لهو الحديث
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العلي في السماء حرَّم الغناء، وجعل أهله في عناء، ومجالسه في سفول وشقاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خَلَقَ كل دابة من ماء، وجعل من المكلفين سعداء ومنهم أشقياء، واشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله إمام الأنبياء وقدوة الحنفاء صلى الله وسلم عليه كلما حار بالمسلم الغناء، وكان من الأولياء.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله الذي عرض }الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا{ [الأحزاب: 72، 73].
أدُّوا أمانة الجوارح، فإن الله سائلكم عنها، وإنها ستشهد عليكم يوم القيامة بما عملت، قال تعالى: }حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{ [فصلت: 20].
اغتنموا الحياة قبل الموت، والعمل قبل الفوت، والشباب قبل الهرم، والصحة قبل السقم، والغِنى قبل الفقر، والفراغ قبل الشغل، سخِّروها في طاعة الله، واحفظوها من معصية الله، فإن الله خلقها للطاعة ولم يخلقها للمعصية، وإن الله وظَّفها بالعبادة ولم يوظفها باللهو واللعب.
واعلموا أنه لا يستوي أهل الإيمان وأهل الكفر والفسوق والعصيان.
أهل الإيمان هم الفائزون، وأهل الكفر والفسوق والعصيان هم الخاسرون.
أهل الإيمان هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأهل الكفر والفسوق والعصيان هم أعداء الله يخافون ويحزنون.
وليس الفوز بمال أو ولد أو نسب ولكن الفوز في الدنيا بطاعة الله ورسوله، قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا{ [الأحزاب: 70، 71]، والفوز في الآخرة بدخول الجنة، يقول تعالى: }فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ{ [آل عمران: 185]. وما فوزهم إلا لأنهم المصطفون الأخيار، وأولو الأيدي والأبصار، قُوَّتهم في طاعة الله، ووظيفتهم في عبادة الله، وطلبهم للسعادة وهربهم من الشقاوة، وانشغالهم بالآخرة وإعراضهم عن الدنيا.
وما فوزهم إلا لأن حياتهم تتميَّز عن حياة غيرهم، فحياتهم حياة توبة دائمة؛ لأنهم خطَّاؤون وخير الخطائين التوابون؛ ولأن الله يحب التوابين، ولأن التوبة هي أمر الله تعالى إلى جميع المؤمنين، ولأنها سبب الفلاح، قال تعالى: }وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{ [النور: 31]. ولأنها المُكَفِّرة للذنوب المُطَهِّرة للآثام، وبها تقلب السيئات إلى حسنات. يقول تعالى: }وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا{ [الفرقان: 68-70].
ويقول ﷺ: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له».
ولقد كان ﷺ يواظب على التوبة كل يوم، إذ يتوب كل يوم مائة مرة، يقول ﷺ: «يا أيُّها الناس، توبوا إلى الله، فوالله إني لأتوب إليه في اليوم أكثر من مائة مرة». وفي رواية: «سبعين مرة».
والتوبة إصلاح للعبد في ماضيه بالندم على فعل الذنب، وإصلاح له في حاضره بالإقلاع عن الذنب، وإصلاح له في مستقبله بالعزم على ألا يعود إلى الذنب مرَّة أخرى.
والتوبة حفظ لأهلها من الهوى الذي يهوي بصاحبه في الهاوية، وبه يخف الميزان، يقول تعالى: }وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ{ [القارعة: 8، 9]، وبالهوى يضل الإنسان عن صراط الله المستقيم، ويتبع طريق أهل الجحيم، ويستحوذ عليه الشيطان الرجيم، يقول تعالى: }يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ{ [ص: 26].
والهوى يغلق منافذ الخير ويفتح منافذ الشر، قال تعالى: }أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ{ [الجاثية: 23]، وقد ذمَّ الله أهل الهوى ووصفهم بالنفاق فقال: }وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ{ [محمد: 16].
ومَدَحَ الله الذي يخالف هواه ووعده بالجنة، قال تعالى: }وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى{ [النازعات: 40، 41].
