا حياةً ولا سمعًا ولا بصرًا، وهو مذهبٌ كل العقلاء يعرفون ضلاله وتناقضه، وأنه إذا لم يقم بالذات علم استحال أن تقول: هي عالمة بلا علم. وهو تناقض واضح بأوائل العقول. فإذا عرفتم هذا فسنتكلم على صفات المعاني التي أقروا بها فنقول: 1 - وصفوا الله بالقدرة، وأثبتوا له القدرة، والله جل وعلا يقول في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ (20)} [البقرة: 20] ونحن نقطع بأنه
(1/90)
تعالى متصف بصفة القدرة على الوجه اللائق بكماله وجلاله. كذلك وصَفَ بعضَ المخلوقين بالقدرة قال: {إلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيهِمْ} [المائدة: 34] فأسند القدرة لبعض الحوادث ونسبها إليهم. ونحن نعلم أن كل ما في القرآن حق، وأن للخالق جل وعلا قدرة حقيقية تليق بكماله وجلاله، كما أن للمخلوقين قدرة حقيقية مناسبة لحالهم وعجزهم وفنائهم وافتقارهم. وبين قدرة الخالق والمخلوق من المنافاة والمخالفة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق، وحسبك بونًا بذلك. 2، 3 - وصف نفسه جل وعلا بالسمع والبصر في غير ما آية من كتابه، قال {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)} [المجادلة: 1]، {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11]. ووصف بعض الحوادث بالسمع والبصر، قال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)} [الإنسان: 2 {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم: 38] ونحن لا نشك أن ما في القرآن حق، فلله جل وعلا سمع وبصر حقيقيان لائقان بجلاله وكماله، كما أن للمخلوق سمعًا وبصرًا حقيقيين مناسبين لحاله من فقره وفنائه وعجزه. وبين سمع وبصر الخالق وسمع وبصر المخلوق من المخالفة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق. 4 - وصف جل وعلا نفسه بالحياة، قال: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا هُوَ الْحَيُّ} [البقرة: 255] {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إلا هُوَ} [غافر: 65] {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58].
(1/91)
ووصف أيضًا بعض المخلوقين بالحياة، قال: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] {وَسَلَامٌ عَلَيهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)} [مريم: 15] {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم: 19] ونحن نقطع بأن لله جل وعلا صفة حياة حقيقية لائقة بكماله وجلاله، كما أن للمخلوقين حياة مناسبة لحالهم وعجزهم وفنائهم وافتقارهم، وبين صفة الخالق والمخلوق من المخالفة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق. وذلك بون شاسع بين الخالق وخلقه. 5 - وصف جل وعلا نفسه بالإرادة قال: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]. ووصف بعضَ المخلوقين بالإرادة قال: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67] {إِنْ يُرِيدُونَ إلا فِرَارًا (13)} [الأحزاب: 13] {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} [الصف: 8] ولا شك أن لله إرادة حقيقية لائقة بكماله وجلاله كما أن للمخلوقين إرادة مناسبة لحالهم وعجزهم وفنائهم وافتقارهم. وبين إرادة الخالق والمخلوق من المخالفة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق. 6 - وصف نفسه جل وعلا بالعلم، قال {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ (11)} [التغابن: 11 {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166 {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)} [الأعراف: 7]. ووصف بعض المخلوقين بالعلم قال: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28)} [الذاريات: 28 {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: 68] ولا شك أن للخالق جل وعلا علمًا حقيقيًّا لائقًا بكماله وجلاله محيطًا بكل شيء.
(1/92)
كما أن للمخلوقين علمًا مناسبًا لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم. وبين علم الخالق والمخلوق من المنافاة والمخالفة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق. 7 - وصف نفسه جل وعلا بالكلام، قال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء: 164] {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]. ووصف بعض المخلوقين بالكلام، قال {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَال إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَينَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)} [يوسف: 54] {تُكَلِّمُنَا أَيدِيهِمْ} [يس: 65] ولا شك أن للخالق جل وعلا كلامًا حقيقيًّا لائقًا بكماله وجلاله، كما أن للمخلوقين كلامًا مناسبًا لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم، وبين كلام الخالق والمخلوق من المخالفة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق. هذه صفات المعاني، نظرتم ما في القرآن من وصف الخالق بها ووصف المخلوق، ولا يخفى على عاقل أن صفات الخالق حق، وأن صفات المخلوق حق، وأن صفات الخالق لائقة بجلاله وكماله، وصفات المخلوقين مناسبة لحالهم. وبين الصفة والصفة كما بين الذات والذات.
[الكلام على الصفات السلبية عند المتكلمين]
وهذ الصفات التي يسمونها سلبية. وضابط الصفة السلبية عند المتكلمين: هي الصفة التي دلت على عدم محض. والمراد بها أن تدل على سلب ما لا يليق بالله عن الله من
(1/93)
غير أن تدل على معنى وجودي زائد على الذات. والذين قالوا هذا جعلوا الصفات السلبية عندهم خمسًا لا سادسة لها، وهي عندهم: القدم، والبقاء، والمخالفة للخلق، والوحدانية، والغنى المطلق الذي يسمونه القيام بالنفس الذي يعنون به الاستغناء به عن المخصِّص المحل. فإذا عرفتم هذا فاعلموا أن القدم والبقاء اللذين وصف المتكلمون بهما الله جل وعلا زاعمين أنه وصف بهما نفسه في قوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد: 3] والقِدَم في الاصطلاح عندهم: عبارة عن سلب العدم السابق، إلا أنه عندهم أخص من الأزل؛ لأن الأزل عبارة عما لا افتتاح له، سواء كان وجوديًّا أو عدمًا. والقدم عندهم: عبارة عما لا أول له، بشرط أن يكون وجوديًّا، كذات الله متصفة بصفات الكمال والجلال. ونحن الآن نتكلم على ما وصفوا به الله جل وعلا من القدم والبقاء، وإن كان بعض العلماء كره وصفه جل وعلا بالقدم لما يأتي. فالله جل وعلا وصف المخلوقين بالقدم، قال: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)} [يوسف: 95] {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)} [يس: 39] {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)} [الشعراء: 76]. ووصف المخلوقين بالبقاء قال: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)} [الصافات: 77] {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96]. ولا شك أن ما وُصفَ به الله من هذه الصفات [مخالف لما وصف به الخلق نحو ما تقدم] (1). __________ (1) انقطع التسجيل هنا، وأكملناه بما بين المعكوفين.
