×
كتاب الروح : كتاب للإمام ابن القيم - رحمه الله - أجاب فيه عن أسئلة عن أحوال البرزخ، وعذاب القبر ومستقر الروح بعد الموت، وحقيقة النفس وقِدَمها وما إلى ذلك.

 كتاب الروح

تأليف ابن قيم الجوزية (691 - 751) تحقيق محمد أجمل أيوب الإصلاحي

(المقدمة/1)


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمُ مقدمة التحقيق الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فإن كتاب الروح للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله من الكتب النادرة في بابه. وقد وصلت إلينا كتب في النفس لابن سينا (ت 428) وابن باجَّه الأندلسي (ت 533) وفخر الدين الرازي (ت 606) وقطعة من كتاب أبي البركات البغدادي (ت 560)، ولكن كتاب ابن القيم هذا ينتمي إلى فئة أخرى من الكتب، وهي مصنفات محمد بن نصر المروزي (ت 294) وأبي يعقوب النهرجُوري (ت 303) وأبي إسحاق ابن شاقْلا (ت 369) وأبي عبد الله ابن منده (ت 395) والقاضي أبي يعلى (ت 458). ولاسيّما كتاب الحافظ ابن منده "النفس والروح" الذي هو من أهم موارد كتاب الروح، وكان كتابًا كبيرًا. وكل هذه المصنفات لا علم لنا الآن بوجودها في خزائن الكتب، بل لابن القيم نفسه كتاب آخر كبير ألَّفه قبل كتاب الروح هذا، وسمَّاه "الروح والنفس"، وأحال عليه في هذا الكتاب وغيره، ولكن لم نقف عليه، ولا ندري أضاع فيما ضاع من نفائس تراث ابن القيم أم لا يزال مخبوءًا في زاوية من الزوايا منتظرًا من يفتش عنه ويظهره للناس؟ فكتاب الروح لابن القيم هو الكتاب الوحيد بين أيدينا اليوم من الكتب المصنفة في هذا الباب على منهج السلف.

(المقدمة/5)


وأصل هذا الكتاب جواب عن أسئلة سئل عنها المصنف، وهي اثنان وعشرون سؤالًا، معظمها عن أحوال البرزخ وعذاب القبر ومستقر الروح بعد الموت، ومنها أسئلة عن حقيقة النفس وقِدَمها وما إلى ذلك. والمصنف رحمه الله على طريقته في الجواب أفاض وأطنب، وبحث واستقصى، واستطرد فأفاد. فضم كتابه هذا مسائل عظيمة ومباحث مبسوطة وفوائد متنوعة في العقيدة والتفسير والحديث والفقه وتزكية النفس. وقد شهد بعض جلة العلماء بأن ابن القيم رحمه الله قد بلغ في بعض أجوبته من استيعاب وجوه القول وتتبع حجج الخصوم والرد عليها ما لا مزيد عليه. ومن ثم كان كتاب الروح موردًا عذبًا لكلِّ من ألَّف بعده في مسائل الروح وأحوال البرزخ. وقد طبع كتاب الروح قديمًا في الهند، فكانت طبعته الأولى صدرت سنة 1318، وأعيد طبعه هناك مرات. ثم طبع في مصر سنة 1376. وبعد ذلك صدرت طبعات كثيرة. وحُقِّق الكتاب لأول مرة سنة 1404 في رسالة علمية عن ثلاث نسخ خطية، وطبعت في الرياض سنة 1406، وكانت تلك خطوة أولى في سبيل إخراج نص الكتاب حسب المنهج العلمي. ونشرتنا هذه خطوة جديدة في هذا السبيل. وقد اعتمدنا في تحرير نص الكتاب على ست نسخ خطية مع الاستئناس بنسختين أخريين، والرجوع إلى موارد الكتاب وغيرها، فأمكن ــ بفضل الله وحده ــ تصحيح كثير من التصحيفات والأوهام. وأرجو أن يكون النص في هذه النشرة أقرب إلى نص المؤلف مما كان عليه في النشرات السابقة.

(المقدمة/6)


وقدمت بين يدي الكتاب فصولًا تعريفية تحدثت فيها عن نسبة الكتاب، وعنوانه، وزمن تأليفه، ومطالبه، وموارده، والصادرين عنه، وأهميته والثناء عليه، ومختصراته، وطبعاته. ثم وصفت النسخ الخطية التي اعتمدت عليها، والمنهج الذي سلكته في إعداد هذه النشرة. وقد أطلت في تحقيق نسبة الكتاب ــ مع أن الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله قد سبق بذلك قبل زمن طويل ــ لأني رأيت فريقًا من الناس لا يزالون في ريبهم يترددون. وآمل من العلماء والباحثين الأفاضل، إذا وقفوا على خلل أو زلل في تصحيح النص أو التعليق عليه، أن لا يغضُّوا أبصارهم، بل حقُّ العلم عليهم أن ينبِّهوا عليه متفضِّلين مشكورين. وأشكر الإخوة المسؤولين والعاملين في أقسام المخطوطات في مكتبة الحرم المكي الشريف، ومركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض على ما تكرَّموا به من تصوير النسخ المطلوبة من كتاب الروح وتيسير الاستفادة من غيرها، فجزاهم الله خير الجزاء. وقد سعى أخونا الدكتور عثمان جمعة ضميرية لتصوير مخطوطات الكتاب المحفوظة في مركز جمعة الماجد بدبي، فشكر الله سعيه وجعله في ميزان حسناته. أسأل الله أن يتقبَّل هذا الجهد المتواضع وينفع به، وأن يجزل المثوبة لمؤلف الكتاب الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله. وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الرياض محمد أجمل أيوب الإصلاحي 16 رمضان 1431

(المقدمة/7)


تحقيق نسبة الكتاب كتاب الروح من أشهر كتب ابن القيم. ذكره المترجمون له ضمن مؤلفاته، وأقبل على نسخه الورَّاقون، واستفاد منه أهل العلم على اختلاف مذاهبهم وطبقاتهم وعلى تباعد أزمانهم وبلدانهم. فمنهم من تلمذ لابن القيم، ومنهم من عاصره. ومنهم الحنبلي والشافعي والحنفي، ومنهم الشامي والمصري والعراقي والنجدي واليماني. ومنهم من اختصره أو لخصه وأعاد ترتيبه، ومنهم من اقتصر على النقل منه. ومنهم من أعجب به وأثنى عليه. ولكن لم نر منهم من القرن الثامن إلى القرن الرابع عشر مَن تردّد في نسبة الكتاب إلى ابن القيم. بل ألفيناهم جميعًا مطبقين على عزوه إليه عزوًا صريحًا، حتى كانت سنة 1384، إذ ظهر في مجلة "الهدي النبوي" الصادرة في القاهرة عنوان "هل كتاب الروح ليس لابن القيم؟ ". وذلك في ذيل الحلقة الثالثة من سلسلة مقالات الشيخ محمد نجيب المطيعي رحمه الله في تعقب أحاديث وحكايات واردة في كتاب الروح (1). قال الشيخ: "سألني أخي الأستاذ جميل غازي رئيس قسم الثقافة والتوجيه المعنوي بالعلاقات العامة بمحافظة الدقهلية عما إذا كان هذا الكتاب (الروح) هو لابن القيم قطعًا، أم أنه منسوب إليه؟ وهل هذا الكتاب يتفق مع منهج ابن القيم الذي عُرف بالدقة والضبط والتثبت؟ فأقول: إن هذا الكتاب لابن القيم يقينًا، وذلك للأسباب الآتية". _________ (1) المجلد 29، العدد 12، شهر ذي الحجة، ص 41 ــ 42. وقد أوقفني عليه أخي الشيخ جديع بن محمد الجديع، فجزاه الله خيرًا.

(المقدمة/8)


ثم ذكر خمسة أسباب أهمُّها: ما ذكره ابن القيم في كتاب الروح أن بعضهم رأى شيخ الإسلام ابن تيمية في المنام بعد موته؛ وقال: إن ذلك لا يدل على صحة نسبة الكتاب إلى ابن القيم فحسب، بل يدل على زمن تأليفه أيضًا، وهو بعد وفاة شيخ الإسلام. واستدل بمنهج ابن القيم في البحث وأسلوبه وموضوعات الكتاب، وقال: "والذي يشكُّ في نسبة الكتاب إلى الشيخ عليه أن يثبت من كتبه الأخرى ما يهدم القضايا البارزة في كتابه هذا". والظاهر أن السائل ــ وهو الشيخ جميل غازي رحمه الله ــ لم يصدر في سؤاله عن دراسة لكتاب الروح، ولعل نقد الشيخ المطيعي لبعض الروايات والآثار الواردة فيه أثار في نفسه الشك في نسبة الكتاب، فكتب إليه مستفسرًا. ثم أخرج الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله سنة 1398 (1) كتاب "الآيات البينات في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات" لخير الدين الآلوسي (ت 1317) وصدّره بمقدمة ضافية ذكر فيها كتاب الروح أولًا في حاشيتها (ص 40) فقال: "كتاب الروح المنسوب لابن القيم". ثم في (ص 60) أورد كلامًا لابن القيم مع الرد عليه وقال: " ... ولهذا وغيره فإني في شك كبير من صحة نسبة الروح إليه، أو لعله ألفه في أول طلبه للعلم، والله أعلم". _________ (1) وهي تاريخ مقدمة الشيخ الألباني لكتاب الآلوسي. وفيها صدرت الطبعة الأولى من الكتاب فيما يبدو، فإن طبعته الثانية صدرت في العام التالي 1399.

(المقدمة/9)


وقد أصدر الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله كتابه "ابن قيم الجوزية ــ حياته وآثاره" في عام 1400، فذكر أنه "قد انتشر على ألسنة بعض طلاب العلم أن كتاب الروح ليس لابن القيم أو أنه ألَّفه قبل اتصاله بشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. هذا ما تناقلته الألسن ومرّ على الأسماع في المجالس والمباحثات، ولم أر ذلك مدوَّنًا في كتاب، ولعل شيئًا من ذلك قد دُوِّن ولكن لم يتيسر الوقوف عليه" (1). وكأن ما سمع الشيخ بكر كان صدى لما ذكره الشيخ الألباني في مقدمة "الآيات البينات"، ولكن لم يكن الكتاب المذكور قد صدر حينما أعدّ الشيخ بكر رسالته عن ابن القيم، فلم يقف عليه، كما فاته الاطلاع على سؤال الشيخ جميل غازي وجواب الشيخ محمد نجيب المطيعي. وقد رد الشيخ بكر على الشبهتين، وأثبت أن كتاب الروح لابن القيم بلا ريب، وأنه ألّفه بعد اتصاله بشيخ الإسلام لا قبله. وذكر الشيخ بكر أنه لتحقيق هذه المسألة قرأ كتاب الروح من أوله إلى آخره قراءة المتأمل الفاحص، فتبين له أن ما تناقلته الألسن "نتائج موهومة سبيلها النقض، ونهايتها الرفض المحض، وأنها إنما انتشرت من غير دراسة ولا تحقيق". وصدق الشيخ، فلم يكن كلام الشيخ الألباني أيضًا صادرًا عن دراسة لكتاب الروح، وإنما الذي أثار الشك في نفسه أنه وجد في كتاب الروح رأيًا واحتجاجًا مخالفًا لما عهده من منهج ابن القيم، وخادشًا لصورته المرسومة في ذهنه، ثم إن الاعتقاد بأن الموتى يسمعون هو السبب الأقوى الموجب _________ (1) ابن قيم الجوزية ــ حياته، آثاره، موارده؛ دار العاصمة، 1423 (ص 254).

(المقدمة/10)


للاستغاثة بغير الله عند المبتدعة (1)، فضاق الشيخ بما ذهب إليه ابن القيم، فأنكره، وشك في نسبة الكتاب نفسه إلى ابن القيم إلا أن يكون قد ألّفه قبل اتصاله بشيخ الإسلام. يقول الشيخ: "وأغرب ما رأيت لهم من الأدلة قول ابن القيم رحمه الله في الروح (ص 8) تحت المسألة الأولى: هل تعرف الأموات بزيارة الأحياء وسلامهم أم لا؟ فأجاب بكلام طويل جاء فيه ما نصه ... ". ثم نقل قول ابن القيم: "ويكفي في هذا تسميته المسلِّم عليهم زائرًا، ولولا أنهم يشعرون به لما صح تسميته زائرًا؛ فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره لم يصح أن يقال: زاره. هذا هو المعقول من الزيارة عند جميع الأمم. وكذلك السلام عليهم أيضًا، فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلِّم محال. وقد علّم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إذا زاروا القبور أن يقولوا: "سلام عليكم أهل الديار ... وهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب، ويعقل ويرد، وإن لم يسمع المسلِّم الردّ". وعقب الشيخ على ذلك قائلًا: "رحم الله ابن القيم، فما كان أغناه عن الدخول في مثل هذا الاستدلال العقلي، الذي لا مجال له في أمر غيبي كهذا؛ فوالله لو أن ناقلًا نقل هذا الكلام عنه ولم أقف أنا بنفسي عليه لما صدقته لغرابته، وبعده عن الأصول العلمية، والقواعد السلفية، التي تعلمناها منه، ومن شيخه الإمام ابن تيمية؛ فهو أشبه شيء بكلام الآرائيين والقياسيين الذي يقيسون الغائب على الشاهد، والخالق على المخلوق، وهو قياس باطل فاسد، طالما ردّ ابن القيم أمثاله على أهل الكلام والبدع؛ ولهذا وغيره _________ (1) الآيات البينات (ص 25).

(المقدمة/11)


فإني في شك كبير من صحة نسبة "الروح" إليه، أو لعله ألَّفه في أول طلبه للعلم. والله أعلم، ثم إن كلامه مردود في شطريه بأمرين ... " (1). قلت: قول ابن القيم: "فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلِّم محال ... وإن لم يسمع المسلِّم الردّ" نقله بعينه الحافظ ابن كثير في تفسيره (6/ 325 - 327) ضمن اقتباس طويل من كتاب الروح. فهل يدعو ذلك إلى الشك في نسبة التفسير إلى ابن كثير؟ وماذا عسى أن يقول الشيخ لو درى أن هذا الاستدلال بعينه مأخوذ من كلام شيخ الإسلام الذي قال: "وقد ثبت عنه في الصحيحين من غير وجه أنه كان يأمر بالسلام على أهل القبور، ويقول: "قولوا: السلام عليكم أهل الديار ... " فهذا خطاب لهم، وإنما يخاطَب مَن يسمَع" (2). وقال في موضع آخر: "والميت قد يعرف من يزوره. ولهذا كانت السنة أن يقال: السلام عليكم، أهل دار قوم مؤمنين ... " إلخ (3). وسيأتي عرض المسألة في فصل آخر، وإنما يعنينا هنا ما يتعلق بنسبة الكتاب. والدلائل على صحتها متوافرة متنوعة (4)، وقد قسمناها إلى قسمين: القسم الأول في الدلائل الخارجية، والقسم الثاني في الدلائل الداخلية. _________ (1) الآيات البينات (ص 60). (2) مجموع الفتاوى (24/ 363). (3) مجموع الفتاوى (24/ 304). (4) انظر جملة منها في كتاب "ابن قيم الجوزية ــ حياته، آثاره، موارده" للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله (ص 255 - 258).

