×
الله يحدث عباده عن نفسه : كتاب باللغة العربية؛ للدكتور عمر الأشقر - رحمه الله - اشتمل على عرض النصوص القرآنية التي تحدث الله بها عن نفسه، ثم بيان معاني هذه النصوص تفسيرًا وشرحًا، وبيان كيف عرفنا الله بنفسه من خلال هذه النصوص، كل ذلك بأسلوب مبسط وميسر لا تعقيد فيه.

 الله يُحَدِّثُ عِبَادَهُ عَنْ نَفسِه

تأليف الْأُسْتَاذ الدكتور عُمر سُلَيْمَان عبد الله الْأَشْقَر دَار النفائس

(/)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 مقدمة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونستهديه، ونتوب إليه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. "إذا أنت فقهت حديث الله عن نفسه تكون قد عرفت الله بالله، وكنت على السداد والصواب، وسرت على الصراط المستقيم، وخلصت من الجهل والشرك، وانحزت إلى زمرة الإيمان، وكنت بالله عارفًا، ولدينه متابعًا، ولم يك حاجة إلا مقولات الفلاسفة، ولا إلى الدين المحرف الذي عليه المغضوب عليهم والضالون، ولا إلى النظريات التي يرددها علماء الغرب، ولو كان فيما يعلمه هؤلاء كفاية لما أرسل الله رسله، ولا أنزل الكتب، وفي يوم القيامة لا يسألنا ربُّنا عما قرره أصحاب العقول في القديم والحديث، بل يسألنا ربُّنا عما جاءت به نذر ربُّنا". هذا الاقتباس السابق هو جزء من كلام الوالد الشيخ الأستاذ الدكتور عمر سليمان الأشقر - رحمه الله - في كتاب آخر له. وقد رغبت أن أتقدم به في

(1/5)


سياق هذا التمهيد والتوطئة، فما كان لي أن أتقدم عليه بعد وفاته رحمه الله، حيث إن الله قدر وفاته أن يسطر كلمات مقدمة هذا المصنف. في هذا المصنف يختتم الوالد - رحمه الله - حياته كما بدأها في شبابه وطوال سني عمره مهمومًا بتحقيق غاية جلَّيلة لطالما شغلته وملأت عليه تفكيره، تلك الغاية التي تهتم بتقرير معاني الإيمان بالله في نفوس الناس، وربطهم بالخالق عزَّ وجلَّ، لقد أخذت هذه الغاية حيزًا كبيرًا من عقل الشيخ - رحمه الله - وتبدى ذلك جلَّيًا في خطبه ومواعظه ودروسه، أيضًا تجد هذا الاهتمام أكبر عند الشيخ - رحمه الله - عند استقرائك لمؤلفاته التي اعتنت بأصول الإيمان والاعتقاد، والتي بحمد الله بها طلبة العلم من مختلف الأقطار. يرى الشيخ - رحمه الله - أن العناية بتعريف الناس بخالقهم عزَّ وجلَّ من أعظم الغايات، بل هي الأساس الذي قامت عليه دعوات المرسلين، وعليه كانت أعظم النصوص القرآنية والنبوية هي التي تتحدث عن الله رب العالمين، وكانت أعظم النعم أن الله هدانا إليه وعرَّفنا به عليه، فعرَّفناه بنور وحيه، وهذا معنى قول من قال من أهل العلم: "عرفت ربي بربي، لولا ربي ما عرفت ربي"، أي أن الله عرَّفنا بنفسه من خلال حديثه عن نفسه في كتابه، ولولا هذا الوحي ما رعفنا الله سبحانه وتعالى. لقد انتهج الشيخ - رحمه الله - طريقة واضحة ومرسومة في جميع مؤلفاته، فكان يدور مع القرآن والسنة حيثما دارا. وكان يقدمهما على سائر أقوال البشر، ويمكنك أن ترى هذا المنهج جلَّيًّا في بيانه لمعاني الإيمان بالله والتعريف به. وفي

(1/6)


هذا السياق يأتي هذا المصنف الذي يهدف من خلال الشيخ رحمه الله إلى عرض النصوص القرآنية التي تحدث الله بها عن نفسه، ومن ثم بيان معاني هذه النصوص تفسيرًا وشرحًا، وبيان كيف عرَّفنا الله بنفسه من خلال هذه النصوص، كل ذلك بأسلوب مبسط وميسر لا تعقيد فيه، وهو ذات الأسلوب الذي تعرف به الرعيل الأول من الصحابة على الله عزَّ وجلَّ فمجدوه وحمدوه وقدسوه من خلال حديث الله عن نفسه، فأنعم وأكرم به من حديث عن "ملكًا له الملك كله، وله الحمد كله، أزمة الأمور كلها بيده، ومصدرها منه ومردها إليه، مستويًا على سرير ملكه، لا تخفي عليها خافية في أقطار مملكته، عالمًا بما في نفوس عبيده. . يسمع ويرى، ويعطي ويمنع، ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، ويخلق ويرزق. . . ويقضي ويدبر، الأمور نازلة من عنده دقيقها وجلَّيلها، وصاعدة إليه، لا تتحرك ذرة إلا بإذنه" (الفوائد: ص36). رحمك الله يا والدنا الحبيب، لقد أحببت القرآن فأسأل الله أن يكون شفيعك يوم القيامة، ونصرت السنة فأسأله أن تحشر مع الحبيب المصطفى. لقد تركت من وراءك وأمامك علمًا نافعًا، سيظل ينتفع به إلى أمد بعيد تلاميذ من الدعاة والعلماء يدعون لك، فرحمة الله عليك رحمة واسعة، وجعل قبرك روضة من رياض الجنة، وفسح لك في قبرك مد البصر، وملأه عليك خيرًا ونورًا، وتقبل الله علمك وعملك. د. أسامة عمر الأشقر

(1/7)


 الموضع القرآني [1]

  أولًا: تقديم

هذه السورة القصيرة العظيمة أعظم ما نزل من السماء في جميع الكتب السماوية، وقد عرَّفنا ربُّنا فيها بنفسه أجلَّ تعريف، فهو رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وهو المعبود الذي يستحق أن يعبد وحده دون غيره.

 ثانيًا: الآيات التي يحدَّثنا فيها ربُّنا عن نفسه

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 1 - 7].

 ثالثًا: تفسير مفردات هذا الموضع

الحمد لله: الحمد الثناء التام الكامل على رب العزَّة. رب العالمين: الرب الخالق المدبر المصرف.

(1/9)


العالمون: العالمون جمع عالم، والعالم كل مخلوق دون الله تعالى. الرحمن الرحيم: اسمان دقيقان دالان على الرحمة، وهما صفتان من صفات الله تعالى. مالك يوم الدين: يوم الجزاء والحساب، وهو يوم القيامة. إياك نعبد، أي: لا نعبد إلا أنت، والعبادة ما أمر الله عباده أن يخصوه بها من الأقوال والأفعال التي لا يجوز صرفها لغيره. الطراط المستقيم: دين الإسلام الذي لا يقبل رب العزَّة دينًا سواه.

 رابعًا: شرح هذا الموضع

حمد الله تعالى نفسه في أول هذه السورة الكريمة، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ثم عرف نفسه - تبارك وتعالى - بصفتين من صفاته العظيمة هما: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وهما صفتان دالتان على اتصافه بالرحمة، والرحمة صفة محببة للعباد، مطلوبة عندهم. وعرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنه {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وهو يوم الجزاء والحساب، والله مالك الآخرة والدنيا، ولكن ملكه يظهر في ذلك اليوم ظهورًا ليس به خفاء، فيأتي العباد في ذلك اليوم حفاة غراة غزلًا، ولا يكون في ذلك اليوم مال ولا متاع، فيظهر ملكه تبارك وتعالى في ذلك اليوم ظهورًا ليس به خفاء.

(1/10)


وعرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنه هو وحده المعبود المستعان الذي لا يستحق أن يعبد معه أحد سواه، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. وأعلمنا ربُّنا في بقية السورة أنه الذي يطلب منه الهدى إلى الصراط المستقيم الذي هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله تعالى من أحد دينًا سواه.

 خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا على نفسه في هذه الآيات

عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - على نفسه في هذه الآيات بما يأتي: 1 - عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنه رحمن رحيم، وهما صفتان عظيمتان حبيبتان للمؤمنين ولعباد الله الصالحين. 2 - وعرَّفنا أنه مالك يوم الدين، وهو اليوم الذي يبعث فيه العباد، ويحاسبهم عما قدموه فيا لدنيا لآخرتهم من خير أو شر. 3 - وعرَّفنا سبحانه أنه المعبود الذي لا يستحق العبادة أخد غيره، فمن عبد غيره فقد أشرك. 4 - وعرَّفنا جلَّ وعلا أنه وحده يهدي إلى الصراط المستقيم، أي: دين الله الذي لا يقبل رب العزَّة من أحد دينا سواه.

(1/11)


 الموضع القرآني [2]

الله تعالى خالقنا وخالق من قبلنا

 أولًا: تقديم

قسم الله - تبارك وتعالى - الناس جميعا تجاه القرآن الكريم ومنزله رب العالمين إلى ثلاثة أقسام في الآيات الواردة في أوائل سورة البقرة، السابقة لهذه الآيات التي ستتحدث عنها: المؤمنين، والكافرين، والمنافقين. ووصف الله كل فريق من الفرق الثلاث بالصفات التي تظهره وتحدده، وحكم على الفريق الأول بأنه على هدى من ربهم وأنهم هم المهتدون، وحكم على الفريقين بأنهم كافرون خاسرون. ثم دعا الله - تعالى - الناس في آيات هذا النص إلى أن يكونوا مع الفريق الأول، ويحققون ذلك بعبادة الله وحده، وعرفهم سبحانه بأنه وحده الذي يستحق أن يعبد دون غيره، وعرَّفنا لم استحق ذلك سبحانه.

(1/12)


 ثانيًا: الآيات التي عرَّفنا فيه بنفسه في سورة البقرة

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21 - 22].

 ثالثًا: تفسير المفردات في هذه الآيات

اعبدوا ربكم: العباد الخضوع لله بالطاعة والتذلل له بالاستكانة. ربكم: الرب الخالق المدبر المصرف. الذين من قبلكم: كل البشر الذين خلقهم ربُّنا من قبلنا. الأرض فراشًا: جعل الله الأرض ممهدة موطأة على النحو الذي نشاهده. والسماء بناء: سميت السماء سماء لعلوها على الأرض. رزقًا لكم: ما وهبنا إياه ربُّنا مما تنبته الأرض. تتقون، أي: تجعلون بينكم وبين عذاب الله وقاية بفعل ما يأمركم به، وترك ما ينهاكم عنه. أندادًا: الأنداد الأصنام والآلهة التي تعبد مع الله.

 رابعًا: شرح هذه الآيات

نادى الله تعالى الناس جميعًا قائلًا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} ثم أمرهم بعبداته وحده لا شريك له {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} فهو المستحق للعبادة دون غيره، ثم عرفهم جلَّ وعلا بالأسباب التي استحق بها العبادة دون سواه.

(1/13)


فالأول: أنه سبحانه الخالق لنا {الَّذِي خَلَقَكُمْ}، وكان خلق الله لنا بإنشائنا من العد وإظهارنا إلى الوجود، وكان ذلك مرتين: الأول عندما خلق أبانا آدم من تراب، خلقه بيده، وأسجد له ملائكته، والثانية: عندما خلق ذريته من ماء مهين. والثاني: أنه خلق آباءنا من قبلنا، فالله خلق الناس جميعًا من أصل واحد، لا فرق في ذلك بينهم. والثالث: أنه سبحانه وتعالى جعل لنا الأرض لنعيش فيها، ونتخذها معبدًا لله رب العالمين، وقد جعلها شاسعة واسعة مترامية الأطراف، وبسطها لنا كما يبسط الفراش، فجعل منها السهول والجبال والوديان، وجعل منها البحار والأنهار واليابسة، وبنى فوقها السموات العلى التي جعلها على الأرض كالقباب العظيمة التي لا يقدر قدرها إلا الله تعالى. والرابع: عرَّفنا ربُّنا سبحانه أنه هو وحده الذي أنزل الماء من السماء وجعله عذبًا زلالًا، فأخرج بهذا الماء العذب الطيب ثمرات الأرض التي نأكل منها، وتأكل منها دوابنا وطيورنا، وجعل الله تعالى ما أخرجه لنا من ثمرات الأرض رزقًا لنا ولأنعامنا. وكما عقب الله بالأمر بعبادته في الآية الأولى، وهو أعظم مأمور، ثنى بالنهى عن عبادة غيره في الآية الثانية، وهو أعظم منهي عنه.

(1/14)


 خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا بنفسه في هذه الآيات

عرَّفنا الله - تبارك وتعالى - بنفسه في هذه الآيات بما يأتي: 1 - عرَّفنا ربُّنا أنه تعالى وحده خالقنا وخالق الناس جميعًا من قبل. 2 - وعرَّفنا سبحانه وتعالى أنه الذي جعل لنا الأرض فراشًا لتصلح حياتنا فوقها، ولا تضيق بنا أرضها، وبنى السموات السبع فوق الأرض كالقباب العظيمات العاليات. 3 - وعرَّفنا ربُّنا أنه سبحانه هو الذي أنزل من السحب المعصرات المطر من السماء، فأحيا لنا به الأرض، وأخرجت الأرض نباتها، وجادت بثمارها، وجعل الله تعالى فيما تنبته الأرض رزقًا لنا، يقينًا به في حياتنا فوق هذه الأرض. 4 - هذا الإله العظيم الكريم الذي جعل ذلك كله لنا هو الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له، وقبيح بنا أن ننصرف عن عبادته إلى عبادة من لا يستحق أن يعبد من المخلوقات المخلوقة المربوبة.

(1/15)


 الموضع القرآني [3]

تعجيبُ الله من الكفار الذين يكفرون بالله

 أولًا: تقديم

أنكر الله - تعالى - على المشركين كفرهم بربهم العظيم، والدلائل الدالى على وجوب الإيمان به قائمة عليهم في أنفسهم وفي الكون من حولهم، والدليل القائم عليهم من أنفسهم أنهم كانوا أموانا عدما غير موجودين، فأحياهم الله، ثم يميتهم في الدنيا، ثم يعيدهم إلى الحياة في يوم القيامة. والدليل الذي يوجب الإيمان به تعالى هو أنه سبحانه وتعالى خلق لنا الأرض جميعًا لتكون معاشًا لنا نحن البشر، ثم قصد بعد ذلك إلى السماء، فخلقهن سبع سموات، وهو بكل شيء عليم.

 ثانيًا: الآيات التي عرَّفنا الله بنفسه في سورة البقرة

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 28 - 29].

(1/16)


 ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات

كيف تكفرون: الكفر التكذيب بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، أو بواحد من ذلك. كنتم أمواتًا: أي: عدمًا لا وجود لكم. فأحياكم، أي: خلقكم ونفخ فيكم الأرواح. ثم يميتكم ثم يحييكم، أي: يميتكم في الدنيا، ثم يحييكم في يوم القيامة. ثم إليه ترجعون، أي: في يوم القيامة. استوى إلى السماء، أي: قصد إليها. فسواهن، أي: خلقهن.

 رابعًا: شرح الآيات التي عرَّفنا الله فيها بنفسه

وجه الله - تعالى - السؤال إلى الكفار المشركين معجبًا من حالهم في كفرهم بالله رب العالمين مع قيام الدلائل الدالة على وجوب الإيمان به، فالله - تعالى - خلق هؤلاء الكفار كما خلق المؤمنين وكانوا أمواتًا، أي: عدمًا لا وجود لهم، فجعلهم أحياء عقلاء يتحركون ويأتون ويتصرفون ويدبِّرون {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ}. ثم بعد أن تنقضي حياتهم يميتهم، وكل الناس إلى ذهاب، لا يخلد في هذه الدنيا أحد من بني آدم {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ}، وبعد أن تقوم الساعة، ينفخ في الصور

(1/17)


مرة أخرى، فيقوم الناس لرب العالمين أحساء، ثم يرجعون إلى الله {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. هذا فعل الله تعالى بعباده في إماتتهم وإحيائهم وإعادتهم إليه، نعرفه به، ويجعلنا نؤمن به. وعرَّفنا - سبحانه وتعالى - أنه هو الذي خلق لنا الأرض بسهولها وجبالها وودياتها وصحاريها وبحارها، خلقها لنا، لنعيش فوقها، وننعم بما فيها من ثمار وعيون وأنهار وأمطار، ومعادن وحيوان، فالله خلق لنا ذلك كله {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}. وعرَّفنا ربُّنا سبحانه أنه بعد أن خلق لنا الأرض كلها استوى إلى السماء، أي: قصدها، فسواهن سبع سموات، أي: خلقهن سبع سموات، وجعلهن كالقباب العظيمة فوق اللأرض، وهو سبحاته بكل شيء عليم {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.

 خامساً: كيف عرف ربُّنا - تبارك وتعالى - بنفسه في هذه الآيات

عرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - بنفسه في آيات هذا المقطع ببيان ما يأتي: 1 - عرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنه - سبحانه - هو الذي أحيانا في هذه الدنيا بعد أن كنا عدمًا ليس لنا وجود. 2 - ثم إن الله بعد حياتنا يميتنا، ثم يعيدنا إلى الحياة مرة أخرى في يوم الدين، ويحاسبنا على أعمالنا.

(1/18)


3 - وعرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنه خلق لنا جميع ما في هذه الأرض من خيراتٍ، لتقوم بها حياتنا، وهذه الخيرات كثيرة طيبة. 4 - وعرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنه بعد أن خلق لنا ما في الأرض جميعًا قد إلى السماء، فسواهن سبع سموات، أي: خلقهن.

(1/19)


 الموضع القرآني [4]

وقالوا اتخذ الله ولدًا سبحانه الله تعالى واحد في ذاته، واحد في أسمائه وصفاته، واحد في أفعاله، وقد شوه البشر وحدانية الله عندما زعموا أن الله اتخذ ولدًا، وقد حكى الله تعالى هذه الفرية التي افتراها الناس عليه وردًّ عليها، فقال {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 116 - 117]. زعم كثير من الناس في القديم والحديث أن الله اتخذ ولدًا، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} [البقرة: 116]. ومن هؤلاء اليهود الذين قالوا: عزَّيزٌ ابنٌ الله، والنصارى الذين قالوا المسيح ابن الله، ومشركو العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله.

(1/20)


وقد نزَّه الباري - عزَّ وجلَّ - نفسه عن هذه النقيصة الشنيعة، فقال {سُبْحَانَهُ} والتسبيح: التنزيه لله عن كل النقائص والعيوب، وقد ورد في الحديث الصحيح أن نسبة الولد إلى الله مسبة للباري تبارك وتعالى، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله: كذبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، فأمأ تكذيبه إياي، فزعم أني لا أقدر أن أعبده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدًا» [البخاري: 4482]. وقد أخبرنا ربُّنا - تبارك وتعالى - بعظم جريمة الذين ادعوا هذه الدعوى فقال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 88 - 91]، وجاء في الحديث عن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ليس أحد، أو ليس شيء أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم ليدعون له ولدًا، وإنه ليعافيهم ويرزقهم» [البخاري: 6099. ومسلم: 2804. واللفظ للبخاري]. رد الله تبارك وتعالى على هذا الزعم الكاذب من الأمم السابقة والمعاصرة، قائلًا: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116]. أخبرنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - في رده على من افترى هذه الفرية أنه سبحانه السيد العظيم الذي خلق السموات والأرض وما فيها وما بينها، وهما ملكة يصرفهما كيف يشاء، ومن جملة ما فيهما العزَّيز وعيسى ابن مريم والملائكة وغيرهم مما نسبه الكفار إلى الله، وكل السموات والأرض وما فيها قانت لله،

(1/21)


أي: طائع خاضع لله عزَّ وجلَّ، كما قال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم: 26]. إن نسبة الولد إلى الله تنافي وحدانية الله تبارك وتعالى، فالله واحد في ذاته، وواحد في صفاته وأسمائه، ليس له مثيل، وليس له شبية، ولا نظير، ودعوى أن الله اتخذ ولدًا، تعني أن له صاحبة مثله، ولو كان الله اتخذ ولدًا، لكان الولد جزءًا من أبيه، أي: لأصبح إلهًا معبودًا، وكل ذلك كذب وباطل من القول، وقد أنزل الله سورة عظيمة قررت الوحدانية والصمدية لله، ونفت عنه أن يكون له والد أو ولد، كما نفت عنه أن يكون له نظير أو مثيل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4]. إن هذه الدعوى التي يدعيها الظالمون دعوى هزيلة، تجعل المخلوق المربوب المألوه جزءًا من الخالق العظيم، وسيظهر لهؤلاء كذبهم يوم الدين عندما يسوق الله العباد جميعًا للحساب {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93 - 95]، ومما يدلُّ على ذكب من ادَّعى هذه الدعوى قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15]. وأخبرنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - في رده على من ادعى هذه الفرية العظيمة أنه سبحانه وتعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ

(1/22)


فَيَكُونُ} [البقرة: 117]. وقال ربُّنا عزَّ وجلَّ في سورة الأنعام: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101]. والمراد بـ (بديع) في قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] أي: مكونهما على غير مثالٍ سابق، ومن جملة ما كونه وأبدعه ما جعلوه - كذبًا وزورًا - ابنًا لله تعالى، مثل العزَّيز والمسيح والملائكة. وأخبرنا تبارك وتعالى أن هؤلاء الذين نسبوهم إلى القهار الجبار خلقوا كما خلق غيرهم، {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117]، فالله إذا أراد إيجاد شيء فإنه يقول له كلمة واحدة، وهي (كن) فيكون كما يريده الله رب العالمين. فالله لا يعجزه شيء، ولا يستعصى عليه شيء، وكل شيء أمره الله أن يكون، فإنه يكون كلمح البصر {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] وقال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] وقال: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50]، وقال مبينًا كيف خلق الله عيسى وآدم: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].

(1/23)


وردَّ الله تعالى على الذين زعموا كاذبين أن الله اتخذ ولدًا في آية سورة الأنعام أنه بديع السموات والأرض، وكيف يكون له ولد، ولم يكن له صاحبة، فوجود الولد يلزم فيه أن تكون هناك زوجة، وبين الله أنه خالق كل شيء، ومن جملة ذلك ما ادعوه أن له ولدًا، وهو بكل شيء عليم، وهو يعلم سبحانه أنه ليس له ولد.

(1/24)


 الموضع القرآني [5]

الآيات الدالة على رب العباد أولًا: تقديم هاتان آيتان عظيمتان كريمتان حدَّثنا ربُّنا فيهما عن ذاته الكريمة سبحانه، فقد أعلمنا ربُّنا في الآية الأولى منهما أنه وحده المعبود الذي لا يستحق العبادة أحد غيره، وهذا أصل الدين وقاعدته، وأعظم فهم بعث الله به رسله، وأنزله في كتبه. والأمر الثاني الذي عرَّفنا الله تعالى به عن نفسه سوقُه ثمانية آيات عظيمة أبدعها الله في كونه، ومن نظر فيها نظر فيها نظر معتبر، وتأمل فيها بصدق، كانت هادية له إلى بارئها ومبدعها سبحانه وتعالى، وسيأتي تفصيل القول فيها في شرح الآيات.

(1/25)


ثانيًا: الآيات التي عرَّفنا فيها بنفسه في سورة البقرة {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 163 - 164]. ثالثًا: تفسير المفردات في هذه الآيات وإلهكم: الإله المعبود. واختلاف الليل والنهار: تعاقبهما وتقارضهما. والفلك: السفن. فأحيا به الأرض بعد موتها: أحياها بالنبات والشجر. الدابة: كل ما يدب على وجه الأرض من إنسان وحيوان وطيور. تصريف الرياح: توجيه الرياح إلى مختلف الجهات. لآياتٍ: لعلامات دالاتٍ على وحدانية الله تعالى. رابعًا: شرح الآيات التي عرَّفنا الله فيها بنفسه عرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - في هاتين الآيتين في هذا الموضع عن نفسه، وأعلمنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنه هو المعبود الذي لا يستحق أن يعبد معه أحد {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}.

(1/26)


وعرَّفنا - سبحانه - بصفتين من صفاته العظيمة التي تحبها نفوس المؤمنين، هما الرحمن الرحيم، وهما صفتان مشتقتان من الرحمة {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. ثم أورد رب العزَّة في الآية الثانية من هذا الموضع ثماني آيات تدل على وحدانيته وعظمته وقدرته وبديع صنعه. فمن ذلك أنه خلق السموات والأرض، وهما من أعظم ما خلقه ربُّنا، وقد مدح الله نفسه كثيراً بإيجادهما وخلقهما سبحانه {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ومن ذلك أنه سبحانه خلق الليل والنهار على نحو معجب بديع، فهما يتعاقبان ويتقارضان، ويحقق وجودهما فوق الأرض الحياة المطمئنة للإنسان، {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَار}. ومن تلكم الآيات العظيمة التي أبدعها الله في هذا الكون لبني آدم الفلك التي تمخر عباب البحار والأنهار، تحملهم إلى بلدٍ لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ}. وأعلمنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنه أنزل لنا من السماء ماء، فأحيا به الأرض بعد ما ذوت أشجارها، ومات نباتها {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}. ومما عرَّفنا الله أنه بثَّه ونشره في الأرض من الآيات الدواب من الإنسان والحيوانات والطيور، وهي تملأ الأرض في كلِّ أنحائها {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}.

(1/27)


ومن ذلك خلقه - سبحانه - الرياح، وتوجيهها إلى مختلف أنحاء الأرض، أحيانًا تحمل السحاب بالخير والمطر، وأحيانًا تهيج وتحمل العذاب، وأحيانًا تثير البحر، فيغرق السفن {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ}. وآخر الآيات التي عرَّفنا ربُّنا أنه خلقها لنا {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} تحمل الخصب والنماء، وتسير مشرقةً ومغربةً فتفرح النفوس، وتبهج القلوب. خامساً: كيف عرَّفنا الله تعالى بنفسه في هذه الآيات عرَّفنا الله - عزَّ وجلَّ - في هاتين الآيتين بنفسه وفق ما يأتي: 1 - عرَّفنا سبحانه وتعالى أنه وحده المعبود الذي يستحق العبادة، ولا يستحق العبادة أحدٌ غيره في هذا الكون الواسع العريض. 2 - عرَّفنا ربُّنا - سبحانه وتعالى - أنه هو الرحمن الرحيم. 3 - وعرَّفنا سبحانه أنه وحده خالق السموات والأرض. 4 - وأنه هو الذي خلق لنا الليل والنهار على هذا النحو الذي نراه ونشاهده. 5 - وأنه هو الذي خلق السفن تجري بنا وبأثقالنا إلى مختلف أنحاء الأرض. 6 - وهو الذي أنزل لنا الماء من السماء، فأحيا به الأرض بعد موتها، فأنبتت من كل زوج بهيج طعامًا لنا ولدوابنا. 7 - وهو الذي نشر في هذه الأرض الدواب تملأ السهل والجبل، وتمدنا بالغذاء والدواء.

(1/28)


8 - وهو الذي صرف الرياح في جنبات الأرض، منها الخفيف، ومنها الشديد، ومنها الذي يحمل الخصب، ومنها ما يحمل العذاب. 9 - وهو الذي سخر لنا السحاب يحمل هذه الكميات الهائلة من الأمطار تجودنا بالخير، وتروي حقولنا ومزارعنا سبحانه. * * * *

(1/29)


 الموضع القرآني [6]

الله تعالى قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه أولًا: تقديم هذه الآية الكريمة التي في هذا الموضع الذي يُعرِّفنا ربُّنا فيها أنه قريبٌ منا، يسمعنا من غير حاجةٍ بنا إلى رفع أصواتنا بالدعاء، تأتي في أثناء آيات الصيام، لتدل على أن الصائم قريبٌ من الله تعالى بسبب صيامه. ثانيًا: آيات هذا الموضع من سورة البقرة {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]. ثالثًا: شرح الآية التي حدَّثنا الله تعالى فيه عن نفسه عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - عن نفسه أنه قريبٌ منا، فهو يسمعنا، ويرانا، ولا تخفى عليه خافيةٌ من أمورنا وليس بنا من حاجةٍ إلى أن نصرخ بأصواتنا حتى يسمعنا.

(1/30)


وهذه الآية تدل على أن بعض الصحابة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الله تعالى، فقالوا: أبعيدٌ ربُّنا فنناديه، أم قريبٌ فنناجيه؟ فجاء الجواب من رب العزَّة: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} وما دام الله قريبًا منا، فإنه يسمع دعاء الداعي، ويجيب ذلك الدعاء، وطلب الله من عباده أن يدعوه ويسألوه، ويؤمنوا به، لعلهم يرشدون، أي: ليكونوا من الراشدين. وفي صحيح البخاري عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكنا إذا أشرفنا على وادٍ هللنا وكبرنا، وارتفعت أصواتنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنه معكم سميعٌ قريبٌ، تبارك اسمه، وتعالى جده» [البخاري: 2992، مسلم: 2704]. وقوله: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} يدل على أن الله يجيب دعوة العبد، ولا بد، ولكن تختلف صور الإجابة، كما في الحديث الصحيح الذي يرويه الإمام أحمد: عن أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من مسلم يدعو الله عزَّ وجلَّ بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاثٍ: إما أن تعجلَّ له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها» قالوا: إذا نكثر، قال: «الله أكثر» [مسند أحمد: 11133]. وعن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يزال يُستجاب للعبد، ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم، ما لم يستعجلَّ، قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أرَ يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك، ويدع الدعاء» [مسلم: 2735].

(1/31)


رابعًا: كيف عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - بنفسه في هذه الآية بين الله - تعالى - لنا في آية هذا الموضع ما يأتي: 1 - عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنه قريبٌ منا، فلا نحتاج أن نرفع أصواتنا عندما ندعوه ونستغيث به. 2 - وأمرنا ربُّنا - تبارك وتعالى - في هذه الآية أن ندعوه ونسأله، ولا نتكبر عن عبادته، والله - تعالى - يحب منا دعاءنا له. 3 - أعْلمنا ربُّنا في هذه الآية أننا إذا دعوناه فإنه يجيب دعاءنا، وبين لنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أننا لا ندعوه بدعوةٍ ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم إلا أعطانا بها إحدى ثلاث: إما يعطينا سؤلنا، أو يدفع عنا من الشر مثلها، أو يدخر لنا أجرها يوم القيامة. * * * *

(1/32)


 الموضع القرآني [7]

ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض عرَّفنا الله تبارك وتعالى بسنّةٍ من سننه في عباده، فقال: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] «أي: لولا أنَّ الله يدفع أهل الباطل بأهل الحق، وأهل الفساد في الأرض بأهل الإصلاح فيها، لغلب أهل الباطل والإفساد في الأرض، وبغوا على الصالحين، وأوقعوا بهم، حتى يكون لهم السلطان وحدهم، فتفسُد الأرض بفسادهم، فكان من فضل الله على العالمين، وإحسانه إلى الناس أجمعين أن أذن الله لأهل دينه الحق المصلحين في الأرض، بقتال المفسدين فيها من الكافرين والبغاة المعتدين» [تفسير المنار: 2/ 395]. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عزَّيزٌ} [الحج: 40].

(1/33)


وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] بين الله - سبحانه - أنه دفع بالمؤمنين شر الكافرين، وأن هذا الدفع فضلٌ منه ونعمة. وختم الله هذا النصَّ بقوله: {تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة: 252] الإشارةُ بقوله: {تِلْكَ} إلى ما حدثنا الله به في هذه القصة، وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وأخبرنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنه قص علينا هذه القصص بالحق، أي أخبرنا به وفق ما وقع، ليس فيه تغيير ولا تبديل، وقال في خاتمة الآية {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة: 252]، ولذلك أنزل الله عليه ما أنزل، وبيَّن له ما بيَّنه. * * * *

(1/34)


 الموضع القرآني [8]

تعريف الله تعالى بنفسه في آية الكرسي أولًا: تقديم هذه الآية التي يُعرِّف الله تعالى فيها بنفسه هي آية الكرسي، وهي أعظم آية في كتاب الله تبارك وتعالى، ففي صحيح مسلم عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أبا المنذر، أتدري أيَّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «يا أبا المنذر، أتدري أيَّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]. قال: فضرب في صدري، وقال: «والله، لِيَهنك العلم أبا المنذر» [مسلم: 810]. وهذه الآية إنما كان لها هذا الفضل؛ لأنها عرفتنا بربِّنا - تبارك وتعالى - تعريفًا كاملًا وافيًا لا مزيد عليه.

(1/35)


ثانيًا: آية هذا الموضع الذي حدَّثنا الله عن نفسه في سورة البقرة {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]. ثالثًا: تفسير مفردات الآية التي حدثنا فيها ربنا عن نفسه الإله: المعبود سواء كان بحق أو باطل. الحيُّ: الدائم الحياة، فحياة الله - عزَّ وجلَّ - أبدية سر مدية. القيوم: القائم بنفسه - تبارك وتعالى - المقيم لغيره. سِنَةٌ: السنة ابتداء النعاس في الرأس، فإذا خالط القلب صار نومًا. كرسيُّه: كرسي الرب مخلوق عظيم، يسع السموات والأرض، وقد ذكر ابن عباس أنه موضع قدمي الرب. ولا يؤوده، أي لا يُثقله. رابعًا: شرح الآية التي عرَّفنا فيها ربُّنا بنفسه هذه الآية أعظم آية في كتاب الله عزَّ وجلَّ - كما سبق بيانه، وإنما كانت كذلك لأنها تعرَّفنا بالله ربُّنا تبارك وتعالى بما لا مزيد عليه، وقد عرَّفنا ربُّنا في هذه الآية أنه:

(1/36)


1 - المعبود الذي لا يستحق العبادة أحدٌ إلا إياه {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو} والإله: في لغة العرب المعبود، وكل من عبد فهو إله، وقد عبد الناس البشر والشجر والحجر والشمس والقمر، وعبدوا اللات والعزَّى ومناة الثالثة الأخرى، وكلُّ هذا الذي عبدوه آلهةٌ باطلةٌ، والإله الحق الذي يستحق العبادة هو الله، وهذا هو توحيد الألوهية، وكان المشركون ينكرونه، ويجادلون في استحقاقه العبادة وحده. 2 - الحيُّ القيُّوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، والله - تبارك وتعالى - حيُّ، وحياته تامة كاملة، وهو قيوم، أي: قائم بنفسه، لا يحتاج إلى غيره، وهو مقيم لغيره، وحياته وقيوميته أبديتان سرمديتان - سبحانه وتعالى - فهو حي أبدًا وسرمدًا، وهو قيومٌ كذلك {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}. والله - تبارك وتعالى - لكمال حياته وقيوميته لا تأخذه سنة، وهو النعاس، كما لا يأخذه النوم، بخلاف الإنسان الذي جاء عليه حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورا، ثم أحياه الله فجعله سميعًا بصيرا، ولكن حياته ناقصةٌ لها بداية، ولها نهاية بالموت، وهو ينعس وينام. 3 - له ملك السماوات والأرض، فهو خالق السموات والأرض، وهو: مالكهم، وهما تحت قهره وتصرفه، يأمرهما فتطيعان {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وقد قال لهما: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11].

(1/37)


4 - لا يشفع في يوم القيامِ أحدٌ عنده إلا بإذنه، فحتى تقبل الشفاعة لا بدَّ أن يرضى الله عن الذي يشفع، ولا بد أن يرضى عن المشفوع له، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}. وأخبرنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أن نبي الله إبراهيم عليه السَّلام يشفع عند الله في أبيه عندما يلقاه في عرصات القيامة، فلا تقبل شفاعته فيه، روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَلقى إبراهيم أباه آزرَ يوم القيامة، وعلى وجه آزرَ قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: يا ربِّ إنك وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون، فأي خزيٍ أخزى من أبي الأبعد؟ يقول الله تعالى: إني حرَّمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم، ما تحت رجلَّيك؟ فينظر فإذا هو بذيخ ملتطخ، فيؤخذ بقوائمه، فيلقى في النار» [البخاري: 3350]. والذيخُ: الضبع الذَّكر الملتطخ بالنتن. فالله لا يقبل شفاعة إبراهيم في أبيه الكافر يوم القيامة، ويمسخه الله في ذلك اليوم ضبعًا، حتى لا يخزى به إبراهيم، فيؤخذ من قوائمه، ويلقى به في النار. 5 - يعلم الله ما بين أيدي مخلوقاته وما خلفهم، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي: يعلم ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، ومن هؤلاء الملائكة الذين قالوا: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64].

(1/38)


ومع أن علم الله محيط بجميع الكائنات، فإن الجن والإنس والملائكة لا يحيطون بشيء من علم الله إلا بمقدار ما يشاء الله أن يحيطوا به، وهو قليل، لا يساوي قطرة من بحر، أو ذرة في صحراء. 6 - وسع كرسيه السموات والأرض، يدل قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} على أن لله كرسيًا، الكرسي كما قال ابن عباس: «موضع القدمين» أي: موضع قدمي الرب تبارك وتعالى [وحديث ابن عباس صحيح موقوف عليه، أخرجه ابن خزيمة في «التوحيد»، والدرامي في «الرد على المريسي» وعبد الله بن أحمد في «السنة» وقال الألباني فيه: «هذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات» مختصر العلوم للذهبي تحقيق الألباني، ص 102]. وقد أخبرنا ربُّنا عزَّ وجلَّ أن الكرسي أعظم من السموات والأرض، ولذلك قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}. وقد ساق الشيخ ناصر الدين الألباني حديثًا رواه أبو ذر الغفاري، قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة» وقد ذكر الألباني طرقه في كتب السنة [وأصح طرقه الطريق التي ساقها ابن جرير الطبري، ثم قال الألباني: الحديث بهذه الطرق صحيح. سلسلة الصحيحة: حديث رقم: 109]. فدلَّ هذا الحديث على أن الكرسي غير العرش، وأن الكرسي أعظم من السموات والأرض، والعرش أعظم من الكرسي. 7 - لا يُثقلُ الله حفظ السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، بل ذلك سهل ويسير عليه، فالله بكل شيء عليم، وهو على كل شيء قدير {وَهُوَ الْعَلِيُّ

(1/39)


الْعَظِيمُ} فالله له العلو كله، أي: العلو الحسيُّ والمعنوي، وهو العظيم الكامل في عظمته سبحانه. خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا بنفسه في هذه الآية الكريمة هذه الآية الكريمة عرفتنا بربِّنا جلَّ في علاه تعريفًا واسعًا، ومن النظر فيها بتمعن ندرك أن الله - تبارك وتعالى - هو: 1 - المعبود الذي لا يستحق أن يعبد معه أحد في السموات ولا في الأرض. 2 - وهو الحي الذي حياته دائمة أبدة سرمدية، وهو قيوم، قائم بنفسه، مقيم لغيره. 3 - ولتمام حياة الله وتمام قيوميته، لا تأخذه سنة، وهي أوائل النوم، وهو الذي يسميه الناس النعاس، ولا يأخذه نوم. 4 - الله تعالى له السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، لا يشركه في ذلك أحد، وكان مشركو العرب يقرون بهذه الحقيقة، ويكفرون بتوحيد الألوهية. 5 - لا أحد يوم القيامة يشفع في إنجاء أحد من عذاب الله، ودخوله جنته إلا بإذن من الله عزَّ وجلَّ. 6 - الله - تعالى - محيط علمه بعباده من الملائكة والجن والإنس وغيرهم، يعلم ما بين أيديهم من أمر الدنيا وما خلفهم من أمر الآخرة، ولا يحيط العباد من علم الله تعالى إلا بما شاء.

