×
هذه المقالة مقتبسه من كتاب زاد المعاد لابن القيم تبين بعض مقاصد الصوم، وسبب تأخير فرضه، كيفية فرضه، وبعض آداب الصائم، وبعض مفطرات الصائم.

    بسم الله الرحمن الرحيم

    هكذا صام النبي ﷺ‬ رمضان

    الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

    أما بعد:

    مقاصد الصوم

    قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (لما كان المقصود من الصيام:

    1-حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات.

    2-وتعديل قوتها الشهوانية، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية.

    3-ويكسر الجوع والظمأ حدتها وسورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين.

    4-وتضييق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب.

    5-وتُحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها.

    6-ويسكن كل عضو منها وكل قوة عن جماحه، وتُلجم بلجامه، فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين.

    7-وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئاً، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده .

    8-وهو سر بين العبد وربه لا يطلع عليه سواه. والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده، فهذا أمر لا يطلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم.

    تأثير الصوم على القلب والجوارح

    وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها.

    فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى كما قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{ [البقرة:183].

    وقال النبي ﷺ‬: «الصوم جُنة» (متفق عليه).

    وأمر من اشتدت عليه شهوة النكاح، ولا قدرة له عليه بالصيام، وجعله وجاء ([1]) هذه الشهوة.

    والمقصود أن مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة والفطر المستقيمة، شرعه الله لعباده ؛ رحمة بهم، وإحسانا إليهم، وحمية لهم وجنة ([2]).

    وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أكمل الهدي وأعظم تحصيل للمقصود وأسهله على النفوس.

    سبب تأخير فرضه

    ولما كان فطم الناس عن مألوفاتها وشهواتها من أشق الأمور وأصعبها، تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة، لما توطنت النفوس على التوحيد والصلاة، وألفت أوامر القرآن، فنقلت إليه بالتدريج.

    وكان فرضه في السنة الثانية من الهجرة، فتوفي رسول الله ﷺ‬ وقد صام تسع رمضانات.

    كيفية فرض الصيام

    وفرض أولاً على وجه التخيير بينه وبين أن يطعم عن كل يوم مسكيناً. ثم نقل من ذلك التخيير إلى تحتم الصوم.

    وجعل الإطعام للشيخ الكبير والمرأة إذا لم يطيقا الصيام، فإنهما يفطران، ويطعمان عن كل يوم مسكيناً، ورخص للمريض والمسافر أن يفطرا ويقضيا ؛ وللحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما كذلك، فإن خافتا على ولديهما، زادتا مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم، فإن فطرهما لم يكن لخوف مرض، وإنما كان مع الصحة، فجبر بإطعام المسكين، كفطر الصحيح في أول الإسلام.

    وكان للصوم رتب ثلاث:

    إحداها: إيجابه بوصف التخيير.

    والثانية: تحتمه، لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعم، حرم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة، فنسخ ذلك بالرتبة التالية

    الثالثة: وهي التي استقر عليها الشرع إلى يوم القيامة.

    الإكثار من أنواع العبادة

    وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان:

    الإكثار من أنواع العبادات، فكان جبريل – عليه السلام – يدارسه القرآن في رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان ؛ يكثر فيه من الصدقة والإحسان، وتلاوة القرآن، والصلاة، والذكر، والاعتكاف.

    وكان يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره به من الشهور، حتى إنه كان ليواصل فيه أحياناً، ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة.

    وكان ينهى أصحابه عن الوصال، فيقولون له: إنك تواصل، فيقول: «ليست كهيئتكم، إني أبيتُ» - وفي رواية: «إني أظل» - عند ربي يطعمني ويسقيني » (متفق عليه).

    وقد نهى رسول الله ﷺ‬ عن الوصال رحمة للأمة وأذن فيه إلى السحر، وفي صحيح البخاري، عن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي ﷺ‬ يقول: «لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل، فليواصل إلى السحر» فهذا أعدل الوصال، وأسهله على الصائم، وهو في الحقيقة بمنزلة عشائه إلا أنه تأخر، فالصائم له في اليوم والليلة أكلة، فإذا أكلها في السحر، كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره.

    هديه ﷺ‬ في ثبوت الشهر

    وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل في صوم إلا برؤية محققة، أو بشهادة شاهد واحد، كما صام بشهادة ابن عمر، وصام مرة بشهادة أعرابي، واعتمد على خبرهما، ولم يكلفهما لفظ الشهادة، فإن كان ذلك إخبارا فقد اكتفى في رمضان بخبر الواحد، وإن كان شهادة فلم يكلف الشاهد لفظ الشهادة، فإن لم تكن رؤية ولا شهادة أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً.