(1/94)
أما الله جل وعلا فلم يصف في كتابه نفسه بالقدم، وبعض السلف كره وصفه بالقدم، لتشبيهه بـ: {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] {إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: 95] {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)} [الشعراء: 76] وقد جاء فيه حديث، بعض العلماء يقول: هو يدل على وصفه بهذا، وبعضهم يقول: لم يثبت. أما الأولية والآخرية التي نص الله عليهما في قوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد: 3] فقد وصف المخلوقين أيضًا بالأولية والآخرية، قال: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17)} [المرسلات: 16، 17] ولا شك أن لله أوَّليَّة وآخريَّة لائقتان بكماله وجلاله، كما أن للمخلوقين أولية وآخرية مناسبة لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم. وصف نفسه بأنه واحد، قال: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163] ووصف بعض المخلوقين بذلك، قال: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} [الرعد: 4] وصف نفسه بالغنى {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)} [إبراهيم: 8] {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)} [التغابن: 6] ووصف بعض المخلوقين بالغنى، قال {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32]. فهذه صفات السلب، جاء في القرآن وصف الخالق والمخلوق بها. ولا شك أن ما وُصِفَ به الخالق منها لائق بكماله وجلاله. وما وُصِف به المخلوق مناسب لحاله وعجزه وفنائه وافتقاره. * * *
(1/95)
[الكلام عن الصفات السبع]
ثم نذهب إلى الصفات السبع التي يسمونها المعنوية. والتحقيق أن عدَّ الصفات السبع المعنوية التي هي كونه تعالى قادرًا ومُريدًا وعالمًا وحيًّا وسميعًا وبصيرًا ومتكلمًا= أنها في الحقيقة إنما هي كيفية الاتصاف بالمعاني السبع التي ذكرنا. ومن عدَّها من المتكلمين عدّوها بناءً على ثبوت ما يسمونه الحال المعنوية التي يزعمون أنها واسطة ثبوتية، لا معدومة ولا موجودة. والتحقيق أنَّ هذه خرافة وخيال. وأن العقل الصحيح لا يجعل بين الشيء ونقيضه واسطة ألبتة، فكل ما ليس بموجود فهو معدوم قطعًا، وكل ما ليس بمعدوم فهو موجود قطعًا، ولا واسطة ألبتة، كما هو معروف عند العقلاء. فإذًا قد مثلَّنا لكونه قادرًا وحيًّا ومريدًا وسميعًا وبصيرًا ومتكلمًا، لما جاء في القرآن من وصف الخالق بذلك وما جاء في القرآن من وصف المخلوق بذلك، وبيَّنا أن صفة الخالق لائقة بكماله وجلاله وأن صفة المخلوق مناسبة لحاله وفنائه وعجزه وافتقاره، فلا داعي لأن ننفي وصف رب السموات والأرض عنه لئلّا نشبِّهَه بصفات المخلوقين، بل يلزم أن نقر بوصف الله، ونؤمن به في حال كوننا منزِّهين له عن مشابهة صفة المخلوق. هذه صفات الأفعال جاء في القرآن بكثرة وصفُ الخالق بها ووصف المخلوق، ولا شك أن ما وُصِف به الخالق منها مخالف لما وُصِف به المخلوق، كالمخالفة التي بين ذات الخالق وذات المخلوق. من ذلك أنه وصف نفسه جل وعلا بصفة الفعل التي هي أنه يرزق الخلقَ. قال جل وعلا: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ
(1/96)
هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات / 57 - 58] {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيرُ الرَّازِقِينَ (39)} [سبأ: 39] {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيرٌ مِنَ اللَّهْو وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيرُ الرَّازِقِينَ (11)} [الجمعة: 11]. ووصف بعضَ المخلوقين بصفة الرزق، قال: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} [النساء: 5] {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233] ولا شك أن ما وُصِف الله به من هذا الفعل مخالف لما وُصِف به منه المخلوق، كمخالفة ذات الله لذات المخلوق. وصف نفسه جل وعلا بصفة الفعل الذي هو العمل، قال {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71)} [يس: 71]. ووصف المخلوقين بصفة الفعل التي هي العمل قال: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)} [الطور: 16] ولا شك أن ما وُصِف الله به من هذا الفعل مناف لما وُصِف به المخلوق مخالف له كمخالفة ذات الخالق لذات المخلوق. وصف نفسه بأنه يعلِّم خلقه: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4 {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 3 - 5] {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيكَ عَظِيمًا (113)} [النساء: 113]. ووصف بعض خلقه بصفة الفعل التي هي التعليم أيضًا، قال:
(1/97)
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} [الجمعة / 2] وجمع المثالين في قوله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة / 4]. ووصف نفسه جل وعلا بأنه يُنبِّئْ ووصف المخلوق بأنه يُنَبِّئْ، وجمع بين الصفة الفعل في الأمرين في قوله جل وعلا: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَال نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)} [التحريم: 3] ولا شك أن ما وُصِف الله به من هذا الفعل مخالف لما وُصِف به منه العبد، كمخالفة ذات الخالق لذات المخلوق. وصف نفسه بصفة الفعل الذي هو الإيتاء. قال جل وعلا: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة / 269] {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود / 3] ووصف المخلوقين بالفعل الذي هو الإيتاء، قال: {وَآتَيتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء / 20]. {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء / 4] ولا شك أن ما وصف الله به من هذا الفعل مخالف لما وصف به العبد من هذا الفعل كمخالفة ذاته لذاته.