(المقدمة/12)


أما القسم الأول فمن أظهر دلائله: 1) أن ابن القيم نفسه ذكره في كتابه جلاء الأفهام (557)، فلما أورد حديث أبي هريرة: "إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان" الحديث، قال: "وقد استوفيت الكلام على هذا الحديث وأمثاله في كتاب الروح". يقصد كلامه في المسألة السادسة. 2) أن الحافظ ابن رجب (ت 795) ــ وهو من تلامذة ابن القيم ــ نقل في كتابه "أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور" نصوصًا عديدة من كتاب الروح ــ كما سيأتي ــ فقال في (ص 68): "وذكر شيخنا أبو عبد الله ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الروح ... ". ونقل حكاية. ثم قال (ص 69): "قال شيخنا"، ونقل حكاية أخرى. وانظر الحكايتين في المسألة السابعة. 3) أن أبا عبد الله محمد بن محمد بن محمد المنبجي الحنبلي (ت 785) قد ألّف كتابه "تسلية أهل المصائب" سنة 777، واستفاد فيه من كتاب الروح ونسبه إلى ابن القيم بصراحة، فقال: "قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح له: حدثني صاحبنا أبو عبد الله ... " (ص 271). والحكاية التي نقلها واردة في المسألة السابعة. وكذلك لما نقل ردّ ابن القيم على ما زعمه ابن حزم من عدم ردّ الأرواح في القبور إلى الأجساد قبل يوم القيامة قال: "فهذا العلامة ابن القيم رحمه الله قد كفانا مؤنة الرد بلا تكلف" (ص 278). وهذا الردّ في المسألة السادسة. 4) أن نُسَخه الخطية المنتشرة في خزائن الشرق والغرب ويبلغ عددها نحو أربعين نسخة كلها مجمعة على نسبته إلى ابن القيم. وأقدمها نسخة الظاهرية المكتوبة سنة 774 بعد وفاة ابن القيم بثلاث وعشرين سنة، وهي الأصل الذي اعتمدنا عليه في نشرتنا هذه.

(المقدمة/13)


5) ذكره الحافظ ابن حجر (ت 852) في ترجمة ابن القيم في كتابه الدرر الكامنة (3/ 402) (1). وكذلك نسبه إليه فيما نقله منه في فتح الباري: (3/ 239)، (6/ 444، 445)، (8/ 403). ولفظه فيها جميعًا: "ابن القيم في كتاب الروح". 6) أن إبراهيم بن عمر البقاعي (ت 885)، وهو من كبار أصحاب الحافظ ابن حجر، قد اختصر كتاب الروح وأعاد ترتيبه وسماه "سر الروح". وقال في مقدمته: "فإني كاتب إن شاء الله تعالى في هذه الأوراق المقصود بالحقيقة من كتاب الروح للإمام العلامة شمس الدين محمد بن قيم الجوزية الدمشقي الحنبلي سقى الله ثراه ورحم منقلبه ومثواه ... " (ص 2). 7) ذكره جلال الدين السيوطي (ت 911) في ترجمة ابن القيم في بغية الوعاة (1/ 63) ونسبه إليه في كتبه الأخرى، منها كتابه "شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور" الذي قال في خاتمته: "خاتمة في فوائد تتعلق بالروح لخصت أكثرها من كتاب الروح لابن القيم" (ص 414). وقد نقل نصوصًا كثيرة منه في أثناء الكتاب أيضًا فقال في موضع: "وذكر ابن القيم في كتاب الروح" (ص 245). وقال في كتاب الحبائك في أخبار الملائك: "وقال العلامة شمس الدين ابن القيم في كتاب الروح" (ص 263). ونحوه في كتاب الحاوي للفتاوي له (1/ 212)، وفيه أيضًا: " ... قولان للحنابلة حكاهما ابن القيم في كتاب الروح" (2/ 165). وهذه النصوص والأقوال كلها واردة في كتاب الروح الذي بين أيدينا. _________ (1) وكذلك ذكره في ترجمته السيوطي (ت 911) في بغية الوعاة (1/ 63) كما سيأتي، وابن العماد الحنبلي (ت 1089) في شذرات الذهب (8/ 290) والشوكاني (ت 1250) في البدر الطالع (2/ 143).

(المقدمة/14)


8) ذكر شمس الدين ابن طولون (ت 953) في كتابه الفلك المشحون (ص 42) كتابًا له بعنوان "الفتوح في حقيقة الروح"، وقال: "لخصته من كتاب الروح لابن القيم مع تتمات". 9) قد تعقب محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني (ت 1182) في كتابه جمع الشتيت في شرح أبيات التثبيت (ص 80) كلام ابن القيم في تلقين الميت بعد دفنه، وكذلك أشار في تأنيس الغريب (ص 175) إلى أن أدلة القائلين بخلق الأرواح قبل الأجساد واضحة، وأن ابن القيم "تكلف لردّها فما نهض ما قاله". ولكن لم يشك في نسبة كتاب الروح إليه، بل أكثر من النقل منه مع عزوه إليه، ومن ذلك قوله: "واعلم أنه قد بسط الجواب وزاد عليه ابن القيم رحمه الله في كتابه الروح، ولا غناء عن استيفاء ما ذكره، فإن المسألة مهمة والإيمان بها متعين" (ص 49)، ثم نقل نصًّا طويلًا من المسألة السابعة في الرد على منكري عذاب القبر. ومنه قوله: "قال ابن القيم في كتاب الروح" (ص 81). والجدير بالذكر أن الأمير كتب نسخة من كتاب الروح بخطه، وهي محفوظة في مكتبة ندوة العلماء بالهند. وقال في سبل السلام: "وذهب ابن القيم إلى عموم المسألة، وبسط المسألة في كتاب الروح" (2/ 113) يعني مسألة اختصاص هذه الأمة بالسؤال في القبر دون الأمم السالفة. وينظر أيضًا (2/ 114). 10) أن شمس الدين محمد بن أحمد السفَّاريني الحنبلي (1114 - 1188) ــ وهو معروف بكثرة النقل من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ــ نقل نصوصًا كثيرة من كتاب الروح في كتابيه: البحور الزاخرة في أحوال الآخرة، ولوامع الأنوار البهية، فقال في البحور عندما ذكر القول

(المقدمة/15)


المختار عند ابن القيم في حقيقة الروح: "اختار هذا القول الإمام المحقق ابن القيم في كتابه الروح من أقوال عديدة". ثم أثنى على الكتاب فقال: "وكتابه هذا من أجلّ ما رأينا في هذا الفن بل هو أجلها وأعظمها ... " (1/ 100). وكذا في كتاب لوامع الأنوار صدَّر نقوله من كتاب الروح في مواضع بقوله: "قال الإمام المحقق ابن القيم في كتاب الروح". انظر مثلًا: 2/ 8 - 10، 12، 18، 20، 21، 23، 32، 38، 52، 60، 157. 11) الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بُطين (1194 - 1282) مفتي الديار النجدية في عهده وأحد علماء الدعوة في عهد الدولة السعودية الثاني. وكانت له عناية بكتب ابن القيم، فقد اختصر إغاثة اللهفان وبدائع الفوائد (1). وبين يدي نسخة من كتاب الروح كانت في حوزة الشيخ أبا بطين، وفي حاشيتها تعليقات بخطه. ومنها تعقيب على استدلال ابن القيم بعمل الناس على تلقين الميت بعد دفنه (ق 8/أ)، ولكن لم يبد شكًّا في نسبة الكتاب. 12) الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (1225 - 1293) من كبار أئمة الدعوة (2)، وله رد على رجل عراقي يدعى داود بن سليمان بن جرجيس طبع بعنوان: "تحفة الطالب والجليس في كشف شبه داود بن جرجيس" جاء فيه: "ومن العجب أن هذا العراقي زعم أن ابن القيم قال في كتاب الروح ... " (ص 66). ثم قال: "وكتاب الروح موجود ومسموع من المشايخ الثقات العارفين بنصوصه وأقواله وأصوله وفروعه". _________ (1) انظر ترجمته في آخر الدرر السنية (16/ 2/427)، والسحب الوابلة (ص 626). (2) ترجمته في آخر الدرر السنية (16/ 2/413)، ومشاهير علماء نجد (ص 69).

(المقدمة/16)


13) وكتاب "الآيات البينات" الذي أخرجه الشيخ الألباني رحمه الله وشكك في نسبة الكتاب إلى ابن القيم في مقدمته، لم يشك صاحبه أبو الخير نعمان بن محمود الآلوسي (ت 1317) في نسبة كتاب الروح إلى ابن القيم، فلما نقل نصًّا منه قال: "قال الحافظ ابن القيم في كتاب الروح" (ص 137) وفي موضع آخر: "وقد ردّه العلامة ابن القيم في كتاب الروح" (ص 121). وكذلك في كتابه الشهير جلاء العينين في محاكمة الأحمدين نقل نصًّا من كتاب الروح في مستقر الأرواح فقال: "وقال العلامة ابن القيم من كلام طويل في كتاب الروح ما نصه" (ص 468). وفي موضع آخر: "وفي كتاب الروح للحافظ ابن القيم بعد أن أيد وصول ثواب قراءة القرآن للأموات بأدلة كثيرة قال ما نصه" (ص 645). وقبله والده شهاب الدين محمود بن عبد الله الآلوسي (1217 - 1270) لما ذكر في روح المعاني مذهب القائلين بجوهرية الروح وأنها ليست داخلة البدن ولا خارجة عنه قال: "ورد هذا المذهب ابن القيم في كتاب الروح بما لا مزيد عليه" (12/ 56)، ونحوه في (15/ 163، 309). وفي موضع آخر ذكر أن المعول عليه عند المحققين قولان: الأول أن الإنسان عبارة عن جسم نوراني علوي حي متحرك ... إلخ. ثم قال: "وقال ابن القيم في كتابه الروح: إنه الصواب ولا يصح غيره، وعليه دلّ الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة، وذكر له مائة دليل وخمسة أدلة فليراجع" (8/ 148). ثم ذكر القول الثاني إنه ليس بجسم ولا جسماني وهو الروح وليس بداخل العالم ولا خارجه إلخ، ثم قال: "وللشيخ الرئيس رسالة مفردة في ذلك ... وابن القيم زيف حججه في كتابه. وهو كتاب مفيد جدًّا يهب للروح روحًا ويورث للصدر شرحًا".

(المقدمة/17)


ونكتفي بهذا من الدلائل الخارجية على إثبات نسبة كتاب الروح إلى ابن القيم، وسيأتي المزيد في فصل "الصادرين عنه". أما القسم الثاني من الدلائل، وهي التي سميناها دلائل داخلية فهي مبثوثة في الكتاب، وإليكم أبرزها: 1) ذكر ابن القيم في كتاب الروح هذا كتابًا آخر له في موضوع الروح نفسه فقال في المسألة الخامسة: "وعلى هذا ــ يعني كون الروح ذاتًا قائمة بنفسها تصعد وتنزل وتتصل وتنفصل ... ــ أكثر من مائة دليل قد ذكرناها في كتابنا الكبير معرفة الروح والنفس" (ص 123). وقد ذكر هذا الكتاب الذي وصفه هنا بالكبير في كتابه مفتاح دار السعادة (3/ 105) وفي جلاء الأفهام مرتين (ص 298، 371) وسماه كتاب الروح والنفس. 2) ذكر ابن القيم في عشرة مواضع من كتاب الروح شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وفي الكتاب مواضع أخرى نقل فيها كلام شيخه دون الإشارة إليه. وسيأتي تفصيلها في بحث موارد الكتاب. 3) أورد في المسألة الرابعة حديثين وقال: إن أحدهما دخل في الآخر وركب الراوي بين اللفظين، ثم قال: "وكان شيخنا أبو الحجاج يقول ذلك". يعني الحافظ أبا الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي (ت 742) صاحب تهذيب الكمال وهو من شيوخ ابن القيم. وكثيرًا ما ينقل عنه ولا سيما في الحديث والرجال (1). _________ (1) ابن قيم الجوزية للشيخ بكر أبو زيد (ص 177).

(المقدمة/18)


4) في الكتاب مباحث ومسائل ولطائف وفوائد كثيرة تكلم عليها ابن القيم في كتبه الأخرى، فكان كلامه عليها هنا وهناك واحدًا في رأيه واستدلاله وأسلوب تناوله. ومن ذلك: 1 - تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية [الأعراف: 172] في المسألة الثامنة عشرة، فقد ذهب رحمه الله في تفسيرها ــ خلافًا لمذهب "أهل الحديث وكبراء أهل العلم" كما يقول ابن الأنباري ــ إلى أن المراد ما فطرهم سبحانه عليه من الإقرار بربوبيته، وأنه ربهم وفاطرهم، وأنهم مخلوقون ومربوبون، ثم أرسل إليهم رسله يذكِّرونهم بما في فطرهم وعقولهم، وقال: نظم الآية إنما يدل على هذا من وجوه متعددة، ثم ذكر عشرة وجوه. وبهذا فسرها ابن القيم في كتاب السماع (384 - 385)، واستدل بسبعة وجوه من الوجوه العشرة المذكورة في كتاب الروح. 2 - المسألة الحادية والعشرون في كتاب الروح عن النفس أواحدة هي أم ثلاث؟ ذكر فيها أن كثيرًا من الناس وقع في كلامهم أن لابن آدم ثلاث أنفس: مطمئنة ولوامة وأمارة، ثم قال: والتحقيق أنها نفس واحدة ولكن لها صفات، فتسمى باعتبار كل صفة باسم. ثم تكلم على الصفات الثلاث وأفاض في الكلام. وفي كتابه إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان عقد الباب الحادي عشر على علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه. ومهد له بالكلام على النفس أواحدة هي أم ثلاث، ثم وصف الثلاث وصفًا مختصرًا بذكر الخلاف واشتقاق اللوامة من اللوم أو التلوم. وهذا كله موافق لما في كتاب الروح، والفرق بينهما في التفصيل والاختصار أو بعض الزيادة.

(المقدمة/19)


3 - المسألة الأولى في كتاب الروح: هل تعرف الأموات بزيارة الأحياء وسلامهم عليهم أو لا؟ وقد أجاب عنها المؤلف بالإثبات. فهو يرى أن الميت يعرف زيارة الحي ويستبشر به، ويسمع سلامه عليه. ومما استدلّ به على ذلك أن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلِّم محال. وقد ساق في كتابه زاد المعاد الحديث الطويل المروي عن لقيط بن عامر واستخرج منه فوائد كثيرة منها: "وقوله: (حيثما مررت بقبر كافر فقل: أرسلني إليك محمد). هذا إرسال تقريع وتوبيخ، لا تبليغ أمر ونهي. وفيه دليل سماع أصحاب أهل القبور كلام الأحياء وخطابهم لهم" (3/ 685). 4 - وفي هذه المسألة قد استشهد المؤلف ببعض الحكايات والأقوال التي نقلها من كتاب القبور لابن أبي الدنيا، باب معرفة الموتى بزيارة الأحياء. منها حكاية عاصم الجحدري، وقول محمد بن واسع، وقول الضحاك، وحكاية عن مطرف بن عبد الله، وكلها تتعلق بيوم الجمعة. وفي زاد المعاد لما عدد خصائص يوم الجمعة قال: "الحادية والثلاثون: أن الموتى تدنو أرواحهم من قبورهم وتوافيها في يوم الجمعة، فيعرفون زوارهم ومن يمرّ بهم ويسلِّم عليهم ويتلقاهم في ذلك اليوم أكثر من معرفتهم بهم في غيره من الأيام، فهو يوم يلتقي فيه الأحياء والأموات". ثم استشهد على ذلك بقصة مطرف، وقصة عاصم، وقول محمد بن واسع، وقول الضحاك. (1/ 415 - 416). 5 - في الفرق بين الصبر والقسوة، ذكر أن "القلوب ثلاثة: قلب قاس

(المقدمة/20)