    وكان إذا حال ليلة الثلاثين دون منظره غيم أو سحاب، أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً، ثم صامه.

    ولم يكن يصوم يوم الإغمام، ولا أمر به، بل أمر بأن تكمل عدة شعبان ثلاثين إذا غم، وكان يفعل ذلك، فهذا فعله، وهذا أمره. ولا يناقض هذا قوله: «فإن غم عليكم فاقدروا له» (متفق عليه).

    فإن القدر: هو الحساب المقدر، والمراد به: إكمال عدة الشهر الذي غم، كما قال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: «فأكملوا عدة شعبان».

    هديه ﷺ‬ في الخروج من الشهر

    وكان من هديه صلى الله عليه وسلم: أمر الناس بالصوم بشهادة الرجل الواحد المسلم، وخروجهم منه بشهادة اثنين.

    وكان من هديه: إذا شهد الشاهدان برؤية الهلال بعد خروج وقت العيد أن يفطر، ويأمرهم بالفطر، ويصلي العيد من الغد في وقتها.

    هديه ﷺ‬ في الفطر والسحور

    وكان يعجل الفطر ويحض عليه، ويتسحر، ويحث على السحور، ويؤخره، ويرغب في تأخيره.

    وكان يحض على الفطر بالتمر، فإن لم يجد فعلى الماء، هذا من كمال شفقته على أمته، ونصحهم، فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلو المعدة أدعى إلى قبوله، وانتفاع القوى به، ولا سيما القوة الباصرة، فإنها تقوى به.

    وحلاوة المدينة التمر، ومرباهم عليه، وهو عندهم قوت وأدم، ورطبه فاكهة.

    وأما الماء: فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس، فإذا رطبت بالماء، كمل انتفاعها بالغداء بعده، ولهذا كان الأولى بالظمآن الجائع أن يبدأ قبل الأكل بشرب قليل من الماء، ثم يأكل بعده، هذا مع ما في التمر والماء من الخاصية التي لها تأثير في صلاح القلب لا يعلمها إلا أطباء القلوب.

    مع النبي ﷺ‬ في فطره

    وكان صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي.

    وكان فطره على رطبات – إن وجدها- فإن لم يجدها، فعلى تمرات، فإن لم يجد فعلى حسوات من ماء.

    وروي عنه أنه كان يقول إذا أفطر: «ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى» (رواه أبو داود).

    ويذكر عنه ﷺ‬: «إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد» (رواه ابن ماجة).

    وصح عنه أنه قال ﷺ‬: «إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر من هاهنا، فقد أفطر الصائم» (متفق عليه).

    وفسر بأنه قد أفطر حكماً، وإن لم ينوه، وبأنه قد دخل وقت فطره، كأصبح وأمسى.

    آداب الصائم

    ونهى الصائم عن الرفث، والصخب، والسباب، وجواب السباب، فأمره أن يقول لمن سابه «إني صائم» (متفق عليه).

    فقيل: يقول بلسانه، وهو أظهر.

    وقيل: بقلبه ، تذكيراً لنفسه بالصوم.

    وقيل: يقوله في الفرض بلسانه، وفي التطوع في نفسه؛ لأنه أبعد عن الرياء.

    السفر في رمضان

    وسافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فصام وأفطر، وخيَّر الصحابة بين الأمرين.

    وكان يأمرهم بالفطر إذا دنوا من عدوهم؛ ليتقووا على قتاله.

    الفطر بسبب الجهاد

    فلو اتفق مثل هذا في الحضر، وكان في الفطر قوة لهم على لقاء عدوهم فهل لهم الفطر؟

    أصحهما دليلاً أن لهم ذلك، وهو اختيار ابن تيمية، وبه أفتى العساكر الإسلامية لما لقوا العدو بظاهر دمشق.

    ولا ريب أن الفطر لذلك أولى من الفطر لمجرد السفر، بل إباحة الفطر للمسافر تنبيه على إباحته في هذه الحالة، وأنها أحق بجوازه.

    لأن القوة هناك تختص بالمسافر، والقوة هنا له وللمسلمين.

    ولأن مشقة الجهاد أعظم من مشقة السفر.