[الصفات الجامعة]
ثم نتكلم على الصفات الجامعة، كالعلو والعِظَم والكِبَر والملك والتكبُّر والجبروت والعزة والقوة، وما جرى مجرى ذلك من الصفات الجامعة. فنجد الله وصف نفسه بالعلو والكِبَر والعِظَم، قال في وصف نفسه
(1/98)
بالعلو والعِظَم: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة / 255] وقال في وصف نفسه بالعلو والكِبَر: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء / 34] {عَالِمُ الْغَيبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)} [الرعد: 9]. ووصف بعض المخلوقين بالعِظَم قال: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء / 63] {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء / 40] {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل / 23] ووصف بعض المخلوقين بالعلو قال: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} [مريم: 57] {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} (1) [مريم / 50]. ولا شك أن ما وُصِف الله به من هذه الصفات الجامعة، كالعلو والكِبَر والعظم مناف لما وُصِف به المخلوق منها، كمخالفة ذات الخالق جل وعلا لذات المخلوق. فلا مناسبة بين ذات الخالق والمخلوق، كما لا مناسبة بين صفة الخالق والمخلوق. وصف نفسه بالملك، قال: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ} [الجمعة: 1] {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} [الحشر / 23] {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55]. ووصف بعض المخلوقين بالملك، قال: {وَقَال الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} [يوسف / 43] {وَقَال الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف / 50] {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف / 79] {تُؤْتِي الْمُلْكَ __________ (1) أقحم في المطبوعات هذا التكميل: ووصف بعض المخلوقات بالكبر {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود / 11] {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء / 63].
(1/99)
مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران / 26]، ولا شك أن لله جل وعلا ملكًا حقيقيًّا لائقًا بكماله وجلاله، كما أن للمخلوقين ملكًا مناسبًا لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم. وصف نفسه بأنه جبار متكبر في قوله: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ... } إلى قوله: {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر / 23] ووصف بعض المخلوقين بأنه جبار متكبر قال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)} [غافر / 35] {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)} [الشعراء / 130] {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)} [الزمر / 60] {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)} [إبراهيم / 15] ولا شك أن ما وصف به الخالق من هذه الصفات مناف لما وصف به المخلوق، كمنافاة ذات الخالق لذات المخلوق. وصف نفسه جل وعلا بالعزة، قال: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)} [البقرة / 220] {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)} [ص / 9]. ووصف بعض المخلوقين بالعزة، {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} [يوسف / 51] {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)} [ص / 23] وجمع المثالين في قوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون / 8]. ولا شك أن ما وصف به الخالق من هذا الوصف مناف لما وصف به المخلوق كمخالفة ذات الخالق لذات المخلوق. ووصف نفسه جل وعلا بالقوة، قال: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات / 57 - 58] {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)} [الحج / 40].
(1/100)
ووصف بعض المخلوقين بالقوة، {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود / 52] وفي قوله جل وعلا: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم / 54] وجمع بين المثالين في قوله: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت / 15]. * * *
(1/101)
[الصفات التي اختلف فيها المتكلمون]
ثم إننا نتكلم على الصفات التي اختلف فيها المتكلمون، هل هي صفات فعل أو صفات معنى، والتحقيق أنها صفات معان قائمة بذات الله جل وعلا، كالرأفة والرحمة والحلم. فنجده جل وعلا وصف نفسه بأنه رؤوف رحيم، قال: {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل / 7] ووصف بعض المخلوقين بذلك، قال في نبينا - صلى الله عليه وسلم -: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]. وصف نفسه بالحلم، قال: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)} [الحج: 59] {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة / 235] {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)} [البقرة: 263]. وصف بعض المخلوقين بالحلم، قال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)} [الصافات: 101]، {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)} [التوبة / 114]. وصف نفسه بالمغفرة قال: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة / 173] {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة / 284] ووصف بعض المخلوقين بالمغفرة، قال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [الشورى: 43] {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ} [البقرة / 263] {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ (14)} [الجاثية: 14]. ولا شك أن ما وُصف به خالق السموات والأرض من هذه الصفات أنه حق لائق بكماله وجلاله لا يجوز أن يُنْفى خوفًا من التشبيه بالخلق. وأن ما
(1/102)
وصف به الخلق من هذه الصفات حق مناسب لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم. وعلى كل حال فلا يجوز للإنسان أن يتنطع إلى وصفٍ أثبته الله جل وعلا لنفسه، فينفي هذا الوصف عن الله متهجِّمًا على رب السموات والأرض، مُدَّعيًا عليه أن هذا الوصف الذي تمَدَّح به أنه لا يليق به، وأنه هو ينفيه عنه، ويأتيه بالكمال من كيسه الخاص، فهذا جنون وهوس، ولا يذهب إليه إلا من طمس الله بصائرهم. وسنضرب لكم لهذا مثالًا يتبين به الكل، لأن مثالًا واحدًا من آيات الصفات ينسحب على الجميع، إذ لا فرق بين الصفات، لأن الموصوف بها واحد. وهو جل وعلا لا يشبهه شيء من خلقه في شيء من صفاته ألبتة. فهذه صفة الاستواء التي كثر فيها الخوض، ونفاها كثير من الناس بأقْيِسةٍ منطقية، وأدلة جدلية سنتكلم في آخر البحث على وجوه إبطالها كلامًا يخص الذين درسوا المنطق والجدل، ليتبينوا كيف استدل أولئك بالباطل، وأبطلوا به الحق، وأحقوا به الباطل. فهذه صفة الاستواء تجرَّأ الآلاف ممن يدَّعون الإسلام ونفوها عن رب السموات والأرض بأدلة منطقية، يركبون فيها قياسًا استثنائيًا مركبًا من شرطية متصلة لزومية، يستثنون فيه نقيض التالي، ينتجون في زعمهم الباطل نقيض المقدم، بناءً على أن نفي اللازم يقتضي نفي الملزوم.
