×
هذا الكتاب يتضمن التعريف بنبي الإسلام (محمد بن عبد الله)، بذكر حال البشرية قبل بعثته، وذكر قصته لما نزل عليه الوحي من السماء، وذكر شيء من صفاته الحميدة، وبشارات العهد القديم والجديد به، وكذلك ذكر كلام بعض المفكرين الأوربيين فيه، فهذا الكتاب مختصر وسهل، يعطي نبذة لطيفة عن محمد، رسول دين الإسلام.

سـبـع لـمـحـات عـن مـحـمـد رســول ديـن الإســلام

إعـــداد

ماجد بن سليمان الرسي

ذو الحجة 1442هـ - يوليو 2021م

سبع لـمـحات عن محمد

(صلى الله عليه وسلم)

اللمحة الأولى: حال البشرية

قبل بعثة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)

كان أهل الأرض قبل بعثة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) على صنفين:

الصنف الأول: أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى .

والصنف الثاني: من لا كتاب لهم.

الصنف الأول: أهل الكتاب

أما اليهود فقد كذَّبوا الأنبياء، وقتلوا كثيرًا منهم، وحرَّفوا التوراة، وأكلوا الربا، ونقضوا المواثيق، وكذَّبوا عيسى ابن مريم عليه السلام، ورَمَوه وأمَّه بالعظائم، وسعوا في قتله، وتكالبوا على الدنيا، وانغمسوا في الشهوات، وكانوا قبل ذلك قد تعنَّتوا مع موسى عليه السلام أشدَّ العنت، حتى أن خِيارهم سمِعوا الربَّ تعالى وهو يكلِّم موسى عليه السلام، فيأمره وينهاه، ويعهَد إليه، فلما انكشف الغمام قالوا: {يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة} ، فهذا حال خِيار اليهود، فكيف حال شرارهم؟!

وأما النصارى، فقد سبّوا الله تعالى مسبةً ما سبَّه إياها أحدٌ من البشر، فلم يُقِرُّوا بأنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، بل قالوا: إن الله له ولد، وهذا القول وصفه الله في القرآن بأنه ﴿تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًّا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً * إن كل من في السماوات والأرض إلا أتي الرحمن عبدًا * لقد أحصاهم وعدهم عدًّا * وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً} .

واعتقاد النصارى هذا في المسيح متناقض كل التناقض مع ما هو مُقرر في الأناجيل، فإن المسيح موصوف فيها بأنه كان يتمتع بجميع الصفات البشرية التي يحملها كل البشر من جوع وعطش وتعب ونوم وبكاء وضعف وحزن وصوم وعذاب وضرب وموت وفقدان وتوبيخ وتعلُّم وانزعاج واشتهاء، ومن ذلك ما جاء في إنجيل يوحنا (19/28): قال يسوع: «أنا عطشان».

• وفي إنجيل متَّى (8/24): «وكان هو نائماً».

• وفي إنجيل يوحنا (4/6): «فإذا كان يسوع قد تعب من السفر جلس هكذا على البئر».

• وفي إنجيل مرقس (14/32-35) أنه يصلي ويحزن ويُدهش ويكتئب:

«وجاءوا إلى ضيعة اسمها جثسيماني، فقال لتلاميذه: اجلسوا ههنا حتى أصلي.

ثم أخذ معه بطرس ويعقوب ويوحنا، وابتدأ يُدهش ويكتئب.

فقال لهم: نفسي حزينة جدًّا حتى الموت امكثوا هنا واسهروا.

ثم تقدم قليلًا وخرَّ على الأرض، وكان يصلي لكي تَعْبُر عنه الساعة إن أمكن».

• وفي إنجيل يوحنا (11/35): «بكى يسوع».

• وفي إنجيل لوقا (22/14- 15): «ولما كانت الساعة اتكأ والاثنا عشر رسولًا معه.

وقال لهم: شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفُصح معكم قبل أن أتألم».

ليس هذا فحسب، بل إن يسوع كان يخاف من اليهود أن يقتلوه، كما في يوحنا (11/53-54): «فمن ذلك اليوم تَشاوروا ليقتلوه، فلم يكن يسوع أيضًا يمشي بين اليهود علانيةً».

والتعليق على هذا كله: هل يُعقل أن يكون المسيح إلهًا مع كونه يعطش وينام ويتعب ويُدهش ويكتئب ويبكي ويتكئ ويشتهي ويتألم (ويخاف)؟!

ما الفرق بينه وبين البشر إذن؟!

• وقد اعترف يسوع نفسه بأنه مُرسلٌ من قِبَلِ الله تعالى وذلك في مواضع عديدة من الأناجيل، كما في إنجيل يوحنا (5/24): «الحق الحق أقول لكم: إنَّ من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية».

• وفي إنجيل يوحنا (7/28-29): «فنادى يسوع وهو يعلم في الهيكل قائلًا: تعرفونني وتعرفون من أين أنا، ومن نفسي لم آت، بل الذي أرسلني هو حق، الذي أنتم لستم تعرفونه.

أنا أعرفه لأني منه، وهو أرسلني».

بل قد ورد في الإنجيل صريحًا أن المسيح عبد من عباد الله تعالى، وهذا ينافي دعوى ألوهيته، ففي متَّى (12/18): «هذا عبدي الذي اصطفيته، وحبيبي الذي ارتاحت نفسي إليه، أضعُ روحي عليه، فيخبر الأمم بالحق».

وقد حُرِّفت فيما بعد كلمة «عبدي» إلى «ابني» في عدة طبعات، وبقيت في بعضها.

ليس هذا فقط ما فعله النصارى بدينهم، بل إنهم أحلوا المحرمات، فشربوا الخمور، وأكلوا الخنزير، وتركوا الختان، وأقدموا على الزنا، واستباحوا كل خبيث، وقهروا المرأة وعَدُّوها شيطانًا في صورة إنسان، وعبدوا رهبانهم من دون الله، فالحلال ما أحلَّه القَسُّ، والحرام ما حرَّمه، والدين ما شرَعه، وهو الذي يغفر لهم الذنوب، ويباركُهم، وينجيهم من عذاب السعير.

الصنف الثاني من أهل الأرض: من لا كتاب لهم

فهؤلاء ما بين عابد أوثان، وعابد نيران، وعابد شيطان، ومتردد حيران، يجمعُهم الشرك، وتكذيب الرسل، وجَحْد الشرائع، وإنكار القيامة وحشر الأجساد، فلا يَدينون للخالق بدين، ولا يعبدونه مع العابدين، ولا يُوحِّدونه مع المُوحدين.

هذا هو حال البشرية قبل مبعث خير البرية، محمد (صلى الله عليه وسلَّم)، فكانت الظروف مُهَيَّأة لطلوع شمس رسالة الإسلام، لتصحيح مسار البشرية، وتوجيهها إلى طريق الهداية والفطرة السليمة.

ويُصوِّر الشيخ أحمد ديدات –رحمه الله- حاجة البشرية إلى بعثة خير البشرية قائلًا:

«لو درستَ تاريخ العالم حتى الآن، سيخبرك أن الوقت الذي أمر فيه الله سبحانه وتعالى خاتم أنبيائه ورسله محمدًا (صلى الله عليه وسلم) أن يعلن للناس رسالته كان من أشدِّ الأوقات ظلامًا.

لقد كانت الحاجة ماسَّة إلى أحد أمرين: إما إرسال نبيٍّ مرسل خاتَم للأنبياء والرسل لكلِّ ركن وكُلِّ أمة من أركان وأمم العالم، أو إرسال نبي مرسل خاتم للأنبياء والرسل إلى كل البشر في كل أمم وأركان العالم، لكي يُخَلِّص ويُحرر كل البشر من الزيف، والخرافة، والأنانيَّة، وتعدد الآلهة، والضلال، وظلم وقهر الإنسان لأخيه الإنسان، وتكون رسالة خاتم أنبياء ورسل الله موجهة من الله إلى الإنسانية كلها.

واقتضت مشيئة الله وحكمته أن يختار لهذه الرسالة الخاتمة النبي محمدًا -خاتم الأنبياء والمرسلين- (صلى الله عليه وسلم)، ويكون من أعماق أكثر مناطق الأرض تخلفًا قبل بعثه إلى البشر كافة من شبة الجزيرة العربية، وهذه الحقيقة -أن رسالة نبي الإسلام كان رسالة لكل البشر- قد سجَّلها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين} .