(1/40)


7 - لله تعالى كرسيُّ عظيم، لسعته وسع السموات والأرض. 8 - الله حافظ للسموات والأرض، ولا يثقله حفظهما، ولا يشق عليه. 9 - الله تعالى عليُّ في ذاته، فذاته أعظم ذات، وصفاته أعظم الصفات، وهو مستوٍ على عرشه فوق سماواته سبحانه، وهو العظيم، لا أحد أعظم منه. * * *

(1/41)


 الموضع القرآني [9]

الله وليُّ الذين آمنوا عرَّفنا ربُّنا - سبحانه - أنه {وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا} [البقرة: 257] والولي هو الذي يتولى أمورهم، وينصرهم، ويحفظهم، ويرعاهم، ومن آثار ولايته سبحانه أنه يخرج المؤمنين من ظلمات الكفر والشرك والجهل إلى النور، أي: إلى نور القرآن ونور الإسلام {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور} [البقرة: 257]. وخير مثال يُضرب في هذا المجال تولي ربُّ العزَّة لصحابة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقد كانوا كفارًا مشركين، فأخرجهم من الكفر والشرك إلى نور القرآن ونور الإسلام، فاستنارت قلوبهم وعقولهم، وصلحت أعمالهم، وكانوا خير أمة أخرجت للناس. أما الذين كفروا فأولياؤهم الطاغوت {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا

(1/42)


خَالِدُونَ} [البقرة: 257]. وأعلمنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أن الذين كفروا أنصارهم الطواغيت، والطاغوت كل ما عبد من دون الله تعالى، وأعظم الطواغيت الشيطان، ونشأ في كل عصر طواغيت تحاد الله تعالى ورسوله، وتحارب المؤمنين، وتحاول أن تضل عباد الله تعالى. وهؤلاء الطواغيت في كل عصر ومصر يخرجون أتباعهم ومن يتولون أمرهم من النور إلى الظلمات، فترى طواغيت الفكر اليوم بما يطرحونه من نظريات فاسدة، وآراء جائزة، وعقائد ضالة، يخرجونهم من بقايا النور التي عندهم إلى الجهل والكفر والباطل. ولك أن تتصور منطقتين إحداهما منيرة مضيئة، والأخرى مظلمة معتمة، ثمَّ ترى عمليتين دائبتين، ينتقل الناس في الأولى من الدائرة المظلمة إلى الدائرة المضيئة، أي: ينتقلون من الكفر إلى الإسلام، وفي الثانية ينتقلون من النور إلى الظلمة، أي: من الإسلام إلى الكفر. * * *

(1/43)


 الموضع القرآني [10]

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} أولًا: تقديم الله تعالى هو الذي يحيي ويميت، وقد احتج نبي الله إبراهيم على نمرود عصره بإحياء الله تعالى العباد وإماتتهم، والله يحيي الناس بعد موتهم في يوم القيامة، ولكنه أرى بعض خلقه مثل هذا الإحياء في الحياة الدنيا، فمن ذلك إحياؤه قتيل بني إسرائيل عندما ضربوه بجزء من البقرة المذبوحة، ومن ذلك إحياء الله {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 243]. ومن ذلك ما حدَّثنا الله تعالى في هذه الآيات عن ذلك الرجلَّ الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، فقال: أنى يحيي الله هذه بعد موتها، فأماته الله مائة عام، ثم بعثه، وبعث حماره.

(1/44)


وأعلمنا ربُّنا عزَّ وجلَّ أن نبيَّه إبراهيم طلب منه أن يريه كيف يحيي الموتى، فأمره أن يأخذ أربعة من الطير، ثم يقطعهنَّ، ثم يفرقهن على عدَّة جبال، ثم أمرهن أن يجتمعن، فاجتمعن وأحياهنَّ الله تعالى. * * * ثانيًا: آيات هذا الموضع من سورة البقرة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَاتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَاتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَاتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عزَّيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 258 - 260]. ثالثًا: غريب الآيات حاجَّ إبراهيم: خاصمه وحاوره. فبهت، أي: سكت، وخصم ولم يحر جوابًا. خاوية على عروشها، أي: ساقطة جدرانها على سقوفها.

(1/45)


لم يتسنه، لم يصبه أي فساد. ننشرها، أي: كيف نكونها. فصرهن إليك، أي: أمره أن يقطعهن بعد أن يذبحهن. رابعًا: تفسير هذه الآيات الله تعالى هو الذي يحيي الموتى، وقد حدَّثنا الله تعالى في هذه الآيات عن نبيه إبراهيم أنه احتج على نمرود عصره بذلك، وقص علينا ثلاث قصص أحيا فيها الموتى في الدنيا. 1 - الذي حاجَّ إبراهيم في ربِّه: حدَّثنا ربُّنا مذكرًا إيانا بالملك الذي حاجَّ نبيَّه إبراهيم عليه السَّلام في ربِّه، فقد كان هذ الملك منكرًا لوجود الله، فقال له نبيُّ الله إبراهيم عليه السَّلام محتجًا عليه {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258]. قال له إبراهيم: ربِّي الذي أؤمن به يحيي النفوس بإدخال الروح فيها، فتصبح عاقلة مدركة، تذهب وتأتي، وتسمع وتبصر، فسارع ذلك الطاغية بالرد قائلًا: أنا أحيي وأميت، وذلك بأن يأتي برجلَّين من أحد سجونه، فيطلق أحدهما، ويقتل الآخر، سمى ذلك إحياءً للأول منهما، وسمى ذلك إماتةً للثاني منهما. لقد كان همُّ ذلك الطاغية أن يجيب، ولو كان في إجابته خلل واضح، إن مراد إبراهيم بإحياء الله وإماتته أمرٌ مخالفٌ لما يفعله ذلك الطاغية، وتوضيح الأمر من قبل إبراهيم لذلك الملك سيدخله في مجادلةٍ مع ذلك الطاغية، فساق

(1/46)


إبراهيم دليلًا آخر بهت الخصم وحيره وأسكته، قال: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَاتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَاتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]. قال له إبراهيم: إن الله ربِّي يأتي بالشمس من جهة المشرق، فإذا كنت ربًا كما تدعي، فائتِ بها من جهة المغرب، وبذلك تكون قد غلبت وقهرت. لقد جاءه إبراهيم بجواب أعجزه وأسكته، وكشف حقيقة أمره، {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]، أي: لا يهديهم إلى الإجابة الحقَّة، ولكنه يهدي إلى الصواب والإجابة الحقة رسله وأنبياءه ومن سار على طريقهم كما قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83]. 2 - قصة الذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها: وقص علينا ربُّنا قصة الذي مر على قريةٍ، فوجدها خاويةً على عروشها، ومعنى: خاويةً، أي ساقطةً، والعروش السقوف، أي: ساقطةٌ على سقوفها، سقطت السقوف، ثم وقعت عليها الحيطان، يشير إلى خرابها علوًا وسفلًا [عمدة الحفاظ: 3/ 65]. ومنه قوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الحج: 45]، وقال: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 52]. فالقرية التي مرَّ عليها ذلك الرجلَّ كانت محطمةً مهدمةً خاليةً من الناس، فهي على ذلك ميتة، وهذه القصة معطوفةٌ في المعنى على قصة إبراهيم

(1/47)


التي سبق ذكرها بحرف العطف (أو)، قال تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة: 259]. وكان عند هذا الرجلَّ الذي مرَّ على تلك القرية المهدمة الخاوية على عروشها علمٌ بأن الله سيحيي هذه القرية بعد موتها، أي: بعد خرابها وتدميرها، فلما رآها على تلك الصفة قال: {قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259] أي: قال ذلك مستغربًا متعجبًا لشدة ما أصابها من الدمار والخراب. عند ذلك أماته الله بقبض روحه مائة عام، وبعد تمام المائة أحياه، فسأله كم لبثت؟ فقال: لبثت يومًا أو بعض يوم، وكذلك قال أصحاب الكهف بعد أن ناموا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19]. فلما قال ذلك، قال الله له: {بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَام} [البقرة: 259] وقد تلاشى في هذه المدة لحمه، وفنيت عظامه، وتقطعت أوصاله، أما الطعام الذي كان معه والذي يفسد في العادة في يوم أو في عدة أيام، فقد حفظه الله فلم يفسد، ولم يتغيَّر، ولم يتبدَّل، وأما العظام فقد بليت. وقد كان معه عند موته حماره أماته الله بموته، فأحياه هو أولًا، ثم أحيا حماره، وأراه كيف ينشيء عظامه ويكوِّنها، ثم يصل ما بينها، ثم يكسوها لحمًا، ثم ينفخ فيها الروح وتدب فيها الحياة، عند ذلك قال وقد امتلأ قلبه خوفًا وخشيةً من الله: أعلم أن الله على كلِّ شيءٍ قدير، وأنه لا يعجزه شيءٌ أراده

(1/48)


{فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [البقرة: 259]. 3 - إحياء الله الموتى على يد نبيِّه إبراهيم عليه السَّلام: قص علينا ربُّنا في آيات هذا النص قصة طلب فيها إبراهيم عليه السَّلام من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260] فسأله ربه قائلًا له: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} [البقرة: 260] فأجاب قائلًا: بلى آمنت، ولكنني أريد مزيدًا في طمأنينة قلبي {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] عند ذلك أمره ربه أن يأخذ أربعة من الطير، ثم يصورهن إليه، أي: يقطعهن، أي: بعد أن يذبحهن، ثم يجعل على كل جبلٍ منهن جزءًا، أي: يفرق أجزاءهن على عدة جبال، ثم أمره أن ينادي عليهن طالبًا منهن أن يجتمعن، فتجمعت الأجزاء المقطعة، وتواصلت وتلاحمت، ونفخت فيها الحياة {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَاتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عزَّيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260] والعزَّيز: المنيع الذي لا يغلب ولا يعجزه شيءٌ، وهو {حَكِيمٌ} سبحانه فيما يدبره. خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى بنفسه في هذه الآيات عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى في هذه الآيات أنه يحيي الموتى، وبين ذلك بما يأتي: 1 - احتجَّ نبيُّ الله إبراهيم عليه السَّلام على نمرود عصره بأن ربه يحيي الموتى.

(1/49)


2 - تعجَّب رجلَّ ممن كان قبلنا من إحياء الله لقريةٍ خاويةٍ على عروشها، فأماته الله تعالى مائة عام، ثم بعثه، وأمات معه حماره، ثم بعثه. 3 - طلب نبيُّ الله إبراهيم عليه السَّلام من ربِّه أن يريه كيف يحيي الموتى، فطلب الله تعالى منه أن يذبح أربعة طيور، ثم يقطعها، ويوزِّع أجزاءها على الجبال، ثم يدعوها فتأتيه سعيًا، أي: مسرعات، بعد أن نفخت فيها الروح. * * *

(1/50)


 الموضع القرآني [11]

حكمة الله تعالى في التشريع أولًا: تقديم عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى في هذه الآية التي ختم بها هذه السورة العظيمة سورة البقرة أنه سبحانه لا يكلِّف في تشريعه نفسًا إلا ما في وسعها، فلا يكلف أحدًا فوق ذلك، وعلَّم الله تعالى صحابة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يدعوه في بقية الآية بما ذكر فيها، وأعلمنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث أن الله قال عندما دعوه: نعم، أي: قد استجبت لكم، وهذه الآية تعرَّفنا بالمنهج الذي أظهر الله حكمته في التشريع الذي شرعه لهذه الأمة. وقد أخبرنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أن آية هذا الموضع والآية التي قبلها فيهما فضلٌ عظيم وثوابٌ جزيل، فمن ذلك: 1 - ما أخبرنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أن نورهما أحد نورين أوتيهما رسولنا - صلى الله عليه وسلم - لم يؤتهما نبيٌّ قبله، فعن ابن عباس قال: «بينما جبريل قاعدٌ عند النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع

(1/51)


نقيضًا من فوقه، فرفع رأسه، فقال: هذا بابٌ من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملكٌ، فقال: هذا ملكٌ نزل إلى الأرض، لم ينزل قط إلا اليوم، فسلَّم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيٌّ قبلك، فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرفٍ منهما إلا أعطيته» [مسلم: 806]. 2 - أخبرنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أن من قرأ بالآيتين الأخيرتين من سورة البقرة في ليلةٍ كفتاه، فعن أبي مسعود قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلةٍ كفتاه» [البخاري: 5009، مسلم: 807، 808]. 3 - هاتان الآيتان أنزلهما الله من كتابٍ كتبه قبل خلقه السموات والأرض بألفي عامٍ، فعن النعمان بن بشير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ الله كتب كتابًا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرةن ولا يقرآن في دارٍ ثلاث ليالٍ فيقربها شيطان» [الترمذي: 2882، وقال فيه: هذا حديث حسن غريب، صحيح الترمذي للألباني: 2311]. ثانيًا: آية هذا الموضع من سورة البقرة {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ربُّنا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَانَا ربُّنا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ربُّنا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286]. ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآية لا يكلِّف: التكاليف ما أمرنا الله تعالى به، ونهانا عنه. وسعها: طاقتها.

(1/52)


لها ما كسبت، أي: من خير. وعليها ما اكتسبت، أي: من الشرِّ. نسينا، أي: ما تركناه أو فعلناه من عملٍ من غير قصدٍ. إصرًا: الآصار الأثقال التي كلف الله بعض الأمم من قبلنا بها. ولا تحمِّلنا، أي: لا تكلِّفنا بما لا نطيقه. مولانا: إلهنا وناصرنا ومؤيدنا. رابعًا: شرح هذه الآية التي عرَّفنا فيها ربُّنا بنفسه عرَّفنا ربُّنا في هذه الآية أنه {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} أي: لا يكلف نفسًا فوق طاقتها، وهذا من رحمته سبحانه بعباده، ولطفه بهم، وقرَّر - سبحانه - في هذه الآية أنَّ لكلِّ نفس ما كسبته من خير، وعليها ما اكتسبته من شرٍّ، وهذا في الأعمال الظاهرة التي يطيق العباد التحكم بها كالصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}. وأعلمنا ربنا بما يقوله عباده في دعائهم ربَّهم، فقد أعلمنا أنهم يقولون في دعائهم: {ربُّنا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَانَا ربُّنا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ربُّنا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا}.

(1/53)


أي: يقولون: يا رَبَّنا لا تؤاخذنا إن نسينا شيئًا مما فرضته علينا، كالذي ينسى صلاةً، أو ركعةً من الصلاة، أو طوافًا بالبيت أو شوطًا في السعي، أو نحو ذلك، ولا تؤاخذنا إن أخطأنا، كالذي لا يهتدي إلى وجه الصواب فيما كلف به من أعمال، دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بهذا الدعاء فقال الله: «نعم» أي: لا أؤاخذكم بذلك، ومن دعائهم قولهم: {وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} أي: «لا تحمل علينا إصرًا يثقلُ علينا كما حملته على الذين من قبلنا، نحو أمر نبي إسرائيل بقتل أنفسهم، أي: لا تمتحنا بما يثقل» [معاني القرآن، للزجاج: 1/ 371] والإصر: الأثقال التي تثبط عن الخيرات. وقد أخبرنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أنَّ ربَّنا استجابَ دعاء رسوله - صلى الله عليه وسلم - ودعاء أصحابه، فلم يحمل علينا الآصار والأغلال التي حملها على الذين من قبلنا، ودعوا ربهم أن لا يحملهم ما لا طاقة لهم به، ودعوه أن يعفو عنهم ويغفر لهم، وقالوا في ختام هذا الدعاء الطيب المبارك: {أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أي: ناصرنا، ومتولي أمورنا، فانصرنا على الكفرة المشركين الذين رفضوا دينك، وأعرضوا عن كتباك، وحاربوا رسولك. وقد جاءت أحاديث كثيرة تدلُّ على ما تضمنته هاتان الآيتان الكريمتان، من صفة التكاليف التي كلف الله بها عباده: أ - فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به» [مسلم: 127].

(1/54)


ب - وعن أبي هريرة أيضًا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله عزَّ وجلَّ: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئةً، فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلَّي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف» [البخاري: 7501، مسلم: 128]. ج - عن أبي هريرة قال: جاء ناسٌ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: «وقد وجدتموه؟» قالوا: نعم، قال: «ذلك صريح الإيمان» [مسلم: 132]. د - وعن عبد الله قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوسوسة، قال: «تلك محض الإيمان» [مسلم: 133]. هـ - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته» [البخاري: 3276، مسلم: 134]. وهذه الأحاديث تدلُّ على عدم مؤاخذة الله إيانا بما حدثتنا به أنفسنا ما لم نتكلم أو نعمل، وأنه لا يؤاخذ المؤمنين بما وسوست به الشياطين، وسمَّى دفع هذه الوسوسة: صريح الإيمان ومحض الإيمان. خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا بنفسه في هذه الآية الكريمة عرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - في هذه الآية أنه سبحانه: 1 - رحيمٌ بعباده، شفيقٌ بهم، لا يكلفهم فوق ما يطيقون، ولا يحاسبهم إلا على ما عملوه، من خيرٍ أو شرٍّ.

(1/55)


2 - شرع الله هذا الدين الذي أنزله الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - ليس فيه شيء من الآصار والأغلال التي حملها اليهود من قبلنا، فقاعدة الحلال والحرام في ديننا: إحلال الطيبات وتحريم الخبائث. 3 - لا يكلف عباده بما نسوه أو أخطئوا بفعله. 4 - عفو من عباده المؤمنين، يغفر لهم ذنوبهم، ويرحمهم. * * * *

(1/56)


 الموضع القرآني [12]

الله تبارك وتعالى لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - عن نفسه في آيتين قصيرتين في فاتحة سورة آل عمران، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعزَّيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 5 - 6]. وقد تناولت هاتان الآيتان ثلاث قضايا مما عرف الله تعالى به نفسه: الأولى: أنه لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، والأرض والسماء مخلوقان عظيمان فيهما ما لا يحصيه إلا رب العزَّة سبحانه من المخلوقات، ففي السماء الملائكة وما لا ندريه من مخلوقات الله تعالى، وفيها ما أبدعه الله تعالى من المجرات، وفي كل مجرةٍ ما لا يعلمه ولا يدريه إلا الله تعالى من الشموس والأقمار والنجوم، وكل ذلك لا يغيب عن الله لحظةً، ولا يخفى عليه منه خافية.

(1/57)


وفي الأرض ما لا يعلمه إلا الله تعالى من البحار والأنهار والعيون، وفيها الجبال والتلول والروابي، وفيها المرتفعات والوديان، وفيها الصحاري والأراضي الخصبة، وفيها الإنسان والحيوان والطيور، وفيها الأشجار والمعادن، وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى، ولا يغيب من ذلك عن رب العزَّة سبحانه شيءٌ. الثانية: أن الله تعالى هو الذي يصوِّرنا في أرحام أمهاتنا كيف يشاء، فالله خلق كل واحد منا في رحم أمه، ثم صوره - سبحانه - كما يشاء، ولكل واحد من بني الإنسان صورة تختلف عن صورة الآخرين، مع كثرة تعداد البشر، ولذا فإن من أسماء الله التي يمدح بها نفسه اسم المصور. الثالثة: الله تعالى هو المعبود الذي لا يستحق العبادة غيره سبحانه وتعال، وغيره مخلوق مربوب معبد، وقد ذم الله العباد الذين اتخذوا من دون الله أندادًا، وقد سمَّى ربُّ العزَّة نفسه في هذه الآية باسمين عظيمين هما: العزيز الحكيم، والعزيز الغالب الذي لا يعجزه أحد من خلقه، والحكيم، أي: في شرعه وفعله. * * *

(1/58)


 الموضع القرآني [13]

شهد الله أنه لا إله إلا هو قال جلَّ جلَّاله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعزَّيزُ الْحَكِيم} [آل عمران: 18]. عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنَّه شهد لنفسه بالوحدانية، وأنه هو المعبود الذي لا يستحقُّ العبادة أحدٌ غيره، والشهادة تقوم على العلم، وهو سبحانه هو الأعلم بنفسه، فلا أحد أعلم منه بذاته ولا بأفعاله وصفاته، وقرن الله بشهادته لنفسهه بالوحدانية شهادة ملائكته وشهادة أولي العلم {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعزَّيزُ الْحَكِيم} [آل عمران: 18]. والملائكة أعلم الخلق بالله تعالى، فهم أعظم اطلاعًا على آيات الله من البشر، وإيمانهم بالله أعظم من إيمان كثير من الناس، والراسخون في العلم الذين يعلمون آيات الله عندهم من المعرفة والعلم ما استحقوا به أن يقرن الله شهادتهم بشهادته، وتلك منقبةٌ عظيمةٌ وميزةٌ فاضلةٌ.

(1/59)


وقد شهد الله لنفسه بالتوحيد في حال قيامه بالقسط، أي: بالعدل، والقسط وضع الشيء موضعه، وأعظم العدل التوحيد، كما أن أعظم الظلم الشرك، {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18]. وقد أكد التوحيد الذي شهد لنفسه به بقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُو} [آل عمران: 18]، وختم الآية باسمين عظيمين هما {الْعزَّيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]، والعزَّيز القوي الغالب، و {الْحَكِيم} في أقواله وأفعاله سبحانه. وشهادة الله تعالى لنفسه بالوحدانية دل عليها القرآن الكريم، في آيات كثيرة، وقد صرف الله تعالى القول في هذا الموضع تفصيلًا لا مزيد عليه، وأقام على بيان هذه الحقيقة من الآيات في الأرض والسموات الكثير الكثير، وقد تقدم العلم اليوم، فكشف من العلم الذي تجلَّى في آيات القرآن ما حارت به العقول، وأعجز الألباب، بل أقام الله تعالى في مخلوقاته عجائب لم يزل البشر يرونها ويشاهدونها، وفيها دلائل تدلُّ على شهادة الله لنفسه بالوحدانية، سبحانه وتعالى.

(1/60)


 الموضع القرآني [14]

الله تعالى مالك الملك يؤتي الملك من يشاء أولًا: تقديم عرَّفنا ربُّنا نفسه في هاتين الآيتين في صورة دعاءٍ أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو به، وهو دعاء لطيف موفق معجب، لا يمل المرء من الدعاء به، وترديد عباراته، والتأمل في معانيه. وهو يُعرِّفنا بربِّنا سبحانه، فيرينا إيَّاه ويده تعمل في المجتمع الإنساني على مرِّ الدهور والأزمان، يذلُّ أقوامًا، ويقهرهم، ويعلي شأن آخرين ويعزَّهم، وكما يصرف الله أمور عباده على هذا النحو، يصرف أمر هذا الكون الواسع العريض، فيولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ويخرج الحيَّ من الميت ويخرج الميت من الحيِّ ويرزق من يشاء بغير حساب، إنه الله سبحانه.

(1/61)


ثانيًا: آيات هذا الموضع من القرآن من سورة آل عمران {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعزَّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 26 - 27]. ثالثًا: تفسير آيات هذا الموضع من القرآن اللهم: يا الله. تنزع، أي: تقبضه وتخلعه. تُعِزُّ من تشاء: ترفعه وتعلي شأنه. رابعًا: شرح آيات هذا الموضوع من كتاب الله تعالى عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - بنفسه في هاتين الآيتين في هذا الموضع، فهو الذي يصرف الملك في عباده، وكما يصرف الملك في عباده فهو الذي يصرف الأمر في كونه تبارك وتعالى. قال تعالى معرفًا عباده أنه يصرف الملك فيهم: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعزَّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: أن الملك بيده سبحانه في الدنيا، يصرفه في عباده كيف يشاء، فيؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعزَّ من يشاء، ويذل من يشاء، ومن تصفح كتب التاريخ في القديم والحديث رأى مصداق ما حدَّثنا الله به في

(1/62)


هذه الآية، فالدول كالأفراد، تنشأ وليدةً، ثم ترتقي شيئًا فشئيًا، ثم تصبح في غاية القوة والعنفوان، ثم تتلاشى وتزول، وقد جاء الله بالإسلام، فأزال المسلمون عروش الأكاسرة والقياصرة، وامتدت الدولة الإسلامية، وانهارت عروشٌ كثيرة، وحكم الخلفاء الراشدون، ثم جاء الأمويون والعباسيون، وأخيرًا جاء العثمانيون، وزال العثمانيون، وجرت بعد ذلك خطوب وأهوال، وقدر الله ماضٍ في عباده. وكما يصرف الله الملك في عباده، فهو وحده مصرف الأمر في كونه، {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 27]. ومن تصريف الله كونه بإرادته أنه يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، فهما من جهة متعاقبان، ومن جهة أخرى متقارضان يأخذ الليل من النهار، ثم يأخذ النهار من الليل، وقد يتعادلان. وهو سبحانه يخرج الحيَّ من الميت، ويخرج الميت من الحي، فهو سبحانه ينزل الماء من السماء، فيحيي الأرض بعد موتها {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر: 9] ونحن نشاهد الماء ينزل على الحب والنوى في باطن الأرض، فتتشقَّق الأرض، وينبت الحبُّ، ويورق، ويخضرُّ ويثمر {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام: 95] وهذا النبات الحيُّ يخرج من الحبِّ الميت، وصور

(1/63)


الإحياء والإماتة في الأرض كثيرةٌ، فمن النطفة والبويضة يخلق الإنسان، ومن البيضة الميتة تتكون الطيور، ومن الطيور الحية تكون البيضة. ومن ألوان التصريف في الخلق أنه سبحانه يرزق من يشاء بغير حساب، فيمدُّ بعض عباده بالمال الكثير، الذي لا يعدُّ، ولا يحصى، وقد يضيِّق على آخرين، كل ذلك وفق مشيئته وحكمته وتقديره. خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى بنفسه عرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - في هاتين الآيتين بنفسه فذكر: 1 - أنَّه يؤتي الملك من يشاء إيتاءه إيَّاه، ويقبضه وينزعه ممن يشاء نزعه منه، وقد رأينا في أيامنا التي عشناها مثل هذا، رأينا الدول القويَّة تسنَّمت قمة الملك في أيامنا، ورأيناها وقد زالت وضعفت، ورأينا من الأفراد من آتاه الله الملك، ورأينا من الأفراد والأسر من زال عرشه وزال ملكه. 2 - وكما يصرِّف الله - تعالى - الملك في عباده، فإنه يصرف الأمر في كونه، فإنه هو سبحانه الذي يدخل الليل في النهار، ويدخل النهار في الليل، فهما يتعاقبان ويتقارضان. 3 - الله تعالى يخرج الحيَّ من الميت، ويخرج الميت من الحيِّ، فمن الحبَّة الصماء تخرج النبتة الخضراء، ومن البيضة الجامدة يخرج العصفور المغرِّد، ويخرج من النبتة الخضراء الحبوب الميتة، ويخرج من الدجاجة الحية البيضة الميتة. 4 - الله تبارك وتعالى يرزق من يشاء رزقه بغير حساب، فينزل على أقوام المطر، فينبت لهم النبات، ويخرج لهم الأشجار، ويرزق أقوامًا المال حتى تفيض به خزائنهم. * * *

(1/64)


 الموضع القرآني [15]

نصرُ الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في غزوة بدر أولًا: تقديم عرَّفنا الله ربُّنا في هذه الآيات الكريمات عن فعله في نصرة عباده في غزوة بدر الكبرى، وقد كانوا قليلي العدد، وقليلي الخيول والسلاح، فأنزل عليهم الملائكة من عنده، ونصرهم وأعلى كلمتهم، وكبت الكافرين وأذَّلهم وشردهم. ثانيًا: أيات هذا الموضع من سورة آل عمران {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَاتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ

(1/65)


اللَّهِ الْعزَّيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ * لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم} [آل عمران: 123 - 129]. ثالثًا: تفسير مفردات هذا الموضع من الآيات بدرٌ: هي اليوم مدينة على ساحل البحر الأحمر بين مكة والمدينة، وكانت قديمًا بئرًا يستقى منها الماء. اتقوا الله، أي: خافوه، واعملوا بطاعته بفعل أمره واجتناب نهيه. منزلين، أي: منزلين من عند الله تعالى. مسوِّمين، أي: معلمين، أي: أعلموا أنفسهم وخيولهم بعلامات واضحات. ليقطع طرفًا: جزءًا أو جانبًا منهم، والقطع القتل أو الأسر. يكبتهم، أي: يهزمهم، ويغلبهم، ويصرعهم. رابعًا: شرح الآيات التي عرَّفنا فيها ربُّنا بنفسه هذه الآيات الكريمات عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - فيها بنصره لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه في غزوة بدر، وكيف أمدهم بالملائكة، وقد جعل الله تعالى إمدادهم بالملائكة بشرى للمؤمنين، ولتطمئن قلوبهم به، وإلا فإنه سبحانه قادر على نصر المؤمنين بكلمة واحدة منه، فهو على كل شيءٍ قدير.

(1/66)


وقد أعلمنا ربُّنا أنَّ رسوله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه في أول المعركة أن الله سيمدهم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين من عند الله تعالى وعقَّب الله - تعالى - على ذلك بأنهم إن صبروا في ميدان القتال، واتقوا الله ربهم فإنه سيمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، ولا شك أن الله قد أمدهم بما وعدهم به، فإن الله لا يخلف الميعاد. وعرَّفنا ربُّنا في آيات هذا الموضع أنَّ له سبحانه ما في السموات وما في الأرض، وأنه يغفر ذنوب من يشاء من عباده، ويعذِّب من يشاء منهم، فالله يملكهم، وهو يتصرف فيهم كما يشاء، بما شاء سبحانه. خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا بنفسه في هذا الموضع من الآيات عرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - في هذه الآيات بنفسه، وعرَّفنا أنَّه سبحانه: 1 - نصر رسوله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته - رضوان الله عليهم - في غزوة بدر، وكان عددهم قليلًا، وركابهم وسلاحهم قليلًا أيضًا. 2 - أمد الله تعالى المؤمنين في غزوة بدر بالملائكة، فجبر كسرهم، وكثر جمعهم، وأدالهم على عدوهم، وجعلهم من المنصورين. 3 - الله - تبارك وتعالى - له ملك السموات والأرض، وهو غفار الذنوب، يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء. * * *

(1/67)


 الموضع القرآني [16]

لله ملك السموات والأرض أولًا: تقديم هاتان الآيتان من آخر سورة آل عمران اللتان عرَّفنا فيهما ربُّنا بنفسه، كانتا محلَّ عناية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كان إذا قام يتهجدُ من الليل أخذ يمسح وجهه من النوم، وهو يقرأ العشر الآيات الأخيرة من خاتمة آل عمران وهاتان الآيتان فيهما [البخاري: 4570. ومسلم: 763]. ثانيًا: الموضع القرآني الذي عرَّفنا فيه ربُّنا بنفسه في سورة آل عمران {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ربُّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 189 - 191].

(1/68)


ثالثًا: تفسير المفردات في هذا الموضع من الآيات اختلاف الليل والنهار: تعاقب الليل والنهار. الآيات: العلامات الدالاّت على الله. أولي الألباب: أصحاب العقول. رابعًا: شرح آيات هذا الموضع عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى في هذه الآيات بنفسه، وعرَّفنا - سبحانه - بأنَّ له وحده ملك السموات ولأرض لا يشركه في ذلك أحد {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وأعلمنا ربُّنا أنه سبحانه على كل شيء قدير {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}. وأخبرنا ربُّنا العزيزُ العليمُ سبحانه وتعالى أنَّه أبدع السموات والأرض على غير مثال سابق، وأحكم خلقهما، وخلق ما فيهما على نحو بديع لا مثيل له، انظر إلى ما حدَّثنا الله به عن السموات في قوتها وارتفاعها واتساعها، وجعلها سبعًا طباقًا، وزينها بالنجوم النيرات، وانظر إلى ما حدَّثنا به عن الأرض، وسهولها وجبالها، وبحارها وأنهارها، وحيواناتها وأشجارها ونباتها، وانظر كيف يتعاور عليها الليل والنهار، وكيف يأخذ كلُّ واحد منهما من الآخر، فهما يتعاقبان، ويتقارضان، وقال في هذا الموضع: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]. وما من شيءٍ تقعُ عليه العينُ في هذا الوجود إلا وفيه آيةٌ تشهد لخالقه بالإبداع.

(1/69)


وفي كلِّ شيءٍ لَهُ آيةٌ. . . تدلُّ على أنَّه واحدُ وقد أخبرنا أنَّ الذي يدركُ هذه الآياتِ الدالةِ على بديعِ صنع الله هم أولو الألباب، أي: أصحابُ العقول الزاكية الوافية، أمَّا الكفرة الفجرة فإنهم يمرون على هذه الآيات، ولا يعتبرون بها، ولا يتعظون {وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105]. وأخبرنا ربُّنا - سبحانه - أنَّ أولي الألباب هم {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ويقولون: {ربُّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار} [آل عمران: 191]. فأصحاب العقول الزاكية الوافية يدركون آيات الله التي بثَّها في الكون، ويشغلون ألسنتهم بذكر الله من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير في كل أحوالهم، فالإنسان في دنياه إمَّا أن يكون قائمًا أو قاعدًا أو مضطجعًا، وهم يذكرون الله في هذه الأحوال الثلاث، كما قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103]. ومع إدراك أولي الألباب لآيات الكون، وذكرهم لله بألسنتهم، يتفكرون في خلق السموات والأرض فينظرونَ {إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17 - 20]. وانظر إلى ما أمرنا الله سبحانه بالنظر إلى السموات والأرض لنتعرف على آياته في قوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا

(1/70)


وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق: 6 - 10]. وهذا التفكيرُ في خلق السموات والأرض الذي هدى الله إليه أُولي الألباب، أوصلهم إلى نتيجةٍ عظيمة، فهذا الخلقُ للسموات والأرض المبدَع المحكم لابدَّ أن يكون لغايةٍ محمودةٍ، ولا يمكن أن يكون الله قد خلقهما عبثًا، ولهوًا ولعبًا، وقد أبان الله في أكثر من آيةٍ أنَّه خلقهما لتكون الأرض معبداً لله وحدَه، فإياه نعبدُ، وله نُصلِّي ونسجدُ، ولذلك فإن أولي الألباب يقولون: سبحانَك، أي: ننزهك، ونقدِّسك عن كلِّ سوء يا ربَّنا، فقنا عذابَ النار، أي: جنبنا عذاب النار، وإنَّما يكون ذلك بعبادةِ الله وطاعته. خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا بنفسه في هذه الآيات عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى بنفسه في هذه الآيات، وأعلمنا أنَّه سبحانه: 1 - له ملك السمواتِ والأرض، فليس لأحدٍ من ملكهما شيءٌ، وما يدَّعيه المشركون أنَّه آلهةٌ من دون الله تعالى هو في الحقيقة مخلوقٌ مملوك لله من الأصنام والأوثان والشمس والقمر وغيرها. 2 - الله - تعالى - على كلِّ شيءٍ قدير، لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، قولُه القولُ، وأمره الأمر. 3 - وأعلمنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنَّ في خلق السموات والأرض آياتٌ لا تعدُّ ولا تحصى وكلها تدل على ربِّ العزَّة.

(1/71)


4 - وأعلمنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنَّ أصحاب العقول، وهم أولو الألباب هم الذين يهتدون من خلال تفكرهم في السموات والأرض إلى أنَّ هذا الكون حقٌّ، وأن الله لم يخلق هذا الكون باطلًا، بل خلقه ربٌّ العباد لنعبده فيه، ولذلك يتوجهون إلى ربِّهم قائلين: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. * * *

(1/72)


 الموضع القرآني [17]

اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة نادى ربُّ العزَّة - تبارك وتعالى - الناس جميعًا في الآية الأولى من سورة النساء آمرًا إياهم أن يتقوا ربَّهم - تبارك وتعالى - وذلك بمخافته، وفعل ما أمرهم به، وترك ما نهاهم عنه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1]. ثم عرَّف الله - سبحانه - عباده بنفسِهِ، فقال: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1] قال الله تبارك وتعالى: الربُّ الذي أمرتكم بعبادته، هو الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ هي آدمُ عليه السَّلام، وخلق من آدم زوجه حواء، وبثَّ من آدم وحواء كلَّ البشر الذين خلقهم. وقد بيَّن لنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - كيف خلقت حواء من آدم، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «استوصوا بالنساء خيرًا، فإنَّ المرأة خُلِقت من

(1/73)


ضِلَع، وإنَّ أعوجَ شيءٍ في الضِّلَعِ أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنِّساء» [البخاري: 3331. ومسلم: 1468]. وقوله تعالى: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} أعلمنا الله تعالى في هذه الآية أن جميع من خلقهم من الرجال والنساء المبثوثين في هذه الأرض هم من آدم وحواء. * * *

(1/74)


 الموضع القرآني [18]

الله تعالى لا يغفر أن يشرك به عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنَّه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116] وهذا النصُّ ورد في آيتين من سورة واحدةٍ هي سورة النساء. والشركُ أن يعتقدَ الإنسانُ وجود آلهةٍ أخرى تستحقُّ العبادة مع الله، كالذين يعبدون الشمس والقمر والنجوم، أو يعبدون معه الأصنام والأوثان، أو يعبدون القبور من دون الله، أو الذين عبدوا عيسى أو العزَّيز، كلُّ هؤلاء ضالُّون مشركون، فالعبادة لله وحده، لا يستحقُّها أحدٌ من دون الله، وقد جاءت أحاديث كثيرةٌ تدلُّ على أنَّ مصير من مات على التوحيد الجنَّة، وإن لم يتب من الكبائر التي ارتكبها فمن ذلك: 1 - ما رواه أبو ذرٍّ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من عبد قال: لا إله إلاَّ الله، ثمَّ مات على ذلك إلاَّ دخل الجنة» قال أبو ذرٍّ: وإن زنى وإن سرق؟ قال:

(1/75)


«وإن زنى وإن سرق» قلت: وإن زنى وأن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق». قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذرٍّ» [البخاري: 5827، ومسلم: 94]. 2 - وعن أبي ذرٍّ أيضًا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتاني جبريل، فقال: «من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنَّة» [البخاري: 2388، مسلم: 94]. 3 - وفي رواية عن أبي ذرٍّ قال: قال رسول الله: - صلى الله عليه وسلم -: «ذلك جبريل عليه السَّلام عرض لي في جانب الحرَّة، قال: بشر أمَّتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنَّة. قلت: يا جبريل، وإن سرق، وإن زنى؟ قال: نعم. قال: قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم، وإن شرب الخمر» [البخاري: 6443، ومسلم: 94]. 4 - وعن جابر بن عبد الله، قال: أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ، فقال: يا رسول الله، ما الموجبتان؟ قال: «من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنَّة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النَّار» [مسلم: 93]. وهذه الآيةٌ صريحةٌ في أنَّ الذي لا يقبل الغفران هو الشرك، أما ما دونه من الزنا والسرقة والربا، إن لم يستحلَّها فهي إلى الله تعالى إن شاء عفا عن الذنب، وإن شاء عذب به، ثمَّ أخرجه من النَّار. وختم الله - تعالى - الآية رقم (48) بقوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} أي: من أشرك بالله تعالى فقد افترى على الله إثمًا عظيمًا، والافتراء أعظم الكذب، ولا أعظم كذبًا على الله من دعوى من ادَّعى أنَّ الله - سبحانه - شريك.

(1/76)


وقد أخبر الله - تبارك وتعالى - في خاتمةِ هذه الآية - الآية رقم (116) - أنَّ {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116] وإنِّما كان ضلال المشرك بعيدًا، لأنَّ الشِّرك أعظم أنواع الضلال، وأبعده عن الاستقامة والصلاح. * * *

(1/77)


 الموضع القرآني [19]

جعل الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس أولًا: تقديم كان الله تعالى قد شرع فيما مضى على لسان نبيه إبراهيم وابنه النبيِّ إسماعيل تشريعات بقيت قائمة في الجزيرة العربية إلى بعثة نبينا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وقد أقامت هذه التشريعات كثيرًا من مصالح العباد، وحفظت لهم نسبةً عاليةً من الأمن في الوقت الذي لم يكن للعرب فيه مَلِكٌ يقيم لهم الأمن كما هو الحال عند الأمم الأخرى، وهذا يدل على أنَّ الله - تعالى - عليمٌ بكل شيءٍ، ويشرِّع من التشريع ما يقيم به مصالح العباد، وكلُّ ما شرعه الله لرسولنا - صلى الله عليه وسلم - داخل في هذا الباب. ثانيًا: آيات هذا الموضع من سورة المائدة {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ

(1/78)


عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة: 97 - 99]. ثالثًا: تفسير مفردات هذا الموضع من الآيات الكعبة: هي البنية التي بناها نبيُّ الله إبراهيم وابنه إسماعيل، والتي يحجُّ الناس إليها في مكَّة، سمِّيت بذلك لأنها مربَّعة، وكلُّ بناءٍ مربعٍ عند العرب فهو كعبةٌ. البيت الحرام: البيت الحرام الكعبة، سمِّيت بيتًا لأنَّ لها سقفًا وجدرًا. وجعل الله الكعبة حرمًا، لأنه لا يجوز الاقتتال والعدوان عندها، ويحرم أن يصاد في الحرم، كما يحرم قطع شجره. قيامًا للناس، أي: جعل الكعبة بما تحفظه من أمنٍ وما تقيمه من أمورهم الدينية مقيمةً لمصالحهم الدنيوية. الشهر الحرام: المراد به جنس الشهر الحرام، والأشهر التي حرَّم الله تعالى القتال فيها أربعةٌ: رجب الذي بين جمادى وشعبان، وذو الحجة ذو القعدة، وشهر الله المحرم. والهدي: ما يُهدى إلى الحرم من إبلٍ وبقرٍ وغنمٍ. والقلائد: الأكاليل التي كانت العرب تحيط به أنفسها أو أنعامها إذا ما أرادت حجَّة أو عمرة.