(1/103)
فيقولون مثلًا: لو كان مستويًا على عرشه -والعرش مخلوق- لكان مشابهًا للخلق في استوائه على العرش. أولًا: اعلموا أن هذه الصفة التي هي صفة الاستواء هي صفة كمال وجلال، تمدَّحَ بها رب السموات والأرض. والقرينة على أنها صفة كمال وجلال: أن الله ما ذكرها في موضع من كتابه إلا مصحوبةً بما يبهر العقول من صفة كماله وجلاله التي هي منه. وسنضرب لكم مثلًا لذلك بذكر الآيات: 1 - فأول سورة ذكر الله فيها صفة الاستواء سورة الأعراف، قال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالمِينَ (54)} [الأعراف: 54] فهل لأحد أن ينفي بعض هذه الصفات الدالة على الكمال والجلال. 2 - الموضع الثاني في سورة يونس، قال الله فيها: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)} [يونس 3 - 6].
(1/104)
فهل لأحد أن ينفي شيئًا من هذه الصفات الدالة على هذا من الكمال والجلال. 3 - الموضع الثالث في سورة الرعد، في قوله جل وعلا: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَينِ اثْنَينِ يُغْشِي اللَّيلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاورَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} [رعد / 2 - 4] وفي القراءة الأخرى: {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٍ وَغَيرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} [الرعد: 4] وفي القراءة الأخرى: {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٍ وَغَيرُ صِنْوَانٍ تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فهل لأحد أن ينفي شيئًا من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال؟! 4 - الموضع الرابع في سورة طه: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَينَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)} [طه / 1 - 8]. فهل لأحد أن ينفي شيئًا من هذه الصفات الدالة على هذا من الجلال والكمال؟! 5 - الموضع الخامس في سورة الفرقان، في قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا الَّذِي خَلَقَ
(1/105)
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)} [الفرقان / 58 - 59] فهل لأحد أن ينفي شيئًا من هذه الصفات الدالة على هذا من الكمال والجلال؟! 6 - الموضع السادس في سورة السجدة في قوله جل وعلا: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)} [السجدة / 3 - 9] فهل لأحد أن ينفي شيئًا من هذه الصفات الدالة على هذا من غايات الكمال والجلال؟! 7 - الموضع السابع في سورة الحديد في قوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَينَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)} [الحديد / 3 - 4]. فالشاهد أن هذه الصفات التي يظن الجاهلون أنها صفة نقص، ويتهجمون على رب السموات والأرض بأنه وصف نفسه صفة نقص. ثم يسببون عن هذا أن ينفوها ويؤولوها، مع أن الله جل وعلا تمَدَّح بها
(1/106)
وجعلها من صفات الكمال والجلال، مقرونة بما يبهر العقول من صفات الكمال والجلال. هذا يدل على جهل وهَوَس من ينفي بعض صفات الله جل وعلا بالتأويل. ثم اعلموا أن هذا الشيء الذي يقال له: التأويل، الذي فَتَنَ اللَّهُ به الخلق، وضل به الآلاف المؤلَّفة من هذه الأمة، اعلموا أن التأويل يطلق في الاصطلاح مشتركًا بين ثلاثة معان: 1 - يطلق على ما تؤول إليه حقيقة الأمر في ثاني حال. وهذا هو معناه في القرآن، نحو {ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحْسَنُ تَأْويلًا (59)} [النساء / 59 {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْويلُهُ} [يونس / 39] {يَوْمَ يَأْتِي تَأْويلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} [الأعراف / 53] أي: ما تؤول إليه حقيقة الأمر في ثاني حال. 2 - ويطلق التأويل على التفسير، وهذا قول معروف (1) كقول ابن جرير: القول في تأويل قوله تعالى كذا، أي تفسيره. 3 - أما في اصطلاح الأصوليين؛ فالتأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لدليل. وصرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه، له عند علماء الأصول ثلاث حالات: أ- إما أن يصرفه عن ظاهره المتبادر منه لدليل صحيح من كتاب أو سنة، وهذا النوع من التأويل صحيح مقبول لا نزاع فيه. ومثال هذا __________ (1) في الأصل: "تأويل"، وهو سبق لسان.
(1/107)
النوع: ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الجار أحق بصقبه" فظاهر هذا الحديث ثبوت الشفعة للجار. وحَمْل هذا الحديث على خصوص الشريك المقاسم حَمْلٌ للفظ على محتمل مرجوحٍ غير ظاهر متبادر، إلّا أن حديث جابر الصحيح: "فإذا ضُربت الحدود وصُرِفت الطرق فلا شُفْعة" دل على أن المراد بالجار الذي هو أحق بصقبه خصوص الشريك المقاسم. فهذا النوع من صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لدليل واضح يجب الرجوع إليه من كتاب وسنة. وهذا تأويل يسمى: تأويلًا صحيحًا وتأويلًا قريبًا، ولا مانع منه إذا دل عليه النص. ب- الثاني هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لشيء يعتقده المجتهد دليلًا، وهو في نفس الأمر ليس بدليل. فهذا يسمى: تأويلًا بعيدًا. ومثَّلَ له بعضُ العلماء بتأويل الإمام أبي حنيفة -رحمه الله- لفظ "المرأة" في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل". قالوا: حَمْل هذا على خصوص المكاتبة تأويل بعيد، لأنه صرفٌ للفظ عن ظاهره المتبادر منه؛ لأن "امرأة" و"أي" (1) صيغة عموم. وأكدت صيغة العموم بـ "ما" المؤيدة للتوكيد، فحَمْل هذا على صورة نادرة. هي المكاتبة هذا حَمْلٌ للفظ على غير ظاهر. لغير دليل جازم يجب الرجوع إليه. ج- أما صرف اللفظ عن ظاهره لا لدليل: فهذا لا يسمى تأويلًا في __________ (1) كذا في الأصل، وأثبتها في المطبوعة: "لأن "أي" في قوله" أيما امرأة".