لا مجال هنا لتمييز جنس على آخر، أو تفضيل أمة على أمة أخرى، لا مجال هنا الآن «للشعب المختار» ، أو «بَذرة إبراهيم» ، أو «نسل داود» ، أو «هندو آريا فارتا» ، أو «اليهود»، أو «الجوييم» ، أو «العرب»، أو «العَجَم» (الفُرْس)، «الأتراك أو الطاجيك»، «الأوربيين أو الآسيويين»، «البيض أو المُلَوَّنين»، «الآريين أو الساميين» ، «المغول أو الأفارقة»، «الأمريكي أو الاسترالي أو البولندي»، إنه لكل الناس ولكل المخلوقات التي حباها الله القدرة على تحمل المسؤولية الروحية، إنه يُقدم المبادئ السليمة لكل العالم».

فأشرقت الأرض بنور هذه الرسالة، كما قال تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون﴾.

وقال: {لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبين}.

فاختار الله محمدًا (صلى الله عليه وسلم) ليكون آخر حبة في عقد النبوة، فانطلق (صلى الله عليه وسلم) من جزيرة العرب يدعو إلى التوحيد، ويقدم الدلائل الباهرة على صدق نبوته، ويُقيم الحجة تلو الحجة على الكفار المعاندين، وصبر النبي (صلى الله عليه وسلم) على كافة صنوف الأذى والاضطهاد، فإنهم تآمروا على قتله عدة مرات، وأخرجوه من بلده، وحاصروه اقتصاديًا، وعذَّبوا أصحابه وقهروهم، حتى أذِن الله تعالى بالنصر، ففُتحت مكة وصارت دار إسلام، واستمرت شمس الرسالة بعد ذلك تنتقل من بلدٍ إلى بلد، حتى ظهر للعيان أمةٌ كبيرة امتد جناح ملكها من نهر ثاجه في إسبانيا إلى نهر الفينج في الهند، ورُفعت على منار الإشادة أعلام التمدن في أقطار الأرض، بينما كانت أوربا مظلمة بجهالات القرون الوسطى.

قال «وِل ديورانت» مؤلف كتاب «قصة الحضارة»: لقد ظلَّ الإسلام خمسة قرون على الأقل من عام 700م إلى 1200م يتزعم العالم كله في القوة والنظام وبَسط الملك، وجميل الطباع والأخلاق، وفي ارتفاع مستوى الحياة، وفي التشريع الإنساني الرحيم، والتسامح الديني، والآداب، والبحث العلمي، والعلوم، والطب ... إلخ.

اللمحة الثانية: من هو محمد؟

ليس هناك أبسط من قول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿محمد رسول الله﴾ لتعرف من هو محمد (صلى الله عليه وسلم)، إنه رسول الله، بل خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي أرسله الله لهداية البشرية، بعد أن ضاعت معالم الدين الصحيح الذي بعث الله به موسى وعيسى، وحُرِّفت التوراة والإنجيل، ومَلأ الشرك والظلم والطغيان الآفاق.

محمد (صلى الله عليه وسلم) هو ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، ويرجع نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وأمه هي آمنة بنت وهب، تزوجها عبد الله والد النبي (صلى الله عليه وسلم) زواجًا صحيحًا، فلم تلبث أن حملت بالنبي (صلى الله عليه وسلم).

وقد صان الله «عبد الله» والد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) من زلة الزنا، ليكون نسبه (صلى الله عليه وسلم) نسبًا شريفًا طاهرًا لا مطعن فيه.

قال النبي (صلى الله عليه وسلم): إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سِفاح .

وفي لفظ : إنما خرجت من نكاح، لم أخرج من سِفاح من لدُن آدم، لم يُصبني سفاح الجاهلية.

وقد وُلد النبي (صلى الله عليه وسلم) في عام الفيل، والذي يوافق تقريبًا عام 571 بالتاريخ الميلادي.

تُوفِّي أبوه وهو حملٌ في بطن أمه، ثم تُوفِّيت أمه وهو في السادسة من عمره، فكفَله جده عبد المطلب، الذي تُوفِّي هو الآخر والنبي (صلى الله عليه وسلم) لم يتجاوز الثامنة من عمره، فأوصى به إلى عمه أبي طالب الذي اهتم به ورعاه وأحسن معاملته، مع أنه لم يؤمن ببعثة النبي (صلى الله عليه وسلم)، واستمر على شِركِه إلى أن مات.

وفي ذلك قال الله تعالى ﴿إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء﴾.

وقد صان الله نبيه (صلى الله عليه وسلم) من دَنَسِ الجاهلية، وطهَّره من عيوبها، ومنحه كل خُلُقٍ جميل، حتى أنه لم يكن يُعرف بين قومه إلا بالأَمِين، وهذه غاية التزكية عندهم، وذلك لِما شاهدوه من طهارته وصدق حديثه وأمانته.

عاش النبي (صلى الله عليه وسلم) فترة شبابه بعيدًا عن حياة اللهو والعبث التي اشتَهر بها الشباب في ذلك الوقت، وما إن وصل عمره إلى الخامسة والعشرين حتى تزوج من خديجة بنت خويلد، وكانت في الأربعين من عمرها.

وهي امرأة شريفة تتمتع بمكانة اجتماعية ومالية عظيمة، فما إن سمعت بأخلاق النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى رغبت في أن يُباشر تجارتها في الشام، فوافق النبي (صلى الله عليه وسلم)، فسافر إلى الشام، وأرسلت معه غلامها «ميسرة» ليكون مساعدًا له.

وقد رأى ميسرة ما بهره من شأنهِ، وما كان يتحلى به من صدق وأمانة وكريم خلق.

فلما رجع أخبَر سيدتَه بما رأى، فرغبت في الزواج منه، فتزوجها النبي (صلى الله عليه وسلم)، ومكث معها زوجًا وَفِيًّا خمسًا وعشرين سنةً، لم يتزوج غيرها حتى ماتت، فلما ماتت تزوج النبي (صلى الله عليه وسلم) جملة من النساء لحِكَم وفوائد كثيرة.

حَبَّب الله إلى نبيه (صلى الله عليه وسلم) الاختلاء بالنفس لعبادة الله، وكان يفعل ذلك في غار حِراء ، وظلَّ على هذه الحال حتى وصل عمره إلى الأربعين، وهو عمر الكمال.

وبينما هو في غار حِراء يتأمل إذ نزل عليه المَلَك، وهو جبريل، وهو أعظم الملائكة، فقال له: اقرأ. فقال: لستُ بقارئ.

وكرر ذلك ثلاثًا، ثم قال المَلَك: ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من عَلَق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علَّم الإنسان ما لم يعلم﴾.

فرجع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى خديجة رضي الله عنها وهو يرتجف، فأخبرها بما حدث له في الغار، فكانت نِعْمَ الزوجة والمُعين، حيث طمأنته وهدَّأته وقدمت له الدعم الكامل في هذا الوقت العصيب، وقالت له: «كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدًا، فوالله إنك لتصل الرَّحِم ، وتصدُق الحديث، وتحمل الكَلَّ ، وتَكسِب المعدوم ، وتَقري الضيف ، وتُعين على نوائب الحق.

ثم ذهبت خديجة بالنبي (صلى الله عليه وسلم) إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وهو شيخٌ كبير قد عمِي، وكان قد تنصَّر ودرَس الإنجيل، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك.

فقال ورقة للنبي (صلى الله عليه وسلم): يا ابن أخي، ماذا ترى؟

فأخبره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بما رأى في الغار.

فأخبره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خبر ما رأى.

فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزَّل الله على موسى، يا ليتني فيها جَذَع ، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أوَمُخرجيَّ هم؟

قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزَّرًا.

ثم لم يَنشب ورقة أن تُوفي.

ثم انقطع الوحيُ مدةً، فاغتم لذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ثم نزل عليه الوحي بعد ذلك بالآيات: ﴿يا أيها المُدَّثِّر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر﴾.

ومعنى ﴿المُدَّثِّر﴾ أي: الذي تلفَّف بالدِّثار وهو الثوب، وذلك أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أصابه الخوف لما نزل عليه المَلَكُ، فذهب مسرعًا إلى بيته وقلبه يرجف، فقال لزوجته خديجة: (دثِّروني، دثِّروني)، أي: لُفُّوني بثوب ليهدأ قلبي.

ثم شمَّر (صلى الله عليه وسلم) عن ساق التكليف، استجابة لأمر ربه ﴿قم فأنذر﴾، فقام في طاعة الله أتم قيام، ودعا إلى الإسلام الكبير والصغير، والحر والعبد، والرجال والنساء، والأبيض والأسود، فاستجاب له من أراد الله سعادته في الدنيا والآخرة، فدخلوا في الإسلام على نور وبصيرة، وصبروا على الأذى والاضطهاد، والحصار والتجويع، والقتل والتشريد، كل ذلك حبًّا لله ورسوله (صلى الله عليه وسلم)، وإيمانًا بعظمة الرسالة وصدق التعاليم.