والعاقل مَن حاسب نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني.
ولا يتحقق الإيمان الصادق حتى يكون الهوى تابعًا لِمَا جاء في الكتاب والسُّنَّة، وبهذا يكون الإنسان عبدًا لله ولا يكون عبدًا لهواه، ويكون محتكمًا إلى الكتاب والسنة ولا يكون محتكمًا إلى هواه.
وإن من المعلوم أن الغناء يتضمن كلامًا لا يرضي الله، وصوتًا لا يرضي الله، وآلات لا ترضي الله، ومجتمعًا لا يرضي الله. ولقد فتك الغناء بالقلوب }فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ{ [البقرة: 74]. وأبعد القلوب عن الله هي القلوب القاسية؛ لأنها بعيدة عن الحق قريبة إلى الباطل، ولأنها لا تفقه ولا تسمع ولا تبصر، وأبغض القلوب إلى الله تعالى هي القلوب القاسية، تَوَعَّدها بويل فقال: }فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ{ [الزمر: 22].
والغناء هو الذي صدَّ عن ذكر الله وأعرض أهله عن الله، ومَن أعرض عن الله أعرض الله عنه، وبالغناء اشتغلت الألسن بالكلام الذي لا يرضي الله، فأجدبت عن ذكر الله وانحرفت الأعضاء عن منهج الله، وما جدبت الألسن إلا لجدب القلوب، وفي انحراف الألسن، يقول ﷺ: «إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان وتقول له: اتق الله فينا، فإنك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا».
وبالغناء عزف الناس عن كلام الله تعالى؛ لأنهما متضادات والمتضادان لا يجتمعان، قال ابن القيم:
حب الكتاب وحب ألوان الغنا | ||
في قلب عبد ليس يجتمعان | ||
لأن القرآن كلام الله والغناء صوت الشيطان، ولأن القرآن ربح والغناء خسارة، ولأن كلام الله حق والغناء باطل.
قال ابن عباس لرجل وقد سأله عن الغناء: أرأيت الحق والباطل إذا جاء يوم القيامة أين يكون الغناء؟ فقال الرجل: يكون مع الباطل.
والغناء يصد عن الصلاة؛ لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والغناء يأمر بالفحشاء والمنكر، ومجالس الغناء هم وغم ومجالس حسرة وندامة ومجالس إفلاس ومجالس ضياع، يقول ﷺ: «ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله تعالى فيه، ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة – أي حسرة وندامة ». ومجالس الغناء مجالس فتنة لبُعدها عن طاعة الله وقربها إلى معصيته، ولفقدها لنزول الرحمة وغشيان السكينة وحفوف الملائكة وعدم ذكر أهلها عند الله تعالى، يقول ﷺ: «ما اجتمع قوم فتفرَّقوا عن غير ذكر الله إلا كأنما تفرقوا عن جيفة حمار، وكان ذلك المجلس عليهم حسرة».
والغناء يتلقى عن الشياطين واليهود والنصارى والمشركين وغيرهم من أعداء الله وأعداء رسله وأعداء دينه. أما تلقيه عن الشيطان فلأنه صوت الشيطان الذي يستفز به الناس، ولأنه مزماره الذي يهلكهم به، قال تعالى: }وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا{ [الإسراء: 64].
قال مجاهد بن جبر المكي: صوت الشيطان هو الغناء، ومجاهد تلميذ ابن عباس في التفسير: عرض المصحف على ابن عباس ثلاث مرات يوقفه عند كل آية ويسأله عن معناها.
قال سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به.
وقال الذهبي: أجمعت الأمة على إمامة مجاهد في التفسير.
وقال أبو بكر لمَّا دخل والجاريتان الصغيرتان يغنيان عند عائشة بيوم بعاث: أمزمار شيطان في بيت رسول الله ﷺ؟! وانتهر عائشة وعاتبها فغمزتهما فخرجا. ورأت عائشة رضي الله عنها رجلاً يحرك رأسه طربًا يمنة ويسرة فقالت: أف شيطان أخرجوه فأخرجوه.
