الصارم البتار للإجهاز على من خالف الكتاب والسنة والإجماع والآثار
التصنيفات
- العقيدة >> مسائل الإيمان
- فقه >> المعاملات >> أحكام البيوع >> الربا
- الكبائر والمحرمات >> الربا
المصادر
الوصف المفصل
الصارم البتار للإجهاز على من خالف الكتاب والسنة والإجماع والآثار
حمود بن عبد الله بن حمود التويجري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:-
فقد اطلعت على ما كتبه صاحب الفضيلة أخونا العلامة حمود بن عبد الله التويجري، في الرد على ما كتبه إبراهيم بن عبد الله بن ناصر في حِلِّ معاملات البنوك الربوية، وحصر الربا في مسألة واحدة من ربا الجاهلية، فألفيته ردا قيِّما قد أوضح فيه كاتبه الحق وكشف فيه الشبهات التي أوردها إبراهيم المذكور بالأدلة من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة والآثار الواردة في ذلك عن الصحابة -رضي الله عنهم- وغيرهم، وقد سمَّى ردَّه المذكور (الصارم البتار للإجهاز على من خالف الكتاب والسنة والإجماع والآثار) وهو اسم مطابق للمسمى، قد تتبع فيه مؤلفه شبهات الكاتب المذكور وأغلاطه فكشفها وأبان عوارها وقضى عليها بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وبما نقله غير واحد من الأئمة من الإجماع على تحري الربا بنوعيه (ربا الفضل وربا النسيئة) وما يلتحق بذلك من ربا القرض وسائر أنواع المعاملات الربوية التي يتعاطاها أصحاب البنوك وغيرهم، ونقل في ذلك من الآثار الصريحة في تحريم أنواع الربا عن الصحابة -رضي الله عنهم- وغيرهم من سلف الأمة ما فيه كفاية ومقنع لطالب الحق، فجزاه الله خيرا وضاعف مثوبته، وجعلنا وإياه وسائر إخواننا من دعاة الهدى وأنصار الحق. ولقد سمعت كتابه من أوله إلى آخره كما سمعت شبهات الكاتب إبراهيم المذكور من أول كتابه إلى آخره فاتضح لي يقينًا صحة ما كتبه أخونا العلامة الشيخ حمود في رده على إبراهيم المذكور
وأنه هو عين الحق وأن الواجب عل المسلمين جميعًا أن يتمسكوا بكتاب الله - عز وجل- وسنة رسوله ﷺ وبما أجمع عليه سلف الأمة من تحريم الربا بأنواعه وألا يغتروا بما كتبه إبراهيم المذكور وأمثاله ممن قل علمهم بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة، والتبست عليهم الأمور وظنوا أنهم على علم فأملوا ما يخالف الحق ويشكك بعض المسلمين في بعض ما جاء به نبيهم ﷺ ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ وإن ظنوا أنهم مهتدون صادقون، وقد سبق أن رددت عليه ردا موجزًا نشر في وقته.
ونسأل الله أن يكفي المسلمين شر كل ذي شر، وأن يجزي أخانا الشيخ حمود وغيره من أهل العلم الذين ردوا على الكاتب المذكور وأوضحوا أباطيله وأخطاءه جزاء حسنا، وأن يرد الكاتب إبراهيم إلى الصواب، وأن يعيذه من شر نفسه وهواه ومن شر دعاة الباطل، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الذي حرم الربا على عباده وتوعد عليه بالوعيد الشديد، فقال -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي حذر من الربا غاية التحذير، ولعن آكله وموكله وشاهديه وكاتبه وقال: «هم سواء» أرسله الله بالهدى ودين الحق، وجعل العزة والنصر له وللمؤمنين المتمسكين بسنته، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره وأرتكب نهيه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرًا.
أما بعد: فهذا كتاب وجيز في أحكام الربا والمرابين، وذكر ما جاء من الوعيد الشديد للمرابين، كتبته ردًا على الفتَّان الذي استزله الشيطان وأغواه، وزين له عمله السيئ في تحليل الربا في المعاملات مع أهل البنوك والمصارف، وفيه أيضا رد على من شايع الفتان من أعوان الشيطان والمتبعين لخطواته، وقد قال الله -تعالى- فيمن كان بهذه المثابة: ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، وقال -تعالى-: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾، وقال -تعالى-: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فصل
وقد سمى الفتان كتابته في تحليل الربا (موقف الشريعة الإسلامية من المصارف) وهذا من قلب الحقيقة والافتراء على الشريعة الإسلامية؛ لأنها قد جاءت بتحريم المعاملات الربوية، ولم تأت بحلِّها، ومن زعم أن الشريعة الإسلامية تبيح المعاملات
الربوية في البنوك والمصارف فقد جنى على الشريعة الإسلامية وألصق بها ما ليس منها، والأولى بهذه الكتابة المؤسسة على معصية الله -تعالى- ومعصية رسوله ﷺ أن تسمى (موقف المحاربين لله والرسول من الربا في المصارف)، فهذه التسمية الذميمة مطابقة لها غاية المطابقة. وقد اعتمد الفتان في كتابته على نظريات لبعض الباحثين في القرن الرابع عشر من الهجرة، وهم الذين وصفهم الشيخ أحمد محمد شاكر بأنهم يلعبون بالقرآن، ووصفهم محمود شلتوت بأنهم مولعون بتصحيح التصرفات الحديثة وتخريجها على أساس فقهي إسلامي ليعرفوا بالتجديد وعمق التفكير، وسيأتي كلام هذين في ذمهم مع الكلام على رد المقدمة الثالثة من مقدمات الفتان إن شاء الله تعالى.
فصل
وقد اشتملت كتابة الفتان في تحليل الربا على عشرة أمور من كبائر الإثم:
أحدها: الافتراء على الله -تعالى- وعلى رسوله ﷺ، وذلك بالقول على الله وعلى رسوله بغير علم، وهذا الأمر واضح من زعم الكاتب أن المعاملات الربوية في المصارف حلال وأن القول بحلها هو موقف الشريعة الإسلامية من المصارف، وهذه جناية عظيمة على الشريعة الإسلامية، والشريعة منزهة عن هذا الإفك المبين، ومن نسب إلى الشريعة الإسلامية أنها تبيح الربا في المصارف فإنما هو في الحقيقة ينسب ذلك إلى الله -تعالى- وإلى رسوله ﷺ؛ لأن الله تعالى هو الذي شرع الشريعة الإسلامية وبين أحكامها وحدودها في كتابه وعلى لسان نبيه محمد ﷺ، فالحلال ما أحله الله ورسوله ﷺ، والحرام ما حرمه الله ورسوله ﷺ. ومن قال بخلاف هذا فهو من المفترين على الله وعلى رسوله ﷺ، وقد ورد الوعيد الشديد للمفترين على الله-تعالى- في آيات كثيرة من القرآن، منها قوله -تعالى-: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾، قال القرطبي في تفسير هذه الآية: "بيَّن أنهم كذبوا، إذ قالوا ما لم يقم عليه دليل". انتهى.
ومنها قوله -تعالى-: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في الكلام على هذه الآية في كتابه (أعلام الموقعين): "تقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه وقولهم لما لم يحرمه "هذا حرام"ولما لم يحله "هذا حلال"، وهذا
بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أن الله أحله وحرمه، قال بعض السلف: "ليتق أحدكم أن يقول أحل الله كذا وحرم كذا فيقول الله له: كذبت لم أحل كذا ولم أحرم كذا" فلا ينبغي أن يقول لما لا يعلم ورود الوحي المبين بتحليله وتحريمه أحله الله وحرمه لمجرد التقليد أو بالتأويل". انتهى.
وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي أو حلل شيئا مما حرم الله أو حرم شيئا مما أباح الله بمجرد رأيه وتشهيه". انتهى.
وقال -تعالى- في تحريم القول عليه بغير علم: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في (أعلام الموقعين): "قد حرم الله القول عليه بغير علم في الفُتيا والقضاء وجعله من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها... ثم ذكر الآية من سورة الأعراف وقال في الكلام عليها: فرتب المحرمات أربع مراتب وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنَّى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم، ثم ثلَّث بما هو أعظم تحريما منهما وهو الشرك به -سبحانه-، ثم ربَّع بما هو أشد من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه -سبحانه- بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه". انتهى.
وقد تواتر عن النبي ﷺ أنه قال: «من كذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار».
الأمر الثاني: مما اشتملت عليه كتابة الفتان محادة الله ورسوله ﷺ ومبارزتهما بالمعصية، وذلك بتحليل ما جاءت النصوص من القرآن والسنة بتحريمه والوعيد الشديد عليه، والمحادة هي المشاقة والمخالفة لأمر الله -تعالى- وأمر رسوله ﷺ، وارتكاب ما جاء النهي عنه في الكتاب والسنة، وقد قال الله -تعالى-: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ﴾، وقال -تعالى-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾، وقال -تعالى-: ﴿يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، وقال -تعالى-: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا﴾.
الأمر الثالث: محاربة الله ورسوله ﷺ؛ لأن الله -تعالى- قد آذن الذين لم يتركوا الربا بالحرب منه ومن رسوله ﷺ، والمحاربة تستلزم العداوة، فكل محارب لله ورسوله فهو عدو لهما ولا بد، ومن كان داعيا إلى استحلال الربا فهو أعظم جرما وأشد محاربة لله ورسوله ممن يتعامل بالربا من غير أن يكون داعيا إلى استحلاله.
الأمر الرابع: اتباع غير سبيل المؤمنين وذلك بمخالفة الإجماع على تحريم الربا وقد قال الله -تعالى-: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا *﴾
الأمر الخامس: اتباع الهوى وتقديمه على نصوص الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ أنه قال: «حبك الشيء يعمي ويصم»، وروى البزار والبيهقي عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «ثلاث منجيات وثلاث مهلكات» فذكر الحديث وفيه: «وأما المهلكات فشُحٌّ مطاع وهوى مُتَّبع وإعجاب المرء بنفسه»، وروى عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به»، قال النووي في كتاب (الأربعين) له: "حديث صحيح رُويناه في كتاب الحج بإسناد صحيح"، قال الحافظ ابن رجب في كتابه (جامع العلوم والحكم): "يريد بصاحب كتاب (الحجة) الشيخ أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي... قال: وقد خرج هذا الحديث الحافظ أو نعيم في كتابه (الأربعين)، وشرط في أولها أن تكون من صحاح الأخبار وجياد الآثار مما أجمع الناقلون على عدالة ناقليه وخرجته الأئمة في مسانيدهم، ثم خرجه عن الطبراني". انتهى، قال النووي في الكلام على هذا الحديث: "يعني أن الشخص يجب عليه أن يعرض عمله على الكتاب والسنة ويخالف هواه ويتبع ما جاء به ﷺ، وهذا نظير قوله -تعالى-: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾، فليس لأحد مع الله - عز وجل- ورسوله ﷺ أمر ولا هوى". انتهى.
الأمر السادس: الدعاء إلى الضلالة، وذلك بما لفَّقه من الشبه والتمويه على الجهال ودعائهم إلى التعامل بالربا في المصارف وإظهار الباطل في صورة الحق، وقد ورد الوعيد الشديد على ذلك، قال الله -تعالى-: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾، وفي الحديث الصحيح
أن رسول الله ﷺ قال: «من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا» رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن وابن حبان في صحيحه، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، قال النووي في (شرح مسلم): "سواء كان ذلك الهدي والضلالة هو الذي ابتدأه أم كان مسبوقا إليه". انتهى.
الأمر السابع: القول في القرآن بغير علم، وذلك بالتعسف في تطبيق الآيات على ما رآه بعقله الفاسد من تحليل الربا في المعاملات مع أهل البنوك والمصارف، وما أشد الخطر في هذا، وقد ورد الوعيد الشديد عليه فيما رواه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير والبغوي من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار»، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وفي رواية للترمذي وابن جرير والبغوي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ أنه قال: «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار»، قال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وفي رواية لابن جرير: «من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار».
قال البغوي: "قال شيخنا ([1]) الإمام: قد جاء الوعيد في حق من قال في القرآن برأيه وذلك فيمن قال من قبل نفسه شيئا من غير علم". انتهى.
الأمر الثامن: عدم المبالاة بالوعيد الشديد على أخذ الربا وإعطائه، وهذا يدل على أنه مصاب في دينه وعقله، وإنه ليخشى عليه أن يكون له نصيب وافر من قول الله -تعالى-: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾، وقوله -تعالى-: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾.
الأمر التاسع: التماس رضى أهل البنوك والمتعاملين معهم بالربا وتقديم رضاهم على رضى الله وعدم المبالاة بما يسخط الله، وهذا من ضعف اليقين كما جاء في الحديث الذي رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعا: «إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله»، ومن آثر رضى الناس على رضى الله عامله الله بنقيض قصده، كما جاء في الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله ﷺ: «من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى الناس عنه، ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس»، وفي رواية له عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله ﷺ قال: «من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله، ومن أسخط الله برضى الناس وكله الله إلى الناس»، وروى الطبراني عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: «من أسخط الله في رضى الناس سخط الله عليه وأسخط عليه من أرضاه في سخطه، ومن أرضى الله في سخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه من أسخطه في رضاه حتى يزينه ويزين قوله وعمله في عينه»، قال المنذري: "إسناده جيد قوي"، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله ﷺ: «من طلب محامد الناس بمعاصي الله عاد حامده له ذاما» رواه البزار والبيهقي ولفظه: «من أراد سخط الله ورضا الناس عاد حامده من الناس ذاما».
الأمر العاشر: التشبه باليهود الذين يستحلون محارم الله بالحيل، ووجه المشابهة بين اليهود وبين الفتان أن اليهود لما حرم الله عليهم صيد الحيتان في يوم السبت احتالوا على صيدها فيه فوضعوا لها الحبائل والبرك العميقة قبل يوم السبت لتقع فيها يوم السبت ويأخذوها يوم الأحد، فعاقبهم الله -تعالى- على هذه الحيلة ومسخهم قِرَدَة. وقد ذكر الله -تعالى- قصتهم في سورتي البقرة والأعراف؛ ليعتبر المسلمون بما حل بهم ويحذروا من الوقوع في مثل ما وقع فيه اليهود من استحلال المحرمات بالحيل فيصيبهم مثل ما أصابهم من العقوبة، فما هي من الظالمين ببعيد، وأما الفتان فإنه قد استحل المعاملات الربوية في البنوك والمصارف ودعا الناس إلى استحلالها بما لفقه من الشبه والمغالطات وتأويل القرآن على غير تأويله وحمل كلام العلماء على غير محامله وغير ذلك من أنواع الحيل التي قد جعلها مستندا له في استحلال المعاملات الربوية في البنوك والمصارف، وهذا من الاغترار بالله والاستخفاف بما أنزله في كتابه وعلى لسان رسوله ﷺ من تحريم الربا والوعيد الشديد عليه، والاستخفاف أيضا بإجماع المسلمين على
تحريم الربا، وقد روى ابن بطة بإسناد جيد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل»، وفي ارتكاب الفتان لما ارتكب اليهود من استحلال محارم الله بالحيل دليل على أنه قد أمن مكر الله وقد قال الله -تعالى-: ﴿فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾، فلا يأمن الفتان والمساعدون له على استحلال الربا أن يصيبهم مثل ما أصاب المعتدين في السبت، فقد قال الله -تعالى-: ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾، قال الزجَّاج في قوله -تعالى-: ﴿وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾: "لأمة محمد ﷺ أن ينتهكوا من حرم الله ما نهاهم عنه فيصيبهم ما أصاب أصحاب السبت إذ انتهكوا حُرَم الله في سبتهم".
فصل
وفي نشر لفتان لكتابته في استحلال الربا وعدم مبالاته بما يترتب على ذلك من محاربة الله ورسوله ومخالفة القرآن والسنة وإجماع المسلمين وغير ذلك من الكبائر العشر التي تقدم ذكرها دليل على أنه لا حياء عنده، ومن لا حياء عند فلا خير فيه، وقد روى الإمام أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجة عن أبي مسعود البدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى، إذا لم تستح فاصنع ما شئت»، ومعناه على أحد الأقوال: أن من لا يمنعه الحياء فإنه يقول ويفعل ما يشاء ولا يبالي بما يترتب على ذلك من الذم له والتجريح لعدالته.
فصل
وقد قام بعض الجهال الأغبياء بطبع ما كتبه الفتان في استحلال الربا وتوزيعه على الناس، وهؤلاء شركاء للفتان في جميع ما اشتملت عليه كتابته من الكبائر؛ لأن الراضي بالذنب كفاعله، وهؤلاء قد جمعوا بين الرضا بما كتبه الفتان في استحلال الربا وزادوا على الرضا بالإعانة على طبعه ونشره، فهم أعظم جرما ممن رضي به ولم يعن على طبعه ونشره، وقد روى الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن رسول الله ﷺ أنه قال: «مثل الذي يعين قومه على غير الحق كمثل بعير تردى في بئر فهو ينزع منها بذَنَبِهِ»، وقد رواه أبو داود بنحوه مرفوعا وموقوفًا، قال
الخطابي: "معناه أنه قد وقع في الإثم وهلك كالبعير إذا تردى في بئر فصار ينزع بذنبه ولا يقدر على خلاصه". انتهى، وقد ترجم ابن حبان على هذا الحديث بقوله: "ذكر الزجر عن أن يعين المرء أحدا على ما ليس لله فيه رضى"، وروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: «من أعان ظالما ليدحض بباطله حقا فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله»، رواه الطبراني وأبو نعيم في الحلية، فليتدبر الذين أيَّدوا أباطيل الفتان بالكتابة والذين أعانوه بالطبع والنشر ما جاء في هذين الحديثين وليعلموا أنهم قد وقعوا في أمر خطير وهو محاربة الله ورسوله والبراءة من ذمة الله وذمة رسوله.
فصل
وقد روي البخاري ومسلم واللفظ له عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- قال: "كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: «نعم»، فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم وفيه دخن»، قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر»، فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها»، فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: «نعم، قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا»..." وذكر تمام الحديث، وفيه عَلَم من أعلام النبوة؛ لأنه قد وقع ما أخبر به رسول الله ﷺ عن القوم الذين يستنون بغير سنته ويهدون بغير هديه، وهم كثيرون في زماننا وقبله بزمن طويل، وكذلك الدعاة على أبواب جهنم هم أيضا كثيرون في زماننا وقبله بزمن طويل، ومن رزقه الله البصيرة النافذة فإنه يعرفهم من خلال كتاباتهم ومقالاتهم الباطلة التي تنشر في الصحف والكتب التي لا خير فيها، ومنهم الفتان الذي قد لعب الشيطان بعقله وزين له عمله السيئ في تحليل الربا في المعاملات مع أهل البنوك والمصارف فصار بهذا العمل السيئ من الدعاء على أبواب جهنم، فمن أجابه إلى ما دعا إليه من استحلال الربا ومحاربة الله ورسوله قذفه في جهنم، وقد قال -تعالى-: ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾.
فصل
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم من حديث الحسن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «ليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا أكل الربا فمن لم يأكله أصابه من غباره»، قال الحاكم: "صحيح إن صح سماع الحسن من أبي هريرة"، قال الذهبي: "سماع الحسن من أبي هريرة بهذا صحيح". انتهى.
وهذا الحديث مطابق لحال أهل البنوك ومن يعاملهم بالمعاملات الربوية، وفيه عَلَم من أعلام النبوة؛ لأنه قد وقع ما أخبر به رسول الله ﷺ من فشو الربا وكثرة من يأكله.
وروى الإمام أحمد والبخاري والدارمي والنسائي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمن حلال أم من حرام».
وهذا الحديث أعم من الحديث الذي قبله فيدخل فيه أهل البنوك ومن يعاملهم بالمعاملات الربوية، ويدخل فيه غيرهم من الذين ليس فيهم تقوى ولا ورع يحجزهم عن أكل المال بالباطل وأخذه من أي طريق حصل لهم.
وروى الطبراني في الأوسط عن أبن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ أنه قال: «بين يدي الساعة يظهر الربا والزنا والخمر»، قال المنذري والهيثمي: "رجاله رجال الصحيح".
وفي هذا الحديث عَلَم من أعلام النبوة؛ لأنه قد وقع ما أخبر به رسول الله ﷺ من ظهور الربا ولا سيما في البنوك التي قد كثرت في البلاد الإسلامية وفي جميع أنحاء العالم، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- ذكر الأحاديث التي قد جاء فيها أن ظهور الربا والزنا سبب لحلول العقوبة.
ولا يخفى على من له علم وفهم ما في كتابة الفتان من الحث على أكل الربا وأخذ المال من غير حِلِّه والإعانة على ظهور الربا بين المسلمين، وبهذا العلم الشيطاني يكون الفتان من المعتدين الداخلين في عموم قوم الله -تعالى-: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾، ومن الداخلين أيضا فيما أخبر به رسول الله
ﷺ عما سيكون في آخر هذه الأمة حيث قال: «وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس» رواه مسلم من حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما-، والله المسؤول أن يقيض للفتان وأشباهه من المضلين بأهوائهم من يأخذ على أيديهم ويأطرهم على الحق أطرًا، وما ذلك على الله بعزيز.
فصل
وقد تظافرت الأدلة من الكتاب والسنة على تحريم الربا، وأجمع المسلمون على تحريمه، وعلى أنه من الكبائر، قال النووي في (شرح المهذب): "وقيل إنه كان محرما في جميع الشرائع، وممن حكاه الماوردي". انتهى.
قلت: ويدل على تحريمه في شريعتي التوراة والإنجيل قول الله -تعالى- مخبرًا عن اليهود: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾، وقوله -تعالى- مخبرًا عن الإنجيل: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾، وأخبر أيضا عن عيسى في عدة آيات أنه مصدق لما بين يديه من التوراة، فهذا يدل على أن الربا كان محرما في شرع من قبلنا، ولم يأت في القرآن ولا في السنة ولا في إجماع المسلمين ما يدل على التفريق بين المعاملات الربوية في البنوك وغير البنوك، فالتفريق إذا من التحكم المردود على قائله كائنا من كان.
فأما الأدلة من القرآن على تحريم المعاملات الربوية على وجه العموم ففي خمس آيات، منها أربع في سورة البقرة، وهي قوله -تعالى-: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾، وقوله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾، الآية الخامسة قول الله -تعالى- في سورة آل عمران: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
وقد تضمنت هذه الآيات فوائد كثيرة وأمورًا مهمة تتعلق بالربا والمرابين.
الأولى: تعظيم أكل الربا والوعيد عليه في الدنيا والآخرة، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.
الثانية: أن المراد بأكل الربا أخذه والانتفاع به على أي وجه كان، وبهذا قال كثير من المفسرين، قال ابن جرير: "فإن قال لنا قائل: أفرأيت من عمل ما نهى الله عنه من الربا في تجارته ولم يأكله أيستحق هذا الوعيد من الله؟ قيل: نعم، وليس المقصود من الربا في هذه الآية الأكل، إلا أن الذين نزلت فيهم هذه الآيات يوم نزلت كانت طعمتهم ومأكلهم من الربا فذكرهم بصفتهم معظما بذلك عليهم أمر الربا ومقبحا إليهم الحال التي كانوا عليها في مطاعمهم... ثم ذكر أن التحريم من الله في ذلك كان لكل معاني الربا وأنه سواء العمل به وأكله وأخذه وإعطاؤه". انتهى، وقال الماوردي في تفسيره: "قوله - عز وجل-: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾؛ أي الذين يعاملون به، وإنما خص الأكل لأنه معظم المقصود من المال". انتهى، وبنحو هذا قال ابن الجوزي في تفسيره، وقال ابن عطية في تفسيره: "معنى الآية يكسبون الربا ويفعلونه، وقصد إلى لفظة الأكل لأنها أقوى مقاصد الإنسان في المال، ولأنها دالة على الجشع، فأقيم هذا البعض من توابع الكسب مقام الكسب كله، فاللباس والسكنى والادخار والإنفاق على العيال وغير ذلك داخل كله في قوله: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾". انتهى، وقال ابن جزي في تفسير: "﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا﴾أي ينتفعون به، وعبر عن ذلك بالأكل لأنه أغلب المنافع، وسواء من أعطاه أو من أخذه". انتهى.
الثالثة: أن المراد بالربا الزيادة على رأس المال؛ لقول الله -تعالى-: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾، ومعنى الربا في اللغة الزيادة في الشيء، قال الجوهري: "ربا الشيء يربو ربوا أي زاد"، وكذا قال غيره من أهل اللغة، وقال الفيومي في (المصباح المنير): "الربا الفضل والزيادة"، وقد ذكر المفسرون في معنى الربا نحو ما ذكره أهل اللغة، قال ابن جرير: "الإرباء الزيادة على الشيء، يقال منه أربي فلان على فلان إذا زاد عليه، والزيادة هي الربا، وإنما قيل للمربي مربٍ لتضعيفه المال الذي كان له على غريمه حالا أو لزيادته عليه فيه لسبب الأجل الذي يؤخره إليه". انتهى، وقال الماوردي: "الربا هو الزيادة على مقدار الدين لمكان الأجل"، وقال
النسفي: "الربا هو فضل مال خال عن العوض في معارضة مال بمال"، وقال ابن عطية: "الربا هو الزيادة وهو مأخوذ من ربا يربو إذا نما وزاد على ما كان.... قال: ومن الربا البين التفاضل في النوع الواحد؛ لأنها زيادة، وكذلك أكثر البيوع الممنوعة إنما تجد منعها لمعنى زيادة إما في عين المال وإما في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه".انتهى.
وذكر ابن منظور في (لسان العرب) عن أبي إسحاق – يعني الزجاج – أنه قال: "الربا الحرام كل قرض يؤخذ به أكثر منه أو تجر به منفعة". انتهى، وقال أبو بكر الجصاص في (أحكام القرآن): "الربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به ولم يكونوا يعرفون البيع بالنقد إذا كان متفاضلا من جنس واحد، هذا كان المتعارف المشهور بينهم". انتهى.
ومن تأمل ما ذكره المفسرون وأهل اللغة في معنى الربا رآه مطابقًا للمعاملات الربوية في البنوك، ولا سيما قول أبي إسحاق الزجاج وأبي بكر الجصاص، ومن توقف في هذا فإنه لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون جاهلا لا علم له بالأحكام، وإما أن يكون معاندًا قد أعماه اتباع الهوى وأصمه فهو يخبط خبط عشواء فيما رضي به أهل البنوك ومن يتعامل معهم بالمعاملات الربوية ولا يبالي بما يترتب على ذلك من سخط الله ومحاربته ومحاربة رسوله واتباع غير سبيل المؤمنين.
الرابعة: تعذيب المرابين، حين يبعثون من قبورهم بالجنون أو بما يشبه الجنون، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: «آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق» رواه ابن أبي حاتم، وذكره ابن كثير في تفسيره، ثم قال: "وروي عن عوف بن مالك وسعيد بن جبير والسدي والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان نحو ذلك"، وقال ابن عطية في تفسير: "قال ابن عباس -رضي الله عنهما- ومجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد: معنى قوله (ولا يقومون) من قبورهم في البعث يوم القيامة، قال بعضهم: يجعل معه شيطان يخنقه، وقالوا كلهم: يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتا عند جمع المحشر". انتهى، وقال ابن جزي في تفسيره: "أجمع المفسرون أن المعنى لا يقومون من قبورهم في البعث إلا كالمجنون". انتهى، قال الماوردي: "فيكون ذلك في القيامة علامة لآكل الربا في الدنيا". انتهى، وقال النسفي: "المعنى أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين، تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف، وقيل: الذين
يخرجون من الأجداث يوفضون إلا أكلة الربا فإنهم ينهضون ويسقطون كالمصروعين؛ لأنهم أكلوا الربا فأرباه الله في بطونهم حتى أثقلهم فلا يقدرون على الإيفاض" انتهى.
وللمرابين أيضا أنواع من العذاب في البرزخ قبل يوم القيامة.
فمن هذه الأنواع تعذيبهم بالسباحة في النهر الذي هو أحمر مثل الدم أو هو من الدم وإلقامهم الحجارة إذا أرادوا أن يخرجوا من ذلك النهر ليرجعوا فيه. وقد جاء ذلك في حديث صحيح رواه الإمام أحمد في مسنده والبخاري في آخِر (كتاب التعبير) من صحيحه عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ في حديث المنام الطويل، فقد جاء فيه أن رسول الله ﷺ قال: «إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق وإني انطلقت معهما» فذكر الحديث، وفيه: «قال: فانطلقنا فأتينا على نهر حسبت أنه كان يقول أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجرا» الحديث، وفيه: «وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجارة فإنه آكل الربا» وفي رواية لأحمد أن رسول الله ﷺ قال: «رأيت رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى أرض فضاء أو أرض مستوية» فذكر الحديث بطوله، وفيه: «فانطلقت فإذا نهر من دم فيه رجل وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة فيقبل الرجل الذي في النهر فإذا دنا ليخرج رمي في فيه حجرًا فرجع إلى مكانه فهو يفعل ذلك به» الحديث، وفيه: «وأما الذي رأيت في النهر فذاك آكل الربا» وفيه أيضا أن الرجلين أخبرا رسول الله ﷺ أنهما جبريل وميكائيل، وقد رواه البخاري في (باب آكل لربا وشاهده وكاتبه) مختصرا بنحوه.
وإذا علم ما جاء في الحديث الصحيح من تعذيب آكل الربا في البرزخ فليعلم أيضا أن رؤيا الأنبياء في المنام وحي، والدليل على ذلك قول الله -تعالى- مخبرا عن خليله إبراهيم أنه قال لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ الآيات، وروى أبن أبي حاتم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: «رؤيا الأنبياء في المنام وحي»، وروى ابن جرير في تفسيره وابن أبي عاصم في (كتاب السنة) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «كانت رؤيا الأنبياء وحيا»، وروى البخاري في صحيحه عن عبيد بن عمير قال: «إن رؤيا الأنبياء وحي» ثم قرأ ﴿إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾، وروى الإمام أحمد في مسنده وابن أبي
عاصم في كتاب (السنة) بأسانيد صحيحة عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- موقوفا: «أن رسول الله ﷺ كان ما رأى في يقظته أو نومه فهو حق» وفي رواية لأحمد قال: «رؤيا النبي ﷺ حق».
النوع الثاني من أنواع تعذيب المرابين في البرزخ: ما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن ماجة وابن أبي حاتم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: «أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم، فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا».
النوع الثالث من أنواع تعذيب المرابين في البرزخ: ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في دلائل النبوة عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ في حديث الإسراء قال: «ثم نظرت فإذا أنا بقوم لهم بطون كأنها البيوت وهم على سابلة آل فرعون فإذا مرَّ بهم آل فرعون ثاروا فيميل بأحدهم بطنه فيقع فيتوطؤهم آل فرعون بأرجلهم وهم يعرضون على النار غدوا وعشيا، قلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا ربا في بطونهم فمثلهم كمثل الذي يتخبطه الشيطان من المس» وفي رواية البيهقي: «فإذا أنا بقوم بطونهم أمثال البيوت كلما نهض أحدهم خرَّ يقول: اللهم لا تقم الساعة» وفي روايته أيضا: «قال فسمعتهم يضجون إلى الله سبحانه»، وللمرابين أيضا عذاب جهنم كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
الخامسة: الإنكار على من سوَّى بين البيع والربا والرد عليهم. قال ابن جرير في الكلام على قول الله -تعالى-: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾: "يعني بذلك جل ثناؤه ذلك الذي وصفهم به من قيامهم يوم القيامة من قبورهم كقيام الذي يتخبطه الشيطان من المس من الجنون، فقال تعالى ذكره: هذا الذي ذكرنا أنه يصيبهم يوم القيامة من قبح حالهم ووحشة قيامهم من قبورهم وسوء حل بهم من أجل أنهم كانوا في الدنيا يكذبون ويفترون ويقولون إنما البيع الذي أحله الله لعباده مثل الربا، وذلك أن الذين كانوا يأكلون الربا من أهل الجاهلية كان إذا حل مال أحدهم على غريمه يقول الغريم لغريم الحق زدني في الأجل وأزيدك في مالك، فكان يقال لهما إذا فعل ذلك هذا ربا لا يحل، فإذا قيل لهما ذلك قالا سواء علينا زدنا في أول البيع أو عند محل المال فكذبهم الله في قيلهم فقال: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾".انتهى.
وقال أبو حيان في الكلام على قول الله -تعالى-: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾: "في ذلك رد عليهم إذ ساووا بينهما، والحكم في الأشياء إنما هو إلى الله -تعالى-، لا يعارض في حكمه ولا يخالف في أمره، وفي هذه الآية دلالة على أن القياس في مقابلة النص لا يصح، إذ جعل -تعالى- الدليل في إبطال قولهم هو أن الله أحل البيع وحرم الربا، وقال بعض العلماء قياسهم فاسد؛ لأن البيع عوض ومعوض لا غبن فيه، والربا فيه التغابن وأكل المال بالباطل؛ لأن الزيادة لا مقابل لها من جنسها بخلاف البيع فإن الثمن مقابل بالمثمن". انتهى.
السادسة: النص على تحريم الربا، وفي النص على تحريمه أبلغ رد على الفتان وعلى أمثاله من الذين يزعمون حل المعاملات الربوية في البنوك.
السابعة: العفو عما سلف من أخذ الربا قبل نزول الآية بتحريمه، قال ابن كثير في الكلام على قول الله -تعالى-: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾: "أي من بلغه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع، إليه ما سلف من المعاملة، ثم ذكر عن سعيد بن جبير والسدي أنهما قالا (فله ما سلف) ما كان أكل من الربا قبل التحريم". انتهى، وقال أبو حيان في تفسيره الظاهر: "أن الآية في الكفار لقوله ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾؛ لأن المؤمن العاصي بالربا ليس له ما سلف، بل ينقض ويرد فعله وإن كان جاهلاً بالتحريم، لكنه يأخذ بطرف من وعيد هذه الآية". انتهى.
الثامنة: الوعيد بالنار لمن عاد إلى استحلال الربا بعد تحريمه، قال ابن عطية في تفسيره: "قوله -تعالى-: ﴿وَمَنْ عَادَ﴾ يعني إلى فعل الربا والقول إنما البيع مثل الربا، وإن قدرنا الآية في كافر فالخلود خلود تأبيد حقيقي، وإن لحظناها في مسلم عاصٍ فهذا خلود مستعار على معنى المبالغة كما تقول العرب: (ملك خالد) عبارة عن دوامٍ مَّا، لا على التأبيد الحقيقي". انتهى، وقال القرطبي في الكلام على قوله -تعالى-: ﴿وَمَنْ عَادَ﴾: "يعني إلى فعل الربا حتى يموت قاله سفيان، وقال غيره: من عاد فقال إنما البيع مثل الربا فقد كفر..." ثم ذكر كلام ابن عطية، وقال النسفي في تفسيره: "﴿وَمَنْ عَادَ﴾ إلى استحلال الربا ﴿فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾؛ لأنهم بالاستحلال صاروا كافرين؛ لأن من أحل ما حرم الله - عز وجل- فهو كافر؛ فلذا استحق الخلود، وبهذا تبين أنه لا تعلق للمعتزلة بهذه الآية في تخليد الفساد". انتهى، وقال ابن جزي في تفسيره: "﴿وَمَنْ عَادَ﴾ الآية؛ يعني من عاد إلى فعل الربا وإلى القول ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ ولذلك حكم عليه بالخلود في النار؛ لأن ذلك القول لا يصدر إلا من كافر فلا حجة فيها لمن
قال بتخليد العصاة لكونها في الكفار". انتهى، وقال أبو حيان في الكلام على الآية: "قيل هو إخبار ووعيد عن الذين يأكلون الربا مستحلين ذلك بدليل قولهم: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾، وقوله: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾، وقوله: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ ومن اختار حرب الله ورسوله فهو كافر". انتهى.
وقد استدل الزمخشري بهذه الآية على تخليد الفساق في النار، وتعقبه ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير فقال: "إن الذي وقع العَود عليه مسكوت عنه في الآية، فيحمل على ما تقدم، كأنه قال: ومن عاد إلى ما سلف ذكره ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ والذين سلف ذكره فعل الربا واعتقاد جوازه والاحتجاج عليه بقياسه على البيع، ولا شك عندنا أهل السنة والجماعة أن من تعاطى معاملة الربا مستحلا لها مكابرا في تحريمها مسندا إحلالها إلى معارضة آيات الله البينات بما يتوهمه من الخيالات فقد كفر ثم ازداد كفرًا، وإذ ذاك يكون الموعود بالخلود في الآية من يقول ([2]) إنه كافر مكذب غير مؤمن، وهذا لا خلاف فيه، فلا دليل للزمخشري إذا على اعتزاله في هذه الآية، والله الموفق". انتهى.
فليتأمل الفتان والمشايعون له على استحلال الربا بالشبه والأباطيل ما قاله المفسرون فيمن عاد إلى استحلال الربا وسوى وبين البيع وأنه بذلك يصير كافرا مستحقا للخلود في النار إلا أن يتوب إلى الله -تعالى- وينزع عن تعاطي الربا واستحلاله.
التاسعة: أن الله -تعالى- يمحق الربا، قال البغوي في تفسيره: "أي ينقصه ويهلكه ويذهب ببركته، وقال الضحاك عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾؛ يعني لا يقبل منه صدقة ولا جهادًا ولا حجًا ولا صلة". انتهى، وقال ابن كثير في تفسيره: يخبر -تعالى- أنه يمحق الربا أي يذهبه، إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به، بل يعذبه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة، كما قال -تعالى-: ﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾، وقال -تعالى-: ﴿وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ﴾، وقال -تعالى-: ﴿وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ﴾الآية، ثم ذكر ما رواه الإمام أحمد وابن ماجة بإسناد حسن عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي
ﷺ قال: «الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل» هذا لفظ أحمد، ولفظ ابن ماجة: «ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة» قال في الزوائد: "إسناده صحيح ورجاله موثقون"، وقد رواه الحاكم في مستدركه بنحو رواية أحمد وصححه، ووافقه الذهبي على تصحيحه.
العاشرة: أن الله تعالى يربي الصدقات، قال ابن جرير: "يعني أنه يضاعف أجرها لربها وينميها له"، وقال البغوي: "أي يثمرها ويبارك فيها في الدنيا ويضاعف بها الأجر والثواب في العقبى"، وقال ابن عطية في الكلام على قوله -تعالى-: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾: "قد جعل الله هذين الفعلين بعكس ما يظنه الحريص الجشع من بني آدم، يظن الربا يغنيه وهو في الحقيقة ممحق، ويظن الصدقة تفقره وهي نماء في الدنيا والآخرة". انتهى.
الحادية عشرة: أن الله تعالى لا يحب كل كفار أثيم، قال ابن جرير: "يعني لا يحب كل مُصِرٍّ على كفر بربه مقيم عليه مستحل كل الربا وإطعامه، ﴿أَثِيمٍ﴾متمادٍ في الإثم فيما نهاه عنه من أكل الربا والحرام وغير ذلك من معاصيه، لا ينزجر عن ذلك ولا يرعوي عنه ولا يتعظ". انتهى، وقال النسفي في الكلام على قول الله -تعالى-: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ﴾: "عظيم الكفر باستحلال الربا، ﴿أَثِيمٍ﴾ متماد في الإثم بأكله". انتهى.
الثانية عشرة: أن الله تعالى أمر المؤمنين بتقواه وترك الربا، وجعل ذلك من لوازم الإيمان وحكمه، قال الماوردي في تفسيره: "قوله - عز وجل-: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ محمول على أن من أربى قبل إسلامه وقبض بعضه في كفره وأسلم وقد بقي بعضه فما قبضه قبل إسلامه معفو عنه لا يجب عليه رده، وما بقي منه بعد إسلامه حرام عليه لا يجوز له أخذه، فأما المراباة بعد الإسلام فيجب رده فيما قبض وبقي، فيرد ما قبض ويسقط ما بقي بخلاف المقبوض في الكفر؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، وفي قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ قولان: أحدهما: يعني أن من كان مؤمنا فهذا حكمه، والثاني: معناه إذا كنتم مؤمنين". انتهى.
الثالثة عشرة: أن الآية الكريمة دلت على أن ترك الربا من صفات المؤمنين وأن استحلاله من صفات غير المؤمنين.
الرابعة عشرة: إيذان من لم يترك الربا بحرب من الله ورسوله، وما أعظم الخطر في هذا الوعيد الشديد، قال ابن كثير في الكلام على قول الله -تعالى-: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا
فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾: "هذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار". انتهى، ومعنى قوله: ﴿فَأْذَنُوا﴾ أي استيقنوا وكونوا على علم، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "قوله: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ فاستيقنوا بحرب من الله ورسوله" رواه ابن جرير، وعنه أيضا قال: «يقال يوم القيامة لآكل الربا خذ سلاحك للحرب» رواه ابن جرير، وقال البغوي: قال أهل المعاني: "حرب الله النار وحرب رسول الله السيف". وروى ابن جرير من طريق على بن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ إلى قوله: ﴿بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾: "فمن كان مقيمًا على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه"، قال أبو بكر الجصاص في (أحكام القرآن): "هذا محمول على أن يفعله مستحلا له؛ لأنه لا خلاف بين أهل العلم أنه ليس بكافر إذا اعتقد تحريمه". انتهى، وروى ابن أبي حاتم عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا: "والله إن هؤلاء الصيارفة لأكلة الربا، وإنهم قد أذنوا بحرب من الله ورسوله، ولو كان على الناس إمام عادل لاستتابهم فإن تابوا وإلا وضع فيهم السلاح".
وإذا كان هذا قول الحسن وابن سيرين في الصيارفة الذين كانوا في زمانهما فكيف لو رأوا أهل البنوك في زماننا؟! فإنهم بلا شك أشد محاربة لله ولرسوله ممن كانوا في زمان الحسن وابن سيرين، وعلى هذا فإنه يجب على إمام المسلمين أن يستتيبهم فإن تابوا وإلا عاقبهم بأشد العقوبة، وسيسأل الله -تبارك وتعالى- ولاة أمور المسلمين يوم القيامة عما استرعاهم، وهو لهم بالمرصاد فيما أهملوه من الأخذ على أيدي المرابين والمجادلين بالباطل في استحلال الربا وغيرهم من المعاندين والمجاهرين بالمعاصي، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «ألا كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته» الحديث، رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، وروى الإمام أحمد أيضا عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي ﷺ قال: «لا يسترعي الله -تبارك وتعالى- عبدًا رعية قلَّت أو كثرت إلا سأله -تبارك وتعالى- عنها يوم القيامة، أقام فيهم أمر الله -تبارك وتعالى- أم أضاعه، حتى يسأله عن أهل بيته خاصة».
وروي ابن جرير عن قتادة في قوله: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ قال: "أوعدهم الله بالقتل كما تسمعون
فجعلهم بهرجا أينما ثقفوا"، ورواه ابن أبي حاتم وزاد: "فإياكم ومخالطة هذه البيوع من الربا، فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه فلا يلجئنكم إلى معصيته فاقة"، وقال الربيع بن أنس: "أوعد الله آكل الربا بالقتل" رواه ابن جرير.
وذكر القرطبي في تفسيره عن ابن خويز منداد أنه قال: "لو أن أهل بلد اصطلحوا على الربا استحلالا كانوا مرتدين والحكم فيهم كالحكم في أهل الردة، وإن لم يكن ذلك منهم استحلالا جاز للإمام محاربتهم، ألا ترى أن الله -تعالى- قد أذن في ذلك فقال: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾".
وذكر أيضًا عن ابن بكير قال: "جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد الله، إني رأيت رجلا سكران يتعاقر يريد أن يأخذ القمر فقلت امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشر من الخمر، فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك، فأتاه من الغد، فقال له: ارجع حتى أنظر في مسألتك، فأتاه من الغد، فقال له: امرأتك طالق، إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئا أشر من الربا؛ لأن الله أذن فيه بالحرب".
وقال محمد بن يوسف الكافي التونسي في كتابه المسمى بـ(المسائل الكافية) ما نصه: "(المسألة الخامسة والعشرون): من استحل شيئا من الخبائث كالخمر والزنا والربا والمكس أو شكَّ في تحريمه أو تأوَّل تأويلا فاسدا خرق به الإجماع كتأويل بعض الفسقة في آية الربا فقال إن المحرم منه ما كان أضعافا مضاعفة وأما إذا كان قانونيا كخمسة في المائة مثلا فلا حرمة، وذلك كذب وافتراء على الله -تعالى-، بل الربا قليله وكثيره في الحكم سواء، ومفهوم (أضعافا مضاعفة) في قوله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ معطل ليس عليه عمل، أو معتبر ونسخ بآية ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ ويشهد لما قلته ما ذكره العلامة أبو بكر الجصاص في أحكامه، قال -رحمه الله تعالي- في قوله -تعالى-: ﴿لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾: "قيل في معنى أضعافا مضاعفة وجهان: أحدهما: المضاعفة بالتأجيل أجلاً بعد أجل ولكل أجل قسط من الزيادة على المال، والثاني: ما يضاعفون به أموالهم، وفي هذا دلالة على أن المخصوص بالذكر لا يدل على أن ما عداه بخلافه؛ لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون ذكر تحريم الربا أضعافا مضاعفة دلالة على إباحته إذا لم يكن أضعافا مضاعفة، فلما كان الربا محظورا بهذه الصفة وبعدمها دل ذلك على فساد قولهم في ذلك، ويلزمهم في ذلك أن تكون هذه الدلالة منسوخة بقوله -تعالى-: ﴿وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ إذ لم يبق لها حكم في الاستعمال". انتهى، فمن استحل شيئا من تلك الخبائث يكفر لمعارضة قول الله -تعالى-: ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾". انتهى كلام الكافي.
وقد تقدم في الفائدة الثامنة ما قاله غير واحد من العلماء في تكفير المستحلين للربا فليراجع([3])، وليتأمله الفتان وأضرابه مع ما ذكر ههنا، وليتأمله أيضا أهل البنوك والذين يعاملونهم بالمعاملات الربوية، ولا يظنون أن التعامل بالربا أمر يسير، ولا يغتروا بحلم الله عنهم، فإنه -تبارك وتعالى- يمهل ولا يهمل ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وينبغي لأهل البنوك والمتعاملين معهم أن يسألوا العلماء المعروفين بمزيد المعرفة والتقوى والورع عما يحل لهم من المعاملات وما يحرم عليهم منها، ولا يغتروا بالفساق الذين يتزلفون إليهم بما يحبونه من تحليل الربا ولا يبالون بما يترتب على ذلك من محاربة الله ورسوله واتباع غير سبيل المؤمنين.
الخامسة عشرة: أن المرابين ليس لهم إلا رؤوس أموالهم وليس لهم أن يأخذوا زيادة عليها من المدين ولا من البنوك وغيرها؛ لأن ذلك من الظلم الذي نهى الله عنه، قال ابن جرير في قوله -تعالى-: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ﴾: "يعني بذلك إن تبتم فتركتم أكل الربا وأنبتم إلى الله - عز وجل- فلكم رؤوس أموالكم من الديون التي لكم على الناس دون الزيادة التي أحدثتموها على ذلك ربا منكم..."، ثم روى عن قتادة أنه قال: "جعل لهم رؤوس أموالهم حين نزلت هذه الآية، فأما الربح والفضل فليس لهم ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئًا"، وفي رواية له عنه قال: "جعل لهم أن يأخذوا رؤوس أموالهم ولا يزدادوا عليها شيئا"، وروى أيضا عن الضحاك قال: "وضع الله الربا وجعل لهم رؤوس أموالهم". وقال الماوردي على قوله -تعالى-: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ﴾: "يعني التي دفعتم ﴿لَا تَظْلِمُونَ﴾ بأن تأخذوا الزيادة على رؤوس أموالكم ﴿وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ بأن تمنعوا رؤوس أموالكم". وقال القرطبي: "ردهم -تعالى- مع التوبة إلى رؤوس أموالهم وقال لهم: ﴿لَا تَظْلِمُونَ﴾ في أخذ الربا ﴿وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ في أن يتمسك بشيء من رؤوس أموالكم فتذهب أموالكم". انتهى، وبنحو هذا قال كثير من المفسرين.
السادسة عشرة: النهي عن أكل الربا وتضعيفه على المدين، قال أبو بكر الجصاص في (أحكام القرآن): "قوله -تعالى-: ﴿لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾إخبار عن الحال التي خرج عليها الكلام من شرط الزيادة أضعافا مضاعفة، فأبطل الله الربا الذي كانوا يتعاملون به، وأبطل ضروبًا أخر من البياعات وسماها ربا، فانتظم قوله -تعالى-:
﴿وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ تحريم جميعها لشمول الاسم عليها من طريق الشرع، ولم يكن تعاملهم بالربا إلا على الوجه الذي ذكرنا من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل مع شرط الزيادة". انتهى، وقال الزمخشري والنسفي في الكلام على قوله -تعالى-: ﴿لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾: "هذا نهي عن الربا مع التوبيخ بما كانوا عليه من تضعيفه"، وقال ابن الجوزي: "قال أهل التفسير: هذه الآية نزلت في ربان الجاهلية"، قال سعيد بن جبير: "كان الرجل يكون له على الرجل المال فإذا حل الأجل يقول أخِّر عني وأزيدك على مالك فتلك الأضعاف المضاعفة". وقال الماوردي في الكلام على الآية: "هو أن يقول له بعد حلول الأجل إما أن تقضي وإما أن تربي، فإن لم يفعل ضاعف ذلك عليه ثم يفعل كذلك عند حلوله من بعد حتى تصير أضعافا مضاعفة"، وقال أبو حيان في الكلام على الآية: "نهوا عن الحالة الشنعاء التي يوقعون الربا عليها، كان الطالب يقول أتقضي أم تربي، وربما استغرق بالنزر اليسير مال المدين؛ لأنه إذا لم يجد وفاء زاد في الدين وزاد في الأجل، وأشار بقوله: (مضاعفة) إلى أنهم كانوا يكررون التضعيف عاما بعد عام، والربا محرم جميع أنواعه، فهذه الحال لا مفهوم لها وليست قيدًا في النهي، إذ ما لا يقع أضعافا مضاعفة مساوٍ في التحريم لما كان أضعافًا مضاعفة". انتهى، وقال القرطبي في الكلام على الآية: "إنما خص الربا من بين سائر المعاصي لأنه الذي أذن الله فيه بالحرب في قوله -تعالى-: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ والحرب يؤذن بالقتل، فكأنه يقول إن لم تتقوا الربا هزمتم وقتلتم فأمرهم بترك الربا، و(مضاعفة) إشارة إلى تكرار التضعيف عاما بعد عام كما كانوا يصنعون، فدلت هذه العبارة المؤكدة على شنعة فعلهم وقبحه، ولذلك ذكرت حالة التضعيف خاصة". انتهى.
السابعة عشرة: أن النهي عن أكل الربا في سورة آل عمران جاء مقرونا بالأمر بتقوى الله -تعالى- والأمر باتقاء النار والأمر بطاعة الله وطاعة رسوله، فدل هذا على التشديد في التعامل بالربا والتأكيد في النهي عنه، قال القرطبي: "قوله -تعالى-: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أي في أموال الربا فلا تأكلوها، ثم خوفهم فقال: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ قال كثير من المفسرين: وهذا الوعيد لمن استحل الربا، ومن استحل الربا فإنه يكفر ويكفر، وقيل معناه: اتقوا العمل الذي ينزع منكم الإيمان فتستوجبون النار... ثم ذكر أنواعًا من الكبائر التي يستوجب صاحبها نزع الإيمان ويخاف عليه من نزعه ومنها أكل الربا"، وذكر ابن الجوزي وأبو حيان عن ابن عباس -رضي الله عنهما-
في قول الله -تعالى-: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ قال: "هذا تهديد للمؤمنين لئلا يستحلوا الربا"، وقال الزجاج: "والمعنى اتقوا أن تحلوا ما حرم الله فتكفروا"، وروى ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان أنه قال: "من أكل الربا فلم ينته فله النار". وقوله: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ قال القرطبي: "(وَأَطِيعُوا اللَّهَ) في تحريم الربا (وَالرَّسُولَ) فيما بلغكم من التحريم".
الثامنة عشرة: أن أكل الربا والتعامل به من الكبائر الموبقات، أي المهلكات، ويدل على ذلك ما جاء في القرآن من تعظيم أكل الربا والوعيد عليه بالنار وإيذان أهله بحرب من الله ورسوله، قال القرطبي: "دلت الآية – يعني قوله -تعالى-: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾– على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر ولا خلاف في ذلك". وقال الماوردي في الكلام على قول الله -تعالى-: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾: "دل أن الربا من الكبائر التي يستحق عليها الوعيد بالنار". انتهى، وسيأتي في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه عدَّ أكل الربا من السبع الموبقات.
وفيما ذكرته من الآيات وأقوال المفسرين كفاية في بيان موقف القرآن الكريم من تحريم الربا على وجه العموم وأنه لا فرق في ذلك بين البنوك وغيرها.
وفيه أيضا أبلغ رد على الفتان المحارب لله ورسوله وعلى غيره من المبطلين الذين يزعمون حِل الربا في المعاملات مع أهل البنوك ويتعلقون بالشبه والأباطيل في استحلاله ولا يبالون بما يترتب على ذلك من معصية الله ورسوله ﷺ واتِّباع غير سبيل المؤمنين.
فصل
وأما
الأدلة من السنة على تحريم المعاملات الربوية على وجه العموم فكثيرة جدا:
الأول منها: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
قال ابن الأثير: "الموبقات جمع موبقة، وهي الخصلة المهلكة".
وقد جاء في عدِّ أكل الربا من الكبائر أحاديث كثيرة، بعضها مرفوع وبعضها موقوف، وقد تركت ذكرها خشية الإطالة، وقد ذكرها ابن جرير وابن كثير في تفسيريهما مع الكلام على قول الله -تعالى- في سورة النساء: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ فلتراجع هناك.
الحديث الثاني: عن أبي جحيفة – واسمه وهب بن عبد الله السوائي – رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ «لعن آكل الربا ومؤكله» رواه الإمام أحمد والبخاري.
الحديث الثالث: عن عبد الله – وهو ابن مسعود رضي الله عنه – قال: «لعن رسول الله ﷺ آكل الربا ومؤكله» رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي هكذا مختصرًا، ورواه أحمد أيضا وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه أطول منه ولفظه: «لعن رسول الله ﷺ آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه» قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، قال: وفي الباب عن عمر وعلي وجابر وأبي جحيفة، وفي رواية لأحمد أن رسول الله ﷺ قال: «لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه».
الحديث الرابع: عن جابر -رضي الله عنه- قال: «لعن رسول الله ﷺ آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه» رواه الإمام أحمد ومسلم وزاد، وقال: «هم سواء».
الحديث الخامس: عن علي -رضي الله عنه- قال: «لعن رسول الله ﷺ آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه» رواه الإمام أحمد، وفي إسناده الحارث الأعور وهو ضعيف وقد وثق، وما تقدم قبله من الأحاديث الصحيحة يشهد له ويقويه، وقد رواه النسائي مختصرًا.
الحديث السادس: عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: «آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهداه إذا علموا به، والواشمة والمتوشمة للحسن، ولاوي الصدقة، والمرتد أعرابيا بعد هجرته ملعونون على لسان محمد ﷺ يوم القيامة» رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي وأبو يعلي والطبراني في الكبير، وابن حبان في صحيحه من طريق الحارث بن عبد الله الأعور وهو ضعيف وقد وثق، ورواه الإمام أحمد أيضا من طريق الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، وهذا إسناد صحيح، ورواه ابن خزيمة في صحيحه والحاكم في مستدركه من طريق الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن ابن مسعود -رضي الله عنه- وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي في تلخيصه. لاوي الصدقة: هو المماطل بها، قال أهل اللغة: "اللَّي هو المطل".
الحديث السابع: عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال: سمعت رسول الله ﷺ في حجة الوداع يقول: «ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
الحديث الثامن: عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- في حديثه الطويل في صفة حج النبي ﷺ، وفيه أن رسول الله ﷺ خطب الناس يوم عرفة في بطن الوادي وقال في خطبته: «ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله» رواه مسلم والدارمي وأبو داود وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والبيهقي في سننه.
الحديث التاسع: عن أبي حرة الرقاشي عن عمه -رضي الله عنه- قال: كنت آخذا بزمام ناقة رسول الله ﷺ في أوساط أيام التشريق أذود الناس عنه فقال: «ألا إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع، ألا وإن الله قضى أن أول ربا يوضع ربا عباس ابن عبد المطلب، لكم رؤوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون» رواه الإمام أحمد والدارمي وأبو يعلي، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وفيه كلام وقد وثق، ويشهد لحديثه ما تقدم قبله من حديث عمرو بن الأحوص وجابر بن عبد الله -رضي الله عنهم-.
الحديث العاشر: عن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ستة وثلاثين زنية» رواه الإمام أحمد والطبراني في الكبير والأوسط، قال المنذري والهيثمي: "ورجال أحمد رجال الصحيح".
الحديث الحادي عشر: عن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ أنه قال: «ما ظهر في قوم الزنى والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله» رواه أبو يعلي، قال المنذري والهيثمي: "إسناده جيد".
الحديث الثاني عشر: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: «إذا ظهر الزنى والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله» رواه الحاكم في مستدركه وصححه، ووافق الذهبي على تصحيحه.
الحديث الثالث عشر: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول
الله ﷺ: «الآخذ والمعطي سواء في الربا» رواه الدارقطني والحاكم في مستدركه وصححه، ووافقه الذهبي على تصحيحه، وتقدم له شاهد من رواية مسلم عن جابر -رضي الله عنه-.
الحديث الرابع عشر: عن نافع عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز» رواه مالك والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم والنسائي.