غليظ بمنزلة اليد اليابسة، وقلب مائع رقيق جدًّا .. وأصح القلوب: القلب الرقيق الصافي الصلب". وترى هذه الأقسام الثلاثة ووصفها بنحو ما قال هنا في الوابل الصيب (120 - 122) وشفاء العليل (105 - 192). 6 - قوله تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 ــ 30] رجح فيه ابن القيم أن ذلك يقال للنفس المطمئنة عند الموت ويوم القيامة أيضًا. فجمع بين القولين، فلا منافاة بينهما. كذا قال في كتاب الروح في المسألة الحادية والعشرين وفي مدارج السالكين (2/ 171 - 179). 7 - المسألة الثامنة عشرة في تقدم خلق الأرواح على الأجساد أو تأخر خلقها عنها، وقد رد ابن القيم على القائلين بأن الأرواح خلقت قبل الأجساد. وقد خطَّأ قولهم هذا في روضة المحبين (120) أيضًا. 8 - المسألة السابعة في الرد على الملاحدة والزنادقة المنكرين لعذاب القبر وسعته وضيقه وكونه حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة. وقد مهد ابن القيم بثلاثة أمور أولها: "أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يخبروا بما تحيله العقول وتقطع باستحالته، بل أخبارهم قسمان: أحدهما ما تشهد به العقول والفطر، الثاني: ما لا تدركه العقول بمجردها ... ". و"الأمر الثاني أن يفهم عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مراده من غير غلو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله ولا يقصر به عن مراده وما قصده من الهدى والبيان". ثم قال: "وقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله، بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل

(المقدمة/21)


بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع، ولاسيَّما إن أضيف إليه سوء القصد. فيتفق سوءُ الفهم في بعض الأشياء من المتبوع مع حسن قصده، وسوءُ القصد من التابع، فيا محنة الدين وأهله! ". وقد عقد المؤلف الفصل الحادي والعشرين من كتابه "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" في بيان الأسباب الجالبة للتأويل. وذكر أربعة أسباب: اثنين من المتكلم واثنين من السامع، وهما سوء الفهم وسوء القصد. وقال: "فلما حدث بعد انقضاء عصرهم ــ يعني الصحابة ــ من ساء فهمه وساء قصده وقعوا في أنواع من التأويل بحسب سوء الفهم وفساد القصد ... وإذا تأملت أصول المذاهب الفاسدة رأيت أربابها قد اشتقوها من بين هذين الأصلين ... " (500 - 510). وذكر في "شفاء العليل" من آثار القسوة تحريف الكلم عن مواضعه ثم قال: "وذلك من سوء الفهم وسوء القصد" (ص 106). وفي زاد المعاد ذكر من فقه قصة قدوم وفد نجران "أن الكلام عند الإطلاق يحمل على ظاهره حتى يقوم دليل على خلافه ... " وأشار إلى إيراد النصارى على قوله تعالى: {يَاأُخْتَ هَارُونَ} [مريم: 28]. قال: " ... فإيراده إيراد فاسد وهو إما من سوء الفهم أو سوء القصد". (3/ 644). 5) من منهج ابن القيم في البحث أنه في المسائل الخلافية يستقصي الأقوال وحجج القائلين بها، ثم يناقشها قولًا قولًا بعرضها على الكتاب والسنة دون تعصب لهذا أو ذاك، وقد يقيم مناظرة بين الخصوم، فهذا يحتج على ذاك، ثم ذاك يرد على هذا، وهكذا حتى يظهر الصواب. ومن أمثلة ذلك

(المقدمة/22)


في كتاب الروح: مسألة مستقر الأرواح، ومسألة حقيقة النفس، ومسألة انتفاع أرواح الموتى بشيء من سعي الأحياء. فلما حشد أقوال الناس في مصير الأرواح بعد الموت في المسألة الخامسة عشرة قال: "فهذا ما تلخص لي من جميع أقوال الناس في مصير أرواحهم بعد الموت، ولا تظفر به مجموعًا في كتاب واحد غير هذا البتة. ونحن نذكر مآخذ هذه الأقوال، وما لكل قول وما عليه، وما هو الصواب من ذلك الذي دل عليه الكتاب والسنة، على طريقتنا التي منّ الله بها". وهذه الطريقة يعرفها كل من اطلع على كتب ابن القيم. 6) قول ابن القيم في النص السابق: "ولا تظفر به مجموعًا في كتاب واحد غير هذا البتة" من العبارات المألوفة في كتب ابن القيم. وكثيرًا ما ينبِّه قارئه على قيمة المادة التي تجشم جمعها من المصادر المختلفة في مكان واحد. وهذا من سمات منهجه في التأليف. ومن أمثلة ذلك: قوله في حادي الأرواح: "فهذا نهاية إقدام الفريقين في هذه المسألة، ولعلك لا تظفر به في غير هذا الكتاب" (ص 791). وقال فيه أيضًا: "فتأمل هذه الأبواب وما تضمنته من النقول والمباحث والنكت والفوائد التي لا تظفر بها في غير هذا الكتاب البتة ... " (100). وقال في إعلام الموقعين: "قد أتينا على ذكر فصول نافعة وأصول جامعة في تقرير القياس والاحتجاج به، لعلك لا تظفر بها في غير هذا الكتاب ولا بقريب منها" (1/ 227). وانظره أيضًا (4/ 81، 222)، وطريق الهجرتين (ص 798) وعدة الصابرين (ص 11) ومدارج السالكين (1/ 227، 400)، ومفتاح دار السعادة (1/ 276)، وبدائع الفوائد (ص 1603).

(المقدمة/23)


7) في آخر كتاب الروح باب طويل في الفروق، ولكن الفروق الثمانية التي ختم بها الكتاب هي خلاصة القواعد التي قامت عليها دعوة شيخ الإسلام وأصحابه في إصلاح الأمة والرجوع بها إلى الكتاب والسنة في العقيدة والعبادات والمعاملات والسلوك جميعًا. فالفروق الثلاثة: "الفرق بين توحيد المرسلين وتوحيد المعطلين، والفرق بين تنزيه الرسل وتنزيه المعطلة، والفرق بين إثبات حقائق الأسماء والصفات وبين التشبيه والتمثيل" تدور حول التوحيد. و"الفرق بين تجريد متابعة المعصوم وبين إهدار أقوال العلماء وإلغائها، والفرق بين الحكم المنزل الواجب الاتباع والحكم المؤول الذي نهايته أن يكون جائز الاتباع عند الضرورة ولا درك على مخالفه" حول تقليد الأئمة الفقهاء المجتهدين. و"الفرق بين تجريد التوحيد وبين هضم أرباب المراتب، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، والفرق بين الحال الإيماني والحال الشيطاني" حول التصوف. ومعظم مؤلفات ابن القيم دائرة على هذه المحاور، فلا يخفى على من له شيء من الأنسة بكتبه أن كتاب الروح أيضًا قد خرج من المعدن نفسه. 8) ابن القيم رحمه الله معروف بطول النفس وإشباع الكلام والاستطراد، وبعض المباحث التي يستطرد إليها يكون أهم من الموضوع الأصلي الذي عقد الكلام عليه، وكثيرًا ما ينبه في آخر هذه الفصول والمباحث الطويلة على أن أهميتها وشدة الحاجة إليها هي التي اقتضت الإطالة فيها. فقال في كتاب الروح بعدما أورد فصولًا كثيرة في الفروق: "ولا تستطل هذا الفصل فلعله من أنفع فصول الكتاب والحاجة إليه شديدة ... ".

(المقدمة/24)


ومن أمثلة هذا التنبيه في الكتب الأخرى: قوله في الداء والدواء: "ولا تستطل هذا الفصل فإن الحاجة إليه شديدة لكل أحد" (ص 50). وقال في عدة الصابرين: "ولا تستطل هذا الفصل المعترض في أثناء هذه المسألة، فلعله أهم منها وانفع" (ص 359). وقال في بدائع الفوائد: "ولا تستطل هذا الفصل فإنه أهم مما قصد بالكلام" (1/ 128)، وانظره أيضًا (1/ 268). وقال في مفتاح دار السعادة: "ولا تستطل هذا الفصل وما فيه من نوع تكرار يشتمل على مزيد فائدة، فإن الحاجة إليه ماسة والمنفعة عظيمة" (2/ 200). أكتفي بهذه الشواهد وهي كثيرة، وأقول أنا أيضًا لقارئ هذه المقدمة: لا تستطل هذا الفصل، فإني كنت أظن أن أمر نسبة هذا الكتاب إلى ابن القيم قد أصبح مفروغًا منه بعد التحقيق الذي دوَّنه الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في كتابه "ابن قيم الجوزية" كما سبق، ولكن رأيت طائفة من طلبة العلم لا يزالون يتساءلون عن صحة نسبته إلى ابن القيم، فكأن الشبهة لا تزال عالقة بالأذهان، مع أن كتاب الشيخ بكر قد صدر قبل أكثر من ثلاثين سنة، ثم أعيد طبعه أكثر من مرة، ثم صدرت نشرة الدكتور بسام العموش وأكدت نسبة الكتاب. ومن ثم أطلت في هذا المبحث بعض الإطالة، وسيأتي في الفصول القادمة ما يؤيد ذلك ويعزِّزه.

(المقدمة/25)


عنوان الكتاب لم ينص ابن القيم في كتاب الروح على عنوانه، ولكنه أحال عليه بهذا الاسم في كتابه جلاء الأفهام (ص 557) كما سبق. وبه سماه المترجمون له كالحافظ ابن حجر والسيوطي وابن العماد وغيرهم. والناقلون منه ــ ومنهم تلميذه الحافظ ابن رجب، وشمس الدين المنبجي ــ وهم كُثْر، ذكروه بهذا الاسم أيضًا. وهذا العنوان هو الوارد في مخطوطاته الكثيرة التي يبلغ عددها زهاء أربعين نسخة ما عدا مخطوطتين: إحداهما محفوظة في المكتب الهندي في لندن برقم (B 87) وصورتها في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، وقد ورد عنوان الكتاب في أولها: "روح الأرواح" مع هذه الزيادة: "تحقيق أحوال ما بعد الموت والآخرة والبرزخ". وهو غلط منشؤه فيما يبدو الخلط بين ابن الجوزي وابن قيم الجوزية، فإن "روح الأرواح" كتاب لابن الجوزي في الوعظ، وهو مطبوع. ومن قبل ما خلط الوراقون بينهما فنسبوا بعض كتب ابن الجوزي إلى ابن قيم الجوزية (1). أما المخطوطة الأخرى فهي نسخة الظاهرية التي هي أقدم نسخ الكتاب فيما نعلم، وقد اعتمدنا عليها في إعداد هذه النشرة. وقد ثبت فيها اسم الكتاب في صفحة العنوان هكذا:"كتاب الروح والنفس". وكتبت كلمة "النفس" بخط مائل. _________ (1) انظر: ابن قيم الجوزية للشيخ بكر أبو زيد (26 - 27)، (202 - 208).

(المقدمة/26)


وليس العنوان فيما أرى بخط ناسخ المخطوطة، ولا شك أن الذي كتبه لم يقرأ الكتاب كاملًا؛ فإن ابن القيم نفسه أحال فيها على كتاب آخر له كبير "في معرفة الروح والنفس"، فهذا الكتاب غيره لا محالة. ومن ثم علَّق بعض من قرأ هذه النسخة تحت العنوان المذكور بخط مائل أيضا: "قلت: الصواب ترك (والنفس)، فإن لمؤلف هذا الكتاب كتاب كبير (كذا) في معرفة الروح والنفس، أشار إليه في جواب المسألة الخامسة من هذا الكتاب. والله أعلم". وهذا قاطع ــ كما ترى ــ في أن العنوان المكتوب في أول هذه النسخة خطأ صرف. ولعل كاتبه اجتهد في تسمية هذا الكتاب من عنده، إذ وجد النسخة غفلًا من العنوان، ورأى المؤلف قد خصص المسائل الثلاث الأخيرة لحقيقة النفس وما إليها، والمسألة الأولى منها مطولة جدًّا، فبدا له أن عنوان "الروح والنفس" أنسب لهذا الكتاب من عنوان "الروح"، وهو لا يعلم أصلًا أن للمؤلف كتابًا آخر كبيرًا بعنوان "الروح والنفس". وهنا وقفتان: الوقفة الأولى: أورد خير الدين الآلوسي (ت 1317) في كتابه جلاء العينين في محاكمة الأحمدين خمسة بحوث موجزة في الروح. الثاني منها في حقيقة الإنسان وقال: "إن المعول عليه عند المحققين قولان: الأول أنه عبارة عن جسم نوراني علوي ... وقال المحقق ابن القيم في كتاب الروح إنه الصواب، وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة" إلخ (ص 168). وهذا كله منقول من روح المعاني لوالده. ولكن بعد أسطر لما ختم البحث قال: "ومن أراد الإحاطة بالأدلة والتفصيل فليرجع إلى كتب الإمام الرازي ... وإلى كتاب الروح والنفس لابن القيم وروح المعاني وغيرها (ص 169).

(المقدمة/27)


ثم بعد صفحتين فقط تطرق إلى البحث الرابع في مستقر الأرواح، ونقل الأقوال المختلفة فيه من كتابنا هذا، ثم قال: "وإن أردت تفصيل أدلة هذه الأقوال فعليك بكتاب الروح لابن القيم عليه الرحمة" (ص 171) ثم نقل نصًّا منه. فهل كان خير الدين رحمه الله يملك نسخة من كتاب الروح وأخرى من كتاب الروح والنفس، فكان يحيل مرة على هذه، وأخرى على تلك، إحالة مقصودة؟ لا أرى ذلك، وإنما هو من التسامح في تسمية الكتاب الذي بين أيدينا، وهو مصدر النقل، وهو المقصود بالإحالة في المواضع المذكورة. الوقفة الثانية: ذكر الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في أثناء كلامه على كتاب الروح والنفس لابن القيم: "وذكره السفاريني في شرح الثلاثيات (1/ 584، 734) " (1). قلت: يعني قول السفاريني في الموضعين: "وقال الإمام ابن القيم في كتابه (الروح الكبرى) ". وقد وصف ابن القيم كتاب الروح والنفس بأنه "كبير" فلما سمّاه السفاريني بالروح الكبرى دل ذلك على أنه قصد كتاب (الروح والنفس) ولتمييزه عن كتاب (الروح) وصفه بالكبر. وأضيف هنا أن السفاريني في موضعين من كتابه غذاء الألباب أيضًا سماه بالروح الكبرى (1/ 360)، (2/ 173). وقد تأملت المواضع الأربعة فلاحظت الأمور الآتية: 1) نقل في الموضع الأول (1/ 584) نصًّا قصيرًا من المسألة _________ (1) ابن قيم الجوزية (ص 259).

(المقدمة/28)


الملحقة بالمسألة السادسة، وهي: هل عذاب القبر على النفس أو البدن أو كليهما؟ ثم قال في الصفحة التالية (1/ 585): "قال ابن القيم في (الروح) ". ونقل نصًّا طويلًا من المسألة نفسها، فهل يعقل ــ إذا فرضنا أن السفاريني كان يملك نسخة من "الروح الصغرى" وأخرى من "الروح الكبرى" ــ أن ينقل أولًا نصًّا قصيرًا من (الكبرى) ثم ينقل بعده نصًّا آخر طويلًا من (الصغرى)؟ والنصّان من مسألة واحدة قد وردت في الصغرى، فما الذي ألجأه إلى التفريق بينهما في الإحالة؟ 2) في الموضع الثاني بعد شرح الحديث الخامس والسبعين في الاستعاذة من عذاب القبر نبه السفاريني على أمرين: الأول أسباب عذاب القبر، ونقل المسألة التاسعة كاملًا إلا يسيرًا (1/ 734 - 737). ثم نقل تحت "التنبيه الثاني" نحو نصف المسألة العاشرة في المنجيات من عذاب القبر. ثم قال: "وقال ابن القيم في محل آخر من الروح" ونقل نصًّا من المسألة الرابعة عشرة في دوام عذاب القبر أو انقطاعه. فقوله في هذا النقل المتصل بالنقل السابق: "محل آخر من الروح" صريح في أن النقول الثلاثة كلها من كتاب واحد سماه في أولها "الروح الكبرى" وفي الثالث "الروح". 3) ويلاحظ أنه في الموضعين المذكورين سماه عند بداية النقل الأول بالروح الكبرى، ثم سماه بالروح. 4) أما في غذاء الألباب فنقل في الموضع الأول (1/ 360) نصًّا من فصل الفرق بين الرجاء والتمني، وفي الموضع الثاني (2/ 173) من فصل الفرق بين المهابة والكبر، ثم الفرق بين الصيانة والكبر. والفروق الثلاثة كلها من جملة الفروق الواردة في آخر كتاب الروح.

