ورثة ذي الخويصرة
التصنيفات
الوصف المفصل
بينما رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ قَسْمًا، أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَال: يَا رَسُولَ اللهِ، اعْدِلْ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ؟ قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ. رواه البخاري ومسلم.
وفي روايةٍ: فَقَالَ ذُو الخُوَيْصِرَةِ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ، قَالَ: وَيْلَكَ، مَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ.
وفي روايةٍ: فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ العَيْنَيْنِ، نَاتِئُ الجَبِينِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مُشْرِفُ الوَجْنَتَيْنِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، فَقَال: يَا مُحَمَّدُ، اتَّقِ اللَّهَ! فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَمَنْ يُطِيعُ اللَّهَ إِذَا عَصَيْتُهُ، فَيَأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ، وَلاَ تَأْمَنُونِي.
وفي روايةٍ في الصحيحين مِن حديثِ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قال: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا، أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَال: يَا رَسُولَ اللهِ، اعْدِلْ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ؟ قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي فِيهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاتَهُ مَعَ صَلاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ.
قولُه: " قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ ".
قال القسطلاّنيُّ: بِالضمِّ والفَتْحِ على المتكلِّمِ والمخاطَبِ، والفَتحُ أشْهَرُ وأوْجَهُ.
قال التوربشتيُّ: هو على ضميرِ المخاطَبِ لا على ضميرِ المتكلِّمِ، وإنما رَدَّ الخيبةَ والخسرانَ إلى المخاطَبِ على تقديرِ عدمِ العدلِ منه؛ لأنَّ اللهَ تعالى بَعَثَه رَحْمَةً للعالمين، وليقومَ بالعدلِ فيهم، فإذا قُدِّرَ أنَّه لم يعدِلْ فقد خابَ المعتَرِفُ بأنه مبعوثٌ إليهم وَخَسِرَ؛ لأنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الخائنين، فضلًا أن يُرْسِلَهم إلى عبادِه. وقال الكِرمانيُّ: أي خِبتَ وخَسِرتَ لِكَونِك تابعًا ومُقْتَدِيًا بِمَن لا يَعدِلُ؛ اهـ.
ويُقال: لِكُلٍّ وارِث!
وهذا صحيحٌ في المبادئِ أيضا؛ فإنَّ لِهذا الْمُعتَرِضِ على الشَّرْعِ: وَرَثَةً وأتْبَاعا، ولذلك قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك الرَّجُلِ الْمُعتَرِضِ على القِسْمَةِ النّبَوِيَّة: إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا، قَوْمًا يَقْرَءُونَ القُرْآنَ، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ.
قال الخطّابيُّ: يريدُ أنه يَخْرُجُ مِن نَسْلِه الذي هو أصْلُهم أو يَخْرُجُ مِن أصحابِه وأتْباعِه الذين يَقتَدُون به ويَبْنُون رأيَهم ومَذْهَبَهم على أصْلِ قَولِه؛ اهـ.
فليستِ العِبرَةُ أن يَكونَ الإنسانُ مُتفيهِقًا مُتكلَّمًا حَسَنَ البيَانِ، وإنما العِبرَةُ بِموافقَةِ الحقِ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ. رواه البخاري ومسلم.
قال النوويُّ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلامِ"، مَعْنَاهُ صِغَارُ الأَسْنَانِ صِغَارُ الْعُقُولِ!
وقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ"، مَعْنَاهُ فِي ظَاهِرِ الأَمْرِ، كَقَوْلِهِمْ لا حُكْمَ إِلاَّ لِلَّهِ، وَنَظَائِرِهِ مِنْ دُعَائِهِمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهُ تَعَالَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ؛ اهـ.
وثَمّةُ مقولةٍ اشتَهَرتْ وانتْشَرَتْ بين الناسِ، وتَلَقّفَها كثيرٌ مِن الناسِ دون معرفةٍ ولا رويّةٍ بِتلك المقَالةِ، ولا بِآثارِها، ولا ما يترتّبُ عليها.
مَقولَةٌ رَوَّجَتْ لها بعضُ وسائلِ الإعلامِ، وسَرَتْ على أسِنَّةِ الألسِنَةِ، وراَجَتْ في مَواقعِ التّواصُلِ وعَبْرَ بعضِ البرامِج!