(1/108)
الاصطلاح، وإنما يقول له الأصوليون: لعبًا، لأنه تلاعب بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. ومن هذا تفسير غلاة الروافض قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة / 67] قالوا: عائشة!. ومن هذا النوع: صَرْفُ آيات الصفات عن ظواهرها إلى محتملات ما أنزل الله بها من سلطان، كقولهم "استوى" بمعنى "استولى"، فهذا لا يدخل في اسم التأويل، لأنه لا دليل يدل عليه ألبتة. وإنما يسمى في اصطلاح أهل الأصول: لعبًا، لأنه تلاعب بكتاب الله جل وعلا من غير دليل ولا مستند. فهذا النوع لا يجوز؛ لأنه تهجُّم على كلام رب العالمين. والقاعدة المعروفة عند علماء السلف: أنه لا يجوز صرف شيء من كتاب الله، ولا سنة رسوله، عن ظاهره المتبادر منه إلا بدليل يجب الرجوع إليه. وكل هذا الشرّ يا إخوان -اسمعوا نصيحةَ مشفق- كل هذا الشرّ إنما جاء من مسألة، وهي نجس القلب وتلطخه وتنجسّه بأقذار التشبيه. فإذا سمع ذو القلب المتنجس بأقذار التشبيه صفةً من صفات الكمال أثنى الله بها على نفسه، كنزوله إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الأخير، وكاستوائه على عرشه، وكمجيئه يوم القيامة، وغير ذلك من صفات الكمال والجلال، أول ما يخطر في ذهن المسكين أن هذه صفةٌ تشبه صفة الخلق، فيكون قلبه متنجِّسًا بأقذار التشبيه، لا يقدر الله حق قدره، ولا يعظم الله حق عظمته، حيث يسبق إلى ذهنه أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق. فيكون مشبِّهًا أولًا نجسَ القلب متقذِّرَه بأقذار التشبيه. فيدعوه شؤم هذا التشبيه إلى أن ينفي صفة الخالق جل وعلا
(1/109)
عنه، بادعاء أنها تشبه صفة المخلوق. فيكون مشبهًا أولًا، معطلًا ثانيًا. ضالًّا ابتداءً وانتهاءً، متهجِّمًا على رب العالمين، بنَفْي صفته عنه بادعاء أن تلك الصفي لا تليق. واعلموا أن هنا قاعدة أصولية أطبق عليها من يعتدُّ به من أهل العلم، وهي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولا سيما في العقائد. ولا سيما لو مشينا على فرضهم الباطل، أن ظاهر آيات الصفات الكفر، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤول الاستواء بـ "الاستيلاء"، ولم يؤول شيئًا من هذه التأويلات. ولو كان المراد بها هذه التأويلات لبادر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيانها؛ لأنه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة. فالحاصل أنه يجب على كلِّ مسلم أن يعتقد هذا الاعتقاد الذي يحل جميِع الشُّبَه، ويجيبُ عن جميع الأسئلة= أن الإنسان إذا سمع وصفًا وصَفَ به خالقُ السموات والأرض نفسه، أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - فليمتلأ صدْرُه من التعظيم، ويجزم بأن ذلك الوصف بالغ من غايات الكمال والشرف والعلو ما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين. فيكون القلب منزِّهًا معظِّمًا له جل وعلا، غير متنجس بأقذار التشبيه. فتكون أرض قلبه قابلة للإيمان والتصديق بصفات الله التي تمَدَّح بها، وأثنى عليه بها نبيه - صلى الله عليه وسلم -، على غرار {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى / 11] والشرُّ كل الشرِّ في عدم تعظيم الله، وأن يسبق في ذهن الإنسان أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق، فيضطر المسكين أن ينفي صفة الخالق بهذه الدعوى
(1/110)
الكاذبة الفاجرة الخائنة. ولا بد في هذا المقام من نُقَط يتنبه لها طالب العلم. أولًا: أن يعلم طالب العلم أن جميع الصفات من باب واحد، إذ لا فرق بينها ألبتة؛ لأن الموصوف بها واحد وهو جل وعلا لا يشبه الخلق في شيء من صفاتهم ألبتة. فكما أنكم أثبتم له جل وعلا سمعًا وبصرًا لائقين بكماله وجلاله لا يشبهان شيئًا من أسماع الحوادث ولا أبصارهم، فكذلك يلزم أن تُجْروا هذا بعينه في صفة الاستواء والنزول والمجيء، إلى غير ذلك من صفات الكمال والجلال التي أثنى الله بها على نفسه. واعلموا أن ربَّ السموات والأرض يستحيل عقلًا أن يصف نفسه بما يلزمه محذور أو يلزمه محال أو يؤدي إلى نقص، كل ذلك مستحيل عقلًا. فإن الله لا يصف نفسه إلا بوصف بالغ من الشرف والعلو والكمال، ما يقطع جميع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، على حد قوله: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11]. الثاني: أن تعلموا أن الصفات والذات من باب واحد، فكما أننا نثبت ذات الله جل وعلا إثبات وجود وإيمان، لا إثبات كيفية مكيفة محدَّدة، فكذلك نثبت لهذه الذات الكريمة المقدسة صفات إثبات إيمانٍ ووجود لا إثبات كيفية وتحديد. واعلموا أن آيات الصفات كثير من الناس يطلق عليها اسم المتشابه
(1/111)
وهذا من جهةٍ غلط، ومن جهةٍ قد يسوغ، كما بينه الإمام مالك بن أنس. أما المعاني فهي معروفة عند العرب كما قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة" كذلك يقال في النزول: النزول غير مجهول، والكيف غير معقول والسؤال عنه بدعة. واطْرُدْه في جميع الصفات؛ لأن هذه الصفات معروفة عند العرب، إلا أن ما وُصِفَ به خالق السموات والأرض منها أكمل وأجل وأعظم من أن يشبه شيئًا من صفات المخلوقين، كما أن ذات الخالق جل وعلا حق، والمخلوقون لهم ذوات، وذات الخالق جل وعلا أكمل وأنزه وأجل من أن تشبه شيئًا من ذوات (1) المخلوقين. فعلى كل حال: الشرُّ كلُّ الشرِّ في تشبيه الخالق بالمخلوق، وتنجيس القلوب بقذر التشبيه. فالإنسان المسلم إذا سمع صفة وُصِفَ بها الله أول ما يجب عليه أن يعتقد أن تلك الصفة بالغة من الكمال والجلال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فتكون أرض قلبه طيبة طاهرة قابلة للإيمان بالصفات على أساس التنزيه، على نحو: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)}. وهنا سؤال لا بد من تحقيقه لطالب العلم، أولًا: اعرفوا أن اللفظ -المقرر في الأصول-: أنه إذا دل على معنى لا يحتمل غيره هذا يسمونه: "نصًّا"، كقوله مثلًا: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة / 196]. فإذا __________ (1) الأصل: صفات.