لقد بقي النبي (صلى الله عليه وسلم) ثلاث سنين يدعو سرًّا، ويختبئ في دار الأرقم بن أبي الأرقم، ثم نزل عليه قوله تعالى ﴿فاصدع بما تؤمر﴾، فجهر بالدعوة، وذهب إلى الناس في أسواقهم وأنديتهم يدعوهم إلى الإسلام، ويُرغِّبُهم فيه، ويُرَهِّبهم من الكفر والعناد واتباع الهوى.

ولقد لقي (صلى الله عليه وسلم) من قومه صنوفًا من الأذى والاحتقار والتكذيب، ولكنه (صلى الله عليه وسلم) كان صابرًا محتسبًا غير مكترثٍ لما يصيبه من أذى في سبيل الله.

ذهبَ ذات مرة إلى الطائف لدعوة قبائلها، فقابلوه أسوأ مقابلة، وأغْرَوا به سفهاءهم، فضربوه بالحجارة حتى أدموا قدمه، فرجع حزينًا مهمومًا منكسر الخاطر من شدة الأذى والتكذيب.

واستمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الدعوة والصبر على الأذى، حتى قيَّض الله له ستة أشخاص من المدينة، دعاهم فأسلموا، ثم رجعوا إلى «المدينة» فدَعَوا قومَهم إلى الإسلام، وقد شكَّل هؤلاء الستة النواة الأولى للدعوة في المدينة.

ثم جاء اثنا عشر رجلًا من المدينة منهم خمسة من الستة المذكورين، فبايعوا النبي (صلى الله عليه وسلم)، وتعلَّموا منه شيئًا، ثم رجعوا إلى المدينة لينشروا ما تعلموه من النبي (صلى الله عليه وسلم)، وبسبب هؤلاء انتشر الإسلام في المدينة حتى عم قبائل المدينة كلها.

ثم وَفَد على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من أهل المدينة ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان، فبايعوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأخذوا عنه مجمل تعاليم الإسلام، ثم رجعوا إلى المدينة فانتشر الإسلام في كل بيت فيها.

أصبحت المدينة مُهَيَّأة لتكون قاعدة الانطلاق لهذا الدين، فأمر النبي (صلى الله عليه وسلم) أصحابه بالهجرة إليها بعد أن اشتد عليهم الأذى والاضطهاد والتعذيب بمكة، فهاجروا، ثم هاجر النبي (صلى الله عليه وسلم) هو وصاحبُه أبو بكر إلى المدينة، فلما دخلها تلقاهُ أهلها بالفرح والسرور، فبنى مسجده ومنزله، وأقام مجتمع العدل والمساواة، ثم أُذِن له بعد ذلك في القتال للدفاع عن النفس وعن العقيدة، قال تعالى: ﴿أُذِنَ للذين يقاتَلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير﴾، وقال ﴿وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين﴾.

وما زال (صلى الله عليه وسلم) يَلطُف بالخلق، ويُريهم المعجزات، ويعفو عنهم، ويصبر على أخطائهم، حتى فتح الله له القلوب، وأنار به البصائر، ففُتِحت مكة في السنة الثامنة من الهجرة، وعفا (صلى الله عليه وسلم) عن أهلها، فأسلم كثير من أهلها بعد ذلك، واستمر (صلى الله عليه وسلم) في الدعوة والجهاد حتى مرض وتوفي في السنة الحادية عشرة من الهجرة.

اللمحة الثالثة: مَن الذي علَّم محمدًا (صلى الله عليه وسلم) القرآن؟

ذكرنا أنه (صلى الله عليه وسلم) نشأ يتيمًا، فهو لم يَرَ أباه، ولم يتعلم شيئًا من أُمِّه، لأنه أُرسِل إلى البادية ليُكمل رضاعته، ويتعود شدة العيش في البادية، وكانت هذه عادة العرب قبل الإسلام، فمكث (صلى الله عليه وسلم) في البادية بعيدًا عن أمه نحوًا من خمس سنين، ثم ماتت أمه وهو في السادسة، ومات جدُّه المُتكفِّل به (عبد المُطلب) وهو في الثامنة.

أما عمُّه أبو طالب الذي مكث معه سنين طويلة، فإنه لم يهتم بجانب تعليمه، فنشأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أُمِّيًّا لا يقرأ ولا يكتب.

والنبي (صلى الله عليه وسلم) لم يكن له اهتمام بالأدب والشعر ومجالس الشعراء ومنتدياتهم، وهو النشاط الذي برع فيه قومه، وأَوْلَوْهُ عناية فائقة، حتى إنهم كانوا يعلِّقون القصائد الرائعة على جدران الكعبة المشرفة تشريفًا لأصحابها.

ومن هنا تتبين الحكمة من فَقْدِ النبي (صلى الله عليه وسلم) لكلِّ مصادر التعليم والتثقيف، التي يُمكن من خلالها أن يطَّلع على الأديان والثقافات والحضارات الأخرى، وهي تهيئة النبي (صلى الله عليه وسلم) لرسالة السماء الربانية الصافية من الثقافات البشرية، ليتولى الله تبارك وتعالى تعليمه بنفسه كما قال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}.

وقال الله لنبيه: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم}.

يضاف إلى هذا أن مولده (صلى الله عليه وسلم) كان في مكة، وهي البيئة المنعزلة عن الحضارة، والتي تحيط بها الجبال من كل جانب، ليتبين بذلك ويظهر بجلاء أن هذه الرسالة التي دعا إليها النبي (صلى الله عليه وسلم) إنما هي رسالة إلهية، لم تعتمد على الثقافات والحضارات البشرية، لأنه من المستحيل أن يأتي رجلٌ أُميٌّ، يعيش في هذه البقعة التي تحيط بها الجبال من كل جانب، ولم يجلس إلى معلم، ولم يتثقف على يد مُرَبٍّ، ولم يقرأ كتابًا، ولم يكتب بيده قط، ثم يُنشئ دينًا عظيمًا متكاملًا من جميع جوانبه، في جانب العقيدة والعبادة والأخلاق، والمعاملات، ويكون لهذا الدين حُكْمٌ كامل في كافة مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والنفسية والعسكرية.

نعم، لا يكون هذا إلا إنْ كان هذا الرجل الذي جاء بهذا الدين نبي يوحى إليه من عند ربه سبحانه وتعالى.

نعم، إنه من غير الطبيعي أن يكون النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) لا يقرأ ولا يكتب ولا يحفظ الشعر، ثم يأتي فيؤلِّف كتابًا يُسميه «القرآن» يتحدى به جميع العرب الذي اشتُهروا بالفصاحة والبلاغة أن يأتوا بمثله، مما دعا عقلاء قومه على مر التاريخ لأن يؤمنوا بأنه نبي من عند الله سبحانه وتعالى.

يضاف إلى هذا ما في القرآن من أخبار عن الأنبياء والمرسلين، وماذا قالوا لقومهم، وبماذا ردَّ قومُهم عليهم، وكيف كانت عاقبة المكذبين منهم، ففي القرآن من قصص آدم وإبراهيم وموسى وعيسى ما يتوافق مع ما يذكره أهل الكتاب في كتبهم، وما يخالف تلك الكتب، وما لا علم لهم به أصلًا، مع أن النبي محمدًا (صلى الله عليه وسلم) كما وصفه ربه ﴿وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المُبطِلون * بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا المُبطِلون﴾.

يُضَاف إلى ما تقدم أن القرآن فيه ذِكر أمور غيبية لم تحدث وقت نزول القرآن فحدَثت كما أخبر القرآن، وفيه ذكر اكتشافات علمية ظهرت حديثًا ولم تكن معروفة قبل ذلك، فمن ذا الذي علَّم هذا اليتيم الأُمِّي كل ذلك، ومن الذي أطلعه على عالم الغيب، ومن الذي قصَّ عليه قصص الأنبياء من قبله وأعطاه من دقائق المعلومات؟

الجواب: إنه الله سبحانه وتعالى.

اللمحة الرابعة: أوصاف النبي محمد صلى الله عليه وسلم

* مِن أوصاف النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): الفصاحة والبيان

كان (صلى الله عليه وسلم) فصيح اللسان، واضح البيان، قوي الحجة، وقد بلغ في ذلك أعلى المراتب، حيث أُوتي (صلى الله عليه وسلم) جوامع الكلم، واختُصِر له الكلام اختصارًا، بحيث يستخدم الألفاظ اليسيرة التي تدل على المعاني الغزيرة والفوائد الجليلة.