(المقدمة/29)


فالذي يظهر لي ــ والله أعلم ــ أن النصوص المذكورة مثل نصوص أخرى كثيرة نقلها السفاريني جميعًا من كتاب الروح هذا، وإنما سماه بالروح الكبرى في المواضع الأربعة تعظيمًا لها وتنويها بأهميته. أما كتاب الروح والنفس الذي ذكره ابن القيم في جلاء الأفهام ومفتاح دار السعادة، ووصفه في كتاب الروح بأنه كبير، فلم نقف له على ذكر أو نقل منه في المصادر.

(المقدمة/30)


زمن تأليف الكتاب سبق في الفصل الأول أن الشيخ الألباني رحمه الله ذكر احتمالًا، إن صحت نسبة الكتاب إلى ابن القيم، وهو أن يكون قد ألَّفه في بداية الطلب، يعني قبل اتصاله بشيخ الإسلام ابن تيمية وتأثره بفكره ومنهجه. وقد ردَّ الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله هذا الاحتمال بأن ابن القيم ذكر فيه شيخ الإسلام في نحو عشرة مواضع مستشهدًا بأقواله وذاكرًا لاختياراته على عادته المألوفة في عامة مؤلفاته (1). وفي أول موضع منها قال: "وقد حدثني غير واحد ممن كان غير مائل إلى شيخ الإسلام ابن تيمية أنه رآه بعد موته وسأله عن شيء كان يشكل عليه من مسائل الفرائض وغيرها فأجابه بالصواب" (ص 96). وهذا قاطع بأن كتاب الروح أُلِّف بعد وفاة شيخ الإسلام سنة 728. ويؤيد هذا أن ابن القيم نقل في المسألة السابعة من الكتاب حكاية فقال: "وحدثني صاحبنا أبو عبد الله محمد بن منتاب السلامي، وكان من خيار عباد الله، وكان يتحرى الصدق ... " (ص 200). وقد توفي ابن منتاب أيضًا سنة 728 (2). وقد نقل ابن القيم في المسألة التاسعة عشرة حكاية حدثه إياها القاضي نور الدين بن الصائغ. وقد ورد بعد اسمه في النسختين (ب، ط): "رحمه _________ (1) ابن قيم الجوزية (ص 256). (2) انظر ترجمته في أعيان العصر (4/ 437) والدرر الكامنة (3/ 437).

(المقدمة/31)


الله". فإن صح هذا كان تأليف كتاب الروح بعد وفاة القاضي في الطاعون سنة 749. ولكن لا سبيل إلى تصويب ما ورد في النسختين المذكورتين. بل ثمة قرينة أخرى تشير إلى أن الكتاب ألف قبل سنة 740. وذلك أن كتاب ابن القيم في السماع أُلِّف جوابًا عن استفتاء كان سنة 740 كما ورد النص على ذلك في الكتاب (ص 87). وذكر فيه المؤلف من كتبه زاد المعاد (ص 202). ومن الكتب المذكورة في الزاد: جلاء الأفهام (1/ 87، 93). وفي جلاء الأفهام أحال المصنف على كتاب الروح وقال: "وقد استوفيت الكلام على هذا الحديث وأمثاله في كتاب الروح" (ص 557). فيمكن القول بأن كتاب الروح أُلِّف قبل جلاء الأفهام، وزاد المعاد، وكتاب السماع، ما بين عامي (728) و (740).

(المقدمة/32)


سبب التأليف وبناء الكتاب كتاب الروح من الكتب التي ألفها ابن القيم إجابة عن سؤال أو أسئلة عُرضت عليه. مثله مثل الداء والدواء، والطرق الحكمية، وكتاب الصلاة، وكتاب السماع، والمنار المنيف وغيرها. يدل على ذلك قوله في آخر المسألة الأولى: "والمقصود: جواب السائل ... "، وقوله: "وأما المسألة السابعة: وهي قول السائل ... "، ونحوه في الثامنة والتاسعة. وقوله: "وأما المسألة العاشرة، وهي قوله ... ". ونحوه في الرابعة عشرة. وكذا قوله في آخرها: "وسيأتي إن شاء الله تمام لهذه في جواب السؤال عن انتفاع الأموات بما تهديه إليهم الأحياء" يعني المسألة السادسة عشرة. مثل هذه الكتب التي بنيت على الاستفتاء، منها ما خلا من خطبة الكتاب وافتتح المؤلف فيه جوابه بعد "الحمد لله" مباشرة نحو الداء والدواء. وردت في أوله صورة الاستفتاء ثم "فأجاب الشيخ الإمام ... رضي الله عنه: الحمد لله. ثبت في صحيح البخاري ... ". ومثله في كتاب السماع. ومنها ما استهله بخطبة قصيرة نحو كتاب الصلاة. أما كتاب الروح فلا صورة فيه للاستفتاء ولا خطبة، وإنما بدأ الجواب بقوله: "أما المسألة الأولى" كما صرح بذلك أحد النساخ. ولا شك أن المؤلف قد افتتح جوابه بالحمدلة أو نحوها كما في الداء والدواء، وكان على تلامذته أو غيرهم ممن عني بنسخ كتابه أن يتبعوا في ذلك أصل المؤلف، وليس فيه ما يبعث على الاستغراب، ولكن جماعة منهم لم يعجبهم خلوُّ مثل هذا الكتاب الجليل من الخطبة، فتكلفوا وتطوعوا بإنشاء مقدمات له من عندهم. وقد حملت إلينا النسخ التي بين أيدينا ثلاثة نماذج

(المقدمة/33)


منها، وسنثبتها عند وصف النسخ المعتمدة في التحقيق. أما المسائل التي اشتمل عليها كتاب الروح فهي: إحدى وعشرون مسألة. وذلك حسب ترقيمها في جميع النسخ الخطية التي بين أيدينا إلا نسخة واحدة (ن)، وكذا في النسخ المطبوعة. وذلك راجع إلى ترقيمها في أصل المؤلف. وقد نص على هذا العدد في مقدمة عدد من النسخ، ومنها نسخة الظاهرية ــ وهي أقدم النسخ ــ فجاء فيها: "أما بعد، فهذا كتاب مشتمل على إحدى وعشرين مسألة في الأرواح وما يتعلق بها ... ". وأكد برهان الدين البقاعي (ت 885) ذلك في مقدمة سر الروح فقال: "وهو إحدى وعشرون مسألة". أما النسخة (ن) فعدد المسائل حسب ترقيمها اثنتان وعشرون مسألة. وذلك أن المؤلف بعد المسألة السادسة، وهي أن الروح هل تعاد إلى الميت في قبره وقت السؤال أو لا؟ قال: "وهذا يتضح بجواب المسألة، وهي قول السائل: هل عذاب القبر على النفس أو على البدن ... ؟ ". يظهر أن هذه المسألة ــ وهي من جملة المسائل المعروضة عليه كما تفيد عبارة "قول السائل"، وهي مسألة طويلة ــ قد ألحقها المؤلف فيما بعد، وتركها غفلًا دون ترقيم، لأن ذلك يقتضي تغيير الترقيم لأربع عشرة مسألة من الثامنة إلى الحادية والعشرين، إن كان أضافها بعد الفراغ من المسألة الأخيرة. وهذه الإضافة كانت سببًا لاضطراب في النُّسَخ، فناسخ (ق) رقَّم المسألة الملحقة بالسابعة، والسابعة بالثامنة، وأبقى التاسعة على حالها، فتكررت فيها التاسعة.

(المقدمة/34)


أما النسخة (ن) وكانت هي ــ أو أصلها ــ جريئة في إصلاح المتن، فرقمت المسألة الملحقة بالسابعة، ثم أصلحت الترقيم في سائر المسائل، فبلغ عددها 22 مسألة. هل هذه المسائل الاثنتان والعشرون التي أجاب عنها المؤلف كلها كانت معروضة عليه، أو أضاف هو بعض المسائل إتمامًا للكلام على مسألة أو نظرًا إلى أهميتها؟ يلوح هذا التساؤل في مقدمة النسخة (ط) التي قال كاتبها ضمن ثنائه على الكتاب: "يشتمل على جملة من المسائل تتضمن الكلام على أرواح الأموات والأحياء بالدلائل من الكتاب والسنة والآثار وأقوال العلماء الأخيار، لا أدري أسئل مصنفه ــ قدس الله روحه ــ عنها فأجاب أم سئل عن البعض ولكن هو أطال الخطاب، فإني رأيته مجردًا عن خطبة وسؤال أصلًا، مبتدأ فيه بقوله: (أما المسألة الأولى هل يعرف الأموات بزيارة الأحياء أم لا؟) ". ومما يثير السؤال أننا نقرأ في المسألة الخامسة قول المؤلف: "ولا يمكن جواب هذه المسألة إلا على أصول أهل السنة ... والقول إنها ذات قائمة بنفسها تصعد وتنزل وتتصل وتنفصل .. وعلى هذا أكثر من مائة دليل، وقد ذكرناها في كتابنا الكبير في معرفة الروح والنفس، وبيَّنَّا بطلان ما خالف هذا القول من وجوه كثيرة وأن من قال غيره لم يعرف نفسه". ثم إذا وصلنا إلى المسألة التاسعة عشرة في حقيقة النفس وجدناها مصداقًا لما ذكره هنا عن كتاب الروح والنفس. فهي مسألة كبيرة أطال فيها الكلام، وذكر مائة وستة عشر دليلًا (حسب تعديده) على قوله، ثم أورد

(المقدمة/35)


اثنتين وعشرين حجة للخصم ثم ردَّ عليها جميعًا. فهل هذه المسألة لم تكن من المسائل المعروضة عليه أو كانت معروضة لكن كانت نيته أن يتناولها بالاختصار، وأن يحيل للتفصيل على كتاب الروح والنفس، بيد أنه لما تكلم عليها غيَّر رأيه؟ يؤيد الاحتمال الأخير أنه لو كانت الإجابة عن السؤال المذكور على هذا الوجه من الإضافة والإطناب مقصودة من بداية الأمر لأحال هناك على هذه المسألة التاسعة عشرة بدلًا من الإحالة على كتاب الروح والنفس. كما فعل في المسألة الخامسة عشرة، إذ قال: " ... فالقول الصحيح غيره، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى، إذ ليس الغرض في جواب هذه المسألة الكلام في الأرواح هل هي مخلوقة قبل الأجساد أم لا؟ ". فأحال على المسألة الثامنة عشرة من هذا الكتاب، ولم يحل على كتابه الكبير في الروح والنفس، مع أن هذا البحث لا بد أن يكون من أهم موضوعاته. بل لعل المؤلف لم يكن في باله وهو يكتب عنوان المسألة التاسعة عشرة أن يتوسع في الكلام عليها، فإنه لم يقتصر فيه على سؤال واحد بل ضمَّنها ثلاثة أسئلة، فقال: "وأما المسألة التاسعة عشرة وهي: ما حقيقة النفس ... ؟ وهل هي الروح أو غيرها؟ وهل الأمارة واللوامة والمطمئنة نفس واحدة لها هذه الصفات أم هي ثلاث أنفس؟ ". وصنيعه هذا في العنوان يدل على أنه كان يريد أن يتكلم تحته على المسائل الثلاث ويختم بها الكتاب. والمسألة الأولى منها هي التي تحتاج إلى إفاضة القول، فيتكلم عليها بشيء من التفصيل ويحيل للتوسع في أدلته والرد على المنازعين على كتابه الكبير في الروح والنفس. ولكنه لما خاض

(المقدمة/36)


في المسألة بدا له ــ فيما أظن ــ أن ينقل المسألة برمتها أو بشيء من التصرف من كتاب الروح والنفس. ومثل هذا حصل في المسألة الثالثة في الكلام على النفس المطمئنة والنفس اللوامة، فقد انجرَّ الكلام إلى ذكر بعض الفروق، والمؤلف له عناية خاصة بها لأهميتها في الدين، فقد قال: "إن الدين كله فرق"، فأطلق العنان لقلمه الفياض وتكلم على خمسة وثلاثين فرقًا، ثم توقف قليلًا لتنبيه القارئ على خطر باب الفروق، ثم عاد فتكلم على ثمانية فروق ختم بها الكتاب. فلو علم المؤلف أن المسألة الأولى من المسائل الثلاث ستستغرق نحو 44 صفحة (من الطبعة الهندية) والثالثة نحو 82 صفحة في حين أن الثانية لا تحتاج إلا إلى خمس صفحات فحسب= لو علم ذلك واستقبل من أمره ما استدبر لم يجمعهن قط في مسألة واحدة، وهي المسألة التاسعة عشرة. وقد اضطر لما اتسع الكلام على الأولى إلى إفراد الثانية بالعشرين والثالثة بالحادية والعشرين، ولكن بقي ذكر الثلاث كلها في المسألة التاسعة والعشرين كما كان، وفات المؤلف أن يعود إليها ليحذف الثانية والثالثة من عنوانها. وإليكم الآن مسائل الكتاب حسب ترتيب المؤلف: 1 - هل تعرف الأموات بزيارة الأحياء وسلامهم عليهم أو لا؟ 2 - أرواح الموتى هل تتلاقى وتتزاور وتتذاكر أو لا؟ 3 - هل تتلاقى أرواح الأحياء وأرواح الأموات؟ 4 - هل تموت الروح أو الموت للبدن وحده؟ 5 - الأرواح بعد مفارقة الأبدان إذا تجرّدت فبأي شيء يتميز بعضها من بعض حتى تتعارف وتتلاقى ... ؟

(المقدمة/37)


6 - هل تعاد الروح إلى الميت في قبره وقت السؤال أو لا؟ * هل عذاب القبر على النفس والبدن أو على أحدهما، وهل يشارك البدن النفس في النعيم والعذاب أو لا؟ 7 - ما جوابنا للملاحدة والزنادقة المنكرين لعذاب القبر وسعته وضيقه .. ؟ 8 - ما الحكمة في كون عذاب القبر لم يذكر في القرآن ... ؟ 9 - ما الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور؟ 10 - ما الأسباب المنجية من عذاب القبر؟ 11 - السؤال في القبر هل هو عام في حق المسلمين والمنافقين والكفار أو يختص بالمسلم والمنافق؟ 12 - هل سؤال منكر ونكير مختص بهذه الأمة أو يكون لها ولغيرها؟ 13 - هل يمتحن الأطفال في قبورهم؟ 14 - هل عذاب القبر دائم أو منقطع؟ 15 - أين مستقر الأرواح ما بين الموت إلى القيامة؟ 16 - هل تنتفع أرواح الموتى بشيء من سعي الأحياء او لا؟ 17 - هل الروح قديمة أو محدثة مخلوقة؟ 18 - هل تقدم خلق الأرواح على الأجساد أو تأخر خلقها عنها؟ 19 - ما حقيقة النفس؟ 20 - هل النفس والروح شيء واحد أو شيئان متغايران؟ 21 - هل النفس واحدة أم ثلاث؟

(المقدمة/38)


إذا نظرنا في هذه المسائل تبين لنا: أ- أن معظم المسائل تتعلق بأحوال البرزخ. ب - أن عشر مسائل منها في عذاب القبر والسؤال فيه. ج- أن المسألة السادسة عشرة منها وهي مسألة إهداء القرب على الميت من مسائل الفقه أيضًا. د- أن خمس مسائل منها ــ وهي: حقيقة النفس وقدمها وحدوثها، وصلتها بالروح، وتقدم خلقها على الأجساد أو تأخره، والموت له أو للبدن فقط ــ مما تعرض له الفلاسفة أيضًا. هـ- المسألة الحادية والعشرون ــ وهي في النفس المطمئنة واللوامة والأمارة ــ من أهم مسائل تزكية النفس. و- بعض المسائل صغير الحجم، وبعضها مطول. ومن المسائل المطولة: مسألة مستقر الأرواح (15) وإهداء القرب إلى الميت (16) وحقيقة النفس (19). وقد انطوت هذه المسائل على مباحث أخرى مهمة منها: باب نفيس مطول من الفروق، ومسألة تلقين الميت، وتفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172]، وقوله تعالى: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} الآية [الزمر: 42]، وغير ذلك.