قال ابن الأثير في (جامع الأصول): "«ولا تشفوا» أي لا تزيدوا ولا تفضلوا أحدهما على الآخر، قال: والناجز المعجل الحاضر"، وقال النووي في (شرح صحيح مسلم): "«ولا تشفوا بعضها على بعض» هو بضم التاء وكسر الشين المعجمة وتشديد الفاء أي لا تفضلوا". انتهى.
وفي رواية لمسلم عن نافع عن أبي سعيد -رضي الله عنه- أنه أشار بأصبعيه إلى عينيه وأذنيه فقال: أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله ﷺ يقول: «لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضه على بعض ولا تبيعوا شيئا غائبا منه بناجز إلا يدا بيد» وقد رواه الإمام أحمد والترمذي بنحوه، وليس في روايتهما قوله: «إلا يدًا بيد» قال الترمذي: "وفي الباب عن أبي بكر وعمر وعثمان وأبي هريرة وهشام بن عامر والبراء وزيد بن أرقم وفضالة بن عبيد وأبي بكرة وابن عمر وأبي الدرداء وبلال، قال: وحديث أبي سعيد عن النبي ﷺ في الربا حديث حسن صحيح". وسيأتي ذكر هذه الأحاديث التي أشار إليها الترمذي وغيرها من الأحاديث الدالة على تحريم ربا الفضل والنسيئة -إن شاء الله تعالى-.
وفي رواية لأحمد قال أبو سعيد -رضي الله عنه-: بصر عيني وسمع أذني – وأشار بأصبعيه إلى عينيه وأذنيه – من رسول الله ﷺ أنه «نهى عن الذهب بالذهب والورق بالورق إلا سواء بسواء مثلا بمثل، ألا لا تبيعوا غائبا بناجز ولا تشفوا أحدهما على الآخر» ورواه النسائي بنحوه.
ورواه البخاري مختصرًا من حديث سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن أبي سعيد -رضي الله عنه- أنه قال في الصرف: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «الذهب بالذهب مثلا بمثل والورق بالورق مثلا بمثل».
وفي رواية لأحمد ومسلم عن سهيل عن أبيه عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا والورق بالورق إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء».
الحديث الخامس عشر: عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُر بالبُر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي.
الحديث السادس عشر: عن مالك بن أوس بن الحدثان النصري أنه التمس صرفا بمائة دينار قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني وأخذ الذهب يقلبها في يده ثم قال: حتى يأتيني خازني من الغابة وعمر بن الخطاب يسمع، فقال عمر: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، ثم قال: قال رسول الله ﷺ: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء» رواه مالك والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وأهل السنن، وليس في رواية أبي داود والنسائي قصة مالك بن أوس مع طلحة، وقد رواه الدارمي في سننه ولفظه عن مالك بن أوس بن الحدثان النصري عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «الذهب بالذهب هاء وهاء، والفضة بالفضة هاء وهاء، والتمر بالتمر هاء وهاء، والبر بالبر هاء وهاء، والشعير بالشعير هاء وهاء، لا فضل بينهما» قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم، قال: ومعنى قوله «إلا هاء وهاء» يقول: يدا بيد". انتهى، وقال ابن الأثير في (النهاية): "هو أن يقول كل واحد من البيعين «ها» فيعطيه ما في يده كحديثه الآخر إلا يدا بيد، يعني مقابضة في المجلس، وقيل معناه هاك وهات أي خذ وأعط"، وقال النووي في (شرح مسلم): "قال العلماء: معناه التقابض، ففيه اشتراط التقابض في بيع الربوي بالربوي إذا اتفقا في علة الربا سواء اتفق جنسهما كذهب بذهب أم اختلف كذهب بفضه، ونبَّه ﷺ في هذا الحديث بمختلف الجنس على متفقه". انتهى.
الحديث السابع عشر: عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين» رواه مسلم والبيهقي، وقد رواه مالك في الموطأ بلاغا، والشافعي عن مالك.
الحديث الثامن عشر: عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله ﷺ «ينهي عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى» رواه الشافعي وأحمد والدارمي ومسلم وأهل السنن وهذا لفظ مسلم. قال النووي: "قوله: «فمن زاد أو ازداد فقد أربي» معناه فقد فعل الربا المحرم، فدافع الزيادة وآخذها عاصيان". انتهى، وفي رواية لمسلم عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد» ورواه الإمام أحمد وأبو داود بنحوه، ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجة بمعناه، وقال الترمذي "حديث حسن صحيح"، وفي رواية للنسائي: «ألا إن الذهب بالذهب وزنًا بوزن تبرها وعينها، وإن الفضة بالفضة وزنا بوزن تبرها وعينها» ونحوه في رواية أبي داود، قال الخطابي: "التبر قطع الذهب والفضة قبل أن تضرب وتطبع دراهم ودنانير، والعين المضروب من الدراهم والدنانير". انتهى.
الحديث التاسع عشر: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: «التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، إلا ما اختلفت ألوانه» رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي. قوله: (ألوانه) قال النووي: "يعني أجناسه". وفي رواية لمسلم قال رسول الله ﷺ: «الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل، والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو ربا» ورواه الإمام أحمد والنسائي بنحوه، ورواه ابن ماجة مختصرًا، ورواه الإمام أحمد أيضا ولفظه: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والورق بالورق، مثلا بمثل يدا بيد، من زاد أو ازداد فقد أربى» وروى مالك في الموطأ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما» وقد رواه الشافعي وأحمد ومسلم والنسائي من طريق مالك، ورواه أحمد ومسلم أيضا من غير طريقه.
الحديث العشرون: عن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: «نهى رسول الله ﷺ عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا سواء بسواء، وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب
كيف شئنا، ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي، وقد رواه ابن حبان في صحيحه، ثم قال: "قوله ﷺ: «كيف شاء» أراد به إذا كان يدا بيد".
الحديث الحادي والعشرون والثاني والعشرون: عن أبي المنهال قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف فكلاهما يقول: «نهى رسول الله ﷺ عن بيع الذهب بالورق دينا» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي، وفي رواية لأحمد والبخاري والنسائي عن أبي المنهال قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم فقالا كنا تاجرين على عهد رسول الله ﷺ فسألنا رسول الله ﷺ عن الصرف، فقال: «إن كان يدا بيد فلا بأس وإن كان نسيئة فلا يصلح»، وفي رواية للبخاري أن النبي ﷺ قال: «ما كان يدا بيد فخذوه وما كان نسيئة فردوه» وفي رواية لمسلم والنسائي: «ما كان يدًا بيد فلا بأس به وما كان نسيئة فهو ربا».
الحديث الثالث والعشرون: عن مجاهد قال: كنت مع عبد الله بن عمر فجاءه صائغ فقال له: يا أبا عبد الرحمن إني أصوغ الذهب ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه فأستفضل من ذلك قدر عمل يدي، فنهاه عبد الله عن ذلك، فجعل الصائغ يردد عليه المسألة وعبد الله ينهاه، حتى انتهى إلى باب المسجد أو إلى دابة يريد أن يركبها، ثم قال عبد الله بن عمر: «الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما» هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم، رواه مالك في الموطأ والشافعي والبيهقي من طريق مالك، وقد روى النسائي المسند منه فقط وجعله من مسند عمر -رضي الله عنه-.
الحديث الرابع والعشرون: عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله ﷺ «ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل» فقال له معاوية: ما أرى بمثل هذا بأسا، فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية، أنا أخبره عن رسول الله ﷺ ويخبرني عن رأيه، لا أساكنك بأرض أنت بها، ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له، فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية أن لا تبيع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن. رواه مالك في الموطأ، والشافعي وأحمد والنسائي والبيهقي من طريق مالك، ورواية أحمد والنسائي مختصرة.
الحديث الخامس والعشرون: عن فضالة بن عبيد الأنصاري -رضي الله عنه- قال: أتى رسول الله ﷺ وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب وهي من المغانم تباع، فأمر رسول
الله ﷺ بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده ثم قال لهم رسول الله ﷺ: «الذهب بالذهب وزنا بوزن» رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود، وفي رواية أبي داود قال: أُتى النبي ﷺ عام خيبر بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو بسبعة دنانير، قال النبي ﷺ: «لا، حتى تميز بينه وبينه» فقال: إنما أردت الحجارة، فقال النبي ﷺ: «لا، حتى تميز بينهما» قال: فرده حتى ميز بينهما. وقد رواه الدارقطني والبيهقي بنحوه.
وفي رواية لأحمد ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي عن فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- قال: اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارا فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا فذكرت ذلك للنبي ﷺ فقال: «لا تباع حتى تفصل» قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي ﷺ وغيرهم، لم يروا أن يباع السيف محلي أو منطقة مفضضة أو مثل هذا بدراهم حتى يميز ويفصل، وهو قول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، وقد رخَّص بعض أهل العلم في ذلك من أصحاب النبي ﷺ وغيرهم". انتهى، والحجة مع القائلين بالمنع لقول النبي ﷺ: «لا تباع حتى تفصل».
وفي رواية للنسائي عن فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- قال: أصبت يوم خيبر قلادة فيها ذهب وخرز فأردت أن أبيعها فذكر ذلك للنبي ﷺ فقال: «افصل بعضها من بعض ثم بعها».
الحديث السادس والعشرون: عن حنش الصنعاني قال: كنا مع فضالة بن عبيد في غزوة فطارت لي ولأصحابي قلادة فيها ذهب وورق وجوهر فأردت أن أشتريها فسألت فضالة بن عبيد فقال: "انزع ذهبها فاجعله في كفة، واجعل ذهبك في كفة، ثم لا تأخذن إلا مثلا بمثل، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذن إلا مثلا بمثل»" رواه مسلم والبيهقي.
الحديث السابع والعشرون: عن فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله ﷺ يوم خيبر نبايع اليهود الوقية الذهب بالدينارين والثلاثة، فقال رسول الله ﷺ: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن» رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والبيهقي، ثم قال البيهقي بعد روايته لأحاديث فضالة -رضي الله عنه- ما نصه: "سياق هذه الأحاديث مع عدالة رواتها تدل على أنها كانت بيوعًا شهدها فضالة كلها، والنبي ﷺ ينهى عنها فأداها كلها". انتهى، وقال النووي في الكلام على هذا الحديث في (شرح
مسلم): "يحتمل أن مراده كانوا يتبايعون الأوقية من ذهب وخرز وغيره بدينارين أو ثلاثة، وإلا فالأوقية وزن أربعين درهمًا، ومعلوم أن أحدًا لا يبتاع هذا القدر من ذهب خالص بدينارين أو ثلاثة، وهذا سبب مبايعة الصحابة على هذا الوجه، ظنوا جوازه لاختلاط الذهب بغيره فبين النبي ﷺ أنه حرام حتى يميز ويباع الذهب بوزنه ذهبا". انتهى، ويؤيد قول النووي ما تقدم في الروايات عن فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- فهو صريح في النهي عن بيع الذهب المختلط بغيره حتى يميز الذهب ويباع بوزنه ذهبًا.
الحديث الثامن والعشرون: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فأتيت رسول الله ﷺ وهو في بيت حفصة فقلت: يا رسول الله، رويدك أسألك، إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه. فقال رسول الله ﷺ: «لا باس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء» رواه الإمام أحمد والدارمي وأهل السنن والحاكم في مستدركه وقال: "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي في تلخيصه، وروى الإمام أحمد أيضا بأسانيد صحيحة عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سألت رسول الله ﷺ أشتري الذهب بالفضة أو الفضة بالذهب؟ قال: «إذا اشتريت واحدا منهما بالآخر فلا يفارقك صاحبك وبينك وبينه لبس» وقد رواه النسائي بنحوه وإسناده صحيح، ورواه ابن ماجة بأسانيد بعضها حسن وبعضها فيه ضعف.
الحديث التاسع والعشرون: عن أبي قلابة قال: كان الناس يشترون الذهب بالورق نسيئة إلى العطاء، فأتى عليهم هشام بن عامر فنهاهم وقال: "إن رسول الله ﷺ «نهانا أن نبيع الذهب بالورق نسيئة وأنبأنا أو قال وأخبرنا أن ذلك هو الربا»" رواه الإمام أحمد وأبو يعلي والطبراني بأسانيد صحيحة، ورواه عبد الرزاق مختصرا ولفظه قال: قال رسول الله ﷺ: «الورق بالذهب ربا إلا يدًا بيد».
الحديث الثلاثون: عن بلال -رضي الله عنه- قال: كان عندي تمر فبعته في السوق بتمر أجود منه بنصف كيلة، فقدمته إلى رسول الله ﷺ فقال: «ما رأيت اليوم تمرًا أجود منه، من أين هذا يا بلال» فحدثته بما صنعت فقال: «انطلق فرده على صاحبه وخذ تمرك فبعه بحنطة أو بشعير ثم اشتر به من هذا التمر» ففعلت، فقال رسول الله ﷺ:
«التمر بالتمر مثلا بمثل، والحنطة بالحنطة مثلا بمثل، والشعير بالشعير مثلا بمثل، والملح بالملح مثلا بمثل، والفضة بالفضة وزنا بوزن، فما كان من فضل فهو ربا» رواه البزار والطبراني في الكبير بنحوه وزاد: «فإذا اختلف النوعان فلا بأس واحد بعشرة» قال الهيثمي: "رجال البزار رجال الصحيح، إلا أنه من رواية سعيد بن المسيب عن بلال ولم يسمع سعيد من بلال، وله في الطبراني أسانيد بعضها من حديث ابن عمر عن بلال باختصار عن هذا ورجالها ثقات، وبعضها من رواية عمر بن الخطاب عن بلال بنحو الأول وإسنادها ضعيف". انتهى الكلام الهيثمي، وقد رواه الدارمي مختصرًا ورجاله رجال الصحيح إلا أنه من رواية مسروق عن بلال ولم أر أحدا ذكر أنه لقيه.
الحديث الحادي والثلاثون: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: جاء بلال إلى النبي ﷺ بتمر برني، فقال له النبي ﷺ: «من أين هذا؟» قال بلال: كان عندي تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع لنطعم النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ عند ذلك: «أَوَّه أَوَّه، عين الربا عين الربا، لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وهذا لفظ البخاري، وقد رواه النسائي مختصرًا، ولفظه قال: أتى بلال رسول الله ﷺ بتمر برني فقال: «ما هذا؟» قال: اشتريته صاعا بصاعين، فقال رسول الله ﷺ: «أوه عين الربا لا تقربه».
قال ابن الأثير وغيره من أهل اللغة: "(أوه) كلمة يقولها الرجل عند الشكاية والتوجع"، وفي (المصباح المنير): "تأوه مثل توجع وزنًا ومعنى"، قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): "وهي مشددة الواو مفتوحة، وقد تكسر، والهاء ساكنة وربما حذفوها"، قال ابن التين: "إنما تأوه ليكون أبلغ في الزجر، وقاله: إما للتألم من هذا الفعل وإما من سوء الفهم". انتهى، وقال النووي في (شرح مسلم): "ومعنى عين الربا أنه حقيقة الربا المحرم". انتهى.
الحديث الثاني والثلاثون والثالث والثلاثون: عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة وأبا سعيد حدثاه أن رسول الله ﷺ بعث أخا بني عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر فقدم بتمر جنيب فقال له رسول الله ﷺ: «أكل تمر خيبر هكذا؟» قال: لا والله يا رسول الله إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع، فقال رسول الله ﷺ: «لا تفعلوا ولكن مثلا بمثل، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا، وكذلك الميزان» رواه البخاري ومسلم والدارمي.
وقد رواه مالك في الموطأ، والبخاري ومسلم والنسائي من طريق مالك، وفيه أن الرجل قال: يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله ﷺ: «لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا» ورواه الإمام أحمد من حديث قتادة عن سعيد بن المسيب أن أبا سعيد حدثهم أن غلامًا للنبي ﷺ أتاه ذات يوم بتمر ريان، وكان تمر النبي ﷺ بعلا فيه يبس، فقال النبي ﷺ: «أنى لك هذا التمر؟» فقال: هذا صاع اشتريناه بصاعين من تمرنا، فقال النبي ﷺ: «لا تفعل فإن هذا لا يصلح ولكن بع تمرك واشتر من أي تمر شئت» وقد رواه النسائي وابن حبان في صحيحه بنحوه.
قال الدارقطني: "جنيب يعني الطيب"، وقال ابن الأثير: "الجنيب نوع جيد معروف من أنواع التمر"، وقال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): "جنيب وزن عظيم"، قال مالك: "هو الكبيس"، وقال الطحاوي: "هو الطيب، وقيل الصلب، وقيل الذي أخرج حشفه ورديئه"، وقال غيرهم: "هو الذي لا يخلط بغيره بخلاف الجمع، قال: والجمع بفتح الجيم وسكون الميم؛ التمر المختلط". انتهى، وقال الدارقطني في سننه: "يقال كل شيء من النخل لا يعرف اسمه فهو جَمع، يقال: ما أكثر الجمع في أرض فلان، بفتح الجيم". انتهى، وقال النووي في (شرح مسلم): "الجمع بفتح الجيم وإسكان الميم وهو تمر رديء، وقد فسره في الرواية الأخيرة بأنه الخلط من التمر ومعناه مجموع من أنواع مختلفة". انتهى، وقال الجوهري: "الجمع الدقل، يقال: ما أكثر الجمع في أرض بني فلان؛ لنخل يخرج من النوى ولا يعرف اسمه"، وقد ذكر ابن منظور في (لسان العرب) نحو هذا عن الأصمعي، وقال ابن الأثير في (النهاية): "كل لون من النخيل لا يعرف اسمه فهو جمع، وقيل: الجمع تمر مختلط من أنواع متفرقة وليس مرغوبا فيه، وما يخلط إلا لرداءته". انتهى، وأما البعل فهو النخل الذي يشرب بعروقه من غير سقي، قاله الأصمعي وغيره من أهل اللغة.
الحديث الرابع والثلاثون: عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله ﷺ يرزقنا تمرا من تمر الجمع فنستبدل به تمرا هو أطيب منه ونزيد في السعر، فقال رسول الله ﷺ: «لا يصلح صاع تمر بصاعين، ولا درهم بدرهمين، والدرهم بالدرهم، والدينار بالدينار، ولا فضل بينهما إلا وزنا» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة، وهذا لفظه وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وجاء في رواية البخاري ومسلم قال: كنا نرزق تمر الجمع وهو الخلط من التمر. وقد رواه
الشافعي بإسناد حسن ولفظه أن رسول الله ﷺ كان يرزقهم طعاما فيه شيء فيستطيبون فيأخذون صاعا بصاعين، فقال رسول الله ﷺ: «ألم يبلغني ما تصنعون» قال: قلنا: بلى يا رسول الله إنك ترزقنا طعامًا فيه شيء فنستطيب فنأخذ صاعًا بصاعين فقال رسول الله ﷺ: «دينار بدينار، ودرهم بدرهم، وصاع تمر بصاع تمر، وصاع شعير بصاع شعير، لا فضل بين شيء من ذلك».
الحديث الخامس والثلاثون: عن أبي نضرة عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: أُتي رسول الله ﷺ بتمر فقال: «ما هذا التمر من تمرنا» فقال الرجل: يا رسول الله، بعنا تمرنا صاعين بصاع من هذا، فقال رسول الله ﷺ: «هذا الربا فردوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا» رواه مسلم، وقد رواه الإمام أحمد باختصار في المرفوع منه، ولفظه عن أبي سعيد أن صاحب التمر أتى رسول الله ﷺ بتمرة فأنكرها قال: «أنى لك هذا؟» فقال: اشترينا بصاعين من تمرنا صاعًا، فقال رسول الله ﷺ: «أربيتم» إسناده صحيح على شرط مسلم.
الحديث السادس والثلاثون: عن سعيد الجريري عن أبي نضرة قال: سألت ابن عباس عن الصرف فقال: أيدا بيد؟ قلت: نعم، قال: فلا بأس به، فأخبرت أبا سعيد فقلت: إني سألت ابن عباس عن الصرف فقال أيدا بيد؟ قلت: نعم، قال: فلا بأس به، قال: أَوَ قال ذلك؟ إنا سنكتب إليه فلا يفتيكموه. قال: فو الله لقد جاء بعض فتيان رسول الله ﷺ بتمر فأنكره فقال: «كأن هذا ليس من تمر أرضنا» قال: كان في تمر أرضنا – أو في تمرنا – العام بعض الشيء فأخذت هذا وزدت بعض الزيادة فقال: «أضعفت أربيت، لا تقرن هذا، إذا رابك من تمرك شيء فبعه ثم اشتر الذي تريد من التمر» رواه الإمام أحمد ومسلم، وفي رواية لمسلم عن داود وهو ابن أبي هند عن أبي نضرة قال: سالت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسا فإني لقاعد عند أبي سعيد الخدري فسألته عن الصرف فقال ما زاد فهو ربا فأنكرت ذلك لقولهما فقال لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله ﷺ جاءه صاحب نخله بصاع من تمر طيب وكان تمر النبي ﷺ هذا اللون، فقال له النبي ﷺ: «أنى لك هذا؟» قال: انطلقت بصاعين فاشتريت به هذا الصاع فإن سعر هذا في السوق كذا وسعر هذا كذا، فقال رسول الله ﷺ: «ويلك أربيت، إذا أردت ذلك فبع تمرك بسلعة ثم اشتر بسلعتك أي تمر شئت» قال أبو سعيد: فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربا أم الفضة
بالفضة؟ قال: فأتيت ابن عمر بعد فنهاني ولم آت ابن عباس، قال فحدثني أبو الصهباء أنه سأل ابن عباس عنه بمكة فكرهه. وقد رواه البيهقي بإسناد مسلم وبنحو روايته، ورواه الإمام أحمد مختصرًا ولفظه عن أبي نضرة قال: قلت لأبي سعيد: أسمعت من رسول الله ﷺ في الذهب بالذهب والفضة بالفضة؟ قال: سأخبركم ما سمعت منه، جاءه صاحب تمره بتمر طيب وكان تمر النبي ﷺ يقال له اللون، قال فقال له رسول الله ﷺ: «من أين لك هذا التمر الطيب؟» قال: ذهبت بصاعين من تمرنا واشتريت به صاعًا من هذا، قال: فقال له رسول الله ﷺ: «أربيت»، قال: ثم قال أبو سعيد: فالتمر بالتمر أربى أم الفضة بالفضة والذهب بالذهب؟ إسناده صحيح على شرط مسلم.
اللون هو الدقل، قاله الجوهري وغيره من أهل اللغة، ونقل ابن منظور في (لسان العرب) عن ابن سيده أنه قال: "الألوان الدقل، واحدها لون، واللينة واللونة كل ضرب من النخل ما لم يكن عجوة أو برنيا"، وقال ابن الأثير في (النهاية): "اللون نوع من النخل، وقيل هو الدقل، وقيل النخل كله ما خلا البرني والعجوة، ويسميه أهل المدينة الألوان، واحدته لينة وأصله لونة فقلبت الواو ياء لكسرة اللام، وفي حديث ابن عبد العزيز أنه كتب في صدقة التمر أن تؤخذ في البرني من البرني وفي اللون من اللون". انتهى.
الحديث السابع والثلاثون: عن أبي صالح – وهو السمان واسمه ذكوان – أن رجلا من أصحاب النبي ﷺ أخبره قال: يا رسول الله، إنا لا نجد الصيحاني ولا العذق بجمع التمر حتى نزيدهم، فقال رسول الله ﷺ: «بِعه بالورق ثم اشتر به» رواه النسائي ورجاله رجال الصحيح.
قال الجوهري: "الصيحاني ضرب من تمر المدينة"، وكذا قال ابن منظور في (لسان العرب)، ونقل عن الأزهري أنه قال: "الصيحاني ضرب من التمر، أسود صلب المضغة، وسمي صيحانيا لأن صيحان اسم كبش كان ربط إلى نخلة بالمدينة فأثمرت تمرًا صيحانيا فنسب إلى صيحان". انتهى، وفي (المصباح المنير): "الصيحاني تمر معروف بالمدينة، ويقال كان كبش اسمه صيحان شد بنخلة فنسبت إليه وقيل صيحانية، قاله ابن فارس والأزهري". انتهى.
وأما العَذق بالفتح فهو النخلة بحملها قاله الجوهري، وقال ابن منظور في (لسان العرب): "العذق النخلة عند أهل الحجاز"، وفي (المصباح المنير): "العذق مثال فَلس
النخلة نفسها، ويطلق العذق على أنواع من التمر، ومنه عذق ابن الحبيق وعذق ابن طاب وعذق ابن زيد قاله أبو حاتم". انتهى.
الحديث الثامن والثلاثون: عن أبي الزبير المكي قال: سألت جابر بن عبد الله عن الحنطة بالتمر بفضل يدا بيد، فقال: «كنا على عهد رسول الله ﷺ نشتري الصاع الحنطة بستة آصع من تمر يدا بيد، فإن كان نوعا واحدا فلا خير فيه إلا مثلا بمثل» رواه أبو يعلى، قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح".
الحديث التاسع والثلاثون: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: «الذهب بالذهب وزنا بوزن فمن زاد أو استزاد فقد أربى» والله ما كذب ابن عمر على رسول الله ﷺ. رواه الطبراني في الكبير، قال الهيثمي: "ورجاله موثقون وفي بعضهم كلام لا يضر".
الحديث الأربعون: عن أبي الزبير المكي قال: سمعت أبا أسيد الساعدي، وابن عباس يفتي بالدينار بالدينارين، فقال أبو أسيد وأغلظ له القول، فقال ابن عباس: ما كنت أظن أن أحدا يعرف قرابتي من رسول الله ﷺ يقول لي مثل هذا يا أبا أسيد، فقال أبو أسيد: أشهد لسمعت رسول الله ﷺ يقول: «الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، وصاع حنطة بصاع حنطة، وصاع شعير بصاع شعير، وصاع ملح بصاع ملح، لا فضل بين شيء من ذلك» فقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "هذا شيء كنت أقوله برأيي ولم أسمع فيه شيئًا". رواه الطبراني في الكبير، قال الهيثمي: "وإسناده حسن". وقد رواه الحاكم في مستدركه وقال: "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
الحديث الحادي والأربعون: عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: «الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما، فمن كانت له حاجة بورق فليصرفها بذهب، وإن كانت له حاجة بذهب فليصرفها بورق، والصرف هاء وهاء» رواه ابن ماجة والدارقطني والحاكم، وقال: "هذا حديث غريب صحيح"، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
فصل
وقد جاء في تحريم الربا والتشديد فيه أحاديث كثيرة جدًا سوى ما ذكرته ههنا ولكن أسانيدها لا تخلو من مقال فلذلك تركت ذكرها، وفيما ذكرته من الأحاديث الصحيحة كفاية -إن شاء الله تعالى- وفوق الكفاية لمن أراد الله عصمته من أكل الربا.
ومن أراد الله به غير ذلك خلَّى بينه وبين الشيطان فأضلَّه وأغواه وزين له استحلال الربا وغير ذلك من الأعمال السيئة، وقد قال الله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، وقال -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾، وقال -تعالى-: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾، والآيات في التحذير من الشيطان كثيرة جدا، وخطوات الشيطان هي مسالكه ومذاهبه وطرقه التي يدعو إليها، وأشدها خطرا السبع الموبقات، ومنها أكل الربا كما تقدم النص على ذلك في حديث أبي هريرة المتفق على صحته.
وإذا علم ما تقدم ذكره من الأحاديث المتواترة في تحريم الربا والوعيد الشديد للمرابين فليعلم أيضا أن الله -تبارك وتعالى- قد أمر المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله ﷺ ونهاهم عن معصيته ومعصية رسوله ﷺ، وحذرهم من مخالفة أمر الرسول ﷺ وتوعد من شاق الرسول ﷺ واتبع غير سبيل المؤمنين بأشد الوعيد. قال الله -تعالى-: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، وقال -تعالى-: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا﴾، وقال -تعالى-: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾، وقال -تعالى-: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، ثم جعل يتلو هذه الآية: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾" والآيات في الأمر بطاعة الله -تعالى- وطاعة رسوله ﷺ والتحذير من معصيته ومعصية رسوله ﷺ كثيرة جدا، فليتأمل المؤمن الناصح لنفسه ما جاء في هذه الآيات المحكمات وما جاء في الأحاديث المذكورة قريبا مما هو ثابت عن النبي ﷺ في تحريم الربا والتشديد فيه، وليقابل كلام الله -تعالى- وكلام رسوله ﷺ بالرضى والقبول والتسليم، وليحذر أشد الحذر من التخلق بأخلاق المنافقين الذين قال الله -تعالى- فيهم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾، وليحذر أيضا من الاتصاف بصفات الألِدَّاء المعاندين وهم الذين قال الله فيهم: ﴿وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾، وليحذر أيضا من الدخول في عداد الأشرار الذين هم أضل سبيلا من الأنعام، وهم الذين قال الله فيهم: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾، وليحذر أيضا أشد الحذر أن يكون ممن عناهم الله بقوله: ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، وليحذر أيضا من اتباع الهوى فإن الهوى يعمي ويصم ويصد عن الحق والطريق المستقيم، وقد قال الله -تعالى- لنبيه داود -عليه الصلاة والسلام-: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾، وقال -تعالى-: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.
فصل
وقد اشتملت الأحاديث التي تقدم ذكرها على فوائد كثيرة وأمور مهمة تتعلق بالربا والمرابين: الأولى: أن أكل الربا من الكبائر السبع الموبقات – والموبقات هي: المهلكات – كما تقدم بيان ذلك في الكلام على الحديث الأول.
الثانية: أن أكل الربا جاء مقرونًا مع الشرك بالله والسحر وقتل النفس بغير حق، وهذا يدل على شدة تحريمه.
الثالثة: لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه إذا علموا به، قال أهل اللغة: "اللعن هو الطرد والإبعاد من الله"، وقال بعضهم: "هو الطرد والإبعاد من الخير"، ولا منافاة بين القولين؛ لأن من طرده الله وأبعده فقد طرد وأبعد من كل خير.
الرابعة: أن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه سواء في الإثم وفيما يلحقهم من اللعن.
الخامسة: أن رسول الله ﷺ وضع ما كان في الجاهلية من الربا وفي هذا دليل على أنه يجب وضع ما كان منه في الإسلام بطريق الأولى.
السادسة: أنه ليس للمرابين إلا رؤوس أموالهم ومن طلب الزيادة على رأس ماله فإنه يجب منعه.
السابعة: أن أخذ الزيادة على رأس المال ظلم للمأخوذ منه، والله -تبارك وتعالى- قد حرم الظلم على نفسه وجعله محرمًا بين عباده.
الثامنة: أنه لا يجوز البخس من رؤوس الأموال؛ لأن ذلك من الظلم لأصحابها.
التاسعة: التشديد في أكل الربا والنص على أن أكل الدرهم الواحد منه مع العلم بأنه ربا أشد من ستة وثلاثين زنية، وإذا كان أكل الدرهم الواحد من الربا بهذه المثابة العظيمة في القبح فكيف بمن يجمع القناطير المقنطرة من الربا، وكيف يمن يدعو إلى استحلال الربا باسم الفوائد ويجادل بالباطل في تقرير دعاواه الباطلة وآرائه الفاسدة، ولا يبالي بمخالفته للقرآن والسنة وإجماع المسلمين، فهذا يجيب أن يستتاب فإن تاب وإلا حكم عليه بما جاء في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، وقد تقدم ذكره في الفائدة الرابعة عشرة من فوائد الآيات الواردة في تحريم الربا والتشديد فيه فليراجع([4]).
العاشرة: أن ظهور الزنا والربا في المسلمين سبب لحلول العذاب.
الحادية عشرة: أن آخذ الربا ومعطيه سواء في الحكم وفيما يلحقهما من الإثم واللعن.
الثانية عشرة: أن الأحاديث قد تواترت عن النبي ﷺ أنه نهى عن بيع الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل سواء بسواء يدًا بيد، وكذلك الفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح.
الثالثة عشرة: أن من زاد أو استزاد في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح فقد أربى.
الرابعة عشرة: أنه يشترط التماثل والتقابض قبل التفرق فيما إذا بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح، وأما إذا بيع الذهب بالفضة والبر والشعير والتمر والملح بغير جنسه فإنه يشترط التقابض قبل التفرق، وأما التفاضل فإنه جائز.
الخامسة عشرة: أنه لا فرق في الذهب والفضة بين التبر منها والعين والمصوغ، وقد تقدم بيان معنى التبر والعين في كلام الخطابي على آخر الروايات لحديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- وهو الحديث الثامن عشر فليراجع.
السادسة عشرة: النهي عن الصرف نسيئة وهو بيع الذهب بالفضة دَينًا، والأمر برد البيع.
السابعة عشرة: قال النووي في (شرح مسلم): "قال العلماء: إذا بيع الذهب بذهب أو الفضة بفضة سميت مراطلة، وإذا بيعت الفضة بذهب سمي صرفا؛ لصرفه عن مقتضى البياعات([5]) من جواز التفاضل والتفرق قبل القبض والتأجيل، وقيل من صريفهما وهو تصويتهما في الميزان". انتهى.
الثامنة عشرة: أنه لا يجوز بيع المصوغ من الذهب بأكثر من وزنه ذهبًا، وكذلك المصوغ من الفضة لا يجوز أن يباع بأكثر من وزنة فضة.
التاسعة عشرة: التشديد في الإنكار على من اعتمد على رأيه وخالف النص الثابت عن النبي ﷺ كما تقدم في قصة أبي الدرداء مع معاوية وفي قصة أبي أسيد مع ابن عباس.
العشرون: أن في قصة الصائغ مع ابن عمر -رضي الله عنهما- وقصة أبي الدرداء مع معاوية -رضي الله عنهما- أبلغ رد على من يرى جواز بيع المصوغ من الذهب أو الفضة بجنسه من غير اشتراط التماثل، وأن الزائد يجعل في مقابلة الصنعة.
الحادية والعشرون: أنه إذا كان في القلادة ذهب وخرز فإنها لا تباع بالذهب حتى تفصل ويميز بين الذهب والخرز فيباع ما فيها من الذهب بوزنه ذهبًا.
الثانية والعشرون: أنه يجوز لمن باع سلعة بدنانير أن يأخذ عنها دراهم، وإذا باعها بدراهم أن يأخذ عنها دنانير بشرط التقابض قبل التفرق، وبشرط أن يكون ذلك بسعر يومها.
الثالثة والعشرون: أنه لا يجوز بيع التمر الطيب بأكثر منه من الرديء وكذلك الحنطة والشعير والملح لا يجوز بيع الطيب منها بأكثر منه من الرديء.
الرابعة والعشرون: الإنكار على من باع التمر الرديء بأقل منه من الطيب والأمر برد البيع، وهكذا الحكم في بيع الرديء من الحنطة أو الشعير أو الملح بأقل منه من الطيب.
الخامسة والعشرون: الأمر ببيع الرديء من التمر بالورق ثم الشراء بالورق من الطيب منه، وهكذا الحكم في الحنطة والشعير والملح.
وفيما ذكرته من الأحاديث الصحيحة وما اشتملت عليه من الفوائد والأمور المهمة كفاية في بيان موقف الشريعة الإسلامية من تحريم الربا على وجه العموم، وأنه لا فرق في ذلك بين البنوك وغيرها.
وفيها أيضا أبلغ رد على الفتان المفتون وعلى أشباهه من المفتونين بأكل الربا واستحلاله باسم الفوائد.
فصل
في ذكر الإجماع على تحريم الربا
قال النووي في (شرح المهذب): "أجمع المسلمون على تحريم الربا وعلى أنه من الكبائر، وقيل إنه كان محرما في جميع الشرائع وممن حكاه الماوردي". انتهى.
ونقل السبكي في (تكملة شرح المهذب) عن ابن المنذر أنه قال: "أجمع علماء الأمصار؛ مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة، وسفيان الثوري ومن وافقه من أهل العراق، والأوزاعي ومن قال بقوله من أهل الشام، والليث بن سعد ومن وافقه من أهل مصر، والشافعي وأصحابه، وأحمد وإسحاق وأبو ثور والنعمان ويعقوب ومحمد على أنه لا يجوز بيع ذهب بذهب ولا فضة بفضة ولا بر ببر ولا شعير بشعير ولا تمر بتمر ولا ملح بملح متفاضلا يدا بيد ولا نسيئة، وأن من فعل ذلك فقد أربى والبيع مفسوخ، قال: وقد روينا هذا القول عن جماعة من أصحاب رسول الله ﷺ وجماعة يكثر عددهم من التابعين".
قال السبكي: "وممن قال بذلك من الصحابة أربعة عشر منهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وطلحة والزبير، روي مجاهد عنهم – أي الأربعة عشر – أنهم قالوا: الذهب بالذهب والفضة بالفضة وأربوا الفضل، وروى ذلك ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبن فضيل عن ليث – وهو ابن أبي سليم – عن مجاهد، وهؤلاء السبعة من العشرة المشهود لهم بالجنة، وممن صح ذلك عنه أيضا غير هؤلاء السبعة عبد الله بن عمر وأبو الدرداء، وروي عن فضالة بن عبيد، وقد تقدم كلام أبي سعيد وأبي أسيد وعبادة، وقد رويت أحاديث تحريم ربا الفضل من جهة غيرهم من الصحابة، والظاهر أنهم قائلون بها لعدم قبولهم للتأويل". انتهى.
وقال الترمذي بعد ذكره حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- الذي تقدم ذكره – وهو الحديث الرابع عشر –: "والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي ﷺ وغيرهم، إلا ما روي عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسا أن يباع الذهب بالذهب متفاضلا والفضة بالفضة متفاضلا إذا كان يدا بيد، وقال إنما الربا في النسيئة. وكذلك روي عن بعض أصحابه شيء من هذا، وقد روي عن ابن عباس أنه رجع عن قوله حين حدثه أبو سعيد الخدري عن النبي ﷺ، والقول الأول أصح، والعمل
على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي ﷺ وغيرهم، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، وروي عن ابن المبارك أنه قال ليس في الصرف اختلاف". انتهى كلام الترمذي.
ونقل السبكي في (تكملة شرح المهذب) عن ابن عبد البر أنه قال: "لا أعلم خلافًا بين أئمة الأمصار بالحجاز والعراق وسائر الآفاق في أن الدينار لا يجوز بيعه بالدينارين ولا بأكثر منه وزنًا، ولا الدرهم بالدرهمين ولا بشيء من الزيادة عليه، إلا ما كان عليه أهل مكة قديما وحديثًا من إجازتهم التفاضل على ذلك إذا كان يدا بيد، أخذوا ذلك عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال ابن عبد البر: ولم يتابع ابن عباس علي قوله في تأويله حديث أسامة أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من بعدهم من فقهاء المسلمين إلا طائفة من المكيين أخذوا ذلك عنه وعن أصحابه، وهم محجوجون بالسنة الثابتة التي هي الحجة على من خالفها وجهلها وليس أحد بحجة عليها". انتهى.
وقال الموفق في (المغنى) وابن أبي عمر في (الشرح الكبير): "أجمعت الأمة على أن الربا محرم. قالا: والربا على ضربين؛ ربا الفضل، وربا النسيئة. وأجمع أهل العلم على تحريمهما".
وقال النووي في (شرح مسلم): "أجمع المسلمون على تحريم الربا في الجملة وإن اختلفوا في ضابطه وتفاريعه"، وقال أيضا: "أجمعوا على أنه لا يجوز بيع الربوي بجنسه وأحدهما مؤجل، وعلى أنه لا يجوز التفاضل إذا بيع بجنسه حالا كالذهب بالذهب، وعلى أنه لا يجوز التفرق قبل التقابض إذا باعه بجنسه أو بغير جنسه مما يشاركه في العلة كالذهب بالفضة والحنطة بالشعير، وعلى أنه يجوز التفاضل عند اختلاف الجنس إذا كان يدًا بيد كصاع حنطة بصاعي شعير، ولا خلاف بين العلماء في شيء من هذا إلا ما سنذكره -إن شاء الله تعالى- عن ابن عباس في تخصيص الربا بالنسيئة".
وقال النووي أيضا: "أجمع العلماء على تحريم بيع الذهب بالذهب أو الفضة مؤجلاً وكذلك الحنطة بالحنطة أو بالشعير، وكذلك كل شيئين اشتركا في علة الربا".
ونقل النووي أيضا إجماع المسلمين على ترك العمل بظاهر حديث أسامة الذي جاء فيه أنه لا ربا إلا في النسيئة. قال: "وهذا يدل على نسخه". انتهى المقصود من كلام النووي.
فصل
في ذكر الآثار الدالة على رجوع ابن عباس -رضي الله عنهما- عن قوله بجواز بيع الذهب بالذهب متفاضلا والفضة بالفضة متفاضلا إذا كان يدا بيد، وذلك حين بلغه أن رسول الله ﷺ نهى عن ذلك.
فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد ومسلم من حديث سعيد الجريري عن أبي نضرة قال: سألت ابن عباس عن الصرف فقال أيدا بيد؟ قلت: نعم، قال: فلا بأس به، فأخبرت أبا سعيد فقلت: إني سألت ابن عباس عن الصرف فقال أيدًا بيد؟ قلت: نعم، قال: فلا بأس به. قال أو قال ذلك؟ إنا سنكتب إليه فلا يفتيكموه، الحديث وقد تقدم، وهو الحديث السادس والثلاثون.
وقد رواه مسلم أيضا والبيهقي من حديث داود بن أبي هند عن أبي نضرة قال: سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسا فإني لقاعد عند أبي سعيد الخدري فسألته عن الصرف فقال ما زاد فهو ربا فأنكرت ذلك لقولهما فقال: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله ﷺ فذكر الحديث وفي آخره أن أبا نضرة قال: فأتيت ابن عمر بعد فنهاني ولم آت ابن عباس، قال: فحدثني أبو الصهباء أنه سأل ابن عباس عنه بمكة فكرهه، وقد ترجم البيهقي لهذا الحديث وحديثين آخرين أحدهما في رجوع ابن عباس والآخر في رجوع ابن مسعود بقوله (باب ما يستدل به على رجوع من قال – من الصدر الأول – لا ربا إلا في النسيئة عن قوله ونزوعه عنه).
وروى الطحاوي في (شرح معاني الآثار) من حديث داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي الصهباء أن ابن عباس -رضي الله عنهما- نزع عن الصرف.
ومنها ما رواه الطحاوي في (شرح معاني الآثار) عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قلت لابن عباس أرأيت الذي تقول: الدينارين بالدينار والدرهمين بالدرهم أشهد أني سمعت رسول الله ﷺ يقول: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما، فقال ابن عباس: أنت سمعت هذا من رسول الله ﷺ، فقلت: نعم، فقال: فإني لم أسمع هذا، إنما أخبرنيه أسامة بن زيد، قال أبو سعيد: ونزع عنها ابن عباس.
ومنها ما رواه الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا سليمان بن علي الربعي قال: سمعت أبا الجوزاء قال: سمعت ابن عباس يفتي في الصرف قال: فأفتيت به زمانا قال: ثم لقيته فرجع عنه، قال: فقلت له: ولم؟ فقال: إنما هو رأي رأيته، حدثني أبو سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ نهى عنه، إسناده صحيح على شرط مسلم، ورواه الإمام أحمد أيضا حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا سليمان بن علي الربعي حدثنا أبو الجوزاء غير مرة قال: سألت ابن عباس عن الصرف يدا بيد فقال: لا بأس بذلك اثنين بواحد أكثر من ذلك وأقل، قال ثم حججت مرة أخرى والشيخ حي فأتيته فسألته عن الصرف فقال وزنا بوزن، قال: فقلت: إنك قد أفتيتني اثنين بواحد فلم أزل أفتي به منذ أفتيتني فقال: إن ذلك كان عن رأي، وهذا أبو سعيد الخدري يحدث عن رسول الله ﷺ فتركت رأيي إلى حديث رسول الله ﷺ. إسناده صحيح على شرط مسلم، ورواه ابن ماجة عن أحمد ابن عبده أنبأنا حماد بن زيد عن سليمان بن علي الربعي عن أبي الجوزاء قال: سمعته يأمر بالصرف – يعني ابن عباس– ويحدث ذلك عنه ثم بلغني أنه رجع عن ذلك فلقيته بمكة فقلت: إنه بلغني أنك رجعت، قال: نعم، إنما كان ذلك رأيا مني، وهذا أبو سعيد يحدث عن رسول الله ﷺ «أنه نهى عن الصرف» إسناده صحيح على شرط مسلم.
وروى البيهقي عن معروف بن سعد أنه سمع أبا الجوزاء يقول كنت أخدم ابن عباس تسع سنين إذ جاءه رجل فسأله عن درهم بدرهمين فصاح ابن عباس وقال: إن هذا يأمرني أن أطعمه الربا، فقال ناس حوله إن كانا لنعمل هذا بفتياك، فقال ابن عباس قد كنت أفتي بذلك حتى حدثني أبو سعيد وابن عمر أن النبي ﷺ نهى عنه، فأنا أنهاكم عنه.
ومنها ما رواه الحاكم في مستدركه والبيهقي في سننه عن حيان بن عبيد الله العدوي قال: سألت أبا مجلز عن الصرف فقال: كان ابن عباس -رضي الله عنهما- لا يرى به بأسا زمانا من عمره ما كان منه عينا – يعني يدًا بيد – فكان يقول إنما الربا في النسيئة، فلقيه أبو سعيد الخدري فقال له: يا ابن عباس ألا تتقي الله إلى متى تؤكل الناس الربا؟! أما بلغك أن رسول الله ﷺ قال ذات يوم وهو عند زوجته أم سلمة: «إني لأشتهي تمر عجوة» فبَعَثَتْ صاعين من تمر إلى رجل من الأنصار فجاء بدل صاعين صاع من تمر عجوة فقامتْ فقدَّمته إلى رسول الله ﷺ فلما رآه أعجبه فتناول تمرة ثم أمسك فقال: «من أين لكم هذا؟» فقالت أم سلمة: بعثتُ صاعين من تمر إلى رجل من الأنصار فأتانا بدل الصاعين هذا الواحد وها هو كُل فألقي التمرة بين يديه فقال: «ردوه
لا حاجة لي فيه، التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والذهب بالذهب والفضة بالفضة يدًا بيد عينا بعين مثلا بمثل فمن زاد فهو ربا»، ثم قال: «كذلك ما يكال ويوزن أيضا». فقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "جزاك الله يا أبا سعيد الجنة فإنك ذكرتني أمرا كنت نسيته، أستغفر الله وأتوب إليه"، فكان ينهى عنه بعد ذلك أشد النهي. هذا لفظه عند الحاكم وقال: "صحيح الإسناد"، وتعقبه الذهبي في تلخيصه فقال: "حيان فيه ضعف وليس بالحجة".
قلت قد ذكر ابن أبي حاتم في كتاب (الجرح والعديل) عن أبيه أنه قال: "هو صدوق"، وذكر ابن حجر في (لسان الميزان) عن إسحاق بن راهويه أنه قال: "حدثنا روح ابن عبادة، حدثنا حيان بن عبيد الله – وكان رجل صدق –"، قال تقي الدين السبكي في (تكملة شرح المهذب): "إن كانت هذه الشهادة له بالصدق من روح بن عبادة فروح محدث نشأ في الحديث عارف به مصنف فيه متفق على الاحتجاج به بصري بلدي للمشهود له فتقبل شهادته له، وإن كان هذا القول من إسحاق بن راهويه فناهيك به ومن يثني عليه إسحاق". انتهى، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وعلى هذا فحديثه حسن إن شاء الله تعالى، ولحديثه شواهد كثيرة تُقويه، منها ما تقدم في هذا الفصل، ومنها ما تقدم قبل ذلك من حديث أبي سعيد وعبادة بن الصامت وأبي هريرة وبلال -رضي الله عنهم- وقد قال تقي الدين السبكي في (تكملة شرح المهذب): "إنه لا يقصر عن رتبة الحسن، قال ويكفي الاستدلال على ذلك أنه لم يعارضه ما هو أقوى منه". انتهى.
ومنها ما رواه الطبراني عن عبد الرحمن بن أبي نُعْم أن أبا سعيد الخدري لقي ابن عباس فشهد على رسول الله ﷺ أنه قال: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة مثلا بمثل فمن زاد فقد أربى» فقال ابن عباس: "أتوب إلى الله مما كنت أفتي به، ثم رجع"، قال تقي الدين السبكي في (تكملة شرح المهذب): "إسناده صحيح".
ومنها ما رواه الطبراني عن أبي الشعثاء قال: سمعت ابن عباس يقول: "اللهم إني أتوب إليك من الصرف إنما هذا من رأيي، وهذا أبو سعيد الخدري يرويه عن النبي ﷺ" قال تقي الدين السبكي في (تكملة شرح المهذب): "رجاله ثقات مشهورون مصرحون بالتحديث فيه من أولهم إلى آخرهم".
ومنها ما رواه الطبراني عن بكر بن عبد الله المزني أن ابن عباس جاء من المدينة إلى مكة وجئت معه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "يا أيها الناس، إنه لا بأس بالصرف ما كان منه يدا بيد إنما الربا في النسيئة"، فطارت كلمته في أهل المشرق والمغرب حتى إذا انقضى الموسم دخل عليه أبو سعيد الخدري وقال له: "يا ابن عباس، أكلت الربا وأطعمته"، قال: "أوفعلت؟!" قال: "نعم، قال رسول الله ﷺ: «الذهب بالذهب والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل فمن زاد أو استزاد فقد أربى»" حتى إذا كان العام المقبل جاء ابن عباس وجئت معه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "يا أيها الناس، إني تكلمت عام أول بكلمة من رأيي وإني أستغفر الله -تعالى- منه وأتوب إليه، إن رسول الله ﷺ قال: «الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل تبره وعينه فمن زاد أو استزاد فقد أربى»" وأعاد عليهم هذه الأنواع الستة. قال تقي الدين السبكي في (تكملة شرح المهذب): "سنده فيه مجهول"، قلت: وله شواهد كثيرة مما تقدم في هذا الفصل وما تقدم قبل ذلك من حديث أبي سعيد وعبادة بن الصامت وأبي هريرة وبلال -رضي الله عنهم-.
ومنها ما رواه الطحاوي في (شرح معاني الآثار) عن عبد الله بن حنين أن رجلا من أهل العراق قال لعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: إن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال وهو علينا أمير: "من أعطي بالدرهم مائة درهم فليأخذها" فقال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله ﷺ: «الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل فمن زاد فهو ربا» وقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: إن كنت في شك فسل أبا سعيد الخدري عن ذلك فسأله فأخبره أنه سمع ذلك من رسول الله ﷺ، فقيل لابن عباس -رضي الله عنهما- ما قال ابن عمر -رضي الله عنهما- فاستغفر ربه وقال: "إنما هو رأي مني"، في إسناده ابن لهيعة وفيه كلام، وقد روى له مسلم وابن خزيمة في صحيحيهما مقرونا بغيره، وروى له البخاري في عدة مواضع من صحيحه مقرونا بغيره ولكنه لا يسميه، قال ابن حجر في (تهذيب التهذيب): "وهو ابن لهيعة لا شك فيه"، وقد أثنى عليه ابن وهب وأحمد بن صالح ووثقه، ووثقه أيضا أحمد محمد شاكر في تعليقه على مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي، وقال ابن حجر في (تقريب التهذيب): "صدوق خلط بعد احتراق كتبه"، وحسن الهيثمي حديثه، وأقره زين الدين العراقي وابن حجر على ذلك، وعلى هذا فحديثه حسن -إن شاء الله تعالى- وله شواهد كثيرة مما تقدم في هذا الفصل وما تقدم قبل ذلك من حديث أبي سعيد وعبادة بن الصامت وأبي هريرة وبلال -رضي الله عنهم-.
ومنها: حديث أبي الزبير المكي – وهو الحديث الأربعون – فقد جاء فيه أن ابن عباس -رضي الله عنهما- كان يفتي بالدينار بالدينارين فأغلظ له أبو أسيد القول، فقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "هذا شيء كنت أقوله برأيي، ولم أسمع فيه شيئًا". رواه الطبراني في الكبير، قال الهيثمي: "وإسناده حسن"، وقد تقدم ذكره.
وبما ذكرته من الروايات المتواترة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- يعلم قطعا أنه قد رجع عن قوله بجواز بيع الذهب بالذهب متفاضلا والفضة بالفضة متفاضلا إذا كان يدا بيد، وقد روى ابن حزم بإسناده إلى سعيد بن جبير أنه حلف بالله أن ابن عباس -رضي الله عنهما- ما رجع عن قوله في الصرف حتى مات، قال السبكي في (تكملة شرح المهذب): "قال ابن عبد البر: رجع ابن عباس أو لم يرجع، في السنة كفاية عن قول كل أحد، ومن خالفها رد إليها، قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: ردوا الجهالات إلى السنة".
قلتُ قد تواترت الأحاديث عن النبي ﷺ أنه كان يأمر بالمماثلة بين الذهب والذهب وبين الفضة والفضة وينهى عن المفاضلة بينهما، وتقدم ذلك في الحديث الرابع عشر وما بعده من الأحاديث فلتراجع، وليتمسك بها المؤمن ولا يلتفت إلى ما خالفها من أقوال الناس وآرائهم، فإنه لا قول لأحد مع قول رسول الله ﷺ، قال مجاهد: "ليس أحد بعد النبي ﷺ إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي ﷺ"، رواه البخاري في (جزء رفع اليدين) بإسناد صحيح، وقال سالم بن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "سنة رسول الله ﷺ أحق أن تتبع"، رواه البخاري في (جزء رفع اليدين) بإسناد صحيح، وقال الأوزاعي: "كتب عمر بن عبد العزيز أنه لا رأي لأحد في سنة سنها رسول الله ﷺ"، رواه الدارمي بإسناد جيد، وقد قال الله -تعالى-: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا﴾، قال الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-: "أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله ﷺ لم يكن له أن يدعها لقول أحد".
فصل
وقد كان ابن مسعود -رضي الله عنه- يرى جواز المفاضلة في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة ثم رجع عن ذلك لما بلغة النهي عنه. قال عبد الرزاق في مصنفه:
"أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن عبد الله بن كنانة أن ابن مسعود صرف فضة بورق في بيت المال، فلما أتى المدينة سأل فقيل إنه لا يصلح إلا مثل بمثل. قال أبو إسحاق: فأخبرني أبو عمرو الشيباني أنه رأي ابن مسعود يطوف بها يردها ويمر على الصيارفة ويقول: لا يصلح الورق بالورق إلا مثل بمثل". وقد رواه البيهقي في سننه من طريق أبي إسحاق – وهو السبيعي – عن سعد بن إياس– وهو أبو عمر والشيباني – قال: "كان عبد الله – يعني ابن مسعود – علي بيت المال وكان يبيع نفاية بيت المال يعطي الكثير ويأخذ القليل حتى قدم فسأل أصحاب محمد ﷺ فقالوا: لا تصلح الفضة إلا وزنا بوزن، فلما قدم عبد الله أتى الصيارفة فقال: يا معشر الصيارفة إن الذي كنت أبايعكم لا يحل، لا تحل الفضة بالفضة إلا وزنا بوزن". ورواه الطبراني في الكبير ولفظه قال: "كان عبد الله يرخص في الدرهم بالدرهمين والدينار بالدينارين فخرج إلى المدينة فأتي عمر وعليًا وأصحاب رسول الله ﷺ فنهوه عن ذلك، فلما رجع رأيته يطوف في الصيارفة ويقول: ويلكم يا معشر الناس لا تأكلوا الربا ولا تشتروا الدرهم بالدرهمين ولا الدينار بالدينارين"، قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح".
فصل
وقد تقدم في الحديث الرابع والعشرين أن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: سمعت رسول لله ﷺ: «ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل» فقال له معاوية: ما أرى بمثل هذا بأسا، فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية، أنا أخبره عن رسول الله ﷺ ويخبرني عن رأيه، لا أساكنك بأرض أنت بها، ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية: أن لا تبيع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن. رواه مالك في الموطأ عن عطاء بن يسار، ورواه الشافعي وأحمد والنسائي والبيهقي من طريق مالك.
وروى مسلم والبيهقي عن أبي الأشعث – واسمه شراحيل بن آده الصنعاني – قال: غزونا غزاه وعلى الناس معاوية، فغنمنا غنائم كثيرة، فكان فيما غنمنا آنية من فضة، فأمر معاوية رجلا أن يبيعها في أعطيات الناس، فتسارع الناس في ذلك، فبلغ عبادة بن الصامت فقام فقال: إني سمعت رسول الله ﷺ «ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء
بسواء عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى» فرد الناس ما أخذوا فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبا فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله ﷺ أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه، فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة ثم قال: لنحدثن بما سمعنا من رسول الله ﷺ وإن كره معاوية، أو قال وإن رغم، ما أبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء.
وروى ابن ماجة في الباب الثاني من مقدمة سننه بإسناد حسن عن إسحاق بن قبيصة عن أبيه – وهو قبيصة بن ذؤيب الخزاعي – أن عبادة بن الصامت الأنصاري النقيب صاحب رسول الله ﷺ غزا مع معاوية أرض الروم فنظر إلى الناس وهم يتبايعون كسر الذهب بالدنانير وكسر الفضة بالدراهم فقال: يا أيها الناس إنكم تأكلون الربا، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا تبتاعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، لا زيادة بينهما ولا نظرة» فقال له معاوية: يا أبا الوليد لا أرى الربا في هذا إلا ما كان من نظرة، فقال عبادة: أحدثك عن رسول الله ﷺ وتحدثني عن رأيك، لئن أخرجني الله لا أساكنك بأرض لك علي فيها إمرة، فلما قفل لحق بالمدينة فقال له عمر بن الخطاب: ما أقدمك يا أبا الوليد؟ فقصَّ عليه القصة وما قال من مساكنته، فقال: أرجع يا أبا الوليد إلى أرضك، فقبح الله أرضا لست فيها وأمثالك. وكتب إلى معاوية: لا إمرة لك عليه، واحمل الناس على ما قال فإنه هو الأمر.