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّما الأعمال بالنيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى».

قال الشافعي رحمه الله، وهو من أكابر أئمة المسلمين: هذا الحديث ثلث العلم، ويدخل في سبعين بابًا من الفقه.

وقال الإمام أحمد: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث:

حديث: «إنَّما الأعمال بالنيَّات» وحديث: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد » ، وحديث: «الحلال بيِّن والحرام بيِّن».

وزاد بعضهم حديث: «مِن حُسنِ إسلام المرء ترك ما لا يعنيه» ، وحديث: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس» .

وكان (صلى الله عليه وسلم) يتخير الألفاظ السهلة، والعبارة المضيئة المشرقة التي لا تَكلُّف فيها، ولهذا لم يَسمع الناس بكلامٍ قط أعم نفعًا ولا أصدق لفظًا ولا أعدل وزنًا من كلامه صلى الله عليه وسلم.

قالت عائشة رضي الله عنها: «إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يكن يسرد الحديث كسردِكم، كان يُحدِّثُ حديثًا لو عدَّه العادُّ لأحصاه».

ومن أقواله (صلى الله عليه وسلم) البليغة هذه الأحاديث:

1- قوله (صلى الله عليه وسلم): «دع ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة».

2- قوله (صلى الله عليه وسلم): «الدِّينُ النصيحة».

3- قوله (صلى الله عليه وسلم): «لا ضرر ولا ضرار».

4- قوله (صلى الله عليه وسلم): «الدالُّ على الخيرِ كفاعله».

5- وقال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فَلْيُكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فَلْيُكرم ضيفه».

6- قوله (صلى الله عليه وسلم): «من صَمَت نجا».

7- قوله (صلى الله عليه وسلم): «المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده».

8- قوله (صلى الله عليه وسلم): «الظلم ظلمات يوم القيامة».

9- قوله (صلى الله عليه وسلم): «لا إيمان لِمن لا أمانة له، ولا دين لِمن لا عهد له».

10- قوله (صلى الله عليه وسلم): «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء».

11- قوله (صلى الله عليه وسلم): «ليس الشديد بالصُّرَعة ، إنما الشديدُ الذي يملك نفسه عند الغضب».

12- قوله (صلى الله عليه وسلم): «إنما النساء شقائق الرجال ».

13- قوله (صلى الله عليه وسلم): «ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه».

14- قوله (صلى الله عليه وسلم): «إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تَقِي، وفاجر شقي، والناس بنو آدم، وآدم من تراب، ليَنتَهِيَنَّ أقوام فخرِهم برجال، أو ليكونُنَّ أهونَ عند الله من عِدَّتِهِم من الجِعلان التي تدفع بأنفها النَّتَن ».

15- قوله (صلى الله عليه وسلم): «آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتُمِن خان، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم».

هذا -والله- كلام نبي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، يؤكد ذلك أن هناك آلافًا من هذه الأحاديث والأقوال الرائعة في كافة شؤون الحياة ومناحيها، فكيف لهذا اليتيم الأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب ولم يدرس ولم يتعلم، وقد عاش في بيئة صحراوية منعزلة بين جبال مكة، كيف له -إن لم يكن نبيًّا- أن يقول هذا الكلام؟

* مِن أوصاف النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): الأمانة

ومن أمانته أن أهل قريش -مع كفرهم به- كانوا يضعون عنده أموالهم ليحفظها لهم، وكانوا يُسمونه «الأمين» قبل مبعثه نبيًّا، ولما أَذِن الله له بالهجرة إلى المدينة، ترك ابن عمه عليًّا رضي الله عنه في مكة لتسليم الأمانات إلى أهلها، مع أن الكفار كانوا يُصادرون أموال المهاجرين إلى المدينة، إلا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يأخذ أموالهم عِوضًا عن ذلك، بل أمر بردِّها إلى أصحابها.

* مِن أوصاف النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): الصدق

لقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم) في مدح الصدق وأهله، وذم الكذب وأهله: «إن الصدق يهدي إلى البِر، وإن البِرَّ يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجلُ يصدقُ ويتحرى الصِّدق حتى يُكتبَ عند الله صِدِّيقًا.

وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجلُ يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتبَ عند الله كذابًا».

مقال لطيف: لـماذا تُكذِّبون

محمدًا (صلى الله عليه وسلم)

إن المسيحيين لا يعترفون بالإسلام كديانة سماوية، ولا بالنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) كنبي ورسول مُرسل من قِبَل الله تعالى، ومحمدٌ (صلى الله عليه وسلم) كما في دائرة المعارف لاروس الفرنسية هو «ساحر، مُمْعِنٌ في فساد الخُلُق، لِصٌّ، لم ينجح في الوصول إلى كرسي البابَوية، فاخترع دينًا جديدًا لينتقم من زملائه».

بهذه السذاجة والوقاحة يُصوَّر أعظم رجل في التاريخ بشهادة من بعض عظماء مُفَكري الغرب المسيحيين.

إني لأسأل الذين لا يؤمنون بالنبي ويُكذِّبونه من أهل الكتاب، فأقول لهم:

كيف يكون محمد كاذبًا وهو الذي لم يُجرِّب عليه الناس كذبًا قط، حتى عرفه قومه بالصادق الأمين؟

كيف يكون كاذبًا على الله تعالى، ثم ينصره الله على أعدائه هذا النصر المبين؟

كيف يكون كاذبًا ثم تتسع دولته كل هذا الاتساع؟

كيف يكون كاذبًا ويصل أتباعه في العالم اليوم إلى أكثر من مليار وربع المليار نسمة؟

كيف يكون كاذبًا ولا زال دينه ينتشر بشكل مذهل في العالم وبخاصة في أوربا وأمريكا، وهما قلب العالم الغربي المسيحي؟

إن بين يدَيَّ تقريرًا حديثًا لصحيفة «لاكسبريس» الفرنسية ذَكَر أن أعداد المسلمين في فرنسا في ازدياد من كافة الطبقات والمِهن، وكذلك من مختلف المذاهب الفكرية والأديان، وأشار التقرير إلى أن عدد المعتنِقين الجدد للإسلام من الفرنسيين يصل إلى (60) ألفًا خلال الأعوام القليلة الماضية، وأشار متخصص في وزارة الداخلية إلى أن الكثيرين يعتنقون الدين الإسلامي يوميًّا.

وتساءلت مجلة «لاكسبريس» عن وجه الشبه بين هذا الطالب الذي يساعد المرضى في منطقة «جريني»، وفنان الراب في مدينة «مرسيليا» المسمى «أخناتون»، ولاعب الكرة «فرانك ريبري»، ومصمم الرقصات «موريس بيجار»، وأيضًا «كليمون» أصغر أبناء رئيس وزراء الحزب الاشتراكي السابق «موريس توريز»، كل هؤلاء أعلنوا إسلامهم منذ فترة ليست بالبعيدة.

هناك مهندسون، جامعيون، رؤساء شركات، مُدرِّبون، مدرسون، طلاب، عاطلون، مُتديِّنون بشكل واضح، كل هؤلاء يشكلون لَبِنَة جديدة في المجتمع الإسلامي الجديد في فرنسا.

وليس هذا الأمر خاصًّا بفرنسا وحدها، بل هي ظاهرة عامة يشهدها المجتمع الأمريكي والأوربي كله، بل العالم أجمع، وهذا يذكرنا بما قاله الإيرلندي الشهير «برنارد شو» الذي ألف كتابًا عن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، إلا أن سُلُطات بلاده أحرقت هذا الكتاب، بسبب ما كان فيه مِن مدح وثناء واعترافٍ بنبوة هذا النبي، وذِكر الجوانب الإنسانية العظيمة في شخصيته. قال «برنارد شو» عن انتشار الإسلام في أوربا:

«لا مُشاحَّة في أن العالم يُعَلِّق أهمية كبيرة على نبوءات كبار الرجال، لقد تنبأتُ بأن دين محمد سيكون مقبولًا لدى أوربا في الغد القريب، وقد بدأ يكون مقبولًا لديهم اليوم.

في الوقت الحاضر، دخل كثير من أبناء قومي من أهل أوربا في دين محمد، حتى لَيُمكن أن يقال: لقد بدأت أوربا الآن تتعشق الإسلام، ولن يمضي القرن الحادي والعشرون حتى تكون أوربا قد بدأت تستعين به في حل مشكلاتها». انتهى كلامه.