وأما تلقيه عن اليهود فإنهم يدعون إلى الغناء بأقوالهم وبأفعالهم وبأموالهم ويوقنون أنه سبب رئيس في انحراف المسلمين فأنشأوا القنوات والإذاعات الخاصة بالغناء لإفساد المسلمين.
وأما تلقيه عن النصارى فقد قدم عضد الدولة القاضي أبا بكر الباقلاني إلى ملك الروم فأراد ملك الروم إذلاله بالركوع له، فأمر بجعل باب صغير لابد لمن أراد أن يدخل أن ينحني، ففهم أبو بكر ذلك فدخل على قفاه. فأمر ملك الروم بإحضار المغنين والمغنيات لفتنته فلما رآهم القاضي أخذ سكينًا من جيبه ثم قطع بها يده ليشتغل بها عن الغناء.
وأما تلقيه عن المشركين فإنهم كانوا يصفقون ويصفرون ويقولون لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون، يقول تعالى: }وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً{ [الأنفال: 35]. والمكاء هو الصفير، والتصدية والتصفيق.
واعلموا عباد الله أن الله تعالى حرَّم الغناء في كتابه وفي سنة رسوله، والواجب أن نقول سمعنا وانتهينا. فمن أدلة تحريمه قول الله تعالى: }وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ{ [لقمان: 6]. ووجه الدلالة أن الله تعالى لمَّا ذكر أهل القرآن في أول السورة ذكر أهل الغناء بعد ذلك، وذمَّ أهل الغناء الذين يشترون الباطل والمعصية ونسوا أنهم مسئولون أمام الله عن ذلك. وسمي الغناء لهوًا لأنه يلهي عن طاعة الله ويلهي عن الآخرة، وقد ذمَّ الله اللهو، يقول عن الدنيا: }إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ{ [محمد: 36]، ويقول ﷺ: «كل شيء يلهو به الرجل فباطل – أي محرم – إلا رمي الرجل بقوس، أو تأديبه فرسه، أو ملاعبته زوجته فإنهن من الحق».
وقد بيَّن عاقبة اللهو وهي الإضلال عن سبيل الله والجهل والاستهزاء والعذاب المهين، قال ابن مسعود: (والله الذي لا إله إلا هو إن لهو الحديث الغناء). وكذلك قال ابن عباس، وجابر، وابن عمر، وأكثر من ثلاثة عشر تابعيًا.
ومن الأدلة قوله تعالى: }وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا{ [الفرقان: 72]. قال محمد بن الحنفية: الزور هو الغناء؛ لأنم صاحبه يميل عن الصراط المستقيم، ولأنه يلبس به الباطل إذ يظهره في صورة الحق.
ومن الأدلة قوله تعالى: }أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ{ [النجم: 59-61]. قال ابن عباس: السمود هو الغناء في لغة الحمير. وقد ذم الله هؤلاء القوم الذين يضحكون من القرآن وحالهم الغناء والإعراض.
وقد ذكر ابن القيم أن من أسمائه: اللهو واللعب والزور واللغو والباطل والمكاء والتصدية ورقية الزنا ومنبت النفاق وقرآن الشيطان والصوت الأحمق والصوت الفاجر ومزمار الشيطان والسمود وغير ذلك.
ومن أدلة تحريمه في السنة قوله ﷺ: «ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، لينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة عليهم فيأتيهم يعني الفقير لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غدًا فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين فردة وخنازير إلى يوم القيامة» ووجه الدلالة قوله: «يستحلون» أي يجعلون الحرام حلالاً، وقوله: «والمعازف» التي تشمل آلات الغناء كلها، وقَرَنَ الغناء بالزنا ولبس الحرير للرجال والخمر وهي من الكبار فهو كبيرة وتوعدهم بالعذاب إذ قال: «يبيتهم» وتوعدهم بالخسف إذ قال: «ويضع العلم»، وتوعدهم بالمسخ إلى قردة وخنازير.