قال تقي الدين السبكي في (تكملة شرح المهذب): "هذا المنقول عن معاوية معناه أنه كان لا يرى الربا في بيع العين بالتبر ولا بالمصوغ، وكان يجيز في ذلك التفاضل ويذهب إلى أن الربا لا يكون في التفاضل إلا في التبر بالتبر وفي المصوغ بالمصوغ وفي العين بالعين، كذلك نقل عنه ابن عبد البر، فليس موافقا ابن عباس مطلقا وإن كان الذي ذهب إليه من الذي لا يعول عليه".
وقال السبكي أيضا: "وأما معاوية فقد تقدم أنه غير قائل بقول أبن عباس مع شذوذ ما قال به أيضا، والظن به لما كتب إليه عمر -رضي الله عنه- أنه يرجع عن ذلك".
قلت: لم يذكر أحد عن معاوية -رضي الله عنه- أنه خالف قول عمر -رضي الله عنه- أن الأمر على ما قاله عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-، ولا أنه خالف أمره بأن يحمل الناس على ذلك، فيستفاد من عدم مخالفته عمر -رضي الله عنه- أنه قد رجع عن رأيه الذي واجه به أبا الدرداء وعبادة بن الصامت -رضي الله عنهما-، والله أعلم.
فصل
وأما حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: «لا ربا إلا في النسيئة» فهو حديث صحيح قد اتفق البخاري ومسلم على إخراجه، وقد قال النووي في (شرح مسلم): "أجمع المسلمون على ترك العمل بظاهره، قال: وهذا يدل على نسخه، وتأوله آخرون"، وذكر السبكي في (تكمله شرح المهذب) عن ابن عبد البر أنه استدل على صحة تأويل حديث أسامة بإجماع الناس – ما عدا ابن عباس – عليه – أي علي تأويله–. انتهى.
ومن أحسن التأويلات التي ذكرها النووي أنه محمول على الأجناس المختلفة، فإنه لا ربا فيها من حيث التفاضل بل يجوز تفاضلها يدا بيد، وذكر الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) عن الطبري أنه قال: "معنى حديث أسامة «لا ربا إلا في النسيئة» إذا اختلفت أنواع البيع، والفضل فيه يدا بيد ربا، جمعا بينه وبين حديث أبي سعيد، ثم قال بن حجر: (تنبيه) وقع في نسخه الصغاني هنا: قال أبو عبد الله يعني البخاري: سمعت سليمان بن حرب يقول: «لا ربا إلا في النسيئة» هذا عندنا في الذهب بالورق والحنطة بالشعير متفاضلا ولا بأس به يدا بيد ولا خير فيه نسيئة". انتهى.
وقال ابن حبان في صحيحة: "معنى الخبر أن الأشياء إذا بيعت بجنسها من الستة المذكورة في الخبر وبينهما فضل يكون ربا، وإذا بيعت بغير أجناسها وبينها فضل كان ذلك جائزا إذا كان يدا بيد، وإذا كان ذلك نسيئة كان ربا". انتهى.
وروى البيهقي في سننه عن أبي المنهال – واسمه عبد الرحمن بن مطعم البناني – قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف فقالا: "كنا تاجرين على عهد رسول الله ﷺ فسألنا رسول الله ﷺ عن الصرف فقال: «ما كان منه يدا بيد فلا بأس وما كان منه نسيئة فلا»" وهذا الحديث قد تقدم ذكره وهو الحديث الحادي والعشرون والحديث الثاني والعشرون، وقد ذكرت له عدة روايات عند البخاري ومسلم فليراجع، ثم قال البيهقي بعد إيراده وذكر من خرجه من الأئمة أن الخبر يكون واردا في بيع الجنسين أحدهما بالآخر، فقال: «ما كان منه يدا بيد فلا بأس، وما كان منه نسيئة فلا» وهو المراد بحديث أسامة، والله أعلم. قال: والذي يدل على ذلك أيضا ما أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان... ثم ساق بإسناده إلى أبي المنهال قال: سألت
البراء وزيد بن أرقم عن الصرف فكلاهما يقول: "نهى رسول الله ﷺ عن بيع الورق بالذهب دينا"، وقال الموفق في (المغنى) وابن أبي عمر في (الشرح الكبير): "قول النبي ﷺ «لا ربا إلا في النسيئة» محمول على الجنسين".
وبما ذكره هؤلاء الأئمة في تأويل حديث أسامة وبيان معناه يحصل الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد وغيره من الأحاديث الدالة على تحريم ربا الفضل وينتفي عنها التعارض، والله أعلم.
فصل
وقد زعم الفتان في بيانه لموقف الشريعة الإسلامية من المصارف أنه يمكن القول أنه لن تكون هناك قوة إسلامية بدون قوة اقتصادية، ولن تكون هناك قوة اقتصادية بدون بنوك ولن تكون هناك بنوك بلا فوائد.
والجواب عن هذا من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن الشريعة الإسلامية قد جاءت بتحريم الربا على وجه العموم، وتظافرت الأدلة من الكتاب والسنة على تحريمه وأجمع المسلمون على تحريمه وعلى أنه من الكبائر، وقد ذكرت ذلك مستوفى فيما تقدم فليراجع. فهذا هو موقف الشريعة الإسلامية من الربا في المصارف وغير المصارف.
ومَن قال بخلاف هذا فهو مفتر على الشريعة وقوله مردود عليه ومضروب به عرض الحائط.
الوجه الثاني: أن يقال: إن المقدمات الثلاث التي بني الفتان عليها آراءه الفاسدة كلها أباطيل وشبهات وتلبيس على الذين لا يعرفون مقصوده السيئ من كتابته وأن هدفه الوحيد هو استحلال الربا في البنوك ودعاء الناس إلى استحلاله وعدم المبالاة بما يترتب على ذلك من محاربة الله ورسوله ﷺ ومخالفة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين.
فأما المقدمة الأولى وهي قوله: إنه لن تكون قوة إسلامية بدون قوة اقتصادية فهي من توهماته التي يكذبها الواقع من حال المسلمين في أول هذه الأمة وفي آخرها. فأما الواقع في أول هذه الأمة فهي القوة الإسلامية التي كانت في زمن النبي ﷺ وزمن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وأول زمان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وقد كانت هذه القوة الإسلامية قوية التأثير؛ لأنها زلزلت المخالفين للإسلام من العرب وغير
العرب وخاف منها هرقل وغيره من أكابر الملوك. وقد مكَّن الله للمسلمين بهذه القوة فاستولوا على جميع جزيرة العرب وعلى كثير مما حولها من بلاد الفرس والروم، ولم يكن لهم في تلك الأزمان قوة اقتصادية سوى ما يحصل لهم من الغنائم في بعض الغزوات وهي لا تكفي لما يحتاجون إليه لمجابهة أعدائهم. وقد استعار النبي ﷺ في غزوة حنين أدراعًا من صفوان بن أمية – وهو إذا ذاك مشرك – ولو كانت عند النبي ﷺ قوة اقتصادية لما احتاج إلى الاستعارة من رجل مشرك، وكذلك قد حث النبي ﷺ أصحابه على تجهيز جيش العسرة في غزوة تبوك، وكانت هذه الغزوة في أثناء سنة تسع من الهجرة. ولو كانت عند النبي ﷺ قوة اقتصادية لكان يجهزهم من عنده ولا يحتاج إلى ترغيب الأغنياء في تجهيزهم، والدليل على أن النبي ﷺ لم تكن عنده قوة اقتصادية قول الله -تعالى-: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾، وهذه الآية نزلت في المتخلفين عن الخروج مع النبي ﷺ في غزوة تبوك.
وأما الواقع في آخر هذه الأمة فهو ما كانت عليه الدولة السعودية في زمن الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود وزمن ابنه سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود -رحمهما الله تعالى-، فقد كانت للإسلام قوة عظيمة في زمن هذين الإمامين، وقد مكَّن الله لهذه الدولة ويسر لهم الإستيلاء على جزيرة العرب سوى بعض البلاد اليمنية، وامتدت ولايتهم من ناحية المشرق حتى تجاوزت ما يسمى الآن بدولة الإمارات، وأرهبوا كثيرا ممن حولهم من العرب وغير العرب، ولم تكن لهم في ذلك الزمان قوة اقتصادية.
ثم كانت قوة عظيمة في زمن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل -رحمه الله تعالى-، وقد مكَّن الله له بهذه القوة ويسر له الاستيلاء على جزيرة العرب سوى بعض البلاد اليمنية، ولم تكن له في زمانه الذي استولى فيه على أكثر جزيرة العرب قوة اقتصادية، وإنما حصلت له القوة الاقتصادية حين أخرج الله خزائن البترول من الأرض.
ومن الأمثلة على وجود القوة الإسلامية مع عدم وجود القوة الاقتصادية ما هو معروف في زماننا عن المجاهدين الأفغان، فإنهم ليست لهم قوة اقتصادية، بل هم في غاية الحاجة وقلة العدد والعدة بالنسبة إلى أعدائهم، ومع هذا فقد كانت لهم قوة إسلامية مرهوبة عند أعدائهم، وقد نصرهم الله -تعالى- في كثير من المعارك الدائرة بينهم وبين الدولة الشيوعية التي هي من أكبر الدول في العالم وأعظمها قوة اقتصادية، وفي هذا عبرة لمن اعتبر، وقد قال الله -تعالى-: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، وقال -تعالى-: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
ومما ذكرته من وجود القوة الإسلامية في أول هذه الأمة وفي آخرها مع عدم وجود القوة الاقتصادية عندهم يعلم أن لا تلازم بين القوة الإسلامية والقوة الاقتصادية. وفي هذا أبلغ رد على ما توهمه الفتان في مقدماته الثلاث التي بني بعضها على بعض بمجرد ما تخيله بعقله الفاسد.
وأما المقدمة الثانية وهي قوله: لن تكون هناك قوة اقتصادية بدون بنوك، فهي مقدمة باطلة. ويدل على بطلانها ما كان عليه المسلمون منذ فتحت خزائن الملوك في زمان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وبعد زمانه فقد كانت لهم قوة اقتصادية عظيمة، وهم مع هذا لا يعرفون البنوك ولا التعامل بالربا فضلا عن استحلاله، وكذلك كان الأمر في زمان بني أمية وبني العباس وغيرهم من الدول الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، فقد كان عند كثير منهم من الأموال والقوة الاقتصادية ما يعرفه من تتبع السير والأخبار وهم مع هذا لا يعرفون البنوك ولا التعامل بالربا.
وأما المقدمة الثالثة وهي قوله: لن تكون هناك بنوك بلا فوائد. فهي مقدمة باطلة، وبيان ذلك من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الزيادة على رؤوس الأموال وهي التي يدفعها أهل البنوك لأهل الأموال مقابل ما يمنحوهم من الانتفاع بأموالهم ليست بفوائد على الحقيقة، وإنما هي عين الربا الذي حرمه الله ورسوله ﷺ وأجمع المسلمون على تحريمه، وهي شبيهة بربا أهل الجاهلية؛ لأن أرباب الأموال إذا تركوا رؤوس أموالهم عند أهل البنوك أرباها أهل البنوك لهم في كل عام بنسبة معلومة في كل مائة، وهذه النسبة تضاف إلى رؤوس الأموال، وربما اجتمع منها شيء كثير لأهل الأموال ولا سيما إذا تركوا أموالهم في البنوك أعواما كثيرة. وهذا الفعل مطابق لما يفعله الأغنياء في
الجاهلية مع المدينين. وقد تقدم كلام الجصاص في بيان ربا أهل الجاهلية فليراجع([6]).
وقد ذكرت معنى الربا عند أهل اللغة والمفسرين في الفائدة الثالثة من فوائد الآيات الدالة على تحريم الربا فلتراجع أقوالهم في ذلك فإن بعضها ينطبق على المعاملات الربوية في البنوك.
الوجه الثاني: أن يقال: إن تسمية الزائد على رؤوس الأموال فوائد متضمن لأمرين خطيرين؛ أحدهما قلب الحقيقة في هذه التسمية وذلك من الكذب، والكذب حرام وكبيرة من كبائر الإثم. الأمر الثاني: التحيُّل على استحلال الربا، وهذه الحيلة شبيهة بحيلة أصحاب السبت من اليهود. والتشبه باليهود حرام وكبيرة من كبائر الإثم، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم» رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- وإسناده جيد.
وهذه الحيلة لا تنقل الزيادة الربوية من التحريم إلى الحل. بل التحريم لازم لها سواء سميت باسمها الحقيقي وهو الربا أو سميت الاسم المستحدث لها وهو الفوائد.
وقد رد بعض العلماء في القرن الرابع عشر من الهجرة على الذين سموا الزيادات الربوية باسم الفوائد. فمن ذلك ما ذكره الشيخ محمد بن يوسف الشهير بالكافي التونسي في كتابة المسمى بـ(الأجوبة الكافية عن الأسئلة الشامية) نقلا عن العلامة إبراهيم السمنودي المنصوري أنه قال في رسالته المسماة: بـ(سيف أهل العدل، على نحر من نازعوا في زماننا في تحريم ربا القرض والفضل) في صفحة (4) بعد أن تكلم مع الجماعة الذين يحاولون إبراز القول بتحليل بعض أنواع الربا ولكن مباحثهم لا تزال عقيمة ولم يجسر واحد منهم على البت بالحكم مخافة أن يرمي بالكفر، فهم في خطبهم يحومون حول الموضوع حوما ولا يجابهونه مجابهة. مع أن الشيخ محمد عبده تقدمهم في هذا السبيل وأفتى على قاعدة أن الله أراد بالناس اليسر لا العسر وأن الفائدة غير الربا وأن الربا المحرم دينا هو الربا المحرم قانونا والمحسوب جناية. انتهى.
قلت هذه الفتوى من محمد عبده حقيقتها تحليل ما حرمه الله ورسوله من ربا الفضل. وهي مردودة بنصوص القرآن على تحريم الربا على وجه العموم، وبنصوص السنة على تحريم الربا بنوعية – أي ربا الفضل وربا النسيئة – وبالنص على أن من زاد
أو استزاد في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح فقد أربى وأن الآخذ والمعطي فيه سواء. وبالإجماع على تحريم الربا على وجه العموم والإجماع على أنه من الكبائر. وتحليل الربا وتسميته باسم الفائدة ليس من اليسر الذي أراده الله بعباده كما قد زعم ذلك محمد عبده وإنما هو من تحريف الكلم عن مواضعه وتغيير حكم الله ورسوله في الربا وتطبيقه على حكم القانون.
فليحذر المؤمن الناصح لنفسه من الاغترار بفتوى محمد عبده بتحليل الربا وتسميته باسم الفائدة، وليحذر أيضا من الاغترار بفتاوى رشيد رضا بتحليل ربا الفضل وتسميته باسم الفائدة بناء على ما مهده له شيخه محمد عبده من تحريف الكلم عن مواضعه وتغيير حكم الله ورسوله في الربا وتطبيقه على حكم القانون.
وقد قال الشيخ أحمد محمد شاكر في كتابه المسمى (عمدة التفسير) تعليقا على قول الله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾الآية: "والمتلاعبون بالدين من أهل عصرنا وأولياؤهم من عابدي التشريع الوثني الأجنبي، بل التشريع اليهودي في الربا يلعبون بالقرآن ويزعمون أن هذه الآية تدل على أن الربا المحرم هو الأضعاف المضاعفة ليجيزوا ما بقي من أنواع الربا على ما ترضى أهواؤهم وأهواء سادتهم ويتركوا الآية الصريحة ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ فكانوا في تلاعبهم بتأول هذه الآية الصريحة أسوأ حالا ممن ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم". انتهى.
وقال الشيخ محمود شلتوت في كتابه (تفسير القرآن الكريم): "بقي علينا أن ننبه في هذا الشأن لأمر خطير هو أن بعض الباحثين المولعين بتصحيح التصرفات الحديثة وتخريجها على أساس فقهي إسلامي ليعرفوا بالتجديد وعمق التفكير، يحاولون أن يجدوا تخريجا للمعاملات الربوية التي يقع التعامل بها في المصارف أو صناديق التوفير أو السندات الحكومية أو نحوها. ويلتمسون السبيل إلى ذلك. فمنهم من يزعم أن القرآن إنما حرم الربا الفاحش بدليل قوله: ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ فهذا قيد في التحريم لابد أن يكون له فائدة وإلا كان الإتيان به عبثا، تعالى الله عن ذلك، وما فائدته في زعمهم إلا أن يؤخذ بمفهومه وهو إباحة ما لم يكن أضعافا مضاعفة من الربا. وهذا قول باطل فإن الله -سبحانه وتعالى- أتى بقوله: ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ توبيخا لهم على
ما كانوا يفعلون وإبرازا لفعلهم السيئ وتشهيرًا به. يقول الله لهم لقد بلغ بكم الأمر في استحلال أكل الربا أنكم تأكلونه أضعافا مضاعفة فلا تفعلوا ذلك، وقد جاء النهي في غير هذه المواضع مطلقا صريحا ووعد الله بمحق الربا قلَّ أو كثر ولعن آكله ومؤكله وكاتبه وشاهديه كما جاء في الآثار. وآذن من لم يدعه بحرب الله وحرب رسوله. واعتبره من الظلم الممقوت وكل ذلك ذكر فيه الربا على الإطلاق دون تقييد بقليل أو كثير.
ومنهم من يميل إلى اعتباره ضرورة من الضرورات بالنسبة للأمة، ويقول مادام صلاح الأمة في الناحية الاقتصادية متوقفا على أن تتعامل بالربا وإلا اضطربت أحوالها بين الأمم فقد دخلت بذلك في قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) وهذا أيضا مغالطة، فقد بينا أن صلاح الأمة لا يتوقف على هذا التعامل وأن الأمر فيه إنما هو وهم من الأوهام وضعف أمام النظم التي يسير عليها الغالبون الأقوياء.
وخلاصة القول أن كل محاولة يراد بها إباحة ما حرم الله أو تبرير ارتكابه بأي نوع من أنواع التبرير بدافع المجاراة للأوضاع الحديثة أو الغربية، والانخلاع عن الشخصية الإسلامية إنما هي جرأة على الله -تعالى- وقول عليه بغير علم وضعف في الدين وتزلزل في اليقين". انتهى كلامه. ولقد أجاد في رده على المتلاعبين بالدين وهم الذي يغالطون في تحريم الزيادة الربوية ويستحلونها باسم الفوائد، أو بالاستناد إلى مفهومهم الخاطئ في تأويل قول الله -تعالى-: ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾. أو بما يزعمونه من اعتبار الضرورة التي تبيح المحظور، وهؤلاء المغالطون في تحريم الزيادة الربوية ينطبق عليهم قول الله -تعالى-: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾، وقوله -تعالى-: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾.
وفي كلام الشيخ أحمد محمد شاكر والشيخ محمود شلتوت أبلغ رد على الفتان الذي قد اقتفى آثار المتلاعبين بالدين، وبذل جهده في نشر أباطيله في تحليل الربا والدعوة إلى استحلاله.
الوجه الثالث: أن يقال: إن البنوك التي يتعامل أهلها بالربا قد كثرت جدًا في جميع أنحاء البلاد الإسلامية منذ زمان طويل، ومع هذا فإنه لم يحصل منها قوة اقتصادية للمسلمين فضلا عن أن يحصل بسببها قوة إسلامية يرهب منها أعداد الإسلام
والمسلمين، بل إن الأمر بالعكس بحيث أن المسلمين أصيبوا بالضعف والوهن حينما كثرت عندهم البنوك التي يتعامل أهلها بالربا ويستحلونه، ووقع فيهم الاستذلال لأعداء الله -تعالى- وخصوصا لما يسمى بمجلس الأمن – وهو في الحقيقة مجلس أمن للأقوياء من دول الكفر، ومجلس بضد الأمن للمستضعفين من المسلمين وغير المسلمين – وهذا مصداق ما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود عن أبن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» هذا لفظ أبي داود، ولفظ أحمد: «لئن أنتم اتبعتم أذناب البقر وتبايعتم بالعينة وتركتم الجهاد في سبيل الله ليلزمنكم الله مذلة في أعناقكم ثم لا تنزع منكم حتى ترجعوا إلى ما كنتم عليه وتتوبوا إلى الله».
العينة نوع من أنواع الربا، وفي البنوك من المعاملات الربوية ما هو أعظم من العينة بكثير، وبالجملة فالتعامل بالربا شر محض، ولا يتعامل به إلا جاهل أو مكابر معاند.
الوجه الرابع: أن يقال: إن الله -تعالى- أخبر في كتابه أنه يمحق الربا. وثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل» وقد ذكرت هذا الحديث في الفائدة التاسعة من فوائد الآيات الدالة على تحريم الربا فليراجع. وما كان بهذه المثابة فإنه لا يمكن أن يحصل منه قوة اقتصادية للمسلمين، وإنما يخشى أن يكون سببا لحلول العقوبة العامة لقول النبي ﷺ: «ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله» رواه أبو يعلى بإسناد جيد من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- وتقدم ذكره، وروى الحاكم في مستدركه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ نحوه، وصححه الحاكم والذهبي، وتقدم ذكره أيضا.
وفي نص الآية الكريمة على محق الربا ونص الحديث على أن عاقبته تصير إلى قل أبلغ رد على الفتان الذي قد توهم أنه يحصل من الربا قوة اقتصادية للمسلمين.
الوجه الخامس: أن يقال: إن البنوك الإسلامية التي لا يتعامل أهلها بالربا قد وجدت في بعض البلاد الإسلامية وهي أكثر أرباحًا من البنوك التي يتعامل أهلها بالربا، فمنها (بنك فيصل الإسلامي) ومقره في القاهرة، وله فروع كثيرة في بعض البلاد الإسلامية، وهذا البنك لا يتعامل أهله بالربا، وإنما يأخذون الأموال من أهلها
على وجه المضاربة فيعملون فيها بالأعمال المباحة من بيع وشراء واستئجار وتأجير وأخذ مقاولات وغير ذلك من الأمور التي لا بأس بها، وإذا حصل لهم ربح قسموه على قدر ما يستحقه كل واحد من أهل الأموال. فهذا البنك يحصل فيه ربح كثير لأهل الأموال مع سلامتهم من أخذ الربا وإعطائه، وقد حصلت فيه أرباح كثيرة جدًا في عامي 1406هـ و1407هـ وهي مذكورة في صحيفة الجزيرة الصادرة في مدينة الرياض في يوم الأربعاء 11 ربيع الثاني عام 1408هـ عدد 5543 فليراجع المفتونون بالمعاملات الربوية في البنوك غير الإسلامية هذا العدد من صحيفة الجزيرة ليعلموا أنهم قد حرموا من أرباح كثيرة وأنهم لم يحصلوا على طائل في البنوك غير الإسلامية، مع ما حصلوا عليه من خسارة الدين وما سيحصل لهم من العذاب في البرزخ وفي الدار الآخرة إن لم يتوبوا إلى الله -تعالى- وينزعوا عن المعاملات الربوية. ومن تاب منهم توبة صادقة فإنه يُرجى له العفو عما سلف منه.
ومن البنوك الإسلامية أيضا بيت التمويل الكويتي.
وإذا علم هذا فليعلم أيضا أن سلامة الدين لا يعدلها شيء من الأمور الدنيوية. وعلى هذا فمن أحب أن يسلم له دينه مع حصول الأرباح الكثيرة فليجعل ماله في البنوك الإسلامية وليجتنب البنوك التي يتعامل أهلها بالربا. ولا يغتر بما يهذو به الفتان وأمثاله من المحاربين لله ورسوله.
فصل
وأما قول الفتان إن وظيفة الجهاز المصرفي في اقتصادٍ ما تشبه إلى حد كبير وظيفة القلب بالنسبة لجسم الإنسان تمامًا كالقلب الذي يتولى ضخ الدم في عروق جسم الإنسان يقوم البنك بتسيير النقود في عروق الحياة الاقتصادية لأي بلد لتعيش وتزدهر.
فجوابه أن يقال: إن تشبيه الفتان وظيفة الجهاز المصرفي بالنسبة للحياة الاقتصادية بوظيفة القلب بالنسبة لجسم الإنسان تشبيه في غاية الفساد، وبيان ذلك من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن حياة كل إنسان، بل وكل حيوان تتوقف على سلامة قلبه وقيامه بالوظيفة التي جعلها الله له من ضخ الدم في العروق. فإذا عجز القلب عن القيام بوظيفته فإن مآل صاحبه إلى الموت ولابد، وليست البنوك بهذه المثابة من صفة القلب؛ لأن مصالح الناس واقتصاداتهم ليست متوقفة على التعامل مع أهل البنوك، ولو أن
البنوك أزيلت من جميع البلاد الإسلامية لما كان على المسلمين ضرر من إزالتها ولم تتعطل مصالحهم واقتصادياتهم من أجل إزالتها.
والوجه الثاني: أن يقال: إن كثيرا من المسلمين بل أكثرهم لا يتعاملون مع أهل البنوك بالمعاملات الربوية، ومع هذا فإن مصالحهم واقتصادياتهم كانت متيسرة لكل منهم على حسب ما قسم الله لهم من الرزق، ولو كان الأمر في البنوك على وفق ما زعمه الفتان لما كان يتم لهم شيء من المصالح والاقتصاديات، وبهذا يعلم بطلان ما زعمه الفتان من تشبيه وظيفة البنك بوظيفة القلب.
الوجه الثالث: أن يقال: إن المسلمين قد عاشوا أكثر من ثلاثة عشر قرنًا وهم لا يعرفون البنوك، ومع هذا فإن مصالحهم واقتصادياتهم كانت متيسرة لكل منهم على حسب ما قسم الله لهم من الرزق، ولم يكن في عدم البنوك في زمانهم أدنى شيء من المضرة لهم في مصالحهم واقتصادياتهم، وعلى هذا فهل يقول الفتان إن مصالح المسلمين واقتصادياتهم كانت متعطلة في أكثر من ثلاثة عشر قرنا لعدم البنوك التي تقوم بتسيير النقود في عروق الحياة الاقتصادية عندهم، أم ماذا يجيب به عن هذيانه الذي يتنزه عنه كل عاقل؟!
الوجه الرابع: أن يقال: إن التعامل بالربا مع أهل البنوك شبيه بداء السرطان الذي يفتك بالأبدان ويؤول بها إلى العطب. بل إن التعامل بالربا أعظم ضررًا على المرابين من ضرر السرطان على الأبدان؛ لأن السرطان إذا عظم واشتد فإنما يؤول بصاحبه إلى الموت ولا بد له منه. وفي الموت راحة لكل مؤمن. وأما الربا فإن ضرره على المُصرِّين عليه عظيم جدا، فمنه ما يكون في الدنيا، ومنه ما يكون في البرزخ بين الدنيا والآخرة. ومنه ما يكون في الدار الآخرة، فأما ضرره في الدنيا فمنه ما يتعلق بالدين، ومنه ما يتعلق بالمال، ومنه ما يتعلق بالأبدان، فأما ضرره المتعلق بالدين فبيانه من وجوه؛ أحدها: أنه من الكبائر السبع الموبقات - أي المهلكات - والكبائر لا تغفر إلا بالتوبة منها. الوجه الثاني: أن رسول الله ﷺ لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه؛ واللعن هو الطرد من الله ومن الخير. الوجه الثالث: أن الله -تعالى- آذن المرابين بالحرب منه ومن رسوله ﷺ، وما أعظم الخطر في هذا.
وأما ضرره المتعلق بالمال فإن الله -تعالى- أخبر أنه يمحق الربا. أي يهلكه ويذهب ببركته، وثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل».
وأما ضرره المتعلق بالأبدان فهو ما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه". وقد صرح غير واحد من العلماء بتكفير من استحل الربا.
وأما ضرر الربا على أهله في البرزخ فهو على ثلاثة أنواع؛ النوع الأول: أن المرابين يعذبون بالسباحة في النهر الأحمر الذي هو مثل الدم أو هو من الدم ويلقمون الحجارة. النوع الثاني: ما روي أن بطونهم تكون كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم. النوع الثالث: ما روي أنهم يصفدون على سابلة آل فرعون وآل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيًا فيتوطؤهم آل فرعون.
وأما ضرر الربا على أهله في الدار الآخرة فهو أنهم إذا بعثوا من قبورهم عذبوا بالجنون أو بما يشبه الجنون عقوبة لهم وتمقيتا عند جمع المحشر، ثم يكون مآلهم إلى النار.
وكل ما ذكرته ههنا من ضرر الربا على أهله فقد تقدم بيانه في الآيات والأحاديث الدالة على تحريم الربا وفي فوائدها فليراجع، وليتأمله المؤمن الناصح لنفسه حق التأمل، ولا يكن إمَّعة يتلاعب الفتان وأمثاله بعقله ويوردونه موارد العطب والهلاك.
فضل
وأما قول الفتان: لكن هناك من يحاول تعطيل هذا الجهاز عن القيام بوظيفته خوفا من أن أعماله مشوبة بالربا الذي ورد تحريمه في القرآن الكريم.
فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن كلام الفتان في هذه الجملة مبنى على المغالطة والتلبيس على الذي لا يعلمون أن الربا هو الزيادة التي يدفعها أهل البنوك لأهل الأموال مقابل انتفاعهم بأموالهم ويسمونها بالفائدة، وهي في الحقيقة عين الربا الذي حرمه الله ورسوله ﷺ وأجمع المسلمون على تحريمه.
الوجه الثاني: أن يقال: إن الفتان قد حاول في هذه الجملة أن يدافع عن أهل البنوك وينزه أعمالهم عن الربا، ولهذا عبر بالخوف من أن تكون أعمال البنوك مشوبة بالربا. وهذا خطأ ظاهر ومراوغة عن بيان الحقيقة التي يعرفها كل عاقل، وهي أن المعاملات الربوية هي السائدة في البنوك وهي الركن الأعظم فيها، وعلى هذا فإن كلام الفتان في هذه الجملة مردود عليه ومضروب به عرض الحائط.
الوجه الثالث: أن يقال: إن الذين يحاولون تعطيل الجهاز الربوي في البنوك لم تكن محاولتهم مبينة على الخوف من أن تكون أعمال أهل البنوك مشوبة بالربا وإنما هي مبنية على اليقين من وجود الربا في جميع البنوك سوى البنوك الإسلامية وهم في هذه المحاولة قد أحسنوا غاية الإحسان لأنهم فعلوا ما أمروا به من النهي عن المنكر والسعي في إزالته.
فصل
وأما قول الفتان: كيف ينظر فقهاء المسلمين إلى الظاهرة الاقتصادية للفائدة؟ ولماذا يعتبر القرض بفائدة محرما في نظرهم؟
فجوابه: أن يقال: ما سماه الفتان بالظاهرة الاقتصادية للفائدة فمعناه ما يتعامل به بعض الناس مع أهل البنوك من المعاملات الربوية، وذلك أنهم يدفعون إليهم أموالهم ويمنحونهم الانتفاع بها بنسبة معلومة في المائة في كل عام. وهذه النسبة هي التي يسمونها الفائدة وهي عين الربا وهي شبيهة بربا أهل الجاهلية. وقد تقدم بيان ذلك في أول الكلام على المقدمة الثالثة من مقدمات الفتان فليراجع.
وأما قوله: لماذا يعتبر القرض بفائدة محرمًا في نظرهم؟
فجوابه: أن يقال: إنما يعتبر القرض بفائدة محرما لأنه ربا والربا من الكبائر السبع الموبقات – أي المهلكات – وقد تقدم النص على ذلك في حديث أبي هريرة المتفق على صحته، وقد قال أبو بكر الجصاص في (أحكام القرآن): "الربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض هذا كان المتعارف المشهور بينهم". وقال أيضا: "من الربا ما هو بيع ومنه ما ليس ببيع وهو ربا أهل الجاهلية وهو القرض المشروط فيه الأجل وزيادة مال على المستقرض" انتهى. وتعريفه للربا عند أهل الجاهلية مطابق لما يفعله أهل البنوك من الإقراض والاستقراض بما يسمونه الفائدة وهي عين الربا الذي كان يعمل به في الجاهلية.
والدليل على أن القرض بفائدة من الربا قول النبي ﷺ: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي من حديث أبي سعيد الخدري وتقدم ذكره.
وعن عبادة بن الصامت وأبي هريرة -رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ نحوه، وتقدم ذلك أيضا.
وعن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: «نهى رسول الله عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا سواء بسواء» متفق عليه وتقدم ذكره أيضا.
وتقدم أيضا عن عليٍّ وابن عمر وأبي هريرة -رضي الله عنهم- أن رسول الله ﷺ قال: «الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما».
وقد جاء عن عدد من أصحاب النبي ﷺ أنهم قالوا في القرض الذي يجر منفعة أنه ربا، فمن ذلك ما رواه البخاري والبيهقي واللفظ للبخاري عن سعيد بن أبي برده عن أبيه أن عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- قال له: "إنك في أرض الربا بها فاش، إذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قتٍّ فإنه ربا" وقد رواه عبد الرزاق في مصنفه مختصرا. وبوَّب البيهقي عليه وعلى عدة آثار في معناه بقوله: "باب كل قرض جر منفعة فهو ربا".
وروى البخاري والبيهقي أيضا واللفظ للبيهقي عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي بردة أن عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- قال له: "إنك في أرض الربا فيها فاش، وإن من أبواب الربا أن أحدكم يقرض القرض إلى أجل فإذا بلغ أتاه به وبِسلَّة فيها هدية، فاتَّق تلك السلة وما فيها".
وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي عن زر بن حبيش قال أتيت أُبيَّ بن كعب فقلت: إني أريد العراق أجاهد فقال لي: "إنك تأتي أرضا فاشيا بها الربا، فإذا أقرضت رجلا قرضا فأهدي لك هدية فخذ قرضك واردد إليه هديته".
وروى ابن أبي شيبة أيضا عن زيد بن أبي أنيسة أن عليًا -رضي الله عنه- سُئل عن الرجل يقرض الرجل القرض ويهدي إليه قال: "ذلك الربا العجلان".
وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي عن ابن سيرين قال: أقرض رجل رجلا خمسمائة درهم واشترط عليه ظهر فرسه، فقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "ما أصاب من ظهر فرسه فهو ربا" وفي رواية للبيهقي أن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- سُئل عن رجل استقرض من رجل دراهم، ثم إن المستقرض أفقر المقرض ظهر دابته فقال عبد الله: "ما أصاب من ظهر دابته فهو ربا" قال البيهقي: قال أبو عبيد: "يذهب إلى أنه قرض جرَّ منفعة".
وفي الموطأ عن مالك أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- كان يقول: "من أسلف سلفا فلا يشترط أفضل منه وإن كانت قبضة من علف فهو ربا".
وفي الموطأ أيضا عن مالك أنه بلغه أن رجلا أتى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فقال: يا أبا عبد الرحمن إني أسلفت رجلا سلفا واشترطت عليه أفضل مما أسلفته فقال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "فذلك الربا" وقد رواه عبد الرزاق والبيهقي من طريق مالك.
وروى البيهقي أيضا عن فضالة بن عبيد صاحب رسول الله ﷺ أنه قال: "كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا".
وروى ابن أبي شيبة عن إبراهيم أنه قال: "كل قرض جر منفعة فهو ربا" إبراهيم هو النخعي وهو من فقهاء التابعين.
وفيما ذكرته من الأحاديث والآثار أبلغ رد على من يستحل الربا في القرض ويسميه فائدة.
فصل
وقد ذكر الفتان قول الله -تعالى-: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ثم قال ما نصه: "وذلك لأن هؤلاء قد استعجلوا الأرباح فأتوها من غير طريق التجارة وهو طريق استغلال ظروف المحتاجين للصدقة الذين قلَّ ما يستطيعون وفاء ديونهم وما تراكم عليها من ربا للمرابين، ولذلك فإن هذه المغامرة في استغلال حاجة غير القادر ومضاعفة الربا عليه كلما حل الأجل وعجز عن الوفاء تجعل من هؤلاء المستغلين عند عجز المدين عن الوفاء كالذي يتخبطه الشيطان من المس؛ لأنه قد فقد رأس ماله إلى جانب فقده لأرباحه الاستغلالية بعد أن انتظر هذه الأضعاف المضاعفة بفارغ الصبر. وقد جرى كثير من المفسرين على أن القيام في هذه الآية هو القيام للبعث ولكن لم لا يكون المراد القيام في الدنيا والقيام للبعث والحساب".
والجواب: أن يقال: إن تفسير الفتان لقول الله -تعالى-: ﴿الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ تفسير غريب جدًا. وقد جمع فيه بين القول في القرآن بغير علم وبين المخالفة لإجماع المفسرين على أن المعنى في الآية لا يقومون من قبورهم في البعث إلا كالمجنون.
فأما القول في القرآن بغير علم فهو حرام وكبيرة من الكبائر بدليل ما جاء من الوعيد الشديد عليه، وذلك فيما رواه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير والبغوي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وفي رواية للترمذي وابن جرير والبغوي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ أنه قال: «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» قال الترمذي: "هذا حديث حسن"، قال البغوي: قال شيخنا([7]) الإمام: "قد جاء الوعيد في حق من قال في القرآن برأيه وذلك فيمن قال من قِبل نفسه شيئا من غير علم". انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من فسَّر القرآن والحديث وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفترٍ على الله ملحد في آيات الله محرِّف للكلم عن مواضعه". انتهى.
وأما إجماع المفسرين على أن المعنى لا يقومون من قبورهم في البعث إلا كالمجنون فقد ذكره ابن جزي في تفسيره، وقال ابن عطية في تفسيره: "إن هذا التأويل مجمع عليه... قال: ويقويه أن في قراءة عبد الله بن مسعود لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم". وقال الماوردي في تفسيره: "يكون ذلك في القيامة علامة لآكل الربا في الدنيا".
وقال النسفي: "المعنى أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين، تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف"، وروي ابن جرير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "ذلك حين يبعث من قبره"، وقال ابن عطية في تفسيره: "قال ابن عباس -رضي الله عنهما- ومجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد، معنى قوله: (لا يقومون) من قبورهم في البعث يوم القيامة، قال بعضهم يجعل معه شيطان يخنقه، وقالوا: كلهم يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتا عند جمع المحشر". انتهى.
وقد ذكرت هذه الأقوال في الفائدة الرابعة من فوائد الآيات الدالة على تحريم الربا، وإنما أعدتُ ذكرها في هذا الموضع تنبيها على جراءة الفتان على القول في القرآن بغير علم وجراءته على مخالفة أهل العلم من الصحابة والتابعين.
وأما قوله: وقد جرى كثير من المفسرين على أن القيام في هذه الآية هو القيام .....
للبعث، ولكن لم لا يكون المراد القيام في الدنيا والقيام للبعث والحساب.
فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: قد تقدم ذكر الإجماع من المفسرين على أن المراد بالقيام المذكور في الآية هو القيام من القبور يوم القيامة وما خالف الإجماع فهو مطرح ومردود على قائله.
الوجه الثاني: أن يقال: إن الفتان قد أخطأ في تعبيره حيث نسب القول الذي قد أجمع عليه المفسرون إلى كثير منهم ولم يذكر أنهم قد أجمعوا عليه، وهذا من عدم الأمانة في النقل.
الوجه الثالث: أن يقال: إن الفتان قد تعرض للوعيد الشديد حيث قال في القرآن برأيه وذلك في قوله: "ولكن لم لا يكون المراد القيام في الدنيا والقيام للبعث والحساب" وكان ينبغي له أن يقتصر على ما جاء عن ابن مسعود وابن عباس -رضي الله عنهم- لأن كلا منهما حبر من أحبار هذه الأمة وترجمان للقرآن.
فأما ابن مسعود -رضي الله عنه- فقد روي ابن أبي حاتم عنه أنه كان يقرأ ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ يَومَ القيامَةِ﴾.
وأما ابن عباس -رضي الله عنهما- فقد روى ابن جرير عنه أنه قرأ ﴿لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ قال: ذلك حين يبعث من قبره، وقد قال بهذا القول جمع من التابعين وتقدم ذكر ذلك عنهم. وتقدم أيضا ذكر الإجماع عليه.
وفي قراءة ابن مسعود وقول ابن عباس أبلغ رد على الفتَّان وعلى غيره من المتكلفين الذين يقولون في القرآن بآرائهم ويتأولونه على غير تأويله.
الوجه الرابع: أن يقال: لو كان القيام المذكور في الآية يراد به القيام في الدنيا كما يراد به القيام للبعث لكان أهل البنوك ومن يعاملهم بالمعاملات الربوية مجانين يخنقون أو كالمجانين الذين يتخبطهم الشيطان من المس، والواقع شاهد بسلامة أبدانهم من التعذيب بهذا في الدنيا، ولكنه مُدَّخر لهم في الدار الآخرة حين يبعثون من قبورهم عقوبة لهم وتمقيتا عند جمع المحشر.
فصل
وقال الفتان: "يقول الأستاذ الشيخ محمد عبده، قال ابن عطية في تفسيره المراد تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يسرع بحركات مختلفة قد جُنَّ، ثم قال أقوال: وهذا هو المتبادر ولكن ذهب جمهور المفسرين إلى خلافه وقالوا إن المراد بالقيام القيام من القبر عند البعث وأن الله -تعالى- جعل من علامة الذين يأكلون الربا يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين. ورووا ذلك عن ابن عباس وابن مسعود، وبعد أن وهَّن هذا الرأي من جهة ضعف نقله قال: أما ما قاله ابن عطية فهو ظاهر في نفسه، فإن أولئك الذين فتنهم المال واستعبدهم حتى ضريت نفوسهم بجمعه وجعلوه مقصودا لذاته وتركوا لأجل الكسب به جميع موارد الكسب الطبيعي، تخرج نفوسهم عن الاعتدال الذي عليه أكثر الناس، ويظهر ذلك في حركاتهم. وهذا هو وجه الشبه بين حركاتهم وبين تخبط الممسوس، فإن التخبط من الخبط وهو ضرب غير منتظم، وكخبط العشواء، وبهذا يمكن الجمع بين ما قاله ابن عطية وما قاله الجمهور، ويمضي الشيخ محمد عبده قائلا: ذلك أنه إذا كان ما شنع به على المرابين من خروج حركاتهم عن النظام المألوف هو أثر اضطراب نفوسهم وتغير أخلاقهم كان لابد أن يبعثوا عليه فإن المرء يبعث على ما مات عليه لأنه يموت على ما عاش عليه".
والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن هذا الكلام الذي ساقه الفتان ونسبه لمحمد عبده ليس هو من كلام محمد عبده وإنما هو من كلام رشيد رضا في تفسيره المسمى (تفسير المنار) وكان ينبغي للفتان أن ينسبه لقائله، وقد كان رشيد رضا يعتمد في بعض المواضع من تفسيره على كلام أستاذه محمد عبده، وكان ينسب إليه الكلام الذي ينقله عنه فيقول قال الأستاذ الإمام كذا وكذا. وفي هذا الموضع الذي نقل منه الفتان ما نقل لم ينسبه رشيد رضا إلى محمد عبده فدلَّ على أنه من كلام رشيد رضا وليس من كلام محمد عبده، وقد حصل في نقل الفتان إسقاط لبعض الكلمات الموجودة في كلام رشيد رضا وهي كلمات قليلة ولكن حذفها يخل بالمعنى فلهذا ألحقتها في مواضعها لتستقيم العبارة.
الوجه الثاني: أن أقول: قد ذكرت في الفصل الذي قبل هذا الفصل ما ذكره ابن عطية في تفسيره عن ابن عباس وجماعة من التابعين أنهم قالوا: "معنى قوله: ﴿لَا يَقُومُونَ﴾ من قبورهم في البعث يوم القيامة، قال بعضهم: يجعل معه شيطان يخنقه، ...................
وقالوا كلهم يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتا عند جمع المحشر، قال ويقوى هذا التأويل المجمع عليه أن في قراءة عبد الله بن مسعود ﴿لَا يَقُومُونَ يوم القيامة إِلَّا كَمَا يَقُومُ﴾" هذا كلام ابن عطية وهو موافق لأقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين في معنى الآية الكريمة، ثم إن ابن عطية أبدى في ألفاظ الآية احتمالا مخالفا لما أجمع عليه المفسرون فقال ما نصه: "وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون؛ لأن الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه، وهذا كما تقول لمسرع في مشيه مخلط في هيئة حركاته إما من فزع أو غيره قد جُن هذا، لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود، وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل". انتهى كلام ابن عطية. وبما صرح به من تضعيف هذا الاحتمال يظهر ما في كلام رشيد رضا من التعمية والتلبيس، وذلك أنه غير كلام ابن عطية وساقه بلفظ غير اللفظ الموجود في تفسير ابن عطية، وإنما فعل هذا لِتَتَّفِق عبارته مع ما نمَّقه من الكلام الذي خالف فيه أقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين في معنى الآية الكريمة، وحاصل كلامه يدور على القول في معنى الآية بالرأي واطراح الأقوال المأثورة عن السلف.
الوجه الثالث: أن يقال: إن رشيد رضا لم يؤد الأمانة في نقله كلام ابن عطية؛ لأنه غيَّر أسلوبه وساقه على سبيل الجزم بأن المراد تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع وهذا مخالف لمقتضى كلام ابن عطية؛ لأن ابن عطية إنما ذكره احتمالا ولم يذكره على سبيل الجزم بأنه المراد، ثم إن رشيد رضا لم يذكر أن ابن عطية تعقب الاحتمال الذي أبداه في ألفاظ الآية بالتضعيف. وهذا من التعمية على من لا علم عندهم وإيهامهم أن ابن عطية قد اعتمد على الاحتمال الذي أبداه في ألفاظ الآية الكريمة ورضي به.
الوجه الرابع: أن يقال: إنه لا حقيقة لما ذكره رشيد رضا عن المرابين من خروج نفوسهم عن الاعتدال الذي عليه أكثر الناس وأن ذلك يظهر في حركاتهم، وأن حركاتهم خارجة عن النظام المألوف، وما ذكره أيضا من اضطراب نفوسهم وتغير أخلاقهم، فكل هذا لا وجود له في المرابين، والواقع شاهد بأنه ليس في أحوالهم وأبدانهم ما يتميزون به عن غيرهم من الناس، وشاهد بأن أبدانهم سالمة من كل ما وصفهم به رشيد رضا، ومن توقف في هذا فليدخل البنوك ولينظر إلى أهلها وإلى من يعاملهم بالمعاملات الربوية حتى يعلم يقينا أنه لا وجود لشيء مما وصفهم به رشيد رضا.
الوجه الخامس: أن يقال: إن كلام رشيد رضا مبني على أمرين خطيرين؛ أحدهما تأويل الآية بالرأي وتجريدها مما ذكر فيها من الوعيد للمرابين إذا بعثوا يوم القيامة بالجنون أو بما يشبه الجنون. وذلك أنه ذكر عن الذين فتنهم المال واستعبدهم أن نفوسهم تخرج عن الاعتدال الذي عليه أكثر الناس وأن ذلك يظهر في حركاتهم، وأنه إذا كان ما شنَّع به على المرابين من خرج حركاتهم عن النظام المألوف وأثر اضطراب نفوسهم وتغير أخلاقهم كان لابد أن يبعثوا عليه فإن المرء يبعث على ما مات عليه لأنه يموت على ما عاش عليه. هذا كلامه، وهو ظاهر في نفي الوعيد عن المرابين إذا بعثوا يوم القيامة بالجنون أو بما يشبه الجنون وأنهم إنما يبعثون على ما عاشوا عليه من خروج حركاتهم عن النظام المألوف وأثر اضطراب نفوسهم وتغير أخلاقهم، وحاصل كلامه أن المرابين يكونون بعد البعث على الحال التي كانوا عليها في الدنيا. وهذا من تحكيم الرأي في معنى الآية وإنكار ما جاء فيها من الوعيد للمرابين. وما أشد الخطر في هذا. وقد قال الإمام الحافظ عبد الرحمن بن مندة: "التأويل عند أصحاب الحديث نوع من التكذيب".
الأمر الثاني مخالفة إجماع المفسرين على أن المعنى لا يقومون من قبورهم في البعث إلا كالمجنون، وقد تقدم ذكر هذا الإجماع في كلام ابن جزي وابن عطية. ومخالفة الإجماع ليس بالأمر الهين. وإنه لينطبق على رشيد رضا ما ذكره محمود شلتوت في كلامه الذي تقدم ذكره قريبا عن بعض الباحثين المولعين بتصحيح التصرفات الحديثة أنهم إنما يفعلون ذلك ليعرفوا بالتجديد وعمق التفكير.
وقال الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي في كتابه المسمى بـ(المسائل الكافية): "إن الذي تخرجوا على الشيخ جمال الدين الأفغاني والذين تخرجوا عمن تخرج عنه يفسرون القرآن برأيهم وينكرون بعض ما ثبت في الشرع ويعتمدون على أقوال الكفار، ويهجرون قول الله وقول رسوله ﷺ وقول الراسخين في العلم من المسلمين. وعندهم كلام الله -تعالى- ككلام البشر يتصرفون فيه بغير علم فيحق عليهم الوعيد الوارد في حديث سيد البشر ﷺ وهو: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» رواه الترمذي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- حديث صحيح، وروى الترمذي وغيره: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» حديث حسن".
وقال الشيخ محمد بن يوسف أيضا في كتابه المذكور: "إن الشيخ محمد عبده وأتباعه تكلموا في تفسير كلام الله على الأسلوب الجديد المخترع المؤيد بالتخمين العقلي وبالآلات الكشافة". انتهى.
فهذا كلام رجل عالم بمحمد عبده ورشيد رضا وغيره من أتباع محمد عبده، وقد كان الشيخ محمد بن يوسف معاصرًا لهم وقد عاش معهم في بلادهم وعرفهم حق المعرفة فلهذا نبَّه على أسلوبهم في تفسير القرآن وأنهم يفسرونه برأيهم وتخمينهم. ومن نظر في تفسيرهم لبعض الآيات – وكان نبيهًا ولم يكون إمَّعة – علم يقينا صحة ما قاله فيهم محمد بن يوسف وما وصفهم به، فليحذر المؤمن الناصح لنفسه من أقوالهم التي اعتمدوا فيها على مجرد الرأي، ومن أقوالهم التي خالفوا فيها أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم الأئمة المتمسكين بالآثار.
الوجه السادس: أن يقال لأهل البنوك وغيرهم من أكلة الربا: لا تغتروا بحلم الله عنكم في الدنيا، ولا يغرنكم الفتان بجعجعته وبما نقله عن رشيد رضا من الكلام المتضمن تهوين شأن الربا ونفي ما جاء فيه من الوعيد بالجنون أو بما يشبه الجنون للذين يأكلون الربا إذا بعثوا من قبورهم فإن هذا الوعيد حق لا شك فيه. وأما كلام الفتان ورشيد رضا في تهوين شأن الربا فهو باطل وضلال عن الحق، وكيف يرضى ذوو العقول منكم أن يوقعوا أنفسهم في الكبيرة الموبقة، أي المهلكة لمن أوقع نفسه فيها؟! وكيف يرضون أن تلحقهم لعنة الله ولعنة رسوله ﷺ؟! وكيف يأمنون من العقوبات التي أعدت للمرابين في البرزخ وبعد البعث من القبور؟! وكيف يرضون أن يكون مآلهم إلى نار جنهم؟! إن العاقل لا يرضى لنفسه بأدنى شيء من الأذى، فكيف يرضى لها بالعقوبات الشديدة وبالخلود في نار جهنم؟! فعليكم أن تبادروا بالتوبة الصادقة قبل أن يحول الموت بينكم وبينها فتندموا حين لا ينفع الندم.
فصل
وقال الفتان: "لم يرد تعيين الأموال الربوية في القرآن الكريم، وإنما ورد تعيينها في الحديث عن النبي ﷺ رواه محمد بن أبي حنيفة عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله ﷺ أن قال: «الذهب بالذهب مثلا بمثل يدًا بيد والفضل ربا، والفضة بالفضة مثلا بمثل يدًا بيد والفضل ربا، والحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدًا بيد والفضل ربا، والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا، والشعير بالشعير مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا، والتمر بالتمر مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا، فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد»".
والجواب: أن يقال: قد ثبتت النصوص عن النبي ﷺ بتعيين ستة أشياء مما يجري فيه الربا؛ وهي الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح، وقد تقدم ذكرها في حديث أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، ومثله في حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-، وجاء أيضا عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة وبلال -رضي الله عنهم- نحو ذلك، وقد تقدمت أحاديثهم فلتراجع.
فأما الحديث الذي أورده الفتان فإنه حديث منقطع الإسناد ولم يعزه إلى شيء من كتب الحديث حتى يرجع إليه وينظر في رجاله، وقد ذكر أنه رواه محمد بن أبي حنيفة، وهذا الاسم غير موجود في أسماء الضعفاء والمتروكين والوضاعين فضلا عن أن يكون موجودا في أسماء الثقات. وقد ذكر الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد): "محمد بن حنيفة بن محمد بن ماهان أبا حنيفة القصبي الواسطي وذكر أنه أملى في سنة سبع وتسعين ومائتين"، وذكر عن الدارقطني أنه قال: "ليس بالقوي". وذكره الذهبي في كتاب (المغنى في الضعفاء) وفي (ميزان الاعتدال) وذكر قول الدارقطني أنه ليس بالقوي. وذكره ابن حجر في (لسان الميزان) وقال أنه كان موجودا في حدود سنة ثلاثمائة.
وإذا علم هذا فليس من المعقول أن يروي عن عطية العوفي؛ لأن عطية كان في المائة الأولى ومات في سنة إحدى عشرة ومائة. ولو فرضنا أن الحديث روي بإسناد متصل إلى عطية العوفي فإنه يكون مردودا بعطية؛ لأن الأئمة قد تكلموا فيه وضعفه غير واحد منهم، ولو صح لكان حجة على الفتان لأن فيه نصا على أن الفضل في بيع الجنس بجنسه من الأنواع الستة ربا، وما ثبت تعيينه في السنة فهو مثل ما جاء تعيينه في القرآن ويجب العمل به كما يجب العمل بما جاء في القرآن. والدليل على هذا قول الله -تعالى-: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾، وقول النبي ﷺ «ألا وإن ما حرم رسول الله فهو مثل ما حرم الله» رواه الدارمي والترمذي وابن ماجة والحاكم عن المقدام بن معد يكرب -رضي الله عنه- وقال الترمذي: "حسن غريب"، وصححه الحاكم وأقره الذهبي.
فصل
وذكر الفتان عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وطائفة من الصحابة أنهم قصروا الربا على الذي كان معروفا في زمن الجاهلية. وقد كرر الفتان نقل ذلك عن ابن عباس.
والجواب: أن يقال: إن ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره من الذين كانوا يقولون إنما الربا في النسيئة قد رجعوا عن أقوالهم ووافقوا الجماعة، وقد ذكرت الآثار الواردة في رجوعهم في أثناء الكتاب فلتراجع([8]) ففيها أبلغ رد على الفتان.
ويقال أيضا على سبيل الفرض والتقدير لو أن ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره ممن قالوا إنما الربا في النسيئة لم يرجعوا عن هذا القول فإن قولهم مردود بالسنة الثابتة عن النبي ﷺ أنه نهى عن بيع الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل سواء بسواء يدًا بيد، ونهى أن يشف بعضها على بعض، وقال في بيع الفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثل ذلك وقال: «من زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» وقد ذكرت الأحاديث الواردة في ذلك في أثناء الكتاب فلتراجع([9]) فإنها حجة على من خالفها، وقد قال ابن عبد البر: "رجع ابن عباس أو لم يرجع، في السنة كفاية عن قول كل أحد ومن خالفها رد إليها، قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: ردوا الجهالات إلى السنة". انتهى. وقال ابن عبد البر أيضا: "ولم يتابع ابن عباس على قوله في تأويله حديث أسامة أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من بعدهم من فقهاء المسلمين إلا طائفة من المكيين أخذوا ذلك عنه وعن أصحابه، وهم محجوجون بالسنة الثابتة التي هي الحجة على من خالفها وجهلها، وليس أحد بحجة عليها". انتهى.
فصل
وزعم الفتان أن الربا الذي كان معروفا في الجاهلية هو الذي نزل فيه القرآن.
والجواب: أن يقال: إن نصوص القرآن عامة فيدخل في عمومها ربا الفضل وربا النسيئة. فما جاء في الآية الأولى من الوعيد لأكلة الربا بأنهم لا يقومون – يعني يوم القيامة – إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، فهو عام لربا الفضل وربا النسيئة، وما جاء فيها أيضا من الإنكار على من سوَّى بين البيع والربا فهو عام لربا الفضل وربا النسيئة، وما جاء فيها أيضا من النص على تحريم الربا فهو عام لربا .............................
الفضل وربا النسيئة. وما جاء فيها أيضا من الوعيد بالنار لمن عاد إلى استحلال الربا فهو عام لربا الفضل وربا النسيئة. وما جاء في الآية الثانية من النص على محق الربا فهو عام لربا الفضل وربا النسيئة. وما جاء في الآية الرابعة من الأمر بترك الربا فهو عام لربا الفضل وربا النسيئة، وما جاء في الآية الخامسة من الإيذان بالحرب من الله ورسوله لمن لم يترك الربا فهو عام لربا الفضل وربا النسيئة، وما جاء فيها أيضا من أن المرابين ليس لهم إلا رؤوس أموالهم وليس لهم أن يأخذوا زيادة عليها فهو عام لربا الفضل وربا النسيئة.
فإن قيل: إن بعض المفسرين ذكروا في الكلام على قول الله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ أنها نزلت في ربا أهل الجاهلية وهو النسيئة وذكروا مثل ذلك في الكلام على قوله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾.