فكيف يكون محمد كاذبًا ودينه بهذه القوة والحيوية والانتشار رغم مرور أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان؟، بل إنه يزداد قوة باعتناق الأوربيين البِيض له، وهم أصحاب المدنية والقوة والهيمنة على العالم، وهذا يدل على أنهم وَجدوا في الإسلام ما لم يجدوه في غيره من الأديان.

قال أبو الوفاء بن عقيل : «ومن أكبر الدلائل على صدق نبينا (صلى الله عليه وسلم) أن الباري سبحانه إنما يُمهِل الكذاب يسيرًا، ثم يستأصله بالعذاب.

أفَيجوز أن يُمهِل من يَكذب عليه سنين، ثم يُثَبِّتُ شريعته بعد وفاته، وقد أقدم على نسخ شريعتين قبله ، وحلَّل السبت، ثم ينصر أتباعه على الأمم، ويؤيد حكمته بالإعجاز؟!

حاشاه أن يفعل ذلك، إذ لو فعله لم يتبين الصدق من المحال.

ألم تسمعه تعالى يقول: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيل * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِين} ، فمن طعن في صدقه (صلى الله عليه وسلم) طعن في عدل الباري وحكمته» .

وتفسير الآيات: ولو ادَّعى محمد علينا شيئًا لم نقله، لعاجلناه بالعقوبة، وانتقمنا منه، وقطعنا منه الوتين، وهو عرق متصل بالقلب إذا انقطع مات منه الإنسان، فلا يقدر أحد منكم أن يحجز عنه عقابنا.

شهادة فيلسوف إنجليزي مسيحي

على صدق النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)

مِن أشهر من كَتب عن النبي (صلى الله عليه وسلم) على وجه الإنصاف «توماس كارليل» ، الفيلسوف الإنجليزي المشهور، والحائز على جائزة نوبل، فقد تكلم عن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في كتابه «الأبطال» كلامًا طويلاً، خاطب به قومه من النصارى، وقد أشار بوضوح إلى صدق النبي (صلى الله عليه وسلم) في نبوته، وإلى عظمة النبي (صلى الله عليه وسلم) في جميع جوانب حياته وشخصيته، فكان من قوله:

«لقد أصبح من أكبر العار على أي فردٍ متحدث في هذا العصر أن يُصغِي إلى ما يُقال من أن دين الإسلام كَذِب، وأن محمدًا خدَّاعٌ مزوِّر.

وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة، فإن الرسالة التي أدَّاها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير لنحو مائتي مليون من الناس.

أيظن أحدكم أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائقة الحصر والإحصاء أكذوبة وخدعة؟!

أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبدًا، فلو أن الكذب والغشَّ يَرُوجان عند خلق الله هذا الرواج، ويصادفان منهم مثل هذا القبول، فما الناس إلا بُلْهٌ مجانين.

فواأسفاه ما أسوأ هذا الزعم، وما أضعف أهله وأحقهم بالرثاء والرحمة!

هل رأيتم قط معشر الإخوان أن رجلًا كاذبًا يستطيع أن يوجد دينًا وينشره علنًا؟!

والله إن الرجل الكاذب لا يقدر أن يبني بيتًا من الطوب، فهو إذا لم يكن عليمًا بخصائص الجير والجصَّ والتراب وما شاكل ذلك فما الذي يبنيه ببيتٍ، وإنما هو تلٌّ من الأنفاق، وكثيب من أخلاط المواد، وليس جديرًا أن يبقى على دعائمه اثني عشر قرنًا، يسكنه مائتا مليون من الأنفس ، ولكنه جدير أن تنهار أركانه فينهدم، فكأنه لم يكن».

ثم قال: «وعلى ذلك فلسنا نعُدُّ محمدًا هذا قط رجلًا كاذبًا متصنعًا، يتذرع بالحيل والوسائل إلى بغيته، ويطمح إلى درجة ملكٍ أو سلطان، أو إلى غير ذلك من الحقائر.

وما الرسالة التي أدَّاها إلا حقٌّ صُرَاح، وما كلمته إلا قولُ صادقٍ.

كلَّا، ما محمد بالكاذب، ولا المُلَفِّق، وهذه حقيقة تدفع كلَّ باطل، وتدحض حجةَ القوم الكافرين.

ثم لا ننسى شيئًا آخر، وهو أنه لم يتلق دروسًا على أستاذٍ أبدًا، ولم يقتبس محمد من نور أي إنسانٍ آخر، ولم يغترف من مناهل غيره، ولم يكن إلا كجميع أشباهه من الأنبياء والعظماء، أولئك الذي أُشبِّههم بالمصابيح الهادية في ظلمات الدهور».

مِن أوصاف النبي محمد

(صلى الله عليه وسلم): الرحمة

ومن صور رحمته (صلى الله عليه وسلم) بالأعراب الجهلة: أن أعرابيًّا دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يبول في المسجد، فزجره أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال (صلى الله عليه وسلم): «دعوه، لا تَزْرِمُوه»، أي: لا تقطعوا عليه بوله، فتركوه حتى أتم بوله.

ثم إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دعاه فقال له: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن.

ثم أمر رجلًا من القوم فجاء بدَلوٍ من ماء فصبه عليه ليطهُر المكان».

فانطلقوا في ذهول، وكأنهم بعثوا من قبورهم، ودخل كثيرٌ منهم في الإسلام بسبب هذا الموقف الرائع الذي يدل على طهارة قلب النبي (صلى الله عليه وسلم) وبراءته من أدران الغل والكراهية والحقد والبغضاء.

مِن أوصاف النبي محمد

(صلى الله عليه وسلم): نُصرة المظلوم

وكان (صلى الله عليه وسلم) لا يصبر على ظلم الضعفاء والخدم وبخاصة إذا كانوا عبيدًا، فعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: كنت أضرب غلامًا لي بالسوط، فسمعت صوتًا من خلفي: «اعلم يا أبا مسعود، اعلم أبا مسعود، فلم أفهم الصوت من الغضب، قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود.

قال: فألقيت السوط مِن يدي.

فقال: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام.

قال: فقلت: لا أضرب مملوكًا بعده أبدًا».

وفي رواية: قال: «يا رسول الله، هو حرٌّ لوجه الله.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : أما لو لم تفعل للَفحتك النار –أو: لمسَّتْك النار».

فهاهو صلى الله عليه وسلم يجعل أي إساءة إلى العبد المملوك سببًا لحريته، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) مؤكدًا هذا المعنى: «من لطم مملوكًا أو ضربه فكفَّارتُه أن يعتقه».

فمن أنصف العبيد وحرَّرهم قبل محمد (صلى الله عليه وسلم)؟

مِن أوصاف النبي محمد

(صلى الله عليه وسلم): التسامح والرفق

دخل جماعة من اليهود على النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقالوا: (السَّام عليكم)، والسَّام هو الموت، وهم بهذا يوهمون النبي (صلى الله عليه وسلم) أنهم يقولون: (السلام عليكم)، وهم في الحقيقة يدعون عليه بالموت.

فقال لهم النبي (صلى الله عليه وسلم): (وعليكم).

وكانت عائشة زوج النبي (صلى الله عليه وسلم) حاضرة، فلما سمعتهم قالت لهم: وعليكم السَّام واللعنة.

فقال لها النبي (صلى الله عليه وسلم) : مهلًا يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله.

فقالت: يا رسول الله، أوَلَم تسمع ما قالوا؟

فقال: قد قلت: وعليكم.

أي: أني رددت عليهم تحيتهم بمثلها بدون أن أسُبَّهُم أو أُجانب سبيل الرفق.

ومن ذلك أيضًا أن قبيلة «دَوس» كذَّبت وعصت وأبت أن تؤمن بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وأصرَّت على الكفر والعناد، فجاء الطُّفيل الدَّوسي وهو من نفس هذه القبيلة، فقال: يا رسول الله، إن دَوسًا عصت وأبت، فادعُ الله عليها.

فقال الناس: (هلكت دَوس)، أي: سيهلكون بدعاء النبي (صلى الله عليه وسلم) عليهم، إلا أن الرسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: اللهم اهدِ دوسًا وائتِ بهم.

فدعا لهم (صلى الله عليه وسلم) بالهداية ولم يدعُ عليهم بالعذاب والهلاك، وهذا من دلائل تسامحه ونقاء سريرته ورحمته بالناس.

مِن أوصاف النبي محمد

(صلى الله عليه وسلم): العفو

قال الباحث خالد أبو صالح حفظه الله:

المسيحيون يقولون: إن عيسى عليه السلام كان رمزًا للسلام والرحمة والتسامح، ولكن من المعلوم أن عيسى عليه السلام كان مُستضعفًا، فلم يَملك ولم ينتصر على أعدائه كما انتصر محمد (صلى الله عليه وسلم)، بل إن أعداءه تمكنوا منه وصلبوه كما يرى المسيحيون.