(المقدمة/39)


عرض بعض مسائل الكتاب عقدنا هذا المبحث لعرض مسائل ناقش فيها بعض أهل العلم الإمام ابن القيم، وسنضع بين يدي القارئ ما استدل به رحمه الله على ما ذهب إليه وما نوقش به، وهي مسائل ثلاث كانت مثار الشك في نسبة الكتاب إلى المؤلف أو القول بأنه من أوائل مصنفاته قبل اتصاله بشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. 1) معرفة الأموات بزيارة الأحياء وسلامهم عليهم (ص 5 - 43). استدل المؤلف على ذلك بما يلي: 1 - قال ابن عبد البر: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من مسلم يمر بقبر أخيه كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحَه حتى يرد عليه السلام"، قال ابن القيم: "فهذا نص في أنه يعرفه بعينه ويرد عليه السلام". 2 - قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لقتلى بدر: "يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًّا، فإني وجدت ما وعدني ربي حقًّا؟ " فلما استغرب عمر نداءه قال: "والذي بعثني بالحق، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون جوابًا". والحديث في الصحيحين. 3 - حديث أنس في الصحيحين وفيه: "أن الميت يسمع قرعَ نعال المشيِّعين له إذا انصرفوا عنه". 4 - تشريع السلام على أهل القبور، فقول المسلم: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين" خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا ذلك لكان بمنزلة خطاب المعدوم والجماد.

(المقدمة/40)


5 - تواتر الآثار عن السلف بأن الميت يعرف بزيارة الحي له ويستبشر به. وقد أورد المؤلف آثارًا ومنامات كثيرة ساقها ابن أبي الدنيا في كتابه القبور تحت باب "معرفة الموتى بزيارة الأحياء". 6 - تسمية المسلِّم عليهم "زائرًا"، فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره لم يصح أن يقال: زاره. وكذلك السلام على من لم يعلم بالمسلِّم محال. قال: "فهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد، وإن لم يسمع المسلِّم الردَّ". 7 - استئناس الميت بالمشيِّعين لجنازته بعد دفنه كما جاء في حديث عمرو بن العاص في صحيح مسلم. 8 - ذكر عن جماعة من السلف أنهم أوصوا أن يقرأ عند قبورهم وقت الدفن. 9 - تلقين الميت. 10 - وقد ذكر منامات تفيد أن الموتى إذا صلى الرجل قريبًا منهم شاهدوه، وعلموا صلاته، وغبطوه على ذلك، وقال: "وهذه المرائي وإن لم تصلح بمجردها لإثبات مثل ذلك، فهي على كثرتها قد تواطأت على هذا المعنى، وتواطؤ رؤيا المؤمنين على شيء كتواطؤ روايتهم له وكتواطؤ رأيهم على استحسانه واستقباحه. على أنا لم نثبت هذا بمجرد الرؤيا، بل بما ذكرناه من الحجج وغيرها". وذكر منامات أخرى كثيرة وختم المسألة بقوله: "الميت إذا عرف مثل هذه الجزئيات وتفاصيلها، فمعرفته بزيارة الحي له وسلامه عليه ودعائه له

(المقدمة/41)


أولى وأحرى". هذه خلاصة ما قال ابن القيم وما استدل به. وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هل الميت يسمع كلام زائره، ويرى شخصه؟ فأجاب: "الحمد لله رب العالمين. نعم يسمع الميت في الجملة"، واستدل من الأدلة السابقة بالثالث، فالثاني، فالرابع، فالأول، ثم بما جاء في السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي ... " الحديث، وما جاء فيها من قوله: "إن الله وكَّل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام". ثم قال: "فهذه النصوص وأمثالها تبين أن الميت يسمع في الجملة كلام الحي، ولا يجب أن يكون السمع له دائمًا، بل قد يسمع في حال دون حال، كما قد يعرض للحي، فإنه قد يسمع أحيانًا خطاب من يخاطبهم، وقد لا يسمع لعارض يعرض له. وهذا السمع سمع إدراك، ليس يترتب عليه جزاء، ولا هو السمع المنفي بقوله: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] فإن المراد بذلك سمع القبول والامتثال. فإن الله جعل الكافر كالميت الذي لا يستجيب لمن دعاه، وكالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفقه المعنى. فالميت وإن سمع الكلام وفقه المعنى فإنه لا يمكنه إجابة الداعي ولا امتثال ما أمر به ونهى عنه، فلا ينتفع بالأمر والنهي. وكذلك الكافر لا ينتفع بالأمر والنهي وإن سمع الخطاب وفهم المعنى كما قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23].

(المقدمة/42)


وأما رؤية الميت، فقد روي في ذلك آثار عن عائشة وغيرها" (1). وسئل ثانية: هل يعرف الميت من يزوره أم لا؟ مع أسئلة أخرى، فقال: "والميت قد يعرف من يزوره، ولهذا كانت السنة أن يقال، السلام عليكم، أهل دار قوم مؤمنين ... " الحديث (2). وسئل ثالثة عن الأحياء إذا زاروا الأموات هل يعلمون بزيارتهم؟ فأجاب: "وأما علم الميت بالحي إذا زاره، وسلم عليه، ففي حديث ابن عباس قال: قال رسول الله ^: "ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه، ورد عليه السلام". قال ابن عبد البر (في الفتاوى: "ابن المبارك" تحريف): ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصححه عبد الحق صاحب الأحكام" (3). وقال في جواب آخر: "فإن الميت يسمع النداء كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ... " وذكر الدليل الثالث، فالثاني، فالرابع، فالأول وهو حديث ابن عباس. وقد ذكر شيخ الإسلام تصحيح ابن عبد البر للحديث في الفتاوى (4/ 295) وغيره، واستدل في أكثر من عشرة مواضع من كتبه، وهو الذي افتتح به ابن القيم جوابه عن هذه المسألة. المقارنة بين أجوبة شيخ الإسلام هذه وجواب ابن القيم تدل على أن _________ (1) مجموع الفتاوى (24/ 362 - 364). (2) مجموع الفتاوى (24/ 303 - 304). (3) مجموع الفتاوى (23/ 331).

(المقدمة/43)


ابن القيم بنى جوابه على أجوبة شيخه، والأدلة الأربعة الأولى هي أدلة شيخه. ثم زاد عليه بعض الأدلة وأيدها بالآثار والمنامات. لكن الفرق بين جوابيهما أن شيخ الإسلام يرى أن الميت يسمع في الجملة كما قال في جوابه الأول مرتين، وزاد في المرة الثانية أنه "لا يجب أن يكون السمع له دائمًا، بل قد يسمع في حال دون حال". و"قد" هنا للتقليل. ويرى أن الميت قد يعرف من يزوره كما قال في جوابه الثاني، فهذه المعرفة أيضًا ليست دائمة. أما ابن القيم فقد توسّع وعمم في كلامه. وقد نقل صاحبه ابن كثير في تفسيره (6/ 325 - 327) من أول المسألة إلى آخر قول ابن القيم بعد الدليل السادس. وقد حذف الاستدلال بتسمية المسلِّم زائرًا، ولكن نقل قوله: "والسلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلِّم محال". فكأن ابن كثير موافق لابن القيم في هذه المسألة وما استدل به مما نقله. وقد ناقش الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله في مقدمته لكتاب "الآيات البينات في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات" (ص 98) دلائل القائلين بالسماع، فرد على الدليل الأول بأنه خاص بأهل القليب وكان خرقًا للعادة، وعلى الثاني بأن قرع النعال خاص بوقت وضعه في قبره. وذكر أنهم استدلوا بأحاديث أخرى لا تصح أسانيدها. ومنها حديث ابن عباس الذي نقل تصحيحه عن ابن عبد البر وصححه شيخ الإسلام وغيره (انظر ص 132). ثم قال: "وأغرب ما رأيت لهم من الأدلة قول ابن القيم في الروح تحت المسألة الأولى ... فأجاب بكلام طويل جاء فيه ما نصه" ونقل استدلاله

(المقدمة/44)


بتسمية المسلم على الميت زائرًا وسلامه عليه وقال: "رحم الله ابن القيم فما كان أغناه عن الدخول في مثل هذا الاستدلال العقلي ... " إلخ. وقد سبق أن نقلنا تعقيبه هذا في مبحث تحقيق نسبة الكتاب. ثم رد الأول بزيارة البيت الحرام وزيارة قباء وتسمية طواف الإفاضة بطواف الزيارة. وردّ الثاني بمخاطبة الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في تشهد الصلاة بقولهم: السلام عليك أيها النبي، وهم خلفه قريبًا أو بعيدًا في مسجده وغير مسجده (ص 60). هذا في مقدمة الكتاب، ثم في تعليقه على كلام الآلوسي أشار إلى أشياء أخرى في الرد على الاستدلال بالسلام. وذكر ابن القيم فقال (ص 132): "وكأنه رحمه الله ... لم يستحضر قول شيخ الإسلام ابن تيمية في توجيه هذا السلام ونحوه، فقال في الاقتضاء (ص 416) وقد ذكر حديث الأعمى المشار إليه آنفًا (يعني قوله: يا محمد إني توجهت بك إلى ربي ... وهذا إذا افترض أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بعيدًا أو غائبًا عنه لا يسمعه): "هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادى في القلب، فيخاطب لشهوده بالقلب كما يقول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. والإنسان يفعل هذا كثيرًا، يخاطب من يتصوره في نفسه وإن لم يكن في الخارج من سمع الخطاب". قلت: جاء كلام شيخ الإسلام هذا في توجيه حديث الأعمى، ولكن استدلاله بالسلام على الميت قد ورد في الجواب عن المسألة التي نحن فيها، كما سبق. ومما استدل به ابن القيم على معرفة الأموات بزيارة الأحياء تلقين الميت بعد الدفن، وهي المسألة الآتية.

(المقدمة/45)


2) تلقين الميت بعد الدفن (ص 29 - 33). هذه المسألة من المسائل العارضة في كتاب الروح، وقد استدل بها ابن القيم على سماع الأموات وقال: ولولا أنه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة وكان عبثًا. ثم ذكر أن الإمام أحمد استحسن التلقين واحتج عليه بالعمل. وذكر حديث أبي أمامة وقال: "فهذا الحديث وإن لم يثبت، فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار ومن غير إنكار كافٍ في العمل به". أما استحسان الإمام أحمد للتلقين، فلم أجده، وإنما المذكور عنه إباحته، كما في مجموع الفتاوى (24/ 296 - 299) وغيره. وابن القيم نفسه لما ذكر في كتابه زاد المعاد هديَ النبي في الجنائز قال: "ولا يلقن الميت، كما يفعله الناس اليوم. وأما الحديث الذي رواه الطبراني ... لا يصح رفعه. ولكن قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: فهذا الذي يفعلونه إذا دفن الميت، يقف الرجل ويقول: يا فلان بن فلانة، اذكر ما فارقت عليه الدنيا: شهادة أن لا إله إلا الله. فقال: ما رأيت أحدًا فعل هذا إلا أهل الشام، حين مات أبو المغيرة، جاء إنسان فقال ذلك ... " (1). فهذا يدل على أنه لم يكن التلقين معمولًا به في سائر الأمصار والأعصار كما ذكر في كتاب الروح. وقد سبق في مبحث "زمن تأليف الكتاب" أن كتاب الروح من الكتب التي ألفها ابن القيم قبل زاد المعاد، فينبغي أن يعدّ قوله في الزاد آخر قوليه في المسألة. هذا، وقد تعقب كلام المؤلف في كتاب الروح الأمير الصنعاني فقال _________ (1) زاد المعاد (1/ 522 - 523).

(المقدمة/46)


في كتابه "جمع الشتيت": "وهو كما تراه في غاية الضعف فإنه يقال له أولًا: لا تشكُّ أنت ولا تنكر أن أعظم الأئمة اتباعًا واقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم أصحابه، ونعلم يقينًا أنه لم يأت عنهم حرف واحد أنهم لقنوا أبا بكر ولا عمر ولا عثمان ولا عليًّا رضي الله عنهم، ولا أن أحدًا من هؤلاء الخلفاء لقن ميتًا بعد دفنه، بل ولا يمكن والله أن يأتي برواية عن أحد من الصحابة أنه قام على قبر غيره وقال: يا فلان بن فلانة، ولا قام أحد على قبر صحابي يناديه. فكيف يقول ابن القيم مع إمامته إنه اتصل العمل به في سائر الأمصار والأعصار؟ ثم يقال له ثانيًا: هذا الإمام أحمد يقول: ما رأى أحدًا يفعله إلا أهل الشام حين مات أبو المغيرة، فكيف يقول:" سائر الأمصار والأعصار"، وأحمد يخبر أنه لم يفعله إلا أهل الشام حين مات أبو المغيرة؟ وكم من أعصار قبله خلت من وفاته - صلى الله عليه وسلم -. وأما الأمصار فلم تكن انحصرت في الشام". وقد علق الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله في نسخته من كتاب الروح تعليقًا طويلًا على أمر الاستحسان والعمل في سائر الأمصار، وقد نقلناه منه في موضعه. 3) قراءة القرآن وإهداؤها للميت (ص 416 - 418). وهي جزء من المسألة السادسة عشرة من مسائل الكتاب في انتفاع الموتى بسعي الأحياء، أجاب عنها ابن القيم بجواب طويل مستفيض ذكر فيه أولًا: أن أهل السنة مجمعون على الانتفاع بأمرين، أحدهما: ما تسبب إليه الميت، والثاني: الدعاء والاستغفار له والصدقة والحج عنه. وإنما الخلاف في العبادات البدنية كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر. ثم ساق أدلة

(المقدمة/47)


انتفاع الميت بما تسبب إليه وما لم يتسبب، فذكر أدلة وصول ثواب الصدقة والصوم والحج. ثم قال: "وهذه النصوص متظاهرة على وصول ثواب الأعمال إلى الميت إذا فعلها الحي عنه، وهذا محض القياس، فإن الثواب حق للعامل فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يُمنع من ذلك". وقال أيضًا: "وقد نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بوصول ثواب الصوم الذي هو مجرد ترك ونية تقوم بالقلب ... على وصول ثواب القرآن التي هي عمل باللسان وتسمعه الأذن وتراه العين بطريق الأولى ... والعبادات قسمان: مالية وبدنية. وقد نبه الشارع بوصول ثواب الصدقة على وصول ثواب سائر العبادات المالية، ونبه بوصول ثواب الصوم على وصول ثواب سائر العبادات البدنية. وأخبر بوصول ثواب الحج المركب من المالية والبدنية. فالأنواع الثلاثة ثابتة بالنص والاعتبار". ثم ذكر أدلة المانعين من الوصول، ثم أدلة المقتصرين على وصول العبادات التي يدخلها النيابة كالصدقة والحج، ثم جواب القائلين بالوصول عن أدلة الفريقين. وهو جواب مطول قرر في آخره أن قراءة القرآن وإهداءها للميت تطوعًا بغير أجرة تصل إليه. وهذا هو جواب شيخ الإسلام أيضًا لما سئل عن ذلك فقال: "من قرأ القرآن محتسبًا وأهداه إلى الميت نفعه ذلك" (1). فكأن جواب ابن القيم تفصيل وتشييد لجواب شيخ الإسلام. وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة وطائفة من أصحاب مالك والشافعي. والمشهور من مذهب الشافعي ومالك أن العبادات البدنية لا يصل ثوابها إلى الميت. _________ (1) مجموع الفتاوى (24/ 300).