فالجواب: أن يقال: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر عند الأصوليين. فاللفظ في كل من الآيتين عام كما هو عام في الآيتين الأوليين من سورة البقرة. والعموم في الآيات الأربع بتناول ربا أهل الجاهلية وربا أهل الإسلام على حد سواء، وقد جاءت النصوص الصحيحة الصريحة عن النبي ﷺ بتحريم ربا الفضل وربا النسيئة على حد سواء. وقد تقدم بيان ذلك في الروايات عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- وما ذكر بعدها من الأحاديث. وفي بعضها النص على أن من زاد أو استزاد فقد أربى، والنص أيضا على أن الآخذ والمعطي فيه سواء، وفي رواية في الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن بلالا لما باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب قال النبي ﷺ عند ذلك: «أَوَّه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل» وفي رواية: «أوه عين الربا لا تقربه» وفي رواية: «هذا الربا فردوه» والروايات بنحو هذا كثيرة، وهي مذكورة فيما تقدم. وقد قال الله -تعالى-: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾، وقال -تعالى-: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾، وقال -تعالى-: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ ففي الآيتين من سورة النحل دليل على أن ما جاء في السنة من النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة فهو من البيان لما جاء مجملا في القرآن. وفي الآيتين من سورة النجم دليل على أن ما ثبت عن النبي ﷺ من النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة فهو مما أنزل عليه بالوحي.
فصل
وذكر الفتان أن فريقا من الفقهاء وعلى رأسهم ابن رشد وابن القيم حاولوا أن يكسروا من حدة تطرف المتشددين في الربا، فميزوا بين ربا النسيئة وجعلوه هو الربا الجلي أو الربا القطعي وهو حرام لذاته وبين ربا الفضل وجعلوه ربا خفيا أو ربا غير قطعي وهو حرام أيضا لكن لا لذاته بل لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة فتحريمه هو إذا من باب سد الذرائع. ثم تأكد هذا الاتجاه باتجاه أكثر منه تضييقًا لمنطقة الربا فجعل كلا من ربا الفضل وربا النسيئة الواردين في الحديث الشريف محرمين لا لذاتهما بل سدا للذرائع، وربا الجاهلية هو وحده المحرم لذاته.
والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الذين قالوا بتحريم ربا الفضل وربا النسيئة في الأصناف الستة المذكورة في حديث أبي سعيد الخدري وحديث عبادة بن الصامت وغيرهما من الأحاديث التي تقدم ذكرها إنما قالوا ذلك عملا بالنصوص الثابتة عن النبي ﷺ في ذلك، وهؤلاء قد أحسنوا غاية الإحسان حيث أنهم قد تمسكوا بالسنة وقابلوا أقوال رسول الله ﷺ بالقبول والتسليم، وليسوا بمتطرفين ولا متشددين كما قد زعم ذلك الفتان ظلما وزورا، وإنما المتطرف في لحقيقة هو الفتان الذي يحاول تحليل الربا في البنوك ولا يبالي بمخالفة الآيات والأحاديث الواردة في تحريمه وترتيب الوعيد الشديد عليه، ولا يبالي أيضا بمخالفة إجماع المسلمين على تحريم الربا وعلى أنه من الكبائر.
الوجه الثاني: أن يقال: قد تقدم في ذكر الإجماع على تحريم الربا ما جاء في جامع الترمذي بعد ذكر حديث أبي سعيد الخدري الذي جاء فيه أن رسول الله ﷺ قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل والفضة بالفضة إلا مثلا بمثل لا يشف بعضه على بعض، ولا تبيعوا منه غائبا بناجز» قال الترمذي: "والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي ﷺ وغيرهم، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق". انتهى.
وقال ابن المنذر: "أجمع علماء الأمصار؛ مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة، وسفيان الثوري ومن وافقه من أهل العراق، والأوزاعي ومن قال بقوله من أهل الشام، والليث بن سعد ومن وافقه من أهل مصر، والشافعي وأصحابه، وأحمد وإسحاق ........
وأبو ثور والنعمان ويعقوب ومحمد، على أنه لا يجوز بيع ذهب بذهب ولا فضة بفضة ولا بر ببر ولا شعير بشعير ولا تمر بتمر ولا ملح بملح متفاضلا يدا بيد ولا نسيئة، وأن من فعل ذلك فقد أربى والبيع مفسوخ، قال وقد روينا هذا القول عن جماعة من أصحاب رسول الله ﷺ وجماعة يكثر عددهم من التابعين".
قال السبكي في (تكملة شرح المهذب): "وممن قال بذلك من الصحابة أربعة عشر؛ منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وطلحة والزبير – روى مجاهد عنهم – أي الأربعة عشر – أنهم قالوا: الذهب بالذهب والفضة بالفضة وأربوا الفضل، وممن صح ذلك عنه أيضا غير هؤلاء السبعة عبد الله بن عمر وأبو الدرداء. وروي عن فضالة بن عبيد وقد تقدم كلام أبي سعيد وأبي أسيد وعبادة، وقد رويت أحاديث تحريم ربا الفضل من جهة غيرهم من الصحابة، والظاهر أنهم قائلون بها لعدم قبولها للتأويل". انتهى.
وقال ابن عبد البر: "لا أعلم خلافا بين أئمة الأمصار بالحجاز والعراق وسائر الآفاق في أن الدينار لا يجوز بيعه بالدينارين ولا بأكثر منه وزنا ولا الدرهم بالدرهمين ولا بشيء من الزيادة عليه". انتهى المقصود من كلامه.
وإذا علم ما تقدم ذكره عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أكابر علماء الأمصار أنه لا يجوز بيع ذهب بذهب ولا فضة بفضة ولا بر ببر ولا شعير بشعير ولا تمر بتمر ولا ملح بملح متفاضلا يدا بيد ولا نسيئة وأن من فعل ذلك فقد أربى والبيع مفسوخ. وعلم أيضا ما ذكره السبكي عن الأربعة عشر من الصحابة -رضي الله عنهم- ومنه الخلفاء الأربعة أنهم قالوا الذهب بالذهب والفضة بالفضة وأربوا الفضل، وعلم أيضا ما ذكره ابن عبد البر عن أئمة الأمصار بالحجاز والعراق وسائر الآفاق أن الدينار لا يجوز بيعه بالدينارين ولا بأكثر منه وزنا ولا الدراهم بالدرهمين ولا بشيء من الزيادة عليه. فهل يقول الفتان أن من قال بهذه الأقوال من الصحابة والتابعين وأكابر العلماء بعدهم فكلهم موصوفون بالتطرف والتشدد؟! أم ماذا يجيب به عن تهوره في كلامه الذي لم يتثبت فيه ولم يتأمل فيما يترتب عليه من القدح في الصحابة والتابعين وأكابر العلماء بعدهم ورميهم بالتطرف والتشدد من أجل أنهم تمسكوا بأقوال رسول الله ﷺ في تحريم ربا الفضل وقابلوها بالقبول والتسليم؟!
وقد يقال إن صفة التطرف والتشدد التي أطلقها الفتان على من حرَّم ربا الفضل لذاته قد تتناول رسول الله ﷺ؛ لأنه هو الذي حرم ربا الفضل في الأصناف الستة وغلَّظ ......
القول في تحريمه ونصَّ على أن من زاد أو استزاد فقد أربى وأن الآخذ والمعطي فيه سواء، وقال لمن باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب: «أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل» وفي رواية أنه قال: «أوه عين الربا لا تقربه» وفي رواية أنه قال: «هذا الربا فردوه» ففي هذه الروايات الثابتة أن رسول الله ﷺ غلَّظ القول في ربا الفضل وجعله مُحرَّما لذاته وأنكر على من باع به وأمره برد البيع.
وإذا علم هذا فهل يستجيز الفتان أن يطلق الصفة السيئة على النبي ﷺ من أجل ما جاء عنه من التغليظ في ربا الفضل والإنكار على من باع به؟! أم ماذا يجيب به عن التهور الذي لو صدر من عالم بما يلزم على كلامه وما يترتب عليه لكان يحكم عليه بالردة وتجرى عليه أحكام المرتدين؟! وإنه لينطبق على الفتان قول الشاعر:
لقد كان في الإعراض ستر جهالة | ||
غدوت بها من أشهر الناس في البُلْدِ | ||
الوجه الثالث: أن يقال: قد تواترت الأحاديث عن النبي ﷺ بتحريم ربا الفضل، وقد ذكرت منها قريبا من ثلاثين حديثا فلتراجع([10]). وقد جاء في بضعها النهي عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، وفيها النص على أن من زاد أو استزاد فقد أربى وأن الآخذ والمعطي فيه سواء، وفي صحيح مسلم أن رجلا باع صاعين من تمر رديء بصاع من تمر طيب فقال رسول الله ﷺ: «هذا الربا فرده» وفي الصحيحين وغيرهما أن بلالا باع صاعين من تمر رديء بصاع من تمر طيب فقال النبي ﷺ: «أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل» وفي رواية أنه قال: «أوه عين الربا لا تقربه» وفي رواية أنه قال: «إن هذا لا يصلح» ففي هذا النصوص أوضح دليل على أن ربا الفضل في الأصناف الستة محرم لذاته وأنه من الربا الجلي القطعي وليس من الربا الخفي، قال النووي في (شرح مسلم): "معنى عين الربا أنه حقيقة الربا المحرم". انتهى، وفي هذه النصوص أيضا أبلغ رد على من قال إن ربا الفضل غير قطعي وإنه من الربا الخفي وإنه لم يحرم لذاته وإنما حرم سدا للذريعة إلى ربا النسيئة.
الوجه الرابع: أن يقال: إن الفتان قد تقول على ابن رشد حيث زعم أنه كان من الذين حاولوا أن يكسروا من حدة التطرف والتشدد في الربا، وقد نقل جملة من كلامه في (بداية المجتهد) وهو ما زعم أنه يكسر من حدة التطرف والتشدد في الربا وأعرض ........
عما بعده من كلامه الذي ذكر فيه إجماع العلماء على أن الربا صنفان نسيئة وتفاضل وأن الربا في هذين النوعين ثابت عن النبي ﷺ. وهذه الجملة تنقض على الفتان ما تقوَّله على ابن رشد أنه قد حاول الكسر من حدة التطرف والتشدد في الربا. وسيأتي -إن شاء الله تعالى- ذكر الجملة التي نقلها الفتان وذكر الجملة التي لم ينقلها ليعلم المُطَّلعون على ذلك أن الفتان قد افترى على ابن رشد ولم يؤدِّ الأمانة في نقله لبعض كلامه وإعراضه عن بعضه.
وأما ابن القيم -رحمه الله تعالى- فله في ربا الفضل كلام ليس بالجيد وسيأتي التنبيه عليه -إن شاء الله تعالى-.
وأما الاتجاه الذي ذكره الفتان وزعم أنه أكثر تضييقا لمنطقة الربا حيث أنه جعل كلاً من ربا الفضل وربا النسيئة الواردين في الحديث الشريف محرمين لا لذاتهما بل سدا للذرائع. وربا الجاهلية هو وحد المحرم لذاته.
فجوابه: أن يقال: هذا من التحكم في الأحاديث ووضعها على غير مواضعها وجعل الآراء والاتجاهات التي يراها بعض الناس بعقولهم القاصرة ميزانا توزن به أقوال رسول الله ﷺ. وهذا الصنيع عظيم الخطر؛ لأن الله -تعالى- يقول: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا﴾، وقال -تعالى-: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وقال -تعالى-: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، وقال -تعالى-: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، قال الإمام أحمد: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك".
وإذا علم هذا فليعلم أيضا أنه يجب على كل مسلم أن يعظم أقوال الرسول ﷺ غاية التعظيم وأن يقابلها بالقبول والتسليم. وليحذر أشد الحذر من التهاون بها وجعلها تابعة لأقوال الناس وآرائهم واتجاهاتهم فإنه لا قول لأحد مع رسول الله ﷺ. وكل قول أو رأي أو اتجاه خالف قول النبي ﷺ فهو مردود على صاحبه كائنا من كان. وإذا كان النبي ﷺ قد وضع ربا الجاهلية وقال للمرابين لكم رؤوس أموالكم فإنه أيضا قد نهى أمته عن ربا الفضل وربا النسيئة في الأصناف الستة وهي الذهب .........................................
والفضة والبر والشعير والتمر والملح ونص على أن من زاد أو استزاد فقد أربى وأن الآخذ والمعطي فيه سواء، ونهى عن بيع الذهب بالذهب والورق بالورق إلا وزنًا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، وقال: «لا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائبا بناجز» وغلَّظ في الإنكار على من باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب وقال: «أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل» وفي رواية أنه قال: «أوه عين الربا لا تقربه» وفي رواية أنه قال: «هذا الربا فردوه» وفي رواية أنه قال: «إن هذا لا يصلح» فهذه النصوص الصريحة تعادل النصوص في وضع ربا الجاهلية وتزيد عليها بالتغليظ في الإنكار على من أربى في بيع التمر الرديء بالتمر الطيب والأمر برد البيع. وفي كل نص من هذه النصوص أبلغ رد على الاتجاه الذي ذكره الفتان وزعم أن فيه تضييقًا لمنطقة الربا. وقد ذكرتُ فيما تقدم قريبا من ثلاثين حديثا في النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة فلتراجع([11]) ففي كل حديث منها أبلغ رد على الاتجاه الذي ذكره الفتان وزعم أن فيه تضييقا لمنطقة الربا.
فصل
قال الفتان: "فنحن إذًا نواجه– إذا أضفنا اتجاه ابن عباس– اتجاهات ثلاثة متدرجة في التضييق من منطقة الربا. أقلها تضييقا لهذه المنطقة هو اتجاه ابن رشد وابن القيم الذي يميز ما بين ربا الفضل وربا النسيئة. فالأول هو ربا خفي، والثاني هو الربا الجلي، ثم يتلوه في التضييق الاتجاه الثاني وهو الذي يميز ما بين الربا الوارد في الحديث الشريف والربا الوارد في القرآن الكريم، فالثاني دون الأول هو الربا الجلي، وأشد الاتجاهات تضييقا لمنطقة الربا هو الاتجاه الثالث الذي كان عبد الله بن عباس يتزعمه وهو لا يعتمد إلا بالربا الوارد في القرآن الكريم وهو ربا الجاهلية فهو وحده الذي يحرمه ولا يحرم غيره من ضروب الربا فضلا كان أو نسيئة".
والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: كل هذه الاتجاهات مردودة بالنصوص الثابتة عن النبي ﷺ أنه كان ينهى عن ربا الفضل وربا النسيئة في الأصناف الستة وهي الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح. وقد ذكرتُ الأحاديث الواردة في ذلك في أول الكتاب فلتراجع([12]). وقد جاء في بعضها النص على ...........................
أن من زاد أو استزاد فقد أربى وأن الآخذ والمعطي فيه سواء، وجاء في بعضها الأمر برد البيع والتغليظ في الإنكار على من أربى في بيع التمر الرديء بالتمر الطيب. ولا قول لأحد مع رسول الله ﷺ. ومن عارض شيئا من أقواله ﷺ بآراء الناس واتجاهاتهم فهو على شفا هلكة.
الوجه الثاني: أن يقال: إن ابن رشد ليس له اتجاه يخالف ما جاء في الأحاديث الصحيحة وما أجمع عليه العلماء من أن الربا صنفان نسيئة وتفاضل وأن الربا في هذين النوعين ثابت عن النبي ﷺ، وسيأتي نص كلامه في الفصل الذي بعد هذا الفصل -إن شاء الله تعالى-.
الوجه الثالث: أن يقال: قد تقدم في الفصل الذي قبل هذا الفصل ذكر النصوص الدالة على أن ربا الفضل وربا النسيئة في الأصناف الستة من الربا الجلي وليس من الربا الخفي فلتراجع([13]) ففيها أبلغ رد على الفتان.
الوجه الرابع: أن يقال: ما ذكره الفتان عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه كان لا يُحرِّم إلا ربا أهل الجاهلية وحده ولا يحرم غيره من ضروب الربا فضلا كان أو نسيئة فهو غلط على ابن عباس -رضي الله عنهما-؛ لأن ابن عباس -رضي الله عنهما- لم يحصر الربا في ربا أهل الجاهلية كما زعم ذلك الفتان، وإنما كان في أول أمره يفتي بجواز المفاضلة في الصرف إذا كان يدًا بيد ولا يرى الجواز إذا كان ذلك نسيئة، وكان يستدل لرأيه هذا بالحديث الذي جاء فيه: «إنما الربا في النسيئة» حتى أنكر عليه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- وقال له: "ألا تتقي الله؟! إلى متى تؤكل الناس الربا". وفي رواية أنه قال له: "أكلت الربا وأطعمته"، وأنكر عليه أيضا أبو أسيد الساعدي وأغلظ له القول فرجع عن قوله في الصرف ووافق ما عليه الجماعة واستغفر الله وتاب إليه مما كان يفتي به، ثم كان بعد ذلك ينهى عنه أشد النهي، وقد ذكرت الآثار الدالة على رجوعه عن رأيه في الصرف وموافقته الجماعة في الفصل الذي بعد ذكر الإجماع على تحريم الربا فلتراجع([14]) ففيها أبلغ رد على الفتان الذي قد تعلق برأي ابن عباس الذي قد رجع عنه واستغفر الله وتاب إليه منه.
الوجه الخامس: أن يقال: إنه لم يأت في القرآن نص يدل على أن ربا أهل الجاهلية ..
هو الذي ورد تحريمه في القرآن دون غيره من ربا الفضل والنسيئة، وإنما جاءت النصوص في القرآن على وجه العموم فيدخل في عمومها ربا أهل الجاهلية وربا أهل الإسلام فضلا كان أو نسيئة، وقد تقدم بيان هذا في الجواب عن قول الفتان إن الربا الذي كان معروفًا في الجاهلية هو الذي نزل فيه القرآن فليراجع ما تقدم([15]).
فصل
قال الفتان: الإتجاه الذي يميز ما بين ربا النسيئة الجلي وربا الفضل الربا الخفي يقول ابن رشد في بداية المجتهد: "واتفق العلماء على أن الربا يوجد في شيئين، في البيع وفيما تقرر في الذمة من بيع أو سلف أو غير ذلك. فأما الربا فيما تقرر في الذمة فهو صنفان، صنف متفق عليه وهو ربا الجاهلية الذي نهى عنه، وذلك أنهم كانوا يسلفون بالزيادة وينظِرون فكانوا يقولون أَنظِرني أزدك، وهذا هو الذي عناه الرسول -عليه الصلاة والسلام- بقوله في حجة الوداع: «ألا وإن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب» والثاني، ضع وتعجل، وهو مختلف فيه".
والجواب عن هذا من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: قد تقدم قريبا ذكر النصوص الدالة على أن ربا الفضل في الأصناف الستة من الربا الجلي القطعي وليس من الربا الخفي، فلتراجع النصوص([16]) ففيها أبلغ رد على اتجاه الفتان.
الوجه الثاني: أن يقال: إن الفتان قد نقل من كلام ابن رشد ما يتعلق بالربا فيما تقرر في الذمة وترك كلامه في الربا في البيع، وإنما فعل ذلك ليوهم من لا علم لهم أن ابن رشد كان من الذين يقسمون الربا إلى جلي وخفي ويقولون إن الربا الجلي هو ربا النسيئة وإن الربا الخفي هو ربا الفضل، وهذا التقسيم ليس له ذكر في كلام ابن رشد، وقد ذكرت قريبا أن ابن رشد ليس له اتجاه يخالف ما جاء في الأحاديث الصحيحة وما أجمع عليه العلماء من أن الربا صنفان نسيئة وتفاضل وأن الربا في هذين النوعين ثابت عن النبي ﷺ. وقد قال في (بداية المجتهد) بعد الجملة التي نقلها الفتان ما نصه:
"وأما الربا في البيع فإن العلماء أجمعوا على أنه صنفان نسيئة وتفاضل إلا ما روي ...
عن ابن عباس من إنكاره الربا في التفاضل لما رواه عن النبي ﷺ أنه قال: «لا ربا إلا في النسيئة» وإنما صار جمهور الفقهاء إلى أن الربا في هذين النوعين لثبوت ذلك عنه ﷺ".
وقال أيضا: "أجمع العلماء على أن التفاضل والنسأ مما لا يجوز واحد منهما في الصنف الواحد من الأصناف التي نص عليها في حديث عبادة بن الصامت إلا ما حكي عن ابن عباس، وحديث عبادة هو قال سمعت رسول الله ﷺ: «ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربى» فهذا الحديث نص في منع التفاضل في الصنف الواحد من هذه الأعيان. وأما منع النسيئة فيها فثابت من غير ما حديث، أشهرها حديث عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله ﷺ «الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء» فتضمن حديث عبادة منع التفاضل في الصنف الواحد، وتضمن أيضا حديث عبادة منع النسأ في الصنفين من هذه وإباحة التفاضل، وذلك في بعض الروايات الصحيحة، وذلك أن فيها بعد ذكره منع التفاضل في تلك الستة: «وبيعوا الذهب بالورق كيف شئتم يدا بيد والبر بالشعير كيف شئتم يدا بيد» وهذا كله متفق عليه بين الفقهاء إلا البر والشعير". انتهى المقصود من كلام ابن رشد. وفيه كفاية في الرد على الفتان وبيان أنه لم يؤد الأمانة في النقل من كلام ابن رشد؛ لأنه قد اقتصر على نقل الجملة التي يظن أنها تؤيد قوله في تقسيم الربا إلى جلي وخفي. وأعرض عن نقل الجملة التي توضح اتجاه ابن رشد وتدل على أنه لم يكن من الذين يقولون بتقسيم الربا إلى جلي وخفي.
فصل
قال الفتان: "أما ابن القيم فعنده أن ربا النسيئة محرم لذاته تحريم مقاصد، وهو الذي نزل فيه القرآن الكريم وكانت عليه العرب في الجاهلية وهو الربا الذي لا شك فيه كما يقول أحمد بن حنبل. أما ربا الفضل فهو محرم أيضا ولكن تحريم وسائل من باب سد الذرائع لا تحريم مقاصد كما حرم ربا النسيئة".
والجواب: أن يقال: إن الفتان قد نقل بعض كلام ابن القيم في الربا بالمعنى وزاد ....
في قوله في ربا النسيئة "وهو الذي نزل فيه القرآن الكريم" وهذه الزيادة ليست من كلام ابن القيم فوضعها في أثناء كلامه ينافي الأمانة. وسأذكر -إن شاء الله تعالى- كلام ابن القيم بلفظه ملخصًا وأنبه على ما ينبغي التنبيه عليه منه.
قال في (إعلام الموقعين): "الربا نوعان جلي وخفي، فالجلي حُرِّم لما فيه من الضرر العظيم، والخفي حرم لأنه ذريعة إلى الجلي، فتحريم الأول قصدًا، وتحريم الثاني وسيلة، فأما الجلي فربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية مثل أن يؤخر دَيْنه ويزيده في المال وكلما أخره زاد في المال حتى تصير المائة عند آلافًا مؤلفة، وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج – إلى أن قال – وسئل الإمام أحمد عن الربا الذي لا شك فيه فقال: هو أن يكون له دين فيقول له أتقضي أم تربي فإن لم يقضه زاده في المال وزاده هذا في الأجل – ثم ذكر حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- أن النبي ﷺ قال: «إنما الربا في النسيئة» قال: ومثل هذا يراد به حصر الكمال وأن الربا الكامل إنما هو في النسيئة. قال: وأما ربا الفضل فتحريمه من باب سد الذرائع كما صرح به في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ: «لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإن أخاف عليكم الرَّمَا» والرما هو الربا، فمنعهم من ربا الفضل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة". انتهى المقصود من كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- وفيه نظر من أوله إلى آخره.
فأما تقسيمة الربا إلى جلي وخفي وقوله إن الجلي ربا النسيئة – يعني والخفي ربا الفضل فهو تقسيم لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول أحد من الصحابة، بل الدليل يدل على خلافه وهو قول النبي ﷺ: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-. وروى الشافعي وأحمد والدارمي ومسلم وأهل السنن من حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ نحوه. وروى الإمام أحمد ومسلم والنسائي من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ نحوه، وفيه اختصار في أوله، وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل فمن زاد أو استزاد فهو ربا» ففي هذه الأحاديث النص على أن من زاد أو استزاد في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح فقد أربى، وفي رواية مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- فهو ربا، وفي هذا .....................................
النص أوضح دليل على أن الربا في الأصناف الستة من الربا الجلي، ويدل على ذلك أيضا قصة بلال -رضي الله عنه- لما باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب فقال النبي ﷺ عند ذلك «أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل» متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، وفي رواية للنسائي: «أوه عين الربا لا تقربه» قال النووي: "معنى عين الربا أنه حقيقة الربا المحرم"، وفي رواية لمسلم أن رجلا باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب فقال رسول الله ﷺ: «هذا الربا فردوه» وفي رواية أنه قال: «ويلك أربيت» ففي هذه النصوص أوضح دليل على أن ربا الفضل من الربا الجلي، وفيها أبلغ رد على من قال إنه من الربا الخفي.
وأما قوله: إن الخفي حُرِّم لأنه ذريعة إلى الجلي وأن الأول – وهو ربا النسيئة – محرم قصدا، وأن تحريم الثاني – وهو ربا الفضل – تحريم وسيلة، فهو قول لا دليل عليه إلا ما ذكره من حديث أبي سعيد الخدري وهو حديث ضعيف الإسناد كما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى- وبيان أنه من حديث ابن عمر لا من حديث أبي سعيد.
وفي قول النبي ﷺ: «فمن زاد أو استزاد فقد أربى» وفي رواية: «فهو ربا» أوضح دليل على أن ربا الفضل محرم قصدًا وليس تحريمه تحريم وسيلة، ويدل على ذلك أيضا قول النبي ﷺ لبلال: «أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل» وفي رواية: «أوه عين الربا لا تقربه» وقوله في رواية مسلم: «هذا الربا فردوه» وفي رواية أنه قال: «ويلك أربيت» ففي هذه النصوص أبلغ رد على ما في كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- من التهوين لشأن ربا الفضل وجعله من الربا الخفي وقوله إنه لم يحرم قصدًا وإنما حرم تحريم وسيلة، ولو كان الأمر على ما ذهب إليه ابن القيم لكان ينبغي أن يقال: فمن زاد أو استزاد فقد توسل إلى الربا. وأن يقال في قصة بلال: لا تفعل فإنه وسيلة إلى الربا.
وأما ما ذكره عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- أنه سئل عن الربا الذي لا شك فيه فقال: هو أن يكون له دين فيقول له أتقضي أم تربي فإن لم يقضه زاده في المال وزاده هذا في الأجل.
فجوابه: أن يقال: إن هذا القول مما يشك في ثبوته عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-؛ لأن مفهومه يدل على أن ما سوى ربا أهل الجاهلية الذين كانوا يقولون إما أن تقضي وإما أن تربي فكله مشكوك فيه. وهذا المفهوم يأتي على كل ما جاء عن النبي ﷺ في نحو من ثلاثين حديثا من الأحاديث الثابتة عنه ﷺ أنه نهي عن ربا الفضل، وفي بعضها ...........
النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة في الأصناف الستة المذكورة في بعض الأحاديث المروية عن أبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت وأبي هريرة وبلال -رضي لله عنهم-، وقد قال في بعض هذه الأحاديث: «من زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» وقال في بعض الروايات: «فمن زاد أو استزاد فهو ربا» وقال في بعض الروايات: «أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل» وفي رواية أنه قال: «أوه عين الربا لا تقربه» وفي رواية أنه قال: «هذا الربا فردوه» وفي رواية أنه قال: «ويلك أربيت» وقال في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز» وقال في حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء» وفي رواية: «الذهب بالذهب هاء وهاء، والفضة بالفضة هاء وهاء، والتمر بالتمر هاء وهاء، والبر بالبر هاء وهاء، والشعير بالشعير هاء وهاء، لا فضل بينهما» وفي بعض الروايات عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد» ففي هذه النصوص وغيرها مما تقدم ذكره في أول الكتاب([17]) أوضح دليل على أن ربا الفضل وربا النسيئة معلوم باليقين الذي لا يتطرق إليه الشك عند من له أدنى علم وفهم فضلا عن الإمام أحمد الذي قد آتاه الله حظًا وافرا من علم الكتاب والسنة والفقه في الأحاديث، وعلى هذا فيبعد كل البعد أن يقول في ربا الفضل وربا النسيئة الذي ليس على طريقة أهل الجاهلية أنه مما يشك فيه، ولو ثبت هذا عن الإمام أحمد لكان يتعين رده بما جاء في القرآن والسنة من التشديد في الربا على وجه العموم الذي يشمل جميع أنواعه من التفاضل والنسيئة والقرض الذي يجر نفعا. ولا قول لأحد مع قول الله -تعالى- وقول رسوله ﷺ. وفي النصوص أيضا مع ما تقدم من الأحاديث أبلغ رد على مفهوم الرواية التي ذكرها ابن القيم عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-.
وأما حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: «إنما الربا في النسيئة» فقد ذكرت كلام العلماء فيه وقولهم أنه محمول على الأجناس المختلفة فإنه لا ...
ربا فيها من حيث التفاضل وإنما الربا فيها في النسيئة، فليراجع ما تقدم ذكره ففيه رد لقول ابن القيم إنه يراد به حصر الكمال وإن الربا الكامل إنما هو في النسيئة.
ولا يخفي ما في كلام ابن القيم من التهوين لشأن ربا الفضل وذلك مخالف لما ثبت عن النبي ﷺ من التشديد فيه حيث قال: «من زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» وأنكر ﷺ على بلال لما باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب وغلظ في الإنكار عليه فقال: «أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل» وفي رواية أن قال له: «أوه عين الربا لا تقربه» وفي رواية أنه قال: «هذا الربا فردوه» وفي رواية أنه قال: «ويلك أربيت» ففي هذه النصوص أبلغ رد على ما في كلام ابن القيم من التهوين لشأن ربا الفضل وأنه ليس من الربا الكامل.
وأما قوله: وأما ربا الفضل فتحريمه من باب سد الذرائع كما صرح به في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ: «لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الرَّمَا» والرما هو الربا، فمنعهم من ربا الفضل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة.
فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: قد ثبت عن النبي ﷺ من حديث أبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت -رضي الله عنهما- أنه قال: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء» هذا لفظ حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- وفي بعض الروايات عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل فمن زاد أو استزاد فهو ربا» ففي هذا النص أوضح دليل على أن ربا الفضل محرم قصدًا وليس تحريمه من باب سد الذرائع.
ويدل على ذلك أيضا أن رسول الله ﷺ غلظ في الإنكار على بلال لما باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب وقال له: «أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل» وفي رواية أنه قال له: «أوه عين الربا لا تقربه» وفي رواية أنه قال: «هذا الربا فرُدوه» وفي رواية أنه قال: «ويلك أربيت» وقد ذكرت هذه النصوص في أول الكتاب فلتراجع([18]) ففيها أبلغ رد على ما في كلام ابن القيم من التهوين لشأن ربا الفضل وقوله .............
إن تحريمه من باب سد الذرائع.
الوجه الثاني: أن يقال: إن الحديث الذي احتج به ابن القيم لقوله في تحريم ربا الفضل إنه من باب سد الذرائع لم يُرو عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، وإنما هو مروي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعا وموقوفا من قوله ومن قول أبيه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فأما المرفوع فقد رواه الإمام أحمد من طريق أبي جناب عن أبيه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين فإني أخاف عليكم الرماء والرماء هو الربا» إسناده ضعيف جدا لأنه من رواية أبي جناب الكلبي عن أبيه – واسم أبي جناب يحيي بن أبي حية. واسم أبي حية حي – وقد تكلم الأئمة في أبي جناب وفي أبيه، قال علي بن المديني: "كان يحيى بن سعيد يتكلم في أبي جناب وفي أبيه"، وقد ضعَّف أبا جناب كثيرٌ من الأئمة منهم يحيي القطان وابن سعد وعثمان الدارمي والعجلي والجوزجاني ويعقوب بن سفيان وأبو عمار والدارقطني، وقال عمرو بن علي الفلاس:" متروك الحديث"، وقال أحمد: "أحاديثه مناكير"، وقال النسائي: "ليس بالثقة يدلس"، وقال الساجي: "صدوق منكر الحديث"، وقال ابن حبان في كتاب (المجروحين): "كان ممن يدلس على الثقات ما سمع من الضعفاء فالتزقت به المناكير التي يرويها عن المشاهير فوهَّاه يحيي بن سعيد القطان وحمل عليه أحمد بن حنبل حملا شديدًا"، ثم ذكر ابن حبان عن يحيى بن معين أنه قال: "أبو جناب ليس بشيء"، وعنه أيضا أنه قال: "ضعيف ضعيف"، وقال ابن حجر في (تقريب التهذيب): "ضعَّفوه لكثرة تدليسه". وأما أبوه حي فقد تقدم عن يحيي بن سعيد أنه كان يتكلم فيه، واختلف قول الحافظ ابن حجر فيه فقال في موضع من (تقريب التهذيب): "إنه مقبول"، وقال في موضع آخر منه: "إنه مجهول".
ومما ذكرته من كلام العلماء في أبي جناب الكلبي يعلم أن حديثه لا يصلح للاستشهاد به فضلا عن الاحتجاج به.
وأما الموقوف على ابن عمر -رضي الله عنهما- فقد رواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن إبراهيم- يعني ابن علية- حدثنا أيوب عن نافع قال: قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: «لا تبيعوا الذهب بالذهب والورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا شيئا غائبا منها بناجز فإني أخاف عليكم الرماء والرما الربا» قال: فحدَّث .............
رجل ابن عمر هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري يحدثه عن رسول الله ﷺ فما تم مقالته حتى دخل به علي أبي سعيد وأنا معه فقال إن هذا حدثني عنك حديثا يزعم أنك تحدثه عن رسول الله ﷺ أفسمعته فقال: بصر عيني وسمع أذني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا شيئا غائبا منها بناجز» إسناده صحيح على شرط الشيخين، وقد رواه البيهقي في سننه من طريق جرير بن حازم قال: سمعت نافعا يقول: كان ابن عمر يحدث عن عمر -رضي الله عنه- في الصرف ولم يسمع فيه من النبي ﷺ شيئا قال: قال عمر -رضي الله عنه-: «لا تبايعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا مثلا بمثل سواء بسواء ولا تشفوا بعضه على بعض إني أخاف عليكم الرماء» قال: قلت لنافع: وما الرماء؟ قال: الربا، قال: فحدثه رجل من الأنصار عن أبي سعيد الخدري حديثا قال نافع فأخذ بيد الأنصاري وأنا معهما حتى دخلنا على أبي سعيد الخدري فقال: يا أبا سعيد هذا حدث عنك حديث كذا وكذا قال: ما هو؟ فذكره قال: نعم سمع أذناي وبصر عيني قالها ثلاث فأشار بإصبعه حيال عينيه من رسول الله ﷺ وهو يقول: «لا تبايعوا الذهب بالذهب ولا تبايعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل سواء بسواء ولا تبيعوا شيئا منها غائبا بناجز ولا تشفوا بعضه على بعض».
وقد علم من رواية البيهقي أن الموقوف ليس هو من قول ابن عمر -رضي الله عنهما- وإنما رواه عن أبيه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وسيأتي ذلك فيما رواه مالك في الموطأ، وقد تبين من سياق هذا الحديث أن ابن القيم -رحمه الله تعالى- قد وهم في الحديث فجعل الموقوف منه على ابن عمر وعلي أبيه عمر مرفوعا إلى النبي ﷺ وجعله من حديث أبي سعيد الخدري، وحديث أبي سعيد ليس فيه قوله: «فإني أخاف عليكم الرماء، والرماء الربا» وإنما ذلك في الموقوف على ابن عمر -رضي الله عنهما- وعلى أبيه عمر -رضي الله عنه-.
وأما الموقوف على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقد رواه مالك في الموطأ بإسنادين صحيحين أحدهما: عن نافع عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالذهب أحدهما غائب والآخر ناجز، وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره إني أخاف عليكم الرماء، والرماء هو الربا».
الإسناد الثاني: رواه مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا شيئا منها غائبا بناجز، وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره إني أخاف عليكم الرماء، والرماء هو الربا».
وقد تبين من روايتي مالك أن ابن عمر -رضي الله عنها- قد اختصر الموقوف الذي جاء في رواية أحمد والبيهقي فلم يذكر قوله في آخره: «وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره إني أخاف عليكم الرماء، والرماء هو الربا».
قال ابن الأثير في (النهاية في غريب الحديث): "الرماء بالفتح والمد الزيادة على ما يحل، ويروي الإرماء، يقال أرمي على الشيء إرماء إذا زاد عليه كما يقال أربى". انتهى.
وتفسير الرماء بالربا يحتمل أن يكون من كلام نافع؛ لأن في رواية جرير بن حازم عند البيهقي قلت لنافع وما الرماء؟ قال: الربا، ويحتمل أن يكون من كلام ابن عمر -رضي الله عنهما-؛ لأن مالكا رواه من طريق نافع عن ابن عمر ومن طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر وفي كل من الروايتين تفسير الرماء بالربا، ويحتمل أن يكون من كلام عمر -رضي الله عنه-، والله أعلم.
الوجه الثالث: أن يقال: قد جاء في روايتي مالك في الموطأ جملة ليست في رواية أحمد ولا في رواية البيهقي وهي قوله: «وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره إني أخاف عليكم الرماء» وفي هذه الجملة فائدة جليلة: وهي: أن الذي خافه عمر -رضي الله عنه- عليهم من الرماء هو ما يكون بسبب التفرق اليسير بين المتبايعين بقدر ما يلج أحدهما بيته فيكون البيع حينئذ من بيع الغائب بناجز وهو من ربا النسيئة، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال في بيع الذهب بالذهب والورق بالورق: «لا تبيعوا منها غائبا بناجز» متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، وفي رواية لمسلم: «ولا تبيعوا شيئا غائبا منه بناجز إلا يدا بيد» وفي هذا الحديث الصحيح وقول عمر -رضي الله عنه-: «وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره إني أخاف عليكم الرماء» دليل على أن المراد في هذا ربا النسيئة وهو بيع الغائب من الذهب والورق بالناجز – أي الحاضر – وهذا هو الرماء الذي خافه عليهم عمر -رضي الله عنه-. وقد جاء ذلك ..............................
صريحا في قول النبي ﷺ: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء» متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، قال الترمذي: "معنى قوله: «إلا هاء وهاء» يقول يدًا بيد"، وفي النص على أن بيع الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء دليل على اشتراط التقابض في مجلس العقد ومنع التفرق قبله ولو كان التفرق يسيرا بقدر ما يلج أحد المبايعين بيته؛ لأنهما إذا تفرقا قبل التقابض ولو كان التفرق يسيرا فإن البيع حينئذ يكون من الربا، وهو الرماء الذي كان عمر -رضي الله عنه- يخافه عليهم.
الوجه الرابع: أن يقال: إن حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قد اشتمل على جملتين: الأولى: في تحريم ربا الفضل، والثانية: في تحريم ربا النسيئة، وليس فيه ما يدل على أن تحريم ربا الفضل إنما كان لسد الذريعة إلى ربا النسيئة. فأما الجملة الأولى ففيها النهي عن بيع الورق بالورق إلا مثلا بمثل والنهي عن إشفاف بعضها على بعض، والإشفاف هو الزيادة وتفضيل أحدهما على الآخر. وأما الجملة الثانية ففيها النهي عن بيع الغائب من الذهب أو الورق بالناجز منه، والناجز هو المعجل الحاضر وفي سياق الحديث أوضح دليل على أن ربا الفضل محرم قصدًا وليس تحريمه من باب سد الذرائع.
فصل
وقال الفتان: "يترتب على التمييز بين ربا النسيئة وربا الفضل نتيجة هامة، ذلك أنه لما كان ربا النسيئة محرما لذاته تحريم المقاصد، وكان ربا الفضل محرما باعتباره وسيلة تحريم الوسائل لا تحريم المقاصد؛ فإن درجة التحريم في ربا النسيئة أشد منها في ربا الفضل، ومن ثَمَّ لا يجوز ربا النسيئة إلا لضرورة ملجئة كالضرورة التي تبيح أكل الميتة والدم، أما ربا الفضل فيجوز للحاجة، ولا يخفي أن الحاجة أدنى من الضرورة، فكلما اقتضت الحاجة للتعامل بربا الفضل جاز ذلك، ومن ثم تضيق منطقة هذا الربا إذا قامت الحاجة إلى إباحته في بعض صوره بحيث يتبين في هذه الصور أنه لا يمكن اتخاذه ذريعة لربا النسيئة فينتفي سبب التحريم".
والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الفتان قد زل في هذه الجملة زلة خطيرة عليه وعلى من عمل بقوله الباطل، وذلك في زعمه أن ربا النسيئة يجوز للضرورة وأن ربا الفضل يجوز للحاجة، وهذه الزلة العظيمة هي حاصل نتيجة السوء التي استنتجها بعقله الفاسد وزعم أنها نتيجة هامة، وهي في الحقيقة هامة من الهوام المهلكة للدين؛ لأن استحلال الربا ودعاء الناس إلى استحلاله يفتك بالدين أعظم مما تفتك الهوام الأرضية بالأبدان.
وقد قال الجوهري: "الهامة واحدة الهوام ولا يقع هذا الإسم إلا على المخوف من الأحناش"، وقال ابن الأثير: "الهامة كل ذات سم يقتل"، وذكر ابن منظور في (لسان العرب) عن شمر أنه قال: "الهوام الحيات وكل ذي سم يقتل". انتهى.
وإذا علم ما قاله أهل اللغة في تعريف الهامة وأنها الأفاعي والأحناش التي تقتل بسمها فليعلم أيضا أن رسول الله ﷺ قد نصَّ على أن أكل الربا من الموبقات – أي المهلكات – وما كان بهذه الصفة فهو هامة من الهوام التي تفتك بالدين ولا شك أن ضرر الربا على الدين أعظم من ضرر السم القاتل على الأبدان؛ لأن الأبدان إذا أصيبت بسم الأحناش والأفاعي فمآلها في الغالب إلى الموت، والموت لابد منه لكل مخلوق، وقد يكون فيه راحة للميت إذا كان من أولياء الله، وأما أكل الربا فإنه يؤول بأصحابه إلى الهلاك الديني وإلى الشر العظيم في الدنيا وفي البرزخ وفي الدار الآخرة، وبيان ذلك من وجوه: أحدهما: أنه من الكبائر السبع الموبقات – أي المهلكات – الثاني: أن رسول الله ﷺ لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، واللعن هو الطرد والإبعاد من الله ومن الخير. الثالث: أن الله -تعالى- قد آذن المرابين بالحرب منه ومن رسوله ﷺ، وما أشد الخطر في هذا. الرابع: أن كثيرًا من العلماء قد صرحوا بتكفير من استحل الربا ولم يفرقوا بين وجود الضرورة والحاجة وعدم وجودهما. الخامس: ما رواه ابن جرير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: «من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه» وإذا كان هذا قول ابن عباس -رضي الله عنهما- فيمن كان مقيما على الربا فكيف بمن يستحله بالشبهات ويدعو الناس إلى استحلاله، فهذا أولى أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. السادس: أن المرابين يعذبون في البرزخ بالسباحة في النهر الأحمر الذي هو مثل الدم أو هو من الدم ويلقمون الحجارة. السابع: ما روي من حديث أبي هريرة مرفوعًا أن المرابين تكون بطونهم في البرزخ كالبيوت الضخمة فيها الحيات ترى من خارج بطونهم. الثامن: ما روي من حديث أبي سعيد مرفوعا أن المرابين يصفدون في البرزخ وينضدون على سابلة آل فرعون فيتوطؤهم آل فرعون غدوا وعشيًا.
التاسع: أن المرابين إذا بعثوا من قبورهم فإنهم يعذبون بالجنون أو بما يشبه الجنون عقوبة لهم وتمقيتًا عند جمع المحشر. العاشر: وهو أعظمها أن المرابين يحشرون إلى نار جهنم. وكل ما ذكرته ههنا من ضرر الربا على المرابين فقد تقدم بيانه في الآيات والأحاديث الدالة على تحريم الربا وفي فوائدها فليراجع ذلك في أول الكتاب، وليتأمله المؤمن الناصح لنفسه حق التأمل، وليحذر أشد الحذر من نتيجة الفتان وهامّته فإنها من نتائج الضلال ومن الهوام التي تهلك الدين.
الوجه الثاني: أن يقال: إن التحليل والتحريم مردهما إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، فما أحله الله في كتابه أو أحله رسول الله ﷺ فهو حلال، وما حرمه الله في كتابه أو حرمه رسول الله ﷺ فهو حرام، وليس للآراء والاستنتاجات حق في التحليل والتحريم، ومن أحل شيئا أو حرمه بمجرد الرأي والاستنتاج فقد افترى على الله الكذب واستدرك على الله وعلى رسوله ﷺ وقد قال الله -تعالى-: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
وإذا علم هذا فليعلم أيضا أن الفتان قد أقدم على تحليل ربا النسيئة للضرورة وتحليل ربا الفضل للحاجة، ولم يستند في ذلك إلى دليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع، إذ لا وجود لذلك في هذه الأصول الثلاثة، وإنما استند إلى أقوال المتلاعبين بالدين وهم الذين وصفهم الشيخ أحمد شاكر بأنهم يلعبون بالقرآن ويزعمون أن الربا المحرم هو الأضعاف المضاعفة ويجيزون ما بقي من أنواع الربا، وقد تقدم كلامه وكلام الشيخ محمود شلتوت في ذمهم فليراجع ذلك في أثناء الكتاب([19]).
فإن قال الفتان: إنه قد اعتمد في نتيجته المضلة على قول ابن القيم في تقسيم الربا إلى جلي وخفي وأن الجلي هو ربا النسيئة الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية وأن تحريم هذا النوع كان قصدا وتحريم ربا الفضل وسيلة لأنه ذريعة إلى الجلي.
فالجواب: أن يقال: إنه ليس في كلام ابن القيم ما يتعلق به الفتان في تحليل ربا النسيئة للضرورة وتحليل ربا الفضل للحاجة، وقد صرح ابن القيم بتحريم نوعي الربا إلا أنه جعل تحريم ربا الفضل من باب سد الذرائع، وقد ذكرت نصوص الأحاديث الدالة على خلاف قوله في الفصل الذي قبل هذا الفصل فليراجع ذلك([20]).
وفي النصوص الثابتة عن النبي ﷺ كفاية وغنية عن أقوال الناس، ولا قول لأحد مع رسول الله ﷺ.
الوجه الثالث: أن يقال: إن كلام الفتان ينقض بعضه بعضًا؛ لأنه قد صرح في أول نتيجته المضلة أن ربا النسيئة محرم لذاته تحريم المقاصد وأن ربا الفضل محرم تحريم الوسائل باعتباره وسيلة إلى ربا النسيئة، ثم نقض قوله في التحريم فأجاز ربا النسيئة للضرورة وأجاز ربا الفضل للحاجة، وهذا في الحقيقة من التلاعب بالدين إذ ليس في القرآن ولا في السنة ولا في الإجماع ما يدل على جواز ربا النسيئة للضرورة ولا على جواز ربا الفضل للحاجة، بل إن الأدلة من القرآن والسنة والإجماع كلها تدل على تحريم الربا على وجه العموم تحريما مطلقًا وليس فيها استثناء ضرورة ولا حاجة، وقد قال الله -تعالى-: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾.
الوجه الرابع: أن يقال: ما زعمه الفتان من جواز ربا النسيئة للضرورة وجواز ربا الفضل للحاجة فهو مردود بما جاء في القرآن والسنة من التشديد في أكل الربا على وجه العموم، فمن ذلك قول الله -تعالى-: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾، وقوله -تعالى- في آخر الآية: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، وقوله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾.
ومن ذلك قول النبي ﷺ: «اجتنبوا السبع الموبقات» فذكرها ومنها أكل الربا، ومن ذلك أن رسول الله ﷺ لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وقد جاء ذلك في عدة أحاديث صحيحة، ومن ذلك قول النبي ﷺ: «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ستة وثلاثين زنية»، ومن ذلك قول النبي ﷺ: «ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله».
وما جاء في هذا الآيات والأحاديث من التشديد في أكل الربا فهو يعم جميع الحالات كما تدل على ذلك ظواهر الآيات والأحاديث، ومن استثنى حالة الضرورة في ربا النسيئة وحالة الحاجة في ربا الفضل فقد خالف القرآن والسنة وشرع من الدين ما لم يأذن به الله.
الوجه الخامس: أن يقال: إن الضرورة التي تبيح أكل الميتة والدم هي الخوف على
النفس من التلف إذا لم يأكل الميتة أو الدم بقدر ما يسد به رمقه، فمن ألجأته الضرورة إلى الأكل من الميتة أو الدم وهو غير باغ ولا عاد جاز له الأكل ولا إثم عليه، فأما أكل الربا فإن الله -تعالى- حرمه تحريمًا مطلقًا وجاءت السنة بتحريمه على الإطلاق، وما كان بهذه الصفة فليس لأحد أن يستثني منه ضرورة ولا حاجة؛ لأن ذلك من الاستدراك على الله وعلى رسول ﷺ.
الوجه السادس: أن يقال: إن الفتان قد قاس الضرورة التي زعمها في ربا النسيئة على الضرورة التي تبيح أكل الميتة والدم، وهذا قياس فاسد، وهو من جنس قياس الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا، وقد رد الله على الذين قالوا بهذا القول الفاسد فقال –تعالى-: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾، وأما قياس الفتان فإنه يرد عليه بأن الله -تعالى- أباح للمضطرين أن يأكلون من الميتة والدم ولم يبح أكل الربا لضرورة ولا غيرها بل حرمه تحريما مطلقًا وتوعد عليه بأشد الوعيد، وهذا يسد باب التحليل لاستحلال الربا بدعوى الضرورة المزعومة والحاجة وغيرهما من الدعاوى الباطلة.
فصل
وقال الفتان: "الاتجاه الذي يميز ما بين الربا الوارد في القرآن الكريم وهو الربا الجلي، والربا الوارد في الحديث وهو الربا الخفي، وهذا الاتجاه يقسم الربا إلى ثلاثة أنواع؛ الأول: ربا الجاهلية، وهو الربا الذي نزل فيه القرآن الكريم، وخصيصته الأولى هي أن يقول صاحب الدَين للمدين عند حلول أجل الدين: "إما أن تقضي وإما أن تربي". الثاني: ربا النسيئة الوارد في الحديث الشريف، وهو أوسع كثيرا في مداه من ربا الجاهلية، بل ويختلف عنه اختلافا بيِّنا في كثير من الصور فهو بيع المكيل بالمكيل والموزون بالموزون والجنس بجنسه نسيئة لا فورا ولو من غير تفاضل. الثالث: ربا الفضل الوارد في الحديث الشريف وهو بيع المكيل أو الموزون بجنسه متفاضلا".
والجواب: أن يقال: أما تقسيم الربا إلى جلي وخفي فهو تقسيم لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول أحد من الصحابة، وقد ذكرت الرد عليه من نصوص الأحاديث الثابتة عن النبي ﷺ بعد إيراد كلام ابن القيم الذي جاء فيه هذا التقسيم فليراجع([21]) ففيه كفاية في الرد على هذه الجملة من كلام الفتان.
وأما قول: إن ربا الجاهلية هو الذي نزل فيه القرآن الكريم.
فجوابه: أن يقال: إن نصوص القرآن عامة فيدخل في عمومها ربا أهل الجاهلية وربا أهل الإسلام، وقد ذكرت الرد على هذه الجملة عند قول الفتان: إن الربا الذي كان معروفا في الجاهلية هو الذي نزل فيه القرآن فليراجع ذلك فيما تقدم([22])، وليراجع([23]) أيضًا قول الجصاص: "إن قول الله -تعالى-: ﴿وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ قد انتظم تحريم جميع ضروب الربا لشمول الاسم عليها من طريق الشرع، وقال أيضًا اسم الربا في الشرع يعتريه معانٍ أحدها: الربا الذي عليه أهل الجاهلية، والثاني: التفاضل في الجنس الواحد من المكيل أو الموزون، والثالث: النساء". انتهى.
فصل
وقال الفتان: الاتجاه الذي لا يحرم إلا ربا الجاهلية الوارد في القرآن وحده «لا ربا إلا في النسيئة».
"يستدل أصحاب هذا الاتجاه وعلى رأسهم ابن عباس بحديث رواه ابن عباس نفسه عن أسامة أن النبي ﷺ قال: «لا ربا إلا في النسيئة» فهم لا يحرمون ربا الفضل ولا يحرمون إلا ربا النسيئة، وقد ذكر السبكي في تكملة المجموع أن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وعبد الله بن الزبير وأسامة بن زيد وزيد بن أرقم والبراء بن عازب، وروي عن معاوية ما يحتمل موافقتهم، ولف لفهم كثير من التابعين مثل عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة وفقهاء الأمصار – أن هذه الطائفة رأت أن الربا لا يكون إلا في النسيئة وكانوا يجيزون ربا النقد، وقال سعيد بن جبير: صحبت ابن عباس حتى مات فو الله ما رجع عن الصرف، أي قوله بجواز التفاضل في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة مع القبض، وقصر الربا على ربا النسيئة وهو ربا القرآن الكريم، ويقول سعيد: سألت ابن عباس أيضا قبل موته بعشرين ليلة عن الصرف فلم ير فيه بأسًا، وقال الشافعي في كتاب اختلاف الحديث: كان ابن عباس لا يري في دينار بدينارين ولا في درهم بدرهمين يدًا بيد بأسا ويراه في النسيئة، وكذلك عامة أصحابه".
والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الفتان لم يؤد الأمانة فيما نقله عن السبكي، حيث أنه قد غير عبارته عما كانت عليه في (تكملة المجموع) فأفسدها بما أدخل فيها من التغيير والزيادة التي هي محض الكذب، فأما التغيير ففي قوله: "إن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وعبد الله بن الزبير وأسامة بن زيد وزيد بن أرقم والبراء بن عازب وكثيرًا من التابعين مثل عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة وفقهاء الأمصار – أن هذه الطائفة رأت أن الربا لا يكون إلا في النسيئة، وكانوا يجيزون ربا النقد"، هكذا لفَّق الفتَّان هذه العبارة ونسبها إلى السبكي، وقد جمع فيها بين التلبيس على الجهال وبين الكذب على السبكي.
فمن تلبيسه وكذبه أنه ذكر علي سبيل الجزم عن عبد الله بن الزبير وأسامة بن زيد وزيد بن أرقم والبراء بن عازب أنهم كانوا يجيزون ربا النقد ويرون أن الربا لا يكون إلا في النسيئة، وهذا خطأ وكذب لأن السبكي لم يجزم بثبوت ذلك عن هؤلاء الأربعة، وإنما ذكره عنهم رواية بصيغة التمريض.
ومن تلبيسه وكذبه أيضا قوله: "ولف لفهم كثير من التابعين مثل عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة وفقهاء الأمصار"، وهذا خطأ وكذب؛ لأن السبكي إنما ذكر من هؤلاء عطاء بن أبي رباح وحده، ثم قال وفقهاء المكيين، فجاء الفتان الذي يهرف بما لا يعرف فزاد طاوسًا ومن بعده، وغيَّر قوله وفقهاء المكيين فقال وفقهاء الأمصار. وقد تقدم([24]) في ذكر الإجماع على تحريم الربا ما ذكره ابن المنذر عن علماء الأمصار؛ أنهم أجمعوا على أنه لا يجوز بيع ذهب بذهب ولا فضة بفضة ولا بر ببر ولا شعير بشعير ولا تمر بتمر ولا ملح بملح متفاضلا يدا بيد ولا نسيئة وأن من فعل ذلك فقد أربى والبيع مفسوخ، قال: وروينا هذا القول عن جماعة من أصحاب رسول الله ﷺ وجماعة يكثر عددهم من التابعين. انتهى. وقد نقله السبكي في (تكملة شرح المهذب).
وقال الترمذي بعد ذكره حديث أبي سعيد الخدري: أن رسول الله ﷺ قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل والفضة بالفضة إلا مثلا بمثل لا يشف بعضه على بعض ولا تبيعوا منه غائبا بناجز» قال الترمذي: "والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي ﷺ وغيرهم". انتهى المقصود من كلامه.
ونقل السبكي في (تكملة شرح المهذب) عن ابن عبد البر أنه قال: "لا أعلم خلافًا بين أئمة الأمصار بالحجاز والعراق وسائر الآفاق في أن الدينار لا يجوز بيعه بالدينارين ولا بأكثر منه وزنًا ولا الدرهم بالدرهمين ولا بشيء من الزيادة عليه إلا ما كان عليه أهل مكة قديما وحديثًا من إجازتهم التفاضل على ذلك إذا كان يدا بيد، أخذوا ذلك عن ابن عباس"، قال ابن عبد البر: "ولم يتابع ابن عباس على قوله في تأويله حديث أسامة أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من بعدهم من فقهاء المسلمين إلا طائفة من المكيين أخذوا ذلك عنه وعن أصحابه، وهم محجوجون بالسنة الثابتة التي هي الحجة على من خالفها وجهلها وليس أحد بحجة عليها". انتهى.
وفي كلام الترمذي وابن المنذر وابن عبد البر أبلغ رد على تلبيس الفتان وكذبه على فقهاء الأمصار وعلى السبكي.
الوجه الثاني: أن يقال: إن الفتان قد أخطأ فيما نقله من كلام السبكي حيث أنه قد اقتصر على نقل الأقوال التي يرى فيها تأييدًا لاتجاهه الباطل الذي لا يحرم إلا ربا الجاهلية، وأعرض عما ذكره السبكي من الآثار في رجوع ابن عباس وابن مسعود وابن عمر -رضي الله عنهم- عن رأيهم المخالف للسنة. وما ذكره أيضا من التوقف في صحة ما ذكر عن أسامة بن زيد وزيد بن أرقم والبراء بن عازب وعبد الله بن الزبير -رضي الله عنهم- أنهم كانوا يجيزون ربا النقد ويرون أن الربا لا يكون إلا في النسيئة وما ذكره عن معاوية -رضي الله عنه- أنه غير قائل بقول ابن عباس مع شذوذ ما قال به أيضا، ولا يخفي ما في فعل الفتان من التمويه والتلبيس على الجهال.