    ولأن المصلحة الحاصلة بالفطر للمجاهد أعظم من المصلحة بفطر المسافر.

    ولأن الله تعالى قال: }وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ{ [الأنفال:60]، والفطر عند اللقاء من أعظم أسباب القوة.

    والنبي صلى الله عليه وسلم قد فسر القوة بالرمي، وهو لا يتم، ولا يحصل به مقصوده إلا بما يقوي ويعين عليه من الفطر والغذاء.

    ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة لما دنوا من عدوهم: «إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم» وكانت رخصة، ثم نزلوا منزلا آخر فقال: «إنكم مصبحو عدوكم، والفطر أقوى لكم فأفطروا» (رواه مسلم).

    فكانت عزمة فأفطروا.

    فعلل بدنوهم من عدوهم واحتياجهم إلى القوة التي يلقون بها العدو، وهذا سبب آخر غير السفر , السفر مستقل بنفسه، ولم يذكره في تعليله، ولا أشار إليه.

    وأما إذا تجرد السفر عن الجهاد، فكان رسول الله ﷺ‬ يقول في الفطر: «هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن ، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه».

    وسافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في أعظم الغزوات وأجلها: في غزاة بدر، وفي غزاة الفتح.

    هديه ﷺ‬ في مسافة السفر

    ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تقدير المسافة التي يفطر فيها الصائم بحد، ولا صح عنه في ذلك شيء.

    وقد أفطر دحية الكلبي في سفر ثلاثة أميال، وقال لمن صام: قد رغبوا عن هدي محمد ﷺ‬.

    وكان الصحابة حين ينشؤون السفر يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت، ويخبرون أن ذلك سنته وهديه ﷺ‬ كما قال عبيد بن جبر: «ركبت مع أبي بصرة الغفاري، صاحب رسول الله ﷺ‬ في سفينة من الفسطاط في رمضان، فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة. قال: اقترب. قلت: ألست ترى البيوت ؟ قال أبو بصرة: أترغب عن سنة رسول الله ﷺ‬؟ » (رواه أبو داود وأحمد).

    وقال محمد بن كعب: «أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفراً، وقد رحلت له راحلته، وقد لبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سنة؟ قال: سنة، ثم ركب».

    قال الترمذي: حديث حسن، وقال الدار قطني فيه: فأكل وقد تقارب غروب الشمس.

    وهذه الآثار صريحة في أن من أنشا السفر في أثناء يوم من رمضان، فله الفطر فيه.

    هديه ﷺ‬ في غسل الجنابة

    وكان من هديه صلى الله عليه وسلم: أن يدركه الفجر وهو جنب من أهله، فيغتسل بعد الفجر ([3]) ويصوم.

    وكان يقبل بعض أزواجه وهو صائم في رمضان ([4])، وشبه قبلة الصائم بالمضمضة بالماء.

    هديه ﷺ‬ فيمن أكل أو شرب ناسياً

    وكان من هديه صلى الله عليه وسلم: إسقاط القضاء عمن أكل وشرب ناسياً، وأن الله سبحانه هو الذي أطعمه وسقاه، فليس هذا الأكل والشرب يضاف إليه، فيفطر به، فإنما يفطر بما فعله، وهذا بمنزلة أكله وشربه في نومه، إذ لا تكليف بفعل النائم، ولا بفعل الناسي.

    مفطرات الصائم

    والذي صح عنه صلى الله عليه وسلم: أن الذي يفطر به الصائم: الأكل، والشرب، والحجامة، والقيء.

    والقرآن دال على أن الجماع مفطر، كالأكل والشرب، ولا يعرف فيه خلاف، ولا يصح عنه في الكحل شيء.

    وصح عنه أن كان يستاك وهو صائم.

    وذكر الإمام أحمد عنه أنه كان يصب الماء على رأسه وهو صائم.

    وكان يتمضمض ويستنشق وهو صائم، ومنع الصائم من المبالغة في الاستنشاق.

    ولا يصح عنه أن احتجم وهو صائم، قاله الإمام أحمد.

    ولا صح عنه أنه نهى الصائم عن السواك أول النهار ولا آخره.

    ([1]) وجاء: دافع.

    ([2]) جنة : سترة ووقاية.

    ([3]) أي بعد أذان الفجر.

    ([4]) ولكنه ﷺ‬ كان يملك نفسه ، أما غيره فقد لا يملك نفسه ، ولذلك فقد كره أهل العلم القبلة للصائم إذا خشي ألا يملك نفسه.