(المقدمة/48)


وقد أورد ابن القيم في آخر المسألة إيرادات على قوله، ثم أجاب عنها. وقد ناقش السيد رشيد رضا في تفسير المنار إجابات ابن القيم فقال: " ... وهو لم ينس من حجج المانعين لوصول ثواب قراءة القرآن ونحوها عدم نقل شيء من ذلك عن السلف، ولكنه وهو من أكبر أنصار اتباع السلف قد أجاب عن هذه الحجة بجواب ضعيف جدًّا". وبعد ما ساق كلام ابن القيم بطوله، بدأ ردَّه عليه بقوله: "عفا الله عن شيخنا وأستاذنا المحقق، فلولا الغفلة عن تلك المسألة الواضحة لما وقع في هذه الأغلاط التي نردها عليه ببعض ما كان يردها هو في غير هذه الحالة، وسبحان من لا يغفل ولا يعزب عن علمه شيء". ثم ردّ على جواب ابن القيم ردًّا مفصلًا. ومما قال في ردّه على تعليل ابن القيم عدمَ نقلِ شيء من هذه الأعمال لحرص السلف على كتمان أعمال البر: "ما من نوع من أنواع البر المشروعة إلا وقد نقل عنهم فيه الكثير الطيب، حتى الصدقات التي صرح القرآن بتفضيل إخفائها على الإبداء تكريما للفقراء وسترا عليهم، ولما قد يعرض فيها من المن والأذى والرياء المبطلة لها. وقراءة القرآن للموتى ليست كذلك حتى إن المراءاة بها مما لا يكاد يقع؛ لأن الذي يقرأ لغيره لا يعد من العباد الممتازين على غيرهم فيكتمه خوف الرياء. ثم أين الذين نصبوا أنفسهم للإرشاد والقدوة والدعوة إلى الخير من الصحابة والتابعين، لِمَ لم يؤثر عنهم قول ولا فعل في هذا النوع من البر الذي عم بلاد الإسلام بعد خير العصور لو كان مشروعا؟ فهل يمكن أن يقال: إنهم كانوا يتركون الأمر بالبر، كما قيل جدلا: إنهم أخفوا هذا النوع منه وحده؟ كلا، إنهم كانوا هداة

(المقدمة/49)


بأقوالهم وأعمالهم، وتأثير الأعمال في الهداية أقوى". وأما قول ابن القيم: إن القائل بأن أحدًا من السلف لم يفعل ذلك قائل ما لا علم له به .. إلخ. فرد عليه السيد رشيد رضا بقوله: "الذي يثبت ما ذكر للسلف أجدر بقول ما لا علم له به، وناهيك به إذا كان معترفا بأنه لم ينقل ذلك عن أحد منهم، والنفي هو الأصل، وحسب النافي نفيه للنقل عنهم في أمر تدل الآيات الصريحة على عدم شرعيته، ويدل العقل وما علم بالضرورة من سيرتهم أنه لو كان مشروعا لتواتر عنهم أو استفاض". أما قول ابن القيم: "وسر المسألة أن الثواب ملك للعامل، فإذا تبرع به وأهداه إلى أخيه المسلم أوصله الله إليه، فما الذي خصَّ من هذا ثواب قراءة القرآن وحجر على المرء أن يوصله إلى أخيه"، فقال في مناقشته: "لم نكن ننتظره من أستاذنا ومرشدنا إلى اتباع النقل في أمور الدين دون النظريات والآراء، على أن هذه القاعدة النظرية غير مسلمة؛ فإن الثواب أمر مجهول بيد الله تعالى وحده كأمور الآخرة كلها، فإنها من علم الغيب التي لا مجال للعقل فيها. وما وعد الله تعالى به المؤمنين الصالحين المخلصين له الدين من الثواب على الإيمان والأعمال بشروطها لا يعرفون كنهه ولا مستحقه على سبيل القطع؛ ولذلك أمروا بأن يكونوا بين الخوف والرجاء، ولا يوجد في الآيات ولا الأخبار الصحيحة ما يدل على أن العامل يملك ثواب عمله وهو في الدنيا كما يملك الذهب والفضة أو القمح والتمر فيتصرف فيه كما يتصرف فيها بالهبة والبيع". وقول ابن القيم: "وهذا عمل الناس حتى المنكرين في سائر الأعصار والأمصار من غير نكير من العلماء"، ردّ عليه السيد رشيد رضا بقوله:

(المقدمة/50)


"وعمل الخلف وحده في أمر تعبدي كهذا لا حجة فيه، على أنهم لم يجمعوا عليه" (1). والغريب أن الأمير الصنعاني الذي وصم ابن القيم في مسألة التلقين بالتعصب، نقل معظم كلامه في مسألة إهداء القُرَب وقال: "فإن قلت: هذا شيء ما فعله سلف الأمة من الصحابة وغيرهم، وهم أحرص الناس على الخير. قلت: قد فعله هذا الصحابي لأشرف خلق الله ــ يعني قول أبيّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أجعل لك صلاتي كلها، والمقصود: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ــ ومن أين لك أنه لم يفعل السلف ذلك، فإنه لا يشترط في هذه الهبة إشهاد الناس عليها ولا إخبارهم بها؟ وهب أنه ما فعل هذا أحد منهم فإنه لا يقدح فيهم لأنه مندوب لا واجب، ولأنه قد ثبت لنا دليل جواز فعله سواء سبقنا إليه أحد أو لا؟ " (2). وإهداء القُرَب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ــ الذي رآه شيخ الإسلام وغيره بدعة (3)، فإن الصحابة لم يكونوا يفعلونه ــ استدل الأمير على جوازه أيضًا بقول أُبيّ! _________ (1) تفسير المنار (8/ 226 - 230). (2) تأنيس الغريب (ص 188). (3) جامع المسائل (4/ 254).

(المقدمة/51)


موارد الكتاب موارد المؤلف في كتاب الروح نوعان: أحدهما نقول من الكتب سمَّاها أو سمَّى أصحابها، والآخر نقول شفوية أسندها إلى بعض شيوخه وأصحابه. أما النصوص التي نقلها من كتب شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية فصرَّح بالنقل عنه أحيانًا، ولم يصرح أحيانًا أخرى. وهذا منهجه المعروف في النقل عن شيخه. وكثيرًا ما يغفل الإشارة إلى مصدره، وقد يذكر مؤلفه في خلال النقل، وقد يحيل على مصدر، مع أنه نقل منه بواسطة كتاب آخر، وقد يكون صاحب هذا المصدر الوسيط واهمًا في النقل، فينتقل وهمه إلى كتاب الروح. وقد نبهت على ما وقفت منه في حواشي الكتاب. وقد رأيت أن أتحدث عن موارد المؤلف في هذا الكتاب مسألة مسألة، ولا أشير إلى الصحيحين والموطأ وكتب السنن ونحوها لاستفاضة النقل منها، وستأتي أسماؤها مع أماكنها في الفهرس الخاص بالكتب المذكورة في المتن. * المسألة الأولى في معرفة الأموات بزيارة الأحياء وسلامهم عليهم. بُنِيت هذه المسألة ــ فيما ظهر لي ــ على بعض فتاوى شيخ الإسلام كالفتوى الواردة في المجموع، وقد سئل عن معرفة الميت بزائره وسماعه لكلامه (24/ 3039) و (24/ 362). وتصحيح ابن عبد البر لحديث: "ما من مسلم يمر بقبر أخيه ... " والاستدلال بالسلام على الموتى على معرفتهم بالمسلِّم كلاهما مأخوذ من كلام الشيخ، وإن لم يشر المؤلف إلى ذلك.

(المقدمة/52)


ومن موارد هذه المسألة: كتاب القبور لابن أبي الدنيا. وقد نص المؤلف عليه وعلى الباب الذي نقل منه، وهو "باب معرفة الموتى بزيارة الأحياء"، ومطبوعة كتاب القبور ناقصة، والباب المذكور ساقط منها. وقد وردت بعض الأخبار التي ساقها المؤلف في كتاب المنامات لابن أبي الدنيا أيضًا، ولكن المصدر الرئيس في هذه المسألة كتاب القبور. ومن مواردها: كتاب القراءة عند القبور من كتاب الجامع للخلال. ونقل فيها عن عبد الحق الإشبيلي، والمصدر كتابه العاقبة في ذكر الموت. وعن ابن عبد البر، والنقل من كتابه الاستيعاب. ونقل حكاية عن ابن الجوزي، ولكن لم يسم الكتاب الذي أخذها منه، والجدير بالذكر أنها وردت في المنتظم والثبات عند الممات ــ وكلاهما لابن الجوزي ــ على وجه مختلف. * المسألة الثانية في تزاور أرواح الموتى وتذاكرها. بعض الأخبار التي نقلها المؤلف في هذه المسألة وعزاها إلى ابن أبي الدنيا قد وردت في كتاب المنامات وكتاب ذكر الموت له، ولكن يظهر أن مصدرها أيضًا كتاب القبور، فإني رأيت بعضها في كتاب الإصابة معزوًّا إلى كتاب القبور. * المسألة الثالثة في تلاقي أرواح الأحياء وأرواح الأموات. في أول هذه المسألة نقل كلامًا لشيخ الإسلام ابن تيمية، بشيء من التصرف والتعليق عليه من "شرح حديث النزول". ولم يذكر الشيخ إلا في أثناء النقل إذ قال: "واختار شيخ الإسلام هذا القول وقال: ... ". ثم خلط

(المقدمة/53)


تعليقه وقول الشيخ، وأوهم سياقه أن قوله: "والتحقيق أن الآية تتناول النوعين ... " من كلامه هو، كما فهم شمس الدين السفاريني في البحور الزاخرة (1/ 126)، مع أنه تحقيق شيخ الإسلام. ثم نقل منامات كثيرة معظمها من كتاب "المنامات" لابن أبي الدنيا، دون الإشارة إلى الكتاب أو مؤلفه. وبعضها من كتاب العاقبة، وذكر مؤلفه في موضعين. ومن موارد هذه المسألة: كتاب "النفس والروح" لابن منده وهو مفقود، وكتاب "المجالسة" للدينوري، والنص المنقول منه لم يرد في مخطوطاته. وثمة حكايات غريبة نقلها عن علي بن أبي طالب القيرواني العابر، ولم يذكر كتابه، ولعله كتاب "البستان" الذي أحال عليه في المسألة السابعة. وختم المسألة بأن "غير واحد ممن كان غير مائل إلى شيخ الإسلام ابن تيمية" حدثه أنه رآه بعد موته وسأله عن شيء كان يشكل عليه في مسائل الفرائض وغيرها، فأجابه بالصواب. وليته سمَّى بعض أولئك! * المسألة الرابعة: الموت للروح أو للبدن وحده؟ من مصادرها: كتاب التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة للقرطبي، وقد سمَّى المؤلف دون الكتاب. ومنها: زاد المسير لابن الجوزي، نقل منه أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68].

(المقدمة/54)


وحكى فيها عن شيخه الحافظ أبي الحجاج المزي قوله في حديث: إنه دخل على الراوي في حديث آخر. * المسألة السادسة في عودة الروح إلى الميت في قبره وقت السؤال. فيها عدة نقول من شرح حديث النزول لشيخ الإسلام. وبعضها من غير تصريح بأنه من كلام الشيخ. ونقل فيها من كتاب الملل والنحل لابن حزم، وكتاب النفس والروح لابن منده، وقد يكون نقله من الكتاب الأخير بواسطة شرح حديث النزول لشيخ الإسلام. * المسألة الملحقة بالسادسة في عذاب القبر هل هو على النفس والبدن أو أحدهما؟ إذا استثنينا أقوال الإمام أحمد فالمسألة كلها بأحاديثها وآثارها وأقوالها مأخوذة من مصدرين: فتوى لشيخ الإسلام، والتذكرة للقرطبي. وقد صرّح المؤلف في أولها بأن شيخ الإسلام قد سئل عن هذه المسألة وهو ذاكر "لفظ جوابه"، والمسألة في مجموع الفتاوى (4/ 282 - 295). أما تذكرة القرطبي فلم يشر إليها المؤلف، وقد ساق الأحاديث مساق القرطبي، فوهم في بعضها. ونقل ثلاثة آثار من كتاب الطاعة والمعصية لعلي بن معبد بأسانيدها، وهي في التذكرة محذوفة الأسانيد، فلا أدري أنقلها من كتاب ابن معبد مباشرة، أم كانت عنده نسخة أخرى من التذكرة؟ ومن التذكرة نقل أقوال المعتزلة في عذاب القبر. وتصرف في النقل في بعض المواضع، فوقع في الخطأ، كما ستراه في موضعه.

(المقدمة/55)


* المسألة السابعة في الرد على المنكرين لعذاب القبر وسعته وضيقه. من مواردها: كتاب التذكرة، وقد بنى بعض أجوبته على كلام القرطبي دون إشارة إليه؛ وكتاب المحتضرين لابن أبي الدنيا، ولم ينص على اسم الكتاب؛ وكتاب القبور له. وأحال للمنامات على كتاب المنامات لابن أبي الدنيا، وكتاب البستان للقيرواني العابر. ونقل خبرًا عن شيخ الإسلام بلفظ "أخبرني شيخنا عن بعض المحتضرين، فلا أدري أشاهد أو أُخبر عنه ... ". ونقل خبرين عن اثنين من أصحابه، فقال في الخبر الأول: "حدثني صاحبنا أبو عبد الله محمد بن الرُّزيز الحرّاني أنه خرج من داره ... ". وصفه ابن كثير بالإمام العالم العابد الناسك العالم خطيب الجامع الكريمي بالقُبَيبات، وأرخ وفاته في سنة 743. انظر ترجمته في البداية والنهاية (18/ 458). وقد تصحف "الرُّزيز" في المراجع إلى "الوزير" و"رزين". وقال في الخبر الثاني: "حدثني صاحبنا أبو عبد الله محمد ابن منتاب السلامي، وكان من خيار عباد الله، وكان يتحرى الصدق. قال: جاء رجل إلى سوق الحدادين ببغداد ... ". وقد ترجم لابن منتاب الصفديُّ في أعيان العصر (4/ 437) وابن حجر في الدرر الكامنة (3/ 437). وتوفي بدمشق سنة 728، كما سبق. * المسألة العاشرة في الأسباب المنجية من عذاب القبر. من مواردها: مسند عبد بن حميد، والتمهيد لابن عبد البر، ومسند

(المقدمة/56)


الطيالسي، والترغيب والترهيب لأبي موسى المديني، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم، والأسامي والكنى لأبي أحمد الحاكم، ولم ينص على الكتابين الأخيرين. ومن مواردها: تذكرة القرطبي، وقد انخدع بطريقته في النقل، وذلك أن الحكيم الترمذي فسر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة" في كتابه نوادر الأصول، ونقل القرطبي جزءًا منه وقال في آخره: "قاله الترمذي الحكيم"، ثم قال: "قلتُ: إذا كان الشهيد لا يفيق ... ". مع أن قوله هذا تتمة كلام الحكيم، ويجب حذف "قاله الترمذي الحكيم. قلت". وقد نقل ابن القيم تفسير الترمذي الحكيم أولًا دون الإشارة إليه، مما يوهم أنه تفسير ابن القيم، ثم قال: "قال أبو عبد الله القرطبي: إذا كان الشهيد ... " وردّ عليه. ونقل فيها عن شيخ الإسلام تعظيمه لحديث عبد الرحمن بن سمرة في رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - الطويلة. قال: "سمعت شيخ الإسلام يعظم أمر هذا الحديث ... ". * المسألة الحادية عشرة في كون السؤال في القبر عامًّا للمسلمين والمنافقين والكفار. نقل فيها من التمهيد قول ابن عبد البر: إن الفتنة في القبر لا تكون إلا للمؤمن والمنافق، وردّ عليه. * المسألة الثانية عشرة في اختصاص السؤال في القبر بهذه الأمة أو عمومه. نقل فيها أقوال الحكيم الترمذي وعبد الحق الإشبيلي والقرطبي، ومصدرها جميعًا تذكرة القرطبي.