(1/79)


رابعًا: شرح هذا الموضع من الآيات أنزل الله ربُّنا من التشريع على رسله وأنبيائه في مختلف الأزمنة والعصور ما يقيم مصالح العباد في هذه الحياة، وهذه التشريعات التي أنزلها سبحانه قائمة على العلم الذي يتصف به ربُّنا، فعلمه سبحانه محيطٌ بكلِّ شيءٍ في السموات وفي الأرض. وقد شرَّع الله تعالى للناس في الجزيرة العربية على لسان رسوله وخليله إبراهيم وابنه إسماعيل تشريعاتٍ تقيم مصالحهم الدينية والدنيوية. وقد ذكر الله تعالى في قوله: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ. . .} الآية أنه شرع لهم أربعة أمور تقيم مصالحهم في الجزيرة العربية، فقال: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ} [المائدة: 97]. وسميت الكعبة بهذا الاسم، لأنها مربعةٌ، فكل بيتٍ مربَّع فهو كعبةٌ، وسمَّاها بيتًا، لأنَّ لها سقفًا وجدرًا، والمراد بالكعبة هنا الحرم، وجعل الله الكعبة حرمًا، لأنه حرَّم أن يعتدي الإنسان أو يَقتصَّ من غيره في الحرم، وحرَّم أن تُصاد الطيور والحيوانات في الحرم، وحرَّم أن يُخْتَلى خلاه، أو يُعْضد شوكه. {وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} المرادُ به جنس الشهر الحرام، والأشهر الحرم أربعةٌ، وهي: رجبٌ، الذي بين جمادى وشعبان، وذو القعدة، وذو الحجة، وشهر الله المحرم، واحد فرد وثلاثة سردٌ، وهذه الأشهر الأربعة لا يجوز أن يبدأ المسلمون فيها الحرب والقتال.

(1/80)


{وَالْهَدْيَ} ما يُهدي للحرم من بهيمة الأنعام، وهي الإبل، والبقر، والغنم، {وَالْقَلَائِدَ} جمع قلادةٍ، والمراد بها ما كان يتقلَّده العُمَّار والحجَّاج من قلائد مصنوعةٍ من ورق الشَّجر أو غيره. وقد جعل الله تعالى الأربعة المذكورة في الآية، وهي البيت الحرام، والشهر الحرام، والهدي، والقلائد، قياماً للناس، أي جعلها مصالح تقيمُ لهم أمورهم الدينية والدنيوية في الجزيرة العربية منذ عهد إبراهيم عليه السَّلام حتى مجيء رسولنا - صلى الله عليه وسلم -، فأبقى الأمر على ما كان مشروعًا من عهد إبراهيم. ووجه كونها قيامًا للناس أنَّ العرب في الجزيرة العربية لم يكن لديها ملكٌ أو حاكمٌ يحجز قويَّهم عن ضعيفهم، ومسيئهم عن محسنهم، وظالمهم عن مظلومهم، فصيَّر الله الكعبة، والشهر الحرام، والهدي والقلائد بمثابة الحاكم أو الملك الذي يطيعه الناس، ويلتزمون بأمره، فالعرب في جاهليتها كانت تعظِّم الحرم، ومن ذلك أنَّ الرجل كان يلقى قاتل أبيه في الحرم، فلا يهيِّجه، ولا يؤذيه، قال الطبريُّ بعد أن نقل كلام أهل العلم في تفسير الآية الكريمة: «وهذه الأقوال وإن اختلفت من قائليها وألفاظها، فإنَّ معانيها آيلة إلى ما قلنا في ذلك من أنَّ القوام للشيء هو الذي به صلاحه، كما الملك الأعظم قوام رعيته ومن في سلطانه، لأنه مدبِّر أمرهم وحاجز ظالمهم عن مظلومهم، والدافع عنهم مكروه من بغاهم وعاداهم. وكذلك كانت الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد قوام أمر العرب الذي كان به صلاحهم في الجاهلية، وهي في الإسلام لأهله معالم حجهم ومناسكهم ومتوجَّهِهِم لصلاتهم وقبلتهم التي باستقبالها يتم فرضهم».

(1/81)


ونقل عن قتادة أنه قال: «{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ} حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية: فكان الرجلُ لو جرَّ كلَّ جريرةٍ ثم لجأ إلى الحرام لم يتناول ولم يقرب، وكان الرجلُ، لو لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربه، وكان الرجلُ إذا أراد البيت تقلد قلادةٍ من شعر، فأحمته ومنعته من الناس، وكان إذا نفر تقلَّد قلادةً من الإذخر أو من لحاء السَّمر، فمنعته من الناس حتى يأتي أهله، حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية». وعن ابن زيد قال: «{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ} قال: كان الناس كلهم فيهم ملوكٌ تدفع بعضهم عن بعضٍ، قال: ولم يكن في العرب ملوكٌ تدفع بعضهم عن بعضٍ، فجعل الله تعالى ذكره لهم البيت الحرام قيامًا يدفع بعضهم عن بعضٍ به، والشهر الحرام كذلك، يدفع الله بعضهم عن بعض بالأشهر الحرم والقلائد، قال: ويلقى الرجلُ قاتل أبيه أو ابن عمه فلا يعرض له» [الطبري: 4/ 3056]. وأخبرنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنَّه تعالى إنما شرَّع هذه الشريعة في جعله هذه الأربعة قواماً للناس ليعلم الناس أنَّ الله تعالى يعلم ما في السموات وما في الأرض، وأنَّه بكلِّ شيءٍ عليم. إنَّ الذين ينظرون في أسرار التشريع ويعلمون بدائعه وحكمه، يعلمون موقنين أنَّ الذي شَرَعَ هذه التشريعات عليم بكلِّ شيءٍ، ولو لم يكن عليمًا لم يستطع أن يُشرِّع مثل هذا التشريع.

(1/82)


وقال ابن جرير الطبريُّ في قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98] «اعلموا أيها الناس أنَّ ربكم يعلم ما في السموات وما في الأرض، ولا يخفى عليه شيءٌ من سرائر أعمالكم وعلانيتها، وهو يحصيها عليكم ليجازيكم بها، شديدٌ عقابه من عصاه، وتمرَّد عليه، على معصيته إيَّاه. {وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98] وهو غفور لذنوب من أطاعه وأناب إليه، فساترٌ عليه، وتاركٌ فضيحته بها، رحيمٌ به أن يعاقبه على ما سلف من ذنوبه بعد إنابته وتوبته منها» [الطبري: 4/ 3057]. وهذه الآية تدلُّ على أنَّه يجب على كلِّ عبدٍ مؤمنٍ أن يعلم يقينًا أنَّ الله شديد العقاب وأنه غفورٌ رحيمٌ سبحانه. خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - بنفسه في هذه الآيات عرَّفنا ربُّنا العزيزُ الكريم أنَّه سبحانه وتعالى: 1 - جعل الكعبة والأشهر الحرم والهدي والقلائد لتقيم مصالح الناس في الجزيرة العربية، شرعها على لسان نبيه إبراهيم وابنه إسماعيل، وبقي العرب ملتزمين بها عبر تاريخهم إلى أن بُعث رسولنا - صلى الله عليه وسلم -، فقامت هذه التشريعات مقام المَلِك الضائع المفقود في الجزيرة العربية. 2 - هذا التشريع ومثله جميع التشريعات التي شرعها ربُّ العزَّة سبحانه قائمةٌ على علم الله الواسع الكبير، فالجاهل لا يستطيع أن يُشرِّع التشريعات المحكمة الصحيحة.

(1/83)


3 - أمرنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أن نعلم أنَّه شديد العقاب لمن أشرك وكفر به، وأنَّه غفورٌ رحيم لمن أطاعه وآمن به وتاب إليه. 4 - عرَّفنا ربُّنا - سبحانه - أنه يعلم بما نظهره ونبديه، كما يعلم ما نبطنه ونخفيه، كلُّ ذلك في علمه سواء. * * *

(1/84)


 الموضع القرآني [20]

الحمد لله الذي خلق السموات والأرض أولًا: تقديم حَمِدَ ربُّنا - تبارك وتعالى - نفسه على خلقه السموات والأرض، وجعله الظلمات والنور، وذمَّ الكفَّار الذين عدلوا آلهتهم بالله ربِّ العالمين، ومعنى يعدلون، أي: يُسوُّون. وعرَّفنا ربُّنا بالأصل الأوَّل الذي خلقنا سبحانه وتعالى منه، فقد خلقنا بخلق أبينا آدم عليه السَّلام من طين، وأخبرنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنه جعل لنا أجلاً تنتهي حياتنا بانقضائه، وجعل لنا أجلاً آخر ينتهي فيه بقاؤنا في الأرض التي سيغيبنا فيها، ونقوم بعد الأجل الثاني المسمّى عند الله لله ربِّ العالمين، وأخبرنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - في آيات هذا النصِّ أنَّه المعبودُ الحقُّ لأهل السموات وأهل الأرض، وأعلمنا أنَّه يعلم بأسرارنا التي نخفيها، وأعمالنا التي نبديها، ويعلم كلَّ ما نقوم به.

(1/85)


ثانيًا: آيات هذا الموضع من سورة الأنعام {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجلَّا وَأَجلَّ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 1 - 3]. ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات في هذا الموضع جعل الظلمات والنور: ظلمات الليل ونور النهار. يعدلون: أي يسوُّون آلهتهم الباطلة المفتراة بالله ربِّ العالمين. من طين: خلقنا من طينٍ بخلق أبينا آدم عليه السَّلام. قضى أجلاً وأجلٌ مسمَّى عنده: الأجل الأولُ يتحقق بموت الواحد منَّا في هذه الحياة الدنيا، والأجل الثاني يتحقق عندما يبعثنا الله تعالى يوم القيامة. تمترون: تشكّون. تكسبون، أي: ما تعملون من خير أو شرٍّ. رابعًا: شرح آيات هذا الموضع من سورة الأنعام عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - في هذه الآيات البينات بنفسه عبر ثلاث نقاط: 1 - الحمد لله خالق السموات والأرض وجاعل الظلمات والنور: حمد العليُّ الأعلى - تبارك وتعالى - نفسه على خلقه السموات والأرض، وجعله الظلمات والنور، والسموات والأرض مخلوقان عظيمان، والأرض

(1/86)


موطننا الذي نعيش فيه، وقد جعل الله تعالى فيها الآيات البينات والحجج الظاهرات، ففيها الجبال والسهول والأنهار والبحار، وجعل الله فيها الحيوان والطيور والنبات، والسماء مخلوقٌ أعظم من الأرض، ونحن نشاهد شمسها وقمرها ونجومها، وحدَّثنا ربُّنا أنها سبعٌ، وهي مسكن الملائكة، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]. وذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد بالظلمات ظلمات الليل، والمراد بالنور نور النهار. وقد ذمَّ الله تبارك وتعالى في خاتمة الآية الأولى الكفار بكونهم يعدلون أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم بالله ربِّ العالمين، {الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}. وهؤلاء الكفرة ضالُّون جاهلون إذ يسوُّون آلهتهم المخلوقة المربوبة الآفلة الضعيفة بالله ربِّ العالمين الذي خلق السموات والأرضين، وجعل الظلمات والنور، ومعنى {يَعْدِلُونَ} أي: يسوُّون آلهتهم بالله تعالى. وقد نبهنا الإمام مجاهدٌ رحمه الله تعالى إلى أنَّ الآية الأولى من سورة الأنعام تردٌّ على ثلاثة أديانٍ، فقد أخرج أبو الشيخ من طرق عن مجاهد، قال: «في هذه الآية ردٌّ على ثلاثة أديان: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} فيها ردٌّ على الدهرية، {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور} ردٌّ على المجوس الذين زعموا أنَّ النور والظلمة هما المدبِّران {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} فيه ردٌّ على مشركي العرب ومن دعا من دون الله إلهًا» [الإكليل، للسيوطي: ص 117].

(1/87)


2 - خلقنا ربُّنا تبارك وتعالى من طين: بعد أن أخبرنا تبارك وتعالى بأنَّه وحده الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، أتبع ذلك بإخبارنا بالأصل الذي منه خلقنا، فالله خلقنا بخلق أبينا آدم عليه السَّلام من طينٍ {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام: 2]. وقد أخبرنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه عنه أبو موسى الأشعريُّ قال: «إنَّ الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأحمر، والأبيض، والأسود، وبين ذلك، والسَّهل، والحزن، والخبيث، والطيب» [صحيح سنن الترمذي: 2355. وأخرجه الألباني في المشكاة: 100، وسلسلة الصحيحة: 1630]. وإذا علمنا أنَّ الله خلقنا من طينٍ، فإنَّه يجب علينا أن نعبد الله ونوحده ونثني عليه، ونمجِّده سبحانه على ما أنعم به علينا في خلقه السموات والأرض، وخلقنا من طينٍ، وقوله تعالى: {ثُمَّ قَضَى أَجلَّا وَأَجلَّ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] فالأجلُ الأول يتحقق بموت الواحد منا في الحياة الدنيا، أو يكون بموت الجميع عندما تقوم السَّاعة، والأجلُ الثاني يتحقق بالبعث والنشور، وقيام النَّاس لله ربِّ العالمين. وقوله: {وَأَجلَّ مُسَمًّى عِنْدَهُ} أي: مخفيٌّ عنده، لا يطلع عليه نبيًا مرسلًا، ولا ملكاً مُقرَّباً، فإنَّ الله تعالى قال في السَّاعة: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجلَّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187] وقال سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} [النازعات: 42 - 44].

(1/88)


وقوله سبحانه: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام: 2] أي: تشُكُّون: وفي هذا توبيخٌ للكفرة الذين يشكُّون فيما أخبرنا به العليم الحكيم من وقوع الساعة، وأنَّ ذلك حتم لازم لا شكَّ فيه. 3 - الله - تعالى - هو المعبود الواحد في السموات والأرض: عرَّفنا ربُّنا - سبحانه وتعالى - أنه هو المعبود وحده في السموات وفي الأرض {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 3] أي: هو معبود أهل السماء ومعبود أهل الأرض، وهذه الآية كقولة تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] وهو كقولنا: كان عمر بن عبد العزيز حاكم بلاد الشام، وحاكم الجزيرة العربية، وحاكم مصر، وحاكم العراق. ومع أنَّ الله سبحانه هو معبود أهل السماء ومعبود أهل الأرض، فهو يعلم سرَّنا وجهرنا، لا يخفى عليه خافيةٌ من أمرنا، ويعلم سعينا وكسبنا {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 3]، وإذا أيقنَّا أن الله يعلم سرَّنا وجهرنا، ويعلم كسبنا راقبناه، وأطعناه، بفعل ما أمرنا به، وترك ما نهانا عنه. خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - بنفسه عرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - بنفسه في هذه الآية وفق ما يأتي: 1 - الله وحده خالق السموات والأرض، لم يشركه في ذلك أحدٌ سبحانه، وهو الذي جعل لنا الظلمات والنور.

(1/89)


2 - هو الذي خلقنا من طينٍ، وذلك بخلقه أبينا آدم من طين. 3 - جعل الله تعالى لنا فوق ظهر هذه الأرض أجلاً، ثم نموت، وجعل لنا أجلاً في باطن الأرض بعد موتنا، ثمَّ نبعث. 4 - الله تعالى هو المعبود الواحد في السموات وفي الأرض، ليس للعباد معبودٌ سواه سبحانه، وكل ما يعبد غيره فهو باطلٌ لا يستحقُّ أن يعبد. 5 - الله - تعالى - يعلم سرَّنا وجهرنا، ويعلم كلَّ ما نكسبه من خيرٍ وشرٍّ. * * *

(1/90)


 الموضع القرآني [21]

الله تعالى له ما سكن في الليل والنهار أولًا: تقديم عرَّفنا العليُّ العظيم - سبحانه وتعالى - في هذه الآيات بنفسه، فهو المالك للسموات والأرض، ورحمته سبقت غضبه، وسيجمع العباد في يوم الدين، وله - سبحانه - ما سكن في الليل والنهار، وهو فاطر السموات والأرض، أي: خالقهما على غير مثالٍ سابقٍ، وهو الذي يُطعِم ولا يُطعَم، وهو - سبحانه - الضارُّ النافع، وهو القاهر فوق عباده. ثانيًا: آيات هذا النص من سورة الأنعام {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا

(1/91)


فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 12 - 14]. ثالثًا: تفسير مفردات هذا الموضع من الآيات كتب على نفسه الرحمة، أي: أوجبها على نفسه. وله ما سكن في الليل والنهار: السكون ثبوت الشيء واستقراره بعد تحركه. فاطر السموات والأرض: خالقهما ومبدعهما على غير مثالٍ سابقٍ. رابعًا: شرح آيات هذا الموضع عرَّف الله تعالى عباده بنفسه في هذه الآيات الكريمات عبر النقاط التالية: 1 - الله - تعالى - له ما في السموات والأرض: أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يوجِّه السؤال إلى المشركين الذين يعبدون الأوثان والأصنام قائلًا لهم: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 12] ثم أجاب سبحانه نفسَه بنفسِه قائلًا: {قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام: 12]. والعرب الذين كانوا يعبدون الأوثان كانوا يقرون بأنَّ الله تعالى هو وحده الخالق للسموات والأرض دون غيره، قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ

(1/92)


تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 - 89] والكفار عندما يقرُّون بأن الله هو الخالق للسموات والأرض ومالكهما يتناقضون عندما يعبدون غيره، ولا يفردونه بالعبادة. 2 - الله - تعالى - كتب على نفسِهِ الرحمة: أخبرنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنه كتب على نفسه الرحمة، فقال: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 12] أي: أوجب وفرض على نفسِهِ - سبحانه - الرحمة، روي أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لمَّا قضى الله الخلق كتب كتابه، فهو عنده فوق العرش: إنَّ رحمتي غلبت غضبي» [البخاري: 3194. ومسلم: 2751]. وعن أبي هريرة أيضًا، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «جعل الله الرحمة مائة جزءٍ، فأمسك عند تسعةً وتسعين جزءًا، وأنزل في الأرض جزءاً واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها، خشية أن تصيبه» [البخاري: 6000. ومسلم: 2752]. 3 - سيجمع الله - تعالى - عباده يوم القيامة: أقسم ربُّ العزَّة - تبارك وتعالى - بنفسه الكريمة أنَّه سيجمع عباده يوم القيامة، لا يتخلَّف منهم أحد، ولا يُفلت منهم أحد {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنعام: 12] وهذا اليوم أمرٌ مستيقنٌ لا ريب فيه، ولا شكَّ فيه، والمؤمنون يصدِّقون بذلك من غير شكٍّ، ولذلك فإنَّ رب العزَّة قال: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [الأنعام: 12] أما الذين يخسرون أنفسهم في ذلك اليوم بإدخال الله لهم

(1/93)


النار فهؤلاء لا يؤمنون {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 12] وهذا الخسران هو الخسران الأعظم. 4 - الله - تعالى - له ما سكن في الليل والنهار: أخبرنا ربُّنا - سبحانه وتعالى - أنَّ {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَار} [الأنعام: 13]. أي: ما استقرَّ في الليل والنهار، وأصل السكون: ثبوت الشيء بعد تحركه. وختم سبحانه وتعالى الآية بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 13] فالله - تبارك وتعالى - سميعٌ لأقوال عباده، لا يخفى عليه منها خافيةٌ، وعليم بأعمالهم وحركاتهم وما انطوت عليه قلوبهم. 5 - الله - تعالى - وحده المعبود الذي يستحق العبادة: أمر ربُّ العزَّة - تبارك وتعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يوجِّه للمشركين سؤال إنكار، فيقول لهم: أغير الله أتخذ إلهًا ومعبودًا، وهو فاطر السموات والأرض، أي: خالقهما على غير مثالٍ سابقٍ، وهو سبحانه الذي يُطعِم ولا يُطعَم، {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14]. والمراد بقوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} أي: هو الذي يرزق عباده، ولا يحتاج إلى من يرزقه ويطعمه، وهذه الآية كقوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ

(1/94)


الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 57] وقوله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى} [الحج: 37] وقد كان رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يثني على ربه تعالى بأنه يُطعِم ولا يُطعَم، فعن أبي هريرة قال: دعا رجلَّ من الأنصار من أهل قباء النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فانطلقنا معه، فلما طعم النبي - صلى الله عليه وسلم - وغسل يديه: قال: «الحمد لله الذي يُطعِم ولا يُطعَم، ومن علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، وكلَّ بلاءٍ حسن أبلانا، الحمد لله غير مودَّعٍ ربي ولا مكافأٍ ولا مكفورٍ ولا مستغنى عنه، الحمد لله الذي أطعمنا من الطَّعام، وسقانا من الشَّراب، وكسانا من العري، وهدانا من الضَّلال، وبصَّرنا من العمى، وفضَّلنا على كثير ممن خلق تفضيلًا، الحمد لله رب العالمين» [قال فيه محقق ابن كثير (1013): صحيح، أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (ص 315)، وابن أبي الدنيا في الشكر (ص: 15) وابن السني (ص: 485) وصححه ابن حبان: (5219). والحاكم: 1/ 546. على شرط مسلمٍ، ووافقه الذهبي]. والمعنى المراد بـ {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أنه سبحانه خالقهما ومبدعهما، روى ابن جرير عن مجاهد، قال: سمعت ابن عباس يقول: «كنت ما أدري ما فاطر السماوات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها، يقول: أنا ابتدأتها» [جامع البيان: 4/ 4143]. خامساً: كيف عرَّفنا رب العزَّة تبارك وتعالى بنفسه عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - في هذه الآيات أنَّه سبحانه وتعالى: 1 - له السماوات والأرض وما فيهما، لا يشركه في ذلك أحدٌ. 2 - كتب على نفسه الرحمة، أي: أوجبها وفرضها، والله - تعالى - لا يجب عليه إلاَّ ما أوجبه على نفسه.

(1/95)


3 - سيجمع الله عباده يوم الدين جميعًا، لا ينسى أحدًا، ولا يتخلف أحدٌ. 4 - له ما سكن في الليل والنهار، فهناك من المخلوقات ما يسكن في الليل كالإنسان. وكثير من الحيوانات والطيور، وبعضها يكون سكونه في النهار. 5 - الله تعالى وليُّ عباده، يتولى أمرهم، ويرعى شأنهم، ويرزقهم. 6 - الله تعالى خالق السموات والأرض، وما فيهما وما بينهما. 7 - الله تعالى هو الذي يطعم عباده وما خلقه من حيوانٍ وطيورٍ، وهو غنيُّ عن عباده، فليس بحاجةٍ إلى من يطعمه. * * *

(1/96)


 الموضع القرآني [22]

الله الذي يتوفانا بالليل ويعلم ما جرحنا بالنهار أولًا: تقديم بيَّن الله تعالى لنا في آيات هذا النصِّ ما اختصِّ به نفسه، فعنده مفاتح الغيب لا يعلمها غيره، وهو العالم في البرِّ والبحر، وهو الذي يتوفانا بالليل ويعلم ما جرحنا بالنار، وهو القاهر فوقنا، ويرسل علينا من الملائكة من يحفظنا، ويحفظ أعمالنا، وغير ذلك مما سيأتي بيانه. ثانياً: آيات هذا الموضع من سورة الأنعام {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ

(1/97)


فِيهِ لِيُقْضَى أَجلَّ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ * قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجلَّكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَاسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 59 - 65]. ثالثًا: تفسير مفردات هذا الموضع من الآيات مفاتيح الغيب: جمع مفتح، وهو المفتاح أو مخازن الغيب. يتوفاكم بالليل، أي: بالنوم. ويعلم ما جرحتم: ما جرحتم، أي: ما كسبتموه بجوارحكم من خير وشرٍّ. القاهر فوق عباده: الغالب لخلقه الذي يقهرهم بقوته وجبروته. حفظةً: الملائكة الذين يرسلهم الله علينا يحفظون أعمالنا. توفته رسلنا، أي: قبضت روحه ملائكة الموت. تضرعاً، أي: مظهرًا الضراعة، وهي الفقر والحاجة. كرب: الكرب الآفة والمصاب. أو يلبسكم شيعاً، أي: يبث فيكم الأهواء المختلفة.

(1/98)


رابعًا: شرح آيات هذا الموضع عرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - بنفسه في آيات هذا النص عبر النقاط التالية: 1 - سعة علم الله تعالى وما اختصَّ الله بعلمه سبحانه: عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى ما اختصَّ بعمله دون سائر خلقه، فقال: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59]. ومفاتح الغيب خمسةٌ تضمَّنتها آية سورة لقمان، ففي الحديث عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مفاتح الغيب خمسٌ، ثم قرأ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]» [البخاري: 4778]. وسيأتي بيانها بحول الله وقوَّته في سورة لقمان. والمفاتح: جمع مفتح، وهو المفتاح، أو مخازن الغيب. والله سبحانه علمه واسعٌ لا يخفى عليه شيءٌ {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 59] أي: علمه محيطٌ بجميع الكائنات برِّيِّها وبحريِّها. فلا يخفى عليه الذَّرُّ إما. . . تَراءَى للنَّواظِرِ أو تَوَارَى وأعلمنا ربُّنا بأنَّه لا يخفى عليه شيءٌ، ولا يغيب عنه شيءٌ فقال: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] أي ما تسقط من ورقةٍ في الصحاري والبراري والأمصار والقرى إلا ويعلمها الله، وانظر إلى الأرض كم فيها من أشجارٍ،

(1/99)


وكم على كلِّ شجرةٍ من أوراقٍ، وما من ورقةٍ في البراري والقفار، والحقول والحدائق والجبال تسقط إلا وعلم الله تعالى محيطٌ بها، وما ممن حبَّةٍ تندثر في تراب الأرض فتنبتُ، أو نبتةٌ تصفرُّ وتذوي وتموت إلا وعلم الله محيطٌ بها، وكلُّ ذلك مدوَّنٌ في كتابٍ مبينٍ، وهو اللوح المحفوظ. 2 - الله تعالى يتوفانا بالليل ويعلم ما جرحنا في النهار: أخبرنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنَّه يتوفانا بالليل، ويعلم ما جرحنا بالنَّهار، قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَار} [الأنعام: 60] وتوفِّيه لنا في الليل، أي: بالنوم، لأنَّه يقبض سبحانه أرواحنا عن التصرف بالنوم، وهذا التوفي هو التوفي الأصغر، قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجلَّ مُسَمًّى} [الزمر: 42]. وقوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَار} أي: ما كسبتموه بجوارحكم من الخير والشر. وقوله تعالى: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} أي: يوقظكم في النهار من منامكم. وقوله: {لِيُقْضَى أَجلَّ مُسَمًّى} أي: ليقضي الله الأجل الذي سمَّاه لحياتكم، وذلك بالموت. وقوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} أي: إلى الله مصيركم ومعادكم، {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: يخبركم في يوم الدين بما عملتموه في الحياة الدنيا، ثم يحاسبكم، ويجزيكم عمَّا عملتموه.

(1/100)


وهذا الذي تضمنته الآية وإن كان خبرًا من الله عن قدرته وعلمه إلا أنَّ فيه احتجاجًا على المشركين الذين كانوا ينكروه قدرته على إحيائهم بعد مماتهم وبعثهم بعد فنائهم، فالذي يقبض أرواحهم بالليل، ويبعثهم في النار، ليبلغوا أجلاً مسمَّى، قادرٌ على إحيائهم بعد الموت [الطبري: 4/ 3202]. 3 - الله هو القاهر فوق عباده: أعلمنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنَّه القاهر فوق عباده {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 61] أي: هو الغالب خلقه، العالي عليهم بذاته وقدرته، {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام: 61]. والحفظة الذين يرسلهم الله علينا الملائكة الذين يحفظون أجسادنا وأعمالنا، قال السُّدي في الحفظة: «هي المعقِّبات من الملائكة، يحفظونه، ويحفظون عمله» [الطبري: 4/ 3204]. وقد ذكر الله تعالى الملائكة الذين يحفظون العباد في قوله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]. وفي قوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10 - 11] وفي قوله: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17 - 18]. «وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [الأنعام: 61] أي: إذا احتضر وَحانَ أجلُهُ {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} أي: ملائكةٌ موكلون بذلك، قال ابن عباس وغير واحدٍ: لملك الموت أعوانٌ من الملائكة، يخرجون الروح من الجسد، فيقبضها ملك الموت إذا انتهت إلى الحلقوم {وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} أي: في حفظ روح

(1/101)


الموتى، بل يحفظونها، وينزلونها حيث شاء الله - عزَّ وجلَّ - إن كان من الأبرار ففي عليين، وإن كان من الفجَّار ففي سجِّين عياذًا بالله من ذلك» [ابن كثير: 3/ 29]. وقوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 62]. أي: ردَّ الله الخلائق من الملائكة والجنِّ والإنس بالموت إليه، فالله مولاهم الذي يملكهم ويتولى أمورهم سبحانه، وهو أسرع الحاسبين، فيحكم فيهم - سبحانه - بعدله. 4 - الله - تعالى - الذي ينجي عباده من ظلمات البر والبحر: أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للمشركين سائلًا إياهم عن الذي ينجيهم من ظلمات البرِّ والبحر إذا أحاطت بهم {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 63]. والمراد بالظلمات في الآية الشدائد والأهوال والكربات التي تحيق بالإنسان في البرِّ والبحر، والعرب تقول: عامٌ أسود، ويومٌ مظلمٌ، وقد اعتاد الإنسان حتى لو كان مشركًا إذا أحاطت به ظلمات البرِّ والبحر أن يدعو ربَّه تضرُّعًا وخفية، أي: يدعوه مظهرًا الضَّراعة، وهي شدَّة الفقر والحاجة إلى ربِّه، ويدعوه خفيةً، أي: سرّاً، وأعلمنا ربُّنا أنَّه يقول في مناجاته ربَّه {لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}.

(1/102)


والإنسان عندما تحيط به المصائب العظام والكوارث التي لا يستطيع لها دفعًا يتوجَّه إلى ربه مخلصًا له الدين، لأنَّه في حالة الاضطرار يعلم أنه لا ملجأ من الله إلا إليه، وأنَّه لا ينجيه مما حلَّ به إلا الحيُّ القيوم، {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس: 22 - 23]. وقد تحدَّث بعض ركَّاب الطائرات عن حال الركاب عندما وقع خللٌ في طائرتهم، وهي تطير بهم في الفضاء، وتكاد تسقط بهم، وبيَّن كيف تضرَّعوا إلى ربِّهم مخلصين له الدين، لا فرق بين الفاسق والعالم بالله. وأخبرنا ربُّنا - سبحانه - أنه وحده القادر على إنجاء عباده من الكوارث والكروب التي تحيط بهم، ولكنَّ هؤلاء بعد أن ينجيهم ربُّهم مما أصابهم يعودون إلى شركهم وكفرهم {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 64]. 5 - الله تعالى قادر على أن يأخذ عباده بعذابٍ يحيط بهم: أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يخوِّف الناس عذابه وانتقامه {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجلَّكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَاسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65].

(1/103)


والعذاب الذي تهدَّد الله به عباده قد يكون آتيًا من فوقهم كعذاب قوم لوط، وعذاب أصحاب الفيل، وقد يكون بالصيحة أو الغرق أو الريح أو الحجارة، وقد يكون من تحتهم كالخسف والزلازل، وقد يكون بتسليط بعضهم على بعضٍ. قال الربيع بن أنسٍ: «{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} يعني: يبث فيكم الأهواء المختلفة، فتصيرون فرقاً، يقاتل بعضكم بعضاً، ويخالف بعضكم بعضاً» [التفسير البسيط: 8/ 204]. ومن يقرأ التاريخ بعد عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى اليوم يجد سجلاً حافلاً بما أصاب البشرية من خسفٍ وزلازل وبراكين وصواعق، وما ثار بين الناس من حروبٍ ذاق فيها بعضهم بأس بعضٍ، وقد وقع في هذه الأيام التي أكتب فيها تفسير هذه الآية [يوم الجمعة، الثامن من ربيع الأول عام 1432 هـ الذي يوافقه الحادي عشر من شباط (مارس) 2011] زلزالٌ عظيم في اليابان، لم تصب بمثله تلك الديار منذ مائة وخمسين عاماً، وقد امتدَّت آثاره إلى دول كثيرة مجاورةٍ، وارتفعت أمواج البحر في بعض مدن اليابان إلى عشرة أمتار، ودخلت مياه البحر إلى العمران، وسقط ألوف القتلى، وانهارت العمارات، وخربت الأسواق، وثارت الحرائق، وأصبحت بعض المحطات الكهربائية النووية في خطر. وقد دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته أن لا يصيبها بالعذاب، فأعطاه اثنتين، ومنعه واحدة، ففي صحيح مسلم عن عامر بن سعد، عن أبيه، أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقبل ذات يومٍ من العالية، حتى إذا مرَّ بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه

(1/104)


ركعتين، وصلَّينا معه، ودعا ربَّه طويلًا، ثم انصرف إلينا، فقال: «سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني ثنتين، ومنعني واحدةً، سألت ربِّي أن لا يهلك أمَّتي بالسَّنة، فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمَّتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها» [مسلم: 2890]. والذي أعطاه الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يهلك أمَّته بعذاب عامٍّ أو بغرقٍ عامٍّ، أما أن يعذب طائفةً منهم بالعذاب، أو يهلك بعضهم بالغرق، فهذا قد وقع، ولا يزال مستمراً. وعن ثوبان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإنَّ أمَّتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإنِّي سألت ربِّي لأمَّتي أن لا يهلكها بسنةٍ عامَّةٍ، وأن لا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإنَّ ربِّي قال: يا محمد! إنِّي إذا قضيت قضاءً فإنَّه لا يردُّ، وإنِّي أعطيتك لأمَّتك أن لا أهلكهم بسنةٍ عامَّةٍ، وأن لا أسلِّط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها - أو قال: من بين أقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا» [مسلم: 2889]. وعن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام: 65] قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «أعوذ بوجهك». فقال: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجلَّكُمْ} فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أعوذ بوجهك» قال: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هذا أيسر» [البخاري: 7406. وانظر الحديث رقم 4628].

(1/105)


وقوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65]، أي: كيف نبيِّن لهم آيات القرآن، {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} أي: يعلمون. خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - بنفسه في هذه الآيات عرَّفنا ربُّ العزَّة سبحانه وتعالى بنفسه في آيات هذا الموضع بما يأتي: 1 - الله - تعالى - عنده مفاتح الغيب، وهي مفاتيحه وخزائنه، وقد بيَّن ربُّنا في سورة لقمان أنَّ مفاتح الغيب خمسٌ. 2 - الله - تعالى - يعلم ما في البحر، وما في البحر من الأسماك والحيتان كثير، وكذلك ما في البرِّ من بني الإنسان والحيوان والطيور والنبات والأشجار لا يحصيه إلا الله، وعلم الله محيط به، لا يغيب عنه منه شيءٌ. 3 - علم الله محيطٌ بالكبير والصغير، فكما علمه محيط بالأرض والسموات، فهو محيطٌ بأوراق الأشجار، ومحيطٌ بالحبِّ والنوى، فما تسقط من ورقةٍ من شجرة إلا يعلمها، ولا تسقط حبَّةٌ في ظلمات الأرض، ولا تنبت حبَّة، أو تذوي نبتةٌ إلا يعلمها، بل كتبها عنده في اللوح المحفوظ. 4 - الله - تبارك وتعالى - الذي يتوفى أرواحنا بالليل، ويعلم ما اكتسبناه بجوارحنا بالنهار، وبعد انقضاء الليل يبعثنا في النهار، فنقوم فيه لأعمالنا , وتمضي أيام عمرنا، حتى ينقضي الأجل الذي حدَّده الله لنا في هذه الحياة، فيقبض أرواحنا ونعود إليه سبحانه.

(1/106)


5 - الله - تبارك وتعالى - القاهر فوق عباده، فهو قهرهم بقدرته، وقهرهم عزَّةً وحكمًا، وهو سبحانه فوق عباده، مستو على عرشه، بائنٌ من خلقه، وعرشه سقف مخلوقاته. 6 - الله - تعالى - يرسل علينا حفظةً من الملائكة يحفظوننا من أمر الله، ويرسل علينا حفظةً آخرين يدونون علينا أعمالنا وأقوالنا. 7 - إذا جاء الموعد الذي حدَّده ربُّ العزَّة سبحانه لحياتنا، أرسل الله ملائكته المختصون بالموت، فقبضت أرواحنا. 8 - الله - سبحانه وتعالى - هو الذي ينجينا من شدائد البرِّ والبحر. 9 - الله - تبارك وتعالى - قادرٌ على أن يبعث علينا عذابًا من فوقنا، أو من تحت أرجلنا، أو يلبسنا شيعًا، ويذيق بعضنا بأس بعض. * * *

(1/107)


 الموضع القرآني [23]

إن الله فالق الحب والنوى أولًا: تقديم هذه الآيات الكريمات من سورة الأنعام ثاني مقطعٍ يواجهنا في الآيات التي يعرفنا الله - تبارك وتعالى - عن نفسه، ويسوق لنا ربنا - تبارك وتعالى - مشاهد كثيرة تعرفنا به، وتدلُّنا عليه، فهو خالق السموات والأرض، وهو الذي له الملك يوم القيامة وهو فالق الحبِّ والنوى، وهو الذي يخرج الحيَّ من الميت، ويخرج الميت من الحي، وهو فالق الإصباح، وهو الذي جعل لنا الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا، وهو الذي جعل لنا النجوم لنهتدي بها في ظلمات البرِّ والبحر إلى غير ذلك مما حدثنا الله به في هذا المقطع الطويل من الآيات. ثانيًا: آيات هذا الموضع من سورة الأنعام {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ

(1/108)


وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْم إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ

(1/109)


عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ * وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ * وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعزَّيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 73 - 99].

(1/110)


ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات الحقُّ: ضد الباطل, وخلق السموات والأرض بالحقِّ, خلقهما لمقصد صحيح, فقد خلقهما ربُّ العزَّة ليعبد. الصور: بوق عظيم, ينفخ فيه إسرافيل عليه السَّلام, فتقوم الساعة, ثمَّ ينفخ فيه أخرى, فيقوم الناس لربِّ العالمين. فالق الحبِّ والنوى, أي: شاقُّهما بالإنبات. مخرج الحيَّ من الميت ومخرج الميت من الحيِّ: يخرج النبتة الحيَّة من الحبَّة الميتة, ويخرج الحبَّة الميتة من النبتة الحيَّة. أنَّى تؤفكون, أي: كيف تصرفون عن الحقِّ. فالق الإصباح: فالق ظلام الليل عن غُرة الصبح. جعل الليل سكناً, أي: جعله ليسكن فيه للراحة. والشمس والقمر حسباناً, أي: يجريان بحسابٍ مقدَّرٍ مُقنَّن. فمستقرٌّ ومستودع: المستقرٌّ: الأرحام, والمستودع: أصلاب الرجال. خضرًا: الخضرة التي تكون بالنبات. متراكبًا, أي: بعضه فوق بعض. طلعها: الطلع أول ما يرى من عِذق النخلة. قنوانٌ دانيةٌ: قطوف قريبة.

(1/111)


رابعًا: شرح آيات هذا الموضع هذه الآيات الكريمات تعرفنا بربِّنا - تبارك وتعالى - على النحو التالي: 1 - الله تعالى هو خالق السموات والأرض: الله وحده الذي خلق السموات والأرض, لا يشركه في ذلك أحد, وهما من أعظم المخلوقات, وفيهما ما لا يحصى من الآيات, وكان أهل الجاهلية يقرِّون بتفرد الله بخلق السموات والأرض وحده, ولا يجادلون في ذلك, {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض}. 2 - يوم يقول كن فيكون: في يوم القامة يقول ربُّ العزَّة: {كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقّ} أي: يقول ليوم البعث والنشور: {كُنْ فَيَكُونُ} أي: يكون كما يريده الله و {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْك} أي: قوله تبارك وتعالى الحق الذي لا باطل فيه, وله الملك الذي لا نقص فيه, وفي ذلك اليوم {يُنْفَخُ فِي الصُّور} البوق العظيم الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السَّلام, فتقوم الساعة, ثم ينفخ فيه مرَّة أخرى, فإذا هم قيام ينظرون. 3 - عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير: عرَّفنا ربنا في خاتمة هذه الآية الكريمة بثلاث من صفاته الكريمة, فقال: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير} فهو سبحانه وتعالى

(1/112)


عالم الغيب, وهو ما غاب عنَّا من أمره تعالى وأمر هذا الكون, وأمر ما فيه من مخلوقات, وعالم ما نشاهده من هذه الحياة, وهو الحكيم سبحانه في تشريعه, والحكيم في أفعاله, وهو سبحانه الخبير بكلِّ شيءٍ, لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. 4 - الله - سبحانه - فالق الحبِّ والنوى: أخبرنا الله - تعالى - عن نفسه أنَّه {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُون} [الأنعام: 95] أعلمنا - عزَّ وجلَّ - أنَّه يفلق حبَّ القمح والشعير والذرة ونحوها, ويفلق نوى التَّمر والخوخ والدراق ونحوها عندما تندثر في التراب, وينزل عليها الماء, فيخرج من الحبوب النبات, ومن النَّوى الأشجار, وقد فسَّر الله تعالى فلقه للحبِّ والنَّوى بقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} فمن الحبِّ والنوى الميت تخرج النَّبتة الحيَّة والشجرة الحيَّة, ومن النَّبتة الحيَّة, والشجرة الحية تخرج الحبوب والثمار الصلدة القاسية, {ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} هذا هو ربُّنا - تبارك وتعالى - الذي يستحقُّ أن يعبد دون غيره, فكيف تصرفون عن الحقِّ بعد هذا البيان. وفي هذا الذي أخبرنا به سبحانه - عن نفسه في هذه الآية حجَّة على المكذبين بالبعث والنشور, فالقادر على أن يفعل هذا بالنبات, قادرٌ على إحياء الناس بعد موتهم.