ألاَ وهي قَولُهم: لا أحدَ فوقَ النّقْد!
وهذا خطأٌ فادِحٌ فاحِشٌ..
فإنَّ الذاتَ الإلهيةَ فوقَ النقدِ، ورسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فوقَ النقد، وما جاء في الكتابِ والسُّنّةِ فوقَ النقد، وأصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فوقَ النقد، وما أجْمَعَتْ عليه الأُمّةُ فوق النقد.
فمُخالفةُ الإجماع خُرُوجٌ عن سَبيل المؤمِنين؛ قال الله عزّ وجَلّ: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115]؛ قال السّمَرْقَنْدِيّ في "تفسيره": وفي الآية دليلٌ إن الإجماعَ حُجّة؛ لأن مَن خَالَفَ الإجماع فقد خَالَفَ سَبيل المؤمنين. اهـ.
وما تَلَقَّتْه الأمّةُ بِالقَبُولِ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ، فمن هو الذي سيجعَلُ عقلَه حَاكِمًا على عُقولِ علماءِ أُمّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم؟!
وقد قَرَّر العلماءُ: أن ما تَلَقَّتْه الأمّةُ بِالقَبُولِ أقْوى مِن صِحّةِ إسنادِه.
وقد تَلَقّتِ الأمّةُ أحاديثَ الصحيحينِ بالقَبُول.
قال الْحَافِظُ أَبِو نَصْرٍ الْوَايْلِيُّ السِّجْزِيُّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ - الْفُقَهَاءُ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّ رَجُلا لَوْ حَلَفَ بِالطَّلاقِ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ مِمَّا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ صَحَّ عَنْهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ لا شَكَّ فِيه، أَنَّهُ لا يَحْنَثُ وَالْمَرْأَةُ بِحَالِهَا فِي حِبَالَتِهِ.
وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُمَيْدِيُّ فِي كِتَابِهِ " الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ قَوْلِهِ: " لَمْ نَجِدْ مِنَ الأَئِمَّةِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ مَنْ أَفْصَحَ لَنَا فِي جَمِيعِ مَا جَمَعَهُ بِالصِّحَّةِ إِلاّ هَذَيْنِ الإِمَامَيْنِ"؛ (يعني: البخاريَّ ومُسلِما)؛ (معرفةُ أنواعِ علومِ الحديث، لابنِ الصلاح).
وغيرُ أحاديثِ الصحيحينِ مِن أحاديث السُّنَنِ والمسانِيد وغيرِها مما صَحّحه الأئمةُ، وتَلَقّته الأمّةُ بالقَبُول، فوقَ النّقْد، ورَادّ السُّنَّةَ الصحيحة على خَطَر عَظيم.
قال الإمامُ أحمد: مَن رَدَّ حَديثَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَهو عَلى شَفَا هَلَكَة.
وقال أبو طاهر السِّلَفِيّ: وكُلُّ مَن ردَّ ما صَحَّ مِن قَولِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم ولم يَتَلَقَّهُ بِالقَبُول ضَلَّ وغَوَى؛ إذْ كان عليه الصلاة والسلام ما يَنْطِقُ عن الْهَوى... وفي الكتابِ العزيزِ الذي عَجَزَ الفُصحاءُ عن الإتيانِ بِمِثلِه ولو كان بعضُهم لِبعضٍ ظَهيرًا: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)؛ اهـ.
وقال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ عَلَى أَنَّ " خَبَرَ الْوَاحِدِ " إذَا تَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بِالْقَبُولِ تَصْدِيقًا لَهُ أَوْ عَمَلا بِهِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ.
وقال في أقسَامِ الْخَبَرِ:
وَمِنْهُ مَا تَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَأَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ أَوِ اسْتَنَدُوا إلَيْهِ فِي الْعَمَلِ، لأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَاطِلا لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ، لامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْخَطَأِ.