(1/112)
كان يحتمل معنيين فلا يخلو من حالتين؛ إما أن يكون أظهر في أحد الاحتمالين من الآخر، إما أن يتساوى بينهما. فإن كان الاحتمال يتساوى بينهما فهذا الذي يسمى في الاصطلاح: "المجمل" كما لو قلت: "عدا اللصوص البارحة على عين زيد" فإنه يحتمل أن تكون عينه الباصرة عَوَّروها، أو عينه الجارية غَوَّروها، أو عينه ذهبَه وفضَّتَه سرقوها. فهذا مجمل. وحكم المجمل أن يُتَوَقَّفَ عنه إلا بدليل على التفصيل. أما إذا كان نصًّا صريحًا فالنص يُعْمَل به ولا يُعْدَل عنه إلا بثبوت النسخ. أما إذا كان أظهر في أحد الاحتمالين فهو المسمى بـ "الظاهر"، ومقابله يسمى: "محتملًا مرجوحًا"، والظاهر يجب الحمل عليه إلا لدليل صارف عنه، كما لو قلت: "رأيت أسدًا" فهذا مثلًا ظاهر في الحيوان المفترس، محتمل للرجل الشجاع. إذًا فنقول: فالظاهر المتبادر من آيات الصفات من نحو قوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيدِيهِمْ} [الفتح / 10]، وقوله في صفية النزول وصفية المجيء وما جرى مجرى ذلك، هل نقول: ما الظاهر المتبادر من هذه الصفة أهو مشابهة الخلق، حتى يجب علينا أن نؤول ونصرفه عن ظاهره؟ أو ظاهرها المتبادر منها تنزيه رب السموات والأرض حتى يجب علينا أن نقره على الظاهر من التنزيه؟ الجواب: أن كل وصف أُسْنِد إلى رب السموات والأرض فظاهره المتبادر منه عند كل مسلم هو التنزيه الكامل عن مشابهة الخلق. فإقراره على ظاهره هو الحق، وهو تنزيه رب السموات والأرض عن مشابهة الخلق في شيء من صفاته. وهل ينكر عاقل أن المتبادر
(1/113)
للأذهان السليمة أن الخالق ينافي المخلوق في ذاته وسائر صفاته؟! لا والله لا يعارض في هذا إلا مكابر!
[مناقشة المتكلمين بمقتضى قواعدهم]
ثم بعد هذا البحث الذي ذكرنا نحب أن نذكر كلمة قصيرة لجماعة قرءوا في المنطق والكلام، وظنوا نفي بعض الصفات من أدلة كلامية، كالذي يقول مثلًا: لو كان مستويًا على العرش -والفرض أنَّ العرش مخلوق- لكان مشابهًا للحوادث، لكنه غير مشابه للحوادث، يُنتج: فهو غير مستو على العرش. هذه النتيجة الباطلة تضاد سبع آيات من المحكم المنزل. ولكن الآن نقول في مثل هذا على طريق المناظرة والجدل المعروف عند المتكلمين، نقول: هذا قياس استثنائي مركب من شرطية متصلة لزومية واسْتُثْنِي فيه نقيض التالي فأنتج منه نقيض المقدم، حسب ما يراه مقيم هذا الدليل. ونحن نقول: إنه تقرر عند عامة النظار أن القياس الاستثنائي المركب من شرطية متصلة لزومية يتوجَّه عليه القدح من ثلاث جهات: 1 - يتوجه عليه من جهةِ استثنائيته. 2 - ويتوجه عليه من جهةِ شرطيته إذا كان الربط بين المقدم والتالي ليس بصحيح. 3 - ويتوجه عليه القدح من جهتهما معًا. وهذه القضية الكاذبة الشرطية، فالربط بين مقدمها وتاليها كاذب كذبًا بحتًا، ولذا جاءت نتيجتها مخالفة لسبع آيات.
(1/114)
وإيضاحه أن نقول: قولكم: "لو كان مستويًا على العرش لكان مشابهًا للحوادث"، هذا الربط بين "لو" و"لي" كاذبٌ كاذبٌ كاذبٌ، بل هو مستوٍ على عرشه -كما قال- من غير مشابهة للحوادث، كما أن سائر صفاته واقعة كما قال، من غير مشابهة للخلق ولا يلزم من استوائه على عرشه -كما قال- أن يشبه شيئًا من المخلوقين في صفاتهم ألبتة. بل استواؤه صفة من صفاته، وجميع صفاته منزهة عن مشابهة الخلق، كما أن ذاته منزهة عن مشابهة ذوات الخلق. ويطَّرِدُ هذا في مثل هذا. وعلى كل حال فالجواب عن شيء واحد من هذا يطرد في الكل. وآخر ما نختتم به هذه المقالة أنا نوصيكم وأنفسنا بتقوى الله وأن تلتزموا بثلاث آيات من كتاب الله: الأولى: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} [الشورى / 11] فتنزهوا رب السموات والأرض عن مشابهة الخلق. الثانية: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فتؤمنوا بصفات الكمال والجلال الثابتة في الكتاب والسنة على أساس التنزيه، كما جاء: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} بعد: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ}. النقطة الثالثة: أن تقطعوا أطماعكم عن إدراك حقيقة الكيفية؛ لأن إدراك حقيقة الكيفية مستحيل. وهذا نص الله عليه في سورة طه حيث قال: {يَعْلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} فقوله: {يُحِيطُونَ بِهِ} فعل مضارع، والفعل الصناعي الذي يسمى بالفعل المضارع وفعل الأمر والفعل الماضي ينحلُّ عند النحويين عن "مصدر"
(1/115)