(1/113)


5 - الله سبحانه فالقُ الإصباح: عرَّفنا ربُّنا عزَّ وجلَّ على ثلاثة من أفعاله تدلُّنا عليه سبحانه {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانً} [الأنعام: 96]. أخبرنا ربُّنا عزَّ وجلَّ أنه: «يفلق ظلام الليل عن غرَّة الصباح, فيضيء الوجود, ويستنير الأفق, ويذهب الليل بسواده وظلام رواقه, ويجيء النهار بضيائه وإشراقه» [ابن كثير: 3/ 61]. وقد بيَّن سيد قطب رحمه الله تعالى العلاقة بين فلق الله الإصباح وفلقه الحبَّ والنوى, فقال: «وانفلاق الإصباح من الظلام حركة تشبه في شكلها انفلاق الحبّة والنواة, وانبثاق النُّور في تلك الحركة, كانبثاق البرعم في هذه الحركة, وبينهما من مشابه الحركة والحيوية والبهاء والجمال سمات مشتركةٌ, ملحوظةٌ في التعبير عن الحقائق المشتركة في طبيعتهما وحقيقتهما كذلك. وبين انفلاق الحبِّ والنوى وانفلاق الإصباح وسكون الليل صلةٌ أخرى, إنَّ الإصباح والإمساء, والحركة والسكون في هذا الكون أو في هذه الأرض ذات علاقةٍ مباشرة بالنبات والحياة» [في ظلال القرآن: 2/ 1157]. وقوله تعالى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} أي جعل الله الليل الذي يغشى الأرض بظلامه ليسكن فيه الناس سكون راحةٍ, كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [يونس: 67].

(1/114)


وقوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} أي: يجريان بحساب مقدَّرٍ مقنَّنٍ, لا يتغيَّر, ولا يضطرب, بل كلُّ منهما له منازل يسلكها في الصيف والشتاء, فيترتَّب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولاً وقصراً {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] والحسبان جمع حسابٍ, مثل ركبانٍ وركاب, وشهبان وشهاب, وقوله عزَّ وجلَّ {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعزَّيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96] أي: هذا الذي ذكره سبحانه من فلقه الإصباح, وجعله الليل سكناً, وجعله الشمس والقمر حسباناً هو تقدير الله سبحانه الذي لا يغالب ولا يمانع ولا يخالف, العليم بكلِّ شيءٍ فلا يخفى عنه شيءٌ في الأرض ولا في السماء. 6 - جعل الله لنا النجوم لنهتدي بها في ظلمات البر والبحر: أعلمنا الله - تعالى - أنه جعل لنا النجوم لنهتدي بها في ظلمات البرِّ والبحر {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97] وهذا مما امتنَّ الله به علينا في خلقه النجوم لنا, فسالكو القفار وراكبو البحار يهتدون بها في ظلمة الليل. وختم سبحانه الآية بقوله: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 97] أي: قد بيَّنا الآيات التي سبق ذكرها, لقوم يعلمون شرع الله, ليتدبروها ويعرفوا الحق ويتجنبوا الباطل.

(1/115)


7 - أنشأ الله تعالى البشر كلَّهم من نفس واحدة: امتنَّ الله علينا نحن البشر بخلقنا من نفسٍ واحدةٍ {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأنعام: 98] والنفس الواحدة التي يعود البشر كلُّهم إليها هي آدم عليه السَّلام, فمنه خلق الله زوجه حواء, وخلق بقية البشر من ذكرٍ وأنثى, إلا عيسى ابن مريم, فإنَّه خلق من أنثى هي أمُّه مريم من غير أبٍ, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]. وقوله تعالى: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} [الأنعام: 98] ذهب كثيرٌ من أئمة التفسير كابن مسعودٍ, وابن عباسٍ, وأبي عبد الرحمن السلميِّ, وقيس بن أبي حازمٍ, ومجاهدٍ, وعطاءٍ, وإبراهيم النخعيِّ, والضَّحاك, وقتادة, والسُّديِّ, وعطاءٍ الخراساني إلى أنَّ المستقرَّ: الأرحام, والمستودع: أصلابٌ الرجال [ابن كثير: 3/ 62]. وقد تقدَّم العلم اليوم واكتشف أنَّ الإنسان يوجد من الخليَّة الملقحة, يقول سيد قطب في تفسير قوله تعالى: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} «إنَّها اللَّمسة المباشرة في هذه المرة. . . , اللمسة في ذات النفس البشرية, النفس البشرية الواحدة. تبدأ الحياة فيها خطوتها الأولى للتكاثر بالخلية الملقحة, فنفسٌ هي مستودعٌ لهذه الخلية في صلب الرجل, ونفسٌ هي مستقرٌ لها في رحم الأنثى. . . , ثم تأخذ الحياة في النمو والانتشار, فإذا أجناسٌ وألوان؛ وإذا شياتٌ ولغاتٌ؛

(1/116)


وإذا شعوبٌ وقبائل؛ وإذا النماذج التي لا تحصى, والأنماط التي ما تزال تتنوع ما دامت الحياة. {قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} فالفقه هنا ضروريٌّ لإدراك صنع الله في هذه النفس الواحدة, التي تنبثق منها النماذج والأنماط, ولإدراك الموافقات العجيبة الكامنة وراء اتخاذ التلاقح وسيلة للإكثار, وتوفير الأعداد المناسبة دائماً من الذكور والإناث - في عالم الإنسان - لتتم عملية التزاوج التي قدَّر الله أن تكون هي وسيلة الإخصاب والإكثار, ووسيلة تنشئة الأطفال في ظروفٍ تحفظ (إنسانيتهم) وتجعلهم أكفاء للحياة (الإنسانية)[في ظلال القرآن: 2/ 1159 بشيء من الاختصار]. 8 - إنزال الله - تعالى - الماء من السماء وإنبات النبات به: حدَّثنا ربُّنا - تبارك وتعالى - عن إنزاله الماء من السماء وما يفعله هذا الماء عندما ترتوي به الأرض, فلو أنَّك مررت بأرضٍ يابسةٍ جرداء, جادها الغيث فروَّاها, ثم مررت به مرةً أخرى بعد فترةٍ ليست بالطويلة, فإنَّك ترى عجباً, ترى تلك الأرض الجرداء أصبحت مُعشوشِبةً خضراء, تراها تنبت, وتزهر, وتخرج حبَّها, وثمرها, ومن يحسن النظر إلى آثار المياه, ويحسن الوصف, يرينا منظراً رائعاً بديعاً, ولا أحد أحسن وصفاً من وصف ربِّ العباد, ومن تأمَّل في وصفه لآثار ما صنع المليك, يرى صورةً مبهجةٍ ذات زينةٍ ورونقٍ, يقول ربُّنا الحكيم العليم: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الأنعام: 99] وكلُّ ما علاك فهو سماءٌ, ومن ذلك الغمام الذي ينزل منه الماء,

(1/117)


فأخرج الله سبحانه به نبات كلِّ شيءٍ, أي أخرج به جميع أنواع النبات, فلو أنك نظرت في القطعة الواحدة من الأرض التي غذاها الغيث, فإنَّك تجد فيها ما لا يحصى من النبات على شتى أنواعه وألوانه, وأخرج سبحانه من ذلك النبات خضراً, عبَّر عن الخضرة التي اتَّصف بها النبات بقوله: {خَضِراً} , وخضراً أرقُّ وألطف من كلمة: أخضر. وأخبرنا العليم الخبير سبحانه أنَّه أخرج من ذلك النبات الخضر حباً متراكباً, وهذا الحبُّ المتراكب تراه فيما ينبته القمح والشعير والذرة ونحوها من السنابل, ويخرج من النخيل من طلعها قنوان دانيةٌ, والطَّلع أول ما يرى من عذق النخلة, الواحدة طلعةٌ, ويخرج لنا ربُّنا من طلع النخل قنونًا دانيةً, والقنوان العذق الذي يحمل الثَّمر, والعذق في النَّخلة بمثابة القطف من العنب, وهذه القنوان دانيةٌ, أي قريبة المتناول, وعندما نقف ننظر إلى النَّخل وقد تدلَّت قطوفه, وتهدَّلت, نراها كما وصف ربُّنا: {قِنْوَانٌ دَانِيَة}. هذا الذي سبق ذكره مشهد وصفه مليكنا سبحانه لأرضٍ أنبتت النبات, ومشهد آخر يريناه في قطعةٍ أخرى يتمثَّل في الجنَّات, وهي {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} والجنات البساتين, وهي بساتينٌ من أعنابٍ, وقد يكون الشجر زيتوناً أو رماناً, وما أنبته الله من النبات, وما أخرجه من أشجارٍ قد يكون مشتبهاً, وقد يكون غير متشابه, وقد يتشابه النبات, وقد تتشابه الأشجار, وقد يكون التشابه في الشجر, قد يكون التشابه في الثمر, وقد يكون في الطَّعم, وقد يختلف ذلك كله, فلا تشابه فيه.

(1/118)


إنَّ هذا الوصف الرائع المبهج الممتع يأسرك, ويملك عليك نفسك, ولذا دعانا ربُّنا إلى النظر إليه بأبصارنا, ننظر إلى ثماره من النخيل والأعناب والزيتون والرمان, وننظر إلى ينعه, أي إلى نضجه, وكمال النظر وغايته أن يحصل الاعتبار بما نراه ونشاهده, فإذا هو آياتٌ للمؤمنين, تدلُّهم على ربِّهم, وتهديهم إليه سبحانه. أعد النظر في هذه الآية التي حدَّثتنا عن إنزال الماء من السماء, وفعل المليك سبحانه بالأرض التي ارتوت بالغيث {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99]. خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى بنفسه في هذه الآيات: عرَّفنا ربُّنا ربُّ العزَّة - سبحانه وتعالى - في هذه الآيات بنفسه على النحو التالي: 1 - الله - تبارك وتعالى - هو خالق السموات خلقاً كائناً بالحقِّ, فقد خلقهما سبحانه وتعالى لغايةٍ عظيمةٍ هي أن يعبد ويطاع سبحانه. 2 - الله تعالى له الملك التَّام في يوم القيامة, فلا يملك أحدٌ معه شيئًا. 3 - في يوم القيامة يأمر ربُّ العباد بالنفخ في الصور, فتقوم القيامة, ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون.

(1/119)


4 - الله تعالى عالم الغيب والشهادة, وهو الحكيم في شرعه وفعله, وهو الخبير. 5 - الله تعالى هو فالق الحبِّ والنوى, يخرج من الحبَّة الصماء النبتة الخضراء, ويخرج من النبتة الخضراء الحبَّة الصماء. 6 - الله سبحانه هو فالق الإصباح, فبعد ظلمة الليل يثور الضياء, ولا يزال يتزايد, ويتوهجُّ حتى يملأ الضياء الكون. 7 - جعل الله تعالى الليل لنا سكناً, ننقطع فيه عن الحركة, وتهدأ فيه أفعالنا, وقد جعل الله لنا النهار ننبعث فيه إلى العمل. 8 - جعل الله سبحانه وتعالى لنا الشمس والقمر حسباناً, فبالشمس نعرف مقدار الليالي والأيام, وبالقمر نعرف مقدار الشهور والأعوام. 9 - وجعل الله تعالى لنا النجوم لنهتدي بها في ظلمات البرِّ والبحر, ونعرف مسارنا فوق ظهر أرضنا في أسفارنا, فكثير من الناس يعرفون طرقاتهم في أسفارهم بالنظر في النجوم الثابتة في ظلمة الليل. 10 - الله تعالى هو الذي خلقنا بخلق أبينا آدم من نفسٍ واحدةٍ, فقد خلق منه زوجه حوَّاء. وخلق منهما جميع الرجال والنساء. 11 - الله تعالى الذي أنزل الماء من السماء, فأخرج بذلك المطر نبات الأرض, فأخرج من ذلك النبات القمح والشعير والذرة وغيرها, يخرج من نبتها وسنابلها حبّاً متراكباً, نشاهده في القمح والشعير والذرة ونحوها, وأخرج لنا من أشجار النخيل من طلعها قنواناً دانيةً. يخرج لنا منها قطوفاً قريبة المأخذ, وجعل لنا فيما ينبته من الأشجار جناتٍ من أعنابٍ والزيتون والرمان, يشبه بعضه بعضاً أحياناً, وقد يختلف فلا يتشابه. * * *

(1/120)


 الموضع القرآني [24]

الله تعالى الذي أنشأ جنات وعروشات وغير معروشات أولًا: تقديم عرَّفنا ربُّنا العليُّ الأعلى سبحانه وتعالى بنفسه, فأخبرنا أنه أنشأ لنا جناتٍ معروشاتٍ وأخرى غير معروشاتٍ, وأنشأ لنا بساتين النخيل والزيتون والرمان, وأنشأ لنا من الأنعام حمولةً تحملنا وأثقالنا, وفرشاً, وهي التي ننتفع بألبانها ولحومها. ثانيًا: آيات هذا الموضع من سورة الأنعام {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ *

(1/121)


وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأنعام: 141 - 142]. ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات الجنات: البساتين التي يحفها الشجر, مأخوذةٌ من جنَّ إذا ستر, لأنَّها تستر بأشجارها من يكون تحتها. معروشات: بساتين الأعناب القائمة على العروش, وهي الأعمدة. غير معروشاتٍ, أي: الملقاة على الأرض. مختلفاً أُكلُه: مختلفاً طعمه, فقد يكون حلواً أو مُراً أو حامضاً. متشابهاً وغير متشابه: في المنظر أو الطعم, وقد تختلف فيهما. ولا تسرفوا, أي: لا تبالغوا في الإنفاق حتى يضرَّ بكم. حمولة وفرشاً: الحمولة الكبار من الإبل التي تحمل الأحمال, وقد يستعمل في الفرس والبغل والحمار, وفرشاً الصغار من الإبل, والبقر والغنم. خطوات الشيطان: خطوات جمع خطوة, وهي طرقه المضلَّة. رابعًا: شرح آيات هذا الموضع عرَّفنا ربُّنا - سبحانه وتعالى - بنفسه تبارك وتعالى ببيان ما يأتي: 1 - الله - تعالى - هو الذي أبدع لنا ما في الأرض من جناتٍ: أعلمنا ربُّنا - العليُّ العظيم - أنه {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا

(1/122)


وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} [الأنعام: 141] أي: هو سبحانه الذي أنشأ لنا جنَّاتٍ معروشاتٍ وغير معروشاتٍ, والمراد بالمعروشات بساتين الأعناب المرفوعة على الأعمدة والعروش, وغير المعروشات ما لم يرفع, بل هو ملقى على الأرض. والجنَّات: البساتين التي يحفُّها الشجر, مأخوذةٌ من جنَّ إذا ستر, لأنها تستر بأشجارها من يكون تحتها. وقد تكون هذه الجنات من أشجار النخيل أو الزيتون أو الرمَّان, وقد يزرع بين الأشجار الحبوب من القمح والشعير والذُّرة, وقد يزرع فيها الرَّياحين وغيرها, وقوله: {مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} أي: مختلفاً طعمه, فقد يكون حلواً, وقد يكون حامضاً, وقد يكون بين ذلك. والزيتون أنواعٌ كثيرةٌ, متشابهةٌ فيما بينها, في منظرها وطعمها, وقد تختلف فيما بينها, ومثل ذلك يقال في الرُّمان, تتشابه في المنظر, وقد تختلف, وقد يكون من الرُّمان الحلو والحامض. وقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين} [الأنعام: 141]. هذا الأمر الذي أمرنا به في الآية, وهو الأمر بالأكل من ثمار الأشجار من العنب والنَّخل والزيتون والرُّمان أمر إباحةٍ, وهو يأتي في مقابل ما حرَّمه أهل الجاهلية من الحرث, وأمرنا مع الأكل أن نؤتي حقَّه يوم حصاده, والحقُّ الذي أُمر المؤمنون بإيتائه حقٌّ غير مقدَّرٍ يخرجه صاحبه من ثمار الأعناب

(1/123)


والنخيل والزيتون والرمان, وليس المراد به الزكاة, فهذه الآية مكَّيةٌ, ولم تكن الزكاة قد فرضت بعد, ولو كانت الآية في شأن الزكاة لما أمر فيها بإخراج نصيبٍ من بساتين الرُّمان, فإنَّ الرمَّان لا زكاة فيه, وكذا لا يصحُّ الاحتجاج بالآية على وجوب إخراج الزكاة من الزيتون, ومما يدل على أنَّ الآية ليست في الزكاة أن الزكاة لا تؤدَّى في يوم الحصاد. وقوله: {وَلَا تُسْرِفُو} نهيٌ عن إخراج ربِّ المال ما يضرُّ به, وبمن يتولَّى الإنفاق عليه من الذُّريَّة والزوجة وغيرهم, وعلَّل النهي عن الإسراف بأنه {لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}. 2 - امتنانُ الله علينا بما خلقه لنا من الأنعام: أعلمنا ربُّنا - تبارك وتعالى - في الآية السابقة أنَّه أنشأ جناتٍ معروشاتٍ وغير معروشاتٍ, ثم عطف عليها الآية التالية وهي قوله سبحانه: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأنعام: 142]. أي: وهو الذي أنشأ جناتٍ معروشاتٍ وغير معروشاتٍ, وأنشأ حمولةً وفرشاً من الأنعام, فالله - سبحانه - هو الذي رزقنا أنواع الحبوب والأشجار وأنواع الأنعام, والحمولة: الإبل الكبار التي يرُكب عليها, ويُحمل عليها, والفرش الصغار من الإبل, والبقر والضأن والمعز مما لا يُحمل عليه, سمَّى صغار الإبل والغنم والبقر فرشاً لقربها من الأرض, فهي كالفرش, وقيل: الفرش ما يفرش على الأرض حين الذبح, وقال ربُّ العزَّة في الحمولة من الإبل التي يحمل عليها الأثقال: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى

(1/124)


بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [النحل: 7] وقال {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَاكُلُونَ} [يس: 72]. وقوله تعالي {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} أي كلوا مما رزقكم الله من الجنات, ومن الأنعام سواءً كانت حمولةً أو فرشاً, ولا تحرِّموا على أنفسكم شيئًا, ولا تجعلوا منه للأصنام شيئًا. وقوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} نهانا عن اتباع خطوات الشيطان, فإننا إذا اتَّبعنا خطواته أضلَّنا وأدخلنا النَّار, فهو عدوُّنا الذي كاد أبانا آدم وأمَّنا حوَّاء, والخطوات: جمع خطوةٍ, وهي طرقه المضلِّة, ومنها تلك التشريعات التي يحلُّ بها ما حرَّم الله, ويحرِّم ما أحلَّ, كما بيَّن الله تعالى ذلك في آيات النصِّ السابق. خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا العلي الأعلى سبحانه بنفسه عرَّفنا ربُّنا وهو أكرم الأكرمين بنفسه في هذه الآيات الكريمات ببيان ما يأتي: 1 - الله - تبارك وتعالى - هو الذي أنشأ في أرضه الواسعة لعباده جناتٍ من الأعناب, بعضها معروشة, وأخرى منها غير معروشة. 2 - وأنشأ لهم جناتٍ من النخيل, والنخيل أنواع وأشكال, وقد يزرع في بساتين النخيل الزروع فيما بين الأشجار. 3 - والله - تعالى - هو الذي أنشأ لنا الجنات من الزيتون والرمان, وبعض هذه قد تتشابه أشجارها, وبعضها تتشابه ثمارها في منظرها أو في طعمها, وقد لا تتشابه في شيءٍ من ذلك.

(1/125)


4 - الله - تبارك وتعالى - هو الذي أنشأ لنا من الأنعام حمولةً وفرشاً, فالحمولة كبار الإبل التي تحملنا وتحمل أثقالنا, والفرش صغار الإبل والبقر والغنم التي جعلها الله لننتفع بلبنها ولحومها وأصوافها وجلودها. * * *

(1/126)


 الموضع القرآني [25]

تمكين الله تعالى لنا في الأرض امتنَّ الله - تبارك وتعالى - على الناس في هاتين الآيتين بأن مكَّن لهم في الأرض, فعليها نبني مساكننا, ونتَّخذ من سهولها جنات وبساتين, ونستفيد من نباتها وحيواناتها وأسماكها وطيورها, ونتَّخذ من ذلك كله معايش, أي: ما يمكننا من المعيشة. . . في الحياة الدنيا, {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10]. وتمكين الله تعالى لنا في الأرض بأن جعل الأرض صالحةً لحياتنا, وأوجد فيها ما يقيم حياتنا, وأقدرنا على السَّعي فيها, والاستفادة من خيراتها, وقوله تعالى: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} أي: قليلاً ما تشكرونه على ما أنعم به عليكم. وامتنَّ الله علينا بأنَّه خلقنا بخلق أبينا آدم عليه السَّلام من تراب, ثمَّ صوره بعد ذلك, وبعد أن خلق آدم وصوَّره نفخ فيه من روحه, وأسجد له ملائكته, {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف: 11] وخلق الله تعالى سبحانه كلَّ واحد منَّا في رحم أمه, ثمَّ صوَّره فيه, ولذا فإنَّ من أسمائه سبحانه المصور. * * *

(1/127)


 الموضع القرآني [26]

الله تعالى الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام أولًا: تقديم عرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - في هذه الآيات بنفسه, عرَّفنا أنَّه خلق السموات والأرض في ستة أيام, وعرَّفنا باستوائه على عرشه وأنه بائنٌ من خلقه, وأنَّه يغشى الليل النهار, وأنَّه سخَّر الشمس والقمر والنجوم, وأنَّه يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته, وأنَّه يسوق السحاب إلى البلد الميت فيحييه. ثانيًا: آيات هذه الموضع من سورة الأعراف {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ

(1/128)


الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 54 - 57]. ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات استوى على العرش: معنى استوى علا وارتفع واستقرَّ, أما كيفية الاستواء فلا يعلمه إلا الله تعالى, والعرش سرير ملك الله تعالى, وهو أعظم مخلوقاته سبحانه. يغشى الليل النهار, أي: يغطيه, ويستره. يطلبه حثيثاً, أي: يطلب الليل النهار في غاية السُّرعة. أقلَّت: حملت. الثقال: ثقلها بسبب ما تحمله من المياه. الميِّت: القاحل الممحل. رابعًا: شرح آيات هذا الموضع عرَّفنا الله ربُّنا في هذه الآيات بنفسه تبارك وتعالى, حتى لو أنَّك سألت فقلت: من ربنا؟ لكانت الآيات جواباً عن السؤال, وإنَّ صيغة الآيات لتدلُّ على أن مراد الله تعالى بالآيات هو تعريف عباده بنفسه, اقرأ طليعة الآيات في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى

(1/129)


الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] وأقرأ خاتمة هذه الآية {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وتدبَّر ما قرأته ستجد صدق ما ذكرتُه. وقد عرَّفنا ربُّنا بنفسه تبارك وتعالى من خمسة أوجه, هي: 1 - خلقه سبحانه السموات والأرض في ستة أيام: أخبرنا ربُّنا - سبحانه - أنه وحده الذي خلق السموات والأرض وما فيهما وما بينهما في ستة أيام, وهذه الأيام تبدأ من يوم الأحد, وتنتهي في يوم الجمعة, وهذه الأيام من أيام الله تعالى, ولا ندري طولها, وقد أعلمنا ربُّنا تبارك وتعالى أنَّ يوماً عنده كألف سنةٍ من سنواتنا, وأعلمنا ربُّنا أنَّ مقدار يوم القيامة خمسون ألف سنةٍ من سنوات الدنيا {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54]. 2 - استواء ربِّنا جلَّ جلَّاله على العرش: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] العرش في لغة العرب سرير الملك, قال تعالى في كرسي ملكة سبأ {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] وقال نبي الله سليمان: {أَيُّكُمْ يَاتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَاتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 38] وقال الله تعالى في عرش نبيِّ الله يوسف {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} [يوسف: 100] والعرش أعظم مخلوقات الله تعالى, وهو لله تعالى سرير ملكه وقد وصفه الله تعالى بأنَّه عظيم {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129] ووصفه بأنَّه مجيدٌ في قوله {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج: 15].

(1/130)


وكان عرش الله في الأزل علي الماء {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]. ويحمل عرش ربِّنا في يوم القيامة ثمانيةٌ من الملائكة {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17]. وهؤلاء الملائكة الذين يحملون العرش في يوم القيامة يسبِّحون بحمد ربِّهم {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر: 7]. وفي يوم القيامة ترى الملائكة حافِّين من حول العرش يسبحون بحمد الله {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر: 75] وقد ضلَّ قومٌ كثيرون في تعريف عرش الرحمن, والنصوص التي سقناها تدلُّ على أنَّ عرش الرحمن سريرٌ عظيمٌ كريمٌ مجيدٌ, استوى عليه الرحمن ومعنى استوى في اللغة العرب: ارتفع, واستقرَّ وعلا. 3 - يغشي الله تعالى الليل النهار يطلبه حثيثاً: عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنه {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} [الأعراف: 54] أي: يجعل الليل غشاءً وساتراً للنهار ومغطياً له, وفي الآية محذوفٌ دلَّ عليه المقام, أي: يغشي النهار الليل أيضًا, فيأتي ضوء النهار ويغشى ظلام الليل, فيذهبه, ويحلُّ محلَّه, كما قال: {وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعزَّيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 37 - 38]. وقوله تعالى: {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} أي: يطلبه طلباً حثيثاً مسرعاً غاية الإسراع فلا يمهله لحظةً [العذب النمير: 3/ 381].

(1/131)


4 - جعل الله الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره: وقوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} أي: أنَّ الله خلق السموات والأرض, وخلق الشمس والقمر والنجوم, وجعلهن مسخراتٍ بأمره, أي: في طلوعهنَّ وغروبهنَّ وحركاتهنَّ, كلُّ ذلك مقدَّرٌ وفق ما يريده الله ويحدِّده. والله تعالى {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} فالخلق له كلُّه وحده, والأمر له كلُّه وحده. وقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي: تبارك وتقدَّس, وأصل تبارك تفاعل إذا كثرت بركاته وخيراته. وبعد أن عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - بنفسه أمرنا أن ندعوه تضرعاً وخفية, وأمرنا أن ندعوه خوفاً وطمعاً, فالدعاء هو العبادة كما صحَّ في الحديث, والله هو الذي يستحقُّ أن يعبد. وقد أمرنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أن ندعوه تضرُّعاً وخفيةً في قوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] ومعنى {تَضَرُّعًا} أي: متذللين بخشوعٍ واستكانةٍ, ومعنى. . . {وَخُفْيَةً} أي: سراً وهمساً, ندعوه راجين رحمته خائفين عذابه. والدعاء الذي أمرنا الله به هو العبادة, وقد كان دعاء الصالحين خفيةً, فزكريا عليه السَّلام {نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3]. وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} فالله لا يحبُّ المعتدين, لا في الدعاء ولا في غيره, ومن الاعتداء في الدعاء رفع الصوت بالدعاء, أو

(1/132)


الدعاء بأن يؤتى الداعي مقام الملائكة ومقام الرُّسل والأنبياء, ومن ذلك ما رواه أبو داود أنَّ عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: «اللهم إنِّي أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها» فقال: أي بنيَّ, سل الله الجنَّة, وتعوذ به من النَّار, فإنِّي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّه سيكون في هذه الأمَّة قومٌ يعتدون في الطهور والدُّعاء» [صحيح سنن أبي داود: 87]. وأمرنا ربُّنا أن ندعوه سبحانه خوفاً وطمعاً {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]. أمرنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أن ندعوه جامعين بين الخوف منه والطَّمع في ثوابه. وجمع الله - تعالى - بين الخوف والطَّمع, ليكون العبد خائفاً راجياً, كما قال تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] فإنَّ موجب الخوف معرفة سطوة لله وشدَّة عقابه, وموجب الرجاء معرفة رحمة الله وعظيم ثوابه, قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49 - 50]. ومن عرف فضل الله رجاه, ومن عرف عذابه خافه. ويستحب أن يكون العبد طول عمره يغلب عليه الخوف, ليقوده إلى فعل الطاعات وترك السيئات, وأن يغلب عليه الرجاء عند حضور الموت, لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يموتنَّ أحدكم إلاَّ وهو يحسن الظَّن بربِّه» [التسهيل, لابن جزي: 2/ 35].

(1/133)


5 - إرسال الله - تعالى الرياح بشرًا بين يدي رحمته: ذكر الله تعالى في الآية التالية وجهًا خامساً عرَّفنا فيه بنفسه, فقال: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57]. أعلمنا سبحانه أنَّه هو الذي يرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته, فترى بعض الناس يكونون في جوٍّ صافٍ, فتهبُّ عليهم الرياح نديَّةً رطبةً, فيقولون لك: هذه الرياح تبشِّر برحمة الله, أي: بالمطر, فلا يمضي طويل وقتٍ, حتى ترى السحاب الثقال آتٍ من بعيدٍ, تسوقه الرياح, فتهطل الأمطار, فيحيي الله بذلك المطر بلادًا ميتة, يحييها بالنبات, ومثل هذا الإحياء للأرض الميتة بالمطر, يحيي يوم القيامة العباد, فإذا شاء الله إحياء الخلق في يوم القيامة أنزل عليهم مطرًا كمنيِّ الرجال, فينبت الناس من الأرض, حتى إذا تمَّ خلقهم نفخ في الصور, فعادت أرواح الناس إلى أجسادهم, فقاموا لربِّ العالمين. خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا بنفسه في هذه الآيات عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى بنفسه في هذه الآيات بإيراد الأمور التالية: 1 - خلق الله ربُّنا تبارك وتعالى السموات والأرض في ستة أيام, ولولا أنَّ الله تعالى أعلمنا بهذا العلم ما علمناه, ونحن لا ندري بمدَّة كلِّ يوم من هذه الأيام, فلم يصحَّ فيه آيةٌ ولا حديثٌ, فربنا أعلم به.

(1/134)


2 - استوى ربُّنا - تبارك وتعالى - على عرشه استواءً يليق بجلاله سبحانه وتعالى, وعرشه سبحانه سرير ملكه, وهو أعظم مخلوقاته, والاستواء معلومٌ والكيف مجهولٌ, والإيمان به واجبٌ, والسؤال عن الكيف بدعةٌ. 3 - الله تعالى يغشي الليل النهار, فبعد ضياء النهار يأتي الليل الذي يكسو الأرض بظلامه. 4 - سخَّر ربُّ العزَّة لعباده الشمس والقمر والنجوم بأمره, ولو لم يخلق الله تبارك وتعالى لنا هذه المخوقات لما صلحت حياتنا فوق ظهر هذه الأرض. 5 - الله - تبارك وتعالى - له الخلق والأمر, فالله تعالى هو الذي أنشأ هذا الوجود من العدم, وكما له الخلق له الأمر بنوعيه الديني الذي يحوي الشرائع, والقدري الذي يكون به الخلق. 6 - الله - تبارك وتعالى - الذي يرسل الرياح الرَّطبة الندية بين يدي السحاب الثقال الممتلئ بالمطر, ويسوق الله تلك الرياح تبشِّر بقرب رحمة الله بنزول المطر, ويرسل الله تعالى السحب المحمَّلة بالمطر إلى بلد أمحلت أرضه, وجفت مياهه, ومات نباته, وذوت أشجاره, فأحياه الله, فنما زرعه, واخضرَّ شجره, وخرجت ثماره, وكما أحيا الله الأرض بالماء الهاطل من السماء, يحيي العباد في يوم المعاد. * * *

(1/135)


 الموضع القرآني [27]

ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها أولًا: تقديم عرَّفنا ربُّنا العليُّ الأعلى في هذه الآيات أنَّ له الأسماء الحسنى, وعرفنا بأنَّه استأثر بعلم الساعة, وعرفنا بأنه خلقنا من نفسٍ واحدةٍ, وخلق منها زوجها, وبثَّ من آدم وحواء جميع من خلق من بني آدم. ثانيًا: آيات هذا الموضع من سورة الاعراف تتكون آيات هذا الموضع التي عرَّفنا الله تبارك وتعالى فيها بنفسه من ثلاث آيات, وهذه الآيات الثلاث وردت متفرقةً في سورةٍ واحدةٍ هي سورة الأعراف. الآية الأولى قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180].

(1/136)


الآية الثانية قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجلَّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَاتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187]. الآية الثالثة قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]. ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات الحسنى: تأنيث الأحسن, وأسماء الله تعالى كلُّها حسنى, وهي أفضل من كلِّ شيءٍ في الحسن والجمال. ذروا: اتركوا ودعوا. يلحدون: الذين يميلون عن القصد ويجورون عنه. ملكوت: ملك. الساعة: يوم القيامة. مرساها: وقت وقوعها. لا يجلِّيها, أي: لا يوجدها, ولا يظهرها لوقتها إلا الله. ثقلت: عظمت. بغتةً, أي: فجأة. كأنك حفيٌّ عنها, أي: كأنك عالم بها, أو كأنك استقصيت أخبارها. من نفس واحدة: نفس آدم عليه السَّلام.

(1/137)


رابعًا: شرح آيات هذا الموضع عرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - بنفسه في هذه الآيات الثلاث ببيان ما يأتي: 1 - الله - تعالى - له الأسماء الحسنى: عرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنَّ له الأسماء الحسنى {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180]. والحسنى: تأنيث الأحسن, وهي صيغة تفضيلٍ, وأسماء الله تعالى أحسن شيءٍ, وهي أفضل من كلِّ شيءٍ في الحسن والجمال, وأسماء الله تدلُّ على صفات كماله وجلاله تبارك وتعالى. وأسماء الله التي أنزلها ربُّنا في كتابه وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - تسعةٌ وتسعون اسماً, فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - , أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ لله تسعةً وتسعين اسماً, مائةً إلا واحداً, من أحصاها دخل الجنَّة» [البخاري: 2736. مسلم: 2677]. وفي رواية: «لله تسعةٌ وتسعون اسماً من حفظها دخل الجنَّة, وإن الله وترٌ يحبُّ الوتر» [البخاري: 6410. مسلم: 2677, واللفظ لمسلم]. وأسماء الله - تعالى - التي علَّمها بعض خلقه, أو استأثر بها في علم الغيب عنده أكثر من ذلك, فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما أصاب أحداً قطُّ همٌّ ولا حزنٌ فقال: اللهمَّ, إنِّي عبدك, ابن عبدك, ابن أمتك, ناصيتي بيدك, ماضٍ فيَّ حكمك, عدلٌ فيَّ قضاؤك, أسألك بكلِّ اسمٍ سمَّيت به نفسك, أو أنزلته في كتابك, أو علَّمته أحداً من خلقك, أو استأثرت به في علم الغيب عندك, أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي, ونور صدري, وجلاء حزني, وذهاب همِّي - إلا أذهب الله همَّه وحزنه, وأبدله مكانه

(1/138)


فرحاً, فقيل: يا رسول الله, أفلا نتعلَّمها؟ فقال: «بلي, ينبغي لمن سمعها أن يتعلَّمها» [قال محقق تفسير ابن كثير: جيد. أخرجه أحمد (2/ 391 و452) وأبو يعلى (5297) والحاكم (1/ 509) وابن حبان (972) من طرق عن فضيل بن مرزوق به, وإسناده صحيح]. وقوله تعالى: {فادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] أي: فادعوه بهذه الأسماء, فيدعو المرء بالأسماء التي تناسب حاله, فيقول: يا الله, يا رحمن, يا رحيم, يا أحد, يا فرد, يا صمد, يا قويُّ, ولا يدعو الله بغير أسمائه, فلا يقول: يا سخيُّ, يا شيء, يا فاهم, يا جلد. وقوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] , وقوله {وَذَرُوا} معناه: اتركوا, وصيغة الأمر هنا للتهديد, وأصل اللَّحد: الميل عن القصد والجور عنه. والذين يلحدون في أسماء تعالى الذين يميلون فيها عن الحقِّ, فمن أسماء الله تعالى: الواحد, {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} [الصافات: 4]. وقد ألحد المشركون في هذا الاسم: فقالوا: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]. ومن إلحادهم اشتقاقهم اسم اللات لصنم من أصنامهم من اسم: الله, واشتقاقهم العُزَّى من اسم العزيز, واشتقاقهم مناة من المنان. وقوله: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: سيجزيهم ربُّ العزة تبارك وتعالى يوم القيامة جزاء ما كانوا يعملونه في الدنيا, ويدخل في ذلك إلحادهم في أسمائه.

(1/139)


2 - لا يعلم وقت وقوع الساعة إلا الله تعالى: سأل كفار قريشٍ رسولنا - صلى الله عليه وسلم - عن الوقت الذي تقع فيه الساعة, فأمر الله تعالى رسوله أن يخبر النَّاس أنَّه لا يعلم وقت وقوعها إلا الله سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجلَّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَاتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187]. والساعة التي سأل كفار قريشٍ الرسول عن وقت وقوعها هي يوم القيامة, والساعة في الأصل تطلق على كلِّ وقتٍ من الزَّمن, وغلب إطلاقها على يوم القيامة, وكان كفار قريشٍ يسألون عنها إنكاراً لها, كما قال تعالى: {يَسْتَعْجلَّ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا} [الشورى: 18] , وقال: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الملك: 25] وقوله: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} أي: متى يكون وقوعها. وقد أمر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للسائلين {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجلَّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187]. أي: قل لهم: إنَّما علمها عند الله, و {إِنَّمَا} أداة حصرٍ, أي: علمها عند الله, فلا يعلمها لا ملكٌ مقربٌ, ولا نبيٌّ مرسلٌ, وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لجبريل عندما جاءه وهو في جمع من الصحابة, فسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان, ثم سأله عن الساعة, قال في الجواب: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل» فالمسئول وهو أفضل الأنبياء والرسل لا

(1/140)


يعلم متى تقع والسائل وهو جبريل وهو أفضل الملائكة لا يعلم أيضًا متى تكون, وقوله: {لَا يُجلَّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} أي: لا يوجدها ويظهرها في وقتها أحدٌ غيره وقوله تعالى: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 187]. أي: عظمت على أهل السموات والأرض, لأنَّ ما فيها من الأهوال لا تطيقه السموات والأرض, ولا أحد ممن فيهما, فمن ذلك انشقاق السماء , وانتشار النجوم, وتكوير الشمس, وتسيير الجبال. وقوله تعالي: {لَا تَاتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [الأعراف: 187] أي: لا تقوم الساعة على الناس إلا فجأةً, وقد أخبرنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الساعة تقوم والناس في أعمالهم وأشغالهم, فتأخذهم من غير إمهال, فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - , أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتَّى تطلع الشمس من مغربها, فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون, فذلك حين {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] ولتقومنَّ الساعة وقد نشر الرَّجلان ثوبهما بينهما, فلا يتبايعانه ولا يطويانه, ولتقومنَّ الساعة وقد انصرف الرَّجل بلبن لقحته فلا يطعمه, ولتقومنَّ الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه, ولتقومنَّ الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها» [البخاري: 6506. مسلم: 2954. واللفظ للبخاري]. وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} [الأعراف: 187] أي: يسألونك عن الساعة, كأنَّك استحفيت عنها, أي: علمت وقتها, أو كأنَّك عالم بها, قد عرفت بها, واستقصيت أخبارها.

(1/141)


وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187] , أمر الله تعالى عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للنَّاس السائلين عن وقت الساعة مؤكِّداً ما سبق أن أخبرهم به أنَّ علم وقت الساعة استأثر الله بعلمه, كما قال ربُّ العزَّة: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 63]. ولذا فإنَّ الذين حدَّدوا وقتاً لوقوعها من أهل العلم خالفوا الآيات والأحاديث الصحيحة المبيِّنة أنَّ وقت الساعة أمره إلى الله عزَّ وجلَّ, لا يعلمه غيره. 3 - خلق الله تعالى الناس جميعاً من آدم, وخلق من آدم زوجه حواء: أعلمنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنَّه خلقنا من نفس واحدة, وجعل من هذه النفس الواحدة زوجها, ليسكن إليها {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]. والنفس الواحدة التي خلق الناس جميعا منها آدم عليه السَّلام, والزوج الذي جعله الله من آدم حواء, ومعنى: {وَجَعَلَ} خلق. وقوله: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} أي: ليسكن الرجل إلى زوجته, ويطمئنَّ إليها, كما قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]. وقد جعل الله - تعالى - من هذين الزوجين: آدم وحواء الرجال والنساء جميعاً {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1].

(1/142)


خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا بنفسه في هذه الآيات: عرَّفنا ربُّنا في هذا الموضع من الآيات بنفسه ببيان ما يأتي: 1 - الله تعالى له الأسماء الحسنى التي لا أحسن منها, وأمرنا ربُّنا أن ندعوه بهذه الأسماء. 2 - الله تعالى استأثر بعلم وقوع الساعة, فلا يعلم بوقت وقوعها ملكٌ مقربٌ ولا نبيٌّ مرسل. 3 - الله تعالى الذي خلق الناس جميعاً من نفسٍ واحدةٍ, وخلق من هذه النفس الواحدة زوجها حواء ليسكن إليها. * * *

(1/143)


 الموضع القرآني [28]

الله الذي يحيي ويميت عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - بنفسه في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [التوبة: 116]. عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - في هذه الآية الكريمة أنَّ له ملك السموات والأرض, ومالك السموات والأرض هو خالقهما الذي لم يشركه أحدٌ في خلقهما, وكان أهل الجاهلية يقرون بهذه الحقيقة, فلا يجعلون لله شريكاً في خلقه السموات والأرض, قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 - 89].