وقد ذكرت الآثار الدالة على رجوع ابن عباس وابن مسعود -رضي الله عنهما- عن القول بجواز بيع الذهب بالذهب متفاضلا والفضة بالفضة متفاضلا إذا كان يدًا بيد، فليراجع ذلك بعد الفصل الذي ذكر فيه الإجماع على تحريم الربا([25]).
وتقدم في الحديث السادس والثلاثين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه نهى عن ربا الفضل، وتقدم في الحديث الثالث والعشرين عنه أنه قال: «الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما» هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم، وتقدم في الحديث التاسع والثلاثين عنه أنه قال: «الذهب بالذهب وزنا بوزن فمن زاد أو استزاد فقد أربى» والله ما كذب ابن عمر علي رسول لله ﷺ.
قال السبكي في (تكملة شرح المهذب): "وأما ابن عمر فقد تقدم رجوعه في الرواية التي دلت على قوله وأن ذلك في صحيح مسلم واشتهر عنه بعد ذلك من طرق كثيرة قوله بالتحريم ومبالغته في ذلك في روايات صحيحة صريحة، ولم يكن قوله الأول قد اشتهر عنه ولعله لم يستقر رأيه عليه زمانًا، بل رجع عنه قريبًا والله أعلم". انتهى.
وتقدم أيضا في الحديث الحادي والعشرين والحديث الثاني والعشرين عن أبي المنهال – وأسمه عبد الرحمن بن مطعم البناني – قال سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف فكلاهما يقول: «نهى رسول الله ﷺ عن بيع الذهب بالورق دينا» متفق عليه، وفي رواية لمسلم: «ما كان يدا بيد فلا بأس به وما كان نسيئة فهو ربا».
الصرف هو بيع الفضة بالذهب ذكره النووي في (شرح مسلم) عن العلماء وتقدم ذكره في الفائدة السابعة عشرة من فوائد الأحاديث الدالة على تحريم الربا([26])، وفي هذا الحديث الصحيح أبلغ رد على من زعم أن زيد بن أرقم والبراء بن عازب -رضي الله عنهم- كانا من الذين لا يحرمون ربا الفضل ولا يحرمون إلا ربا النسيئة.
وأما أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- فقال السبكي في (تكملة شرح المهذب): "لا أعلم عنه في ذلك شيئا إلا روايته عن النبي ﷺ «إنما الربا في النسيئة» ولا يكفي ذلك في نسبة هذا القول إليه فإنه لا يلزم من الرواية القول بمقتضى ظاهرها لجواز أن يكون معناها عنده على خلاف ذلك أو يكون عنده معارض راجح". انتهى.
وأما عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- فقال السبكي في (تكملة شرح المهذب): "لم أقف على إسناده إليه بذلك". انتهى.
وأما معاوية -رضي الله عنه- فقد تقدم([27]) ما يدل على رجوعه عن رأيه في جواز التفاضل في بيع المصوغ من الذهب أو الفضة بالتبر منه أو العين، قال السبكي في (تكملة شرح المهذب): "وأما معاوية فقد تقدم أنه غير قائل بقول ابن عباس مع شذوذ ما قال به أيضا، والظن به لما كتب إليه عمر -رضي الله عنه- أنه يرجع عن ذلك". انتهى. وبما ذكرته في هذا الوجه تنقطع التعلقات التي تعلق بها الفتان على بعض الصحابة.
الوجه الثالث: أن يقال: قد تواترت الأحاديث عن رسول الله ﷺ أنه كان ينهى عن ربا الفضل، وقد ذكرت في أول الكتاب ثلاثين حديثًا أو قريبا من الثلاثين مما جاء في .....
ذلك فلتراجع([28]) ففيها أبلغ رد على كل من قال بجواز ربا الفضل، وقد قال الطحاوي في كتابه (شرح معاني الآثار): "جاءت السنة بتحريم الربا في التفاضل في الذهب بالذهب والفضة بالفضة وسائر الأشياء المكيلات والموزونات على ما ذكره عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- عن رسول الله ﷺ فكان ذلك ربا حرم بالسنة وتواترت به الآثار عن رسول الله ﷺ حتى قامت بها الحجة" ثم إن الطحاوي أورد أحاديث كثيرة مما جاء في النهي عن ربا الفضل. وقد تقدم ذكرها مع الأحاديث الدالة على تحريم الربا وقال بعد إيرادها: "فثبت بهذه الآثار المتواترة عن رسول الله ﷺ أنه نهى عن بيع الفضة بالفضة والذهب بالذهب متفاضلا وكذلك سائر الأشياء المكيلات التي قد ذكرت في هذه الآثار التي رويناها فالعمل بها أولى من العمل بحديث أسامة، ثم هذا أصحاب رسول الله ﷺ من بعده قد ذهبوا في ذلك إلى ما تواترت به الآثار عن رسول الله ﷺ أيضا"، ثم روي بإسناد صحيح عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: خطب عمر فقال: «لا يشتري أحدكم دينارًا بدينارين ولا درهما بدرهمين ولا قفيزا بقفيزين إني أخشى عليكم الرماء([29]) وإني لا أوتى بأحد فعله إلا أوجعته عقوبة في نفسه وماله».
قال الطحاوي: "فهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يخطب بهذا على منبر رسول الله ﷺ بحضرة أصحابه -رضوان الله عليهم- لا ينكره عليه منهم منكر فدل ذلك على موافقتهم له عليه"، ثم قد روي في ذلك أيضا عن أبي بكر وعلي وغيرهما من أصحاب رسول الله ﷺ ما يوافق ذلك أيضا، ثم روى بإسناد صحيح عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص قال: كتب أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- إلى أمراء الأجناد حين قدموا الشام: «أما بعد فإنكم قد هبطتم أرض الربا فلا تتبايعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن ولا الطعام بالطعام إلا كيلا بكيل» قال أبو قيس: قرأت كتابه.
وروى الطحاوي أيضًا بإسناد صحيح عن أبي صالح السمان قال: كنت جالسا عند علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فأتاه رجل فقال: يكون عندي الدراهم فلا تنفق عني في حاجتي فأشتري بها دراهم تجوز عني وأخصم فيها، قال: فقال علي -رضي الله عنه-: «اشتر بدراهمك ذهبًا ثم اشتر بذهبك ورقا ثم أنفقها فيما شئت».
وروى أيضا بإسناد حسن عن شريح عن عمر -رضي الله عنه- قال: «الدرهم بالدرهم فضل ما بينهما ربا» وروي أيضا بإسناد صحيح عن سالم بن عبد الله بن عمر قال كان عمر وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- ينهيان عن بيع الدرهمين بالدرهم يدًا بيد ويقولان: «الدرهم بالدرهم والدينار بالدينار» وروى أيضا بإسناد حسن عن أبي رافع قال: مرَّ بي عمر بن الخطاب ومعه ورق فقال: «اصنع لنا أوضاحا لصبي لنا» فقلت: يا أمير المؤمنين: عندي أوضاح معمولة فإن شئت أخذت الورق وأخذت الأوضاح، فقال عمر -رضي الله عنه-: «مثلا بمثل» فقلت: نعم فوضع الورق في كفة الميزان والأوضاح في الكفة الأخرى فلما استوى الميزان أخذ بإحدى يديه وأعطى بالأخرى، وروى أيضا بإسناد حسن عن علي بن رباح اللخمي قال: كنا في غزاة مع فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- فسألته عن بيع الذهب فقال: «مثلا بمثل ليس بينهما فضل». انتهى المقصود مما ذكره الطحاوي -رحمه الله تعالى-.
وفيما ذكره عن الصحابة -رضي الله عنهم- أبلغ رد على كل من قال بجواز ربا الفضل ولا سيما كتاب أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- إلى أمراء الأجناد بالنهي عن بيع الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن وعن بيع الورق بالورق إلا وزنا بوزن وعن بيع الطعام بالطعام إلا كيلا بكيل، ولم يذكر عن أحد من أمراء الأجناد ولا عن غيرهم من الصحابة الذين كانوا معهم- وهم كثيرون جدًا- أنهم خالفوا ما جاء في كتاب أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فدل ذلك على موافقتهم له.
وكذلك خطبة عمر -رضي الله عنه- على منبر رسول الله ﷺ بالنهي عن شراء الدينار بالدينارين والدرهم بالدرهمين والقفيز بالقفيزين، والوعيد لمن فعل ذلك بالعقوبة الموجعة في نفسه وماله. ولم يذكر عن أحد من الصحابة أنه أنكر ذلك على عمر -رضي الله عنه- فدل ذلك على موافقتهم له.
وكذلك ما جاء عن علي بن أبي طالب وعمر وابنه عبد الله وفضالة بن عبيد -رضي الله عنهم- من النهي عن المفاضلة في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة.
فهذه الآثار مع ما تقدم من الأحاديث والآثار في الوجه الثاني تقطع جميع التعلقات التي يتعلق بها الفتان وغيره من المفتونين بتجويز ربا الفضل.
الوجه الرابع: أن يقال: إن الله -تعالى- أمر المؤمنين عند التنازع بالرد إليه وإلى رسوله ﷺ فقال -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ........
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾.
قال البغوي: قوله - عز وجل-: "﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ﴾ أي اختلفتم ﴿فِي شَيْءٍ﴾ من أمر دينكم – والتنازع اختلاف الآراء – ﴿فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ أي إلى كتاب الله وإلى رسوله ما دام حيًا وبعد وفاته إلى سنته، والرد إلى الكتاب والسنة واجب إن وجد فيهما فإن لم يوجد فسبيله الاجتهاد". انتهى.
وروى ابن جرير عن مجاهد في قوله: ﴿فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ قال: "﴿إلى الله﴾ إلى كتابه، و ﴿إلى الرسول﴾ إلى سنة نبيه"، وروى أيضا عن ميمون بن مهران وقتادة نحو ذلك.
وقال ابن كثير في قوله -تعالى-: ﴿فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾: "قال مجاهد وغير واحد من السلف: أي إلى كتاب الله وسنة رسوله، وهذا أمر من الله - عز وجل- بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة كما قال -تعالى-: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال -تعالى-: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ﴾ أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ﴾ فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر، وقوله: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ أي التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله والرجوع إليهما في فصل النزاع خير ﴿وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ أي وأحسن عاقبة ومآلا كما قاله السدي وغير واحد". انتهى.
وإذا علم ما جاء في الآية الكريمة من الأمر برد الآراء المتنازع فيها إلى الكتاب والسنة وعلم ما ذكر في الوجه الثالث من تواتر الأحاديث عن النبي ﷺ بالنهي عن ربا الفضل، فليعلم أيضا أنه لا قول لأحد مع رسول الله ﷺ، فكل قول خالف الأحاديث الثابتة عن النبي ﷺ فهو مردود على قائله كائنا من كان، ومن رد شيئا من أقوال الرسول ﷺ أو عارض أقواله بأقوال غيره فهو على شفا هلكة، وقد قال الله -تعالى-: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، وقال -تعالى-: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ ...........................
الْعِقَابِ﴾، وقال -تعالى-: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا﴾، وقال -تعالى-: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
وفي هذه الآيات مع الآية التي فيها الأمر بالرد إلى الله وإلى رسوله عند التنازع أبلغ رد على اتجاه الفتان الذي لا يحرم إلا ربا الجاهلية وحده، وهذا الاتجاه الباطل مؤسس على أربعة أصول من أصول الشر، أحدها: مخالفة أقوال الرسول ﷺ المتواترة عنه في النهي عن ربا الفضل، وقد ورد الوعيد الشديد على ذلك في الآية من سورة النور.
الثاني: استحلال ما نهى عنه رسول الله ﷺ من ربا الفضل، وهذا يدل على عدم التقوى عند الفتان وقلة مبالاته بالعقاب الشديد الذي توعد الله به من لم يأخذ بما جاء عن الرسول ﷺ ولم ينته عما نهي عنه.
الثالث: معصية الله ورسوله ﷺ باستحلال ربا الفضل الذي قد قضى الله بالمنع منه على لسان رسوله محمد ﷺ، ومعصية الله ورسوله ﷺ من الضلال المبين كما هو منصوص عليه في الآية من سورة الأحزاب.
الرابع: النفرة عن تحكيم الرسول ﷺ والتسليم لأقواله المتواترة عنه في النهي عن ربا الفضل، وهذا يدل على النفاق وعدم الإيمان كما تدل على ذلك الآية من سورة النساء وهي قوله -تعالى-: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾ ثم أقسم -تبارك وتعالى- بنفسه الكريمة المقدسة على نفي الإيمان عمن لم يُحِّكم الرسول ﷺ في الأمور التي يقع فيها التنازع والتشاجر ويرض بحكمه ولا يجد في نفسه حرجا مما قضى به الرسول ﷺ ويسلم له تسليما.
فليتأمل الفتان وأشياعه ما تقدم ذكره من الآيات، ولا يأمنوا أن يكون لهم نصيب وافر مما تضمنته من الوعيد الشديد ونفي الإيمان.
وقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» قال النووي في كتاب (الأربعين) له: "حديث صحيح رويناه في كتاب (الحجة) بإسناد صحيح"، ثم قال في الكلام على هذا الحديث: "يعني أن الشخص يجب عليه أن يعرض عمله على الكتاب والسنة ويخالف هواه ويتبع ما جاء به ﷺ، وهذا نظير قوله -تعالى-: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ ..............
إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ فليس لأحد مع الله - عز وجل- ورسوله ﷺ أمر ولا وهوى". انتهى.
فصل
وقال الفتان: حقيقة لا تحتاج إلى دليل. "من خلال دراسة مفهوم الربا في السنة المطهرة يتضح لنا بما لا يدع مجالا للشك أن الربا المحرم الذي لا شك فيه هو الربا الذي ذكره رسول الله ﷺ في حجة الوداع والتي هي آخر مرة خاطب فيها الرسول ﷺ أمته حيث قال: «ألا وإن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب» ونحن نعرف أن ربا الجاهلية باتفاق العلماء هو الربا الذي نزل فيه القرآن الكريم وخصيصته هي أن يقول صاحب الدين للمدين عند حلول أجل الدين إما أن تقضي وإما أن تربي فإن لم يقض زاد المدين المال وزاد الدائن الأجل".
والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الحقيقة التي زعمها الفتان ليست بحقيقة عند التحقيق، وإنما هي حقيقة في اتباع الهوى وما يدعو إليه الشيطان من استحلال ربا الفضل وربا النسيئة أيضا سوى الربا الذي يقول فيه الدائن للمدين إما أن تقضي وإما أن تربي، فهذه هي الحقيقة التي طنطن بها الفتان وزعم أنها لا تحتاج إلى دليل.
الوجه الثاني: أن يقال: إن الحقيقة التي لا تحتاج إلى دليل هي ما وقع فيه الفتان من مشاقة الرسول ﷺ واتباع غير سبيل المؤمنين الذين يحرمون ما حرمه الله ورسوله ﷺ من الربا على وجه العموم، وسواء في ذلك ربا الجاهلية وربا الفضل وربا النسيئة الذي ليس على طريقة أهل الجاهلية، وقد تواترت الأحاديث عن النبي ﷺ بالنهي عن الربا على وجه العموم فلتراجع في أول الكتاب([30]) ليعلم ما فيها من النصوص الدالة على تحريم ربا الفضل وربا النسيئة تحريما مطلقًا، وليعلم أيضا أن الفتان لم يعبأ بأقوال الرسول ﷺ في النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة الذي ليس على طريقة ربا الجاهلية، ولم يبال باطراحها ونبذها وراء ظهره.
الوجه الثالث: أن يقال: إن حقيقة الفتان حاصلها التفريق بين الله ورسوله .........
والإيمان ببعض الكتاب وعدم الإيمان ببعضه، وذلك واضح في زعمه أن الربا الذي لا يشك فيه هو ربا الجاهلية الذي زعم أنه نزل فيه القرآن، ومفهوم كلامه أن ما سِوى ذلك من الربا الذي قد نهى عنه رسول الله ﷺ في الأحاديث المتواترة عنه فهو مشكوك فيه عنده، ومن شك في شيء من أقوال رسول الله ﷺ الثابتة عنه ولم يبال بها فهو من الذين يفرِّقون بين الله ورسوله شاء أم أبى، ومن كان بهذه الصفة فهو ممن يشك في إسلامه؛ لأنه لم يحقق الشهادة بأن محمدا رسول الله، ومن تحقيقها الإيمان بكل ما ثبت عن النبي ﷺ والعمل بما أمر به على قدر الاستطاعة واجتناب ما نهي عنه، والدليل على ذلك قول الله -تعالى-: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، وقوله -تعالى-: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وقول النبي ﷺ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» رواه مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-،وفي هذا الحديث الصحيح دليل على أن من رد الأحاديث الثابتة عن النبي ﷺ في تحريم ربا الفضل وربا النسيئة فهو غير معصوم الدم والمال.
الوجه الرابع: أن يقال: إنه لا فرق في التحريم بين ما جاء في القرآن وما جاء في السنة؛ لأن الكل من عند الله، والرسول مبلغ عن الله، قال الله -تعالى-: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ وقال تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، والحكمة هي السنة على أصح الأقوال، قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: "سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله ﷺ"، رواه البيهقي في كتاب (المدخل) وقال حسان بن عطية أحد التابعين: "كان جبريل ينزل على النبي ﷺ بالسنة كما ينزل بالقرآن"، رواه الدارمي ورجاله رجال الصحيح، ويدل على هذا قول الله -تعالى- في صفة نبيه محمد ﷺ: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾.
وروى الدارمي والترمذي وحسنه وابن ماجة عن المقدام بن معد يكرب -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «يوشك الرجل متكئا على أريكته يحدث بحديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله ما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله فهو مثل ما حرم الله».
وفي هذا الحديث أبلغ رد على الفتان الذي فرق بين ربا الجاهلية وبين الربا الذي جاءت السنة بالنهي عنه والتشديد فيه ولعن آكله ومؤكله وكاتبه وشاهديه، فحرم ربا الجاهلية وزعم أن تحريمه لا شك فيه وأباح ربا النسيئة عند الضرورة وربا الفضل عند الحاجة كما تقدم ذلك صريحا في نتيجة السوء([31]) التي استنتجها بعقله الفاسد، وهذا من الإيمان ببعض الكتاب وعدم الإيمان ببعضه.
الوجه الخامس: أن يقال: إن الفتان لا يخلو من أحد أمرين؛ إما أن يكون له مفهوم في السنة المطهرة كما زعم ذلك في أول كلامه في هذه الجملة التي تقدم ذكرها، وإما أن يكون جاهلا بالسنة وتكون دعواه دراسة مفهوم الربا في السنة مبنية على التخرص، وعلى الأول يكون إعراضه عن الأحاديث الثابتة عن النبي ﷺ في النهي عن ربا الفضل ناشئا عن العناد والمكابرة في رد السنة الصريحة، وعلى الثاني يكون قد قفا ما ليس له به علم فأحلَّ بعض الربا وحرم بعض بمجرد رأيه واتجاهاته المضلة، وهذا حرام شديد التحريم؛ لأنه يتضمن الكذب على الله والقول عليه بغير علم وقد قال الله -تعالى-: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾، وقال -تعالى-: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، وقال -تعالى-: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.
الوجه السادس: أن يقال: إذا كان الفتان قد درس مفهوم الربا في السنة المطهرة كما قد زعم ذلك فأي حجة له على استحلال ربا الفضل للحاجة واستحلال ربا النسيئة للضرورة مع أنه ليس في السنة ما يدل على ذلك البتة.
وأي عذر له في رد الأحاديث المتواترة في النهي عن ربا الفضل بدون استثناء حاجة، وقد جاء في بعضها النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة على وجه العموم، وليس فيها استثناء ضرورة ولا حاجة، وما كان تحريمه مطلقا بدون استثناء فليس لأحد أن يستثنى منه شيئا لم يستثنه رسول الله ﷺ، قال الله -تعالى-: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ ......................................
وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا﴾، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة.
وفي الآية الكريمة والحديث أبلغ رد على الفتان الذي قد جعل لنفسه الخِيَرَة في تحليل ربا الفضل للحاجة وتحليل ربا النسيئة للضرورة، فخالف نص الآية الكريمة وخالف قول النبي ﷺ: «إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه».
وأي عذر للفتان في رد قول النبي ﷺ: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائبا بناجز» وفي رواية: «إلا يدا بيد» وفي رواية: «لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء».
وأي عذر له في رد قول النبي ﷺ: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدًا بيه فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء».
وأي عذر له في رد قول النبي ﷺ: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء» وفي رواية: «الذهب بالذهب هاء وهاء، والفضة بالفضة هاء وهاء، والتمر بالتمر هاء وهاء، والبر بالبر هاء وهاء، والشعير بالشعير هاء وهاء لا فضل بينهما».
وأي عذر له في رد قول النبي ﷺ للذي باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب: «أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به» وفي رواية أنه قال: «أوه عين الربا لا تقربه» وفي رواية أنه قال: «هذا الربا فردوه» وفي رواية أنه قال للرجل: «أضعفت أربيت لا تقربن هذا» وفي رواية أنه قال له: «ويلك أربيت».
فهذه نصوص ثابتة عن النبي ﷺ في تحريم ربا الفضل والنسيئة فيجب العمل بها ولا يجوز رد شيء منها. ومن رد شيئا منها فهو على شفا هلكة، وما جاء في بعض النصوص من الأمر برد ربا الفضل فهو شبيه بما جاء عنه ﷺ في وضع ربا الجاهلية.
فالواجب على الفتان وعلى كل من كان على شاكلته أن يتقوا الله ولا يردوا شيئا من
أحاديث رسول الله ﷺ ولا يضربوا بعضها ببعض فإن ذلك ليس بالأمر الهين، بل عاقبته وخيمة جدًا.
الوجه السابع: أن يقال: إن النبي ﷺ إنما وضع ربا العباس وغيره من ربا الجاهلية لأنه إذ ذاك كان باقيا في ذمم المدينين وقد أبطله الإسلام فلهذا وضعه رسول الله ﷺ، ومثله قول النبي ﷺ للرجل الذي باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب: «هذا الربا فردوه» فكما أن رسول الله ﷺ وضع ربا العباس وغيره من ربا الجاهلية ولم يُقرهم عليه فكذلك قد أمر ﷺ برد ربا الفضل ولم يقر الرجل عليه، فقد اتفق حكمه ﷺ في وضع ربا الجاهلية وفي رد ربا الفضل، والعمل بهذا الحكم واجب متحتم ولا يجوز لأحد أن يخالفه، ومن عمل به في ربا الجاهلية وخالفه في ربا الفضل كما فعل الفتان فقد عرض نفسه للخطر العظيم؛ لأن الله -تعالى- يقول: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، قال الإمام أحمد: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك"، فليحذر الفتان مما حذر الله منه في هذه الآية الكريمة، فلعله أن يكون له نصيب وافر مما جاء فيها وهو لا يشعر.
وأما قوله: إن آخر مرة خاطب فيها الرسول ﷺ أمته كان في حجة الوداع حيث قال: «ألا وإن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب».
فجوابه: أن يقال: هذا كلام تضحك منه الثكلى، وينبغي أن يوضع في الكتب التي تشتمل على أقوال الحمقى والمغفلين، وإنه لينطبق على الفتان قول الشاعر:
لقد كان في الإعراض ستر جهالة | ||
غدوتَ بها من أشهر الناس في البُلْد | ||
وهل يظن الفتان الذي يهرف بما لا يعرف أن رسول الله ﷺ ترك الخطاب مع أمته بعد أن قال لهم في حجة الوداع: «ألا إن ربا الجاهلية موضوع» فلم يكلمهم بعد ذلك حتى مات؟ أما علم المتكلف ما لا علم له به أن رسول الله ﷺ لم يترك الخطاب مع أمته جماعات وأفرادا إلى أن نزل به الموت فجعل وهو في سياق الموت يحذرهم من اتخاذ القبور مساجد، ويوصيهم بالصلاة وما ملكت أيمانهم، قالت عائشة وعبد الله بن عباس -رضي الله عنهم- لما نزل برسول الله ﷺ طفق يلقي خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» تقول عائشة -رضي الله عنها-: "يحذر مثل الذي صنعوا" رواه ..............................
الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي والدارمي.
وعن أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي ﷺ قال وهو في الموت: «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم» فجعل يتكلم بها وما يفيض بها لسانه، رواه الإمام أحمد وابن ماجة، وفي رواية لأحمد: فجعل يتكلم بها وما يكاد يفيض بها لسانه، وروى الإمام أحمد أيضا عن أنس -رضي الله عنه- قال: كانت عامة وصية رسول الله ﷺ حين حضره الموت: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» حتى جعل رسول الله ﷺ يغرغر بها صدره وما يكاد يفيض بها لسانه.
فإن قال الفتان: إنه إنما أراد الخطبة وأن آخر مرة من خطبه ﷺ هي التي قال فيها: «ألا وإن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب».
فالجواب من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن كان مراده الخطبة وأنه أبدل لفظة الخطبة بالمخاطبة فلا يخفي ما في كلامه من الخطأ في التعبير؛ لأن الخطبة شيء والمخاطبة شيء آخر، قال ابن منظور في (لسان العرب): "ذهب أبو إسحاق إلى أن الخطبة عند العرب الكلام المنثور المسجع ونحوه"، وذكر عن صاحب (التهذيب) أنه قال: "الخطبة مثل الرسالة التي لها أول وآخر"، وكذا قال الزجاج: "إن الخطبة بالضم ما له أول وآخر نحو الرسالة"، نقله النووي عنه في (تهذيب الأسماء واللغات).
وأما المخاطبة فهي المراجعة في الكلام، قال صاحب (المحكم): "الخطاب والمخاطبة مراجعة الكلام"، نقله النووي عنه في (تهذيب الأسماء واللغات) وكذا قال ابن منظور في (لسان العرب): "إن الخطاب والمخاطبة مراجعة الكلام، قال وقد خاطبه بالكلام مخاطبة وخطابا وهما يتخاطبان". انتهى.
الوجه الثاني: أن يقال: إن خطبة النبي ﷺ في يوم عرفة وهي التي قال فيها: «ألا وإن ربا الجاهلية موضوع» ليست آخر خطبة للنبي ﷺ بل إنه قد خطب الناس في يوم النحر بمنى، ثم خطبهم في أوسط أيام التشريق، ثم خطبهم بين مكة والمدينة بماء يدعي خُمّا، ثم لم يزل يخطبهم في أيام الجُمع إلى أن مرض مرضه الذي مات فيه، وآخر خطبة خطبها كانت في مرض موته ﷺ وقد جاء ذلك في عدة أحاديث، منها حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "خرج رسول الله ﷺ في مرضه الذي مات فيه بملحفة قد عصب بعصابة دسماء حتى جلس على المنبر..." فذكر الحديث في ....................................
الوصية بالأنصار، وقال في آخره: "فكان آخر مجلس جلس فيه النبي ﷺ " رواه البخاري، وفي رواية قال: "صعد النبي ﷺ المنبر وكان آخر مجلس جلسه... " فذكر الحديث في الوصية بالأنصار.
ومنها حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "مرَّ أبو بكر والعباس -رضي الله عنهما- بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي ﷺ منا، فدخل على النبي ﷺ فأخبره بذلك، قال: فخرج النبي ﷺ وقد عصب على رأسه حاشية برد، قال: فصعد المنبر ولم يصعده بعد ذلك اليوم..." فذكر الحديث في الوصية بالأنصار، رواه البخاري.
ومنها حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "خرج علينا رسول الله ﷺ في مرضه الذي مات فيه وهو عاصب رأسه قال: فاتبعته حتى صعد على المنبر فقال: «إن عبدًا عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة» فذكر الحديث في بكاء أبي بكر لما سمع هذا من النبي ﷺ وقال في آخره ثم هبط رسول الله ﷺ عن المنبر فما رؤي عليه حتى الساعة" رواه الإمام أحمد والدارمي.
وفي هذا الأحاديث أبلغ رد على قول الفتان أن آخر مرة خاطب فيها الرسول ﷺ أمته حيث قال في حجة الوداع: «ألا وإن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب».
وأما قوله: ونحن نعرف أن ربا الجاهلية باتفاق العلماء هو الربا الذي نزل فيه القرآن الكريم.
فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الآيات التي نزلت في تحريم الربا والوعيد الشديد على أكله ليس فيها تخصيص لربا الجاهلية دون غيره من ربا الفضل وربا النسيئة الذي ليس على طريقة ربا الجاهلية، بل الآيات عامة لجميع أنواع الربا، وقد جاء بيان ذلك في الأحاديث الثابتة عن النبي ﷺ، وقد تقدم ذكرها فلتراجع([32]) ففيها أبلغ رد على الفتان الذي حاول حصر الربا المحرم في ربا الجاهلية وزعم أنه الربا الذي لا شك فيه.
الوجه الثاني: أن يقال: إن الفتان قد تقوَّل على العلماء حيث زعم أنهم اتفقوا على
أن الربا الذي نزل فيه القرآن هو ربا الجاهلية، وهذا الاتفاق المزعوم لا وجود له في شيء من كتب التفسير المشهورة، فلم يذكره ابن جرير ولا ابن أبي حاتم ولا البغوي ولا غيرهم من أكابر المفسرين، وهو مردود بما ذكره البغوي وابن الجوزي والرازي في سبب نزول قول الله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، قال ابن الجوزي: "في نزولها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت في بني عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف وفي بني المغيرة من بني مخزوم، وكان بنو المغيرة يأخذون الربا من ثقيف فلما وضع الله الربا طالبت ثقيف بني المغيرة بما لهم عليهم فنزلت هذه الآية والتي بعدها، هذا قول ابن عباس، والثاني: أنها نزلت في عثمان بن عفان والعباس كانا قد أسلفا في التمر فلما حضر الجذاذ قال صاحب التمر إن أخذتما ما لكما لم يبق لي ولعيالي ما يكفي فهل لكما أن تأخذا النصف وأضعف لكما ففعلا فلما حل الأجل طلبا الزيادة فبلغ ذلك النبي ﷺ فنهاهما فنزلت هذه الآية، هذا قول عطاء وعكرمة، والثالث: أنها نزلت في العباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية وكان يسلفان في الربا فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فنزلت هذه الآية فقال النبي ﷺ: «ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس» هذا قول السدي، قال ابن عباس وعكرمة والضحاك إنما قال: ﴿ما بقي من الربا﴾؛ لأن كل ربا كان قد ترك فلم يبق إلا ربا ثقيف، وقال قوم: الآية محمولة على من أربى قبل إسلامه وقبض بعضه في كفره ثم أسلم فيجب عليه أن يترك ما بقي ويعفى له عما مضى، فأما المراباة بعد الإسلام فمردودة فيما قبض ويسقط ما بقي". انتهى كلام ابن الجوزي، وقد ذكر البغوي والرازي نحو ما ذكره ابن الجوزي في سبب نزول الآية، وفيما ذكروه من الاختلاف في سبب نزول الآية أبلغ رد على ما في كلام الفتان من التقول على العلماء حيث زعم أنهم اتفقوا على أن الربا الذي نزل فيه القرآن هو ربا الجاهلية وهم لم يتفقوا على ذلك.
الوجه الثالث: أن يقال: على سبيل الفرض والتقدير لو وقع الاتفاق على أن ربا الجاهلية هو الربا الذي نزل فيه القرآن فإن التحريم لا يختص به، بل يكون عاما له ولغيره من أنواع الربا؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وألفاظ الآيات الواردة في تحريم الربا والتشديد فيه كلها على العموم فيدخل في عمومها ربا أهل الجاهلية وربا الفضل وربا النسيئة الذي ليس على طريقة ربا الجاهلية، وقد بين ذلك النبي ﷺ بيانا شافيا قاطعا للشبه التي يتعلق بها الفتان وأشياعه من المبطلين، وقد قال ..............................
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "سيأتي ناس يجادلونكم بشبه القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله - عز وجل-" رواه الدارمي والآجري في كتاب (الشريعة)، وقال يحيى بن أبي كثير: "السنة قاضية على القرآن وليس القرآن بقاض على السنة" رواه الدارمي. ومعناه أن السنة تفسر القرآن وتبين ما أجمل فيه. والدليل على ذلك قول الله -تعالى-: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾، وقوله -تعالى-: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾، وقد بين النبي ﷺ ما أجمل في آيات الربا أتم البيان فلم يبق بعد بيانه ﷺ شبهة يتعلق بها الفتان من مجمل القرآن، وغاية ما يذهب إليه هو المعارضة بين القرآن والسنة، وذلك واضح في تمسكه بتحريم ربا الجاهلية وزعمه أنه هو الربا المحرم الذي لا شك فيه وأنه هو الربا الذي نزل فيه القرآن، وقد كرر هذه الشبهة في خمسة عشر موضعًا من كتابته المؤسسة على محادة الله ورسوله ﷺ واتباع غير سبيل المؤمنين، وهو إلى جانب تمسكه بهذه الشبهة يهون أمر الربا الوارد تحريمه في السنة ويزعم أن ربا الفضل يجوز للحاجة وأن ربا النسيئة يجوز للضرورة، وهذا من الإيمان ببعض الكتاب وعدم الإيمان ببعضه.
فصل
وقال الفتان: "أما ربا الفضل الذي عرَّفه السيد قطب بأنه هو أن يبيع الرجل الشيء من نوعه مع زيادة؛ كبيع الذهب بالذهب والدراهم بالدراهم والقمح بالقمح والشعير بالشعير وهكذا فهو محرم أيضا ولكن تحريم وسائل من باب سد الذرائع لا تحريم مقاصد كما حرم ربا النسيئة، وما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، وقال ابن القيم: والذي يقضي منه العجب مبالغتهم في ربا الفضل أعظم مبالغة، ويؤكد هذا الرأي ما قال به ابن حجر الهيثمي حيث قال: كان الربا يتم بأن يدفع الرجل ماله لغيره إلى أجل على أن يأخذ منه كل شهر مقدارًا معينًا ورأس المال باقٍ بحاله فإذا حلَّ الأجل طالبه برأس ماله فإن تعذر عليه الأداء زاد في الحق والأجل، وروى مثل ذلك أيضا فخر الدين الرازي".
والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إنه يجب على كل مؤمن أن يقابل أقوال الرسول ﷺ بالقبول والتسليم وأن لا يعارضها بقول أحد من الناس كائنا من .......
كان؛ لأنه لا قول لأحد مع رسول الله ﷺ، وكل قول خالف قول الرسول ﷺ فهو مردود على قائله، وقد تواترت الأحاديث عن النبي ﷺ بالنهي عن ربا الفضل، وفي بعضها النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة، وقد ذكرت منها قريبا من ثلاثين حديثا في أول الكتاب فلتراجع([33]) ففيها أبلغ رد على الفتان الذي يحاول معارضة أقوال النبي ﷺ بالشبه والمغالطات وما يقتضبه من كلام العلماء ويضعه على غير مواضعه.
الوجه الثاني: أن يقال: إن الفتان قد اقتضب جُملا يسيرة من كلام سيد قطب وابن حجر الهيتمي وفخر الدين الرازي، وذكر أرقام مواضعها في كتبهم ليتكثر بالنقل عنهم ويوهم الجهال أن أقوالهم موافقة لرأيه واتجاهه في التهوين من شأن ربا الفضل وأن تحريمه تحريم وسائل من باب سد الذرائع لا تحريم مقاصد كما حرم ربا النسيئة، وما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة.
ولا يخفى على من له علم وبصيرة ما في فعل الفتان من التمويه على الجهال والتلبيس عليهم، وما فيه أيضا من البعد عن أداء الأمانة في النقل عن العلماء وذلك لأنه كان ينقل من كلامهم ما يظن أن فيه تأييدا لأقواله الباطلة، ويترك ما فيه ردا عليه فلا ينقله، وهذا شأن أهل البدع، قال عبد الرحمن بن مهدي: "أهل البدع ينقلون ما لهم ولا ينقلون ما عليهم، وأهل السنة ينقلون ما لهم وما عليهم".
وسأذكر كلام العلماء الذين نقل عنهم الفتان في هذا الموضع ما نقل ليتضح أنه ليس في كلامهم ما يؤيد أقواله الباطلة، وليعلم أيضا أنه لا أمانة له في النقل وقد قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: ما خطبنا رسول الله ﷺ إلا قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له» رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه.
فأما سيد قطب فإن الفتان أورد قوله في تعريف ربا الفضل: "هو أن يبيع الرجل الشيء بالشيء من نوعه مع زيادة كبيع الذهب بالذهب والدراهم بالدراهم والقمح بالقمح والشعير بالشعير وهكذا". انتهى ما نقله من كلام قطب، ثم إنه ضم إليه زيادة من عنده وهي قوله: "فهو مُحرَّم أيضا ولكن تحريم وسائل من باب سد الذرائع لا تحريم مقاصد كما حرم ربا النسيئة، وما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة"، وهذه الزيادة ليست من كلام قطب، ومع هذا فقد وصلها الفتان بكلام قطب بدون فاصل يفصل بين كلامه وكلام قطب، وإنما فعل ذلك ليوهم الجهال أن الجميع كله من كلام ....................
قطب وأنه موافق لرأيه واتجاهه في التهوين من شأن ربا الفضل، وسأذكر من كلام قطب ما فيه كفاية في الرد على الفتان -إن شاء الله تعالى-.
قال في الكلام على آيات الربا من سورة البقرة: "إن الربا الذي كان معروفًا في الجاهلية والذي نزلت هذه الآيات وغيرها لإبطاله ابتداء كانت له صورتان رئيسيتان: ربا النسيئة وربا الفضل، فأما ربا النسيئة فقد قال عنه قتادة: "إن ربا أهل الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه..." ثم ذكر عن مجاهد نحو ذلك، وذكر أيضا عن الجصاص والرازي نحو ذلك بمعناه ثم قال:-
أما ربا الفضل فهو أن يبيع الرجل بالشيء من نوعه مع زيادة كبيع الذهب بالذهب والدراهم بالدراهم والقمح بالقمح والشعير بالشعير وهكذا، وقد ألحق هذا النوع بالربا لما فيه من شَبَه به... ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» وذكر أيضا حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: جاء بلال إلى النبي ﷺ بتمر برني فقال له النبي ﷺ: «من أين هذا» قال: كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع فقال: «أوه عين الربا عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به».
فأما النوع الأول فالربا ظاهر فيه لا يحتاج إلى بيان، وأما النوع الثاني فما لا شك فيه أن هناك فروقا أساسية في الشيئين المتماثلين هي التي تقتضي الزيادة وذلك واضح في حادثة بلال حين أعطى صاعين من تمره الرديء وأخذ صاعا من التمر الجيد، وقد وصفه ﷺ بالربا ونهى عنه وأمر ببيع الصنف المراد استبداله بالنقد ثم شراء الصنف المطلوب بالنقد أيضا، إبعادا لشبح الربا من العملية تمامًا، وكذلك شرط القبض «يدا بيد» كي لا يكون التأجيل في بيع المثل بالمثل ولو من غير زيادة في شبح من الربا وعنصر من عناصره.
إلى هذا الحد بلغت حساسية الرسول ﷺ بشبح الربا في أية عملية وبلغت كذلك حكمته في عقلية الربا التي كانت سائدة في الجاهلية.
فأما اليوم فيريد بعض المهزومين أمام التصورات الرأسمالية الغربية والنظم ............
الرأسمالية الغربية أن يقصروا التحريم على صورة واحدة من صور الربا – ربا النسيئة – بالاستناد إلى حديث أسامة، وإلى وصف السلف للعمليات الربوية في الجاهلية، وأن يُحلوا دينيا وباسم الإسلام الصور الأخرى المستحدثة التي لا تنطبق في حرفية منها على ربا الجاهلية، ولكن هذه المحاولة لا تزيد على أن تكون ظاهرة من ظواهر الهزيمة الروحية والعقلية، فالإسلام ليس نظام شكليات، إنما هو نظام يقوم على تصور أصيل، فهو حين حرم الربا لم يكن يحرم منه صورة دون صورة، ومن ثم فإن كل عملية ربوية حرام سواء جاءت في الصور التي عرفتها الجاهلية أم استحدثت لها أشكال جديدة". انتهى المقصود من كلامه باختصار.
وقال أيضا في الكلام على قول الله -تعالى-: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾: "وهذا التعقيب هنا قاطع في اعتبار من يصرون على التعامل الربوي بعد تحريمه من الكفار الآثمين، الذين لا يحبهم الله، وما من شك أن الذين يحلون ما حرم الله ينطبق عليهم وصف الكفر ولو قالوا بألسنتهم ألف مرة "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" فالإسلام ليس كلمة باللسان، إنما هو نظام حياة ومنهج عمل، وإنكار جزء كإنكار الكل، وليس في حرمة الربا شبهة، وليس في اعتباره حلالا وإقامة الحياة على أساسه إلا الكفر والإثم".
وقال أيضا في الكلام على قول الله -تعالى- في سورة آل عمران: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾: "نقف عند الأضعاف المضاعفة فإن قوما يريدون في هذا الزمان أن يتواروا خلف هذا النص ليقولوا إن المحرم هو الأضعاف المضاعفة، أما الأربعة في المائة والخمسة في المائة والسبعة والتسعة فليست أضعافًا مضاعفة وليست داخلة في نطاق التحريم..."، قال: "ونبدأ فنحسم القول بأن الأضعاف المضاعفة وصف لواقع وليست شرطا يتعلق به الحكم، والنص الذي في سورة البقرة قاطع في حرمة أصل الربا – بلا تحديد ولا تقييد ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ أيا كان". انتهى، وفي كلامه أبلغ رد على الفتان وعلى أشياعه وسلفه الذين يستحلون الربا بالحيل وتحريف الكلم عن مواضعه.
وأما قول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: والذي يقضي منه العجب مبالغتهم في ربا الفضل أعظم مبالغة.
فجوابه: أن يقال: إن الذي يقضي منه العجب في الحقيقة هو ما في كلام ابن القيم ..
-رحمه الله تعالى- من التهوين لشأن ربا الفضل ومخالفته لما ثبت عن النبي ﷺ من التشديد فيه حيث قال ﷺ في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء» وعن عبادة بن الصامت وأبي هريرة -رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ نحوه، وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: «فمن زاد أو استزاد فهو ربا».
قال النووي: "قوله: «فمن زاد أو ازداد فقد أربى» معناه فقد فعل الربا المحرم فدافع الزيادة وآخذها عاصيان". انتهى.
وروى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: جاء بلال إلى النبي ﷺ بتمر برني فقال له النبي ﷺ: «من أين هذا؟» قال بلال: كان عندي تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع لنطعم النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ عند ذلك: «أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به» وقد رواه النسائي مختصرا وفيه أن رسول الله ﷺ قال: «أوه عين الربا لا تقربه».
قال النووي: "معنى عين الربا أنه حقيقة الربا المحرم". انتهى.
وروي مسلم عن أبي سعيد أيضا أن رجلا باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب فقال رسول الله ﷺ: «هذا الربا فردوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا» وفي رواية لأحمد ومسلم أن رسول الله ﷺ قال للذي باع التمر الرديء بأقل منه من الطيب: «أضعفت أربيت لا تقربن هذا إذا رابك من تمرك شيء فبعه ثم اشتر الذي تريد من التمر» وفي رواية لمسلم أن رسول الله ﷺ قال للرجل: «ويلك أربيت إذا أردت فبع تمرك بسلعة ثم اشتر بسلعتك أي تمر شئت» قال أبو سعيد -رضي الله عنه- فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربا أم الفضة بالفضة، وفي رواية لأحمد أن أبا سعيد -رضي الله عنه- قال: "فالتمر أربى أم الفضة بالفضة والذهب بالذهب" وروي الطبراني عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: «الذهب بالذهب وزنا بوزن فمن زاد أو استزاد فقد أربى» والله ما كذب ابن عمر على رسول الله ﷺ.
فهذه الأحاديث الثابتة عن النبي ﷺ صريحة في مبالغته ﷺ في النهي عن ربا الفضل والتشديد فيه، وفيها أبلغ رد على ما في كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- من ...........
التعجب من المبالغة في ربا الفضل.
ومن أعظم المبالغات الثابتة عن النبي ﷺ في التحذير من الربا والشديد فيه على وجه العموم الذي يشمل ربا الفضل وربا النسيئة ما جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» فذكرها ومنها أكل الربا، رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وتقدم في أول الكتاب.
ومن أعظم المبالغات أيضا لعن آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه، وقد جاء ذلك في عدة أحاديث ذكرتها في أول الكتاب فلتراجع هناك ([34]).
ومن أعظم المبالغات أيضا قوله ﷺ: «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ستة وثلاثين زنية» رواه الإمام أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة.
ومن أعظم المبالغات أيضا قوله ﷺ: «ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله» رواه أبو يعلي بإسناد جيد من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-، وروى الحاكم نحوه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، وصححه الحاكم والذهبي.
وفي هذا المبالغات الثابتة عن النبي ﷺ أبلغ رد على ما في كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- من التعجب من المبالغة في ربا الفضل.
وإذا علم هذا فليعلم أيضا أن كل من بالغ من العلماء في النهي عن ربا الفضل والتحذير منه فهو مصيب ومحسن فيما فعل؛ لأنه قد اتبع النبي ﷺ وتمسك بأقواله، ومن تعجب من مبالغتهم في ذلك فتعجبه مردود عليه.
وقد ثبت عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- أنهما كانا ينهيان عن ربا الفضل ويبالغان في النهي عنه، وقد كتب أبو بكر -رضي الله عنه- بالنهي عنه إلى أمراء الأجناد حين قدموا الشام، وخطب عمر -رضي الله عنه- بذلك على منبر رسول الله ﷺ بحضرة الصحابة -رضي الله عنهم- وتوعد من فعل ذلك بالعقوبة الموجعة في نفسه وماله، وقد ذكرت قريبا ما رواه الطحاوي عن أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- وذكرت أيضا أنه لم يعرف لأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- مخالف من الصحابة -رضي الله عنهم-، وهذا يدل على موافقتهم لهما، وذكرت أيضا ما رواه الطحاوي عن علي بن أبي ......................
طالب وعمر وابنه عبد الله وفضالة بن عبيد -رضي الله عنهم- أنهم كانوا ينهون عن ربا الفضل، فلتراجع أقوالهم([35]) فإن فيها أبلغ رد على ما في كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- من التعجب من المبالغة في ربا الفضل.
ومن المبالغة أيضا في النهي عن ربا الفضل ما جاء في قصة أبي الدرداء مع معاوية، وقد تقدم ذلك في الحديث الرابع والعشرين فليراجع، وكذلك ما جاء في قصة أبي أسيد مع ابن عباس وهي مذكورة في الحديث الأربعين فليراجع، وكذلك ما جاء في قصة عبادة بن الصامت مع معاوية فقد جاء فيها أن عبادة -رضي الله عنه- قال: "يا أيها الناس إنكم تأكلون الربا سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا تبتاعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل لا زيادة بينهما ولا نظرة»"، فقال معاوية: "لا أرى الربا في هذا إلا ما كان من نظرة"، فقال عبادة: "أحدثك عن رسول الله ﷺ وتحدثني عن رأيك"، وفي آخر القصة أن عمر -رضي الله عنه- كتب إلى معاوية أن يحمل الناس على ما قاله عبادة بن الصامت وقال: "إنه هو الأمر" وقد تقدم ذكر هذه القصة في أثناء الكتاب فلتراجع([36])، ففيها وفيما تقدم قبلها عن أبي الدرداء وأبي أسيد أبلغ رد على ما في كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- من التعجب من المبالغة في ربا الفضل.
وأبلغ من جميع ما تقدم ذكره وأعظم في المبالغة في تحريم الربا والتشديد فيه والتحذير منه على وجه العموم الذي يشمل ربا الفضل وربا النسيئة ما جاء في الآيات من آخر سورة البقرة والآيات من سورة آل عمران، وقد ذكرت في أثناء الكتاب أن نصوص القرآن عامة فيدخل في عمومها ربا الفضل وربا النسيئة، فليراجع ما تقدم ذكره([37]) ففيه أبلغ رد على ما في كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- من التعجب من المبالغة في ربا الفضل.
وأما ابن حجر الهيتمي مؤلف كتاب (الزواجر عن اقتراف الكبائر) فهو بالتاء المثناة – وليس بالثاء المثلثة كما قد جاء ذلك في كلام الفتان الذي يهرف بما لا يعرف – واسمه أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي. وإنما قيل له الهيتمي لأنه ولد في محله أبي الهيتم وهي قرية بمصر من أعمال الغربية، ويقال له أيضا ابن حجر المكي لأنه .................
سكن مكة ومات بها في سنة ثلاث وسبعين وتسعمائة، وقيل في سنة أربع وسبعين وتسعمائة.
أما الهيثمي بالثاء المثلثة فهو نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي وكان في القرن الثامن من الهجرة ومات في أول القرن التاسع في سنة سبع وثمانمائة وكانت وفاته قبل أن يولد ابن حجر الهيتمي بمائة سنة وزيادة سنتين.
وأما كلام الهيتمي في كتاب (الزواجر عن اقتراب الكبائر) فهو من أبلغ ما يرد به على الفتان، وقد نقل الفتان منه جملة تشتمل على التعريف بالربا الذي كان مشهورا في الجاهلية ليوهم الجهال أن رأي الهيتمي كان موافقا لرأيه واتجاهه في قصر الربا المحرم على ربا الجاهلية، وأعرض عما قبل الجملة وما بعدها فلم ينقل منه شيئا؛ لأن الهيتمي قد صرح فيه بتحريم جميع أنواع الربا وذكر الإجماع على ذلك، وهذا من عدم الأمانة عند الفتان، وقد سبق له أمثال ذلك فيما نقله عن بعض العلماء، وقد تقدم قريبا([38]) حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: ما خطبنا رسول الله ﷺ إلا قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له».
وهذا ملخص كلام الهيتمي في كتاب (الزواجر عن اقتراف الكبائر) وقد ابتدأ بذكر الكبائر التي تتعلق بالربا، وهي أكله وإطعامه وكتابته والشهادة عليه والسعي فيه والإعانة عليه، ثم ذكر الآيات الواردة في تحريمه والتشديد فيه والوعيد الشديد عليه ثم قال: "الربا لغة الزيادة، وشرعًا عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد، أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما، وهو ثلاثة أنواع؛ ربا الفضل وهو البيع مع زيادة أحد العوضين المتفقي الجنس على الآخر، وربا اليد وهو البيع مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما عن التفرق من المجلس بشرط اتحادهما علة بأن يكون كل منهما مطعوما أو كل منهما نقدًا وإن اختلف الجنس".
قلت: هذا النوع من ربا النسيئة فلا وجه لجعله نوعًا على حدته.
قال الهيتمي: "وربا النساء وهو البيع للمطعومين أو للنقدين المتفقي الجنس أو المختلفة لأجل ولو لحظة فالأول كبيع صاع بر بدون صاع بر أو بأكثر، أو درهم فضة بدون درهم فضة أو بأكثر، سواء أتقابضا أم لا، وسواء أجَّلا أم لا، والثاني كبيع صاع ...............
بر بصاع بر أو درهم ذهب بدرهم ذهب أو صاع بر بصاع شعير أو أكثر أو درهم ذهب بدرهم فضة أو أكثر لكن تأخر قبض أحدهما عن المجلس. الثالث كبيع صاع بر بصاع بر أو درهم فضة بدرهم فضة لكن مع تأجيل أحدهما ولو إلى لحظة. وزاد المتولي نوعًا رابعًا وهو ربا القرض، لكنه في الحقيقة يرجع إلى ربا الفضل لأنه الذي فيه شرط يجر نفعا للمقترض فكأنه أقرض هذا الشيء بمثله مع زيادة ذلك النفع الذي عاد إليه.. وكل من هذه الأنواع الأربعة حرام بالإجماع وبنص الآيات المذكورة والأحاديث الآتية، وما جاء في الربا من الوعيد شامل للأنواع الأربع... قال: وربا النسيئة هو الذي كان مشهورًا في الجاهلية لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل على أن يأخذ منه كل شهر قدرًا معينًا، ورأس المال باق بحاله، فإذا حل طالبه برأس ماله فإن تعذر عليه الأداء زاد في الحق والأجل، وتسمية هذا نسيئة مع أنه يصدق عليه ربا الفضل أيضا لأن النسيئة هي المقصودة فيه بالذات، وهذا النوع مشهور الآن بين الناس وواقع كثيرًا، وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- لا يحرم إلا ربا النسيئة محتجًا بأنه المتعارف بينهم فينصرف النص إليه، لكن صحَّت الأحاديث بتحريم الأنواع الأربعة السابقة من غير مطعن ولا نزاع لأحد فيها، ومن ثم أجمعوا على خلاف قول ابن عباس، على أنه رجع عنه لما قال له أبي([39]): أشهدت ما لم نشهد أسمعت من رسول الله ﷺ ما لم نسمع؟! ثم روى له الحديث الصريح في تحريم الكل، ثم قال له: لا آواني وإياك ظل بيت ما دمت على هذا فحينئذ رجع ابن عباس، قال محمد بن سيرين: كنا في بيت عكرمة فقال له رجل أما تذكر ونحن ببيت فلان ومعنا ابن عباس فقال: إنما كنت استحللت الصرف برأيي ثم بلغني أنه ﷺ حرمه فاشهدوا أني حرمته وبرئت إلى الله منه". انتهى المقصود من كلام الهيتمي. وفيه أبلغ رد على زعم الفتان أن ما قال به ابن حجر الهيتمي يؤكد رأيه الفاسد في قصر الربا المحرم على ربا النسيئة، وفيه أيضا إظهار ما في كلام الفتان من الافتراء على الهيتمي والتقول عليه بضد ما جاء في كلامه من التصريح بتحريم أنواع الربا وذكر الإجماع على ذلك.
والكذب من أقبح الخلال ومن كبائر الإثم وصفات المنافقين. وقد جاء في ذمه والتحذير منه آيات وأحاديث كثيرة، فمن الآيات قول الله -تعالى-: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾، وقال -تعالى- متوعدا ..............
المنافقين على الكذب: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾، وقال -تعالى-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ﴾، قال أبو قلابة: "هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة" رواه ابن جرير بإسناد صحيح، ومن الأحاديث ما رواه الإمام أحمد عن أبي أمامة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب» وروى البزار وأبو يعلى عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ نحوه، قال المنذري: "ورواته رواة الصحيح"، وروى الإمام أحمد عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه قال: "يا أيها الناس إياكم والكذب فإن الكذب مجانب للإيمان"، وفي الصحيحين وغيرهما عن أبن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» والآيات والأحاديث في ذم الكذب كثيرة جدًا، وفيما ذكرته كفاية -إن شاء الله.
وأما فخر الدين الرازي فإنه قال في تفسيره: "اعلم أن الربا قسمان ربا النسيئة وربا الفضل، أما ربا النسيئة فهو الأمر الذي كان مشهور متعارفا في الجاهلية، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا ويكون رأس المال باقيا، ثم إذا حل الدين طالبوا المديون برأس المال فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل، فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به، وأما ربا النقد فهو أن يباع من الحنطة بمنوين منها وما أشبه ذلك – ثم ذكر عن ابن عباس أنه كان لا يحرم إلا القسم الأول وأنه رجع عن قوله لما حدثه أبو سعيد أن رسول الله ﷺ حرم ربا الفضل ثم قال: وأما جمهور المجتهدين فقد اتفقوا على تحريم الربا في القسمين، أما القسم الأول فبالقرآن، وأما ربا النقد فبالخبر". انتهى المقصود من كلام الرازي وفيه أبلغ رد على الفتان.
الوجه الثالث: أن يقال: أما زعم الفتان أن تحريم ربا الفضل تحريم وسائل من باب سد الذرائع لا تحريم مقاصد وأن ما حرم سدا للذريعة أُبيح للمصلحة الراجحة، فهو مما أخذه من كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى-، وقد تقدم الجواب عنه مبسوطًا في أثناء الكتاب فليراجع([40]).
الوجه الرابع: أن يقال: إن ابن القيم -رحمه الله تعالى- لم يذكر شيئا مما أُبيح للمصلحة الراجحة من ربا الفضل سوى العرايا، ولم يذكر غير ذلك إذ لا توجد الرخصة عن النبي ﷺ في غير العرايا، وما سواها فهو باق على المنع والتحريم كما سيأتي بيان ذلك في حديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه-.
والعرايا هي بيع الرطب في رؤوس النخل خرصا بمثله من التمر كيلا فيما دون خمسة أوسق لمن به حاجة إلى أكل الرطب ولا ثمن معه، وهي مستثناة مما نهى عنه رسول الله ﷺ من المزابنة، وهي بيع الثمر على رؤوس النخل بالتمر كيلا، وسيأتي بيان معناها في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- وغيره مما سيأتي ذكره -إن شاء الله تعالى-.
وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه رخص في بيع العرايا ولم يرخص في غير ذلك، فمن الأحاديث الواردة في ذلك ما في الصحيحين عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: «لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه ولا تبيعوا الثمر بالتمر» قال سالم: وأخبرني عبد الله عن زيد بن ثابت أن رسول الله ﷺ: «رخَّص بعد ذلك في بيع العرايا بالرطب أو بالتمر ولم يرخص في غيره» هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم نحوه، وقال في آخر: «ولم يرخص في غير ذلك» وقد ترجم البخاري لهذا الحديث وأحاديث معه بقوله: "باب بيع المزابنة وهي بيع التمر بالثمر وبيع الزبيب بالكرم وبيع العرايا"، وقد رواه الإمام أحمد مختصرًا ولفظه أن رسول الله ﷺ «رخص في بيع العرايا أن تباع بخرصها ولم يرخص في غير ذلك»، ورواه النسائي ولفظه: «أن رسول الله ﷺ رخص في بيع العرايا بالرطب وبالتمر ولم يرخص في غير ذلك» وقد رواه الإمام أحمد أيضا والنسائي وابن ماجة مختصرًا جدًا ولفظه عندهم أن رسول الله ﷺ «رخص في العرايا»، ورواه مسلم مختصرًا ولفظه: «رخص في بيع العرايا».