ولذلك فإننا لم نعلم كيف كان سيتصرف مع أعدائه إن هو ظفر بهم وانتصر عليهم.

أمَّا تسامح المستضعف وعفوه عن أعدائه الغالبين، فلا يَعُدُّه العقلاء شيئًا محمودًا.

وهناك أمر آخر مهم، وهو أن العقوبة في بعض الأحيان قد تكون أجمل وأحسن من العفو، وهذا الذي فعله محمد (صلى الله عليه وسلم)، عفا كثيرًا، وصبر كثيرًا، وتسامح كثيرًا، وكان عفوه وتسامحه وهو في موقف القوي المنتصر الفاتح لا الضعيف المهزوم، وعاقب أحيانًا إذا تحتَّمت العقوبة وكان لابد منها.

اللمحة الخامسة: شهادات بعض الـمُستشرقين -من العلماء والـمُفكرين غير المسلمين- على عِظَم قدر النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)

من ذلك ما قاله «مايكل هارت» في مقدمة كتابه «المِئة الأوائل»، والذي اختار فيه النبي محمدًا (صلى الله عليه وسلم) على رأس مئة عظيم ذَكَرَ أسماءهم في كتابه المشار إليه، وهؤلاء المئة كان لهم عظيم التأثير في البشرية على مدى عصورها، قال:

"My choice of Muhammad to lead the list of the world's most influential persons may surprise some readers and may be questioned by others, but he was the only man in history who was supremely successful on both the religious and secular levels.

Of humble origins, Muhammad founded and promulgated one of the world's great religions, and became an immensely effective political leader. Today, thirteen centuries after his death, his influence is still powerful and pervasive".

He also said:

"How, then, is one to assess the overall impact of Muhammad on human history? Like all religions, Islam exerts an enormous influence upon the lives of its followers. It is for this reason that the founders of the world's great religions all figure prominently in this book. Since there are roughly twice as many Christians as Moslems in the world it may initially seem strange that Muhammad has been ranked higher than Jesus. There are two principal reasons for that decision. First, Muhammad played a far more important role in the development of Islam than Jesus did in the development of Christianity. Although Jesus was responsible for the main ethical and moral precepts of Christianity (insofar as these differed from Judaism), St. Paul was the main developer of Christian theology, its principal proselytizer, and the author of a large portion of the New Testament.

Muhammad, however, was responsible for both the theology of Islam and its main ethical and moral principles. In addition, he played the key role in proselytizing the new faith, and in establishing the religious practices of Islam".

He continued: "Since the Koran is at least as important to Moslems as the Bible is to Christians, the influence of Muhammad through the medium of the Koran has been enormous. It is probable that the relative influence of Muhammad on Islam has been larger than the combined influence of Jesus Christ and St. Paul on Christianity. On the purely religious level, then, it seems likely that Muhammad has been as influential in human history as Jesus.

Furthermore, Muhammad (unlike Jesus) was a secular as well as a religious leader. In fact, as the driving force behind the Arab conquests, he may well rank as the most influential political leader of all time".

Hart end his article on Muhammad saying:

"We see, then, that the Arab conquests of the seventh century have continued to play an important role in human history, down to the present day. It is this unparalleled combination of secular and religious influence which I feel entitles Muhammad to be considered the most influential single figure in human history".

* * *

ترجمة ما قاله «مايكل هارت» في كتابه المشار إليه:

«إن اختياري محمدًا ليكون على رأس قائمة أكثر الأشخاص تأثيرًا قد يُدهِش بعض القراء وقد يثير التساؤل عند آخرين، ولكنه كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي تحقق له النجاح الكامل –كل الكمال– على الصعيدين الديني والدنيوي.

لقد وضع محمد وأَسَّسَ أحد أعظم الأديان في العالم اعتمادًا على وسائل جدّ ضئيلة، وأصبح قائدًا سياسيًّا مؤثرًا للغاية. واليوم وبعد ثلاثة عشر قرنًا بعد وفاته فلا يزال تأثيره قويًّا ومنتشرًا».

ثم قال:

«إذن كيف يمكننا أن نُقَيِّم أثر محمد الكُلِّي على التاريخ البشري؟

إن الإسلام له نفوذ هائل على حياة أتباعه، كما هو الحال في جميع الأديان. ولهذا السبب فإن القارئ سيجد أسماء مؤسسي معظم الأديان في هذا الكتاب.

وبما أن عدد المسيحيين ضعف عدد المسلمين في العالم فقد يبدو غريبًا تصنيف محمد في مرتبة أعلى من يسوع المسيح. ولكنَّ هنالك سببين رئيسيين لذلك القرار:

أولهما: أن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) لعب دورًا أكثر أهمية في تطوير الإسلام من الدور الذي لعبه المسيح في تطوير المسيحية، مع أن المسيح كان مسئولًا عن المبادئ الأخلاقية للديانة المسيحية (في النواحي التي تختلف بها هذه المبادئ عن الديانة اليهودية)، إلا أن القديس بولس كان المطوِّر الرئيسي للاهوت المسيحي، وكان الداعي الرئيسي للمعتقدات المسيحية، والمؤلف لجزء كبير من العهد الجديد.

أما محمدًا فكان مسئولًا عن العقيدة الإسلامية ومبادئها الرئيسية الأخلاقية . بالإضافة إلى ذلك فقد لعب دورًا قياديًّا في دعوة الناس للدين الجديد وتأسيس الشرائع الدينية في الإسلام ...

وبما أن القرآن له تأثير على المسلمين يشبه تأثير «الكتاب المقدس» على المسيحيين، فإن نفوذ محمد من خلال القرآن كان هائلًا.

ومن المحتمل أن تأثير محمد على الإسلام أكبر بكثير من التأثير المزدوج للمسيح والقديس بولس على المسيحية؛ ولهذا فإنه من وجهة النظر الدينية الصِّرفة فيبدو أن محمدًا كان له تأثير على البشرية عبر التاريخ كتأثير المسيح.

يضاف إلى ذلك فإن محمدًا يختلف عن المسيح بأنه كان زعيمًا دنيويًّا كما أنه كان زعيمًا دينيًّا، وفي الحقيقة فإنا إذا أخذنا بعين الاعتبار القوى الدافعة وراء الفتوحات الإسلامية، فإن محمدًا يصبح أعظم قائد سياسي مؤثر عبر الزمن».

ثم قال في خاتمة مقاله:

«ومن هذا نرى أن الفتوحات الإسلامية التي تمت في القرن السابع استمرت تلعب دورًا هامًّا في تاريخ البشرية حتى يومنا هذا، وأن هذا الاتحاد الفريد الذي لا نظير له للتأثير الديني والدنيوي معًا هو الذي يجعلني أُرشِّح محمدًا ليكون أعظم شخصية مؤثرة في تاريخ البشرية».

شهادة الشاعر الفرنسي «لامرتين»

على عظمة محمد (صلى الله عليه وسلم)

قال «لامرتين» : «لو كانت عظمة الهدف أو الغاية، وكانت بساطة وضآلة تكاليف الوسيلة، بالإضافة إلى تحقيق النتائج الباهرة بنجاحٍ وسلاسةٍ هي المعايير الثلاثة للعبقرية البشرية، فمن ذا الذي يجرؤ أن يقارن أيَّ رجل من عظماء التاريخ الحديث بنبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وسلم)؟

وقال: لو كان مقياس العظمة هو إصلاح شعب متدهور، فمن ذا يتطاول إلى مكان محمد (صلى الله عليه وسلم)؟

لقد سما بأمة متدهورة، ورفعها إلى قمة المجد، وجعلها مِشعلًا للمدنية، وموردًا للعلم والعرفان.

ولو كان مقياس العظمة هو توحيد البشرية المفككة الأوصال، فمن أجدر بهذه العظمة من محمد (صلى الله عليه وسلم)، الذي جمع شمل العرب، وجعلهم أمة واحدة، وإمبراطورية شاسعة؟

ولو كان مقياس العظمة هو إقامة حكم السماء في الأرض، فمن ذا الذي ينافس محمدًا (صلى الله عليه وسلم)، وقد محا مظاهر الوثنية، لتصبح عبادة الخالق وحده.

ولو كان مقياس العظمة هو الأثر الذي يخلِّده في النفوس على مرِّ الأجيال، فهاهو محمد (صلى الله عليه وسلم) يتبعه مئات الملايين من الناس من مختلف البقاع مع تباين أوطانهم وألوانهم وطبقاتهم».