وقال في موضعٍ آخرَ: وَقَوْلُهُ: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" هُوَ مِمَّا تَلَقَّاهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ، وَلَيْسَ هُوَ فِي أَصْلِهِ مُتَوَاتِرًا؛ بَلْ هُوَ مِنْ غَرَائِبِ الصَّحِيحِ، لَكِنْ لَمَّا تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ صَارَ مَقْطُوعًا بِصِحَّتِهِ. وَفِي السُّنَنِ أَحَادِيثُ تَلَقَّوْهَا بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لا وَصِيَّةَ لِوَارِثِ"، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا تَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، وَالْعَمَلِ بِمُوجِبِهِ، وَهُوَ فِي السُّنَنِ لَيْسَ فِي الصَّحِيحِ؛ اهـ.
وقال ابنُ رجبٍ رحمه الله: المسائلُ التي اجْتَمَعَتْ كلمةُ المسلمين عليها مِن زَمَنِ الصحابة، وقَلّ الْمُخَالِفُ فيها ونَدَرَ... يجب على المؤمنِ الأخذُ بما اتّفَقَ المسلمون على العَملِ بهِ ظاهرا؛ فإنَّ هَذهِ الأمةَ لا يَظهَرُ أهلُ باطِلها على أهلِ حقِّها، كَما أنها لا تجتمِعُ على ضلالةٍ، كَما روي ذَلِكَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ خرَّجه أبو داود وغيره.
فهذه المسائلُ قَد كُفِي المسلمُ أمْرَها، ولم يَبقَ فيها إلاَّ اتِّباعُ ما جَمَعَ عليهِ الخلفاءُ الراشدون أولِي العِلْمِ والعدلِ والكَمَالِ، دونَ الاشتغالِ فيها بالبحثِ والجدالِ، وكثرةِ القيلِ والقالِ؛ فإنَّ هَذا كلُّه لَم يكُنْ يَخْفَى عَمَّن سَلَف، ولا يَظُنُّ ذَلِكَ بهم سِوى أهلُ الجهلِ والضلالِ؛ اهـ.
وأُمَّةُ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم لا تجتمعُ على ضلالةٍ؛ لقولِه عليه الصلاة والسلام: سَأَلْتُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَلا يَجْمَعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلالَةٍ، فَأَعْطَانِيهَا؛ رواه الإمامُ أحمدُ، وصحَّحه الألبانيُّ والأرنؤوط.
ومِن الْمُتقَرِّر عند العلماءِ كافّةً: أنَّ السُّنَّةَ لا تُعَارَضْ بِآراءِ الرجالِ، ولا تُضْرَبْ لها الأمثالُ، ولا يُقالُ فيها بِمُجرَّدِ الرأي.
قال عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه: إِنَّ أَصْحَابَ اَلرَّأْيِ أَعْدَاءَ اَلسُّنَنِ أَعْيَتْهُمْ أَنْ يَحْفَظُوهَا، وَتَفَلَّتَ مِنْهُمْ أَنْ يَعُوهَا، وَاسْتَحْيَوْا حِينَ سُئِلُوا أَنْ يَقُولُوا: لا نَعْلَمُ، فَعَارَضُوا اَلسُّنَنَ بِرَأْيِهِمْ؛ (أصولُ السُّنةِ، لابنِ أبي زَمَنِين، والإحكامُ في أصولِ الأحكامِ، لابنِ حَزْم).
ويجب قَبولُ ما جاءَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم دون جِدالٍ.
قال عَلِيٌّ رضي الله عنه: إِذَا حُدِّثْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا، فَظُنُّوا بِهِ الَّذِي هُوَ أَهْدَى، وَالَّذِي هُوَ أَهْيَا، وَالَّذِي هُوَ أَتْقَى؛ رواه الإمام أحمد والدارمي وابن ماجه.
وقال أبو هريرةَ رضي اللهُ عنه: إِذَا حَدَّثْتَ بِالْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلا تَضْرِبْ لَهُ الأَمْثَالَ جَدَلًا؛ رواه عبدالرزاق والترمذيُّ وابن ماجه.
وكان الأئمةُ يُعظِّمُون نُصوصَ الوَحْيَيْن:
قال الإمامُ أبو حنيفةَ: إذا جاء عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَلى الرأسِ والعينِ!