وقد رواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ «رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلا» وفي رواية لأحمد ومسلم: «رخص في العرية أن تؤخذ بمثل خرصها تمرًا يأكلها أهلها رطبًا».
ورواه الإمام أحمد أيضًا من حديث خارجة بن زيد أن زيد بن ثابت قال: «رخص رسول الله ﷺ في بيع العرايا أن تباع بخرصها كيلا» ورواه أبو داود والنسائي بمعناه.
ومن الأحاديث أيضًا حديث بُشَير بن يسار مولى بني حارثة عن سهل بن أبي حثمة -رضي
الله عنه- أن رسول الله ﷺ «نهى عن بيع الثمر بالتمر ورخص في العرايا أن تشتري بخرصها يأكلها أهلها رطبًا» رواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود، وروى النسائي منه قوله: «ورخص في العرايا أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطبًا» وقد رواه مسلم بزيادة، ولفظه عن بشير بن يسار عن بعض أصحاب رسول الله ﷺ من أهل دارهم منهم سهل بن أبي حثمة أن رسول الله ﷺ «نهى عن بيع الثمر بالتمر» وقال: «ذلك الربا تلك المزابنة» إلا أنه «رخص في بيع العرية النخلة والنخلتين يأخذها أهل البيت بخرصها تمرًا يأكلونها رطبا» وروي مسلم أيضا عن بشير بن يسار عن أصحاب رسول الله ﷺ أنهم قالوا: «رخص رسول الله ﷺ في بيع العرية بخرصها تمرًا» ورواه النسائي بنحوه.
ومن الأحاديث أيضا حديث بشير بن يسار أن رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة حدثاه أن رسول الله ﷺ «نهى عن المزابنة بيع الثمر بالتمر إلا أصحاب العرايا فإنه قد أذن لهم» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
ومنها حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ «أرخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق» رواه مالك في الموطأ، ورواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي كلهم من طريق مالك.
ومنها حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ «نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة والثنيا ورخص في العرايا» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي. وهذا لفظ أحمد ونحوه في إحدى روايات مسلم.
ومنها حديث جابر بن عبد الله أيضا قال سمعت رسول الله ﷺ حين أذن لأصحاب العرايا أن يبيعوها بخرصها يقول: «الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة» رواه الإمام أحمد وأبو يعلي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والطحاوي والبيهقي كلهم من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيي بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن جابر -رضي الله عنه-، وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث عن أحمد وابن حبان فزال ما يخشى من تدليسه.
وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على الفتان الذي يريد أن يتوسع في استحلال ربا الفضل معتمدًا على قول ابن القيم أن تحريمه تحريم وسائل من باب سد الذرائع وأن ما حرم سدًا للذريعة أُبيح للمصلحة الراجحة.
وفي التصريح بأن رسول الله ﷺ رخص في بيع العرايا ولم يرخص في غير ذلك دليل على حصر المصلحة الراجحة في بيع العرايا وأن ما سوى ذلك من ربا الفضل فهو باقٍ على المنع والتحريم.
فصل
وقال الفتان: "أما الدليل على أن الربا يتخذ صورة التضعيف فهو ما أكده قول الله -سبحانه وتعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ وقد ورد في سبب نزولها: إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن، يكون للرجل فضل دين فيأتيه إذا حل الأجل فيقول له تقضيني أو تزيدني، فإن كان عنده شيء يقضيه قضى وإلا حوَّله إلى السن التي فوق ذلك، إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية ثم حقة ثم جذعة ثم رباعيًا ثم هكذا إلى فوق، وفي العين يأتيه، فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضا، فتكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة، يضعفها له كل سنة أو يقضيه".
والجواب: أن يقال: أما ما ذكره الفتان من صفة الربا الذي كان يفعله أهل الجاهلية فهو من كلام زيد بن أسلم، رواه ابن جرير بإسناده عن ابن زيد وهو – عبد الرحمن – عن أبيه، وهذه الصفة لا تقتضي حصر الربا فيما كان يفعله أهل الجاهلية كما هو الظاهر من استدلال الفتان بالآية من سورة آل عمران على أن الربا يتخذ صورة التضعيف، وقد تقدم قريبا([41]) قول سيد قطب إن الأضعاف المضاعفة وصف لواقع وليست شرطًا يتعلق به الحكم، قال: "والنص الذي في سورة البقرة قاطع في حرمة أصل الربا – بلا تحديد ولا تقييد ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾أيا كان". انتهى.
وتقدم أيضا في أثناء الكتاب قول الشيخ أحمد محمد شاكر في الكلام على قول الله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ الآية: "إن المتلاعبين بالدين من أهل عصره وأوليائهم من عابدي التشريع الوثني الأجنبي، بل التشريع اليهودي في الربا، يلعبون بالقرآن ويزعمون أن هذه الآية تدل على أن الربا المحرم هو ................
الأضعاف المضاعفة ليجيزوا ما بقي من أنواع الربا على ما ترضى أهواؤهم وأهواء سادتهم". انتهى المقصود من كلامه فليراجع([42])، وليراجع ما بعده من كلام الشيخ محمود شلتوت، وليراجع([43]) أيضا كلام قطب، ففي كلام هؤلاء أبلغ رد على ما في كلام الفتان من محاولة حصر الربا فيما كان يفعله أهل الجاهلية.
وليراجع([44]) أيضا قول الهيتمي في ربا الفضل وربا اليد وربا النساء وربا القرض أنها كلها حرام بالإجماع وبنص الآيات والأحاديث، وأن ما جاء في الربا من الوعيد شامل للأنواع الأربعة، ففي كلامه أبلغ رد على ما في كلام الفتان من محاولة حصر الربا فيما كان يفعله أهل الجاهلية.
وأما زعم الفتان أنه قد ورد في سبب نزول الآية ما جاء عن زيد بن أسلم في صفة الربا الذي كان يتعامل به في الجاهلية.
فالجواب عنه: أن يقال: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر عند الأصوليين، ولفظ الآية من سورة آل عمران عام فيدخل في عمومه ربا الفضل وربا النسيئة، وسواء في ذلك ما كان يفعله أهل الجاهلية، وما كان يفعل في الإسلام، وكذلك ألفاظ الآيات التي نزلت في تحريم الربا والوعيد الشديد على أكله كلها قد جاءت بلفظ العموم فيدخل في عمومها ربا الفضل وربا النسيئة على أي صفة كان.
وقد تواترت الأحاديث عن النبي ﷺ بالنهي عن ربا الفضل وربا النسيئة، وفي بعضها النص على أن من زاد أو استزاد في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح فقد أربى، وهذا النص يدل على أن الزيادة في بيع الجنس من هذه الأعيان الستة بجنسه ربا، وظاهره يدل على أنه لا فرق بين أن تكون الزيادة كثيرة أو قليلة، وفي هذا أبلغ رد على قول الفتان أن الربا يتخذ صورة التضعيف، ولا يخفي على من له علم وبصيرة أن هذا القول الباطل يتضمن معارضة أقوال الرسول ﷺ في النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة الذي لم يتخذ صورة التضعيف بل إنه يتضمن إطراح الأحاديث المتواترة في ذلك وقلة المبالاة بها، ويتضمن أيضا التفريق بين الله وبين رسوله حيث أنه يؤمن بالآية التي زعم أنها تدل على أن .....
الربا يتخذ صورة التضعيف ولا يؤمن بالأحاديث المتواترة في النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة الذي لم يتخذ صورة التضعيف، وما أشد الخطر في هذا؛ لأن الله -تعالى- حذر المؤمنين من مخالفة أمر الرسول ﷺ وتوعد المخالفين عن أمره بالوعيد الشديد فقال -تعالى-: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك".
فصل
وقال الفتان: موقف أهل العلم وكبار رجال الفتوى في الإسلام من المصارف. ثم قال: "إن استعراض مجمل الأحكام المسلم بها لدى أهل العلم وكبار رجال الفتوى في الإسلام يبين لنا ما يلي:
1- أن الربا محرم تحريمًا قطعيًا لا شك فيه".
والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الكتاب والسنة هما الميزان الذي توزن به أقوال أهل الفتوى وغيرهم من أهل العلم فما وافقهما فهو مقبول وما خالفهما فهو مردود على قائله كائنا من كان إذ لا قول لأحد مع قول الله -تعالى- وقول رسوله ﷺ، قال الله -تعالى-: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا﴾.
وإذا علم هذا فليعلم أيضا أن كل محاولة أتى بها الفتان لحصر الربا فيما كان يفعله أهل الجاهلية – وهو الربا الذي يقول فيه الفتان: إنه يتخذ صورة التضعيف، وكذلك كل محاولة أتى بها للتهوين من شأن ربا الفضل وربا النسيئة الذي لم يتخذ صورة التضعيف، وكذلك ما اعتمد عليه من جهالات العصريين الذين كانوا في القرن الرابع عشر من الهجرة والذين كانوا في القرن الخامس عشر فكله مردود عليه ومضروب به عرض الحائط؛ لأنه محاولات مبنية على مخالفة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على تحريم جميع أنواع الربا. لا فرق في ذلك بين ربا أهل الجاهلية وبين .....
الربا الذي نهى عنه رسول الله ﷺ وشدَّد فيه كما تقدم بيان ذلك في الأحاديث الثابتة المتواترة فلتراجع([45]).
الوجه الثاني: أن يقال: إن كبار رجال الفتوى في الإسلام على الحقيقة هم علماء الصحابة -رضي الله عنهم-، فإذا ذكر كبار رجال الفتوى في الإسلام على وجه الإطلاق فإن هذا الوصف ينصرف إليهم قبل الذين كانوا من بعدهم، وبعد علماء الصحابة أكابر علماء التابعين ثم أئمة العلم والهدي من بعدهم، فهؤلاء هم الذين ينطبق عليهم الوصف بأنهم كبار رجال الفتوى في الإسلام، وقد تقدم بيان موقف الصحابة من تحريم الربا وفيهم الخلفاء الأربعة الراشدون المهديون، وفيهم أيضا عدد من العشرة المشهود لهم بالجنة، فليراجع ذلك في الفصل الذي قد ذكر فيه الإجماع على تحريم الربا([46])، وليراجع أيضا ما ذكر فيه من إجماع علماء الأمصار على أنه لا يجوز بيع ذهب بذهب ولا فضة بفضة ولا بر ببر ولا شعير بشعير ولا تمر بتمر ولا ملح بملح متفاضلا يدا بيد ولا نسيئة وأن من فعل ذلك فقد أربى والبيع مفسوخ، قال ابن المنذر: "وقد روينا هذا القول عن جماعة من أصحاب رسول الله ﷺ وجماعة يكثر عددهم من التابعين".
وليراجع أيضا ما ذكر في أثناء الكتاب([47]) عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-، فأما أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- فإنه كتب إلى أمراء الأجناد حين قدموا الشام: "أما بعد: فإنكم قد هبطتم أرض الربا فلا تتبايعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن ولا الطعام بالطعام إلا كيلاً بكيل".
ولم يذكر عن أحد من أمراء الأجناد ولا عن غيرهم من الصحابة الذين كانوا معهم – وهم كثيرون جدا– أنهم خالفوا ما جاء في كتاب أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فدل ذلك على موافقتهم له.
وأما عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فإنه خطب الناس على منبر رسول الله ﷺ فقال في خطبته: "لا يشتري أحدكم دينارًا بدينارين ولا درهما بدرهمين ولا قفيزًا بقفيزين وإني لا أوتى بأحد فعله إلا أوجعته عقوبة في نفسه وماله".
قال الطحاوي بعد سياق هذا الأثر: "فهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يخطب بهذا على منبر رسول الله ﷺ بحضرة أصحابه -رضوان الله عليهم- لا ينكره عليه منهم منكر فدل ذلك على موفقتهم له عليه". انتهى.
فهذا هو موقف أهل العلم وكبار رجال الفتوى في الإسلام من تحريم ربا الفضل والتشديد فيه، وما خالف موقفهم من محاولات الفتان وغيره من المتلاعبين بالدين وتهافتهم في التهوين من شأن ربا الفضل وربا النسيئة الذي لم يتخذ صورة التضعيف واستحلال هذين النوعين بالشبه والأباطيل فكله مردود ومضروب به عرض الحائط.
الوجه الثالث: أن يقال: إن المصارف لم توجد في زمان كبار رجال الفتوى في الإسلام وهم علماء الصحابة -رضي الله عنهم-، ولم توجد في زمان التابعين وأئمة العلم والهدي من بعدهم، وإنما حدثت وانتشرت في البلاد الإسلامية في القرن الرابع عشر من الهجرة، وعلى هذا فهل يقول عاقل إن كبار رجال الفتوى في الإسلام كان لهم موقف من المصارف، وهي لم تكن في زمانهم وإنما حدثت بعد زمانهم بنحو من ثلاثة عشر قرنًا؟! كلا، لا يقول ذلك إنسان يعقل ما يقول.
فإن قال الفتان إنه إنما أراد العلماء الذين نقل عنهم بعض الكلمات التي كان يرى فيها تأييدًا لرأيه واتجاهه الذي زعم فيه أن الربا يتخذ صورة التضعيف.
فالجواب: أن يقال: إن العلماء الذين نقل الفتان من كلامهم ما يظن أن فيه تأييدًا لباطله ليسوا كبار رجال الفتوى في الإسلام؛ لأن هذه الصفة إنما تنطبق مع الإطلاق على علماء الصحابة -رضي الله عنهم-، ثم تنطبق بعدهم على أكابر علماء التابعين، وأما العلماء الذين سيأتي ذكر ما نقله الفتان من كلامهم فإنهم وإن كانوا من أكابر العلماء في زمانهم ومن رجال الفتوى فليسوا بمنزلة علماء الصحابة ولا بمنزلة أكابر علماء التابعين، وعلى هذا فلا ينبغي أن يوصفوا بالصفة التي يستحقها علماء الصحابة بالأولوية.
ويقال أيضا: إن المصارف لم توجد إلا في زمان رشيد رضا وأقرانه وشيوخهم وأما غير رشيد رضا من العلماء الذي نقل الفتان من كلامهم ما سيأتي ذكره قريبًا فإنهم لم يكونوا يعرفون المصارف؛ لأنها لم توجد في أزمانهم وإنما حدثت بعد أزمانهم بدهر طويل، وعلى هذا فإنه ليس من المعقول أن يقال إن لهم موقفا من المصارف بل هذا يعد من هذيان الفتان ومن كذبه على العلماء الذين كانوا قبل زمان المصارف.
وأما رشيد رضا وبعض أقرانه وبعض شيوخهم فإن لهم نزوات في تحليل ربا الفضل وتسميته باسم الفائدة، وفيما تقدم في أول الكتاب من أدلة القرآن والسنة والإجماع على تحريم الربا على وجه العموم أبلغ رد على أباطيلهم، وقد رد عليهم الشيخ أحمد محمد شاكر في كتابه المسمى (عمدة التفاسير) وسماهم المتلاعبين بالدين، ورد عليهم الشيخ محمود شلتوت في كتابه (تفسير القرآن الكريم) وقال فيهم: "إنهم مولعون بتصحيح التصرفات الحديثة وتخريجها على أساس فقهي إسلامي ليُعرفوا بالتجديد وعمق التفكير"، ورد عليهم سيد قطب في تفسيره وسماهم المهزومين أمام التصورات الرأسمالية الغربية والنظم الرأسمالية الغربية، فليراجع كلام الشيخ أحمد محمد شاكر وكلام الشيخ محمود شلتوت في أول الكتاب([48])، وليراجع كلام قطب فيما تقدم قريبا([49]).
الوجه الرابع: أن يقال: ما ذكره الفتان في أول استعراضاته لمجمل الأحكام المسلَّم بها لدى أهل العلم وكبار رجال الفتوى في الإسلام، وهو القول بأن الربا محرم تحريمًا قطعيًا لا شك فيه.. فهو الصواب الذي تؤيده الأدلة من القرآن والسنة والإجماع، وما خالفه من الأقوال التي يستحل أهلها بعض أنواع الربا فكلها من الباطل المردود.
فصل
وقال الفتان: "إن الربا المجمع على تحريمه بلا شك هو ربا النسيئة الذي كان في الجاهلية، وقد بيَّنه الإمام أحمد لما سئل عن الربا الذي لاشك فيه، فقد بينه وميزه عن غيره بأن وصفه بأنه أخذ الزيادة في مقابل التأجيل فقال: هو أن يكون له دين فيقول للمدين إذا حل الدين إما أن تقضي وإما أن تربي فإن لم يقض زاد المدين المال وزاد الدائن الأجل، انظر الجزء الرابع من فتاوي رشيد رضا صفحة 1342.
ويقول ابن القيم -رحمه الله- عن ربا النسيئة: هو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية مثل أن يؤخر دينه ويزيده في المال وكلما أخره زاد في المال حتى تصير المائة عنده آلاف([50]) مؤلفة، وفي الغالب لا يقبل ذلك([51]) إلا معدوم([52]) محتاج فيشتد ضرره وتعظم مصيبته ويعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوداته".
والجواب عن هذا من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: ما زعمه الفتان من أن الربا المجمع على تحريمه هو ربا النسيئة الذي كان في الجاهلية فهو خطأ محض، وحكايته الإجماع عليه كذب على العلماء؛ لأن هذا القول خلاف الإجماع الذي حكاه ابن المنذر وابن عبد البر والموفق وابن أبي عمر والنووي وغيرهم عن علماء الأمصار، فقد ذكر ابن المنذر عنهم: "أنهم أجمعوا على أنه لا يجوز بيع ذهب بذهب ولا فضة بفضة ولا بر ببر ولا شعير بشعير ولا تمر بتمر ولا ملح بملح متفاضلا يدا بيد ولا نسيئة وأن من فعل ذلك فقد أربى والبيع مفسوخ... قال: وقد روينا هذا القول عن جماعة من أصحاب رسول الله ﷺ وجماعة يكثر عددهم من التابعين". انتهى.
وقال ابن عبد البر: "لا أعلم خلافًا بين أئمة الأمصار بالحجاز والعراق وسائر الآفاق أن الدينار لا يجوز بيعه بالدينارين ولا بأكثر منه وزنا ولا الدرهم بالدرهمين ولا بشيء من الزيادة عليه". انتهى، وقال الموفق في المغنى: "أجمعت الأمة على أن الربا محرم قال: والربا على ضربين ربا الفضل وربا النسيئة، وأجمع أهل العلم على تحريمهما". انتهى. وذكر ابن أبي عمر في الشرح الكبير نحو ما ذكره الموفق.
وذكر النووي إجماع المسلمين على أنه لا يجوز بيع الربوي بجنسه وأحدهما مؤجل وعلى أنه لا يجوز التفاضل إذا بيع بجنسه حالاً كالذهب بالذهب وعلى أنه لا يجوز التفرق قبل التقابض إذا باعه بجنسه أو بغير جنسه مما يشاركه في العلة كالذهب بالفضة والحنطة بالشعير، وعلى أنه يجوز التفاضل عند اختلاف الجنس إذا كان يدًا بيد كصاع حنطة بصاعي شعير. انتهى.
وقد ذكرت هذه الأقوال وغيرها في الفصل الذي فيه ذكر الإجماع على تحريم الربا فلتراجع في أول الكتاب([53]) ففيها أبلغ رد على الفتان المفتون الذي يهرف بما لا يعرف.
وقد ذكرت أيضا قول ابن حجر الهيتمي أن الربا ثلاثة أنواع، ربا الفضل وربا اليد، وربا النساء، قال: وزاد المتولي نوعًا رابعًا وهو ربا القرض، قال الهيتمي: وكل من هذه الأنواع الأربعة حرام بالإجماع وبنص الآيات والأحاديث، وما جاء في الربا من الوعيد شامل للأنواع الأربعة. انتهى، فليراجع كلامه([54]) ففيه أبلغ رد على الفتان المفتون.
الوجه الثاني: أن يقال: إنَّ حَصْرَ الربا المجمع على تحريمه في ربا النسيئة الذي كان في الجاهلية يتضمن رد الأحاديث المتواترة عن النبي ﷺ في النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة الذي ليس على طريقة أهل الجاهلية، ومن رد شيئا من أقوال النبي ﷺ فهو على شفا هلكة؛ لأن الله -تعالى- يقول: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، وقال -تعالى-: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ فلا يأمن الفتان أن يكون له نصيب وافر مما جاء في الآيتين من الوعيد الشديد؛ لأنه قد بذل جهده في التهوين من شأن ربا الفضل وربا النسيئة الذي ليس على طريقة أهل الجاهلية، وكذلك قد بذل جهده في محاولة حصر الربا فيما كان يفعله أهل الجاهلية ولم يبال بما يترتب على ذلك من مشاقة الرسول ﷺ ومخالفة أقواله الثابتة عنه في النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة على أي صفة كان.
وأما ما ذكره الفتان عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- فقد تقدم الجواب عنه في أثناء الكتاب فليراجع([55]).
فصل
وقال الفتان: "أما ربا الفضل فقد حُرِّم سدًا للذريعة، وما كان كذلك فيجوز للمصلحة، كما قال به العلامة ابن القيم، وقال رشيد رضا في فتواه: واعلم أن الزيادة.....
الأولى في الدين المؤجل هي من ربا الفضل وإن كانت لأجل التأخير، لكن ربا النسيئة المعروف هو ما يكون بعد حلول الأَجَل لأَجْل الإنساء، أي التأخير، قال الفتان: ومعنى ذلك أن النص عند عقد الدين على الزيادة على أصل الدين في مقابل الأجل المحدد في العقد وطلب المدين تأجيله في مقابل حلول أجل الدين وذلك لأجل الإنساء فقط أي التأخر فقط للدين القديم فهذا ربا لا شك فيه ولا تجوز إباحته بأي حال من الأحوال".
والجواب: أن يقال: أما قول ابن القيم إن ربا الفضل حُرِّم سدًا للذريعة فليس عليه دليل البتة، وقد تقدم الجواب عنه مبسوطًا في أثناء الكتاب فليراجع([56]).
وأما قوله: إن ربا الفضل يجوز للمصلحة.
فجوابه: أن يقال: إن ابن القيم لم يذكر شيئا مما أبيح للمصلحة من ربا الفضل سوى العرايا، ولم يذكر غيرها، وقد تقدم الكلام في بيع العرايا وبيان أن المصلحة المستثناة من ربا الفضل محصورة في بيع العرايا، وما سواها فهو باق على المنع والتحريم، فليراجع ما تقدم([57]) ففيه كفاية في الرد على الفتان الذي يحاول استحلال ربا الفضل معتمدا على ما جاء في كلام ابن القيم من ذكر المصلحة المستثناة من ربا الفضل.
وأما رشيد رضا فإنه قد تبع شيخه محمد عبده في تحليل ربا الفضل وتسميته باسم الفائدة، وله في تحليله عدة فتاوى، فليحذر المؤمن الناصح لنفسه من فتاواه وفتاوى شيخه في تحليل الربا فإنها مخالفة للكتاب والسنة وإجماع المسلمين.
فصل
وقد تلاعب الشيطان بالفتان غاية التلاعب وزين له التمويه والتلبيس على الجهال وأغراه بذلك، فمن ذلك تمويهه وتلبيسه بما ذكره عن ابن القيم وشيخ الإسلام ابن تيمية والموفق وابن حزم في إجازة المصالح التي لا مضرة فيها وليس لها تعلق بمسائل الربا، وقد جعل كلامهم فيها مستندا له في تحليل الربا للمصلحة والحاجة، وليس في كلامهم ما يؤيد قوله الباطل كما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى-.
فأما ابن القيم فإنه ذكر عنه أنه قال في كتابه (زاد المعاد): "الشرائع مبناها مصالح العباد([58]) وعدم الحجر عليهم فيما لابد لهم منه ولا تتم مصالحهم في معاشهم إلا به".
وقال الفتان: "فتناول -رحمة الله- الضرورات أولاً في قوله فيما لا بد لهم منه، ثم تناول عليهم فيما لا بد لهم منه ولا تتم مصالحهم في معاشهم إلا به".
والجواب: أن يقال: ليس في كلام ابن القيم ما يتعلق به الفتان فيما هو مفتون به من تجويز ربا النسيئة للضرورة وتجويز ربا الفضل للحاجة؛ لأن كلام ابن القيم لم يكن في مسائل الربا وإنما هو في بيع المقاثئ والمباطخ إذا بدا صلاحها، وعلى هذا فإدخال مسائل الربا في هذه المسألة خطأ وتمويه وتلبيس على الجهال.
وسأذكر -إن شاء الله تعالى- كلام ابن القيم في مسألة بيع المقاثئ والمباطخ ليعلم المطلعون عليه أنه ليس فيه ما يتعلق به الفتان في إباحة الربا.
قال في الكلام على بيع المعدوم ما ملخصه:
"المعدوم ثلاثة أقسام: معدوم موصوف في الذمة: فهذا يجوز بيعه اتفاقًا، وهذا هو السلم، والثاني: معدوم تبع للموجود وهو نوعان، نوع متفق عليه ونوع مختلف فيه، فالمتفق عليه بيع الثمار بعد بُدُوِّ صلاح ثمرة واحدة منها، والنوع المختلف فيه كبيع المقاثئ والمباطخ إذا طابت فهذا فيه قولان، أحدهما: أنه يجوز بيعها جملة ويأخذها المشتري شيئا بعد شيء كما جرت به العادة ويجري مجرى بيع الثمرة بعد بدو صلاحها، وهذا هو الصحيح من القولين الذي استقر عليه عمل الأمة ولا غنى لهم عنه، ولم يأت بالمنع منه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا أثر ولا قياس صحيح".
ثم ذكر قول الذين قالوا لا يباع إلا لقطة لقطة وردَّ عليهم وذكر أنه يتعذر العمل بقولهم غالبا، وإن أمكن ففي غاية العسر ويؤدي إلى التنازع والاختلاف الشديد، وما كان هكذا فإن الشريعة لا تأتي به، ولو ألزم الناس به لفسدت أموالهم وتعطلت مصالحهم... إلى أن قال: "والشرائع مبناها على رعاية مصالح العباد وعدم الحجر عليهم فيما لابد له منه ولا تتم مصالحهم في معاشهم إلا به".
ثم ذكر القسم الثالث وهو المعدوم الذي لا يدري يحصل أولا يحصل، وذكر أن الشارع منع منه لكونه من الغرر. انتهى المقصود من كلامه، ومنه يعلم ما في كلام .......
الفتان من التقول على ابن القيم حيث وضع كلامه على غير موضعه وحمله على ما يوافق قوله الباطل ورأيه الفاسد في تحليل الربا، وذلك في زعمه أن كلام ابن القيم قد تناول الضرورات والحاجات، ومراده بالضرورات والحاجات ما هو مفتون به من تجويز ربا النسيئة للضرورة وتجويز ربا الفضل للحاجة، لا يخفى على من له علم وبصيرة أن كلام ابن القيم بعيد غاية البعد عما حمله الفتان عليه.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- فإن الفتان ذكر عنه أنه قال في المصلحة: "إن كل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعًا".
قال الفتان: "وهذا أيضا في موضوع الحاجات التي هي دون الضرورات".
والجواب عن هذا من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: ليس في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- ما يتعلق به الفتان في تجويز ربا الفضل للحاجة؛ لأن كلامه لم يكن في مسائل الربا وإنما هو في تأجير الأرض التي تكون مشتملة على غراس وأرض تصلح للزرع وربما اشتملت مع ذلك على مساكن فيريد صاحبها أن يؤجرها لمن يسقيها ويزرعها أو يسكنها مع ذلك، قال: فهذا إذا كان فيها أرض وغراس مما اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز بحال، والثاني: يجوز إذا كان الشجر قليلا وكان البياض الثلثين أو أكثر، والثالث: يجوز استئجار الأرض التي فيها شجر ودخول الشجر في الإجارة مطلقًا، وقد صحح الشيخ القول بالجواز ورد على من قال بالتحريم، وأطال الكلام في الرد عليهم وقال في إثنائه: "فكل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعًا" ثم قال ومن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها وجدها مبنية على قوله -تعالى-: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، وقوله: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، فكل ما احتاج الناس إليه في معاشهم ولم يكن سببه معصية – هي ترك واجب أو فعل محرم – لم يحرم عليهم؛ لأنهم في معنى المضطر الذي ليس بباغ ولا عاد. انتهى المقصود من كلامه ملخصا، وهو مبسوط في صفحة خمس وخمسين إلى صفحة ثمان وثمانين من المجلد التاسع والعشرين من مجموع الفتاوى، ومنه يعلم ما في كلام الفتان من التقول على شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- حيث وضع كلامه على غير موضعه وحمله على ما يوافق الباطل في تحليل الربا وذلك في زعمه أن كلام شيخ الإسلام في موضوع الحاجات التي هي دون الضرورات، ومراده بالحاجات تجويز ربا الفضل للحاجة ومراده بالضرورات تجويز ربا النسيئة للضرورة،
وقد صرح بذلك فيما زعم أنها نتيجة هامة، وتقدم كلامه في ذلك والرد عليه في أثناء الكتاب فليراجع([59]).
ولا يخفي على ذوي العلم والبصيرة أن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- بعيد غاية البعد عما حمله الفتان عليه.
وفي قول شيخ الإسلام أن كل ما احتاج الناس إليه في معاشهم ولم يكن سببه معصية– هي ترك واجب أو فعل محرم – لم يحرم عليهم لأنهم في معنى المضطر الذي ليس بباغ ولا عاد، أبلغ رد على الفتان لأن الشيخ -رحمه الله تعالى- قيَّد الحاجة بما لم يكن سببه معصية هي ترك واجب أو فعل محرم، وبهذا التقييد ينعكس الأمر على الفتان ويكون كلام شيخ الإسلام مجابهًا لقوله وكاشفًا لشبهته وتلبيسه؛ وذلك لأن التعامل بالربا من أعظم المعاصي والمحرمات وليس في تحريمه استثناء حاجة ولا ضرورة سوى بيع العرايا فإن رسول الله ﷺ قد أذن في بيعها بخرصها لأن التقدير بالخرص يقام مقام التقدير بالكيل عند الحاجة. وقد ذكرت الأحاديث الواردة في الرخصة في بيع العرايا فلتراجع([60]).
الوجه الثاني: أن يقال: إن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- سئل عن تحريم الربا، فأجاب بقوله: "المراباة حرام بالكتاب والسنة والإجماع وقد «لعن رسول الله ﷺ آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه» وإن كان أصل الربا في الجاهلية أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجل فإذا حل الأجل قال له: أتقضي أم تربي فإن وفاه وإلا زاد هذا في الأجل وزاد هذا في المال فيتضاعف المال، والأصل واحد، وهذا الربا حرام بإجماع المسلمين". انتهى وهو في صفحة ثمان عشرة وأربعمائة وأول صفحة تسع عشرة وأربعمائة من المجلد التاسع والعشرين من مجموع الفتاوى.
وقال الشيخ أيضا في صفحة ثلاث وثمانين ومائتين وصفحة أربع وثمانين ومائتين من المجلد التاسع عشر من مجموع الفتاوى: "ومن هذا الباب لفظ الربا فإنه يتناول كل ما نهي عنه من ربا النساء وربا الفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك، فالنص متناول لهذا كله".
وقال أيضا في صفحة ست وعشرين ومائة من المجلد الخامس عشر من مجموع الفتاوى: "وهذا مثل الربا فإنه وإن رضي به المرابي وهو بالغ رشيد لم يبح ذلك لما فيه من
ظلمه، ولهذا له أن يطالبه بما قبض منه من الزيادة ولا يعطيه إلا رأس ماله وإن كان قد بذله باختياره".
وقال أيضًا في الفتاوى المصرية: "بيع الربوي بجنسه متفاضلا حرام". انتهى.
وفي كل موضع من هذه المواضع أبلغ رد على ما موَّه به الفتان على الجهال حيث قال في قول شيخ الإسلام: "إن كل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعًا" إنه قد جاء في موضوع الحاجات التي هي دون الضرورات، وكلام شيخ الإسلام في موضوع غير هذا الموضوع كما تقدم بيان ذلك في الوجه الأول وهو بعيد غاية البعد عما حمله الفتان عليه.
وأما الموفق ابن قدامة -رحمه الله تعالى- فإن الفتان ذكر عنه أن قال في المغنى: "إن ما فيه مصلحة من غير ضرر بأحد فهو جائز وأن الشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها وإنما يرد بمشروعيتها".
والجواب عن هذا من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: ليس في كلام الشيخ الموفق ما يتعلق به الفتان من تجويز ربا الفضل للحاجة وربا النسيئة للضرورة؛ لأن كلامه فيما يتعلق بالقرض، وهو أن يقرض الإنسان آخر قرضا ويشترط عليه أن يعطيه إياه في بلد آخر، فإن كان لحمله مؤنة لم يجز لأنه زيادة، وإن لم يكن لحمله مؤنة فقد أختلف العلماء في الجواز وعدمه، وعن أحمد في ذلك روايتان، قال الشيخ الموفق: "والصحيح جوازه؛ لأنه مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منهما، والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها بل بمشروعيتها، قال: ولأن هذا ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معنى المنصوص فوجب إبقاؤه على الإباحة". انتهى المقصود من كلامه وهو في باب القرض من كتاب المغنى، وقد صحح شيخ الإسلام ابن تيمية القول بالجواز، وكلامه في ذلك مذكور في الاختيارات وفي الجزء التاسع والعشرين من مجموع الفتاوي.
وقد غيَّر الفتان أول عبارة الموفق ليوهم الجهال أن في قوله تأييدًا لما يراه من جواز ربا الفضل للحاجة وربا النسيئة للضرورة، وفي تغيير الفتان لعبارة الموفق دليل على أنه لا أمانة له.
وفي تعليل الموفق للجواز بأن هذا ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معنى المنصوص فوجب إبقاؤه على الإباحة أبلغ رد على الفتان الذي يرى جواز الربا ولا يبالي بمخالفة النصوص الدالة على تحريمه والتشديد فيه.
الوجه الثاني: أن يقال: إن الشيخ الموفق ذكر في "باب الربا والصرف" من كتاب المغني أن الربا محرم بالكتاب والسنة والإجماع – ثم ذكر الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة – ثم قال: "وأجمعت الأمة على أن الربا محرم، قال: والربا على ضربين ربا الفضل وربا النسيئة وأجمع أهل العلم على تحريمهما". انتهى المقصود من كلامه، وفيه أبلغ رد على ما تعلق به الفتان من كلام الموفق في مسألة القرض التي تقدم ذكرها في الوجه الأول.
وأما ابن حزم فإن الفتان ذكر عنه أنه قال: "المفسدة إذا عارضتها مصلحة راجحة قدمت المصلحة وألغي اعتبار المفسدة".
قال الفتان: "ومن ذلك أيضا القاعدة الشرعية في مختلف المذاهب وهي أن المفسدة إذا عارضتها مصلحة أو حاجة راجحة أبيح المحرم".
والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الله -تعالى- قد حرم الربا تحريمًا مطلقًا وشدد فيه وتوعد عليه بأشد الوعيد وأخبر أنه يمحقه، وآذن المرابين بالحرب منه ومن رسوله ﷺ، وكذلك الرسول ﷺ فإنه قد حرم الربا وشدد فيه ولعن آكله ومؤكله وشاهديه وكاتبه، ونص على أنه من السبع الموبقات – أي المهلكات – ولم يأت في القرآن ولا في السنة ما يدل على إباحة شيء منه لا لحاجة ولا ضرورة ولا مصلحة ولا غير ذلك سوى بيع العرايا بخرصها فإن رسول الله ﷺ قد أذن فيها، وما سوى بيع العرايا فتحريمه على الإطلاق وليس فيه استثناء البتة، وليس لأحد قول مع الله -تعالى- ورسوله ﷺ، قال الله -تعالى-: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا﴾.
الوجه الثاني: أن يقال: إن التعامل بالربا ليس من المسائل التي قد تعارضت فيها المصلحة والمفسدة كما قد توهم ذلك الفتان، وإنما هو فساد محض، والدليل على ذلك أن الله توعد عليه بأشد الوعيد وأخبر أنه يمحقه وآذن عليه بالحرب منه ومن رسوله ﷺ، وكذلك ما ثبت عن النبي ﷺ من التشديد فيه، فكل ذلك يدل على أن التعامل به فساد محض وليس فيه مصلحة البتة، ومن زعم أن فيه مصلحة فإنما هو في الحقيقة يستدرك على الله -تعالى- وعلى رسوله ﷺ ويشرع من الدين ما لم يأذن به الله، وما أعظم ذلك وأشد الخطر فيه.
الوجه الثالث: أن يقال: إن القاعدة التي ذكر الفقهاء فيها تعارض المصلحة .........
والمفسدة وتقديم الراجح منهما ليس فيها ذكر للحاجة الراجحة، وإنما هي دسيسة من دسائس الفتان ليموِّه بذلك على الجهال ويوهمهم أن الفقهاء قد ذكروا ما يؤيد قوله الباطل وهو ما يراه من جواز الربا بالفضل للحاجة، وقد قال الله -تعالى-: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾.
الوجه الرابع: أن يقال: إن الله -تعالى- أباح للمضطر الذي ليس بباغ ولا عاد أن يأكل من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، ولم يبح له أكل الربا قط، وكذلك الرسول ﷺ فإنه لم يأذن في شيء من الربا سوى بيع العرايا بخرصها، ولو كانت الحاجة الراجحة تبيح المحرم– أي تبيح ربا الفضل للحاجة كما زعم ذلك الفتان في مواضع كثيرة من نبذته – لكان ذلك مذكورا في القرآن أو في السنة، قال الله -تعالى-: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾، وقال -تعالى-: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾، وعن أبي ذر -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم» رواه الطبراني في الكبير قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقري وهو ثقة".
الوجه الخامس: أن يقال: إن رسول الله ﷺ قد رخص للمضطر الذي لا يجد شيئًا يأكله أن يسأل الناس ما يسد به جوعه، ولم يأت عنه أن رخص في أكل الربا ولو كانت الحالة حالة ضرورة.
فضل
وقال الفتان: "إن الحكمة في تحريم الربا هي إزالة الظلم بنص القرآن الكريم والمحافظة على فضيلة التراحم والتعاون، وأن لا يستغل الغني حاجة أخيه الفقير، وهذا هو المراد بقوله -تعالى-: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾، ثم نقل عن رشيد رضا أنه قال: لا يخفي أن المعاملة التي ينتفع ويرحم فيها الآخذ والمعطي والتي لولاها فاتتهما المنفعة معًا لا تدخل في هذا التعليل ﴿لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ لأنها ضد الظلم وأن المعاملة التي يقصد بها الإتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع لا من قسم استغلال حاجة المحتاج، ونقل عنه أيضا أنه قال: ليس في أخذ الربح من صندوق التوفير والمصارف ظلم لأحد ولا قسوة على محتاج حتى في دار الإسلام".
والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: ظاهر كلام الفتان أنه يحاول حصر الربا فيما كان معروفًا في الجاهلية، وكذلك ظاهر كلام رشيد رضا، ولهذا استدل كل منهما بالآية التي نزلت في الربا الذي كان لبعض المسلمين في الجاهلية فلما أسلموا طلبوا رباهم فأمرهم الله -تعالى- أن يأخذوا رؤوس أموالهم ويذروا الربا، ونص على أن أخذ الربا ظلم وأن النقص من رؤوس الأموال ظلم، وليس في الآية ما يدل على حصر الربا فيما كان معروفًا في الجاهلية كما قد توهم ذلك الفتان تقليدًا لرشيد رضا، بل إن الآية فيها دليل على أن الزيادة على رؤوس الأموال ظلم وإن كانت شيئا يسيرًا؛ لأن الله -تعالى- أمر المرابين أن يأخذوا رؤوس أموالهم ولا يزيدوا عليها فدل ذلك على أن الزيادة ظلم، وقد تقدم قريبا([61]) قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أن لفظ الربا يتناول كل ما نهي عنه من ربا النساء وربا الفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك، قال: فالنص متناول لهذا كله، وقال أيضا: وهذا مثل الربا فإنه وإن رضي به المرابي وهو بالغ رشيد لم يبح ذلك لما فيه من ظلمه، ولهذا له أن يطالبه بما قبض منه من الزيادة ولا يعطيه إلا رأس ماله وإن كان قد بذله باختياره. انتهى.
الوجه الثاني: أن يقال: إن رشيد رضا قد زلَّ زلة عظيمة في قوله: إن المعاملة التي يقصد بها الإتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع، وهذه الزلة أعظم من قول الذين أخبر الله عنهم أنهم قالوا: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ لأن هؤلاء جعلوا الربا نظير البيع، وأما رشيد رضا فإنه جعل المعاملة الربوية التي يقصد بها الإتجار من قسم البيع، وهذا من التعدي لحدود الله والتغيير في أحكامه وأحكام رسوله ﷺ؛ لأن الله -تعالى- حرَّم الربا تحريما مطلقًا يتناول جميع أنواع الربا وشدد فيه وتوعد عليه بأشد الوعيد وأنكر على الذين قالوا: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾، وأمر المؤمنين أن يذروا الربا وآذن من لم يذره بالحرب منه ومن رسوله ﷺ وأمر المرابين أن يأخذوا رؤوس أموالهم وأن لا يَظلِموا بأخذ الزيادة على رؤوس أموالهم وأن لا يُظلَموا بالنقص من رؤوس أموالهم.
وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه لعن آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه، ونص على أن أكل الدرهم من الربا أشد من ستة وثلاثين زنية، وأخبر أنه من السبع الموبقات – أي المهلكات – وهذا يتناول جميع أنواع الربا، ولا فرق في ذلك بين ربا الفضل وربا النسيئة سواء كان على طريقة أهل الجاهلية أو على غير طريقتهم فكله داخل في عموم ...........
الآيات والأحاديث الدالة على تحريم الربا والتشديد فيه، ولا يستثنى منه شيء سوى بيع العرايا بخرصها؛ لأن رسول الله ﷺ قد أذن في ذلك.
الوجه الثالث: أن يقال: إن رشيد رضا سئل عن صندوق التوفير هل يجوز الادخار فيه وأخذ أرباحه، فأجاب بأنه لا يرى بأسًا من العمل به، ثم زعم أن الربا الحقيقي هو الذي علل القرآن تحريمه بقوله -تعالى-: ﴿لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ يعني أن الربا المحرم منحصر في ربا الجاهلية، ثم قال: فالتعاقد في عمل يفيد الآخذ والمعطي بيع أو تجارة... إلى أن قال: إن المعاملة التي يقصد بها البيع والإتجار هي من قسم البيع. كذا قال المحلل لما حرمه الله ورسوله من أنواع الربا التي ليست على طريقة ربا أهل الجاهلية، وهذا من التشريع في الدين بما لم يأذن به الله، وقد قلد رشيد رضا شيخه محمد عبده في زعمه أن الفائدة غير الربا وأن الربا المحرم دينا هو الربا المحرم قانونًا والمحسوب جناية، وقد تقدم كلام الشيخ أحمد محمد شاكر في الرد على المتلاعبين بالدين وهم الذين يزعمون أن الربا المحرم هو الأضعاف المضاعفة، وتقدم أيضا رد الشيخ محمود شلتوت عليهم فليراجع ذلك في أول الكتاب([62])، فإنه ينطبق على من حلل الربا باسم الفائدة أو باسم البيع والإتجار، وعلى من حصر الربا الحقيق فيما كان على طريقة أهل الجاهلية، وليراجع أيضا كلام سيد قطب في الرد عليهم([63]) فإنه كلام جيد جدًا.
وأما ما نقله الفتان عن رشيد رضا أنه قال: ليس في أخذ الربح من صندوق التوفير والمصارف ظلم لأحد ولا قسوة على محتاج حتى في دار الإسلام.
فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: هذا القول صريح في تحليل الربا الذي يؤخذ من صندوق التوفير والمصارف، وأما تسميته بالربح فهي من التمويه والتلبيس على الجهال وهذه التسمية لا تنقل الربا من التحريم إلى الحل، ومثل ذلك تسميته باسم الفائدة في كلام محمد عبده، فكل من القولين باطل ومن تحريف الكلم عن مواضعه وتغيير حكم الله ورسوله في الربا وتطبيقه على حكم القانون.
الوجه الثاني: أن يقال: قد تقدم في أول الكتاب حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر وبالبر والشعير ....
بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء» وتقدم أيضا حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ نحوه وفيه: «فمن زاد أو ازداد فقد أربى» وتقدم أيضا حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله ﷺ قال: «الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل فمن زاد أو استزاد فهو ربا»، وفي رواية: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والورق بالورق مثلا بمثل يدًا بيد من زاد أو ازداد فقد أربى».
وهذه النصوص صريحة في تحريم التفاضل في بيع الجنس بجنسه في جميع الأعيان المذكورة في هذه الأحاديث، وصريحة أيضًا في الحكم على الزيادة بأنها ربا، والظاهر من الأحاديث أنه لا فرق بين أن تكون الزيادة كثيرة أو قليلة جدًا، وظاهرها أيضا أنه لا فرق بين ما يكون فيه قسوة على المحتاج وما ليس فيه قسوة عليه، وأما الظلم في أخذ الزيادة فهو حاصل في جميع البيوع الربوية سواء كانت الزيادة فيها كثيرة أو قليلة لقول الله -تعالى-: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ فدلت الآية على أن ما زاد على رؤوس الأموال فهو ظلم وأنه لا فرق في ذلك بين الزيادة الكثيرة والزيادة القليلة.
وفي هذه النصوص أيضًا أبلغ رد على من أجاز أخذ الربا من صندوق التوفير والمصارف وسماه باسم الربح.
الوجه الثالث: أن يقال: إن بلال -رضي الله عنه- لما باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب قال له النبي ﷺ: «أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل» وفي رواية أن رجلا باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب فقال رسول الله ﷺ: «هذا الربا فردوه» وفي رواية أنه قال له: «أضعفت أربيت لا تقربن هذا» وفي رواية أنه قال له: «ويلك أربيت» وقد تقدمت هذه الأحاديث في أول الكتاب فلتراجع([64])، ففيها أبلغ رد على من أجاز أخذ الربا من صندوق التوفير والمصارف وسماه باسم الربح وعلل جواز أخذه بأنه ليس فيه ظلم لأحد ولا قسوة على محتاج، وهذا التعليل مردود بما جاء في قصة بلال وما ذكر بعدها فإنه ليس في فعلهم ظلم لأحد ولا قسوة على محتاج، ومع هذا فقد أنكر عليهم النبي ﷺ وبالغ في الإنكار، ونص على أن ما ..............................
فعلوه عين الربا وأمرهم برده، فدل ذلك على أنه لا تأثير لوجود الظلم والقسوة على المحتاج في تحريم الربا ولا تأثير لعدمهما، وإنما العلة وجود التفاضل في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة وسائر الأعيان الستة المنصوص عليها في حديثي أبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت -رضي الله عنهما-، فإذا وجد التفاضل في بيع الجنس منها بجنسه فقد وجد الربا ولو لم يكن هناك ظلم ولا قسوة.
ومما يدل علي أنه لا تأثير للظلم والقسوة في تحريم الربا قول النبي ﷺ: «فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» فقد وصف الزائد والمستزيد بالإرباء ونص على أن الآخذ والمعطي سواء في الإرباء، ومن المعلوم أن الظلم والقسوة إذا وجد فإنما يكونان في جانب الآخذ وحده، ومع هذا فقد جعل النبي ﷺ كلا من الآخذ والمعطي سواء في الإرباء، فدل هذا على أنه لا تأثير لوجود الظلم والقسوة في تحريم الربا ولا لعدم وجودهما.
فصل
وقال الفتان: "إن المصارف هي مؤسسات تجارية حديثة لم تكن معروفة في عهد نزول أحكام الربا في الشريعة الإسلامية، ولذلك تخضع لأحكام الشريعة على طريق القياس، فإذا كان الشبه كاملاً من غير أي فارق بينهما وبين ما قد حرمته الشريعة من الربا القطعي فهي محرمة أيضا قطعًا، أما إذا اختلفت المصارف عن الربا القطعي ولو في بعض الوجوه فليست محرمة تحريما قطعيًا، وإنما يجب النظر فيها على أساس مصالح الناس في معاشهم فإن كان معاشهم لا يتم إلا بها فهي جائزة من غير ريب دفعا للحرج الواجب دفعه عملا بنص القرآن".
والجواب عن هذا من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن المصارف وإن كانت مؤسسات تجارية حديثة فإن الأحكام فيها لا تختلف عن الأحكام في غيرها من المؤسسات التجارية وغير التجارية وسائر الأعمال التي يكون لها علاقة بالبيع والشراء فكلها يجب أن تخضع لأحكام الشريعة في جميع الأعمال، ومن ذلك تحريم الربا على وجه العموم فإنه يجب أن يعمل به في المصارف وغير المصارف على حد سواء؛ لأن الله -تعالى- حرم الربا في كتابه تحريما مطلقًا بتناول جميع أنواع الربا، وكذلك الرسول ﷺ فإنه قد حرم الربا تحريما مطلقًا يتناول جميع أنواع الربا سوى ما أذن فيه من بيع العرايا ................................
بخرصها، وقد أجمع المسلمون على تحريم الربا على وجه العموم الذي يشمل المصارف وغير المصارف.
الوجه الثاني: أن يقال: إن الفتان قد صرح بتحليل الربا في المصارف دفعًا للحرج على حد زعمه، وقد لفق له شبهًا يُضل بها الجهال ويُلبِّس بها عليهم.
فمنها قوله في المصارف: إنها تخضع لأحكام الشريعة على طريق القياس.
والجواب: أن يقال: إن القياس لا يعمل به مع وجود النص أو الإجماع، وإنما يعمل به عند عدمهما، وقد تظافرت النصوص من الكتاب والسنة على تحريم الربا تحريما مطلقا يتناول جميع أنواع الربا، وأجمع المسلمون على تحريم الربا على وجه العموم، فيجب على المصارف وغيرها من المؤسسات التجارية وغير التجارية أن تخضع لما جاء في نصوص الكتاب والسنة والإجماع ولا تلتفت إلى ما لفقه الفتان من الأباطيل والشبه المضلة، وقد ذكرت الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على تحريم الربا في أول الكتاب فلتراجع ففيها أبلغ رد على الفتان وعلى أشياعه من أهل الزيغ والضلال.
ومنها تقسيمه الربا إلى قطعي وغير قطعي، ومراده بالقطعي ربا أهل الجاهلية، وقد كرر القول بأنه هو الربا المجمع على تحريمه، وقد تقدم الرد على هذا القول الباطل قريبًا فليراجع([65]).
ومنها زعمه أن المصارف إذا اختلفت عن الربا القطعي ولو في بعض الوجوه فليست محرمة تحريمًا قطعيًا.
والجواب: أن يقال: إن الربا ليس محصورًا في ربا أهل الجاهلية كما قد زعم ذلك الفتان المحارب لله ولرسوله ﷺ والمخالف لإجماع المسلمين، وإنما ربا أهل الجاهلية نوع من أنواع ربا النسيئة، وكل من ربا النسيئة وربا الفضل محرم تحريمًا قطعيًا، والدليل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقول الله -تعالى-: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ إلى آخر الآيات التي فيها النص على محق الربا والأمر بتركه وإيذان من لم يتركه بالحرب من الله
ورسوله وأمر المرابين أن يأخذوا رؤوس أموالهم ولا يَظلِموا بأخذ الزيادة على رؤوس أموالهم ولا يُظلموا بالنقص منها، فهذه النصوص تشمل جميع أنواع الربا وتدل على أنها محرمة تحريما مطلقًا، وليس فيها ما يدل على تخصيص ربا أهل الجاهلية بالتحريم القطعي دون غيره. فإن قيل إن هذه الآية وهي قوله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ كان نزولها ونزول الآية التي بعدها بسبب ما كان باقيا لبعض المسلمين من الربا الذي كان لهم في الجاهلية.
فالجواب: أن يقال: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر عند الأصوليين، وليس في الآيتين ما يدل على أن الربا المحرم قطعًا هو ربا أهل الجاهلية دون غيره من أنواع الربا، وإنما فيهما الأمر بترك الربا وإيذان من لم يتركه بالحرب من الله ورسوله وأنهم إن تابوا فلهم رؤوس أموالهم، وهذا يعم المرابين الذين أسلموا ولهم بقايا من الربا ويعم غيرهم من المتعاملين بالربا في الإسلام ولا فرق بين هؤلاء وأولئك، قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "لفظ الربا يتناول كل ما نهي عنه من ربا النساء وربا الفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك، فالنص متناول لهذا كله". انتهى، وقد تقدم([66]) قول الجصاص: "إن قول الله -تعالى-: ﴿وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ قد انتظم تحريم جميع ضروب الربا لشمول الاسم عليها من طريق الشرع، وقال أيضا: اسم الربا يعتريه معان أحدها: الربا الذي عليه أهل الجاهلية، والثاني: التفاضل في الجنس الواحد من المكيل أو الموزون، والثالث: النسأ". انتهى.
وأما السنة فإن رسول الله ﷺ قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» فذكرها ومنها أكل الربا، وثبت عنه ﷺ أنه «لعن آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه» وثبت عنه ﷺ أنه قال: «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد بمن ستة وثلاثين زنية» وهذه الأحاديث تشمل جميع أنواع الربا وتدل على أنها كلها محرمة تحريمًا قطعيًا، وقد تواتر عن النبي ﷺ أنه نهى عن ربا الفضل وربا النسيئة، وفي بعض الروايات أنه قال: «من زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» وفي رواية: «من زاد أو استزاد فهو ربا» وقال لبلال لما باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب: «أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل» قال النووي: "معنى عين الربا أنه حقيقة الربا المحرم"، وفي رواية أن رجلا باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب فقال رسول ..........................
الله ﷺ: «هذا الربا فردوه» وفي رواية أنه قال له: «أضعفت أربيت لا تقربن هذا» وفي رواية أنه قال له: «ويلك أربيت» وهذه الروايات تدل على التشديد في بيع الجنس من الأعيان الستة بجنسه مع التفاضل، وقد ذكرت هذه الأحاديث في أول الكتاب فلتراجع ففيها أوضح دليل على أن جميع أنواع الربا محرمة تحريمًا قطعيًا.
وأما الإجماع على تحريم ربا الفضل وربا النسيئة فقد حكاه ابن المنذر وغيره من أكابر العلماء، وقد ذكرت ذلك في أول الكتاب فليراجع([67])، وذكرت قريبا([68]) قول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن المراباة حرام بالكتاب والسنة والإجماع"، وذكرت أيضًا([69]) قول الموفق في (المعنى): "إن الربا محرم بالكتاب والسنة والإجماع"، وقال أيضا: "أجمعت الأمة على أن الربا محرم، قال: والربا على ضربين ربا الفضل وربا النسيئة وأجمع أهل العلم على تحريمهما". انتهى.
وقال ابن حجر الهيتمي في كتابه (الزواجر عن اقتراف الكبائر): "الربا ثلاثة أنواع ربا الفضل وربا اليد وربا النسأ، قال: وزاد المتولي نوعًا رابعًا وهو ربا القرض، قال الهيتمي: وكل من هذه الأنواع حرام بالإجماع وبنص الآيات والأحاديث، وما جاء في الربا من الوعيد شامل للأنواع الأربعة". انتهي.
وفيما ذكرت من أدلة الكتاب والسنة والإجماع على تحريم الربا تحريمًا مطلقًا أبلغ رد على الفتان الذي حاول حصر الربا القطعي في ربا أهل الجاهلية، وحاول تحليل ما سواه من أنواع الربا، وتعامى عن الأدلة المتظافرة من الكتاب والسنة والإجماع على تحريم الربا تحريما مطلقًا يعم جميع أنواع الربا ما كان منه على طريقة أهل الجاهلية وما كان على غير طريقتهم، وقد قال الله -تعالى-: ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، وقال -تعالى-: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ فلا يأمن الفتان أن يكون له نصيب وافر مما جاء في هذه الآيات.
ومن شبه الفتان وأباطيله التي لفقها لإضلال الجهال والتلبيس عليهم زعمه أنه .......
يجب النظر في المصارف على أساس مصالح الناس في معاشهم فإن كان معاشهم لا يتم إلا بها فهي جائزة من غير ريب دفعا للحرج الواجب دفعه عملاً بنص القرآن.
والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: ليس الأمر على ما زعمه الفتان من وجوب النظر في المصارف على أساس مصالح الناس في معاشهم، وإنما يجب النظر فيها على ضوء الكتاب والسنة والإجماع، فما كان فيها من الأعمال التي لا تخالف الكتاب والسنة والإجماع فهو جائز، وما كان فيها من الأعمال المخالفة للكتاب أو السنة أو الإجماع فإنه يجب المنع منه، ومن ذلك التعامل بالربا على أي وجه كان؛ لأن التعامل به مخالف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وما كان بهذه الصفة فإنه يجب المنع منه في المصارف وغير المصارف، ويجب أيضا أن يعاقب الذين يتعاملون بالربا عقوبة موجعة في أنفسهم وأموالهم عملاً بما ثبت عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في ذلك، فقد روى الطحاوي في (شرح معاني الآثار) بإسناد صحيح عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "خطب عمر -رضي الله عنه- فقال: "لا يشتري أحدكم دينارًا بدينارين ولا درهما بدرهمين ولا قفيزا بقفيزين إني أخشى عليكم الرماء([70]) وإني لا أوتى بأحد فعله إلا أوجعته عقوبة في نفسه وماله" قال الطحاوي: فهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يخطب بهذا على منبر رسول الله ﷺ بحضرة أصحابه -رضوان الله عليهم- لا ينكره عليه منهم منكر فدل ذلك على موافقتهم له عليه". انتهى، وقد أمر النبي ﷺ بالاقتداء بعمر -رضي الله عنه- كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة والبخاري في التاريخ والحاكم في مستدركه عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ أن قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» قال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه الحاكم والذهبي.