(المقدمة/57)


* المسألة الثالثة عشرة في امتحان الأطفال في قبورهم. مبناها على فتوى شيخ الإسلام الواردة في مجموع الفتاوى (4/ 277، 280) وجامع المسائل (4/ 222). * المسألة الرابعة عشرة في دوام عذاب القبر وانقطاعه. من مواردها: كتاب القبور لابن أبي الدنيا، ولم يسم الكتاب. * المسألة الخامسة عشرة في مستقر الأرواح في البرزخ. من أهم مواردها: التمهيد لابن عبد البر، ثم كتاب النفس والروح لابن منده، ثم كتاب الفصل في الملل والنحل لابن حزم. ولم يسم الكتب، وإنما ذكر أصحابها. وبعض النصوص المنقولة من الملل والنحل لم ترد في نسخته المطبوعة. ومنها: كتاب الرد على ابن قتيبة لمحمد بن نصر المروزي (ص 380). * المسألة السادسة عشرة في انتفاع أرواح الموتى بشيء من سعي الأحياء. من مواردها: مسائل الإمام أحمد برواية محمد بن يحيى الكحال، والمفهم في شرح صحيح مسلم لأبي العباس أحمد بن عمر القرطبي، ومعرفة السنن والآثار للبيهقي، والرعاية لأبي عبد الله ابن حمدان. ومما لم يسمه: الاستذكار لابن عبد البر، والصحاح للجوهري. ونقل فيها نصًّا من بعض كتب أبي الوفاء ابن عقيل. ومن مواردها: فتوى شيخ الإسلام عن قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ

(المقدمة/58)


إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] في مجموع الفتاوى (24/ 306 - 324) وقد ذكر قول طائفة إن القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره وإنما نفى ملكه لغير سعيه، ثم قال: "وكان شيخنا يختار هذه الطريقة ويرجحها". * المسألة السابعة عشرة في قِدم الروح وحدوثها. من مواردها: فتوى شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (4/ 216 - 231) وقد نقل ابن القيم نصًّا طويلًا منها (424 - 427). ومنها: كتاب الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد. وقد يكون نقله بواسطة الفتوى المذكورة، ولكن في اللفظ اختلاف. وفي الكلام على الإضافة إلى الله يبدو أنه صادر عن كتاب الجواب الصحيح لشيخ الإسلام (2/ 155 - 161). ومنها: كتاب النفس والروح لابن منده، وقد نقل من خطبة الكتاب، ثم نقل بعض الأحاديث والآثار منه. ومنها: كتاب محمد بن نصر المروزي، ولعله "الرد على ابن قتيبة" وقد سماه في المسألة الخامسة عشرة. وقد يكون مصدر النقل كتاب ابن منده. * المسألة الثامنة عشرة في تقدم خلق الأرواح على الأجساد أو تأخره. ذكر فيها أن في المسألة قولين حكاهما شيخ الإسلام وغيره. وقد ذكر الشيخ القولين في درء التعارض (8/ 414). وفيها كلام مفصل على قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية [الأعراف: 172]. وقد ذكر ابن

(المقدمة/59)


رُشيِّق المغربي في أسماء مؤلفات شيخ الإسلام "ثلاث قواعد، أكثر من سبعين ورقة" (1) في الآية المذكورة. ولعلها من أهم موارد ابن القيم في هذه المسألة. ومن مواردها: كتاب النفس والروح لابن منده، والتفسير البسيط للواحدي، وأقوال أبي إسحاق الزجاج وابن الأنباري وغيرهما كلها مأخوذة منه؛ والملل والنحل لابن حزم، والتمهيد لابن عبد البر، ونظم القرآن لأبي علي الجرجاني، وبعض النصوص المنقولة منه قد وردت في البسيط. ولم يذكر المؤلف الكتب المذكورة، وإنما سمَّى مؤلفيها بعض الأحيان. ونقل من تفسير ابن عيينة، ولكن يبدو أن مصدره كتاب محمد بن نصر المروزي. وقد ذكر مرة واحدة الزمخشري وابن الجوزي والواحدي والماوردي، والمقصود من كتبهم: الكشاف، وزاد المسير، والبسيط، والنكت والعيون. والأقوال التي نقلها في تجريح أبي جعفر الرازي كلها في تهذيب الكمال لشيخه المزي إلا قول ابن حبان فهو في كتاب المجروحين له. * المسألة التاسعة عشرة في حقيقة النفس. من مواردها: مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري، والملل والنحل لابن حزم. ونقل فيها نصًّا للفخر الرازي لم أجده في كتابه في النفس ــ والغريب أن ابن القيم لم يرجع إليه ــ ولا في تفسيره وما وقفت عليه من كتبه. _________ (1) الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية (ص 286).

(المقدمة/60)


ونقل فيها حكاية عن القاضي نور الدين بن الصائغ المتوفى سنة 749. ومن مواردها: كتاب المنامات لابن أبي الدنيا وقد سمَّى الكتاب، وغريب الحديث لابن قتيبة ولم يذكر الكتاب، وكتاب الاستذكار وقد ذكر مؤلفه، والصحاح للجوهري، نقل منها تفسير كلمة الجسم. وكتاب الرؤيا لمسعدة، ولعله مسعدة بن اليسع بن قيس الباهلي، ولم أقف على خبر لهذا الكتاب. ونقل بعض المنامات عن القيرواني العابر، وهو صاحب كتاب البستان الذي نقل منه في بعض المسائل السابقة. في هذه المسألة أفاض ابن القيم في إثبات جسمية الروح، ثم ساق 22 دليلًا للمنازعين. وقد ذكر الآلوسي الكبير (1) أن للشيخ "الرئيس رسالة مفردة في ذلك سماها بالحجج العشر .. (2). وابن القيم زيَّف حججه في كتابه". وقد رجعت إلى هذه الرسالة ورسالة أخرى لابن سينا في معرفة النفس، وكذلك إلى كتابيه "النجاة" و"الشفاء"، ولكن لم أجد فيها إلا بعض الدلائل التي ذكرها ابن القيم هنا. وقد نقل دليلًا منها عن أبي البركات البغدادي، ولم أجده في كتاب المعتبر له، ولعله في كتابه في النفس، وقد وصلت إلينا قطعة منه، ولكن ليس فيها النص المنقول هنا. وقد تكون دلائل أخرى أيضًا منقولة من الكتاب المذكور. _________ (1) روح المعاني (15/ 156). (2) في مطبوعة روح المعاني:" الغر"، ولعله تصحيف. والرسالة مطبوعة في دائرة المعارف العثمانية بحيدراباد الدكن.

(المقدمة/61)


ولا أدري أكان كتاب أبي بكر الرازي (ت 313) في أن النفس ليست بجسم (1) من موارد المؤلف في هذه المسألة أم لا؟ وقد رد ابن القيم على أدلة المنازعين جميعًا ردًّا مفصلًا، ولم أقف ــ مع الأسف ــ على موارد ابن القيم فيها. وقد أورد ضمنها قولًا لابن سينا، وهذا أيضًا لم أجده. * المسألة العشرون: هل النفس والروح شيء واحد أو شيئان متغايران؟ من مواردها: الصحاح للجوهري، نقل منه تفسير النفس؛ وكتاب النفس والروح لابن منده. * المسألة الحادية والعشرون: هل النفس واحدة أو ثلاث؟ نقل فيها أقوال المفسرين في "النفس المطمئنة" من تفسير الطبري دون الإشارة إليه. وفيها باب مطول من الفروق، لم يصدر فيها ابن القيم عن كتاب آخر، بل معظم الكلام من نتائج فكره وفيض خاطره. _________ (1) انظر: الفهرست للنديم (2/ 311)، وهذا غير كتابيه الكبير والصغير في النفس.

(المقدمة/62)


الصادرون عنه الصادرون عن كتاب الروح كثيرون، معظمهم صرَّح بمصدره، فسمَّى الكتاب والمؤلف جميعًا أو اكتفى بذكر المؤلف. ومنهم من نقل دون الإشارة إلى الكتاب أو مؤلفه. ومن هؤلاء: الحافظ ابن كثير (ت 774) وابن أبي العز الحنفي (ت 792) شارح العقيدة الطحاوية. أما الأول فقد نقل في تفسيره (6/ 325 - 327) نصًّا طويلًا من المسألة الأولى في معرفة الأموات بزيارة الأحياء بشيء من الاختصار. وتأثره بابن القيم بادٍ أيضًا في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172]. وأما ابن أبي العز الحنفي، فقد ساق في شرح الطحاوية (219 - 220) الوجوه العشرة كلها التي استدلّ بها ابن القيم على رأيه من نظم الآية المذكورة. وكذلك نقل من المسائل (4، 5، 7، 12، 15، 16، 17، 18، 20، 21)، ولخص عدة مسائل منها كاملة. انظر شرح الطحاوية (384 - 401)، (458 - 465). والذين صرحوا بالنقل بين مكثر ومقل. أما المكثرون، فمنهم: - شمس الدين محمد بن محمد المنبجي الحنبلي (ت 785). وقد ألَّف كتابه "تسلية أهل المصائب" سنة 777 إثر الطاعون الذي مات فيه ألوف من الناس. نقل فيه من كتاب الروح بالنص في الصفحات

(المقدمة/63)


(271، 277 - 278، 284، 288، 291، 296). وهي من الباب الخامس والعشرين في أن الله يثبت الذين آمنوا عند السؤال في القبر، والباب السادس والعشرين في اجتماع الأرواح وهيئتها وأين محلها. وقد جمع في البابين عدة مسائل من مسائل كتاب الروح. ولا تظن أن الاستفادة من كتاب الروح محصورة في الصفحات المذكورة، بل نصوص أخرى كثيرة مصدرها كتابنا هذا. منها جواب شيخ الإسلام الذي أورده ابن القيم في أول المسألة الملحقة بالسادسة، وقد عقب في أثنائه على كلام الشيخ للتوضيح، دون تنبيه، فنقله المنبجي (ص 291 - 293) على أنه كله من كلام شيخ الإسلام. ولم يشر إلى أنه نقله من كتاب الروح. - ابن رجب الحنبلي (ت 795). كتابه "أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور" أصله كتاب أخبار يشاركه في معظم أبوابه كتاب الروح. ولم يذكر ابن رجب كتاب شيخه إلا في موضع واحد (68 - 69) إذ نقل قصتين إحداهما رواها ابن القيم عن ابن منتاب السلامي التاجر والأخرى عن صاحبه ابن الرزيز الحراني. ولكن ابن رجب قد نسج في أبواب كثيرة من كتابه على منوال شيخه، وعدد كبير من الآثار والأخبار التي أوردها فيه مصدرها كتاب الروح. وحسبك أن تلقي نظرة خاطفة في الباب التاسع من كتاب الأهوال في ذكر محل أرواح الموتى في البرزخ، الذي يقابل المسألة الخامسة عشرة في كتاب الروح. - جلال الدين السيوطي (ت 911). له كتاب "شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور". وهو أيضًا في

(المقدمة/64)


أصله كتاب أخبار ويشارك كتاب الروح في أبواب كثيرة. وقد ختم كتابه بفوائد تتعلق بالروح وقال بصراحة: "لخصت أكثرها من كتاب الروح لابن القيم" (414). وهو أيضًا في مسألة مستقر الأرواح قد اعتمد كثيرًا على كتاب الروح. والمواضع التي سمى فيها ابن القيم هي: (199، 201، 210، 245، 247، 275، 297، 312، 313، 315، 316، 317، 318، 325، 332، 351، 352، 414، 421، 422). وقد نقل السيوطي في مؤلفاته الأخرى أيضًا من كتاب الروح. ومنها الحاوي للفتاوي (1/ 212)، (2/ 165، 166) والحبائك في أخبار الملائك (ص 263). - شمس الدين محمد بن أحمد السفاريني الحنبلي (ت 1188). وهو في مؤلفاته كثير الاعتماد على كتب شيخ الإسلام وابن القيم، وينقل فصولًا كاملة منها. وله كتاب كبير سماه "البحور الزاخرة في أحوال الآخرة" ضمّنه نصوصًا كثيرة من كتاب الروح، فالصفحات (1/ 100 - 130) قلما تخلو صفحة منها من قوله: "قال المحقق" يعني ابن القيم. وانظر النقول من كتاب الروح في (1/ 178 - 181، 202 - 204، 219 - 228، 234، 240 - 245، 270 - 275، 278 - 281، 298، 302 - 303، 314 - 319). وكذلك نقل منه في كتابه لوامع الأنوار البهية (2/ 8، 9، 10، 12، 17 - 63، 157) وغذاء الألباب (1/ 87، 360)، (2/ 173) وشرح ثلاثيات المسند (1/ 584 - 587، 588، 733، 734 - 737). - محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني (ت 1180). للسيوطي أبيات في تثبيت الميت شرحها الأمير الصنعاني وسمَّى

(المقدمة/65)


الشرح "جمع الشتيت في شرح أبيات التثبيت"، ثم نظم تكملة أبيات السيوطي وشرحها أيضًا وسماه "تأنيس الغريب وبشرى الكئيب بلقاء الحبيب"، وقد طبع التأنيس في ذيل جمع الشتيت في كتاب واحد. ولما كانت الأبيات في مساءلة الميت وعذاب القبر وما إليه نقل الشارح نصوصًا طويلة من كتاب الروح. انظر الصفحات (34، 45، 49 - 54، 55 - 56، 59 - 67، 79، 81 - 82، 83 - 85، 94، 107 - 109، 141 - 142). أما "تأنيس الغريب" الذي يشغل الصفحات (163 - 188) من الكتاب فلا تخلو صفحة منه من كلام ابن القيم. وقد تعقب الأمير أحيانًا ابن القيم في بعض المسائل منها مسألة تلقين الميت (80)، وتقدم خلق الأرواح على الأجساد (175)، كما سبق. وقد نقل الأمير من كتاب الروح، وأحال عليه في كتابه سبل السلام (2/ 113، 114) أيضًا. وأما المقلون، فمنهم: - ابن حجر العسقلاني (ت 852) في فتح الباري (3/ 239، 240)، (6/ 444، 445)، (8/ 403). - ومحمد بن يوسف الصالحي (ت 942) في سبل الهدى والرشاد (2/ 359)، (3/ 186، 568). - وزين الدين المناوي (ت 1031) في فيض القدير شرح الجامع الصغير (2/ 505)، (3/ 34، 158، 251)، (4/ 57، 366، 408). - ومنصور بن يونس البهوتي الحنبلي (ت 1051) في كشاف القناع عن متن الإقناع (1/ 608، 634).

(المقدمة/66)


- وصالح بن محمد العمري الفُلَّاني (ت 1218) في إيقاظ همم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار (113). - ومصطفى بن سعد الرُّحيباني (ت 1243) في مطالب أولي النهى (1/ 909، 927). - وابن عابدين (ت 1252) في حاشيته على الدر المختار (2/ 192، 243). - والآلوسي الكبير (ت 1270) في روح المعاني (15/ 152 - 162) تحت قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} وقد أحال عليه في (23/ 57)، (30/ 98) أيضًا.