وجاء رجلٌ إلى الإمامِ مالكٍ وسَأله عن مسألةٍ، فقال له: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كذا، فقال الرّجُلُ: أرَأيتَ؟ قال مالكٌ: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
وقال الإمامُ الشافعيُّ: ما صَحَّ أَن رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَه، لا يُقالْ فيه: لِمَ، ولا: كيف؟
وقال الإمامُ أحمدُ في بيانِ أصولِ السُّنَّةِ: الإيمانُ بالقَدَرِ خيرِه وشَرّه، والتصديقُ بالأحاديثِ فيه والإيمانُ بها، لا يُقالْ: لِمَ، ولا كيف؟ إنما هو التصديقُ والإيمانُ بها، ومَن لم يَعرفْ تفسيرَ الحديثِ ويَبْلغْه عَقْلُه؛ فقد كُفِيَ ذلك، وأُحْكِمَ له؛ فعليه الإيمانُ به والتسليمُ؛ اهـ.
والسُّنيُّ في عُرْفِ أهلِ العِلم: هو الْمُتَّبِعُ للسّنةِ، الْمُقدِّمُ لها على آراءِ الرِّجال.
قال الإمامُ أبو عبدِالله محمدُ بنُ خَفِيفٍ في "اعتقادِ التوحيدِ بإثباتِ الأسماءِ والصفات":
على المؤمنين خاصَّتِهم وعامَّتِهم قَبولُ كلِّ ما وَرد عنه عليه الصلاة والسلام بِنَقلِ العَدْلِ عن العَدلِ حتى يَتَّصلَّ به صلى الله عليه وسلم.
وقال ابنُ أبي زَمَنِين: اعلمْ رَحِمكَ الله أن السُّنَّةَ دليلُ القرآن، وأنها لا تُدرَكُ بالقياسِ، ولا تُؤخَذُ بِالعُقولِ، وإنما هي في الاتِّباعِ للأئمةِ، ولِمَا مَشَى عليه جُمْهورُ هذه الأمةِ؛ اهـ.
وذَكَر الإمامُ الذهبيُّ قولَ أبي قِلابةَ: إِذَا حَدَّثْتَ الرَّجُلَ بِالسُّنَّةِ، فَقَال: دَعْنَا مِنْ هَذَا وَهَاتِ كِتَابَ اللهِ؛ فَاعْلَمْ أَنَّهُ ضَالٌّ.
ثم قال الإمامُ الذهبيُّ:
قُلْتُ أَنَا: وَإِذَا رَأَيْتَ المُتَكَلِّمَ المُبْتَدِعَ يَقُوْلُ: دَعْنَا مِنَ الكِتَابِ وَالأَحَادِيْثِ الآحَادِ وَهَاتِ العَقْلَ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ أَبُو جَهْلٍ، وَإِذَا رَأَيْتَ السَّالِكَ التَّوْحِيْدِيَّ يَقُوْلُ: دَعْنَا مِنَ النَّقْلِ وَمِنَ العَقْلِ وَهَاتِ الذَّوْقَ وَالوَجْدَ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ إِبْلِيْسٌ قَدْ ظَهَرَ بِصُوْرَةِ بَشَرٍ، أَوْ قَدْ حَلَّ فِيْهِ، فَإِنْ جَبُنْتَ مِنْهُ، فَاهْرُبْ، وَإِلاَّ فَاصْرَعْهُ، وَابْرُكْ عَلَى صَدْرِهِ، وَاقْرَأْ عَلَيْهِ آيَةَ الكُرْسِيِّ، وَاخْنُقْهُ؛ اهـ.
وقال العلامةُ الطِّيبِيُّ في شرحِ المشكاةِ: عَجِبتُ ممن يَتَسَمَّى بِالسُّنِّيِّ وإذا سَمِعَ سُنّةً مِن سُنّةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وله رأيٌ رَجَّحَ رأيَه عليها، وأيُّ فَرْقٍ بينه وبين الْمُبْتَدِعِ؟؛ اهـ.
أيْ: أن السُّنِّيَّ يُقدِّمُ السُّنَّةَ على رأيِه وعلى آراءِ الرِّجالِ، والْمُبْتَدِعَ يُقدَّمُ رأيَه وآراءَ الرِّجالِ على السُّنَّةِ.
وكان الخلفاءُ يُشَدِّدُون على مَن عارَضَ السُّنَّةَ بِرَأيِه أو شَكَّكَ فيها.