(1/144)


وعرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنه يحيي ويميت سبحانه, فهو مما اختُصَّ به, لا يشركه في ذلك أحد, كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [المالك: 2]. وعرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنه ليس لنا من دونه من وليٍّ ولا نصير, فهو الذي يتولى أمرنا سبحانه, فهو يحفظ أجسادنا وأنفسنا, ويردُّ العاديات عنَّا, وهو الذي يمدُّنا بالطعام والشراب, ويشفينا إذا مرضنا, وهو - سبحانه - الذي ينصرنا إن نحن جاهدنا في سبيله, مبتغين وجهه في جهادنا. * * *

(1/145)


 الموضع القرآني [29]

الله الذي خلق السموات والأرض أولًا: التقديم عرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - في آيات هذا النص بنفسه سبحانه وتعالى, فهو خالق السموات والأرض في ستة أيام, وهو الذي استوى على العرش سبحانه, وهو الذي يدبِّر كونه, ولا يشفع أحد عنده إلاَّ من بعد إذنه, وقد أخبرنا ربُّنا - سبحانه - بما أخبرنا به, وأمرنا بعبادته وحده لا شريك له. وعرَّفنا ربُّنا - سبحانه - أنَّ مرجع جميع العباد يوم الدين إليه, فهو - سبحانه - وحده الذي يبدأ الخلق في الدنيا, ثم يعيده في الآخرة, ليحاسب العباد عما قدَّموه, وأعلمنا سبحانه أنه هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً, وقدَّر القمر منازل لنعلم عدد السنين والحساب, وهو الذي قدَّر اختلاف الليل والنهار, وما خلق في السموات والأرض من مخلوقات لآياتٍ لقومٍ يتقون. ثانيًا: آيات هذا الموضع من سورة يونس {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا

(1/146)


تَذَكَّرُونَ * إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ * هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس: 3 - 6]. ثالثًا: تفسير مفردات هذا الموضع استوى على العرش: أي: ارتفع وعلا واستقرَّ, وعرش الرحمن سرير ملكه سبحانه, وهو أجلُّ مخلوقاته. ما من شفيعٍ إلا من بعد إذنه, أي: لا يشفع عنده أحد إلا بعد أن يأذن الله له. بالقسط: بالعدل. جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً: جعل الله الشعاع الصادر عن الشمس ضياءً, لأنَّ الشمس مشتعلةٌ, وجعل الشعاع الصادر عن القمر نوراً, فالقمر ليس مشتعلاً, ونوره انعكاسٌ لضوء الشمس عليه. اختلاف الليل والنهار: تعاقبهم, إذ هب أحدهما جاء الآخر رابعًا: شرح آيات هذا الموضع حدَّثنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - عن نفسه في هذه الآيات, وعرفنا على فعله في خلقه, وبيَّن لنا بما يأتي:

(1/147)


1 - الله - تبارك وتعالى - خلق السموات والأرض في ستة أيام: عرَّفنا ربُّ العزَّة بنفسه تبارك وتعالى فقال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [يونس: 3]. وعرَّفنا الله تعالى في هذه الآية والآيات التالية لها بنفسه سبحانه, حتَّى لو أنَّ واحداً سألك: من ربُّك؟ صح أن تجعل هذه الآيات جواباً. وأوَّل أمر عرَّفنا تبارك وتعالى أنَّه فعله سبحانه خلقه السموات والأرض في ستَّة أيام, وهذه الحقيقة مبثوثةٌ كثيراً في كتاب الله الكريم, فقد خلق سبع أرضين, وخلق سبع سمواتٍ, وخلقهما في ستة أيامٍ, والله تعالى أعلم بمدَّة كلِّ يوم من هذه الأيام, والسموات والأرض من أعظم آيات الله, وفيهما من المخلوقات والدلائل والآيات ما يبهر العقول, ويشغل القلوب. 2 - استواء ربُّنا على عرشه وتدبيره الأمر: وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} العرش أعظم مخلوقات الرحمن, وقد استوى الرحمن عليه سبحانه, استواءً يليق بجلاله, ليس كمثله شيء, وهو السميع البصير, وقوله {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} أخبر ربُّ العباد سبحانه وتعالى أنه سبحانه يدِّبر الأمر في كونه, فهو قائمٌ سبحانه وتعالى على كلِّ شيءٍ, لا فرق بين الصغير والكبير, كما قال سبحانه: {لَا يَعزَّبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 3] وقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا

(1/148)


وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6] , وقال: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]. 3 - لا يشفع أحدٌ عند الله إلا بإذنه: وقوله: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} أي: لا يشفع عنده ملكٌ مقربٌ ولا نبيٌّ مرسلٌ إلا من بعد أن يأذن الله تعالى له, كما قال ربُّ العزَّة سبحانه وتعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَاذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]. وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] , وشفعاء المشركين آلهة المشركين التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [يونس: 18]. وقوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} أشار ربُّ العزَّة سبحانه إلى نفسه بقوله: {ذَلِكُمُ} وأمرنا بعبادته وحده لا شريك له, قائلاً: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}. 4 - مرجع الناس جميعاً إلى الله تعالى: عرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنَّ مرجع الناس جميعاً إليه {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ

(1/149)


وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس: 4]. أخبرنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنَّ مرجعنا جميعاً إليه, وهذا وعد حق لا يتخلَّف بحالٍ من الأحوال, كما قال سبحانه: {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 94 - 95]. وقوله: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي: يبدأ خلق العباد في الحياة الدنيا, ثم يعيد خلقهم في الحياة الآخرة. {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} أي: يثيب المؤمنين الذين عملوا الأعمال الصالحة بالعدل والجزاء الأوفى, {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُون} أي: ويجزي الذين كفروا بالله ورسوله, بإسقائهم شراباً تناهى حرُّه, ويذيقهم العذاب الأليم في النار بسبب كفرهم وضلالهم. 5 - الله تعالى الذي خلق لنا الشمس ضياء والقمر نورا: عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنه هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً, فقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس: 5].

(1/150)


يخبرنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنه جعل الشعاع الصادر عن الشمس ضياءً, وشعاع القمر نوراً, ففاوت بينهما لئلا يشتبها, وجعل للشمس سلطاناً بالنهار, وسلطان القمر بالليل, وقدَّر القمر منازل {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} فأول ما يبدو صغيراً, ثم يتزايد نوره وجرمه, حتى يكتمل, ويصبح بدراً, ثمَّ يشرع في النقص حتى يرجع إلى حاله الأوَّل في تمام الشهر, وبالشمس تعرف الأيام, وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام, قال تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 39 - 40]. وقال: {الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعزَّيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96]. وقوله تعالى: {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} لم يخلق ربُّ العزَّة ذلك عبثاً, بل لحكمةٍ عظيمةٍ, وحجَّةٍ بالغةٍ, كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27]. وقوله تعالى: {يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس: 5] أي: نُبيِّن الحجج والأدِّلة {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}. 6 - من الآيات الدالة على الله - تعالى - اختلاف الليل والنهار: آخر ما عرضه ربُّنا علينا في تعريفنا بنفسه قوله تعالى: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس: 6].

(1/151)


والمراد باختلاف الليل والنهار, أي: تعاقبهما إذا ذهب هذا جاء هذا, وهذا كقوله تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40] , وقال: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف: 54]. وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: أي: من الآيات الدالة على عظمته تعالى, وهذا كقوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يوسف: 105] وقوله: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] , وقوله: {يَتَّقُونَ} أي: يخافون الله تعالى. خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا بنفسه عرَّفنا ربُّنا عزَّ وجلَّ بنفسه - تبارك وتعالى - ببيان ما يأتي: 1 - الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام. 2 - الله استوى على العرش بعد خلقه السموات والأرض, والعرش سرير ملكه. 3 - الله قائم على الكون يدبر أموره, ويصرِّف شؤونه. 4 - لا يشفع عند الله أحدٌ يوم القيامة إلا بعد أن يأذن له. 5 - مرجع العباد جميعاً إلى ربِّ العزة في يوم القيامة. 6 - الله الذي ابتدأ خلق عباده في الحياة الدنيا, ثم يعيد إحياءهم بعد موتهم يوم القيامة.

(1/152)


7 - الله تعالى يحاسب عباده يوم القيامة, والذين كفروا لهم عذاب أليم. 8 - الله هو الذي جعل لنا الشمس ضياء, لأنه منبعث عن اشتعال الشمس, وجعل لنا القمر نوراً, لأنه انعكاسٌ لنور الشمس, وقدَّر القمر منازل, لنعلم عدد الشهور والأعوام. 9 - الله الذي خلق الليل والنهار, وجعلهما يتعاقبان, يذهب هذا ويأتي هذا, وخلق في السموات والأرض كثيراً من الآيات. * * *

(1/153)


 الموضع القرآني [30]

الله تبارك وتعالى الذي يرزقنا من السماء والأرض عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - في هاتين الآيتين بنفسه, فقال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 31 - 32]. وقد وجَّه ربُّ العزة سبحانه في هاتين الآيتين جملةً من الأسئلة التقريرية يدلُّ الإقرار بها على استحقاق الله تعالى وحده أن يعبد دون سواه, فقال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31].

(1/154)


وجَّه الله - تبارك وتعالى - في هذه الآية خمسة أسئلةٍ, كلُّها يدلُّ على أن الله سبحانه هو المستحقُّ لما سأل عنه, فالمشركون وإن كانوا يشركون بتوحيد الألوهية, لكنَّهم يقرُّون بتوحيد الربوبية, ولا يشركون به معه غيره, فهم يقرُّون بأنَّ الله وحده الذي ينزل لهم الرزق من السماء, فهو الذي ينزل الماء من السماء, وينبت النبات من الأرض, وهم يقرُّون من غير خصامٍ أنَّه سبحانه الذي يملك السمع والأبصار, وخصَّ السمع والأبصار بالذكر لما فيهما من الصنعة العجيبة, والقدرة الباهرة العظيمة, وهو سبحانه الذي يخرج الحيَّ من الميت, فالإنسان الحيُّ أخرج من النطفة, والطير من البيضة, والنبات من الحبَّة {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} أي: يخرج النطفة من الإنسان الحيِّ, والبيضة من الطير, والحبَّة من النبات, {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} أي: من يقدِّر الأمور ويقضيها. ولما كانت إجابة مشركي قريش لا تختلف في أنَّ الله هو الفاعل لذلك وحده لا شريك له قال عزَّ وجلَّ: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32]. ومن نظر في إجابة المشركين علم من هذه الإجابة أنَّه يلزمهم من الإقرار بتوحيد الربوبية الإقرار بتوحيد الألوهية, وإلاَّ وقعوا في التناقض, يقول الله تعالى: فذلكم الله الذي أقررتم باستحقاقه ما أقررتم به هو ربُّكم الحقُّ الذي يستحقُّ أن يعبد دون غيره, فإن عبدتم غيره فقد ضللتم, فأنَّى, أي: فكيف تصرفون عن الحقِّ إلى الباطل!!

(1/155)


 الموضع القرآني [31]

الله تعالى الذي جعل لنا الليل لنسكن فيه عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى بنفسه في آيات هذا النصِّ, فقال سبحانه: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يونس: 66 - 68]. قرَّر ربُّ العزَّة - تبارك وتعالى - أنَّ {لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا

(1/156)


الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [يونس: 66] أي: له السموات والأرض ومن فيهما, ومن ذلك ما يزعم الكفار أنَّهم يعبدونه, من الشمس والقمر والنجوم والأصنام والأوثان, فكلُّها مخلوقةٌ مربوبةٌ لله رب العالمين, ولذلك فإنَّ المشركين لا يدعون على الحقيقة آلهةً من دون الله تعالى {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} وإنَّما يتبعون الظنَّ, فالشمس ليست في الحقيقة إلهاً, واللات ليست في الحقيقة إلهاً, والعزَّى ليست إلهاً, ومناة ليست إلهاً, ولكنَّها في الحقيقة حجارةٌ أو أشجارٌ, أو صورةٌ لمخلوقاتٍ, لا تضرُّ ولا تنفع, وقوله تعالى: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} أي: يكذبون. وعرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنه {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس: 67]. جعل الله الليل لعباده ليسكنوا فيه, أي: يستريحون فيه مما عانوه في النهار من تعبٍ ونصبٍ وإعياء, قال القرطبي: «{وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} أي: مضيئاً, لتهتدوا به في حوائجكم, والمُبصر الذي يُبصر, والنهار يُبصر فيه, وقال قطرب: يقال: أظلم الليل, أي: صار ذا ظلمة, وأضاء النهار وأبصر, أي: صار ذا ضياءٍ وبصرٍ, {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ} أي: علاماتٍ ودلالاتٍ, {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي: سماع اعتبارٍ» [تفسير القرطبي: 4/ 659]. أكذب الله - تعالى - المشركين في نسبتهم الولد إلى ربِّ العزَّة سبحانه, فقال: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا

(1/157)


فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يونس: 68]. أخبرنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنَّ الكفرة المشركين زعموا كاذبين أنَّ الله تعالى اتخذ ولداً, فاليهود قالوا: عزيرٌ ابن الله, والنصارى قالوا: المسيح ابن الله, وعرب الجاهلية, قالوا: الملائكة بنات الله, وقد نزَّه ربُّ العزة نفسه عن الولد بقوله: {سُبْحَانَهُ} وقوله تعالى: {هُوَ الْغَنِيّ} أي: هو الغنيُّ عن الولد, {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي: له كلُّ ما في السموات والأرض فإنَّه مملوكٌ, خاضعٌ له, يسبِّح له, ويدعوه وحده, فأنَّى يكون له ولدٌ سبحانه. وقوله تعالى: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} أي: هل عندكم من دليلٍ وحجَّةٍ وبرهانٍ يدلُّ على أنَّ العزير أو عيسى أو الملائكة أولاد الله تعالى, إنَّ دعواهم دعوى باطلةٌ, لا تقوم على دليلٍ, ولا حجَّةٍ ولا برهانٍ, ولذلك فإنَّ قولهم قولٌ قائمٌ على الجهل {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. وهؤلاء الجهلة الضالُّون الذين يفترون على الله الكذب بنسبتهم الولد إلى الله تعالى لا يفلحون, ولا يفوزون {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [يونس: 69]. وقد أعلمنا ربُّنا - سبحانه وتعالى - أنَّه سيمتِّع هؤلاء الذين افتروا عليه الكذب متاعاً قليلاً في هذه الحياة, ثم يقبض أرواحهم, ويصيرون إليه, ثم يذيقهم العذاب الشديد بسبب كفرهم وضلالهم {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس: 70]. * * *

(1/158)


 الموضع القرآني [32]

أرزاق الدواب على الله تعالى عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - على نفسه في هاتين الآيتين, فقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [هود: 6 - 7]. عرَّفنا ربُّنا - سبحانه وتعالى - أنَّه {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6]. والدابة كلُّ حيوانٍ يدب على الأرض, فيدخل فيه الإنسان والحيوان والطيور, وحقيقة الرزق: ما يتغذَّى به الحيوان الحيُّ, ويكون فيه بقاء روحه, ونماء جسده. وقد أعلمنا ربُّنا عزَّ وجلَّ في هذه الآية أنَّه متكفلٌ بأرزاق المخلوقات التي تدبُّ على الأرض, صغيرها وكبيرها, بحريِّها وبريِّها, {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا

(1/159)


وَمُسْتَوْدَعَهَا} , أي: يعلم مسارها في النهار, ومأواها في الليل, وقوله: {كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6] فالله - تعالى - يعلم ذلك, وقد كتبه في كتابٍ مبين, أي: في اللوح المحفوظ. وعرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنه: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]. هذا العلم الذي حوته هذه الآية من العلم الذي لا يعلمه البشر إلا من قبل الوحي الإلهيِّ الربانيِّ, وقد أعلمنا ربُّنا في هذه الآية أنَّه خلق السموات والأرض في ستة أيامٍ, والله أعلم بمقدار تلك الأيام, وأخبرنا ربنا عزَّ وجلَّ أن عرشه كان على الماء, فالعرش الذي استوى عليه كان مخلوقاً قبل السموات والأرض, وكان هذا العرش على الماء, فالماء كان موجوداً قبل السموات والأرض وقد جاءت عدَّة أحاديث تدلُّ على ما دلَّت عليه الآية, وفيها مزيدٌ من التفصيل, فمن ذلك ما رواه البخاري عن عمران بن حصينٍ - رضي الله عنه - , قال: دخلت على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعقلت ناقتي بالباب, فأتاه ناسٌ من بني تميم, فقال: «اقبلوا البشرى يا بني تميم». قالوا: قد بشَّرتنا فأعطنا - مرتين - ثمَّ دخل عليه ناسٌ من أهل اليمن, فقال: «اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميمٍ». قالوا: قد قبلنا يا رسول الله, قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر, قال: «كان الله ولم يكن شيءٌ غيره, وكان عرشه على الماء, وكتب في الذِّكر كلَّ شيءٍ, وخلق السَّموات والأرض». فنادى منادٍ: ذهبت ناقتك يا بن الحُصين. فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السَّراب, فو الله لوددت أنِّي كنت تركتها.] البخاري: 3192].

(1/160)


وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنةٍ» وقال: «وعرشه على الماء» [مسلم: 2653]. وقوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} أي: ليختبركم أيُّكم أحسن عملًا، ولم يقل: أيكم أكثر عملًا، ولا يكون العمل حسنًا حتى يكون خالصًا لله عزَّ وجلَّ وعلى شريعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمتى فقد العمل واحدةً من هذين الشرطين بَطُلَ وحَبِطَ. * * *

(1/161)


 الموضع القرآني [33]

الله تبارك وتعالى رفع السموات والأرض بغير عمد أولًا: التقديم (1) ثانيًا: آيات هذا الموضع من سورة الرعد {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجلَّ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وأَنْهَارًا ومِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ _________ (1) لم تتم كتابة هذا التقديم وترك مكانه بياضًا، بسبب وفاة المؤلف.

(1/162)


وجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وزَرْعٌ ونَخِيلٌ صِنْوَانٌ وغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ واحِدٍ ونُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 2 - 4]. ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات بغير عمدٍ: الأعمدة الأساطين الذي يقوم عليها البناء. استوي على العرش، أي: علا وارتفع واستقرَّ، وعرش الرحمن سرير ملكه. مدَّ الأرض: وسَّعها وبسطها. رواسي: الرواسي الجبال. الزوجان: الزوج الواحد، والزوجان الاثنان. يغشى، أي: يغطي. قطع متجاورات: أراضٍ يجاور بعضها بعضًا. نخيل صنوان وغير صنوان: الصنوان جمع صنو، وهنَّ النخلات يجمعهن أصل واحد، وغير صنوان، أي: متفرقات. رابعًا: شرح آيات هذا الموضع عرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - بنفسه في آيات هذا الموضع، فقال: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَي عَلَى العَرْشِ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجلَّ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2].

(1/163)


أعلمنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنَّه وحده الذي رفع السموات بغير عمدٍ، والسموات كما أخبرنا - سبحانه - في غير موضع في كتابه سبعٌ بعضها فوق بعض، وقد أخبرنا ربُّنا في هذه الآية أنه {رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} أي: رفعها بغير عمدٍ، أي بغير أساطين نراها، وقيل: رفعها بأعمدة لا نراها. والسماء الدنيا محيطةٌ بالأرض من جميع جهاتها، والسماء الثانية محيطة بالسماء الأولى، {ثُمَّ اسْتَوَي عَلَى العَرْشِ} [الرعد: 2] أي: استوى - سبحانه - على عرشه استواءً يليق بجلاله وعظمته، ومعنى استوي علا واستقرَّ وارتفع، ومعنى الاستواء معلومٌ، ولكن كيفية الاستواء مجهولةٌ. وقوله: {وسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجلَّ مُّسَمًّى} [الرعد: 2] أي: ذلَّل سبحانه الشمس والقمر، وجعلهما يجريان إلى قيام الساعة، والشمس والقمر أظهر الكواكب السيارة، وإذا جاء يوم القيامة، فإن الشمس تكوُّر ويذهب ضوؤها، والقمر يخسف ويزول، وقوله: {يُدَبِّرُ الأَمْر} يدبر أمور الآخرة والدنيا وحده سبحانه، بغير شريك، ولا ظهير، ولا معين، وقوله: {يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2] أي: يبين الآيات الدالة على وحدانية الله وقدرة الله، لعلكم توقنون بلقاء ربكم إذا فصَّل لكم الآيات. وكما أعلمنا ربُّنا عزَّ وجلَّ بما سبق بيانه في السموات والأرض والشمس والقمر أعلمنا سبحانه بأنه {وهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وأَنْهَارًا} [الرعد: 3] أخبرنا سبحانه أنَّه مدَّ الأرض، أي: جعلها متسعةً ممتدةً في الطول

(1/164)


والعرض، {وجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وأَنْهَارًا} [الرعد: 3] أي: أرسى الأرض وثبَّتها بالجبال {ومِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد: 3] والزوج يطلق على الاثنين وعلى الواحد المزاوج للآخر، والمراد بالزوج الواحد، ولهذا أكَّد الزوجين بالاثنين لدفع توهم أنه أريد بالزوج هنا الواحد، فالثمرات زوجان منها الحلو والحامض، والأبيض والأسود، {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الرعد: 3] أي: جعل كلاً منهما يطلب الآخر طلبًا حثيثًا، فإذا ذهب هذا غشية هذا، وإذا انقضى هذا جاء الآخر، {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: يتفكرون في آيات الله، أي: في مدِّ الأرض، وإرسائها بالجبال، وما جعله فيها من الثمار، وتعاقب النور والظلمة. وأخبرنا ربُّنا العليُّ الأعلى سبحانه أنَّ {وفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وزَرْعٌ ونَخِيلٌ صِنْوَانٌ وغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ واحِدٍ ونُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4]. أخبرنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنَّه جعل في الأرض قطعًا متجاوراتٍ، أي: أراضي يجاور بعضها بعضًا، وفاوت بين هذه الأراضي، فجعل بعضها أرضًا طيبةً تنبت العشب، وتحفظ الماء، وجعل قطعةً مجاورة سبخةً مالحةً لا تنبت، وجعل قطعةً ثالثةً صخريةً صلدةً قاسية، وقد تتفاوت الأرض في ألوانها، وهي متجاورة، فتكون هذه بيضاء، وهذه سوداء، وهذه حمراء، وقد تكون الأرض جنانًا متنوعةً، أي: بساتين متنوعة، فتكون جناتٌ من أعنابٍ وزرعٍ، ونخيل صنوانٍ وغير صنوان، يسقى بماء واحد، أي: تكون الأرض الواحدة تنبت

(1/165)


أشجاراً شتى، فيها الخوخ والكمثرى والتفاح والبرتقال، ويحمل بعضها أكثر من بعضٍ، ويكون بعضها حلواً، وبعضها حامضاً. وقوله: {ونَخِيلٌ صِنْوَانٌ وغَيْرُ صِنْوَانٍ} والصنوان جمع صنو، وهنَّ النخلات يجمعهن أصل واحد، {وغَيْرُ صِنْوَانٍ} أي: نخلًا متفرقًا، كلُّ واحدة على حدة، يسقيها ماءٌ واحدٌ، {ونُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} أي: وتختلف طعومها فيما بينها، فهذا حلو، وذاك حامض، وهذا مِزٌّ {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي: أن ما يُحدِّث عنه ربُّ العزَّة من هذه الجنات والزروع آياتٌ لقومٍ يعقلون أي: ما يُتحدَّث عنه، وما يرونه بأبصارهم. خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا بنفسه تبارك وتعالى عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - بنفسه في هذه الآيات بإعلامنا سبحانه أنه: 1 - خلق السموات الهائلة الكبيرة الواسعة بغير أعمدة نراها، وكذلك الأرض جعلها سابحة في الفضاء. 2 - استوي سبحانه تبارك وتعالى على عرشه، وهو سرير ملكه استواءً يليق بجلاله، لا يشبهه استواء المخلوقين، وليس كمثله شيء. 3 - سخَّر الله تعالى لنا الشمس والقمر، وجعل كلاً منهما يجري إلى أجلٍ محدَّدٍ. 4 - الله - تبارك وتعالى - هو الذي مدَّ الأرض وبسطها، وجعل فيها جبالًا رواسي تثبتها، وجعل فيها الأنهار التي تسقي العباد والزروع.

(1/166)


5 - الله - تعالى - الذي أنشأ ما لا يعدُّ من الأشجار في بقاع الأرض، تخرج أنواع الثمار. 6 - الله تعالى يغشي الليل النهار، أي: يغطيه بظلامه، وذلك عندما ينقضي النهار، ويأتي الليل. 7 - الله تعالى هو الذي جعل في أرضنا قطعًا من الأراضي متفاوتة فيما بينها، فبعضها ذو خصوبة، وبعضها لا خصوبة فيه، وقد يكون غنيًا بالمعادن، وبعضها من ترابٍ وأخرى من صخورٍ. 8 - الله - سبحانه وتعالى - جعل لنا في أرضنا جناتٍ من أعناب، والأعناب أنواع شتَّى تختلف في طعومها وألوانها، وتختلف في زمن نضجها، وجعل لنا ما لا يحصى من الزرع من القمح والشعير والذرة والعدس وغيرها، والله تعالى جعل لنا النخيل صنوانًا متشابهةً فيما بينها، وغير صنوانٍ، أي: مختلفة فيما بينها، وهي مع ذلك كله تسقى بماء واحد. * * *

(1/167)


 الموضع القرآني [34]

الله يعلم ما تحمل كلَّ أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد أولًا: تقديم عرَّفنا ربُّنا - تعالى - بنفسه في هذه الآيات، ومن ذلك أنه يعلم ما تحمل كلُّ أنثى في هذا الكون الواسع العريض، ويعلم كلَّ ما يجري في الأرحام، ويعلم السر المكنون في الصدور، والحركة الخفية في جنح الظلام، ويعلم كلَّ مستخفٍ بالليل وكلَّ سارب وهامس وكلَّ جاهر، وحدَّثنا ربُّنا عن الملائكة المعقبات التي تحفظ الإنسان من أمر الله، وحدَّثنا الله تعالى عن البرق والسحاب والرعد، وهي مظاهر صنعها الله تعالى في هذا الكون الواسع العريض لحكمٍ يعلمها الله تجري في هذا الكون الواسع الكبير. وعرَّفنا ربُّنا سبحانه أنَّ له الدعوة الصحيحة الوافية، وهي دعوة الحقِّ دعوة التوحيد، ودعوة الكفار التي تتجه إلى الأصنام دعوة باطلة ضائعة.

(1/168)


وضرب الله المثل للكفار الذين يدعون غيره بطالب الماء الذي يوجِّه يديه إلى الماء فلا يبلغ الماء فاه. ويعلمنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ سبحانه - أنَّ كلَّ من في الكون خاضع لله ساجدٌ له طوعًا وكرهًا، وهو سبحانه ربُّ السموات والأرض، فكيف اتخذوا من دونه آلهة لم يَشْرَكوا الله في خلق الأرض والسماء، فالله هو الخالق لكلِّ شيءٍ وهو الواحد القهار. وضرب ربُّ العباد مثلًا للحقِّ والباطل، فالباطل هو الغثاء الذي يحمله السيل عندما تهطل الأمطار في الوديان والشعاب، ومثله مثل الزبد الذي يظهر على صهارة المعادن التي تذاب ليصاغ منها الحلي كالذهب والفضة، والحقُّ هو الماء الهاطل من السماء الذي يسير في الوديان والشعاب، وهو الذهب والفضة الذين يوقدون عليه النار. ثانيًا آيات هذا النص من سورة الرعد {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى ومَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ ومَا تَزْدَادُ وكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ القَوْلَ ومَن جَهَرَ بِهِ ومَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وإذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ ومَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن والٍ * هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وطَمَعًا ويُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * ويُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ والْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ويُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وهُوَ شَدِيدُ المِحَالِ * لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ والَّذِينَ يَدْعُونَ مِن

(1/169)


دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلَى المَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ ومَا هُوَ بِبَالِغِهِ ومَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إلاَّ فِي ضَلالٍ * ولِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا وظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ والآصَالِ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا ولا ضَرًا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى والْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ والنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ * أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ومِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ والْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد: 8 - 17]. ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات تغيض الأرحام: تنقص بذهاب بعض ما فيها. وما تزداد، أي: تنمو الأرحام وتكبر في أثناء فترة الحمل. مستخف بالليل، أي: مستتر به على وجه الخفاء. سارب: ظاهر بارز. الثقال: السحاب الممتلئ بالماء. دعوة الحق: الدعوة الصحيحة القائمة على التوحيد. بقدرها، أي: سالت الأودية بحسب ما تتسع له.

(1/170)


رابعًا: شرح هذا الموضع من الآيات عرَّفنا ربُّنا في هذه الآيات بنفسه سبحانه، وبيَّن لنا أنه الذي فعل ما يأتي: 1 - الله يعلم ما تحمل كل أنثى: أعلمنا ربُّنا عزَّ وجلَّ أنه {يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى ومَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ ومَا تَزْدَادُ وكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] وكم في الأرض من أنثى من النياق والبقر والغنم والخيل والحمير والغزلان وغيرها مبثوثةٌ في هذه الأرض الواسعة العريضة بعضها يقوم بأعماله في ظلمة الليل، وبعضها ينشط في وضح النهار لا يستخفي من أحد، وعلم الله يحيط بها، وبما تحمله في بطونها، فما تغيض الأرحام، أي: تنقصه فإن الله يعلمه، وما تزداد أرحامها فإنه يعلمه، وكلُّ شيءٍ عنده بمقدارٍ. ومن جملة أنثى الحيوان الذي يدخل في الآية، ويحيط به علم الله أنثى الإنسان. وقوله تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ} [الرعد: 9] والغيب ما غاب عنا في هذا الكون الواسع العريض، وهو لا يُحصى كثرة، والشهادة ما نشاهده من البشر والبحار والأنهار والحيوان والشمس والقمر والنجوم وغيرها، وهو قليلٌ بالنسبة لما غاب عنا، ويستوي في علم الله تعالى علمُ ما غاب عنَّا، وما نشاهده، فهما في علمه سواء، والله تعالى هو {الكَبِيرُ المُتَعَالِ} والله هو الكبير، فلا أحد أكبر منه، وهو المتعالي، أي: العالي على كلِّ شيء، فلا شيء أعلى منه.

(1/171)


وأعلمنا ربُّنا سبحانه وتعالى أنَّه يستوي في علمه الجهر والعلانية {سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ القَوْلَ ومَن جَهَرَ بِهِ ومَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10] أعلمنا ربُّنا أنه يستوي في علمه الذي يسر قوله ويخفيه، ومن يجهر به ويبديه، كما يستوي عنده سبحانه المُستخفي في ظلمة الليل، والساربُ الظاهرُ في وضح النهار، كلاهما في علمه سواء. 2 - له معقباتٌ من بين يديه ومن خلفه: أعلمنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنَّ لكلِّ واحدٍ منَّا {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]، والمعقبات ملائكةٌ وضعهم رب العزة على كلِّ واحدٍ من البشر يحفظونه من أمر الله تعالى، فلا يصل إليه سوء لا يريد الله أن يصل إليه، فإذا جاء العبد ما قدَّر الله أن يصل إليه خلُّوا بينه وبين قدر الله، وهذه الملائكة غير الملائكة الذين يحفظون على العبد أعماله صالحها وطالحها. وقوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] أي: لا يزيل الله النعم التي أنعم بها على عباده في أنفسهم وفيما حولهم حتى يعملوا بمعاصيه، ويهجموا على ما حرَّمه عليهم، عند ذلك يسلبهم الله نِعَمه، ويحلُّ بهم نِقَمه، وتتبدَّل أحوالهم. وقوله تعالى: {وإذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ ومَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن والٍ} [الرعد: 11] أي إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يحل بقومٍ نِقَمه، فلا يستطيع أن يردَّ

(1/172)


عليه أحدٌ مراده، لا من الأنس ولا من الجنِّ ولا من الملائكة، وليس لمن حلَّ بهم العذاب والٍ يتولاهم، ولا حامٍ يحميهم، ويمنع عنهم العذاب. 3 - الرعد يسبح بحمد الله والملائكة يسبحون من خيفته: أعلمنا ربُّنا - تبارك وتعالى أنَّه {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وطَمَعًا ويُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد: 12] أعلمنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنَّه هو الذي يرينا البرق خوفًا وطمعًا، والبرق اللمعان الذي يظهر في السحاب، والله تعالى يرينا البرق فنخافه، لأنه قد يتحول إلى صاعقةٍ، وقد يكون نذيرًا بسيل مدمر، {وطَمَعًا} لأنه قد يأتي بالخير، فقد يأتي بالمطر الذي يحيي الأرض بعد موتها، وقد يجري الأنهار، ويغذو العيون، ويجعلها تتدفق. والله - تبارك وتعالى - ينشئ السحاب والثقال، ينشئ السحاب الممتلئ بالماء ويصرفه إلى مختلف بقاع الأرض، فتحمل السحابة الماء فتسقي العباد والدواب والأرض، وأخبرنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أن الرعد يسبح بحمده والملائكة من خيفته {ويُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ والْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد: 13] فهذا الصوت المدوِّي الذي يأتي من الرعد هو تسبيح بحمد الله، وتسبح {الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} وأخبرنا ربُّنا عزَّ وجلَّ أنه {يُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ} أي أن الله تعالى يرسل الصواعق على من يشاء أن يصيبه بها {وهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وهُوَ شَدِيدُ المِحَالِ} [الرعد: 13] والذين يجادلون في الله أهل الشرك، يجادلون في وحدانيته، وفي استحقاقه العبادة.

(1/173)


4 - الله - تبارك وتعالى - له دعوة الحق: أخبرنا - ربُّنا - تبارك وتعالى - أنَّ {لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ والَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلَى المَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ ومَا هُوَ بِبَالِغِهِ ومَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إلاَّ فِي ضَلالٍ} [الرعد: 14]. أخبرنا الله - عزَّ وجلَّ - أن له دعوة الحقِّ، ودعوة الحقِّ دعوة التوحيد القائمة على: لا إله إلا الله، والذين يدعون من دون الله الآلهة من الأصنام والأوثان وغيرهم لا تستجيب هذه الأصنام لدعوتهم {إلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلَى المَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ ومَا هُوَ بِبَالِغِهِ} إلا كالذي يقف في أعلى البئر أو النهر ويبسط كفيه إلى الماء، يريد أن يصعد الماء إلى فمه، وليس في الماء خاصية أن يصعد إلى أعلى، ويستجيب إلى ما يريده الإنسان، ولذلك قال: {ومَا هُوَ بِبَالِغِهِ} أي: لن يصعد الماء إلى فمه، وكذلك هذه الآلهة التي يدعونها من دون الله تعالى، لا تسمع دعاءهم، ولا تجيب نداءهم، {ومَا دُعَاءُ الكَافِرِينَ إلاَّ فِي ضَلالٍ} أي: وما دعاء الكافرين إلا في ضياع، فالآلهة التي يدعونها لا تسمع ولا تجيب، ودعاء الكافرين بذلك يكون ضائعًا. وأخبرنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنه {ولِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا وظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ والآصَالِ} [الرعد: 15] أخبرنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنَّه يسجد له من في السموات والأرض طوعًا، وهؤلاء هم الملائكة ومؤمنو الأنس والجنِّ، {وكَرْهًا} وهم الكفار والمنافقون في حالات الخوف والاضطرار،

(1/174)


والله أعلم بطريقة سجودهم كرهًا، وهذا كقوله تعالى: {ولَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا} [آل عمران: 83]، أي: وله يسجد ظلال الناس بالغدوِّ في الصباح وبالآصال، والآصال جمع أصيل، أي: في آخر النهار عند انكسار الأشعة وامتداد الظلال. 5 - الله تعالى رب السموات والأرض ورب كل شيء وخالق كل شيء: أمر الله - تبارك وتعالى - أن يسأل المشركين، ويقول لهم: {مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا ولا ضَرًا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى والْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ والنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ} [الرعد: 16]. أمر ربُّ العزَّة سبحانه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يسأل المشركين، ويقول لهم: من ربُّ السموات والأرض - صلى الله عليه وسلم - وأمره أن لا ينتظر إجابتهم، بل يسارع بالإجابة ويقول: {اللَّهُ} ثم أمره أن يتبع السؤال الأول بسؤال ثانٍ، ويقول {أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا ولا ضَرًا} يقول لهم: إذا كان الله تعالى هو خالق السموات والأرض، فكيف تتخذون من دون الله أولياء، أي: شركاء، وهؤلاء الشركاء لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، فالآلهة التي يعبدونها من دون الله أصنامٌ لا تنفع ولا تضر، ثم أمر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يتبع السؤالين السابقين بثلاثة أسئلة أخرى، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى والْبَصِيرُ} يريد بالأعمى المشرك الكافر، والبصير المؤمن الموحِّد، والجواب: أنهم لا يستويان، وقوله: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي

(1/175)


الظُّلُمَاتُ} أي: هل تستوي الظلمات والنور، والجواب أنهم لا يستويان، والسؤال الأخير {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِه} أي: جعلوا أنداداً يعبدونهم معه، وقوله: {خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} والجواب: أنَّ هذه الآلهة الباطلة التي جعلوها شركاء لله تعالى في عبادته، لم تشركه في الخلق، ولذلك قال ربُّ العزة: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} قل لهم: إنَّ الله تعالى هو وحده خالق كلِّ شيء فهو خالق ما في السموات والأرض وما فيهما، وما بينهما، وهو خالق آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، وهو الواحد، أي: في ربوبيته وألوهيته وفي أسمائه وصفاته، وهو الذي قهر عباده ومخلوقاته بعزَّته وجبروته. 6 - مثل ضربه الله للحق والباطل والإيمان والكفر: قال ربُّ العزَّة تبارك وتعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17]، قال ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية الكريمة. «وهذا مثلٌ ضربه الله للحقِّ والباطل والإيمان به والكفر، يقول تعالى ذكره: مثل الحقِّ في ثباته والباطل في اضمحلاله مثل ماء أنزله الله من السماء إلى الأرض {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} يقول: فاحتملته الأدوية بمثلها، الكبير

(1/176)


بكبره، والصغير بصغره، {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} يقول: فاحتمل السيل الذي حدث عن ذلك الماء الذي أنزله الله من السماء زبدًا عاليًا فوق السيل، فهذا أحد مثلي الحقِّ والباطل، فالحقُّ هو الماء الباقي الذي أنزله الله من السماء، والزبد الذي لا ينتفع به هو الباطل. والمثل الأخر: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ} يقول جلَّ ثناؤه: ومثل آخرٌ للحق والباطل، مثل فضَّةٍ أو ذهبٍ يوقد عليها الناس في النَّار طلب حليةٍ يتخذوها أو متاع، وذلك من النحاس والرصاص والحديد، يوقد عليه ليتَّخذ منه متاع ينتفع به {زَبَدٌ مِثْلُهُ} يقول تعالى ذكره: ومما يوقدون عليه من هذه الأشياء زبدٌ مثله، بمعنى: مثل زبد السيل لا يُنتفع به ويذهب باطلًا، كما لا يُنتفع بزبد السيل، ويذهب باطلًا، ورفع «الزبد» بقوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ} ومعنى الكلام: ومما يوقدون عليه في النار زبدٌ مثل زبد السيل في بُطولِ زبدِهِ، وبقاء خالص الذهب والفضة. يقول الله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} يقول: كما مثَّل الله الإيمان والكفر في بُطولِ الكفر وخيبة صاحبه عند مجازاة الله بالباقي النافع من ماء السيل وخالص الذهب والفضة، كذلك يُمثِّلُ الله الحقَّ والباطل. {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} يقول: فأما الزبد الذي علا السيل، والذهب والفضة والنحاس والرصاص عند الوقود عليها، فيذهب بدفع الرياح وقذف الماء به، وتعلُّقه بالأشجار وجوانب الوادي. {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ} من الماء والذهب والفضة والرصاص والنحاس، فالماء

(1/177)


يمكث في الأرض فتشربه، والذهب والفضة تمكث للناس {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} يقول: كما مثَّل هذا المثل للإيمان والكفر، كذلك يُمثِّل الأمثال» [تفسير ابن جرير الطبري: 6/ 4720]. خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا تعالى بنفسه في هذه الآيات عرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - بنفسه في هذه الآيات، عرَّفنا بأنه الفاعل لما يأتي والمتصف بما يأتي: 1 - علم الله تعالى محيطٌ بكلِّ أنثى في هذه الأرض، فهو يعلم ما تحمل كلُّ أنثى في رحمها، ويعلم ما تنقصه الأرحام، كما يعلم نمو الرحم وزيادته. 2 - علم الله محيطٌ بما غاب عنَّا وما نشاهده والله تعالى الكبير المتعالي. 3 - يستوي في علم الله ما أسررنا به وأخفيناه، وما أظهرناه وأبديناه، كما يستوي في علم الله الساتر لنفسه في ظلمة الليل، والمظهر لنفسه في وضح النهار. 4 - وكَّل الله تعالى بنا ملائكة يحفظوننا، فلا يصل إلينا إلاَّ ما قدَّر الله أن يصل إلينا. 5 - الله تعالى هو الذي خلق البرق، فنراه خائفين طامعين، وهو الذي ينشئ السحاب الثقال. 6 - الرعد يسبِّح بحمد الله، والملائكة تسبح من خيفة الله تعالى، وقد يرسل الله تعالى الصواعق، فيصيب بها من شاء إصابته بها.

(1/178)


7 - الله تعالى له دعوة الحقِّ القائمة على التوحيد، والذين يدعون من دون الله من الأصنام دعوتهم باطلة. 8 - كل من في السموات والأرض يعبدون الله، ويسجدون له، طائعين أو كارهين، وكما يسجدون له تسجد له ظلالهم في الصباح والمساء. 9 - الله تعالى المتفرد سبحانه بخلق السموات والأرض، وكفار قريش كانوا يقرون بذلك، ولذا فإنهم يتناقضون عندما يتخذون من دون الله أولياء. 10 - ضرب الله تعالى مثلًا للحقِّ والباطل، بالماء الهاطل من السماء، فسالت الأودية والشعاب كلُّ بقدره، فاحتمل السيل الذي سالت به الوديان زبدًا رابيًا، ومثل ذلك الزبد الزبدُ الذي يظهر على صهارة الخامات المعدنية مثل خامات الذهب والفضة وغيرها التي يوقدون عليها النار، فالزبدُ الذي يحمله السيل والزبدُ الذي يعلو الصهارة يذهبُ ويزولُ، أما ما ينفع الناس، وهو الماء فيمكث في الأرض. * * *

(1/179)


 الموضع القرآني [35]

بعض ما سخره الله للإنسان عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - بنفسه في الآيات التاليات {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 32 - 34] عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنَّه خلق السموات بنجومها وشموسها وأقمارها، وجعلها سقفًا محفوظًا، وجعلها سبعًا طباقًا، وخلق الأرض بجبالها وسهولها، وحيوانها ونباتها، وأنزل سبحانه الماء من السماء , فأخرج به أزواجًا من نباتٍ شتى ما بين ثمارٍ وزروعٍ، مختلفة الألوان والأشكال، والطعوم والروائح والمنافع، وسخر لنا الفلك، وهي السفن لتجري في البحر بإرادته ومشيئته، فتحملنا وتحمل أثقالنا، وسخَّر لنا الأنهار تشقُّ الأرض من قطر إلى

(1/180)


قطرٍ وجعل ماءها شرابًا لنا، ولحيواناتنا، ونباتاتنا، وسخَّر لنا ربُّنا سبحانه الشمس والقمر دائبين، يسيران، ولا يقرّان ليلًا ولا نهارًا، وسخَّر لنا الليل والنهار، أحدهما لمنامنا وراحتنا، والآخر يبعثنا فيه، لنعمل ونقوم بمهامنا، وقد جعل ربُّنا سبحانه الشمس والقمر يتعاقبان، والليل والنهار يتقارضان، فتارة يأخذ هذا من هذا فيطول، ثمَّ يأخذ الآخر من هذا فيقصر. وآتانا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - من كلِّ ما سألناه إياه {وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} لقد آتانا الله تبارك وتعالى من كلِّ ما سألناه واحتجنا إليه من أنواع الطعام وأنواع الشراب وأنواع الفواكه وأنواع اللباس، وأخبرنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أننا لا نستطيع إحصاء نعمه التي أنعم بها علينا {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} ومع كثرة النعم التي أنعم بها على عباده، فإنَّ الإنسان كثير الظلم لنفسه، فبدل أن يقابل النعم بالشكر لله الواحد الأحد، إذا هو يقابلها بالكفر {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} وظلومٌ وكفَّارٌ صيغتان من صيغ المبالغة أراد الله تعالى بهما إظهار مدى ظلم الإنسان وكفره. * * *

(1/181)


 الموضع القرآني [36]

خلق الله الإنسان من نطفة أولًا: تقديم عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - في هذه الآيات بنفسه، وحدَّثنا بنعمه التي أنعم بها علينا في الأرض والسماء، ومن ذلك خلقه الأرض والسماء، وخلقنا من نطفةٍ ضعيفةٍ، وخلق لنا الأنعام، لتكون لنا مأكلًا، وصوفها ملبسًا، ونركبها في حاجاتنا، وتحمل أثقالنا. وخلق لنا ربُّنا الخيل والبغال والحمير لنركبها، ونتجمل بها، وأنزل لنا الماء من السماء لنشرب منه، ونسقي منه دوابَّنا، ونروي زروعنا، وسخَّر لنا الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم، وبثَّ لنا في الأرض ما نحتاج إليه من المنافع والمصالح , وسخَّر لنا البحر لنأكل منه اللحم الطريَّ، ونلبس مما يخرج منه من حليِّ، ونسيِّر فيه سفننا لتحملنا وتحمل تجاراتنا، وثبَّت الله العظيم الكريم سبحانه أرضنا بالجبال الرواسي، وسيَّر لنا فيها الأنهار، وجعل لنا فيها

(1/182)


الممرات والطرقات نسير فيها مشرِّقين ومغربين، وجعل لنا فيها العلامات التي تهدينا في أسفارنا، وهدانا بالنجوم في ظلمات الليل، وهو ربُّنا تبارك وتعالى الذي لا يعدُّ ولا يحصى خلقه، ولا تعدُّ نعمه، وهو العالم بنا لا يخفى عليه شيءٌ مما نسرُّ به ونخفيه، ولا ما نعلنه ونبديه سبحانه. ثانيًا: آيات هذا الموضع من سورة النحل {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَاكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَاكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ

(1/183)


وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 3 - 23]. ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات الأنعام: الجمال والأبقار والأغنام. النطفة: الحيوان المنوي الذي يخلق منه الإنسان. تريحون وتسرحون: تريحون بالعودة إلى منازلكم، وتسرحون عندما تنطلقون إلى المرعى. جائر: ظالمٌ ضالٌّ. تسيمون: ترعون أنعامكم. ذرأ: بثَّ ونشر. مواخر: تشقُّ عباب الماء. تميد: تميل وتضطرب. لا جرم: حقّاً.

(1/184)


رابعًا: شرح هذه الآيات هذه الآيات مقطع طويل من الآيات، عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - بنفسه فيها عبر النقاط التالية: 1 - خلق الله - تبارك وتعالى السموات والأرض بالحق: عرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنَّه {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 3] وعرَّفنا سبحانه وتعالى أنَّه خلق السموات والأرض خلقًا كائنًا بالحقِّ متصفًا به، وقد سبق أن بيَّنت فيما مضى في سورة الحجر أنَّ الحق هو الذي جعل السموات والأرض معبدًا تتجاوب أرجاؤه بالتقديس والتسبيح والتحميد، ويتردَّد فيه الدعاء، وتقام فيه الصلاة، وقد نزَّه الله تعالى نفسه عمَّا يشركون، أي ما يشركونه به من الأوثان والأصنام. وأخبرنا سبحانه وتعالى أنه {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [النحل: 4] أي خلقه، من حيوانٍ منويٍّ ضعيفٍ، فلما نما وكبر وأصبح إنسانًا خاصم ربَّه الذي خلقه، وكذَّبه، وحارب رسله، كما قال عزَّ وجلَّ {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 77 - 79]. وقد روى بسر بن جحاشٍ قال: بصق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كفه، ثمَّ قال: «يقول الله تعالى: ابن آدم، أنَّى تعجزني، وقد خلقتك من مثل هذه؟ حتَّى إذا

(1/185)


سوَّيتك, فعدلتُك مشيت بين بُرديك, وللأرض منك وئيدٌ, فجمعت ومنعت, حتَّى إذا بلغت الحلقوم, قلت: أتصدَّق؛ وأنَّى أوان الصدقة» [قال محقق ابن كثير (3114): أخرجه ابن ماجه وأحمد وصحح البوصيري إسناده في الزوائد, وانظر «الصحيحة» (1099)]. وأعلمنا سبحانه وتعالى أنَّه خلق لنا الأنعام, لمصالح كثيرةٍ حدَّثنا ربُّنا عنها {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَاكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 5 - 8]. والأنعام هي الإبل والبقر والغنم, وقد جعل الله تعالى لنا فيها الدفء, فالبشر يصنعون من أصوافها وأوبارها وأشعارها ملابس يتجملون بها, ويصنعون ملابسهم التي تقيهم البرد, ويصنعون منها خيامهم التي تؤويهم في الحرِّ والقرِّ, وجعل لنا فيها منافع كثيرةً, وجعل لحمها طعاماً لنا, وجعل لنا فيها جمالاً حين نريح وحين نسرح, أي حين نرجع بها من المرعى عشياً, {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} أي: غدوة حين نبعثها إلى المرعى, {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} والأثقال تتمثل بالأمتعة وأنواع البضائع والأثاث التي يرغب الناس بنقلها من مكانٍ إلى مكان, تحملها الإبل إلى بلادٍ بعيدة, لم نكن بالغيها إلا بشقِّ الأنفس, نسافر بها إلى الحجِّ والعمرة, أو ننتقل للتجارة أو الزيارة أو السياحة, وعقَّب ربُّنا - تبارك وتعالى - على ذلك

(1/186)


بقوله: {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} لرؤوف رحيم بكم, ومن أجل ذك سخر لكم هذه الأنعام. ثم أخبرنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنَّه سخَّر لنا {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]. فالخيل والبغال والحمير تستعمل لأمرين: الأول: ركوب بني آدم لها. والثاني: أنَّ في اقتنائها وركوبها زينةً يستمتع بها أصحابها, وقوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي: من الوسائل التي يركبها العباد, ويتخذونها زينة, وقد يسَّر الله للبشر اختراع السيارات والطيارات (والقطارات) , وطوروا السفن, وسيخترع البشر أنواعاً أخرى لمزيد من الانتفاع بها. وقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ} [النحل: 9]. ذكر الله تعالى الحيوانات من الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير, وذكر ما فيها من المنافع, ثمَّ ذكر الطرق التي يسلكها الناس إليه, فبيَّن أنَّ منها السبيل القاصدة, وهي الطريق الموصلة إليه, وهي طريق الحقِّ, وهي متمثلة في دين الإسلام الذي سلكه أنبياؤه ورسله وأتباعهم, {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} وهذا شامل للطرق الضالة كلها, وهي اليهودية والنصرانية والبوذية والهندوسية والمجوسية والشيوعية, وغيرها من طرق الضلال والغواية, وأعلمنا ربُّنا في خاتمة الآية أنه لو شاء لهدانا أجمعين, ولكنَّه قضى بتدبيره وحكمته أن نكون مختلفين.

(1/187)


2 - إنزال الله - تبارك وتعالى - الماء من السماء لينبت به الزرع: أعلمنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنه {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 10 - 11]. ذكر الله - تعالى - نعمته على عباده في إنزاله الماء من السماء, والمراد به إنزاله من السحاب, وقد جعل من هذا الماء النازل من السماء شراباً يشرب منه العباد ودوابُّهم ومواشيهم, ومنه تتغذى الآبار وتتدفق العيون, ومنه ما يسقي الزرع والشجر الذي فيه تسيمون أنعامكم, أي: ترعونها فيه, تقول العرب: الإبل السائمة. وبهذا الماء الواحد ينبت لنا ربُّنا الزرع والزيتون والنخيل والأعناب, ثم قال: {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أي: ويخرج لكم غيرها من الثمرات, كالتفاح والبرتقال والخوخ وأنواع الفواكه, {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: فيما حدثنا الله من سقينا بالماء النازل من السماء, وما ينبت به من الزروع والثمار, لآيات دالة على الله تعالى, ولكن لقوم يحسنون التدبر والتفكر والاتعاظ بهذه الآيات. 3 - سخَّر الله - تبارك وتعالى - لعباده الليل والنهار والشمس والقمر: عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنه سخَّر لنا ما شاء من مخلوقاته {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ

(1/188)


لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [النحل: 12 - 13]. ذكر الله - تبارك وتعالى - النعم التي لا تقوم حياتنا من غيرها, ذكر أنَّه سخَّر لنا الليل والنهار, يتعاقبان, ويتقارضان, والشمس والقمر يدوران, وسخر لنا النجوم وبثَّها في أرجاء الفضاء, وجعلها لنا نوراً وضياء, وجعلها لنا علاماتٍ نهتدي بها في ظلمات الليل, وقد حدَّثنا في غير هذا الموضع عن مساراتها ومنازلها. وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 12] أي: في ذلك آيات لقوم يعقلون دين الله - تبارك وتعالى - ويفقهون حججه, وقوله: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} أخبرنا ربَّنا عمَّا ذرأه في أرضنا من الأمور العجيبة والأشياء المختلفة من الحيوانات المختلفة والنبات والمعادن والجمادات على اختلاف أشكالها وألوانها {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} أي: آياتٌ دالةٌ على الله سبحانه لقومٍ يذَّكرون آلاءه ونعمه, فيشكرونها. 4 - الله - تبارك وتعالى - الذي سخر لعباده البحر: الله تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَاكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون}.

(1/189)


حدَّثنا ربُّنا - تبارك وتعالى - عن تسخيره البحر لنا, والبحر في هذه الأرض أكثر من اليابسة, وقد سخَّر لنا هذا البحر الشاسع الواسع المتلاطم بالأمواج, وجعل فيه الأسماك والحيتان, وأحلَّها لعباده, ولحمها طريٌّ صالحٌ للأكل, وجعل فيها الحليَّ التي نستخرجها من البحار, كما قال ربُّ العزَّة: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]. ومن الآيات البحرية مسير الفلك في البحر, وهي السفن التي تمخر بصدرها عباب البحر, وقوله: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: لتركبوا الفلك, وتسيروا فيها, متنقلين من قطرٍ إلى قطر, ومن بلادٍ إلى بلاد, لطلب الرزق, وزيارة الأصحاب والأقارب والأحباب, {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: تشكرونه على نعمة وإحسانه وفضله. 5 - ألقى ربُّ العزَّة الجبال في الأرض ليثبتها وأجرى فيها الأنهار: أعلمنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنَّه {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 15 - 16] خلق الله تعالى الأرض فمادت, فأرساها وثبَّتها بالجبال, وسيَّر فيها الأنهار تسقي العباد والبلاد, وجعل فيها الطرق والممرات تخترق الجبال, وينتقل الناس فيها في أسفارهم, كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا} [الأنبياء: 31]. وجعل ربُّنا في الأرض علاماتٍ يستدلُّ بها المسافرون على ما يقصدونه في أسفارهم, وتكون العلامة جبلاً شامخاً, أو رابيةً مدببة, أو صخرةً مفلطحةً, أو هوةً سحيقةً, أو غير ذلك.

(1/190)


وكما جعل لنا علاماتٍ نهتدي بها في جنبات الأرض, جعل لنا النجوم لنهتدي بها في ظلمة الليل, {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} فكثيرٌ من الناس يستطيعون تحديد مشارق الأرض ومغاربها في الليل بالتعرف على مواقع النجوم. 6 - استحقاق الله تعالى العبادة وحده: أعلما ربُّنا - تبارك وتعالى - أنَّه وحده الخالق دون غيره بقوله: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17] فالله الذي خلق الخلق في الأرض وفي السماء هو الذي يستحقُّ أن يعبد وحده, فغيره لا يخلق شيئًا. وعقَّب الله - تبارك وتعالى - على هذا السيل الذي ساقه من النعم الكثيرة الوافرة بقوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18] أي أنَّ العباد لا يستطيعون عدَّ نعم الله على عباده, وقد تكون في النعمة الواحدة نعمٌ كثيرة, ولذلك لا يستطيع العباد الوفاء بنعم الله كلِّها, فمن فضل الله - تبارك وتعالى - علينا أنَّه يرضى عنَّا, وإن لم نستطع أن نفيه حقَّ النعم كلِّها, و {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} ولذلك يغفر لنا ما وقع منا من تقصير في شكر نعمه. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 19]. أخبرنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - في خاتمة هذا النصِّ أنه يعلم ما نسره ونخفيه, وما نعلنه ونبديه, فعلمه بنا محيط, لا تخفى عليه خافية من أعمالنا وأقوالنا وخطرات قلوبنا.

(1/191)


خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا على نفسه في هذه الآيات 1 - الله - تبارك وتعالى - الذي خلق السموات والأرض. 2 - الله - تبارك وتعالى - خلق الإنسان من نطفةٍ ضعيفة, ثم أصبح لله خصيماً. 3 - خلق الله - تبارك وتعالى - لنا الأنعام, نصنع من أوبارها وأصوافها ملابسنا, التي تدفئنا, ولنا في لحومها وألبانها منافع كثيرةٌ, ومنها نأكل, ولنا فيها جمالٌ حين نذهب للراحة في المساء, وحين نغدو بها في الصباح, وتحملنا وتحمل أثقالنا إلى بلدٍ لم نكن بالغيه إلا بشقِّ الأنفس. 4 - الله تعالى هو الذي خلق لنا الخيل والبغال والحمير لنركب فوق ظهورها, وجعل لنا فيه زينةً وجمالاً. 5 - الله تعالى الذي أنزل لنا من السماء ماءً نشرب منه, ونسقي منه دوابنا, ويخرج به الشجر الذي نطلق فيه أنعامنا لتأكل منه. 6 - ينبت الله بالغيث الذي ينزله من السماء الزرع والزيتون والنخيل والأعناب, ويخرج لنا به من كلِّ أنواع الثمار. 7 - الله - سبحانه - الذي سخَّر الليل والنهار, وجعلهما يتعاقبان ويتقارضان, وخلق لنا الشمس والقمر, لنعلم عدد الأيام, ونعلم الشهور والأعوام. 8 - أخرج الله تعالى لنا من الأرض شتى أنواع الفواكه والخضراوات, وجعلها مختلفة الألوان فذا ذهبيٌّ, وهذا فضيٌّ, وهذا أسود, وهذا أخضر , وهذا أصفر.

(1/192)


9 - خلق الله تعالى البحر وسخَّره لنا, وخلق لنا فيه الأسماك والحيتان, لنأكل منه اللحم الطريَّ, وجعل فيه اللؤلؤ والمرجان, لنستخرجها من البحر, ونجعلها حليةً نتحلى بها. 10 - خلق لنا ربُّنا السفن, لتسير بنا في البحار, وتحمل أثقالنا فيه, ولنسافر فيه لتجارتنا إلى مختلف بقاع الأرض 11 - ألقى الله تعالى الجبال في الأرض كي لا تميد بنا, وكي تثبت وتستقرّ. 12 - خلق الله لنا الأنهار تسير في الأرض مشرقةً ومغربةً, تسقينا وتسقي الدوابَّ والحقول والأشجار. 13 - جعل الله تعالى ممراتٍ بين الجبال, وفي الهضاب والآكام, كي نعبُر عَبرَها عندما نتحرك من مكان إلى مكان. 14 - الله يعلم ما نسرُّه ونخفيه في قلوبنا وضمائرنا, وما نظهره ونبديه من أقوالنا. 15 - الآلهة التي يعبدها المشركون آلهةٌ باطلةٌ, فهي مخلوقةٌ مربوبةٌ, تُخْلَقُ ولا تَخْلُقُ, وهي ميتةٌ ليس فيها حياةٌ, وما تدري متى البعث والنشور. 16 - الله - تعالى - هو الإله الواحد الذي يستحقُّ أن يعبد وحده دون غيره. * * *

(1/193)


 الموضع القرآني [37]

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} الله تعالى هو الذي أحيا العباد بعد أن كانوا أمواتاً, ثم يميتهم في الحياة الدنيا, ثم يوم القيامة يحييهم جميعاً, ويوقفهم بين يديه, ويحاسبهم على ما قدموه في دنياهم. وكان كفار قريش وعامة العرب يكذبون بقدرة الله على البعث والنشور, وأعلمنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - في هذه الآيات أن الكفار قد أقسموا على أنَّ الله لا يبعث الذي يموت, فقال: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 48]. فالكفار من قريشٍ يكذِّبون بالبعث والنشور, وليؤكدوا قولهم هذا أقسموا بالله {جَهْدَ

(1/194)


أَيْمَانِهِمْ} أي: بحلفهم أغلظ الأيمان, وقد ردَّ الله تعالى عليهم قولهم هذا بقوله: {بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} أي: بلى, أي سيبعث الله كلَّ من يموت, وبعث الناس يوم القيامة وعد على الله, لا بدَّ منه, {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أي: لا يعلمون أنَّ بعث العباد أمر يسير على الله, لا يعجزه من ذلك شيءٌ. ثم بيَّن ربُّ العزَّة سبحانه الغرض من بعث العباد, فقال سبحانه: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل: 39] أي: ليبين الله تعالى لعباده ما كانوا يختلفون فيه في الحياة الدنيا, وأعظمه اختلافهم في التوحيد, واختلافهم فيما كانوا يعبدونه من دون الله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} أي: وليعلم الذين كفروا أنهم كاذبين فيما أقسموا عليه أنَّ الله تعالى لا يبعث من يموت, ولذلك فإنَّ زبانية النار تقول لهؤلاء المكذبين بالبعث والنشور, وهي تدعُّهم إلى النار: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون} [الطور: 14 - 16]. ثم بيَّن لنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنَّ أمر بعث العباد في يوم المعاد سهل يسير عليه سبحانه, {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] فالله - تبارك وتعالى - إذ أراد أن يخلق شيئًا, فإنما يقول له: كن, فيكون كما أراده الله تبارك وتعالى, فالله لا يعجزه شيءٌ, وليس هناك شيءٌ يأمره الله فيرفض, ولا يطيع.

(1/195)


وقد جاء في الحديث أنَّ الذين زعموا أن الله تعالى لا يبعث من يموت, قد كذبوا على الله تبارك وتعالى, فعن أبي هريرة, قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله: كذَّبني ابن آدم, ولم يكن له ذلك, وشتمني, ولم يكن له ذلك, أمَّا تكذيبه إياي أن يقول: إنِّي لن أعيده كما بدأته, وأمَّا شتمه إياي أن يقول: اتَّخذ الله ولداً, وأنا الصمد الذي لم ألد ولم أُولد, ولم يكن لي كفؤاً أحدٌ» [البخاري: 4975]. * * *

(1/196)


 الموضع القرآني [38]

لله يسجد ما في السموات وما في الأرض أولًا: تقديم عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - بنفسه في هذه الآيات الكريمات, عرَّفنا ربُّنا عزَّ وجلَّ أنَّ الظلال تسجد له, وتسجد له الدوابُّ, كما تسجد له الملائكة في السموات العلا, والله تعالى معبودٌ واحد, وله الدين وحده لا شريك له, والنعم التي في أنفسنا أو التي تحيط بنا فمن الله وحده, وكفار العرب كانوا يدعون الله وحده إذ أصابهم الضرُّ, فإذا رفعه عنهم أشركوا. وكفار العرب كانوا يجعلون لمن يعبدون نصيباً من رزقهم الله, وتلك جريمةٌ سيسألهم الله عنها يوم القيامة, وكفار العرب كانوا يجعلون لله البنات, فيقولون: الملائكة بنات الله, ويكرهون أن يرزقوا البنات, فإذا رزق أحدهم بالأنثى إما أن يبقيها حيَّةً على هون, أو يقتلها بأن يدسَّها في التراب.

(1/197)


ثانيًا: آيات هذا الموضع {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ * وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ * وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعزَّيزُ الْحَكِيمُ} [النحل: 48 - 60]. ثالثًا: غريب الآيات يتفيأ ظلاله: دوران الظلِّ ورجوعه من موضع إلى موضع. فارهبون: فخافون. تجأرون: ترفعون أصواتكم متضرعين إلى الله, لعلَّه يرفع الضرَّ عنكم. واصباً: دائماً.

(1/198)


تفترون: تكذبون وتختلقون. يشتهون: يختارون. كظيم: الكظيم الذي امتلأ غيظاً وحنقاً, فلا يتكلم. يتوارى من القوم: يتغيب عن قومه. أيمسكه على هونٍ, أي: يبقيه حياً وهو يشعر بالذلة والهوان. مثل السوء: صفة السوء. المثل الأعلى: الصفة العليا التي لا نقص فيها. رابعًا: تفسير هذه الآيات الكريمات عرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - بنفسه في هذه الآيات الكريمات, ببيان ما يأتي: 1 - أمر الله تعالى عباده أن ينظروا إلى ما خلق من شيء: وجَّه الله - تبارك وتعالى - أنظار عباده إلى النظر إلى ما خلق من شيءٍ يُتفيَّؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجَّداً لله, فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 48 - 50]. قال ابن جريرٍ في تفسيره: «أو لم ير هؤلاء الذين مكروا السيئات إلى ما خلق الله من جسمٍ قائمٍ شجرٍ أو جبلٍ أو غير ذلك يتفيأ ظلاله عن اليمين

(1/199)


والشمائل, يقول: يرجع من موضع إلى موضع, فهو في أوَّل النهار على حال, ثم يتقلَّص, ثم يعود إلى حالٍ أخرى في آخر النهار» [تفسير الطبري: 6/ 4988]. وقال ابن الجوزي: «قوله تعالى: {إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} أراد من شيء له ظلٌّ, من جبلٍ, أو شجرٍ, أو جسمٍ قائمٍ {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ} وهو جمع ظل, وإنما جمع وهو مضاف إلى واحد, لأنه واحدٌ يراد به الكثرة. قال ابن قتيبة: ومعنى يتفيَّأ ظلاله: يدور ويرجع من جانبٍ إلى جانب, والفيء: الرجوع, ومنه قيل للظل بالعشيِّ: فيئٌ لأنه فاء عن المغرب إلى المشرق. قال المفسرون: إذا طلعت الشمس وأنت متوجه إلى القبلة, كان الظلُّ قُدَّامك, فإذا ارتفعت كان عن يمينك, فإذا كان بعد ذلك كان خلفك, وإذا دنت للغروب كان على يسارك, وإنما وحّد اليمين, والمراد به: الجمع, إيجازاً في اللفظ, كقوله تعالى: {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] , ودلّت «الشمائل» على أن المراد به الجميع, وقال الفراء: إنما وحَّد اليمين, وجمع الشمائل, ولم يقل: الشمال, لأنَّ كل ذلك جائز في اللغة» [زاد المسير: 4/ 452]. وقوله تعالى: {سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} أي: يسجدون لله رب العالمين, وهم داخرون, أي: صاغرون. ثم أخبر ربُّ العزَّة - سبحانه - عن سجود الدواب والملائكة لله تعالى {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 49]. وهذا الكون كل ما فيه يسجد لله ربِّ العالمين, كما قال تعالى:

(1/200)


{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد: 15] , وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18] , ونحن نعلم أن المخلوقات التي عدَّها ربُّنا وغيرها تسجد له حقيقةً, ولكننا لا نعرف كيف تسجد, كما قال الله تعالى في تسبيح الكائنات {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]. وقد كانت الجبال والطير يسبحن مع نبي الله داود عليه السَّلام {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} [الأنبياء: 79] وأخبرنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنَّ الرعد يسبح بحمده {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد: 13]. وأخبرنا ربُّنا العليم الحكيم سبحانه أنَّ الملائكة تسبح بحمده وهم لا يستكبرون, وأنهم {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50]. فالملائكة الكرام مع ما أعطاهم من قوى وقدراتٍ, لا يملك مثلها أحد من أهل الأرض يخافون ربَّهم من فوقهم, وهم يديمون طاعة ربِّهم, وكلُّ ما أمرهم به فعلوه من غير تقصير. 2 - نَهْيُ الله عباده عن اتخاذ إلهين اثنين: نهى الله - تعالى - عباده أن يتخذوا إلهين اثنين, وقرَّر سبحانه وتعالى أنَّ الإله الذي يستحقُّ العبادة إلهٌ واحدٌ {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل: 51].

(1/201)


نهى الله تبارك وتعالى عن اتخاذ إلهين اثنين, ثم أثبت أنَّ الإلهية منحصرة في إلهٍ واحدٍ, وهو الله سبحانه, ثمَّ أمر الله سبحانه بالخوف منه وحده {فإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أي: ولا تخافوا المعبودات الباطلة التي كان يعبدها المشركون. وقوله تعالى: {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النحل: 52] أي: هو مالكهما وخالقهما سبحانه, {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} [النحل: 52] أي: الدينونةُ لله ربِّ العالمين, وقوله: {وَاصِبًا} , أي: دائماً, ومنه قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات: 9] أي: دائمٌ. وقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} [النحل: 52] أغير الله تتقون عذابه وعقابه؟ ثم قرر ربُّ العزَّة في خطابه عباده أنَّ كلَّ النعم التي تحيط بنا هي من ربِّنا وحده سبحانه, {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]. والنعم قد تكون دينية, وهي معرفة الحقِّ والعمل به, وإما دنيوية نفسانية أو بدنية, أو هي خارجية وهي تتمثل في الأولاد والأزواج والزروع والحرث ومتاع الدنيا, ونعم الله تعالى تحتاج إلى شكر. وقوله: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53] , أي: إذا أصابتنا المصائب, ونزلت بنا الدوائر, فإلى الله تعالى نجأر, أي: ترفعون أصواتكم مستغيثين به سبحانه متضرعين له, لعلمكم أنَّه وحده الذي يستطيع رفع الضرِّ عنكم. وأخبرنا عن حال الكفار إذا رفع الضر عنهم, فقال: {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل: 54]. أي: إذا رفع ربُّ العزَّة

(1/202)


الضرَّ الذي نزل بعباده سبحانه {إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} أي: إذا جماعةٌ من العباد الذين أخلصوا دينهم في حال نزول الضرِّ بهم يشركون في حال رفعه الضرَّ عنهم, وهذا الذي فعله هؤلاء أمر مستغربٌ منه, متعجبٌ منه, فهؤلاء بعد أن وحّدوا كفروا {لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 55] أي: ليكفروا بما آتاهم الله تعالى من كشف الضرِّ, وقوله: {فَتَمَتَّعُوا} أي: بدنياكم, فإنَّها قليلةٌ فانيةٌ و {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عندما تصيرون إلى يوم الدين, وينزل بكم العذاب. 3 - كفار أهل مكة يجعلون لأصنامهم نصيباً مما رزقهم الله تعالى: أخبرنا ربُّنا العليم الحكيم أنَّ مشركي أهل مكَّة {يَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} [النحل: 56]. أخبرنا ربُّنا تبارك وتعالى أنَّ هؤلاء الكفار يجعلون للأصنام والأوثان التي لا تعقل, ولا تعلم, ولا تضر, ولا تنفع, يجعلون لها نصيباً من أموالهم وأنعامهم التي رزقهم الله تعالى إياها, {تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} أقسم ربُّ العزَّة سبحانه وتعالى بذاته الكريمة, على أنَّهم سيسألون يوم القيامة عما كانوا يفترونه, وهذا السؤال سؤال توبيخ وتقريع, والمراد به أن يعترفوا على أنفسهم في ذلك اليوم, لأنَّ سؤال التوبيخ هو الذي لا جواب لصاحبه إلا ما يظهر فيه فضيحته. وقوله: {تَفْتَرُونَ} أي: تقوَّلونه على الله تبارك وتعالى.

(1/203)


4 - كان أهل الجاهلية ينسبون لله سبحانه البنات وينسبون لأنفسهم الذكور: أخبرنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنَّ قبائل من عرب الجاهلية كانوا يجعلون البنات لله, ويجعلون لأنفسهم ما يشتهونه: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57]. وهذا من إفكهم وضلالهم, فقد كانوا يزعمون أنَّ الملائكة بناتُ الله تعالى الله عما يقولون {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات: 151 - 154]. وقوله تعالى {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} أي: يختارون لأنفسهم الذكور, ويأنفون من البنات, وأخبرنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنه {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 58 - 59]. أخبرنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أن الواحد من أهل الجاهلية إذا رزقه الله تعالى بالأنثى, وبُشِّر بها, امتلأ قلبه غيظاً, وأصابه النكد والهمُّ, وتغيَّرت ملامح وجهه, وتعكَّرت, وظهرت عليه علامات الاكتئاب, وأصبح كظيماً, والكظيم الذي امتلأ غيظاً وحنقاً, فلا يتكلم. وتراه {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِه} أي: تراه يتغيَّب عن قومه, ويختفي منهم, من سوء العار الذي بشِّر به, وأصبح الواحد منهم بين حالين تجاه هذه الوليدة, الأولى: أن يمسكها على هونٍ, أي:

(1/204)


على هوانٍ, والثانية: أن يدسَّ هذه الوليدة في التراب, وهذا الذي كان يعرف عند أهل الجاهلية بالوأد, يقتلون الصغيرة بدفنها حيَّةً. وقال ربُّ العزَّة سبحانه معقباً {أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} والحكم الذي حكموا به, وذمَّهم الله تعالى به هو نسبتهم البنات اللواتي يكرهونهن إلى ربِّ العزَّة, ألا بئس الحكم الذي حكموه. من جعل البنات لله ولهم الذكور. وقرَّر ربُّ العزَّة - سبحانه وتعالى - أنَّ {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعزَّيزُ الْحَكِيمُ} [النحل: 60]. قرر - سبحانه - أنَّ هؤلاء القوم الذين نسبوا إلى الله - تعالى - البنات, وهم لا يؤمنون بالآخرة لهم مثل السوء, أي: صفة السوء, ومن أمثلة السوء التي يستحقها هؤلاء ما ضربه الله من الأمثال للأصنام وعبدتها, والله تعالى له المثل الأعلى, أي: الصفة العليا, فالله تعالى كمالٌ لا نقص فيه, فالله تعالى واحدٌ أحدٌ, فرد صمدٌ, لم يلد ولم يولد, ولم يكن له كفواً أحد, والله واحد في ذاته, واحد في صفاته, لا يشبهه شيءٌ, ولا يماثله شيءٌ, سبحانه. خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا بنفسه في هذه الآيات الكريمات عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى بنفسه في هذه الآيات الكريمات بتقرير ما يأتي: 1 - الظلال تسجد لله تعالى, ظلال الناس والأشجار والجبال وغيرها. 2 - الله تعالى هو الإله الذي لا يستحقُّ العبادة غيره, فلا يجوز للبشر أن يعبدوا غيره.

(1/205)


3 - الله تعالى له ما في السموات وما في الأرض, لا يَشركُه معه فيهما غيره, وله سبحانه الدين وحده, فلا يجوز الدينونةُ لغيره. 4 - كلُّ النعم التي في الإنسان, والنعم التي تحيط بالإنسان في الأرض وفي السماء من الله تعالى وحده. 5 - المشركون يفردون الله بالالتجاء إليه إذا أصابهم الضرُّ, فإذا رفع الله عنهم ما أصابهم من الضرِّ أشركوا. 6 - يجعل المشركون مما رزقهم ربُّهم تبارك وتعالى من الحبوب والثمار والأنعام نصيباً لآلهتهم, يتقربون إليهم بها, وليسألنَّهم الله تعالى يوم القيامة عمَّا يفترونه ويختلقونه. 7 - يزعم كفار العرب أنَّ الملائكة بنات الله, في الوقت الذي يكرهون نسبة البنات إليهم, فإذا بشِّر أحدهم بالأنثى ظلَّ وجهه مسوداً وهو كظيم. * * *

(1/206)


 الموضع القرآني [39]

إيحاءُ الله تعالى إلى النحل أولًا: تقديم عرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - في هذه الآيات بنفسه, وذلك ليرقِّق بها قلوبنا, ويصفِّي بها نفوسنا, ويمضي بنا إلى نور الإيمان, فمن ذلك إنزاله الماء من السماء, فيحيي به الأرض بعد موتها, وإخراجه اللبن من بطون الأنعام لبنًا سائغًا للشاربين, وأخرج لنا من ثمرات النخيل والأعناب لنتخذ منه سكراً ورزقاً حسناً, وأخرج لنا من بطون النحل عسلاً صافياً, فيه شفاء للناس, وهو خلقنا ثم يتوفانا, وقد نردُّ إلى أرذل العمر كي لا نعلم من بعد علمٍ شيئًا. وفضَّل الله - تعالى - بعضنا على بعضٍ في الرزق, وجعل الله تعالى لنا أزواجًا, وجعل لنا منهن بنين وحفدةً.

(1/207)


ثانيًا: آيات هذا الموضع {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ * وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ * وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 65 - 72]. ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات الأنعام: الإبل والبقر والغنم. الفرث: ما يبقى في كرش الأنعام بعد هضمها الطعام. خالصاً: صافياً لا تخالطه الشوائب. سائغاً: يتقبله شاربه ويتذوقه. يعرشون, أي: ما يصنعونه من العرائش القائمة على الأعمدة والجدران.

(1/208)


سبلُ ربك: السبل الطرق التي يسير فيها النحل. أرذل العمر: أسوؤه وأدناه. حفدة: الأحفاد أولاد الأولاد. رابعًا: تفسير آيات هذا الموضع من سورة النحل عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - بنفسه في آيات هذا الموضع ببيان ما يأتي: 1 - الله - تعالى - أنزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض بعد موتها: أخبرنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنَّه {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [النحل: 65] أنزل الله - تبارك وتعالى - من السماء ماءً, أي: من السحاب, فأحيا به الأرض بعد موتها, فإنَّك تمرُّ بالأرض, فتراها يابسةً خاشعةً, فإذا جادها الله تعالى بالغيث تراها وقد أينعت وأنبتت, واكتست جنباتها بالخضرة والزهور, {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي: إنَّ في ذلك لآيةً تدلُّ على وحدانية الله تعالى, وقوله: {يَسْمَعُونَ} أي: يسمعون كلام الله تعالى, ويفقهون ما يتضمنه من العبر, ويتفكرون في خلق السموات والأرض. 2 - إسقاءُ الله - تعالى - لنا مما في بطون الأنعام لبناً خالصاً للشاربين: قال سيد قطب رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}

(1/209)


] النحل: 66] «فهذا اللبن الذي تدرُّه ضروع الأنعام مم هو؟ إنه مستخلصٌ من بين فرثٍ ودمٍ, والفرث ما يتبقى في الكرش بعد الهضم, وامتصاص الأمعاء للعصارة التي تتحول إلى دم, هذا الدم الذي يذهب إلى كل خلية في الجسم, فإذا صار إلى غدد اللبن في الضرع تحول إلى لبن ببديع صنع الله العجيب, الذي لا يدري أحد كيف يكون. وعملية تحول الخلاصات الغذائية في الجسم إلى دمٍ, وتغذية كلُّ خليةٍ بالمواد التي تحتاج إليها من مواد هذا الدم, عمليةٌ عجيبة فائقة العجب, وهي تتم في الجسم في كلِّ ثانيةٍ, كما تتم عمليات الاحتراق, وفي كلِّ لحظة تتمُّ في هذا الجهاز الغريب عمليات هدمٍ وبناءٍ مستمرة, لا تكف حتى تفارق الروح الجسد. . . , ولا يملك إنسان سويُّ الشعور أن يقف أمام هذه العمليات العجيبة لا تهتف كلُّ ذرَّةٍ فيه بتسبيح الخالق المبدع لهذا الجهاز الإنساني, الذي لا يقاس إليه أعقد جهازٍ من صنع البشر, ولا إلى خلية واحدة من خلاياه التي لا تحصى. ووراء الوصف العام لعمليات الامتصاص والتحول والاحتراق تفصيلات تدير العقل, وعمل الخلية الواحدة في الجسم في هذه العملية عجبٌ لا ينقضي التأمل فيه. وقد بقي هذا كله سراً إلى عهد قريب, وهذه الحقيقة العلمية التي يذكرها القرآن هنا عن خروج اللبن من فرثٍ ودمٍ لم تكن معروفة لبشر, وما كان بشر في ذلك العهد ليتصورها فضلاً على أن يقررها بهذه الدقة العلمية

(1/210)


الكاملة , وما يملك إنسانٌ يحترم عقله أن يماري في هذا أو يجادل , ووجود حقيقةٍ واحدةٍ من نوع هذه الحقيقة يكفي وحده لإثبات الوحي من الله بهذا القرآن , فالبشرية كلها كانت تجهل يومذاك هذه الحقيقة. والقرآن - يعبر هذه الحقائق العلمية البحتة - يحمل أدلة الوحي من الله في خصائصه الأخرى لمن يدرك هذه الخصائص ويقدرها؛ ولكن ورود حقيقة واحدة على هذا النحو الدقيق يفحم المجادلين المتعنتين» [في ظلال القرآن 4/ 2180]. 3 - أخرج الله لنا من ثمرات النخيل والأعناب سكراً ورزقاً حسناً: ومن آيات الله تبارك وتعالى الدالة على بديع صنعه, وعجيب أمره ما أخرجه لنا من ثمرات النخيل والأعناب نتخذ منه سكراً ورزقاً حسناً {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 67]. فثمار النخيل يصنع منها المسكرات , وكانت الخمر في أوَّل الإسلام. . . حلالاً , ثم حُرِّمت , وقوله: {وَرِزْقًا حَسَنًا} فيها إشارةٌ إلى أنَّ الخمر غير داخلةٍ في الرزق الحسن , والرزق الحسن هو في تناول ثمار النخيل , وصنع ألوان الطعام من تلك الثمار , فمن ذلك صناعة التمر والزبيب واستخراج الدبس منهما, وأنواع العصير , وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} إنَّ فيما أخرجه ربُّنا - تبارك وتعالى - من ثمرات النخيل والأعناب آياتٌ, وليس بآيةٍ واحدةٍ تدلُّ على بديع صنع الله, والذي يفقه هذه الآيات هم الذين يعقلون عن الله كلامه, ويحسنون النظر إلى ما خلق من آياته.

(1/211)


4 - أخرج الله تعالى لنا من بطون النحل شراباً مختلفاً ألوانه فيه شفاء للناس: أخبرنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنَّه {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 68 - 69]. وقد فسَّر سيِّد قطب رحمه الله تعالى هذه الآيات بقوله:. . . «والنحل تعمل بإلهامٍ من الفطرة التي أودعها إياها الخالق, فهو لونٌ من الوحي تعمل بمقتضاه, وهي تعمل بدقةٍ عجيبةٍ يعجز عن مثلها العقل المفكر سواءً في بناء خلاياها. أو في تقسيم العمل بينها, أو في طريقة إفرازها للعسل المصفى. وهي تتخذ بيوتها - حسب فطرتها - في الجبال والشجر وما يعرشون, أي: ما يرفعون من الكروم وغيرها, وقد ذلَّل الله لها سبل الحياة بما أودع في فطرتها وفي طبيعة الكون حولها من توافق , والنصُّ على أنَّ العسل فيه شفاءٌ للناس قد شرحه بعض المختصين في الطبِّ, شرحاً فنياً, وهو ثابتٌ بمجرد نصِّ القرآن عليه؛ وهكذا يجب أن يعتقد المسلم استناداً إلى الحقِّ الكليِّ الثابت في كتاب الله» [في ظلال القرآن: 4/ 2181]. وقد جاءت أحاديث كثيرةٌ تدلُّ على أنَّ العسل فيه شفاءٌ للناس, فمن ذلك ما رواه أبو سعيد الخدريُّ أنَّ رجلاً أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: أخي يشتكي بطنه, فقال: «اسقه عسلاً» ثمَّ أتى الثانية, فقال: «اسقه عسلاً» ثمَّ أتاه الثالثة

(1/212)


فقال: «اسقه عسلاً» ثمَّ أتاه فقال: قد فعلت , فقال: «صدق الله, وكذب بطن أخيك, اسقه عسلاً» , فسقاه فبرأ [البخاري: 5684, ومسلم: 2217]. وعن عائشة - صلى الله عليه وسلم - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ الحلواء والعسل [البخاري: 5431. مسلم: 1474مطولاً]. وعن ابن عباس - رضي الله عنه - , عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الشفاء في ثلاثةٍ: في شرطةِ مِحْجمٍ, أو شربةِ عسلٍ, أو كيَّةِ نارٍ, وأنا أنهى أمتي عن الكيِّ» [البخاري: 5681]. وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - , قال: سمعت رسول الله - رضي الله عنه - يقول: «إن كان في أدويتكم - أو يكون في شيءٍ من أدويتكم - خيرٌ, ففي شرطةِ مِحْجمٍ, أو شربةِ عسلٍ, أوى لذعةٍ بنارٍ توافق الدَّاء, وما أُحبُّ أن أكتوي» [البخاري: 5683. مسلم2205]. 5 - الله - تبارك وتعالى - خلقنا ثم يتوفانا: أخبرنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - سبحانه أنَّه خلقنا من العدم, ثم يتوفانا سبحانه, أي يميتنا, وقد يردُّ بعضنا إلى أرذل العمر, وأرذل العمر الشيخوخة, وبلوغ الإنسان حالةً لا يعلم فيها شيئًا, كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54]. وكان الرسول - رضي الله عنه - يدعو ربَّه أن لا يردَّ إلى أرذل العمر, فعن أنس بن مالك أن الرسول كان يدعو: «أعوذ بك من البخل والكسل, وأرذل العمر, وعذاب القبر, وفتنة المحيا والممات» [البخاري: 4707 - ومسلم: 2706].

(1/213)


6 - فضَّل بعضنا على بعضٍ في الرزق: قال تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [النحل: 71]. خاطب الله - نبارك وتعالى - المشركين به غيره قائلاً لهم: الله فضَّل بعضكم على بعض في الرزق الذي رزقكم في الدنيا, فما الذين فضَّلهم الله على غيرهم {بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُم} فهم لا يرضون بأن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقتهم سواءٌ, قال قتادة في تفسير الآية: «وهذا مثلٌ ضربة الله, فهل أحد منكم شاركه مملوكه في زوجته, وفي فراشه, فتعدلون بالله خلقه وعباده؟ فإذا لم ترض لنفسك هذا, فالله أحقُّ أن ينزَّه منه من نفسك ولا تعدل بالله أحدا من خلقه» [تفسير الطبري: 6/ 5017]. وقوله: {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي: جحدوا نعمة الله عندما جعلوا لأصنامهم من الحرث والأنعام نصيباً. 7 - جعل الله - تبارك وتعالى - لنا من أنفسنا أزواجاً وجعل لنا من أزواجنا بنين وحفدة: خاطب ربُّ العزَّة عباده قائلاً لهم: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 72].

(1/214)


امتنَّ الله - تبارك وتعالى - على عباده من البشر بأنَّه خلق لهم من أنفسهم أزواجاً, وقد خلق الله - تبارك وتعالى - لآدم من ضلعه زوجاً له, وهي أمُّنا حواء كما قال - تبارك وتعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]. وجعل لنا ربُّنا من أزواجنا {بَنِينَ وَحَفَدَةً} أي جعل لنا منهنَّ الأولاد, وجعل لنا الحفدة, وهم أولاد الأولاد, ورزقنا {مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أي: من الطعام والشراب واللباس, ثمَّ ذمَّ ربُّ العزَّة - تبارك وتعالى - المشركين لإيمانهم بالباطل من الأصنام والأوثان, وكفرهم بنعم الله, أي: عندما يصرفون العبادة لغير الله من الآلهة الباطلة {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}. 8 - ذمَّ الله - تعالى - المشركين لعبادتهم غيره: ذمَّ ربُّ العزَّة المشركين بعبادتهم ما لا يملك لهم رزقاً من السماوات والأرض {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [النحل: 73] فهذه الآلهة الباطلة لا تملك شيئًا من الرزق في السماوات والأرض, فلا تملك أن تنزل المطر من السماء, ولا تملك أن تخرج الزرع, ولا تُدرَّ الضرع, ولا تملك دفع الشرِّ عن عابديها, ولا تملك جلب الخير لهم, {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} أي: هذه الأصنام لا تملك شيئًا من ذلك لأنفسها فهي ضعيفةٌ عاجزة. ونهى الله - تعالى - المشركين عن ضرب الأمثال لله تبارك وتعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74]. أي: فلا تجعلوا لله

(1/215)


أنداداً ولا أشباهاً وأمثالاً, فإنَّ الله - تبارك وتعالى - يعلم أنَّه واحدٌ لا شريك له, وأنتم لا تعلمون ذلك. 9 - ضرب الله - تبارك وتعالى - مثلين للإله الحقِّ والإله الباطل: ضرب الله - تبارك وتعالى - مثلين للإله الحقِّ وللإله الباطل {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 75]. قال مجاهد في هذه الآية: «كلُّ هذا مثل إله الحقِّ, وما يُدعى من دونه من الباطل, وقال السُّديُّ: هذا مثلٌ ضربه الله للآلهة, يقول: كما لا يستوي عندكم عبدٌ مملوك لا يقدر من أمره على شيءٍ, وعبدٌ حرٌّ قد رُزق رزقاً حسناً, فهو ينفق منه سراً وجهراً, لا يخاف من أحدٍ, فكذلك أنا والآلهة التي تدعون, ليست تملك شيئًا, وأنا الذي أملك وأرزق من شئت, وهذا القول هو اختيار الفراء والزجاج, قال: بيَّن الله لهم أمر ضلالتهم وبعدهم عن الطريق في عبادتهم الأوثان, فذكر أن المالك المقتدر على الإنفاق, والعاجز الذي لا يقدر أن ينفق لا يستويان, فكيف يسوَّى بين الحجارة التي لا تتحرك ولا تعقل, وبين الله الذي هو على كلِّ شيءٍ قديرٍ, وهو رازقٌ جميع خلقه» [تفسير الواحدي: 13/ 142]. وضرب الله - تبارك وتعالى - مثلاً آخر, فقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجلَّيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَاتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76].

(1/216)


وذهب مجاهدٌ والسدِّيُّ وقتادة إلى أنَّ هذا المثل كسابقه ضرب الله تعالى فيه مثلاً لإله الحقِّ والأصنام والأوثان, وهذا القول هو اختيار الفراء والزجاج وابن قتيبة. [تفسير الواحدي: 13/ 147]. والأبكم: الأقطع اللسان, وهو العييُّ بالجواب, الذي لا يحسن وجه الكلام, لأنَّه لا يفهم وجه الكلام, ولا يُفهم عنه. وقوله:. . . {لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} أي: لا يقدر على شيء من الأشياء المتعلقة بنفسه أو بغيره لعدم فهمه {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} أي: هو ثقلٌ, أي: عيالٌ على مولاه وصاحبه, {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَاتِ بِخَيْرٍ} أي: أينما يرسله ويبعثه لا يأت بخير, لقلة فهمه, وقصور إدراكه {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: هل يستوي هذا الأبكم الذي هذه صفاته, هو والرجل السويُّ القادر على النطق, التامُّ العقل, الذي يحسن التدبير والعمل, الذي يأمر بالعدل, وهو على صراطٍ مستقيم, أي: على الدين القويم. والجواب: أنهما لا يستويان. 10 - الله - تبارك وتعالى - محيط علمه بالسموات والأرض: ثم أخبرنا ربُّنا - ربُّنا تعالى - أن له: {غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النحل: 77]. فالله - تبارك وتعالى - العليم الخبير مطلعٌ على كلِّ ما غاب عنكم من غيوب السماوات والأرض لا يخفى عليه شيءٌ من أمورهما, ومن جملة هذه

(1/217)


الغيوب التي لم يُطْلع ربُّنا عليها أحداً, لا ملكاً مقرَّباً, ولا نبياً مرسلاً, زمن وقوع الساعة, وقد أخبرنا ربُّنا عزَّ وجلَّ عن قدرته على وقوع الساعة, فإذا شاء إيقاعها, كان وقوعها في مثل لمح البصر, أو هو أقرب من ذلك, لأنَّه يقول لها: كن, فتكون كما يريده الله تعالى, والله تعالى على كل شيءٍ قديرٍ. خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا بنفسه في هذه الآيات: عرَّفنا ربُّنا في هذه الآيات بإعلامنا ما يأتي: 1 - أنزل الله - تعالى - الماء من السماء بالمطر, فأحيا به الأرض بالنبات. 2 - أخرج الله تعالى لنا اللبن من الأنعام من بين فرثٍ ودم, ليكون لنا شراباً نافعاً مفيداً. 3 - أخرج الله تعالى لنا من النخيل والأعناب الثمار النافعة لتكون لنا رزقاً. 4 - أخرج الله تعالى لنا من بطون النحل شراباً مختلفاً ألوانه, فيه شفاء للناس. 5 - الله تعالى هو الذي خلقنا, ثم يتوفانا, وبعضنا قبل الوفاة يردُّ إلى أرذل العمر حتى لا يعلم من بعد علم شيئًا. 6 - الله - تعالى - فضَّل بعضنا على بعضٍ في الرزق. 7 - الله - تعالى - جعل لنا من أنفسنا أزواجاً, وجعل لنا من أزواجنا بنين وحفدةً, ورزقنا من الطيبات. * * *

(1/218)


 الموضع القرآني [40]

الله تبارك وتعالى أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئاً أولًا: تقديم قال قتادة: «هذه السورة - يعنى سورة النحل - سورة النعم» [ابن كثير: 4/ 60]. وهذا هو النصُّ الثالث في هذه السورة الذي يعرفنا ربُّ العباد فيه بنفسه, فحدَّثنا فيها كيف أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا, وجعل لنا السمع والبصر والفؤاد لنعقل ونفقه. وأمرنا أن ننظر إلى الطيور وهي تحلق في جوِ السماء, لا يقدر على إمساكها إلا الله تعالى, وجعل لنا من بيوتنا سكناً, وجعل لنا من جلود الأنعام بيوتاً, يسهل علينا حملها ونصبها في أسفارنا وأماكن إقامتنا, وامتنَّ علينا بما نصنعه من أصواف الخراف, وأوبار الإبل, وشعر الماعز, من الأثاث والمتاع.

(1/219)


وامتنَّ الله تعالى علينا بأنَّه جعل لنا مما خلق من الشجر والبيوت والجبال ظلالاً تقينا حرَّ الشمس, وجعل لنا من الجبال غيراناً ومسارب نلجأ إليها وقت الحاجة, وجعل لنا سرابيل تقينا الحرَّ والبرد, وسرابيل أخرى تقينا ضربات الخصم في ميدان الحرب والقتال. ثانيًا: آيات هذا النص من سورة النحل {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماء ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جلَّودِ الْأَنْعامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثًا وَمَتاعًا إِلى حِينٍ * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْنانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَاسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}. ثالثًا: تفسير مفردات آيات هذا الموضع سكناً: موضعاً نسكن فيه. الأنعام: الإبل والبقر والغنم. أكناناً: أي: غيراناً وأسراباً. سرابيل: هي الثياب المصنعة من الصوف والقطن والكتان وغيرها. وسرابيل تقيكم بأسكم: هي الدروع من الحديد والمعادن القوية.

(1/220)


رابعًا: شرح الآيات عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - بنفسه في هذه الآيات ببيان ما يأتي: 1 - الله تعالى أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا, ثم جعل لنا السمع والأبصار والأفئدة: عرَّف الله - تبارك وتعالى - عباده بذاته, وخاطبهم تبارك وتعالى قائلاً لهم: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنَّه أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا, فلا ينزل الإنسان من بطن أمه وهو عالم, وجعل الله - تبارك وتعالى - لنا السمع الذي ندرك به الأصوات, والأبصار التي نرى فيها المرئيات, وجعل لنا الأفئدة التي نميِّز بها النافع والضار, وهذه القوى من السمع والبصر والأفئدة , تقوى عند الإنسان شيئًا فشيئًا, حتى تكون أفضل ما تكون, وقد خلق الله تبارك وتعالى لنا هذه القوى حتى نستعين بها على عبادة ربِّنا ومولانا سبحانه وتعالى كما جاء في الحديث عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب, وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ ممَّا افترضت عليه, وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتَّى أُحبَّه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها, ورجله التي يمشي بها, وإن سألني لأعطينَّه, ولئن استعاذني لأعيذنَّه, وما تردَّدت عن شيءٍ أنا فاعله تردُّدي عن نفس المؤمن, يكره الموت وأنا أكره مساءته» [أخرجه البخاري (6502)].

(1/221)


فالحديث يدلُّ على أنَّ العبد إذا أخلص دينه لله عزَّ وجلَّ, فإنَّ أفعاله تصبح كلُّها لله تعالى, فسمعه الذي يسمع به لا يكون إلا لله, وكذلك بصره, ويده, ورجله, لأنَّه لا ينبعث إلا لتحقيق ما أمر الله تبارك وتعالى. 2 - منظر الطير وهن مسخرات في جو السماء: حثَّنا الله - تعالى - على النظر إلى الطير التي سخرَّها سبحانه لتطير في الفضاء بين السماء والأرض {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماء ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 79]. حثَّ الله - تبارك وتعالى - عباده لينظروا إلى الطير المحلِّقة في أجواء الفضاء, وهو منظرٌ جميلٌ بديعٌ, تراها تحلقُّ, وهي تصدح, وتصفِّر وتغرِّد, ترتفع تارةً, وتنزل أخرى, وتدور في طيرانها, ما يمسكها إلاَّ ربُّها تبارك وتعالى {إنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي آيات دالة على قدرة الله وبديع صنعه سبحانه وتعالى. 3 - جعل الله تعالى لنا من بيوتنا سكناً وجعل لنا من جلود الأنعام بيوتاً: خاطب الله - تبارك وتعالى - عباده ممتناً عليهم, قائلاً لهم: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جلَّودِ الْأَنْعامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثًا وَمَتاعًا إِلى حِينٍ} [النحل: 80].

(1/222)


امتنَّ الله - تبارك وتعالى - على عباده بأن جعل لهم من بيوتهم التي يبنونها من الحجر أو الطين أو الخشب أو (الإسمنت) أو المعادن سكناً, يؤون إليها, ويسكنون فيها, وجعل لهم من جلود الأنعام بيوتاً, فيصنع العباد من جلود الإبل والبقر والغنم, الخيام بيوتاً, وهذه الخيام يسهل على العباد الانتقال بها من مكانٍ إلى مكان, وينصبونها في أسفارهم, كما ينصبونها في مقرِّ إقامتهم, ويتخذون من أصواف الخراف, وأوبار الإبل, وأشعار المعز, أنواع الأثاث والمتاع, فيتخذون منها البسط, والخيم, والملابس, وغيرها, والأثاث: متاع البيت. وقوله: {إِلى حِينٍ} أي إلى الوقت الذي تفنى فيه, أو يهلك فيها أصحابها. 4 - الله تعالى جعل لنا مما يخلق ظلالاً ومن الجبال أكناناً: عرَّف ربُّ العزَّة عباده - تبارك وتعالى - أنَّه جعل لهم {مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَاسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81]. عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنَّه جعل لنا مما خلق من البيوت والأشجار ظلالاً تقينا حرَّ الشمس, وجعل لنا من الجبال أكناناً, والأكنان الغيران والأسراب, وواحد الأكنان كنٌّ, وكل شيءٍ وقى شيئًا وستره فهو كِنٌّ, وجعل لنا سرابيل تقينا الحرَّ, ومثله البرد, وسرابيل تقينا بأسنا, والسرابيل التي تقينا الحر والبرد هي الثياب والقمص المصنوعة من القطن والصوف والكتان

(1/223)


وغيرها, وجعل لنا سرابيل تقينا بأسنا, وهي الدروع من الحديد والزرد, والبأس الذي تقينا إيَّاه ضربات السيوف, وطعن الرماح والرمي بالسهام, في ميدان الحرب والقتال. وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} أي: سخَّر لكم ذلك لتستقيموا على أمر الله, وتسلموا دينكم لربِّكم بتوحيده وإخلاص الدين له. وقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 82] أي: إن كذبوك وأعرضوا عما جئتهم به من الحقِّ, فإنَّ الواجب عليك أن تبلغهم ما جاءك من عند الله من الحقِّ. وقوله تعال: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ} [النحل: 83] وأعظم نعم الله تعالى التي أنعم بها على عباده إرسال رسوله محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - , وهم يعرفون رسوله, فقد عاش بينهم زمناً طويلاً, وعرفوا صدقة وأمانته وخلقه, ولكنهم كفروا بهذه النعمة العظيمة, وأكثرهم كافرون بها, فقد آمن بعضهم, وكفر كثير منهم في ذلك الزمان. خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا بنفسه في هذه الآيات عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - بنفسه أنَّه: 1 - هو الذي أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا, ثم جعل لنا السمع والأبصار والأفئدة, لنعلم ونشكر ربنا على ما حبانا من نعمه. 2 - الله الذي أقدر الطير على التحليق في جوِّ السماء, لا يقدر على إمساكهنَّ غيره.

(1/224)


3 - الله الذي جعل لنا بيوتاً نسكن إليها, ونأوي إليها, وجعل لنا من جلود الإبل والبقر والغنم بيوتاً هي الخيام التي يسهل علينا نقلها في أسفارنا ونصبها في محلِّ إقامتنا. 4 - الله تعالى هو الذي جعل لنا من الأشجار والجدر وغيرها ظلالاً تظلنا من أشعة الشمس, وجعل من الجبال غيراناً ومسارب نأوي إليها في المطر والحرّ, وجعل لنا الملابس والثياب تقينا الحرَّ والبرد, وجعل لنا الدروع التي تقينا ضربات الخصم في ميدان القتال. * * *

(1/225)


 الموضع القرآني [41]

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} أولًا: تقديم هذه الآيات نمطٌ جديدٌ يعرفنا فيها الله تعالى بذاته, فقد عرَّفنا في الآية الأولى عن إسرائه برسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى, وهذا الفعل من الله تعالى وإن كان خاصاً بنبينا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - , فإنَّ في تكريمه تكريماً لأمته, ثمَّ في الإسراء والمعراج معجزة عظيمة لرسولنا - صلى الله عليه وسلم - , وقد فرض الله عليه في الإسراء الصلاة, وقد جاءنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - بمعلومات كثيرة عن الرسل والأنبياء, وعن السماوات, وسدرة المنتهى والجنة. والأمر الثاني الذي يتعلق بإنزال التوراة على موسى, وكان في ذلك تكريمٌ عظيم لموسى عليه السَّلام, وقد جعل الله التوراة موضع هدايةٍ لجميع بني إسرائيل.

(1/226)


والأمر الثالث له تعلق بأمة كاملة هي أمة بني إسرائيل, وهو حديث عظيم , له علاقة بالأمة الإسلامية, وقد حدَّثنا الله عن معالم هذا الحدث, وخطواته التي تبشِّر الأمة الإسلامية أنَّ أمرها سيكون إلى خير, وأنها ستنجح في إزالة هذا البلاء العظيم الذي ستبتلى به. والأمر الرابع: وهو جعله سبحانه وتعالى الليل والنهار آيتين, وقد سبق مثله كثيراً. ثانيًا: آيات هذا النص من سورة الإسراء {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا * وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَاسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَاتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا * إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * وَيَدْعُ

(1/227)


الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 1 - 12]. ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات أسرى بعبده, أي: سار به ليلاً. قضينا: حكمنا تفسدنَّ: هو ما يفعله بنو إسرائيل من قتلٍ وتدميرٍ للحرث والنسل وتخريبٍ على النحو الذي يفعله اليهود اليوم في فلسطين. ليتبروا: ليهلكوا ويخربوا, والتبار: الهلاك. آيتين: علامتين عظيمتين تدلاَّن على الله تعالى. فمحونا آية الليل: محا آية الليل بجعلها مظلمةً لا نور فيها. وجعلنا آية النهار مبصرة, أي: جعل النهار مضيئاً منيراً. رابعًا: شرح آيات هذا الموضع 1 - إسراء الله تعالى برسوله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى: عرَّفنا تبارك وتعالى في الآية الأولى من هذه الآيات أنَّه هو الذي أسرى بعبده ورسوله محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله, ليريه من آياته {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى

(1/228)


الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء]. والمسجد الحرام في مكة, والمسجد الأقصى في مدينة القدس في فلسطين, والإسراء سير الليل. و {بِعَبْدِهِ} أي: برسوله محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - , وقد استنكر واستغرب الكفار هذا الخبر, فقد كانوا يحتاجون إلى شهرٍ حتى يصلوا إلى القدس, ويحتاجون إلى شهر آخر للعودة منها, فكيف يصدِّقون لمن يخبرهم أنه ذهب إليها, ثم عرج به إلى السموات العلا وعاد بعد ذلك إلى مكة في بعض ليلة. ولكننا نؤمن بذلك ونصدِّق به, لأنَّه لم يفعل ذلك بنفسه, وإنما الذي فعله به هو الله سبحانه, والله قادرٌ على كلِّ شيءٍ, لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. 2 - إيتاءُ الله تعالى موسى الكتاب وجعله هدى لبني إسرائيل: عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنَّه آتى موسى الكتاب, وهو التوراة ليكون هذا الكتاب العظيم هدى لبني إسرائيل {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} [الإسراء: 2}. 3 - قضاء الله تعالى إلى بنى إسرائيل ليفسدنَّ في الأرض مرتين: عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنَّه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب الذي هو التوراة أو في اللوح المحفوظ أنهم سيفسدون في الأرض مرتين, ومعنى قضى, أي: حكم حكماً جازماً لا رجعة فيه أنَّهم سيفسدون في أرضنا هذه إفسادين

(1/229)


عظيمين {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 4] وقد بيَّن الله - تبارك وتعالى - كيف سيجري كل واحدٍ من الإفسادتين, وكيف سيواجه كلُّ واحدٍ منهما. وقد ذهب المفسرون إلى أنَّ هاتين الإفسادتين قد مضتا وانقضتا , والذي حققته في تفسيري لهذه الآيات في سورة الإسراء ,وفي كتابي «وليتبروا ما علوا تتبيرا» أن هاتين المرتين هما الواقعتان الآن , وهما يدلان على أنَّ اليهود في فلسطين إلى زوال , وأنَّ الأمَّة الإسلامية ستسوء وجوه اليهود , وسيدخل المسلمون المسجد الأقصى فاتحين له كما دخلوه أول مرة في عهد عمر بن الخطاب , وليتبروا العلو اليهودي تتبيراً. 4 - جعل الله تعالى الليل والنهار آيتين: وبعد ذلك آياتٍ عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى أنه جعل {اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12]. أخبرنا ربُّنا عزَّ وجلَّ أنه جعل الليل والنهار آيتين , أي: علامتين دالتين على أنه هو الإله المعبود الذي يستحقُّ العبادة وحده دون سواه, كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ}. . .] فصلت 37]. وقوله تعالى {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس 37]. وقوله تعالى {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران 190].

(1/230)


وقوله تعالى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} ومحو آية الليل بجعله سبحانه الليل مظلماً , وبذلك يكون مناسباً للراحة والهدوء , وجعل آية النهار مبصرةً , أي جعل النهار مضيئاً , ليسعى الناس في أشغالهم وأعمالهم , وكما أنَّ الليل والنهار آيتان , فإنما هما أيضاً نعمتان , كما قال ربُّ العزَّة {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَاتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَاتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص 71 - 73]. وقوله تعالى: {لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ} أي جعل الله النهار مضيئاً لتبتغوا فيه أشغالكم , وتقضوا أعمالكم {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} فالعباد إذا مرَّ عليهم الليل والنهار بشروق الشمس وغروبها , علموا عدد الأيام وبمنازل القمر عرفوا الشهور والأعوام , وعرفوا شهر الحجِّ , وشهر الصيام , كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس 5] , وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة 189]. وقوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} أي: كل شيء بيَّناه ووضحناه من الأحكام والحلال والحرام , بيَّناه بياناً هو في غاية الوضوح.

(1/231)


5 - وكلَّ إنسانٍ ألزمنا طائره في عنقه: أخبرنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أن {كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَا كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء 12 - 14]. أعلمنا ربُّنا تبارك وتعالى أنَّ كلَّ إنسانٍ ألزمه طائره في عتقه لازماً له لزوم القلادة والغلِّ , لا ينفك عنه , وطائره هو عمله , فعمل كل إنسان لازم له , كما قال تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء 123]. وقوله {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16]. وقوله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} ذكر الله تبارك وتعالى أنَّ ذلك العمل الذي ألزم الإنسان إياه , يخرجه له يوم القيامة مكتوباً في كتاب يلقاه منشوراً , أي: مفتوحاً يقرؤه , وبين الله في موضع آخر أنَّ هذا الكتاب لا يترك صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]. وقوله تعالى: {اقْرَا كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} أي: يقال للإنسان في ذلك اليوم بعد أن يعطى كتابه: {اقْرَا كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} وكل إنسان في ذلك اليوم يكون قارئاً {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ *

(1/232)


فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق: 7 - 12]. خامساً كيف عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - بنفسه في هذه الآيات: عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - في هذه الآيات بنفسه بما يأتي: 1 - الله - تبارك وتعال - الذي أسرى بعبد ورسوله محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله , ثمَّ عرج به إلى المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله , ثم عرج به إلى السموات العلا , ثم أعيد إلى المدينة عبر الأقصى. 2 - آتي الله عبده ورسوله موسى - عليه السَّلام - التوراة , وجعلها هدى لبني إسرائيل , والتوراة أحد أعظم ثلاثة كتب أنزلها الله من عنده. 3 - قضى الله على بني إسرائيل أن يفسدوا في الأرض مرتين , وهما اللتان تجريان اليوم , وقد بيَّن الله تعالى أنَّ الأمة الإسلامية ستقضي على هذا العلو اليهوديِّ وتنهيه , وستستعيد المسجد الأقصى , وتدمر العلو اليهودي. 4 - جعل الله تعالى الليل والنهار آيتين , فأزال النور من الآية الأولى , وجعل الآية الثانية مضيئةً منيرةً. * * *

(1/233)


 الموضع القرآني [42]

قل ادعو الله أو ادعو الرحمن عرَّفنا الله - تبارك وتعالى - بنفسه في الآيتين الأخيرتين اللتين ختم بهما سورة الإسراء , فقال: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 110 - 111]. قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110]. أمر الله رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو الله باسمه الله , أو باسمه الرحمن , فهما اسمان من أسمائه الحسنى , ولا حرج عل من دعا بأيٍّ منها {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعزَّيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 24].

(1/234)


ونهى الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن أن يخافت بصلاته , أو يجهر بها , أي: بقراءته القرآن {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً} أي: عليك بطريق وسط بين الجهر والمخافتة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} , قال: نزلت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مختفٍ بمكَّة , كان إذا صلَّى بأصحابه رفع صوته بالقرآن , فإذا سمع المشركون سبُّوا القرآن , ومن أنزله , ومن جاء به , فقال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أي: بقراءتك , فيسمع المشركون , فيسبُّوا القرآن {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا}: عن أصحابك , فلا تُسمِعهم {وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلا} [البخاري: 4722: ومسلم: 446]. وقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111]. أمر الله - تبارك وتعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يحمده سبحانه , لأنَّه اتصف بثلاث صفاتٍ , الأولى: أنَّه لم يتخذ ولداً , وحمده سبحانه لاتصافه بهذه الصفة يدلُّ على مدة الجرم الذي وقع فيه الذين نسبوا إليه الولد , فالنصارى قالوا: عيسى ابن الله , والعرب قالت: الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عما يقولونه علواً كبيراً - والثانية: أنه ليس له شريك في الملك , فالله - تعالى - خالق السموات والأرض وحده , لم يشركه في ذلك أحد سبحانه. والثالثة: أنَّه {وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ} أي: أنه لا يحتاج إلى أحدٍ يتولاه ويعينه على أمر نفسه , ولا تدبير أمر غيره. وقوله تعالى: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} أي: عظِّمه تعظيماً , ومن ذلك قول العبد: الله أكبر , أو قوله , الله أكبر كبيراً , ونحو ذلك. * * *

(1/235)


 الموضع القرآني [43]

القرآن تنزيل من عند الله الذي خلق الأرض والسموات العلا أولًا: تقديم عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - بنفسه في هذه الآيات , فعرَّفنا أنَّ هذا القرآن تنزيلٌ من عند خالق الأرض وخالق السموات العلا , وهو الرحمن الذي على العرش استوى , وعرَّفنا سبحانه بأنَّ له ما في السموات وما في الأرض , وما بين السموات والأرض , وله سبحانه ما تحت الثرى. وإعلام الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - إعلامٌ لجميع أمته أنَّه إن يجهر بالقول , فجهره به أو إسراره به عند الله سواء , فالله تعالى يعلم السرَّ وأخفى , وأعلمنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنَّه المعبود الحقُّ الذي لا يستحق العبادة معه أحدٌ , وأعلمنا سبحانه أنَّ له الأسماء الحسنى , فكلُّ أسمائه حسنى , وكل صفاته عليا.

(1/236)


ثانياً: آيات هذا النص من سورة طه {طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى * تَنزِيلا مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} [طه 1 - 8]. ثالثاً: تفسير آيات هذا الموضع من سورة طه لتشقى , أي: لتتعب, وأصل الشقاء العنت والتعب. العرش: أعظم مخلوقات الله الذي استوى عليه الرحمن في الأزل. الثري: الترابُّ النديُّ. رابعاً: شرح هذه الآيات 1 - مصدر هذا القرآن الكريم: أعلم الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه لم ينزل القرآن عليه ليشقى {مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه 2]. وأصل الشقاء: العناء والتعب , وإذا كان الله لم ينزل عليه القرآن ليشقى , فإنَّه أنزله عليه ليهنأ ويسعد به في الدينا والآخرة , كما قال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى 5]. وقوله تعالى: {إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى} [طه: 3]. أي: ما أنزلناه إلا تذكرةً لمن يخشى الله تعالى , والتذكرة: الموعظة التي تلين لها القلوب , وجعل الله

(1/237)


القرآن موعظةً لمن يخشى , لأنَّهم هم الذين ينتفعون به دون غيرهم , كما قال تعالى {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ} [يس: 11]. هذا القرآن العظيم منزلٌ من عند خالق الأرض والسموات العلا. والعلا: العالية الرفيعة. فالله تعالى خالق هذا الكون , وهو منزل القرآن , فإذا حدثنا سبحانه في كتابه عن كونه , فإنَّه يجيء بالحقِّ الذي لا باطل فيه. 2 - تعريف الله تعالى عباده بنفسه: عرَّف ربُّنا - تبارك وتعالى - عباده بنفسه في هذه الآيات الكريمات , فقال: {تَنزِيلا مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 4 - 7]. بيَّنت هذه الآيات لنا أنَّ ربَّنا منزل القرآن هو خالق الأرض والسموات العاليات , وهو الرحمن الذي استوى على عرشه , وهو سرير ملكه , والعرش: أعظم مخلوقات الله تعالى , ومعنى استوى في لغة العرب: علا , وارتفع , واستقرَّ , أما كيف استوى , فلا ندريه , ولا نعلمه , ولكنَّنا نوقن أن الله تعالى استوى عليه استواءً يليق بجلاله وعظمته سبحانه. وعرَّفنا ربُّنا بنفسه أيضًا فقال: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} فكلُّ ما في السموات والأرض وما بين السموات

(1/238)


والأرض , وما تحت الثرى فله وحده لا يشركه فيه أحدٌ غيره , ومما في السموات والأرض العباد وما يعبدونه من الأوثان والأصنام والشمس والقمر والنجوم والملائكة , وكلُّ هؤلاء مربوبون مخلوقون , لا يستحقُّ أحدٌ منهم العبادة و {الثَّرَى} التراب النديُّ , والله اعلم بما تحت الثرى من الصخور والمياه والمعادن وغيرها. وقوله تعالى: {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} أخبر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه إن يجهر بالقول , فإنَّه يعلم السرَّ وأخفى , والسر ما أخفاه المرء في ضميره , ويعلم ما هو أخفى من السِّر , وهو الخاطر العابر الذي يمرُّ به القلب , ولا يستقرُّ فيه. وفي إخبار الله تعالى عباده بعلمه بالسرِّ وما هو أخفى منه دعوة إلى العباد أن يدعوه ويسألوه خفيةً من غير إعلانٍ بالدعاء. 3 - {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى}: أعلمنا ربُّنا - سبحانه - في تعريفه لنفسه , أنَّه هو المعبود الذي لا يستحقُّ أحد العبادة إلا هو , وأعلمنا - سبحانه وتعالى - أنَّ له الأسماء الحسنى , وأسماؤه سبحانه كثيرةٌ , منها ما أخبرنا عنه في كتابه القرآن , ومنها ما جاءت به السنة المطهرة , ومنها ما علَّمه بعض خلقه , ومنها ما استأثر به في علم الغيب عنده , وكلُّ أسماء الله حسنى , {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} [طه: 8].

(1/239)


وأسماء الله بابٌ عظيمٌ يُعرِّفنا بربِّنا الكريم , وقد أمرنا ربُّنا سبحانه أن ندعوه بأسمائه الحسنى , فقال {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]. خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - بنفسه: عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - بنفسه أنه الذي: 1 - أنزل القرآن الكريم من عنده سبحانه , وأنه خالق الأرض وخالق السموات العلا. 2 - استوى ربنا - تبارك وتعالى - على العرش , وهو أجلُّ مخلوقاته وأعظمها , فهو أعظم من السموات والأرض. 3 - لله كل ما في السموات والأرض , وما بين السموات والأرض , وله سبحانه ما تحت الثرى , فله الكون كلُّه , وهو مالك ما يعبده الكفار من الشمس والقمر والنجوم والأصنام وغير ذلك. 4 - يستوي في علم الله - تبارك وتعالى - ما يرفع العبد به صوته , وما يخفيه في قلبه , فالسرُّ والإعلان عنده سواء. 5 - الله له تسع وتسعون اسمًا , وكل أسماء الله حسنى , وهو المعبود الحقُّ الذي لا يستحق العبادة أحدٌ غيره. * * *

(1/240)


 الموضع القرآني [44]

موسى عليه السَّلام يعرِّف بربِّه أولًا: تقديم هذا الموضع يعرِّف فيه موسى فرعون بربِّه عندما سأله عنه، والأصل أن لا يضيق صدر العبد إذا سئل عن ربِّه، لأن هذا الكتاب العظيم قد حوى الكثير مما حدَّثنا به ربُّنا عن نفسه. ثانيًا: آيات هذا الموضع من سورة طه {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ ربُّنا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى * مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 49 - 55] * * *

(1/241)


ثالثًا: تفسير مفردات الآيات كل شيءٍ خلقه، أي: ما يناسب خلقه. القرون الأولى: الأمم السابقة. سبلاً: طرقاً. أزواجاً: الأزواج الأصناف المختلفة. شتى: متنوعة. أولو النهى: أصحاب العقول. رابعًا: شرح هذه الآيات سأل فرعون موسى عليه السَّلام أن يعرِّف له ربَّه، وهذا الموضوع يعرفه الرسلُ والأنبياء خير معرفةٍ، ولذلك انطلق لسانُ نبيِّ الله موسى في تعريفه لربِّه تبارك وتعالى. وهكذا ينبغي أن يكون الدعاة إلى الله تعالى وأهل العلم، فلا يجوز لهم أن يتقنوا الأحكام الشرعية، فإذا أرادوا الحديث عن ربِّهم انقطعت بهم الحبال. 1 - فرعون يسأل موسى وهارون عن ربِّهما: بلَّغ موسى وهارون فرعون الرسالة التي أرسلهما ربُّهما بها، فسألهما فرعون قائلًا: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه: 49] وفرعون كان منكرًا لوجود الخالق، وكان يدَّعي أنَّه ربُّ الناس الأعلى، فقال له موسى مجيبًا: {ربُّنا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50].

(1/242)


أي: أعطى الله كلَّ شيءٍ وجوده الذي خلقه عليه، فالله تعالى أعطى الرجل هذا الخلق الذي نشاهده، خلقه منتصب القامة، وجعل له رأسًا، وصدرًا وبطنًا، وأعطاه العينين اللتين يبصر بهما، واليدين اللتين يبطش بهما، والأذنين اللتين يسمع بهما، والقلب الذي يضخُّ الدم، وأعطاه المعدة والأمعاء والرئتين، وغير ذلك. وخلق المرأة كذلك مع بعض الاختلاف، لتستطيع أن تقوم بالدور المناط بها، وهكذا خلق الجِمال والأبقار والأغنام والأسود والنمور والكلا ب وغيرها، كلُّ واحد خلقه وأعطاه الخلق الذي يناسبه، وأعطاه ما يحتاج إليه من الخصائص. فعاد فرعون يسأل مرةً ثانيةً، {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه: 51]، سأل فرعون عن حال القرون التي مضت من الخلق، {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52]، أي: أنَّ الله عالمٌ بتلك القرون، وأمرها مرصودٌ عند الله في كتاب أحصى أمرها وأخبارها؛ مع أنَّ الله لا يحتاج إلى كتابٍ، فهو لا يضلُّ، ولا ينسى، أي: لا يشذُّ عنه شيءٌ، ولا يفوته صغيرٌ ولا كبيرٌ، ولا ينسى شيئًا، هو عالم بكلِّ شيءٍ. 2 - موسى عليه السَّلام يفيضُ في التعريف بالله تعالى: سأل فرعون موسى وهارون عن ربِّهما، فأجاب موسى بأنَّ ربَّه الذي أعطى كلَّ شيء خلقه، ثمَّ هدى، ثم عاد فرعون ليسأل عن القرون الأولى، فأجاب موسى أنَّ علمها عند الله في كتاب لا يضلُّ ربُّه، ولا ينسى، ثمَّ عاد

(1/243)


موسى ليفيض في الحديث عن ربِّه، وهو الموضوع الرئيس الذي يتقنه موسى، ويتقنه جميع الأنبياء المرسلين، فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى * مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 53 - 55]. قال موسى معرِّفاً بربه: هو الذي جعل لكم الأرض مهدًا، أي: خلقها كالمهد، وهو الفراش، وهذا كقوله تعالى: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات: 48]. وجعل الله في الأرض سبلاً، أي: طرقاً يمرُّ بها الناس في أسفارهم، ويتنقلون عبرها في جنبات الأرض، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء: 31] وربنا هو الذي أنزل المطر من السماء، فأخرج به أزواجًا من نبات كلِّ شيءٍ، والأزواج: جمع زوجٍ، وهي الأصناف المختلفة في الأشكال والمقادير والمنافع والألوان والروائح والطعوم. وقد خلق الله هذه الأزواج ليأكل الناس من ثمارها وحبوبها ونباتها، وترعى منها أنعامهم، كما قال تعالى: {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَاكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27]. وأخبر موسى في عرضه لهذه الآيات، أنَّ فيها آياتٍ لأصحاب العقول: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى}، وأُولو النُهى: أصحابُ العقول، وفيها تعريضٌ بفرعون أنه إن لم يهتد بها، فليس من أصحاب العقول.