ومن الأدلة على تحريمه حديث عبد الرحمن بن عوف: عندما بكى ﷺ عند موت إبراهيم، قال عبد الرحمن: ألم تنه عن البكاء. قال: «إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نعمة لهو ولعب ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان». ووجه الدلالة قوله: «نهيت»، والنهي يقتضي التحريم، قال تعالى: }وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا{ [الحشر: 7]، وقوله ﷺ: «وما نهيتكم عنه فانتهوا» وسماه صوتًا أحمقَ؛ لأنه للحمقى، وصوتًا فاجرًا؛ لأنه لأهل الفجور.
ومن الأدلة قوله ﷺ: «إن الله حرَّم الخمر والميسر والكوبة»، ووجه الدلالة قوله: «حرَّم»، وقوله: «الكوبة» التي هي الطبل وما شابهه، وقَرَنَ بينهما وبين الخمر والميسر وكلاهما حرام.
ومن الأدلة قوله ﷺ: «في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف». فقال رجل من المسلمين: متى ذلك؟ قال: «إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمر».
وهذا وعيد شديد لأهل الغناء بالمسخ والخسف والقذف، وهذه عقوبات عاقب الله بها مَن يستحقها فخسف بقارون وبالمتكبر، ومسخ اليهود إلى قردة وخنازير، وقذف قوم لوط وأهل الفيل. ونرى اقتران الغناء بالخمر؛ لأن الخمر يخامر العقول والغناء يخامر العقول والقلوب والجوارح.
ومن الأدلة قوله ﷺ: «صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة مزمار عند نعمة، ورنة عند مصيبة». وإذا لعن الله الصوت لعن صاحبه؛ لأنه مصدره، وقد يدخل في اللعنة مستمعه لأنه راض بالعمل ومحب له والراضي كالفاعل والأدلة كثيرة، وقد كان الصحابة يطهرون أسماعهم من سماع الغناء، فها هو ابن عمر يسمع غناء فيضع يديه في أذنيه حتى يفارق مكان الغناء، وها هو ابن مسعود يقول: إن الغناء ينبت النفاق في القلب.
وقال عقبة بن عامر: (مَن قرأ كان رديفه ملك، ومَن تغَّنى كان رديفه شيطان).
وقال محمد بن المنكدر ومجاهد: إذا كان يوم القيامة ينادى: أين الذين كانوا ينزهون أسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان؟ أسكنوهم رياض الملك ثم يقول للملائكة: أسمعوهم حمدي وثنائي وأعلموهم أنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وقال عمر بن عبد العزيز لمؤدب ولده: وليكن أول ما يعرفون من أدبك بُعض الملاهي التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن فإنه بلغني عن الثقات أنها تنبت النفاق في القلب.
وقال شيخ الإسلام: وما اجتمع الصحابة على لهو لا ضرب بكف ولا بدف.
وقال أبو حنيفة: الغناء حرام وسماعه من الذنوب.
وقال مالك: لا يفعله عندنا إلا الفُسَّاق.
وكان الشافعي يرد شهادة المغني والمغنية ويقول: إن الغناء يشطف المروءة.
وكان أحمد يقول: الغناء حرام ينبت النفاق في القلب.
وبهذا يُعْلَم إجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم وهم القرون المفضلة على تحريم الغناء بل قال كثير من أهل العلم: أن الغناء بآلة مجمع على تحريمه، ويرد على من أباحه بالأدلة السابقة من الكتاب والسنة }فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{ [النور: 63]، ويرد عليهم بأن الغناء لم يرد إلا عن جوار صغار ومرفوع عنهن القلم بالإضافة إلى عدم اقتران غنائهن بصوت محرم ولا بقول محرم ولا بآلة محرمة.
وأما الاستدلال بفعل الحبشة فإنهم يتدربون على السلاح ويتعلمون الجهاد وهذا عمل مطلوب ولم يقعوا في محظور، والمسلم العاقل هو الذي إذا سمع الباطل اجتنبه وهو الذي يقول: سمعنا وانتهينا، وهو الذي يطهر سمعه من الغناء وقلبه ومجالسه ومنزله وسيارته من الغناء.
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وصلى الله على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم.