هل المسيح رب؟
ترجمات المادة
التصنيفات
الوصف المفصل
- هَـلِ
المَسِيحُ رَبٌّ؟!
- $أمَّا بَعْدُ:
- والآنَ نَبْدَأ بِقِرَاءَة هَذَا الْبَحْث الْمُبَارَك إنْ شَاءَ اللهُ، فَإِلى الْبَحْث.
- الفَصْل الأَوَّل: الأَدِلَّة النَّقْليَّة
- الدليل الأول
- الدليل الثاني
- الدليل الثالث
- الدليل الرابع
- ألا يَدلُّ هَذَا النص الصريح عَلى أنَّ الْمَسِيح بَشر؟
- الدليل الخامس
- مَا الْفرْقُ بَيْنَه وبَينَ الْبَشَرِ إذَنْ؟!
- الدليل السادس
- الدليل السابع
- تَمَّ الدَّلِيلُ السَّابِع، ونَنْتقِل الآنَ إِلَى الدَّلِيل الثَّامِن مِنْ أَدِلَّة بُطْلان مَقُولَة: (إنَّ الْمَسِيحَ رَبٌّ).
- الدليل الثامن
- الدليل التاسع
- الدليل العاشر
- الدليل الحادي عشر
- الْفَصْل الثَّاني: الأَدِلَّة الْعَقْليَّة
عَلَى
بُطْلانِ مَقُولَة: (إنَّ الْمَسِيحَ رَبٌّ)،
وعَددُ هَذِه الأَدِلَّة سِتَّةَ عَشَر
- الدليل الثاني عشر
- الدليل الثالث عشر
- الدليل الرابع عشر
- الدليل الخامس عشر
- الدليل السادس عشر
- الدليل السابع عشر
- الدليل الثامن عشر
- الدليل التاسع عشر
- الدليل العشرون
- الدليل الحادي والعشرون
- الدليل الثاني والعشرون
- الدليل الثالث والعشرون
- الدليل الرابع والعشرون
- الدليل الخامس والعشرون
- الدليل السادس والعشرون
- الدليل السابع والعشرون
- فَالْحَاصِلُ أنَّ الْمَسِيح لا يَرْضَى بِعِبَادَتِه، بَلْ يَأْمُر النَّاسَ بِعِبَادَة اللهِ وحْدَه، وعَدَم الإِشْرَاك بِه.
- إذَا كَانْتِ الْمَصَادِر الإِنْجِيليَّة تُقَرِّر أنَّ الْمَسِيحَ بَشَرٌ رَسولٌ، وأنَّه عبدٌ للهِ، وأنه لَيْسَ هُو اللهَ، ولا ابنَ اللهِ، فَمَا هُو سَبَب مُخَالفة الْمَسِيحيينَ لِهَذَا الاعْتِقَاد؟
- أينَ حَقِيقةُ مَقُولةِ: (اللهُ مَحبَّة)؟!
- ومَا هُو سِرُّ الْمَسْأَلَة؟
- الْفَصْلُ الثَّالث: الأَدِلَّة التَّارِيخِيَّة
عَلى إِثْبَات أنَّ مَقُولَة: (إنَّ الْمَسِيحَ رَبٌّ)
مَقُولَة مِنِ اخْتِرَاع الْبَشَر، وكَذَلِك مَقُولَة التَّثْلِيث
- الدليل الثامن والعشرون
- ومِنَ
الإِيجَازِ نَنْتَقِلُ إِلى التَّفْصِيل لِفَهْمِ دَوْر بُولِس فِي تَحْرِيف رِسَالةِ
الْمَسِيح، وبَيانُ ذَلكَ يَتَضَّحُ فِي سِتَّةِ نِقَاطٍ نَسرُدُها عَلى سَبيلِ الإِيْجَازِ
ثُمَّ نَتَكَلَّمُ عَلى كُلِّ وَاحِدةٍ بِالتَّفْصِيلِ:
- النُّقْطَة الأَوْلَى: إِثْبَاتُ عَدَاوَة بُولِسَ للْمَسِيح وأَتْبَاعِه.
- النُّقْطَة الثَّانِية: بُولِس يَدَّعِي أنَّه رَسُولٌ مُـعَـيَّنٌ مِنْ عِنْد الْمَسِيح، ويَنْقَلِب انْقَلابًا مُفَاجِئًا مِن عَدوٍّ شَرسٍ للْمَسِيحِ ودَعْوتِه إِلَى نَبيٍّ مُوحًى إِلَيهِ مِنَ الْمَسِيحِ نَفْسِه!
- النُّقْطَة الثَّالِثة: دَعْوى بُولِس أنَّ الْمَسِيحَ ابنُ الرَّبِّ، (تَعَالَى اللهُ عَنْ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا).
- النُّقْطَة الرَّابِعة: دَعْوى بُولِس أنَّ الْمَسِيحَ هُو الرَّبُّ، (تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ).
- النُّقْطَة الخَامِسَة: دَعْوى بُولِس أنَّ خَطِيئةَ أَبِينَا آدَمَ بَاقِيةٌ، وأنَّ الْبَشَر تَوارَثُوهَا، وأنَّ اللهَ أَرْسَل ابْنَه الْمَسِيحَ (فَادِيًا) لِـيُـخَلِّصَهُم مِن خَطِيئَة أَبِيهِمْ آدَمَ، بِأَنْ يَمُوت مَقْتُولًا مَصْلُوبًا، وبِذَلِكَ يَرْضَى الرَّبُّ، وتَـتِـمُّ المُصَالَحةُ بَيْنَه وبَيْن الْبَشَر.
- النُّقْطَة السَّادِسَة: إِثْبَات كَذِبِ بُولِس فِي دَعْوَاه أنَّ الْمَسِيحَ أَرْسَلَه, وغَيْرِهَا مِن الدَّعَاوى.
- $ التَّفْصِيل
- $ سَرْدُ النُّصُوصِ المُثْبِتَة لِعَدَاوَةِ بُولِس للْمَسِيح ودِيْنِه وأَتْبَاعِه
- $ التَّعْلِيق
- $ النَّتِيجَة
- $ مَقُدِّمَة
- $ تَعْلِيق
- $ تنبيه
- $ خُلاصَةٌ مُهِمَّةٌ فِي بَيانِ دَوْر بُولِس فِي تَحْرِيف دِينِ الْمَسِيح
- $ فَائِدة
- $ التَّعْلِيق
- $ التَّعْلِيق
- $ النَّتِيجَةُ الْمُؤلِمةُ لِدَوْرِ بُولِس
- $ فَائِدة
- $ مَكَانَة بُولِس فِي الْمَسِيحيَّة
- $ مَوقفُ الْمَسِيحيينَ مِن بُولِس
- $ موقف أتباع المسيح الأوائل مِن بُولِس
- الدليل
التاسع والعشرون
- $ التَّحِريف الكَنَائِسي الأَوَّل، وهو الطامة الثانية على دين المسيح، إذ الطامة الأولى ما حصل من تحريف بولس
- $ تَنبيه
- $ قَرَاراتٌ أُخْرى لِمَجْمَع نِيقيَة
- $ الطامة الثالثة على دين المسيح: دخول قُسطنطين في المسيحية، وفرضها بالقوة في المجتمع الروماني
- $ التَّحْرِيف الْكَنَائِسي الثَّانِي لِدِينِ الْمَسِيح بَعْد اعْتِنَاق الإِمْبَراطُور ثيودوسيوس الأوَّل للْمَسِيحيَّة وحُصُول الامْتِزَاج بَيْنَ الْمَسِيحيَّة والرُّومَانِيَّة
- $ التَّحْريفُ الكَنَائِسي الثَّالثُ
- $ التَّحْريفُ الكَنَائِسي الرَّابِع
- $ تَعليقٌ عَلى عَقِيدةِ (الطَّبيعَتَينِ) الَّتي أَتَى بِهَا نَسْطُور
- وبِنَاءً عَلى مَاذَا يُقَرِّر نَسْطُور أنَّ الْجَسَد واحدٌ والطَّبِيعة مُخْتَلِفَة؟
- هَلْ
هُو ربٌّ يَعْلم الْغَيب؟
- $ التَّحْريفُ الكَنَائِسي الْخَامِس
- $ التَّحْريفُ الكَنَائِسي السَّادِس- مَجْمَع خليقدونيَّة
- $ التَّحْريفُ الْكَنَائِسي السَّابع
- $ التَّحْريف الْكَنَائِسيِّ الثَّامِن
- $ التَّحْريفُ الكَنَائِسي التَّاسِع
- $ التَّحريفُ الكَنَائِسي الْعَاشِر الَّذِي نَشَأَ فِي بِدَاياتِ الْقَرنِ السَّادِس عَشَرَ الْمِيلادِي وما بعده
- تَوطِئةٌ:
- حَصَل هَذَا التَّحرِيف الكَنَائِسي نَتيجَةً لظرُوفٍ تَاريخِيَّةٍ مَحضَةٍ تَتلَخَّص فِي أَربع مَرَاحِل:
- المرحلة الأولى: انهيار الامبراطورية الرومانية عام 476م
- المرحلة الثانية: هيمنة الكنيسة الكاثوليكية وتسلطها البشع على المجتمع الأوروبي لمدة عشرة قرون وقصة انهيار تلك الهيمنة
- المرحلة الثالثة والرابعة: اكتشاف العالم الجديد (الأمريكتان) ثم استراليا ونيوزلندا بعد ذلك، ثم نشوء طائفة البروتستانت في العالم الجديد
- أَتْركُ الإِجَابةَ للْقَارِئ الـمُـتَّـزِن والقَارِئة الـمُـتَّـزِنة.
- الْفَصلُ الرَّابع: الأَدِلَّة القُرآنيَّة عَلَى بُطْلان مَقُولة: إنَّ الْمَسِيح رَبٌّ
- الْفَصلُ الْخامسُ: مُلْحقٌ فِيه فوائدُ عَامَّةٌ
- الْمُلْحَق الأوَّل: سُورَة الإِخْلاصِ مِنَ الْكِتَاب الـمُـقَـدَّس (القُرآن الْكَرِيم)
- الْمُلْحَقُ الثَّانِي: آيةُ الْكُرْسِي مِنَ الْكِتَاب الـمُـقَـدَّس (القُرْآنِ الْكَرِيم)
- الْمُلْحَق الثَّالث: نُبْذَةٌ عَنْ عَقَائِد الرُّومَان([84])
- الْمُلحقُ الرَّابع: قِصَّةُ مَريمَ العَذْراءِ وابْنِها الْمَسِيح عِيسَى ابنِ مَرْيمَ
- فَأَجَابَهَا
الْمَلاكُ:
- $ التَّعْلِيقُ عَلى الآيَاتِ
- $ حَصُول الطُّمَأنينةِ لِمَريمَ بَعْدَ طَمْأنَة ابْنِها لَهَا لمَّا ولَدَتْهُ
- $ خَاتِمةُ قِصَّة مَرْيم
- $ اضْطِرابُ النَّصَارَى فِي عَقِيدتِهم فِي مكانة مَرْيمَ وطبيعتها اضْطِرابًا شَديدًا
- $ وصْفُ اللهِ للْمَسِيح فِي القُرْآنِ بِأَنَّه «كَلِمَة اللهِ»
- $ حَالُ بَني إسْرَائِيلَ قَبْل بَـعْـثَـة الْمَسِيح إِلَيْهِم
- مُقَدِّمَة
- $ بَنُو إسْرَائِيل يَقْتُلُون النَّبيينَ
- $ بَنُو إسْرَائِيل يُـحَـرِّفون التَّورَاة - دِلالَةُ القُرآنِ عَلى تَحْريفِ التَّوراة الأَصْليَّة
- $ مَرْحَلة شَبَاب الْمَسِيح ونُبُوَّته
- $ فَائِدةٌ فِي بُطْلانِ عَقِيدة الْخِطيئَةِ الأُولَى
- $ الْمَسِيحُ يَجْمعُ تَلامِيذَه الصَّادِقِينَ حَوْلَه لمَّا اشْتَدَّ إعْرَاضُ قَوْمِه عنْ دَعْوته
- $ اسْتِشْعَار الْمَسِيح لِخَطَرِ الْقَتْل الَّذِي كَانَ الْيَهُود يُخَطِّطُونَه لهُ
- $ رَفْـعُ الْمَسِيح دُونَ أنْ يَـمَـسَّـهُ أذًى، وَفِيه إثْبَات بُطْلانُ عَقِيدَة «صَلْبِ الْمَسِيح»
- $ فَائدة
- $ فَائِدةٌ فِي بُطْلانِ عَقِيدَةِ الْخَطِيئةِ الأُولى
- $ شُبهةٌ والْجَوابُ عَليهَا
- $ ذِكْرُ الدليل على رَفْعِ المسيح عِيسَى عليه السلام إِلَى السَّمَاءِ فِي حِفْظِ الرَّبِّ، وَبَيَانُ خطأِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي دَعْوَى الصَّلْبِ
- وهُنَا قَدْ يَسْأَل سَائِلٌ فَيَقُولُ: لِمَاذَا يَكْرَهُ الْيَهُودُ الْمَسِيح؟
- قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ
قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ۖ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ۖ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ
عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾([154]).([155])
- $ فائدة تاريخية([156])
- $ حَالُ بَني إِسْرَائِيل بَعْدَ رَفْع الْمَسِيح وظُهُور بُولِس
- $ المراحل الأربع لتطور مسيحية بولس بعد مماته
- $ تحريف بني إسرائيل للتوراة والإنجيل مع مرور الزمن يعتبر من أعظم عوامل تحريف دين موسى والمسيح
- $ تنبيه هام
- $ نَـزَعَ اللهُ النُّبوةَ مِنْ بَني إسْرَائِيل
- $ مَكَانةُ الْمَسِيح عِنْدَ الْيَهُود والنَّصَارَى والْمُسْلِمين
- $ تَفْسِير هَذِه الآيةِ الْكَرِيمة
- وقدْ كَانَ أَهْلُ الْكِتَاب مِنَ الْيَهُود والنَّصَارى
يَعْبُدُون أَحْبَارَهُم ورُهْبَانَهُم، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالى عَنْهم: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا
وَاحِدًا ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾([174])؛ أيْ: يجعلون الأَحْبارَ
والرُّهْبانَ أربابا (جمع كلمة (رب))، ويَعْبدُون الْمَسِيح أيْضًا، مَعَ أنَّ اللهَ
مَا أمَرَهَم بِذَلِك، بَلْ أَمَرَهُم بِضِدِّه، وهُو تَرْكُ عِبَادَة كلِّ مَا سِوى
اللهِ، وعِبَادَة اللهِ وحْدَه لا شَرِيكَ لهُ.
- الْمُلْحَقُ الخَامِس: شُبْهةٌ والْجَوابُ عَليهَا
- الْمُلْحَقُ السَّادِس: فَائدِةٌ فِي مَعْنَى كَلِمةِ (ابنِ اللهِ) الْوارِدَةِ فِي بَعْضِ الأَنَاجِيلِ([177])
- $ فَصْلٌ فِي تَصْريح الْمَسِيح بِأَنَّه إِنْسانٌ بَشرٌ، وهَذَا قَاطعٌ للخِلافِ وحَاسمٌ للمَسْألةِ
- $ فَصلٌ فِي مَعْنى كَلِمة (الأَبِ)
- $ خُلاصَةُ مَا تَقَدَّم
- الْمُلْحَق السَّابع:
فَوائِد عامَّة
- ,1- هل اتخاذ شعار الصليب من دين المسيح؟([181])
- ,2- فائدة في بيان أصل ومنشأ مصطلح «المسيحية»([184])
- ,3- عبادات وعادات وطقوس ومنافع شخصية دخلت في دين المسيح بعد رفعه إلى السماء([185])
- ,4- أسباب الضعف في انتشار رسالة المسيح الصحيحة بعد رفعه إلى السماء([186])
- ,5- العوامل الخمسة لمعرفة لماذا المسيحي والمسيحية مستمران في المسيحية بالرغم مما فيها من تناقضات؟([187])
- الْمُلْحَق الثامن والأَخِير: هَمَسَاتٌ إيْمَانِيَّةٌ مِن القَلْبِ إِلَى القَلْب
- $ الْهَمْسةُ الأَوْلَى
- أَرَسَلَ اللهُ مُحمَّدًا (صلى الله عليه وسلم ) بِدينِ الإسْلامِ للنَّاسِ كُلِّهم، الْجِنِّ والإِنْسِ، الْعَربِ والْعَجَمِ، الأَبْيَضِ والأَسْودِ، بَني إِسْرائِيل وغَيْرِهمْ، قَالَ اللهُ في القُرْآنِ: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾([188])، وقَالَ: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾([189])، وقَالَ: ﴿ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ﴾([190]).
- وقَالَ اللهُ عَنِ الْمَسِيح أَنَّه قَالَ لِقَوْمِه: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾([204]).
- ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ 82 وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ 83 وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ 84 فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ﴾([206]).
- ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾([207]).
- خَــاتـمـــــــــة
- تَوْضِيحُ مُصْطَلحاتٍ عَامَّةٍ في الْكِتَاب
- ﴿ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ﴾([209]).
- مَراجِعُ عِلميَّةٌ لِمَن أَرَادَ الاسْتِزَادَة والفَائِدة، وهِي مَنْشُورةٌ في مَوقِع «الدِّين الْواضِح»
هَـلِ المَسِيحُ رَبٌّ؟!
ثَلَاثُون دَليلًا مِن العَهد القَدِيم، وَالعَهدِ الجَديدِ، وَالمنطِقِ، والتَّارِيخِ،
عَلَى أَنَّ يسُوعَ المسِيح (عِيسَى ابنَ مَريمَ)
بَشَرٌ رَسُولٌ مِن عِندِ رَبِّهِ وَخَالِقِهِ (الله)،
وَأَنَّه لَيسَ رَبًّا، وَلَا ابنَ الربِّ
وَلَا إلـٰهًا، وَلَا ابنَ الإِلـٰهِ
تأليف
مَاجِد بن سلَيمَان
رمضان ١٤٤٢ هـ / أبريل 2021 م
الْحَمدُ للهِ ربِّ الْعَالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى أَشْرفِ الأَنْبياءِ والْمُرْسَلين.
$أمَّا بَعْدُ:
فَكَان النَّاسُ في فِلَسْطينَ يَنْظُرون للْمَسِيح ابنِ مَرْيمَ قَبْلَ أنْ يَبدأَ دَعْوتَه عَلَى أنَّه إنْسانٌ مِثْلُهم، ولَمَّا بَدأَ دَعْوتَه لِقَومِه الْيَهُود انْقَسَمُوا إلى قِسْمينِ:
الأَوَّل: قَومٌ صَدَّقُوه وآمَنُوا بِرِسَالَته، وأنَّه نَبيٌّ بَشرٌ مُرسَلٌ مِنَ اللهِ جل وعلا إِلَيْهمْ.
والقِسْمُ الثَّاني: كذَّبُوه ولمْ يُؤمِنوا بِه، واتَّهَمُوه بِأَنَّه مُدَّعٍ للنُّبُوَّة.
وبَعْدَ رَفْع الْمَسِيح إلى السَّماءِ بِسَنَواتٍ قَلِيلَة جَاءَ بُولِس، فَادَّعى أنَّ الْمَسِيح إلـٰهٌ وأنَّه ابنُ اللهِ، وأنَّه الرَّبُّ وابنُ الرَّبِ، فَنَشَأ قِسْمٌ ثَالثٌ يُضَاف إلى الْقِسْمينِ الآنِف ذِكْرُهما.
والْجَوابُ عنْ هَذِه الْمَقُولة (مَقُولَة: إنَّ الْمَسِيحَ إلـٰهٌ وابنُ الإلـٰهِ، وأنَّه الرَّبُّ وابنُ الرَّبِّ) مِنْ ثَلاثِينَ وَجْهًا، إحْدَى عَشْرَ مِنْهَا نَقْليَّةٌ (أي: مَنْقُولة مِنَ الْعَهد الْقَدِيم والْجَدِيد)، وسِتَّةَ عَشَرَ عَقْليَّةٌ (أي: مَعْلومة بِالْعَقلِ والْمَنْطِقِ والتَّفْكِير الصَّحِيح)، واثْنَتَانِ مِنْهَا تَارِيخِيَّة (أي أنَّ هُنَاك شَاهِدَينِ مِنَ التَّارِيخ يَدُلَّانِ عَلى أنَّ هَذِه الْعَقِيدة مِنَ اخْتِرَاع الْبَشَر، لَيْسَتْ مِن عِنْدِ ربِّ الْبَشَر وهُو اللهُ، ولمْ يَعْلَمْ بِهَا الْمَسِيحُ لَمَّا كَانَ عَلى الأَرْضِ)، والدَّلِيلُ الأَخِيرُ الْخَاتِمي هُو الدَّليلُ القُرْآنيُّ عَلَى أنَّ الْمَسِيحَ بَشَرٌ رَسُولٌ، لَيْسَ ربًّا ولا ابْنَ الرَّبِ، ولا إلـٰهًا ولا ابْنَ الإلـٰهِ.
وقَدْ قَسَّمتُ هَذَا الْبَحْثَ الْمُبَاركَ إلى خَمْسَة فُصُولٍ بِحَسَبِ أنْواع هَذِه الأَدِلَّة، فَقُلتُ:
· الْفَصْل الأَوَّل: الأَدِلَّة النَّقْلِيَّة.
· الفَصْل الثَّاني: الأَدِلَّة الْعَقْليَّة.
· الفَصْل الثَّالث: الأَدِلَّة التَّارِيخيَّة.
· الفَصْل الرَّابع: الأَدِلَّة الْقُرْآنيَّة.
· الْفَصْل الخَامِس: مُلْحقٌ فِيه فَوائدُ عَامَّةٌ.
$
والآنَ نَبْدَأ بِقِرَاءَة هَذَا الْبَحْث الْمُبَارَك إنْ شَاءَ اللهُ، فَإِلى الْبَحْث.
الفَصْل الأَوَّل: الأَدِلَّة النَّقْليَّة
وتَتَضمَّن الأَدِلَّةَ مِنَ الْعَهْد الْقَدِيم والْجَدِيد عَلَى بُطْلان مَقُولة: (إنَّ الْمَسِيح رَبٌّ)، وعَدَدُ هَذِه الأَدِلَّة أحَدَ عَشَر:
الدليل الأول
كَيْف يَصِحُّ أنْ يُقَال: إنَّ الْمَسِيح هُو الرَّبُّ أو ابنُ الرَّبِّ مَعَ أنَّه لا تُوجَد عِبارةٌ وَاحِدةٌ صَريحَةٌ في أيٍّ مِنَ الأنَاجِيلِ الأَرْبَعة ولا في الرَّسَائِل الثَّلاثة والعِشْرِين الْمُلْحَقة بِهَا تَنُصُّ عَلى أنَّ الْمَسِيح قَالَ عنْ نَفْسِه بِعِبَارةٍ صَريحةٍ: إنَّه ابنُ الرَّبِّ، أو الربُّ، أوْ إنَّه اللهُ، أو ابنُ اللهِ (بُـنُـوَّةَ نَسَبٍ وولادَةٍ)، أوْ أِنَّه جُزءٌ مِنَ اللهِ، أوْ أِنَّ ذَاتَه هِي ذَاتُ اللهِ، وأِنَّ فِعْلَه فِعْلُه، أوْ أِنَّ مَشِيئتَه مُسَاويةٌ لِمَشِيئة الرَّبِّ، أوْ أِنَّه خَالِقٌ، أوْ رَازِقٌ، أو أِن له شِركةٌ مع الله في شيءٍ من صفاته. (تَعَالى اللهُ عنْ ذَلِك عُلُوًّا كَبيرًا).
نَعَمْ، لوْ كَان الْمَسِيحُ إلـٰهًا وربًّا وخَالِقًا ورَازِقًا لاسْتَفَاضَ ذِكرُ ذَلِك في الأَنَاجِيل، لأنَّه أمرٌ مُتَعلِّقٌ بِأُصُول الْعَقِيدة، فَلمَّا لمْ يَدَّع لِنَفْسِه شَيئًا مِنْ ذَلِك فَإِنَّه لا يَصِحُّ أنْ يُوصَف بِهَذَا، فَهُو أَدْرَى بِنَفْسِه مِنْ غَيْره.
والْمُتَأمِّل في الأَنَاجِيل بِحِيَادِيَّةٍ وإنْصَافٍ يجِد فِيها كلامًا عنِ الْمَسِيح يُنَاقِض وصْفَه بِالرُّبوبِيَّة والأُلُوهِيَّة تمامًا، فَقَدْ جَاءَ فِيهَا أنَّه عَبْدٌ للهِ، يُصَلِّي لهُ، وأنَّه لا مَشِيئة لَه مَعَ مَشِيئَةِ اللهِ، كَمَا يَجِدُ الْمُتَأَمِّل فِيهَا أنَّ الْمَسِيح أَظْهَرَ في كَلامِه الضَّعْفَ والعَجْزَ والْخَوْفَ، وأَنَّهُ بشرٌ، وأنه عَبدُ الله ورَسُولُه، وسيأتي قريبا ذكر أدلةٍ إنجيلية كثيرة على ذلك.
ثُمَّ لو كان المَسِيح هو الله أو ابن الله، أو الرب أو ابن الرب؛ لدَعا النَّاس إلى عِبادة نفسه، ولَـــوَرَدَ عنه ذلك بكثرةٍ في الأناجيل، لأنَّ الرب يدعو النَّاس إلى عبادة نفسه، لأنَّه هُو ربهم الَّذي يخلقهم ويرزقهم ويُـميتهم ويحييهم، فيكون مستحقًّا لأن يُعبد، ولكن الواقع أنَّه لم يرِد عنه المَسيح ولا مرة واحدة بعبارة واضحة أنه دعا الناس إلى عبادة نفسه، بأن قال (اعبدوني)، وحاشاه أن يقول ذلك، وصدق الله إذ قال في القرآن العظيم في وصف أنبياءه الذين هم صفوة خلقه ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ َ﴾([1])، ومعنى الآية الكريمة: ما ينبغي لأحد من البشر أن يُنزِّل الله عليه كتابه ويجعله حكمًا بين خلقه ويختاره نبيًّا، ثم يقول للناس: (اعبدوني من دون الله)، بل النبي الصادق يدعو الناس إلى عبادة الله، ولا يتعدى على حقوق ربه ومولاه.
الدليل الثاني
أضف إلى ذلك أنه لا يُوجَدُ إثْبَاتٌ لِهَذِه الْمَقُولَة (مَقُولَة: إنَّ الْمَسِيحَ هُو اللهُ أو ابنُ اللهِ) لا في الْكُتبِ السَّابِقةِ للإِنْجِيلِ؛ كالتَّوْرَاةِ والزَّبُورِ، ولا في الْكِتَابِ الَّذِي جَاءَ بَعْد الإِنْجِيل؛ وهُو الْقُرْآن.
نَعَمْ أَيُّهَا القَارِئُ الْكَرِيم وأَيتُّهَا الْقَارِئَةُ الْكَرِيمة، فلَمْ تُبَشِّرِ التَّوْرَاةُ ولا أَيُّ كِتَابٍ نزل مِنَ السَّمَاءِ قَطُّ بِأَنَّ الله تعالى سيتجسد مع المسيح، ويكون الاثنان جسدا واحدا يَمْشِي على الأَرْضِ، ويُخَاطِب النَّاسَ، ويَدْعُوهُم، ويَأْكُلَ ويَشْرَبَ مَعَهم، تَعالَى اللهُ عَنْ ذَلِك عُلوًّا كَبِيرًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُهَانَ هذا الجسد الواحد ويُصْفَعَ عَلى قَفَاه، ويُعَلَّقَ عَلَى خَشَبَةِ الصَّلْب، ويُبْصَقَ في وجْهِهِ، تَعَالى اللهُ أنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِهَذِه النَّقَائصِ والإهانات، وتَعالى اللهُ أنْ يُمَكِّنَ أَعْدَاءَه مِنْ رَسُولِه أن يُهينوا كَرَامَتَهُ.
$
الدليل الثالث
بَلْ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ؛ فَقَدْ وَرَدَ في الْعَهْدَينِ الْقَدِيمِ والْجَدِيدِ مَا يَزِيدُ عَلَى ثَلاثِينَ نَصًّا تَدلُّ بِكُلِّ وُضُوحٍ عَلَى أنَّ الْمَسِيحَ لَهُ ذَاتٌ، وأنَّ اللهَ لَهُ ذَاتٌ أُخْرى، وأنَّ ذَاتَ الله مُنْفَصِلةٌ عَنْ ذَاتِ الْمَسِيحِ، مِمَّا يَدلُّ عَلَى أنَّ الْمَسِيحَ لَيْسَ هُو اللهَ ولا ابنَ اللهِ، ويَدلُّ -أيْضًا- عَلَى بُطْلانِ عَقِيدَة التَّجَسُّدِ وعَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ، وهَذَا أوَانُ الشُّرُوعِ في ذِكْرِ هَذِه النُّصُوصِ:
نَصُوصُ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ الَّتي تُقَرِّرُ أنَّ اللهَ وَاحِدٌ في ذَاتِه، وعَدَدُهَا خَمْسَةٌ وعِشْرُون
,1- (سِفْرُ التَّثْنِية 6: 4):
«اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إلـٰـهُـنَا رَبٌّ وَاحِدٌ».
وهَذَا النَّصُّ مَذْكُورٌ أيضا في الْعَهْدِ الْجَدِيدِ في «إنْجِيل مُرْقُص» (12/29)، ولفظه: «فأجابه يسوع: إن أول كل الوصايا: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إلـٰـهُـنَا رَبٌّ وَاحِدٌ».
والشَّاهدُ مِنْ هَذَا النَّصِّ هُو أنَّ الْمَسِيحَ لو كان ربًّا لقال: (الرَّبُّ هُو الْمَسِيح)، أوْ: (المسيح إلَـٰهُكم)، أوْ: (أنا ربكم وإلَـٰهُكم)، بَلْ قَالَ: (الرَّبُّ إلَـٰهُنَا)، فَهُو يَتَكَلَّم عَنْ ذَاتٍ غَير ذَاتِه تَمامًا، ويُقَرِّر أنَّ الله هو إلَـٰهُ الناسِ كلِّهم، وهذا يتضمن أنه هو نفسه يَعْبدُ اللهَ ويَتَّخِذُه إلـٰهًا، فَبَطَلتْ بِذَلِك مَقُولةُ: إنَّ الْمَسِيحَ هُو الإِلـٰهُ، وأنَّه دَعَا إلى عِبَادَةِ نَفْسِه أوْ عِبَادَةِ أُمِّهِ، حَاشَاه مِنْ ذَلِك، بَلْ دَعَا إلى عِبَادَةِ اللهِ وحْدَه لا شَرِيكَ لَهُ كَمَا فَعَلَ جَمَيعُ الرُّسُل.
,2- (حِكْمَةُ سُلَيْمَان 13:12):
«إذْ لَيْسَ إلـٰهٌ إلَّا أَنْتَ الْمُعْتَني بِالْجَمِيع».
,3- (الْمُلوك الثَّاني 19/ 15، 19):
«وصَلَّى حَزقيَّا أَمَامَ الرَّبِّ وقَالَ: أيُّها الرُّبُّ إلـٰهَ إسْرَائِيلَ الْجَالِس فَوْقَ الكَرُوبيم. أَنْتَ هُو الإلـٰهُ وحْدَك لِكُلِّ مَمَالِكِ الأَرْضِ. أَنْتَ صَنَعْتَ السَّمَاءَ والأَرْض.
والآنَ أيُّهَا الرَّبُّ إلـٰهنا، خَلِّصْنا مِنْ يَدِه([2])، فَتَعْلم مَمَالكُ الأَرْضِ كُلُّها أنَّكَ أَنْتَ الرَّبُّ الإلـٰهُ وحْدَك».
وهُو في (إشعياء 37: 16، 20).
,4- (إشعياء 43: 11):
«أنَا أنَا الرَّبُّ، ولَيْسَ غَيْرِي مُخَلِّصٌ».
,5- (إشعياء 44: 6، 8):
«هَكَذا يَقُولُ الرَّبُّ مَلِكُ إسْرَائِيلَ وفَادِيه، ربُّ الْجُنود: أنَا الأوَّلُ وأنَا الآخِرُ ولا إلـٰه غَيْري... لا تَرْتَعِبوا ولا تَرْتَاعُوا. أمَا أَعْلَمتُك مُنْذ القَدِيم وأَخْبَرْتُك؟ فَأَنْتُم شُهُودِي. هَلْ يُوجَد إلـٰهٌ غَيرِي ولا صَخْرة لا أَعْلَمُ بِهَا؟».
,6- (إشعياء 9:46):
«اذْكُروا الأُوليات مُنْذ الْقَدِيم، لأنِّي أنَا اللهُ ولَيْسَ آخَر، الإلـٰه ولَيْس مِثْلي».
,7- (إشعياء 8:42):
«أنَا الرَّبُّ هَذَا اسْمي، ومَجْدِي لا أُعْطِيه لآخَرَ، ولا تَسْبِيحِي للْمَنْحُوتَات».
,8- وفي (إشعياء 45: 21-22) يَقولُ الرَّبُّ:
«ألَيْسَ أنَا الرَّبُّ ولا إلـٰه آخَـر غَيْرِي، إلـٰهٌ بَارٌّ ومُـخَـلِّـصٌ ليْسَ سِواي. الْتَفِتُوا إلَيَّ وأخْلِصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي الأَرْض، لأنِّي أنَا اللهُ ولَيْسَ آخَر».
قَوْلُه: (الْتَفِـتُوا إليَّ وأَخْلِصُوا)؛ أي: تَوجَّهُوا إِلَيَّ في عِبَادَتِكُم واجْعَلُوها خَالِصَةً لي، ولا تَعْبُدُوا غَيْرِي.
,9- وفي (إشعياء 45 : 5 - 6) يَقُول الرَّبُّ:
«أنَا الرَّبُّ ولَيْسَ آخَر. لا إلـٰه سِواي. نَطَقْتُك وأَنْتَ لمْ تَعْرِفْني. لِكَي يَعْلَمُوا مِنْ مَشْرِق الشَّمْس ومِنْ مَغْرِبِهَا أنْ لَيْسَ غَيْري. أنَا الرَّبُّ ولَيْسَ آخَر».
,10- (إشعياء 64: 4):
«لمْ تَرَ عَينٌ إلـٰهًا غَيْرَك يَصْنَع لِمَن يَنْتَظِره».
,11- (إشعياء 26: 13):
«أيُّهَا الرَّبُّ إلـٰهنا، قَدِ اسْتَولى عَلَينا سَادَةٌ سِواك، بِكَ وحْدَك نَذْكُر اسْمَك».
,12- (إشعياء 45: 14):
«ولَكَ يَسْجِدون، إلَيْكَ يَتَضَرَّعُون قَائِلين فِيكَ وحْدَك: اللهُ ولَيْس آخَر».
,13- (ملاخي 2: 10):
«ألَيْس أبٌ وَاحِدٌ لكلنا؟! ألَيْس إلـٰهٌ واحِدٌ خَلَقَنَا؟!».
,14- (سيراخ 1: 8):
«واحدٌ هُو حَكِيمٌ، عَظِيمُ الْمَهَابة، جَالِسٌ عَلَى عَرْشِه».
,15- وفي (أخْبَار الأَيَّام الثَّاني 6: 19) أنَّ النَّبيَّ سُلَيمانَ قَالَ وهُو يُنَاجِي رَبَّه:
«فَالْتَفِتْ إلى صَلاةِ عَبْدِك وإلى تَضَرُّعِه أيُّها الرَّبُّ إلـٰهي، واسْمَعِ الصُّرَاخَ والصَّلاةَ الَّتي يُصَلِّيهَا عَبْدُك أَمَامَك».
,16- (نحميا 9: 6):
«أَنْتَ هُو الرَّبُّ وحْدَكَ، أَنْتَ صَنَعْتَ السَّمَاواتِ وسَمَاءَ السَّمَاواتِ وكُلَّ جُنْدِهَا، والأَرْضَ وكُلَّ مَا عَلَيْهَا، والْبِحَارَ وكُلَّ مَا فِيهَا، وأَنْتَ تُحْييهَا كُلَّهَا، وجُنْدُ السَّمَاء لَكَ يَسْجُدُ».
,17- (سفر يشوع ابن سيراخ 36: 2):
«وأَلْقِ رُعْبَك عَلى جَمِيع الأُمَمِ الَّذينَ لمْ يَلْتَمِسُوكَ لِيَعْلَمُوا أنَّه لا إلَـٰه إلَّا أَنْتَ، ويُخْبِروا بِعَظَائِمِك».
,18- (مزمور 86: 8-10):
«لا مِـثْلَ لَكَ بَين الآلِهَة يَا رَبِّ، ولا مِثْلَ أعْمَالِك. كُلُّ الأمَمِ الَّذِين صَنَعْتَهُمْ يَأْتُونَ ويَسْجِدُونَ أَمَامَك يَا رَبِّ، ويُمَجِّدُونَ اسْمَك، لأنَّك عَظِيمٌ أنْتَ وصَانِعُ عَجَائِب، أَنْتَ اللهُ وحَدَك».
,19- (دانيال بالتتمة 3: 45):
«ولْيَعْلَمُوا أنَّك أَنْت الرَّبُّ الإلـٰهُ وحْدَك الْمَجِيد في كُلِّ الْمَسْكُونة».
,20- (الملوك الأول 8: 60):
«لِيعْلمَ كُلُّ شُعوبِ الأَرْض أنَّ الرَّبَّ هُو اللهُ ولَيْس آخَـر».
,21- (صموئيل الأول 2: 2):
«لَيْسَ قُدُّوسٌ مِثلَ الرَّبِّ، لأنَّه لَيْسَ غَيْركَ، ولَيْس صَخرةٌ([3]) مِثلَ إلـٰهَنَا».
,22- (صموئيل الثاني 7 : 22):
«لِذَلِك قَدْ عَظُمتَ أيُّها الرَّبُّ الإلـٰه لأنَّه لَيْس مِثْلكَ, ولَيْس إلـٰهٌ غَيرَك حَسَبَ كُلِّ مَا سَمِعْنَاه بِآذَانِنا».
,23- (أستير بالتتمة 14: 19):
«الإلـٰهُ القَديرُ عَلى الْجَميعِ، فَاسْتَجِبْ لأصْواتِ الَّذينَ لَيْسَ لَهُم رَجاءٌ غَيْرَكَ، ونـجِّـنا مِن أَيدِي الأُثماء، وأَنْقِذني مِن مَخَافَتي».
,24- (مزمور 16: 2):
«قُلتُ للرَّبِّ:أنتَ سَيدِي، خَـيْـرِي، لا شَيءَ غَيْرُك».
,25- وفي (سفر دانيال بالتتمة 40:14):
«فَهَتَفَ بِصَوتٍ عَالٍ, وقَالَ: عَظِيمٌ أنتَ أيُّهَا الرَّبُّ، إلـٰهُ دَانِيالَ ولا إلـٰهَ غَيْرُك».
$ خلاصة
كل هذه النصوص من العهد القديم (التوراة) تقرر شيئًا واحدًا، وهو أنَّ الله واحدٌ في ذاته، وليس ثلاثة، فبطلت بذلك مقولة إنَّ المسيح هو الله، أو إنه ثالث ثلاثة، وبناء عليه؛ فمن لم يؤمن بأن الله واحدٌ في ذاته، وليس ثلاثة؛ فقد كفر بالنصوص المنقولة من العهد القديم ولم يؤمن بها في الحقيقة.
نَصُوصُ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّتِي تُقَرِّر أنَّ اللهَ واحدٌ فِي ذَاتِه، وعَدَدُها عَشْرة
,1- في «إنْجِيل يُوحَنَّا» (20/17) قَالَ الْمَسِيحُ لامْرأةٍ: «اذْهَبي إلى إخْوَتي وقُولي لَهُم: إنِّي أَصْعد إلى أَبي وأَبِيكُمْ وإلـٰهِي وإلـٰهِكُمْ».
فدَلَّ قَولُ الْمَسِيح: (إلـٰهِي وإلـٰهِكُمْ) عَلَى اعْتَرافِه بِأنَّ اللهَ هُو إلـٰههُ وإلـٰهُ النَّاسِ كُلِّهِمْ، وأنَّ الْمَسِيح نَفْسَه لَيْسَ إلـٰهًا ولا ربًّا، بَلْ هُو عبدٌ للهِ كَسَائِر الْبَشَر، لأنَّ إلـٰـهَهُ هُو إلـٰهُ قومِه الَّذِينَ خَاطَبهُم، وهُو اللهُ، ولوْ كَانَ الْمَسِيحُ هُو اللهَ لَمَّا كَانَ لِهَذِه الْجُمْلةِ مَعْنًى: (إنِّي أَصْعَدُ إِلى... إلـٰهِي)، فَإلى مَنْ سَيصْعَد الْمَسِيحُ لو كان هُو اللهُ ذَاتُه؟!
كذَلِك ففِي وصف المَسيح لقومِه بأنَّهم (إخوته) دليل على أنَّه بشر مثلهم، وليس ربهم، ولَو كَان المَسِيح ربهم لمَا صَحَّ وصفه لَهم بأنَّهم إخوته، وهذا واضح.
ووصْفُ المَسِيح لهم بأنهم إخوتُه يعني بذلك الأخوة في النسب، لأنَّهم جميعًا من نسلٍ واحد، وهو بنو إسرائيل، فيصح أن يصفهم بأنهم إخوته لاتِّحادهم في النسل.
ومِنَ اللَّطِيف ذِكْرُه في هَذِا الْمَقَام أنَّ القُرْآنَ (دُسْتُور دِين الإسْلام) ذَكَر اعْتِرافَ الْمَسِيحِ بِأَنَّ اللهَ هُو ربُّه وربُّ النَّاسِ كُلِّهِمْ في خَمْسَةِ مَواطِنَ، وهِي:
﴿ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۖ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾([4]).
وقَالَ اللهُ في القُرْآنِ عنِ الْمَسِيح أنَّه قَالَ لِقَومِه: ﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ﴾([5]).
وقَالَ اللهُ في القُرآنِ عنِ الْمَسِيح أنَّه قَالَ لِقَوْمِه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۗ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾([6]).
وفي سُورة مَريمَ أنَّه قَالَ لِقَوْمِه: ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾([7]).
وقَالَ اللهُ في القُرْآنِ عنِ الْمَسِيح أنَّه قَالَ لِقَومِه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾([8]).
فَالْحاصِلُ أنَّ الأَنَاجِيل تُثْبتُ أنَّ الْمَسِيح كَانَ مُـقِـرَّا لله بأنَّه رَبُّه وربُّ النَّاسِ كُلِّهم، وكَذَلِك القُرآنُ، بِخِلافِ الاعْتِقَاد السَّائِد بَينَ الْمَسِيحيينَ بأنَّ الْمَسِيحَ هُو نَفْسُه الربُّ وابنُ الرَّبِّ.
$ تَنْبيهٌ هَام
مِنَ الْمَعْلومِ أنَّ مَعْنى الأَبِ في الْمَصَادِر الإنجيليَّةِ هُو الْمُربيُّ، ولَيْسَ مَعْنَاه أُبُـوَّة النَّسَبِ الْمَعْرُوفَة، التي يتولَّد فيها الابن من الأب والأم عن طريق العلاقة الجنسية، يَدلُّ لِهَذَا أنَّ الْمَسِيحَ وصَفَ الرَّبَّ بِأَنَّه أبو جَمِيع النَّاسِ في قَوْلِه: (أصْعدُ إلى أبي وأَبِيكُمْ)، ولا أَحَدَ يَقُول: إنَّ الله هو أبُ النَّاسِ كَلِّهِم بِمَعْنَى أُبُـوَّة النَّسَب الْمَعْرُوفَة.
وبناء عليه فإن مَعْنى الأَبِ هُنَا أي الْمُرَبي والـمُعْتَني، ومِن المعلوم أنَّ اللهَ هو الْخَالقُ الرَّازِقُ الْمُدبرُ لِشئُونِ النَّاسِ كُلِّهمْ.
,2- وفي «يُوحَنا» (28:14) قَالَ الْمَسِيح: «لأنَّ أبي أَعْظمُ مِنِّي».
فَلوْ كَان اللهُ والْمَسِيحُ مُتَسَاويينِ ولَهُمَا ذَاتٌ وَاحِدةٌ فَكَيفَ يَكُونُ اللهُ أَعْظَمَ مِنْه؟!
هَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِر.
فَدلَّ هَذَا عَلَى أنَّ ذَاتَ اللهِ لَيْسَتْ هِي ذَاتَ الْمَسِيح، بَلْ لكُلٍّ مِنْهُمَا ذَاتٌ مُخْتَلِفةٌ، واللهُ فَوْقَ سَمَاواتِه عَلَى عَرْشِه جل وعلا ، لا يَمْتَزِج بِخَلْقِه ولا يُخَالِطُهُمْ، هُمْ في الأَرْضِ، وهُو فَوْقَ السَّمَاء السَّابِعة عَلَى عَرْشِه.
,3- «يوحنَّا» (17: 3):
«وهذه هي الْحَياةُ الأَبَديَّة أنْ يَعْرِفُوكَ أَنْت الإلـٰهُ الْحَقِيقِيُّ وحْدَكَ، ويَسُوعُ الْمَسِيحُ الَّذِي أَرْسَلْتَه».
,4- «مُرْقُص» (12: 29، 32):
«فَأَجَابه يَسُوع: إنَّ أوَّل كُلِّ الوصَايَا هِي: اسْمَع يَا إسْرَائِيل، الرَّبُّ إلـٰهُنا ربٌّ واحِدٌ...
فَقَالَ لَهُ الْكَاتبُ: جَيِّدًا يَا مُعَلِّم، بِالْحَقِّ قُلت: لأنَّه اللهُ واحِدٌ، ولَيْس آخرُ سِواه».
,5- «لُوقَا» (18: 19):
«فَقَال لَهُ يَسُوع: لِمَاذَا تَدْعُوني صَالحًا؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالحًا إلَّا واحدٌ وهُو الله».
,6- وفي «مُرْقُص» (10 : 17- 18) يوجَد نَفس الدَّلِيل.
,7- «يوحنَّا» (5: 44):
«كَيْفَ تَقْدِرُون أنْ تُؤمِنُوا وأَنْتُم تَقْبَلُون مَجْدًا بَعْضُكم مِنْ بَعضٍ، والْمَجْد الَّذِي مِنَ الإلـٰهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبونَه؟!».
,8- «متَّى» (4: 10):
«حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: اذْهَب يَا شَيْطَان، لأنَّه مَكْتوبٌ: للرَّبِّ إلـٰهِك تَسْجُد، وإيَّاهُ وحْدَه تَعْبُد».
تَنْبيه: هَذَا مُتَوافِقٌ مَعَ الآيَةِ الَّتي في سُورَة الْفَاتِحة الَّتي في القُرْآنِ الْعَظِيم: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾([9]).
,9- «مُرْقُص» (2: 7):
«لِمَاذَا يَتَكَلَّم هَذَا هَكَذَا بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أنْ يَغْفِر خَطَايا إلَّا اللهُ وحْدَه؟».
,10- «الرُّؤيا» (15: 4):
«مَنْ لا يَخَافُك يَا رَبِّ ويُمَجِّدُ اسْمَكَ؟ لأنَّك وحْدَك قُدُّوس، لأنَّ جَمِيع الأُمَمِ سَيَأْتُونَ ويَسْجُدُون أَمَامَك، لأنَّ أحْكَامَك قَدْ أُظهِرت».
$ خلاصة
دلت النصوص الإنجيلية المتقدمة على أن المسيح كان مقرًّا لله بأنه واحدٌ في ذاته، وأنه إلـٰهُهُ وربُّهُّ الحقيقي، بل إلـٰهُ وربُّ الناسِ كلهم.
$
الدليل الرابع
الدَّليلُ الرَّابعُ عَلى بُطْلانِ مَقُولَة: (إنَّ الْمَسِيح إلـٰهٌ وربٌّ) هُو أنَّه قَد وَرَدَ عنِ الْمَسِيحِ نَفْسِه مَا يُثْبتُ أنَّه إِنْسانٌ، ومِنْ أَصْلٍ بَشَري:
* فَقَد وَرَدَ في «إنْجِيل لُوقَا» في الإصْحَاح التَّاسِع، عَدَد 56، قَولُ الْمَسِيح عَنْ نَفْسِه:
«لأنَّ ابنَ الإنْسَان لمْ يَأتِ لِيَهْلِك أَنْفُسَ النَّاس».
فَهَذَا النَّصُّ صَريحٌ في أنَّ الْمَسِيح لَيْس ابنَ اللهِ, وإنَّمَا ابنُ الإنْسَان، وهُو الْجِنْس الْبَشَري.
ومن المعلوم أنه ابن مريم، حملته في بطنها، وتقلَّب في رحِـمِها، ثم ولدته كما تلد سائر النساء أولادَهُن.
* وفي «إنْجِيل يُوحَنَّا» (8-28) قَالَ الْمَسِيحُ:
«فَقَالَ لَهُم يَسُوعُ: مَتَى رَفَعْتُم ابنَ الإِنْسَانِ، فحينئذٍ تَفهمُون أَنِّي أَنَا هو ولَسْتُ أَفْعلُ شَيئًا مِنْ نَفْسِي بَل أتكَلَّم بهَـٰذا كمَا علَّمني أَبي».
ألا يَدلُّ هَذَا النص الصريح عَلى أنَّ الْمَسِيح بَشر؟
لوْ كَانَ الْمَسِيح ربًّا لَمَا وَصَفَ نَفْسَه بِالْبَشَريَّة في قَوْلِه: (ابن الإنْسَان)، ولَمَا قَالَ: (لَسْتُ أَفْعَل شَيئًا مِنْ نَفْسِي)، لأنَّ رَبَّ الْكَوْن يَفْعَل كُلَّ شَيءٍ، ويَدُبِّر أَمَرَ الْكَونِ كُلِّه، وبِنَاءً عَليه فَلا يُمْكِن عَقْلًا أنْ يَقُولَ الْمَسِيحُ: (لَسْتُ أَفْعَلُ شَيئًا مِنْ نَفْسِي) وهُو ربُّ الْكَوْن في نَفْسِ الْوَقْت، وإلا كان المسيح مُراوِغا في كلامه، حاشاه من ذلك.
* وفي «إنْجِيل مَتَّى» (11/19) قَالَ يَسُوعُ عَنْ نَفْسِه للْجُمُوعِ: «جَاءَ ابنُ الإنْسَانِ يَأْكُل ويَشْرَب».
* كَمَا قَالَ الْمَسِيحُ لِمَن أَرَادَ قَتْلَه: «ولكِنَّكُم الآنَ تَطْلُبونَ أنْ تَقْتُلُوني. وأنَا إنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُم بِالْحَقِّ الَّذِي سَـمِعَه مِنَ اللهِ. هَذَا لمْ يَعْمَلْهُ إبْرَاهِيم». «يوحنا» (8/ 40).
* بَلْ لَمَّا قِيل للمسيح عليه السلام : (أَنْتَ ابنُ اللهِ) كَانَ خَاتِمَةُ جَوابِه أنَّه ابنُ الإنْسَانِ. انْظُرْ: «إنْجِيل يُوحَنَّا» (1/ 49-51).
* وفي الأَنَاجِيل إشَارَاتٌ أُخْرى لِبَشَريَّة الْمَسِيح، انْظُر: «لُوقَا» (17/ 22) (18/ 8)، «متَّى» (12/ 32).
فوصْفُ الْمَسِيحِ عليه السلام لِنَفْسِه بِشَكْلٍ مُتكررٍ وصَريحٍ بَأنَّه إنْسَانٌ وابن الإنسانِ دَليلٌ وَاضِحٌ وصَريحٌ عَلى أنَّه بَشَرٌ، ولا يُمْكِن أنْ يَصْدُرَ مِمَّن يَقُول هَذَا الْكَلامَ أوْ حتى يَقُوم في نَفْسِه مُجَرَّدُ ظَنٍّ بأنَّه هُو اللهُ أو ابْنُه، أوْ أنَّه نَزَلَ إلَى الأَرْضِ لِيَدْعُو النَّاسَ إلى عِبَادَةِ نَفْسِه، وإلَّا كَان شَخْصًا يُحَاوِل اللَّعِب بِعُقُول الآخَرينَ، وحَاشَا الْمَسِيح أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ.
فَتَبيَّنَ مِنْ هَذِه النُّصُوص بُطْلان مَقُولة: (إنَّ الْمَسِيح ربٌّ وإلـٰهٌ)، وأَنَّ الحقَّ الثَّابتَ في الأَنَاجِيلِ أنَّه بَشَر.
$
الدليل الخامس
الدَّلِيلُ الْخَامِسُ عَلى بَشريَّةِ الْمَسِيح: هُو أنَّه قَدْ جَاءَ في الأَنَاجِيلِ والرَّسَائلِ الْمُلْحَقة بِهَا أنَّ الْمَسِيحَ يَتَحلَّى بِصِفَاتِ الْبَشَر، مِنْهَا أنَّه لا يَعْلمُ أمُورًا، وجَاء فِيهَا أنَّه يَجْهَل أُمُورًا، وأنَّه يَنْسَى، وجَاءَ فِيهَا أنَّه تَعِبَ، وأنَّه يَشْتَهي الأَكْل، وأنَّه عَطْشَانٌ، وأنَّه يَحْزَنُ ويَكتئِبُ ويَتألَّمُ، وأنَّه يَنَامُ، وأنَّه يَخَافُ ويَبْكِي، وأنَّه يُصَلِّي لله، مما يدل على أنه بشر مثلنا، فيه صفات النقص، ولو كان ربا لما اعترته هذه الصفات، لأن الرب كامل في صفاتِهِ، لا يعتريه نقصٌ بوجهٍ من الوجوه.
وهَذِه بَعْضُ النُّصُوصِ الإنْجِيليَّة الَّتي وردت فيها تلك الصفات البشرية للمسيح:
* جَاءَ في «يُوحَنَّا» (19/28): «قَالَ يَسُوع: أنَا عَطْشانٌ».
* وفي «إنْجِيل مَتَّى» (8/24): «وكَانَ هُو نَائمًا».
* وفي «إنْجِيل يُوحَنَّا» (4/6): «فَإذَا كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِب مِنَ السَّفَر جَلَسَ هَكَذَا عَلَى الْبِئرِ».
* وفي «إنْجِيل يُوحَنَّا» (11/35): «بَكَى يَسْوعُ».
* وفي «إنْجِيل مُرْقُص» (14/32-35) أنَّه يُصَلِّي ويَحْزَنُ ويُدْهَشُ ويَكْتئبُ:
«وجَاءُوا إلى ضَيْعةٍ اسْمُها جثسيماني، فَقَال لِتَلامِيذِه: اجْلِسُوا هـٰهُنَا حتَّى أُصَلي.
ثمَّ أَخَذَ مَعَهَ بُطْرس ويَعْقُوب ويُوحنَّا، وابْتَدَأَ يُدْهَش ويَكْتَئِب.
فَقَال لَهُم: نَفْسِي حَزِينةٌ جدًّا حتَّى الْمَوْت، امْكُثُوا هُنَا واسْهَرُوا.
ثمَّ تَقَدَّم قَليلًا وخَرَّ عَلَى الأَرْضِ، وكَانَ يُصَلِّي لِكَي تَعْبُرَ عَنْه السَّاعَة إنْ أَمْكَنَ».
مِنَ الْمُنَاسِب هُنَا أنْ يَسْأَلَ القَارِئ نَفْسَه سُؤالًا مَنْطِقيًّا جدًّا: لِمَنْ كَانَ الْمَسِيح يُصَلِّي؟ هَلْ كَان يُصَلِّي لِنَفْسِه؟! أمْ أنَّه كَانَ يُصَلِّي لغيره وهو (الله)؟
* وفي «إنْجِيل لُوقَا» (22/14-15): «ولَمَّا كَانَتِ السَّاعةُ اتَّكَأَ والاثْنَا عَشَرَ رَسُولًا مَعَه.
وقَالَ لَهُمْ: شَهْوةً اشْتَهَيتُ أنْ آكُلَ هَذَا الفُصْح مَعَكُم قَبْلَ أنْ أَتَألَّمَ».
* لَيْسَ هَذَا فَحَسْب، بَلْ إنَّ يَسُوعَ كَانَ يَخَافُ مِنَ الْيَهُودِ أنْ يَقْتُلُوه، كَمَا في «إنْجِيل يُوحَنَّا» (11/53-57):
«فَمِنْ ذَلِك الْيَوم تَشَاوَرُوا لِيَقْتُلُوه.
فَلَمْ يَكُنْ يَسَوعُ -أَيْضًا- يَمْشِي بَينَ الْيَهُودِ عَلانِيةً، بَلْ مَضَى مِنْ هُنَاك إلى الكُورَةِ الْقَرِيبة مِنَ الْبَريَّة، إلى مَدِينَةٍ يُقَال لها: أفرايم، ومَكَث هُنَاك مَعَ تَلامِيذِه.
وكَانَ فُصْحُ الْيَهُود قَريبًا. فَصَعِدَ كَثِيرُونَ مِن الكُورِ إلى أُورْشَليم قَبْل الفُصْح لِيُطَهِّروا أنْفَسَهم.
فَكَانُوا يَطْلُبونَ يَسوع ويَقُولُون فِيمَا بَيْنَهُم، وهمْ واقِفُونَ في الْهَيْكَل: مَاذَا تَظُنُّون؟ هَل هُو لا يَأتي إلى الْعِيد؟
وكَانَ -أيْضًا- رؤسَاء الْكَهَنَة والفَريسيُّون([10]) قَدْ أَصْدَرُوا أَمْرًا أنَّه إنْ عَرَفَ أَحَدٌ أَيْنَ هُو فَلْيَدُلَّ عَلَيه، لِكَي يُمْسِكُوه».
$ والتَّعْلِيق عَلى هَذا كُلِّه
· هَلْ يُمْكِن أنْ يَكُون مَنْ هَذِه صِفَاتُه أنْ يَكُون ربًّا؟
هَل يُعْقَل أنْ يَكُون الْمَسِيح إلـٰهًا وربًّا مَعَ كَوْنِه يَعْطَشُ ويَنَامُ ويَتْعبُ ويُدْهَشُ ويَكْتئبُ ويَبْكي ويَتَّكِئُ ويَشْتَهِي الأَكْلَ ويَتَألَّم (ويَخَافُ)؟!
مَا الْفرْقُ بَيْنَه وبَينَ الْبَشَرِ إذَنْ؟!
إنَّ اللهَ غَنيٌّ وقَويٌّ وخَالقٌ، وكَاملٌ في صِفَاتِه، وعَليه فَلَيْسَ مِنَ الْمَعْقُول أنْ يَخْلِق شَيئًا (مِن طَعَامٍ وشَرَابٍ) ثمَّ يَحْتَاجُ إِلَيهِ، أوْ أنْ يَكُونَ بِحَاجَةٍ إلى شَيءٍ لِيُسَاعِدَه عَلَى الْوجُودِ، لأنَّه إذَا كَانَ مُحْتاجًا إلى غَيْرِه فَهُو لَيْس ربًّا في الْحَقِيقَة، قَالَ اللهُ في القُرْآنِ واصفًا نَفْسَه: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ 56 مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ 57 إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾([11]).
بَيْنَما كَانَ الْمَسِيحُ يَأْكلُ الطَّعَام ويَشْرَبُ الشَّرابَ، والْمُحْتَاجُ إلى غَيْرِه لا يمكن أن يَكُون إلـٰهًا ولا ربًّا.
· ثمَّ إنَّ مُقْتَضَى تَـحَـلِّـي الْمَسِيح بِهَذِه الصِّفَات (كَوْنه يَأْكُل ويَشْرَب ويَنَامُ ويَتَنَفَّس ونَحوُ ذَلِك) أنَّه إذَا لمْ تَتَوفَّرْ لَهُ فَإِنَّه سَيَمُوتُ، لأنَّه مُحْتَاجٌ لِهَذِه الأُمُور كَضَرُورِيَّاتٍ للْبَقَاء عَلَى قَيْدِ الْحَياةِ، والْمَوْتُ لا يَنْطَبقُ عَليه لو كان ربا، لأنَّ الرَّبَّ حيٌّ لا يَموتُ، بَل يَنْطَبِق عَلَى الْجِنْسِ الْبَشَري الَّذِي تولَّد مِنْهُ الْمَسِيح.
· كَذَلِك فَإِنَّ الَّذِي يَأْكُل الطَّعامَ فَإِنَّه يَحْصُل مِنْه خُروجُ الْفَضَلاتِ القَذِرة الَّتي يَسْتَحِيي الإِنْسَانُ العَادي مِن ذِكْرِهَا، لِما فِيهَا من مُركَّبِ النَّقْص والقَذَارة، فَكَيفَ يَلِيقُ بِالْمَسِيح أنْ يَكُونَ ربًّا وفِيه هَذَا النَّقصُ الْعَظِيم الَّذِي يَسْتَحيي مِنْ ذِكْرهِ الْبَشَر ويَسْتَقْذِرُون وجُودَه؟!
هذَا كُلُّه يَدلُّ قَطعًا عَلى بُطْلانِ وَصْفِ الْمَسِيح بِالأُلُوهيَّة والرُّبُوبيَّة.
· كَذَلِك فقد تَقَلَّبَ المسيح جَنِينًا في أحْشَاء أُمِّه تِسْعَة أَشْهُر، وخَرَجَ مِنْ مَخْرَجِ الْبَولِ, ثمَّ لَفَّـتْه أُمُّه في خِرْقةٍ، كسائر أطفال البشر، فلا يمكن أنَّ من كان كذلك أنْ يَكُونَ إلـٰهًا ولا ربًّا، هَذَا قَولٌ لا يَصحُّ بِالْعَقْل إطلاقا.
* ومِنَ الأَدِلَّة عَلَى أنَّ الْمَسِيحَ يَتَّصِفُ بِصِفَاتِ الْبَشَر مَا جَاءَ في «إنْجِيلِ مُرْقُص»، الإصْحَاح الْحَادِي عَشَرَ (11-14):
«فَدَخَلَ يَسُوعُ أُورْشَليمَ والْهَيْكَلَ، ولَمَّا نَظَرَ حَوْلَه إلى كُلِّ شَيءٍ إذْ كَانَ الْوقتُ قَدْ أَمْسَى خَرَجَ إلى بَيْت عنيا مَعَ الاثْنَي عَشَرَ.
وفي الْغَد لَمَّا خَرَجُوا مِنَ بَيْتِ عنيا جَاعَ.
فَنَظَرَ شَجَرةَ تَينٍ مِن بَعيدٍ عَلَيْهَا وَرقٌ, وجَاءَ لَعَلَّه يَجِد فِيهَا شَيئًا، فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهَا لمْ يَجِدْ شَيئًا إلَّا ورقًا، لأنَّه لمْ يَكُنْ وَقتَ التِّينِ.
فَأجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهَا: (لا يَأْكُلُ أَحدٌ مِنْكِ ثَمَرًا بَعْدُ إلى الأَبَدِ)، وكَانَ تَلامِيذُه يَسْمَعُونَ».
$ التَّعْلِيق
في هَذِه الْقِصَّة أنَّ يَسُوعَ جَاعَ، وأنَّه ظَنَّ أنَّ شَجَرةَ التِّينِ قَدْ أَثْمَرَت، فَلَمَّا جَاءَهَا لمْ يَجِدْ شَيئًا، أي أنَّه لمْ يَتَبيَّنْ لَه قَبْلَ وصُولِه إلى الشَّجَرةِ هَل كَانَتْ مُثْمِرةً بِالتِّينِ أمْ لا، وأنَّه لمْ يَكُن يَعْلَم أنَّ الْمَوْسِم لمْ يَكُن مَوْسِم التِّينِ، فَذَهَبَ للشَّجَرةِ والْمَوسمُ لَيْسَ مَوْسِمَ التِّينِ، في حِينِ أنَّه كَانَ يَنْبَغِي أنْ يَكُون عَالِمًا بِالْمَوْسِمِ لوْ كَانَ ربًّا فِعْلًا.
وفِيهَا أنَّه غَضِبَ عَلَى الشَّجَرةِ فَأَمَرَهَا بِألَّا تُثْمِر، فَحُرِمَ النَّاسُ مِنْ ثِمَارِهَا.
إن كل هذه الصفات (جاع، ظن، لم يجد شيئا، لم يتبين له، لم يكن يعلم، دعا على شجرة التين، غضب على الشجرة) كلها تدل على أنه بشر، وليس ربا، وإلا فما الفرق بينه وبين البشر؟!
ثم لِمَاذَا لمْ يَأَمُرِ الْمَسِيحُ الشَّجَرةَ (لوْ كَانَ ربًّا فِعْلًا) أنْ تُـثْمِر فيأكل من ثمرها وتَنْتَهِي الْمُشْكِلة؟!
هَذَا هُو اللَّائِق بِه لوْ كَانَ ربًّا فِعلًا.
أليس هذا أفضل من دعاءه عليها بألا تُثمر فيُحرم هو والناس من ثمرها إلى الأبد؟!
$
الدليل السادس
ومِنْ دَلائِلِ بُطْلان مَقُولةِ: (إنَّ الْمَسِيحَ رَبٌّ أو ابنُ الرَّبِّ) أنَّ الْكِتَاب الْمُقَدَّس عِنْدَ الْمَسِيحِيينَ يَقُول كَمَا في «يُوحَنَّا» (18:1): «اللهُ لمْ يَرَه أَحَدٌ قَطُّ».
قَالَ المسيح هذه العبارة وهُو وَاقِفٌ أَمَامَهُمْ، فَدَلَّ هَذَا بِوضُوحٍ عَلى أنَّ الْمَسِيحَ لَيْسَ هُو الله، ولوْ كَانَ الْمَسِيحُ هُو اللهُ -تَعَالى اللهُ عَنْ ذَلِكَ- لَقَال لَهُمْ: إنَّكُمْ تَرَوْنَ اللهَ أَمَامَكُمْ، إنَّه أنَا، انْظُرُوا إليَّ!
وهَذَا الدَّلِيلُ وَاضِحٌ جِدًّا.
وفي «تيموثاوس» (17:1): «ومَـلِـكُ الدَّهُور الَّذِي لا يَفْنَى ولا يُرى، الإلـٰهُ الْحَكِيم وحْدَه، لهُ الْكَرَامةُ والْمَجْد إلى دَهْرِ الدُّهُور».
إذَنْ فَالإِلـٰهُ الْحَقِيقيُّ الَّذِي لهُ الْمَجْد لا يُرى، ولَيْسَ هُو الْمَسِيحَ ابنَ مَرْيمَ بِالتَّأْكِيد، لأنَّ المسيح رَآه النَّاسُ ولَمَسُوه بِأَيْدِيهِمْ.
$
الدليل السابع
الدَّلِيلُ السَّابِع عَلَى بُطْلانِ مَقُولِة (إنَّ الْمَسِيحَ إلـٰهٌ وَربٌّ): أنَّه وَرَدَ في الْمَصَادِر الإِنْجِيليَّةِ عنِ الْمَسِيحِ نَفْسِه أنَّه رسُولٌ، فَلَوْ كَان الْمَسِيحُ ربًّا وإلـٰهًا لَمَا اسْتَقَام أنْ يَكُون رَسُولًا أيْضًا، رَسُولًا مِنْ عِنْد مَنْ إِذَنْ؟!
وقدْ كَانَ الْمَسِيحُ دَائِمًا يُذَكِّر تَلامِيذَه أنَّه رَسُولُ اللهِ إِلَيْهِمْ، وأنَّه مُـعَـلِّمٌ، وأنَّ اللهَ هُو الإلـٰهُ وحْدَه، وأنَّه لَيْسَ إلَّا مُجَرَّد رَسُولٍ إِلى بَنِي إسْرَائِيلَ، أرسله الله إليهم لِـيُـعَـلِّمَهم أُمورَ دِينِهمْ، وسَنَذْكُرُ هَنَا نحو عشرين دَلِيلًا عَلى ذَلِك مِنَ الأَنَاجِيلِ الْمَعْتَبرَةَ عِنْدَ الْمَسِيحيين:
,1- فِي «إنْجِيل مَتَّى» (4/23): «وكَانَ يَسُوعُ يَتَنَقَّل في مَنْطِقَةِ الْجَلِيلِ كُلِّهَا، يُـعَـلِّمُ في مَجَامِعِ اْليَهُودِ، ويُنَادِي بِبشَارَة الْمَلَكُوت».
,2- وجَاء في «إنْجِيل مَتَّى» (4/17): «مِنْ ذَلِك الزَّمَان ابْتَدَأَ يَسُوعُ يُـكَـرِّز ويَقُولُ: تُوبُوا لأنَّه قَد اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوات».
ومَعْنَى (يُـكَـرِّز) أي: يُـبشِّر.
وقَوْلُ يَسُوعَ: (تُوبُوا) دَلِيلٌ عَلى أنَّه رَسُولٌ، يُحِثُّ النَّاس عَلى التَّوْبَة مِنْ فِعْل الْمَعَاصِي.
,3- وجَاءَ في «إنْجِيل مَتَّى» (6/8 - 10) أنَّ يَسُوعَ قَالَ لِتَلامِيذِه:
«لأنَّ أبَاكُم يَعلَمُ مَا تَحْتَاجُون إِلَيه قَبْلَ أنْ تَسْأَلُوه.
فَصَلُّوا أَنْتُم هَكَذَا: أَبَانَا الَّذِي في السَّمَاوات، لِيَتَقَدَّس اسْمُك، لِيَأتِ مَلَكُوتَك.
لِتَكُنْ مَشِيئَتُك كَمَا في السَّمَاء كَذِلك عَلى الأَرْضِ».
في هَذَا النَّصِّ فَائَدةٌ: أنَّ اليَسُوع عَـلَّم تَلامِيذَه كَيْفِيَّة الصَّلاة، فَهُو إِذَن نَبيٌّ، لأنَّ وَظِيفَةَ الأَنْبِياءِ هِي التَّعْلِيم، وهُو الشَّاهِد.
وفي هَذَا النَّصِّ فَائِدةٌ: أنَّ اللهَ في السَّمَاء، لِقَولِه: (أَبَانَا الَّذِي في السَّمَاواتِ)، فَدَلَّ عَلى أنَّ اللهَ لَه ذَات، وهِي في السَّمَاء، والْمَسِيحُ لَه ذَاتٌ أُخْرَى في الأَرْضِ، وأنهما غير ممتزجتين ولا مُـتَّـحِدتين.
وفي هَذَا النَّصِّ فَائِدةٌ: أنَّ الأَبَ بِمَعْنَى الْمُربي والقَائِم عَلَى الشَّيءِ، ولَيْسَتْ بِمَعْنَى الأَبِ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ، لأنَّه لوْ كَانَتْ كَلِمَةُ الأَبِ تَعْنِي الأَبِ مِنْ جِهَةِ النَّسَب لَكَانَ اللهُ أبَ النَّاسِ كُلِّهم، لأنَّه قَالَ: (أَبَانَا) ولمْ يَقُل: (أَبي).
فالحاصلُ أن في هذا النص رَدٌّ واضح عَلَى مَنْ قَالَ بِأَنَّ أُبُـوَّة اللهِ للْمَسِيحِ هِي أُبُـوَّةُ نَسَبٍ، وأَنَّهَا تُقَابِل أُمُومَة مَرْيمَ للْمَسِيح، فَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّ الأُبُوة هُنَا تَعْنِي التَّرْبِية والْقِيام عَلى رِعَايَة الشَّخْصِ، وبِنَاءً عَليه، فَإنَّ اللهَ هُو أَبو النَّاس كُلِّهم بِهَذَا الْمَعْنى([12]).
,4- وجَاء في «إنْجِيل مُرْقُص» (1/14، 15) نصٌّ وَاضِحٌ في أنَّ يَسُوعَ نبيٌّ بشَّر بِالإِنْجِيل وعَلَّم النَّاسَ الْخَيرَ وهُو:
«وبَعَدَمَا أُلقِي الْقَبْض عَلَى يُوحَنَّا، انْطَلَقَ يَسُوعُ إلى مَنْطِقة الْجَلِيل يُبَشِّر بِإِنْجِيل اللهِ قَائِلًا:
قَدِ اقْتَرَبَ الزَّمَانُ، واقْتَربَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وآمِنُوا بِالإِنْجِيل».
فَهَذَا النَّصُّ فِيه فَائِدةٌ: أنَّ الْمَسِيح نَبيٌّ، لأنَّه كَان يُبَشِّرُ بِإِنْجِيل اللهِ، ويَأْمُر النَّاسَ بِالتَّوبَة إِلى اللهِ، وهَذِه وظِيفَة الأَنْبِياء، ويَأْمُرُهمْ بِالإِيمَان بِالإِنْجِيل الذي كان معه.
وفي هَذَا النَّصِّ فَائِدَةٌ: أنَّ ذَاتَ اللهِ لَيْسَتْ هِي ذَاتَ يَسُوعَ، لأنَّه قَالَ: (واقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ)، ولوْ كَانَ اللهُ هُو الْيَسُوعَ لَقَال: (واقْتَرَبَ مَلَكُوتي).
وفي هَذَا النَّصِّ فَائِدَةٌ: أنَّ يَسُوع أَمَرَ تَلامِيذَه بِالإيمَانِ بِإِنْجِيل اللهِ، ولوْ أنَّ الْيَسُوع هُو اللهُ لَقَال لَهُم: (فَتُوبُوا وآمِنُوا بِإِنْجِيلِي).
وفي هَذَا النَّصِّ فَائِدةٌ: أنَّ إِنْجيل اللهِ لَيْس أَحَدَ الأَنَاجِيل الأَرْبَعةِ الْمَعْرُوفَة: (يُوحنَّا، لُوقَا، مُرقُص، متَّى)، لأنَّ يَسُوع سَمَّاه (إِنْجيلَ اللهِ)، بَيْنَما الأَنَاجِيل الأَرْبَعة الْمَعْرُوفة تُسَمَّى بِأَسْمَاء مُؤلِّفِيها الَّذِين كَتَبُوهَا بِأَيْدِيهمْ.
,5- وجَاءَ في «إنْجِيل لُوقَا» (4/31-32، 43-44) نَصٌّ وَاضِحٌ جدًّا عَنِ اليَسُوع أنَّه رَسُولٌ، وهُو:
«وانْحَدَرَ إِلى كَفْر نَاحُوم، مَدِينَةٍ مِنَ الْجَلِيل، وكَانَ يُـعَلِّمُهم في السُّبوتِ، (أي: أَيَامِ السَّبْتِ)، فبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِه، لأنَّ كَلامَه كَانَ بِسُلْطَانٍ».
ثمَّ قَالَ للْجُمُوع الَّذِين طَلَبُوا مِنْه الْبَقَاء مَعَهُم: «إنَّه يَنْبَغِي لي أنْ أُبَـشِّر الْمُدُنَ الأُخَر بِمَلَكُوت اللهِ، لأنِّي لِهَذَا قَدْ أُرسِلت.
فَكَانَ يُـكَـرِّز في مَجَامِع الْجَلِيل».
فَقَوْلُه: (أُرسِـلتُ) تَدلُّ عَلَى أنَّه رَسُولٌ، وكَذَلِك قَوْلُه: (أُبَشِّر)، وكَذَلِك قَوْلُ مَـتَّـى: (يُـكَـرِّز)، كُلُّها تَدُلُّ عَلَى أَنَّه رَسُولٌ مِنَ اللهِ، يُعَلِّم النَّاسَ الإِنْجِيل.
,6- وفي «إنْجِيل لُوقَا» (7/11-17) أنَّ يَسُوع ذَهَبَ إِلى مَدِينَةٍ اسْمها نايين، يُرَافِقُه كَثِيرون مِن تَلامِيذِه وجَمْعٌ عَظيمٌ، وفي نِهَايَة القِصَّة قَالَ أَهْلُ الْمَدِينة: «قَدْ قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ».
فَفِي هَذَا النَّصِّ دَلالةٌ صَريحةٌ عَلَى أنَّ الْمَسِيح نَبيٌّ عَظيمٌ، ولَيْس رَبًّا ولا ابنَ الرَّبِّ.
,7- وهَذَا نَصٌّ صَريحٌ آخَرُ عَلَى أنَّ الْمَسِيح رَسُولٌ، فَفي «إنْجِيل يُوحَنَّا» (17/3) أنَّ الْمَسِيح دَعَا رَبَّه فَقَال: «وهَذِه هِي الْحَياة الأَبَدِيَّة أنْ يَعْرِفُوك أَنْتَ الإلـٰهُ الْحَقِيقِي وحْدَك، ويَسُوع الْمَسِيح الَّذِي أَرْسَلْتَه».
,8- وفي «إنْجِيل مَتَّى» (21/10-11) شَهَادةٌ مِنْ جُموع بَني إسْرَائِيل للمَسِيح بِأَنَّه نَبيٌّ:
«ولَمَّا دَخَلَ أُورْشَلِيم ارَّتَجَّتِ الْمَدِينَةُ كُلُّها قَائِلةً: مَنْ هَذَا؟
فَقَالتِ الْجُمُوع: هَذَا يَسُوع النَّبيُّ الَّذِي مِن نَاصِرة الْجَلِيل».
فأيُّ دَليلٍ عَلَى نُبُوة الْمَسِيح أَصْرَحُ مِنْ هَذَا؟!
,9- وقَالَ يَسُوع لِتَلامِيذِه كَمَا جَاء في «إنْجِيل مَتَّى» (5/11-12) وهُو يُسلِّيهمْ ويُصَبِّرهُمْ عَلى الأَذَى الَّذِي جَاءَهُم مِنَ الْيَهُود:
«طُوبى لَكُم إذَا عَيَّرُوكُم وطَرَدُوكُمْ, وقَالُوا عَلَيْكُم كُلَّ كَلِمَةٍ شِريرةٍ مِنْ أَجْلِي كَاذِبينَ.
افْرَحُوا وتَهَلَّلُوا، لأنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ في السَّمَاواتِ، فَإِنَّهُم هَكَذَا طَرَدُوا الأَنْبِياءَ الَّذِين قَبْلَكمْ».
فَقُولُه: «افْرَحُوا وتَهَلَّلُوا، لأنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ في السَّمَاوَات» دَلِيلٌ عَلَى أنَّ الْمُكَافِئ والْمُجَازِي هُو اللهُ، الذي في السماوات، ولَيْسَ الْمَسِيح، ولوْ كَانَ الْمَسِيح هُو اللهَ لَقَال لَهُم: (لأن أجركم عظيم عندي).
وقَوْلُه: (فَإِنَّهُم هَكَذَا طَرَدوا الأَنْبِياء قَبْلَكُم)، يَعْنِي بِهَذَا الْيَهُود، فَإِنَّهُم اضْطَهَدُوا الأَنْبِياء قَبْلَه.
وقَوْلُه: (الأنبياء) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّه نَبيٌّ مِنْ جُمْلَة هَؤلاءِ الأَنْبِياءِ الَّذِين تَعَرَّضُوا للاضْطِهَادِ، ولو لم يكن المسيح نبيا لكان كَلامُه لَيْسَ لَهُ مَعْنًى، وحَاشَاه مِن ذَلِكَ.
وفي هَذَا النص الإنجيلي دَلِيلٌ عَلَى أنَّ الْمَسِيحَ لَيْسَ هو الرب ولا ابن الرب، بَلْ نَبِي، لأنه تعرَّض للابتلاء والتضييق من قِـبَـلِ اليهود، كما حصل لغيره من الأنبياء، ولو كان المسيح ربا أو ابن الرب فَلنْ يَتَعَرَّض لشيء من الابتلاء، لأن البشر لا يَقوَوْن عَلَى ابتلاء الرَّبِّ الَّذِي خَلَق كُلَّ شَيءٍ، وهُو أَقْوى مِنْ كُلِّ شَيءٍ.
قَال «جوستاف لوبون»([13]) في كِتَابه «حَيَاة الْحَقَائِق» (ص 20):
«كَانَ يَسُوعُ مُعْتَقِدًا أَنَّه نَبيٌّ، خَلَفٌ لِمَن ظَهَرَ قَبْلَه مِنَ الأَنْبِياء».
,10- وقَالَ الْمَسِيح كَمَا في «إنْجِيل مَتَّى» (5/17-19):
«لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أو الأَنْبيَاء. مَا جِئتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكْمِل.
فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُم: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاء والأَرْضُ لا يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أوْ نُقْطةٌ وَاحِدةٌ مِنَ النَّامُوس حتَّى يَكُونَ الكُلُّ.
فَمَنْ نَقَضَ إِحْدى هَذِه الْوصَايا الصُّغْرَى وعَلَّم النَّاسَ هَكَذا، يُدْعَى أَصْغرَ في مَلَكوتِ السَّمَاوات. وأمَّا مَنْ عَمِل وعَلَّم، فَهَذَا يُدْعَى عَظِيمًا في مَلَكُوت السَّمَاوات».
فَقَوْل الْمَسِيح: (لا تَظَنُّوا أَنِّي جِئتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أو الأَنْبِياء. مَا جِئتُ لأَنْقُضَ بَل لأُكْمِلَ)؛ دَليلٌ وَاضِحٌ عَلى أنَّه رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِه الرُّسل، وأنَّه وَاحِدٌ مِنْهُم، لأنَّ مَنْ جَاءَ لِيُكْمِل ويُتَمِّم الشَّرِيعة الَّتي سَبَقَتْه -وهِي التَّوْرَاة، شَرِيعَة مُوسَى- ويُكْمِل مَا بَنَاه مُوسَى ومَنْ سَبَقَه مِنَ الأَنْبِياء قَبْلَه، فَإِنَّه لا يَكُون إلَّا نَبيًّا مِثْلَهم.
وقَدْ جَاءَ تَصْديقُ ذَلِك في القُرْآنِ الْكَرِيمِ في قَوْلِه جل وعلا عَنِ الْمَسِيح عليه السلام أنَّه قَالَ لِقَوْمِه: ﴿ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۚ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ 50 إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۗ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾([14]).
فَالْمَسِيحُ عليه السلام لمْ يَكُن إلَّا نَبيًّا رَسُولًا، أَرْسَله اللهُ للْعَمَل بِشَرِيعَة مُوسَى عليه السلام ، وتَحْلِيلِ بَعْض مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَى بَني إِسْرَائِيل، ودَعْوةِ بَني إسْرَائِيلَ إِلى عِبَادَةِ اللهِ وحْدَه لا شَرِيكَ لَهُ، وتَجْديدِ مَا انْدَثرَ مِن دِينهِمْ، وليَبْعَثَ فِيهِمْ جَذْوةَ الإِيمَانِ الَّتي انْطَفَأتْ بظُلْمِهم وعُتُوِّهم، وتَحْريفِهِم لِكَلامِ اللهِ جل وعلا .
فَلا شَكَّ أنَّه عليه السلام لَيْسَ إلَّا حَلقةً في سِلْسِلة الأَنْبِياء والْمُرْسَلينَ ۏ ولَيْسَ ربًّا وإلـٰهًا كَما يَعْتَقِد الْمَسِيحيُّون.
,11- وقَالَ يَسُوعُ كَمَا في «يُوحَنَّا» (37:5): «والآبُ نَفْسُه الَّذِي أَرْسَلَني يَشْهَدُ لِي. لمْ تَسْمَعُوا صَوتَه قَطُّ، ولا أَبْصَرْتُم هَيْئَتَه».
فَهَذَا النَّصُّ صَريحٌ في أنَّ الْمَسِيحَ رَسُولٌ، لِقَولِه: (أَرْسَلَني).
,12- وفي «إنْجِيل يُوحَنَّا» (8/31، 39-40، 42) قَال الْمَسِيحِ للْيَهُودِ الذين آمنوا بِه:
«إنَّكُم إنْ ثَبتُّم في كلمَتي فَبِالْحَقِيقَة تَكُونُون تَلامِيذِي، وتَعْرِفُون الْحَقَّ والْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ».
ثمَّ قَالَ: «لَوْ كُنْتُم أوْلادَ إبْرَاهِيمَ لَكُنْتُم تَعْمَلُون أَعْمَالَ إبْرَاهِيمَ، ولَكِنَّكُم الآنَّ تَطْلبُون أنْ تَقْتلُونَني، وأنَا إْنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُم بِالْحَقِّ الَّذِي سَمِعه مِنَ اللهِ».
ثمَّ قَالَ لَهُمْ: «لأنِّي لمْ آتِ مِنْ نَفْسِي، بَلْ ذَاكَ أَرْسَلَنِي».
فَفِي هَذَا النَّصِّ وحْدَهُ ثَلاثةُ أَدِلَّةٍ عَلَى أنَّ الْمَسِيحَ رَسُولٌ بَشَرِيٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ ولَيْسَ إلَـٰهًا:
الأوَّلُ: قَوْلُه: (تَلامِيذِي)، وهَذَا لَا يَنْطِبقُ عَلَى الْمَسِيح إلَّا إذَا كَانَ معلمًا رَسُولًا.
والثَّانِي: قَوْلُه: (أنا إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُم بِالْحَقِّ الَّذِي سَمِعَه مِنَ اللهِ)، فَهَذَا نَصٌّ واضِحٌ في أنَّ الْمَسِيحَ بَشَرٌ مُرسلٌ مِنْ عِنْد اللهِ.
والثَّالثُ: قَوْله: (ذَاك أرْسَلني) واضِحٌ في أنَّ الْمَسِيح رسول من عند الله.
فَهَذِه النُّصُوصُ الإِنْجِيليَّة وَاضِحةٌ وصَرِيحةٌ في أنَّ الْمَسِيحَ لَيْسَ هُو اللهَ ولا ابنٌ للهِ، بَل هُو بَشَرٌ خَلَقَهُ اللهُ، ورَسُولٌ مِن عِنْدِ اللهِ، هَذَا الَّذِي يُمْلِيه الْمَنْطِقُ والْعَقلُ والْفَهْمُ الصَّحِيحُ، ولا تَحْتَاج هَذِه النُّصُوص إلى عَالِمٍ أوْ مُتَخَصِّصٍ بِاللَّاهُوت لِكَي يَشْرَحَهَا، بَلِ الطِّفْل والشَّخْص العَادِي يَسْتَطِيع فَهْمَهَا بِسُهُولَة.
,13- وقَدْ جَاءَ تَقْريرُ أنَّ اللهَ أَرْسَل الْمَسِيحَ رَسُولًا ومُعَلِّمًا في «إنْجِيل يُوحَنَّا» (3/1-2):
«كَانَ إنْسَانٌ مِنَ الفَرِيسيينَ اسْمُه نيقوديموس، رَئيسٌ للْيَهُود.
هَذَا جَاءَ إِلَى يَسُوعَ لَيلًا, وقَالَ لَهُ: يا مُعَـلِّم، نَعْلَمُ أَنَّك قَدْ أَتَيتَ مِنَ اللهِ مُعَـلِّمًا، لأنَّ لَيْسَ أحَدٌ يَقْدِرُ أنْ يَعْملَ هَذِه الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَل إنْ لمْ يَكُن اللهُ مَعَه».
فَقَوْلُ رَئِيسِ الْيَهُود للْمَسِيح: (يَا مُعَـلِّم، نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيتَ مِنَ اللهِ مُعَـلِّمًا)، هَذَا تَقْريرٌ أنَّ الْمَسِيح أَرْسَلَه اللهُ إلى الْيَهُودِ رَسُولًا ومُعَلِّمًا، لأنَّ الرَّسُول يُعلِّم النَّاسَ مَا أَرْسَلَه اللهُ بِه مِنَ الْعِلم، ومِنَ الْمَعْلُوم أنَّ الْمَسِيح قَدْ عَلَّم النَّاسَ الإِنْجِيل، ودَلَّهم عَلَى الْخَيرِ، وحَذَّرَهُم مِنَ الشَّر.
وليلاحِظ القارئ الكريم أن رَئِيسُ الْيَهُود لم يقل للْمَسِيح إنَّه جَاءَ فَادِيًا، أوْ مُخَلِّصًا، أوْ إنَّه ابنُ اللهِ، أوْ إنَّه هُو اللهُ، ولا غَير ذَلِك مِنَ الأَقْوالِ السَّائِدة بَينَ جَمَاهِير الْمَسِيحيين، بل قال له إنه جاء معلمًا، والْمَسِيحُ أقَـرَّ هَذَا الْيَهُودِي عَلى كَلامِه، ولمْ يَقُل لَهُ: (إنَّك مُخْطِئٌ في كَلامِك)، ولوْ كَانَ هَذَا الْيَهُوديُّ مُخْطِئًا في كَلامِه لما أقَـــرَّه المسيح، بل لاعْتَرَضَ عَلَيهِ وصَحَّحَ كَلامَه، لأنَّ هَذِه وظِيفَتُه كَـمُـعَـلِّم، وهِي أنْ يُقِرَّه عَلَى الصَّواب، ويُصْلِحَ لَهُ الْخَطَأَ، وإلَّا لمْ يَكُن مُعَلِمًا عَلَى الْحَقِيقَةِ.
وهُنَا فَائدةٌ لَطِيفةٌ في قَوْلِ رَئِيسِ الْيَهُودِ للْمَسِيحِ: (لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هَذِهِ الآيَات الَّتِي أَنْتَ تَعْمَل إِنْ لَمْ يَكُنِ اللهُ مَعَه)، وهِي أَنَّ في هَذَا دَلِيلًا عَلى نبوة المَسيح، لأنَّ الله لا يُؤيِّد بالآيات والمعجزات إلَّا الأنبياء، لتكون دليلًا ماديًّا للناس على نبوتهم، فيصدقوهم، لأن البشر إذا رأوا الأنبياء يأتون بخوارق العادات التي لا يقدر عليها إلا الله علِموا أن الله أجراها على أيديهم لِـيَـعلم الناس أنهم أنبياء، ومِنْ ذَلِكَ أن المسيح كَانَ يُحْيِي الْمَوتَى، ويَشْفِي الأَبْرَصَ، ويبرئ الأَكْمَهَ (أي الَّذِي وُلِدَ أَعْمَى)، ويُـنَـبِّـئُ النَّاسَ بِمَا يَأْكُلُونَ ومَا يَدَّخِرُونَ في بُيوتِهِمْ مِنَ الطَّعَامِ، وكُلُّ هَذَا بِإِذْنِ اللهِ، ولَيْسَ للْمَسِيحِ فِيه قُدْرَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ وعِلْمٌ مُسْتَقلٌّ، لأنَّ الْمَسِيحَ بَشَرٌ، لا أَكَثْرَ ولا أَقَلَّ.
,14- ومِنَ الأدِلَّة الإِنْجِيليَّة عَلَى أنَّ الْمَسِيحَ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ رَبِّه مَا جَاءَ في «يُوحَنَّا» (7/15-18) أنَّ الْمَسِيحَ ذَهَبَ لِجُموعِ الْيَهودِ يُريدُ أنْ يُعَلِّمَهُم، فَحَصَل التَّالي:
«فَتَعَجَّبَ الْيَهُودُ قَائِلينَ: كَيْفَ هَذَا يَعْرِفُ الْكُتُبَ، وهُو لمْ يَتَعَلَّمْ؟!
أَجَابَهُمْ يَسُوعُ, وقَالَ: تَعْلِيمي لَيْسَ لِي، بَلْ للَّذِي أَرْسَلَنِي.
إنْ شَاء أَحَدٌ أنْ يَعْمَلَ مَشِيئَتَهُ يَعْرِف التَّعْلِيم، هَلْ هُو مِنَ اللهِ، أمْ أَتَكَلَّم أَنَا مِنْ نَفْسِي.
مَنْ يَتَكَلَّم مِنْ نَفْسِه يَطْلُب مَجْدَ نَفْسِه، وأَمَّا مَنْ يَطْلُبُ مَجْدَ الَّذِي أَرْسَله فَهُو صَادِقٌ ولَيْسَ فِيه ظُلْمٌ».
فَالْيَهُود انْبَهَرُوا مِنْ حُسْنِ التَّعَالِيم الَّتي كَانَ الْمَسِيحُ يَبثُّهَا بَينَ النَّاسِ، وتَعَجَّبُوا مِنْهَا، فَبيَّنَ لَهُم الْمَسِيح أَنَّهَا مِنَ اللهِ الَّذِي أَرْسَلَه، فَهُو تَلَقَّاهَا مِنْه عَنْ طَرِيقِ أَعْظَمِ الْمَلائِكَة وهُوَ جِبْرِيلُ، ثُمَّ بَثَّهَا في النَّاسِ، فَهَذِه وظِيفَتُهُ كَرَسُولٍ، ولَيْسَتْ تِلْك التَّعَالِيم مِنْ صُنْع نَفْسِه، ولوْ كَانَ الْمَسِيحُ هُو الرَّبُّ لَقَالَ: (هَذِه التَّعَالِيم مِنْ عِنْدِي) ولمْ يَقُل: (إِنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ)، وبِنَاءً عَلَيه فَالْمَسِيحُ لَيْسَ هُو الرَّبَّ ولا ابنَ الرَّبِّ.
,15- وفي «إنْجِيل يُوحَنَّا» (7/28-29):
«فَنَادَى يَسُوعُ وهُو يُـعَـلِّم في الْهَيكلِ قَائِلًا: تَعْرِفُونَني وتَعْرِفُون مِنْ أَيْنَ أَنَا، ومِنْ نَفْسِي لمْ آتِ، بَل الَّذِي أَرْسَلَنِي هُو حقٌّ، الَّذِي أَنْتُم لَسْتُمْ تَعْرِفُونَه.
أنَا أَعْرِفُه، لأَنِّي مِنْه، وهُو أَرْسَلَنِي».
,16- كَمَا جَاءَ أنَّ الْمَسِيحَ أَخْبرَ قَوْمَه بِأَنَّه رَسُولٌ كَمَا في «إنْجِيل يُوحَنَّا» (32/7-33):
«سَمِعَ الْفَرِيسِيُّونَ الْجَمْعَ يَتَناجَونَ بِهَذَا مِنْ نَحْوِه، فَأَرْسَل الْفَرِيسِيونَ ورُؤسَاء الْكَهَنَة خُدَّامًا ليُمْسِكُوه.
فَقَالَ لَهُم يَسُوعُ: أنَا مَعَكُم زَمَانًا يَسِيرًا بَعْدُ، ثُمَّ أَمْضِي إِلى الَّذِي أَرْسَلَنِي».
,17- وفي «إنْجِيل يُوحَنَّا» (5/24):
«الْحَقُّ الْحَقُّ أَقُول لَكُمْ: إنَّ مَنْ يَسْمَعُ كَلامِي ويُؤمِن بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَه حِياةٌ أَبَدِيَّة».
,18- وفي «إنْجِيل يُوحَنَّا» (18/19-20) وَرَدَ نَصٌّ واضحُ كالشمس يُبَيِّن أنَّ الْيَسُوع كَانَ معلما، وهُو:
«فَسَأَلَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ يَسُوعَ عَنْ تَلاَمِيذِهِ وَعَنْ تَعْلِيمِهِ.
أَجَابَهُ يَسُوعُ: أَنَا كَلَّمْتُ الْعَالَمَ عَلَانِيَةً. أَنَا عَلَّمْتُ كُلَّ حِينٍ فِي الْمَجْمَعِ وَفِي الْهَيْكَلِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ الْيَهُودُ دَائِمًا. وَفِي الْخَفَاءِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ».
فدل ذلك على أن اليسوع كان معلمًا له تلاميذ، وهذه مِن صفات الرسل.
,19- الدليل الإنجيلي الأخير على أن الله أرسل المسيح رسولًا هو ما جاء فِي «إنْجِيل مَتَّى» (15/24) أنَّ يَسُوع قَال: «لَمْ أُرْسَلْ إِلَّا إِلَى خِرافِ بَيْتِ إسْرَائِيلَ الضَّالَّة».
فأيُّ دليل أصرح من هذا؟!
وخُلاصَة الْكَلامِ: أَنَّ الْمَسِيحَ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وهَذَا مُتَطَابِق مَعَ قَوْلِ اللهِ تَعَالى في القرآن في وصف الْمَسِيح: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ۗ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾([15]).
وتَفْسِيرُ الآيَةِ: مَا الْمَسِيحُ ابنُ مَرْيمَ الَّا رَسُولٌ كَمَنْ تَقَدَّمَه مِنَ الرُّسل، وأُمُّه صِدِّيـقـةٌ، أَيْ: صَدَّقتْ بِكَلام رَبِّهَا تَصْدِيقًا جَازمًا، وظَهَرَ تَحْقِيقُ ذَلِك في عِلْمِهَا وعَمَلِهَا الصَّالِح، وهُمَا -أَي: الْمَسِيحُ وأُمُّهُ- كَغِيرهما مِنَ الْبَشَر، يَحْتَاجَانِ إِلى الطَّعَام، ولا يَكُون إلـٰهًا مَنْ يَحْتَاج إِلى الطَّعَام لِيَعِيش.
ثمَّ قَالَ اللهُ مُخَاطِبًا نَبِيَّه محمدًا: ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ ؛ أي: تَأمَّلْ أَيُّها الرَّسُولُ حَالَ هَؤلاءِ، كَيْفَ وضَّحْنا لَهُم أَدِلَّة بُطَلان مَا يَدَّعونه في الْمَسِيحِ مِنْ أَنَّه ابنُ اللهِ، ثمَّ هُمْ مَعَ ذَلِك يَضِلُّون عنِ الْحَقِّ الَّذي نَهْدِيهم إِلَيه، ثُمَّ انْظُر كَيفَ يُصْرَفُون عَنِ الْحقِّ بَعْدَ هَذَا الْبَيانِ؟
تَمَّ الدَّلِيلُ السَّابِع، ونَنْتقِل الآنَ إِلَى الدَّلِيل الثَّامِن مِنْ أَدِلَّة بُطْلان مَقُولَة: (إنَّ الْمَسِيحَ رَبٌّ).
$
الدليل الثامن
ومِنْ دَلائِل بُطْلان مَقُولَة: (إنَّ الْمَسِيحَ رَبٌّ أو ابنُ الرَّبِّ) مَا ثَبَتَ عَنْه أنَّه صَلَّى للهِ، وكَانَ يَقُول لِتَلامِيذِه: انْتَظِرُوني حَتَّى أُصَلِّي، وكَانَ يَذْهَب إِلى الْمَعْبد ويُصلِّي ويَسْجد، ومِنَ الْمَعْلومِ أنَّ الصَّلاة لا تَكُون إلَّا لِربٍّ مَعْبودٍ يَعْتقدُ الْمُصلِّي أنَّه أَعْظمُ مِنْه, وأنَّ لهُ حقَّ العِبَادة والتَّوجُّه إِليه، فَلَو أنَّ الْمَسِيح هُو اللهُ لَمَا احْتَاجَ لأنْ يُصلِّي للهِ، لأنَّ هَذَا سَيَكُون مِنَ الْعَبَثِ، ولَكَانَ الْمَفْرُوض أنْ يَقُولَ للنَّاسِ: (صَلُّوا لِي واعْبُدُوني، أنَا لَا أحْتَاجَ أنْ أُصَلِّي لأحَدٍ لأنِّي أنَا اللهُ)، ولَكِنَّ هَذَا لمْ يَكُنْ، فِبنَاءً عَلَيه فَلا يُمْكِن أنْ يَكُونَ الْمَسِيحُ هُو الله.
$
الدليل التاسع
ومِنْ أدلَّةِ بُطْلانِ مَقُولَةِ: (إنَّ الْمَسِيح ابنُ اللهِ) أنَّه وَرَدَ عَنِ الْمَسِيحِ نَفْسِه النَّهِي عَنْ هَذِه الْمَقُولة، ولوْ أَنَّ الْمَسِيحَ ابنُ اللهِ فِعْلًا لأَقَرَّ القَائِلَ عَلَى ذَلِك ولَمَا زَجَرَه، فَإِنَّه لَمَّا قَالتِ الشَّياطِينُ لِيَسُوع: (أَنْتَ المسيح ابنُ اللهِ) زَجَرهُمْ ونَهَاهُم، كَمَا في «إنْجِيل لُوقَا» (4/41)، فَهَذَا دَليلٌ صَرِيحٌ جِدًّا عَلى أنَّ المسيح لَيْسَ ابْنًا للهِ.
$
الدليل العاشر
ثمَّ إنَّ الْمَسِيح رَحِيمٌ بِالنَّاسِ، شَفِيقٌ عَلَيهِمْ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِه الْعَقِيدة حقًّا (عَقِيدة أنَّه الرَّبُّ أو ابنُ الرَّبِّ) لَكَرَرَهَا وبَيْنَهَا بِوضُوحٍ لِتَثْبُت فِي عَقُول النَّاس، وَلَوَرَدَ ذِكرُها بِشَكْلٍ واضِحٍ جدًّا في الأَنَاجِيلِ الأَرْبَعة والرَّسَائِل الثَّلاثَة والعِشْرين الْمُلْحَقَة بِهَا، ولمْ يَكْتَفِ بِأُسُلوبِ التَّلْمِيح في مِثْل هَذِه الْمَسَائِل الْعَظِيمَة ويَتْرُك أُسْلوبَ التَّصْرِيح الْواضِح، ثمَّ يَسْتَعْملُه -أي أُسْلوبَ التَّصْريح الْواضِح- في مَسَائِل أَقَلَّ أَهَمِّيَّةٍ، لأنَّ الْمَسْأَلة مَصِيريَّة وعَقَائِديَّة، يَقُوم عَلَيها الدِّينُ كلُّه، ويَتَرَتَّب عَلَيهَا مَصِيرُ الإِنْسَانِ في الآخِرة، إمَّا جَنَّةٌ وإمَّا نَارٌ.
· ومِنَ اللَّطِيف ذِكْرُه في هَذَا الْمَقَام: أنَّه قَدْ وَرَدَ نَصٌّ في «إنْجِيل يُوحَنَّا» (18: 19-20) يُبَيِّن أنَّ الْيَسُوع كَانَ وَاضِحًا دَائمًا، وهُو:
«فَسَأَلَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ يَسُوعَ عَنْ تَلاَمِيذِهِ وَعَنْ تَعْلِيمِهِ.
أَجَابَهُ يَسُوعُ: أَنَا كَلَّمْتُ الْعَالَمَ عَلَانِيَةً. أَنَا عَلَّمْتُ كُلَّ حِينٍ فِي الْمَجْمَعِ وَفِي الْهَيْكَلِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ الْيَهُودُ دَائِمًا. وَفِي الْخَفَاءِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ».
وانْظُر -أَيْضًا- أَيُّهَا الْقَارِئُ الْعَاقِل وأَيَّتُها الْقَارِئَة الْعَاقِلة إِلى الْوضُوح في قَوْل الْمَسِيح كَمَا في «إنْجِيل مُرْقُص» (12/29):
«اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيل: الرَّبُّ إلـٰهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ».
فَلَوْ كَانَ الْمَسِيح هُو الرَّبَّ لَقَالَ الْمَسِيحُ: (أنَا ربُّكُمْ)، بدلًا عَنْ قَوْلِه: (الرَّبُّ إلـٰهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ).
فَهَذَا النَّصُّ وَاضِحٌ في أَنَّ اللهَ هُو رَبُّ النَّاسِ كُلِّهِم؛ الْمَسِيحِ وغَيْره.
فَهَلْ مِنَ الْعَقْلِ أنْ نَتْرُكَ هَذَا النَّصَّ الصَّريحَ الْواضِحَ ثُمَّ نُلْغِي مَعْنَاه ونَقُول: إِنَّ الْمَسِيحَ رَبٌّ أو ابنُ الرَّبِّ، أوْ أنَّ اللهَ تَجَسَّدَ فِيه، أوْ... أوْ؟!
وانْظُر -أَيْضًا- إِلى الْوضُوح في تَقْرِيرِ وِحْدَةِ ذَاتِ اللهِ في قَوْل اللهِ كَمَا في «إشعيا» (9:46):
«اذْكُرُوا الأَوَّلِيَّاتِ مُنْذُ الْقَدِيمِ، لأَنِّي أَنَا اللهُ وَلَيْسَ آخَرُ، الإلـٰهَ وَلَيْسَ مِثْلِي».
فَلَوْ كَانَ الْمَسِيحُ ابنَ اللهِ أوْ هُو اللهَ لَقَال اللهُ في النَّصِّ السَّابِق: (إِنِّي أنَا اللهُ وهُنَاك إلـٰهٌ آخَر وهُو يَسُوعُ)، لأَنَّ اللهَ واضِحٌ في كَلامِه، فَهُو يُرِيدُ الْخَيرَ والإِرْشَاد والْهِدَاية للنَّاسِ كُلِّهم، ولا يريد التشويش والأغلوطات، لأن هذا من قِلة البيان، وقلة البيان من صفات النقص، يتنزَّه الرب عنها وعن غيرها من صفات النقص، ولَكِنَّ هَذَا لمْ يَكُنْ، فعُلِم أنَّ الحقَّ هُو مَا تَقَرَّر مِنْ أَنَّ اللهَ وَاحِدٌ بِذَاتِه، والْمَسِيحُ وَاحِدٌ بِذَاتِه، لمْ يَـحِلَّ أَحَدُهُما في الآخَر.
$
الدليل الحادي عشر
الدَّلِيلُ الْحَادِي عَشَرَ عَلَى بُطْلانِ عَقِيدَةِ التَّثْلِيث -والَّتي تَعْتَمِدُ أَصْلًا عَلى عَقِيدَةِ (أَنَّ الْمَسِيحَ رَبٌّ)-: أَنَّ هَذِه الْعَقِيدَة لا تُعرفُ في أَيِّ دِينٍ سَمَاوي سَابِقٍ ولا لاحِقٍ، فَهَذِه الْعَقِيدَةُ لمْ يَعْرِفْها أَنْبِياءُ اللهِ السَّابِقِين الَّذِين يَعْتَرِف بِهِم الْيَهُود والنَّصَارى([16]) (الْمَسِيحيُّونَ)، مِثْل النَّبيِّ نُوحٍ وإبْرَاهِيمَ ولُوطٍ وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ ۏ، بَلْ ولمْ يَعْرِفْهَا ولمْ يَذْكُرْهَا أَنْبِياء بَني إسْرَائِيلَ الَّتي وَصَلت إِلَيهِمْ أَخْبَارُهم؛ كَيَعْقُوبَ ويُوسُفَ ومُوسَى وهَارُونَ ودَاودَ وسُلِيمَانَ ۏ.
نَعْمْ، لَيْسَ في الْعَهْد الْقَدِيم الَّذِي يُؤمِنُ بِه الْمَسِيحيُّونَ -والَّذِي سَاقَ أَخْبارَ هَؤلاءِ الأَنْبياءِ ودَعْوتِهم- أنَّ هَؤلاءِ الأَنْبياءَ دَعَوْا إِلى عِبَادَة إِلـٰهٍ مُـثلَّثِ الأَقَانِيم، أوْ تَلَفَّظُوا بِلَفْظِ التَّثْليثِ, ومَا شَابَه ذَلِك، بَل الَّذِي وَرَدَ عَنْهُم هُو أَنَّهم دَعَوْا بِدَعْوة كُلِّ الرُّسُل مِنْ نُوحٍ إلى مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم ) ([17])، حَيثُ دَعَوا إِلى عِبَادَة إلـٰهٍ وَاحِدٍ لَا شَرِيكَ لَهُ، وهَذَا مُدَوَّن في الْعَهْد الْقَدِيم.
$ ومِنْ ذَلِك:
قَوْلُ اللهِ لإبْرَاهِيم عليه السلام كَمَا في الْعَهْد الْقَدِيم «سِفْر التَّكوينِ» (17/ 7): «وأُقيمُ عَهْدِي بَيني وبَيْنَك وبَينَ نَسلِكَ مِن بَعْدِك في أَجْيَالِهم، عَهْدًا أَبَديًّا، لأكُون إلـٰهًا لَكَ ولِـنَسلِكَ مِنْ بَعْدُ».
قَوْلُ اللهِ لِمُوسَى عليه السلام في طُورِ سَيْنَاءَ في كَلامِه لِه كَمَا في الْعَهْد الْقَدِيم الَّذِي يُؤمِنُ بِه الْمَسِيحيُّون في «سِفْرِ الْخُروجِ» (3/ 15): «وقَالَ اللهُ -أَيْضًا- لِمُوسَى: هَكَذَا تَقُول لِبَني إسْرَائِيل: يَهْوَه إلـٰهُ آبَائِكُم، إلـٰهُ إِبْرَاهِيم وإلِـٰهُ إسْحَاقَ وإلـٰهُ يَعْقُوبَ، أَرْسَلَني إِلَيْكُم».
وفي نَفْسِ السِّفْر (4/ 5) قَولُ اللهِ لِمُوسَى: «لِكَي يُصَدِّقُوا أَنَّه قَدْ ظَهَر لَكَ الرَّبُّ إلـٰهُ آبَائِهم، إلـٰهُ إبْرَاهِيمَ وإلـٰهُ إسْحَاقَ وإلـٰهُ يَعْقُوبَ».
وهَذَا الْخِطَاب لِمُوسَى جَاءَ مِثْلُه عَن المَسِيح في «إنْجِيل لُوقَا» (20/ 37).
وجَاءَ في الْعَهْد الْقَدِيم في «سِفْر إشعيا» (44/ 6): «هَكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ مَلكُ إسْرَائيلَ وفَادِيه، رَبُّ الْجُنودِ: أنَا الأَوَّلُ وأنَا الآخِر ولا إلـٰهَ غَيْرِي».
وهَذَا حزقيا أَحَدُ أَنْبِيائِهِمْ يُخَاطِب الرَّبَّ: «أَنْت هُو الإلـٰهُ وحْدَكَ، لِكُلِّ مَمَالِك الأَرْضِ. أَنْت صَنَعتَ السَّمَاواتِ والأَرْضِ». «سِفْر إشعيا» (37/ 16).
· كَذَلِك فَلمْ يَعْتَرفِ الَّدينُ الَّذِي جَاء بَعْدَ دِينِ الْمَسِيح -وهُو دِينٌ وَاحدٌ وهُو دِينُ الإسْلامِ- بِهَذِه الْعَقِيدَة؛ أَيْ: عَقِيدَةِ التَّثْليثِ، بَلْ أَنْكَرَهَا، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالى في القُرْآن: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ۘ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۚ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 73 أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ 74 مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ۗ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ﴾([18]).
وقَالَ اللهُ تَعَالى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ۗ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾([19]).
وقَالَ تَعَالى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۖ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۖ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾([20]).
وقَالَ تَعَالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلاً﴾([21]).
فَقَولُه: ﴿ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ﴾؛ أيْ: أنَّ اللهَ مُـنَـزَّهٌ عَنْ أنْ يَكُون لَهُ ولَدٌ، لأنَّ اتِّخَاذ الْوَلد صِفَة نَقْصٍ ولَيْستْ صِفَةَ كَمَالٍ، لأَنَّ اتِّخَاذَ الأَوْلادِ يَدلُّ عَلَى احْتِياج الرَّبِّ إِلى النَّاس وهَذَا بَاطلٌ، لأنَّ اللهَ غَنيٌّ عَنِ الْعَالَمين.
فَهَذَا هُو الْقُرْآنُ، دُسْتُور دِينِ الإسْلامِ، وكَلامُ اللهِ الْمَحْفُوظ إِلَى يَوْمِ الْقِيامَة، يُبَيِّن أنَّ عَقِيدَةَ التَّثْلِيث بِاطلةٌ، وأنَّ عَقِيدةَ ربوبية الْمَسِيح وألوهيته بَاطلةٌ، ويُبَيِّن -أَيْضًا- أنَّ اعتقاد أنَّ الْمَسِيحَ ابنُ اللهِ باطل، والصَّحِيحُ أنَّ الْمَسِيحُ كَانَ عَبدًا للهِ، وكَانَ يَأْمُر قَومَه بِعبَادَة اللهِ.
فَالْحاصِلُ أنَّ الْقَوْل بالتَّثلِيث يَلْزَم مِنْه أنَّ جَمِيعَ الأَنْبِياءِ والرُّسل ضَلُّوا عَنْ مَعْرِفَة إلـٰهِهِم ومَعْبُودِهم وخَالقِهم، واهْتَدَى إِليه القَسَاوِسَةُ الَّذِين وضَعُوا عَقِيدَةَ التَّثْليثِ بَعْدَ رَفْع الْمَسِيحِ بِعِدَّة قُرونٍ في القَرْن الرَّابِع الْمِيلادِي في عَقِيدَةِ إِيمَانِهِم الَّتي اتَّفَقُوا عَلَيْهَا في مَجْمَع القُسْطَنْطِينيَّة الأوَّل عَام 381م!!
وهَذَا قَولٌ واضِحُ البُطْلان.
$
الْفَصْل الثَّاني: الأَدِلَّة الْعَقْليَّة عَلَى بُطْلانِ مَقُولَة: (إنَّ الْمَسِيحَ رَبٌّ)، وعَددُ هَذِه الأَدِلَّة سِتَّةَ عَشَر
الدليل الثاني عشر
ومِنْ دَلائِلِ بُطْلانِ مَقُولة: (إنَّ الْمَسِيحَ رَبٌّ): أنَّه لا يُمْكِن لِجِسْمٍ بَشريٍّ أنْ يَحْتَوي ذَاتَ اللهِ، لأنَّ اللهَ كَبيرٌ، أَكْبَرُ مِن كُلِّ شَيءٍ، وعَالٍ فَوْقَ سَمَاواتِه، فَوْق كُلِّ شَيءٍ، ولَا شَيءَ فَوْقَه، والْبَشَر عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِك تَمامًا، فَبِنَاءً عَلَيه فإن عَقِيدَة أنَّ الرَّبَّ تَجَسَّد في الْمَسِيح مَقُولَةٌ بَاطِلةٌ، وكَذِبٌ عَلَى اللهِ، وتقليلٌ مِنْ قَدْرِ اللهِ، فالْقَوْل بِها كُفرٌ بِاللهِ الْعَظِيم، ومُوجِبٌ للْخُلُودِ في النَّارِ.
والْوَاجِبُ هُو تَعْظِيم اللهِ وتَنْزِيهُه عَنِ اعتقاد أنه مُـمـتزِجٌ بِخَلْقِه، بل الله عالٍ على عرشه، فوق السماء السابعة، لم يرَهُ أحدٌ من خلقه جل وعلا .
$ تَنبيه
يَسْتَدلُّ القَسَاوسَةُ عَلى عَقِيدَةِ التَّجَسُّد (حُلُول اللهِ في الْمَسِيح) بِمَا قَالَه بُولِس في رِسَالتِه الأُولَى لتيموثاوس (3/16): «عَظِيمٌ هُو سِرُّ التَّقْوى. اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبرَّر في الرُّوحِ».
ومَا تَعَلَّق بِه الْمَسِيحيُّونَ مِن كَلامِ بُولسَ يُعْتَبرُ خَطأً عَظيمًا، إِذْ لَوْ كَانَ بُولسُ مُحِقًّا لَكَانَ عَلَيه أنْ يُبيَّنَ مُسْتَنَدَه لِمَا قَالَه مِنْ كَلامِ الْمَسِيحِ نَفْسِه، ولَيْسَ مِنْ كَلامِه هُو، وإلَّا يُعْتَبر مُدَّعيًا مَا لَيْسَ لَهُ بِه عِلمٌ، وكَاذِبًا في نَفْسِ الْوقْتِ، إذ ليس من الممكن أن يكتم المسيح هذه العقيدة – عقيدة التجسد – لو كانت صحيحة، ويأتي بها بولس بعده، فالحق أنها من تحريفات بولس لدين المسيح التي أَضَلَّ بها الْمَسِيحيينَ عَنْ دِينِ الْمَسِيحِ الصحيح([22]).
وسَيأتي الْكَلامُ بِالتَّعْريفِ بِبولس، وبَيانُ تَحْرِيفِه الْمُدَمِّر لِدينِ الْمَسِيح.
$
الدليل الثالث عشر
ثُمَّ كَيفَ يُمكن أن يَكُونُ الْيَسُوع ربًّا في حين أنَّ هُنَاك ملايين البشر خُلِقُوا وتَواجَدُوا قَبْلَ ولادته؟
مِنَ الْمَفْرُوضِ أنْ يَكُونَ الرَّبُّ مَوْجُودًا قَبْلَ وجُودِ النَّاسِ، ولَيْسَ الْعَكْس.
هذا القول مناقض للعقل، لأنه لا يصح في العقل أن يكون المسيح ربَّ أناس لم يَرَهم، بل وُجِدوا قبله!
إنَّ الْقَولَ الصَّحِيحَ: أَنَّ اللهَ مَوجودٌ دَائمًا، لَيْس لَه بِدَايَةٌ، أمَّا الْمَسِيحُ فإنه بَشَرٌ، خَلَقَه اللهُ لَمَّا أَرَادَ خَلْقَه، وأنَّ اللهَ لهُ ذَاتٌ، والْمَسِيحَ لهُ ذاتٌ أُخْرى.
$
الدليل الرابع عشر
علاوة على ذلك، فإن الله ليس له بداية، بينما اليسوع له بداية.
وهنا سؤال: لماذا خلق الله الآب يسوع الجسدي (لو كان هذا صحيحًا) فقط منذ حوالي 2000 سنة؟ لماذا لم يخلقه قبل ذلك؟
ولماذا حدث اتحادهم منذ ما يقرب من 2000 سنة فقط (لو كان هذا صحيحًا) ولم يحدث قبل ذلك؟
بمعنى آخر، لماذا أوجد الله المسيح في ذلك الوقت، ولم يوجده في فترة زمنية أخرى؟
ما هو السبب المنطقي وراء ذلك؟
$
الدليل الخامس عشر
ولِمَاذَا لمْ يُوجِدْه اللهُ -إنْ كَانَ الْمَسِيحُ ابْنَه فعلًا- قَبْلَ خَلقِ النَّاسِ؟!
هو أولى بالإيجاد قبل وجود البشر - لو كان ابنه فعلًا.
لِمَاذَا جَعَلَه مُتَأخِّرًا مَعَ كَوْنِه ربَّهُمْ -بِحسَبِ زَعْم مَنْ قَالَ ذَلِك-؟!
$
الدليل السادس عشر
كَيفَ يَكُون الْيَسُوع ربًّا وهُو لا يَعْرِف النَّاسَ الَّذِين عَاشُوا قَبلَ ولادَتِه؟!
$
الدليل السابع عشر
ثمَّ كَيفَ يَصِحُّ أنْ يُقَال: إنَّ اللهَ اتَّخَذَ ابنًا واحدًا؟ لِمَاذَا لمْ يَتَّخِذْ عِدَّة أَبْنَاءٍ كَمَا هِي عَادَة الْمُلوك والأَغْنِياء والعُظَمَاء؟
إنَّ التَّكـثُّـر مِنَ الأبْنَاء مِنْ صِفَات الأَغْنِياءِ، واللهُ هُو أَغْنَى الأَغْنِياء، فَلِمَاذَا لمْ يَتَكَثَّرِ مِنَ الأَبْنَاء لوْ كَانتْ صِفَة اتِّخَاذ الابنِ صِفةً حَقِيقِيَّةً لَهُ؟! تَعَالى اللهُ عَنْ ذَلِك.
$
الدليل الثامن عشر
لوْ كَانَ الْمَسِيحُ رَبًّا وإلـٰهًا حقًّا فَلِمَاذَا لمْ يَدْفعِ الْمَوتَ عَنْ نَفْسِه، بحسب زعم من زعم أنَّه مَاتَ عَلَى الصَّلِيب؟!
لا يُمْكِن أنْ يَكُونَ الْمَسِيحُ ربًّا ثمَّ يَقْتُله الْبَشَر (مُجْموعَةٌ مِنَ الْيَهُود) لِسَبَبينِ:
الأوَّل: أنَّ الرَّبَّ لا يَعْتَريه الْمَوتُ، لأنَّ الْمَوتَ صِفَةُ نَقْصٍ، والرَّبُّ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَال، فالرَّب حَي لَا يمُوت.
$
الدليل التاسع عشر
والثَّانِي: أنَّ الرَّبَّ أَقْوى مِنْ خَلْقِه، فَلا يُمْكِن أنْ تَقْوى وتَنْتَصِر مَجْمُوعةٌ مِنَ الْبَشَر (الْيَهُود) عَلَى قَتلِه وإهْانَته، والبَصْقِ عَليه، ووَضْعِ الشَّوكِ عَلى رَأْسِه، وصَلْبِهِ، ودَفْنِهِ في قَبر!
إِنَّ هَذِه الْمَقُولةَ (مَقُولة: إنَّ الْمَسِيح مَاتَ مَصْلُوبًا) تُنَاقِض مَقُولة: (إنَّ الْمَسِيح ربٌّ) مِن كُلِّ وَجْهٍ([23]).
ويُقَال أيْضًا: لوْ كَانَ الْمَسِيح ربًّا وإلـٰهًا حقًّا فَلِمَاذَا لمْ يَدْفعِ الْمَوتَ عَنْ أُمِّه مَرْيم؟!
$
الدليل العشرون
كيف يمكن أن يكون المسيح هو الله إذا لم يكن يعلم على الأقل بمؤامرة اليهود لقتله؟!
$
الدليل الحادي والعشرون
ثمَّ إنَّ مَقُولة: (إنَّ الْمَسِيح هُو اللهُ) تَتَنَاقَض مَعَ مَقُولَة: (إنَّ الْمَسِيحَ مَاتَ لَمَّا صُلِبَ)، لأنَّ الْمَسِيح إذَا كَانَ هُو اللهَ ثمَّ مَاتَ فَلابُدَّ أنْ يَمُوت الأَبُ أيْضًا، لأنَّ الاثنين متحِدان بِزَعْمِهمْ!
$
الدليل الثاني والعشرون
ثمَّ إنَّ الْجَمِيعَ يَعْلمُ أنَّ اللهَ لمْ يُولَدْ، بَيْنَما الْمَسِيحُ ولَدَتْه أُمُّه، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُمَا ذَاتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ تَمامًا، غَيْرُ مُمْتَزِجَتَينِ فِي ذاتٍ واحدةٍ، فَجعْلُهُما ذَاتًا وَاحدَةً مِنْ أَعْظَم الْمُعَانَدة للْعَقْل الصَّرِيح.
$
الدليل الثالث والعشرون
إذَا كَانَ الْمَسِيحُ هو ابنَ اللهِ فِعْلًا، فَلِمَاذَا يَتَعَلَّق بِه جُمْهُور الْمَسِيحيين أَكْثَر مِنْ تَعَلُّقِهمْ بِاللهِ نَفْسِه، ويَدْعُونه ويَرْجُونَه ويُعَظِّمُونَه أَكْثَرَ مِمَّا يُعَظِّمُون اللهَ الأب نَفْسَه؟!
إنَّ التَّصَرُّف الطَّبِيعيَّ هُو أنْ يَكُونَ التَّعَلُّق بِاللهِ الأب أَكْثر، لأنَّه هُو أبو الْمَسِيح في اعْتِقَادِهِم، وهُو الَّذِي خَلَقَه.
عَلَى مَاذَا يَدلُّ هَذا التَّنَاقُض؟ ألا يدل على تهافت هذه المقولة؟
$
الدليل الرابع والعشرون
كَذَلِك فَلَوْ كَان الْمَسِيحُ ربًّا فِعْلًا لَمَا اخْتَلفَ جُمْهورُ النَّصَارى (الْمَسِيحيُّون) عَليه، واختَلفُوا فِي فهم طَبيعته وحَقيقَته، وصَاروا طَوائف، بَلْ لَكَان الْقَوْل فِيه وَاحِدًا لا يَخْتَلف ولا يَضْطرب، فَحُـصُول الاضْطِراب بَينَ هَذِه الأَقْوال يَدلُّ عَلى سُقُوطِها كُلِّها، وأنَّ الْحَقَّ في وادٍ وهَذِه الأَقْوال في وَادٍ آخَرَ.
$
الدليل الخامس والعشرون
مِنَ الْمَعْلُوم أنَّ اللهَ رَحيمٌ بِالْبَشَرِ، لَيْس لهُ مَصْلحةٌ في تَعْقِيد الأُمُور وإثَارةِ الفَوْضَى الْعَقْليَّة في مُجْتَمَع بَني إسْرَائِيلَ ولا غيره، وقَدْ جَاءَ في (رِسَالةِ كورنثوس الأَوْلَى: 14-33): «اللهُ لَيْسَ إلـٰهَ تَشْويشٍ بَلْ إلـٰهُ سَلامٍ».
إذَا تَقَرَّر هَذَا فَلابدَّ أنَّ الَّذِي جَعَلَ عَقِيدَة الْمَسِيحيينَ مُعَقَّدةً هُمُ الْبَشَر ولَيْس الله، وهَذَا هُو الْوَاقِع لَمَا أَدْخَل بُولس في عَقِيدَةِ الْمَسِيح الأَصْليَّة مَا لَيْسَ مِنْهَا، فَحرَّفَهَا بِقَوْلِه: (إنَّ الْمَسِيح ابنُ اللهِ).
ولوْ أَنَّك استوقفتَ طِفْلًا وطَلَبتَ مِنْه أنْ يَشْرَح لَكَ عَقِيدةَ التَّثْليثِ لَمَا اسْتَطَاع، في حِين أنَّ الْعَقِيدَة الْمُتَعَلِّقَة بِاللهِ يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ مَفْهُومَةً لِكُلِّ إنْسانٍ، سَواءٌ كَانَ طِفْلًا أوْ كَهلًا، أوْ أُمِّـيًّا -لا يَقْرأُ ولا يَكتبُ- أوْ عَالِمًا في الذَّرَّة.
ولوْ أنَّكَ عَرَضَتَ عَلى هَذَا الطِّفْل عَقِيدَةَ الإسْلامِ وقُلتَ لهُ: (إنَّ الَّذِي خَلَقَكَ وخَلَقَ جَمِيعَ مَا في هَذَا الْكَونِ هُو اللهُ وحْدَه، فَاعْبُدْه ولا تَعْبد غَيْرَه، واللهُ غَنيٌّ، لمْ يَتَّخِذ ابنًا)؛ لَفَهِم مِنْك هَذِه الْعِبَارَة فورا، واقْتَنَعَ بِهَا، ولمْ يَحْتَجْ إلى أَكْثَر مِن ذَلِك.
$
الدليل السادس والعشرون
التَّثْليثُ غَريبٌ عَلى دِينِ الْمَسِيح عليه السلام ، فَلمْ يَأمُرِ الْمَسِيحُ بِعِبَادَة إلـٰهٍ مُثَلثِ الأَقَانِيم، ولمْ تَرِدْ عَنْه لَفْظةُ (التَّثْليثِ) و(الأَقَانِيمِ) في أيٍّ مِنَ الأَنَاجِيل الأَرْبَعةِ, ولَا في الرَّسَائل الثَّلاثةِ والعِشْرينَ الْمُلْحَقَة بِهَا، مَعَ أنَّ التَّثْليثَ هُو صُلب عَقِيدة الْمَسِيحيينَ الآن.
وقَدْ جَاءَ في «دَائِرة الْمَعَارِف الأَورُوبِيَّة بِاللُّغَة الفرْنَسِيَّة» مَا يُؤكِّد هَذَا، فَقَدْ جَاء فِيهَا عَنْ عَقِيدَة التَّثْليثِ: (أَنَّهَا لَيْسَتْ مُوجُودةً في كُتُبِ الْعَهْدِ الْجَدِيد ولا في أَعْمَالِ الآبَاءِ الرَّسُوليينَ ولا عِنْدَ تَلامِيذِهم الأَقْرَبِين، إلَّا أنَّ الْكَنِيسَة الكَاثُولِيكيَّة والْمَذْهَبَ البُروتِسْتَانْتِي التَّقْلِيدي يَدَّعيانِ أنَّ عَقِيدَة التَّثْليثِ كَانْت مَقْبولةً عِنْد الْمَسِيحيين في كُلِّ زَمَانٍ).
وجَاءَ في «دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ» لِبُطْرُس البُسْتَاني -وهُو مَسِيحيٌّ-: (لَفْظَةُ ثَالوث لا تُوجَد في الْكِتَاب الْمُقَدَّس).
فَالْحَاصِلُ أنَّ عَقِيدَةَ التَّثْليثِ لوْ كَانَتْ حقًّا لذُكِرت في الأَنَاجِيل والرَّسَائِل الْمُلْحَقَة بِها، لأنَّهَا تَعْتَبر صُلْبَ وصَمِيم عَقِيدَةِ الْمَسِيحِ -بِحَسَبِ اعْتِقَاد جَمَاهِير الْمَسِيحيين-، ولَكِن الْوَاقِع خِلافُ ذَلِك تَمامًا، فَهَذِه اللَّفْظَة (التَّثْليث، أوْ مُثَلَّث الأَقَانِيم) لمْ تَرِدْ فِيهَا ولَا مَرةً وَاحدةً فِي العَهْدين القَديم والجَديد، فعُلِم أنَّ هَذِه الْعَقِيدَة دَخِيلةٌ عَلَى دِينِ الْمَسِيح ولَيْسَتْ أَصِيلةً.
وهُنَا هَمْسَةٌ في آذَانِ القَسَاوسَة: إذَا تَبَيَّن لَكُم أنَّ عَقِيدَة التَّثْليث بَاطِلةٌ، فَلا تَفْرِضُوهَا عَلى النَّاسِ بِالإِكْرَاه، لأنَّ هَذَا خِلافُ الأمَانةِ العِلْميَّة، وضِدُّ الْحُرِّيَّات الشَّخْصيَّة.
كَذلِك، فَإِنَّه مِنَ الْمَعْلُوم أنَّ الزِّيَادَة في الدِّينِ مَمْنوعةٌ، لأنَّ هَذَا يُعْتَبر تَدَخُّلًا في خُصُوصيَّة الرَّبِّ (الله)، فَاللهُ هُو الَّذِي يُشَرِّع مِنْ عِنْدِه، والْبَشَر لَيْس لَهُم الْحقُّ في أنْ يَزِيدُوا أوْ يُنْقِصُوا في الدِّينِ، بَلِ الْواجِب عَلَيهِم تَطْبِيقُ الشَّرْعِ كَمَا هُو، ولَا يَزِيدونَ فِيه ولَا يُنْقِصُون ولَا يُحرِّفُون، وبِهَذَا تَحْصُل الْعُبُوديَّةُ للهِ عز وجل ، وإلَّا صَار هَذَا المُحَرِّف مُشَاركًا للرَّبِّ في خُصُوصِيَّة التَّشْريع، وهَذَا نَوعٌ مِنْ أَنْواعِ الشِّركِ بِاللهِ، الموجب للخلود في النار.
ومَع الأسف، فإن (البابا) عند المسيحيين يغير في الدين كما يشاء!
$
الدليل السابع والعشرون
لوْ كَانَ الْمَسِيحُ ربًّا لأَمَرَ النَّاسَ بِعِبَادَتِه بِكُلِّ وضُوحٍ، ولَكنَّ الْوَاقِع أنَّه نَهَى عَنْ عِبَادَتِه بِكُلِّ صَراحةٍ ووضُوحٍ، فَقَدْ قَالَ كَمَا جَاءَ عَنْه في (إِنْجِيل مَتَّى 15: 9) وكَذَلِك في (مُرقُص 7:7):
«وبَاطلًا يَعْبدُونَني، وهُمْ يُعلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِي وصَايَا النَّاس».
يَقْصِدُ بِقَولِه: (وبَاطِلًا يَعْبدُونَني) أنَّ النَّاسَ سَيَعْبُدُونَه، ولكنه بيَّن بوضوح أن عِبَادَتَهُم لهُ بَاطلةٌ، وأَنَّهَا لنْ تَنْفَعَهُم يَوْمَ الْقِيامَةِ، وبناء عَلَيهِ فَسَيأتي من كان يعبد المسيح يَوْمَ الْقِيامَةِ فيَجِدُ أنَّ عِبَادَته له بَاطِلةٌ غَيْر مَقْبُولةٍ عِنْدِ اللهِ، وأنَّه يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَة، الـمُـتَـمـثلة في الخلود في النار أبد الآباد، لأنَّه تَرَكَ عِبَادَة اللهِ الْمُسْتَحِقِّ للْعِبَادَة وعَبَدَ غَيْرَه، بَلْ وسيتفاجأ بأنَّ الْمَسِيحَ يَتَبرَّأُ مِن عِبَادَتِه لهُ كَمَا قَالَ اللهُ في القُرْآن:
﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ 116 مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنْتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ 117 إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 118 قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 119 لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾([24]).
$ تَفْسِير الآيَاتِ الْكَرِيمات
ذَكَرَ اللهُ تَعَالى في هَذِه الآيَاتِ بَعْضًا مِمَّا سَيَكُون يَوْم الْقِيَامَة، ومِنْهَا أَنَّه سَيَسألُ الْمَسِيحَ عِيسى ابنَ مَرْيمَ (وهُو أَعْلَمُ بِالإِجَابَة): ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾.
فَعِنْدَها سَيُجِيبُ الْمَسِيحُ مُنَزِّهًا اللهَ تَعَالى عَنْ ذَلِك قائلًا: مَا يَنْبَغِي لي أنْ أَقُولَ للنَّاسِ غَيْرَ الْحَقِّ، لم يقع مني إطلاقًا أن أمرتُ الناس بعبادتي أو عبادة أمي، إنْ كُنْتُ أمرتُهم بعبادتي وعبادة أُمِّي فَقْد عَلِمتَه يَا الله، لأنَّه لَا يَخْفَى عَلَيكَ شَيءٌ، تَعْلمُ مَا تُضْمِرُه نَفْسِي، ولا أَعْلَم أنَا مَا في نَفْسِك، إنَّك أَنْتَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيءٍ مِمَّا ظَهَر أوْ خَفِي.
ثمَّ سَيَقُول الْمَسِيحُ عليه السلام : يَا رَبِّ، مَا قُلتُ لَهُمْ إلَّا مَا أَوْحَيْتَه إِليَّ وأَمَرْتَنِي بِتَبْلِيغِه للناس، وهو إِفْرَادِك بِالْعِبَادَة، وكُنْتُ أنَا شَاهِدًا عَليهِم وعَلَى أَفْعَالِهم وأقْوالِهِم لَمَّا كُنْتُ بَيْنَهُم، فَلَمَّا تَوفَّيْتَني إِلَيْكَ؛ أي: قَبَضْتَني واسْتَرْجَعْتَني إِلَيْك بِرَفْعِي إِلى السَّمَاء، كُنْتَ أَنْتَ الْمُطَّلِعَ عَلى سَرَائِرِهِمْ، وأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٍ، لَا تَخْفَى عَلَيكَ خَافيةٌ فِي الأَرْضِ ولَا في السَّمَاء.
إنَّ تُعَذِّبْهُم يَا اللهُ فَإِنَّهُم عِبَادُك، وأَنْتَ أَعْلَمُ بِأَحْوالِهمْ، تَفْعَل بِهِم مَا تَشَاء، إن شِئت عذبتهم بِعَدْلِك، وإن شئت غفرت لهم بِرَحْمَتِك، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيز الَّذِي لَا يُغلب، الْحَكِيم في تَدْبِيره وَأَمْرِه.
عِنْدَ ذَلِك سَيَقُول اللهُ للْمَسِيح عليه السلام : هَذَا يَوْمُ الْجَزَاء الَّذِي ينتفعُ فيه الـمُوحِّدون([25]) بتوحيدهم لربهم، وانْقِيادِهُم لِشَرْعِه، وصِدقِهم في نِيَّاتِهِم وأَقْوالِهِمْ وأعْمَالِهم، فيكون جزاؤهم أنَّ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْت قُصُورِها الأَنَّهَار، مَاكِثينَ فِيهَا أَبَدًا رضي الله عنهم ، فَقَبِل الله حَسَناتِهِم، ورَضُوا هم عَنْه بِمَا أَعْطَاهُم مِن جَزِيل ثَوابِه. ذَلِك الْجَزَاء والرِّضَا مِنْه عَلَيْهِم هُو الْفَوزُ الْعَظِيم.
وفي ذلك اليوم سَيَعْلمُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْمَسِيحَ أنَّهُ كَانَ مَخْدُوعًا، خَدَعهُ الشَّيْطَانُ، وخَدَعَه بَشَرٌ مِثْلُه كَانُوا يَمْنَعُونَه مِنْ سَمَاعِ القُرْآنِ أوْ مُجَرَّدِ الاحْتِكَاك بِالْمُسْلِمين لِسَمَاع الْحَقِّ، فَذَهَبَ عَمَلُه هَبَاءً مَنْثُورًا، وسَيَنْدَم حَين لا يَنْفعُ النَّدَمُ.
فَالْحَاصِلُ أنَّ الْمَسِيح لا يَرْضَى بِعِبَادَتِه، بَلْ يَأْمُر النَّاسَ بِعِبَادَة اللهِ وحْدَه، وعَدَم الإِشْرَاك بِه.
وقَوْلُ الْمَسِيح كَمَا في النَّصِّ السَّابِق: (وهُمْ يُعلِّمونَ تَعَاليمَ هِي مِنْ وصَايَا النَّاسِ) يَقْصِد بِهَذَا مَا سَيَحْصُل في الْمُسْتَقْبل مِنْ عِبَادَة النَّاسِ لهُ بِناءً عَلَى تَعَالِيم مِنْ عِنْد الْبَشَر (النَّاسِ) ولَيْسَت مِن عِنْدِ اللهِ، وقَدْ حَصَل هَذَا بِالْفِعْل -كَمَا سَنُبَيِّن لاحقًا بِالتَّفْصِيل-، وذَلِك لَمَّا انْعَقَد مُؤتمر نِيقْية عَام 325م، واتَّفَقُوا عَلى عَقِيدَة تَأْلِيه الْمَسِيح، وبَعْدَه انْعَقَد مُؤتَمَر القُسْطَنْطِينيَّة عَام 381م، واتَّفَقُوا عَلَى عَقِيدَة التَّثْليثِ، فَقَرَّر القَسَاوسَة الَّذِين هُم مِن جُمْلَة (النَّاسِ) وصَايَا لا تَمُتُّ إلى تَعَالِيم الْمَسِيح بِصِلَةٍ، بَلْ هِي مِنْ عِنْد أَنْفُسِهم، ودَعَمَهُم في فَرْضِها قُسْطَنطين، أَحدُ أَباطرةِ الرُّومَان([26]) في ذَاكَ الزَّمَان، وفَرَضَها عَلى النَّاس بِالْحَدِيد والنَّار، فَتَبِعَهُم النَّاسُ بِدَافعِ الْخَوْفِ أو التَّقْلِيد، بِدُونِ تَمْحِيص أوْ مُنَاقَشَةٍ، لأن الْمُنَاقَشَة الْعَقْليَّة مَمْنوعةٌ.
$
وهُنَا قَدْ يَأْتِي سَائِلٌ مُثَقَّفٌ، أوْ سَائِلةٌ مُثَقَّفةٌ، فَيَسْأَلانِ سُؤالاً مَنْطِقيًّا فَيَقُولانِ:
إذَا كَانْتِ الْمَصَادِر الإِنْجِيليَّة تُقَرِّر أنَّ الْمَسِيحَ بَشَرٌ رَسولٌ، وأنَّه عبدٌ للهِ، وأنه لَيْسَ هُو اللهَ، ولا ابنَ اللهِ، فَمَا هُو سَبَب مُخَالفة الْمَسِيحيينَ لِهَذَا الاعْتِقَاد؟
ومِنْ أَيْنَ دخل هَذَا الانْحِرَافُ فِي عَقِيدَة الْمَسِيح حتى وصل إِلى مَا عَلَيه عقيدة النصارى مِنَ التَّثْلِيث وغَيْرِه؟
ولِمَاذَا يُقرر القَسَاوِسَة في الكنائس أنَّ الْمَسِيحَ رَبٌّ وابنُ الرَّبِّ وثَالثُ ثَلاثةٍ، وإنَّه إلـٰهٌ وابنُ الإلـٰهِ، وإنَّ اللهَ تَجَسَّدَ فِي الْمَسِيح وحَلَّ فِيه؟
ومَا هُو عُمْدَتُهم فِي هَذِه الأَقْوالِ والْعَقَائِد الْبَعِيدَة كُلَّ البُعْدِ عَمَّا هُو مَذْكُورٌ فِي الْعَهْدِ القَدِيم والْجَدِيد مِنَ النُّصُوصِ الَّتِي قرأناها والتي تُقَرِّر بوضوح عكس مَا يُقَرِّرُونه فِي الْكَنَائِس؟
وما هو السر في كونهم يَمْنَعُون الْمُثَقَّفِين والْمُثَقَّفَات مِنْ مُجَرَّد السُّؤَال عَنْهَا فَضْلًا عَنِ الاعْتِرَاضِ عليها، وفي الكنائس العربية يعذبون من يفعل ذلك، وإذا كان السائل امرأة عذَّبوها في الكنيسة، ثم هتكوا عرضها؟!
أينَ حَقِيقةُ مَقُولةِ: (اللهُ مَحبَّة)؟!
ومَا هُو سِرُّ الْمَسْأَلَة؟
فَالْجَوابُ: إنَّ التَّارِيخ يُثْبِتُ أنَّ رِسَالةَ الْمَسِيحَ تَعَرَّضَتْ إِلى حَمْلَةِ تَشْويهٍ شَرِسَةٍ في الْقُرُونِ السِّتَّة الأُوْلى بَعْدَ رَفْعِه، أَدَّتْ إِلَى تَغَيُّرِ رِسَالَتِه تَغَيُّرًا جَذْرِيًّا، وتُحوِّلُها إِلى دِينٍ آخر، دينٍ وَثَنيٍّ، لَا يَمُتُّ لِتَعَالِيمِ الْمَسِيحِ بِصِلَةٍ، ولَا لِعِبَادَةِ اللهِ بِصِلَةٍ، وهَذَا أوانُ الشُّرُوع في تَبْيينِ مَرَاحِلِ التَّشْويه هَذِه، ليكون القارئ المثقف والقارئة المثقفة على بــيِّــنةٍ من أمرهما.
$
الْفَصْلُ الثَّالث: الأَدِلَّة التَّارِيخِيَّة عَلى إِثْبَات أنَّ مَقُولَة: (إنَّ الْمَسِيحَ رَبٌّ) مَقُولَة مِنِ اخْتِرَاع الْبَشَر، وكَذَلِك مَقُولَة التَّثْلِيث
وعَدَد هَذِه الأَدِلَّة اثْنَانِ:
الأوَّل: مُتَعَلِّقٌ بِمَن يُسَمَّى «بُولِس الرَّسُول»،
والثَّاني: مُتَعَلِّقٌ بِالْمَجَامِع الكَنَائِسيَّة الْمَدْعُومَة مِنَ الْحكُومَة الرُّومَانيَّة.
الدليل الثامن والعشرون
الدَّليلُ التَّارِيخيُّ الأوَّل عَلى تَحْرِيف دِينِ الْمَسِيح([27]):
$ مُقَدِّمة
إنَّ التَّارِيخ يُبيِّن أنَّ عَقِيدَة أنَّ (الْمَسِيح ابنُ اللهِ) لمْ تُعرفْ بَينَ أَتْباعِ الْمَسِيح إلَّا بَعْدَ رَفْعِه إِلى السَّمَاء، والَّذِي أَدْخَلَها هو رَجُلٌ يَهُودِيٌّ اسْمُه شَاول، عُرِف لاحقًّا بِاسْمِ بُولِس الرَّسُول، (ويُلفَظ أَحَيانًا: بُولِص)، ابْتَدَع هَذِه الْعَقِيدَة وعَقَائِدَ أُخْرَى وأَدْخَلَها جَمِيعًا في دِينِ الْمَسِيح الأَصْلِي، مُدَّعيًّا أنَّه رَسُولٌ، أَرْسَلَه الْمَسِيحُ إِلى النَّاسِ، فَبَثَّ تِلْكَ العَقَائِد بَيْنَ النَّاسِ، فَصَارَ النَّصَارَى (الْمَسِيحيُّون) لا يَـتَّـبِعون في الْحَقِيقَة دِينَ الْمَسِيح الْيَسُوع الَّذِي جَاء بِه مِنْ عِنْدِ اللهِ، بَلْ يَتَّبِعُون الدِّينَ الْمُحَرَّفَ الَّذِي ابْتَدَعَه بُولِس.
وبُولِس في الأَصْل رَجلٌ يَهُودِيٌّ -كَمَا أَسْلَفْنَا-، ظَهَرَ عَلى مَسْرِح الأَحْدَاث بَعْدَ رَفْعِ الْمَسِيح بِحَوالي ثَلاث إِلى خَمْسِ سَنَوات، فَانْقَلَب فَجْأَةً ودَوَّنَ مُقَدِّمَاتٍ مِنْ عَدُوٍّ مُجْرِمٍ ومُتَطَرِّفٍ في عَدَاوَتِه ضِدَّ يَسُوعَ ورِسَالته وأَتْبَاعِه، إِلى رَسُولٍ مُوحًى إِليه مِن قِبَلِ اللهِ ومِن قِبَل يَسُوع أَيْضًا، فَادَّعَى خَمْسَةَ أُمُورٍ:
الأَوَّل: ادَّعَى أنَّه رَسُولٌ مُـعَـيَّـنٌ مِنْ قِبلِ يَسُوع.
الثَّانِي: ادَّعى أنَّ الْيَسُوع أَوْحَى إِلِيه إنْجِيلًا.
الثَّالث: ادَّعَى أنَّ اليَسُوع ابنُ اللهِ.
الرَّابِع: ادَّعَى أنَّ خَطِيئَةَ أَبِينَا آدَمَ وأُمِّنَا حَوَّاءَ لمْ تُغْفَر، وَهِي الأكْل مِن الشَّجَرة، وأنَّ الْبَشَريَّة تَوارَثَتْهَا عَبْرَ القُرونِ، وهِي الْمَعْرُوفَة بـ«الْخَطِيئة» أوْ «الْمَعْصِية الأُولى».
الخَامِس: ادَّعَى بُولِس أنَّ يَسُوع أَرْسَلَه اللهُ فَنَزَلَ إِلى الأَرْضِ ليُصْلَبَ ويَتَعَذَّبَ فِداءً للْبَشَريَّة مِنْ خَطِيئة أَبَويْهِم آدَمَ وحَوَّاءَ.
· هَدَفُ بُولِس النِّهَائِي هُو الْوصُول إِلى هَدَفِينِ:
الأوَّل: هَدْمُ دِينِ الْمَسِيح مِنَ الدَّاخِل، بِتَحْرِيفِه وتَشْويهِه وتَحْويلِه إِلَى دِينٍ آخَرَ مُخْتَلفٍ تَمامًا في جَوْهرِهِ عَنْ دِينِ الْمَسِيحِ.
الثَّانِي: اسْتِمَالة الْوثَنِيينَ الرُّومَان إِلى الدِّينِ الْجَدِيدِ الَّذِي صَمَّمَه لَهُمْ، بِأَنْ جَعَلَه مُتَوافِقًا مَعَ مَبادِئِهِم الْوثَنِيَّة.
ولِكَي يُحَقِّقَ بُولِسُ هَدَفَه بِسُهُولَةٍ ويَتَجَنَّبَ الْمُواجَهَة مَعَ أَتْبَاعِ الْمَسِيح، دَخَلَ في دِينِ الْمَسِيح (في الظَّاهِر)، وكَانَ ذَلِك مِنْه خِداعًا لأَتْبَاع الْمَسِيح الْحَقِيقِيين، بَأَنْ كَانَ يُظْهر اتِّـباعَ الْمَسِيح وحُبَّه في الظَّاهِر، وفي البَاطِن كَانَ يُخْفِي الْكُفْرَ بِه وبِدَعْوتِه، وبِعِبَارَةٍ أُخْرى فَقَدَ كَانَ بُولِس مُنَافِقًا، جَعَلَ نِفَاقَهُ سِتَارًا يَتَسَتَّرُ بِه، ونُقْطَة بِدايةٍ يَنْطِلق مِنْهَا إِلَى عَمَلِية تَخْريبٍ وَاسِعةِ النَّطَاقِ في رِسَالةِ ودِينِ يَسُوعَ الْمَسِيح.
ومِنَ الإِيجَازِ نَنْتَقِلُ إِلى التَّفْصِيل لِفَهْمِ دَوْر بُولِس فِي تَحْرِيف رِسَالةِ الْمَسِيح، وبَيانُ ذَلكَ يَتَضَّحُ فِي سِتَّةِ نِقَاطٍ نَسرُدُها عَلى سَبيلِ الإِيْجَازِ ثُمَّ نَتَكَلَّمُ عَلى كُلِّ وَاحِدةٍ بِالتَّفْصِيلِ:
النُّقْطَة الأَوْلَى: إِثْبَاتُ عَدَاوَة بُولِسَ للْمَسِيح وأَتْبَاعِه.
النُّقْطَة الثَّانِية: بُولِس يَدَّعِي أنَّه رَسُولٌ مُـعَـيَّنٌ مِنْ عِنْد الْمَسِيح، ويَنْقَلِب انْقَلابًا مُفَاجِئًا مِن عَدوٍّ شَرسٍ للْمَسِيحِ ودَعْوتِه إِلَى نَبيٍّ مُوحًى إِلَيهِ مِنَ الْمَسِيحِ نَفْسِه!
النُّقْطَة الثَّالِثة: دَعْوى بُولِس أنَّ الْمَسِيحَ ابنُ الرَّبِّ، (تَعَالَى اللهُ عَنْ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا).
النُّقْطَة الرَّابِعة: دَعْوى بُولِس أنَّ الْمَسِيحَ هُو الرَّبُّ، (تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ).
النُّقْطَة الخَامِسَة: دَعْوى بُولِس أنَّ خَطِيئةَ أَبِينَا آدَمَ بَاقِيةٌ، وأنَّ الْبَشَر تَوارَثُوهَا، وأنَّ اللهَ أَرْسَل ابْنَه الْمَسِيحَ (فَادِيًا) لِـيُـخَلِّصَهُم مِن خَطِيئَة أَبِيهِمْ آدَمَ، بِأَنْ يَمُوت مَقْتُولًا مَصْلُوبًا، وبِذَلِكَ يَرْضَى الرَّبُّ، وتَـتِـمُّ المُصَالَحةُ بَيْنَه وبَيْن الْبَشَر.
النُّقْطَة السَّادِسَة: إِثْبَات كَذِبِ بُولِس فِي دَعْوَاه أنَّ الْمَسِيحَ أَرْسَلَه, وغَيْرِهَا مِن الدَّعَاوى.
$
$ التَّفْصِيل
النُّقْطَة الأُوْلَى: إِثْبَاتُ عَدَاوةِ بُولِس للْمَسِيح وأَتْباعِه
مُقَدِّمَة: كَان النَّاسُ في فِلَسْطِين يَنْظُرُونَ للْمَسِيح بنِ مَرْيمَ قَبْلَ أَنْ يَبْدَأَ في دَعْوتِه عَلَى أنَّه إِنْسَانٌ مِثْلهم، ولَمَّا بَدَأَ دَعْوتَه لِقَوْمِه الْيَهُود انْقَسَمُوا إِلَى قِسْمَينِ:
الأَوَّل: قَوْمٌ صَدَّقُوه وآمَنُوا بِرسَالَتِه واتَّبَعُوه، وأنَّه نَبيٌّ بَشَرٌ مَرْسَلٌ مِنَ اللهِ جل وعلا إِلَيهِمْ.
والقِسْم الثَّانِي: قَوْمٌ كَذَّبُوه ولمْ يُؤمِنُوا بِه، وعادوهُ واتَّهَمُوه بِأَنَّه مُدَّعٍ للنُّبوة.
وقَدْ سعى أَعْدَاءُ الْمَسِيحِ مِنَ الْيَهُودِ لتَوْرِيطِ الْمَسِيح مَعَ السُّلُطَاتِ الرُّومَانِيَّة الْحَاكِمَة لِفلَسْطِينَ آنَذَاكَ ليقتلوه، فوَشَوْا بِهِ إِلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ الْكَفَرَةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ وَصَلْبِهِ، فَحَصَرُوهُ فِي دَارٍ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَذَلِكَ عَشِيَّةَ الْجُمُعَةِ لَيْلَةَ السَّبْتِ، وسبب ذلك العداء أن اليهود لما بعث الله عيسى ابن مريم بالبينات والهدى؛ حسدوه على ما آتاه الله من النبوة والمعجزات الباهرات، فقد كان يُبرئ الأكمهَ([28]) والأبرص ويُحيي الموتى بإذن الله، ويُصَوِّرُ من الطين طائرًا ثم ينفخ فيه فيكون طائرًا يُشاهَدُ طيرانه بإذن الله عز وجل ، إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها وأجراها على يديه، ليعلم الناس أنه نبي، فكذبوه وخالفوه، وسَعَوْا في أذاه بكل ما أمكنهم، حتى صار عيسى عليه السلام لا يُساكنهم في بلدة، بل يُكثر السياحة والاختفاء عنهم في البلاد هو وأمه مريم ڽ، ثم لم يُقنعهم ذلك حتى سعوا إلى مَلِكِ دمشق في ذلك الزمان، وكان رجلا مشركًا من عَبدَةِ الكواكب، وكان يقال لأهل دينه (اليونان)، فقالوا له إن بِـبيتِ المقدس رجلًا يفتن الناس ويُضِلُّهم ويُفسد على المَلِكِ رعاياه، فغضب الملك من هذا، وكتب إلى نائبه بالمقدس - وهو دَاوُدَ بْنَ يُورَا - أن يقبض على هذا المذكور، وأن يَصلبه ويَضع الشوك على رأسه، ويَكُفَّ أذاه عن الناس، فلما وصل الكتاب امتثل والي بيت المقدس، وذهب هو وطائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى عليه السلام ، وكان مع جماعة من أصحابه، اثنا عشر أو ثلاثة عشر، وقيل سبعة عشر نفرًا، وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت، فحصروه هنالك، فَلَمَّا حَانَ وَقْتُ دُخُولِهِمْ ألقى اللهُ شَــبَــهَ المسيح عَلَى أحد أَصْحَابِهِ الْحَاضِرِينَ عِنْدَهُ، وَرُفِعَ المسيح مِنْ فتحة في سقف البيت إِلَى السَّمَاءِ، وَأَهْلُ الْبَيْتِ يَنْظُرُونَ، وَدَخَلَتِ الشرطة فَوَجَدُوا ذَلِكَ الشَّابَّ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ، فَأَخَذُوهُ ظَانِّينَ أَنَّهُ عِيسَى، فَصَلَبُوهُ وَوَضَعُوا الشَّوْكَ عَلَى رَأْسِهِ إِهَانَةً لَهُ، وتبجَّحوا بذلك، وصدق عَامَّةُ النَّصَارَى اليهود في دعواهم أنهم قتلوا المسيح، لأنهم لم يعلموا حقيقة الأمر ولم يشاهدوا ما حدث في داخل البيت، فظنوا كما ظنت اليهود أن المقتول المصلوب هو المسيح، وَضَلُّوا بِسَبَبِ ذَلِكَ ضَلَالًا مُبِينًا كَثِيرًا فَاحِشًا بَعِيدًا([29]).
وهُنَا قَدْ يَسْأَل سَائِلٌ فَيَقُولُ: لِمَاذَا يَكْرَهُ الْيَهُودُ الْمَسِيح؟
فَالْجَوابُ: أنَّ دَعْوةَ الْمَسِيح وتَعَالِيمه السَّمْحَة تَتَنَاقَضُ مَعَ طَبَائِع الْيَهُود الْمَادِّيَّة الشَّرِهَة، وقُلُوبِهِمُ القَاسِية الْمُتَكَبِّرة الْمُتَحَجِّرَة، فَلَمَّا جَاءَهُم ونصحهم وأمرهم باتِّـباعه اتَّهَمُوه بِأَنَّه مُدَّعٍ للنُّبُوة، وكَفَرُوا بِالآيَاتِ الدَّالَّة عَلَى نُبُوَّتِه، وقَالُوا: إِنَّهَا تَتِمُّ بِمُسَاعَدَة الشَّيَاطِين.
وبَعْدَ رَفعِ الْمَسِيح إِلَى السَّمَاء بِسَنواتٍ قَلِيلةٍ جَاءَ بُولِس اليَهُودِيُّ، الْمُتَطَبِّعُ بِطَبَائِع الْيَهُود مِن رَأْسِه إِلى أُخْمُصِ قَدَميه، والذي كان يُعذِّب أتباع المسيح، فتظاهر بالدخول في دين المسيح، ليثق الناس به، ثم بدأ بمخطط رهيب لإفساد دين المسيح، بأن ادَّعَى أمورا، على رأسها دعواه أنَّ الْمَسِيحَ إلـٰهٌ وأنَّه ابنُ اللهِ، فَتَبِعَه مَنْ تَبِعَه عَلَى هَذَا الاعْتِقَاد، فَنَشَأَ القِسْمُ الثَّالِث الَّذِي يُضَافُ إِلى الْقِسْمَينِ الآنْفِ ذِكْرُهَما.
$ سَرْدُ النُّصُوصِ المُثْبِتَة لِعَدَاوَةِ بُولِس للْمَسِيح ودِيْنِه وأَتْبَاعِه
· جَاءَ عَنْه في «أَعْمَال الرُّسُل» (8/3):
«وأمَّا شَاول فَكَان يَسْطُو عَلَى الْكَنِيسَة، وهُو يَدْخُل الْبُيوتَ ويَجُرُّ رِجَالًا ونَسَاءً ويُسَلِّمُهمْ إِلَى السِّجْن».
· وقَالَ في «رِسَالَته إِلَى أَهْلِ غلاطية» (1/13):
«فَإِنَّكُم سَمِعْتُم بِسيرَتي قَبْلًا في الدِّيَانَة الْيَهُودِيَّة، أَنِّي كُنْتُ أَضْطَهد كَنِيسَةَ اللهِ بِإِفْرَاطٍ وأُتلِفها».
· وجَاءَ عَنْه في «أَعْمَال الرُّسُل» (26/9-11) أَنَّه قَالَ للمَلِك أغريباس:
«فَأَنَا ارْتَأَيْتُ في نَفْسِي أَنَّه يَنْبَغِي أنْ أَصْنَعَ أُمورًا كَثِيرةً مُضَادَّة لاسْمِ يَسُوع النَّاصِري.
وفَعَلتُ ذَلِك -أَيْضًا- في أُورشَليم، فَحَبَستُ فِي سُجُونٍ كَثِيرينَ مِنَ القِدِّيسينَ، آخِذًا السُّلْطَان مِنْ قِـبَلِ رؤسَاءِ الْكَهَنَةِ([30]). ولَمَّا كَانُوا يُـقْتَلُون أَلْقَيتُ قُرْعَةً بِذَلك.
وفي كُلِّ الْمَجَامِع كُنْتُ أُعَاقِبُهُم مِرارًا كَثِيرةً، وأَضْطَرهم إِلَى التَّجْدِيف([31]). وإذْ أَفـرَط حَـنَـقي عَلَيْهِم كُنتُ أَطْرُدُهمْ إِلى المُدنِ الَّتِي فِي الخَارِج».
وجَاءَ في «أَعْمَال الرُّسُل» (9/20-21) عنْ بُولِس أن لما جَعَل يُكـرِّز في الْمَجَامِع أن الْمَسِيح هُو ابنُ اللهِ؛ بُهِت جَميعُ الَّذِين كَانُوا يَسْمَعُون وقَالُوا: «أَلَيس هَذَا هُو الَّذِي أَهْلَكَ في أُورْشَلِيم الَّذِين يدْعون بِهَذَا الاسْم؟ وقَدْ جَاءَ إِلى هُنَا لِهَذَا لِيَسُوقَهم مُوثَّقِين إِلَى رُؤسَاء الْكَهَنَة؟!».
· وجَاءَ عَنْ بُولِس في بِدَايَة الإِصْحَاح التَّاسِع مِنْ «أَعْمَال الرُّسُل»:
«أمَّا شَاول فَكَانَ لمْ يَزَلْ يَنْفُث تَهَدُّدًا وقَتْلًا عَلى تَلامِيذِ الرَّبِّ، فَتَقَدَّم إِلى رَئيسِ الْكَهَنة.
وطَلَبَ مِنْه رَسَائِل إِلى دِمَشْقَ إِلَى الْجَمَاعَات، حتَّى إِذَا وَجَدَ أُنَاسًا مِنَ الطَّرِيقِ، رِجَالًا أوْ نِسَاءً، يَسُوقُهمْ مُوثَّقِين إِلَى أُورْشَليم.
وفي ذِهَابِه حَدَثَ أنَّه اقْتَربَ إِلى دِمَشْقَ فَبَغْتَةً أَبْرَق حَوْلَه نُورٌ مِنَ السَّمَاءِ.
فَسَقَطَ عَلَى الأَرْضِ وسَمِعَ صَوتًا قَائِلًا لَهُ: شَاول، شَاول، لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي.
فَقَال: مَنْ أَنْت يَا سَيِّد؟ فَقَالَ الرَّبُّ: أنَا يَسُوع الَّذِي أَنْت تَضْطَهِدُه. صَعْبٌ عَلَيكَ أنْ تَرْفُس مَنَاخِس.
فَقَالَ وهُو مُرْتَعِد ومُتَحَيِّر: يَا رَبِّ، مَاذَا تُرِيدُ أنْ أَفْعَل؟ فَقَال لهُ الرَّبُّ: قُمْ وادْخُلِ الْمَدِينةَ فَيُقَال لَكَ مَاذَا يَنْبَغِي أنْ تَفْعَل».
فتبين من هذه النصوص التي هي من كلام بولس نفسه حقيقة أمره قبل دعواه أنه رسول، وأنه كان شديد العداوة للمسيح ودينه وأَتباعه.
النُّقْطَة الثَّانِية: بُولِس يَكْذِب عَلَى النَّاسِ، ويَدَّعِي أنَّه رَسُولٌ مُـعَـيَّنٌ مِنْ عِنْدِ الْمَسِيح نَفْسِهِ، ويَنْقَلِبُ انْقِلابًا مُفَاجِئًا مِن عَدوٍّ شَرسٍ للْمَسِيح ودَعْوتِه إِلَى نَبيٍّ مُوحًى إِلَيه مِنَ الْمَسِيح نَفْسِه!
· جَاءَ عَنْه في «أَعْمَال الرُّسل» (26/12-18) أنَّه قَالَ للْمَلِك أغريباس:
«ولَمَّا كُنْتُ ذَاهبًا في ذَلِكَ إِلى دِمَشْقَ بِسُلْطانٍ ووَصِيَّةٍ مِنْ رُؤسَاء الْكَهَنَة.
رَأْيتُ في نَصْف النَّهَار في الطَّرِيقِ، أَيُّهَا الْمَلِك، نورًا مِنَ السَّمَاءِ أَفْضَلُ مِنْ لَمَعَانِ الشَّمْس، قَدْ أَبْرَقَ حَوْلِي وحَوْل الذَّاهِبينَ مَعِي.
فَلَمَّا سَقَطْنَا جَمِيعُنا عَلَى الأَرْضِ سَمِعتُ صَوتًا يُكَلِّمُني ويَقُولُ بِاللُّغَة العبْرَانِيَّة: شَاول([32])، شَاول، لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟ صَعْبٌ عَلَيكَ أَنْ تَرْفُسَ مَنَاخِس.
فَقُلتُ أنَا: مَنْ أَنْتَ يَا سَيد؟ فَقَال: أنَا يَسُوع الَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُه.
ولَكِن قُمْ وقِفْ عَلَى رِجْلَيكَ، لأَنِّي لِهَذَا ظَهَرتُ لَكَ، لأَنْتَخِبكَ خَادِمًا وشَاهِدًا بِمَا رَأيتُ وبِمَا سَأُظهِرُ لَكَ بِه.
مُنْقِذًا إيَّاكَ مِنَ الشَّعْبِ ومِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ أنَا الآنَ أُرْسِلُك إِلَيْهِم.
لِتَفْتَح عُيونَهَم كَي يَرْجِعُوا مِنَ ظُلُمَاتٍ إِلى نُورٍ، ومِنْ سُلْطَانِ الشَّيْطَان إِلى اللهِ، حتَّى يَنَالُوا بِالإِيمَانِ بِي غَفْرَان الْخَطَايَا ونَصِيبًا مَعَ الْمُقَدَّسِين».
انْتَهى كَلامُه.
$ التَّعْلِيق
مَا هُو مَكْتوبٌ في هَذَا النَّصِّ: (أنَا الآنَ أُرْسِلك إِلَيْهِم) لَيْسَ إلَّا دَعْوى ادَّعَاها بُولِس لِنَفْسِه، لَيْسَ عَلَيْهَا إِثْبَاتٌ، وكُلُّ إِنْسَانٍ بمَقْدُوره أنْ يدَّعِيَهَا، وسَيَتبيَّن كَذِبُه فِيمَا قَالَ قَرِيبًا.
· وقَالَ بُولِس في رِسَالته إِلَى أَهْلِ غلاطية (1/1، 11-12):
«بُولِس، رَسولٌ لَا مِنَ النَّاسِ ولا بِإِنْسَانٍ، بَل بِيَسُوع الْمَسِيح واللهِ الآب الَّذِي أَقَامَه مِن الأَمَواتِ.
وأُعَرِّفكم أَيُّهَا الإِخْوة الإِنْجِيلَ الَّذِي بُـشِّـرتُ بِه، أَنَّه لَيْسَ بِحَسْبِ إِنْسَانٍ.
لأنِّي لمْ أَقْـبَله مِنْ عِنْد إِنْسَانٍ ولا عَلِمْتُه. بَلْ بِإِعْلانِ يَسُوع الْمَسِيح».
وقَالَ كَمَا في «أعْمَال الرُّسُل» (22/21) أنَّ اللهَ قَالَ لهُ: «اذْهَب، فَإِنِّي سَأُرْسِلكَ إِلَى الأُمَمِ بَعِيدًا».
وقَالَ بُولِس في رِسَالَتِه الأُولَى إِلَى تيموثاوس (1:1):
«بُولِس، رَسُول يَسُوع الْمَسِيح، بِحَسب أَمر اللهِ مُخلِّصِنَا، ورَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيح، رَجاَئِنا».
$ النَّتِيجَة
صدَّق بعضُ الناس بولس في دعواه أنَّه رَسُولٌ مِن عِنْدِ الْمَسِيح، وأَنَّ الْمَسِيح أَوْحَى إِلَيْه إْنْجِيلًا، وبهذا اسْتَحْوذَ عَلَى كُلِّ صَلاحِيَّات الْمَسِيح، وحَلَّ مَحَلَّه في نظرهم، كَمَا أَنَّه سَحَبَ البِسَاطَ مِن تَحْتِ تَلامِيذِ الْمَسِيح الْحَقِيقِيينَ الَّذِين تَلَقَوْا عَنِ الْمَسِيح، لأنَّه صَارَ في مَنْزِلَةٍ أَعْلَى مِنْهُم، إذ ادَّعَى أنَّه رَسُولٌ، وبِطَبِيعَة الْحَالِ فَإنَّه حَلَّ مَحلَّ الْمَسِيح في نَظَرِهم، وصَارَ عِنْدَهُ سُلُطَاتٌ تَشْرِيعيَّةٌ وتَنْفِيذيةٌ كَامِلةٌ، يَضَعَ مَا شَاء مِنَ الْعَقَائِد، ويَمْحُو مَا شَاء، كَمَا يَحْلُو لَهُ، والنَّاسُ صَدَّقَته في كَذِبه، فانتشر دينه الـخُرافي بين الناس.
وحَجْمُ دَعْوى بُولِس أنَّ الْمَسِيح أَوْحَى لهُ إِنْجِيلًا يَتَضِّح مِنْ حَجْم رَسَائِله الْمُلْحَقَة بِالأَنَاجِيل الأَرْبَعة، والَّتي اتَّخَذَها الْمَسِيحيُّونَ دِينًا، فَإنَّ عَدَدَ الرَّسَائل الْمُلْحَقَةِ بِالأَنَاجِيلِ ثَلاثةٌ وعِشْرُون، يُوجَد مِنْهَا أَرْبَعةَ عَشَرَ رِسالةً مَنْسُوبةً إِلَيه، أي أنَّ مَا يُعَادِل 61% مِنْ تِلْك الرَّسَائِل هِي مِن وَضْع بُولِس! تعالى الله عن إفك هذا الأفَّاك علُوَّا كبيرًا.
· تَعْلِيقٌ عَلَى مَا تَقَدَّم مِنَ النُّصُوص الَّتِي تُقَرِّر انْتِقَالَ بُولِس الْمُفَاجِئ مِنَ الْعَدَاوة للْمَسِيح ودِيْنِه وأَتْبَاعِه إِلَى رَسُولٍ مُوحًى إِلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْمَسِيح:
قَالَ الشَّيخُ مُتَولِّي يُوسُف شَلَبي عَنْ بُولس: «وهُنَا يَجِد الْقَارِئُ فَجْوةً، وذَلِكَ أَنَّ بُولِسَ انْتَقَل فَجْأَةً مِن عَدوٍّ إِلَى نَبيٍّ، ومِنْ مُبغِضٍ إِلَى مُصَدِّرٍ لِمَا أَبْغَضَه.
فَهَلِ اللهُ يَخْتَار أَنْبِياءَه مِنَ الأَشْرَارِ أو مِن الْخُصُوم لِدِينهِ؟!
وهَلْ يُمْكِن -مِنَ النَّاحِية النَّفْسِيَّة- أنْ يَنْتَقِل رَجلٌ مِنْ حَالَةِ عَدَاوةِ شَيءٍ إِلى حَالةِ الإِيمانِ بِه طَفْرةً وَاحدةً، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ أَعْمِدَة وأُسُس الْعَقِيدة الَّتِي كَانَ يَكْفُر بِهَا ويَقْتُل أَصْحَابَهَا ويَزْرَع الفَزَعَ في قُلُوب مُعْتَنِقِيهَا؟»([33]).
أَتْركُ الْجَوابَ للْقَاِرِئ الْكَريم والقَارِئة الْكَرِيمة.
وقَالَ الشَّيْخُ مُحمَّد أبو زهْرَة رحمه الله مُسْتَشْهِدًا بِمَا تَقَدَّم:
«إنَّ ذَلِك الرَّجُل الَّذِي كَادَ للْمَسِيحيَّة هَذَا الكَيْد، وآذَى أَهْلَهَا ذَلِك الإِيذَاء، قَدِ انْتَقَلَ إِلَى الْمَسِيحيَّة فَجْأةً مِنْ غَيْرِ مُقَدِّمَاتٍ تَقَدَّمَت ذَلِك الانْتِقَال، ولا تَمْهِيدَاتٍ مَهَّدت لهُ»([34]).
النُّقْطَة الثَّالِثَة: دَعْوى بُولِس أنَّ الْمَسِيحَ ابنُ اللهِ، (تَعَالى اللهُ عَنْ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا).
· جَاءَ في «أَعْمَال الرُّسُل» (9/20-21) عنْ بُولِس: «وللْوَقتِ جَعَل يُكـرِّز في الْمَجَامِع بِالْمَسِيح: أنَّ هَذَا هُو ابنُ اللهِ.
فبُهِت جَميعُ الَّذِين كَانُوا يَسْمَعُون وقَالُوا: أَلَيس هَذَا هُو الَّذِي أَهْلَكَ في أُورْشَلِيم الَّذِين يدْعون بِهَذَا الاسْم، وقَدْ جَاءَ إِلى هُنَا لِهَذَا لِيَسُوقَهم مُوثَّقِين إِلَى رُؤسَاء الْكَهَنَة؟!».
النُّقْطَة الرَّابِعة: دَعْوى بُولِس أنَّ الْمَسِيح هُو الرَّبُّ، (تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ).
· جَاءَ في كَلامِ بُولِس أنَّ الْمَسِيح هُو الرَّبُّ، قَالَ في رِسَالَتِه إِلى أَهْل رُومِيَّة (10/9):
«ولَيْسَ ذَلِك فَقَطْ، بَلْ نَفْتَخِر -أَيْضًا- بِاللهِ، بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيح، الَّذِي نِلْنَا بِه الآنَ الْمُصَالَحة».
· وقَالَ في (5/11) مِنَ الرِّسَالة نَفْسِها:
«لأنَّك إنِ اعْتَرفَتَ بِفَمِك بِالرَّبِّ يَسُوعَ، وآمَنْتَ بِقَلْبِك أنَّ اللهَ أَقَامَه مِنَ الأَمْواتِ، خلَصتَ».
فَمَاذَا كَانتِ النَّتِيجَة مِنْ تَقْرِير بُولِس لهذه العقيدة (المسيح هو الرب وابن الرب) بَيْنَ بَنِي إسْرَائِيل؟
الْجَوابُ: كانت نتيجة نشر بولس لهذه العقيدة (عَقِيدَة أنَّ الْمَسِيح هُو الرَّبُّ وابنُ الرَّبِّ) أن صَارَ عِنْد الْمَسِيحيينَ إلـٰهَانِ اثْنَانِ؛ الآبِ والابْن، فَصَارُوا يَتَوجَّهُون إِلى الْمَسِيحِ بالدُّعَاء مع الآب (الله)، ويَعْبُدونَه، بَعْدَ أنْ كَانُوا يَعْبُدونَ اللهَ وحْدَه، وبِهَذَا التَّحْريفِ دَخَلَ الشِّركُ في عبادة الله بِثَوْبٍ جَدِيدٍ فِي أتْبَاع الْمَسِيحِ بِغِطَاءٍ دِينِيٍّ.
غير أنه ينبغي التنبيه إلى أن هذا الشرك في عبادة الله سَارَ بين الناس بِشَكْلٍ غَيْرِ رَسْميٍّ وغَيْرِ مُلزِمٍ، واسْتَمَرَّ الْوَضْعُ هَكَذَا بَيْنَ مَؤيِّدٍ ومُعَارضٍ، حتَّى تَمَّ فَرْضُ وتَثْبيتُ عَقِيدَة تَأْلِيه الْمَسِيح وبُـنُـوَّتِـهِ للهِ بَعْدَ ثَلاثَةِ قُرونٍ في مَجْمَع نيقْيَة سَنَةَ 325م، أي بَعْد رَفْع الْمَسِيح بِحَوالي 300 سَنَة.
النُّقْطَة الْخَامِسَة: دَعْوى بُولِس أنَّ خَطِيئَةَ أَبِيهِمْ آدَمَ بَاقِيةٌ، وأنَّ الْبَشَر تَوَارَثُوهَا، وأنَّ اللهَ أَرْسَل ابْنَه الْمَسِيح (فَادِيًا)، لِـيُـخلِّصَهُم مِنْ خَطِيئَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ، بِأَنْ يَمُوت مَقْتُولًا مَصْلوبًا، وبِذَلِكَ يَرْضَى الرَّبُّ عن البشر وتَـتِـمُّ الْمُصَالَحَة بَيْنَه وبَيْنَهم.
$ مَقُدِّمَة
لمْ يَكْتفِ الْيَهُودِيُّ بُولِس بِمَا تَقَدَّم مِن تَحْرِيفٍ في رِسَالَة الْمَسِيح عَيْسَى ابنِ مَرْيمَ الصَّافِية، والْمُتَمَثِّلِ بِدَعْوَى أنَّ الْمَسِيحَ ابنُ اللهِ وأنَّ الْمَسِيحَ أَوْحَى إِلَيهِ إِنْجِيلًا، بَلْ أَضَافَ إلَيْهِ تحريفا آخَرَ، تَطَوَّرَ فِيمَا بَعْدُ حَتَّى صَار أَحدَ الْمَحَاوِر والعَقاَئِد الْمُهِمَّة الَّتي تَدُورُ عَلَيْهَا الدِّيَانَةُ الْجَدِيدَةُ، فَقَدِ اخْتَرَع مِنْ مُخَالَفَةِ آدَمَ وحُوَّاء لأَمْر رِبِّهِمَا وأَكلِهمَا مِنَ الشَّجْرَة الَّتي نَهَاهُمَا عَنِ الأَكْلِ مِنْهَا، اخْتَرَع مِن ذَلِك عَقِيدةً جَدِيدةً اشْتُهرتْ بِاسْمِ «الْخَطِيئَة» أوْ «الْمَعْصِية الأُولَى»، حَيْثُ ادَّعَى بُولِس أنَّ تَلِكَ الْخَطِيئة الَّتي ارْتَكَبَهَا آدَمُ كَبِيرةٌ جِدًّا، وأنَّ اللهَ لمْ يَغْفِرْها لآدَمَ وحَوَّاء، وأنَّه لا يُمْكِن لأيِّ عَدَدٍ مِنَ الْحَيوانَاتِ الَّتي تُذْبَح كَقَرابِين أنْ تُـكَـفِّر عَنْهَا، وأنَّ الْبَشَرَ تَوارَثُوا هَذِه الْخَطِيئَة مُنْذ عَشَرَاتِ الْقُرونِ، قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، منذ وقت آدم، فَلا يُولَدُ طَفْلٌ إلَّا وهُو حَامِلٌ لِهَذَا الذَّنْب، وأنَّ السَّبِيل الْوَحِيد لِتَكْفِير هَذَا الذَّنْب هُو إرسال اللهَ لابْنَه الْوَحِيدَ يَسُوعَ (عَيْسى) إِلَى الأَرْضِ بِهَيْئَةٍ بَشَريَّةٍ ليُقتَلَ عَلَى الصَّلِيب، لَيَكُونَ هُو الأُضْحِية بِحَسَبِ زَعْمِه، ليُكَفِّر عَنِ الْبَشَرِ تِلْكَ الْخَطِيئَةِ، فَمَنْ آمَن بِالْمَسِيح أنَّه ابنُ اللهِ وأنَّ اللهَ أَرْسَله ليُكَفِّر عنِ الْبَشَر ذَلِك الذَّنْب وعَـبَـد المسيح؛ فَإِنَّ الْمَسِيحَ سُيُخلِّصُه مِن هَذَا الذَّنبِ ومِنْ تبِعَاتِه، ومَنْ لمْ يُؤمِن بذلك فَسَيبْقَى مَرْهونًا بِذَنْبِه وتَكُون عَاقِبتُه النَّار.
فَرَاجَ هَذَا الْمَبْدَأ عَلَى أَجْيَالِ النَّصَارَى، ظَانِّينَ أَنَّهُم فِعْلًا تَوارَثُوا تِلْكَ الْخَطِيئَة، وأنَّ طَرِيقَ الْخَلاصِ مِنْ هَذَا الذَّنْب لَا يَكُون إلَّا بِاعْتِقَادِ أنَّ الْيَسُوع هُو الـمُخَـلِّص، وأنَّ الْيَسُوع لَنْ يُخَلِّصَ أَحَدًا حتَّى يَعْبدَه ويَتَوجَّه إِلَيه بِالدُّعَاء، ويَعْتَقِد أنَّه ابنُ اللهِ، وأنَّه هُو الـمُـخَـلِّص والفَادِي مِنْ تِلْكَ الْخَطِيئة (المخترعة).
والْمَسِيحيُّون يَعْتَقِدُون ذَلِك فِعلًا بدون تفكير، اعتمادا على كلام بولس، بِالرَّغْم مِن أَنَّهُم لا ذَنْبَ لَهُم في هَذَا التَّوارُثِ الْمَزْعُوم، وبِالرَّغْم مِنْ أَنَّ آدَمَ قَدْ تَاَبَ أصْلًا مِنْ ذَنْبِه فَـغَـفَـرَ اللهُ لهُ, وانْتَهَى مَوضُوع الْخَطِيئَة في حِيْنِه قَبْل قُرونٍ غَابِرة، ولمْ يَـعُـد للذَّنْب وجُودٌ أصلا!
قَالَ البَاحِث الْمُتَّخِصص الأَسْتَاذ عَبدُ الوَّهَّاب بنُ صَالِح الشَّايع حَفِظَه اللهُ:
«بِنَاءً عَلى مَا عُرِف وشَاعَ مِنْ قَتلِ الْيَهُود للْمَسِيح عَلَى الصَّلِيب فَقَد جَعَلَ بُولِس مِن تَلِك الْحَادِثة إِحْدَى أَهَمِّ الْعَقَائِد في الدِّيَانَة الَّتي أَخَذَ يُـنْشِئُها ويُـشَـكِّلها بِتُؤدَةٍ عَلى أَنْقَاض دِيَانَة ورسَالة الْمَسِيح عليه السلام ، مُرْتَكِزًا عَلَى الْعَقِيدَتِينِ السَّابِقَتَينِ اللَّتَينِ أَنَشأَهُمَا، وهُمَا: عَقِيدَةُ الْخَطِيئة أو الْمَعْصِية الأُولَى، وعَقِيدَة تَأْلِيه الْمَسِيح وبُـنُـوَّتِـهِ للهِ.
حَيثُ زَعَمَ بُولسُ أنَّ مِن صِفَاتِ اللهِ جل وعلا العَدْلَ والرَّحمةَ، فَبِمُقَتَضَى عَدلِه كَانَ عَلَيه أنْ يُعَاقِب البَشَريَّة كُلَّها عَلى تِلْك الْخَطِيئة والْمَعْصِية الأُولَى الَّتي تَوارَثُوهَا عنْ أَبَويهمْ آدَمَ وحوَّاءَ، وبِمُقْتَضَى رَحْمَتِه كَانَ عَلَيْه أَنْ يَغْفِرَ للْبَشريَّة تِلْك الْخَطِيئة. ولَمَّا كَانتْ تِلْك الْخَطِيئَة أو الْمَعْصِية كَبيرَةً جِدًّا ولا يُمْكِن لأيِّ أُضْحِيةٍ مِنَ الأَغْنَام أو الأَبْقَار أوْ غَيرِهَا مِنَ الْحَيوانَات مَهْما بَلغَ عَددُها أنَّ تُـكَـفِّر عَنْهَا؛ لَمْ تَكُن هُنَاكَ وَسِيلَةٌ أوْ سَبيلٌ أَمَامَ اللهِ (سُبْحَانه وتَعَالى عَمَّا يَقُولُون) لِتَكْفِير تِلْك الْخَطِيئة عَنِ الْبَشَريَّة والْجَمْع بَينَ عَدْلِه ورَحْمَتِه ومُصَالَحَته مَعَ الْبَشريَّة إلَّا أنْ يُرْسِل اللهُ ابْنَه الْوحِيدَ يَسُوعَ -عَيسَى ابنَ مَرْيمَ عليه السلام - الَّذِي تَجَسَّد بِهَيْئَةٍ بَشَرِيَّةٍ ونَزَلَ إِلَى الأَرْض لِكَي يُهانَ ويُعذَّبَ ويُقَتلَ عَلى الصَّليبِ وهُو راضٍ! لِيَكُونَ هُو الأُضْحِية أو الفَادِي أو الْمُخَلِّص الَّذِي يَفدِي ويُـخَلِّص كُلَّ مَن يُؤمِن بِأَنَّ يَسُوع هو ابنُ اللهِ الْوحِيد، وأنَّه قُـتِل عَلى الصَّليب لِيفْدِيهم بِنَفْسِه مِنْ تِلْك الْخَطِيئة، ويُصَالِحهم مَعَ أَبِيه الله -سَبْحانه وتَعَالَى عَمَّا يَصِفُون- الَّذِي كَانَ غَضْبَانًا عَلَيهِمْ.
وأنَّه بَعْدَ أنْ دُفِن لِمُدَّةِ ثَلاثَةِ أيَّامٍ بِلَيَالِيهَا قَامَ مِنَ الْمَوتِ وقَامَ لِتَلامِيذِه وغَيرِهم، وبَعْدَ أَرْبَعينَ يَومًا رُفِع إِلى السَّمَاء وجَلَس عَلَى يَمِينِ اللهِ، وأنَّه سَيَعُود للأَرْضِ مَرةً ثَانِيةً ليُحاسِب الأَحْياءَ والأَمَوات!
وهَذَا هُو التَّكييفُ أو التَّعْلِيل الَّذِي اعْتَمَد عَليه بُولِس في دعواه بألوهية الْمَسِيح عِيْسَى ابنِ مَريمَ عليه السلام ، وقدَّمه إِلَى الْوثَنِيينَ الأَوربِّيينَ وغَيرِهمْ مِنْ شُعوبِ الإِمْبِراطُوريَّة الرُّومَانِيَّة, لا كَرَسُولٍ مِنَ اللهِ جل وعلا إِلَى بَني إسْرَائِيل، وإنَّمَا كَابنٍ للهِ نَزَلَ إِلَى الأَرْضِ لِكَي يُهانَ ويُقتلَ عَلَى الصَّلِيب، لِكَي يَفْدِيَهمْ بِنَفْسِه ويُنْقِذَهمْ مِنْ غَضَبِ أَبِيه الإلـٰه، لِكَي يَغْفِرَ لَهُمْ خَطِيئةَ أَبِيهِمْ آدَمَ وأمِّهِم حَوَّاءَ الَّتي تَوارَثُوهَا مِنْهُما فِيمَا عُرِف عِنْدَهُم بِاسمِ «الْخَطِيئَةِ» أو «الْمَعْصِية الأُولى».
وبِهَذِه الْعَقَائِد الْوثَنِيَّة ازْدَادَت أَعْدَادُ الْوثَنِيينَ الأَورُبِّيينَ وغَيرِهم الدَّاخِلين إِلى هَذِه الدِّيَانة الْجَدِيدَة الْقَرِيبة مِنْ أَفْهَامِهمْ ومُعْتَقَدَاتِهِمْ ومَا اعْتَادُوا عَلَيه، والَّتي سَتُعْرف فِيمَا بَعْدُ بِاسْمِ (الْمَسِيحيَّة)»([35]).
انْتَهى كَلامُه حَفِظَه الله([36]).
مُقْتَطَفَاتٌ مِنْ كَلامِ بُولِس تُثْبِت أنَّ عَقِيدَة الْخَطِيئة الأُولَى وعَقِيدَة الْفِدَاء إنَّمَا هُمَا مِنْ كَلامِه ولَيْسَتْ مِنْ تَعَالِيم الْمَسِيح:
· رِسَالة بُولِس إِلَى أَهْل رُوميَّة (3/24 - 25):
«مُـتَبَرِّرينَ مجانًا بِنِعْمتِه بِالْفِدَاء الَّذِي بِيَسُوع الْمَسِيح.
الَّذِي قَدَّمَه اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِه، لإِظْهَار بِرِّه، مِنْ أَجْل الصَّفْح عنِ الْخَطَايَا السَّالِفة بِإِمْهَال اللهِ».
· رِسَالة بُولِس إِلَى أَهْلِ رُومِيَّة (5/8 - 11):
«ولَكِنَّ اللهَ بَـيَّـنَ مَحَبَّتَه لَنَا، لأنَّه ونَحْنُ بَعْدُ خُطاةٌ مَاتَ الْمَسِيح لأَجْلِنا.
فَبِالأَوْلى كَثيِرًا ونَحْنُ مُتبَرِّرُون الآنَ بِدَمِه نَخْلُصُ بِه مِنَ الْغَضَب.
لأنَّه إنْ كُنَّا ونَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ اللهِ بِمَوتِ ابْنِه، فَبِالأَوْلَى كَثيرًا ونَحْنُ مُصَالِحُون نَخْلُصُ بِحَيَاتِه.
ولَيْسَ ذَلِك فَقَط، بَلْ نَفْتَخِر -أَيْضًا- بِاللهِ، بِرَبِّنَا يَسُوع الْمَسِيح، الَّذِي نِلْنَا بِه الآنَ الْمُصَالَحة».
· رِسَالَة بُولِس إِلَى أَهْل رُومِيَّة (10/9):
«لأنَّكَ إنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوع، وآمَنْتَ بِقَلْبِك أنَّ اللهَ أَقَامَه مِنَ الأَمْواتِ، خَلَصتَ».
· وقَالَ كَمَا فِي رِسَالته الأَوْلَى إِلَى أَهْل كورنثوس (15/3-4):
«فَإِنَّنِي سَلَّمتُ إِلَيْكُم في الأَوَّل مَا قَبِلْتَه أَنَا أَيْضًا: أنَّ الْمَسِيح مَاتَ مِنْ أَجْل خَطَايَانَا حَسَبَ الْكُتُب.
وأنَّه دُفِـن، وأنَّه قَامَ فِي الْيَومِ الثَّالِث حَسَب الْكُتُب».
· وقَالَ كَمَا فِي رِسَالَتِه إِلَى أَهْلِ غلاطية (4/4 - 5):
«ولكِن لَمَّا جَاءَ تَمَام الزَّمَان، أَرْسَل اللهُ ابْنَه وقَدْ وُلِـد مِنَ امرأةٍ لِيُحَرِّر بِالفِدَاء أَولَئك الْخَاضِعينَ للشَّرِيعة».
· وقَالَ -أَيْضًا- فِي رِسَالَتِه إِلى أَهْلِ غلاطية (3/13):
«الْمَسِيح افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَة النَّامُوس، إذْ صَار لَعْنةً لأَجْلِنا، لأنَّه مَكْتُوب: مَلْعَونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّق عَلَى خَشَبةٍ».
$ تَعْلِيق
تَبَيَّن مِمَّا سَبَق مِنْ كَلامِ بُولِس أنَّه هُو واضِعُ هَذِه الْعَقِيدة، عَقِيدَةَ الْخَطِيئَة، وعقيدة الفداء، وأنهما لَيْسَتا مِنْ عِنْدِ اللهِ، ولوْ أَنَّهَا كَانَت مِنْ عِنْدِ اللهِ لَقَرَّرَها الْمَسِيح نَفْسُه، ولورد ذلك عنه في الكلام المنسوب إليه في الأناجيل، ولكنَّ هذا لم يكن.
كَمَا تَبطُل بِذَلِك عَقِيدةُ صَلْب الْمَسِيح الَّتي جَاءَ بِهَا بُولِس، حيث أنه ادَّعى أن المسيح نزل إلى الأرض لكي يُصلب ويُهان ويقتل ويُدفن!
ويَبْقَى الْحَقُّ الَّذِي قَرَّرَتْه الَأَنَاجِيلُ ثُمَّ القُرآنُ بِأَنَّ اللهَ رَفَعَ الْمَسِيحَ إِلَى السَّمَاء دُونَ أَنْ يَـمَـسَّهُ أذًى([37]).
$ تنبيه
تَأَمَّل أَيُّهَا القَارِئُ الْكَرِيمُ بُـغْضَ بُولِس للتَّورَاة، كَيْف أَنَّه وَصَفَ النَّامُوسَ (الَّذِي هُو التَّورَاة) بِأَنَّه لَعْنةٌ.
وانْظُر -أَيْضًا- إِلَى وَصْفِه للْمَسِيح بِأَنَّه لَعْنةٌ، وذَلِك في قَوْلِه: (صَارَ لَعْنَةً لأجْلِنا)!
ثمَّ بَعْد ذَلِك يَقُول هَذَا الْخَبِيثُ مُخَادِعًا للنَّاسِ: (إنَّ الْمَسِيحَ أَوْحَى إِلَيهِ، وأَنَّه نَبيٌّ أَرْسَلَه الْمَسِيح إلى النَّاس).
فواعجبًا من الْمَسِيحيينَ كَيْفَ يُصَدِّقُونَه ويُعَظِّمُونَه فِيمَا ادَّعَاه لِنَفْسِه بِأَنَّه رَسُولٌ من عند الله ومن عند المسيح!
$ خُلاصَةٌ مُهِمَّةٌ فِي بَيانِ دَوْر بُولِس فِي تَحْرِيف دِينِ الْمَسِيح
حَـوَّل بُولِسُ عَقِيدَةَ النَّاسِ في الْمَسِيح مِن نَبيٍّ مُرْسَلٍ مِنَ اللهِ بِرسَالَةٍ تَابِعَةٍ لِشَرِيعَةِ مُوسَى، وخَاصَّةٍ إِلَى قَوْمِه بَني إسْرَائِيل فَقَط، حَوَّل ذَلِك في نَظَرِهم إِلى أنَّه ابنٌ للهِ، تَجَسَّد بِهَيْئَةٍ بَشَريَّةٍ، ونَزَلَ إِلَى الأَرْضِ.
ثُمَّ قَدَّم بُولِس هَذِه الصُّورَة إِلى الْوثَنِيينَ الرُّومَان، مِن رَعَايا الإِمْبراطُورِيَّة الرُّومَانِيَّة الَّذِين يُؤمِنون أَصلًا بَتَعدُّدِ الآلهة ونَزُولِهَا إِلى الأَرْضِ وحَيَاتِهَا بَيْن النَّاسِ عَلَى هَيْئةٍ بَشَريَّةٍ، إِضافة إلى إيمَانهم بالآلهة الَّتي لَديهَا أطفَال مِن البَشَر، فَتَقَبَّلُوا مَا قَدَّمَه لَهُم بُولِس، كَآلِهَةٍ إضَافِيَّةٍ نَزَلت مِن السَّمَاء، وعَاشَت بَيْن النَّاس، ثُمَّ قُتِلتْ عَلَى الصَّلِيب، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ الرُّومَان تَـحَـفُّظٌ عَلى مَا طَرَحَه بُولِس أَبدًا، لأنَّ الْعَقِيدَة الَّتي طَرَحَها قَريبةٌ مِنْ مُعْتَقدَاتِهم وأَفْهَامِهم، ولا تَحْتَاج إِلَى بَذْل جُهْدٍ لإقْنَاعِهم في إضَافَتِها إِلى مَا عِنْدَهُم مِن عَقَائِد.
وسَيأتي في خَاتِمة هَذَا الْكِتَاب مُلْحقٌ لَطِيفٌ فِيه بَيانٌ لِعَقَائِدِ الرُّومَان في ذَلِك الزَّمَان قَبْلَ دُخُولِهم في الدِّين الَّذِي قَدَّمه بُولسُ لَهم، لَيَتَّضِح للقَارِئ الْكَريم والقَارِئة الْكَرِيمة كَيْفَ اسْتَطَاع بُولِس بِكَيْدِه الْخَفِي ضَرْبَ عُصْفُورينِ بِحجرٍ واحدٍ؛ إفْسَاد دِين الْمَسِيح مِنْ جِهَةٍ، وإدْخَال الرُّومَان في الدِّين الفَاسِد الَّذِي اخترعه مِن جِهةٍ أُخْرَى.
ومِمَّا مهَّد الطَّريقَ أَمَامَ بُولِس لإِجْرَاء هَذَا التَّحْرِيف والتَّبْدِيل أنَّه لمْ يَكُن أَمَامَ بُولِس مَنْ يَرْدعُه، فَالْمَسِيح لمْ تَكُن لهُ دَولةٌ تَحْمِيه وتَنْصرُ دِينَه، فَقدْ كَانَ الرُّومَان الوثَنيُّون هُم السُّلْطَة القَائِمَة، وتَلامِيذُ الْمَسِيح أَصَابَهُم الذُّعرُ وتَفَرَّقُوا بَعْد هُجُوم الْيَهُود مُؤيَّدِين بِالشُّرْطَة الرُّومَانِيَّة عَلى الْمَكَان الَّذِي كَانَ فِيه الْمَسِيح، فَانْتِهَاءُ وجُودِ السَّيدِ الْمَسِيح عَلَى الأَرْض فَجْأةً, وبِهَذَا الأُسْلُوب الْعَنِيف تَسَبَّب في وجُود صَدْمَةٍ نَفْسِيَّةٍ قَويَّةٍ عَلَى تَلامِيذِ الْمَسِيح وأَتْبَاعه الضُّعَفَاء مَاديًّا ونَفْسيًّا وعِلْميًّا، الَّذِين لَيْس بَيْنَهم تِلْميذٌ وَاحدٌ لهُ نُفوذٌ ووجَاهةٌ بِحَيثُ يُمْكِن اللُّجُوء إِلَيه، فَصَار هَـمُّ الْواحدِ مِنْهُم هُو نُفُوذُهُ بِجلْدِه مِنْ أَنْ يَحْصُل لهُ تَعْذِيبٌ ومُلاحَقةٌ إنْ هُو وَاصَل نَشْر تَعْالِيم الْمَسِيح بَعْد رَفْعِه، فَابْتَعَد التَّلامِيذ عَنْ هَذِه الْفِكْرة تَمامًا، مِمَّا أدَّى إِلى إضْعَاف نَشْرِ رِسَالَةِ المسيح ودِينِه عَلَى الْمُسْتَوى الْعَام، وتَهَيُّؤِ الفُرْصَة لِبولِس للْبَدْء في نَشْر بِضَاعَتِه الفَاسِدة الْمُتَمَثِّلة في تَعَالِيم مُحَّرفَة تَحْمِل اسْمَ الْمَسِيح في الظاهر، وفي بِاطِنِهَا تُخَالِف وتُنَاقِض تَعَالِيم الْمَسِيح ودِينِه جُمْلةً وتَفْصيلًا.
النُّقْطة السَّادِسَة: إثْباتُ كَذِب بُولِس فِي دَعْواه أنَّ الْمَسِيح أَرْسَله وغَيْرها مِنَ الدَّعَاوى يَتَّضِح فِي تِسْعِ نِقَاطٍ:
,1- أنَّ بُولِس غَيَّرَ اسْمَه مِن شَاول إِلى بُولِس الرَّسُول، فَلِمَاذَا هَذَا التَّغْييرِ؟!
,2- لوْ كَانَ بُولِس رَسُولًا فِعْلًا لأَكْمَل مَسْيرَةَ الْمَسِيح الْعِلْمِيَّة كَمَا هِي، ولَعَلَّم النَّاسَ التَّورَاة والإِنْجِيل كَمَا كَان الْمَسِيح يَفْعلُ ولمْ يَأْتِ بِشَيءٍ جَديدٍ، ولَكِنَّ الْواقِع أنَّه أَتَى بِشَرَائِع جَدِيدةٍ وعَقَائِدَ جَدِيدةٍ تُخَالِف تَعَالِيمَ الْمَسِيح، وهِي (ربوبية المسيح، بُـنُـوَّة الْمَسِيح للهِ، أُلوهِيَّة الْمَسِيح، دَعْواه أنَّ الْمَسِيح أَرْسَلَه، إِلغَاءُ النُّبُوة عَنِ الْمَسِيح، الْمَعْصِية الأُولى، الصَّلْب).
فَهَذَا يَدلُّ عَلى أنَّ بُولِس كَاذِبٌ في دَعْواه أنَّه رَسُولٌ مِنْ عِندِ الْمَسِيح، لأنَّه نَقضَ مَا قَرَّرَه الْمَسِيح جُمْلةً وتَفْصيلًا، فَكَيفَ يَكُون رَسُولًا مِن عِنْدِه، وهو يَهْدِمُ ويَنْقضُ مَا جَاءَ بِه؟!
ولَكِنَّ الْحَقَّ أنَّ الْمَسِيحَ لمْ يُـبَـشِّر ببولس، وهَذِه الأَنَاجِيل الأَرْبَعة الَّتي كَتَبَهَا مَنْ جَاءَ بَعْد الْمَسِيح شَاهِدةً عَلَى ذَلِك، وقَدْ وَرَدَ في «إنْجِيل مَتَّى» ثَلاثَةُ نَصُوصٍ عَنِ الْمَسِيح في التَّحْذِير مِنَ الَّذِين سَيدَّعُون النُّبوةَ بَعْدَه، انْظُر «إنْجِيل مَتَّى» (7/15، 16، 24/11، 24/4-5).
$ فَائِدة
الأَنَاجِيل تُبَشِّر بِالنَّبيِّ الْحَقِيقيِّ وهُو مُحمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم ) ، نَبيُّ الإِسْلامِ، والبِشَارَات بِقُدومِه مَدوَّنَةٌ فِيهَا وفي غَيْرِهَا مِنَ الْمَرَاجِع الإِنْجِيليَّة، والَّتي تَحْوي مَا يَقْرُب مِنَ الثَّلاثِين بِشَارةً([38]).
,3- لوْ كَان مَا قَالَه بُولِس حقًّا مِنْ أَنَّ الْمَسِيحَ ابنُ اللهِ لأَخْبرَ بِذَلِك الْمَسِيحُ نفسه، فَهُو أَوْلَى بِذَلِك مِنَ بُولِس، لأنَّه شَرَفٌ لهُ لوْ كانَ حقًّا، ولأنَّ الْمَسِيحَ لم ولنْ يَكْتُم الْحَقِيقَة عَنِ النَّاسِ، ويَدَعَهَا لِمَن بَعْدَهُ، لا سِيَّمَا وقدْ جَاءَ الْمَسِيحُ لِهدَايَة النَّاس وإرْشَادِهم.
,4- الْمَسِيح رَسولٌ مِن اللهِ، وبِنَاءً عَلَيه فَإِنَّه لَيْسَ لَدَيه الصَّلاحِيَّة ولا القُدْرَة عَلَى أنْ يُـعَـيِّـن أَحَدًا مِنْ عِندِ نَفْسِه، لأنَّ اخْتِيارَ الأَنْبِياء يَكُونُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، ولَيْسَ مِنْ عِنْد الرَّسُول، فَاللهُ يَصْطَفِي ويَخْتَار مِنَ النَّاسِ رُسُلًا كَمَا يَشَاءُ، وإلَّا فَمَا مَكَانةُ الرَّبِّ إذَن؟!
وبَناءً عَليهِ فَادِّعَاءُ بُولِس أنَّه رَسُولٌ مِنْ عِندِ الْمَسِيح هُو مَحضُ اخْتِلاقٍ وافْتراء.
,5- الرسل همْ صَفْوةُ النَّاسِ وخِيَارُهم، فَالْمَسِيح مِنْ أُمٍّ طَاهرةٍ تَقيَّةٍ نَقِيَّةٍ، وهِي مَريمُ بِنتُ عِمْرَانَ، وعِمْرانُ مِنْ أَهلِ الْعِبَادَة والْخَيرِ والصَّلاحِ، ونَسبُهمْ يَنْتَهي إِلى إسْرَائِيل (يَعْقُوبَ)، نَبيًّا مِنَ الصَّالِحين.
أمَّا بُولِس فَهُو رَجلٌ ولَغَت يَدُه في دِمَاءِ أَهْلِ الْخَيرِ، وسَجَنَهُم وعَذَّبَهُم، فَأَينَ هُو والرسالة؟!
,6- مِمَّا يَدلُّ عَلى كذب بُولِس في دعواه أنَّه رَسُولٌ هُو خُبْثُ شَخْصِيَّته، فَالْغَايةُ عِنْدَه تُبَرِّر الْوسِيلَة، فَلأجْلِ تَحْقِيق غَايَتِه فَإِنَّه يَفْعَلُ أيَّ شَيءٍ، وهَذِه الشَّخْصِيَّة الانْتَهَازِيَّة لَيْسَت شَخْصِيَّةَ نَبيٍّ، حَاشَاهُم مِنْ ذَلِك، فَإِنَّ الأَنْبِياءَ هُمْ أَزْكَى النَّاس نُفُوسًا وأَطْهرُهَا، وقَدْ فَضَحَ بُولِس نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ في رِسَالَتِه الأُولَى إِلَى أَهْلِ كورنثوس، (9/19- 23) حيث قال:
«فإنِّي إذْ كُنْت حرًّا مِنَ الْجَمِيع، اسْتَعْبَدتُ نَفْسِي للْجَمِيع، لأَرْبَح الأَكْثَرِين.
فِصرْتُ للْيَهُودِ كَيَهُودِي، لأَرْبَحَ الْيَهُودَ. وللَّذِين تَحْتَ النَّامُوس([39]) كَأنِّي تَحْتَ النَّامُوس، لأَرْبَح الَّذِين تَحْت النَّامُوس.
وللَّذِين بِلا نَامُوسٍ كَأَنِّي بِلا نَامُوسٍ -مَعَ أنِّي لَسْتُ بِلا نَامُوسٍ للهِ، بَلْ تَحْتَ نَامُوسٍ للْمَسِيح- لأَرْبَحَ الَّذِين بِلا نَامُوسٍ.
صِرتُ للضُّعَفاءِ كَضَعِيفٍ لأَرْبحَ الضُّعَفَاء. صِرتُ للْكُلِّ كلَّ شَيءٍ، لأخَلِّصَ عَلى كُلِّ حَالٍ قومًا.
وهَذَا أنَا أَفْعَله لأَجْلِ الإِنْجِيل، لأَكُونَ شَرِيكًا فِيه».
انْتَهَى كَلامُه.
$ التَّعْلِيق
هَلْ يَلِيقُ هَذَا الْكَلامُ بِـرسولٍ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ (الله) جل وعلا ؟!
أمْ أنَّهُ يَلِيقُ بِشَخْصٍ انْتِهَازِيٍّ مِنَ الطِّرَاز الأَوَّل؟!
لقد صرَّح بأنه يتلوَّن بحسب المصلحة ليربحها!
فالذين يؤمنون بالتوراة يتظاهر بأنه معهم ليربحهم، والذين لا يؤمنون بها يتظاهر بأنه ليس معهم ليربحهم!
,7- ومِنْ دَلائِل كَذِب بُولِس أنَّ دَعْوةَ الْمَسِيح كَانَتْ مُوجَّهةً إِلَى بَني إسْرَائِيل فَقَط، أمَّا بُولِس فَوسَّع الدَّائِرة مِنْ عِندِ نَفْسِه، ودَعَا الْوثَنِيينَ الرومان إِلى دِينِه الَّذِي أَنْشَأَهُ، فزعَم أنَّ دِينَ الْمَسِيح عَالَمِيٌّ للنَّاس كُلِّهم لَيَدْخُلوا فِيه، فَفِي «إنْجِيل مَتَّى» (15/24) أنَّ يَسُوع قَال: «لَمْ أُرْسَلْ إِلَّا إِلَى خِرافِ بَيْتِ إسْرَائِيلَ الضَّالَّة».
بَيْنَما في «أَعْمَال الرُّسُل» (22/21) ادَّعى بولس أنَّ اللهَ قَالَ له: «اذْهَب، فَإِنِّي سَأُرْسِلُك إِلَى الأُمَمِ بَعِيدًا».
فَانْظُر أَيُّهَا العَاقِل إِلَى الْفَرْقِ بَيْن كَلامِ يَسُوع الرسول الْحَقِيقي، وبَين كلام بُولِس، الرسول الكذاب.
فَتَبيَّن مِنْ هَذَا إفْكُ بُولِس وافْتِرَاؤُه.
,8- وممَّا يَدلُّ عَلَى غِشِّ بُولِس وتَحْرِيفِه لِدِين الْمَسِيح أنَّه قَامَ بِإِجْرَاء تَنَازُلاتٍ دِينِيَّة عَدِيدةٍ بِإِلْغَاء تَعَالِيم مَذْكُورَة في شَرِيعَة التَّوْرَاة تَدْرِيجيًّا، لِـيُـرَغِّبَ الْمَدْعُوين الْجُدُد -وهُم اْلوثَنِيُّون الرُّومَان- في الدُّخُول في دِيْنِه، حتَّى لا يَشُقَّ عَلَيْهِم الدُّخُولُ فِيه، فَبَدَأَ بِإِلْغَاء شَرِيعَةِ الْخِتَان عَنِ الْوثَنِيينَ الذُّكُور كَمَا في رِسَالَتِه إِلى أَهْلِ غلاطية (6/15)، وحَـلَّل للْيَهُود أَكْل ذَبَائِح الْوثَنِيينَ، وأْكْلَ لَحْمِ الْخِنْزِير، وحلَّل الزَّواجَ الْمُخْتَلِط بَينَ الْيَهُود والْوثَنِيينَ، وأَلْغَى جَمِيعَ أَنْواع الطَّهَارَة الْجَسَدِيَّة الَّتي تَتَشَدَّد بِهَا التَّورَاة، كُلُّ هَذَا مِن أَجْل أَنْ يَسْتَمِيل الرُّومَان للدُّخُول في الدِّينِ الْجَدِيد الَّذِي قَدَّمَه لَهُم، وذَلِكَ أَنَّ نُفُوسَهم غَيْرُ قَابِلَةٍ للانْقِياد لِشَرَائِع سِمَاويَّةٍ، فَهُم وثَنَيُّون، عُـبَّاد أَصْنَامٍ، لا يُحِـلُّون حَلالًا ولا يُحرِّمون حَرامًا، ولَا يُؤمِنُون بِأَنْبِياءَ، فَأَسْقَط عَنْهُم شَرِيعةَ التَّورَاة حتَّى يُـرَغِّبهم في الدُّخُول في دِينِه!
وبُولِس بِهَذَا التَّصَرُّف جَعَلَ نَفْسَه ربًّا، يُـشَـرِّع مَا شَاءَ مِنَ الشَّرَائِع، ويُسْقِط مَا شَاء، ولَيْسَ فَقَطْ نبيًّا كَمَا زَعَم، إذْ إنَّ التَّحْريمَ والتَّحْليلَ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ ولَيسَ مِنْ عِنْد الرَّسُول، لأنَّ الرَّسُول وظَيفَتُه تَبْلِيغُ الشَّرِيعَة عَنِ الرَّبِّ، ولَيْسَ إنْشَاء شَريعةٍ جَدِيدةٍ، أو التَّصَرُّف بِشَرِيعةٍ قَائِمَةٍ كَمَا فَعَلَ هو.
ثمَّ جَاءَتِ الْخُطْوة الثَّانِية الْكَبِيرة فَأَلْغَى هَذَا الْخَبِيثُ مَا تَبَقَّى مِنَ التَّورَاة، لِكَي يُزِيلَ هَذِه الْعَقَبةَ الْكَئُود مِنْ أَمَامِ الْوثَنِيِّينَ للدُّخُول في دِينِه الَّذِي اخْتَرَعَه لَهُم عَلَى أَنْقَاض دِينِ الْمَسِيح، فَقَد قَالَ في رِسَالَتِه إِلَى أَهْلِ رُومَا (7/6):
«وأمَّا الآنَ فَقَدْ تَحَرَّرْنا مِنَ النَّامُوسِ([40])، إذْ مَاتَ الَّذِي كُنَّا مُمْسِكِين فِيه، حتَّى نَعْبدَ بِـجِـدَّة الرُّوح لا بِعِتْقِ الحَرْفِ.
فَمَاذَا نَقُول؟ هَلِ النَّامُوس خَطِيَّةٌ؟ حَاشَا، بَل لمْ أَعْرِف الْخَطِيَّةَ إلَّا بِالنَّامُوس».
$ التَّعْلِيق
كَمَا تَرى أَيُّها القَارِئ الكَرِيم وأَيَّتُها القَارِئة الكَرِيمة، فَإِنَّ بُولِس لمْ يَكْتَفِ بِإِلْغَاءِ التَّورَاة، بَل اتَّهَمَهَا بِأَنَّهَا هِي مَصدرُ مَعْرفةِ الْخَطَأِ والزَّلَل، كَمَا في قَوْلِه: (لمْ أَعْرفِ الْخَطِيَّةَ إلَّا بِالنَّامُوس).
,9- ومِنْ أَعْظَم الأَدِلَّة عَلَى غِشِّ بُولِس للنَّاسِ أنَّ إِلْغَاءَهُ للتَّورَاة مُنَاقِضٌ للْغَايَة الَّتي جَاءَ الْمَسِيح مِنْ أَجْلِهَا، فَقَدْ قَالَ الْمَسِيحُ إنَّه لمْ يَأْتِ ليُلْغِي التَّورَاة، بَلْ جَاء لـيُـتَـمِّم ويُـكْمِل، كَمَا جَاءَ في «إنْجِيل مَتَّى» (5/17-19) أنَّ الْمَسِيح قَالَ:
«لا تَظَنُّوا أنِّي جِئتُ لأنْقُضَ النَّامُوسَ أو الأَنْبِياء، مَا جِئتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكْمِل. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُول لَكُم: إِلى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ والأَرْضُ، لا يَزُول حَرفٌ وَاحدٌ أوْ نُقطَةٌ واحِدَةٌ مِنَ النَّامُوس حتَّى يَكُونَ الكُلُّ. فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هَذِه الْوصَايَا الصُّغْرَى وعَلَّم النَّاسَ هَكَذَا يُدْعَى أَصْغَرَ في مَلَكُوت السَّمَاوات، وأمَّا مَنْ عَمِل وعلَّم فَهَذا يُدْعَى عَظِيمًا في مَلَكُوت السَّمَاوات».
فإذَا كَانَ الْمَسِيح قَدْ حَذَّر مِنْ مُجَرَّد تَحْرِيفِ حَرْفٍ أوْ نُقْطَةٍ في التَّورَاة والإِنْجِيل، وقَالَ: إنَّ مَنْ فَعَل هَذَا فَإِنَّه يُدْعى أَصْغَرَ في مَلَكُوت السَّمَاواتِ والأَرْض، فَمَاذَا يُقَال فِي حَقِّ بُولِس الَّذِي أَسْقَطَ التَّورَاة برُمَّـتِها؟!
إنَّ إِلْغَاء بُولِس للتَّورَاة بِحَدِّ ذَاتِه يُعْتَبر جِنَايةً عَظِيمةً عَلى دِينِ الْمَسِيح، ودَلِيلًا عَظِيمًا عَلَى كَذِب بُولِس، فَلَيت جُمْهُور الْقَسَاوِسَة يَعْلَمُون ذَلِك ويُـعَـلِّمونه للنَّاسِ بَدلًا مِنْ تَقْلِيد مَنْ سَبَقَهُم مِنَ القَسَاوسِة، وإضْلال مَنْ تَبِعَهُم مِن النَّاسِ (الرَّعِيَّة)، فَإِنَّ هَذَا لَا يَحْصُل بِه إلَّا الزِّيَادَة في الإِثْمِ والْعَذَاب عَلَيْهِم جَميعًا يَومَ الْقِيامَة.
$ النَّتِيجَةُ الْمُؤلِمةُ لِدَوْرِ بُولِس
وبِهَذِه الأَكَاذِيب الْخَبِيثَة، والْمَكرِ اليَّهُودِيِّ الْعَظِيم، اسْتَطَاع الْخَبيثُ بُولِسُ أنْ يَقْلِبَ دِينَ الْمَسِيح رَأْسًا عَلَى عَقِب، وأَنْ يُدْخِل فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْه، وأنَّ يُـحوِّل دِين الْمَسِيح مِنَ التَّوْحِيد إِلَى الشِّرك، ومع الأسف الشديد، فَمَا كَانَ مِنْ جُمْهُورِ النَّصَارَى إلَّا أنْ صَدَّقُوا بُولِس فِيمَا زَعَمَه، وابْتَدَأَ التَّقْلِيد الأَعْمَى لهُ إِلى يُومِنَا هَذَا، وانْسَلَخَ أَتْبَاع الْمَسِيح مِن عِبَادَة الْخَالِق -وهُو اللهُ- إِلَى عِبَادَة الْمَخْلُوقِين -وهُو الْمَسِيح عِيْسَى ابنُ مَرْيمَ وأمُّه-، ومِن تَعْظِيم اللهِ ووَصْفِه بِالغِـنَـى عَنْ مَخْلُوقَاتِه، إِلى وصْفِه بِالْحَاجَة لَهُم بِدَعْوى أنَّه اتَّخَذ ولدًا مِن مَخْلُوقَاتِه!
وخِتاما، فيُمْكن تَلْخِيص دَوْر الْخَبِيثِ بُولسَ في تَحْرِيف دِينِ الْمَسِيح في خَمْسِ نِقَاطٍ:
,1- ادَّعَى بُولِس أنَّه رَسُولٌ مُعَيَّنٌ مِن قِبلِ يَسُوعَ.
,2- ادَّعَى بُولِس أنَّ الْيَسُوع أَوْحَى إِلَيْه إِنْجِيلًا.
,3- ادَّعَى بُولِسُ أنَّ يَسُوع ابنُ اللهِ.
,4- ادَّعَى بُولِسُ أنَّ خَطِيئَةَ أَبِينَا آدَمَ وأمِّنَا حَواءَ لمْ تُغْفَرْ، وأنَّ البَشَريَّة تُوارَثَتْهَا عَبْرَ الْقُرون، وهِيَ الْمَعْرُوفَة بـ«الْخَطِيئَة» أوْ «الْمَعْصِية الأُولَى».
,5- ادَّعَى بُولِس أنَّ يَسُوعَ أَرْسَله اللهُ فَنَزَلَ إِلى الأَرْضِ ليُصَلْبَ ويَتعذَّب فِداءً للْبَشَريَّة مِن خَطِيئةِ أبَويهِم آدَمَ وحوَّاءَ.
وهكَذَا أَخْرَج الْخَبيث بُولِس جَمَاهِير النَّصَارى مِنْ دِين الْمَسِيح الْحَقِيقي الَّذِي يَدْعُو إِلى عِبَادَة اللهِ وتَرْكِ عِبَادَة مِنْ سِواه، إِلى دِينٍ لا يَـمُتُّ لدِينِ الْمَسِيح بِصِلَةٍ، أَلا وهُو الْوثَنِيَّة، الَّتي هِي عِبَادةُ الأَوثَان (وهِي الْجَمَادَات الَّتي لَا تَدبُّ فِيهَا الْحِياةُ، مِثلُ الأَحْجَار والصُّور والقُبور والصُّلْبان)، وعِبَادَة البَشَرِ، (كَالْـمَسِيح وأمِّه، وكالقَسَاوِسَة).
وبِعِبَارَةٍ مُخْتَصرةٍ؛ فَإنَّ دِينَ الْمَسِيح تَحوَّل عَلى يَدِ بُولِس مِنْ عِبَادَة الْخَالِق إِلى عِبَادَة الْمخْلُوق، ومِن اتِّـباع النَّبيِّ الْحَقِيقيِّ -وهُو الْمَسِيح- إِلى اتِّـباع مُدَّعٍ للنُّبوَّة وهُو بُولِس.
وقَدْ بَقِي بُولِس في مَهَمَّتِه (مَهَمَّةِ تَشْويه دِين الْمَسِيح) بَعْد رَفْع الْمَسِيحِ مَا يَزِيدُ عَلَى ثَلاثِينَ سَنةً، وكَانَت بداية مهمته بَعْدَ رَفْعِ الْمَسِيح بِثَلاث إِلَى خَمْسِ سَنَواتٍ، أي مَا بَينَ عَامَي 33-38م عَلَى وَجْه التَّقَريبِ، واسْتَمرَّت حتَّى سَنَة 67م، أي نَحو ثَلاثِين سَنَةً، حتى تَمَّ إعْدَامُه في رُومَا عَلَى يَدِ الإِمبرَاطُور نِيرُون، الَّذِي اتَّهَم الْمَسِيحيينَ بِإِحْرَاق مَدِينَة رُومَا، فَقَتَل نِيرونُ بُولِسَ ومَعَهُ (بُطْرس) كَبِير تَلامِذَة الْمَسِيح بِحَسَبِ وصْفِ الأَنَاجِيل لهُ، فَأَعْدَمَهُما صَلبًا، ثمَّ تَفَنَّن نِيرُون في تَعْذِيب الْمَسِيحيينَ، ومِنْ ذَلِك أنَّه جَعَلهُم طَعامًا للْكِلابِ الْجَائِعة، وصَبَّ الْوَقُود عَلَى آخَرِين، وجَعَلَهُم مَشَاعِلَ لِبَاب قَصْرِه.
فَانْظُر كَيْف عَاقَبَ اللهُ هَذَا الفَاجِرَ بُولِسَ في الدُّنيَا، وكَيفَ انْقَلَبتْ عَلَيه عداوته للمسيح ودينه، ثم خطيئة تحريفه لدين المسيح، وتضليل أُمَّةٍ من الناس عن دين المسيح الحقيقي، كيف انقلبت هذه الخطايا عليه إلى عقوبة أليمة في الدنيا، فَفِي بِدَاية أَمْرِه كَانَ يُعذِّب أَتْبَاع الْمَسِيح ويَسْجِنُهُم، ثمَّ دَخَلَ دِين الْمَسِيح نِفَاقًا لِيُفْسِد دِينَ الْمَسِيحِ مِنَ الدَّاخِل، وليَجْعَلَه دِينًا صَالحًا للْوثَنِيين لأنْ يَدْخُلوا فِيه، فَكَانَتِ النِّهَايَة أنْ عذَّبه الله بأيديهم، فسَحِقَه رَأْسُ الْوثَنِيينَ (نِيرون) سَحْقًا.
وبِهَذَا انْتَهتِ الْمَرْحَلة الأَوْلى مِنْ مَرَاحِل تَحْرِيف دِينِ الْمَسِيح والتي كانت عَلَى يَدِ بُولِس، فَبُولِس ومَنْ جَاء بَعْدَه مِنْ رِجَال الدِّين مِـمَّنْ نَشَرُوا دِيْنَه وبَشَّـروا بِه -بِحَسَب تَعْبِيرهم- سَيتحملون المَسئوليَّة ويحملُون إِثْمَ الأَجْيالِ الَّذِين اعْتَنَقُوا هَذَا الدِّين بِسَبَبِهمْ إِلى يَومِ الْقِيَامَة، فَلْيَنْظُر القِسِّيسُ العَاقلُ (وغَيرُ الْقِسيسِ) إِلى أَيْنَ هُو ذَاهِبٌ بِالنَّاسِ؟ ءإِلَى الْجَنَّة أمْ إِلى الْجَحِيم؟([41]).
$ فَائِدة
لَيْسَ بِعَجِيبٍ سَرْعةُ حَصولِ هَذَا الإِفْسَاد الَّذِي قَامَ بِه بُولِس، والَّذِي حَصَلَ في خِلالِ ثَلاثِينَ سَنَةٍ مِنْ حَيَاتِه، لأنَّه إِفْسَادٌ مِنَ الدَّاخِل، فَقَدْ تَظَاهَر هَذَا الْخَبيثُ بِالدُّخُول في دِينِ الْمَسِيح، وأنَّه رسولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ، فَصَدَّقَه النَّاسُ، فَأَدْخَل بِضَاعَتَه الْفَاسِدَة، فَرَاجَتْ عَلَيهمْ، وأَفْسَدَ دِينَ الْمَسِيحِ الْواضِحَ النَّقيَّ الَّذِي يَدْعُو إِلى عِبَادَة اللهِ وحْدَه، وجَعَلَه مَزِيجًا مِنَ الْعَقَائِد الْوثَنِيَّة بِاسْم الْمَسِيح، ولَيْسَ هَذَا الإِفْسَاد بِهَذِه الْجَرْأة بِغَريبٍ عَلى الْيَهُودِ، فَهُم الَّذِين هَمُّوا بِقَتْل الْمَسِيح، وأَيُّ جَرأةٍ أَعْظَمُ مِن هَذِه؟! فَإِذَا كَان هَذَا مِنْهُم مُسْتَسَاغًا فَكَيفَ لا يَجرُؤونَ عَلَى إِفْسَاد دِيْنِه؟
$ مَكَانَة بُولِس فِي الْمَسِيحيَّة
بِنَاءً عَلى مَا تَقَدَّم فَإِنَّ بُولِس هُو الْمُؤسِّسُ الْحَقِيقيُّ للدِّيَانَة الْمَسِيحيَّة الْحَالِيَة، وتَنْتَسِب إِلَيه قَولًا وعَملًا، ولَيْسَ إِلَى الْمَسِيح عِيسَى ابنِ مَرْيمَ، وإنْ كَانتْ تُسَمَّى «الْمَسِيحيَّة» نسبة إلى اسم المسيح، فَهُو - أي بولس - هو واضِع بِذْرَتِها الَّتي سَقَتْها الْمَجَامِعُ الكَنَائِسيَّة فِيمَا بَعدُ بِدَعْمِ الرُّومَان لِتَزْدَادَ تَحْرِيفًا وضَلالًا، فَبُولِس هُو الطَّامَّة الأُولى عَلَى دِينِ الْمَسِيح، وهُو الَّذِي أَفْسَده وأَخْرَجَه عَنْ إِطَارِه تَمامًا إِلَى إطَارِ الْوثَنِيَّة، المُتَمَثِّلة فِي عِبَادَة الأَصْنَام والأَحْجَارِ والتَّمَاثِيلِ والصُّوَرِ والصُّلبانِ والأَشْخَاصِ مِنَ الأَنْبياءِ والكُـهَّان.
قَالَ (جُوسْتَاف لوبُون)([42]): «كَانَ القِدِّيس بُولِسُ مَفْطُورًا عَلى فَرْطِ الْخَيالِ، وكَانَتْ نَفْسُه مَملوءةً بِذكْرَياتِ الْفَلْسَفةِ اليُونَانيَّة والأدْيانِ الشَّرْقِيَّة، فَأَسَّس بِاسْمِ يَسُوعَ دِينًا، لَا يَفْقَههُ يَسُوعُ لوْ كَانَ حيًّا»([43]).
وقَالَ: «إنَّ بُولِس أَسَّس بِاسْم يَسُوع دِينًا لا يَفْقَهُه يَسُوعُ لوْ كَان حيًّا، ولوْ قِيل للتَّلامِيذ الاثْني عَشَرَ: (إنَّ اللهَ تَجسَّد في يَسُوع) مَا أَدْرَكُوا هَذِه الْفَضِيحة الْقَطْعِيَّة، ولَرَفَعُوا أَصْواتَهُم مُـحْتَجِّينَ»([44]).
وقَالَ «مَايْكِل هَارت»([45]): «إنَّ القِدِّيس بُولِسَ هُو الـمُطوِّر الْحَقِيقيُّ للنَّظَريَّة الْمَسِيحيَّة، وهُو الـمُـغَـيِّـر لأُصُولِها، وهُو الْمُؤلِف لِجُزْءٍ كَبيرٍ مِن الْعَهْد الْجَدِيد».
"St. Paul was the main developer of Christian theology, its principal proselytizer, and the author of a large portion of the New Testament"([46]).
وبِناءً عَلى مَا تَقدَّم؛ فَمُؤسِّس الدِّيَانة الْمَسِيحيَّة بِشَكْلِها وتَرْكِيبتِها الْحَالِية هُو بُولِس قَطعًا ولَيسَ الْمَسِيح.
$ مَوقفُ الْمَسِيحيينَ مِن بُولِس
الْمَسِيحيُّون يُعظِّمُون بُولِس تَعْظيمًا شَديدًا، ويَعْتَقِدونَ أنَّه رَسولٌ فعلًا كَمَا قَالَ هُو عَنْ نَفْسِه، ويُسَمُّونَه «رَسُول الأُمَم»، وأَنَّه قدِّيس، ولهُ كَنَائِس عِدَّة، مِنْهَا كَنِيسَة بُولِس في رُومَا، وهِي ثَاني أَكْبر كَنْيسةٍ هُنَاك، وفِيهَا مِنَ النُّقُوش والزَّخَارِف العُمْرَانِيَّة الشَّيء الْكَثِير، وفي مُقَدِّمَة الْكَنِيسَة تِمْثَالٌ كَبيرٌ لهُ، وكُلُّ هَذَا لا يَمُتُّ لدِينِ الْمَسِيح الأَصْلِي بِصلةٍ، إذْ إنَّ الْمَسِيح جَاءَ لِيُخِرجَ النَّاسَ مِنْ عِبَادَة غَيرِ اللهِ إِلى عِبَادَة اللهِ، وتَطْبِيق مَا جَاءَ في الإِنْجِيل، فَتَحَوَّل دِينُه إِلى مَا تَرَى أَيُّها القَارِئ الكَرِيم وأَيَّتُها القَارِئة الْكَرِيمة، تَحوَّل إِلى عِبادَةِ صُورٍ وتمَاثِيلَ وبَرَاوِيزَ، وفي الْكَنَائِس تَدُور كُؤوسُ الْخَمْر، ويَحْصُل الرَّقص وعَزْف الْمُوسِيقى، مِمَّا هُو مُنَاقِضٌ لِدينِ الْمَسِيح وتعَالِيمِه مِن جَمِيع الْوجُوه.
$ موقف أتباع المسيح الأوائل مِن بُولِس
عَاشَ أَتْباعُ الْمَسِيح عَلَى الْعَقِيدة الصَّحِيحةِ الَّتي رَبَّاهُم عَلَيها الْمَسِيح حينًا مِنَ الدَّهْر، ولَكِنَّهم لاقوا خِلالها اضْطِهادًا شَديدًا مِنَ الْيَهُود، لاسيَّمَا مِنْ بُولِس الْيَهُودِي، فَقَدْ كَانَ شَدِيدَ الاضْطِهادِ للنَّصَارَى أَتْبَاع الْمَسِيح، فَلَمَّا وجَدَ أنَّ العُنْف لمْ ولَنْ يُجدِي مَعْهُم اسْتَعْمَل أُسْلُوب النِّفَاق، فَادَّعى الإِيمَانَ بِالْمَسِيح، واجْتَهَدَ في تَعلُّم تَعَالِيمِه حتَّى صَارَ مِنْ أَعْلَمِهم، ثمَّ بَعْد هَذَا كَذَبَ عَليهِمْ, وقَالَ: إنَّ الْمَسِيحَ أوْحَى إِلَيهِ إِنْجِيلًا، فَصَدَّقَه مَنْ صَدَّقَه، ثمَّ قَامَ بِمَهَمَّتِه الدَّنِيئةِ الَّتي كَانَ يَهْدِف إِلَيها وهِي تَحْريفُ دِينِ الْمَسِيح، بِإِدْخَال مَا ليْسَ مِنْه فِيهَا، فَاخْتِرع عَقِيدَة أنَّ الْمَسِيح ابنُ اللهِ، ثمَّ عَقِيدة الْخَطِيئة الأُولى، ثمَّ عَقِيدَة الفِدَاء، فَقَامَ في وجْهِه كَثِير مِن أَتْبَاع الْمَسِيح، يَدلُّ لِهَذَا مَا قَالَ بُولِس عَنْ نَفْسِه كَمَا في «تيموثاوس الثانية» (15:1): «أَنْتَ تَعْلمُ هَذَا أنَّ جَمِيع الَّذِين في آسيا ارْتَدُّوا عَنِّي».
وقَالَ فِيهَا -أَيْضًا- (16:4): «في احْتِجَاجِي الأوَّل لمْ يَحْضُر أَحَدٌ مَعِي، بَلِ الْجَمِيع تَرَكُونِي».
الدليل التاسع والعشرون
الدَّلِيل التَّارِيخِيُّ الثَّاني عَلى تَحْرِيف دِين الْمَسِيح([47]):
تَقدَّمَ في النُّقْطَة الثَّامِنة والْعِشْرين بَيانُ الدَّورِ التَّارِيخيِّ للْيَهُودِيِّ شَاول (والَّذِي سَمَّى نَفْسَه لاحقًا «بُولِس») في تَحْريفِ دِينِ الْمَسِيح، والَّتي يُـمَـثِّل الْمَرْحَلة التَّارِيخيَّة الأُولى في تَحْرِيف دِين الْمَسِيح، واللَّبِنة الأُولَى فِيه.
وفي هَذِه النُّقْطَة سَنُبينُ بِإِيجَازٍ الْمَرْحَلة التَّاريخيَّة الثَّانِية في تَحْريف دِينِ الْمَسِيح، والَّتي تَمَّت فِيهَا عَشْرَةُ تَحْريفاتٍ إضَافيَّةٍ لِدينِ الْمَسِيح، وكَانَ ذَلِك عَلى يَدِ الْمَجَامِع الكَنَائِسيَّة الَّتي ضَمَّت جَمعًا غَفيرًا مِنَ الأَسَاقِفَة والبَطَارِكَة ورِجَالِ الدِّينِ، وقَدْ حَصَلتْ تَسْعةٌ مِن تَلك التَّحْريفَات في القُرونِ التِّسعة الأُولى، في ظِلِّ الدَّولَةِ الرُّومَانِيَّة وَمَا بَعدَهَا، ثمَّ سَقَطت الدَّوْلَة الرُّومَانِيَّة فِي نِهَايَة القَرْن الخَامِس بِسَببِ عَوامِل التَّفَكُّك، وهَيْمَنَتِ الْكَنِيسَة الكَاثُولِيكيَّةُ عَلى أَورُبَّا بَعْد ذَلِك لِمُدَّة عَشرة قُرونٍ، تُسمَّى عِنْدَهم الْقُرون الْوُسْطَى الْمُظْلِمَة، وحَصَلَ في مَطْلَع الْقَرْنِ السَّادِس عَشَرَ الانْقِسَامُ الكَبيرُ الأَخيرُ في الْكَنِيسَة الْكَاثُوليكيَّة ونُشوءُ طَائِفة الْبُروتسْتَانت، وَكَانَ هَذَا هُو التَّحْرِيف الْعَاشِر والأَخِير في دِينِ الْمَسِيح إِلى تَارِيخِ كِتَابَةِ هَذِه الأَسْطُر، واللهُ أَعْلمُ هَل سَيحْصُل في الْمُسْتَقْبل تَحْريفَاتٌ وانْقِسَامَاتٌ جَديدةٌ أمْ لا؟
$ التَّحِريف الكَنَائِسي الأَوَّل، وهو الطامة الثانية على دين المسيح، إذ الطامة الأولى ما حصل من تحريف بولس
في مَطْلَع القَرنِ الرَّابِع الْمِيلادِي اشْتَدَّ النِّزَاعُ وثَارَت نَيرانُ الْخِلاف بَيْنَ القَسَاوِسة الْمَسِيحيينَ حَوْلَ شَخصِ الْمَسِيح، أَهُو إِنْسَانٌ أمْ إلـٰهٌ، وذَلِك أنَّ قِـسًّا مِصْريًّا يُدْعَى (آريوس) تَقَدَّم بِرَأيٍ إِلى كَنِيسَتِه قَالَ فِيه بِأنَّ اللهَ وَاحدٌ ولَيْسَ لهُ ابنٌ، واحْتَجَّ عَلى هَذَا بحُجَجٍ عَقليَّةٍ صَحِيحةٍ، فَنَشَأَ خِلافٌ في الْكَنِيسَة الْمِصْرِيَّة، ثمَّ امْتَدَّ الْخِلافُ إِلى الْكَنِيسَة الْعَامَّة في رُومَا، فَحَصَلتْ إِشْكَالاتٌ كَثيرةٌ بَينَ رِجَالِ الدِّينِ الْمَسِيحيِّ مَا بَينَ مُؤيَّدٍ ومُعَارِض، وكَانَت الإِمْبَراطُوريَّة الرُّومَانِيَّة هِي الْحَاكِمَة في ذَلِك الزَّمَان، ولمْ تَكُنْ مُعْتَنِقَةً للدِّيَانَة الْمَسِيحيَّة آنَذَاكَ، بَلْ كَانُوا وثَنِيينَ، عِنْدهُمْ عَددٌ مِن الآلِهَة يَعْبدُونَهَا؛ آلَهِةٌ للزَّرِع، وآلِهَةٌ للْعَسْكر، وآلِهَةٌ للْمَاشِية، وهَكَذَا، ولمْ يَكُونُوا يُؤمِنُون بِنَبيٍّ ولا بِدِينٍ سَمَاويٍّ.
فما كان من الإِمْبَرَاطُور الرُّومَانيِّ آنذاك قُسْطَنْطِين إلا أن قَامَ بِمُحَاوَلةٍ لوَأْدِ هَذَا الْخِلاف الَّذِي سَيُفرِّق الأُمَّة ويُهَدِّد الأَمْنَ الدَّاخِلي، فَأَمَرَ بِعَقْد مَجْمَعٍ عَامٍّ للأَسَاقِفَة والبَطَارِكَة في أَحَدِ قُصُورِه في مَدِينَةِ نِيقْيَة -قُرْب مَدِينَة اسْطَنْبُول حَاليًا- لمناقشة هذا الخلاف وحَلِّهِ والخروج بقرار مُوحَّد قبل أن يتسع الخلاف ويصعب السيطرة عليه، الأمر الذي قد يؤدي إلى تفكك دولته من الداخل، وقد كان انعقاد ذَلِك الـمَجْـمَـع في عَام 325م، فَاجْتَمَعُوا وكَانَ عَدَدُهم 2048، وكَانَ مِنْهُم 318 يَقُولُون بِأُلُوهِيَّة الْمَسِيح (أي نحو 16%)، والْبَقِيَّة وعَدَدُهُم 1730 (84 %) يَقُولُون بِأَنَّ الْمَسِيح بَشَر.
ونَظرًا لأَنَّ قُسْطَنْطين كَانَت عَقِيدَتُهُ وثَنِيَّةً مِنَ الأَصْل فَإِنَّه مَالَ إِلى قَوْل القَائِلينَ بِأُلُوهِيَّة الْمَسِيح وأنَّه ابنُ اللهِ مَعَ أَنَّهُم الأَقَلُّ عَددًا، فَنَصَرهم نَصْرًا مَؤزَّرًا، فَقرَّر الْمَجْمَع أُلوهِيَّة الْمَسِيح وأَنَّه ابنُ اللهِ، وذَلِك بَعْد اجْتِمَاعاتٍ دَامَت أَكْثَرَ مِن ثَلاثَةِ أَشْهرٍ، وجعلوا هذا القرار مِنْ ضِمْن قَانونِ الإِيمَانِ الْمَسِيحيِّ الَّذِي أَصْدَرَه الْمَجْمعُ، فَانْقَلبتِ الْكِفَّة لِصَالح الْقاَئِلين بِأُلوهِيَّة الْمَسِيح بِقُوةِ السُّلْطَان بَعْد أَنْ كَانُوا أَقليَّةً، ورُفِع السِّتَار رسميًّا عنْ مَسِيحيَّة بُولِس، الَّذِي هَلَك قَبل نَحْو ثَلاثةِ قُرونٍ مِن هَذَا الْحَدَث.
فوحَّد قُسْطَنْطِينُ بهذا القرار جَبْهتَه الدَّاخِليَّة عَلى حِسَاب دِينِ الْمَسِيح الأَصْلِي لِمَصْلَحة تَوْحِيد مَمْلَكتِه ووأْدِ الْخِلافَ فِيهَا، ولَيْسَ هَذَا بِغَرِيب عَلَى أَمْثَاله مِـمَّن الْغَايَةُ عِنْدَهُم تُبَرِّر الْوسِيلَة، فَإِنَّ هَدَفَه هُو تَوحِيدُ الْكَنِيسَة وعَدَمُ حُصُول الانْقِسَامات فِيهَا، لِكَي يَتَفَرَّغ لِمُواجَهَةِ مُنَافِسيهِ عَلَى السُّلْطَة في الدَّاخِل والأَعْدَاء الْخَارِجيينَ، وليس اتخاذه لهذا القرار عن اقتناع بهذه العقيدة، يَدلُّ لِهَذَا بِكُلِّ وضُوحٍ أنَّه لمْ يَكُنْ مَسيحيًّا آنَذَاك، وإنما فعل ذلك لأن الانقسام في المجتمع المسيحي يُضعف دولته من الداخل، فأراد وأدهُ، فَمَنَع قُسْطَنطينُ القَوْل الَّذِي جَاء بِه آريوس؛ أي الْقَول بِأَنَّ الْمَسِيح بَشَرٌ ولَيْس إلـٰهًا، ونَفَاهُ ومَنْ مَعَه خَارِج الْبِلاد، واعتُبِروا مُعَارِضينَ للإِمْبَراطُور الرُّومَانيِّ قُسْطَنطين، وخَارِجِين عَنِ النِّظَام الْعَام للإمْبَراطُوريَّة الرُّومَانِيَّة، وأَصْدَر مَرْسُومًا بِحرْقِ كُتُبِه، ومَنِ احْتَفَظَ بِشَيءٍ مِنْها فَإِنَّ عُقوبَتَه الإِعْدام.
وقَدْ كَانَ هَذَا القرار من قُسطنطين هُو الطَّامَّة الثَّانِية عَلى دِين الْمَسِيح بَعْد طَامَّةِ تَحْريفِ بُولس لِهَا، وقد أكسب قُسطنطين تحريفات طابع الرسمية والهيبة السلطانية بعد أن لم تكُن كذلك.
يُلاحَظ أنَّ قُسْطَنطينَ فَعَلَ ما فعله قَبْل أَنْ يَتَنَصَّر؛ أي أنه لمْ يَكُنْ مُعْتَنقًا للْمَسِيحيَّة آنَذَاكَ.
يُلاحظ كذلك أنَّ فرضَ قُسطنطين للقرار كَان محصورًا في المجتمع المسيحي، لكون الخِلاف كان محصُورًا فيهم كمجتَمع له دِينه الخاص به في وسط الإمبراطورية الرُّومانيَّة الوَثنيَّة، أمَّا الرومان - وهم الأغلبية - فباقُون على دينهم، ثمَّ لما اعتنقَ قُسطنطين الْمَسِيحيَّة بَعْد مَجْمَع نِيقيَة بِسَنَوات فرض المسيحية على جميع سكان الإمبراطورية كما سيأتي بيانه قريبًا.
ويُلاحظ أيضًا أن قُسْطَنطينَ فرض القول بألوهيَّة المسيح بالرغم من أن القائلين به كانوا هم الأقلية في الـمَـجمع (نحو 16 %) في مقابل الذين قالوا بأن الله واحدٌ في ذاته، ليس له ابن، فنِسبتهم 84 % من مجموع عدد الحاضرين، ولكنه اختار قول الأقلية وفرضه بالقوة على المسيحيين لأنه أقرب إلى عقيدته الوثنية التي تنص على نزول آلهة من السماء، فهو أحَـبُّ إليه من القول الآخر بطبيعة الحال.
قَالَ (وِل ديورانت)([48]): «إنَّه بِفَضْل جُهودِ قُسْطَنطينَ أَضْحتِ الْمَسِيحيَّة دَولةً ودِينًا، وأَمْستْ هِي القَالب الَّذِي صُـبَّت فِيه الْحَياة الأَدَبيَّة والْفِكر الأُوربي عَلى مَدَى أَرْبَعة عَشَر قرنًا([49])»([50]).
$ تَنبيه
لمْ يَسْتَطِعْ مَجمعُ نِيقيَة الْقَضَاء عَلى الْوحَدَانيَّة الَّتي كَان يَدعُو لَهَا الأُسْقف آريوس، فَقدْ كَانَ التَّوحيدُ هُو الْغَالبَ بَينَ الْمَسِيحيينَ فِي القُسْطَنطينيَّة وأَنْطَاكية وبَابِل والإِسْكَندريَّة وأَسْيوط وبَيْت الْمَقْدسِ وقَيْصَرية فِلَسْطين وصُور، فأَخذَ الأَسَاقِفةُ غَيرُ الـمُوحِّـدين يُسيطِرُونَ عَلى الْمَسِيحيينَ بِالرُّؤى والأَحْلامِ حتَّى اخْتَفى مَذْهبُ التَّوحيد([51])، ولمْ يَبْقَ عَلى السَّاحَة إلَّا مَذْهب تَألِيه الْمَسِيح([52]).
ويَا لَلْعَجَب! لمْ يَتَّفِقِ القَسَاوِسَة عَلى أنَّ الْمَسِيح ابنُ اللهِ إلَّا بَعْد 300 سَنَةٍ مِنْ رَفْعِ الْمَسِيح!
فَهلْ يُمْكِن أَنْ تَكُون هَذِه الْعَقِيدة صَحِيحَةً بَعْدَ هَذِه الْفَترة الزَّمَنيَّة الْبَعِيدَة، ولا تَكُون صَحِيحةً أَثْنَاء وجُودِ الْمَسِيح عَلى الأَرْض؟!
$ قَرَاراتٌ أُخْرى لِمَجْمَع نِيقيَة
تَقدَّم ذِكْرُ أنَّ القَرارَ الرَّئيِس لِمَجْمَع نِيقية هُو اعْتِمَادُ ألُوهِيَّة الْمَسِيح، وأنَّه ابنُ اللهِ، وقَدْ صَحِبَ هَذَا الْقَرَار قَرَاراتٌ بَشَريَّةٌ أُخْرَى مُدَمِّرةٌ لِدينِ الْمَسِيح، وهِي:
,1- اعْتِمَاد أَرْبَعة أَنَاجِيل فَقَط، يُطْلَق عَلَيهَا اسْم «الْعَهْد الْجَدِيد»، واعْتُبرت الأَنَاجِيل الأُخْرَى الَّتي كَانَ عَدَدُها يَرْبُو عَلى السَّبعِينَ إِنْجِيلًا -ومِنْهَا أَنَاجِيل الـمُوحِّـدِين، مِثل إِنْجِيل برنَاَبا- مُزَيَّفةً وغَير قَانُونيَّةٍ ومُحَرَّمةً، يَجبُ إِحْرَاقُها عَلى الْفَوْر، ومَنْع اطِّلَاع الْمَسِيحيينَ عَليهَا، وجَعَل عُقُوبة مَنْ تُوجَد بِحَوْزَته الإِعْدَام.
,2- اعْتَمَد هَذَا الْمَجْمع سِتَّ عَشْرةَ رِسَالةً فَقَطْ مِن رَسَائِل مَن يَدْعُونَهُم بِالرُّسُل، اعْتَبَرهَا الْمَجْمَع صَحِيحةً، سَواءٌ في مَا يَخُصُّ مُحْتَويَاتِهَا أوْ في نِسْبَتِها إِلى مُؤلِّفِيها، وأَلْحَقَها بِالأَنَاجِيل الأَرْبَعة، واعْتَبر مَا عَدَاهَا مِنَ الرَّسَائِل مُزيَّفَةً ومَدْسُوسةً عَلى مُؤلِّفِيهَا.
وقدْ جَاءَت مَجَامِع أُخْرَى بَعْدَ هَذَا الْمَجْمَع، واعْتَمَدت سَبع رَسَائِل إِضَافِيَّةً وأَلْحَقَتْهَا بِالأَنَاجِيل، كَانَ مَجْمَع نِيقْيَة قَدْ رَفَضَهَا، واعْتَبرَهَا مُزَيَّفةً ومَنْحُولةً عَلى مُؤلِّفِيها.
,3- قَامَ مَجْمَع نِيقيَة بِرَفضِ بَعْض كُتُب الْعَهْد القَدِيم -التَّوْرَاة والْكُتُب التَّابِعة لَهَا- حَيْثُ اعْتَبرَهَا مُزَيَّفةً ومُدْسُوسةً، ثمَّ جَاءت مِن بَعْدِه مَجَامِع أُخْرَى أَعَادَتِ الاعْتِرَاف بِتلْك الْكُتُب.
,4- تمَّ لَعْنُ وطَرْدُ وحِرْمانُ الْمُخَالِفينَ لِقَرَارَاتِ هَذَا الْمَجْمَع مِنْ حَظِيرة الْكَنِيسة، وعَلَى رَأْسِهم الأُسْقُف الْمِصْري الـمُوَحِّـد (آريوس) الَّذِي قَال بِوحْدَانيَّة اللهِ، وحَرْقُ كُتُبه، وإعْدامُ مَن تُوجَد بِحَوزَتِه.
,5- تَقَرَّر مَنْعُ زَواجِ الرُّهْبانِ، وقَد كَانَ ذَلِك القَرارُ الْمُنَاقِض للْفِطْرة السَّلِيمة سَببًا لِمَآسٍ ومَشَاكِل جِنْسِيَّةٍ لأُولَئكَ الرُّهْبَان لا حَصَرَ لَهَا مُنذُ ذَلِك الْيَوم وإِلَى يَومِنَا هَذَا، والْمُتَمَثِّل فِي الْعلاقَات السِّريَّة الْقَذِرة بَينَ الرُّهْبانِ والرَّاهِبات فِي الْكِنَائِس.
وقَدْ ذكَر القُرآنُ الْكَريمُ رُهبان الْمَسِيحييَن - الذين شَدَّدُوا عَلى أَنْفُسِهم بِتَشْريع شَرَائِعَ لمْ تَرِدْ في الإِنْجِيل ومِنْهَا مَنعُ الزَّواج عَلَى أَنْفُسِهم - فَقَال:
﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾([53]).
وتَفْسِير الآيةِ: ابْتَدَع مَن يَدَّعُون أَنَّهُم أَتْباعُ الْمَسِيح رَهْبَانيةً بِالتَّشَدُّد في الْعِبَادَة، مَا فَرَضْنَاهَا عَلْيهِم، بَلْ هُم الَّذِين الْتَزَمُوا بِهَا مِنْ تِلْقَاء أَنْفُسِهم، قَصْدُهم بِذَلِك رِضَا اللهِ، وهَذِه الرَّهْبَانِيَّة في الْحَقِيقَة لَيْسَ لَهَا علاقةٌ بِرضَا اللهِ، لأنَّ اللهَ لمْ يَأمُرْ بِذَلكَ عَلَى لِسَانِ نَبيِّه الْمَسِيح عِيسَى ابنِ مَرْيم، فَكَيفَ يَكُونُ فِعْل مَا لمْ يَأْمُرْ بِه اللهُ سَببًا في رِضَا الله؟!
$ الطامة الثالثة على دين المسيح: دخول قُسطنطين في المسيحية، وفرضها بالقوة في المجتمع الروماني
دخل قُسطنطين في المسيحية، وكان ذلك بعد مَـجْـمَـع نيقية بسنوات، وترك دينه القديم الذي هو الوثنية الخالصة، الأمر الذي أدى إلى تقوية الدين المسيحي بشكل هائل، وكان أولُ ذلك أنه فرض اعتناق الدين المسيحي على جميع سكان الإمبراطورية، مع أن المسيح نفسه لم يُرسل إلَّا إلى بني إسرائيل وليس إلى الرومان!
فَفِي «إنْجِيل مَتَّى» (15/24) أنَّ يَسُوع قَال: «لَمْ أُرْسَلْ إِلَّا إِلَى خِرافِ بَيْتِ إسْرَائِيلَ الضَّالَّة».
يَذْكرُ الْمُؤرِّخ الْمَسِيحيُّ سَعيدُ بنُ الْبطريقِ فَائِدةً تَارِيخيَّةً تَتَعلَّق بِاسْتِعْمَال قُسْطَنطينَ قُوَّتَه كَسُلْطَان في نَشْر الْمَسِيحيَّة، قَالَ ما مَعْنَاه:
لَمَّا تَنَصَّر([54]) الإِمْبَراطُور قُسْطَنطينُ بَعْدَ مَجْمَع نِيقيَة بِسَنواتٍ، أَمَرَ بِكَسْرِ الأَصْنَامِ وقَتْلِ مَنْ يَعْبدُها، وحَـصَر قِيادَةَ الْجَيشِ بِالنَّصَارَى.
ثمَّ أَمَرَ أنْ يُـبْحَثَ عَنْ مَكَانِ قَبْر الْمَسِيح وصَلِيبه، فَقَامَت أَمُّه هيلانة -أو هلينا- بِتلْك الْمَهَمَّة بِنَفْسِها، وسَافَرت إِلى بَيتِ الْمَقْدِس، حَيثُ بَنَت كَنِيسةَ الْقِيامَة -لا تَزَالُ مَوجُودة إِلى الْيَوْم- عَلَى الْمَكَان الْمَزْعُوم أنَّ السَّيِّد الْمَسِيح قَدْ قُبِر فِيه لِمُدَّة ثَلاثَةِ أَيَّامٍ قَبْلَ أنْ يَقُوم مِنْ قَبْرِه، ولِذَلِك سُمِّيت هَذِه الْكَنِيسَة بـ«كَنِيسَة الْقِيامَة»([55]).
وبَحَثتْ هيلانة عنِ الصَّلِيب الَّذي زُعِم أنَّ السَّيِّد الْمَسِيح قَدْ صُلِب عَلَيه وكَانَ مَدْفُونًا، وعَادَت بِه إِلى ابْنِها الإِمْبَراطُور قُسْطَنطينَ بَعْد أنَّ غلَّفَتْه بِالذَّهَب، ثمَّ أَمَرَ الإِمْبَراطُور قُسْطَنطينُ بِطَرْد الْيَهُود مَنْ بِبَيت الْمَقْدِس، كَمَا أَمَرَ بِقَتْل كُلِّ مَنْ لمْ يَتَنَصَّر، فَتَنصَّر خَلقٌ كَثيرٌ مِن الْيَهُود والوثَنِيينَ، وظَهَرَ دِينُ الْمَسِيحيَّة([56]).
أَقُولُ: هَذَا تَطَورٌ جَديدٌ للْمَسِيحيةِ في عَهْد قُسْطَنطين، فَقُسْطَنطينُ بَعْد مَجْمَع نِيقْية طَمَسَ القَوْل بِبَشَريَّة الْمَسِيح، والَّذِي حَاوَل آريوس إظْهَاره، وأَظْهَر الْقَول بِأَنَّه إلـٰهٌ وابنُ الإلـٰهِ، وفِعْلُ قُسْطَنطينَ هَذَا لمْ يَتَعدَّ جُمْهور الْمَسِيحيينَ الْمُنْتَمينَ للْكَنِيسَة، ثمَّ بَعْدَ دُخُولِه في الْمَسِيحيَّة صَارَ يُلْزِم النَّاسَ جَمِيعًا بِالدُّخُولِ في الْمَسِيحيَّة، أعْنِي الْوثَنِيينَ الرُّومَان الَّذِين لمْ يَدْخُلُوا الْمَسِيحيَّة ابْتِدَاءً!
$ التَّحْرِيف الْكَنَائِسي الثَّانِي لِدِينِ الْمَسِيح بَعْد اعْتِنَاق الإِمْبَراطُور ثيودوسيوس الأوَّل للْمَسِيحيَّة وحُصُول الامْتِزَاج بَيْنَ الْمَسِيحيَّة والرُّومَانِيَّة
في سَنة 380م كَانَ عَهْد الإِمْبراطُور ثيودوسيوس الأوَّل، الَّذِي اعْتَنقَ الْمَسِيحيَّة، فَاعْتَنقتِ الإِمْبَراطُوريَّة الرُّومَانِيَّة الدِّيَانة الْمَسِيحيَّة رَسْميَّا بِثَوبِهَا الْجَدِيد الَّذِي فَصَّله بُولِس وثـبَّـته قُسْطَنطين، فَانْفَتح الْبَاب عَلى مِصْرَاعَيه أَمَام الشُّعوب الْوثَنِيَّة التَّابِعة للإِمْبراطُوريَّة الرُّومَانِيَّة للدُّخُول في الْمَسِيحيَّة، مَعَ أَنَّهُم ليِسُوا مِن بَني إسْرَائِيل الَّذِين كَانت رِسَالةُ الْمَسِيح الأَصْلِيَّة مُوجَّهةً إِلَيْهِم، وقَدْ تَقَدَّم بَيانُ ذَلك، فَدَخَلُوا أَفْواجًا، طَواعِيةً أوْ بِرغْم أُنُوفِهم، فَلَيْس هُنَاك خِيارٌ ثانٍ أَمَام سَيف الإِمْبرَاطُور إلَّا الدُّخُول في الْمَسِيحيَّة، فَدَخَلتْ تِلْكَ الْمَلايين بعِقَائِدهمْ وشَعَائِرهمْ وتَقَالِيدهمْ (كعِبَادَة الصُّور والتَّمَاثِيل وغَيْرِها) وطُقُوسِهم للدِّيَانَة الْمَسِيحيَّة، فَزَادَ الطِّينُ بِلَّةً، وانْفَتَح التَّحْرِيف لِدِين الْمَسِيح عَلى مِصْرَاعَيه، وحَصَلَ الْمَزِيد مِنَ الامْتِزَاج بَينَ الْمَسِيحيَّة وعَقَائِد الرُّومَان الْوثَنِيينَ، وهَذِه هِي الطَّامَّة الرابعة عَلى دِين الْمَسِيح بَعْد طَامَّة تحريف بُولِس له (الطامة الأولى)، ثم طَامَّة تثبيت قُسْطَنطين لتحريف بولس في القانون المسيحي (الطامة الثانية)، ثم طامة دخول قُسطنطين نفسه في المسيحية وفرضها على المجتمع الروماني بالقوة (الطامة الثالثة).
$ التَّحْريفُ الكَنَائِسي الثَّالثُ
في عَهْدِ الِإمْبَراطُور ثيودوسيوس الأوَّل حَصَلت طَامَّةٌ جَدِيدةٌ خامسةٌ على دِينِ الْمَسِيح، فَزَادَ تَشْويهًا إِلى تَشْويهِه، فَقَدْ حَصَلتْ خِلافَاتٌ عَقَائديَّةٌ جَديدةٌ حَوْلَ مَاهِيَّة الرُّوح القُدُس، وعلاقَتُه بالآبِ والابْنِ، وقَدْ كَانَ النَّاسُ إِلى ذَلِك الزَّمَان يَعْتَقِدُون بِإِلـٰهَينِ اثْنَينِ، وهُمَا: الآبُ، والابنُ (الله والمسيح بحسب اعتقادهم)، فَلَمَّا حَصَلت الِخلافَات الْمُشَار إِلَيْهَا حَوْلَ الرُّوح القُدُس ومَاهِيَّته قَامَ الإِمْبرَاطُور ثيودوسيوس الأوَّل بِجَمْع مِائةٍ وخَمْسِين رَجُلًا مِنْ كِبَار رِجَالاتِ الدِّين الْمَسِيحيِّ، مَا بَينَ كَارْدِينال وبَطْريرك وأُسْقُف، وجَمَعَهم في مَجْمَع الْقُسْطَنطينيَّة الأوَّل، وكَانَ ذَلِك في سَنَة 381م، وهُو الْمَجْمَع الثَّاني بَعْد مَجْمَع نِيقْية، وأَمَرَهُم بِالتَّشَاوُر لِحَلِّ الْخِلافَات الْجَدِيدَة، فَخَرَجُوا بِعَقِيدَةٍ جَدِيدةٍ وهِي عَقِيدَة التَّثْلِيث، وهِي اعْتِقَادُ أنَّ الآلهة عِبَارةٌ عَنْ ثَلاثةِ أَقَانِيمَ، وهِي أُقْنوم الآبِ، وأُقْنُوم الابنِ، وأُقْنُوم الرُّوحِ القُدُس.
وبِعِبَارةٍ مُخْتَصرةٍ فَقَد تَحوَّل دِينُ الْمَسِيح الصَّافي الدَّاعِي إلى التَّوحِيد (تَوْحِيد الْعِبادَة للهِ) إِلى التَّثْلِيث، وهُو اعْتِقَادُ أنَّ الآلِهَة ثَلاثةُ أقَانِيمَ، وشَتَّانَ مَا بَيْنَ هـٰذَينِ الاعْتَقَادَينِ.
$ التَّحْريفُ الكَنَائِسي الرَّابِع
وفي سَنَة 431م حَدَّثتْ طَامَّةٌ أُخْرى سادسة على دينِ الْمَسِيح، إذْ خَرَج نَسْطُور، وهُو بَطْريرك كَنِيسة القُسْطَنطِينيَّة، خَرَجَ بِعَقِيدَةٍ مَفَادُهَا أنَّ الْمَسِيحَ عِيسَى ابنَ مَرْيمَ لهُ طَبيعَتانِ: إلـٰهيَّةٌ وبَشَريَّةٌ، (لاهُوت ونَاسُوت)، وأَنَّهُمَا مُنْفَصِلَتَانِ عنْ بَعْضِهما.
ويَتْبع ذَلِك أنَّ مَرْيم مَا وَلَدت الإلـٰه عِيْسَى، بَلْ ولَدَتِ الْبَشَرَ عِيسى!
فَهِي أمُّ الإِنْسَان عِيسَى، ولَيْسَت أمَّ الإلـٰه عِيسَى!
فَحَصَل إِثْرَ هَذَا خِلافٌ شَديدٌ بَينَ كِبارِ رِجَالِ الدِّين الْمَسِيحيِّ، فَقَرَرُوا عَقْد مَجْمعٍ للْنَظَر في عَقِيدَة الْبَطْريرك نَسْطُور، فعُـقِد مَجمعٌ في تِلْك السَّنة في مَدِينة إِفْسس في تُركِيَا، وهُو الـمُسمَّى مَجْمَع إِفْسس الأوَّل، حَضَرَه مِائَتَا بَطْريرك وأُسْقُف، وقَرَّرُوا أنَّ الْمَسِيح لهُ طَبيعَتَانِ، إلـٰهيَّةٌ وبَشريَّةٌ، ولَكِنَّ تِلْك الطَّبيعتَينِ مُتَّحِدتَانِ ومُنْدَمجتَانِ، ولَيْستَا مُنْفصلتينِ كَمَا يَعْتقدُ نَسْطُور، وبِنَاءً عَليه تَكُون مَرْيمُ هِي والدةَ الإلـٰهِ عِيْسى كَمَا هِي والدة الْبَشَر عِيسَى.
ولَمَّا أَصَرَّ نَسْطُور عَلَى عَقِيدَتِه طَرَدُوه مِن مَنْصِب الْبَطْريرك ولَعَنُوه.
ولَكِنَّ عَقِيدَةَ نَسْطور انْتَشَرت في سُوريَّا والْعِرَاق وفَارِس، وسُمِّي أتْبَاع هَذِه الْعَقِيدة: النَّسْطُوريين أو النَّسَاطِرة، نِسْبةً إلى الْبَطْريرك نَسْطور، الَّذِي مَاتَ في حَوالي عَام 450م([57]).
$ تَعليقٌ عَلى عَقِيدةِ (الطَّبيعَتَينِ) الَّتي أَتَى بِهَا نَسْطُور
هَذِه الْعَقِيدة الَّتي أَتَى بِهَا نَسطورُ عَقيدةٌ خرَافِيَّةٌ، لأَنَّهَا مُعْتمدةٌ أَصلًا عَلى عَقِيدةٍ خُرافِيَّةٍ أُخْرى، وهِي عقيدة أَنَّ اللهَ تَجَسَّد في الْمَسِيح، والَّتي أَتَى بِهَا بُولِس، وقَدْ تَقَدَّم الْكَلامُ عَلَيْها وبَيانُ بُطْلانها، يضاف إلى ذلك هذه الوجوه الأَرْبَعة لبيان بطلانها:
الأوَّل: عَلَى افْتِرَاض أنَّ اللهَ تجَسَّد في الْمَسِيح (وحَاشَاه مِنْ ذَلِك) فَمَا الَّذِي يَمْنَع مِن أَنَّ تَكُون طَبِيعةُ الْمَسِيح وَاحِدةً، وطَبيعةُ اللهِ وَاحِدةً؟!
وبِنَاءً عَلى مَاذَا يُقَرِّر نَسْطُور أنَّ الْجَسَد واحدٌ والطَّبِيعة مُخْتَلِفَة؟
هَلْ هُو ربٌّ يَعْلم الْغَيب؟
إنَّ مَسْأَلة الطَّبِيعة أو الطَّبِيعَتينِ تُعْتبر مِنَ الْغَيبِ الَّذِي لا تَرَاه الْعُيون.
وهَذَا يُوضِّح دَوْر رِجَالِ الدِّين والْبَطَارِكة في تَحْريفِ دِينِ الْمَسِيح بِإِدْخَال عُقُولِهم في الأُمُور الْغَيْبيَّة والتَّكَلُّف في فَهْمِها، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا منْ يَسْتَمع لَهُم، تَعَالى اللهُ عَنْ إِفْكِهم وافْتِرَائِهم عُلُوًّا كَبيرًا.
الْوَجْه الثَّانِي: أنَّه يَلْزَم مِنْ هَذِه الْمَقُولة أنَّ اللَّاهُوت يَعْتَمد عَلَى النَّاسُوت، وهَذَا بَاطِلٌ، إذْ كَيفَ يَعْتَمِد الرَّبُّ عَلى الْبَشَر؟!
الْوجْه الثَّالِث: أنَّ قَوْلَهم بِاتِّصَاف الْمَسِيح بِطَبيعَتينِ في جَسَدٍ وَاحِدٍ مُتَناقِضٌ جِدًّا، فَالذَّات الْواحِدَة لا يُمْكِن أنْ تَكُون مُتَّصِفَةً بِصِفَاتِ الرَّبِّ وصِفَات الْبَشَر في آنٍ وَاحدٍ، لأَنَّهُمَا عَلى طَرَفي نَقِيضٍ، فَالرَّبُّ لهُ صِفاتُ الْكَمالِ، والْبَشرُ لَهُم صِفَاتُ النَّقصِ، فَلا يُمْكِن أنْ يَكُون الرَّبُّ عَالِمًا بِكُلِّ شَيءٍ ولَيسَ عَالِمًا بِكُلِّ شَيءٍ في آنٍ وَاحدٍ.
الْوجهُ الرَّابِع: ومما يدل على تَهَافُت هَذِه الدَّعْوى (دَعْوى تَقْسِيم الْمَسِيح إِلى لاهُوت ونَاسُوت) أَنَّهَا دَعْـوى جَدِيدَةٌ، لمْ يُـعَـلِّمها الْمَسِيحُ بَني إسْرَائِيل، ولوْ كَانَتْ صَحِيحةً لَعَلَّمَهُم إيَّاهَا قَطْعًا، لأنَّ هَذَا شَرفٌ لهُ لوْ كَانَت حقًّا، وهِي مِنَ الأُمُور الَّتي تَتَوافَر الْـهِـمَم عَلى نَقْلِهَا لِيَعْرِفَها النَّاس، ولا يُطبِقُوا عَلى الْجَهل بِـهَا إلى أن تُعلم بعد أربعة قرون! فَهِي إذَنْ عَقِيدةٌ مُبْتَكرةٌ مِن عِنْدِ الْبَشَر بَعْد رَفْعِ الْمَسِيح بِنَحْو أَرْبعة قُرونٍ، ولمْ تَكُن مَعْروفةً مِن قَبلُ.
$ التَّحْريفُ الكَنَائِسي الْخَامِس
وفي سَنَةِ 449م حَصَلتْ طَامَّةٌ جَدِيدةٌ سابعة على دين المسيح الأصلي، وذَلِك أنَّ ديسقورس، بِطْرِيرك كَنِيسة الإِسْكَنَدريَّة، جَاء بِعَقِيدةٍ جَديدةٍ مَفَادُهَا أنَّ للْمَسِيح طَبِيعةً وَاحِدةً مِنْ طَبِيعَتينِ؛ بَشَريَّة وإلـٰهيَّة، اتَّحدَ فِيهَا الْعنُصرُ الْبَشَريُّ (النَّاسُوت) مَعَ الْعُنْصُر الإِلـٰهيِّ (اللَّاهُوت) فَصَارا شَخْصًا وَاحِدًا، وهُو الْمَسِيح!
فَعَقَد ديسقورس مَجْمَع إفسس الثَّاني سَنَة 449م، فَأَقرَّ الْمَجْمَع تِلْك الْعَقِيدة، وعَارَضَت الْكَنَائِس الأُخْرَى هَذَا الْقَرَار، وهُمَا كَنِيسةُ القُسْطَنطينيَّة الشَّرْقِيَّة والكَنِيسةُ الكَاثُوليكيَّة في رُومَا، فَزَادَ الانْقِسَام في الدِّينِ الْمَسِيحيِّ بَينَ كَنَائِسِه ورِجَالِه.
$ التَّحْريفُ الكَنَائِسي السَّادِس- مَجْمَع خليقدونيَّة
وفي سَنَةِ 451م، عَقَدَ بَابَا الْكَنِيسةِ الكَاثُولِيكيَّة (لاون الأوَّل)، وبمُشَاركةٍ مِن سِتمائةٍ مِنْ رِجَال الدِّين الْمَسِيحيِّ؛ عَقَد مَجْمعًا في مَدِينة خليقدونية، عَلى بَحْر مَرْمَرة في تُركِيا، فَأَلْغَوا مَا تَمَّ إقْرَارُه في مَجْمَع إفسس الأوَّل سَنَة 431م، ولَعَنُوا بَطْريرك الإِسْكَنْدريَّة ومَنْ يُؤيِّدُه.
فَتَرتَّب عَلى هَذَا غَضبٌ شَديدٌ مِن بَطريركِ الإسْكَندريَّةِ، فَانْفَصَلتِ الْكَنِيسَة الْقِبْطيَّة عَنِ الْكَنِيسةِ الْكَاثُوليكيَّة، وعَنِ الْكنَيِسَة الشَّرْقيَّة في القُسْطَنطِينيَّة، فَزَادَ الانْقِسَامُ بَينَ طَوائِف الْمَسِيحيينَ.
$ التَّحْريفُ الْكَنَائِسي السَّابع
وفي سَنَة 543م ظَهَر قِسٌّ اسْمُه يَعْقُوب البَرادِعي، نَادَى بِعقِيدة الطَّبِيعَةِ الْواحِدة للْمَسِيح، والَّتي سَبَقه إِلَيْهَا ديسقورس قَبْلَ أَرْبَع سِنين، فَتَبِعه خَلقٌ كَثيرٌ سُـمُّوا فِيمَا بَعدُ بِاسمِ الْيَعْقُوبيينَ أو الْيَعَاقِبة، فَحَصَل انْقِسَامٌ جَديدٌ بَين الْمَسِيحيينَ بِقيامِ هَذِه الطَّائِفة (الْيَعْقُوبِيَّة)، ويُسمَّون في اللُّغَة الأَجْنَبيَّة: (الأرثوذكس).
$ التَّحْريف الْكَنَائِسيِّ الثَّامِن
وفي سَنَة 680م جَاءَ بَطْريركُ أَنَطاكية وهُو (يُوحَنَّا مَارُون) بِعَقِيدةٍ جَدِيدةٍ لِتَفْسِير طَبيعةِ الْمَسِيح بِزَعْمِه، قَالَ فِيهَا: إنَّ الْمَسِيح لهُ طَبِيعتَانِ ومَشِيئةٌ وَاحِدةٌ، نَظرًا لالْتِقَاءِ الْطَّبيعَتينِ في أَقْنُومٍ واحِدٍ، فَعَارَضَتْه كَنِيسَة الْقُسْطَنطينيَّة والْكَنِيسةُ الْكَاثُوليكيَّة، وعَقَدُوا مَجْمعًا حَضَرَه حَوالي مائتين وثَمانِين أُسْقُفًا، وقَرُّروا أنَّ الْمَسِيحَ لهُ طِبيعَتَانِ ومَشِيئَتَانِ، وطَرَدُوا ولَعَنُوا الْبَطْريرك مَارونَ، فَانْفَصَلت كَنِيسَةُ أنْطَاكية، وتَعَرَّض مَارونُ للاضْطِهَادِ، فَلَجَأ إِلى جَبَل لُبْنَان، وسَمُّوا أَتْبَاعَه (الـمَوارِنة)، وهِي طَائفةٌ بَاقِيةٌ إِلى الآنَ.
$ التَّحْريفُ الكَنَائِسي التَّاسِع
وفي سَنَةِ 869م عُقِد مَجْمَعُ الْقُسْطَنطينيَّة الرَّابِع، وتَقَرَّر فِيه أَنَّ الرُّوحَ القُدسَ انْبَثَق مِن الآبِ والابْنِ معًا، ولَيسَ مِنَ الآبِ فَقَطْ، حَسْبَما تَقَرَّر في مَجْمَع الْقُسْطنطينيَّة الأوَّل عَام381م.
$ التَّحريفُ الكَنَائِسي الْعَاشِر الَّذِي نَشَأَ فِي بِدَاياتِ الْقَرنِ السَّادِس عَشَرَ الْمِيلادِي وما بعده
تَوطِئةٌ:
حَصَل هَذَا التَّحرِيف الكَنَائِسي نَتيجَةً لظرُوفٍ تَاريخِيَّةٍ مَحضَةٍ تَتلَخَّص فِي أَربع مَرَاحِل:
المرحلة الأولى: انِهيَار الإِمْبراطُوريَّة الرُّومَانيَّة عَام 476م.
المرحلة الثانية: هَيْمَنة الْكَنِيسَة الْكَاثُوليكيَّة وتَسلُّطها البَشع عَلَى الْمُجْتَمع الأُوربِّي لِعَشرةِ قُرون، وقصة انهيار تلك الهيمنة.
المرحلة الثالثة: اكْتشَاف الْعَالَم الْجَديد (الأَمْريكَتان) مَعَ نِهَايَة الْقَرن الْخَامِس عَشَرَ الْمِيلادِي، ثُمَّ اسْتراليَا ونُيوزلَندَا بَعدَ ذَلك.
المرحلة الرابعة: نُشُوء طَائِفةِ الْبُروتِسْتَانت (الـمُـحْـَتجُّون) في العالم الجديد.
تَفصِيل:
المرحلة الأولى: انهيار الامبراطورية الرومانية عام 476م
لَمَّا انحلَّتِ الدَّوْلة الرُّومَانِيَّة الْغَرْبيَّة سَنَة 476م، وحلَّت الْكَنِيسة الْكَاثُولِيكَيَّة محلَّهَا، صَارَ البَابَا هُو الْحَاكِم الْفِعْلي لإيطَاليا وغَيرِها مِنَ الأَقَالِيم الَّتي انْهَارَت فِيهَا الإِمْبرَاطُورِيَّة الرُّومَانِيَّة، فَزَادَ نَفُوذِ الْكَنِيسَة، وصَارَ هُو الدَّاعِم لِمُلُوك أَورُبَا، فَصَار لَهَا الْفَضْلُ عَليهمْ، وصَارَ يُعْطِيهم الْمَال مِنْ عِنْدَه بِمَا يُكْسِبه مِنْ ظُهُور النَّاسِ، ومَنِ اعْتَرَض عَلَى البَابَا مِنَ الْمُلوكِ فَإنَّه قدْ يَفْقِد حَيَاتَه ولَيْس فَقَط عَرْشَه.
ومِنْ أهمِّ صُور ذَلِك التَّسلُّطِ والْهَيْمَنة عَلى الكَاثُوليكيينَ التَّالِي:
1- اخْتِراعُ عَقِيدةِ صُكوكِ الْغُفْرانِ، والَّتي كَانَ يَهْدِف رِجَالُ الْكَنِيسَة مِنْ وَرَاء هَذَا الاخْتِراع إِلى جَمْعِ الْمَال، فَقَد زَعَمُوا في الْمَجْمع اللاتيرانيِّ الَّذِي عُـقِد في رُومَا سَنَة 1215م أنَّ يَسُوع مَنَحَ الكَنِيسَة الْكَاثُولِيكيَّة فِي رُومَا سُلْطَة بَيع صُكُوكِ الْغُفْرانِ([58])، فَإذَا أَرَادَ الإِنْسَانُ أنْ تُغفرَ لهُ ذُنُوبه فَمَا عَلَيه إلَّا أنْ يَشْتري صَكًّا مِنَ الْكَنِيسَة فَيدْخُلَ الْجَنَّة إذَا مَاتَ، والْمَال يَذْهبُ لِجُيوبِ رِجَال الْكَنِيسَة.
فَرِجَال الْكَنِيسَة أَقَامُوا بِهَذِه الْعَقِيدَة أَنْفَسَهم مَقَامَ الرَّبِّ، الَّذِي لا يَغْفِر الذُّنُوب إلَّا هُو، تَعَالى اللهُ عَنِ كَذِبِهمْ عَلُوًّا كَبيرًا.
,2- ومِنْ صُورِ الْفَسَاد الِكَنَائِسي: الْفَسَاد الأَخْلاقيِّ بَينَ الرُّهْبان والرَّاهِباتِ، ولا حَاجَة إِلى إعَادَة الْكَلام في هَذَا، وهُو مُسْتَشْرٍ إِلى الآنَ في كَنَائِس الكَاثُولِيك والأَرْثُوذُكس التي في البلاد العربية، ومن صورِهِ الشذوذ الجنسي في الكنائس الغربية.
,3- سَلَكَتِ الْكَنِيسَة أُسْلوبَ الْقَهْر والتَّسَلُّط، ومِنْ ذَلِك اعْتَبار أيِّ رَأيٍّ يُخَالِفُها - ولوْ كَانَ في عُلومِ الطَّبِيعة أو الفَلَك أوْ غَيرِها مِنَ الْعُلوم الَّتي لَيْستْ مِن تَخَصُّصِ الْكَنِيسَة - فَإِنَّهُم يَعْتِبرُونَه كُفرًا وخُروجًا مِنَ الدِّينِ الْمَسِيحيِّ، وبِنَاءً عَلَيه فَإِنَّهُم يُصْدِرُون الْعُقُوبَات الَّتي رُبَما تَصِل إِلى الإِعْدَام عَلَى مَنْ يَفْعَل ذَلك، سَواءٌ كَان الْفَاعِل حَاكمًا أوْ مَحْكُومًا.
ومِنْ مَظَاهِر تَسلُّطِ الْكَنِيسَة أنْ أَصْدَرتِ الْكَنِيسَة الْكَاثُوليكيَّة في عَهْد البَابَا جريجوري التَّاسِع في سَنَة 1213م مَحَاكِم عُرِفتْ بِاسْم «مَحَاكِم التَّفْتِيش»، وهُو نِظَامٌ قَمْعيٌّ وحْشيٌّ دَمويٌّ، لمْ يَشْهَدِ التَّارِيخ مَثْلَه أَبَدًا، يَقُومُ بِالتَّحْقِيق مَعَ كُلِّ مَنْ خَالفَ الْكَنِيسَة، فَإِنْ ثَبتَت مُخَالَفَتُه لَهَا عُوقِبَ بِالتَّعْذِيب بِنَارٍ هَادِئةٍ حتَّى يَسِيلَ شَحمُه ولَحمُه، ثمَّ تُصَادَر مُمْتَلكَاته إِلَى الْكَنِيسَة.
وكَانَتِ الْكَنِيسَة تُرْسِل الْجَواسِيس إِلى النِّسَاء في الْبُيوت، فَإِنْ أَخْبَرتِ الْمَرْأَة مُندُوبَ الْكِنيسَةِ بِمُخَالَفَة زَوْجِها للْكَنِيسَةِ وَثَبَتَ عَلَيه ذَلِك فَالْويلُ لهُ ثمَّ الْويلَ لهُ ثمَّ الْويلُ لهُ.
وقَدْ شَمَلَ نَشَاطُ هَذِه الْكَنِيسَة الْيَهُودَ والْمُسْلِمين في أَسْبَانِيا، وقُدِّر عَددُ ضَحَايَاهُم هُنَاك بـ340 ألف نَسَمة، مِن سَنَة 1481م إِلى سَنَة 1808م.
$
المرحلة الثانية: هيمنة الكنيسة الكاثوليكية وتسلطها البشع على المجتمع الأوروبي لمدة عشرة قرون وقصة انهيار تلك الهيمنة
وبِهَيْمَنةِ الْكَنِيسَة عَلى أُوربَّا فِي نِهَايَة الْقَرْن الْخَامِس بَدَأتِ الْعُصُور الوسْطَى الْمُظْلِمة فِي أوربَّا، والَّتي اسْتَمرَّت نَحْوَ ألفِ عَامٍ إِلَى نَهَايَة الْقَرن الرَّابِع عَشَرَ الْمِيلادِي، ثمَّ قَامتِ الاحْتِجَاجَات عَلى طُغْيَان الْكَنِيسَة مع مطلع القرن الخامس عشر.
وقِصَّةُ تلكَ الاحتجاجات بِاخْتِصَارٍ: أنَّه مَعَ مَطْلعِ القَرْنِ الْخَامِس عَشَرَ الْمِيلادِي، بَدَأتِ الاعْتِراضَاتُ والاحْتِجَاجَاتُ عَلى مَظَاهِر الْفَسَاد الْمَادِي والأَخْلاقِي الْحَاصِل في الْكَنِيسَة الكَاثُوليكيَّة وبَابَواتِهَا وكَرادِلتها، وقَدْ تَقدَّم ذِكْرُ بَعْضِها، فَلمْ تَعُد النَّاس تُطِيقُ ذَلِك التَّسلُّط الرَّهِيب والْكَبت الشَّنِيع، فَقَامَت تِلْك الاعْتِراضَات بِطَبيعَةِ الْحَال، وكَانَت تَسِير بِشَكلٍ سِرِّيٍ وسِلْمِيٍّ وهَادِئٍ، بَدَأَهَا رِجَالُ دِينٍ صِغَار، مِنْهُم مِنَ اعْتِرَضٍ عَلى ادِّعَاء الْكَنيِسةِ سُلْطَة غُفْرانِ الذُّنُوب، سُواء مَا كَان أَمَام القَسَاوِسَة أوْ بِواسِطَةِ صُكُوكِ الْغُفْرانِ، ومِنْهُم مَنِ اعْتَرَضَ عَلى الْعَقِيدةِ القَائِلة بِأَنَّ قَتْلَ الْمَسِيحِ عَلَى الصَّلِيب كَانَ تَكْفِيرًا عَلى خَطِيئَةِ آدَمَ، فَقَالُوا: إنَّ ذَلِك لَيْسَ وَسِيلةً لإِرْضَاءِ اللهِ وعَفْوِه عَنْ تِلْك الْخَطِيئةِ، ومِنْهُمْ مِنْ نَادَى بِزَواجِ القَسَاوِسَة والرَّاهِباتِ، وانْتَقَد فُجُورَ الْفَرِيقَينِ، ووَصَف كَثيرًا مِنَ الأَدْيَرة بِأَنَّها بُيوتُ دعَارةٍ، فَلمْ تَقْبَلِ الْكَنِيسَة الْكَاثُوليكيَّة مَطَالبَ الإصْلاحِ هَذِه، وعَاقَبتْ بعْضَ الْمُطَالِبينَ بِالْحَرْق، وبَعْضَهم بِالسَّجْن حتَّى الْمَوت.
* قِيامُ ثَوْرةٍ حَقِيقيَّةٍ، نَشَأتْ عَلَى إِثْرِهَا طَائِفةٌ البُروتِسْتَانت (الـمُـحْتجُّون)، انْشَقُّوا عَنِ الْكَاثُولِيك
لـمَّـا لمْ تُؤتِ تِلْك الدَّعَواتُ الإصْلاحِيَّة الْهَادِئة ثَمَرَتَهَا، تَحوَّل الأمَرُ إِلى ثَوْرةٍ قَادَهَا الْمُصْلِحُون الْجُددُ ضَدَّ الْكَنِيسَة الْكَاثُوليكيَّة وبَابَواتِهَا وكَرادلتها، ومِنْ أهمِّ أَولَئكَ الثُّوار الْقِسِّيس «مَارْتِن لُوثَر»، والْقِسِّيس «جُون كَالفن» والأسْقُف «جُون هَوس».
ولمْ يَكُنْ بِإِمْكَان أَحَدٍ التَّنَبُّؤ بِأَنَّ النَّقْد السِّلْمِي الهَادِئ للْكَنِيسَة الْكَاثُوليكيَّة، الَّذِي بَدَأَ مَعَ مَغِيبِ الْقَرْن الرَّابِع عَشَرَ ومَطْلَع الْقَرْن الْخَامِس عَشَرَ للْمِيلادِ، سَيَتَطَوَّر إِلى مَوْجةٍ عَارمةٍ مِنَ الصِّدامَات والقَلاقِل والْحُروب الدِّينيَّة الدَّامية الَّتي عَصَفَت بِقَارَّة أَورُوبَا، وسَالتْ بِسَبَبِها دِمَاءُ الْمَسِيحيينَ الأَورُوبيينَ بِغَزَارةٍ، وانْشَقَّت عَلَى إِثْرِهَا الْكَنِيسَة الْكَاثُوليكيَّة إِلى شَطْرينِ مَتَعادِيينَ، شَطْرٌ تَمَسَّك بِالْكَنِيسةِ الْكَاثُوليكيَّة وسُلْطة الْبَابَا، وشَطرٌ خَرَجَ عَنِ طَاعة الْكَنِيسة والبَابا وتَمرَّد عَليهِمَا، وكَوَّن جَماعةً جَدِيدةً سُـمِّيت البُروتِسْتَانت، protestant، أي: الْمُحْتَجُّون أو الْمُعْتَرِضُون.
ويُعْتَبر هَذَا الانْشِقَاقُ الَّذِي نَجَحَ ووطَّد أَقْدَامَه في سَنَة 1517م هَامًّا وخَطيرًا ومُؤثِّرًا في مُجْريَات الأُمُور الدِّينيَّة والاجْتِماعيَّة والسِّياسيَّة في القَارَّة الأوروبيَّة، لا يُقَاس مَعَ الانْشِقَاقَيْنِ اللَّذينِ حَدَثَا قَبْلَه في الدِّيَانَة الْمَسِيحيَّة عَنِ الْكَنِيسَة الكَاثُوليكيَّة، وهِي انْشِقَاق الْكَنِيسة الْقِبطيَّة في الإسْكَندريَّة بِمِصْرَ والكَنَائسِ التَّابِعة لَهَا، ثمَّ انْشَقاقُ الْكَنِيسةِ الأَرْثُوذكْسِيَّة في الْقُسْطَنطينيَّة.
هَذَا، ويَلاحَظُ أنَّ ثَورةَ أُولئكَ القَسَاوِسَة اقْتَصَرتْ عَلَى النِّظَام الْكَنَسِي الْفَاسِد مَاليًّا وأَخْلاقيًّا، والْمُتَمثِّل بِتَصَرُّفَات البَابوات وغَيْرِهم مِنْ كِبَار القَسَاوِسَة، ولمْ تُطالبْ تِلْك الثَّورة بِتَنْقيَة الْمَسِيحيَّة ممَّا شَابَهَا وخَالَطَها مِنَ التَّحْرِيف والْعَقَائِد الْوثَنِيَّة، ممَّا أَدْخَله بُولِس ومَن بَعْدَه، كَتَأْلِيه السَّيدِ الْمَسِيح وصَلْبِه، وعَقِيدة التَّثْليث، فَأُمورِ الْعَقِيدة لمْ يَثُوروا ضِدَّها، وإِنَّمَا ثَارُوا ضِدَّ تَسَلُّط وهَيْمَنة الْكَنِيسة الكَاثُوليكيَّة ورَجَالاتِها، مُمَثَّلةً بِمَنْصِب البَابَا عَلى الْمُجْتَمع، وابْتِزَاز النَّاس مَاليًّا وجِنْسيًّا بِاسْم الدِّين، كَمَا تَقَدَّم بَيانُه في الْمُقَدِّمَة.
$ سُقوطُ هَيْمَنة الْكَنِيسَة فِي بِريطَانيَا
خَرَجَ عَلى إِثْرِ ذَلِك الانْشِقَاق مَلكُ إِنْجلتِرا هِنْري الثَّامِن في سَنَةِ 1534م عنْ طَاعَةِ البَابَا، وسَحَب اعْتِرَافَه بِسُلْطتِه عَلَيه، وأَعْلَن أنَّه هُو رَئِيس الْكَنِيسَة الإِنْجليزيَّة ولَيْسَ البَابَا. وبِهَذَا تمَّ انْفِصَالُ الْكَنِيسَة الإِنْجليزيَّة في لَنْدن عَنِ الْكَنِيسةِ الْكَاثُوليكيَّة في رُومَا وعنْ سُلْطةِ البَابَا عَلَيهَا، وسَمَحَ الْمَلِكُ بِطِبَاعَة كِتَابِهم الْمُقدَّس بِاللُّغَة الإِنْجليزيَّة، وكَانَ هَذَا مَمْنوعًا، هَذَا ولمْ يَخْلُ الأمرُ مِن قِيام حربٍ بَينَ الْكَاثُولِيك والبُروتِسْتانت في بِريطَانيا.
وفي فَرَنْسا قَامت سِلْسِلةٌ طَويلةٌ مِنَ الْمَذَابِح والْحُروب الأهْليَّة بَينَ الْمَسِيحيينَ البُروتسْتَانت -ويُسمونَّهُم في فَرَنْسَا الهوجُونُوت- والْكَاثُولِيك، وقدْ تَميَّزت تِلْك الْحُروب بِالشَّراسَة والدَّمَويَّة الَّتي اقْتَرفَها الْجانِبَان ضِد بَعْضِهمَا، وقدْ بَدَأتْ تِلْك الْمَذَابِح في سَنَةِ 1562م، وانْتَهت في سَنَة 1598م، حَيثُ دَامتْ لِمُدَّة 36 سنة.
$
المرحلة الثالثة والرابعة: اكتشاف العالم الجديد (الأمريكتان) ثم استراليا ونيوزلندا بعد ذلك، ثم نشوء طائفة البروتستانت في العالم الجديد
$ الْهُروبُ الْجَمَاعِي مِنْ أُورُبَّا، وفِرَار البُروتِسْتَانت إِلَى الأَمْريكَتَينِ وغَيرِها
تَجَدَّدت الْحُروبُ بَينَ الْجَانِبينِ في سَنَةِ 1618م -أي بَعْد 23 سَنَةً مِن انْتَهائِها- واسْتَمرَّت إِلى سَنَةِ 1648م، فِيَما يُسمَّى بحَرب الثَلاثِين سَنة، فَلَمَّا اكتُشِف العَالم الْجَدِيد (الأَمْرِيكتَانِ) واسْتُراليَا ونُيوزلَنْدَا بعد ذلك، وَالَّذِي صَادَف اكْتِشَافهم حُصُول القَلاقِل الدِّينيَّة في أُورُوبَا؛ فَرَّ البُروتِسْتَانت بِأَعَداد غَفِيرةٍ مِن أُوربَّا إِلى تِلكَ الْمَنَاطِق لِهَذا السَّبَب، بِالإِضَافَة إِلى أَسْبابٍ أُخْرى اقْتِصَادِيَّة وغَيْرها.
$ طُوائِف ومَذَاهِب البُروتِسْتَانت
أَنْشَأ البُروتِسْتَانت في الـمَـهْجر طَوائِف أوْ مَذَاهِب أوْ كَنَائِس عِديدةً خَاصَّة بِهم، مِنْهَا الْكَنَائِس الإِنْجيليَّة، أي الَّتي تَتَّبع الأَنَاجِيل، ومِنْهَا كَنَائِس تَتَبُّع آرَاء قِسِّيسٍ مِنَ القَسَاوسة الَّذِين ثَارُوا عَلى اْلكَنِيسة الكَاثُوليكيَّة، مِثل اللُّوثَريينَ، نِسبةً إِلى اْلقِسِّيس مَارتن لُوثَر، والكَالفينيين، نِسْبةً إِلى الْقِسِّيس جُون كَالفن، والْهَوسيينَ، نِسبةً إِلى الْقِسِّيس جُون هَوس.
ويَلاحَظ أنَّ كلَّ طَائفةٍ أو مَذْهبٍ أوْ كَنِيسةٍ مِنْ هَذِه اْلكَنَائسِ البُروتسْتَانتيَّة مُسْتقلةٌ تَمامًا بِإدَارَتِهَا الدِّينيَّة عَنِ الْكَنَائِس الأُخْرى، فَهِي لا تَخْضَع لِرَئَاسةٍ أَعْلى مِنها تَجمعُها تَحْتَ مظَلَّتها، كَمَا أَعَطَوا الحقَّ لِكُلِّ طائفة لفَهْم وتَفْسيرِ الْكِتابِ الْمُقدَّسِ كَمَا تَرَى، مِمَّا أدَّى إِلى عَدَمِ تَقَيُّد الْبُروتِسْتانت كَثيرًا بِالْعَقَائِد الْمَسِيحيَّة التي ورثوها، وسَاعَدَ ذَلِك عَلى تَفْرِيخ طُوائِف أوْ مَذَاهِب أوْ كَنَائِس جَدِيدةٍ بِاسْتمرارٍ، فَفِي الْولايَاتِ الْمُتَّحِدة الأَمْريكيَّة وحْدَهَا يُوجَدُ أَكثرُ مِن 1300 طَائِفةٍ أوْ مَذهبٍ بُروتِسْتانتي، ولِكُلِّ طَائِفةٍ أوْ مَذهبٍ كَنيسةٌ خَاصَّةٌ بِهَا، والْحَبلُ عَلى الجِرَار([59]).
ويَخْتَلفُ البُروتِسْتانتُ مَعَ الْكَاثُوليك في تحرُّرهِمْ وعَدَم اعْتَرَافِهمْ بِالنُّفُوذ الشَّخْصِي لِرجَالِ الدِّين، وخَلع هَيْمَنةِ رِجَال الدِّينِ عَنْهُم، فَليسَ الأمْرُ عِندَهمْ كَمَا هُو عِندَ الْكَاثُولِيك، يُلاحَظ هَذَا في الْمَنْهَج الْكَنَائِسي التَّالي عِنْدَهُم:
· إلْغَاء مَنْصبِ الْبَابَا مِن كَنَائِسِهم، ولمْ يَعُد لَهُم رِئَاسَة دِينيَّة كَالكَاثُولِيك الَّذِين تَجْمَعُهُم الْكَنِيسة الْكَاثُوليكيَّة في رُومَا.
· حصْرُ صَلاحِيَّات رِجَال الدِّين بِالْوعَظ والإِرْشَاد الدِّيني فَقَطْ، وأُزيلتِ الْقَدَاسَة عَنْهُم.
· السَّمَاح للرُّهْبَان والرَّاهِبات بِالزَّواج، وهَذَا فَرقٌ عَظيمٌ بَينهمْ وبَينَ الرُّهْبانِ الكَاثُولِيك الَّذِين لا يَتَزَّوجُون، وبعض الرهبان البروتستانت يمارسون الشذوذ الجنسي.
· إِلْغَاء قَانُون الاعْتِرافِ بالذُّنُوب أَمَامَ القَسَاوسة طَلبًا لِغُفْرَانِها مِنهم، فِيمَا يُعرَف بـ«سِرِّ الاعْتِراف»، وبعض الطوائف الكبرى تفعله.
· مَنَعُوا الصُّور والتَّمَاثِيل في كَنَائِسِهم، ومَنَعُوا السُّجُود لَهَا، أوْ طَلبَ الشَّفَاعة مِن مَرْيمَ أو القِدِّيسِينَ، لأَنَّهُم يؤمنون بأنها إنْسَانةٌ عَادِيَّةٌ، بِخِلافِ الْمَسِيح، فَهُم لا يَخْتلِفُون عَنِ الكَاثُولِيك في اعْتِقَادِهم فِيه، فَهُم يَعْتِقدُون أنَّه الرَّبُّ وابنُ الرَّبِّ!
أيُّهَا القَارِئُ الْمُثقَّفُ الْعَاقِلُ، وأَيَّتُها الْقَارِئة الْمُثَقَّفة الْعَاقِلةُ، لوْ أَجْرَينَا مُقَارَنةً يَسِيرةً بَينَ الْمَنْهجِ الْبُروتِسْتانتي الَّذِي أَسَّسَه الْبُروتِستانت وبَينَ تَعَاليم الْمَسِيح الأَصْليَّة، هَلْ يَصِحُّ نِسْبَةُ هَذِه الطَّائِفة الْجَدِيدة (الْبُروتِسْتانتيَّة) إِلى دِينِ الْمَسِيح وتَعَالِيمه؟
وإذَا كَانتِ الإِجَابَة نَعَمْ -عَلَى سَبيلِ الافْتِرَاض-، فَلوْ أَجْرينَا مُقَارنةً يَسِيرةً مَرَّة أُخْرَى بَينَ الْمَنْهَج الْكَاثُولِيكي الَّذِي هَرَب مِنْه الْبروتِسْتَانت وبَينَ تَعَاليمِ الْمَسِيح الأَصْليَّة، فَهَلْ يَصحُّ نِسبةُ الْكَاثُوليك أَيْضًا إِلى دِينِ الْمَسِيح وتَعَالِيمه؟
أَتْركُ الإِجَابةَ للْقَارِئ الـمُـتَّـزِن والقَارِئة الـمُـتَّـزِنة.
$ خَلاصَةُ فِي أَثَر الْمَجَامِع الْكَنَائِسيَّة عَلَى دِينِ الْمَسِيح
إنَّ النَّاظِر الـمُـنْصِف إِلَى التَّحْريف الأوَّل عَلى يَدِ بُولِس والَّذِي تَبِعَه عَشْرةُ تَحْرِيفَاتٍ كَنَائسيَّةٍ (لَيَكُون الْمَجْمُوع أَحَدَ عَشَرَ تَحْريفًا عَظِيمًا في رِسَالة الْمَسِيح) لَـيَـرى رَأيَ الْعَين أنَّ الْمَسِيحيَّة الْمُعَاصِرة هِي عِبَارة عَنِ اجْتَهَادات وتحريفات بَشَريَّة لَا تَمُتُّ إِلى الْوحيِّ الإلـٰهيِّ بِصِلَةِ، ولوْ كَانت الْمَسِيحيَّة الْمُعَاصِرة مطابقة لدين المسيح لما احْتَاجَتْ إِلى تَدَخُّل الْبَشرِ كُل هَذَا التَّدخُّل لِفَهْم طَبيعَةِ الْمَسِيح، نَاهِيك عَمَّا تمَّ إدْخَاله مِن قَرَارَاتٍ تُنَافي الفطرة الإنسانية كقانون منع الزواج على القساوسة، وتنافي دِينَ الْمَسِيح نَفْسِه بَلْ تَنْقضُه، مما يدل عَلى أنَّ تلك المجامع هي أَسَاسُ التَّحْريفِ، ثمَّ السُّلْطة الَّتي كَانتْ تَدْعَمُهم بِالقُوَّة لِكِتْمَان الحقِّ، وأَعْظمُ ذَلِك حظرُ سَبْعينَ إْنجيلًا في مَجْمَع نِيقيَة وحَرقُها وإعْدامُ مَن يَتَداولُها، لَا لِشَيءٍ إلَّا لِكُونهَا كَانتْ تُقَرِّر أنَّ اللهَ واحدٌ في ذَاتِه، لَيسَ لهُ ابن.
ولَمَّا كَانتِ الْمَسِيحيَّة عِبَارةً عَنِ اجْتَهَادَاتٍ بَشَريَّةٍ لا تَمتُّ إِلى الْوحي الإِلـٰهيِّ بِصِلةٍ؛ كَانَ نَتِيجَة ذَلِك أن انْقَسَمت هِي نَفْسُها إلى طَوائِف، كُلُّ طَائِفةٍ تَدَّعِي أَنَّهَا هِي الَّتي عَلى الْحَقِّ، وأنَّ الأُخْرَى مُخْطِئةٌ، وهِي:
,1- الْكَاثُولِيك، وهُم الـمَـلَـكـانيونَ أو الـمَـلَـكِـيَّـة.
,2- الأَرْثُوذِكس، ومنهُم الْيَعْقوبيَّة.
,3- البُروتستانت، أي: الـمُـحـتَـجُّون.
,4- الْمَارُونِيُّون أو الْـمَوارِنة.
,5- أَتْبَاع الْمَسِيح حقًّا، وهَؤلاءِ لَيْسَ لَهُم وجُود الآنَ، وهُم الَّذِين كَانُوا يَقُولون: إنَّ الْمَسِيحَ بَشرٌ رَسولٌ، عَبدُ اللهِ ورَسُولُه، وكَلِمتُه أَلْقَاهَا إِلى مَريمَ ورُوحٌ مِنه، لَيسَ ربًّا ولا ابنَ الربِّ، وهَؤلاءِ هُمْ أَتباعُ الْمَسِيح عَلَى الْحَقِيقة، ولوْ أَنَّهُم أَدْرَكُوا النَّبيَّ مُحمَّدًا (صلى الله عليه وسلم ) لآمَنُوا بِه ودَخَلُوا الإِسْلام، لأنَّ الْمَسِيح بشَّرَ بِنبُوةِ مُحمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم ) بَعده، وهَذَا مُثبتٌ في الأَنَاجِيل الْمُعَاصِرة الَّتي كَتَبَها يُوحنَّا وغَيرُه([60])، فَرِسَالةُ مُحمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم ) (وهِي دِينُ الإِسْلام) مَا هِي إلَّا امْتدادٌ لِرسَالة الْمَسِيح الصَّحِيحة، جَعَلنا اللهُ جَميعًا مِنْ أَتْباعِ الأَنْبياءِ، حتَّى نَفوزَ بِرضَا اللهِ ودُخُول جَنَّته.
خَلاصَة فِي المَرَاحِل التَحْريفِية الثمانِية التِي تَعَرض لَهَا دِينِ الْمَسِيح على مَدى عِشرين قَرنًا، منذ رَفْعِه إِلَى السَّمَاء إلى اليوم
$ مِمَّا يَنْبَغِي أنَّ يُعلمَ أنَّ دِينَ الْمَسِيح الأَصْلي يَقُوم عَلى:
,1- عِبَادة اللهِ وحْدَه.
,2- أنَّ الْمَسِيحَ بَشرٌ.
,3- أنَّ الْمَسِيحَ رَسُولٌ.
,4- أنَّ الْمَسِيحَ يُعَلِّمَ النَّاس التَّوراةَ والإِنْجِيلَ.
,5- أنَّ الْمَسِيحَ رَسُولٌ إِلى بَني إسْرَائِيل.
,6- أنَّ الْمَسِيح بَـشَّر بِرَسُولٍ مِنْ بَعْده اسْمُه مُحمَّدٌ، يُتمِّمُ رِسَالةَ الْمَسِيح، ويُصَحِّح التَّحْريف الَّذِي اعْتَرَاهَا، ويَدْعُو النَّاسَ إِلى عِبَادَة اللهِ، بِحَسَب الشَّرِيعة الْمُدَوَّنة في الْكِتَاب الْمَقْدَّس (القُرآن)، ويَدلُّهم إِلى طَريقِ الْجَنَّة ويُحَذِّرُهم مِن الطِّريق الْمُؤدِّي إِلى النَّارِ.
وفي الإِنْجِيل (28) بِشَارةٌ بِالنَّبيِّ مُحمَّدٍ، وهِي مُدونةٌ في الْعَهْد الْقَدِيم والْجَدِيد([61]).
$ بَيْنمَا الْمَسِيحيَّة الْمَعاصِرة مَزيجٌ مِن ثَلاثَة:
,1- بقَايَا مِن دِين الْمَسِيح مَحفُوظة في الأَنَاجِيل الأَرْبَعة.
,2- تَحْريفَاتُ بُولِس والْمُتَمثِّلة في:
أ- دَعْوى أنَّه رُسولٍ مُـعَـيَّن مِنْ قِـبَلِ الْمَسِيح.
ب- دَعْوى أنَّ اللهَ أَوْحَى إِليه إِنْجيلًا.
ت- دَعْوى أنَّ الْمَسِيح إلـٰهٌ (ولَيْسَ نَبيًّا).
ث- دَعْوى أنَّ الْمَسِيح ابنُ اللهِ، وأنَّ الْمَسِيح لَيْسَ بَشَرًا، وأنَّ اللهَ تَجَسَّد فِيه.
ج- عَقِيدةُ الذَّنبِ الأَصْلي أو الْخَطِيئة الأُولَى، والَّتي تَنصُّ عَلى أنَّ الْبَشَر تَوارَثُوا ذَنْب أَبِيهمْ آدَمَ عَبرَ الْقُرون، وأنَّ الله لم يغفرها له.
ح- عَقِيدَة الْفِدَاء، والَّتي تَنصُّ عَلى أنَّ اللهَ أَرْسَل الْمَسِيح (عَلى أنَّه ابنُه) فَادِيًا ومُخلِّصًا للْبَشَر مِنَ الذَّنبِ الأَصْلي.
,3- تَحريفَاتُ الْمَجَامِع الْكَنَائِسيَّة وما لحِقها من تحريفات حتى ظهور طائفة «الْبُروتِسْتَانت»، وهذه التحريفات انْطَلَقتْ مِن بِدَايةِ الْقَرنِ الرَّابِع الْمِيلادِي، وهِي:
أ- مَجْمَع نِيقيَة، وحَصَل فِيه تَرْسِيمُ أُلوهيَّة الْمَسِيح سَنَة 325م، وحَصْرُ الأَنَاجِيل في أَرْبَعة أنَاجِيل مَعَ سِتَّةَ عَشَرَ رِسَالةً، وحَرْقُ مَا سِوى ذَلك مِنَ الأَنَاجِيل والَّتي تَرْبُو عَلى سَبعينَ إِنْجيلًا، ومَنْعُ القَسَاوِسَة مِنَ الزَّواج، مَعَ أنَّ اللهَ لمْ يُحرِّم عَليهمْ ذَلِك.
ب- مَجْمَع الْقُسْطَنطينيَّة الأوَّل، وحَصَل فِيه تَرْسِيم عَقِيدة التَّثْليث سَنَةَ 381م.
ت- مَجْمَع إِفْسِس الأوَّل سَنَةَ 431م، وحَصَل فِيه تَرْسيمُ تَقْسِيم الْمَسِيح إِلى لاهُوتٍ ونَاسوتٍ، وأنَّ الْمَسِيح ذُو طَبيعَتَينِ.
ث- مَجْمَع إِفْسِس الثَّاني سَنَةَ 449م، وحَصَلَ فِيه تَرْسيمُ تَقْسِيم الْمَسِيح إِلى لاهُوتٍ ونَاسُوتٍ، وأنَّ الْمَسِيحَ ذُو طَبيعةٍ وَاحِدةٍ، (خِلافًا لِقرارِ الْمَجْمع قَبْلَه، والَّذِي نَصَّ عَلى أنَّ الْمَسِيح ذُو طَبيعتَينِ).
ج- ظهور فرقة اليعاقبة «الأرثوذكس» عام 453م.
ح- مَجْمَع خليقدونية سَنَةَ 451م، وحَصَلَ فِيه إلْغَاء قَرَار مَجْمعي إِفسس الأوَّل والثَّاني.
خ- نَشْأةُ الْمَذْهب الْمَارُوني عَلى يَدِ بطْريرك أَنْطَاكية سَنَةَ 680م، والَّذِي يَنصُّ عَلى أنَّ للْمَسِيح طَبيعَتينِ ومَشِيئةً وَاحِدةً، وهَذَا الْمَذْهبُ مَحْصورٌ في جَبَلِ لبنان مُنذ ذَلِك الْحِين إِلى الآنَ.
د- انْشِقَاق طَائِفةٍ أَطْلقتْ عَلَى نَفْسِها «الْبُروتِسْتَانت» مِنَ الْكَنِيسة الْكَاثُوليكيَّة، وذَلِك في عَامِ 1517م بِسَببِ ضَجَرِهَا مِن فَسَاد الْقَائِمين عَلى الْكَنِيسة الْكَاثُوليكيَّة، ثمَّ هِجرة معظمها مِن أوربَّا إِلى الأَمْرِيكتَينِ وغَيْرِها بسبب الاضطهاد.
وبِنَاءً عَلى مَا تَقَدَّم فَالدِّين الَّذِي يَسِير عَليه الْمَسِيحيُّون لَيْسَ هُو دِينَ الْمَسِيح الأَصْلي في الْحَقِيقَة، بَل هُو مَزِيجٌ مِنْ شيئين: تَحْريف بُولِس، ثمَّ تَحْرِيف الْمَجَامِع الكَنَائِسيَّة، وما تبعه من نظريات واجتهادات لبعض رجال الدين من المسيحيين، فَتَكَوَّن دِينٌ جَديدٌ لا يَمُتُّ لِدينِ الْمَسِيح بِصِلةٍ أَبَدًا، بَل يُنَاقِضُه في أُصُولِه وفُرُوعِه، وإنَّ تَسَمَّى بِه في الظَّاهِر، فَالْعِبرة بِالْحَقَائِق ولَيْسَ بالْمُسَمَّيات.
$ خَلاصُةٌ عَامَّة
هَذَا الْمُلَخَّص الَّذِي تَقَدَّم ذِكْرُه يُعْتبَر دَليلًا تَاريخيًّا كافيًا عَلَى إِثْبات بُطْلانِ مَقُولَة: (إنَّ الْمَسِيح إلـٰهٌ أو ابنُ الإلـٰهِ)، تَبيَّن فيه للْقَارِئ والقَارِئة الصَّادقَينِ في الْبَحْث عَنِ الْحَقِّ أنَّ الْمَسِيحيَّة الْمُعَاصِرة مِنْ وَضْع الْبَشَر، ولا تَـمُتُّ إِلى تَعَالِيم الْمَسِيح بِصلةٍ، وأن دين المسيح الأصلي قد اندثر، وأن الأَنَاجِيل الأَرْبعة الَّتي كَتَبَها الرِّجَال الأَرْبَعة الَّذِين جَاءُوا بَعْد الْمَسِيح لا تُقِرُّ المسيحية المعاصرة على مبادئها، بل تناقضها، كما قرأنا في هذا البحث المبارك، فَتَبيَّن أنَّ تِلكَ الْعَقَائِد لَيْسَت إلَّا مِن وَضْعِ الْبَشَر، man-made، وأنَّ النَّاس غُلِبوا عَليهَا بِالْحَديدِ والنَّار في عَهْد الأَبَاطِرة الرُّومَان، فاعتنقوها قسرا عنهم، ثم قلَّدهم من بعدهم عبر القرون إلى يومنا هذا، بتأثير المجتمع والوالدَين والكنيسة، ولوْ أنَّ مبادئ المسيحية المعاصرة أصيلة في دين المسيح لَمَّا احْتَاج الإِمْبرَاطُور الرُّومَانيُّ قُسطَنطينُ ومَن بَعْده إِلى عَقْدِ تِلكَ الاجْتِمَاعَات والْمُؤتَمَرات لإقرارها، ثم إرغام الناس عليها، مِمَّا يُوضح بِكُلِّ جَلاءٍ أنَّها ليست من دين المسيح أصلا، وأنَّ دِينَ الْمَسِيح قَدْ أَصَابَه التَّحْريفُ والتَّغْيير، وصَار أُلْعوبةً في يَدِ بُولِس ومَنْ لَحِقَه مِنْ أَبَاطِرة الرُّومَان ورِجَال الْكَنِيسَة، يُغَيِّرُون فِيه كَمَا يَشَاءُون، ثمَّ يَقُولُون كَذبًا وزُورًا: (هَذَا هُو دِينُ الْمَسِيح، وهَذِه هِي الْعَقِيدة الَّتي يَجبُ أنْ يُؤمِن بِهَا جَميع أَتْباع الْمَسِيح)، مَعَ أنَّ الْمَسِيح نَفْسَه لمْ يَـعْـلَمْها ولمْ يُعَلِّمها بَني إسْرَائِيل!
$
الْفَصلُ الرَّابع: الأَدِلَّة القُرآنيَّة عَلَى بُطْلان مَقُولة: إنَّ الْمَسِيح رَبٌّ
الدليل الثلاثون
الدَّليلُ الثَّلاثُون: الدَّلِيلُ الْقُرآني
$ خُلاصَةٌ مُفِيدة فِي بَيانِ حَقِيقَة الْمَسِيح عِيسَى ابنِ مَرْيمَ فِي الْكِتَاب الْمُقَدَّس (القُرآن)
لَمَّا اشْتَدت غُربةُ الدِّينِ، وتَلاشَت آثَار الأَنْبِياء في النَّاس، وتَرَك النَّاس عِبَادَة اللهِ وحْدَه، وعَبدُوا غَيرَه، مِنَ الأَنْبِياءِ والأَحْجَار والصُّوَر وغَيرها، وفي سَنَةِ 570م تَقْريبًا، بَعَثَ اللهُ نَبيَّه مُحمَّدَ بنَ عَبدِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم ) للنَّاسِ كَافَةً، لِيدلَّهم عَلَى الدِّين الصَّحِيح الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِه جَميعَ أَنْبيائِه، بَعَثَه اللهُ إِلى الناس كافة، بَني إسْرَائِيل وغَير بَني إسْرائِيل، الْعَرب وغَيْر الْعَربِ، وأَنْزَل عَليهِ كِتَابَهُ الْمَحْفُوظ مِنَ التَّبديلِ والتَّغْييرِ وهُو القُرآنِ، وَبيَّن فيه للنَّاس حَقِيقةَ الْمَسِيح الَّتي انْقَسَم النَّاس فِيهَا إِلى فِرَقٍ وأَحْزَابٍ وطَوائف، وَقَال فِيه قَوْل الْحَقِّ، وهُو أنَّه بَشَرٌ، ونَبـيٌّ عَظِيمٌ مِن أَنْبياءِ بَني إسْرَائيلَ، فَلمْ يَرْفَعْه إِلى مَنْزِلة الربوبية كَمَا فَعَلَ النَّصَارى، ولمْ يَخْفِضه ويَقُول إنَّه قُتِل وصُلِب وبُصِق في وجْهِه، كَما قَالت الْيَهُود والنصارى، بَل بَيَّن اللهُ في القرآن أنَّه عَصَمَه مِن كَيدِ الْيَهُود لَمَّا أَرَادُوا قَتْلَه، فَرَفَعَه إِليهِ في السَّمَاء في مُعْجِزَةٍ إلـٰهيَّةٍ، وهُو باقٍ فِيهَا ينْتَظِرُ نُزولَه في آخِر الزَّماَن إلى الأرض، لِيَبْقَى فِيهَا حَكَمًا عَدلًا أَرْبَعينَ سَنَةً، ثمَّ يمُوتُ كَمَا مَاتَ غَيرُه مِنَ الأَنْبِياء، ثمَّ يُدْفَن في الأَرْضِ، ثمَّ يَبْعَثه اللهُ يَوْمَ الْقِيامَة كَمَا يَـبْعَث غَيْرَه مِنَ الأَنْبيَاء والْبَشَر.
قَالَ اللهُ في القُرآنِ: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ۗ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾([62]).
فَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَه اللهُ في القُرآنِ عَنِ الْمَسِيح هُو الْقَوْلُ الْفَصْل، لأنَّه رَبُّ الْبَشَرِ، وهُو الْعَلِيم بِأَحْوالِهم، وهُو الْقَوْل الْمُوافِق للْعَقْلِ والْواقِع، فَعِصْمتُه مِنَ الْقَتْل والإِهَانَة مُتوافِقَةٌ مَعَ كَونِه نَبيًّا، ورَفْعُه إِلى السَّمَاء مُتوافِقٌ مَعَ عُلوِّ قَدْرِهِ ومَنْزَلَتِه، والْقَولُ بِأَنَّه بَشَرٌ ولَيْسَ إلـٰهًا ولا ابنًا للهِ مُتَوافقٌ مَعَ الْعَقلِ، لأنَّ كُلَّ الأَنْبياءِ بَشَرٌ كَذلكَ، ولأنَّ اللهَ لَيْسَ بِحَاجَةٍ إِلى ابنٍ، فَهُو الْغَني عَنِ العَالَمينَ، لا يَلِيقُ بِه أنَّ يَخْلقَ الْخَلْقَ ثمَّ يَحْتاج إِلَيهِمْ، وهَذَا وَاضِحٌ -بِحَمْد اللهِ- لِكُلِّ مَن أرَادَ الْحَقَّ وتَجَرَّد لهُ، وصَدَقَ مَعَ اللهِ في الْبَحْث عَنِ الدِّينِ الْحَقِيقيِّ الصَّحِيح.
$ اسْتِطْراد
وقد اهْتمَّ القُرآنُ الْكَريمُ اهْتمامًا بَالغًا بِشَأنِ نَبيِّ اللهِ عِيسَى ابنِ مَرْيمَ عليه السلام ، فَابْتَدَأ قِصَّتَه بِذِكر ولادَةِ أمِّه مَرْيمَ، ونَشْأَتِهَا نَشْأةَ الطُّهْرِ والعَفَافِ والعِبَادةِ والتَّبتُّلِ، ثمَّ ذَكَر إِكْرَام اللهِ تَعَالى لَهَا بَأنْ رَزَقَها غُلامًا بِلا أَبٍ، حَيثُ أَرْسَل لَها أَعْظَمَ الْمَلائِكَة -وهُو جِبريلُ عليه السلام - لِيُبَشِّرَها بِه، وليَنْفُخ فِيهَا فَتْحْمل بِعيسَى عليه السلام ، ثمَّ ذَكَر رِعَايةَ اللهِ لَهَا أَثْنَاء حَمْلِها، ورِعَايته لَهَا أَثْنَاء ولادَتِهَا لهُ، ثمَّ حَدِيثَها مَعَ بَني إِسْرَائِيل لَمَّا اسْتَنْكَروا إِنْجابَهَا للْولَدِ وهي لَيْسَت ذَاتَ زَوجٍ، وكَلام عِيسَى في الْمَهْد بِأَنَّه عَبدُ اللهِ، وأنَّه نَبيٌّ مِن عِندِ اللهِ.
ثمَّ بيَّن القُرآن خَبرَه بَعدَمَا كَبِرَ لَمَّا بَعَثَهُ اللهُ إِلى بَني إسْرَائِيل نَبيًّا مؤيَّدًا بِمُعْجِزاتٍ كَثيرةٍ تَدلُّ عَلى نُبوَّتِه، وأنَّه رَسُولٌ مِنْ عِنْد اللهِ، لِيَعلَمَ النَّاسُ أنَّه لا يَأْتي بِتلكَ الْمُعْجزات إلَّا رَسولٌ أَيَّده اللهُ بِهَا، حالُهُ في هَذَا كَحَال غَيرِه مِنَ الأَنْبِياء، ثمَّ خَتَمَ القُرآنُ أَخْبارَ عِيسى ابنِ مَرْيمَ بِذكْرِ مُحَاولةِ الْيَهُود قَتْلَه، وكَيفَ أَنَّ اللهَ نَجَّاه مِنْهُم بِمُعْجِزةٍ إلـٰهيَّةٍ، لمْ تَحْصُل لِنبيٍّ قَبْلَه، وهِي رفعُهُ إِلى السَّمَاء مُعَزَّزًا مُكرَّمًا، خِلافًا لِمَّا يَعْتَقِده النَّصَارى والْيَهُود فِيه أن الْيَهُود وضعُوا الشَّوك عَلى رأسِه، وصلَبوه، وقتلُوه عَلى خَشبة الصليب، حَاشَاه مِن ذَلِك.
وكَمَا تَقَدَّم، فَقَدْ سَلَكَ الإسْلامُ في الاعْتِقَاد بِالْمَسِيح مَسْلكًا وسَطًا بَينَ الْيَهُودِ والنَّصَارى، فَالنَّصَارى عَظَّمُوه وأَخْرَجُوه مِنْ حَيِّزِ الْبَشَريَّة إِلى حَيِّز الأُلوهيَّة والربوبية، فجميعهم تقريبًا يقولون إنه هو الله، وإنه ابن الله، ومع ذلك فهو واحد من ثلاثة، وبهذا الاعتقاد ناقضوا اعتقادهم الآخر فيه، وهُو أنَّ الْيَهُود قَتلُوه وبَصَقُوا في وجْهه وصَلَبُوه عَلى خَشَبةِ الصَّلِيب، إذْ كَيفَ يَجْتَمع كَوْنُه ربًّا لِهَذَا الْكَوْن أو ابنًا للهِ مَعَ وقُوعِ هذه الإِهَانات العظيمة عليه؟!
أَفَـلا دَافَعَ اللهُ عَنِ ابْنِه، لوْ كَانَ ابْنَه حَقًّا؟!
والْيَهُودُ -عَلى الْجَانِب الآخَر- اعْتَقِدُوا في الْمَسِيح عِيسى ابنِ مَرْيمَ اعْتِقَادًا يُنَاقِض اعْتِقَاد النَّصَارى تَمامًا، فَقَالُوا: إنَّه ابنُ زِنَا (حَاشَاه مِن ذَلِك)، حَسَدًا لهُ أنْ جَعَلهُ اللهُ نَبيًّا، وهُم مَعَ هَذَا لا يُؤمِنُون بِنُبوتِه.
ولَكِنَّ طَائفةً قَليلةً مِنْ أَتْباعِ عِيسَى ابنِ مَريمَ بَقِيتْ عَلى إِيمَانِهَا الصَّحِيح به، وهُم الْحواريُّون، فَبَقُوا مُتَمَسِّكِينَ بِدينه حتَّى بَعْدَ رَفْعِه إِلى السَّمَاء، وهُم بَريئون مِن غُـلُـوِّ([63]) النَّصَارى فيه، وازْدِرَاء الْيَهُود لهُ.
وكما تقدم، فقد جَاء الإِسْلامُ فجَلَّى حَقِيقَة الأَمْرِ، وكَانَ هَذَا بَعْد رَفْعِ الْمَسِيح بِنَحْو سِتَّة قُرونٍ، وذَلِك أنَّ اللهَ رَحـيمٌ بِعِبَادِه، لمْ يَتْرُك بَني إسْرَائِيل يَسِيرون مُضْطَربينَ بِلا هِدَايةٍ ولا إرْشَادٍ، بل أَرسلَ نَبيَّه مُحمَّدًا إِلى جَميعِ النَّاسِ، بَني إسْرَائيلَ وغَير بَني إسْرَائِيل، وأَنْزلَ عَليه القُرآنَ، وتَكَفَّل بِحفْظِه مِن التَّحْريفِ والتَّبديل الَّذِي طَرَأَ عَلَى التَّوراة والإِنْجِيل، والَّذِي تَسَبَّبَ في اضْطِراب عَقِيدَة الْمَسِيحيينَ في الْمَسِيح نَفْسِه، واخْتِلافِهم في فَهْمِ طبيعته، فَبيَّن القُرآنُ حقيقته، فَلمْ يَدَع شُبْهةً إلَّا أَزَالها، ولا حَقِيقَةً إلَّا أَبَانَهَا، وبَيَّن أنَّه بشر كَغَيره مِن البَشر، ونَبيٌّ عَظـيمٌ مِنْ أَنْبِياءِ بَنـي إسْرائِيلَ، أَرْسَله اللهُ لَيَأْمُرَهم بِعبَادَةِ اللهِ وحْدَه وتَرْكِ عِبَادَة مَا سِواه، وأَنْزَل مَعَه الإِنْجِيل فِيه هُدًى ونُورٌ، ونَهَاهُم عَنْ عِبَادَة مَا سواه، وبَـيَّن القُرْآنُ أنَّ اللهَ نَسَخَ شَرِيعةَ الْمَسِيح ومَنْ قَبْلَه مِنَ الأَنْبِياء بِشَريِعَةِ الإسْلامِ، وجَعَلَها مُهَيمِنَةً عَلى مَا قَبْلِها مِنَ الشَّرَائِع، وحَفِظَ دُسْتُورَها وهُو الْقُرْآن مِنَ التَّحْريفِ والضَّياع.
وقدْ أَنْكَرَ اللهُ سُبْحَانه في القُرْآنِ الْكَرِيم اتِّخَاذ اللهِ وَلَدًا في قَوْلِه سُبْحَانه: ﴿ لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا﴾([64]).
وقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ اسْمِ عِيـسَى في القُرآنِ (25) مرةً، ووَرَدَ ذِكْرُه بِوصْفِه (الْـمَسِيح) (9) مراتٍ، كَمَا وَرَدَ ذِكْرُ اسْمِ أُمِّه مَريمَ (31) مرةً، كُلُّها في مَقَام الاحْتِرامِ والتَّعْظِيم والتَّبجِيل اللَّائِق بِأَمْثَالِهما مِن الْبَشَر، دُونَ اعْتِقَادٍ أنَّ لَهُما شَيْئًا مِنْ صِفَات الرُّبوبيَّة أو الألوهيَّة، بلْ همَا بَشَرٌ مِثلنا، يَعْبُدانِ اللهَ كَما نَعْبدُه نَحْنُ، ويَرْجُوانه الْجَنَّة والنَّجَاةَ مِن النَّارِ كَمَا نَرْجُوه نَحنُ.
لَيسَ هَذَا فَحَسْب، بَل قَدْ جَاءَ وصْفُ عِيسَى بَأَنَّه مِن أُولي الْعَزْم مِنَ الرُّسِل، والْعَزْم هو الصَّبرُ والْحَزمُ.
وأُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسل هُم أَعْظَم الرُّسُل، وهُم خَمْسَةٌ: (نُوحٌ وإبْراهِيمُ ومُوسَى وعِيسَى ومُحمَّدٌ)، صَلواتُ اللهِ عَليهمْ جَميعًا.
$
$ وَصْفُ الله للمسيح بأنه (كلمة الله) وأنه (روحٌ منه)، وبيان معنى ذلك
وَصَفَ الله المسيح في عدة آيات من القرآن الكريم بأنه كلمةُ الله ورُوحٌ منه، وهي قوله تعالى:
﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلً﴾([65]).
وقال الله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾([66]).
وقال الله تعالى: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا ﴾([67]).
كما جاء وصف المسيح عيسى ابن مريم بأنه كلمة الله وروح منه في كلام النبي محمد (صلى الله عليه وسلم ) ، فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ محمد (صلى الله عليه وسلم ) قَالَ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ؛ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَل»([68]).
وفي رواية: «... أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء»([69]).
ومعنى كون المسيح كلمة الله هو أن المسيح عيسى ابن مريم خلقه الله بكلمةٍ تكلم الله بها فكان بها عيسى في بطن أمه من غير أب، وهي كلمة (كُن)، فكان عيسى في بطن أمه، فهذه هي الكلمة الَّتِي خُلِقَ بها عيسى وَوُجِدَ، وهذا الإعجاز الرباني في الخلق مماثل لخلق أبينا آدم، فقد خلق الله أبانا آدم بكلمة (كن)، فكان آدم، ولم يكن له أم ولا أب، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾([70]).
وأما معنى وصف الله للمسيح بأنه (رُوحٌ منه)؛ أي أن روح المسيح مبتدؤها من عند الله لأنه خالقها، فهي من الأرواح التي خلقها الله تعالى، كروح غيره من الناس.
ومن كانت رُوحه مخلوقة فلا يمكن أن يكون ربا، لأن الرب لا يكون مخلوقًا بل خالقًا.
وفي إضافة الكلمة إلى الله في وصف المسيح بأنه (كلمة الله)، وكذلك في إضافة الروح إلى الله في وصف المسيح بأنه (روحٌ منه)؛ تنويه إلى شرف المسيح، حيث أضاف الله الكلمة والروح إلى ذاته المقدسة.
وهَذَا الْحَمْل حَصَلَ في رَحِـمِ مَرْيمَ مِنْ أمٍّ بِلا أَبٍ كما تقدم، وهُو أَمْرٌ هَـيِّـنٌ عَلى اللهِ، والْحِكْمة مِنْ خَلْقِه بِهَذِه الصُّورة أنْ يَكُون في هَذَا دَلالةٌ وعَلامةٌ للنَّاس عَلى أمرين:
الأول: كمال قَدْرةِ اللهِ الَّذِي نَـوَّع في خَلْقِهم، فَخَلَقَ أبَاهُم آدَمَ مِن غَيْرِ ذَكَرٍ ولا أُنْثَى، وخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ذَكرٍ بِلا أُنْثَى، وخَلَقَ بَقيَّة الذُّريَّة مِنْ ذَكَرٍ وأُنْثَى، إلَّا الْمَسِيح فإنَّ الله خلقه مِنْ أُنْثَى بِلا ذَكَرٍ، فدل ذلك عَلى كَمَالِ قُدْرةِ اللهِ وعَظِيمِ سُلْطَانِه، ولَيْسَ هَذَا عَلى اللهِ بِعَزِيزٍ، فَخَلْقُ السَّمَاواتِ والأَرْضِ أكبر مِن خَلْقِ النَّاسِ ولَكِن أَكْثَر النَّاس لا يعلمون.
فَاللهُ قَادرٌ عَلى أنْ يَخْلقَ بَشرًا مِنْ ذَكَر وأُنْثَى، كَمَا هُو حَالُ سَائِر الْبَشَر، وقَدْ يَخْلقُ مِن غَيْرِ ذَكرٍ وأُنْثى، كَحَال أَبِينا آدَمَ، وقَدْ يَخْلقُ مِنْ ذَكَرٍ بِلا أُنْثَى، كَحَال أُمِّنَا حَوَّاء الَّتي خَلَقَها اللهُ مِن ضِلَع آدَم، وقَدْ يَخْلقُ مِن أُنْثَى بِلا ذَكَرٍ، كَحَال الْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيمَ، وقَدْ يَخْلق مِنَ الرَّجُل الْكَبيرِ ومِنَ الأُمِّ العَاقرِ، كَحَال الأَنْبياءِ إبْرَاهِيم وزَكَريَّا، وقَدْ لا يَخلُق مِنَ الذَّكَر والأُنْثَى شَيئًا، لا ذَكَرًا ولا أُنْثَى، كَحَالِ مَنْ بِه عُقمٌ، وقَد يَخْلقُ مِن الزَّوجِين ذُكورًا بِلا إنَاثٍ، وقَدْ يَخْلقُ مِنْهُمَا إنَاثًا بِلا ذُكورٍ، وقَدْ يَخْلق مِنْهُما ذُكورًا وإنَاثًا ، فَاللهُ قَادرٌ عَلى كُلِّ شَيءٍ جل وعلا ، إذَا أَرَادَ شَيئًا فَإِنَّمَا يَقُول لهُ: (كُنْ) فَيَكُون ذلك الشيء، كَمَا قَالَ اللهُ في القُرآنِ: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾([71]).
وَقَالَ الله تَعَالَى: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۖ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ 116 بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾([72]).
فالمشيئة الإلـٰهية المطلقة هي الحكمة الثابتة في الآيات التي بَشَّر الله بها مريم بولادة عيسى، كما قال الله تعالى عن مريم أنها قالت: قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾، ومع مشيئة تكون قدرته جل وعلا ، ولهذا قال بعدها ﴿ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾([73]).
ومن المعلوم أن كلَّ مخلوقٍ خلقه الله في الكون سواء كان هذا المخلوق تابعًا للنظام الطبيعي في الخلق أو مختلف عنه (مثل آدم وحواء وعيسى) فإنه يدل على عظمة الله جل وعلا الذي أوجده من العدم، وقد أمر الله بالتفكر في هذه الحقيقة الهامة فقال ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾([74])، ومعنى الآية الكريمة:
وفي خلق أنفسكم دلائلُ على قدرة الله تعالى، وعِبرٌ تدل على وِحدانية خالقكم، وأنه لا إلـٰه لكم يستحق العبادة سواه، أغَفَلتم عن هذا، فصِرتم لا تبصرون حكمة الرب وغايته من الخلق؟!
الثاني: أن خَلْقَ المسيح عيسى ابن مريم بهذه الطريقة -من أمٍّ بلا أب- دليل على نبوته، فقد أيَّده بمعجزات كثيرة دلت على نبوته، أولها خلقه بهذه الطريقة، ثم إيتاؤه الإنجيل، ومعجزات أخرى.
$ فـائــدة
ذكر الله في القرآن أن أبانا آدم خلقه الله من روحه، وذلك في آيتين من القرآن وهما قوله تعالى عن آدم:
﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ﴾([75]).
وفي الآية الأخرى جاء ذِكر ذلك أيضًا في قصة أمر الله الملائكة بالسجود لآدم تحية له وتكريمًا، وذلك في قوله تعالى:
﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾([76]).
$ فـائـدة أخــرى
جاء في القرآن وصفُ النبي يحيى بن زكريا بأنه صَدَّق بالمسيح عيسى ابن مريم، وعبَّر في ذلك السياق عن المسيح بوصفه (كلمة من الله)، وذلك في قوله تعالى عن النبي زكريَّا:
﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾([77]).
ومعنى الآية أن يحيى صدَّق بكلمة من الله وهو المسيح، فهو أوَّلُ من آمن بالمسيح رحمه الله وصدَّقه.
$
وختامًا، فإن الإيمان بالمسيح على هذا النحو هو الإيمان المقبول، فمن لم يحصل منه ذلك فقد خالف أمر الرب، وعصاه، وكفر به، واستحق دخول النار، لأنه رد خبر القرآن العظيم.
المَكَانة العَظِيمة للمسِيح وأمه فِي دين الإسلَام
لقد ورد ذكر اسم النبي عيسى عليه السلام في القرآن خمسًا وعشرين مرة، كما ورد ذكره باسم (المسيح) تسع مرات، بينما لم يُذكر اسم النبي محمد (صلى الله عليه وسلم ) في القرآن إلا أربع مرات.
وقد ورد ذِكر عيسى عليه السلام في القرآن بعِدَّة ألقاب ومسمَّيات وهي: عيسى ابن مريم، ابن مريم، المسيح، عبد الله، رسول الله.
كما ورد ذكر اسم أمه (مريم) إحدى وثلاثين مرة في القرآن، بينما لم يُذكر في القرآن اسم واحدة من بنات النبي محمد (صلى الله عليه وسلم ) أو زوجاته.
كما يجدر التنبيه إلى أن (مريم) قد سُمِّيت باسمها إحدى سور القرآن، بينما لم تُسَمَّ سورة واحدة باسم إحدى بنات النبي محمد (صلى الله عليه وسلم ) أو زوجاته.
وقد وَرَدَت كل تلك التسميات للمسيح وأمه في القرآن في مقام الاحترام والتعظيم والتبجيل اللائق بهما، دون اعتقاد أن لهما شيئًا من صفات الربوبية أو الألوهية، بل هما بشر مثلنا، يَعبُدَانِ اللهَ كما يعبده غيرُهم، ويرْجُوانه الجنةَ والنجاةَ من النار كما يرجوه غيرهم.([78])
وقد بين الإسلام أن المسيح كان على دراية كبيرة بالدين الذي نزل عليه، رغم أنه لم يَدرس على علماء اليهود، وما ذاك إلا لأن الله علمه بالوحي، ثم علم المسيح تلاميذه، ثم أرسلهم للناس ليعلموهم ما تعلموه منه.
$
الْفَصلُ الْخامسُ: مُلْحقٌ فِيه فوائدُ عَامَّةٌ
الْفِهْرسْت
,1- سُورةُ الإِخْلاصِ مِنَ الْكِتَاب الـمُـقَـدَّس (القُرآنِ الْكَريم).
,2- آيةُ الكُرسِي مِنَ الْكِتَاب الـمُـقَـدَّس (القُرآنِ الْكَريم).
,3- نُبذةٌ عَنْ عَقَائدِ الرُّومَان.
,4- قِصَّةُ مَريمَ الْعَذْراء وابْنها الْمَسِيح عِيسَى ابنِ مَرْيمَ.
,5- شُبهةٌ والْجوابُ عَليهَا.
,6- فَائدةٌ في مَعْنى كَلِمَة (ابنِ اللهِ) الْوارِدَة في بَعْض الأَنَاجِيل.
,7- فَوائِد عَامَّة.
,8- هَمَسَاتٌ إِيمَانيَّةٌ مِنَ الْقَلْبِ إِلى القَلْبِ.
$
الْمُلْحَق الأوَّل: سُورَة الإِخْلاصِ مِنَ الْكِتَاب الـمُـقَـدَّس (القُرآن الْكَرِيم)
قَالَ اللهُ فِي الْقُرآنِ الْكَريمِ: ﴿قلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾([79]).
$ تَفْسِيرُ السُّورة
﴿ قلْ ﴾؛ الْمُخَاطَب بِهَذِه الآيةِ هُو النَّبيُّ مُحمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم ) ، يَقُول اللهُ لهُ: قُل أَيُّهَا الرَّسُولُ لِكُلِّ النَّاسِ:
﴿هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾؛ أيْ: هُو اللهُ الْمُتَفرِّد بِالأُلوهيَّة والرُّبوبيَّة والأَسْماء والصِّفَات، لا يُشَارِكه أَحدٌ فِيها.
﴿ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾؛ أي: الَّذِي تَصْمُد لهُ جَميعُ الْخَلائقِ وتَطلبُ مِنه حَاجَاتِها.
﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾؛ أي: لَيسَ لهُ ولدٌ ولا والدٌ ولا صَاحبةٌ، لأنَّ هَذِه صِفَات الْمَخلُوقِين، أمَّا اللهُ فَلا يُشْبهه شَيءٌ، ولَيسَ كَمثلهِ شَيءٌ، وهَو أَعلمُ بِنَفْسِه مِن غَيرِه.
﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾؛ أيْ: لَيسَ لهُ مُمَاثلٌ ولا شَبيهٌ، لا في أسْمائهِ ولا في صِفَاته ولا في أَفْعاله، تَبَارك وتَعَالى وتَقَدَّس.
وقَدْ أَنْزلَ رَبُّ العَالمينَ هَذِه السُّورة الْقَصِيرة في طُولها، الْعَظِيمة في مَعَانِيها، للرَّدِّ عَلى ثَلاثِ طَوائفَ:
الأُولَى: الْمُشْرِكين الَّذِين كَانُوا في عَهْد النَّبيِّ مُحمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم ) الَّذِين قَالُوا: إنَّ الْمَلائِكة بَناتُ الله.
الثَّانِية: الْيَهُود الَّذِين قَالُوا: عُـزيرٌ ابنُ اللهِ.
الثَّالِثة: النَّصَارَى (الْمَسِيحيونَ) الَّذِين قَالُوا: إنَّ الْمَسِيح ابن اللهِ.
فَنَفَى اللهُ عنْ نَفْسِه هَذِه الصِّفَات؛ (الْولادَة والمِثلِـيَّة) نفيًا قَاطعًا.
وقَدْ قَالَ النَّبيُّ مُحمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم ) : «قَالَ اللهُ تَعَالى: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ.
فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَولُهُ: (لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي)، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ.
وأمَّا شَـتْمُهُ إيَّايَ فَقَوْلُه: (اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا)، وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَي كُفُوًا أَحَدٌ». انتهى الحديث.
أَسَألُ اللهَ أنْ يَجْعَلَني وإيَّاكُم مِمَّن قَرَأَ القُرْآنَ فَكَان هَادِيًا لهُ إِلى الفَلاحِ والرَّشَاد، وفي الآخِرة قَائِدًا لهُ إِلى الْجَنَّة.
الْمُلْحَقُ الثَّانِي: آيةُ الْكُرْسِي مِنَ الْكِتَاب الـمُـقَـدَّس (القُرْآنِ الْكَرِيم)
الْواجِبُ هُو تَعْظِيم اللهِ وتَنْزِيهُه عنْ مُشَابَهَة خَلْقِه، أوْ حُلُولِه فيهم واتحاده معهم، فَاللهُ هُو اللهُ، والْمَسِيحُ هُو الْمَسِيحُ، اسْتَمِع أيُّهَا القَارئُ الْكَريم وأيَّتُها القَارئةُ الْكَريمةُ إِلى بعض صِفات اللهُ المذكورة في أَعْظَم آيةٍ في الْقُرآن, والَّتي تُـسمَّى آيةُ الكُرْسيِّ:
﴿ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾([80]).
فَهَذِه الآيةُ الْكَريمةُ هِي أَعْظمُ آيَاتِ الْقُـرآنِ وأَفْضَلُها وأَجلُّها، وذَلِك لِمَا اشْتَملت عَلَيه مِن صِفَات اللهِ الْكَريمةِ، فَلِهَذَا ورَدَتِ الأَحَادِيثُ في التَّرْغِيب في قَراءَتِهَا، وجَـعْـلِها وِردًا للإنْسَان يَقُولُها صَبَاحًا ومَساءً، وعِند نُومِه وأدْبَارِ الصَّلَوات الْمَكْتُوبات.
فَقَولُه: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ﴾؛ أيْ: لا مَعْبودَ بحقٍّ سِواه، فَهُو الإلـٰهُ الحقُّ الَّذِي تَتَعيَّـن أنَّ تَكُون جَميعُ أَنْواعِ الْعـبادَةِ والطَّاعَة والتَّألُّه لهُ جل وعلا ، لِكَمَاله وكَمَال صِفَاته وعَظِيم نِعَمِه، فَيَجِبُ عَلى الإِنْسَان أنْ يَكُون عبدًا لِرَبِّه، مُمْتَثلًا لأوامِره، مُجْتنبًا لِنَواهِيه، معتقدًا اعتقادًا جازمًا أن كُلُّ مَا سِوى الله تَعَالى فِعَبَادَته بَاطلةٌ، لأنَّ كُلَّ مَا سِوى اللهِ فَإنَّه مَخْلوقٌ نَاقصٌ مُدبَّرٌ فَقيرٌ مِنْ جَـمِيع الْوجُوه، لا يَسْتَحِقُّ شَيئًا مِنْ أَنْواعِ اْلعِبَادة، سَواءٌ كَانَ بَشَرًا أوْ جَمادًا، نبيًّا أوْ حَجَرًا أوْ صَليبًا أوْ شَمْسًا أوْ قَمَرًا أوْ قَبرًا أوْ غَيرَ ذَلِك.
قَولُه: ﴿ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾؛ هـٰذانِ الاسْمانِ الْكَريمانِ هُما مِنْ أَعْظمِ أَسْماءِ اللهِ جل وعلا ، فَإِنَّ للهِ تَسْعةً وتَسِعينَ اسْمًا، وهـٰذَانِ الاسْمَانِ يَدلَّانِ عَلى سَائِر الأَسْماءِ الْحُسْنَى، فَالْحيُّ: هُو مَن لهُ الْحَياةُ الْكَامِلةُ الْمُسْتَلْزِمَة لْجَمِيع صِفَات الذَّاتِ، كَالسَّمِع والْبَصر والْعِلم والقُدْرة ونَحو ذَلِك، والْقَيومُ: هُو الَّذِي قَامَ بِنَفْسِه وقَامَ بِغَيرِه، وذَلِك مُسْتَلزمٌ لِجَمِيع الأَفْعَال الَّتي اتَّصَف بِهَا رَبُّ الْعَالِمين؛ كَالْخَلقِ والرِّزْقِ والإِمَاتةِ والإِحْياءِ وسَائر أَنْواعِ التَّدبيرِ، فَكُلُّ ذَلك دَاخِلٌ في قـيُّومِـيَّـة اللهِ جل وعلا .
قَولُه: ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾؛ السِّـنَـةُ هِي النُّعَاس، والنَّوم مَعْروفٌ، ومَعْنَى الآيةِ: أنَّ اللهَ لا يَعْتَريه النَّوم ولا مُقَدِّمَاته، لأنَّ النَّوم صِفةُ نَقْصٍ، وهُو لا يَحْصُل إلَّا بَعْد تَعَبٍ، والتعب صِفَةُ نَقصٍ أيْضًا، وصِفاتُ النَّقْصِ يَـتَـنـزَّه اللهُ عَنِ الاتِّصَاف بِها، بَلْ هُو الْمُتَّصفُ بِصِفَات الْكَمَال، لا يَعْتَريه نقصٌ بَوجهٍ مِنَ الْوجُوه، كَما قَالَ اللهُ عَنْ نَفْسِه: ﴿ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ ۖ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾([81])، وقَالَ في آيةٍ أَخْرى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ۚ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾([82]).
﴿ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾؛ أيْ هُو الْمَالِك لِكُلِّ شَيءٍ في هَذَا الْكَوْنِ، وكُلُّ مَا سَواهُ مَمْلوكٌ لهُ، فَالسَّمَاواتُ والأرَضُ ومَا بَيْنَهُما مِن شمس وقمر ونجوم وجِبالٍ وبحارٍ وبَشَرٍ وحَيوانَاتِ فَكُلُّها مَمْلوكةٌ لهُ، يَدبِّرُها اللهُ ويُـنفِّذ مَشِيئتهُ فِيهَا كَمَا شَاءَ، وهُو مَعَ هَذَا رَحيمٌ بِهم جل وعلا ، يَرْزقُهمْ ويُجِيبُ دُعاءَهُم ويَدلُّهم عَلَى الطَّرِيقِ الْمُوصِل لِجَنَّته، لَيسْلُكُوه، ويُبيَّن لَهم الطَّرِيق الَّذِي يُؤدِي إلى النَّار، لَيَجْتَنِبوه.
قَوْلُه: ﴿ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾؛ أيْ: لا أَحَد يَشْفَعُ لأحَدٍ يَوْم الْقِيامَة بِدُونِ إِذْنِه، لأنَّ الشَّفَاعَة كُلَّها مِلكٌ للهِ تَعَالى، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أنْ يَشْفَع لأَحَدٍ يَوم الْقِيامَة في دُخُولِ الْجَنَّة فَإِنَّه يَسْتَأْذِن اللهَ أَوَّلًا، فَإِذَا أَذِن اللهُ لهُ بِالشَّفَاعَة اسْتَأْذَن مِنْه في قَبُول شَفَاعتِه لِفُلانٍ مِنَ النَّاس أنْ يُدْخِلَه الْجَنَّة، فَإِنْ قَبِل اللهُ شَفاعَتَه دَخَل الْمَشْفُوع لهُ الْجَنَّة، وإنْ لمْ يَقْبلْ لمْ يَدْخُل، وفي هَذَا إشَارةٌ إلى ظُهُور مِلْكِ اللهِ يَوْمِ الْقِيَامَة وانْقِطَاع جَمِيع الأَمْلاكِ.
ثمَّ قَالَ: ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ۖ ﴾؛ أيْ: يَعْلمُ مَا مَضَى مِنَ الأُمُور، ﴿ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾؛ أيْ: يَعْلم مَا سَيَحْصل في الْمُسْتَقبل، فَعِلْمه تَعَالى مُحيطٌ بِتَفَاصِيل الأُمُور، مُتَقدِّمِها ومُتَأخرِهَا، ظواهرها وبواطنها، والْعِبَاد لا يعلمون شيئًا إلَّا مَا عَلَّمهُم اللهُ جل وعلا ، ولِهَذا قَالَ: ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾.
قَوْله: ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ ﴾؛ الْكُرسِي: هُو مَوْضِع قَدَمِي الرَّبِّ جل جلاله ، ولَا يَعْلم كَيفيَّته إلَّا اللهُ سُبْحَانه، لأنَّه مِنَ الْغَيبِ الَّذِي لمْ نطَّلِع عَليه، فَيَجِب الإِيمَان بِه كَمَا أَمَرَ اللهُ بِذَلِك.
وَوَصْفُ الْكُرْسِي بِأَنَّه وَسِع السَّمَاوات والأَرْضَ يَدلُّ عَلى كَمَال عَظَمَةِ اللهِ جل وعلا وسِعَة سُلْطَانه، ولكنَّ الْكُرسِي لَيْسَ أَكْبرَ مَخْلُوقَات اللهِ تَعَالى، بَلْ هُنَاك مَا هُو أَعْظَم مِنْه وهُو عَرْشُ الرَّحمـٰن، الَّذِي اسْتَوى عَلَيه اللهُ وارْتَفَع، وهُو مِن الْغَيبِ أَيْضًا، وقدْ أَشَار اللهُ إِلى عَظَمتِه في قَوْلِه: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾([83])؛ أيْ: عَلا وارْتَفَع، والْعَرشُ -في اللُّغَة الْعَربيَّة- هُو سَريرُ الـمُلْك.
قَوْلُه: ﴿ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ ﴾؛ أيْ: لا يُـثـقِـلُه ولا يُتعِبُه حِـفظُ السَّمَاواتِ والأَرْضِ وتَدْبيرُ أَمْرِها وأُمور عِبَادِه وسَائِر مُخْلوقَاته، فهُو الْمَالِك الْخَالقُ الْمُدَّبر، وهَذَا هُو الْمَعْرُوف بِتَوْحِيد الرُّبوبيَّة، وتَوحِيد اللهِ في رُبوبيَّته عَلى خَلْقِه يعْنِي اعْتِقَاد تَفرُّدِه بِأَنَّه الْمَالِك الْخَالق الْمُدَبِّر، ومِنْ ذَلِك حِفْظ السَّمَاوات والأَرْض.
· قَوْله: ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ ﴾؛ أيْ: هُو الْعليُّ بِذَاتِه فَوْقَ عَرْشِه، والعَليُّ بِقَهْره، فلا يستطيع أحد رد أمر أمره، والعليُّ بِقَدْره لِكَمَال صِفَاته، فَلهُ الْعُلوُّ الْمُطْلَق مِن هَذِه الْوجُوه الثَّلاثة.
· قَولُه: ﴿ الْعَظِيمُ ﴾؛ أي: هُو الْعَظِيم الَّذِي يَتَضاءَل عِنْد عَظَمتِه جَبرُوت الْجَبابِرة، وتَصْغُر في جَانِب جَلالِه أُنوف الْمُلُوك القَاهِرة، فَسُبْحانَ مَنْ لهُ الْعَظَمَةُ والْكِبرياءُ، والقَهْرُ والغَلبةُ عَلى كُلِّ مَنْ في الأَرْضِ والسَّمَاء.
· وكَمَا تَقدَّمَ، فَهَذِه الآيةُ الْكَرِيمة أَعْظمُ آيَاتِ القُرآنِ وأَفْضلُها وأَجلُّها، وذَلِك لِمَا اشْتَمَلتْ عَليهِ مِنَ الأُمُور الْعَظِيمَة والصِّفَات الْكَرِيمة، فَقَدِ اشْتَملت هَذِه الآيةُ عَلى عَشرةِ أُمورٍ:
,1- الأَمْر بِتَوْحِيد الْعِبَادَة لله وحده، كما في قوله: ﴿ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ﴾.
,2- تَوْحِيد اللهِ في رُبوبيَّته عَلى خَلْقِه، كما في قوله: ﴿ الْقَيُّومُ ﴾، ﴿ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾.
,3- تَوْحِيد الله في أَسْماءِه وصِفَاته، كما في قوله: ﴿ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾.
,4- تَنزِيه اللهِ عَنْ صِفَات النَّقصِ ومُشَابَهَة الْمَخْلُوقِين، كما في قوله: ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾.
,5- بَيانُ إحَاطةِ مُلْكِه، كما في قوله: ﴿ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾.
,6- ظُهُور مِلْكِ اللهِ يَوْم الْقِيَامة وانْقَطاعُ جَميعِ الأَمْلاك، كما في قوله: ﴿ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾.
,7- بَيانُ إِحَاطةِ عِلْمِه، كما في قوله: ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ ﴾.
,8- بَيانُ أنَّ الْعِبَاد لَيسَ لَهُمْ شَيءٌ مِنَ العِلمِ إلَّا مَا علَّمَهُم اللهُ جل وعلا ، كما في قوله: ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾.
,9- سَعةُ كرسي اللهِ الذي هو موضع قدمي الرب جل وعلا ، كما في قوله: ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾.
,10- فهَذِه الآيةُ بِمُفْرَدِها تُعْتَبر عَقِيدةً شَامِلةً لأسَماءِ اللهِ وصِفَاتِه، مُتَضِمِّنةً لِجَمِيع الأَسْماءِ الْحُسْنى والصِّفَات العُلا، فَلِهَذا كثُرت أَحَادِيثُ النَّبيِّ مُحمِّدٍ (صلى الله عليه وسلم ) في التَّرغِيب في قِراءتِها، وجَعْلِها وِردًا يَقُولُه الإِنْسَانُ في الصَّباحِ والْمَسَاءِ، وعِنَدَ نَوْمِه وبَعْدَ الصَّلوات.
$
الْمُلْحَق الثَّالث: نُبْذَةٌ عَنْ عَقَائِد الرُّومَان([84])
الرُّومَان شُعوبٌ ضَالَّةٌ تَائِهةٌ، لا تَعْرفُ الرَّبَّ الْحَقِيقيَّ (اللهَ)، ولا تُؤمِنُ بِرَسُولٍ، تَعِيشُ كَما تَعِيش الْبَهَائِمُ، بَل الْبَهائمُ خَيرٌ مِنْهَا، لأنَّ الْبَهَائمَ تَعْرفُ رَبَّهَا في فِطْرَتِهَا، أَمَّا هُمْ فَلا، فَقَد كَانَ الرُّومَانيُّ يَعْتَقدُ أنَّ الْكَوْن مِنْ حَوْلِه خَاضعٌ لِقُوى جَبَّارةٍ، قَديمةِ الْوجُودِ، غَيرِ مَرئيةٍ، يَظْهرُ نَشَاطُها في الظَّواهِر الطَّبيعيَّةِ؛ كَهُبوبِ العَواصفِ والرِّيَاح، ونُزُولِ الأَمْطَار، ولَمَعاِن الْبَرقِ في اللِّيل فيُـبدِد ظَلامَه، وصَوتِ الرَّعْد والصَّواعِق الَّتي تَصمُّ الآذَانَ، وغُروبِ الشَّمْس ومَا يَنْتجُ عَنه مِن قُدومِ اللَّيل وظُهورِ القَمرِ والنُّجُوم، ثمَّ شَرُوقِها ومَا يَنْتجُ عَنه مِن تَبدُّد الظَّلام، وتَتَابعِ الفُصُول، ونُمو الْحَيوانَات والنَبات ونَشْأةِ الإنْسَان، ومَا يَطرأُ عَليه مِن تَطَوراتٍ في الْخِلقَة مِن ضَعفٍ إِلى قُوَّة ثمَّ ضَعفٍ.
فَكانَ الإِنْسانُ الرُّومَانيُّ يُطلقُ عَلى هَذِه القُوى اسْمَ «الأرْواح النَّشِطة» أوْ «الآلِهَة».
وكَان عَددُ هَذِه الآلِهَة في نَظَرِ الرُّومَان كَبيرًا جدًّا، فَهُنَاك عَلى سَبيلِ الْمِثَال آلهةٌ لِحِرَاسَة الْمَنْزِل والْمَزْرَعة، وآلِهةٌ للغَابَات، وآلهةٌ تُهَيْمِن عَلى الظَّواهِر الطَّبيعيَّة الثَّائِرة؛ كَـهَـيَجانِ الْبَحْر وفَيضَانِ الأنْهَار وهُبوب الْعَواصِف ونَحْوِها، وآلهةٌ للعَسْكَر، وهَكَذا.
وكَانتْ عَلاقةُ الشَّخصِ الرُّومَانيُّ بآلهتِه عَلاقةً مَادِيَّةً بحْتَةً، لِأنَّه يَعْتَقدُ مَنْفَعتَها لهُ في مِهْنَتِه، فكَانَ يُقدِّم القُرابينَ لَهَا والذَّبَائِح، لِكَي يَنَال رضَاهَا -بِحَسَب اعْتِقَاده- ثمَّ مَعُونتها لهُ، لِيَحصُل عَلى رِبْحٍ وفِيرٍ في مِهْنَتِه، مُزَارِعًا كَانَ أوْ صَانعًا، أوْ رجلًا عَسكريًّا يُريدُ النَّصْر في حُرُوبِه، أوْ غَير ذَلِك.
وقَدْ كَانَ للرُّومَان عِدةُ مَعْبوداتٍ لَهَا صُورٌ بَشريةٌ، خُصُوصًا تِلْك الَّتي كَانت تُعبد رَسْميًّا مِن قِـبَل الدَّولة الرُّومَانيَّة، مِثل (جوبيتر) الَّذِي كَان أَعْظمَ الآلهةِ عِنْدَهُم، و(منيرفا) الَّتي كَانُوا يَعْتَقِدون أنَّهَا تَـهِبُ الَّذين يَعْمَلُون بِعُقُولِهم وأيْدِيهم الْمَهَارَة في الْعَمل، و(ساتورونس) آلهةُ الزِّرَاعة، وهَـلُـمَّ جرَّا.
وكَانَ الرُّومَان يَعْتَقِدون أَّنَّهُم كُلَّمَا زَادَ عَددُ العَابِدينَ لآلهةٍ مُعيَّنةٍ فَإِنَّهَا تَكُون أَكْثر اسْتعْدَادًا ورغبةً في أنَّ تُكَافِئ عَابِديهَا.
ومِنَ الْمُضْحِك أَنَّهُم إذَا مَاتَ لَهُم إمْبراطورٌ لهُ إِنَجازَاتٌ مَرْموقةٌ وأَعْمالٌ جَليلةٌ وانْتِصَاراتٌ؛ فَإنَّ مَجْلسَ الشِّيوخِ الرُّومَانيَّ يُضِيفُ اسْمَ ذَلِك الإمْبرَاطُور لِقَائِمةِ الآلهةِ الَّتي يَعبدُونَهَا، فَيَصِير الإِمْبرَاطُور إلـٰهًا بَعدَ وفَاتِه وتَحوُّلِه إِلى رُفَاتٍ، وقَدْ حَصَلَ هَذَا (التَّأليه) لِعَددٍ مِنَ الأبَاطِرة مِثل قَيْصَر وأُغُسْطُس وترَاجَان وغَيْرهم.
ومِنَ الْجَدير بِالذِّكر أنَّ السُّلُطَات الرُّومَانيَّة كَانتْ تَسْمحُ للْمُواطِن الرُّومَانيِّ بِاعْتِنَاقِ أيِّ دِيَانةٍ أجْنبيةٍ بِشَرطِ ألَّا تَمْنَعَه تِلْك الدِّيَانَةُ مِن الْخُضُوع لآلهةِ الرُّومَان وتَعْظِيمها، والاشْتِراك في احْتِفَالاتِهَا وطُقُوسِها، لأنَّ اشْتِراكَ الْجَمِيعِ في تَعْظيمِ آلِهَتِهم هُو رَمزٌ للْوحِدةِ، وكَفِيل بِرضَا الآلهةِ.
يُضَاف إِلى ذَلِك أَهميَّة تَعْظِيم الْجَمِيع للأبَاطِرة، وذَلِك بِحَرْق الْبَخُور أَمَامَ تَمَاثيِلهم.
وقدْ كَان القَانُون الرُّومَانيُّ صَارمًا جِدًّا ضِدَّ مَنْ يُخَالِف تِلْك القَواعِد.
وبِسَببِ مُخَالفَة الْيَهُود لِتلْكَ القَواعِد فَقَد بَطَشَ بِهِم الرُّومَانُ بَطْشًا في الأَعْوامِ 70 و 132- 135، فَقَدْ كَانت فِلَسْطينُ (بَلَد الْيَهُود والنَّصَارى) تَحْتَ سُلْطَة الرُّومَان حِينَئذٍ.
وقَدِ اسْتَغلَّ الْيَهُود هَذا النُّفُوذ والْجَبرُوت عِندَ الرُّومَان لَيبطِشُوا بِالْمَسِيح كَمَا تَقَدَّم، ولَكِنَّ الله نَجَّاه مِنَ الْقَتل، فَرَفَعَه إِلَى السَّمَاء دُونَ أَنْ يَمَسَّه أذًى.
ثمَّ بَعْد رَفْع الْمَسِيح اسْتَغلَّ بُولسُ هَذا النُّفُوذ والْجَبروت عِنْد الرُّومَان، فَاسْتَعْدَاهم ضِدَّ أَتْبَاع الْمَسِيح لِيَمْحُوَ دِينَه مِنَ الأَرْض تَمامًا، ويُحِلَّ مَكَانَه دِينًا آخَرَ، يَحْمِلُ اسْمَ الْمَسِيحِ في الظَّاهِر، ولَكِنَّه في البَّاطِن يُخَالِفُه مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وقَدْ تمَّ شَرْح ذَلِك بِالتَّفْصِيل.
ثمَّ اسْتَمَرَّ الرُّومَان في نُفُوذِهم ووِلايتهم عَلى البُلْدَان قُرونًا، فَزَادُوا في تَحْرِيف دِينِ الْمَسِيح جِيلًا بَعْد جِيلٍ وقَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، حتَّى تمَّ تَحْريفُه تمامًا، وإحْلالُ دِينٍ آخَرَ مَكَانَه لا يَمُتُّ لِدينِ الْمَسِيح بِصلَةٍ، وقَدْ تمَّ شَرْح ذَلِك بِالتَّفْصِيل أيضًا.
ثمَّ بَعدَ نَحْوِ سِتَّةِ قُرونٍ مِنْ رَفْع الْمَسِيح، بَعَثَ اللهُ نَبيَّه مُحمَّدًا (صلى الله عليه وسلم ) بِدينِ الإسْلامِ، ولَمَّا عَرَفَ النَّاسُ أنَّه مِنْ عِند الرَّبِّ حقًّا، وأنَّه هُو الدِّينُ الصَّحيحُ؛ دَخَلُوا فِيه أَفْواجًا، فَانْتَشَر دِينُ الإسْلامِ، ثمَّ قَاتَلَ الْمُسْلِمُون الرُّومَانَ، لأَنَّهُم لَيْسُوا عَلَى دِينٍ صَحيحٍ، بَلْ دِينٍ بَاطلٍ، فَرَضُوه عَلَى النَّاسِ بِالْحَدِيد والنَّارِ، فَتَغَلَّبُوا عَلَيهِمْ، وسَيْطَرُوا عَلى البُلْدَان الَّتي كَانُوا يَحْكُمُونَهَا، وهِي الشَّامُ ومِصْرُ وتُركِيَا وغَيْرِها، وحَـلَّ الدِّينُ الصَّحيحُ الْمَحْفُوظ -وهُو دِينُ الإسْلامِ- مَـحَـلَّ الدِّينِ الْمُحَرَّف الَّذِي وضَعَه بُولسُ ومَنْ تَبِعه مِنْ أَبَاطِرة الرُّومَان، والْحَمدُ للهِ رَبِّ الْعَالمينَ.
$
الْمُلحقُ الرَّابع: قِصَّةُ مَريمَ العَذْراءِ وابْنِها الْمَسِيح عِيسَى ابنِ مَرْيمَ
$ أَخْبارٌ عَنْ ولادَةِ مَرْيمَ وتَرْبيِتها
كَانَ عِمْرانُ والدُ مَريمَ هُو صَاحب صَلاةِ بَني إسْرَائيلَ، لِصَلاحِه وتَقْواه وعِبَادَته، ولَمَّا نَذَرتْ زوجتُه «حَنَّة» أنْ تَجْعَل ولَدَهَا مُحرَّرًا -أي خالصًا مفرغًا للعِبَادة وَلخِدمَة بَيت المَقدِس- إنْ رَزَقَهَا اللهُ ولدًا؛ حَاضتْ مِنْ فَوْرِها، وكَانتْ لا تَلدُ، فَواقَعَها زَوجُها فَحَمَلت بِمَرْيمَ، ومَعْنى (مَرْيم) أيْ: الْعَابِدة النَّاسِكة.
ومِنْ دَلائلِ فَضْل مَريمَ أنَّ الشَّيطَان لمْ يَنْغَزْها في جَنْبِها كَمَا يَفْعَل لِسَائر الأَطْفَال، وهَذَا فَضْلٌ خاصٌّ لهَا ولابْنِها الْمَسِيح عِيسَى ابنِ مَرْيمَ، كَمَا جَاء في الْحَدِيث عَنِ النَّبِيِّ مُحمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم ) في بَيانِ حِمَاية اللهِ لِمَرْيم في قَولِه: «مَا مِنْ بَنِي آدَمَ مَوْلُودٍ إِلَّا يَـمـَسُّهُ([85]) الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا([86]) مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ، غَيْرَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا»، ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -راوي الْحَدِيث-:
وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾([87])([88]).
وعنه عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم ) قَالَ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعَنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبيهِ بِإِصْبَعِهِ حِينَ يُولَدُ، غَيْرَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذَهَبَ يَطْعَنُ، فَطَعَنَ فِي الْحِجَابِ([89])»([90]).
· أَتَت «حَنَّة» أمُّ مَريمَ بِابنَتِها مَرْيمَ بَعْدَ فَتْرةِ رَضَاعِها إِلى بَيْتِ الْمَقْدِس، فَسَلَّمَتْها للْعُبَّاد الَّذِين في الْمَسْجد الَّذِي كَانَ يُصلِّي فِيه زَوجُها عِمْران، وكَانَ إمَامَهم في الصَّلاةِ، ليُرَبُّوها عَلى الْعِبَادة والطَّاعَة، فَتَنَازَعُوا بَيْنَهُم أَيُّهم يَكْفُلُها ويُرَبِّيها، وكَانَ زَكريَّا هُو النَّبيَّ في ذَاكَ الزَّمَان، فَطَلبَ منهم أنْ يَقُومَ هُو بِكَفَالَتِها ويَتَنَازَلُوا لهُ عَنِ ذَلِك فَأَبَوْا، مَعَ أنَّه كَانَ كَبيرَهم ونَبيَّهم، ثمَّ اتَّفَقُوا عَلى أنْ يَجْعَلُوا الأَمْرَ بَيْنَهم قُرْعةً، فَمَنْ فَازَ بِالقُرْعَة صَارتْ مَرْيمُ في كَفَالتِه، كَائنًا مَنْ كَان.
فَكَانتْ مَشَيئةُ اللهِ أنْ تَكُون القُرْعةُ لزكَريَّا، وهَذَا مِنْ دَلائِل فضل مَرْيمَ عليها السلام ، إذْ كَانَت في كَفَالَةِ وتَرْبيةِ نَبيٍّ مِنَ الأَنْبِياء، ولَيسَ رَجُلًا عَاديًّا.
فَنَشَأتْ مَرْيمُ نَشْأةً نَبويَّةً في كَفَالةِ وكَنَفِ النَّبيِّ زَكَريَّا، نَشَأتْ صَالِحةً عَابِدةً قَانتةً للهِ جل وعلا ، وكَانَ لَهَا مِحْرابٌ تَتَعبَّدُ فِيه في مَسْجد بَيْت الْمَقْدِس، وحَصَل لَهَا شَيءٌ مِنَ الْمُعْجِزَات الَّتي تَدلُّ عَلى كَرامَتِها عِندَ اللهِ، فَكَانَ زَكريَّا يَدْخُل عَلَيها الْمِحْرَاب فَيَجِدُ فَاكِهةَ الصَّيفِ في فَصْلِ الشِّتَاء، وفَاكِهةَ الشِّتاَء في فَصْلِ الصَّيْف. قَالَ اللهُ عَنْها: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾([91]).
$ فَضَائِل مَرْيمَ وكَرَامَتُها عِندَ رَبِّهَا
مِنْ دَلائِل فضل مَرْيم أنَّ الْمَلائِكَةَ كلَّمتْهَا، وأَخْبَرتْهَا بِاصْطِفَاء اللهِ واخْتِيارِه لَهَا لأنْ تَكُون خَيرَ نِسَاءِ العَالَمينَ في ذَلِك الزَّمَان، قَال اللهُ في القُرآنِ: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ 42 يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾([92]). والاصْطِفَاءُ هُو الاخْتِيار.
ومِنْ دَلائِل فَضْل مَرْيمَ أنَّ الْمَلائِكَة نقَلتْ لَهَا بِشَارةً مِنْ عِنْد اللهِ بِأَنَّهَا سَتَحْملُ بَولَدٍ اسْمُه الْمَسِيحُ عِيسَى ابنُ مَرْيمَ، لَيْس هَذَا فَحَسْب؛ بَل بَشَّرتْهَا بِأَنَّ ابْنَهَا الْمَسِيح لَيْسَ كَسَائرِ الأَبْنَاء، بَلْ لهُ مَكَانةٌ عَظيمةٌ عِندَ اللهِ وعِندَ النَّاس، ومِنَ الْـمُـقـرَّبين عِندَ اللهِ، قَالَ اللهُ في القُرْآن: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾([93]).
· تَلقَّت مَرْيمُ هَذِه الْبشَارَة مِنْ عِنْدِ رَبِّهَا بِالقَبُول، مَعَ أَنَّهَا تَعَجَّبت مِنْهَا أيَّما تَعَجُّب، إذْ كَيْف يَكُون لَهَا ولدٌ وهِي لَيْست ذَاتَ زَوْجٍ؟!
وقَدْ أَخْبرَ اللهُ في القُرآنِ عَنْ تَعجُّبِ مَرْيمَ فَقَال عَنْها: ﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾([94]).
مَعْنى: ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَر﴾؛ أيْ: لمْ يَتَّصلْ بي بَشرٌ مِنْ خِلالِ الْعَلاقَةِ الْجِنْسيَّة.
ومَعْنى الآيةِ: أنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٍ, إذَا أرَادَ شَيئًا فَإِنَّما يَقُول لهُ: (كُن) فَيكُون ذَلِك الشَّيءُ، ومِنْه مَا حَصَل لِمَرْيمَ، إذْ قَالَ اللهُ: (كُنْ)، فَكان الْمَسِيحُ في بَطْنِ أُمِّهِ بِهَذِه الكَلِمَة، ولِهَذَا يُوصَفُ الْمَسِيح بِأَنَّه (كَلِمَة اللهِ)، لأنَّه كَانَ بِهَا كَمَا في قَول المَلائكة لِمريم: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾([95]).
· ومِنَ اللَّطَائفِ أنَّ هَذَا الْخَبرَ القُرآنيَّ مُتوافقٌ مَعَ مَا جَاء في «إنْجِيل لُوقَا» (1/28-31، 34، 37):
28. فَدَخَل إِليهَا المَلاكُ وقَالَ: سَلامٌ لكِ أيَّتُها الْمُنْعَم عَليهَا، الرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ.
29. فَلمَّا رَأتْه اضْطَربتْ مِنْ كَلامِه، وفَكَّرَت: مَا عَسَى أنْ تَكُون هَذِه التَّحِيَّة.
30. فَقَالَ لَهَا الْمَلاكُ: لا تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأنَّكِ قَدْ وجَدتِ نِعْمَةً عِندَ اللهِ.
31. وهَا أَنْتِ سَتَحْبَـلِينَ([96]) وتَلِدِينَ ابْنًا وتُسَمِّينَه يَسُوع.
34. فَقَالتْ مَرْيمُ للْمَلاكِ: كَيفَ يَكُونُ هَذَا وأنَا لَسْتُ أَعْرفُ رَجُلًا؟
فَأَجَابَهَا الْمَلاكُ:
37. لأنَّه لَيْسَ شَيءٌ غَيرَ مُمْكِنٍ لَدَى اللهِ.
· ومَعَ تَلَقِّي مَرْيمَ لِبشَارَة الْمَلائكَةِ لَهَا بِالْمَسِيح بِالقَبُول والرِّضَا، إلَّا أَنَّهَا حَمَلتْ هَمًّا عَظِيمًا، إذْ مَنْ يُقْنِع قَوْمَها بِحَقِيقَة الأَمْرِ في أنَّ حَمْلَها بِالْمَسِيح بِهَذِه الصُّورة الْغَير طَبيعيةٍ كَانَ بَأمْرِ اللهِ؟ فَهُمْ لا يَعْلمُون حَقِيقةَ الأَمْرِ، وبِالتَّالي فَسَيعْتَمِدُون عَلى ظَاهِر الْحَال ويَتَّهِمُونَهَا بِالزِّنا، فَلِهَذَا حَمَلتْ همًّا عَظيمًا، وتَمَنَّت الْمَوتَ عَلى أنْ يَتَّهمها قَوْمُها بالزِّنَا.
· ومِنَ اللَّطَائفِ أنَّ النِّسَاء الْمُسْلِمات هُـنَّ خَيرُ مَنِ اقْتَدَى بِمَرْيمَ، لأَنَّهُنَّ يُؤثِرنَ الْمَوتَ عَلى فِعْل الفَاحِشَة، الَّتي هِي الاتِّصَال الْجِنْسِي مَعَ غَيرِ الزَّوج، بِخَلافِ مَا وَصَلَ إِليه حَالُ النِّسَاء الْمَسِيحيَّاتِ، مِنَ التَّسَاهُل العَظِيم في هَذَا الْمَوضُوع، وانْتِشَار الصَّدَاقَات والعَلاقَات بَينَ الْجِنْسَين خَارِج إطَار الزَّوجِيَّة، حتَّى القَسَاوسَة يَفْعَلُون ذَلِك مَعَ الرَّاهِبَات وغَيْرِهنَّ مِن نِسَاء الرَّعِيَّة، في الكَنَائِس وخَارجِها، في اعْتِدَاء مَكْشوفٍ عَلى كَرَامِة النِّسَاء وأزْواجِهنَّ، ومُخَالَفَةٍ صَريحةٍ لِتَعاليمِ الْمَسِيح وجَميعِ الأَنْبياءِ، والآدَابِ الَّتي يَتَحلَّى بِهَا كِرامُ النَّاس ونِسَائِهم، لاسيَّما مَريمُ العَذْراءُ عَلى وجهِ الْخُصُوص.
فَهلْ يُعقلُ أنْ تَكُون هَذِه السُّلوكيَّات الَّتي هِي جُزءٌ من شَخْصيَّة القَسَاوسِة تَرْجمةً لسُلوكيَّات الْمَسِيح؟! حَاشَا وكَلَّا.
ومِنْ دَلائِل فَضْل مَرْيمَ أنَّ جِبريلَ -وهُو أَعْظمُ الْمَلائِكةِ- بَشَّرها بِأَنَّهَا سَتَحْمل بِالْمَسِيح، وقَدْ تَقدَّم أنَّ الْملائِكَة بَشَّرَتْهَا قَبلَ ذَلِك، فَجَاءَ جِبريلُ -أَعظمُ الْمَلائِكةِ- ليُبشِّرها ولـيُـنَـفِّـذَ هَذِه الْبِشَارة، فَتَمثَّـل لَهَا عَلى هَيئةِ الْبَشرِ، وجَاءَها وهِي في نَاحِيةٍ مِنْ بَيتِ الْمَقْدسِ لا يَرَاهَا أحَدٌ، وأَخْبرَهَا بِأَنَّه قَدْ جَاءَ مَوْعدُ تَحْقيقِ الْبِشَارَة الَّتي أَخْبرهَا بِهَا الْمَلائِكَة مِنْ قَبلُ، وهِي حَمْلها بِالْمَسِيح، فَاسْتَغربتْ مَرْيم هَذِه الْبِشَارة مَرةً أُخْرَى وسَأَلت جِبريلَ: كَيفَ لِي أنْ أَحْمل وأَنَا لَسْتُ ذَاتَ زَوْجٍ ولَستُ بَـغِـيًّا تَفْعل الْفَاحِشة مَعَ الرِّجَال؟!
فَأَجَابَهَا الـمَـلَكُ جَبريلُ بِأَنَّ هَذَا هُو أمْرُ اللهِ واخْتِياره، ولَيسَ لَنَا إلَّا قَبُول أَمرِ اللهِ وتَنْفِيذه، واللهُ لهُ الْحِكْمة الْبَالِغة في كُلِ شَيءٍ، فَفَعلَ جَبريلُ مَا أَمْره بِه رَبُّه جل وعلا ، فَنَفَخ في جَيْب قَمِيصِ مَرْيمَ، فَوصَلتِ النَّفْخَةُ إِلى فَرْجِها ثمَّ إِلى رَحِـمِـها، فَحَمَلتْ بِالْمَسِيح كَمَا تَحْمَل النِّسَاء مِن أَزْواجِهنَّ، فَمَكَثَ جَنِينُها في بَطْنِها تَسْعَةَ أَشْهرٍ، ثمَّ ولَدَتْه، قَالَ اللهُ في سَرْدِ هَذِه القِصَّة، وهِي في سُورة «مَرْيم» مِنَ القُرآنِ الْكَريمِ:
﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21) ۞ فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26 ) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ۖ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ۖ سُبْحَانَهُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾([97]).
$ التَّعْلِيقُ عَلى الآيَاتِ
هَذَا الْحَمْل حَصَلَ في رَحِـمِ مَرْيمَ مِنْ أمٍّ بِلا أَبٍ، وهُو يَدلُّ عَلى كَمَال قَدْرةِ اللهِ تَعَالى، وهُو أَمْرٌ لَيْسَ بِالهَـيِّـن، ولكِنَّه هَـيِّـنٌ عَلى اللهِ، والْحِكْمة مِنْ خَلْقِه بِهَذِه الصُّورة أنْ يَكُون في هَذَا دَلالةٌ وعَلامةٌ للنَّاس عَلى قَدْرةِ اللهِ الَّذِي نَـوَّع في خَلْقِهم، فَخَلَقَ أبَاهُم آدَمَ مِن غَيْرِ ذَكَرٍ ولا أُنْثَى، وخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ذَكرٍ بِلا أُنْثَى، وخَلَقَ بَقيَّة الذُّريَّة مِنْ ذَكَرٍ وأُنْثَى، إلَّا الْمَسِيح فإنَّه أوْجَدَه مِنْ أُنْثَى بِلا ذَكَرٍ، فَتمَّتْ بِخَلقِ الْمَسِيح القِسْمَة الرُّباعيَّة([98]) الدَّالَّة عَلى كَمَالِ قُدْرةِ اللهِ وعَظِيمِ سُلْطَانِه، ولَيْسَ هَذَا عَلى اللهِ بِعَزِيزٍ، فَخَلْقُ السَّمَاواتِ والأَرْضِ أَعْظمُ مِن خَلْقِ النَّاسِ ولَكِن أَكْثَر النَّاس لا يعلمون.
فَاللهُ قَادرٌ عَلى أنْ يَخْلقَ بَشرًا مِنْ ذَكَر وأُنْثَى، كَمَا هُو حَالُ سَائِر الْبَشَر، وقَدْ يَخْلقُ مِن غَيْرِ ذَكرٍ وأُنْثى، كَحَال أَبِينا آدَمَ، وقَدْ يَخْلقُ مِنْ ذَكَرٍ بِلا أُنْثَى، كَحَال أُمِّنَا حَوَّاء الَّتي خَلَقَها اللهُ مِن ضِلَع آدَم، وقَدْ يَخْلقُ مِن أُنْثَى بِلا ذَكَرٍ، كَحَال الْمَسِيحِ بْنِ مَرْيمَ، وقَدْ يَخْلق مِنَ الرَّجُل الْكَبيرِ ومِنَ الأُمِّ العَاقرِ، كَحَال الأَنْبياءِ إبْرَاهِيم وزَكَريَّا، وقَدْ لا يَخلُق مِنَ الذَّكَر والأُنْثَى شَيئًا، لا ذَكَرًا ولا أُنْثَى، كَحَالِ مَنْ بِه عُقمٌ، وقَد يَخْلقُ مِن الزَّوجِين ذُكورًا بِلا إنَاثٍ، وقَدْ يَخْلقُ مِنْهُمَا إنَاثًا بِلا ذُكورٍ، وقَدْ يَخْلق مِنْهُما إنَاثًا وذُكورًا، فَاللهُ قَادرٌ عَلى كُلِّ شَيءٍ جل وعلا ، إذَا أَرَادَ شَيئًا فَإِنَّمَا يَقُول لهُ: (كُنْ) فَيَكُون ذلك الشيء، كَمَا قَالَ اللهُ في القُرآن: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾.
وقَالَ اللهُ في القُرآن: ﴿ لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾([99]).
ومَعْنى الآيةِ الْكَريمةِ: للهِ جل وعلا مُلكُ السَّمَوات والأَرْضِ ومَا فِيهمَا، يَخْلقُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْخَلقِ، يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء مِنْ عِبَادِه إنَاثًا لا ذُكُور مَعَهنَّ، ويَهَبُ لِمَنْ يَشَاء الذُّكُور لَا إنَاث مَعَهُم، ويُعْطِي جل وعلا لِمَنْ يَشَاء مِنَ النَّاسِ الذَّكَر والأُنْثَى، ويَجْعَل مَنْ يَشَاء عَقِيمًا لَا يُولَد لهُ، إنَّه عَليمٌ بِمَا يَخْلُق، قَديرٌ عَلى خَلْقِ مَا يَشَاء، لَا يُعْجِزُه شَيءٌ أرَادَ خَلْقَه.
فَالْحَاصِلُ أنَّ خَلْق الْمَسِيح كَانَ آيةً ودَلالةً للنَّاسِ عَامَّةً ولِبني إسْرَائِيل خَاصَّة عَلى عَظِيم قُدْرَة اللهِ جل وعلا واتِّصَافه بِالْخَلْق كَمَا يَشَاء، فَلَيْسَ أَمَامَنَا بَعْدَ هَذَا إلَّا الإِيمَانُ بِذَلِك وتَعْظِيمُ الرَّبِّ في نُفوسِنَا.
· ومِنَ اللَّطَائفِ أنَّ هَذِه الْحِكْمَة مِنْ خَلْقِ الْمَسِيح مِنْ أُمٍّ بِلا أبٍ مَذكُورةٌ في الْمَرَاجِع الْمُنْتَشِرة بِأَيْدِي الْمَسِيحيينَ الْيَوْم، فَفِي «سِفْر إشْعِياء» (14:7) جَاءَتِ الْبِشَارة بِحَمْل مَرْيمَ بِالْمَسِيح، وبِأَنَّ حَمْلَه كَانَ آيةً عَلى قَدْرة اللهِ:
«ولَكِنْ يُعِطيكُم السَّيدُ نَفْسُه آيةً: هَالعَذرَاءُ تَحْبِلُ وتَلِدُ ابْنًا وتَدْعُو اسْمَه (عَمَانوئِيل)».
والسَّيدُ هو اللهُ، والآيةُ هي العَلامَة عَلى قُدْرَتِه، ومَعْنى تَـحْـبِـل أيْ: تَحْمِل، و«عَمَانُوئيل» هُو أَحَد أَسْماءِ الْمَسِيح.
ومَعَ هَذَا فإن المسيحيين لَا يُؤمِنُون بأن الحكمة الإلـٰهية من حمل مريم للمسيح بهذه الطريقة إنَّما هو بيان أن هذا آية وعلامة على قدرة الله (الموصوف هنا بالسيد)، بل يجهلون هذا تمامًا، ويقولون إنَّ الْمَسِيح ابن اللهُ، تَعَالى اللهُ عَنْ ذَلِك.
ولما ولدت مريم المسيحَ كان أوَّلُ شَيءٍ نَطَق بِه الْمَسِيح وهُو في الْمَهْد هُو الإِقْرَار بِأَنَّه عَبدٌ للهِ، وذَلِك عِندَمَا سَأَلَ الْيَهُودُ أُمَّه عَنْ هَذَا الطَّفْل: مِنْ أَيْنَ أَتَيْتِ بِه؟ فَلمْ يَقُلْ: إنَّه ابنُ اللهِ، ولوْ كَانَ كَذَلك لَقَالَهَا، لأنَّه شَرَفٌ لهُ لوْ كَانَ حقًّا، ولأنَّ الْمَقَام يَقْتَضِيه، لِيَدْفَع التُّهْمَة عَنْ أمِّـهِ، بلْ قَالَ: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾([100]).
أيُّهَا القَارِئ الْكَريم والقَارِئةُ الْكَريمةُ، مَاذَا بَعْد هَذَا الْوضُوح مِنْ وضُوحٍ عَلى أنَّ الْمَسِيح عبدٌ للهِ، وبَشَرٌ، ورَسُولٌ، لَيْس ربًّا، ولا ابنَ الرَّبِّ؟!
$ حَصُول الطُّمَأنينةِ لِمَريمَ بَعْدَ طَمْأنَة ابْنِها لَهَا لمَّا ولَدَتْهُ
بيَّـن اللهُ في كِتَابه أنَّ مَرْيمَ أَصَابَهَا هُمٌّ عَظِيمٌ لَمَّا ولَدتِ ابْنَها الْمَسِيح، حَيثُ إنَّهَا تَعْلمُ أنَّ النَّاسَ سَيتَّهِمُونَهَا بِالزِّنَا لِكَوْنِه مِنَ الْمَعْلوم عِنَدَهم أَنَّهَا لَيْسَت ذَاتَ زَوْجٍ، فَلَيْسَ في تَصَوُّرِهم أدنى احتمال لأنْ تَحْمل إلَّا مِنْ طَرِيق الزِّنَا، قَالَ اللهُ في القُرْآنِ: ﴿ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا ﴾([101]).
فَالْمَسِيح طَمْأَن أُمَّه بَعْدَما ولَدَتْه، وهَذَا مِن أوَّلِ عَلامَاتِ الْخَيرِ فِيهِ، فَأَمَرَها بِتَناول الرُّطب، وشُرْب الْمَاءِ مِنَ السَّري وهُو جَدولُ الْمَاءِ، كَمَا أَوْصَاها بِأَنْ تَعْتَذِر لِقَوْمِها عَنْ إِجَابَتِهم إذَا سَأَلُوهَا عَنْه مِنْ أَيْن أَتَتْ بِه بِأَنَّهَا صَائِمةٌ، وكَانَ الصَّومُ في شَرْيعَتِهم هُو الإِمْسَاكَ عَنِ الْكَلامِ، فَلمَّا رَأْتْ مَرْيمُ مِنْ ولَدِها هَذِه الْمُعْجِزَات عَرَفَت أنَّه نَبيٌّ، فَأَيْقَنتْ بِوعَدِ رَبِّهَا، وفَعلتْ مَا أَمَرَهَا بِه ولَدُهَا، لأنَّه لا يُمْكنْ أَنْ يَتَكَلَّم صغيرها بِهَذَا الْكَلامِ العَظِيم إلَّا بِوحيٍ مِنَ اللهِ، فَحَصَلت لَهَا الطُّمَأنِينة القَلْبِية، وقَامَتْ مَنْ مَكَان وضْعِهَا، ورَجَعت إِلى قَوْمِها، فَلَمَّا رَأَوْهَا حَامِلةً ولَدَها الرَّضِيع سَأَلُوهَا مُسْتَغْربينَ: (مِنْ أَيْن لَكِ هَذَا الصَّبيُّ الْمَولُود، فَأَنْتِ مِنْ بَيتِ دِينٍ وشَرَفٍ، ومِثْلُكِ لا يَفْعَل الفَاحِشَة؟!)، فَكَانَ رَدُّهَا لَهُمْ هُو رَدَّ الْواثِقَة بِرَبِّهَا، أنْ أَشَارَت إِلى صَبِيِّها أنِ اسْألُوه، فَهُو الَّذِي سَيَتَولَّى الإِجَابةَ عنْ سُؤالِكُم، فَاسْتَغْرَبُوا ذَلِك الْجَواب مِنْهَا، إذْ لَيْسَ مِنَ الْمَعْهُود أنْ يَتَكَلَّم مِنْ كَانَ في الْمَهْدِ أوْ يُجِيب عَنْ أَسْئلةِ مَنْ حَوْلَه، فَتَكَلَّم عليه السلام بِكَلامٍ عَظَيمٍ أزَالَ عَنْهُم الدَّهْشَة، وكَانَ أوَّل مَا تَكَلَّم بِه الْمَسِيح هُو الإِقْرَار بِأَنَّه عَبدٌ لله، حَيثُ قَال: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ﴾، أيْ: لَسْتُ مَعْبودًا، ولا ابنًا للهِ، بَلْ عَابِدٌ للهِ، ثمَّ قَالَ: ﴿ آتَانِيَ الْكِتَابَ ﴾؛ أيْ الإِنْجِيل، وقد قَضَى اللهُ بِأَنْ يُؤْتِيَه هَذَا الْكِتَاب إذَا كَـبِـر، ثمَّ قَالَ: ﴿ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ﴾؛ أيْ: مُرْسَلًا إِلَيْكُم، ولمْ يَقُلْ: (جَعَلني إلـٰهًا)، ولمْ يَقُل: (جَعَلني ابنَ الله)، ولا غَيْر ذَلِك مِنَ الأقَوالِ الَّتي قَالَها الْمَسِيحيُّون عَنْه بَعْد رَفْعِه إِلى السَّمَاء، بَل قَال: ﴿ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾([102]).
فلما قال المسيح مقالته عَلِمُوا أنَّه نَبيٌّ، والنَّبيُّ لا يَتَكَلَّم إلَّا بِالْحقِّ، فَحَصَلت الطُّمَأنِينَة النِّهائيَّة لِمَرْيمَ في ذَلِك الْمُوقِف، وكَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَم بِـرِّ المسيحِ بِوالِدَته.
$ خَاتِمةُ قِصَّة مَرْيم
وبَعْدَمَا سَـرَدَ الرَّبُّ هَذِه القِصَّة العَظِيمة في القُرآنِ قَالَ بَعَدهَا مُبَاشَرةً: ﴿ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ۖ سُبْحَانَهُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾.
ومَعْنى هَاتينِ الآيَتين: أنَّ هَذَا الَّذِي قَصَصْنَا عَلَيك يَا مُحمَّدُ هُو خَبَرُ وقِصةُ الْمَسِيح عِيسَى ابنِ مَرْيم، الَّتي وقَعَ فِيهَا الشَّكُّ والارْتِيابُ عِنْد طَوائِفِ النَّصَارَى (الْمَسِيحيينَ)، فَانْقَسَمُوا فِرَقًا وأحْزابًا.
وليُلاحَظُ القَارئ أنَّ اللهَ نَـسَـبَ الْمَسِيح إِلى أمِّه مَرْيمَ ولمْ يَنْسِبْهُ إِلى نَفْسِه، لأنَّه ابنُ مَرْيمَ ولَيْسَ لهُ أبٌّ، ولوْ كَانَ اللهُ أبوه لَنَسَبه إِلى نَفْسِه، لأنَّ الْمَقام يَقْتَضِي ذَلِك، فَمِنَ الْمَعْلومِ أنَّ الإنَسَان يُنسَب إِلى أَبِيه، فَلَمَّا عُدِم ذَلِك في حَالةِ الْمَسِيح نَسَبَه اللهُ إلى أُمِّه فَقَال: ﴿ ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﴾.
ثمَّ أكَّد اللهُ ذَلِك فَقَال: ﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ۖ سُبْحَانَهُ ﴾؛ أيْ: أنَّ اللهَ لا يُمْكنُ أنْ يَتَّخِذ ولدًا، لأنَّ اتِّخَاذَ الْولَدِ يَلْزَم مِنْه أنَّ اللهَ مُحْتَاجٌ إِلى خَلْقِه، وهَذَا يَتَنَافى مَعَ كَوْنِ الرَّبِّ غَنيًّا عَنِ العَالَمِين كُلِّهم، إذْ هُو الَّذِي خَلَقَهُم وأَوْجَدَهُم، فَكَيْف يَصِير مُحْتَاجًا لَهُم بَعْدَ ذَلِك؟
ولِهَذَا قَالَ اللهُ بَعْدَها: ﴿ سُبْحَانَهُ ﴾؛ أيْ: تَعَالى اللهُ عَنْ ذَلِك وتَـنَـزَّهَ.
ثمَّ قَالَ في خِتَام هَذَا الْمَقْطَع: ﴿ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾، وهَذا كَقُولِه في الآية الأُخْرَى في سُورة آلِ عِمْران: ﴿ نَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾([103])؛ أيْ: لَا تَكُوننَّ يَا محمَّدُ مِنَ الشَّاكِّـين في خَبرِ الْمَسِيح، فَقَد جَاءَك الْحَقُّ مِن رَبِّك.
ومِن الدَّلائِل عَلى فَضْل مَرْيم في دِين الإسْلامِ أنَّ سُورتينِ كَامِلَتينِ مِن سُوَرِ القُرآنِ سُـمِّـيَتا بِاسْمها واسْمِ عَائِلتِها، الأُولى سُورة «مَرْيمَ»، والثَّانِية سُورة «آل عِمْرَان».
$ اضْطِرابُ النَّصَارَى فِي عَقِيدتِهم فِي مكانة مَرْيمَ وطبيعتها اضْطِرابًا شَديدًا
انْقَسَم النَّصَارى في اعْتِقَادِهم في أُمِّه مَرْيـم العَذْرَاء إِلى طَوائِفَ، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الطَّوائفُ الكُبرى الثَّلاث مِن طَوائِف النَّصَارى حَوْلَ مَرْيم العَذْرَاء اخْتلافًا كَبيرًا، حَيثُ يَرَى فِيهَا الأَرْثُوذِكس أَنَّهَا وُلِـدت كَأيِّ إنْسَانٍ آخَرَ حَامِلةً للخَطِية، ومِثْل الأَنْبِياء والقِدِّيسِين.
وأمَّا الكَاثُولِيك فَيعْتَقِدون أَنَّها بَريئةٌ مِنَ الْخَطِية مِثل الْمَسِيح وبلِا دَنسٍ، ويَعْتَقِدون أَنَّهَا صَعدت حَيَّةً إِلى السَّمَاء، وهم يُعظِّمونها تعظيمًا شديدًا، ويعبدونها، ويصنعون لَهَا التَّمَاثِيل في كنائسهم، ويُصَلُّون لَهَا، ويَعْتَقِدُون بِالثَّالُوث الـمَـرْيَـمِي حتَّى في الصَّلَوات، ويَدْمَجُونَهَا مَعَ الثَّالوث الأَقْدس عِنْدهُمْ.
وأمَّا البُروتِسَتانت فَيَعْتِبرونَهَا مَخْلوقَةً عَادِيَّة كَغِيرهَا، ويَعْتَقِدون أَنَّـها أمُّ يَسُوع، فَهِي لمْ تَلِد اللَّاهُوت، وإِنَّمَا ولَدَت جَسَدًا فَقَطْ، وقَالَ بَعْضُهم: إِنَّهَا قِشْرةُ الْبَيْضَة الَّتي خَرَجَ مِنْه الْكَتْكُوت.
وقَد اتَّفَق الأَرْثُوذُكس والكَاثُولِيك عَلَى بتُولِيَّة الْعَذْراء -أَي: انْقِطَاعِها عَنِ الرِّجَال- وعَدَم وجُودِ إخْوةٍ للْمَسِيح بِالْجَسَد.
وأمَّا القَسَاوسة الأَوَّلِين فَنَادَوا بِأَنَّ مَرْيمَ مُنَزَّهةٌ عَنِ الْخَطِيئة الأَصْلِيَّة مِثل الْمَسِيح، ويَرَوْن أنْ مَكَانَتَها تَتَلَخَّص في كَوْنِهَا أمَّ اللهِ، فَهُم يُـكَـرِّمونَهَا ويَقُومُون بَعَمِل صَوْمٍ لَهَا وأَعْيَادٍ في الْوقتِ نَفْسِه.
وأمَّا الْيَهُود فَهْمْ عَلَى الْجَانِب الآخَر تَمامًا، فَهُم يَرَون أَنَّهَا ارْتَكبتِ الزِّنَا، قَـبَّـحهم الله، وحَمَلت بِالْمَسِيح وولَدَتْه.
ثمَّ جَاء الإسْلامُ فَحَسَم هَذَا الاضْطِرابَ الْمُشِين في الاعْتِقَاد بمَرْيمَ الْعَذْرَاء، فَبَيَّن القُرْآنُ أنها كَانتْ عَابدةً للهِ، شَرِيفةً صِـدِّيقةً تَقِيَّةً نَقِيَّةً، لمْ تَعْبدْ غَيْر اللهِ، ولمْ تَدْعُ النَّاسَ إِلى عِبَادَتِهَا ولا عِبَادَة ابْنِهَا، وقَدْ جَاءَ ذِكْـرُها في مَقَام الاحْتِرام والتَّبجِـيل في 31 مَوْضِعًا مِنَ القُرآنِ، ووَرَدَ ذِكْرُ اسْمَ ابْنهَا الْمَسِيح عِيـسَى ابنِ مَرْيمَ في القُرْآنِ 25 مرةً، ووَرَدَ ذِكْرُه بِوصْفِهِ (الْـمَسِيح) 9 مَرْاتٍ، كُلُّهَا في مَقَام الاحْتِرام والتَّعْظِيم والتَّبجِيل، ولَكِن هَذَا الاحْتِرام والتَّعْظِيم هُو بِالقَدْر اللَّائِق بِالبَشَر، فَلا يَتَضَمَّن اعْتِقَاد أنَّ لَهُمَا شَيئًا مِنْ صِفَات وخصائص الرُّبوبيَّة أو الألُوهِيَّة، بَلْ هُمَا بَشَرٌ مِثْلنا، يَعْبُدُون اللهَ كَمَا نَعْبدُه نَحْن، ويَرْجُونَه الْجَنَّةَ والنَّجَاةَ مِن النَّارِ كَمَا نَرْجُوه نَحْنُ.
كَمَا يَنَصُّ دُسْتُور الإِسْلامِ (القرآن) عَلى أنَّ مَرْيمَ بِنْتَ عِمْرَانَ حَمَلتْ بِالْمَسِيح بِكَلمَة اللهِ: (كُنْ)، فَكَان الْمَسِيح في بَطْنِها، وبَقِي في بَطْنِها جنينا كَغَيْرِه، ثمَّ ولَدَتْه كَمَا تَلدُ النِّسَاء أَبَنَاءَهُنَّ.
$ وصْفُ اللهِ للْمَسِيح فِي القُرْآنِ بِأَنَّه «كَلِمَة اللهِ»
جَاءَ وصْفُ الْمَسِيح في القُرْآنِ بِأَنَّه «كَلِمَة اللهِ»، لأنَّه خُلِق بِكَلَمِة «كُنْ»، فكان المسيح في بطن أُمِّـهِ، فَكَان تَأْثِيرُ هَذِه الْكَلِمَة بِمَنْزِلَة مَاءِ الرَّجُل إذَا الْتَقى بِمَاء الْمَرْأة في رحِمِها فحملت طفلًا.
كَمَا جَاءَ وصْفُ الْمَسِيح بِأَنَّه «رُوحٌ منه»، أي أن روح المسيح مِنْ عِنْد اللهِ، خَلَقَها اللهُ كَأَرْواحِ غَيْرِه مِنَ الْبَشَر، كَمَا في قَوْلِه تَعَالى في الْقُرآنِ نَاصِحًا أَهْلَ الْكِتَاب وهُم الْيَهُود والنَّصَارى (الْمَسِيحيُّون):
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ۚ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾([104]).
$ حَالُ بَني إسْرَائِيلَ قَبْل بَـعْـثَـة الْمَسِيح إِلَيْهِم
مُقَدِّمَة
كَانتِ النُّبوةُ لا تَنْقَطِع في بَني إسْرَائِيل، وكَانُوا مُلوكًا، وأسبغ الله عليهم نعمًا كثيرة، كَمَا قَالَ اللهُ في سُورَة الْمَائِدة: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾([105]).
ولكنْ بَنو إسْرائيلَ لمْ يَحْمَدُوا اللهَ عَلى هَذِه النِّعْمة، فَقَدْ بَلَغُوا في الطُّغْيَان مَبْلَغًا عَظِيمًا، وقَسَتْ قُلوبُهُم، ونَسُوا مَا ذُكِّروا بِه، وشَاعَ بَيْنَهم الرِّبَا والزِّنَا، وكَانُوا يَقْتلُون الَّذِين يَأْمُرون بِالقِسْط مِنَ النَّاسِ، بَلْ ويَقْتلُونَ النَّبيين، وحَرَّفوا مَا بِأَيْدِيهم مِنَ التَّورَاة، فَاجْتَرءُوا عَلى كِتَاب اللهِ وعَلى أَنْبيائِه جَرْأةً عَظِيمةً لمْ يَجْتَرئهَا أَحدٌ قَبْلَهم، فَأَرْسَل اللهُ إِلَيهِم الْمَسِيح فَلَمْ يُؤمِنُوا بنبوته، مَعَ أنَّ اللهَ أَيَّدَه بِمُعْجِزَاتٍ كَثيرةٍ تَدلُّ عَلى نُبَوتِه، فَقَرَرُوا قَتْله، ولكن الله َحَمَاه مِنْهُم، ورَفَعَه إِلَيْهِ في السَّمَاء.
قال اللهِ تَعَالى عَنِ أَهْلِ الْكتِابِ (الْيَهُودِ والنَّصَارَى): ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾([106])، قَالَ ابنُ كَثيرٍ رحمه الله في تَفْسيرِ هذه الآية:
نَهَى اللهُ تَعَالى الْمُؤمِنينَ أنَّ يَتَشَبَّهُوا بِالَّذِين حَـمَلوا الْكِتَاب مِن قِبَلِهمْ مِنَ الْيَهُود والنَّصَارى، لَمَّا تَطَاول عَلَيهم الأَمَدُ([107]) بَدَّلوا كِتَاب اللهِ الَّذِي بِأَيْدِيهم واشْتَروا بِه ثَمَنًا قَلِيلًا ونَبَذُوه وَرَاء ظُهُورِهم، وأَقْبَلُوا عَلى الآرَاءِ الْمُخْتَلِفَة والأَقْوَال الْمُؤْتفَكة([108])، وقَلَّدُوا الرِّجَال في دِينِ اللهِ، واتَّخَذُوا أَحْبَارَهم ورُهْبَانَهُمْ أَرْبابًا([109]) مِنْ دُونِ اللهِ، فَعِند ذَلِك قَسَتْ قُلُوبُهم، فَلا يَقْبَلُون مَوْعِظةً، ولا تَلِين قُلوبُهم بِوَعدٍ ولا وَعِيدٍ.
﴿ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾؛ أي في الأَعْمَال، فَقُلوبُهم فَاسِدةٌ، وأَعْمَالهم بَاطِلةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالى: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ۙ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ﴾([110])؛ أيْ: فَسَدَت قُلوبُهُم فَقَسَت، وصَارَ مِنْ سَجِـيَّـتِهم تَحْريفُ الْكَلِم([111]) عَنْ مَواضِعه، وترَكَوا الأَعْمَال الَّتي أُمُروا بِهَا، وارْتَكَبُوا مَا نُهوا عَنْه، ولِهَذَا نَهَى اللهُ الْمُؤمِنينَ أنْ يَتَشَبَّهُوا بِهم في شَيءٍ مِنَ الأُمورِ الأَصْليَّةِ والفَرْعيَّةِ.
ورَوى ابنُ أبي حَاتمٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ حَديثًا مَا سَمِعتُ أَعْجَبَ إِليَّ مِنْه، إلَّا شَيئًا مِن كِتَابِ اللهِ، أوْ شَيئًا قَالهُ النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم ) ، قَالَ:
إنَّ بني إسْرَائِيل لَمَّا طَالَ عَلَيهم الأَمَدُ فَقَسَت قُلُوبُهُم اخْتَرَعُوا كِتابًا مِنْ عِنْد أنْفُسِهم، اسْتَهْوتْه قُلوبُهم، واستحْلَته أَلْسِنَتُهم واسْتَلذَّته، وكَانَ الحقُّ يَحولُ بَينهمْ وبَينَ كَثيرٍ مِنْ شَهَواتِهم، فَقَالُوا: (تَعالَوا نَدْعُ بَني إسْرائِيلَ إِلى كِتَابِنَا هَذَا، فَمَن تَابَعَنا عَليه تَرَكْنَاه، ومَنْ كَرِه أنْ يُتابعنا قَتَلْنَاه)، فَفَعَلُوا ذَلِك، وكَانَ فِيهِمْ رَجلٌ فَقِـيهٌ([112])، فَلَمَّا رَأى مَا يَصْنَعُون عَمَد إلى مَا يَعرِف مِن كِتَاب اللهِ فَكَتَبه في شَيءٍ لَطيفٍ، ثمَّ أدْرَجَه، فَجَعَله في قَرْنٍ([113])، ثمَّ علَّقَ ذَلِك القَرْن في عُنُقِه، فَلَمَّا أَكْثَروا القَتْل قَالَ بَعْضُهُم لِبَعْضٍ: يَا هَؤلاءِ، إنَّكُم قَدْ أَفْشَيتُم القَتْل في بَني إسْرَائِيل، فَادْعُوا فُلانًا فَاعْرِضُوا عَلَيه كِتَابَكم، فإنَّه إنْ تَابَعَكم فَسَيُتابِعُكم بَقيَّةُ النَّاس، وإنْ أَبى فَاقْتُلُوه.
فَدَعوا فُلانًا ذَلك الفَقِيه فَقَالُوا: تُؤمِن بِمَا في كِتَابِنَا؟
قَالَ: ومَا فِيه؟ اعْرِضُوه عَليَّ.
فَعَرَضُوه عَلَيه إِلى آخِرِه، ثمَّ قَالُوا: أتُؤمِنُ بِهَذا؟ قَالَ: (نَعَم، آمَنتُ بمَا في هَذَا) -وأَشَار بَيدِه إِلى القَرنِ- فَتَركُوه([114])، فَلمَّا مَات نبَشُوه فَوجَدُوه مُـتَـعـلِّقًا ذَلِك القَرن([115])، فَوجَدُوا فِيه مَا يُعرف مِن كِتَاب اللهِ، فقَالَ بَعْضُهم لِبعْضٍ: يَا هَؤلاءِ، مَا كُنَّا نَسْمَع هَذَا، أصَابَه فِتْنَةٌ([116]).
فَافْتَرقَتْ بَنو إسْرَائِيل عَلى ثِنْتَينِ وسَبْعِين مِلةً، وخَيرُ مِلَلِهم مِلةُ أَصْحَاب ذِي القَرْنِ.
قَالَ ابنُ مَسْعُودٍ: وإنَّكُم أَوْشَكَ بِكُم إنْ بَقِيتُم (أوْ: بَقِي مَنْ بَقِي مِنْكُم) أنْ تَرَوْا أمُورًا تُنْكِرونَهَا، لا تَسْتَطِيعُون لَهَا غِـيَـرًا([117])، فبِحَسْبِ الْمَرْء مِنْكُم أنْ يَعْلمَ اللهُ مِن قَلْبِه أنَّه لَهَا كَارِهٌ.
ورَوى أبو جَعْفَر الطَّبريُّ عَنْ عتْرِيس بنِ عَرْقُوب أنَّه جَاءَ إِلى عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعودٍ رضي الله عنه فَقَال:
يَا عَبْدَ اللهِ، هَلَك مَنْ لمْ يَأْمُر بِالْمَعْرُوف ويَنْهَ عنِ الْمُنْكَر.
فَقَال عَبْدُ اللهِ: هَلَكَ مَنْ لمْ يَعْرِف قَلبُه مَعْروفًا ولمْ يُنْكِر قَلبُه مُنْكَرًا، إنَّ بَني إسْرَائِيل لمَّا طَالَ عَليهُم الأَمَدُ وقَسَتْ قُلُوبُهُم اخْتَرَعُوا كِتابًا مِن بَينِ أَيْدِيهم وأَرْجُلِهم، اسْتَهْوته قُلوبُهم، واستحْـلَـته أَلْسِنَتُهم، وقَالُوا: نَعْرض بَني إسْرَائِيل عَلى هَذَا الْكِتَاب، فَمَن آمَنَ بِه تَركْنَاه، ومَنْ كَفَرَ بِه قَتلْنَاه.
قَالَ: فَجَعَل رَجلٌ مِنهُمْ كِتَابَ اللهِ في قَرْنٍ، ثمَّ جَعَل القَرْنَ بَينِ ثِنْدِوتَيْهِ([118])، فَلمَّا قِيل لهُ: أتُؤمِن بِهَذَا؟
قَالَ: آمَنتُ بِه -ويُومِئ إِلى القَرْنِ بَينَ ثِنْدِوتَيه- ومَا لي لَا أؤمنُ بِهَذا الْكِتَاب؟!
فَمِن خَير مِلَلِهم الْيَوم مِلَّةُ صَاحبِ القَرْنِ.
$ بَنُو إسْرَائِيل يَقْتُلُون النَّبيينَ
قال الله تعالى في القرآن: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾([119]).
قَالَ ابنُ كَثيرٍ رحمه الله في تَفْسِير هَذِه الآيَةِ:
هَذَا ذمٌّ مِنَ اللهِ تَعَالى لأَهْلِ الْكِتَاب بِمَا ارْتَكَبُوه مِنَ الْمَآثِم والْمَحَارِم في تَكْذِيبهم بِآيَاتِ اللهِ قَديمًا وحَديثًا، الَّتي بَلَّغتهم إيَّاهَا الرُّسُل، اسْتِكْبَارًا عَليهِمْ وعِنَادًا لَهُم، وتَعَاظُمًا عَلى الْحَقِّ واسْتِنْكَافًا عَنِ اتِّـباعِه، ومَعَ هَذَا قَتَلوا مَنْ قَتَلُوا مِنَ النَّبيينَ حِينَ بلَّغُوهم عَنِ اللهِ شَرْعَهُ، بِغَيرِ سَبَبٍ ولا جَريمةٍ مِنْهُم إِلَيهِمْ، إلَّا لِكَونِهمْ دَعَوهُمْ إلى الْحَقِّ.
﴿ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ ﴾، وهَذَا هُو غَايةُ الكِـبْـرِ، كَما قَالَ النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم ) : «الْكِـبْـرُ بَـطَـرُ الْحَقِّ([120]) وغَـمْـطُ النَّاسِ([121])»([122]).
ورَوى ابنُ أبي حَاتمٍ عَنْ أبي عُبيْدَة بنِ الْجَرَّاحِ رضي الله عنه ، قَالَ: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أيُّ النَّاس أشَدُّ عَذابًا يَوْمَ القِيَامَة؟
قَالَ: «رَجلٌ قَتَلَ نَبيًّا، أوْ مَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوف ونَهَى عَنِ الْمُنْكر».
ثمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم ) : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ 21 أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ ([123]).
ثمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم ) : «يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، قتَلَتْ بَنو إسْرَائِيل ثَلاثَةً وأَرْبَعينَ نَبيًّا مِنْ أَوَّلِ النَّهَار في سَاعَةٍ واحِدَةٍ، فَقَامَ مِائَةُ رَجُلٍ وَسَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ بَني إسْرَائِيلَ فَأَمَرُوا مَنْ قَتَلَهُمْ بِالْمَعْرُوف ونَهوهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، فقُتِلُوا جَمِيعًا مِنْ آخِرِ النَّهَارِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَ اللهُ عز وجل ».
ورَواه ابنُ جَرِيرٍ بِه، إلَّا أَنَّه قَالَ: «مَائةُ رَجُلٍ واثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْ بَني إسْرَائِيل».
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه ، قَالَ: «قَتَلتْ بَنُو إسْرَائِيل ثَلاثَمائَة نَبيٍّ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وأَقَامُوا سُوقَ بَقْلِهم مِنْ آخِرِه»([124]). رَواه ابنُ أبي حَاتم.
ولِهَذَا لَمَّا أنْ تَكَبَّروا عَنِ الْحقِّ واسْتَكْبرُوا عَلى الْخَلقِ، قَابَلَهُمُ اللهُ عَلى ذَلِك بِالذِّلَّة والصَّغَار([125]) في الدُّنيا، والعَذَابِ الْمُهِينِ في الآخِرَة، فَقَال تَعَالى: ﴿ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ 21 ﴾؛ أيْ: مُوجِع مُهِين.
﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾([126]).
انْتَهى كَلامُ الْحَافظ ابنِ كَثيرٍ بِاخْتِصَارٍ يَسِيرٍ.
قُلتُ: ورَوى ابنُ أبي حَاتمٍ في «تَفْسِيره» عَنْ قَتَادَة في قَوْلِه: ﴿ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ﴾، قَالَ: «هَؤلاءِ أَهْلُ الْكِتَاب، كَانَ أَتْباعُ الأَنْبِياءِ يَنْهَونَهُمْ ويُذَكِّرونَهُم بِاللهِ فَيقْتُلونَهُم».
وقَالَ اللهُ في الْيَهُود: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾([127]).
قَالَ ابنُ كَثيرٍ رحمه الله في تَفْسِير هَذِه الآيةِ:
وقَوْلُه تَعَالى: ﴿ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾.
يَقُول تَعَالى: هَذَا الَّذِي جَازَيْنَاهُم مِنَ الذِّلَّة والمَسْكَنةِ وإحْلالِ الغَضَبِ بِهم مِنَ الذِّلَّة بِسَببِ اسْتِكْبَارِهم عَنِ اتِّبَاع الْحقِّ، وكُفْرِهم بِآيَاتِ اللهِ، وإِهَانَتِهم لِحَمَلةَ الشَّرْعِ وهُم الأَنْبِياء وأَتْبَاعُهم، فَانَتَقَصُوهم إِلى أنْ أَفْضَى بِهم الْحَال إِلى أَنْ قَتَلُوهُمْ، فَلا كُفْرَ أَعْظَم مِنْ هَذَا، إِنَّهُم كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ وقَتَلُوا أَنْبِياء اللهِ بِغَيرِ الْحَقِّ، ولِهَذَا جَاءَ في الْحَدِيث الْمُتَّفَقِ عَلى صِحَّتِه: أنَّ رسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم ) قَالَ: «الْكِـبْـرُ بَـطَـرُ الْحقِّ وغَـمْـطُ النَّاسِ».
$ بَنُو إسْرَائِيل يُـحَـرِّفون التَّورَاة - دِلالَةُ القُرآنِ عَلى تَحْريفِ التَّوراة الأَصْليَّة
قَالَ اللهُ تَعَالى في وصْفِ الْيَهُود: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ۙ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾([128]).
قَالَ الشَّيخُ عَبدُ الرَّحمـٰنِ بنُ سَعْدي رحمه الله في تَفْسِير هَذِه الآية:
«﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ ﴾؛ أيْ: بِسَبَبِه([129]) عَاقَبْنَاهُم بِعدَّة عُقُوبَاتٍ:
الأُولى: أنَّا ﴿ لَعَنَّاهُمْ ﴾؛ أيْ: طَرَدْنَاهُم وأَبْعَدْنَاهم مِنْ رَحْمَتِنا، حَيثُ أَغْلَقُوا عَلَى أَنْفُسِهم أَبْوابَ الرَّحْمة، ولمْ يَقُومُوا بِالْعَهْدِ الَّذِي أُخِذ عَليهم، الَّذِي هُو سَبَبُها الأَعْظَم.
الثَّانِية: قَوْلُه: ﴿ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ﴾؛ أيْ: غَلِيظَةً لا تُجْدِي فِيهَا الْمَواعِظ، ولا تَنْفَعُها الآيَاتُ والنُّذُر، فَلا يُرَغِّـبُهم تَشْويقٌ، ولَا يُـزعجهم تَخْويفٌ، وهَذَا مِنْ أَعْظَم الْعُقوبَات عَلى الْعَبْد، أنْ يَكُون قَلْبُه بِهَذِه الصِّفَة الَّتي لَا يُفِيدُه الْهُدى والْخَير إلَّا شَرًّا.
الثَّالِثة: أنَّهُم ﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ﴾؛ أيْ: ابْـتُـلوا بِالتَّغْييرِ والتَّبدِيل، فَيَجْعَلُون للْكَلِم الَّذِي أَرَادَ اللهُ مَعْنًى غَيْر مَا أَرَادَه اللهُ ولا رَسُولُه.
الرَّابِعة: أَنَّهُم ﴿ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ﴾، فَإِنَّهُم ذُكِّروا بِالتَّوراة، وبمَا أَنْزَل اللهُ عَلَى مُوسَى، فَنَسُوا حَظًّا مِنْه، وهَذَا شَامِلٌ لِنسْيَان عِلْمِهِ، وأَنَّهُم نَسُوه وضَاعَ عَنْهُم، ولمْ يُوجَدْ كَثيرٌ مِمَّا أَنْسَاهُم اللهُ إيَّاه عُقُوبَةً مِنْه لَهُم، وشَامِلٌ لِنِسْيانِ الْعَمْل الَّذِي هُو التَّرْك، فَلَمْ يَوفَّقُوا للْقِيَام بِمَا أُمِروا بِه، ويُسْتَدَل بِهَذَا عَلَى أَهْل الْكِتَاب بِإِنْكَارِهم بَعْض الَّذِي قَدْ ذُكِـر في كِتَابِهم، أوْ وَقَعَ في زَمَانِهِم، أنَّه مِمَّا نَسُوه.
الخَامِسة: الْخِيانَة الْمُسْتَمِرة الَّتي ﴿ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِنْهُمْ ﴾؛ أيْ: خِيانةٍ للهِ ولِعِبَادِه الْمُؤمِنينَ. ومِنْ أَعْظَم الْخِيَانَة مِنْهُم كَتْمُهُم الْحَقَّ عَمَّن يَعِظهم ويُحسِن فِيهم الظَّنَّ، وإبْقَاؤُهُم عَلَى كُفْرِهم، فَهَذهِ خِيَانةٌ عَظِيمةٌ.
وهَذِه الْخِصَال الذَّمِيمة حَاصِلةٌ لِكلِّ مَنِ اتَّصَفَ بِصِفَاتِهم. فَكلُّ مَنْ لمْ يَقُم بِمَا أَمَرَ اللهُ بهِ وأَخَذَ بِه عَليهِ الالْتزَام؛ كَانَ لهُ نَصيبٌ مِن اللَّعْنة وقَسْوةِ القَلْب، والابْتِلاء بِتَحْريفِ الْكَلِم، وعدم التوفيق للصَّوابِ، ونِسْيانِ حَظٍّ مِمَّا ذُكِّر بِه، وأنَّه لابدَّ أنْ يُبْتَلى بِالْخِيَانَة، نَسْألُ اللهَ العَافِيةَ.
وسَمَّى اللهُ تَعَالى مَا ذُكِّروا بِه حَظًّا، لأنَّه هُو أعْظَم الْحُظُوظ، ومَا عَدَاه فَإِنَّما هِي حُظوظٌ دُنْيويةٌ».
انْتَهى كَلامُه رحمه الله مِنْ كِتَابه «تَيْسِير الْكَريم الرَّحمـٰن في تَفْسِير كَلامِ الْمَنَّان»، بتصرف يسير.
$
وقدْ زَجَرَ اللهُ الْيَهُود ووبَّخَهم عَلى إخْفَاء الْحَقِّ الْمَذْكُور في التَّوراة فَقَال: ﴿ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ۖ وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾([130])، ومَعْنى الآيةِ: أنَّكُم أيُّها الْيَهُودُ تجْعَلُون هَذَا الْكِتَاب في قَرَاطِيسَ مُتَفَرِّقَةٍ، تُظْهِرُون بَعْضَهَا، وتَكْتُمُون كَثِيرًا مِنْهَا، ومِمَّا كَتَمُوه: الإخْبَار عَنْ صِفَة مُحمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم ) ونُبُوتِه.
قَالَ الشَّيخُ عَبْدُ الرَّحمـٰنِ بنِ سَعْدي رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة:
«﴿ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ ﴾، وهُو التَّوراة العَظِيمة، ﴿ نُورًا ﴾ في ظُلُمَات الْجَهل، ﴿ وَهُدًى ﴾ مِنَ الضَّلالة، وهَادِيًا إِلى الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم عِلْمًا وعَملًا، وهُو الْكِتَابُ الَّذِي شَاعَ وذَاعَ، ومَلأَ ذِكْرُه القُلُوب والأَسْماع، حتَّى إِنَّهُم جَعَلُوا يَتَنَاسَخُونَه في القَرَاطِيس([131])، ويَتَصَرَّفُون فِيه بِمَا شَاءُوا، فَمَا وَافَقَ أهْواءَهُم مِنْه أَبْدَوه وأَظْهَرُوه، ومَا خَالفَ ذَلِك أَخْفَوه وكَتَمُوه، وذَلِك كَثير».
انْتَهى كَلامُه رحمه الله مِنْ كِتَابهِ «تَيْسير الْكَريم الرَّحْمـٰنِ في تَفْسيرِ كَلامِ الْمَنَّان».
$
وقَالَ اللهُ تَعَالى مُبينًا تَحْريفَ الْيَهُود للتَّورَاة: ﴿ فَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾([132]).
وقَالَ اللهُ تَعالى عَنِ الْيَهُود أَيْضًا: ﴿ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ﴾([133]). والْمَقْصُود بِقَوْله: ﴿ الَّذِينَ هَادُوا ﴾؛ أي الْيَهُود.
وقَالَ اللهُ تَعَالى عَنِ الْيَهُود أَيْضًا: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ۛ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ۛ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ﴾([134]).
وقَالَ اللهُ تَعَالى عَنِ الْيَهُود: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾([135]).
وتَفسِيرُ الآيةِ: وإنَّ مِن الْيَهُود لَجماعةٌ يُحَرِّفُون الْكَلامَ عَنْ مَواضِعِه، ويُبدِّلُون كَلامَ اللهِ، لِيُوهِمُوا غَيْرَهُم أنَّ هَذَا مِنَ الْكَلام الْمُنَزَّل، وهُو التَّوراة، ومَا هُو مِنْهَا في شَيءٍ، ويَقُولونَ: هَذَا مِنْ عِنْد اللهِ أَوْحَاه اللهُ إلى نَبيِّه مُوسَى، ومَا هُو مِنْ عِنْدِ اللهِ، وهُم يَقُولُون عَلَى اللهِ الْكَذِب لأَجْلِ دُنْيَاهُم وهُمْ يَعْلَمُون أَنَّهُم كَاذِبُون.
$
$ مَرْحَلة شَبَاب الْمَسِيح ونُبُوَّته
لمْ يَشُبَّ الْمَسِيح عَلَى اللَّهُو واللَّعِب، ولمْ يَنْشَغِل بِمَا انْشَغَلت بِه الْيَهُود مِنَ الإِعْرَاضِ عَنْ أوَامرِ اللهِ وحُبِّ الْمَالِ والنِّسَاء، بَلْ كَانَت بَوادِر الإِيمَان والفَضِيلَة فِيه ظَاهِرةٌ جِدًّا، كَمَا أَخْبَر اللهُ في القُرآنِ عَنه أنَّه كَانَ مِنْ أَوَّل كَلامِه لَمَّا تَكَلَّم في الْمَهْد: ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾([136]).
وهَذَا النَّصُّ مُتَوافِقٌ مَعَ مَا جَاءَ في «إنْجِيل لُوقَا» (40:2): «وكَانَ الصَّبيُّ يَنْمُو ويَتَقَوَّى بِالرُّوح، مُمْتَلئٌ حِكْمةٌ، وكَانَت نِعْمَةُ اللهِ عَلَيه».
فَلَمَّا بَلَغَ الْمَسِيحُ الثَّلاثِين مِنْ عُمرِه أَرْسَل اللهُ إليهِ أعْظَم مَلائِكَتِه وهُو جِبْريلُ، وأَوْحَى إِلَيهِ الإِنْجِيل، فِيه هُدًى ونُورٌ، فَكَانتْ هَذِه فَاتِحةَ النُّبوةِ عَلَيه، أَرْسَلَه اللهُ إِلى بَني إِسْرَائِيل وهُم اليهُود، وأَيَّدَه بِمُعْجِزات تَدلُّ عَلى أنَّه نَبيٌّ، فَآمَنَت بِه طَائِفةٌ مِنْ بَني إسْرَائِيل وكَفَرتْ طَائِفة، وقد كَانَ يَنْبَغِي عَلَيْهِم الإِيمَان بِه وطَاعَتُه واحْتِرَامُه، لأنَّ الأَنْبِياء همُ الْواسِطَة بَينَ اللهِ وبَينَ خَلْقِه لِتَبْليغِ الشَّرَائِع، وبِهم يَعْرِفُ الإِنْسَان طَرِيقَ الْجَنَّة فَيَتَّبِعه، وطَرِيقَ النَّارِ فَيْجْتَنِبُه.
وقدْ جَاءَ تَقْرير أنَّ الْمَسِيح أيَّدَه اللهُ بآيَاتٍ بَاهِرَات تَدلُّ عَلى نُبوتِه في «إنْجِيل يُوحَنَّا» (3/1-2):
«كَانَ إنْسَانٌ مِن الفريسِيينَ([137]) اسْمُه نيقوديموس، رَئيسٌ للْيَهُود.
هَذَا جَاءَ إِلى يَسُوع ليْلًا وقَالَ لهُ: يَا مُعَـلِّم، نَعْلمُ أَنَّك قَدْ أَتَيتَ مِنَ اللهِ مُعَـلِّما، لأنَّ لَيْس أحَدٌ يَقْدِر أنْ يَعْمَل هَذِه الآيَاتِ الَّتي أَنْتَ تَعْمَل إنَّ لمْ يَكُن اللهُ مَعَه».
فَقُول رَئيس الْيَهُود للْمَسِيح: (لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرَ أَنْ يَعْمَل هَذِه الآيَاتِ الَّتي أَنْتَ تَعْمَل إنْ لمْ يَكُن اللهُ مَعَه) دَليلٌ عَلى أنَّ اللهَ أيَّد الْمَسِيح بِمُعِجزَاتٍ دَالَّةٍ عَلى نُبوتِه، لأنَّ الْبَشَر لا يَسْتَطِيعُون أنْ يَأْتُوا بِهَا، ومِنْ ذَلِك أنَّه كَانَ يُحْيي الْمَوتَى، ويَشْفِي الأَبْرَص والأَكَمَه، (أيْ: الَّذِي وُلِد أعْمَى)، ويُـنَـبِّـئ النَّاس بِمَا يَأْكُلونَ ومَا يَدَّخِرُون في بُيُوتِهِم مِنَ الطَّعَام، وكَلُّ هَذا بِإِذنِ اللهِ، ولَيْسَ للْمَسِيح فِيه قُدرةٌ مُسْتَقِلَّةٌ وعَلِمٌ مُسْتَقلٌّ، لأنَّ الْمَسِيح بَشَرٌّ، لا أَكْثَر ولا أَقَلَّ.
$ فَائِدةٌ فِي بُطْلانِ عَقِيدة الْخِطيئَةِ الأُولَى
وهُنَا فَائدةٌ لَطِيفةٌ: وهِي أنَّ رَئيسَ الْيَهُود قَالَ للْمَسِيح: (يَا مُعَـلِّم، نَعْلمُ أَنَّك قَدْ أَتَيتَ مِن اللهِ مُعَـلِّما)، فهُنَا تَقْريرُ أنَّ الْمَسِيح أرْسَله اللهُ إلى الْيَهُود رَسُولًا ومَعَلِّمًا، لأنَّ الرَّسُول يُعلِّم النَّاس الَّذِين أُرْسل إِلَيهِم مَا أَرْسَله اللهُ بِه مِن العِلْمِ، ومِن الْمَعْلُوم أنَّ الْمَسِيح قَدْ عَلَّم النَّاس الإِنْجِيل، ودَلَّهم عَلى الْخَيرِ.
ولمْ يَقُلْ رَئِيسُ الْيَهُودِ للْمَسِيح إنَّه جَاءَ فَادِيًا، أوْ مُـخَـلِّـصًا، أوْ إنَّه ابنُ اللهِ، أوْ إنَّه هُو اللهُ، ولا غَير ذَلِك مِنَ الأقْوالِ السَّائِدة بَيْنَ جَمَاهِير الْمَسِيحيينَ.
والْمَسِيح أقَـرَّ هَذَا الْيَهُودِيَّ عَلى كَلامِه، ولمْ يَقُل لهُ إنَّك مُخطِئٌ في كَلامِك، ولوْ كَان هَذَا الْيَهُوديُّ مُخْطِئًا في كَلامِه لاعْتَرض عَلَيه الْمَسِيح وصَحَّح كَلامَه، ولَقال له إنه جاء فاديًا أو مخلصًا، لأنَّ هَذِه وظِيفَتُه كَـمُـعَـلِّم، وهِي أنْ يُقِرَّه عَلى الصَّوابِ، ويُصلِح لهُ الْخَطَأ، وإلَّا لمْ يَكُنْ مُعلِّمًا عَلى الْحَقِيقَةِ.
ومع الأسف الشديد، فقد كَانَ حَالُ الْيَهُود الَّذِين أُرْسِل إِلَيْهِم الْمَسِيح بالآيات الدالة على نبوته لا يُرضِي اللهَ جل وعلا ، فَقَدْ كَانُوا مُعْرِضينَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ، مُعْرضِينَ عَنْ تَطْبيقِ مَا في التَّورَاة مِن الأَوَامِر، وكَانَتْ نُفُوسُهم مُتَكَبِّرةً عَنْ سَمَاع الْحقِّ، يَكْرَهُون مِنْ يَنْصَحُهم مِنْ أَهْل الفَضْلِ، من الأنبياء والمصلحين، بَلْ كَانُوا يَقْتُلُون الأَنْبيَاء كما تقدم، ويُعظِّمون الأَحْبَار والرُّهْبَان الزائغين عن الحق، ويَجْعَلُون لَهم حَقَّ التَّشْرِيع، والتحليل والتحريم، وهَذَا مِن الشِّرْك بِاللهِ، لأنَّ اللهَ وحْدَه هُو الَّذِي لهُ حقُّ التَّشْرِيع، وهم في ذلك جعلوا الأحبار والرهبان شركاء لله ومُساوين له.
$ الْمَسِيحُ يَجْمعُ تَلامِيذَه الصَّادِقِينَ حَوْلَه لمَّا اشْتَدَّ إعْرَاضُ قَوْمِه عنْ دَعْوته
قَالَ اللهُ تَعَالى مُخْبرًا عَنِ الْمَسِيح لَمَّا اشْتَدَّ إعْرَاضُ قَوْمِه عَنِ الدِّينِ الَّذِي جَاء بِه: ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾([138]).
ومَعْنى الآيةِ الْكَريمةِ: لَمَّا اسْتَشْعَر الْمَسِيح عِيسَى ابْنُ مَرْيمَ مِنْهم التَّصْميمَ عَلى الْكُفْر نَادَى في أصْحَابِه الخُلَّص: مَن يَكُونُ مَعِي في نُصْرة دِينِ اللهِ؟ فَقَال أَصْفِياءُ عِيسى: نَحنُ أَنْصَارُ دِين اللهِ والدَّاعُون إِلَيه، صَدَّقنا بِالله واتَّبعْنَاك، واشْهَد أَنْتَ يَا عِيسَى بِأَنَّا مُسْتَسْلِمون للهِ بِالتَّوحِيد والطَّاعَة.
$ اسْتِشْعَار الْمَسِيح لِخَطَرِ الْقَتْل الَّذِي كَانَ الْيَهُود يُخَطِّطُونَه لهُ
آمَنَ القَليلُ مِنَ الْيَهودِ بِالْمَسِيح بِأَنَّه رَسُولٌ مِن عِنْد اللهِ، ومِنْهُم الْحَوارِيُّون، وكَفرَ الْكَثِير مِنهُمْ، وكَانَتْ فِلَسْطِين آنَذَاكَ تَحْتَ حُكْمِ الرُّومَانِ، والرُّومَانُ وثَنِيونَ، لا يُؤمِنون بِاللهِ ولا بِرُسُلِه، بل يؤمنون بعددٍ مِنَ الآلِهَة الْبَشَريَّة اخْتَرعُوهَا مِنْ عِندِ أَنْفُسِهم؛ آلِهَة الْمَاشِية وآلهَة الزَّرْعِ وآلهَة الحرْبِ، وغَيْر ذَلِك، وكَانُوا لا يُبَالُون بِالْيَهُود ودِيَانَتِهم، طَالَمَا أَنَّهُم لا يَخْرُجُون عنْ طَاعَتِهم ولا يَقُومُون بِأُمُورٍ تُؤدِّي إِلى حُصُول الفَوضَى والاضْطِرابَات الدَّاخِليَّة الَّتي تُفْسِد عَلَيهم مُلْكَهُم.
الْحَاصِل أنَّ الْيَهُود ضَاقُوا ذَرْعًا بِالْمَسِيح، فَصَارَ المسيحُ يَتَنَقَّل مَعَ أُمِّه سِرًّا في قُرَى فِلَسْطِين، بِصُحْبَة خَواصِّ تَلامِيذِه وهُم الْحَوارِيُّون، وكَانَ الْمَسِيح يَتَوجَّس مِنَ الْيَهُود نَيَّةَ القَتْلِ، وقَدْ جَاءَ تَقْريرُ ذَلِك في «إنْجِيل يُوحَنَّا» (7/1):
«وكَانَ يَسُوعُ يَتَرَدَّد بَعْدَ هَذَا في الْجَلِيل، لأنَّه لمْ يرد أنْ يَتَرَدَّد في الْيَهُوديَّة، لأنَّ الْيَهُود كَانُوا يَطْلبُون أنْ يَقْتلُوه».
والْجَلِيلُ هِي إِحْدَى بُلْدانِ فِلَسْطِين.
وقَالَ للْيَهُود كَمَا في «إنْجِيل يُوحَنَّا» (8/37) مبينًا أنهم لم يؤمنوا بما جاء به، ويريدون قتله والتخلص منه:
«أنَا عَالمٌ أنَّكُم ذُرِّيةُ إبْرَاهِيم. لَكِنَّكُم تَطْلُبُون أنْ تَقْتُلُوني، لأنَّ كَلامِي لا مَوْضِعَ لهُ فِيكُمْ».
كما جَاءَ التَّصْرِيح في «إنْجِيل يُوحَنَّا» (25:7) بأنَّ الْيَهُود كَانُوا حَريصِين عَلى قَتْلِ الْمَسِيح في النَّصِّ التَّالي:
«فقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْل أُورْشَليم: أَليسَ هَذَا هُو الَّذِي يَطْلُبونَ أنْ يَقْتُلُوه؟».
وفي «إنْجِيل يُوحَنَّا» (11/53-57):
«فمِنْ ذَلِك الْيَومِ تَشَاوَرُوا لِيَقْتلُوه.
فَلمْ يَكُنْ يَسُوعُ -أيْضًا- يَمْشِي بَينَ الْيَهُود عَلانِيةً، بَلْ مَضَى مِنْ هُنَاك إِلى الكُورة القَرِيبةِ مِن الْبَريَّة، إِلى مَدينةٍ يُقَال لِهَا: أَفْرايم، ومَكَثَ هُنَاكَ مَعَ تَلامِيذُه.
وكَانَ فُصح الْيَهُودِ قَريبًا. فَصَعِدَ كَثيرُونَ مِن الكُور إِلى أُورْشَليم قَبْل الفُصْح لِيُطَّهِرُوا أَنْفُسَهم.
فَكَانُوا يَطْلُبُون يَسُوع ويَقُولُون فِيمَا بَيْنَهُم، وهُم وَاقِفُون في الْهَيْكَل: مَاذَا تَظُنُّون؟ هَل هُو لا يَأْتي إِلى الْعِيد؟
وكَانَ -أَيْضًا- رُؤسَاءُ الْكَهَنةِ والفَرِيسيُّونَ قَدْ أَصْدَروا أَمْرًا أنَّه إنْ عَرَف أَحَدٌ أَيْن هُو فَلْيَدلَّ عَليهِ لِكَي يُمسِكُوه».
$ رَفْـعُ الْمَسِيح دُونَ أنْ يَـمَـسَّـهُ أذًى، وَفِيه إثْبَات بُطْلانُ عَقِيدَة «صَلْبِ الْمَسِيح»
ثمَّ لَمَّا اشْتَدَّ اضْطِهادُ بَني إسْرَائِيل للْمَسِيح، وشَعرَ بِخَطَر الْقَتْل، أَخْبَرَ قَوْمَهُ بِأَن اللهَ سَيرْفَعُه إِليهِ، يُريدُ بِهَذَا طَمْأَنَتَهُم بِأَنَّ أَعَدَاءَه مِنَ الْيَهُود لنْ يَخْلُصُوا إِلَيه ويَقْتلُوه أوْ يُلحِقُوا بِه أدْنَى أذًى، وهَذَا يدل على ثقة المسيح بنصر الله له وحفظه له.
وهذا الإِخْبَار مِنَ الْمَسِيح للْحَوارِيينَ قَدْ جَاءَ ذِكْرُه في «إنْجِيل مَتَّى» (15:9) حِينَ قَالَ الْمَسِيحُ لتَلامِيذِ يُوحنَّا:
«فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: هَلْ يَسْتَطِيع بَنو العُرسِ أنْ يَنُوحُوا مَا دَامَ العَرِيسُ مَعَهُم؟! ولَكِنْ سَتَأتي أيَّامٌ حِين يُرفَعُ العَرِيسُ عَنْهُم، فَحِينئذٍ يَصُومُون».
فَتَأَمَّل أَيُّهَا القَارئُ الْكَريمُ وأَيَّتُهَا القَارِئة الكَريمة قَوْلَه: (يُرفعُ العَريس)، ولمْ يقَل: (يُقْتَل) أوْ (يُصْلَب)، ولا غَيْرَ ذَلِك مِنَ العِبَارَات الَّتي اعْتَمَدتْ عَليهَا الْمَسِيحيَّة الْمُعَاصِرة في عَقِيدَة أنَّ الْمَسِيح قُتِل وصُلِب.
وهَذَا مُتوافقٌ -أيْضًا- مَعَ مَا في «يُوحَنَّا» (3/14): «وكَمَا رَفَعَ مُوَسَى الْحيَّة في البريَّة هَكَذا يَنْبَغِي أنْ يُرفعَ ابنُ الإِنْسَانِ».
كَمَا جَاءَ في «إنْجِيل يُوحَنَّا» أنَّ الْمَسِيح أَخْبرَ قَوْمَه بِطَريقِ الإشَارَة أنَّ اللهَ سَيَرْفَعُه، وأنَّه لنْ يُقْتَل ولنْ يُصْلَب، فَفي «إنْجِيل يُوحَنَّا» (7 / 32 - 36):
«سَمِع الفريسيُّونَ الْجَمْعَ يَتَنَاجَون بِهَذا مِن نَحْوِه، فَأَرْسَل الفريسيُّونَ ورؤسَاءُ الْكَهَنة خُدَّامًا ليُمسِكُوه.
فَقَال لَهُم يَسُوع: أنَا مَعَكُم زَمانًا يَسيرًا بَعْد، ثمَّ أَمْضِي إِلى الَّذِي أَرْسَلني.
سَتَطْلبُونَني ولا تَجِدُونَني، وحَيثُ أَكونُ أنَا لا تَقدِرُون أَنْتم أنْ تَأْتُوا.
فَقَال الْيَهُود فِيمَا بَيْنَهُم: إِلى أَيْنَ هَذَا مُـزْمِـعٌ([139]) أنْ يَذْهَب حتَّى لا نَجدَه نَحْنُ؟ لَعلَّه مُـزْمِـعٌ أنْ يَذْهَب إِلى شَتَات اليُونَانِيينَ ويُعَلِّم اليُونَانِيينَ.
مَا هَذَا القَوْلُ الَّذِي قَالَ: (سَتَطْلُبُونَنِي ولا تَجِدُونَنِي، وحَيثُ أَكُونُ أنَا لا تَقْدِرُون أَنْتُم أنْ تَأْتُوا؟)».
فَقَوْلُ الْمَسِيح: (أَمْضِي إِلى الَّذِي أَرْسَلني)، وقَوْلُه بَعْدَهَا: (سَتَطْلُبونَني ولَا تَجِدُونَني، وحَيثُ أَكُونُ أنَا لا تَقْدِرُون أَنْتُم أنْ تَأْتُوا) دَلالةٌ صَريحةٌ عَلى أن الْمَسِيح ليس هو الشَّخْصَ الَّذِي صَلَبُوه وقَتَلُوه.
كَذَلكَ فَلوْ كَانَ الْمَسِيحُ هُو الشخص الْمَقْتُولَ على الصليب لَكَانَ مَوْجُودًا، ولَكَانَ مَكَانُه مَعْروفًا أَمَامَهم، لأنهم قدْ طَلَبُوه ووجَدُوه أمامهم وصَلَبُوه وقَتَلُوه -عَلَى زَعْمِ مَنْ يَقُولُ ذَلِك- فَكَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا مَعَ قَوْلِ الْمَسِيح: (سَتَطْلُبونَنِي ولا تَجِدُونَنِي، وحَيثُ أَكُونَ أنَا لا تَقْدِرُون أَنْتُم أنْ تَأْتُوا).
هذا الكلام لا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِواحدةٍ مِنَ اثْنَتينِ، إمَّا أنْ يُخْبرَ الْمَسِيح بِخَبرٍ كَاذِبٍ، وهُو أَنَّهُم يَطْلُبونَه ولا يَجِدُونَه، ثمَّ تَتَبيَّنَ الْحَقِيقَة في أَنَّهُم طَلَبُوه ووجَدُوه، وهَذَا مُسْتَحِيلٌ، لأنَّ الْمَسِيحَ لمْ ولَنْ يَكْذِب.
أوْ يَكُون الْمَسِيحُ صَادِقًا، فَطَلَبُوه ولمْ يَجِدُوه، وهَذَا لا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِرَفْعِه إِلى السَّمَاء، وحُلول شَخْصٍ آخَر مَكَانَه يُشْبِه الْمَسِيح، فَقَتَلَه الْيَهودُ ظَنًّا مِنْهُم أنَّه هُو الْمَسِيح، وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه، وهو الذي دلَّت عليه أخبار الأناجيل وأخبار القرآن كذلك، قَالَ اللهُ في القُرآنِ: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) ۞ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾([140]).
$ فَائدة
في قَوْلِ الْمَسِيح: (أَمْضِي إِلَى الَّذِي أَرْسَلَني) دَليلٌ صَريحٌ عَلى أنَّه رَسُولٌ مِن عِندِ اللهِ.
$ فَائِدةٌ فِي بُطْلانِ عَقِيدَةِ الْخَطِيئةِ الأُولى
هُنَا فَائِدةٌ لَطِيفةٌ جِدًّا، وهِي أنَّ الْمَسِيح كَانَ حَريصًا عَلى النَّجَاة مِنَ القَتْل، مِمَّا يَدلُّ عَلى أنَّه لمْ يَكُن فَاديًا ولا مُخَلِّصًا، إذْ لوْ كَانَ كَذَلكَ لأسلَمَ نَفْسَه للْيَهُود لِتَتَحَقَّق عَقِيدةُ تَكْفِير الْخَطِيئة والصَّلبِ الَّتي تَنُصُّ عَلَيهَا الْمَسِيحيَّة الْمُعَاصِرة، ولَمَا حَاوَل الفِرَارَ مِنْهُم والاسْتِخَفَاء مَعَ أُمِّه في الْجَلِيل وغَيْرِها.
$ شُبهةٌ والْجَوابُ عَليهَا
فإنْ قِيلَ: إنَّه قَدْ جَاءَ في «إِنْجِيل مرقص» (15/34) و«إنجِيل مَتَّى» (27: 46) أنَّ الَّذِي كَانَ مُعَلَّقًا عَلى خَشَبةِ الصَّليبِ قَالَ عِندَ مَوْتِه: (إيلي، إيلي، لِـمَ شَبَقْتَني؟).
أي: إلـٰهي، إلـٰهي، لِـمَ ترَكْتَني؟
فَمَنِ الَّذِي قَالَ ذَلِك؟
فَالْجوابُ سَهْلٌ جِدًّا: وهُو أنَّ الَّذِي قَالَ ذَلِك هُو الشَّخْصُ الْمَصْلُوبُ الَّذِي أَلْقَى اللهُ عَلَيه شَبَهَ الْمَسِيح، فَأَخَذُوه وصَلَبُوه وقَتَلُوه ودَفَنُوه، ولَيْسَ هُو الْمَسِيح نَفْسه، كَمَا قَالَ اللهُ في القُرْآنِ: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) ۞ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾([141]).
$ ذِكْرُ الدليل على رَفْعِ المسيح عِيسَى عليه السلام إِلَى السَّمَاءِ فِي حِفْظِ الرَّبِّ، وَبَيَانُ خطأِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي دَعْوَى الصَّلْبِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ 54 إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾([142]).
أَخْبَرَ الله تَعَالَى أَنَّهُ رَفَعَ المسيح إِلَى السَّمَاءِ بَعْدَمَا تَوَفَّاهُ بِالنَّوْمِ، رفعَه بروحه وجَسده كَهيئَته لَمَّا كَان فِي الأرْض([143])، وَخَلَّصَهُ مِمَّنْ أَرَادَ أَذِيَّتَهُ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ وَشَوْا بِهِ إِلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ الْكَفَرَةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ ليقتلُوه.
وَقصَّة ذَلك أَنَّ أَعْدَاءُ الْمَسِيحِ مِنَ الْيَهُودِ سَعوا لتَوْرِيطِ الْمَسِيح مَعَ السُّلُطَاتِ الرُّومَانِيَّة الْحَاكِمَة لِفلَسْطِينَ آنَذَاكَ ليقْتُلوه، فوَشَوْا بِهِ إِلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ الْكَفَرَةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ وَصَلْبِهِ، فَحَصَرُوهُ فِي دَارٍ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَذَلِكَ عَشِيَّةَ الْجُمُعَةِ لَيْلَةَ السَّبْتِ، وَسَبب ذَلك العَداء أَنَّ اليهُود لَمَّا بَعث الله عِيسى ابن مَريم بالبَيِّنات وَالهُدى؛ حَسدُوه عَلى مَا آتاهُ الله مِن النبوَّة والمُعجِزات البَاهِرات، فقَد كَان يُبرئ الأكمهَ([144]) وَالأبرَص ويُحيي المَوتَى بإذن الله، ويُصَوِّرُ مِن الطِّين طائرًا ثُمَّ ينفُخ فِيه فيكُون طائرًا يُشاهَدُ طَيرانه بإذن الله عز وجل ، إِلى غَير ذَلكَ مِن المُعجِزَات الَّتي أَكرمَه الله بِها وَأجرَاها عَلَى يَديهِ، ليُعَلِّم النَّاس أَنَّه نَبي، فَكَذَّبُوه وَخالَفُوه، وسَعَوْا فِي أذَاه بِكُلِّ مَا أمكَنَهُم، حَتَّى صَار عِيسى عليه السلام لا يُساكنهم فِي بَلدة، بَل يُكثر السياحَة والاختِفَاء عَنهُم فِي البِلاد هُوَ وَأمُّه مَريم ڽ، ثُمَّ لَم يُقنعهم ذَلك حَتَّى سَعوا إلى مَلِكِ دِمشق فِي ذَلك الزَّمَان، وكَان رَجُلًا مُشركًا مِن عَبدَةِ الكَواكِب، وكَان يُقال لِأهل دِينه (اليونَان)، فقَالوا لَه إِنَّ بِـبيتِ المقدس رَجلًا يفتن النَّاس ويُضِلُّهم ويُفسد على المَلِكِ رعايَاه، فغضِب المَلك مِن هذا، وكتَب إِلى نائبه بالمَقدس - وهُو دَاوُدَ بْنَ يُورَا - أنْ يقبِض عَلى هَذا المَذكُور، وأَن يَصلِبه ويَضع الشَّوك عَلى رأسِه، ويَكُفَّ أَذَاه عن النَّاس، فلمَّا وصَل الكِتاب امتثَل وَالي بَيت المقدِس، وذهَب هُو وطَائفَة مِن اليهُود إِلَى المنزِل الَّذي فِيه عِيسى عليه السلام ، وكَان مَع جمَاعة مِن أصحَابِه، اثنَا عَشر أَو ثَلاثَة عَشر، وقِيل سبعَة عَشَر نفرًا، وكَان ذَلكَ يَوم الجُمعَة بعْد العَصْر ليلَة السبت، فحصَرُوه هُنالِك، فَلَمَّا حَانَ وَقْتُ دُخُولِهِمْ ألقى اللهُ شَــبَــهَ المسيح عَلَى أحد أَصْحَابِهِ الْحَاضِرِينَ عِنْدَهُ، وَرُفِعَ المسيح مِنْ فتحَة فِي سقفِ البَيت إِلَى السَّمَاءِ، وَأَهْلُ الْبَيْتِ يَنْظُرُونَ، وَدَخَلَتِ الشُّرطة فَوَجَدُوا ذَلِكَ الشَّابَّ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ، فَأَخَذُوهُ ظَانِّينَ أَنَّهُ عِيسَى، فَصَلَبُوهُ وَوَضَعُوا الشَّوْكَ عَلَى رَأْسِهِ إِهَانَةً لَهُ، وتبجَّحُوا بذَلِك، وصدَق عَامَّةُ النَّصَارَى اليهُود فِي دعوَاهُم أَنَّهم قتَلُوا المَسِيح، لأنَّهم لَمْ يعلمُوا حَقيقَة الأمر ولَم يُشاهِدُوا مَا حدَث فِي داخِل البيت، فظَنُّوا كَما ظَنَّت اليَهُود أَنَّ المقْتُول المصْلُوب هُو المَسِيح، وَضَلُّوا بِسَبَبِ ذَلِكَ ضَلَالًا مُبِينًا كَثِيرًا فَاحِشًا بَعِيدًا.([145])
وهُنَا قَدْ يَسْأَل سَائِلٌ فَيَقُولُ: لِمَاذَا يَكْرَهُ الْيَهُودُ الْمَسِيح؟
فَالْجَوابُ: أنَّ دَعْوةَ الْمَسِيح وتَعَالِيمه السَّمْحَة تَتَنَاقَضُ مَعَ طَبَائِع الْيَهُود الْمَادِّيَّة الشَّرِهَة، وقُلُوبِهِمُ القَاسِية الْمُتَكَبِّرة الْمُتَحَجِّرَة، فَلَمَّا جَاءَهُم ونصحهم وأمرهم باتِّـباعه اتَّهَمُوه بِأَنَّه مُدَّعٍ للنُّبُوة، وكَفَرُوا بِالآيَاتِ الدَّالَّة عَلَى نُبُوَّتِه، وقَالُوا: إِنَّهَا تَتِمُّ بِمُسَاعَدَة الشَّيَاطِين.
وروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ([146]) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَ عِيسَى إِلَى السَّمَاءِ، خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَفِي الْبَيْتِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْهُمْ - مِنَ الْحَوَارِيِّينَ يَعْنِي - فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَيْنٍ([147]) فِي الْبَيْتِ، وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً فَقَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يَكْفُرُ بِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ آمَنَ بِي.
ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلَ مَكَانِي، وَيَكُونَ مَعِي فِي دَرَجَتِي([148])؟
فَقَامَ شَابٌّ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا([149])، فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ.
ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ، فَقَامَ الشَّابُّ، فَقَالَ: اجْلِسْ.
ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ، فَقَامَ الشَّابُّ، فَقَالَ: أَنَا.
فَقَالَ: أَنْتَ هُوَ ذَاكَ.
فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُ عِيسَى، وَرُفِعَ عِيسَى مِنْ رَوْزَنَةٍ([150]) فِي الْبَيْتِ إِلَى السَّمَاءِ.
قَالَ: وَجَاءَ الطَّلَبُ مِنَ الْيَهُودِ([151]) فَأَخَذُوا الشَّبَهَ فَقَتَلُوهُ ثُمَّ صَلَبُوهُ، فَكَفَرَ بِهِ بَعْضُهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ آمَنَ بِهِ، وَافْتَرَقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: (كَانَ اللَّهُ فِينَا مَا شَاءَ ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ)، وَهَؤُلَاءِ الْيَعْقُوبِيِّة.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: (كَانَ فِينَا ابْنُ اللَّهِ مَا شَاءَ، ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ)، وَهَؤُلَاءِ النَّسْطُورِيَّةُ.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: (كَانَ فِينَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ)، وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُون([152]).
فَتَظَاهَرَتِ الْكَافِرَتَانِ عَلَى الْمُسْلِمَةِ فَقَتَلُوهَا، فَلَمْ يَزَلِ الْإِسْلَامُ([153]) طَامِسًا حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم ) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ۖ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ۖ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾([154]).([155])
$ فائدة تاريخية([156])
لَمَّا صَلَبَ الْيَهُودُ ذَلِكَ الرَّجُلَ ثُمَّ أَلْقَوْهُ بِخَشَبَتِهِ؛ جَعَلُوا مَكَانَهُ مَطْرَحًا لِلْقُمَامَةِ وَالنَّجَاسَةَ وَجِيَفَ الْمَيْتَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى كَانَ فِي زَمَانِ قُسْطَنْطِينَ، فَعَمَدَتْ أُمُّهُ هِيلَانَةُ الْحَرَّانِيَّةُ الْفِنْدِقَانِيَّةُ فَاسْتَخْرَجَتْهُ مِنْ هُنَالِكَ مُعْتَقِدَةً أَنَّهُ الْمَسِيحُ، وَوَجَدُوا الْخَشَبَةَ الَّتِي صُلِبَ عَلَيْهَا الْمَصْلُوبُ، فعَظَّمُوا تِلْكَ الْخَشَبَةَ وَغَشَّوْهَا بِالذَّهَبِ وَاللَّآلِئِ، وَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذُوا الصُّلْبَانَاتِ وَتَبَرَّكُوا بِشَكْلِهَا وَقَبَّلُوهَا، وَأَمَرَتْ أُمُّ الْمَلِكِ هِيلَانَةُ فَأُزِيلَتْ تِلْكَ الْقُمَامَةُ، وَبُنِيَ مَكَانَهَا كَنِيسَةٌ هَائِلَةٌ مُزَخْرَفَةٌ بِأَنْوَاعِ الزِّينَةِ، فَهِيَ هَذِهِ الْمَشْهُورَةُ الْيَوْمَ بِبَلَدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، الَّتِي يُقَالُ لَهَا «الْقُمَامَة»، بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ عِنْدَهَا، وَيُسَمُّونَهَا «الْقِيَامَة»، يَعْنُونَ الَّتِي يَقُومُ جَسَدُ الْمَسِيحِ مِنْهَا.
ثُمَّ أَمَرَتْ هِيلَانَةُ بِأَنْ تُوضَعَ قُمَامَةُ الْبَلَدِ وَكُنَاسَتُهُ وَقَاذُورَاتُهُ عَلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي هِيَ قِبْلَةُ الْيَهُودِ([157])، فَلَمْ يزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى فَتَحَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ([158])رضي الله عنه بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فكنس عَنها القُمَامَة بِردَائه، وَطَهَّرهَا مِنَ الأخبَاث وَالأنجَاس.([159])
والْحَاصِل مِنْ هَذَا كُلِّه: أنَّ الْمَسِيح لَيْسَ هُو الْمَقْتُول، بَلِ الْمَقْتُول شَخْصٌ آخَر، وأمَّا الْمَسِيح فَرَفَعَه اللهُ إِلَيهِ في السَّمَاءِ، في مُعْجِزةٍ عَظِيمةٍ، وكَرَامةٍ رَفِيعةٍ، لمْ تَحْصل لَنِبيٍّ قَبْلَه، فَأَعَزَّه اللهُ وخَذَل أَعْدَاءَه اليهود ومن ساعدهم من شرطة الرومان.
وهَذِه هِي الِعَقِيدة الصَّحِيحة الَّتي قَرَّرَها القُرآنُ كما أسلفنا.
$ حَالُ بَني إِسْرَائِيل بَعْدَ رَفْع الْمَسِيح وظُهُور بُولِس
عَاشَ أَتْباعُ الْمَسِيح عَلَى الْعَقِيدة الصَّحِيحةِ الَّتي رَبَّاهُم عَلَيها الْمَسِيح حينًا مِنَ الدَّهْر، ولَكِنَّهم لاقوا خِلالها اضْطِهادًا شَديدًا مِنَ الْيَهُود، لاسيَّمَا مِنْ بُولِس الْيَهُودِي، فَقَدْ كَانَ شَدِيدَ الاضْطِهادِ لأَتْبَاع الْمَسِيح، فَلَمَّا وجَدَ أنَّ العُنْف لمْ ولَنْ يُجدِي مَعْهُم اسْتَعْمَل أُسْلُوب النِّفَاق، فَادَّعى الإِيمَانَ بِالْمَسِيح، واجْتَهَدَ في تَعلُّم تَعَالِيمِه حتَّى صَارَ مِنْ أَعْلَمِهم، ثمَّ بَعْد هَذَا كَذَبَ عَليهِمْ, وقَالَ إنَّ الْمَسِيحَ أوْحَى إِلَيهِ إِنْجِيلًا، فَصَدَّقَه مَنْ صَدَّقَه، ثمَّ قَامَ بِمَهَمَّتِه الدَّنِيئةِ وهِي تَحْريفُ دِينِ الْمَسِيح، بِإِدْخَال مَا ليْسَ مِنْه فِيهَا، فَاخْتِرع عَقِيدَة أنَّ الْمَسِيح ابنُ اللهِ، ثمَّ عَقِيدة الْخَطِيئة الأُولى، ثمَّ عَقِيدَة الفِدَاء، فَقَامَ في وجْهِه كَثِير مِن أَتْبَاع الْمَسِيح، يَدلُّ لِهَذَا مَا قَالَ بُولِس عَنْ نَفْسِه كَمَا في «تيموثاوس الثانية» (15:1): «أَنْتَ تَعْلمُ هَذَا أنَّ جَمِيع الَّذِين في آسيا ارْتَدُّوا عَنِّي».
وقَالَ فِيهَا -أَيْضًا- (16:4): «في احْتِجَاجِي الأوَّل لمْ يَحْضُر أَحَدٌ مَعِي، بَلِ الْجَمِيع تَرَكُونِي».
$ المراحل الأربع لتطور مسيحية بولس بعد مماته
ومع كون بولس فَعَلَ ما فعل، فَقدْ كَانَ التَّوحيدُ هُو الْغَالبَ بَينَ الْمَسِيحيينَ إلى ثلاثة قرون.
ثم جاء مجمع نيقية وفرض القول بألوهية المسيح بدعم الإمبراطور الروماني قُسطنطين، لنزع فتيل الخلاف في المجتمع المسيحي الذي هو جزء من المجتمع الروماني، فحصل تقدم في المسيحية التي جاء بها بولس.
ثم دخل قُسطنطين نفسه في المسيحية المحرفة عن دين المسيح، والتي شكَّلها بولس، وفرضها على المجتمع الروماني، وترك دينه القديم الذي هو الوثنية الخالصة، التي ليس فيها ارتباط بالمسيح ولا غيره من الأنبياء، فازدادت المسيحية قوة إلى قوتها، ولكن مع ذلك، فقد كان التوحيد الذي كَان يَدعُو لَه الأُسْقف آريوس هو الغالب بين المسيحيين فِي القُسْطَنطينيَّة وأَنْطَاكية وبَابِل والإِسْكَندريَّة وأَسْيوط وبَيْت الْمَقْدسِ وقَيْصَرية فِلَسْطين وصُور.
فأَخذَ الأَسَاقِفةُ غَيرُ الـمُوحِّـدين يُسيطِرُونَ عَلى الْمَسِيحيينَ بِالرُّؤى والأَحْلامِ حتَّى اخْتَفى مَذْهبُ التَّوحيد([160])، ولمْ يَبْقَ عَلى السَّاحَة إلَّا مَذْهب تَألِيه الْمَسِيح([161]).
وفي سَنة 380م كَانَ عَهْد الإِمْبراطُور ثيودوسيوس الأوَّل، الَّذِي اعْتَنقَ الْمَسِيحيَّة، فَاعْتَنقتِ الإِمْبَراطُوريَّة الرُّومَانِيَّة الدِّيَانة الْمَسِيحيَّة رَسْميَّا بِثَوبِهَا الْجَدِيد الَّذِي فَصَّله بُولِس وثـبَّـته قُسْطَنطين، فَانْفَتح الْبَاب عَلى مِصْرَاعَيه أَمَام الشُّعوب الْوثَنِيَّة التَّابِعة للإِمْبراطُوريَّة الرُّومَانِيَّة للدُّخُول في الْمَسِيحيَّة.
هذه هي المراحل الأربع الأساسية لتطور المسيحية، والتي تلت عهد بولس، والتي طوَّحت بالمجتمع المسيحي بعيدا عن تعاليم المسيح، وجعلت المسيحيين يتعبَّدون بدينٍ ليس إلا خليطا من خرافات بولس وعقائد الرومان الوثنية.
$
$ تحريف بني إسرائيل للتوراة والإنجيل مع مرور الزمن يعتبر من أعظم عوامل تحريف دين موسى والمسيح
قَالَ اللهُ تَعَالى مُخاطِبًا عُلَماءَ أَهلِ الْكِتَابِ كُلِّهم (الْيَهُود والنَّصَارى): ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾([162]).
$
وقَالَ اللهُ تَعَالى عَنْ عُلَماءِ أَهلِ الْكِتَابِ (الْيَهُودِ والنَّصَارى): ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾([163]).
$
وقَالَ اللهُ تَعالى عَنِ أَهْلِ الْكِتَابِ (الْيَهُود والنَّصَارَى): ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾([164]).
وهَذَا التَّحريف يتمثل في الأَنَاجِيل الأرْبَعة الَّتي كَتَبَها مَتَّى ومُرقُص ولُوقَا ويُوحنَّا بَعْد رَفْع الْمَسِيح عِيسَى ابنِ مَرْيمَ، الَّتي قَالَ عُلَماءُ النَّصَارَى فِيها إِنَّهَا هِي الإِنْجِيل الأَصْلِي الَّذِي كَانَ بِيدِ الْمَسِيح عِيسَى ابنِ مَرْيمَ والْحواريِّين، والحقُّ الذي لا مِرية فيه أنها كتب بشرية، بَدَأَ تَدْوينُهَا عَلَى يَدِ أَشْخَاصٍ أربعة، وكان ذلك التدوين مِن سَنَةِ 37م إلى سنة 110م، ثم اصطلحوا على تسمية كل واحد منها إنجيلًا، تشبيهًا بالإنجيل الذي كان بيد المسيح، وهذا من لبس الحق بالباطل، وسمَّوها بأسماء من كتبوها، فسمَّوها: «إِنْجِيل مَـتَّـى»، و«إِنْجِيل مُرْقُص»، و«إِنْجِيل لُوقَا»، و«إِنْجِيل يُوحنَّا»، وإلا فالحق والصدق أن تُسمى «كتاب مَـتَّـى»، و«كتاب مُرْقُص»، و«كتاب لُوقَا»، و«كتاب يُوحنَّا»، ولا يسمى الواحد منها إنجيلًا أبدًا.
$
وقَد وَعظَ اللهُ تَعالى أَهْل الْكِتَاب (الْيَهُود والنَّصَارى) فقال: ﴿ا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾([165]).
والمقصُود بالرسول هُنا هو مُحمَّد (صلى الله عليه وسلم ) ، والمقصود بالنور هو «القرآن».
$
إنَّ تَحْريفَ عَلَمَاء النَّصَارى لِدينِهِم هُو السَّببُ الأَسَاس الَّذِي أَدَّى إِلى وجُودِ الغُمُوضِ والتَّنَاقُضِ في الْمَسِيحيَّة الْمُعَاصِرة (ولا أَقُول: الدِّين الذي جاء به الْمَسِيح عِيسَى ابنُ مَرْيم)، ولوْ أنَّ التَّورَاةَ والأَنَاجِيلَ الَّتي بِأَيْدي الْيَهُود والنَّصَارى الآنَ هِي نَفْسُ التَّوراة والإِنْجِيل الَّتي كَانَت بِيَدِ مُوسَى والْمَسِيح بنِ مَرْيمَ لَمَا حصَلَ هَذَا الاضْطِرابُ والغُموضُ بين طوائف النصارى، ولَكَانتْ مَسَائِل الْعَقِيدة ظَاهرةً جدًّا، لأنَّ اللهَ وَصَفَ التَّوراةَ والإِنْجِيل بِأَنَّه فِيها هُدًى ونُورٌ، والْهُدى والنُّور يَتَنَافى مَعَ وجود الغُموضِ في التَّورَاة والأَنَاجِيل الْمَوجُودَة بَأْيدِي الْيَهُود والنَّصَارى الآنَ.
فَتَبيَّن مِنْ هَذَا أنَّ التَّورَاة والأَنَاجِيل الْمُعَاصِرة لَيْسَت هِي الأَصْليَّة الَّتي أَنْزَلَها عَلَى رُسُلِه مُوسَى وعِيسى، بَلْ هِي مَكْتوبةٌ بِأَيدي بَشَرٍ بَعْد مُضي عَصْرِهِما([166])، وفِيهَا مِنَ التَّحْريفِ الْمَكْشُوف عَنِ النَّصِ الأَصْلي الشَّيءُ الَكَثيرُ، ومن قرأ القرآن بإخلاص وتجرد تَبيَّن له الفَرْقُ بَينَ كَلامِ اللهِ وكَلامِ الْبَشَرِ، والْحَمْد للهِ عَلى ظُهُور الْحُجَّة وبَيَان الْمَحَجَّة.
$ تنبيه هام
ومع غياب الإنجيل الأصلي الذي كان بيد المسيح، ووجود الكتب التي كتبها يوحنا ومَتى ولوقا ومُرقص، والتي تُسمى أناجيلًا؛ فإن فيها أخبارًا صحيحة، لأنها مثل كتب التاريخ تمامًا، ففيها الإشارة إلى بشرية المسيح، وقد نقلنا منها طائفة كثيرة في هذا البحث المبارك، وكذلك فيها بشارات بِالنَّبيِّ الْحَقِيقيِّ وهُو مُحمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم ) ، نَبيُّ الإِسْلامِ، والتي تقرب مِنَ الثَّلاثِين بِشَارةً([167]).
$ نَـزَعَ اللهُ النُّبوةَ مِنْ بَني إسْرَائِيل
نَـزَعَ اللهُ النُّبوة مِنْ بَني إسْرَائِيل وجَعَلَها في بَني إسْمَاعِيل، واللهُ يَحْكُم مَا يَشَاء ويَخْتَار، ليس لأحدٍ الحق في الاعتراض على أوامر الله، وإنما ذلك لله وحده سبحانه، فَأَرْسَل مُحمَّدًا منْ ذُرِّيَة إسْمَاعِيل ابنِ النَّبيِّ إبْرَاهِيم إلى النَّاس كَافَةً؛ بَني إسْرائِيل وغَير بَني إسْرائِيل، وأوجب على جميع الناس الدخول في دينه، وجعل رسالته مُـتَـمِّـمة لجميع رسالات الرسل قبله.
$ مَكَانةُ الْمَسِيح عِنْدَ الْيَهُود والنَّصَارَى والْمُسْلِمين
فرَّط الْيَهُود في حَقِّ الْمَسِيح، فَكَفَرُوا بِنُبَوته وكَذَّبوه، واتَّهَمُوا أُمَّه بِالزِّنَا، حَاشَاهَا مِنْ ذَلِك.
وأَفْرَطَ النَّصَارى في حَقِّه، فَرَفَعُوه فَوْقَ بَشَريتهِ، فَقَالُوا فيه أقوالا متناقضة جدا، وغير منطقية، قالوا إنَّه هُو اللهُ، وابنُ اللهِ، وثَالثُ ثَلاثةٍ، ومِنْهُم مَن قَال: إنَّ لهُ طَبِيعةً واحِدةً، ومِنْهُم مَن قَالَ: لهُ طبيعَتَانِ، ومِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لهُ مَشِيئةٌ، ومِنْهُم مَنْ قَالَ: لهُ مَشِيئَتَانِ.
وأمَّا الْحَوارِيُّون ومُؤلِّفو الأَنَاجِيل الأَرْبَعة فَلَمْ يُذْكَر عَنْهُم كَلِمةٌ واحِدةٌ عنِ الْمَسِيح أَنَّه قَال عَن نَفسِه إِنَّه رَب أو ابنُ الرَّبِّ أوْ ثَالثُ ثَلاثةٍ، ولا ورد عنه كَلِمَةٌ واحِدَةٌ أنَّه قَالَ للنَّاسِ: اعْبدُوني.
وأمَّا دِينُ الإسْلامِ فبَـيَّـن الْحَقِيقة النَّاصِعة البَيْضَاء في طبيعة المسيح، وهِي أنَّ الْمَسِيح بَشَرٌ رَسُولٌ، خَلَقَه اللهُ في رَحِم أُمِّه مَرْيمَ بِكَلمةِ (كُنْ) فَكَان الْمَسِيح في رَحِم أُمِّه، ثمَّ أَرْسَلَه اللهُ إِلى بَني إسْرَائِيل، وأَمَرَهَم بِعِبَادَةِ اللهِ وحْدَه، كَمَا أَخْبَر اللهُ عَنْه في القُرْآن بِقَوْلِه:
﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۖ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۖ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾([168]).
وقَالَ اللهُ عَنِ الْمَسِيح أَنَّه قَالَ لِقَوْمِه: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾([169]).
وقَالَ اللهُ عَنِ الْمَسِيح أَنَّه قَالَ لِقَوْمِه: ﴿إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۗ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾([170]).
وقَالَ اللهُ عَنِ الْمَسِيح أنَّه قَالَ لِقَوْمِه: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾([171]).
وفي سُورة مَرْيمَ أنَّه قَالَ لِقَوْمِه: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾([172]).
وقَالَ اللهُ تَعَالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾([173]).
$ تَفْسِير هَذِه الآيةِ الْكَرِيمة
إنَّه مِن الممتنع والمستحيل عَلَى بَشَرٍ قد مَنَّ اللهُ عَليه بِالنُّبُوة وإنْزَال الْكِتَاب عَلَيه أنْ يَقُولَ للنَّاسِ: (اعبدوني من دون الله)، أو (اعبدوني مع الله)، فهَذَا مِنَ الْمُسْتَحِيل صُدُورِه مِنْ أَحَدٍ مِنَ الأَنْبِياء عَلَيْهِم أَفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلام، لا الْمَسِيح ولا غَيره، لأنَّ هَذَا هُو أَقْبَح الأَوامِر عَلى الإطْلاقِ، بِأَنْ يُرْسِلَ اللهُ رَجُلًا نَبِيًّا، ثمَّ يَنْصِبَ هذا الرجل نَفْسَه ربًّا لا نبيًّا، هَذَا مِنَ الْمُسْتَحِيل صُدُورُه مِنَ الأَنْبِياء، لأنَّ الأَنْبياءَ هُمْ أَكْمَلُ الْخَلق عَلَى الإطْلاقِ، وأَشَدُّ النَّاسِ عُبودِيَّةً للهِ تَعَالى، واتِّبَاعًا لأَوامِرِه، وأوَامِرُهمْ للنَّاس مُطَابَقةٌ لَمَّا أَمَرَهم اللهُ بِه، وهُو دَعْوة النَّاسِ إِلى التَّوحِيد، وإِفْرَادِ اللهِ بِالْعِبَادَة، والتَّحْذِير مِنَ الأُمُور الْقَبِيحة، الَّتي أَعْظَمُها وأَشَدُّهَا الشِّرك بِاللهِ، واتِّخَاذُ غَيرِه إلـٰهًا وربًّا.
وقدْ كَانَ أَهْلُ الْكِتَاب مِنَ الْيَهُود والنَّصَارى يَعْبُدُون أَحْبَارَهُم ورُهْبَانَهُم، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالى عَنْهم: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾([174])؛ أيْ: يجعلون الأَحْبارَ والرُّهْبانَ أربابا (جمع كلمة (رب))، ويَعْبدُون الْمَسِيح أيْضًا، مَعَ أنَّ اللهَ مَا أمَرَهَم بِذَلِك، بَلْ أَمَرَهُم بِضِدِّه، وهُو تَرْكُ عِبَادَة كلِّ مَا سِوى اللهِ، وعِبَادَة اللهِ وحْدَه لا شَرِيكَ لهُ.
وقد بَيَّنَ اللهُ حَقِيقَة مَا يَأْمُر به كُلُّ نَبيٍّ قَوْمَه فَقَال: ﴿ وَلَٰكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾، ومعنى رَبَّانِيين أيْ حُكَمَاء فُقَهَاء عُلَمَاء، وأَمْرُهُم بِأَنْ يَكُونُوا رَبَّانِيين يُـعتبر حقًّا عَلَيْهِم - أي الأنبياء - بِمَا عَلِمُوه مِنْ ذَلِك الْكِتَاب الَّذِي أَنْزَلَه اللهُ عَليهِمْ، ثم إنَّ تَعْلِيمَ النبيِّ للنَّاسِ الْخَيِر يَسْتَوجِب أنْ يَمتثل هُو مَا عَلَّمه إيَّاهُم، ويَكُون قُدْوةً لَهُم.
فَالْحَاصِلُ أنَّ مَقُولَة: (إنَّ الأَنْبِياءَ أَمَرُوا أَقْوامَهُم بِعبَادَتِهم هُم أَنْفُسهمْ) مَقُولةٌ كَاذبةٌ، بَل الأَنْبِياء أَمَرُوا بِعبَادَة اللهِ، ونَهَوْا عَنْ عِبَادَة مَا سَواه.
$
الْمُلْحَقُ الخَامِس: شُبْهةٌ والْجَوابُ عَليهَا
احْتَجَّ بَعْضُهم عَلى أنَّ الْمَسِيح ابنُ اللهِ (بُـنُـوَّة نَـسَب) بِأَنَّ الْمَسِيح لَيْسَ لهُ أبٌ بَشَريٌّ، فَبِناءً عَلَيه فَإِنَّ أبَاه هُو اللهُ، هَكَذَا قالوا.
والْجَوابُ عَنْ هَذِه الشُّبْهة: أنَّ هَذَا الْكَلامِ لا يَسْتَقِيم، لأنَّ اللهَ خَلَقَ أَبَانَا آدَمَ وحَوَّاءَ بِلا أُمٍّ ولا أَبٍ، ومع هذا فلمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إنَّ أَبَاهُمَا هُو الله.
ثمَّ إنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ، لا تَـحْـكُمُهُ عَادَةٌ، ولا يُعْجِزه أَمْرٌ، فَاللهُ قَادِرٌ عَلى أنْ يَخْلقَ بشَرًا مِنْ ذَكرٍ وأُنْثَى، كَمَا هُو حَالُ سَائرِ الْبَشَرِ، وقَدْ يَخْلقُ مِنْ غَيِرِ ذَكرٍ وأُنْثَى، كَحَالِ أَبِينَا آدَمَ، وقَدْ يَخْلقُ مِنْ ذَكَرٍ بِلا أُنْثَى، كَحَالِ أُمِّنَا حَوَّاء الَّتي خَلَقَها اللهُ مِنْ ضِلَع آدَمَ، وقَدْ يَخْلقُ مِن أُنْثَى بِلا ذَكَرٍ، كَحَالِ الْمَسِيح بنِ مَرْيمَ، وقَدْ يَخْلقُ مِن الرَّجُـلِ الْكَبيرِ ومِن الأُمِّ العَاقِر، كَحَال الأَنْبِياء إِبْرَاهِيم وزَكَريَّا، وقَد لا يَخلُق مِنَ الذَّكر والأُنْثَى شَيئًا، لا ذَكَرًا ولا أَنْثَى، كَحَال مَنْ بِه عُقمٌ، وقَد يَخْلقُ مِنَ الزَّوْجَينِ ذُكُورًا بِلا إنَاثٍ، وقَدْ يَخْلقُ مِنْهُما إنَاثًا بِلا ذُكورٍ، وقَدْ يخْلقُ مِنْهُمَا ذُكورًا وإناثًا، فَاللهُ قَادِرٌ عَلى كُلِّ شَيءٍ جل وعلا ، إذَا أَرَادَ شَيئًا فَإِنَّما يَقُولُ لهُ: (كُن) فَيَكُون.
قَالَ اللهُ في القُرآنِ: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾([175])، وقَالَ اللهُ -أيْضًا- في القُرآنِ: ﴿ لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾([176]).
ومَعْنى الآيةِ الْكَرِيمة: للهِ جل وعلا مَلك السَّمَوات والأَرْض ومَا فِيهمَا، يَخْلقُ مَا يَشَاءُ مِن الْخلقِ، يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ مِن عِبَادِه إنَاثًا لا ذُكُور مَعَهُنَّ، ويَـهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُور لا إنَاث مَعَهُم، ويَـهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنَ النَّاسِ الذَّكرَ والأُنْثَى، ويَجْعل مَن يَشَاء عَقِيمًا لا يُولَد لهُ، إنَّه عَلِيم بِمَا يَخْلُق، قَدِيرٌ عَلى خَلْق مَا يَشَاءُ، لَا يُعْجِزُه شَيءٌ أرَادَ خَلْقَه.
وبَعْد هَذَا التَّقْرير أَيُّها القَارِئُ الْكَريمُ وأَيَّتُها القَارِئة الْكَرِيمة، أَيُّهَما أَقْرَب للْعَقِل والْمَنْطِق، أنْ نَقُولَ: إنَّ اللهَ خَلْقَ الْمَسِيحَ في بَطْنِ أُمِّه بِكَلِمَة (كُنْ) فَكَانَ الْمَسِيحُ في بَطْنِ أمِّه، أمْ نَقُولُ: إنَّ الْمَسِيح هُو ابنُ الرَّبِّ؟
أَتْرُك الإِجَابَة للْقَارِئ الْمُنْصِف الْمُتَجِرِّد في الْبَحْث عَنِ الْحَق.
الْمُلْحَقُ السَّادِس: فَائدِةٌ فِي مَعْنَى كَلِمةِ (ابنِ اللهِ) الْوارِدَةِ فِي بَعْضِ الأَنَاجِيلِ([177])
كلمة (ابنُ اللهِ) الْوارِدة في مَواضِعَ مِن الأَنَاجِيل يَجِب أنْ يُـردَّ فَهْمُها إِلى لُغةِ الْمَسِيح عليه السلام ، وبِالرُّجُوع إِلى الْمَرَاجِع الإِنْجيليَّة نَجِدُ أنَّ كَلِمَة الابنِ في هذا السياق تَعني الرِّعَايَة والْمَحبَّة والهِدَاية والإِيمَانِ والتَّشْريف، وهَذَا الْوصَف مُنْطبقٌ عَلى الْمَسِيح وتَلامِذته عَلى وجهِ الْخُصُوصِ، كَمَا أنَّه مُنْطَبقٌ عَلى غَيْرِهم مِنْ بَني إِسْرَائِيل مِمَّن اتَّبَع الْمَسِيح وعَمل بِشَريعَتِه الَّتي أَرْسَلَه اللهُ بِها.
يِدلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى مَا جَاءَ في «إنْجِيل يُوحَنَّا» (1/12): (أوْلادُ اللهِ أيْ: الْمُؤمِنونَ بِاسْمِه).
وفي رِسَالَةِ بُولِس إِلى أَهْلِ رُوميَّة (8/14): (لأنَّ كُلَّ الَّذِين يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ، فَأولَئكَ هُمْ أَبْنَاء الله).
ثمَّ قَالَ في (8/16): (الرُّوح نَفْسُه -أَيضًا- يَشْهد لأرْواحِنَا أَنَنَا أَوْلادُ الله).
وفي «إنْجِيل مَتَّى» (5/9) قَالَ الْمَسِيح: (طُوبَى لصَانِعي السَّلامِ، لأَنَّهُم أَبَنَاءُ اللهِ يُدْعَون).
وقال الْمَسِيح لِتَلامِيذِه: (وصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِين يُسيئون إِلَيْكُم ويُطْرِدُونَكُم لِكَي تَكُونُوا أَبْنَاء أَبِيكُم الَّذِي في السَّمَاوات). (متَّى 5/44-45).
فَألْفَاظ (ابنُ اللهِ) الَّتي جَاءتْ في الأَنَاجِيل والْكُتُبِ الْمُقَدَّسَة عِنَدَ الْمَسِيحيينَ اسْتُخدِمت في الْمَسِيح وفي أَتَباعِه عَلَى حَدٍّ سَواء، مِنَ الْمُؤمِنين بِه ومُحِبِّي الْخَيرِ والسَّلامِ، والْمُحَافِظينَ عَلَى الْعِبَادَات، وليست مخصوصة بالمسيح نفسه، فَتَبيَّن بِهَذَا الْمَعْنى الْحَقِيقي لِهَذا الْمُصْطَلِح في الأَنَاجِيل (ابن اللهِ)، وأنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ الـبُـنُـوَّة عَلى وجْهِ النَّسَب والتَّنَاسُل، وإنما المقصود الرعاية والمحبة لأتباع المسيح.
· ومِمَّا يبين هذا بغاية الوضوح أنَّ وَصفَ (الابن) جَاءَ في وصْفِ بَشَرٍ كَثيرٍ جَاءُوا قَبْلَ الْمَسِيح، فَهُو وصفٌ لمْ يَخْـتَـصَّ بِه الْمَسِيح عليه السلام ومَنْ مَعَه، ومِنْ ذَلِك مَا جَاءَ في الْعَهْد القَدِيم قَوْل اللهِ لِدَاود عليه السلام : (أنْتَ ابْنِي، أنَا الْيَوْمَ ولَدْتُــكَ([178])، اسْأَلْني فَأَعْطِيك). (الْمَزَامِير: 2/7).
بَلْ جَاء في الْعَهْد الْقَديم وصْفُ جَميعِ أَوْلادِ آدَمَ بِأَنَّهُم أَبْنَاء اللهِ، كَمَا في سِفْرِ التَّكْوينِ في بِدَايةِ الإصْحَاح السَّادِس عِنْد الْحَدِيث عَنِ الْبَشَر بَعْد آدَمَ:
«وحَدَث لَمَّا ابْتَدَأ النَّاسُ يَكْثُرُون عَلى الأَرْضِ ووُلِـد لَهُم أَبْنَاء أنَّ أَبْنَاء اللهِ رَأَوْا بَنَاتِ النَّاسِ أَنَّهُم حَسَناتٌ([179])، فَاتَّخَذُوا لأَنْفُسِهم نِسَاءً مِنْ كُلِّ مَا اخْتَارُوا».
ويَدلُّ لِمَا تَقَدَّم -أَيْضًا- أنَّ كَلِمةَ (أَبْناءُ اللهِ) يُقَال في مُقَابِلها: (أَبْنَاء الشَّيْطَان، وأَبْنَاء الأَفَاعِي)، كَمَا جَاءَ في الأَنَاجِيل في وصْفِ الْيَهُود: (يَا أَبْنَاء الأَفَاعِي)([180])، والكُلُّ يَعْلمُ أَنَّهُم لَيْسُوا أَبْنَاءَ الأَفَاعِي مِنَ النَّسب، ولا أَبْنَاء الشَّيطَان مِنَ النَّسب، وإِنَّمَا نُسِبوا إِلى الأَفَاعِي لِمَكْرِهمْ وخَطَرِهمْ وسَمُومهم الفِكْريَّة، كَمَا نُسِبوا إِلى الشَّيطَان لِتَلْبِيسِهمْ وكَذِبِهمْ.
فَالْحَاصلُ أنَّ كَلِمَة (ابنُ اللهِ) إذَا وَرَدَت في الأَنَاجِيل فَإِنَّهَا لَا تَعْنِي بُـنُـوَّة النَّسَب، وإِنَّمَا يُقْصَد بِهَا وصْف مَنْ جَاءَت هَذِه الْكَلِمة في حَقِّه بِأَنَّه في رِعَايَةِ اللهِ، وأنَّه قَريبٌ مِنَ اللهِ بعبادته وإيمانه.
أمَّا الْمَعْنى الثَّاني للـبُـنُـوَّة فَهُو بُـنُـوَّة النَّسَب الَّتي تَحْصُل بِالتَّنَاسُل، والَّذِي يَكُون فِيه الابنُ قِطْعةً مِنْ أَبِيه، فَلا شَكَّ عِندَ كُلِّ ذِي لُبٍّ وإيمانٍ وبَصِيرةٍ أنَّ هَذَا الْمَعْنى مُنتفٍ عَنِ اللهِ جل وعلا ، لأنَّه لَيسَ بَينَ اللهِ وبَينَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِه بُـنُـوَّة نَسبٍ قَـطُّ، لأنَّ اللهَ لَـمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ، كَمَا أنَّ اللهَ غَنيٌّ عَنِ العَالَمينَ، لمْ يَتَّخذْ صَاحِبةً ولا ولدًا، واتِّخَاذ الْولَدِ والزُّوجَة لَا يَكُون إلَّا عَن حَاجةٍ، واللهُ مُـنَـزَّهٌ عَنْ أنْ يَخْلقَ الشَّيءَ ثمَّ يَحْتَاجُ إِليهِ. تَعَالى عَنْ ذَلِك عُلوًّا كبيرًا.
والْمَقْصُود بِالبُـنُـوَّة في الأنَاجِيل هُو الْمَعْنى الأوَّل، كَمَا تَقَدَّم تَقْريرُ ذَلِك.
$ فَصْلٌ فِي تَصْريح الْمَسِيح بِأَنَّه إِنْسانٌ بَشرٌ، وهَذَا قَاطعٌ للخِلافِ وحَاسمٌ للمَسْألةِ
ومِمَّا يُوضِّح مَعْنى كَلِمَةِ (ابنُ اللهِ) الْوارِدَة في الأنَاجِيل هُو تَصْريحُ الْمَسِيح بِأَنَّه مِنْ نَسْلٍ بَشَريٍّ، لَيْسَ لاهُوتيًّا، فَلوْ أنَّ الْمَسِيح ابنُ اللهِ عَلى الْحَقِيقة لَمَا قَالَ إِنَّهُ بَشَرٌ، لأنَّه سَيَكُون كَاذبًا، حَاشَاه مِن ذَلِك.
وقَدْ جَاءَ وصْفُ الْمَسِيح عِيسَى عليه السلام نَفْسِه بِأَنَّه ابنُ الإِنْسَان في مَواضِعَ عَديدةٍ في الأَنَاجِيل، وقَدْ تَقدَّم ذِكْر جُمْلةٍ مِنَ الأَدِلَّة عَلى ذَلِك، مِنْهَا:
· مَا وَرَدَ في «إنْجِيل لُوقَا» في الإِصْحَاح التَّاسِع، عَدد 56، القَوْل عَنِ الْمَسِيح نَفْسِه:
«لأنَّ ابنَ الإِنْسَان لمْ يَأْتِ ليُهلِكَ أَنْفُس النَّاس».
فَهَذَا النَّصُّ صَريحٌ في أنَّ الْمَسِيحَ لَيْسَ ابنَ اللهِ وإِنَّمَا ابنُ الإِنْسَان، وهُو الْجِنس الْبشَري.
· وفي «إنْجِيل يُوحَنَّا» (8-28) قَالَ الْمَسِيح:
«قَالَ لَهُم يَسُوع: متَّى رَفَعْتُم ابنَ الإِنْسَان،... ولَستُ أَفْعَلُ شَيئًا مِنْ نَفْسِي».
أَلَيْسَ هَذَا يَدلُّ عَلى أنَّ الْمَسِيح إنسانٌ، لا يتصف بشيء من صفات الربوبية؟!
لوْ كَان الْمَسِيح ربًّا لِمَا وصَفَ نَفْسَه بِالْبَشَريَّة في قَوْلِه: (ابن الإِنْسَان)، ولَمَا قَالَ: (لَسْتُ أَفْعلُ شَيئًا مِنْ نَفْسِي)، لأنَّ رَبَّ الْكَوْنِ يَفْعَل كُلَّ شَيءٍ، ويُدَبِّر أَمْرَ الْكَوْن كُلِّه، ولَا يُمْكِن عقلًا أنْ يَقُول الْمَسِيح: (لَسْتُ أَفْعَل شَيئًا مِنْ نَفْسِي) لوْ كَان هُو رَبَّ الْكَون فعلا.
وفي «إنْجِيل مَتَّى» (11/19) قَالَ يَسُوعُ عَن نَفْسِه للْجُمُوعِ: «جَاءَ ابنُ الإِنْسَانِ يَأْكُلُ ويَشْرَب».
كَمَا قَالَ الْمَسِيح لِمَنْ يُرِيدُ قتْلَهُ: «ولَكِنَّكُم الآنَ تَطْلُبُون أنْ تَقْتُلُوني. وأَنَا إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُم بِالْحَقِّ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللهِ. هَذَا لمْ يَعْمَلْه إِبْرَاهِيم». «يوحنَّا» (8/ 40).
بلْ لَمَّا قِيلَ لِعيسَى عليه السلام : (أَنْت ابنُ اللهِ) كَانَ خَاتمة جوابِه أَنَّه ابنُ الإِنْسَان. «يوحنَّا» (1/ 49-51).
فوصْفُ الْمَسِيح عليه السلام لِنَفْسِه بِأَنَّه إِنْسَانٌ دَليلٌ واضحٌ وصَريحٌ عَلى أَنَّه بَشَرٌ، فَهْل مَنْ يَقُول هَذَا الْكَلامَ قَدْ قَامَ في نَفْسِه مُجرَّد ظَنٍّ أنَّه هُو اللهُ أو ابْنُه؟
· وفي الأَنَاجِيل إشَارَاتٌ أخْرَى لِبَشَريَّة الْمَسِيح، انْظُر: «لُوقَا» (17/ 22) (18/ 8)، «متَّى» (12/ 32).
· فَالْحَاصِلُ أنَّ كَلِمَة (الابنِ) إذَا أُطْلِقت عَلى الْمَسِيح فَإِنَّهَا لَا تَعْني أنَّ الْمَسِيح هُو ابنُ اللهِ مِنْ جِهَةِ النَّسَب والتَّنَاسُل، لَا، بَل الْمَعْنى هُو أنَّ الله هو الرَّاعي له والـمُرَبِّي.
$ فَصلٌ فِي مَعْنى كَلِمة (الأَبِ)
لَفْظَة (الأَبِ) الْوارِدَة في مَواضِعَ مِنَ الإِنْجِيل يَجِبُ أنْ يُـردَّ فَهْمُهَا -أيضًا- إِلى لُغَةِ الْمَسِيح عليه السلام ، وبِالرُّجُوع إِلى إِنْجِيل يُوحنَّا نَجدُ أنَّ كَلِمةَ (الأبِ) تَعْني الرَّاعِي والـمُـربِّـي والقَائِم عَلى الشَّيءِ، ومِنَ الْمَعْلُوم أنَّ اللهَ هُو القَائِم عَلَى هَذَا الْكَوْن كُلِّه بِمَا فِيهم الْبَشَر، فَهُو أَبُو الْكُونِ بِهَذَا الْمَعْنى، فَقَدْ جَاءَ عَنِ اليَسُوع في «يُوحَنَّا» (20/ 17): «إِنِّي أَصْعَد إِلى أَبِي وأَبِيكُمْ، وإِلَـٰهِي وإِلَـٰهِكُم».
وقَالَ الْيَهُودُ لِيَسُوع: «لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ وهُو الله». (يُوحنَّا 8/ 41).
وقَالَ الْمَسِيح لِتَلامِيذِه: «وأَمَّا أَنْتَ فَمتَى صَلَّيتَ فَادْخُل إِلى مخدَعِك وأَغْلِق بَابَك، وصَلِّ إِلى أَبِيكَ الَّذِي في الْخَفَاء. فَأبُوكَ الَّذِي يَرى في الْخَفَاء يُجَازِيك عَلانِيَّةً». (متَّى 6/7).
وقَالَ -أَيضًا- لِتَلامِيذِه: «احتَـرِزوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُم قُـدَّامَ النَّاسِ لِكَي ينْظُروكُم، وإلَّا فَلَيْسَ لَكُم أَجرٌ عِنْدَ أَبِيكُم الَّذِي في السَّمَاواتِ». (متَّى 6/1).
وفي «سِفْرِ إشْعيا» (64/ 8) قَوْل إشْعيَا: «يَا رَبِّ، أَنْتَ أَبُونَا».
ومِثلُ هَذا الْكَلامِ الْمَنْسُوب إِلى الْمَسِيح وغَيرِه كَثيرٌ، وكُلُّه شَاهدٌ عَلى أَنَّ اسْمَ (الأَبِ) يُسْتَعْمَل في التَّعْبيرِ عَنِ اللهِ بِمَعْنَى الـمُـربِّـي، الَّذِي يرعى عِبَادَه الْمُؤمِنينَ، ولَيْس بِمَعْنى أُبوَّةِ النَّسَب، تَعَالى اللهُ عَنْ ذَلِك عُلوًّا كَبيرًا.
فَبِنَاءً عَلى مَا تَقَدَّم فَإِذَا جَاءَ في الإِنْجِيل قَوْل الْمَسِيح عَنِ اللهِ إنَّه (الأَب)؛ فَإِنَّه يَقْصِد الـمُربي والقَائِم عَلى الشَّيءِ، ولا يَعْني أُبُـوَّة النَّسَب والتَّنَاسُل الْمَعْرُوفَة، والَّتي يَكُون فِيهَا الابنُ قِطْعَةً مِنْ أَبِيه.
$ خُلاصَةُ مَا تَقَدَّم
كَلِمَةُ الابنِ تُطْلقُ عَلى مَعْنَيينِ: حَقِيقيٍّ، ومَعْنويٍّ.
الْمَعْنى الْحَقِيقي: مِثلُ قَوْلِك: (أنَا إِيلي، ابنُ دَانِيال). يَعْني أنَّ دَانِيال أَبُوكَ الَّذِي أَنْجَبَك، وأَنْتَ ابْنُه.
هَذَا هُو الْمَعْنى الْحَقِيقي لِكَلِمَةِ (ابن).
والْمَعْنى الثَّاني (مَعْنَويٌّ): وهُو مِثلُ قَوْلكِ للْطِفْل الَّذِي يَمْشِي في الْحَدِيقَة مَعَ أَبِيه وأُمِّه وتُريدُ أنْ تُلاطِفَه: يَا ابْنِي، تَعَال أُعْطِكَ حَلْوى.
وقَولُك للْطِّفْلة الصَّغِيرة الَّتي تَمْشِي مَعَ أُمِّهَا وأَبِيهَا: تَعَالي يَا ابْنَتي أُعْطِكِ حَلْوى.
أوْ قَوْلك لابنِ أَخِيكَ: يَا ابْنِي، تَجَنَّب السَّهَر.
تَقُول هَذِه الْكَلِمة لهُ (يَا ابْني) مَعَ أنَّه لَيسَ ابْنَك الْحَقِيقي، ولَكِنَّك تَشْعُر أنَّه ابْنُك بِسَبَبِ شُعُورِك بِالْحَنَان عَلَيه ولأَنَّك تُرَبِّيه بِكَلامِك، فَهُو كَمَا لوْ أَنَّه ابْنُك فِعْلًا.
وكَذلكَ مِثلُ قَولِ مُديرِ الْمَدْرَسةِ للأَوْلادِ الَّذِين في الْمَدَارِس:
يَا أَبْنَائِي، تَجَنَّبُوا السُّرْعَة في الْقِيَادَة.
وقَوْلُ مُدِيرة الْمَدْرَسة للطَّالِبَات: يَا بَنَاتِي، سَاعِدنَ أُمَّهَاتِكُنَّ.
فالْمُدِير والْمُدِيرة يقولان هَذَا الْكَلام للطُّلابِ والطَّالِباتِ مَعَ أَنَّهُما لَيْسا أَبَنَاءَهُما حَقِيقَةً، ولكنَّهُما يَشْعُرَانِ بِذَلكِ لأَنَّهُما الـمُربِّـيان لهمْ.
ونَفْسُ القَاعِدةِ تَنْطَبقُ عَلى كَلِمَة (ابن) الْمَذْكُورة في الأَنَاجِيل، فَهِي تَعْني بُـنُـوَّة التَّرْبِية والعِنَايَة والْمَحَبَّة، ومِنْ ذَلِك تَسْمِيةُ مَنْ يتَّـبِع تَعَاليمَ الْمَسِيحِ أَنَّهُم أَبْنَاءُ اللهِ، فَهِي لَيْسَت البُـنُـوَّة الْحَقِيقيَّة الْمَعْرُوفَة الَّتي هِي بُـنُـوَّة التَّناسُل، لأنَّ اللهَ لمْ يَلِدْ ولمْ يُولدْ، ولمْ يَكُنْ لهُ كُفوًا أَحدٌ، وإِنَّمَا الْمَقْصُود هُو الْمَعْنى الثَّاني.
والْعَكْس صَحيحٌ أَيُّهَا القَارئُ الْكَريمُ وأَيُّتَها القَارِئة الْكَريمة، فَلَوْ قُلْتَ لِرَجُلٍ كَبيرٍ رَأيتَه في الشَّارِع، أوْ لِصَدِيقِ والِدِكَ أوْ لِعَمِّك أوْ لِخَالِك: يَا أَبِي، أوْ: يَا والِدي، هَلْ تُريدُ مِنِّي مُسَاعدةً؟
فَمَقْصُودُك بِالأبُـوَّة هُنَا في قَوْلِك: (يَا أَبي أوْ يَا والِدي) هُو التَّعْبيرُ عَنِ الاحْترامِ والتَّقْديرِ، ولَيْس قصدك الأُبوَّة الْحَقِيقيَّة الَّتي هِي بِمَعْنى أَنَّك مِنْ ذُرِّيَتِه ونَسلِه.
وكَذَلِك لوْ قُلتَ لامْرَأةٍ كَبيرةٍ تَحْملُ أَغْراضًا مَعَها أوْ لِصَدِيقةِ أُمِّكَ أوْ لِعَمَّتِك أو لِخَالَتِك: يَا أُمِّي، هَل تُريدِينَ مِنِّي مُسَاعدةً؟
فَالْمَقْصُود بِالأُمُومَة هُنَا في قَوْلِك: (يَا أُمِي أوْ يَا والِدَتي) هُو التَّعْبِير عنِ الاحْتِرَام والتَّقدِير، ولَيْسَ قصدك الأُمُومَة الْحَقِيقيَّة الَّتي هِي بِمَعْنى أَنَّك مِن ذُرِّيَتِها ونَسلِها، وأنها ولَدتك.
$
الْمُلْحَق السَّابع: فَوائِد عامَّة
,1- هل اتخاذ شعار الصليب من دين المسيح؟([181])
o اتخذ المسيحيون الصليب شعارًا، وهم يعبدونه ويحلفون به، مع أنه جماد من الجمادات، لا ينفع ولا يضر، ينحتونه في وِرش الحدادة والنجارة ثم يعبدونه.
o ولم يأتِ ذكر اتخاذ الصليب رمزًا لدين المسيح لا في الأناجيل الأربعة ولا في الرسائل الملحقة بها، والتاريخ يدل على أن المسيحيين لم يتخذوا الصليب شعارًا إلَّا بعد مجمع نِيقية الذي عُقِد في سنة 325م، وقد كان الرومان يُلزِمون المحكوم عليهم بالإعدام صَلبًا بحمل الصليب إلى المكان الذي سيصلبون فيه.
o وقد كان الامبراطور الروماني (قسطنطين الأول) أول من استخدم الصليب شعارًا على تروس جنوده وكان آنذاك لا يزال وثنيًّا، لم يتحول للمسيحية.
فقد ذكر المؤرخ المسيحي (د. أسد رستم) فيما معناه أنه في إحدى المعارك في سنة 312م شاهد قسطنطين فوق قرص الشمس قبل المغيب صليبًا من نور مكتوبًا عليه (بهذا تَـغْـلِب)، كما رأى في منامه تلك الليلة السيد المسيح حاملًا هذه الشارة نفسها، موصِيًا إياه باتخاذها راية يهجم بها على عدوه، فلما استيقظ من نومه أمر برسم الصليب على تروس جنوده، وخاض المعركة وانتصر، وقد أصبح هذه الشعار (الصليب) فيما بعد راية لدولة الروم([182]).
o وبهذا تتبين هشاشة القواعد التي تقوم عليها المسيحية، فالصليب الذي يتخذه المسيحيون شعارًا أساسُه رؤيا منامية وليست وحيًا من عند الرب (الله) ولا تعليمًا للمسيح مدونًا في أيٍّ من الأناجيل الأربعة التي أُلِّـفت بعد رفعه.
o وعلى أحسن تقدير فقد كان من المفترض لكي يكون الصليب شعارًا صحيحًا عند المسيحيين أن يكون من تعاليم بولس، ولكنه لا هذا ولا هذا، ومع هذا فقد جعله المسيحيون شعارًا لدين المسيح، والمسيح لا يعرف عنه شيئًا، ولم يُصلب عليه أصلًا!
o أضف إلى هذا أنه من المفروض أن يُبغِض المسيحيون الصليب، لأنه الآلة التي صُلِب عليها إلـٰهُهم - كما يعتقدون!
أليس كذلك أيها القارئ الكريم وأيتها القارئة الكريمة؟([183])
,2- فائدة في بيان أصل ومنشأ مصطلح «المسيحية»([184])
o لم يكن اسم «المسيحية» ولا «المسيحي» معروفًا في عهد المسيح وما بعده، ولا توجد هذه الكلمة في أيٍّ من الأناجيل الأربعة، ومنشؤها كان عندما لاحظ الوثنيون الرومان من أهالي مدينة أنطاكية وغيرهم أن هناك تغيرًا واضحًا أخذ يطرأ على الجماعة التي تبِعت بولس، والتي تتكون من اليهود والوثنيين الذين اعتنقوا لتعاليم بولس، وتميزوا بوضوح عن بقية اليهود المتمسكين بدينهم اليهودي، فأطلقوا على تلك الجماعة اسم المسيحيين - نسبة إلى المسيح عليه السلام -، وهذا هو الإثبات لما تقدم:
جاء في «أعمال الرسل» (11/26): وفي أنطاكية أُطلِق على تلاميذ الرب أول مرة اسم «المسيحيين».
وكان ذلك بعد رفع المسيح بحوالي خمس عشرة سنة إلى خمس وعشرين سنة على وجه التقريب.
o يؤيد هذا أن الوثنيين الذين دخلوا في دين بولس هم أنفسهم واجهوا مشكلة الحاجة إلى هوية يستظلون تحت رايتها بعدما انفصلوا عن قواعدهم الوثنية السابقة ودخلوا في الدين الجديد الذي أسَّسه بولس لهم، واحتاجوا أيضًا إلى أن يكون هذا الدين متميزًا عن دين المسيح الأصلي الذي جاء به المسيح، فتسَمَّوا بالمسيحيين.
o فبناءً على هذا فإن إطلاق لفظة المسيحية أو المسيحي على أتباع المسيح ممن كانوا في وقت المسيح إلى بعد رفعه بربع قرن تقريبًا يعتبر خطأً دينيًّا وتاريخيًّا، ويساهم في خلط الصورة وتشويهِها بين الدين الحق والدين المزيف من جهة، وبين أتباع المسيح وأتباع بولس من جهة أخرى.
o وديانة بولس والتي سُـمِّيت لاحقًا (المسيحية) – كما ترى أيها القارئ الكريم والقارئة الكريمة - هي ذات عقائد وشعائر وطقوس وثنيَّة وأسرار غامضة ومعقدة، لم (ولن) يستطيع أحد فهمها ولا الإجابة عنها، ولا حتى كبار رجال الدين المسيحي استطاعوا ذلك على مر القرون العشرين الماضية.
,3- عبادات وعادات وطقوس ومنافع شخصية دخلت في دين المسيح بعد رفعه إلى السماء([185])
لقد كانت ديانة المسيح ورسالته - قبل رفعه إلى السماء وتعرضها للتحريف من قِبَل بولس ومن بعده - كانت بسيطة وسهلة، وخالية من التنظيم الكهنوتي المعقد الموجود في الكنائس الكاثوليكية والقبطية والشرقية، كنظام البابوات والبطارقة والكرادلة والرهبان، ولم تُعزف الموسيقى في المعبد الذي كان يصلي فيه المسيح، ولم يُدق فيه ناقوس، ولم تُعلَّق فيه صلبان، ولم يكن هناك اعترافات بالذنوب أمام الكهنة، ولم يكن هناك صكوك غفران، ولم يكن الزواج محرمًا على القساوسة والرهبان قبل مجمع نِيقية، ولم يكن هناك صور للمسيح وأمه، ولم يكن يُـحتفل بما يسمى بعيد الميلاد أو «الكريسماس»، ولم يكن هناك ما يسمى بشجرة عيد الميلاد، أو «بابا نويل»، ولم تكن هناك أعياد غير التي يحتفل بها قومُه اليهود والتي من أهمها «عيد الفُصح» أو عيد الفطر «الإيستر»، وما سوى ذلك فلم يفعله المسيح ولم يأمر به، والدليل على هذا كلِّه أن شيئًا من هذا لم يُذكر في الأناجيل الأربعة، ولو أنه حصل لذُكِر فيها، لأنه من الأمور التي تتوافر الهمم على نقلها، فبناء على ذلك فكل هذه العادات طارئة على دين المسيح، لم يعلمها ولم يفعلها لا هو ولا تلاميذه.
ومع الأسف، فإن غالبية المسيحيين الآن يأكلون لحم الخنزير ويرتكبون الزنا، (والزنا هو عمل العلاقة الجنسية خارج إطار الحياة الزوجية)، مع أن الزنا من القبائح المعلومة بالشرع والعقل والفطرة، فالكثير منهم يقترفه بلا حياء من الله ولا من الناس، يستوي في هذا رجال الدين وغيرُهم مِمَّن يُسمَّون بالرعية، يفعلون الزنا بالكنائس التي هي دور العبادة عندهم، مع أن الزِّنا محرم في كتبهم، والقساوسة يفعلون هذا مع نساء متزوجات، وفي هذا اعتداء على كرامة أزواجِهن بلا مبالاة منهم وبلا شعور بالذنب، وقد تحمِل الواحِدة منهن منه، وتأتي بطفلة مثلًا، يقوم زوج تلك المرأة التي عاشرها القسيس وحملت منه على تربيتها حتى تكبر، وهو يحسب أنه أبوها وهو ليس كذلك، وزوجته بطبيعة الحال ربما تعلم بحقيقة الأمر ولكنها لا تستطيع أن تبوح بسرها حتى لا تُفتضح، وربما هي نفسها لا تعلم بأن الطفلة من القسيس، لأن كِليهما يعاشرها، الزوج والقسيس، فإذا كبرت الطفلة وصارت امرأة جاءت إلى الكنيسة، فربما استدرجها أبوها الحقيقي (القسيس) إلى الفراش وهو لا يعلم أنه أبوها، واستمتع بها، فإلى أيِّ نور ومحبة - بل إلى أيِّ جحيم - يسوق القساوسة أتباعهم من الرعية!
جاء في إنجيل متى (5/27-30) في تحريم الزنا أن المسيح قال لتلاميذه:
«قد سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تَــــزْنِ.
وأما أنا فأقول لكم: إن كلَّ من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه.
فإن كانت عينك اليمنى تعثُــرُك فاقلعها وألقها عنك، لأنه خير لك أن يهلِك أحد أعضائك ولا يُلقى جسدك كله في جهنم.
وإن كانت يدك اليمنى تعثُــرُك فاقطعها وألقها عنك، لأنه خير لك أن يهلِك أحد أعضائك ولا يُلقى جسدك كله في جهنم».
وفيما يتعلق بأكل لحم الخنزير، فقد جاء في سفر اللاويين (11/7) أن الرب قال لموسى وهارون في معرض الكلام عن الحيوانات المحرم أكلها:
«والخنزير. لأنه يَشُقُّ ظِلفًا ويقسمه ظلفين لكنه لا يـَجتـر. فهو نجس لكم».
والواقع أن المسيحيين – بما فيهم القساوسة - يأكلون الخنزير بشراهة، فأيُّ تمسك بدين المسيح تسير عليه جماهير المسيحيين؟!
,4- أسباب الضعف في انتشار رسالة المسيح الصحيحة بعد رفعه إلى السماء([186])
o لقد كان للانتهاء المفاجئ لوجود السيد المسيح على الأرض وبأسلوب عنيف بتدخل الحكومة الرومانية صدمة نفسية قوية على تلاميذ المسيح وأتباعه، الضعفاء ماديًّا ونفسيًّا وعلميًّا، والذين ليس بينهم تلميذ واحد له نفوذ ووجاهة بحيث يمكن اللجوء إليه لحماية دعوة المسيح والعمل على استمرارها ونشرها، فقد واجهوا هم أنفسهم اضطهادًا أيضًا من اليهود، فصار هـمُّهم هو النفوذ بجلدهم لئلَّا يحصل لهم تعذيب وملاحقة، فابتعدوا تمامًا عن فكرة حماية دعوة المسيح والعمل على استمرارها ونشرها، ممَّا أدى إلى إضعاف نشر رسالته ودينه على المستوى العام، وتهيئ الفرصة لبولس اليهودي للبدء في تحريف رسالة المسيح، فانفتح الطريق له.
o ومِن أهم أسباب الضعف في نشر تعاليم المسيح هو أن بولس سَحَبَ البساط من تحت تلاميذ المسيح لما ادَّعى أنه رسول مُـعَـيَّـن من عند المسيح، فما عاد لتلاميذ الـمسيح أي أهمية بين الناس لأخذ الدين منهم إذ وُجِد بينهم نبي جديد - بظنهم -، يأخذون الدين منه مباشرة، فتسبب هذا في ضعف انتشار دين المسيح الحقيقي أيَّـما ضعف.
o ومِمَّا يمكن أن يُقال في هذا الصدد أن من أسباب الضعف في نشر تعاليم المسيح بعد رفعه هو أن اليهود لابد أنهم قد انتَــشوا بانتصارهم على المسيح بقتله - بحسب اعتقادهم -، فركزوا جهدهم على التلاميذ لاجتثاث دعوته من جذورها وإيقاف نشرها بشتى الوسائل، متمثلًا ذلك في تهيؤ الفرصة لبولس للبدء في تحريف رسالة المسيح وتطبيقها في أرض الواقع.
o ومن أهم أسباب الضعف في نشر تعاليم المسيح أيضًا هو عدم حفظ الإنجيل بنسخته الأصلية التي كانت بيد المسيح وتلاميذه، فإنه من الواضح والمنطقي والبدَهي، أن الإنجيل الذي كان بيد المسيح، والذي كان يُـبشِّر به؛ أنه ليس واحدًا من الأناجيل الأربعة التي بيد المسيحيين اليوم، ولا ينطبق على أيٍّ منها، إذ إن الأناجيل الأربعة كلها قد أُلِّـفت بعد رفع المسيح، ومعها الثلاث والعشرون رسالة الملحقة بها، فيكون المجموع سبعة وعشرين سفرًا، وهذه الأسفار تمت كتابتها من قِـبَـل أشخاص لم يلتقوا بالمسيح ولم يروه لحظة واحدة، بل كتبوها بعد رفعه إلى السماء، ولهذا فهي تحمل أسماءهم، وهي في محتواها غير متطابقة لا في النص ولا فيما تتضمنه من العقائد والقصص، وبينها من التناقض والاختلاف الشيء الكثير.
,5- العوامل الخمسة لمعرفة لماذا المسيحي والمسيحية مستمران في المسيحية بالرغم مما فيها من تناقضات؟([187])
o العامل الأول: إنَّ جماهير النصارى (المسيحيين) لا يقرءون الأناجيل الأربعة وملحقاتها الثلاثة وعشرين، لأن الكلام فيها طويل ومتشعب ومتناقض وغير مفهوم، والقساوسة لا يعطونهم أجوبة مقنعة لأسئلتهم عليها لأنهم هم أصلًا ليسوا فاهمين لها الفهم الكافي، وهم مُـحِـقُّون في هذا، لأنَّ تلك الأناجيل كلام بشر مثلهم، وهي مترجمة عن لغة أخرى، ومؤلفوها غير معروفين تمامًا، وعملية التعديل في الترجمات مستمرة على مر الزمان، وبناء عليه فإنه لا يمكن لبشر فهمها.
فالحاصل أن المسيحيين لا يقرؤون أناجيلهم، إذ أن ذلك ليس من متطلبات دينهم، ومن يقرؤها منهم فإنه لا يتجاوز الأدعية الموجودة فيها.
o العامل الثاني: نظرًا لطبيعة الدين المسيحي الحالي، بعقائده وشعائره وطقوسه الوثنية المعقدة والغامضة، التي تُـجافي العقل والمنطق، فقد عَـــمِد رجال الدين المسيحي على مدار تاريخهم على عدم تشجيع أتباعهم على طرح الأسئلة والاستفسارات عنه، ولا عن كتبهم وما تتضمنه من أخطاء وتناقضات، واعتبروا أن مجرد الاستفسار عن تلك المواضيع يعتبر دليلًا على عدم الإيمان بهذا الدين، الذي يجب الإيمان به من دون فهم أو إعمال للعقل!
وسببُ ذلك المنع هو عِلمُهم الأكيد بأن من يُفكر من الناس - لاسيما المثقفين والمثقفات - بدينه وعقائده وشعائره وطقوسه الوثنيَّة فإنه ستُستثار عنده كثيرٌ من الأسئلة والاستفسارات التي لن يجد إجابات أو إيضاحات منطقية وشافية لها، لا من القساوسة ولا من غيرهم، وسيقوده ذلك بلا أدنى شك إلى الحيرة وعدم الثقة بدينه، فيزهدُ فيه ويعافَهُ.
ولهذا فإن القساوسة يكتفون بزجر الرعية عن السؤال أو الإجابة بإجابة ضعيفة لا تساوي فلسًا وهي قولهم (هذا سر).
ومن المعلوم أنَّ الدين الحقيقي الصحيح ليس فيه أسرار، ولماذا الأسرار؟ كيف يصح في العقل أن يسير الشخص في النور مع كونه سر من الأسرار؟!
ثُمَّ إنه لم يأتِ في الأناجيل الأربعة وملحقاتها أن المسيح سأله سائل فلم يجبه، أو قال (هذا سر)، بل كان يذهب للجموع ويجيبهم على أسئلتهم ويعلمهم عبادة الله وأنه نبي، وقد تقدم بيان جملة من الأدلة الإنجيلية على ذلك.
فلو أنَّ القساوسة يقتدون بالمسيح فعلًا لفعلوا فِعله.
ولو أن النصارى يقرؤون كتبهم بأنفسهم بِــتَـمَعُّنٍ وتمحيص، وبمعزل عن القساوسة، لاكتشفوا الحقيقة، وهي أن هذه الكتب لا يمكن أن تكون كتاب الله، ولاكتشفوا أن المسيحية المعاصرة لا يمكن أن تمثل دين المسيح، ولكن غالبهم يقلدون مجتمعهم المسيحي بدون تمحيص لمعتقداته، تقليدًا للأبوين والمجتمع، أو لكونهم يخشون سطوة القساوسة، أو دخلوا في المسيحية بسبب استغلال الـمُــبشرين لعامل الفقر أو الجهل أو المرض، كما يحصل في أفريقيا، الذين يُـغرُون فقراء الناس بالدواء والتعليم والمال، وربما أغروهم بالجنس، بأن يعرضوا عليه بنتًا من بناتهم يستمتع بها متى أراد، فيدخل ذلك الجاهل في المسيحية (دين بولس، وليس دين المسيح الحقيقي) ليحصل له ما أمَّله به ذلك المُبشِّر.
ونتيجة لما تقدم فإنَّ من المدهش أنْ تجد أنَّ الغالبية العظمى من المسيحيين - عربَـهم وعجَمِهم - لا يعرفون دينهم ولا تاريخه، ولا يعرفون كيفية نشأت وتطورت عقائدهم وشعائرهم وطقوسهم، ولا يعرفون عن أناجيلهم وكيف ومتى أُلِّـفت، باستثناء رجال الدين والـمُنَصِّرين (الـمُـبَشرين) المحترفين، والمتخصصين منهم بمقارنة الأديان.
o العامل الثالث: إنَّ الذي قرره المجتمع المسيحي والكنائس المسيحية في نفوس عموم المسيحيين هو أنَّ دينهم هو الدين الصواب، وأنَّ طريقهم الذي يسيرون عليه يؤدي بهم إلى الخلاص، هذه هي الفرضية الذهنية العميقة والمتغلغلة في أذهانهم، أنهم يسيرون في النور وعلى الدين الحق، مع أنه لو وَجه إليهم إنسانٌ أسئلة أساسية عن دينه فإنه إمَّا تكون الإجابة (لا أدري)، أو (ليس من حقك أن تسأل هذا السؤال)، وأمَّا أن يجيبك إجابة علمية مقنعة فلا تظن حصول ذلك أبدًا.
o العامل الرابع: من عوامل استمرار المسيحيين في دينهم هو عدم اهتمامهم بتمحيص الأخبار التي يقرؤونها في كتبهم والتأكد من صحة ثبوتها والتوثُّق من ناقليها، حيث إنهم يعتمدون على أقوال المجهولين والنَّـكِرات، ولا يبالون هل هي منقولة بنقل ثابت عن المسيح، أو أنها مجرد حكايات أو رؤى منامية وأحلام!
فالنصارى حرموا أنفسهم من نعمة النظر واستخدام العقل الذي وهبهم الله إياه، وسلَّموا دفَّة الـتَّـحكم والتوجيه إلى قساوستهم، يُــسَــيِّرونهم كما يشاءون، ويُـمْلون عليهم ما يُـملونه من تُـرَّهات وسخافات، فإذا استيقظ تفكير الواحد من الرعية وكان عنده شجاعة كافية وسأل القسيس سؤالًا منطقيًّا وعجِز القسيس عن إجابته؛ رد عليه القسيس قائلًا: (إن الإجابة سِرٌّ لا يُـدرك)!
والحقيقة: أنهم لا يعلمون الإجابة ولا يدرون لها وجهًا، وأَنَّ عِلم الطالب المبتدئ منهم مثل عِلم أكبر القُـسُس فيهم في مثل هذه القضايا، فلا بالشرع الواضح استناروا، ولا بالعقل استرشدوا.
ومن المعلوم أنَّ الأمر العقائدي إذا خلَا من الدليل الشرعي والدليل العقلي فإنه يكون من إملاء الشياطين وأتباعهم.
o العامل الخامس: من عوامل استمرار المسيحيين في دينهم هو تداول القصص والحكايات والمنامات التي يتناقلها القساوسة ويضحكون بها على عقول الرعية وعقول من يُـبشرونهم - بزعمهم -، ابتداء من بولس الذي ادَّعى أنه رأى المسيح في المنام، وقسطنطين الذي رأى الصليب في المنام، إلى يومنا هذا، فإنك تجد القساوسة يقُصُّون على من يبشرونهم - مثلًا - أن فلانًا رأى المسيح في المنام، فأمره بالدخول في المسيحية، فدخل فيها فحصل له خير كثير، وآخر رأى في المنام أنه كان في سجن، فلما رأى الصليب دخل في المسيحية فخرج من السجن، وخُذ من هذه الخرافات، ولو كانت المسيحية هي دين الله حقًّا، وكانت الأناجيل الأربعة وملحقاتها هي كتاب الله حقًّا؛ لما احتاج القساوسة إلى رؤى ومنامات، بل لرجع القسيس إليها وأجاب منها، ولَــصَـمَـدَ القسيس في النقاشات العلمية، وما تهرب من النقاشات وسلك أسلوب الترغيب بذكر الحكايات المنامية، أو الترهيب باستعمال أسلوب الضرب وهتك العرض في غرف الكنيسة، أو التهرب من الإجابة بقول (إنَّ هذا سر لا يعلمه إلَّا القساوسة!)
وللعلم، فإنَّ للشيطان له مقدرة على التلاعب في عقول الناس في المنامات، فالواجب الحذر، فإنَّ الدين الصَّحيح لا يؤخذ من المنامات، بل بالوحي الثابت المحفوظ من عند الله، وإلَّا فإنَّ الإنسان قد ينام ويرى أنَّه صار ملِكا أو رئيسًا أو رجلًا ثريًّا، فإذا استيقظ فإذا هو كما هو!
$
الْمُلْحَق الثامن والأَخِير: هَمَسَاتٌ إيْمَانِيَّةٌ مِن القَلْبِ إِلَى القَلْب
هَذِه هَـمَسَاتٌ إِيمانِيَّةٌ مِنَ القَلْبِ إِلى القَلْبِ، سيُزيل فَهْمُها عَقَباتٍ ويَـحُلُّ إشْكَالاتٍ بَينَ أَتْباعِ الدِّيَانة الْمَسِيحيَّة وبَيْن فهمهم واقْتِنَاعِهم بِدينِ الإسْلامِ، أَسْألُ اللهُ أنْ يَنْفَع بِهَذِه الْهَمَسَات.
$ الْهَمْسةُ الأَوْلَى
أَرَسَلَ اللهُ مُحمَّدًا (صلى الله عليه وسلم ) بِدينِ الإسْلامِ للنَّاسِ كُلِّهم، الْجِنِّ والإِنْسِ، الْعَربِ والْعَجَمِ، الأَبْيَضِ والأَسْودِ، بَني إِسْرائِيل وغَيْرِهمْ، قَالَ اللهُ في القُرْآنِ: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾([188])، وقَالَ: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾([189])، وقَالَ: ﴿ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ﴾([190]).
ودِينُ الإسْلامِ حَلَّ مَحلَّ جَمِيعِ الأَدْيانِ قَبْلَه، ولَيْسَ ثَـمَّـةَ دينٌ بَعْدَه، وقَدْ فَرَضَ اللهُ عَلى جَمِيع الإِنْسِ والْجِنِّ الدُّخُولَ فِيه، فَهُو الدِّينُ الْخَاتَمِيُّ الْمَحْفُوظُ مِنَ التَّحْرِيف والتَّغِيير.
ومُحمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم ) هُو النَّبيُّ الخَاتَمِيُّ، فَمَنْ آمَنَ بمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم ) فَقَدْ آمَنَ بِجَمِيع الأَنْبِياءِ قَبْلَه، قَالَ اللهُ تَعَالى عَنْ نَبِيِّه مُحمَّدٍ: ﴿ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾([191]).
والقُرآنُ هُو الْكِتَابُ الْخَاتَمِيُّ، فَمَنْ آمَنَ بِالقُرْآنِ فَقَدْ آمَنَ بِجَمِيع الْكُتُبِ السَّمَاويَّة قَبْلَه، وهُو كَتَابُ اللهِ الْمَحْفُوظُ غَضًّا طَريًّا كَمَا هُو مُنذُ أنزله الله قبل أَرْبعَةَ عَشَرَ قَرْنًا، لمْ تَتَعَرَّضْ لهُ يدُ التَّحْريفِ والتَّغْييرِ كَمَا حَصَل للْكُتُبِ قَبْله، ولمْ يَتَعرَّض للضَّيَاع، ونُسْخَتُه الأَصْليَّة مَحْفُوظةٌ كَمَا هِي مِنذُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا، وجَمِيعُ نُسَخِ القُرْآنِ في العَالَم تُطْبعُ عَلى تِلْك النُّسْخَة.
كَذَلك فَإِنَّ القُرآنَ مَحْفوظٌ في صُدورِ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ مِنذُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرنًا، فَمَلايينُ الْبَشَر تَحْفَظُه كَامِلًا أوْ جُزءًا مِنْه، وقَدْ تَعَهَّد اللهُ بِحفْظِه إِلى نِهَايَة الدُّنِيا، قَالَ اللهُ تَعَالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾([192])، والذِّكْـرُ هُو القُرآن، سماه الله ذِكْـرًا لأن فيه ذكرى لكل شيء من العقائد والعبادات التي يحتاجها الإنسان، وفيه يتذكر من أراد التذكر، يتذكَّر هدفه من الحياة، ويتذكَّر نِعمة الله عليه بأن هداه إلى الصراط المستقيم الذي يدل إلى الجنة وينجي من النار، وبقراءة القرآن تحصل الموعظة للإنسان، فيكف عما حرَّم الله إذا قرأ عاقبة من عصى الله، ويحصل النشاط في طاعة الله إذا قرأ عاقبة من أطاع الله.
ثم قال الله تعالى ﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾، أي حفِظناه من التحريف في حال إنزاله وبعد إنزاله، ففي حال إنزاله حفِظناه من استراقِ كل شيطان رجيم، وبعد إنزاله أودعه الله في قلب رسوله فحفظه عن ظهر قلب، ثم أودعه في قلوب أمته إلى يومِنا هذا وإلى قيام الساعة، وحفِظ الله ألفاظه من التغيير والزيادة والنقص، وحفِظ معانيه من التبديل، فلا يُحرِّف مُحرِّفٌ معنًى من معانيه إلا وقيَّض الله له من يُبين خطأه ويرد عليه.
$ الْهَمْسةُ الثانية
لِنَقرَأ سَويًّا هَذَا التَّوجِيه الرَّبَّانيَّ الَّذِي أَنْزَله اللهُ مُنذُ أَكْثر مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا لِيُبيِّنَ للنَّاسِ حَقِيقَةَ رِسَالَة مُحمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم ) :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ﴾.
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴾.
أَيُّهَا القَارِئ الْكَريمُ، أَيَّتُها القَارِئة الْكَريمة، لا نُغَالطُ أَنْفُسَنا، ولِنَتْرُك تَقْلِيد الآبَاء والأَجْدَاد جَانبًا، فَالْمَسْألةُ يَتَرتَّب عَلَيها خُلودٌ في الْجَنَّة إِلى الأَبَد، أوْ خُلود فِي النَّارِ إِلَى الأَبَدِ.
نَعَم، لِنَعُودَ إِلى أَنْفُسِنا وإِلى رَبِّنَا، ولِنَسْتَجِيب لأَمْرِه قَبْل فَواتِ الأَوانِ، فَإِنَّه لَيْسَ عِندَ الإِنْسَان فُرْصَةٌ للإيمَانِ بِمُحمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم ) والدُّخُول في دِينِ الإِسْلامِ والْحُصُول عَلَى غَنِيمةِ الْخَلاصِ الأَبَدِي الْـحَقِيقي إلَّا هَذِه الدُّنيا، فَهَا هِي قَدْ تَـهَيَّأت، ولا زَالتِ الرُّوحُ فِي الْجَسِد لمْ تُغَادِرْها، فَمَنِ اغْتَنَم هَذِه الْفُرْصَة فَلْــيَــبشِرْ بِالْخَيرِ، ومَنْ ضَيَّعَها فَليَعْرِض نَفْسَه عَلى هَذِه الآية: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾([193]).
فَبِنَاءً عَلى مَا تَقَدَّم فَإنَّ الْواجِبَ عَلى كُلِّ مَن سَمِعَ بِدينِ الإسْلامِ أنْ يَدْخُلَ فِيه، وإلَّا كَانَ كَافرًا بمَا أَنْزَل اللهُ عَلى خَاتمِ رُسُلِه، وعرَّض نَفْسَه لعُقُوبةٍ عَظِيمةٍ وهِي دُخُولُ النَّارِ والْخُلُود فِيهَا.
وقَالَ اللهُ تَعَالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ لَّا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ﴾([194]).
وقَالَ النَّبيُّ مُحمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم ) : «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِه الأُمَّة، يَهُودِيٌّ ولَا نَصْرَانيٌّ([195]) ثُمَّ لَمْ يُؤمِنْ بمَا جِئْتُ بِه([196]) إِلَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ».
فَالْواجِبُ عَلى مَنْ أَرَادَ لِنَفْسِه السَّلامَةَ يَوْم الْقِيامَة مِن دُخُول النَّار والدُّخُول إِلى الْجَنَّة أنْ يُسَارِع إِلى الإِيمَان بِالنَّبي مُحمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم ) ، ويَنْقَاد لِشَرِيعة الإسْلامِ، قَبلَ أنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ الْحُلْقُوم، ويمُوت عَلى عَدَمِ الإِيمَان بمَا أَمَرَه اللهُ بِالإيمَان بِه، فَيمُوت كَافرًا، فَيدخُل النَّار، ويمكُثُ فِيهَا أَبدَ الآبَادِ، ثمَّ يَندمُ حِين لَا يَنْفعُ النَّدم.
$ الْهَمْسَةُ الثالثة
إنَّ الدِّينَ الَّذِي يَسيرُ عَليهِ الْمَسِيحيُّون الآنَ لَيْسَ مُطَابِقًا للدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِه نَبيُّ اللهِ عِيسَى ابنُ مَرْيمَ، بَلْ هُو مُخْتلفٌ عَنْه غَايةَ الاخْتِلاف، فَعِيسَى ابنُ مَرْيمَ لمْ يَقُل للنَّاسِ: اتَّخِذُوني وأُمِّي إلـٰهَينِ مِنْ دُونِ اللهِ، ولمْ يَقُلْ للنَّاسِ: إنَّه ابنُ اللهِ، ولمْ يَقُلْ: إنَّه ثَالثُ ثَلاثةٍ، وحَاشَاه أنْ يَقُولَ ذَلِك، وقَدْ تَقَدَّم إِثْباتُ ذَلِك في أَوَّل هَذَا الْبَحثِ الْمُبَارَك([197]).
إضَافةً إِلى ذَلِك، فَإِنَّه لا يَسْتَطِيع أَحدٌ أنْ يَقُولَ: إنَّ الأَنَاجِيل الَّتي بِأَيْدِي الْمَسِيحيينَ الآنَ تُطَابقُ الإِنْجيلَ الَّذِي كَانَ بِيدِ عِيْسَى، ولا حتَّى واحدٌ مِنْها، وقَدْ تَقَدَّم إثْبَات ذَلِك بَما فِيه الْكِفَاية لِمَن تَجَرَّد لاتِّبَاع الْحقِّ.
فَكيفَ يَصحُّ للعَاقِل -والْحَالَةُ هَذِه- أنْ يَسْتَقِي عَقِيدَتَه منْ كُتُبٍ مُحرَّفَةٍ للْوصُول إِلى أَغْلَى شَيءٍ يَسْعَى كُلُّ عَاقِلٍ لِكَسْبِه في هَذِه الْحَياة، وهُو رِضَا اللهِ ومِنْ ثَـمَّ دُخُول الْجَنَّة؟!
فَلنْطَرح الأَنَاجِيل الَّتي بِأَيْدِينا جَانبًا، فَقَد أَبْدَلَنَا اللهُ بِكتَابٍ آخَرَ، وحَـفِظَه مِنَ التَّغْييرِ والتَّبديلِ والتَّحْريف، فَـلْـنُقبِل عَلَيه ونـتَّـبِعه لِنَحْصُل عَلى الْـمَغْفِرة والْهُدَى، ولِـنصِلَ إِلى الدِّين الْحَقِيقي الصَّحِيح الَّذِي لَيْسَ فِيه لَبسٌ ولا غُموضٌ ولَا تَنَاقُضٌ، الدِّينُ الَّذِي يُعْطِي التَّصُور الصَّحِيح عَنِ الأَنْبِياء عِيسَى ومُوسَى ومُحمَّد وغَيرهمْ، قَالَ الله تَعَالى في القُرآن: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴾([198]).
وقد يَسَرَّ اللهُ في هذا الكتاب إثْبَاتَ أنَّ الدِّينَ الَّذِي يَسِيرُ عَلَيه الْمَسِيحيُّون الآنَ مُختلفٌ اخْتِلافًا جذْريًّا عَنِ الدِّينِ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِه عِيسَى ابنُ مَرْيمَ، كما يسَّر الله إثبات ذلك في كتاب آخر بِعنَوان:
«التَّغَيُّرُ التَّدِريجِي فِي رِسَالةِ الْمَسِيح عِيسَى ابنِ مَرْيمَ الصَّحِيحة عَلى مَدى عشرين قَرنًا»([199]).
$ الْهَمْسَةُ الرابعة
الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَة هُو اللهُ وحْدَه، ولَا يَسْتَحِقُّها أَحدٌ غَيره، أَمَّا عِيسَى ابْنُ مَريمَ (الْيَسُوع) فَلا يَسْتَحقُّ هُو ولا غَيرُه مِنَ الْمُخْلِوقِين أنْ نَتَوجَّه لَهُم بِأَيِّ نَوعٍ مِنْ أَنْواعِ الْعِبَادَاتِ، لأَنَّهُم بَشَرٌ مِثلُنا، وإشْراكُ غَيرِ اللهِ مَعَ اللهِ في الْعِبَادَة مِنْ أَعْظَم الذُّنُوب، ومِن الأُمُورِ الَّتي لَا يَرْضَاهَا ربُّ العَالَمينَ وهُو اللهُ جل وعلا ، كما لا يرضاها الأَنْبِيَاء أَنْفَسُهم، لا اليَسُوعُ ولا مَحمَّدٌ ولا مُوسَى ولا أَيُّ نَبيٍّ.
والأَنْبِياءُ أَنْفُسُهم كَانُوا يَعْبُدُون اللهَ ويَأْمُرونَ أَقْوامَهُم بِعِبَادَة اللهِ، ويَنْهَونَهُم عَنْ عِبَادَة غَيْرِ اللهِ مَعَ اللهِ، ويُبَـــيِّــنُونَ لَهُمْ أَنَّ هَذَا هُو الشِّركُ الَّذِي لَا يَغْفِرُه اللهُ أبدًا إن مات عليه الإنسان، ومِنْ مُوجِباتِ دُخُولِ النَّارِ عِيَاذًا بِاللهِ والْخُلُود فِيهَا أَبدَ الآبَادِ.
وعِبَادَةُ اللهِ وحْدَه وتَرْكُ عِبَادَة مَنْ سِواه هِي مِحورُ دِعْوة الأَنْبِياءِ كُلِّهم، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالى في القُرْآنِ الْكَريم: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾([200]).
كَمَا أنَّ إِفْرَادَ اللهِ بِالعِبادَةِ هُو الْمَبْدَأ الْمُوافِق للْعَقلِ، لأنَّ اللهَ هُو الْخَالقُ الرَّازِقُ الْمُدَبِّرُ لِهَذَا الْكَوْن، فَإذن هُو الْمُسْتَحِقُّ وحْدَه لأنْ يُعْبدَ، وأَمَّا عِيسَى فَبَشرٌ مَخْلُوقٌ، مُحْتَاجٌ لِغَيرِه، فَكَيفَ يَصِحُّ بِالعَقْل مَسَاواة الْبَشَر بِرَبِّ الْبَشَر بِأَنْ يُعبَدَانِ عَلى حَـدٍّ سَواء؟!
وقَدْ كَانتْ دَعوةُ الْمَسِيحِ لِبني إسْرَائِيلَ مُنصَبَّةً عَلى إفْرَادَ اللهِ وحْدَه بِالْعِبَادَة وتَرْك عِبَادَة مَنْ سِواه، كَائنًا مَنْ كَانَ، قَالَ اللهُ في القُرآنِ مُبينًا حَقِيقَةَ دَعْوةِ الْمَسِيح:
﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۖ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۖ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾([201]).
وقَالَ اللهُ عَنِ الْمَسِيح أَنَّه قَالَ لِقَوْمِه: ﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنْتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾([202]).
وقَالَ اللهُ عَنِ الْمَسِيح أَنَّه قَالَ لِقَوْمِه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۗ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾([203]).
وقَالَ اللهُ عَنِ الْمَسِيح أَنَّه قَالَ لِقَوْمِه: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾([204]).
أَقُولُ: ولوْ أَنَّ الـمَسِيحَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا الآنَ لأَنْكَر مَا يَقُولُه فِيه النَّصَارَى (الْمَسِيحيُّون) أَشَدَّ الإِنْكَار، كَمَا أَخْبرَ اللهُ تَعَالى في القُرآنِ الْكَرِيم أنَّه سَيسْأَلُه يَوْمَ القِيامَة: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ 116 مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنْتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾([205]).
$ الْهَمْسَة الْخَامِسة
اسْتَمِع أَيُّهَا القَارِئ الْكَريم وأَيَّتُها القَارِئة الْكَريمة إِلى هَذَا النِّدَاء الرَّبَّاني:
﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ 82 وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ 83 وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ 84 فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ﴾([206]).
$ تَفْسِير الآيَات
قَالَ اللهُ لنبيِّه مُحمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم ) :
لَتَجِدنَّ أَيُّهَا الرَّسُولُ أن اليهود هم أَشَدُّ النَّاسِ عَدَاوةً للَّذِين صَدَّقُوك وآمَنُوا بِكَ واتَّبَعُوك، وذلك لِعِنادِهم وجُحُودِهم، وتَكَبُّرِهم عَلى اتِّبَاع الْحقِّ، وكَذَلِك الَّذِين أَشْرَكُوا مَعَ اللهِ غَيْرَه في الْعِبَادَة، كَـعَـبَـدَة الأَوْثَان وغَيرهَا، فإنهم من أشد الناس عداوة لك ولِدينك.
ثُمَّ قَالَ: وَلَـتَـجِـدَنَّ أن أَقَرَبَهُم مُودَةً للْمُسْلِمينَ هم الَّذِين قَالُوا إنَّا نَصَارَى، وهُم الْمَعْرُوفُون بِالْمسِيحيينَ، ذَلِكَ بِأَنَّ مِنهُمْ عَلَمَاءَ وعبَّادًا، وأَنَّهُم مُتَواضِعُون لا يسْتَكْبِرُون عَنْ قَبولِ الْحَقِّ، وهَؤلاءِ هُم الَّذِين قَبلُوا رِسَالةَ مُحمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم ) لما سمِعوا بها وآمَنُوا بِهَا، فَدَخَلُوا في الإسْلامِ.
ومِمَّا يَدلُّ عَلى قُربِ مُودَتِّهِم للْمُسْلِمينَ؛ أنَّ فَريقًا مِنْهُم فَاضَتْ أَعْيُنُهمْ مِنَ الدَّمع لَمَّا سَمِعُوا القُرْآنَ، فَأَيْقَنُوا أنَّه حَقٌّ مُنَزَّلٌ مِن عِند اللهِ تَعَالى، وصَدَّقوا بِاللهِ واتَّبِعُوا رَسُولَه، فَدَخَلُوا في الإسْلامِ، وتَضَرَّعُوا إِلى اللهِ أنْ يَكُونُوا مِنَ الشَّاهِدينَ؛ أيْ يَشْهَدُون للهِ بِالتَّوحِيدِ، ولِرُسُلِه بِالرِّسَالةِ، ويَشْهَدُون عَلَى الأُمَم السَّابِقة يوم القيامة أن رسلَهم بلَّغوهم رسالات ربهم.
ومن صفات هؤلاء المؤمنين من النصارى، الذين دخلوا الإسلام أنهم يقولون: وأيُّ لَومٍ عَلَيْنا في إِيمَانِنَا بِاللهِ، وتَصْدِيقِنَا بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءَنَا بِه مُحمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم ) مِنْ عِنْدِ اللهِ، واتِّبَاعِنَا لهُ، ودُخُولِنَا في دِينِه، فَالْمَسِيح دَعَا قَوْمَه للإِيمَانِ بِمُحمَّدٍ إذَا أَرْسَله اللهُ إِلى النَّاسِ، ورِسَالته مُتَمِّمَةٌ لِرسَالة الْمَسِيح، فأيُّ لومٍ عَلَيْنَا في اتِّبَاعه، إذْ بِاتِّبَاعِه والدُّخُول في الإسْلامِ يَحْصل لَنَا شَرَفٌ طَاعة النَّبِيَّيْنِ؛ الْمَسِيح ومُحمَّدٍ، ومِن ثم دُخُول الْجَنَّة، أمَّا إذَا لمْ نَتَّبعْه ونَدْخُلْ في دِينِه فَقَد عَصَينا النَّبيينِ الْمَسِيح ومُحمَّدًا، وعَرَّضْنَا أنْفُسَنا لِغَضَبِ الرَّبِ جل وعلا ، واسْتَحَقَيْنا دُخُول النَّار.
فَجَزَاهُم اللهُ بِمَا قَالُوا مِنَ الحق والاعْتِزَاز بِدخُولهم في دِينِ الإِسْلامِ، وطَلبِهمْ أَنْ يَكُونُوا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالحينَ، جَزَاهُم بِذَلِك جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ أشْجَارِهَا الأَنَّهَارُ، مَاكِثينَ فِيهَا لا يَخْرُجُونَ مِنْهَا، ولا يُحَــوَّلون عَنْهَا، وذَلِك لإحْسَانِهم في القَوْل والعَمَل.
$ الهَمْسَة السَّادِسَة
لَيْس أَمَامَ الإِنْسَان العَاقِل إلَّا اعْتِنَاق دِينِ الإسْلامِ الَّذِي أَمَرَ عِيسى ابنُ مَرْيمَ أتْـبَـاعه باتِّـباعه، فَإنْ قَبِلْتَ أَيُّهَا القَارِئ هَذَا فَلَيْس بَيْنَك وبَينَ الدُّخُول في دِينِ الإسْلامِ إلَّا أنْ تَنْطِق بِشَهَادَة الإسْلامِ الَّتي هِي الرُّكن الأَوَّل مِن أرْكَان الإسْلامِ ومِفْتَاح الدُّخُول إِليه:
أَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰهَ إلَّا اللهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحمَّدًا رَسُولُ اللهِ،
وَأَشْهَدُ أنَّ الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيمَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
فإذا نطق الإنسان هذه الشهادة فإنه بهذا يعتقد في قلبه أن المسيح:
ليس ربًّا، ولا ابن الرب،
ولا إلهًا، ولا ابن الإلـٰه،
وأنه لم يُصلب ولم يُقتل،
بل رفعه الله إلى السماء معززًا مكرمًا،
وأن عقيدة توارث الخطيئة خرافة وليست حقيقة.
وهَذِه هِي الْكلِمَة السَّواء الَّتي أَمَر اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ أن يقولوها، فَقَدْ أَمَر اللهُ نِبيَّه مُحمَّدًا (صلى الله عليه وسلم ) أنْ يَأْمُر أَهْلَ الْكِتَاب (وهُم الْيَهُود والنَّصَارى) ويَقُول لَهُم:
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾([207]).
ومَعْنى الآيةِ: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُول لأَهْلِ الْكِتَاب مِنَ الْيَهُود والنَّصَارى (الْمَسِيحيينَ): تعالَوْا إِلى كَلَمةٍ سَواءٍ بَينَنا وبَيْنَكُم، أي كَلَمةُ عَدلٍ وحَقٍّ نَلْتَزم بِهَا جَميعًا، وهِي أنْ نَخُصَّ اللهَ وحْدَه بِالعِبَادَة، ولا نَتَّخِذ أَيَّ شَريكٍ مَعَه، مِن وثَنٍ أوْ صَنمٍ أوْ صَليبٍ أوْ بَشرٍ أوْ غَير ذَلِك، ولا يَعْبُد بَعْضُنا بَعْضًا، فَإنْ أَعْرَضُوا عَنْ هَذِه الدَّعوة الطَّيبة فَقُولوا لَهُم أَيُّهَا الْمُؤمِنونَ: اشْهَدُوا عَلينا بِأَنَّا مُسْلِمُون، مُنْقَادُون لِرَبِّنَا بِالعُبُوديَّة والإِخْلاص.
والدَّعوةُ إِلى كَلِمَة السَّواءِ هَذِه تُوجَّه إِلى الْيَهُود والنَّصَارى، وتوجَّهُ -أَيْضًا- لِغَيرِهم مِنْ أَتْبَاع الأَدْيَان.، لأنَّ دين الإسلام ناسِخٌ لجمِيع الأديَان، يجب على جَميع النَّاس الدخول فيه.
خَــاتـمـــــــــة
$ تمَّ الْكتَابُ بِحَمدِ اللهِ، وقدْ تمَّ فِيه إثْبَات أمْرانِ:
الأَوَّل: بُطلانِ مَقُولة إنَّ يَسُوع الْمَسِيح هُو الرَّبُّ وابنُ الربِّ، والإلـٰه وابن الإلـٰه.
الثَّانِي: إثْباتُ مَقُولة إنَّ يَسُوع الْمَسِيح بَشرٌ كغيره من البشر، ورسول مِنْ عِند رَبِّه وخَالِقِه (الله).
كلُّ هَذا بِدلالةِ الْعَهْد الْقَديم، والْجَدِيد، والْمَنْطقِ، والتَّارِيخ، والقُرْآنِ الْكَريمِ
وفي الْخِتام، نَدْعُو اللهَ فَنَقُول: اللَّهُمَّ اجْعَلَنا مَفَاتِيح للْخَير، مَغَاليقَ للشَّرِّ، وصَلى اللهُ عَلى أَنْبيائِه مُحمَّدٍ وعِيسى ومُوسَى، وسَائِر أنْبيائِه، وسَلَّم تَسْليمًا كَثيرًا.
اللَّهُمَّ هَل بَلَّغتُ، اللَّهُمَّ فَاشْهَد
تمَّ الْكِتَاب بِحَمْد اللهِ، نَفَعَ اللهُ بِه قَارِئَه وكَاتَبه ونَاشِرَه
والْحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِين
الْمُؤلِّف: مَاجِد بن سُلَيمَانَ
00966505906761
صُبحَ الثامن مِنْ شَهْر محرم لِعَام 1440 هِجري
الْمُوافِق 18 سبتمبر لِعَام 2018 مِيلادِي
تَوْضِيحُ مُصْطَلحاتٍ عَامَّةٍ في الْكِتَاب
· (صلى الله عليه وسلَّم): مَعْنى الصَّلاةِ عَلى النَّبيِّ مُحمَّدٍ هُو ثَناءُ اللهِ عَليهِ في الْمَلإِ الأَعْلى وهُم الْمَلائِكَة، وهَذَا فِيه زِيَادَةُ تَشْريفٍ وثَنَاءٍ عَليه، وهُو يَسْتَحِقُّ ذَلِك، لأنَّ اللهَ هَدى النَّاسَ بِه إِلى الدِّينِ الصَّحِيح.
ومَعْنى (وسَلَّم) هَذَا دُعَاءٌ -أيْضًا- أنْ يُـسَـلِّمه اللهُ مِن الآفَاتِ، مِثْل الطَّعْنِ فِيه أوْ في زَوْجَاتِه ونَحْو ذَلِك.
فَيكُون الْمَعْنى الإِجْمَالي لِجُمْلة ( (صلى الله عليه وسلم ) ) أيْ: اللَّهُم أَثْنِ عَلى نَبيِّك مُحمَّدٍ عِند مَلائِكَتِك، وسَلِّمه مِن الآفَاتِ.
وهَذِه الْجُمْلة جُملةُ تَوقِيرٍ واحْترَامٍ، ويَجِبُ عَلى الْمُسْلم أنْ يَقُولَها كُلَّمَا مَرَّ بِذِكْر النَّبيِّ مُحمَّدٍ، فَلا يَلِيقُ بِالْمُسْلم أنْ يَمُرَّ عَلَيه اسْمُ النَّبيِّ مُحمَّدٍ فَلا يَدعُو لهُ، وكَأَنَّه يَتَكَلَّمُ عَنْ إِنْسَانٍ عَادي.
كَمَا يُسْتَحبُّ قَولُ: (عليه السلام ) عِندَ ذِكْر بَاقِي الأَنْبِياءِ، تَشْريفًا لَهُم وتَكْريمًا.
· (عليه السلام): معْنى (عليه السلام) إذَا ذُكِر أَحَدُ الأنْبِياءِ هُو دُعَاؤُنَا اللهَ تَعَالى بِأَنْ يُسَلِّم نَبيَّه مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ.
· (الفَريسيُّون): الفَريسيُّون طَائفةٌ مِن غُلاةِ الْيَهُود الْمُتَعَصِبينَ والْمُتَشدِّدينَ بِالْمَظَاهِر الْخَارِجيَّة للْوَرَع والتَّدَيُّن، ومِنْهَا التَّقَيُّد بِحرْفِيَّة الشَّريِعة أو النَّامُوس، مِثلُ الامْتِناع عَنْ أَدَاء أَيِّ عَمَلٍ يَومَ السَّبْتِ، أوْ مُخَالطةِ غَيرِ الْيَهُودِ، إذْ يُعْتَبرُون نجِسينَ، وقَدْ آذَوا الْمَسِيح عليه السلام ([208]).
· (النَّصَارَى): النَّصَارى هُم الْمَعْرُوفُون الآنَ بِالْمَسِيحيينَ، وهُمْ أَتْبَاع عِيسَى ابنِ مَرْيمَ، ووجُه تَسْميتهم بِهَذِه التَّسْمية «نَصَارى» هُو تَنَاصُرهم فِيمَا بينهم.
وقِيلَ: إِنَّهُم سُـمُّـوا بِذَلِك تَبعًا للْحَواريينَ الَّذِين وصَفُوا أَنْفُسَهُم بِذَلِك، كَمَا قَالَ عِيسَى عليه السلام :
﴿ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ﴾([209]).
وقِيلَ: إِنَّهُم سُـمُّـوا بِذَلِك مِن أَجْل أَنَّهُم نَزَلُوا أَرضًا يُقَال لَهَا: «نَاصِرة» بِفِلَسْطِين.
وقِيلَ: إِنَّهُم سُـمُّـوا بِذَلِك لأنَّ عِيسَى خَرَجَ مِنْهَا.
وعَلَى كُلِّ حَالٍ؛ فَكَلِمةُ «نَصَارى» أَصْلُها مِن النُّصْرة، وهِي صِفَةُ مَدحٍ وثَناءٍ.
(الـمُوَحِّـد): هُو الرَّجلُ الَّذِي يَعتقدُ أنَّ اللهَ واحدٌ في ذَاتِه، وأنَّه الْمُسْتَحقُّ للْعِبَادَة وحْدَه دُونَ مَا سِواه، وضَدُّه الـمُشْرك، يَعْبد مَعَ اللهِ غَيرَه.
(الـمُنصِّرون): هم الـمُبشِّرون، سُـمُّوا بِذَلِك لأَنَّهُم يَدْعُون النَّاسَ إِلى الدُّخُول في «النَّصْرانيَّة»، الْمَعْرُوفَة بـ«الْمَسِيحيَّة».
$
مَراجِعُ عِلميَّةٌ لِمَن أَرَادَ الاسْتِزَادَة والفَائِدة، وهِي مَنْشُورةٌ في مَوقِع «الدِّين الْواضِح»
www.saaid.net/The-clear-religion
1. هل المسيح رب؟
2. أربعون دليلًا على بطلان عقيدة «توارث الخطيئة» وعقيدة «صلب المسيح»
3. أين التوراة والإنجيل الأصليين؟
4. قصة أبينا آدم
5. التغيرات والتطورات التدريجية التي حدثت على رسالة يسوع بعد رفعه على مدى عدة قرون
6. ستون دليلًا على تكريم الإسلام لمريم العذراء، وابنها المسيح ابن مريم
7. لماذا خلقنا الله؟
8. الأصول الثلاثة التي يقوم عليها دين الإسلام
9. الكتاب المقدس - القرآن
10. تعريف موجز بالكتاب المقدس - القرآن
11. سبع لـمحات عن الرسول محمد، (صلى الله عليه وسلم )
12. موقف الإسلام من الإرهاب
13. ثمانون دليلًا على تكريم الإسلام للمرأة وحفظ حقوقها ومشاعرها
14. مهلًا أيتها الدكتورة .... لا تسبي الإسلام
15. قصة هداية الكاردينال دانيال إلى الإسلام
16. The Amazing Prophecies of Muhammad in the Bible
17. Eleven facts about Jesus
18. Who Deserves to be Worshipped?
$
([1]) سورة آل عمران: 79.
([2]) يعني مَـلِـك أشور.
([3]) المرأة التي تتحدث تعني أن الله صخرة، بمعنى أنها قوية بالله وأنها تعتمد عليه، لأنها لم تكن قادرة على إنجاب الأطفال، ولكن بعد الصلاة إلى الله رزقها الله بطفل، وكان هذا الدعاء منها شكرا لله.
في سفر التثنية (في نشيد موسى)، تمت الإشارة إلى الله أيضًا على أنه صخرة.
«إنه الصخرة، وأعماله كاملة، وكل طرقه عادلة. إلـٰه أمين لا يخطئ، مستقيم وعادل هو» [تثنية 4: 32].
«هجرت الصخرة التي أنجبتك. نسيت الله الذي ولدك» [تثنية 18: 32].
حتى في اللغة الإنجليزية، قد نقول هذا عن شخص ما يكون متواجدًا دائمًا عندما نحتاج إليه، على سبيل المثال: «لم يكن بإكاني تجاوز هذا بدونه. إنه صخرتي».
([4]) سورة المائدة: 72.
([5]) سورة المائدة: 117.
([6]) سورة مريم: 36.
([7]) سورة آل عمران: 51.
([8]) سورة الزخرف: 64.
([9]) سورة الفاتحة:5.
([10]) الفريسيون: طائفة من غلاة اليهود المتعصبين والمتشددين بالمظاهر الخارجية للورع والتدين، ومنها التقيد بحَرفية الشريعة أو الناموس، مثل الامتناع عن أداء أي عمل يوم السبت، أو مخالطة غير اليهود، إذ يُعتبرون نجِسين، وقد آذوا المسيح عليه السلام .
نقلًا من «تاريخ النصرانية، مدخل لنشأتها ومراحل تطورها عبر التاريخ» (ص59)، المؤلف: عبد الوهاب بن صالح الشايع، ط 1.
([11]) سورة الذاريات: 56- 58.
([12]) سيأتي توضيح مفصَّل لمعنى كلمة (ابن الله) الواردة في الأناجيل، وذلك في الملحق السادس: «فائدة في معنى كلمة (ابن الله) الواردة في بعض الأناجيل».
([13]) جوستاف لوبون (1841 - 1931م)، طبيب ومؤرخ فرنسي، عُنِيَ بالحضارة الشرقية. من أشهر كتبه: «حضارة العرب»، و«حضارات الهند»، و«الحضارة المصرية»، و«حضارة العرب في الأندلس»، و«سر تقدم الأمم». هو أحد أشهر فلاسفة الغرب وأحد الذين امتَدحوا الأمة العربية والحضارة الإسلامية، عُرف بأنه أحد أشهر فلاسفة الغرب الذين أنصفوا الأمة العربية والحضارة الإسلامية، فلم يَسِر على نهج مؤرخي أوروبا الذين صار مِن تقاليدهم إنكار فضل الإسلام على العالم الغربي. لكن لوبون الذي ارتحل في العالم الإسلامي وله فيه مباحث اجتماعية أقرَّ أن المسلمين هم مَن مدَّنوا أوروبا، فرأى أن يُبعث عصر العرب الذهبي من مرقده، وأن يُبديه للعالم في صورته الحقيقية؛ فألَّف عام 1884م كتاب «حضارة العرب» جامعًا لعناصر الحضارة العربية وتأثيرها في العالم، وبحث في أسباب عظمتها وانحطاطها، وقدَّمها للعالم تقديم المَدِين الذي يدين بالفضل للدائن. توفي جوستاف بفرنسا عام 1931م. المصدر: Wikipedia.
([14]) سورة آل عمران: 50 – 51.
([15]) سورة المائدة:75.
([16]) النصارى هم المعروفون الآن بالمسيحيين، وهم أتباع عيسى ابن مريم، ووجه تسميتهم بهذه التسمية «نصارى» هو تناصرهم فيما بينهم.
وقيل: إنهم سُمُّوا بذلك تبعًا للحواريين الذين وصفوا أنفسهم بذلك، كما قال عيسى عليه السلام : ﴿ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ﴾ [سورة آل عمران: 52].
وقيل: إنهم سُمُّوا بذلك من أجل أنهم نزلوا أرضًا يقال لها: «ناصرة» بفلسطين، وقيل: إنهم سُمُّوا بذلك لأن عيسى خرج منها.
وعلى كل حال فكلمة «نصارى» أصلها من النصرة، وهي صفة مدح وثناء.
([17]) معنى الصلاة على النبي محمد هو ثناء الله عليه في الـملإ الأعلى، وهم الملائكة، وهذا فيه زيادة تشريف وثناء عليه، وهو يستحق ذلك، لأن الله هدى الناسَ به إلى الدين الصحيح.
وكلمة (وسلَّم) هذا دعاء -أيضًا- أن يُسَلِّمه الله من الآفات، مثل الطعن فيه أو في زوجاته ونحو ذلك.
فيكون المعنى الإجمالي لجملة (صلى الله عليه وسلم) أي: اللهم اثْنِ على نبيك محمد عند ملائكتك، وسَلِّمه من الآفات.
وهذه الجملة جملة توقير واحترام، ويجب على المسلم أن يقولها كلما مرَّ بذكر النبي محمد، فلا يليق بالمسلم أن يمر عليه اسم النبي محمد فلا يدعو له، وكأنه يتكلم عن إنسان عادي.
كما يستحب قول: (عليه السلام ) عند ذكر باقي الأنبياء، تشريفًا لهم وتكريمًا.
([18]) سورة المائدة: 73 - 75.
([19]) سورة المائدة:17.
([20]) سورة المائدة:72.
([21]) سورة النساء:171.
([22]) بتصرف من «موسوعة الأديان»، الباب الثالث: النصرانية وما تفرع عنها، الفصل السابع: عقيدة النصارى، المبحث الثالث: الاتحاد (التجسد). الناشر: الدرر السنية. (www.dorar.net/enc/adyan/477).
([23]) انظر لبيان خرافة هذه العقيدة كتاب: «أربعون دليلًا على بطلان عقيدة توارث الخطيئة وعقيدة صلب المسيح»، تأليف: ماجد بن سليمان الرسي، وهو منشور في شبكة المعلومات بهذا العنوان.
([24]) سورة المائدة: 116 – 120.
([25]) مُوَحِّدين: جمع مُوَحِّد، وهو الرجل يعتقد أن الله واحدٌ في ذاته، وأنه المستحق للعبادة وحده دون ما سواه، وضده المُشرك، الذي يجعل مع الله شريكا في ذاته أو في عبادته، فيعبد مع الله غيره.
([26]) سيأتي التعريف بالرومان وعقائدهم في الملحق الثاني من ملاحق هذا الكتاب: «نبذة عن عقائد الرومان».
([27]) للأمانة العلمية؛ فقد استفدت جُلَّ المعلومات المذكورة في هذه النقطة من كتاب: «تاريخ النصرانية - مدخل لنشأتها ومراحل تطورها عبر التاريخ»، المبحث الثالث، المؤلف: عبد الوهاب بن صالح الشايع.
([28]) الأكمه هو الذي وُلِــد أعمى.
([29]) انظر «البداية والنهاية» لابن كثير، بابُ ذكر رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، و«تفسير القرآن العظيم»، له، سورة النساء: 157.
([30]) أي أنه كان يستمد سلطته في التقتيل من رؤساء الكهنة اليهود.
([31]) التجديف هو الكذب والبهتان وقول الكفر.
([32]) «شاول» هو اسم «بولس» الأصلي، وقد تسمى باسم «بولس» لاحقًا.
([33]) «أضواء على المسيحية» (ص86)، بتصرف يسير.
([34]) «محاضرات في النصرانية» (ص71)، باختصار يسير.
([35]) (ص102 - 103) من كتاب: «تاريخ النصرانية - مدخل لنشأتها ومراحل تطورها عبر التاريخ» بتصرف يسير.
([36]) انظر لبيان خرافة هذه العقيدة: كتاب «أربعون دليلًا على بطلان عقيدة توارث الخطيئة وصلب المسيح»، تأليف: ماجد بن سليمان الرسي، وهو منشور في شبكة المعلومات بهذا العنوان.
([37]) انظر المرجع السابق، وسيأتي تقرير أن المسيح لم يُصلب ولم يمسه أذى في الملحق الرابع: «قصة مريم العذراء وابنها المسيح عيسى ابن مريم» - رَفْعُ المسيح دون أن يَمَسَّهُ أذًى.
([38]) انظر هذه الأدلة الإنجيلية في كتاب:
.«The amazing prophecies of Muhammad in the Bible»
وهذا الكتاب منشور بهذا العنوان في شبكة المعلومات.
وانظر أيضًا كتاب «البشارات العجاب في صحف أهل الكتاب» (99 دليلًا على وجود النبي المُبَشَّر به في التوراة والإنجيل)، تأليف د. صلاح الراشد، الناشر: دار ابن حزم - بيروت.
([39]) الناموس هو التوراة وشرائعها.
([40]) تقدم قريبًا أن الناموس هو التوراة وشرائعها.
([41]) انظر تفصيل دور بولس في تشويه دين المسيح في كتاب: «تاريخ النصرانية - مدخل لنشأتها ومراحل تطورها عبر التاريخ» (ص93 وما بعدها)، المؤلف: عبد الوهاب بن صالح الشايع.
([42]) تقدم التعريف به.
([43]) كتاب «حياة الحقائق» (ص63).
([44]) كتاب «حياة الحقائق» (ص187).
([45]) مايكل هارت، فيزيائي فلكي يهودي أمريكي، ولد سنة (1932)، وهو صاحب كتاب «الخالدون المئة» الذي نقلنا منه كلامه، والاسم الأصلي للكتاب بالإنجليزية:
«The 100: A Ranking of the Most Influential Persons in History».
وفي هذا الكتاب رتَّب مايكل أسماء أكثر الشخصيات تأثيرًا في التاريخ بحسب عَظمة التأثير، وقد جعل على رأس قائمة المؤثرين في المرتبة الأولى شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد ضمت قائمته أسماء أنبياء كعيسى وموسى ڽ، كما ضمت أسماء مؤسسي الديانات الوضعية ومبتكري أبرز الاختراعات والاكتشافات التي غيرت مسار التاريخ، مثل مكتشف الكهرباء ومخترع الطائرة وآلة الطباعة، وأيضًا أسماء كثير من المفكرين وغيرهم.
انظر ترجمته في: Wikipedia.
([46]) From: "The 100, a Ranking of the Most Influential Persons in History", by Michael H. Hart.
([47]) للأمانة العلمية؛ فقد استفدت جُل المعلومات المذكورة في هذه النقطة من كتاب: «تاريخ النصرانية - مدخل لنشأتها ومراحل تطورها عبر التاريخ»، المبحث الرابع والسادس، المؤلف: عبد الوهاب بن صالح الشايع.
وينظر للاستزادة كتاب «التغيرات والتطورات التدريجية التي حدثت لرسالة يسوع بعد رفعه على مدى عدة قرون»، وهو منشور بهذا العنوان في شبكة المعلومات.
([48]) «وِل ديورانت»، (1885 - 1981م)، فيلسوف ومؤرخ وكاتب أمريكي، من أشهر مؤلفاته: كتاب «قصة الحضارة»، والذي شاركته زوجته أريل ديورانت في تأليفه. (المصدر: Wikipedia).
([49]) توفي (وِل) عام (1981م)، وبناء عليه فهو يقصد بقوله: (على مدى أربعة عشر قرنًا) أي: القرن السادس الميلادي وما بعده.
([50]) «قصة الحضارة» (1/403).
([51]) أي: مذهب القول بأن الله واحدٌ في ذاته، ولا يستحق العبادة إلا هو وحدهُ.
([52]) انظر: كتاب «محاضرات في النصرانية» لمحمد أبو زهرة، (ص121 وما بعدها)، وكتاب «الروم» لأسد رستم، (1/60، 61).
([53]) سورة الحديد:27.
([54]) تنصَّر أي صار نصرانيًّا، أي: مسيحيًّا بالمصطلح السائد.
([55]) سميت هذه الكنيسة بهذا الاسم نسبة إلى قيام المسيح من قبره -بحسب اعتقادهم-، وليس نسبة إلى يوم القيامة.
([56]) «تاريخ ابن البطريق» (1/128-130).
([57]) انظر كتاب: «محاضرات في النصرانية»، لمحمد أبو زهرة، (ص 126 – 127)، وكتاب: «دائرة معارف القرن العشرين»، للأستاذ محمد فريد وجدي.
([58]) انظر إلى الضحك والدجل على عقول الناس!
([59]) «حياة الحقائق»، جوستاف لوبون، (ص81).
([60]) وقد يسر الله جمع تلك البشارات فانتهت إلى 28 بشارة، وهي مجموعة في كتاب:
«The Amazing Prophecies of Muhammad in the Bible».
وهذا الكتاب منشور في شبكة المعلومات بهذا العنوان.
وانظر أيضًا كتاب «البشارات العجاب في صحف أهل الكتاب» (99 دليلًا على وجود النبي المبشر به في التوراة والإنجيل)، تأليف د. صلاح الراشد، الناشر: دار ابن حزم - بيروت.
([61]) انظر الهامش السابق.
([62]) سورة المائدة:75.
([63]) الغُلُو هو الزيادة في التعظيم، كما سيأتي.
([64]) سورة مريم: 88 – 92.
([65]) سورة النساء: 171.
([66]) سورة آل عمران: 45.
([67]) سورة التحريم: 12.
([68]) رواه البخاري (3435).
([69]) رواه مسلم (28).
([70]) سورة آل عمران: 59.
([71]) سورة النحل: 40.
([72]) سورة البقرة: 116 – 117.
([73]) سورة آل عمران: 47 .
([74]) سورة الذاريات: 21 .
([75]) سورة السجدة: 9.
([76]) سورة الحِجر: 29.
([77]) سورة آل عمران: 39.
([78]) انظر للاستفادة كتاب «ستون دليلًا على تكريم الإسلام لمريم العذراء وابنها المسيح ابن مريم»، وهو منشور في شبكة المعلومات بهذا الاسم.
([79]) سورة الإخلاص.
([80]) سورة البقرة: 255.
([81]) سورة النحل:60.
([82]) سورة الروم:27.
([83]) سورة طـٰه:5.
([84]) للأمانة العلمية؛ فقد استفدت المعلومات المذكورة في هذا الملحق من المبحث الأول من كتاب: «تاريخ النصرانية - مدخل لنشأتها ومراحل تطورها عبر التاريخ»، المؤلف: عبد الوهاب بن صالح الشايع.
([85]) أي: يغمزه بإصبعه ليصيح.
([86]) يستهل صارخًا أي يصيح.
([87]) سورة آل عمران:36.
([88]) رواه البخاري (3431) ومسلم (2366) عن أبي هريرة I.
([89]) الحجاب هو حاجز جعله الله بين الشيطان ومريم، فلما أراد الشيطان أن يطعن مريم في جنبها طعن في الحجاب، وكذلك الأمر بالنسبة لابنها المسيح عيسى ابن مريم، لما أراد أن يطعنه في جنبه بأصبعه ليصيح جاءت الطعنة في الحجاب الذي جعله الله بينهما، فحماه الله من طعنته، فلم يصرخ لما ولدته أمه.
([90]) رواه البخاري (3286)، ومسلم عَقيب الحديث رقم (2366).
([91]) سورة آل عمران:37.
([92]) سورة آل عمران: 42، 43.
([93]) سورة آل عمران:45.
([94]) سورة آل عمران:47.
([95]) سورة آل عمران:45.
([96]) معنى تحبلين أي: تَحمِلين.
([97]) سورة مريم: 16-36.
([98]) المقصود بالقسمة الرباعية: أن الناس ينقسمون في كيفية خلقهم إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: مَن وُلِدَ بلا ذكر ولا أنثى، وهو أبونا آدم، خلقه الله من طين.
القسم الثاني: مَن وُلِدَ مِن ذكر بلا أنثى ، وهي أُمُّنا حواء، خلقها الله من آدم، من أحد أضلاعه.
القسم الثالث: مَن وُلِدَ من أنثى بلا ذكر، وهو المسيح عيسى ابن مريم.
القسم الرابع: مَن وُلِدَ من ذكر وأنثى، وهم عامة الناس.
([99]) سورة الشورى: 49، 50.
([100]) سورة مريم: 30 - 33.
([101]) سورة مريم: 23 - 26.
([102]) سورة مريم: 30 - 33.
([103]) سورة آل عمران: 59 ، 60.
([104]) سورة النساء:171-173.
([105]) سورة المائدة: 20.
([106]) سورة الحديد: 16.
([107]) طال عليهم الأمد أي: طال عليهم الزمان واستمرت بهم الغفلة، فاضمحل إيمانهم وزال يقينهم. قاله ابن سعدي في تفسير الآية.
([108]) المؤتفَكة أي: المكذوبة.
([109]) أربابًا: جمع لكلمة (رب).
([110]) سورة المائدة: 13.
([111]) الكَلِم أي: كلام الله المُدوَّن في التوراة والإنجيل.
([112]) فقيه أي: عنده علم وفقه في الدين.
([113]) القرن: شيء مجوف مثل الأنبوب، يشبه قرن الحيوان.
([114]) الرجل أشار إلى القرن، وظنوا أنه أشار إلى كتابهم، فلهذا تركوه، وصاحب القرن فعل هذا تمويها عليهم حتى ينجو من القتل دون أن يكذب عليهم صراحة، لأن الكذب قبيح في جميع الشرائع.
([115]) أي علقه على رقبته.
([116]) معنى كلامهم أنهم ما كانوا يسمعون هذا الكلام الذي هو مكتوب في القرن، وأن الرجل أصابته فتنة في دينه.
([117]) غِيَرًا أي: تغييرًا.
([118]) أي: ثدييه.
([119]) سورة آل عمران: 21.
([120]) بَطَرُ الحق أي: رَدُّه. انظر «النهاية» لابن الأثير.
([121]) غَمْطُ الناس أي: استحقارهم. انظر «النهاية» لابن الأثير.
([122]) رواه مسلم (91) عن عبد الله بن مسعود I.
([123]) سورة آل عمران:21، 22.
([124]) أي أنهم أقاموا سوقَهم الذي يبيعون فيه البَقل في آخر النهار، وكأنَّ الذي فعلوه مِن قتلِ ثلاثمائة نبي في أول النهار شيئًا عاديًّا.
([125]) الصَّغار هو الذِّلة والحقارة.
([126]) سورة آل عمران:22.
([127]) سورة البقرة: 61.
([128]) سورة المائدة: 13.
([129]) أي: بسبب النقض.
([130]) سورة الأنعام: 91.
([131]) أي: يكتبونه في القراطيس، وهي الأوراق.
([132]) سور-ة البقرة:75.
([133]) سورة النساء:46.
([134]) سورة المائدة:41.
([135]) سورة آل عمران: 78.
([136]) سورة مريم: 30 - 33.
([137]) تقدم التعريف بالفريسيين، وبيان أنهم طائفة من غلاة اليهود المتعصبين والمتشددين بالمظاهر الخارجية للورع والتدين، ومنها التقيد بحرفية الشريعة أو الناموس، مثل الامتناع عن أداء أي عمل يوم السبت، أو مخالطة غير اليهود، إذ يُعتبرون نجِسين، وقد آذوا المسيح عليه السلام . نقلًا من «تاريخ النصرانية، مدخل لنشأتها ومراحل تطورها عبر التاريخ»، (ص 59)، المؤلف: عبد الوهاب بن صالح الشايع، ط 1.
([138]) سورة آل عمران: 52.
([139]) مُزمِعٌ أي: عازمٌ.
([140]) سورة النساء: 157، 158.
([141]) سورة النساء: 157، 158.
([142]) سورة آل عمران: 54 - 55 .
([143]) جاء في الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه رفعه إلى السماء الثانية، فهو باقٍ هناك حتى يأذن الله بنزوله في آخر الزمان. انظر «صحيح البخاري» (3207) ومسلم (164) عن أنس بن مالك I.
([144]) الأكمه هو الذي وُلِــد أعمى.
([145]) انظر «البداية والنهاية» لابن كثير، بابُ ذكر رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، و «تفسير القرآن العظيم»، له، سورة النساء: 157.
([146]) انظر «تفسير القرآن العظيم» لابن أبي حاتم، سورة النساء: 157، وروى ابن جرير هذه القصة بإسناده في تفسيره «جامع البيان» في آخر تفسير سورة الصف.
([147]) العين هي عين الماء وهي البئر التي تكون في البيوت في الماضي لاستخراج الماء منها.
([148]) يعني أنه سيكون معه في درجته في الجنة ثوابًا له على أنه افتدى المسيح بنفسه.
([149]) أي مِن أقلِّهم عُمْرا.
([150]) رَوزنة أي فتحة.
([151]) أي جاء الذي يطلبون المسيح ويبحثون عنه.
([152]) المقصود بالمسلمين هنا هم أتباع المسيح على الحق، لأن كلمة الإسلام لها معنيان عام وخاص، فأمَّا العام فهو عبادة الله وحده وطاعة النبي الذي أرسل فيهم، وهذا الوصف (المسلمون) ينطبق على أتباع كل نبي من آدم إلى محمد بما فيهم المسيح.
والمعنى الثاني لكلمة الإسلام هو خصوص الدين الذي بعث الله به النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، والذي يسمى أتباعه بالمسلمين.
([153]) انظر التعليق السابق.
([154]) سورة الصف: 14 .
([155]) قال ابن كثير رحمه الله : وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابْنُ عَبَّاسٍ، عَلَى شَرْطِ مُسْلِم.
([156]) بتصرف يسير من «البداية والنهاية» لابن كثير، خاتمة بابُ ذكر رفع عيسى عليه السلام إلى السماء.
([157]) فعلت هذا نكاية باليهود الذين تظن أنهم قتلوا المسيح وصلبوه.
([158]) وهو الخليفة الثاني للمسلمين بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
([159]) هذا الفعل من الخليفة المسلم عمر بن الخطاب يبين أخلاق الإسلام في مقابل أخلاق اليهود، فقد أزال I قمامة متراكمة على مدى ثلاثة قرون، من القرن الرابع الميلادي إلى سنة 637 عندما فتح بيت المقدس، أزالها من الصخرة التي هي قبلة اليهود، فما أعظم أيادي المسلمين عليهم، وما أكرم أخلاق الإسلام وأخلاق الصحابة!
([160]) أي: مذهب القول بأن الله واحدٌ في ذاته، ولا يستحق العبادة إلا هو وحدهُ.
([161]) انظر كتاب «محاضرات في النصرانية» لمحمد أبو زهرة، (ص121 وما بعدها)، وكتاب «الروم» لأسد رستم، (1/60، 61).
([162]) سورة آل عمران:71.
([163]) سورة آل عمران:187.
([164]) سورة البقرة:79.
([165]) سورة المائدة:15.
([166]) انظر للتفصيل كتاب: «أين التوراة والإنجيل الأصليين؟»، لمؤلفه: ماجد بن سليمان الرسي، وهذا الكتاب منشور في شبكة المعلومات بهذا العنوان.
([167]) تقدم الكلام إلى أن هذه الأدلة الإنجيلية مذكورة في كتاب:
.«The amazing prophecies of Muhammad in the Bible»
وهذا الكتاب منشور بهذا العنوان في شبكة المعلومات.
وانظر أيضًا كتاب «البشارات العجاب في صحف أهل الكتاب» (99 دليلًا على وجود النبي المُبَشَّر به في التوراة والإنجيل)، تأليف د. صلاح الراشد، الناشر: دار ابن حزم - بيروت.
([168]) سورة المائدة: 72.
([169]) سورة المائدة: 117.
([170]) سورة آل عمران: 51.
([171]) سورة الزخرف: 64.
([172]) سورة مريم: 36.
([173]) سورة آل عمران: 79.
([174]) سورة التوبة:31.
([175]) سورة آل عمران:59.
([176]) سورة الشورى: 49، 50.
([177]) للأمانة العلمية، ونسبة الفضل لأهله؛ فقد استفدت في إعداد هذا الملحق من مقال للدكتور خالد بن عبد الله بن عبد العزيز القاسم، بعنوان: «عقيدة التثليث: حقيقتها وأدلة بطلانها»، ونقلت فوائد منه إلى هذا المقال.
([178]) أي: خلقتُك، فخرجت إلى هذا الدنيا مولودًا من بطن أمك بأمر الله، فنسب الله الولادة لنفسه، لأنه هو الذي أمر بها.
([179]) حسَنات أي: جميلات.
([180]) انظر (لوقا: 3/7، متى: 3/7، 12/34، 23/33).
([181]) للأمانة العلمية؛ فقد استفدت هذه الفائدة العلمية من كتاب: «تاريخ النصرانية – مدخل لنشأتها ومراحل تطورها عبر التاريخ»، ص 158، المؤلف: عبد الوهاب بن صالح الشايع.
([182]) كتاب «الروم»، (1/53)، وانظر «قصة الحضارة»، (11/384)، وِل ديورانت.
([183]) ينظر كتاب «أربعون دليلًا على بطلان عقيدة توارث الخطيئة وعقيدة صلب المسيح»، تأليف: ماجد بن سليمان الرسي، وهو منشور في شبكة المعلومات بهذا العنوان.
([184]) للأمانة العلمية؛ فقد استفدت هذه الفائدة العلمية من كتاب: «تاريخ النصرانية - مدخل لنشأتها ومراحل تطورها عبر التاريخ»، ص 113، 114، المؤلف: عبد الوهاب بن صالح الشايع.
([185]) للأمانة العلمية؛ فقد استفدت فوائد في هذا الملحق من كتاب: «تاريخ النصرانية - مدخل لنشأتها ومراحل تطورها عبر التاريخ»، ص 157، 166، المؤلف: عبد الوهاب بن صالح الشايع.
([186]) للأمانة العلمية؛ فقد استفدت في إعداد هذا الملحق من المبحث الخامس من كتاب: «تاريخ النصرانية – مدخل لنشأتها ومراحل تطورها عبر التاريخ»، المؤلف: عبد الوهاب بن صالح الشايع.
([187]) استفدت فقرات من هذا الفصل من كتاب: «تاريخ النصرانية»، ص 267، عبد الوهاب بن صالح الشايع، حفظه الله.
([188]) سورة سبأ:28.
([189]) سورة الأنبياء:107.
([190]) سورة الأعراف:158.
([191]) سورة الأحزاب:40.
([192]) سورة الحجر:9.
([193]) سورة آل عمران:85.
([194]) سورة الأحزاب: 64-66.
([195]) نصراني أي: مسيحي.
([196]) أي: شريعة الإسلام.
([197]) للفائدة؛ فقد يسر الله إعداد كتابين في حقيقة المسيح عيسى ابن مريم في تعاليم الإسلام، الأول بعنوان:
«Eleven Facts about Jesus in the Biblical & Islamic Teachings».
والكتاب الثاني بعنوان: «ستون دليلًا على تكريم الإسلام لمريم العذراء وابنها المسيح ابن مريم».
وكلاهما منشور في شبكة المعلومات بنفس العناوين المذكورة في موقع:
www.saaid.net/The-clear-religion
([198]) سورة المائدة:15.
([199]) هذا الكتاب منشور في شبكة المعلومات بنفس العنوان.
([200]) سورة الأنبياء:25.
([201]) سورة المائدة: 72.
([202]) سورة المائدة: 117.
([203]) سورة آل عمران: 51.
([204]) سورة الزخرف: 64.
([205]) سورة المائدة: 116، 117.
([206]) سورة المائدة: 82 - 85.
([207]) سورة آل عمران: 64.
([208]) نَقلًا مِن «تَارِيخ النَّصْرانيَّة، مَدخلٌ لِنَشأَتِهَا ومَرَاحِل تَطورِها عَبر التَّارِيخ» (ص59)، الْمُؤلِّف: عَبد الوَهَّاب بنُ صَالح الشَّايع، ط 1.
([209]) سورة الصف: 14.