(1/244)


وختم موسى كلامه الموجَّه إلى فرعون بقوله: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] فالله خلقنا بخلق أبينا آدم من تراب الأرض، وإلى الأرض يعيدنا بعد موتنا، ومن الأرض يبعثنا في يوم القيامة. وقد أخبرنا عزَّ وجلَّ أنَّ موسى وهارون أرَيا فرعون الآيات التي أرسلهما الله بها فكذب، ورفض الإيمان بها {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} [طه: 56]. خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا - عزَّل وجلَّ - في هذه الآيات بنفسه: عرَّف موسى عليه السَّلام فرعون بالله ربِّ العالمين عندما سأله فرعون عن ربِّه تبارك وتعالى، بما يلي: (1) - عرَّفه أنَّ ربَّه ربُّ الخلق جميعًا، وقد خلق ربُّ العزَّة كلَّ مخلوقٍ، وأعطاه ما يناسبه من الخلق. 2 - عِلمُ الذين سبقوًا من البشر مدوَّنٌ محفوظٌ عند ربِّ العزَّة، لا يضيع منه شيءٌ. 3 - الله - تعالى - جعل الأرض كالمهد، وجعل بين جبالها طرقًا، يتنقَّل الناس عبرها، وأنزل الله تعالى من السماء ماءً، فأخرج به من نبات الأرض أنواعًا مختلفة من النبات والأشجار. 4 - الله تعالى خلقنا من تراب الأرض، وسيميتنا، ويعيدنا إلى الأرض، ثم يخرجنا منها يوم القيامة. * * *

(1/245)


 الموضع القرآني [45]

مشهد القيامة في القرآن أولًا: تقديم هذا نمطٌ جديدٌ من تعريف الله تعالى عباده بنفسه، فهو يحدَّثنا في هذه الآيات بفعله يوم القيامة عندما تقوم الساعة، ويقوم العباد ليوم المعاد، وما يفعله الله تعالى بكونه وعباده. ففي ذلك اليوم يُنفخ في الصور، ويحشر الله العباد، وينسف الله الجبال، فيزيلها من مكانها، ويصبح مكانها أرضٌ مستويةٌ، وفي ذلك اليوم يتبع الناس الداعي وهو إسرافيل الذي ينفخ في الصور لا يحيدون عنه، ولا يشفع أحد عند الله تعالى إلا من بعد إذن الله ورضاه. والله تعالى يعلم ما بين أيدي العباد في الدنيا، وما خلفهم في الآخرة، ولا يحيط العباد علمًا بربِّهم، وفي يوم القيامة تعنو وجوه العباد لله ربِّ العالمين.

(1/246)


ثانيًا: آيات هذه الموضع من سورة طه {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا * وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا * وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 102 - 113]. ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات الصور: البوق العظيم الذي ينفخ فيه إسرافيل يوم القيامة. زرقًا، أي: لون عيونهم زرق لشدَّة ما يصيبهم من هول. يتخافتون، أي: يتحدثون فيما بينهم بصوتٍ خافت، أي: مخفض. قاعًا أي: أرضًا مستوية، لا ارتفاع فيها ولا انخفاض. عوجاً ولا أمتاً , أي: لا ترى فيها منخفضاً ولا مرتفعاً. الداعي: هو إسرافيل عليه السَّلام. خشعت، أي: سكنت لربِّ العزَّة.

(1/247)


همسًا: الصوت الخفيُّ الصادر عن الفم. عنت الوجوه للحيِّ القيوم: خضعت. القيوم: القائم بنفسه المقيم لغيره. رابعًا: شرح هذه الآيات عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - بما يفعله يوم القيامة في عباده، وفي كونه على النحو الأتي: 1 - إذا شاء الله تبارك وتعالى أن يبعث العباد يوم القيامة أمر إسرافيل عليه السَّلام أن ينفخ في الصور، والصور بوقٌ عظيمٌ، ينفخ فيه إسرافيل في المرة الأولى، فيدمر الكون، ويموت الأحياء، ثم ينفخ فيه أخرى، فيقوم الناس لربِّ العالمين {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [طه: 102]. 2 - يحشر الله تعالى المجرمين يوم الدين زرق العيون، وزرقة العين تتشاءم العرب بها , والمجرمون: الكفرة المشركون، {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه: 102]. 3 - أخبر الله تعالى أن بعض الناس سألوا عما يُفعل بالجبال يوم القيامة {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [طه: 105 - 107]. وقد أمر الله - تبارك وتعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يجيبهم ويخبرهم عما سيفعله بها، وأخبر سبحانه أنه سينسفها نسفًا، فيزيلها من مواضعها، ويذر مكانها قاعًا صفصفًا،

(1/248)


والقاع: المستوي من الأرض، فلا ترى في أرض المحشر جبلاً ولا رابيةً، ولا ترى فيها منخفضًا ولا مرتفعًا، والصفصف: الأرض الملساء التي لا نبات فيها. وقوله تعالى: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} أي: لا ترى فيها منخفضًا ولا مرتفعًا. 4 - أخبرنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنَّ الناس يوم القيامة عندما يقومون من قبورهم يتبعون الداعي {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه: 108]. والداعي الذي يتبعونه هو إسرافيل الذي يناديهم، فيسمعهم، ويسيرون وفق ما يأمرهم به، لا تسكن في ذلك اليوم، فلا تسمع إلا همسًا، والهمس: الصوت الخفيُّ الصادر عن الفم، أو الناتج عن سير الأقدام. 5 - أخبرنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنَّ الشفاعة في يوم القيامة لا تقبل إلا ممن أذن له الرحمن ورضي له قولًا {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109] فلا يشفع أحدٌ يوم القيامة إلا من أذن الله تعالى له في الشفاعة، ورضي قوله، ولا بدَّ مع رضا الله عن الشافع أن يرضى أيضًا عن الشفاعة للمشفوع عنه، فلا يشفع عنده كافرٌ أو مشرك، ولا يُشفع في كافر أو مشرك، وإذا أذن الله في الشفاعة شفع الأنبياء والمرسلون، وشفع الصديقون والشهداء والصالحون، وهذه الآية كقوله تعالى {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ

(1/249)


يَاذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]، وقوله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]. 6 - أخبرنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنَّ الله تعالى يعلم ما بين أيدي عباده من الملائكة والإنس والجن، وهو ما أمامهم إلى قيام الساعة، ويعلم ما خلفهم، أي: من أمر الدنيا، ولا يحيط علمهم بالله تعالى، فهم يعلمون عن الله ما علمهم الله تعالى إيَّاه، ولكنَّ علمهم بالله قليل {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]. 7 - أخبرنا العليم الحكيم سبحانه أن الوجوه يوم القيامة تعنو للحيِّ القيوم {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111]. وعنوُّ الوجوه يوم القيامة للحيِّ القيوم سبحانه يعني خضوعها له، وذلَّها واستسلامها للجبَّار القهار - تبارك وتعالى -، والحيُّ القيوم هو الله تعالى، فحياته دائمةٌ أبديةٌ سرمديَّةٌ، ولكمال حياته سبحانه لا تأخذه سنةٌ ولا نوم، وقيُّوم: قائمٌ بنفسه، لا يحتاج إلى أحد من خلقه، وهو مقيم لغيره، وقوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} أي: خسر وذلَّ من جاء يوم القيامة حاملاً للظلم، والمراد بالظلم هنا الشرك، كما قال لقمان لابنه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. 8 - أخبرنا الله - تبارك وتعالى - بالناجين يوم الدين، فقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112] أخبرنا ربُّنا

(1/250)


- عزَّ وجلَّ - أنَّ الذي يعمل الأعمال الصالحة في حال كونه مؤمناً فإنَّه لا يخاف يوم القيامة ظلماً ولا هضماً، والظلم أن تكثر سيئاته وتعظم من غير سبب منه، والهضم أن تنقض حسناته وتبخس. 9 - أنزل الله آخر كتبه وهو القرآن الكريم بلسان العرب، وصرَّف فيه أنواع الوعيد لعلَّ العباد ينزحون عن الكفر والشرك والذنوب والمعاصي، ليحدث القرآن للعباد في قلوبهم ذكراً لربِّهم تبارك وتعالى {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113]. امتنَّ الله تبارك وتعالى على عباده المؤمنين بإنزاله عليهم القرآن الكريم، بلسان عربيٍّ مبين، وصرَّف فيه أنواع الوعيد، فإذا لامس الوعيد قلوب العباد خافت ربَّها، واتقته، فاجتنبت المآثم والفواحش والمحارم، وأوقع في قلوبها الذكر، فاعتبرت واتعظت. 10 - نزَّه الله تعالى نفسه عن مماثلة المخلوقات في شيءٍ من الأشياء في قوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [طه: 114] وقد وصف ربُّنا عزَّ وجلَّ نفسه بأنَّه الملك الحقُّ سبحانه. ونهى الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن العجلة بقراءة القرآن عندما كان يوحى به إليه قبل أن يتم جبريل قراءته عليه {وَلَا تَعْجلَّ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، وهذه الآية كقوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجلَّ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَانَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16 - 19].

(1/251)


خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - بنفسه: عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى بنفسه في هذه الآيات وفق ما يأتي: 1 - يأمر الله - تبارك وتعالى - إسرافيل يوم القيامة أن ينفخ في الصور، فيقوم الناس لربِّ العالمين. 2 - يحشر الله - تبارك وتعالى - يوم الدين المجرمين من الكفرة والمشركين زرق العيون. 3 - ينسف الله تعالى الجبال يوم القيامة، فيصبح مكانها أرضٌ مستويةٌ، لا ارتفاع فيها ولا انخفاض. 4 - يتبع الناس يوم القيامة نداء إسرافيل لا يحيدون عنه، وتخشع الأصوات في ذلك اليوم، فلا يُسمع إلا الهمس. 5 - لا يشفع في ذلك اليوم أحدٌ عند الله إلا من أذن الله تعالى له، ورضي قوله. 6 - الله - تبارك وتعالى - يعلم ما أمام الناس في الآخرة، وما خلفهم في الدنيا، ولا يحيط العباد بربهم علماً. 7 - تعنو الوجوه لربِّها يوم القيامة. 8 - المؤمنون الذين يعملون الصالحات يوم القيامة آمنون ولا يخافون ظلماً ولا هضماً. 9 - الله تعالى هو الذي أنزل القرآن، وصرَّف فيه ألوان الوعيد. * * *

(1/252)


 الموضع القرآني [46]

لم يخلق الله السموات والأرض لعبًا وباطلًا أولًا: تقديم بيَّن الله تعالى ما لا يجوز له فعله فيما أخذ نفسه به، فهو لم يخلق السموات والأرض لعباً وعبثاً، وأعلمنا سبحانه أنَّ له من في السموات والأرض، وله عباده الذين يسبحونه في الليل والنهار، وأعلمنا أنَّه الواحد في هذا الكون الذي يستحقُّ أن يعبد. ثانيًا: آيات هذا النص من سورة الأنبياء {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ * وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ *

(1/253)


أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ * أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ * وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ * وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 16 - 35]. ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات يقذف: شبَّه الحقَّ من القول بالقذيفة التي ترمى في القتال. فيدمغه: فيصيبه في دماغه. زاهق، أي: هالك.

(1/254)


الويل: العذاب. يستحسرون: لا يعيون ولا يتعبون. يفترون: لا يضعفون ولا يسأمون، ولا يشغلهم عن التسبيح شيء. مشفقون: خائفون وجلون. رابعًا: شرح آيات هذا الموضع عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - بنفسه في هذه الآيات ببيان ما يأتي: 1 - الغاية التي خلق الله السموات والأرض من أجلها: أخبرنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنه ما خلق السموات والأرض وما بينها لهواً ولعباً، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} [الأنبياء: 16] لم يخلقهما ربُّنا عبثاً وباطلاً، ولعباً ولهواً، وإنما خلقهما ليكون الكون كلُّه معبداً لله تعالى، ودليل ذلك أنَّ الله تعالى سيحاسب العباد في يوم المعاد على ما قدَّموه، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّار} [ص27]. وأخبرنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنَّه لو أراد أن يتخذ لهواً، لاتخذ لهواً من عنده {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 17] وأصل اللهو: الجماع، ويطلق على الزوجة أو الولد، والله تعالى أعلى وأجلَّ وأكرم من أن يتخذ لهواً، ولذلك قال: {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} أي: ما كنا فاعلين.

(1/255)


وقال تعالى مبيناً قدرته على إبطال الباطل {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18] والحقُّ الذي يقذف به على الباطل ما أنزله تعالى في كتبه، وأوحى به إلى رسله، وفيه الحجج النيرات والبراهين النيرات، التي تقيم الأدلة على الحقِّ، وتظهر عوار ما جاء به أهل الباطل. وقوله: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} أي: ولكم العذاب مما تصفون به الله من الباطل، كدعواهم أنَّ الله اتخذ ولداً، وقوله: إذا هو زاهق، أي: ذاهبٌ زائلٌ مضمحلٌ. 2 - الله تعالى له من في السموات والأرض: الله تعالى له وحده ملك السموات والأرض، فهو مالكهما وخالقهما ومدبرهما لا يشركه في ذلك أحدٌ {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19 - 20]. وإذا كانت السموات والأرض خلقه وملكه، فكلُّ ما فيهما مخلوقٌ مربوبٌ، ومن ذلك الأصنام والأوثان والأشجار والأحجار والشمس والقمر، وكل ما عبده البشر، وأراد بالذين عنده الملائكة فإنهم لا يستكبرون عن عبادته، ولا يستحسرون، فالملائكة الكرام لا يستكبرون عن عبادة الله، ولا يتعاظمون أن يعبدوه، ولا يأنفون ذلك. وقوله: {وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} أي: لا يعيون، ولا يتعبون.

(1/256)


وقوله: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} أي: لا يشغلهم عن التسبيح شيءٌ، فالتسبيح لهم بمثابة النفس لنا. 3 - بطلان الآلهة التي يعبدها الكفار من دون الله: أخبرنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنَّ الكفار اتخذوا من دون الله آلهة، وقد أنكر الله - تعالى - عليهم ذلك، وبيَّن أنَّ هذه الآلهة باطلةٌ، لا تقدر على إحياء الموتى {أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} [الأنبياء: 21]، وقوله: {أَمِ اتَّخَذُوا} أم هنا بمعنى بل، وهمزة الاستفهام، كأنَّ في القول إضراباً عن الأول. وقوله: {هُمْ يُنْشِرُونَ} أي: يحيون الموتى، لأنَّ من صفة الإله الحقِّ أنه يحيى الموتى. قوله: {مِنَ الْأَرْضِ} أي: أنَّ آلهتهم التي يعبدونها مصنوعةٌ من جنس الأرض، فهي أصنام مصنوعة من الصخور أو الطين، أو الخشب، أو الحديد أو نحو ذلك. أخبر الله تعالى أنَّ استقامة أمر السموات والأرض يدلُّ على وحدانية الله، وأنَّه لا إله غيره، ولا معبود سواه {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 22 - 23]. وهذا الذي ذكره ربُّنا يسمى دليل التمانع، فلو كان فيهما آلهة غير الله لفسدت السموات والأرض، لأنَّ الآلهة ستختلف فيما بينها، فلو أراد أحدهم خلق شيءٍ، وأراد الآخر عدم خلقه، فإن تعارضهما سيمنع الخلق، فإن قدر

(1/257)


أحدهما على الإيجاد، ولم يستطع الآخر المنع، كان الذي لم يستطع الخلق عاجزاً لا يصلح أن يكون إلهاً. وقد نزَّه تعالى نفسه عن الشريك بقوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} فهو واحد أحد فرد صمد، لا شريك له. 4 - طلب الله تعالى من المشركين أن يأتوا بما يدلُّ على صحة ما ادعوه من آلهة: قال الله - تعالى - منكراً على المشركين فيما اتخذوه من آلهة يعبدونها من دون الله {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 24] والمعنى: بل اتخذوا من دون الله آلهة، وطالبهم أن يأتوا بدليلٍ وبرهانٍ يدلُّ على صحة ما يزعمونه، وأعلم أنَّ الأدلة المنزلة من عند الله التي أنزلها في كتابه القرآن وفي جميع الكتب السماوية السابقة تدلُّ على وحدانية الله، وقرَّر سبحانه أنَّ أكثر الكفار لا يعلمون الحقَّ فهم معرضون عن الحقِّ. ومما يدلُّ على كذب ما ادَّعاه المشركون أن جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم أعلنوا للناس جميعاً أنَّه لا إله إلا الله، فاعبدوه وحده {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وهذه الآية كقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45].

(1/258)


5 - تنزيه الله - تعالى - عن الولد: ادَّعى بعض العرب أنَّ الملائكة بنات الله، وقد ردَّ الله عليهم، وأكذبهم، فقال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 26 - 29]. وقد نزَّه ذاته عما يقولونه ويفترونه ثم أخبر أنَّ ملائكته عبادٌ مكرمون، لا يسبقونه بالقول، فلا يقولون حتى يقول، وهم بأمره يعملون، وأخبر أنَّ علمه محيط بهم، يعلم ما بين أيديهم، أي: ما أمامهم من أمر الآخرة وما خلفهم من أمر الدنيا، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، أي: إلا لمن رضي الله عن الشفاعة لهم، وهم عصاة الموحدين، وأخبر أن الملائكة كانوا ولا يزالون مشفقون، أي: خائفون من خشية الله، وقال: ومن يقل منهم: إنَّه إله من دون الله، فإنَّ الله يجزيه جهنَّم، كذلك يجزي الظالمين، وهذه فرضيةٌ، وإلاَّ فإنَّه يستحيل أن يدعي واحد من الملائكة أنه إله من دون الله. خامساً: كيف عرف ربُّنا - تبارك وتعالى - بنفسه في هذه الآيات عرف ربُّنا - عزَّ وجلَّ - في هذه الآيات بما يأتي: 1 - لم يخلق الله - تبارك وتعالى - السموات والأرض لعباً وعبثاً، بل خلقهما لغايةٍ صحيحةٍ، خلقهما ليعبد ويطاع.

(1/259)


2 - الله - تبارك وتعالى - له كلُّ من في السموات ومن في الأرض، فالله تعالى مالكهما ومالك ما فيهما سبحانه، والمالك يتصرف في ملكه كما يشاء، وما يعبده الناس من الشمس والقمر والنجوم والأوثان، والأصنام كلُّه مخلوقٌ مربوبٌ معبَّدٌ لله تعالى. 3 - الملائكة الذين عند الله في السموات يعبدون الله ويسبحونه ويطيعونه. 4 - لو كان في السموات والأرض آلهة على وجه الحقيقة لفسدتا وزالتا، فلا يقيمها على هذا النحو إلا الله سبحانه وحده. 5 - المشركون الذين اتخذوا من دون الله تعالى آلهةً يحتاجون أن يقيموا الأدلة والبراهين الدالة على صحة هذه الآلهة المكذوبة المدَّعاة. 6 - كلُّ الرسل الذين أرسلهم الله تعالى متفقون على وحدانية الله، وأنه المعبود الذي يستحق العبادة دون غيره. 7 - كل رسول كان الله يرسله كان أول ما يدعو قومه إلى توحيد الله. 8 - زعم الكفار أنَّ الله تعالى اتخذ ولداً، هم الملائكة، وحقيقة الأمر أنَّ الملائكة عباد الله تعالى مطيعون لله عابدون له. 9 - علم الله محيط بملائكته يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا يشفعون لأحدٍ لا يريد الله الشفاعة له، وهم مشفقون من خشيته. 10 - من يقل من ملائكة الله إنَّه إله من دون الله - وهذا على سبيل الفرض - فإنه يعذبه في النار.

(1/260)


 الموضع القرآني [47]

كانت السموات والأرض رتقًا ففتقهما ربُّ العزَّة أولًا: تقديم عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - بنفسه في هذه الآيات، فالسموات والأرض كانتا رتقاً متلاصقين، ففتقهما الله وفصل بينهما، وجعل من الماء كل شيء حيٍّ، وأرسى الأرض بالجبال، وجعل السماء سقفاً محفوظاً من الشياطين بالشهب، وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر سابحات في الفضاء، وهو الذي يميتنا سبحانه بعد أن أحيانا. ثانيًا: آيات هذا الموضع من سورة الأنبياء {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ

(1/261)


بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 30 - 33]. ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات رتقاً، أي: متلاصقتين. الفتق: الفصل بين الشيئين. يؤمنون، أي: يصدِّقون. رواسي: الرواسي الجبال. تميد: تضطرب وتتمايل. فجاجاً: الطرق بين الجبال. سبلاً: جمع سبيل وهي الطرق النافذة المسلوكة. محفوظاً: أي: من الشياطين بالشهب. رابعًا: شرح هذه الآيات عرَّفنا الله - تبارك وتعالى - في هذه الآيات بنفسه على النحو التالي: 1 - كانت السموات والأرض رتقاً، ففتقهما ربُّ العزَّة، قال تبارك وتعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30]. أي كانت السموات والأرض متلاصقةً، بعضها مع بعضٍ، ففتقهما الله،

(1/262)


وفصل بين السموات والأرض، فرفع السماء إلى مكانها، وأقرَّ الأرض في مكانها، وفصل بينهما بالهواء، والرَّتق: المتصل بعضه ببعضٍ، الذي لا صدع فيه، ولا فتح. والفتق: الفصل بين الشيئين. 2 - خلق الله تعالى من الماء كل شيءٍ حيٍّ {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]، وهذه الآية كقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45] فكلُّ الأحياء في الأرض من الإنسان والدوابِّ والطيور والنبات مخلوقةٌ من ماء، وهي محتاجةٌ إلى الماء لبقائها ووجودها، وقوله: {أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} أي: ألا يصدِّقون. 3 - جعل الله في الأرض رواسي كي لا تميد بنا، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء: 31] و {رَوَاسِيَ} الرواسي: الجبال الثوابت، و {أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} أي: لئلا تتحرك وتضطرب بالخلق. فالجبال في الأرض تحفظ توازنها، وتجعلها هادئة في دورانها، ولولا الجبال لما استقرت الأرض وما صلحت الحياة فوقها. 4 - جعل الله في الجبال فجاجاً سبلاً لعلهم يهتدون، قال تعالى {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء: 31]، والفجاجُ: الطرق الواسعة بين الجبال، وكلُّ مخترقٍ بين جبلين فهو فجٌّ، وقوله: {سُبُلًا} جمع سبيل، أي: طرقاً نافذةً مسلوكةً، وهي تفسير للفجاج.

(1/263)


5 - جعل الله السماء سقفاً محفوظاً، حفظ الله السماء بالنجوم التي ترجم بها الشياطين {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32] وهذه كقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5]. وقد تكون الإشارة بقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} إلى الغلاف الجويِّ الذي يحيط بالأرض، وهو يحفظ الأرض من الأشعة التي يموج بها الكون، ويحفظها من الأجرام التي تتساقط من الفضاء، حتى إذا دخلت الغلاف الجوي للأرض احترقت وتفتت. وقوله: {سَقْفًا} أي: جعل الله السماء سقفاً للأرض، وهذا كقوله تعالى: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} [الطور: 5] وقوله: {وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 32] آيات السماء نجومها وشموسها وأقمارها وأمطارها ورعودها وبروقها، ونحو ذلك. 6 - خلق الله الليل والنهار والشمس والقمر، ففي الليل يكون السكون والهدوء، ويأخذ الناس النوم، وفي النهار يُبعث الناس ويقومون لأعمالهم، خلق الله للناس الشمس التي تضيء الأرض، تمدُّ الناس بالضوء والحرارة، وفي الليل يظهر القمر، الذي جعله الله مواقيت للناس والحج. قوله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33] قال ابن جرير: «جائز أن يكون ذلك الفلك كحديدة الرَّحى كما قال مجاهد، أو كطاحونة الرَّحى كما ذُكر عن الحسن، وذلك أن الفلك في كلام العرب هو كلُّ شيءٍ دائرٍ،

(1/264)


فجمعه أفلاك» [تفسير ابن جرير: 7/ 5691] وقوله: {يَسْبَحُونَ} أي: يجرون كالسابح في الماء، وقد يقال للفرس الذي يمدُّ يديه في الجري: سابح. خامساً: كيف عرَّف الله تعالى بنفسه في هذه الآيات عرَّف الله - تبارك وتعالى - عباده بنفسه، وأعلمنا سبحانه وتعالى أنَّه الذي: 1 - خلق السموات والأرض، وكانتا متلاصقتين، ففتقهما الله تعالى على النحو الذي هما عليه اليوم. 2 - جعل الله - تبارك - من الماء كلَّ شيءٍ حيٍّ، فجعل من الماء الإنسان والحيوان والدوابَّ والطيور والأشجار والنبات. 3 - خلق الله تعالى الجبال، فثبَّت بها الأرض حتى لا تضطرب في مسارها. 4 - جعل الله تعالى في الجبال طرقاً وممراتٍ يعبرها الناس في أسفارهم. 5 - جعل الله تعالى السماء سقفاً للأرض، وهي محفوظة من الشياطين بما أقامه الله تعالى من النجوم التي ترمى بها الشياطين. * * *

(1/265)


 الموضع القرآني [48]

إنا خلقناكم من تراب قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجلَّ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [الحج: 5 - 6]. في هذه الآيات نادى ربُّ العزَّة الناس الذين يشكُّون بالبعث، ويكذبون به {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} أي: كنتم مرتابين في البعث وشاكين فيه، وقوله: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} أي: بخلق أبيكم آدم، فقد خلقه من تراب، ثمَّ أصبح التراب طيناً، ثمَّ حمأً مسنوناً، ثمَّ صلصالاً كالفخار، وقد خلقه ربُّ العزَّة بيده، ثم نفخ فيه الروح.

(1/266)


وبقية البشر خلقهم من ذكرٍ وأنثى إلا عيسى ابن مريم، فإنَّه خلق من أنثى من غير أب. وبنو آدم يخلقون في أرحام أمهاتهم، ويكون أوَّل أمرهم نطفة، أي: منياً، ثم يصبح هذا المني علقةً، وهي الدم الجامد الغليظ، ثم يصبح قطعة لحمٍ على شكل المضغة، وقد يكتمل خلق هذه المضغة، حتى يتشكل منها الطفل، وقد لا يتمُّ خلقها {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ} وقد اكتشف العلم الحديث بواسطة المكبرات أنَّ مني الرجال تحوي كلُّ قذفة منه ملايين الحيوانات المنوية، فإذا عاشر الرجل زوجته، انطلقت الحيوانات المنوية إلى حيث تكون بويضة المرأة، فإذا وجد أحدها البويضة التحم بها، وعند ذلك تأخذ هذه البويضة الملقحة بالانقسام والتكاثر، وتنغرس في جدار رحم المرأة، ثم تصبح علقةً، ثم مضغةً، وبعد ذلك تنمو إلى أن تصبح طفلاً، وقد أدخل الأطباء المعاصرون في رحم امرأة أثناء الحمل آلةً صوروا عبرها ما يجري في الرحم للجنين من أول أمره، فكان ما يجري في الرحم هو ما حدثنا عنه ربُّ العزَّة - تبارك وتعالى - في هذه الآية. وقوله تعالى: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} أي: لنبين لكم بهذا النقل من طورٍ إلى طور كمال قدرتنا على البعث بعد الموت، وعلى كلِّ شيءٍ، لأنَّ مَنْ قدر على خلق البشر من تراب أولاً، ثم من نطفة ثانياً مع ما بين النطفة والتراب من المنافاة والمغايرة، فهو قادر بلا شك على إعادة ما بدأه من الخلق. وبعد أن يكتمل خلق الجنين في الرحم، يخرجه الله إلى هذه الحياة، ثم ينمو هذا الطفل حتى يبلغ أشدَّه في سنِّ الثلاثين إلى سنِّ الأربعين، وبعض

(1/267)


الناس يتوفى مبكراً قبل أن يبلغ سنَّ الأشد، وبعضهم يكبر حتى يردَّ إلى أرذل العمر، {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجلَّ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} و {أَرْذَلِ الْعُمُرِ}. . . أخسه وأدونه، وهو الهرم والخرف، حتى لا يعقل. ومن الآيات التي أوضح الله فيها أطوار خلق الإنسان قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَانَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجلَّا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [غافر: 67]. وقد عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى بمزيد من التعريف بنفسه، فقال: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}، وقوله: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} أي: تراها هامدة رؤيةً بصريةً، وهامدةً يابسةً، ليس فيها حياةٌ، ولا نباتٌ، قوله: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} فإذا أنزل الله عليها ماء المطر أو الأنهار أو العيون {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} أي: تحركت الأرض بالنبات الذي تحرك في داخلها، ثم خرج منها، ومعنى {وَرَبَتْ} زادت وارتفعت. وقوله:

(1/268)


{وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي: من كلِّ صنفٍ حسنٍ، والبهجة: حسن الشيء ونضارته، والبهيج بمعنى المبهج، وهو الحسن الصورة الذي تتمتع العين برؤيته. وعقَّب الله - تعالى - على ما ذكره بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 6 - 7]. وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} والحقُّ الموجود الثابت الأبديُّ السرمديُّ الذي لا يتغير، ولا يزول. وقوله: {وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى} أي: كما أحيا الأرض بالنبات، فإنه يحيى يوم القيامة العباد، ويخرجهم من قبورهم {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 78 - 80]. وقوله: {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ومن عظيم قدرته إحياء في يوم الدين، وقوله: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا} الساعة: القيامة، وقد قرَّر مجيئها من غير شك، {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} أي: يجيبهم. * * *

(1/269)


 الموضع القرآني [49]

سجود من في السموات والأرض لله تعالى عرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - بنفسه في الآية التالية فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18]. أعلمنا ربُّنا - تبارك وتعالى - في الآية السابقة أنَّه يسجد له من السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18].

(1/270)


وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أنَّ المراد بسجود السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب يكون بالانقياد الكامل لله، لا سجود الطاعة الخاصة بالعقلاء، والصواب من القول أنه سجودٌ حقيقيٌّ لا ندري كيفيته، ولا حقيقته، قال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد: 15]، وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 48 - 49]. وقال: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6]. وإذا أنت نظرت في الآيات نظر معتبرٍ وجدت المخلوقات تسجد لربِّ الكائنات سجوداً حقيقياً، ولكن لا ندري كيف تسجد، كما قال ربُّ العزَّة في تسبيح الكائنات: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] وقد أخبر رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أبا ذر أن الشمس تسجد تحت عرش الرحمن، فعن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذرٍّ حين غربت الشمس: «أتدري أين تذهب؟». قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «فإنَّها تذهب حتَّى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت. فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعزَّيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38]» [البخاري: 3199. ومسلم: 159].

(1/271)


وقوله: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} أي: مؤمنون يسجدون لله، وقوله: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} أي: كثير من الناس كفار حقَّ عليهم العذاب فهم لا يسجدون لله تعالى. وقوله: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} يريد ربُّنا أنه من يشقه الله فما له من مسعدٍ، والأمور سبحانه بيده، يوفق من يشاء بطاعته، ويخذل من يشاء، ويشقي من يشاء، ويسعد من أحبَّ. * * *

(1/272)


 الموضع القرآني [50]

والبدن جعلناها لكم من شعائر الله أعلمنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - في الآية التالية أنَّه جعل لنا البدن من شعائر الله تعالى، فقال: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 36 - 37]. امتنَّ الله - تعالى - على عباده بالبُدن، وهي الجمال التي جعلها لهم من شعائر الله، أي: جعلها من المعالم العظيمة التي يتقربون بها إلى ربِّهم تبارك وتعالى في الأضاحي والهدي، {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36]. والبُدن: جمع بدنةٍ، سميت بدنةً لعظمها وضخامتها، يريد العظام الصحاح الأجسام من الإبل، ومن شعائر الله من أعلام دينه، سمِّيت شعائر، لأنه تشعر، أي: تطعن بحديدةٍ في سنامها، فيعلم أنها هدي.

(1/273)


وقوله: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] أمرنا ربُّنا أن نذكر الله عليها صوافَّ، أي: ننحرها وهي صوافُّ والصوافُّ: التي علقت رجلها اليسرى، وقامت على ثلاث قوائمٍ، وقد وردت هذه الصفة عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخبر أنَّ النحر على هذا النحو سنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فعن زياد بن جبيرٍ، قال: رأيت ابن عمر رضي الله عنهما: أتى على رجلٍ قد أناخ بدنته ينحرها، قال: ابعثها قياماً مقيَّدةً، سنَّة محمد - صلى الله عليه وسلم -[البخاري 1713. ومسلم: 1320]. وقد نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده في حجَّة الوداع ثلاثاً وستين ناقة، ثم أعطى عليَّاً فنحر ما غبر، وأشركه في هديه [مسلم: 1218]. وقوله: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرّ} [الحج: 36] ووجوب جنوبها موتها بعد نحرها، ووجوب جنوبها سقوطها على الأرض بعد أن كانت قائمةً، وقد أمرنا أن نأكل منها بعد سقوطها على الأرض بعد النحر، ونُطعم القانع، وهو السائل المحتاج، ونُطعم المعترَّ وهو الذي يتعرض لك من غير سؤال، وقيل: القانع المتعفف، والمعتر هو المحتاج الذي يسأل. وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج: 36]: أي: تشكروه وتثنوا عليه بما أنعم عليكم من البدن. أخبرنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنه لا ينتفع بلحوم ودماء ما نتقرب به إليه من الأضاحي والهدي {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 37].

(1/274)


فالله سبحانه غنيٌّ عن لحوم وشحوم ما نتقرب به إليه من الإبل والبقر والغنم، والذي يريده تعالى منَّا التقوى، وذلك بتوقيره تعالى، وتعظيمه، والالتزام بشرعه كما قال عزَّ وجلَّ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58]. وقد بيَّن لنا ربُّنا - سبحانه وتعالى - أنه سخَّر لنا هذه البُدن بتذليله لها لنركبها ونحلبها وننحرها ذاكرين اسم الله عليها حين ننحرها، وأمر الله تعالى رسوله أن يبشر المحسنين، الذين التزموا بشرع الله تعالى، المخبتين لله، الطالبين لرضاه سبحانه. * * *

(1/275)


 الموضع القرآني [51]

الله تبارك وتعالى يولج الليل في النهار والنهار في الليل أولًا: تقديم عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - بنفسه، فدلنا على أفعاله التي لا يطيق أحدٌ من خلقه أن يقوم بها، فهو الذي يولج الليل في النهار، والنهار في الليل، وهو المعبود الحقُّ، وغيره من المعبودات باطلٌ، والذي ينزِّل الماء من السماء، فتصبح الأرض مخضرَّةً، وله وحده جميع ما في السموات والأرض، وهو الذي سخَّر لنا ما في الأرض، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلاَّ بإذنه، والذي أحيانا بعد موتنا، ثم يميتنا، ثمَّ يحيينا في يوم الدين. ثانيًا: آيات هذا الموضع من سورة الحج {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ

(1/276)


هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُور} [الحج: 61 - 66]. ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات يولج الليل في النهار ويول النهار في الليل: ينقص من طول هذا ويزيد في هذا. العلي: ذو العلو على كلِّ شيء. لطيف: الذي يصل إلى مراده بلطف. كفور، أي: كثير الكفر. رابعًا: شرح آيات هذا الموضع عرَّفنا ربُّنا في هذه الآيات بنفسه الكريمة سبحانه، وقد بيَّن لنا سبحانه وتعالى أنَّه: 1 - {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير} [الحج: 61] فالله - تبارك وتعالى - هو الذي يولج الليل في النهار،

(1/277)


وهو الذي يولج النهار في الليل، ومعناه يدخل ما انتقص من ساعات الليل في ساعات النهار، وما انتقص من ساعات النهار في ساعات الليل، فما نقص من طول هذا زاد في طول هذا، والله سبحانه وهو السميع لأقوال عباده، عليمٌ بأفعالهم. وهذه الآية كقوله تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [آل عمران: 27]. 2 - {اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62]. الله - سبحانه - هو الحقُّ، أي: هو المعبود الحقُّ، الذي خلق السموات والأرض بالحقِّ، وكلُّ الآلهة غيره آلهةٌ باطلة، لا تستحقُّ أن تُعبد وتدعى، والله سبحانه وتعالى هو العليُّ الكبير، أي: هو ذو العلو على كلِّ شيءٍ، وكلُّ شيءٍ دونه، وهو - سبحانه - الكبير، العظيم الذي لا أعظم منه. 3 - {اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِير} [الحج: 63]. وعرَّفنا ربُّنا - سبحانه وتعالى - أنَّه وحده الذي أنزل المطر من السماء، فتصبح الأرض مخضرَّةً، وخصَّ ذكر الصباح في قوله: {فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} لأن رؤية الخضرة بالنهار أوضح منها بالليل. وإذا أنت مررت بأرضٍ مجدبةٍ، فأنزل الله تعالى عليها الغيث، ثمَّ مررت بها أخرى، ترى أن الله تعالى كساها ثوباً أخضر من العشب، وترى أزهارها قد

(1/278)


تفتقت، وثمارها قد عُقِدت، وأشجارها اخضرَّت، وعناقيدها قد تدلَّت، فيسرك مرآها، ويطيب لك المقام فيها. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} أي: باستخراجه النبات من الأرض بالماء الذي ينزله من السماء. وهذه الآية كقوله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5]. 4 - {لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد} [الحج: 64]. أعلمنا ربُّنا عزَّ وجلَّ - أنَّ له السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، فله في الأرض جبالها وسهولها، وأنهارها وعيونها، ونباتها، ودوابُّها، وترابها، وصخورها، ومعادنها، وله في السماء نجومها، وشموسها، وأقمارها، وما لا نعلمه فيها، وهو سبحانه الغنيُّ عن عباده، فلا يحتاج إلى أحدٍ من خلقه سبحانه. . 5 - {اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج: 65]. وعرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - أنَّه هو الذي سخَّر لنا الأنهار في جريانها، والدوابَّ في خضوعها وتذليلها، فترانا نركب الإبل، ونشرب ألبانها، ونمتطي الخيول، ونحوز الأغنام، وترى الصغير منَّا يقود الإبل والبقر والغنم والخيول والحمير، ولو لم يُسخِّرها لنا ربُّنا لما أمكننا الانتفاع بها.

(1/279)


وسخَّر لنا ربُّنا - تبارك وتعالى - البحار، نخوض غمارها بالسفن، تحملنا وتحمل أثقالنا إلى بلادٍ بعيدة، وهو سبحانه الذي وحده يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، ولو أذن الله بسقوطها على الأرض، لهلكت الحياة فوق ظهر هذه الأرض، وختم ربُّ العزَّة الآية بقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} أي: كثير الرأفة والرحمة، لما خلق لهم في الأرض والسماء على النحو الذي ذكره سبحانه، وهذه الآية كقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]. وقوله: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ هي كقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41]. 6 - {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} [الحج: 66]. عرَّفنا ربُّنا - عزَّ وجلَّ - أنه أحيانا بعد موتنا، ثم يميتا عندما تنقضي آجالنا في هذه الحياة الدنيا، ثم يحيينا مرَّة أخرى يوم القيامة، وهذه الآية كقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28]، وقوله: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} [الجاثية: 26].

(1/280)


خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا - تبارك وتعالى - بنفسه في هذه الآيات عرَّفنا الله تعالى بنفسه في هذه الآيات بأن بيَّن لنا ما يأتي: 1 - الله تعالى هو الذي يدخل الليل في النهار، ويدخل النهار في الليل، فهما يتقارضان. 2 - الله تعالى هو المعبود الحقُّ، والآلهة التي يعبدها المشركون آلهةٌ باطلةٌ، والله تعالى هو العليُّ الكبير. 3 - الله تعالى أنزل من السماء ماءً، فتصبح الأرض مخضرة. 4 - الله تعالى له وحده ما في السموات وما في الأرض، وهو غنيٌّ عن خلقه، شاكر لمن عبده. 5 - الله - تعالى - سخَّر لنا كلَّ ما في الأرض من الدواب والحيوان والبحار والأنهار وغيرها. 6 - سخَّر الله تعالى لنا السفن تجري في البحار بأمره تحملنا وتحمل أثقالنا وبضائعنا إلى بلدٍ لمن نكن بالغية إلا بشقِّ الأنفس. 7 - الله تعالى يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، فالسماء محفوظةٌ، والأرض محفوظةٌ بحفظ الله سبحانه. 8 - كنَّا أمواتًا فأحيانا الله، ثم يميتنا في هذه الحياة عندما تنتهي آجالنا، ثم يحيينا يوم القيامة.

(1/281)