في مجلس هارُونَ الرَّشِيْد حَدَّثَ أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيْرُ بِحَدِيْثِ "احْتَجَّ آدَمُ وَمُوْسَى.."، فقال رَجُلٌ شَرِيْفٌ مِن وُجُوه قُريش: أين لَقِي آدمُ موسى؟ فَغَضِبَ الرشيد، وقال: النّطْعُ والسّيف، زِنديقٌ واللهِ، يَطعنُ في حديثِ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فما زال أبو معاوية يُسكّنُه ويقولُ: كانت مِنه بادِرةً، ولَم يفْهَم يا أميرَ المؤمنين، حتى سَكّنَه. رواه الخطيبُ البغداديُّ في " تاريخِ بغدادَ ".
والصَّحابَةُ رضي الله عنهم زَكّاهُم اللهُ وزكّاهُم رسولُه صلى الله عليه وسلم، وأخْبَرَ اللهُ عزّ وجَلّ أنه رَضِيَ عنهم ورَضُوا عنه، ولذلك اتّفقَ أهلُ العِلْمِ على عَدَالَتِهم، فإذا ذَكَروا الصحابي لم يَذكُروا ما يُذكَرُ في حقِّ غيرِه مِن الجرحِ والتعديل، وإنما يَكتَفُون بِقولهم: صحابي.
وهذه مَنْزِلةٌ عالية، ورُتْبَة سَامِيَة؛ فمَن الذي يُريدُ أن يَتعقَّبَ تَزْكِيَةَ اللهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلم؟ ويَخرِقَ الإجماعَ على عَدالَةِ الصَّحابَةُ رضي الله عنهم ولذلك إذا ذَكَرْنا الصحابي قُلنا: رضي الله عنه.
فالصحابةُ رضي الله عنهم فوقَ النّقْد، وفوقَ مَراتَبِ التعديل، ولا يَنالُهم أدْنَى جَرْحٍ في عَدالَتِهم.
وبهذه الْحُجَّةِ الداحِضَة: لا أحدَ فوقَ النّقد: انتَقَد أهلُ الكوفة سعدَ بنَ أبي وقاص رضي الله عنه، وهو أحدُ السابقين إلى الإسلام كان سابع سَبْعةٍ في الإسلام، أسْلَمَ بعدَ سِتّةِ، حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لاَ يُحْسِنُ يُصَلِّي، في قِصةٍ طويلة في الصحيحين، وفيها: فَأَرْسَلَ عُمرُ رَجُلا أَوْ رِجَالا إِلَى الكُوفَةِ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الكُوفَةِ وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلاَّ سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ قَال: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا، فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لاَ يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلاَ يَعْدِلُ فِي القَضِيَّةِ، قَالَ سَعْدٌ: أَمَا وَاللَّهِ لأَدْعُوَنَّ بِثَلاَثٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالفِتَنِ. وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ، قَالَ عَبْدُ المَلِكِ بنُ عُمَير: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ، قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الكِبَرِ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ؛ رواه البخاري ومسلم.
وإذا سَمَحْنا بانتقادِ أهلِ العِلْمِ، فمَن الذي يَنْتَقِدُ ويُقيِّمُ العلماءَ؟
إنّما يَنْتقِدُ العَالِمَ عالِمٌ مثله، ولا يُفْتَحْ هذا البابُ للْجُهّالِ؛ لأنهم ليسوا أهلًا لِنقدِ وتقييمِ أهلِ العِلْمِ، ولا عِلْمَ لهم بمسائلِ الشَّرْعِ ولا أصولِه حتى يَرُدُّوا على العلماءِ!
قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: تَسْلِيطُ الْجُهَّالِ عَلَى تَكْفِيرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ؛ وَإِنَّمَا أَصْلُ هَذَا مِنْ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِمَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا فِيهِ مِنْ الدِّينِ.
وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ لا يَجُوزُ تَكْفِيرُهُمْ بِمُجَرَّدِ الْخَطَأِ الْمَحْضِ؛ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلاّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يُتْرَكُ بَعْضُ كَلامِهِ لِخَطَأِ أَخَطَأَهُ يُكَفَّرُ ولا يُفَسَّقُ، بل ولا يَأْثَمُ؛ اهـ.