و"زمن" كما قال ابن مالك في "الخلاصة": المصدر اسمُ ما سوى الزمانِ من ... مدلولي الفعل كأَمْن مِن أَمِن وقد حرر علماء البلاغة في مبحث الاستعارة التبعية، أنه ينحل عن (مصدر، وزمن، ونسبة) فالمصدر كامن في مفهومه إجماعًا، فـ {يُحِيطُونَ} تكمن في جوفها (الإحاطة) فيتسلط النفي على المصدر الكامن في الفعل، فيكون مثلًا يُبْنَى معه على الفتح، فيصير المعنى: لا إحاطةَ علمٍ برب السموات والأرض. فينفي جنس أنواع الإحاطة عن كيفيتها. فالإحاطة المسندة للعلم منفية عن رب العالمين. فلا يشكل عليكم بعد هذا صفة نزول ولا مجيء، ولا صفة يد ولا أصابع، ولا عَجَب ولا ضحك، لأن هذه الصفات كلها من باب واحد. فما وصف الله به نفسه منها فهو حق، وهو لائق بكماله وجلاله، لا يشبه شيئًا من صفات المخلوقين. وما وُصِف به المخلوقون منها فهو حق مناسب لعجزهم وفنائهم وافتقارهم. وهذا الكلام الكثير أوضحه الله في كلمتين: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} ليس كمثله شيء تنزيه بلا تعطيل. وهو السممع البصير إيمان بلا تمثيل. فيجب من أول الآية {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} التنزيه الكامل الذي ليس فيه تعطيل، ويلزم من قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} الإيمان بجميع الصفات الذي ليس فيه تمثيل. فأول الآية تنزيه، وآخرها إيمان. ومن عمل بالتنزيه الذي في {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} والإيمان الذي في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} وقطع النظر عن إدراك الكُنْه
(1/116)
والحقيقة (1) المنصوص في قوله {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه / 110] خرج سالمًا. وقد ذكرت لكم مرارًا أني أقول: هذه الأسس الثلاثة التي ركزنا عليها البحث وهي: 1 - تنزيه الله عن مشابهة الخلق. 2 - والإيمان بالصفات الثابتة بالكتاب والسنة وعدم التعرض لنفيها وعدم التهجم على الله بنفي ما أثنى به على نفسه. 3 - وقطع الطمع عن إدراك الكيفية. لو مُتم يا إخوان وأنتم على هذا المعتقد، أترون الله يوم القيامة يقول لكم: لِمَ نزهتموني عن مشابهة الخلق، ويلومكم على ذلك؟ لا وكلا والله لا يلومكم على ذلك. أترون أنه يلومكم على أنكم آمنتم بصفاته وصدقتموه فيما أثنى به على نفسه، ويقول لكم: لم أثبتم لي ما أثبت لنفسي أو أثبته لي رسولي؟ لا والله لا يلومكم على ذلك. ولا تأتيكم عاقبة سيئة من ذلك. كذلك لا يلومكم الله يوم القيامة ويقول لكم: لِمَ قطعتم الطمعَ عن إدراك الكيفية ولِمَ تُحَدِّدوني بكيفية مدركة. ثم إنا نقول: لو تنطع متنطع وقال: نحن لا ندرك كيفية (نزولٍ) منزهة عن نزول الخلق، ولا ندرك كيفية (يَدٍ) منزهة عن أبيدي الخلق، ولا ندرك كيفية (استواءٍ) منزهة عن استواءات الخلق، فبينوا لنا كيفية __________ (1) أي: حقيقة الكنه، وهو الكيفية.
(1/117)
معقولة منزهة تدركها عقولنا. فنقول أولًا: هذا السؤال الذي قال فيه مالك بن أنس: "والسؤال عن هذا بدعة". ولكن نجيب ونقول: أعرفتَ أيها المتنطع السائل الضال كيفية الذات المقدسة الكريمة المتصفة بصفة النزول، وصفة اليد، وصفة الاستواء، وصفة السمع والبصر والقدرة والإرادة والعلم؟ فلا بد أن يقول: لا. فنقول: معرفة كيفية الصفة متوقفة على معرفة كيفية الذات، إذ الموصوفات تختلف باختلاف ذواتها. ونضرب مثلًا -ولله المثل الأعلى- فإن الأمثال لا تضرب لله. ولكن الأحرويات لا مانع منها كما جاء بها القرآن. فنقول -مثلًا- كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله: لفظة (رأس) الراء والهمزة والسين، "رأس" هذه الكلمة أضفها إلى المال، وأضفها إلى الوادي، وأضفها إلى الجبل. قل: رأس المال. رأس الوادي. رأس الجبل. فانظر ما صار من الاختلاف بين هذه المعاني بحسب هذه الإضافات، وهذا في مخلوق ضعيف مسكين، فما بالك بالبون الشاسع الذي بين صفة الخالق جل وعلا وصفة المخلوق؟! وختامًا يا إخوان نوصيكم وأنفسنا بتقوى الله وأن تتمسكوا بهذه الكلمات الثلاث: 1 - أن تنزهوا ربكم عن مشابهة صفات الخلق. 2 - أن تؤمنوا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - إيمانًا مبنيًّا على أساس التنزيه على نحو {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
(1/118)
الْبَصِيرُ (11)}. 3 - وتقطعوا الطمع في إدراك الكيفية؛ لأن الله يقول: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} (1).
[مقارنة بين ما سموه مذهب السلف ومذهب الخلف]
ثم أنا نريد إنهاء البحث بالمقارنة بين ما يسمونه مذهب السلف ومذهب الخلف. وقولهم: إن مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أحكم وأعلم. فنقول: أولًا: وصفوا مذهب السلف بأنه أسلم، وهي صيغة تفضيل من السلامة، وما كان يفوق غيره ويفضله في السلامة، فلا شك أنه أعلم منه وأحكم. ثانيًا: اعلموا أن المؤولين ينطبق عليهم بيت الشافعي رحمه الله: رامَ نفعًا فضرَّ من غيرِ قصدٍ ... ومن البرِّ ما يكون عقوقا وإيضاح المقارنة: أن من كان على معتقد السلف الصالح إذا سمع مثلًا قوله تعالى: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} امتلأ قلبه من الإجلال __________ (1) انقطع التسجيل هنا، وما سيأتي إلى الآخر أثبتناه من بعض طبعات المحاضرة. وهذه المقارنة عقدها المؤلف أيضًا بنحوٍ مما هنا في آخر كتابه "آداب البحث والمناظرة": 2/ 158 - 161.