ويُنهِي «لامرتين» مقالَهُ محدِّدًا صفات النبي (صلى الله عليه وسلم) وإنجازاته قائلًا:

«حكيمٌ، خطيبٌ، رسولٌ من رسل الله، مُشرِّعٌ، محاربٌ، منتصر الفكر، مساند للعقائد المعقولة، هادم للأصنام بمختلف صورها، مؤسس عشرين إمبراطورية دنيوية أرضية، وإمبراطورية روحية واحدة، ذلك هو محمد (صلى الله عليه وسلم).

وبكل المقاييس والمعايير التي يمكن أن تقاس بها عظمة البشر، يجوز لنا أن نسأل سؤالًا له كلُّ الوجاهة:

هل يوجد أي رجلٍ أعظم من محمد (صلى الله عليه وسلم)؟!».

اللمحة السادسة: إشارات وبشارات بنبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) في العهدين القديم والجديد

الحمد لله، والصلاة والسلام على جميع أنبياء الله، أما بعد:

فَإنه مِمَّا يدلُّ على وجود ذكر النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في التوراة والإنجيل الأصليين؛ أنه أخبر اليهود والنصارى عندما بُعِث بأنه مذكور عندهم في كتبهم، وكان (صلى الله عليه وسلم) أحرص الناس على تقديم ما يدلُّ على صِدقه ليتبعه الناس، فلو أخبرهم بشيء يعلمون بطلانه وعدم وجوده لكان ذلك من أعظم المُنَفِّرات لهم عن اتباعه، ولا يفعل ذلك عاقل أبدًا.

قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} .

ومن اللطيف ذكره أنه مع ضياع التوراة والإنجيل الأصليين فإن النبي محمدًا (صلى الله عليه وسلم) مذكور في التوراة والأناجيل المتوافرة الآن بأيدي النصارى، وهذه بعض الأمثلة نبدأُها من الأناجيل:

1- جاء في إنجيل متَّى (21/42-43): «قال لهم يسوع: أمَا قرأتم قطّ في الكتب: الحجَر الذي رفضه البناءون هو قد صار رأس الزاوية من قِبَلِ الربِّ. كان هذا عجيبًا في أعيننا. لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله يُنزع منكم، ويُعطى لأمةٍ تعمل أثماره».

والحجَر الذي رفضه البناءون هو محمد (صلى الله عليه وسلم)، رفض البناءون وضعه في عهد موسى وعيسى، لأن النبوة لم تكتمل بهما، فلما جاء محمد (صلى الله عليه وسلم) اكتمل البناء بوضع هذا الحجر.

وقد ذكر النبي (صلى الله عليه وسلم) ما يطابق هذه البشارة تمامًا فقال: «إن مَثَلي ومَثَل الأنبياء من قبلي كمثل رجلٍ بنى بيتًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لَبِنَةٍ من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويَعجبون له ويقولون: هلَّا وُضِعت هذه اللبِنَة؟

قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): فأنا اللَّبِنة، وأنا خاتم النبيين».

فسبحان من جعل كلام هذين النبيين العظيمين (عيسى ومحمد) يخرج من مشكاة واحدة ومصدر واحد.

أمَّا قوله: «إن ملكوت الله ينزع منكم، ويُعطى لأمة تعمل أثماره» فإنه إشارة إلى انتقال النبوة من أبناء إسحاق إلى أبناء إسماعيل عليهما السلام، والأمة هي أمة محمد (صلى الله عليه وسلم).

2- جاء في إنجيل يوحنا (4/19-21): «قالت المرأة (أي: السامرية) له (أي: للمسيح): يا سيد، أرى أنك نبي. آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون: إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يُسجد فيه.

فقال لها يسوع: يا امرأة، صدقيني إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب».

وهذه دلالة واضحة على تحول القبلة من بيت المقدس (أورشليم) إلى الكعبة المشرفة التي في مكة، وقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يصلي متجهًا إلى بيت المقدس، فكانت بيت المقدس هو الموضع الذي يتجه إليه في الصلاة، واستمر على ذلك بضعة عشر شهرًا، حتى نزل قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُون} ، فعند ذلك تغير الموضع الذي يتجه له في صلاته كما في هذا الخبر عن المسيح، واتجه إلى الكعبة التي في مكة اتباعا لأمر ربه.

3- جاء في إنجيل يوحنا (14/30): قال المسيح: «لن أخاطبكم بعدُ طويلًا، لأن سيدَ هذا العالم سيجيء».

ومن هو سيد العالم غير محمد (صلى الله عليه وسلم)؟

فقد ختم الله به النبوة، وأعطاه الشريعة الكاملة الصالحة لكل زمان ومكان، وجعل أمته أسياد العالم عندما كانوا مستمسكين بشريعته، وسترجع إليهم إذا حقَّقوا التمسك بشريعته كما وعدَهم الله بذلك في القرآن.

4- في يوحنا (14/16): قال يسوع المسيح: «ابن البشر ذاهب، والفارقليط من بعده يجيء لكم بالأسرار، ويفسر لكم كلَّ شيء، وهو يشهد لي كما شهدت له، فإني أجيئكم بالأمثال، وهو يأتيكم بالتأويل».

وفي يوحنا (16/5): «الفارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب، وإذا جاء وبَّخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه، ولكنه يسمع ويكلمكم ويَسُوسُكم بالحق، ويخبركم بالحوادث والغيوب».

وهذه البشارة واضحة الدلالة كوضوح الشمس على نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) بعد المسيح، لِمَن شرح الله صدره للحق، وتَقَبَّل الحقيقة، أما من أعمى الله بصيرته، فلو اندكَّت من حوله الجبال لم يؤمن، وبيان ذلك الوضوح من ثمانية وجوه:

أ- فكلمة (الفارقليط) تدل على معاني الحمد والحَمَّاد والمحمود، وكلها تدل على اسم النبي محمد (صلى الله عليه وسلم).

ب- مَن الذي تضمنت شريعته كل شيء غير شريعة محمد (صلى الله عليه وسلم)؟ قال الله تعالى: {ما فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْء}.

ت- ومَن الذي جاء بعد عيسى عليه السلام غير محمد (صلى الله عليه وسلم)؟

ث- ومَن الذي وبَّخ العالم على الخطايا بعد المسيح غير محمد (صلى الله عليه وسلم)؟

ج- ومَن الذي لا يتكلم من تلقاء نفسه بل بما يوحَى إليه غير محمد (صلى الله عليه وسلم)، كما قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ؟

ح- ومن الذي ساس الناس بالحق والعدل غير محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي قال: «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيمُ الله ، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها».

خ- ومَن الذي أخبر بالحوادث والغيوب، وما كان وما سيكون (وذلك عن طريق الوحي من الله) غير محمد (صلى الله عليه وسلم)؟

د- ومَن الذي شهد للمسيح بالنبوة والرسالة والعصمة غير محمد (صلى الله عليه وسلم)؟

أما البِشارات بنبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) في العهد القديم فعديدة منها:

1- في سفر التثنية (33/1): «تجلى الله من سيناء، وأشرَقَ من ساعير ، واستَعْلَنَ من جبال فاران ».

فهذه البشارة متضمنة للنبوات الثلاث: نبوة موسى وعيسى ومحمد صلى الله وسلم عليهم أجمعين.

فمجيء الله تعالى من طور سيناء إشارة إلى وحيه الذي أنزله على موسى عليه السلام، وإشراقه من ساعير هو نزول وحيه على عيسى عليه السلام ومجيئه بالإنجيل، وأما المراد بالاستعلان من جبال فاران فهو إنزال القرآن على محمد (صلى الله عليه وسلم) وإعلانها منها، لأن جِبال فاران هي جبال مكة باتفاق المسلمين واليهود والنصارى.

وقد ذُكر في القرآن ما يصدِّق هذه البشارة في قوله تعالى:{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُون * وَطُورِ سِينِين * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِين}، فذكر الله أمكنة هؤلاء الأنبياء الثلاثة التي خرجوا منها، فقوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُون} المراد منبتَهما وأرضهما وهي الأرض المقدسة التي ظهر فيها المسيح عليه السلام، وقوله:{وَطُورِ سِينِين} الجبل الذي كلَّم الله عليه موسى عليه السلام، وهو مكان ظهور نبوته، وقوله: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِين} هي مكة، منطلق نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم).

2- في سفر أعمال الرسل (3/22): «فَإِنَّ مُوسَى قَالَ لِلآبَاءِ: إِنَّ نَبِيًّا مِثْلِي سَيُقِيمُ لَكُمُ الرَّبُّ إلهكم مِنْ إِخْوَتِكُمْ. لَهُ تَسْمَعُونَ فِي كُلِّ مَا يُكَلِّمُكُمْ بِهِ».

فهذا النبي ليس عيسى عليه السلام لأنه قال: «من إخوتكم»، وإخوة بني إسرائيل هم بنو إسماعيل، ولم يُرسل نبي من بني إسماعيل إلا محمد (صلى الله عليه وسلم).

ومما يَدُل على أن هذا النبي هو محمد (صلى الله عليه وسلم) قول موسى: «نبيًّا مثلي»، ولا يوجد نبي ينطبق عليه أنه مثل موسى غير محمد (صلى الله عليه وسلم)، فكلاهما اتصف بالقوة والشجاعة، وكلاهما قاتل أعداء الله، وكلاهما بُعِث برسالة مستقلة.

أما عيسى عليه السلام فلم يقاتل ولم يُبعث برسالة مستقلة عن رسالة موسى، بل الإنجيل تابع للتوراة، فيه تحليل لبعض ما حُرِّم فيه، وفيه مواعظ، فهو متمم للتوراة، وأيضًا فإنه كان مقهورًا ولم ينتصر على أعدائه، فلما أحاط به أعداؤه اليهود وأرادوا قتله لم يقاتلهم بل رفعه الله إليه في السماء.

3- في سفر التكوين (21/18) أن ملاك الله قال لهاجر زوجة إبراهيم: «قومي احملي الغلام وشُدِّي يدك به، لأني سأجعله لأمة عظيمة».

وفي سفر التكوين أيضًا: (16/8): «إن المَلَك ظهر لهاجر أم إسماعيل فقال: يا هاجر، من أين أقبلت وإلى أين تريدين؟ فلما شرحت له الحال قال: ارجعي، فإني سأُكثِّر ذريتك وزرعَك، حتى لا يُحصون كثرة، وها أنت تحبِلين وتلدين ابنًا أُسَمِّيهِ إسماعيل، لأن الله سمع تذلُّلَكِ وخضوعكِ، وَوَلدُكِ يكون وحشًا للناس ، وتكون يده على الكُل، ويدُ الكلِّ مبسوطة إليه بالخضوع».

فمَن هذه الأمة العظيمة التي تنتسب إلى إسماعيل عليه السلام غير أمة محمد (صلى الله عليه وسلم)؟!

ومن هو الذي ستكون يده على الكلِّ ويد الكلِّ مبسوطة إليه بالخشوع غير محمد (صلى الله عليه وسلم)؟

فإسماعيل عليه السلام لم تكن يده فوق يد إسحاق، بل كانت يد إسحاق فوق يده، لأن النبوة والمُلك كانا في يد إسرائيل والعِيص ، وهما ابنا إسحاق، فلم يبق إلا محمد (صلى الله عليه وسلم)، فأمته أعظم الأمم وآخرها.

وكذلك قوله: «ولدُك يكون وحشًا للناس» يدل على أن المقصود هو النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «نُصِرتُ بالرعب مسيرة شهر» ، أي أن الله تعالى كان يُلقي الرعب في صدور أعدائه منه وهو يَبعد عنهم مسيرة شهر، فهو الذي ينطبق عليه قول التوراة: «ولدُك يكون وحشًا للناس».

قال الحافظ المؤرخ ابن كثير رحمه الله في «البداية والنهاية» : «وهذه البشارة إنما انطبقت على ولده محمد (صلوات الله وسلامه عليه)، فإنه الذي سادت به العرب، وملكت جميع البلاد شرقًا وغربًا، وآتاها الله من العلم النافع والعمل الصالح ما لم تؤت أمة من الأمم قبلهم، وما ذاك إلا بشرف رسولها على سائر الرسل، وبركة رسالته، ويُمْن بشارته، وكماله فيما جاء به، وعموم بعثته لجميع أهل الأرض».

وبناء على ما تقدم فإن المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام بشَّر أتباعه بالنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وأمر بالانقياد لشريعته (الإسلام)، فاتِّباع شريعة الإسلام يعتبر تتميمًا لدين المسيح، وطاعة للمسيح، وليس نكوصًا عليه أو كفرًا به.

وقد يسر الله جمع تلك البشائر الإنجيلية بنبوة محمد (رسول الإسلام) في كتاب:

The amazing prophecies of Muhammad in the Bible

وبناء عليه فالإيمان متلازم بين عيسى ومحمد، فالمسيحي الصادق في اتِّباعه لعيسى لابد أن يؤمن بمحمد (صلى الله عليه وسلم) ويتبع شريعته وإلا كان عاصيًا لنبيه عيسى (عليه السلام).

والذي يؤمن بمحمد (صلى الله عليه وسلم) لا بد أن يؤمن بعيسى، وإلا كان كافرًا بمحمد (صلى الله عليه وسلم)، لأن الإيمان بعيسى وبجميع الأنبياء قد أمر به القرآن، فمن لم يؤمن بالمسيح يكون كافرًا بالقرآن، قال الله في القرآن ﴿آمن الرسول بما أُنزِل إليه من ربه والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير﴾.

ومعنى ﴿لا نُفرِّق بين أحد من رسله﴾، أي: لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض، بل نؤمن بالجميع.

وقد ورد ذكر اسم عيسى في القرآن 25 مرة، وورد ذكره بوصفه (المسيح) 9 مرات، كما ورد ذكر اسم أمه مريم 31 مرة، كلها في مقام الاحترام والتعظيم والتبجيل اللائق بأمثالهما من البشر، دون اعتقاد أن لهما شيئًا من صفات الربوبية أو الألوهية، بل هما بشر مثلنا، يعبدان الله كما نعبده نحن، ويرجوانه الجنة والنجاة من النار كما نرجوه نحن.

ليس هذا فحسب، بل قد جاء وصف عيسى بأنه من أولي العزم من الرسل، والعزم أي الصبر والحزم.

وأولي العزم من الرسل هم أعظم الرسل، وهم خمسة (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد)، صلوات الله عليهم جميعًا.

وبهذا يكون لزامًا على المسيحي الصادق أن يؤمن بمحمد ويتبع شريعته (الإسلام) وإلا كان كافرًا بالرسولين عيسى ومحمد (صلى الله عليهما وسلم)، ومُعَرِّضًا نفسه لعقوبة الله يوم القيامة.

كذلك فإنه لزامًا على كل مسلم أن يؤمن بعيسى وجميع الأنبياء قبله وإلا كان كافرًا بمحمد (صلى الله عليه وسلم).

وليس صحيحًا ما يظنه أكثر المسيحيين أن الإيمان بمحمد واتِّباع شريعته يتناقض مع الإيمان بعيسى، بل إن الإيمان بمحمد واتِّباع شريعته يستلزم الإيمان بعيسى، وليس في دين عيسى نص واحد يأمر بعدم الإيمان بمحمد أو ينافي الإيمان بمحمد (صلى الله عليه وسلم).

اللمحة السابعة: دين محمد (الإسلام) جاء بحسنتين عظيمتين على دين المسيح

اعلم رحمك الله أن دين الإسلام جاء بحسنتين عظيمتين لأتباع دين المسيح عيسى ابن مريم وهما:

الأولى: أنه صحَّح التحريفات التي وردت على دين المسيح، قال تعالى ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مبِين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم﴾.

ومن هذه التحريفات ما هو واضح من التفرق والاختلاف بين طوائف النصارى، فطائفة تصفه بأنه الله، وطائفة تصفه بأنه ابن الله، وطائفة تصفه بأنه ثالث ثلاثة.

ومن هذه التحريفات أيضًا طعن اليهود في عيسى ابن مريم بوصفهم له بأنه ابن زنا، حاشاه من ذلك.

فتوسَّط دين الإسلام -الذي هو دين الوسطية والوضوح- بين هذين المسلكين، مسلك الغلو والإفراط في التعظيم، ومسلك الجفاء والازدراء، فبيَّن الحقيقة، وهي أن عيسى ابن مريم بشر رسول، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.

قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى الله إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِالله وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا الله إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِالله وَكِيلًا﴾.

وقال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيل﴾.

وقال تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾.

وقال تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار﴾.

وقال تعالى: ﴿لقد كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيم﴾.

الحسنة الثانية: أن دين الإسلام أحيا تعاليم كان يؤديها النبي الكريم عيسى ابن مريم، فصار المسلمون يؤدُّونها، في حين أن المسيحيين أنفسهم لا يؤدُّونها، انظر للتفصيل كتاب:

Islam's Revival of Jesus' Teachings

تم البحث بحمد الله

نفع الله به كاتبه وقارئه وناشره

ماجد بن سليمان

Majed.alrassi@gmail.com

00966505906761