وأمَّا الآثارُ الْمُتَرَتِّبَةُ على فَتْحِ البابِ لانتقادِ العُلماءِ؛ فمنها:
1 - الوقوفُ في خندقِ الزنادقةِ ضدَّ العلماءِ، ولو كانَت النيَّةُ حَسَنَةً!
ففي السِّيرةِ أنَّ العبّاسَ لَمّا أُسِرَ قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ مُسْلِمًا، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ اسْتَكْرَهُونِي، قَال: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِسْلامِكَ، إِنْ يَكُ مَا تَقُولُ حَقًّا فَاللَّهُ يَجْزِيكَ بِهِ، فَأَمَّا ظَاهِرُكَ فَكَانَ عَلَيْنَا، فَافْدِ نَفْسَكَ؛ رواه أبو نُعيم في "دلائل النبُوَّة".
ويشهَدُ له ما عند البخاريِ: أَنَّ رِجَالًا مِنَ الأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: ائْذَنْ لَنَا، فَلْنَتْرُكْ لابْنِ أُخْتِنَا عَبَّاسٍ فِدَاءَهُ، فَقَال: لاَ تَدَعُونَ مِنْهُ دِرْهَمًا!
ومَحَبَّةُ العلماءِ مَنْجَاةٌ:
قال عَوْنُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ: حَدَّثْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِالْعَزِيزٍ: أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ: إِنِ اسْتَطَعْتَ فَكُنْ عَالِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَكُنْ مُتَعَلِّمًا، وَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَأَحِبَّهُمْ، وَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَلا تَبْغَضْهُمْ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ: لَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ مَخْرَجًا إِنْ قَبِلَ؛ رواه ابن عبدالبر في "جامع بيان العلم وفضله".
وفي الحديثِ: لا يُحِبُّ رَجُلٌ قومًا إلاَّ حُشِرَ معهم. قال المنذريُّ: رواه الطبراني في الصغيِر والأوسطِ بإسنادٍ جيدٍ. وقال الألبانيُّ: صحيحٌ لغيره.
وقال هشامُ بنُ عبدِالملك: حَيَاةُ الْخَلْقِ وَقَوَامُ الدِّينِ بِالْعُلَمَاءِ؛ رواه الإمام اللالَكَائي في "شرحِ أصولِ اعتقادِ أهلِ السنةِ والجماعة".
2 - الجرأةُ على النصوصِ وتَجْرئةُ السّفهاءِ على العُلماءِ؛ فإذا أُسقِطَتْ هَيبَةُ العلماءِ تصدّرَ الْجُهّالُ؛ فأفْتَوا بِغيرِ عِلْم، فضَلّوا وأضَلُّوا، وفَسَدَتْ دُنيا الناسِ ودِينهم.
قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ: لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَظَّمُوا السُّلْطَانَ وَالْعُلَمَاءَ، فَإِذَا عَظَّمُوا هَذَيْنَ أَصْلَحَ اللَّهُ دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وَإِذَا اسْتَخَفُّوا بهذين أفسَد دُنياهم وَأُخْرَاهُمْ.
كثيرٌ ممن يُناقِشُ في مسائلِ الشريعةِ لو سألتَه: تحفظُ القرآنَ؟ لَقَالَ: لا، ولو سألتَه: قرأتَ الصحيحين والسُّننَ؟ لَقَالَ: لا، ففي أيِّ شيءٍ يتكلَّمُ؟!
دَخَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَجُلٌ يُخَوِّفُ النَّاسَ، فَقَال: مَا هَذَا؟ قَالُوا: رَجُلٌ يُذَكِّرُ النَّاسَ، فَقَال: لَيْسَ بِرَجُلٍ يُذَكِّرُ النَّاسَ! لَكِنَّهُ يَقُولُ: أَنَا فُلانُ ابْنُ فُلانٍ فَاعْرِفُونِي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَال: أَتَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ؟! فَقَال: لا، قَال: فَاخْرُجْ مِنْ مَسْجِدِنَا وَلا تُذَكِّرْ فِيهِ؛ (تفسير القرطبي: الجامع لأحكام القرآن).
وَفِي رِوَايَةِ ابنِ أبي شيبةَ: أَنَّ عَلِيًّا رَأَى رَجُلًا يَقُصُّ، قَال: عَلِمْتَ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ؟ قَال: لا، قَال: هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ.