الوجه الثاني: أن يقال: إن مصالح الناس في معاشهم ليس متوقفة على التعامل مع أهل المصارف بالمعاملات الربوية؛ لأن الله -تعالى- قد حرم الربا تحريمًا مطلقًا ومنع منه منعًا باتًا لما فيه الظلم وأكل الأموال بالباطل، وكثير من المسلمين بل أكثرهم لا يتعاملون مع أهل المصارف بالمعاملات الربوية، ومع هذا فإن مصالحهم في معاشهم كانت متيسرة لكل منهم على حسب ما قسم الله لهم من الرزق، وقد عاش المسلمون أكثر من ثلاثة عشر قرنًا وهم لا يعرفون المصارف، ومع هذا فإن مصالحهم في معاشهم ...............................
كانت متيسرة لكل منهم على حسب ما قسم الله لهم من الرزق، ولم يكن في عدم المصارف في زمانهم أدنى شيء من المضرة لهم في مصالح معاشهم.
وإذا علم أن مصالح الناس في معاشهم ليست متوقفة على التعامل مع أهل المصارف بالمعاملات الربوية، وعلم أيضا أن المعاش يتم بدونها، فليعلم أيضا أن شبه الفتان التي يلبس بها على الجهال ويحاول بها تحليل الربا في المصارف كلها شبه باطلة وحجج داحضة مردودة بالأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة والإجماع على تحريم الربا تحريما مطلقا يعم جميع أنواع الربا ولا تتطرق إليه الأباطيل والشبه التي يلفقها المتلاعبون بالدين.
الوجه الثالث: أن يقال: إن الفتان قد طبق دفع الحرج الواجب دفعه على تحليل الربا في المصارف وزعم أن ذلك من العمل بنص القرآن.
والجواب: أن يقال: إن هذا من تحريف الكلم عن مواضعه ومن القول في القرآن بغير علم وذلك من أعظم المحرمات، وقد ورد الوعيد الشديد على ذلك، وقد ذكرت ما جاء فيه في أول الكتاب فليراجع([71])، وليس تحليل الربا في المصارف من رفع الحرج كما زعم ذلك الفتان وزعمه قبله بعض المتلاعبين بالدين، وإنما هو من المحادة لله ولرسوله ﷺ ومخالفة إجماع المسلمين. وما أشد الخطر في هذا.
وإذا علم هذا فليعلم أيضا أن رفع الحرج الذي قال الله فيه: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ هو استعمال الرخص التي رخص فيها الشارع عند الحاجة، قال ابن كثير في الكلام على هذه الآية: "أي ما كلفكم ما لا تطيقون وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجا ومخرجا، فالصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعًا وفي السفر تقصر إلى اثنتين وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة كما ورد به الحديث، وتصلي رجالاً وركبانًا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها، والقيام فيها يسقط لعذر المرض فيصليها المريض جالسًا فإن لم يستطع فعلي جنبه. إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات". انتهى.
وقال البغوي: "معناه أن المؤمن لا يبتلي بشيء من الذنوب إلا جعل الله له منه مخرجًا
بعضها بالتوبة وبعضها برد المظالم والقصاص وبعضها بأنواع الكفارات فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد سبيلاً إلى الخلاص من العقاب فيه، وقيل من ضيق في أوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان والفطر ووقت الحج إذا التبس ذلك عليكم وسع الله عليكم حتى تتيقنوا، وقال مقاتل: يعني الرخص عند الضرورات كقصر الصلاة في السفر والتيمم عند فقد الماء وأكل الميتة عند الضرورة والإفطار بالسفر والمرض والصلاة قاعدًا عند العجز عن القيام، وروي عن ابن عباس أنه قال: الحرج ما كان على بني إسرائيل من الأعمال التي كانت عليهم وضعها الله عن هذه الأمة". انتهى.
وقال القرطبي: "اختلف العلماء في الحرج الذي رفعه الله -تعالى-؛ فقال عكرمة: هو ما أحل من النساء مثنى وثلاث ورباع وما ملكت يمينك، وقيل المراد: قصر الصلاة والإفطار للمسافر وصلاة الإيماء لمن لا يقدر على غيره وحط الجهاد عن الأعمى والأعرج والمريض والعديم الذي لا يجد ما ينفق في غزوه والغريم ومن له والدان وحط الإصر الذي كان على بني إسرائيل، وروي عن ابن عباس والحسن البصري أن هذا في تقديم الأَهِلَّة وتأخيرها في الفطر والأضحى والصوم فإذا أخطأت الجماعة هلال ذي الحجة فوقفوا قبل يوم عرفة بيوم أو وقفوا يوم النحر أجزأهم، وذلك الفطر والأضحى، وقد روى الأئمة أنه -عليه السلام- سئل يوم النحر عن أشياء فما يسئل عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم الأمور بعضها قبل بعض وأشباهها إلا قال فيها: «افعل ولا حرج»". انتهى.
فهذا كلام العلماء في رفع الحرج الذي رفعه الله عن هذه الأمة وليس فيه ما يتعلق به الفتان في تحليل الربا في المصارف.
فصل
وقال الفتان: "إنه سوف يحاول دراسة طبيعة أعمال المصارف، هل تقع ضمن الأعمال الربوية التي ورد تحريمها في القرآن تحريمًا قطعيًا لا شك فيه أم أنها تختلف عنها تمام الاختلاف، قال: وبالتالي ينظر إليها ضمن حدود القواعد العامة للشريعة، وبالتالي عدم الحجر على العباد فيما لا بد لهم منه ولا تتم مصالحهم في معاشهم إلا به، وذلك طبقًا لما قال به شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حيث قال: إن كل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعًا، مشيرًا بذلك إلى قوله -تعالى-:
﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ وعليه فإن طبيعة أعمال المصارف تختلف عن الربا المحرم في القرآن الكريم".
والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن أنواع الربا كلها محرمة تحريمًا قطعيًا وقد ذكرت الأدلة على ذلك في مواضع كثيرة، وسواء في ذلك ربا الفضل وربا النسيئة، ما كان منه على طريقة أهل الجاهلية وما كان على غير طريقتهم، وكذلك ربا القرض الذي يجر نفعا، وقد ذكرت قريبًا([72]) أن شيخ الإسلام ابن تيمية سئل عن تحريم الربا. فأجاب بقوله: "المراباة حرام بالكتاب والسنة والإجماع، وقال أيضا: لفظ الربا يتناول كل ما نهي عنه من ربا النسأ وربا الفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك، فالنص متناول لهذا كله". انتهى، وقد تقدم قريبًا قول الجصاص بنحو ما في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فليراجع([73]).
الوجه الثاني: أن يقال: إنه لم يأت في القرآن ما يدل على أن ربا أهل الجاهلية هو المحرم تحريمًا قطعيًا دون غيره من أنواع الربا، بل إن ألفاظ القرآن في تحريم الربا والتشديد فيه والوعيد الشديد عليه كلها على العموم فتشمل جميع أنواع الربا على حد سواء. وكذلك ما جاء في السنة من التشديد في الربا فإنه عام يتناول جميع أنواع الربا على حد سواء.
وقد تواتر عن النبي ﷺ أنه نهى عن ربا الفضل وربا النسيئة ولم يفرق بين ما كان على طريقة أهل الجاهلية وما كان على غير طريقتهم، وقد قال الله -تعالى-: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، وقال -تعالى-: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، وقال -تعالى-: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا﴾، وقال -تعالى-: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾، وقال -تعالى-: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
فليتأمل الفتان وأشياعه هذه الآيات حق التأمل ولا يأمنوا بأس الله وعقوبته على ....
مخالفة أمر الرسول ﷺ وقلة المبالاة بما ثبت عنه من التشديد في الربا على وجه العموم، وما تواتر عنه من النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة، وما ثبت عنه من النص على أن من زاد أو استزاد فقد أربى وأن الآخذ والمعطي فيه سواء.
الوجه الثالث: أن يقال: إنما ينظر إلى حدود القواعد العامة إذا كان الدليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع غير موجود، وأما إذا كان الدليل موجودًا من هذه الأصول أو من أحدها فإنه لا ينظر إلى شيء سواه، وقد تظافرت الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة على تحريم الربا تحريما مطلقًا يشمل جميع أنواع الربا وأجمع المسلمون على ذلك، وقد ذكرت ذلك في أول الكتاب فليراجع ففيه أبلغ رد على الفتان الذي قد تعامى عن الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة والإجماع على تحريم الربا تحريمًا مطلقًا وأعرض عنها ولم يبال بها وحاول تحليل الربا في المصارف بما زعمه من النظر إليها ضمن حدود القواعد العامة للشريعة، ومراده بالقواعد العامة للشريعة أنه يجب النظر في المصارف على أساس مصالح الناس في معاشهم فإن كان معاشهم لا يتم إلا بها فهي جائزة دفعًا للحرج الواجب دفعه، وقد تقدم ذكر هذا التلبيس والرد عليه مستوفي في الفصل الذي قبل هذا الفصل فليراجع.
وأما قوله: وبالتالي عدم الحجر على العباد فيما لا بد لهم منه ولا تتم مصالحهم في معاشهم إلا به.
فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: هذا الكلام ظاهر في الاعتراض على الله -تعالى- وعلى رسوله ﷺ؛ لأن الله -تعالى- هو الذي حرم الربا تحريمًا مطلقًا، وهو أعلم بمصالح العباد وما فيه منفعة لهم في معاشهم، ومع هذا فقد حجر على العباد أن يأكلوا الربا وشدد فيه غاية التشديد وتوعد عليه بأشد الوعيد وآذن من لم يتركه بالحرب منه ومن رسوله ﷺ، وكذلك الرسول ﷺ فإنه قد حرم الربا تحريمًا مطلقًا ولعن آكله ومؤكله وشاهديه وكاتبه، ونص على أنه من السبع الموبقات – أي المهلكات– ونص أيضا على أن أكل الدرهم من الربا أشد من ستة وثلاثين زنية، وأخبر أنه ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله، وفي هذا أوضح دليل على أن التعامل بالربا فساد محض وضرر على المجتمع والأفراد، وما كان بهذه الصفة فإنه يجب المنع منه والحجر على المتعاملين به؛ لأنه من الظلم وأكل الأموال بالباطل وقد قال الله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ ..
مِنْكُمْ﴾، قال ابن جرير: "يقول لا يأكل بعضكم أموال بعض بما حرم عليه من الربا والقمار وغير ذلك من الأمور التي نهاكم عنها".
وقال ابن كثير: "ينهى -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضًا بالباطل أي بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية كأنواع الربا والقمار وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل وإن ظهرت في قالب الحكم الشرعي مما يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الربا". انتهى.
وقال البغوي في الكلام على قوله -تعالى-: ﴿بِالْبَاطِلِ﴾: "بالحرام يعني الربا والقمار والغصب والسرقة والخيانة ونحوها"، وقال الزمخشري والنسفي: "﴿بِالْبَاطِلِ﴾: بما لم تبحه الشريعة من نحو السرقة والخيانة والغصب والقمار وعقود الربا". انتهى.
الوجه الثاني: أن يقال: إن الله -تعالى- لما حرم الربا وحجر على العباد أن يأكلوه أحل لهم ما هو أنفع لهم في مصالح معاشهم وذلك بالبيع وأنواع المكاسب والعقود الخالية من الربا والظلم وأكل الأموال بالباطل، وإذا كان الفتان وأشياعه لم يرضوا بحكم الله -تعالى- وحكم رسوله ﷺ في تحريم الربا على وجه العموم ولم يرضوا بالحجر على العباد أن يأكلوا الربا فلا رضوا أبدا، وإذا لم يسعهم في مصالح معاشهم ما وسع المسلمين منذ زمان نبيهم إلى زماننا من المكاسب الخالية من الربا وأكل أموال الناس بالباطل فلا وسَّع الله عليهم أبدًا.
وأما ما نقله الفتان عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أنه قال كل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعًا.
فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن الفتان لا يزال مفتونًا بالتلبيس على الجهال وذلك بما ينقله من كلام العلماء ويضعه على غير مواضعه، ومن ذلك ما نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- ليوهم من لا علم لهم أنه يؤيد رأيه الفاسد في تحليل الربا في المصارف، وقد ذكرت كلام شيخ الإسلام قريبًا([74]) وذكرت أنه ليس فيه ما يتعلق به الفتان؛ لأنه لم يكن في مسائل الربا وإنما هو في تأجير الأرض التي تكون مشتملة على غراس وأرض تصلح للزرع، وقد قال في أثناء كلامه: "كل ما احتاج الناس إليه في معاشهم ولم يكن سببه معصية هي ترك واجب أو فعل محرم – لم يحرم
عليهم"، وفي هذه الجملة من كلام شيخ الإسلام أبلغ رد على الفتان الذي قد حاول تحليل الربا في المصارف ولم يبال بكونه معصية لله -تعالى- ولرسوله ﷺ، ولا بكونه من الأفعال المحرمة بالكتاب والسنة والإجماع.
الوجه الثاني: أن يقال: إن المتعاملين بالربا مع أهل المصارف لم يكونوا يفعلون ذلك للحصول على المعيشة التي لا بد لهم منها وإنما كانوا يفعلونه للاستكثار من المال وتنميته ولو بالطرق المحرمة، وهذا مصداق ما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: «ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمن حلال أم من حرام» رواه الإمام أحمد والبخاري والدارمي من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، ولو كان المتعاملون بالربا مع أهل المصارف يريدون الحصول على المعيشة التي لا بد لهم منها لكانوا ينفقون من رؤوس أموالهم ويتجرون فيها بما ليس فيه ربا ولا ظلم ولا غير ذلك من المكاسب المحرمة فإذا نفذ ما بأيديهم واضطروا إلى السؤال أبيح لهم السؤال؛ لأن رسول الله ﷺ رخص للمضطر الذي لا يجد شيئا يأكله أن يسأل الناس ما يسد به جوعه، ولم يأت عنه ﷺ أنه رخص في أكل الربا قط ولو كانت الحالة حالة ضرورة.
وأما قوله: وعليه فإن طبيعة أعمال المصارف تختلف عن الربا المحرم في القرآن.
فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن أنواع الربا كلها محرمة بالكتاب والسنة والإجماع، وهذا الحكم يشمل المصارف وغير المصارف على حد سواء، ومن أباح ربا الفضل في المصارف أو أباح فيها ربا النسيئة الذي ليس على طريقة ربا أهل الجاهلية فإنما هو في الحقيقة يرد على الله -تعالى- وعلى رسوله ﷺ ويؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعضه، وقد قال الله -تعالى- منكرا على من كان على هذه الطريقة السيئة ومتوعدا لهم بأشد الوعيد: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾، فلا يأمن الفتان ومناصروه على تحليل الربا في المصارف أن يكون لهم نصيب وافر مما هو مذكور في هاتين الآيتين.
الوجه الثاني: أن يقال: إن تفريق الفتان بين أنواع الربا وزعمه أن بعضها محرم في القرآن دون غيره من أنواع الربا ليس عليه دليل البتة، وإنما هو من التحكم والقول في القرآن بغير علم وذلك من أعظم المحرمات.
وأما قول بعض المفسرين في بعض الآيات إنها نزلت فيما كان باقيا لثقيف من الربا الذي كان لهم في الجاهلية فأمروا بعد إسلامهم أن يتركوا الربا ويأخذوا رؤوس أموالهم.
فالجواب عنه: أن يقال: قد اختلف في سبب نزول بعض الآيات، هل كان ذلك بسبب ربا ثقيف على بني المغيرة، أو بسبب ربا عثمان والعباس -رضي الله عنهما- على صاحب التمر، وقد ذكرت الأقوال في ذلك في أثناء الكتاب فلتراجع([75])، وعلى كل من الأقوال التي تقدم ذكرها فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر عند الأصوليين، وليس في شيء من الآيات ما يدل على أن تحريم الربا خاص بما كان على طريقة أهل الجاهلية دون غيره من أنواع الربا، بل الحكم في الجميع واحد لا يختلف، وهو التحريم لجميع أنواع الربا، ما كان منه على طريقة أهل الجاهلية وما كان على غير طريقتهم، وعلى هذا تدل الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة والإجماع فلتراجع في أول الكتاب.
الوجه الثالث: أن يقال: إن طبيعة أعمال المصارف في التعامل بالربا شبيهة بعمل أهل الجاهلية في ذلك؛ لأن أهل الأموال يضعون أموالهم عند أهل المصارف ويجعلون لهم الحق في التصرف فيها والانتفاع بها بنسبة معلومة في المائة في كل عام، وهذه النسبة تضاف إلى رؤوس الأموال المدفوعة إلى أهل المصارف، وربما اجتمع من النسبة التي تضاف إلى رؤوس الأموال شيء كثير ولا سيما إذا ترك أهل الأموال رؤوس أموالهم في المصارف أعوامًا كثيرة، وهذا عين ربا أهل الجاهلية الذي قال فيه الفتان إنه محرم بالقرآن، وقال فيه أيضا: إنه محرم تحريما قطعيًا، وقد كرر هذا القول في مواضع كثيرة من نبذته، وذكر أن خصيصته أن يقول صاحب الدين للمدين عند حلول أجل الدين إما أن تقضي وإما أن تربي فإن لم يقض زاد المدين المال وزاد الدائن الأجل، هذا كلام الفتان([76])، ولو كان خاليا من الهوى وكان له أدنى علم ومعرفة لعلم أن طبيعة أعمال المصارف في التعامل بالربا شبيهة بعمل أهل الجاهلية، ولكن اتباعه للهوى وحبه للتزلف إلى أهل المصارف والمتعاملين معهم بالمعاملات الربوية وحرصه على إرضائهم بما يسخط الله -تعالى- أعماه وأصمه عن معرفة الحق والعمل به، وقد روى الإمام أحمد....
وأبو داود وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ أنه قال: «حبك الشيء يعمي ويصم» وهذا الحديث مطابق لحال الفتان غاية المطابقة.
الوجه الرابع: أن يقال: قد تقدم كلام الزجاج في بيان الربا الحرام، وتقدم كلام الجصاص في بيان ربا العرب – أي زمن الجاهلية – فليراجع([77]) كلامهما فإنه مطابق للمعاملات الربوية في البنوك، وفيه رد على الفتان.
فصل
وقال الفتان: "في المعاملات المصرفية الدائن هو دائما من المالكين لرأس المال غير أنه يملك سيولة صغيرة أي وفرا قليلاً لا يستطيع استثماره، أما المدين فهو دائمًا من كبار المالكين لرأس المال غير أنه لا يملك أية سيولة لتسيير أعماله الكبرى، وهكذا يتضح لنا هنا أن الذي يحتاج للآخرين في المعاملات المصرفية هم دائمًا الأغنياء الكبار الذين يمدون أيديهم لوفر المالكين الصغار دون العكس، وبالنتيجة فإن هؤلاء الأغنياء الكبار لا تحل لهم صدقة المالكين الصغار فيما لو طلبنا إلى هؤلاء أن يتوبوا وأن يتصدقوا برؤوس أموالهم على المدينين الأغنياء عملا بقوله: ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ وهذا هو أول ما يميز أعمال المصارف عن الربا المحرم في القرآن الكريم حيث أن المدين محتاج إلى الصدقة بعكس المدين في المعاملات المصرفية".
والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الفتان قد لفق هذه الشبه ليلبس بها على الجهال ويوقعهم في أكل الربا ومعصية الله -تعالى- ومعصية رسوله ﷺ، ولم يبال بما يترتب على أقواله الباطلة من مخالفة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على تحريم الربا تحريما مطلقًا شاملاً لجميع أنواع الربا، ولا بما يترتب على أقواله أيضا من حمله من أوزار الذين يَضلون بسببه وأنه يكون عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا.
الوجه الثاني: أن يقال: إنه ليس من شروط تحريم الربا أن يكون واقعا بين غني وفقير ولا أن يكون المدين ممن تحل له الصدقة، وإنما هذا من تشريع الفتان وتلبيسه .............
على الجهال، وليس في الكتاب ولا في السنة ولا في الإجماع ما يدل على هذا القول الباطل، بل إن ظواهر الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع تدل على إلغاء كل ما حاوله الفتان في تلفيقه؛ لأنها جاءت بلفظ العموم الذين يشمل الغني والفقير ومن تحل له الصدقة ومن لا تحل له.
يوضح ذلك الوجه الثالث: وهو أن الله -تعالى- ذكر حال أهل الأموال مع الغرماء الواجدين للمال وردهم مع التوبة إلى رؤوس أموالهم وقال لهم: ﴿لَا تَظْلِمُونَ﴾ أي بأن تأخذوا زيادة على رؤوس أموالكم ﴿وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ أي بأن يمنع الغرماء رؤوس أموالكم أو يتمسكوا بشيء منها، ثم ذكر حال المعسرين من الغرماء وهم الذين لا يجدون وفاء لديونهم وأمر أرباب الأموال أن ينظروهم إلى حال الميسرة ورغبتهم مع ذلك في الصدقة عليهم فقال -تعالى-: ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ قال ابن جرير في الكلام على قول الله -تعالى-: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾: "وإن كان ذو عسرة من غرمائكم برؤوس أموالكم فنظرة إلى ميسرة"، وقال ابن عطية في تفسيره ما ملخصه: "حكم الله لأرباب الربا برؤوس الأموال عند الواجدين للمال ثم حكم في ذي العسرة بالنظرة إلى حالة اليسر وندب إلى الصدقة على المعسر وجعل ذلك خيرا من إنظاره". انتهى، وفي تفسير القرطبي نحو كلام ابن عطية، وفي هذا أبلغ رد على الفتان الذي قد قال في القرآن برأيه ووضع قوله -تعالى-: ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ على غير موضعها ولم يبال بما يترتب على ذلك من الوعيد الشديد وهو ما ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» رواه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير والبغوي من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وفي رواية للترمذي وابن جرير والبغوي: «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار».
الوجه الرابع: أن يقال: إن الفتان قد كرر القول بأن الربا المحرم في القرآن هو ربا النسيئة الذي كان في الجاهلية، وهذا قول باطل مردود بالأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة والإجماع فقد جاء تحريم الربا في هذه الأصول الثلاثة على وجه العموم الذي يشمل جميع أنواع الربا، وليس في شيء منها ما يدل على حصر الربا المحرم في ربا أهل الجاهلية دون غيره من أنواع الربا، وقد تقدم قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "إن المراباة حرام بالكتاب والسنة والإجماع، وقال أيضا: لفظ الربا يتناول كل ما
نهي عنه من ربا النسأ وربا الفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك فالنص متناول لهذا كله"، وقال ابن حجر الهيتمي: "الربا ثلاثة أنواع: ربا الفضل وربا اليد وربا النسأ وزاد المتولي نوعًا رابعًا وهو ربا القرض... قال الهيتمي: وكل من هذه الأنواع الأربعة حرام بالإجماع وبنص الآيات والأحاديث، وما جاء في الربا من الوعيد شامل للأنواع الأربعة"، فليراجع كلام شيخ الإسلام([78]) وكلام الهيتمي([79])، ففي كل منهما أبلغ رد على قول الفتان إن الربا المحرم في القرآن هو ربا النسيئة الذي كان في الجاهلية، وليراجع([80]) أيضا قول الجصاص أن تحريم الربا يشمل جميع ضروبه.
الوجه الخامس: أن يقال: ليس في أعمال المصارف ما يميزها عن غيرها من المؤسسات التجارية وسائر أعمال الناس في البيع والشراء فكلها يحرم التعامل فيها بالربا، وسواء في ذلك ربا الفضل وربا النسيئة ما كان منه على طريقة أهل الجاهلية وما كان على غير طريقتهم؛ لأن الله -تعالى- حرم الربا تحريمًا مطلقًا، وكذلك الرسول ﷺ فإنه حرمه تحريمًا مطلقًا سوى بيع العرايا بخرصها فإنه قد أذن فيه، وكذلك الإجماع فإنه شامل لجميع أنواع الربا، كما تقدم بيان ذلك في الوجه الرابع.
فصل
ومن شبه الفتان وأباطيله التي لفقها للتحيل على تحليل الربا في المصارف قوله: "إن الدائن لا يختص بالمنفعة دون المدين"، وقوله: "إن الدائن لا يستغل مدينا محتاجًا للصدقة بل يشترك مع الأغنياء في المنفعة بموجب عقد رضائي تجاري لا استغلال فيه"، وقوله: "إن المعاملات المصرفية ليست مجرد تنمية لمال الدائن وحده وإنما هي تجارة من نوع جديد جرى التعارف عليها ودعت إليها حاجة الناس أجمعين حتى أصبحت مصالحهم في معاشهم لا تتم إلا بها"، ومنها ما ذكره عن رشيد رضا أنه قال: "إن المعاملات التي يقصد بها الإتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع"، قال الفتان: "ويشير بذلك إلى قوله -تعالى-: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾.."
والجواب: أن يقال: إن هذه الشبه كلها مردودة بنصوص الكتاب والسنة وبالإجماع
على تحريم الربا تحريمًا مطلقًا يشمل جميع أنواع الربا، وهذه الأصول الثلاثة تقضي على جميع شبه الفتان وحيلة على تحليل الربا في المصارف.
وأما زعمه أن العقد الذي يكون بين الدائن وبين أهل المصارف عقد رضائي تجاري، وقوله أيضا إنها تجارة من نوع جديد جري التعارف عليها، وقول رشيد رضا إن المعاملة التي يقصد بها الاتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع.
فجوابه أن يقال: أما وجود الرضا بين المتعاملين بالربا فإنه لا يفيد حِل الربا، كما أن الرضا بين الزانيين لا يفيد حل الزنا، وإنما يستفاد الحل أو الحرمة في جميع المعاملات من نصوص الكتاب والسنة ومن إجماع المسلمين، فما شهد له الكتاب أو السنة أو الإجماع بالحل فهو حلال وما شهدت الأصول الثلاثة أو أحدها بحرمته فهو حرام، وقد اتفقت الأصول الثلاثة على تحريم الربا على وجه العموم، ولو كان العقد واقعا برضا المتعاملين بالربا، وسواء كان المدين غنيا أو محتاجًا، وسواء كانت المنفعة عامة للدائن والمدين أو كانت خاصة بالدائن وحده، فكل هذه الأمور ليس لها تأثير في تحريم الربا والدليل على هذا قول النبي ﷺ: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدًا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، وروى مسلم أيضا من حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله ﷺ «ينهي عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربى»، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ نحوه رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي، وفي رواية لمسلم: «الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل فمن زاد أو استزاد فهو ربا» فهذا نصوص صريحة في منع الزيادة في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة وغيرها من الأصناف الستة، قال النووي: "قوله: «فمن زاد أو ازداد فقد أربى» معناه فقد فعل الربا المحرم فدافع الزيادة وآخذها عاصيان مرابيان". انتهى.
وفي النص على أن من زاد أو استزاد فقد أربى أبلغ رد على شبه الفتان ورشيد رضا؛ لأن ظاهر النصوص يدل على أنه لا تأثير لكون المعاملة واقعة برضا المتعاملين بالربا، ولا لكون المدين غنيا أو محتاجًا، ولا لكون المنفعة عامة للدائن والمدين أو كونها خاصة بالدائن وحده، ولا بين أن يكون المقصود بالمعاملة الإتجار أو غير ذلك من المقاصد، .............
فكل هذا لا تأثير له في تحريم الربا، ولو كان لشيء من هذه الأمور تأثير في حل الربا لبينه النبي ﷺ لأمته.
وقد تقدم الجواب عن قول رشيد رضا إن المعاملة التي يقصد بها الإتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع فليراجع([81])، ففيه أيضا رد على قول الفتان إنه عقد رضائي تجاري وإنها – أي المعاملات الربوية في المصارف – تجارة من نوع جديد.
وأما قوله: إن المعاملات المصرفية قد دعت إليها حاجة الناس أجمعين حتى أصبح مصالحهم في معاشهم لا تتم إلا بها.
فجوابه: أن يقال: لا يخفي ما في هذا الكلام الباطل من المجازفة التي يكذبها الواقع من حال المسلمين قبل وجود المصارف وبعد وجودها، فأما قبل وجودها فإن المسلمين قد عاشوا أكثر من ثلاثة عشر قرنًا وهم لا يعرفون المصارف، ومع هذا فإن مصالحهم في معاشهم كانت متيسرة لكل منهم على حسب ما قسم الله لهم من الرزق، وأما بعد وجود المصارف فإن أكثر المسلمين لا يتعاملون مع أهل المصارف بالمعاملات الربوية، ومع هذا فإن مصالحهم في معاشهم كانت متيسرة لكل منهم على حسب ما قسم الله لهم من الرزق، وكثير منهم أحسن حالاً في مصالح معاشهم من المتعاملين مع أهل المصارف بالمعاملات الربوية، ولو كان الأمر على ما زعمه الفتان في هذيانه الذي كتبه من غير تعقل ولا تدبر لكانت مصالح أكثر الناس في زماننا متعطلة، وهذا لا يقوله إنسان له أدنى شيء من العقل.
وأما قوله: إن رشيد رضا يشير إلى قوله -تعالى-: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾.
فجوابه: أن يقال: هذا من الاستدلال بالآية على خلاف ما تدل عليه إذ ليس في الآية ما يؤيد قول رشيد رضا في تحليل الربا في المصارف وزعمه أنه من قسم البيع، بل الآية حجة عليه وعلى من قلده من ذوي الجهالة والضلالة؛ لأن الله -تعالى- نص في الآية على تحريم الربا، وقد تقدم([82]) بيان معنى الربا في كلام المفسرين وأهل اللغة، وهو ينطبق على الزيادة التي يضمنها أهل المصارف إلى رؤوس الأموال التي يدفعها أهلها إلى أهل المصارف ويجعلون لهم الحق في التصرف فيها والانتفاع بها بنسبة معلومة في .......................
المائة في كل عام، وهذه النسبة الربوية حرام بنصوص الكتاب والسنة وبإجماع المسلمين، وهي شبيهة بربا أهل الجاهلية؛ لأن الدائن في الجاهلية يقول للمدين إذا حل أجل الدين إما أن تقضي وإما أن تربي، وأما أهل المصارف فإنهم يقولون بلسان الحال إما أن تأخذ مالك يا صاحب المال وإما أن تتركه عندنا ونربيه لك في كل عام بنسبة معلومة في المائة، وقد جاء في المثل المشهور "ما أشبه الليلة بالبارحة"، قال الميداني في (مجمع الأمثال): "يضرب عند تشابه الشيئين". وقد تقدم([83]) قول الجصاص: "إن الربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به، هذا كان المتعارف المشهور بينهم".
فصل
وقال الفتان: "ويؤكد هذا المبدأ في شرعية المنفعة التي لا ضرر بها على أحد قول الإمام موفق الدين ابن قدامة في المغني أن ما فيه مصلحة من غير ضرر بأحد فهو جائز وأن الشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا ضرر فيها وإنما يرد بمشروعيتها، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كل مالا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعًا".
والجواب: أن يقال: قد تقدم ذكر الفتان لكلام الموفق وشيخ الإسلام ابن تيمية والجواب عن ذلك فليراجع([84])، وقد ذكرت فيما تقدم أن كلام الموفق ليس له تعلق بمسائل الربا، وإنما هو فيما إذا أقرض إنسان آخر قرضًا واشترط عليه أن يوفيه إياه في بلد آخر، وقد صحح الموفق القول بجواز ذلك إذا لم يكن لحمله مؤنة، وعلل ذلك بأنه مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منها، قال: "والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها، بل بمشروعيتها"، وقد قال قبل ذلك في (باب الربا والصرف): "الربا في اللغة هو الزيادة، يقال أربى فلان على فلان إذا زاد عليه، وهو في الشرع الزيادة في أشياء مخصوصة وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع"، ثم ذكر الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة، ثم قال: "وأجمعتْ الأمة على أن الربا محرم"، قال: "والربا على ضربين ربا الفضل وربا النسيئة وأجمع أهل العلم على تحريمهما". انتهى المقصود من كلامه.
وقد تعامى الفتان عن كلام الموفق في (باب الربا والصرف) وأعرض عنه وجاء إلى كلامه في القرض فاستدل به على تحليل الربا في المصارف وأوهم الجهال أن كلام الموفق يفيد جوازه فيها، وهذا من التلبيس على الجهال ووضع كلام الموفق في غير موضعه، وإنما تعامي الفتان عن كلام الموفق في (باب الربا والصرف) وأعرض عن ذكره لأنه صرح في تحريم ربا الفضل وربا النسيئة وقد ذكر الدليل على تحريمهما من الكتاب والسنة والإجماع، وفي ذكره لذلك أبلغ رد على الفتان المفتون.
وأما كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فقد تقدم أنه ليس في مسائل الربا وإنما هو في تأجير الأرض التي تكون مشتملة على غراس وأرض تصلح للزرع، وقد ذكر شيخ الإسلام أن الفقهاء اختلفوا في تأجيرها على ثلاثة أقوال، وقد صحح القول بالجواز ورد على من قال بالتحريم وأطال الكلام في الرد عليهم وقال في أثنائه: "فكل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعًا" ثم قال بعد ذلك: "فكل ما احتاج الناس إليه في معاشهم ولم يكن سببه معصية – هي ترك واجب أو فعل محرم – لم يحرم عليهم لأنهم في معنى المضطر الذي ليس بباغ ولا عاد" هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، فليتأمل آخر كلامه فإن في أبلغ رد على الفتان الذي قد تقول على شيخ الإسلام وأوهم الجهال أن كلامه يفيد جواز الربا في المصارف، وقد تقدم الرد على الفتان بأبسط من هذا، وذكرت فيه عن شيخ الإسلام أنه قال: "المراباة حرام بالكتاب والسنة والإجماع"، وقال أيضا: "لفظ الربا يتناول كل ما نهي عنه من ربا النسأ وربا الفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك، فالنص متناول لهذا كله"، فليراجع ما تقدم([85]) من كلام شيخ الإسلام والرد على الفتان فيما يتعلق به، ففي ذلك تنبيه على دسائس الفتان وتلبيسه وجراءته على التقول على أكابر العلماء ووضع كلامهم على غير مواضعه وحمله على ما يوافق رأيه الفاسد في تحليل الربا، وإنه لينطبق على الفتان قول الله -تعالى-: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾، وقوله -تعالى-: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾، وقوله -تعالى-: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾.
فصل
ومن شبه الفتان التي لفقها للتحيل على تحليل الربا في المصارف قوله: "إن الدائنين في المعاملات المصرفية هم صغار المالكين ولم يستغلوا المدينين الذين هم من كبار المالكين وقد تبادلوا المنافع معهم بصورة تجارية وعقد رضائي من غير أن يكون هناك ظالم أو مظلوم، وهذا ما يميز أعمال المصارف عن الربا المحرم في القرآن الذي هو مجرد تنمية لمال الدائن وحده في أموال المدينين، بينما الأمر يختلف بالنسبة للمدين في المعاملات المصرفية حيث أن كلا من الدائن والمدين مشترك في منفعة بعقد رضائي لا ظلم فيه ولا استغلال".
والجواب عن من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: كل ما لفقه الفتان من الشبه على تحليل الربا في المصارف مما ذكره في هذه الجملة وفيما تقدم قبلها وما ذكره بعدها فكله مردود بنصوص القرآن والسنة وبإجماع المسلمين على تحريم الربا تحريمًا مطلقًا يشمل جميع أنواع الربا، وكثير من الشبه التي ذكرها الفتان في هذه الجملة وفيما بعدها قد كرر ذكرها في مواضع كثيرة مما تقدم، وخصوصًا محاولته حصر الربا المحرم فيما كان يعمل به في الجاهلية، وهو في هذا قد قلد رشيد رضا في زعمه أن الربا المحرم في القرآن هو ما كان معروفًا في الجاهلية، وقد ذكرت في مواضع كثيرة مما تقدم أن هذا قول باطل بنصوص القرآن والسنة وبإجماع المسلمين على تحريم الربا تحريمًا مطلقًا يشمل جميع أنواع الربا، وكثير من الشبه التي ذكرها الفتان في هذه الجملة وفيما بعدها قد كرر ذكرها في مواضع كثيرة مما تقدم، وخصوصًا محاولته حصر الربا المحرم فيما كان يعمل به في الجاهلية، وهو في هذا قد قلد رشيد رضا في زعمه أن الربا المحرم في القرآن هو ما كان معروفًا في الجاهلية، وقد ذكرت في مواضع كثيرة مما تقدم أن هذا قول باطل بنصوص القرآن والسنة والإجماع على تحريم الربا تحريمًا مطلقًا يشمل جميع أنواعه.
الوجه الثاني: أن يقال: ليس في شبه الفتان ما يميز أعمال المصارف عن الربا المحرم في القرآن؛ لأن نصوص القرآن قد جاءت على وجه العموم الذي يشمل ربا الفضل وربا النسيئة ما كان منه على طريقة أهل الجاهلية وما كان على غير طريقتهم، وقد تقدم([86]) قول الجصاص: "إن قول الله -تعالى-: ﴿وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ قد انتظم جميع ضروب الربا لشمول الاسم عيها من طريق الشرع"، وقال أيضا: "اسم الربا في الشرع يعتريه معانٍ، أحدها: الربا الذي عليه أهل الجاهلية، والثاني: التفاضل في الجنس الواحد من المكيل أو الموزون، والثالث: النسأ". انتهى.
وتقدم([87]) أيضا قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "إن لفظ الربا يتناول
كل ما نهى عنه من ربا النسأ وربا الفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك، فالنص متناول لهذا كله". انتهى.
وأما حصر الربا المحرم في ربا النسيئة الذي كان معروفًا في الجاهلية فهو من التحكم والقول في القرآن بغير علم، ومن الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، وقد قال الله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾، وقال -تعالى-: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾، قال ابن الجوزي في تفسيره: "الذكر هو القرآن بإجماع المفسرين"، وقال البغوي: "بيان الكتاب يُطلب من السنة". انتهى، وقد دلت الآيتان على أن كل ما نهي عنه رسول الله ﷺ من أنواع الربا فهو مما أمره الله بتبليغه وبيانه للناس مما قد تضمنته نصوص القرآن، ويدل على ذلك أيضًا قول الله -تعالى-: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ وفي الحديث الذي رواه الدارمي والترمذي وحسنه، وابن ماجة عن المقدام بن معد يكرب -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «ألا وإن ما حرم رسول الله فهو مثل ما حرم الله» وهذا الحديث يدل على أن ما حرمه رسول الله ﷺ من أنواع الربا فهو مساو في التحريم لما جاء في القرآن، وفيه أبلغ رد على الشبه التي لفقها الفتان لتحليل الربا في المصارف.
فصل
وقد لفق الفتان أيضًا شبها للتحيل على تحليل الربا في المصارف، وهي شبه مبنية على التفريق بين المعاملات الربوية في المصارف وبين الربا الذي حذر منه القرآن، وليس في هذه الشبه ما يستحق الجواب؛ لأن الفتان قد كررها فيما تقدم من كلامه، وتقدم الرد عليها في مواضع كثيرة، ومنها الفصل الذي قبل هذا الفصل فليراجع ففيه كفاية في الرد على الفتان، وقد ذكر الفتان في أثناء شبهه عن المرابين أنهم لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، وزعم أن ذلك يقع لهم في الدنيا، وهذا من القول في القرآن بغير علم، وقد تقدم الرد عليه في أول الكتاب فليراجع([88]).
فصل
ومن شبه الفتان أيضًا وحيله على استحلال الربا قوله في المعاملات الربوية في .......
المصارف: "إنها من المضاربة"، وقوله أيضًا: "إن الفائدة – يعني النسبة الربوية – جزء من ربح المضاربة"، وقد استشهد لهذا القول الباطل بأقوال باطلة لمحمد عبده وغيره من الذين أباحوا المعاملات الربوية في المصارف وجعلوها من المضاربة، وقد أطال الفتان الكلام في هذا بما لا حاصل تحته.
والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الفتان قد اضطرب كلامه في حكم المعاملات الربوية في المصارف، ففي هذه الجملة جعلها من المضاربة، وفيما تقدم قريبا([89]) جعلها من العقود التجارية وقال: "إنها تجارة من نوع جديد"، ونقل عن رشيد رضا أنه قال: "هي من قسم البيع"، واستدل الفتان لهذا القول الباطل بقول الله -تعالى-: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾، وقد جعلها في أول نبذته من القرض بفائدة – أي من القرض الذي يجر منفعة – وهو نوع من أنواع الربا، وهو ربا أهل الجاهلية، ذكر ذلك الجصاص في كتابه (أحكام القرآن) وقد ذكرت كلامه فيما تقدم فليراجع([90])، وليراجع أيضا([91]) قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أن لفظ الربا يتناول كل ما نهى عنه من ربا النسأ وربا الفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك، وقال: فالنص متناول لهذا كله. انتهى، وليراجع أيضا قول ابن حجر الهيتمي([92]) "إن الربا ثلاثة أنواع: ربا الفضل وربا اليد وربا النسأ، وزاد المتولي نوعًا رابعًا وهو ربا القرض، لكنه في الحقيقة يرجع إلى ربا الفضل، لأنه الذي فيه شرط يجر نفعًا للمقرض فكأنه أقرضه هذا الشيء بمثله مع زيادة ذلك النفع الذي عاد إليه، قال: وكل من هذه الأنواع الأربعة حرام بالإجماع وبنص الآيات والأحاديث، وما جاء في الربا من الوعيد شامل للأنواع الأربعة". انتهى المقصوص من كلامه.
الوجه الثاني: أن يقال: إن إدخال الفتان للمعاملات الربوية في باب المضاربة خطأ وتلبيس على الجهال، وكذلك تسميته الزيادة الربوية التي يدفعها أهل المصارف إلى أهل الأموال باسم الفائدة وزعمه أنها جزء من ربح المضاربة خطأ أيضا وتلبيس على الجهال؛ لأن المضاربة يشترط فيها تقدير نصيب العامل بجزء مشاع معلوم من الربح، وذلك بأن يقول صاحب المال للعامل: خذ هذا المال مضاربة ولك نصف .........................
الربح أو ثلثه أو ربعه أو جزء معلوم من أجزاء الربح وهذا أمر مجمع عليه، قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن للعامل أن يشترط على رب المال ثلث الربح أو نصفه أو ما يجمعان عليه بعد أن يكون ذلك معلومًا جزءًا من أجزاء". انتهى، وهذا الشرط غير موجود في أعمال أهل البنوك؛ لأنهم إنما يأخذون الأموال من أهلها على وجه القرض بحيث يكون الربح كله لأهل البنوك، ثم هم يجعلون لأهل الأموال نسبة معلومة في كل مائة من المال يضيفونها إلى رؤوس الأموال في كل عام ويسمون تلك النسبة باسم الفائدة، وهي عين ربا القرض الذي يجر منفعة، وتشبه إلى حد كبير ربا أهل الجاهلية؛ لأن الدائن في الجاهلية يقول للمدين: إذ حل أجل الدين إما أن تقضي وإما أن تربي، وأما أهل البنوك فإنهم يقولون بلسان الحال إما أن تأخذ مالك يا صاحب المال وإما أن تتركه عندنا لننتفع به ونجعل لك نسبة معلومة في كل مائة، وقد ذكر الجصاص أن ربا أهل الجاهلية هو القرض بزيادة مال على المستقرض.
الوجه الثالث: أن يقال: إن الوضع في الأموال عند أهل البنوك يختلف عن الوضع فيها في المضاربة؛ لأن أهل البنوك يأخذون الأموال من أهلها على وجه الضمان لرؤوس الأموال ولما يضاف إليها من النسبة المعلومة في كل عام، وهذا بخلاف المضاربة؛ لأن الأموال فيها غير مضمونة على العامل؛ لأنه أمين في مال المضاربة والقول قوله فيما يدَّعيه من تلف المال أو خسارة فيه وما يدعي عليه من خيانة أو تفريط، وفي اختلاف الوضع بين الأعمال الربوية في البنوك وبين المضاربة أبلغ رد على من جعلهما سواء.
الوجه الرابع: أن يقال: إن المضاربة إذا شرط صاحب المال أو العامل فيها أو كلاهما دراهم معلومة لنفسه لم تصح، قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال القراض - أي المضاربة - إذا جعل أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة، وممن حفظ ذلك عنه مالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي". انتهى.
وفيما ذكره ابن المنذر من الإجماع أبلغ رد على من جعل المعاملات الربوية في المصارف من المضاربة، وفيه أيضا دليل على أن هذه المعاملات من العقود الباطلة؛ لأنها إنما تعتمد على النسبة المعلومة التي يجعلها أهل المصارف لأهل الأموال، وما سوى النسبة من الأرباح فكله لأهل المصارف، وهذا عين ربا القرض الذي يجر منفعة.
فصل
وزعم الفتان: "أن المعاملات المصرفية تختلف تمامًا عن الأعمال الربوية التي حذر منها القرآن؛ لأنها معاملات جديدة لا تخضع في حكمها للنصوص القطعية التي وردت في القرآن بشأن حرمة الربا ولهذا يجب علينا النظر إليها من خلال مصالح العباد وحاجاتهم المشروعة اقتداء برسول الله ﷺ في إباحته بيع السلم رغم ما فيه من بيع غير موجود وبيع ما ليس عند البائع مما قد نهى عنه رسول الله ﷺ في الأصل، وقد أجمع العلماء على أن إباحة السلم كانت لحاجة الناس إليه، وهكذا فقد اعتمد العلماء على السلم وعلى أمثاله من نصوص الشريعة في إباحة الحاجات التي لا تتم مصالح الناس في معاشهم إلا بها".
والجواب: أن يقال: أما زعم الفتان أن المعاملات المصرفية تختلف تمامًا عن الأعمال الربوية التي حذر منها القرآن، فهو زعم باطل وهو من قلب الحقيقة والتلبيس على الجهال، وبيان ذلك من وجهين؛ أحدهما: أن المعاملات المصرفية إنما تعتمد على أخذ رؤوس الأموال من أربابها بشرط الضمان لها ولما ينتج عنها من النسبة المعلومة التي يجعلها أهل المصارف لأهل الأموال في كل عام، وهذا هو القرض الذي يجر منفعة، والمنفعة هي النسبة المعلومة التي يجعلها أهل المصارف لأهل الأموال عوضا عن الانتفاع بأموالهم، وهي نوع من أنواع الربا المحرم بالكتاب والسنة والإجماع. وقد تقدم([93]) قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "إن لفظ الربا يتناول كل ما نهي عنه من ربا النسأ وربا الفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك"، قال: "فالنص متناول لهذا كله"، وتقدم([94]) أيضا قول ابن حجر الهيتمي في تقسيم الربا إلى أربعة أنواع ربا الفضل وربا اليد وربا النسأ وربا القرض الذي يجر منفعة، قال: "وكل من هذا الأنواع الأربعة حرام بالإجماع وبنص الآيات والأحاديث، وما جاء في الربا من الوعيد شامل للأنواع الأربعة". انتهى.
وفي كلام شيخ الإسلام والهيتمي أبلغ رد على شبهة الفتان التي يحاول بها تحليل ربا القرض الذي يجر منفعة.
الوجه الثاني: أن يقال: إنه ليس في القرآن نص يدل على التحريم والتحذير من نوع من أنواع الربا دون غيره من الأنواع، إنما جاءت نصوص القرآن على وجه العموم الذي يتناول جميع أنواع الربا، وسواء في ذلك ما كان منه على طريقة أهل الجاهلية وما ليس على طريقتهم فكلها داخلة في عموم التحريم والتحذير من الربا والوعيد الشديد عليه، وأما حصر الربا المحرم فيما كان على طريقة أهل الجاهلية فهو من التحكم المخالف لنصوص الكتاب والسنة ولإجماع المسلمين على تحريم الربا على وجه العموم.
وأما قوله: إن المعاملات المصرفية معاملات جديدة لا تخضع في حكمها للنصوص القطعية التي وردت في القرآن بشأن حرمة الربا.
فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال إن عبارة الفتان في هذه الجملة عبارة سيئة جدًا؛ لأنها تقتضي رد النصوص القطعية التي وردت في القرآن بتحريم الربا تحريمًا مطلقًا يشمل المعاملات القديمة والمعاملات الجديدة على حدٍ سواء، وما أعظم الخطر في رد نصوص القرآن؛ لأن ذلك من الرد على الله -تعالى- وعدم الرضا بحكمه الذي أنزله في كتابه واستبداله بحكم القانون الذي هو من حكم الجاهلية، وقد قال الله -تعالى-: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ وفي هذه الآية أبلغ رد على الفتان وعلى كل من رضي بحكم القانون في المعاملات المصرفية ولم يرض بحكم الله -تعالى- وحكم رسوله ﷺ فيها وفي غيرها من المعاملات.
الوجه الثاني: أن يقال: إن حكم الشريعة الإسلامية في المعاملات المصرفية الجديدة لا يختلف عما كان عليه في المعاملات القديمة، فكما أن المسلمين قد خضعوا في المعاملات القديمة لحكم الشريعة الإسلامية بتحريم الربا على وجه العموم الذي يشمل جميع أنواعه، فكذلك يجب على أهل المصارف أن يخضعوا لحكم الشريعة الإسلامية بتحريم الربا على وجه العموم الذي يشمل جميع أنواعه لأنه لا فرق بين المعاملات القديمة وبين المعاملات المصرفية الجديدة في تحريم الربا ولا في غير ذلك من الأحكام، ومن فرق بينهما فقد فرق بين متماثلين وذلك غير جائز.
وأما قوله: ولهذا يجب علينا النظر إليها من خلال مصالح العباد وحاجاتهم المشروعة اقتداء برسول الله ﷺ في إباحته بيع السلم... إلى آخر كلامه.
فجوابه: أن يقال: إن الإيجاب والتحليل والتحريم من الأمور التي مبناها على ........
التوقيف، فليس لأحد أن يوجب شيئًا أو يحل شيئًا أو يحرم شيئا إلا بدليل من الكتاب أو السنة، ومن خالف في هذا فأوجب ما لم يوجبه الله ولا رسوله أو أحل شيئا لم يحله الله ولا رسوله أو حرم شيئا لم يحرمه الله ولا رسوله ﷺ فقد افترى على الله الكذب وشرع من الدين ما لم يأذن به الله.
وإذا علم هذا فليعلم أيضا أن كلام الفتان قد اشتمل على عدة أمور محرمة، أحدها: إيجاب النظر إلى المعاملات المصرفية من خلال ما زعم أنه من مصالح العباد وحاجاتهم المشروعة، وهذا من الشرع في الدين بما لم يأذن به الله؛ لأن الله -تعالى- لم يوجب النظر إلى المعاملات المصرفية من خلال المصالح والحاجات ولم يوجب ذلك رسول الله ﷺ، وإنما أوجبه الفتان من عند نفسه وما تلقاه عن بعض المتلاعبين بالدين، وما كان بهذه المثابة فهو مطرح مردود على قائله.
الأمر الثاني: إباحة الربا في المصارف معتمدًا في ذلك على ما زعمه من النظر إليها من خلال المصالح والحاجات، وهذا أيضا من الشرع في الدين بما لم يأذن به الله ومن الرد لما جاء في الكتاب والسنة والإجماع من تحريم الربا تحريمًا مطلقا يشمل جميع أنواعه ولا يترك للنظر مجالا في إباحته من خلال المصالح والحاجات.
الأمر الثالث: التلبيس على الجهال بما زعمه من الاقتداء برسول الله ﷺ في إباحته بيع السلم، وهذا من قلب الحقيقة؛ لأن محاولته لتحليل الربا في المصارف يعود في الحقيقة إلى رد النصوص الدالة على تحريم الربا تحريما مطلقًا ومعارضتها برأيه وما شرعه من النظر إلى المعاملات المصرفية من خلال المصالح والحاجات، وليس في هذا اقتداء برسول الله ﷺ وإنما هو صريح في مشاقته ومخالفة أمره.
الأمر الرابع: اتباع غير سبيل المؤمنين؛ لأن المؤمنين قد أجمعوا على تحريم الربا تحريمًا مطلقًا يشمل جميع أنواعه، وقد خالفهم الفتان فأباح الربا في المصارف معتمدًا على ما زعمه من النظر إليها من خلال الحاجات والمصالح، وقد توعد الله -تعالى- من اتبع غير سبيل المؤمنين بأشد الوعيد فقال -تعالى-: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾.
الأمر الخامس: مشابهة أهل الجاهلية في قولهم: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ وذلك واضح في إباحته الربا في المصارف نظرًا إليها من خلال المصالح والحاجات وقياسه ذلك على .......
إباحة السلم الذي هو من البيوع الجائزة بنص السنة، وهذا قياس فاسد؛ لأنه يتضمن معارضة النصوص على تحريم الربا ومعارضة الإجماع على ذلك، ولا قياس مع وجود النص من الكتاب أو السنة ولا مع وجود الإجماع، وعلى هذا فلا يأمن الفتان أن يكون له نصيب وافر مما توعد الله به الذين يأكلون الربا ويجعلونه نظير البيع.
وأما قوله: إن العلماء اعتمدوا على السلم وعلى أمثاله من نصوص الشريعة في إباحة الحاجات التي لا تتم مصالح الناس في معاشهم إلا بها.
فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن مراد الفتان بإباحة الحاجات التي زعم أن مصالح الناس في معاشهم لا تتم إلا بها إباحة الربا في المعاملات المصرفية الجديدة، وقد طنطن بذلك في مواضع كثيرة من كلامه الذي تقدم ذكره والرد عليه وبيان أنه من الشرع في الدين بما لم يأذن به الله.
الوجه الثاني: أن يقال: ما ذكره عن العلماء على وجه الإطلاق الذي يشمل جميع العلماء لا يخلو فيه من الكذب على العلماء؛ لأن المتمسكين منهم بالكتاب والسنة قد أجمعوا على تحريم الربا تحريما مطلقا يشمل جميع أنواعه، ولم يستثنوا شيئا من المصالح والحاجات إلا ما استثناه رسول الله ﷺ من بيع العرايا بخرصها، وأما المتحيلون على تحليل الربا في المصارف وصناديق التوفير ممن كانوا في القرن الرابع عشر من الهجرة فما بعده فليسوا بأهل أن يقتدي بهم، وقد تقدم كلام الشيخ أحمد محمد شاكر ومحمود شلتوت في ذمهم والتحذير من أقوالهم الباطلة فليراجع([95]).
الوجه الثالث: أن يقال: إن نصوص الشريعة قد جاءت بتحريم الربا على وجه العموم الذي يشمل جميع أنواع الربا، وقد ذكرتها في أول الكتاب فلتراجع([96]). ومن زعم أن نصوص الشريعة تدل على إباحة الربا في المصارف وأن إباحته نظير إباحة السلم فقد افترى على الشريعة وألصق بها ما ليس منها.
الوجه الرابع: أن يقال: إن السلم الذي كان على عهد رسول الله ﷺ وعهد أصحابه -رضي الله عنهم- إنما هو في الثمار لا في الدراهم بالدراهم، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "قدم رسول الله ﷺ المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: «من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم»" رواه الإمام .......
أحمد والبخاري ومسلم وأهل السنن، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، قال: "وفي الباب عن ابن أبي أوفى وعبد الرحمن بن أبزى". انتهى، وفي رواية للبخاري: أن النبي ﷺ قال: «من أسلف في شيء ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم».
وروي الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن عبد الله بن أبي أوفي -رضي الله عنهما- قال: "كنا نسلف على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- في الحنطة والشعير والزبيب والتمر"، وعن عبد الرحمن بن أبزي مثل ذلك.
فهذا هو السلم الذي أجازه رسول الله ﷺ وكان يعمل به في عهده وعهد أصحابه -رضي الله عنهم-، فأما دفع النقود إلى من يضمنها للدافع ويعطيه معها نسبة معلومة من جنسها في كل عام فهذا عين الربا الذي تظافرت الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على تحريمه وورد الوعيد الشديد عليه في القرآن والسنة، ومن جعل هذا العمل الربوي نظيرا للسلم فقد تعدى حدود الله وشرع من الدين ما لم يأذن به الله وبارز الله ورسوله ﷺ بالمحاربة، فلا يأمن الفتان وأعوانه أن يكون لهم نصيب وافر من تعدي حدود الله ومبارزة الله ورسوله بالمحاربة.
فصل
وقال الفتان: "إن المصارف والأعمال المصرفية حاجة من حاجات العباد لا تتم مصالح معاشهم إلا بها، ولذلك فإن من غير الجائز التسرع والحكم عليها بأنها من الربا المقطوع فيه؛ وذلك لأن حظرها يوقع العباد في حرج معاشهم لا مثيل له، بل إن حظرها يهدد كيان الدولة والأمة الإسلامية ويقضي نهائيا على مصالحهم الاقتصادية ويجعلهم تحت رحمة أعدائهم وأعداء دينهم الذين يتحكمون في ثرواتهم بل يستخدمونها لزيادة قوتهم ضد أمة الإسلام".
والجواب: أن يقال: إن كلام الفتان في هذه الجملة مبني على المجازفة والهذيان الذي يتنزه عنه كل عاقل، فأما زعمه أن المصارف والأعمال المصرفية حاجة من حاجات العباد لا تتم مصالح معاشهم إلا بها.
فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن كلامه في هذه الجملة قد جاء بلفظ العموم الذي يشمل جميع العباد منذ زمان آدم -عليه الصلاة والسلام- إلى زماننا فكلهم ........
على حد هذيانه محتاجون إلى المصارف والأعمال المصرفية ولا تتم مصالح معاشهم إلا بها، وهذا كلام تضحك منه الثكلى، وينبغي أن يُضم إلى أقوال الحمقى والمغفلين.
الوجه الثاني: أن يقال: إن الله -تعالى- قد أخبر عن عدد من الأمم الذين كانوا في قديم الزمان أنهم كانوا في نعم عظيمة وكانت لهم كنوز وأموال كثيرة، ولم يذكر عنهم أنهم كانت عندهم مصارف وأعمال مصرفية يعتمدون عليها في مصالح معاشهم بحيث لم تتم مصالح معاشهم إلا بها، وفي هذا أبلغ رد على ما هذى به الفتان من توقف مصالح العباد في معاشهم على وجود المصارف والأعمال المصرفية.