(1/119)
والتعظيم والإكبار لصفة رب العالمين التي مدح بها نفسه وأثنى عليه بها، فجزم بأن تلك الصفة التي تمَدَّح بها خالق السموات والأرض بالغة من غايات الكمال والجلال ما يقطع علائق أوهام المشابهة بينها وبين صفات الخلق، لأن الصفة لا يمكن أن تشبه صانعها في ذاته، ولا في شيء من صفاته. وبإجلال تلك الصفة وتعظيمها وحَمْلها على أشرف المعاني اللائقة بكمال من وصف بها نفسه وجلاله، يسهل على ذلك المؤمن السلفي أن يؤمن بتلك الصفة، ويثبتها لله كما أثبتها الله لنفسه على أساس التنزيه. فيكون أولًا: منزِّهًا سالمًا من أقذار التشبيه. وثانيًا: مؤمنًا بالصفات، مصدقًا بها على أساس التنزيه. فيكون سالمًا من أقذار التعطيل. فيجمع التنزيه والإيمان بالصفات على نحو {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)}. فمعتقده طريق سلامة محققة، لأنه مبني على ما تضمنته آية {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} الآية من التنزيه، والإيمان بالصفات. فهو تنزيه من غير تعطيل، وإيمان من غير تشبيه ولا تمثيل. وكل هذا طريق سلامة محققة، وعمل بالقرآن. فهذا هو مذهب السلف. وأما ما يسمونه مذهب الخلف؛ فالحامل لهم فيه على نفي الصفات وتأويلها هو قصدهم تنزيه الله عن مشابهة الخلق. ولكنهم في محاولتهم لهذا التنزيه وقعوا في ثلاث بلايا. ليست واحدة منها إلا وهي أكبر من أختها.
(1/120)
الأولى من هذه البلايا الثلاث: أنهم إذا سمعوا قول الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} زعموا أن ظاهر الاستواء في الآية هو مشابهة استواء المخلوقين. فتهجموا على ما وصف الله به نفسه في محكم كتابه، وادعوا عليه أن ظاهره المتبادر منه هو التشبيه بالمخلوقين في استوائهم. فكأنهم يقولون لله: هذا الاستواء الذي أثنيت به على نفسك في سبع آيات من كتابك ظاهره قَذِر نَجِس لا يليق بك لأنه تشبيه بالمخلوقين، ولا شيء من الكلام أقذر وأنجس من تشبيه الخالق بخلقه. سبحانك هذا بهتان عظيم! وهذه هي البلية الأولى التي هي التهجُّم على نصوص الوحي وادعاء أن ظاهرها تشبيه الخالق بالمخلوق، وناهيك بها بلية. ثم لما تقررت هذه البلية في أذهانهم، وتقذرت قلوبهم بأقذار التشبيه، اضطروا بسببها إلى نفي صفة الاستواء فرارًا من مشابهة الخلق التي افتروها على نصوص القرآن أنها هي ظاهرها. ونفى الصفة التي أثنى الله بها على نفسه من غير استناد إلى كتاب أو سنة هو البلية الثانية التي وقعوا فيها. فحملوا نصوص القرآن أولًا على معان غير لائقة بالله، ثم نفوها من أصلها، فرارًا من المحذور الذي زعموا. والبلية الثالثة: أنهم يفسرون الصفة التي نفوها بصفة أخرى، من تلقاء أنفسهم، من غير استناد إلى وحي، مع أن الصفة التي فسرها بها هي بالغة غاية التشبيه بالمخلوقين. فيقولون {اسْتَوَى} ظاهره مشابهة استواء المخلوقين. فمعنى
(1/121)
استوى "استولى"، ويستدلون بقول الراجز في إطلاق الاستواء على الاستيلاء: قد استوى بشرٌ على العراق ... من غير سيف ودَمٍ مُهْراق ولا يدرون أنهم شبهوا استيلاء الله على عرشه الذي زعموه باستيلاء بشر بن مروان على العراق، فأي تشبيه بصفات المخلوقين أكبر من هذا؟! وهل يجوز لمسلم أن يُشَبِّه صفةَ الله التي هي الاستيلاء المزعوم بصفة بشر التي هي استيلاؤه على العراق؟ وصفة الاستيلاء من أوغل الصفات في التشبيه بصفات المخلوقين، لأن فيها التشبيه باستيلاء مالك الحمار على حماره، ومالك الشاة على شاته. ويدخل فيها كل مخلوق قَهَر مخلوقًا واستولى عليه. وفي هذا من أنواع التشبيه ما لا يحصيه إلا الله. فإن زعم من شبه أولًا، وعطل ثانيًا، وشبه ثالثًا أيضًا، أن الاستيلاء المزعوم منزه عن مشابهة استيلاء المخلوقين، قلنا: نحن نسألك ونطلب منك الجواب بإنصاف: أيهما أحق بالتنزيه عن مشابهة الخلق؛ الاستواء الذي مَدَح الله به نفسه في محكم كتابه وهو نفس القرآن الذي يُتْلى، ولتاليه بكل حرف منه عشر حسنات لأنه كلام الله، أم الأحق بالتنزيه هو الاستيلاء الذي جئتم به من تلقاء أنفسكم من غير استناد إلى وحي؟
(1/122)
ولا شك أن الجواب الحق: أن اللفظ الوارد في القرآن أحق بالتنزيه والحمل على أشرف المعاني وأكملها، من اللفظ الذي جاء به مُعَطِّل من كيسه الخاص لا مستند له من الوحي. وبهذه الكلمات القليلة يظهر لكم أن مذهب السلف أسلم وأحكم وأعلم. وقد بسطنا هذه المقارنة في غير هذا الموضع فاختصرناها هنا. والعلم عند الله تعالى، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. محمد الأمين الشنقيطي
(1/123)