ورَحِمَ اللهُ الأصمَعِيَّ حيثُ لم يُفسِّرْ حديثَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو إمامٌ في اللغةِ، فقد سُئلَ عن حديثِ " الجارُ أحقُّ بِصَقَبِه "، فقال: لا أدريْ، ولكنَّ العَربَ تَزعمُ أنَّ الصقَبَ اللّزِيقُ.
3 - عدمُ تعظيمِ شَعائرِ اللهِ؛ فإنَّ تَوقيرَ العلماءِ مِن تعظيمِ ما يَحمِلُونه مِن العِلْمِ الشّرْعِيِّ، وما يَنْشُرونه مِن نصوصِ الوحيين.
قال القرطبيُّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ ﴾ [الحج: 32] الشَّعَائِرُ جَمْعُ شَعِيرَةٍ، وَهُوَ كُلُّ شيءٍ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ أَمْرٌ أَشْعَرَ بِهِ وَأَعْلَمَ؛ اهـ.
وقد أحَالَ اللهُ على أهلِ العِلْمِ، فقال: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]، وبيَّن اللهُ أنَّ العلماءَ هُم الذين يَعلَمون مَقاصِدَ الشَّرْعِ، فقال: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 83].
قال القرطبيُّ: أمَرَ اللهُ تَعَالى بِرَدِّ الْمُتَنازَعِ فيه إلى كتابِ اللهِ وسُنّةِ نّبِيِّه صلى الله عليه وسلم، وليس لغيرِ العلماءِ مَعرفةُ كيفيةِ الرَّدِّ إلى الكتابِ والسنةِ، ويدلُّ هذا على صحةِ كَونِ سُؤالِ العلماءِ واجِبًا، وامتثالِ فَتْواهُم لازِمًا؛ اهـ.
4 - الطَّعنُ في الشريعةِ، وَرَدُّ السُّنّةِ الصحيحةِ، فإنَّ الذي يَنتقِدُ العلماءَ يَطعَنُ فيما يَحمِلُونه مِن ميراثِ النبُوَّةِ؛ فإنَّ العلماءَ هُم وَرَثَةُ الأنبياءِ، كما قال عليه الصلاة والسلام.
ولَما قال المنافقون ما قالوه في الصحابةِ رضي الله عنهم كان استهزاءً بِما يَحمِلُونه.
قال ابنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: قَالَ رَجُلٌ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فِي مَجْلِسٍ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ قُرَّائِنَا هَؤُلاءِ؛ أَرْغَبَ بُطُونًا، وَلا أَكْذَبَ أَلْسِنَةً، وَلا أَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ، فَقَالَ رَجُلٌ فِي الْمَجْلِسِ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ مُنَافِقٌ، لأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ، قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ مُتَعَلِّقًا بِحَقَبِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، تَنْكُبُهُ الْحِجَارَةُ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ﴿ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ [التوبة: 65، 66]؛ رواه ابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتمٍ في التفسير.
فالاستهزاءُ كان بِالصّحَابةِ، لكن لَمّا كان الاستهزاء بهم لِمَا يَحمِلُونه، رَجَعَ الاستهزاءُ على ما يَحمِلُونه، وما يُؤمنون به، ولذلك قال اللهُ عزّ وجَلَّ: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ [التوبة: 65، 66].
5 - إسقاطُ هيبةِ العُلماءِ، والإنسانُ لا يَستَغْنِي عنهم في أخَصِّ أمُورِه!
فلو احتاجَ إلى حُكْمٍ يَتَعَلَّقُ بِفَرْجِه، أو بِطَلاقِه وصِحّةِ نِكَاحِه؛ لسَأل أهلَ العِلْم!
والإنسانُ عندما يُرَاجِعُ الطبيبَ أو المهندِسَ لا يُنازِعه في تخصصِه، بل يُسلِّمُ له، ويَقبَلُ ما قالَه؛ لأنه أعْلَمُ بِتَخَصُّصِه!
ولا أحَدَ يتكلَّمُ في التخصصات ِالعِلْمِيَّةِ التجريبيّةِ إلاّ مَن كان مِن أهلِ التخصصِ، أمّا العِلْمُ الشرعيُّ فكلُّ أحدٍ يتكلَّمُ بِما شاء، كما شاءَ! كأنَّ العِلْمَ الشرعيَّ كلأٌ مباحٌ!