الوجه الثالث: قد ذكرت فيما تقدم([97]) أن المسلمين قد عاشوا أكثر من ثلاثة عشر قرنا وهم لا يعرفون المصارف والأعمال المصرفية، ومع هذا فإن مصالح معاشهم كانت متيسرة لكل منهم على حسب ما قسم الله لهم من الرزق، ولم يكن في عدم المصارف والأعمال المصرفية في هذه القرون الكثيرة أدنى شيء من المضرة للناس في مصالح معاشهم، وبعد وجود المصارف والأعمال المصرفية في بلاد المسلمين كان كثير منهم بل أكثرهم لا يتعاملون مع أهل المصارف بالمعاملات الربوية، ومع هذا فإن مصالح معاشهم كانت متيسرة لهم، وكثير منهم كانوا أحسن حالاً في مصالح معاشهم من كثير من المتعاملين مع أهل المصارف بالمعاملات الربوية، ولو كان الأمر على ما هذى به الفتان لكانت مصالح الناس في قديم الزمان وحديثه متعطلة لا يتم منها شيء، وهذا معلوم البطلان بالضرورة.
وأما قوله: إنه من غير الجائز التسرع والحكم عليها بأنها من الربا المقطوع فيه.
فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن النسبة التي يجعلها أهل المصارف لأهل الأموال في كل عام مقابل انتفاعهم بأموالهم – ويسمونها فائدة – هي عين ربا القرض الذي يجر منفعة، وعمل أهل المصارف في هذه النسبة شبيه بعمل أهل الجاهلية في مراباتهم، وقد تقدم بيان ذلك في مواضع كثيرة فليراجع([98]).
وإذا علم هذا فليعلم أيضا أن الحكم بأنها من الربا المقطوع بتحريمه ليس من التسرع الذي لا يجوز كما قد توهم ذلك الفتان، وإنما هو من المسارعة إلى فعل ما أمر الله به ورسوله ﷺ من إنكار المنكر وتغييره بحسب القدرة، ومن أعظم المنكرات وأكبر ..........
الكبائر أكل الربا، وقد تظافرت النصوص من الكتاب والسنة بتحريمه والوعيد الشديد عليه، وأجمع المسلمون على تحريمه وعلى أنه من الكبائر، وما كان بهذه الصفة فإنه يجب أن يسارع إلى إنكاره والمنع منه ولا يجوز التهاون به.
الوجه الثاني: أن يقال: إن التسرع المذموم ما وقع فيه الفتان من التسرع إلى تحليل الربا في المصارف ليرضي أهلها والمتعاملين معهم بالعاملات الربوية، ولم يبال بما يترتب على تسرعه من مخالفة نصوص الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على تحريم الربا تحريما مطلقا يتناول جميع أنواع الربا، ومنه ربا القرض الذي يتعامل به أهل المصارف، وفي هذا التسرع دليل على أن الفتان قد أصيب في دينه وعقله، وقد قال الله -تعالى-: ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ فلا يأمن الفتان أن يكون له نصيب وافر مما جاء في هذه الآية الكريمة.
وأما قوله: إن حظرها يوقع العباد في حرج معاشهم لا مثيل له.
فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن هذه الجملة قد تضمنت الاعتراض على الله -تعالى- وعلى رسوله ﷺ في تحريم الربا وحظره على العباد، وتضمنت أيضا الاعتراض على إجماع المسلمين على تحريم الربا وحظره على العباد، وما تضمن الاعتراض على الله -تعالى- وعلى رسوله ﷺ وعلى إجماع المسلمين فهو قول سوء لا يصدر إلا من رجل سوء قد أصيب في دينه وعقله، وقد قال الله -تعالى-: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا﴾، وقال -تعالى-: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ والآيات في هذا المعنى كثيرة، وفي الآيتين أبلغ رد على الفتان الذي قد تحرج من تحريم الربا ولم يرض بحكم الله وحكم رسوله ﷺ بتحريمه ولم يرض بإجماع المسلمين على تحريمه.
الوجه الثاني: أن يقال: إن الله تعالى لما حظر الربا على العباد أحل لهم البيع ولم يجعلهم في حرج من معاشهم، وقد استقامت أحوال المسلمين في معايشهم على ما أحل الله لهم من البيع منذ زمان رسول الله ﷺ إلى زماننا ولم يتحرجوا من تحريم الربا عليهم حتى جاء الفتان المفتون فزعم أن تحريم الربا يوقع العباد في الحرج في معايشهم، وهذا من الافتراء واتباع الظن، ومن لم يتسع له ما اتسع للمسلمين من .............
البيع الحلال ووقع في الضيق والحرج من تحريم الربا فلا وسَّع الله عليه في معاشه.
وأما قوله: إن حظرها يهدد كيان الدولة والأمة الإسلامية ويقضي نهائيا على مصالحهم الاقتصادية ويجعلهم تحت رحمة أعدائهم وأعداء دينهم... إلى آخر هذيانه وثرثرته.
فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: ما زعمه الفتان في هذه الجملة فكله من الباطل الذي يرده الواقع من حال المسلمين من أول هذه الأمة إلى زماننا ويشهد على أنه من الكذب على المسلمين؛ وذلك لأن تحريم الربا لا يهدد كيان الولاة والرؤساء من المسلمين ولا كيان الرعايا منهم لا في أول هذه الأمة ولا في آخرها ولا فيما بين ذلك، ولم يقض على شيء من مصالحهم الاقتصادية فضلا على أن يقضي عليها نهائيًا ويجعلهم تحت رحمة أعدائهم وأعداء دينهم كما زعم ذلك الفتان في هوسه وهذيانه.
الوجه الثاني: أن يقال: إن الذي يهدد كيان الأمة الإسلامية ويضر بمصالحها الاقتصادية هو التعامل بالربا وظهوره بينهم، والدليل على أنه يهدد كيان الأمة الإسلامية قول النبي ﷺ: «ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله» رواه أبو يعلي بإسناد جيد من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- وروى الحاكم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ نحوه وصححه، ووافقه الذهبي على تصحيحه، والدليل على أنه يضر بالمصالح الاقتصادية قول الله -تعالى-: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ قال ابن عطية في الكلام على هذه الآية: "قد جعل الله هذين الفعلين بعكس ما يظنه الحريص الجشع من بني آدم، يظن الربا يغنيه وهو في الحقيقة ممحق ويظن الصدقة تفقره وهي نماء في الدنيا والآخرة". انتهى، والدليل على ذلك من السنة قول النبي ﷺ: «ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة» رواه الإمام أحمد وابن ماجة وهذا لفظه، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي على تصحيحه.
فصل
وقال الفتان: "إننا نتوجه بالدعوة المُلحّة إلى أهل الخبرة والرأي والإفتاء للتعاون من أجل الوصول إلى إجماع في الرأي يضمن حاجات الناس فيما لا تتم مصالح معاشهم إلا به، أي تكييف المعاملات المصرفية في حالتي الإيداع والإقراض على أساس يضمن للأمة الإسلامية الاستفادة من قوتها الاقتصادية في حدود قواعد الشريعة الإسلامية".
والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الله -تعالى- قد حرم الربا في كتابه وعلى لسان رسوله ﷺ تحريما مطلقًا يعم جميع أنواع الربا وجميع المعاملات التي يتعامل فيها بالربا وسواء في ذلك المعاملات المصرفية وغير المصرفية، وما ثبت حكمه في الكتاب والسنة فلا دخل للرأي فيه، والدليل على هذا قول الله -تعالى-: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا﴾، قال ابن كثير: "هذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد ههنا ولا رأي ولا قول". انتهى.
وفي الآية أبلغ رد على الفتان الذي لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله ﷺ بتحريم الربا على وجه العموم، بل ذهب يتوجه بالدعوة الملحة إلى تحريم الرأي في المعاملات المصرفية في حالتي الإيداع والإقراض ولم يبال بما يترتب على هذه المخالفة من معصية الله ومعصية رسوله ﷺ والوقوع في الضلال المبين.
الوجه الثاني: أن يقال: إن توجه الفتان بالدعوة الملحة إلى الإجماع في الرأي على تكييف المعاملات المصرفية في حالتي الإبداع والإقراض هو في الحقيقة دعوة إلى العمل بالقانون الذي يبيح الربا في المعاملات المصرفية، وقد قال الفتان فيما تقدم ذكره قريبا([99]): "إن المعاملات المصرفية معاملات جديدة لا تخضع في حكمها للنصوص القطعية التي وردت في القرآن بشان حرمة الربا" فهذه العبارة صريحة في رد النصوص القطعية التي وردت في القرآن بتحريم الربا تحريما مطلقًا يشمل المعاملات المصرفية وغير المصرفية على حد سواء، وما أبشع هذه العبارة وأقبحها وأشنعها، وقد قال الله -تعالى-: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾.
الوجه الثالث: أن يقال: من دعا إلى تحكيم الرأي فيما يخالف الكتاب والسنة فإنما هو في الحقيقة يدعو إلى تحكيم الطاغوت والتحاكم إليه، وهذا من صفات المنافقين كما أخبر الله بذلك عنهم في قوله -تعالى-: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾، قال ابن كثير: "الآية ذامة لمن عدل..
عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت هنا". انتهى، وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه (إعلام الموقعين): "أخبر -سبحانه- أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكَّم الطاغوت وتحاكم إليه، والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم قد عدلوا عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته، وهؤلاء لم يسلكوا طريق الناجين الفائزين من هذه الأمة – وهم الصحابة ومن تبعهم – ولا قصدوا قصدهم، بل خالفوهم في الطريق والقصد معًا". انتهى.
وقال ابن القيم أيضا في كتابه (طريق الهجرتين) في ذكر صفات المنافقين: "ومن صفاتهم أنك إذا دعوتهم عند المنازعة للتحاكم إلى القرآن والسنة أبوا ذلك وأعرضوا عنه ودعوك إلى التحاكم إلى طواغيتهم، ومن صفاتهم معارضة ما جاء به الرسول ﷺ بعقول الرجال وآرائهم ثم تقديمها على ما جاء به – فهم معرضون عنه معارضون له زاعمون أن الهدى في آراء الرجال وعقولهم دون ما جاء به". انتهى.
الوجه الرابع: أن يقال: إنه لا يعرض عن حكم الله وحكم رسوله ﷺ بتحريم الربا على وجه العموم ويدعو إلى تحكيم الرأي في المعاملات المصرفية إلا من ليس في قلبه إيمان، والدليل على هذا قول الله -تعالى-: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ وقول النبي ﷺ: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به» رواه نصر بن إبراهيم المقدسي في كتاب (الحجة) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، وقال النووي في كتاب (الأربعين) له: "حديث صحيح رويناه في كتاب (الحجة) بإسناد صحيح..." ثم قال في الكلام عليه: "يعني أن الشخص يجب عليه أن يعرض عمله على الكتاب والسنة ويخالف هواه ويتبع ما جاء به ﷺ، وهذا نظير قوله -تعالى-: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ فليس لأحد مع الله - عز وجل- ورسوله ﷺ أمر ولا هوى". انتهى.
الوجه الخامس: أن يقال: إن الله -تعالى- قد وسع الرزق لعباده من الوجوه المباحة
والمكاسب الطيبة قبل وجود المصارف وبعد وجودها ولم يجعل حاجاتهم ومصالح معاشهم متوقفة على المعاملات المصرفية، فوجودها وعدمها بالنسبة لحاجات العباد ومصالح معاشهم سواء. وما لفَّقه الفتان في دعوته المُلحّة إلى إجماع في الرأي يضمن حاجات الناس ويضمن للأمة الإسلامية الاستفادة من قوتها الاقتصادية فهو باطل وضلال؛ لأنه يتضمن رد النصوص من الكتاب والسنة على تحريم الربا تحريما مطلقًا يشمل جميع أنواع الربا ويشمل المصارف وغير المصارف مما يتعامل فيه بالربا ويتضمن أيضًا رد الإجماع على تحريم الربا، وما كان بهذه المثابة فهو مردود ومضروب به عرض الحائط.
الوجه السادس: أن يقال: إن النظر في قواعد الشريعة والعمل بمقتضاها بابه الاجتهاد ولا محل للإجتهاد مع وجود الدليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع. وإنما يصار إليه إذا لم يوجد الدليل من هذه الأصول الثلاثة، وعلى هذا إجماع أهل العلم، والدليل على ذلك قول الله -تعالى-: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ والدليل عليه من السنة حديث معاذ بن جبل -رضي لله عنه- أن رسول الله ﷺ لما أراد أن يبعثه إلى اليمن قال: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟» قال: أقضي بكتاب الله، قال: «فإن لم تجد في كتاب الله؟» قال: أقضي بسنة رسول الله، قال: «فإن لم تجد في سنة رسول الله؟» قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب رسول الله ﷺ صدره وقال: «الحمد لله الذي وفَّق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله»، رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والدارمي والدارقطني والبيهقي.
وروي النسائي عن شريح أنه كتب إلى عمر -رضي الله عنه- يسأله فكتب إليه "أن اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله ﷺ، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ﷺ فاقض بما قضى به الصالحون، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ﷺ ولم يقضي به الصالحون فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر ولا أرى التأخر إلا خيرًا لك، والسلام عليكم" وقد رواه الدارمي والبيهقي بنحوه.
وروى الدارمي والنسائي والبيهقي أيضا عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "إذا سئلتم عن شيء فانظروا في كتاب الله فإن لم تجدوه في كتاب الله ففي سنة رسول الله فإن لم تجوده في سنة رسول الله فما أجمع عليه المسلمون، فإن لم يكن فيما
اجتمع عليه المسلمون فاجتهد رأيك" وقد رواه الحاكم بنحوه وصححه، ووافقه الذهبي على تصحيحه.
وروى البيهقي أيضا عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- أنه قال لمسلمة بن مخلد: "اقض بكتاب الله - عز وجل- فإن لم يكن في كتاب الله ففي سنة النبي ﷺ فإن لم يكن في سنة النبي ﷺ فادع أهل الرأي ثم اجتهد".
وروى البيهقي أيضا عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: سمعت عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- إذا سئل عن شيء هو في كتاب الله قال به، وإذا لم يكن في كتاب الله وقال رسول الله ﷺ قال به، وإن لم يكن في كتاب الله ولم يقله رسول الله ﷺ وقاله أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- قال به، وإلا اجتهد رأيه.
وروى الدارمي عن أبي الشعثاء أن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال له: "يا أبا الشعثاء، إنك من فقهاء البصرة فلا تفت إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت".
وروى الدارمي أيضًا أن أبا سلمة قال للحسن: "إنه بلغني أنك تفتي برأيك فلا تفت برأيك إلا أن يكون سنة عن رسول الله ﷺ أو كتاب منزل".
وفي حديث معاذ وما ذكر بعده من الآثار عن الصحابة -رضي الله عنهم- دليل على أنه لا يسوغ الاجتهاد مع وجود الدليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع، وفي هذا أبلغ رد علي الفتان الذي لم يرض بحكم الله -تعالى- وحكم رسوله ﷺ بتحريم الربا على وجه العموم، ولم يرض بإجماع المسلمين على تحريمه، بل ذهب يتوجه بالدعوة الملحة إلى تحكيم الرأي فيه، وهذا يدل على أنه مصاب في دينه وعقله.
فصل في ذكر الرأي المحمود
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتاب (إعلام الموقعين): "الرأي المحمود أن يكون بعد طلب علم الواقعة من القرآن، فإن لم يجدها في القرآن ففي السنة، فإن لم يجدها في السنة فبما قضى به الخلفاء الراشدون أو اثنان منهم أو واحد، فإن لم يجده فبما قاله واحد من الصحابة، فإن لم يجده اجتهد رأيه ونظر إلى أقرب ذلك من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وأقضية أصحابه، فهذا هو الرأي الذي سوغه الصحابة واستعملوه وأقر بعضهم بعضا عليه... ثم ذكر ما رواه علي بن الجعد عن شعبة عن سيار – وهو أبو الحكم العنزي – عن الشعبي أن عمر -رضي الله عنه- بعث شريحًا قاضيًا وقال: ما استبان لك من كتاب الله فلا تسأل عنه فإن لم يستبن في كتاب الله فمن السنة فإن لم تجده في السنة فاجتهد رأيك".
فصل
وقال الفتان: "إن توفير السيولة في المصارف مصلحة اقتصادية ضرورية لإشباع الحاجات المشروعة، ولذلك يجب إلزام المصارف والمقترضين منها بحد أدنى من الأرباح؛ لأن ذلك سوف يشجع على ظهور السيولة في المصارف وعلى إشراك أصحاب الأموال الصغيرة في أرباح المشاريع التجارية الكبيرة والصغيرة ذات المصلحة المحققة، وفي ذلك بلا شك مصالح معاشية ضرورية من غير استغلال ولا ظلم مما هو من خصائص الربا المحرم في القرآن".
والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: ما لفَّقه الفتان في هذه الجملة فإنه ظاهر في الترغيب في المعاملات الربوية مع أهل المصارف والتشجيع على محاربة الله ورسوله باستحلال الربا لإشباع الجشع والتكاثر بالأموال الربوية.
الوجه الثاني: أن يقال: إن الأرباح التي ذكر الفتان أنه يجب إلزام المصارف والمقترضين منها بحد أدنى هي النسبة الربوية التي يجعلها أهل المصارف لأهل الأموال مقابل انتفاعهم بأموالهم كالخمسة في كل مائة مثلا، وقد تكون أكثر منها وقد تكون أقل على حسب ما يتفق عليه أهل المصارف مع أهل الأموال، وهذه النسبة هي عين الربا؛ ...........
لأن أهل الأموال إنما يدفعون أموالهم إلى أهل المصارف من أجل هذه النسبة الربوية وقد قال رسول الله ﷺ: «الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل فمن زاد أو استزاد فهو ربا» رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه-، وعن أبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت -رضي الله عنهما- نحوه، وقد تقدم ذكرهما في أول الكتاب.
الوجه الثالث: أن يقال: إن كل ما يأخذه أهل الأموال من الزيادة على رؤوس أموالهم فهو ظلم وإن كانت الزيادة شيئا يسيرًا، والدليل على هذا قول الله -تعالى-: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ فدلت الآية الكريمة على أنه لا يجوز أخذ ما زاد على رؤوس الأموال؛ لأن ذلك من الظلم.
الوجه الرابع: أن يقال: إن نصوص القرآن قد جاءت على وجه العموم الذي يشمل جميع أنواع الربا وليس فيها ما يدل على تخصيص نوع منه دون غيره من الأنواع، وغاية ما يتعلق به المفتونون بتحليل الربا ما ذكره بعض المفسرين أن بعض الآيات نزلت بسبب ما كان باقيا من ربا الجاهلية، وليس في هذا ما يتعلق به المبطلون؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر عند الأصوليين؛ ولأن الله -تعالى- أمر أهل الأموال أن يأخذوا رؤوس أموالهم ولا يزيدوا عليها ونص على أن أخذ الزيادة على رؤوس الأموال ظلم، وفي هذا أبلغ رد على الفتان الذي يحاول تحليل الربا في المصارف ويتأول القرآن على غير تأويله ويضعه على غير مواضعه.
فصل
وقال الفتان: "نحن نعرف أن المصارف تقرض بأجل أي توظف الزمن، ولا شك أن للزمن في ميدان النشاط الاقتصادي دورًا بارزًا لا مجال لإنكاره، ومن ثَمَّ فمن حق المتعامل أن يستفيد به، ولذلك جاز بيع السلعة بثمن أغلى نظير الأجل، ومهما قيل في تفسير تلك العملية فإن عنصر الزمن بارز فيها، وأي إنكار له هو تخريج من بعيد ومتكلف ونعرف أيضا أن للزمن قيمة مالية في الإسلام، وتأييدًا لما نقول نقدم بعض العبارات للإمام الشافعي حيث قال في الأم: "الطعام الذي إلى الأجل القريب أكثر قيمة من الطعام الذي إلى الأجل البعيد"، وقال: "مائة صاع أقرب أجلاً من مائة صاع أبعد أجلاً منها أكثر في القيمة، أي أن القيمة الحالية لمائة صاع قريبة الأجل أكبر من القيمة الحالية لمائة صاع بعيدة الأجل".
والجواب: أن يقال: إن كلام الفتان في هذه الجملة كله شبه وتلبيس على الجهال ليوقعهم في أكل الربا واستحلاله في المعاملات مع أهل المصارف.
فأما قوله: إن المصارف تقرض بأجل.
فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن تأجيل القرض لا يجوز في أصح قولي العلماء وهو قول الجمهور، قال النووي في الروضة: "ولا يجوز شرط الأجل فيه ولا يلزم بحال". انتهى. وعلى القول بجواز التأجيل فليس فيه ما يتعلق به الفتان في تحليل الربا؛ لأن القائلين بجواز التأجيل يمنعون من اشتراط الزيادة في القرض ويرون أن ذلك من الربا.
الوجه الثاني: أن يقال: إن أهل المصارف إنما يقرضون بأجل لأنهم يشترطون على المقترض أن يرد إليهم بدل القرض وزيادة معلومة في كل مائة، فإذا أقرضوا إنسانًا مائة ألف درهم مثلا اشترطوا عليه أن يرد إليهم مائة ألف درهم وزيادة ثلاثة آلاف درهم أو أكثر أو أقل على حسب طول مدة الأجل وقصرها، وهذا عين الربا، قال الشيخ الموفق في (المغنى): "كل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف"، قال ابن المنذر: "أجمعوا على أن المستسلف إذا شرط على المسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا، وقد روي عن أُبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود أنهم نهوا عن قرض جر منفعة، ولأنه عقد إرفاق وقربة فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه، ولا فرق بين الزيادة في القدر أو في الصفة، مثل أن يقرضه مكسرة ليعطيه صحاحًا أو نقدًا ليعطيه خيرًا منه". انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "القرض إذا جر منفعة كان ربا"، وقال أيضًا: "كل قرض جر منفعة فهو ربا، مثل أن يبايعه أو يؤاجره ويحابيه في المبايعة والمؤاجرة لأجل قرضه، فإذا أقرضه مائة درهم وباعه سلعة تساوي مائة بمائة وخمسين كانت تلك الزيادة ربا، وكذلك إذا أقرضه مائة درهم واستأجره بدرهمين كل يوم وأجرته تساوي ثلاثة، بل ما يصنع كثير من المعلمين بصناعهم يقرضونهم ليحابوهم في الأجرة فهو ربا، وكذلك إذا كانت الأرض أو الدار أو الحانوت تساوي أجرتها مائة درهم فأكراها بمائة وخمسين لأجل المائة التي أقرضها إياه فهو ربا". انتهى كلامه، وهو في صفحة خمسمائة وإحدى وثلاثين وصفحة خمسمائة وثلاث وثلاثين من المجلد التاسع والعشرين من مجموع الفتاوى.
وقال شيخ الإسلام أيضا في الفتاوى المصرية: "إن الله حرم أخذ دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل لما في ذلك من ضرر المحتاج وأكل ما له بالباطل، وكل قرض جر منفعة فهو ربا كما يقرض صناعه ليحابوه بالأجرة أو يقرضه مائة ويبيعه سلعة تساوي مائة بمائة وخمسين ونحو ذلك فهو ربا". انتهى، وذكر الجصاص في (أحكام القرآن) أن ربا أهل الجاهلية هو القرض المشروط فيه الأجل وزيادة مال على المستقرض.
وأما قوله: إن المصارف توظف الزمن.
فجوابه: أن يقال: إن معنى توظيف الزمن هو اشتراط زيادة على القرض المدفوع لتكون في مقابل الزمن الذي يجعله أهل المصارف أجلاً للقرض، وهذا عين الربا.
وأما قوله: ولا شك أن للزمن في ميدان النشاط الاقتصادي دورًا بارزًا لا مجال لإنكاره، ومن ثم فمن حق المتعامل أن يستفيد به.
فجوابه: أن يقال: هذا تصريح من الفتان بتحليل الربا الذي يجعله أهل المصارف في مقابلة الزمن ويسمونه فائدة، وهذا عين المحادة لله ولرسوله ﷺ.
وأما قوله: ولذلك جاز بيع السلعة بثمن أغلى نظير الأجل.
فجوابه: أن يقال: إن الفتان قد ساوى في هذه الجملة بين البيع الجائز وبين الربا المحرم الذي سماه توظيف الزمن وقال: "إن من حق المتعامل أن يستفيد به"، فجعل بيع السلعة بثمن مؤجل أكثر من ثمنها وقت البيع مثل القرض إلى أجل بزيادة على قدر القرض وهذا من أفسد القياس وهو مطابق لما أخبر الله به عن أهل الجاهلية أنهم قالوا: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾، وقد رد الله عليهم بقوله: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ﴾ وفي هذه الآية أبلغ رد على الفتان.
وأما قوله: ومهما قيل في تفسير تلك العملية فإن عنصر الزمن بارز فيها، وأي إنكار له هو تخريج من بعيد ومتكلف.
فجوابه: أن يقال: لا يخفي ما في كلام الفتان من المعارضة لما تواتر عن النبي ﷺ أنه نهى عن التفاضل في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة، وقال: «من زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» وفي رواية: «من زاد أو استزاد فهو ربا» وقد ذكرت الأحاديث الواردة في تحريم الربا في أول الكتاب فلتراجع([100])، ففيها أبلغ رد على ........
قول الفتان إن أي إنكار للعملية – أي العملية الربوية في المصارف وهي توظيف الزمن – أنه تخريج من بعيد ومتكلف، هكذا قال الفتان الذي يهرف بما لا يعرف، وما يدري الجهول أن كلامه هذا يتناول الأحاديث المتواترة عن النبي ﷺ في النهي عن التفاضل في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة؛ لأنه على حد قوله يكون الاحتجاج بالأحاديث النبوية على إنكار العملية الربوية في المصارف تخريجًا من بعيد ومتكلف، وما أسوأ هذه العبارة وأبشعها!
وقد ذكرت أيضًا عن عدد من الصحابة -رضي الله عنهم- أنهم قالوا في القرض الذي يجر منفعة إنه ربا فليراجع ذلك في أثناء الكتاب([101])، وذكرت أيضًا عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال: "إن لفظ الربا يتناول كل ما نُهي عنه من ربا النسأ وربا الفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك، فالنص متناول لهذا كله". انتهى فليراجع([102])، وذكرت أيضا قول ابن حجر الهيتمي أن أنواع الربا أربعة وذكر منها ربا القرض، ثم قال: "وكل من هذه الأنواع الأربعة حرام بالإجماع وبنص الآيات والأحاديث" فليراجع ذلك في أثناء الكتاب([103]) ففي كل ما تقدم أبلغ رد على قول الفتان إن إنكار العملية الربوية في المصارف تخريج من بعيد ومتكلف.
أما قوله: ونعرف أيضا أن للزمن قيمة مالية في الإسلام.
فجوابه: أن يقال: إنما ذلك في السلم وبيع الطعام وأنواع السلع بثمن مؤجل، فأما القرض إلى أجل بزيادة على قدر القرض فهو حرام بالإجماع، وقد تقدم كلام الموفق وابن المنذر في ذلك في أول الفصل.
وأما ما ذكره عن الشافعي أنه قال في الأم: "الطعام الذي إلى الأجل القريب أكثر قيمة من الطعام الذي إلى الأجل البعيد"، وقال: "مائة صاع أقرب أجلا من مائة صاع أبعد أجلاً منها أكثر في القيمة، أي في القيمة الحالية لمائة صاع قريبة الأجل أكثر من القيمة الحالية لمائة صاع بعيدة الأجل".
فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: هذا الكلام الذي ذكره عن الشافعي قد نقله بالنص من رسالة الدكتور رفيق المصري المسماة بـ(الربا والاسم الزمني في ..............
الاقتصاد الإسلامي) وهو في صفحة 30 وقوله في آخره: أي أن القيمة الحالية لمائة صاع... إلى آخره، ليس من كلام الشافعي وإنما هو من كلام الدكتور رفيق ومع هذا فقد جعله الفتان من كلام الشافعي ولم يميز بين كلامه وكلام غيره، وليس في كلام الدكتور رفيق ما يدل على أنه كان يرى تحليل الربا في البنوك، بل إنه قد رد على رشيد رضا في قوله بجواز الزيادة في القرض فقال في صفحة 34: "هذا توسع منه غير مقبول شرعًا ولا عقلاً"، وفي هذا رد على الفتان أيضا.
الوجه الثاني: أن يقال: ليس في كلام الشافعي -رحمه الله تعالى- ما يتعلق به الفتان فيما رآه تحليل ربا القرض المؤجل في المعاملات المصرفية؛ لأن بيع الطعام إلى أجل بعيد بأكثر من قيمته إذا بيع بقيمة حاضرة أو إلى أجل قريب لا خلاف في جوازه، بخلاف القرض بزيادة فإنه عين الربا وهو حرام بالإجماع، وقياس هذه المعاملة الربوية على ما قاله الشافعي في بيع الطعام المؤجل من أفسد القياس وهو مطابق لما أخبر الله به عن المرابين أنهم قالوا: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾ وفي هذه الآية أبلغ رد على الفتان.
فصل
قال الفتان: "وقرر الفقهاء أن العين خير من الدين والحاضر أفضل من الغائب والناجز أحسن من غيره وأن الخمسة نقدًا تساوي ستة مؤجلة، ثم ذكر ثلاثة عشر كتابًا من كتب الفقهاء من أهل المذاهب الأربعة قد ذكر فيها هذا الكلام أو معناه".
والجواب عن هذا من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن الفتان قد نقل هذا الكلام بالنص من رسالة الدكتور رفيق المصري، وقد تقدم ذكرها في الفصل الذي قبل هذا الفصل، وهذا الكلام مذكور في صفحة 30 من الرسالة، ونقل الفتان أيضا من الرسالة ما ذكره الدكتور رفيق من الكتب الثلاثة عشر من كتب الفقهاء من أهل المذاهب الأربعة، وهي التي ذكر فيها هذا الكلام أو معناه، ونقل أيضا ما ذكره الدكتور رفيق من الأرقام لأجزاء الكتب المشار إليها وصفحاتها، وهو في صفحة 30-31 وصفحة 35-36 من الرسالة، ولو أن الفتان نسب الكلام للدكتور رفيق لكان أولى له من الاتصاف بصفة اللصوص، وليس في كلام الدكتور رفيق ما يتعلق به الفتان في تأييد قوله الباطل في تحليل الربا في المصارف؛ لأن الدكتور إنما ساقه في بيع الطعام بثمن مؤجل، وقد رد فيه قول رشيد رضا إن الزيادة تجوز في القرض، وتقدم ذلك في الفصل الذي قبل هذا الفصل.
الوجه الثاني: أن يقال: إن كلام الفتان في هذه الجملة مبنى على التمويه والتلبيس على الجهال وإيهامهم أن ما ذكره من كلام الفقهاء يؤيد قوله الباطل في تحليل ربا القرض في المعاملات المصرفية، وهذا خطأ وتضليل، إذ ليس في كلام الفقهاء ما يتعلق به فيما رآه من تحليل الربا، وإنما كلامهم في السلم وبيع الطعام وغيره من أنواع السلع بثمن مؤجل، فإنهم قالوا فيه إن البيع المعجل أكثر قيمة من المؤجل، وأما القرض الذي يجر منفعة فإنهم صرحوا بتحريمه وصرحوا أنه من الربا، وقد تقدم قريبًا قول الشيخ الموفق في (المغنى): "كل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف"، قال ابن المنذر: "أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك، أن أخذ الزيادة على ذلك ربا". انتهى، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "القرض إذا جر منفعة كان ربا". انتهى، وذكر ابن حجر الهيتمي أن أنواع الربا حرام بالإجماع وذكر منها ربا القرض وقد تقدم كلامه في ذلك في أثناء الكتاب فليراجع([104])، وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتابه (المهذب): "ولا يجوز قرض جر منفعة مثل أن يقرضه ألفًا على أن يبيعه داره أو على أن يرد عليه أجود منه أو أكثر منه، ويروي عن أُبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس -رضي الله عنهم- أنهم نهوا عن قرض جر منفعة، ولأنه عقد إرفاق فإذا شرط فيه منفعة خرج عن موضوعه". انتهى.
وقال النووي في (الروضة): "يحرم كل قرض جر منفعة، فإن شرط زيادة في القدر حرم إن كان المال ربويًا، وكذا إن كان غير ربوي على الصحيح". انتهى.
وقال السرخسي في (المبسوط): "نهى رسول الله ﷺ عن قرض جر منفعة وسماه ربا". انتهى. وقال الدردير في (الشرح الكبير): "وحرم في القرض جر منفعة، قال الدسوقي في الحاشية: ولو كانت تلك المنفعة قليلة". انتهى.
وكلام الفقهاء من أهل المذاهب الأربعة بنحو هذا كثير جدًا، وفيما ذكرته ههنا كفاية في الرد على تمويه الفتان وإيهامه أن ما ذكره من كلام الفقهاء يؤيد رأيه الفاسد في تحليل ربا القرض في المعاملات المصرفية، وبالجملة فأي شبهة تعلق بها الفتان من كلام الفقهاء فالإجماع على تحريم ربا القرض يردها ويبطلها.
فصل
وقد استخلص الفتان في آخر نبذته ضرورة الترخيص في القرض بفائدة، وقال: "لأنه من العدل والإنصاف أن يشترك الدائن والمدين معًا في احتمالات التقلبات النقدية التي تفرضها الظروف الاقتصادية وذلك بأن يتحمل الدائن نقص قيمة النقود والمدين بأن يدفع الفوائد، وبذلك تتحقق أهداف الفائدة العامة خارج نطاق أي تحريم أو حظر قانوني في استخدام مدخرات المواطنين في تعزيز وتقوية الاقتصاد الوطني، فالعائد سيصبح ثابتًا ومضمونا ومثمرًا؛ وذلك بسبب تنوع وتوسع المشروعات، والنتيجة تحقق القوة الاقتصادية التي بدونها لن تكون هناك قوة إسلامية".
والجواب: أن يقال: أما استخلاص الفتان ضرورة الترخيص في القرض بفائدة فإنه صريح في محادة الله ورسوله ﷺ ومعارضة ما جاء في الكتاب والسنة والإجماع من تحريم الربا تحريمًا مطلقًا يشمل جميع أنواع الربا. وما أسوأ هذه الجراءة من الفتان وأشد خطرها عليه وعلى من عمل بقوله؛ لأن الله -تعالى- قد توعد المحادين له ولرسوله ﷺ بنار جهنم، وتوعد من شاق الرسول ﷺ واتبع غير سبيل المؤمنين بأن يولِّه ما تولى ويُصلِهِ جهنم، وحذر المخالفين عن أمر الرسول ﷺ أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم، ونفى الإيمان عمن لم يرد الأحكام المتنازع فيها إليه وإلى رسول الله ﷺ – أي إلى الكتاب والسنة – وأقسم -تبارك وتعالى- بنفسه على نفي الإيمان عمن لم يُحكِّم الرسول ﷺ في الأمور التي يقع فيها التشاجر ويرض بقضائه ولا يجد في نفسه حرجًا منه، بل يقابله بالقبول والتسليم.
وإذا علم هذا فليعلم أيضا أن الفتان قد تعرض لكل ما ذكرته من الوعيد الشديد ونفي الإيمان فلا يأمن أن يكون له نصيب وافر مما جاء في الآيات التي أشرت إليها، وذلك لأنه قد أقدم على تحليل ربا القرض وزعم أن الترخيص فيه ضرورة، ثم إنه سمى الزيادة الربوية في القرض باسم الفائدة ليموِّه على الجهال بهذه التسمية ويخدعهم بها ليستحلوا ما استحله من الربا ويقعون معه في محاربة الله ورسوله ﷺ ولعنة الله ولعنة رسوله ﷺ.
وأما زعمه أن من العدل والإنصاف دفع الزيادات الربوية في القرض – وهي التي سماها باسم الفوائد.
فجوابه: أن يقال: بل هذا عين الظلم وأكل المال بالباطل، والدليل على ذلك قول الله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ فدلت الآية الكريمة على أن أخذ الزيادة على رأس المال ظلم، وهذا يعم القرض وغيره مما يجري فيه الربا.
وأما زعمه أن أهداف الفائدة العامة – أي الزيادة الربوية في القرض – خارج عن نطاق أي تحريم أو حظر قانوني.
فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن القوانين ليست من أحكام المسلمين وإنما هي من أحكام الجاهلية، وقد ذمَّ الله -تعالى- من عدل عن حكمه إلى حكم الجاهلية فقال -تعالى-: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾، قال ابن كثير في الكلام على هذه الآية: "ينكر -تعالى- على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكز خان الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعا متبعًا يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله ﷺ، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير". انتهى.
الوجه الثاني: أن يقال: إن الزيادة الربوية في القرض داخلة في عموم النصوص الدالة على تحريم الربا وداخلة في عموم الإجماع على تحريم الربا وقد تقدم كلام الجصاص وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن حجر الهيتمي في ذلك فليراجع([105])، وليراجع أيضا كلام ابن المنذر والموفق في ذلك([106]).
وأما قوله: إن العائد سيصبح ثابتًا ومضمونًا ومثمرًا.
فجوابه: أن يقال: إن العائد الربوي وإن أصبح ثابتًا ومضمونًا ومثمرًا كما زعم ذلك الفتان فإن عاقبته ستكون إلى المحق والقلة؛ لأن الله -تعالى- أخبر أنه يمحق الربا، أي يذهبه إما يذهبه بالكلية أو يذهب بركته فلا ينتفع به صاحبه، وقد روي الإمام أحمد وابن ماجة بإسناد حسن عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: «ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة» وفي هذا أبلغ رد على الفتان.
وأما قوله: إن النتيجة تحقق القوة الاقتصادية التي بدونها لن تكون هناك قوة إسلامية.
فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن النتيجة الحاصلة من الفوائد الربوية حرام بالنص والإجماع، وما كان محرما بالنص والإجماع فإنه لا يجوز أخذه ولا إعطاؤه؛ لأن النبي ﷺ «لعن آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه، وقال: هم سواء» رواه مسلم من حديث جابر -رضي الله عنه-. ونص على أن «الآخذ والمعطي فيه سواء» رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
الوجه الثاني: أن يقال: إنه لا تلازم بين وجود القوة الإسلامية وبين وجود القوة الاقتصادية، ولا بين وجود القوة الاقتصادية وبين وجود المصارف التي يتعامل أهلها بالربا، وقد تقدم بيان ذلك في الرد على قول الفتان إنه لن تكون هناك قوة إسلامية بدون قوة اقتصادية ولن تكون هناك قوة اقتصادية بدون بنوك، فليراجع ذلك في أول الكتاب([107]) ففيه كفاية في الرد على أخطاء الفتان في هذه الجملة.
فصل
وقد صدَّر الفتان الطبعة الثانية من نبذته بمقدمة عنوانها: (تنبيه وإيضاح)، فأما التنبيه فقال فيه: "الطبعة الأولى والطبعة الثانية من بحث (موقف الشريعة الإسلامية من المصارف) ليست فتوى وإنما هي دعوة صادقة إلى أهل الخبرة والإفتاء الذين يملكون حق الإفتاء لإيجاد الحلول المعقولة التي تضمن للمملكة العربية السعودية جهازًا مصرفيًا فعالاً في حدود قواعد الشريعة الإسلامية؛ لأن الجهاز المصرفي هو الاقتصاد السعودي والاقتصاد السعودي هو الأمن السعودي والأمن السعودي هو ................................................
مسئولية كل مواطن يملأ قلبه الإيمان بالله -سبحانه وتعالى- ثم بالمملكة العربية السعودية".
والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: أما قول الفتان إن نبذته ليست فتوى وإنما هي دعوة صادقة إلى أهل الخبرة والإفتاء الذين يملكون حق الإفتاء، فهو قول قد خالفه الفعل منه؛ لأن كلامه في نبذته يدور على الإفتاء بحل الربا في المصارف والتحيل على استحلاله بتسميته فوائد، بل إنه قد تجاوز الإفتاء إلى الحكم بالترخيص في القرض بفائدة وزعم أن ذلك ضرورة وأنه من العدل والإنصاف كما قد صرح بذلك في آخر نبذته، وقد قال الله -تعالى-: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾، ولو كان صادقا في قوله إن نبذته دعوة صادقة إلى أهل الخبرة والإفتاء لكان يقتصر على السؤال ويرسله إلى الهيئة المختصة بالإفتاء ويطلب منهم الجواب ثم يعمل بإجابتهم، ولكن قوله لا يعدو أن يكون حبرًا على ورق ومخادعة للذين لا يعرفون حيله على استحلال الربا وأساليبه الملتوية في ذلك.
الوجه الثاني: أن يقال: إن إيجاد الحلول المعقولة موجود في قول الله -تعالى-: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ فهذا النص يتناول جميع المعاملات الربوية في المصارف وغير المصارف، ومن ذلك القرض في المصارف بما يسمونه فائدة، وهي عين الربا.
وإذا علم هذا فليعلم أيضا أنه لا يجوز للمسلم أن يخالف نص الآية الكريمة. ومن خالفه فلا يأمن العقوبة في الدنيا بمحق المال وفي الآخرة بالخلود في النار؛ لأن الله -تعالى- يقول: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾، ويقول: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
الوجه الثالث: أن يقال: إن الله -تعالى- قد يسر لأهل المملكة العربية السعودية ما أغناهم به عن المعاملات الربوية في المصارف وغير المصارف، ونرجو من الله -تعالى- أن يعصم القادة والرعية عما حرَّمه عليهم من الربا وغيره وأن يعيذهم من اتباع خطوات الشيطان ودسائس أعوان الشيطان وحيله وزخارف أقوالهم التي ينشرونها في كتبهم ومقالاتهم ويموهون بها على الناس، وقد قال الله -تعالى-: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾، وقال -تعالى-: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ﴾.
الوجه الرابع: أن يقال: إن الله -تعالى- قد أنعم على أهل المملكة العربية السعودية بنعم عظيمة ويسَّر لهم من الاقتصاد والأمن ما ليس له نظير في العالم، ونرجو من الله أن يديم ذلك عليهم وأن يعصمهم من الوقوع في الأسباب التي تدعو إلى سلب ذلك عنهم، ومن أعظم الأسباب لكثرة النعم ودوام الأمن لزوم طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ وتحكيم الكتاب والسنة في كل الأمور، ومن أعظم الأسباب التي تدعو إلى سلب النعم وزوال الأمن كثرة المعاصي والمخالفات وظهور المنكرات والإعراض عن تحكيم الكتاب والسنة ولو في بعض الأمور، وقد قال الله -تعالى-: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾، وقال -تعالى-: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾، وجاء في بعض الآثار أن الله يقول: «إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني»، وروي ابن أبي حاتم عن إبراهيم قال: "أوحي الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: «أن قل لقومك إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله إلا حوَّل الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون» ثم قال: إن تصديق ذلك في كتاب الله ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾".
الوجه الخامس: أن يقال: إن فشو الربا في المصارف وغيرها وعدم الأخذ على أيدي المتعاملين به من أعظم الأسباب لسلب النعم وزوالها وتدهور الاقتصاد وتضعضع الأمن وحلول الذل والخوف، والدليل على ذلك قول النبي ﷺ: «ما ظهر في قوم الزنى والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله» رواه أبو يعلي بإسناد جيد من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-، وروي الحاكم نحوه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- وصححه، ووافقه الذهبي على تصحيحه، وروى الإمام أحمد وأبو داود عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» العينة نوع من أنواع الربا، وفي المصارف من المعاملات الربوية ما هو أعظم من العينة بكثير، والله المسئول أن يوفق ولاة الأمور للأخذ على أيدي المتعاملين بالربا والداعين إلى استحلاله بالشبه والأباطيل.
الوجه السادس: أن يقال: إن الإيمان المشروع مبنى على ستة أركان قد جاء بيانها في سؤال جبريل حيث قال للنبي ﷺ: أخبرني عن الإيمان؟ فقال رسول الله ﷺ: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره» قال: ...............
صدقت. رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن وغيرهم من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وقال الترمذي: "هذا حيث حسن صحيح". فهذا الإيمان الذي نص عليه رسول الله ﷺ وصدَّقه عليه جبريل هو الذي يملأ قلوب المؤمنين في كل زمان ومكان، ومن زاد عليه شيئا لم يأمر الله به ولا رسوله ﷺ فزيادته مردودة عليه؛ لأنها من الشرع الذي لم يأذن به الله.
وأما الإيضاح فقال الفتان فيه: "لقد قمت بهذا البحث مقتديًا بموقف من مواقف الرسول ﷺ مع بعض أصحابه حيث قدمت إليه قضية للنظر فيها فقال لعمرو بن العاص: «احكم» فقال: أجتهد وأنت حاضر؟! فقال رسول الله ﷺ: «نعم إن أصبتَ فلك أجران وإن أخطأتَ فلك أجر» لهذا أُقدِّم ما وسعني الجهد وأعرضه على من هم خير مني".
والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن حديث عمرو بن العاص -رضي الله عنه- حديث ضعيف قد رواه الإمام أحمد والدارقطني من طريق الفرج بن فضالة وهو ضعيف، وفي إسناده أيضا محمد بن عبد الأعلى بن عدي وهو مجهول، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: "فيه من لم أعرفه"، وما كان بهده الصفة فإنه لا يعتد به.
الوجه الثاني: أن يقال: إن الفتان قد تعدى طوره وتجاوز الحد الذي يليق به؛ وذلك أنه وضع نفسه في موضع القضاة الذين يحكمون بين الناس، وإنه لينطبق عليه ما جاء في المثل المشهور "ليس هذا بعُشّك فادرجي" وقد روى أبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم عن بريدة -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ أنه قال: «القضاة ثلاثة؛ واحد في الجنة واثنان في النار؛ فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضي به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» صححه الحاكم، ورواه أيضا بنحوه وزاده فيه: قالوا فما ذنب هذا الذي يجهل؟ قال: «ذنبه أن لا يكون قاضيا حتى يعلم» قال الذهبي على شرط مسلم، وفي رواية ذكرها رزين قال: «فأما الذي في الجنة فهو رجل قضى بكتاب الله وسنة نبيه لا يألو عن الحق، وأما اللذان في النار فرجل قضى بجور وآخر افترى على القضاء فقضي بغير علم».
وإذا علم ما جاء في هذا الحديث من التشديد في القضاء بالجور وبالجهل فليعلم أيضا أن الفتان لا ينفك من أحد هذين الوصفين الذميمين وأشدهما مطابقة له صفة الجهل؛ لأن كلامه من أول بحثه إلى آخره كله جهل وضلال، ومداره على الحكم ...................
بتحليل الربا سوى ما كان منه على طريقة أهل الجاهلية، وقد صرح في عدة مواضع من بحثه بتحليل ربا الفضل للمصلحة والحاجة وتحليل ربا النسيئة للضرورة([108])، وصرح أيضا أن الفائدة – يعني النسبة الربوية في المصارف – جزء من ربح المضاربة([109])، وصرح أيضا أن المعاملات المصرفية معاملات جديدة لا تخضع في حكمها للنصوص القطعية التي وردت في القرآن بشأن حرمة الربا([110])، وهذه العبارة صريحة في الرد على الله -تعالى- وعدم الرضا بحكمه الذي أنزله في كتابه، ثم زعم أنه يجب عليه النظر في المعاملات المصرفية من خلال مصالح العباد وحاجاتهم وشبَّهها ببيع السلم([111])، وهذا صريح في الحكم فيها بغير ما أنزل الله في كتابه وعلى لسان رسوله ﷺ، وأما تشبيهها ببيع السلم فإنه صريح في الاقتداء بأهل الجاهلية الذين أخبر الله عنهم أنهم قالوا: ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾. وصرح أيضًا أن حظر المعاملات – يعني الربوية – في المصارف والحكم بأنها من الربا المقطوع به يوقع العباد في حرج من معاشهم([112])، وصرح أيضا أن المصارف تقرض بأجل وأن من حق المتعامل أن يستفيد به وأن أي إنكار له هو تخريج من بعيد ومتكلف([113])، إلى غير ذلك من أنواع الجهل الذي قد حكم به الفتان في بحثه المشئوم.
الوجه الثالث: أن يقال: إن الجهد الذي قدمه الفتان في بحثه كله خطأ مخالف لنصوص القرآن والسنة على تحريم الربا تحريمًا مطلقًا يشمل جميع أنواعه، ومخالف أيضًا لإجماع المسلمين على تحريم الربا. وما كان بهذه الصفة فليس فيه اقتداء بالنبي ﷺ، وإنما هو صريح في معارضته ونبذ أحاديثه المتواترة عنه في النهي عن الربا والتشديد فيه وراء الظهر، وما أعظم الخطر في هذا.
فصل
وأختم الرد على الفتان بذكر قصتين وقعتا لبعض المرابين الذين يعذبون في القبور، وفيهما عبرة لمن اعتبر.
فأما القصة الأول: فقد ذكرها ابن حجر الهيتمي في أثناء مقدمته لكتابه (الزواجر عن اقتراف الكبائر) قال: "كنت وأنا صغير أتعاهد قبر والدي فخرجت يوما بعد صلاة الصبح بغلس في رمضان فلما جلست عند قبره ولم يكن بالمقبرة أحد غيري إذا أنا أسمع التأوه العظيم والأنين الفظيع بآه آه آه وهكذا بصوت أزعجني من قبر مبنى بالنورة والجص له بياض عظيم فاستمعت فسمعت صوت ذلك العذاب من داخله وذلك الرجل يتأوه تأوها عظيما بحيث يقلق سماعه القلب ويفزعه، فاستمعت إليه زمنا فلما وقع الإسفار خفي حسه عني فمر بي إنسان فقلت: قبر من هذا؟ قال: هذا قبر فلان لرجل أدركته وأنا صغير وكان على غاية من ملازمة المسجد والصلوات في أوقاتها والصمت عن الكلام، وهذا كله شاهدته وعرفته منه فكبر عليَّ الأمر جدًا لما أعلمه من أحوال الخير التي كان ذلك الرجل متلبسًا بها في الظاهر فسألت واستقصيت الذين يطلعون على حقيقة أحواله فأخبروني أنه كان يأكل الربا فأوقعه ذلك في العذاب الأليم، ولما قلت ذلك لبعض أهل بلده قال لي: أعجب منه عبد الباسط رسول القاضي فلان، وهذا الرجل أعرفه أيضا كان رسولاً للقضاة أول أمره ثم صار ذا ثروة، فقلت: وما شأنه؟ قال: لما حفرنا قبره لننزل عليه ميتًا آخر رأينا في رقبته سلسلة عظيمة ورأينا في تلك السلسلة كلبًا أسود عظيما مربوطا معه في تلك السلسلة وهو واقف على رأسه يريد نهشه بأنيابه وأظفاره فخفناه خوفا عظيما وبادرنا برد التراب في القبر.
قالوا: ورأينا فلانًا عن رجل آخر لما حفرنا قبره لم يبق منه إلا جمجمة رأسه فإذا فيها مسامير عظيمة القدر عريضة الرؤوس مدقوقة فيها كأنها باب عظيم فتعجبنا منه ورددنا عليه التراب.
قالوا: وحفرنا عن فلان فخرجت لنا حية عظيمة من قبره ورأيناها مطوقة به فأردنا دفعها عنه فتنفست علينا حتى كدنا كلنا نهلك عن آخرنا". انتهى ما ذكره الهيتمي.
وأما القصة الثانية: فقد ذكرها الشيخ محمد بن أحمد السفاريني في كتابه المسمى بـ (البحور الزاخرة في علوم الآخرة) قال: "أخبرني بعض إخواني وهو عندي غير متهم أن رجلاً من بلدهم ماتت زوجته، قال: وكانت تتعاطى الربا – بالباء الموحدة – فلما سمعها أخذته الحشمة([114]) من أجلها وكان ذا شدة وبأس فأخذ سلاحه وذهب إلى عند ..........
قبرها فوقف عليه وقال لها: لا تخافي فإني عندك زعمًا منه أنه سينقذها مما هي فيه لشدة عتوِّه وجهله وتناول حجرًا من القبر، قال: فما رفع رأسه حتى ضرب ضربة أبطلت حركته وأرخت مفاصله وأدلع لسانه فرجع على حالة قبيحة وهيئة فضيحة، قال: فوالله لقد رأيته وهو قد رُضَّ حنكه وبصاقه ينزل على صدره، قال: وهذا خبر استفاض عند أهل البلد كلها". انتهى.
وقد ذكرت في أول الكتاب ما جاء في تعذيب المرابين في البرزخ وحين يبعثون من قبورهم، وأنهم بعد ذلك يحشرون إلى النار فليراجع ذلك([115]) وليتأمله المرابون حق التأمل، ليبادروا إلى التوبة قبل فواتها، فإنه ليس بعد الموت مستعتب، وما بعد الموت إلا الجنة أو النار، وقد قال الله -تعالى- بعد النص على تحريم الربا: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
وهذا آخر ما تيسر إيراده والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وقد كان الفراغ من كتابة هذا الرد في يوم الخميس الموافق لليوم الخامس من شهر ربيع الثاني عام 1408هـ على يد الفقير إلى الله -تعالى- حمود بن عبد الله بن حمود التويجري، غفر الله له ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
([1]) هو القاضي حسين بن محمد بن أحمد أبو علي المروروذي صاحب التعليقة في فقه الشافعية، توفى في المحرم سنة اثنتين وستين وأربعمائة.
([2]) قوله من يقول: كذا جاء في كتاب ابن المنير، ولعل الصواب (من يقال).
([3]) ص 19-20.
([4]) ص،22.
([5]) يعني البياعات التي ليس فيها ربا.
([6]). تراجع ص (16).
([7]) هو القاضي حسين بن محمد. تراجع الحاشية في ص9.
([8]) ص 47-53.
([9]) ص29-39.
([10]) ص 29-39.
([11]) ص 29-39.
([12]) ص29-39.
([13]) ص79.
([14]) ص 47-5.
([15]) ص 75-76.
([16]) ص79.
([17]) ص29-39.
([18]) ص35-38.
([19]) ص 59-60.
([20]) ص 86-88.
([21]) 85-92.
([22]) ص 75-76.
([23]) ص 24.
([24]) ص45.
([25]) 47-52.
([26]) ص 43.
([27]) ص52-53.
([28]) ص29-39.
([29]) الرماء هو الربا وقد تقدم تفسيره في صفحة 91 فليراجع.
([30]) ص26-39.
([31]) ص92.
([32]) ص29-39.
([33]) ص29-39.
([34]) ص 27.
([35]) ص101-102.
([36]) ص53.
([37]) ص75-76.
([38]) ص114.
([39]) كذا في الزواجر، وصوابه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه.
([40]) ص84-92.
([41]) ص116.
([42]) ص59-60.
([43]) ص116.
([44]) ص121.
([45]) ص 29-39.
([46]) ص45.
([47]) ص101-102.
([48]) ص 59-60.
([49]) ص116.
([50]) قول آلاف، كذا جاءت هذه الكلمة بالرفع في نبذة الفتان، وصوابه آلافاً بالنصب.
([51]) قوله لا يقبل ذلك، كذا جاء في نبذة الفتان، وصوابه: لا يفعل ذلك.
([52]) قوله معدوم محتاج، كذا جاء في نبذة الفتان، وصوابه: معدم محتاج، وإذا كان الفتان لا يعرف الفرق بين المرفوع والمنصوب ولا يعرف الفرق بين المعدوم الذي لا يوجد وبين المعدم الذي هو الفقير الذي لا مال له فينبغي له أن يعرف قدر نفسه ولا يقفُ ما ليس له به علم ولا يتكلف الكتابة في الأحكام التي لا يعرفها ولا يعرف الراجح من الأقوال فيها من المرجوح، وإنه لينطبق على الفتان قول الشاعر:
لقد كان في الإعراض ستر جهالة | ||
غدوتَ بها من أشهر الناس في البُلْد | ||
([53]) ص45-46.
([54]) ص120-121.
([55]) ص86-87.
([56]) ص85-92.
([57]) ص123-125.
([58]) قوله مبناها مصالح العباد، كذا جاء في نبذة الفتان، وصوابه مبناها على رعاية مصالح العباد.
([59]) ص92-96.
([60]) ص123-124.
([61]) ص136.
([62]) ص59-60.
([63]) ص116.
([64]) ص35-37.
([65]) ص131-132.
([66]) ص24-25 و97.
([67]) ص45-46.
([68]) ص136.
([69]) ص138.
([70]) الرماء هو الربا وقد تقدم تفسيره في صحفه 91 فليراجع.
([71]) ص9.
([72]) ص136.
([73]) ص145.
([74]) ص135-137.
([75]) ص112.
([76]) تراجع صفحة 105.
([77]) ص16.
([78]) ص136.
([79]) ص120-121.
([80]) ص24-25 و97.
([81]) ص140-143.
([82]) ص15-16.
([83]) ص16.
([84]) ص135-138.
([85]) ص135-137.
([86]) ص97.
([87]) ص136.
([88]) ص67-69.
([89]) ص157.
([90]) ص16 و 65.
([91]) ص136.
([92]) ص120-121.
([93]) ص136.
([94]) ص120-121.
([95]) ص59-60.
([96]) ص14-39.
([97]) ص63 و 147.
([98]) ص 57-58 و 154 و 159 -160 و 165.
([99]) ص166.
([100]) ص29-39.
([101]) ص66-67.
([102]) ص136.
([103]) ص120-121.
([104]) ص121.
([105]) ص24-25 و136 و121.
([106]) ص180.
([107]) ص55-58.
([108])تراجع صفحة 92 و 132 و 143 و 149 و 157 و 160 و 162.
([109]) تراجع صفح 164.
([110]) تراجع صفحة 166.
([111]) تراجع صفحة 166.
([112]) تراجع صفحة 170.
([113]) تراجع صفحة 179.
([114]) قال أهل اللغة: الحشمة الغضب والاحتشام التغضب وحشمت فلانا وأحشمته أي أغضبته.
([115]) ص16-18.