ورَحِمَ اللهُ الإمامَ مالكًا إذْ كان يَقولُ: لا أُوتَيَ بِرَجُلٍ غيرِ عالِمٍ بِلُغَاتِ العَرَبِ يُفَسِّر كِتابَ اللهِ إلاَّ جَعَلْتُه نَكَالًا!
6 – التّعالُمُ، وادِّعاءُ العِلْمِ، وهذا مَسْلَكٌ مَذْمُوم.
وكان الصحابةُ رضي الله عنهم ومَن بَعدَهم مِن أهلِ العِلْمِ يَدْفَعُون الفَتْوى ويَتَدَافَعُونَها، وكثيرٌ مِن الْجُهَّالِ يُسَارِعون فيها!
قال عبدُالرحمنِ بنُ أبي ليلى: لَقَدْ أَدْرَكْتُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنَ الأَنْصَارِ، وَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ إِلاّ وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْحَدِيثَ، وَلا يُسْأَلُ عَنْ فُتْيَا إِلاّ وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْفُتْيَا؛ رواه ابنُ المبارَكِ في " الزُّهدِ " والدارميِّ.
وَعَنْ الشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ وَأَبِي حَصِينٍ - بفتح الحاء - التابعين قَالُوا: إنَّ أَحَدَكُمْ لَيُفْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ، وَلَوْ وَرَدَتْ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَجَمَعَ لها أَهْلَ بَدْرٍ.
وقبل أيامٍ انْتَشَرَ مقطعٌ ينتقِدُ فيه صاحِبُه شَرْحَ أحدِ كِبارِ العلماءِ لِحديثٍ صحيحٍ؛ والنّقدُ ليس مُتوجِّهًا للعالِم بِقَدْرِ ما هو مُتوجِّهٌ للسُّنّةِ؛ لأنَّ العالِمَ يتكلَّمُ بِلِسَانِ الشّرْعِ، وليس يَتكلَّمُ في مسائلِ العِلْمِ بِالْهَوى؛ هذا ما نَعرِفُه عن عُلَمَائنا، وما نَحْسَبُهم عليه مِن التقوى والوَرَع.
ولو أخطأَ العَالِمُ خطًا واضِحًا بيِّنًا؛ لكان الواجِبُ صِيانةَ عِرْضِه، ومعرفَةَ قَدْرِه وحَقِّه علينا، وتوقيرَ سِنِّه، ففي الحديثِ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا؛ رواه الإمام أحمد والحاكم.
ولو لم يَكُنْ في الشيخِ الجليلِ إلا كِبَرُ سِنِّه؛ لَوَجَبَ احتِرَامُه؛ لِقَولِه عليه الصلاة والسلام: مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللهِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. رواه عبدالرزاق وأحمد والترمذي والنسائي، وَصحَّحه الألباني والأرنؤوط.
ولِقَولِه عليه الصلاة والسلام: إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ؛ رواه ابن المبارَك في "الزَّهْد"، وأبو داود، وحسَّنه الألباني والأرنؤوط.
وقرأتُ تَعليقًا لِشخصٍ مَجهولٍ تحتَ اسمٍ مُستعار: يَنتقدُ في كلامِه فَقِيهَ الأمَّة في هذا العَصْرِ شيخَنا العلامةَ الشيخَ ابنَ عثيمين رحمه الله، ويقول: أصلًا الشيخ لا يَفهَم معنى الصلاة!!
سبحان الله، إذا كان فَقِيهُ العَصْر لا يَفهَم معنى الصلاة، مَن الذي يَفْهَمُه؟ أيَفْهَمُه الْجُهَّال؟!!
خِتَامًا: الإعلاميُّ الذي يقولُ: لا أحدَ فوقَ النَّقْد!
لا يَرضَى بِالنَّقْدِ عندما يُنْتَقَدُ عَمَلُه الإعلاميُّ، ولو كان هَابِطًا، بل يُوصَفُ النَّاقِدُ بأقبَحِ الأوصافِ! وربما يُطعَن في دِينه، أو تُتَهَم نيَّاته، حتى لا يَجْرؤ أحدٌ على نَقْدِ أعمالِهم!
والله المستعان.