(المقدمة/67)


أهمية الكتاب والثناء عليه المسائل التي احتوى عليها كتاب الروح ــ سواء أكانت رئيسة أم جلبها الاحتجاج أو الاستطراد ــ منها مسائل شريفة هي نفسها في غاية الأهمية لصلتها بالعقيدة أو تزكية النفس. وقد تكون أهميتها راجعة إلى المنهج الذي سلكه ابن القيم في تناولها من حيث الشمول والإحاطة وحشد المذاهب وأدلتها ثم الفصل بينها وترجيح الراجح منها في ضوء الكتاب والسنة. ومن القسم الأول: المسائل المتعلقة بعذاب القبر. وهي عشر مسائل، ولا سيما المسألة السابعة في الرد على الملاحدة والزنادقة المنكرين لعذاب القبر وسعته وضيقه وقولهم: إنا نكشف القبر فلا نجد فيه ملائكة يعذبون الموتى بمطارق الحديد، ولا نجد هناك حيَّات ولا ثعابين ولا نيرانًا تأجَّجُ. ولو كشفنا حاله في حالة من الأحوال لوجدناه لم يتغير. ولو وضعنا على يمينه الزئبق وعلى صدره الخردل لوجدناه على حاله إلخ. أشار السيوطي في أبيات التثبيت إلى هذا الاعتراض وجواب القاضي ابن العربي عنه وأن إمام الحرمين نحا نحوه في كتاب الإرشاد، وكذا الغزالي في الإحياء. قال: وحجةُ الإسلام في الإحياء ... وكم إمامٍ راح ذا اكتفاء يريد أن جماعة من الأئمة اكتفوا بجواب القاضي ابن العربي. كذا فسَّره الأمير الصنعاني ثم قال: "واعلم أنه قد بسط الجواب وزاد عليه ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح، ولا غناء عن استيفاء ما ذكره؛ فإن المسألة مهمة، والإيمان بها متعين. قال في بسط كلام ابن العربي وإن لم يتعرض لذكره

(المقدمة/68)


لكنه يصلح بسطًا له ما لفظه: ... " (1). ثم نقل المسألة. ولأهمية هذا المبحث أفرده بعض علماء الهند وسماه "الرسالة القبرية في الرد على منكري عذاب القبر من الزنادقة والقدرية". ونشرها ضمن مجموعة صدرت باسم "الهدية السعيدية فيما جرى بين الوهابية والأحمدية" (2). ومن المسائل التي اتسمت بالتتبع الشديد والاستقصاء البالغ: مسألة مستقر الأرواح بعد الموت إلى قيام الساعة. ولم يبالغ ابن القيم إذ قال بعد ذكر مذاهب الناس في ذلك: "فهذا ما تلخص لي من جميع أقوال الناس في مصير أرواحهم بعد الموت، ولا تظفر به مجموعًا في كتاب واحد غير هذا البتة". ومن ثم كلُّ من تكلم على هذه المسألة بعد ابن القيم كان عالةً عليه. ومنها أيضًا: مسألة حقيقة النفس. وقد حشد في إثبات جسميتها نحو 115 وجهًا. ثم ساق 22 دليلًا للمنازعين وقال في ذلك: "فهذا كل ما موهت به هذه الطائفة المبطلة من منخنقة وموقوذة ومتردية، ونحن نجيبهم عن ذلك كله فصلًا بفصل بحول الله وقوته ومعونته". وقد استغرقت هذه المسألة نحو السُّبع من حجم الكتاب. قال الآلوسي الكبير: "وردَّ هذا المذهب ــ يعني كون الروح جوهرًا مجردًا لا خارج العالم ولا داخله ــ ابنُ القيم في كتاب الروح بما لا مزيد عليه" (3). وقال في موضع آخر: "وتحقيق _________ (1) جمع الشتيت (ص 49). (2) انظر: ابن قيم الجوزية للشيخ بكر أبو زيد (254). (3) روح المعاني (23/ 57).

(المقدمة/69)


ذلك بما لا مزيد عليه في كتاب الروح للعلامة ابن القيم عليه الرحمة" (1). إن قول الآلوسي هذا ــ وهو مَن هو في الاطلاع على كتب الفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة ــ يُعَدُّ شهادة كبيرة بقيمة هذا المبحث من كتاب الروح. ومن مسائل الكتاب ــ وهي المسألة الخامسة ــ أن الأرواح، بعد مفارقة الأبدان إذا تجردت، بأي شيء يتميز بعضها من بعض، حتى تتعارف وتتلاقى؟ وقد نبَّه المصنف نفسه على أنها مسألة نادرة " لا تكاد تجد من تكلم فيها، ولا تظفر فيها من كتب الناس بطائل ولا غير طائل، ولاسيَّما على أصول من يقول بأنها مجردة عن المادة وعلائقها" أما المباحث العارضة التي استطرد إليها المؤلف، فمن أهمها: مبحث الفروق في آخر الكتاب، وهو مبحث نفيس أفاض فيها الكلام، وأشاد بأهميته قائلا: "ولا تستطل هذا الفصل، فلعله من أنفع فصول الكتاب، والحاجة إليه شديدة". ومنها الكلام ضمن المسألة الرابعة على قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: "فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل". نبَّه المصنفُ على أهميته، وقال: "ولو لم يكن في الجواب إلا كشف هذا الحديث وشأنه لكان حقيقًا أن يُعَضَّ عليه بالنواجذ". * ولكتاب الروح أهمية أخرى عند المعنيين بالتراث. فقد تضمن نصوصًا من كتب لا تزال مفقودة حتى الآن. _________ (1) روح المعاني (30/ 98).

(المقدمة/70)


- ومنها كتاب " النفس والروح" لابن منده. نقل نصوصًا منه شيخ الإسلام وابن القيم وابن حجر وغيرهم، ولكن كتاب الروح انفرد بإيراد مقدمة الكتاب، والإشارة إلى بعض أبوابه، في المسألة السابعة عشرة. - ومنها "نظم القرآن" للحسن بن يحيى الجرجاني. نقل منه ابن القيم نصوصًا بعضها في التفسير البسيط للواحدي. - ومنها كتاب "البستان" لعلي بن أبي طالب القيرواني العابر. وقد نقل منه ابن القيم أخبارًا عديدة، وهي نصوص نادرة انفرد بها كتاب الروح. ولم أجد نقلًا من الكتاب المذكور إلا في الروض الأنف للسهيلي (1/ 276)، (2/ 66). وقد نقل ابن غنام المقدسي العابر في كتابه "المعلم على حروف المعجم" من "مختصر القيرواني" و"القصيدة الرائية" له، ولكن لم يشر إلى كتاب البستان. - ومنها: كتاب مسعدة في الرؤيا. ولم أر من ذكر هذا الكتاب. * وكذلك تضمن نصوصًا من كتب لم ترد في نسخها المطبوعة. ومنها كتاب الملل والنحل لابن حزم، والمجالسة للدينوري. ومنها كتاب القبور لابن أبي الدنيا، أورد منها ابن القيم آثارًا كثيرة، ولما تظهر نسخة كاملة من الكتاب المذكور. * وأختم هذا الفصل بكلمات في الثناء على الكتاب. 1 - وأولها كلمة منشئ المقدمة الواردة في نسخة قليج باشا المكتوبة سنة 821. فهو من علماء القرن الثامن وتوفي في التاسع. قال: "وبعد، فهذا كتاب عظيم النفع، جليل القدر، كثير الفائدة، ما صنف مثله

(المقدمة/71)


في معناه، فلا تكاد تجد ما تضمنه من بدائع الفوائد وفرائد القلائد في كتاب سواه". 2 - وقال شمس الدين السفاريني (ت 1188) في البحور الزاخرة: "وكتابه هذا من أجلّ ما رأينا في هذا الفن، بل هو أجلّها وأعظمها. ولا ينبغي لمن له رغبة في العلوم أن يجهله ولا شيئًا منه، فعليك به فإنه مفيد جدًّا" (1). 3 - وقال شهاب الدين الآلوسي (ت 1270) في روح المعاني: "وهو كتاب مفيد جدًّا يهب للروح رَوحًا، ويورث للصدر شرحًا" (2). 4 - وقال الشيخ عبيد الله الرحماني المباركفوري (ت 1414) في شرحه لمشكاة المصابيح: " ... فعليك أن تطالعه، فإنه كتاب جليل القدر، ما صنف مثله في معناه" (3). 5 - وقد أثنى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله على فصل الفروق، فقال: " ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح بحثًا مهمًّا في الفرق بين الصفات الكريمة والصفات الذميمة، والفرق بين صفات أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وهو بحث جدير بالعناية والمراجعة. رحم الله كاتبه رحمة واسعة" (4). _________ (1) البحور الزاخرة (1/ 100). (2) روح المعاني (15/ 156). (3) مرعاة المفاتيح (1/ 218). (4) الفوائد المتنوعة للشيخ ابن باز (73).

(المقدمة/72)


اختصار الكتاب وترجمته أولاً: اختصاره عني غير واحد من العلماء باختصار الكتاب وتلخيصه ومنه: 1) "سر الروح" لبرهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي (ت 885). وهو أهم مختصرات الكتاب. ولم يقتصر البقاعي على اختصاره، بل أعاد ترتيبه، وزاد زيادات. وفي ذلك يقول في مقدمته: "وبعد، فإني كاتب إن شاء الله تعالى في هذه الأوراق المقصود بالحقيقة من كتاب الروح للإمام العلامة ... وذلك هو الصحيح من الأقوال في كل مسألة بأقوى أدلتها. وربما زدت شيئًا فميزته غالبًا بـ"قلت والله أعلم". ورتبته أحسن من ترتيبه، وبالغت جهدي في تهذيبه. وكنت ظننت أنه يكون بعد الزيادة والتحرير في نحو ثلثه، والثلث كثير، فجاء في نصفه فائقًا في رصفه ووصفه. ولم أخِلَّ بشيء من مختاره، ولا حذفت صحيحًا من أحاديثه وأخباره". ثم قال: "وهو إحدى وعشرون مسألة، منها ما هو فرع من غيره، فرددتها على عشر مسائل". وهذا ترتيب البقاعي لمسائل كتاب الروح: الأولى: في حقيقة الروح والنفس، وفي أنهما واحد أم شيئان متغايران، وفي أن النفس واحدة أم ثلاث؟

(المقدمة/73)


- جمع المسائل (19، 20، 21) في مسألة واحدة. وقد سبقه إلى ذلك ابن القيم كما رأينا في عنوان المسألة (19)، ولكنه لما توسع فيها أفرد المسألتين الأخريين. الثانية: أهي قديمة أم محدثة، وبعد إثبات حدوثها، أفتقدم خلقها على خلق الجسد أو تأخر عنه؟ - جمع فيها المسألتين (17، 18). الثالثة: ما حالها؟ أتموت أم الموت للبدن وحده؟ - وهي المسألة (4) في الأصل. الرابعة: في أنها هل تعاد إلى الميت ومتى تعاد؟ - وهي المسألة (6) في الأصل. الخامسة: في مستقر الأرواح ما بين الموت والقيامة ومتى تزار القبور؟ - وهي المسألة (15) في الأصل. السادسة: في أنها هل لها إدراك بعد الموت أم لا؟ وفيه ثلاثة أمور ... - جمع فيها المسائل الثلاث الأوَل وهي معرفة الأموات بزيارة الأحياء وسلامهم، وتلاقي أرواح الموتى، وتلاقي أرواح الأحياء والأموات. السابعة: بأي شيء تتمايز الأرواح بعد مفارقة الأشباح حتى تتعارف؟ وهل تتشكل بأشكال أبدانها أو لا؟ - وهي المسألة (5) في الأصل.

(المقدمة/74)


الثامنة: في فتنة القبر بالسؤال، وفيه ثلاثة أمور: الأول: أيخص ذلك هذه الأمة أم يعم جميع الأمم؟ الثاني: هل يعم مكلفي هذه الأمة وغير مكلفيهم أو لا؟ الثالث: أيعم المسلمين والكفار أم يخص المؤمنين والمنافقين؟ - جمع فيها المسائل (11، 12، 13) مع تقديم (12) على (11). التاسعة: هل تنتفع أرواح الموتى بشيء من سعي الأحياء أو لا؟ - وهي المسألة (16) في الأصل. العاشرة: في عذاب القبر ونعيمه، وما محله، أهو النفس أم البدن أم هما؟ وهل ذكر في القرآن؟ وفي أنه دائم أم منقطع؟ وما يوقع فيه وما ينجي منه؟ - جمع فيها خمس مسائل وهي: الملحقة بالمسألة السادسة ثم (7، 8، 9، 10). ولا شك أن البقاعي كان موفقًا في ترتيب الكتاب على هذا الوجه، فهو ترتيب منطقي متدرج. وتلخيصه أيضًا جيد في الجملة، ولكن لا يغني عن الأصل. وكتاب سرّ الروح مطبوع، وقد صدرت طبعته الأولى في القاهرة سنة 1326 على نفقة محمد أمين الخانجي. 2) "الفتوح في حقيقة الروح" لشمس الدين ابن طولون (ت 953). ذكره في الفلك المشحون (ص 42)، وقال: "لخصته من كتاب الروح لابن القيم مع تتمات". ونسخة الظاهرية التي هي أقدم نسخ كتاب الروح كانت في ملك ابن طولون، كما سيأتي.

(المقدمة/75)


3) "مختصر كتاب الروح" لإسماعيل بن محمد بن ركين. نسخة منه في المكتبة الأزهرية برقم 302737 في 8 ورقات. وصورتها بين يديّ. بداية النسخة: "قال سيدنا ومولانا الشيخ إسماعيل بن محمد بن ركين عفا الله عنه وعن المسلمين: هذا مختصر من كتاب الروح للشيخ الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى مشتمل على جميع مقاصد الكتاب المذكور، والحمد لله وحده على نعمه، وإرساله المزيد من فضله وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تبرئ القلب من سقمه ... وبعد، فهذه كراسة مختصرة من كتاب الروح لشيخ الإسلام ابن قيم الجوزية قدس الله روحه ونور ضريحه احتوت على مقاصد الكتاب أعريته عن الدليل ليقرب التناول. منها: هل تعرف الأموات بزيارة الأحياء وسلامهم عليهم؟ فجوابه ... ". لم أقف على ترجمة لإسماعيل بن محمد بن ركين، ولكن نسخة من هذا المختصر نفسه محفوظة في دار الكتب الظاهرية برقم 6196 (ق 1 - 6) وذكر في فهرس مخطوطات التصوف (2/ 639) أن ناسخها المؤلف محمد الأزهري. وقال مفهرسها الشيخ رياض المالح إن المؤلف لعله: شمس الدين محمد بن محمد بن علي الحسباني الغماري المدني المالكي المعروف بالأزهري المتوفى سنة 962. وقد ذكر في فهرس دار الكتب المصرية (1/ 206) "مختصر كتاب الروح" لبعض الفضلاء برقم 59 مجاميع، ولعله نسخة أخرى من مختصر ابن ركين. وفي مكتبة ندوة العلماء في لكنؤو (الهند) نسخة من "مقاصد الروح"

(المقدمة/76)


لمؤلف مجهول برقم 936 (16 ص) كما في فهرست مخطوطاتها (378) وهي أيضًا نسخة من مختصر ابن ركين، والعنوان مأخوذ من قوله في المقدمة: "احتوت على مقاصد الكتاب". 4) "قاعدة مختصرة من كتاب الروح" اختصار الشيخ إسماعيل بن محمد بن بردس. فرغ منه في 15 جمادى الأولى سنة 979. نسخة منه بخط المؤلف مذكورة في فهرست الكتبخانة الخديوية (6/ 167). إسماعيل بن محمد بن بردس البعلي توفي سنة 766، وابنه محمد بن إسماعيل سنة 830، انظر الأعلام (1/ 324)، و (6/ 37) فلا يمكن أن يكون أحدهما صاحب هذا الاختصار الذي فرغ منه سنة 979. 5) "نفحة الأرواح وتحفة الأفراح" لعبد الوهاب بن عبد الوهاب بن عبد الله الشافعي. ضمن مجموع في مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض برقم 954 (77 - 120) انظر: الأثبات في مخطوطات الأئمة (ص 264). 6) "أسرار الأرواح" نسخة من هذا المختصر محفوظة في مكتبة غازي خسرو في يوغوسلافيا برقم 3429. وصورة منها في مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي برقم 325. وهي في 30 ورقة. وفي آخرها: " ... تمت الرسالة في أسرار الأرواح بعون الله تعالى وحسن توفيقه على يد أضعف عباد الله تعالى وأحقرهم يوسف حفظه الله تعالى من جميع التأسف وغفر الله له ... ".

(المقدمة/77)


وتاريخ نسخها 27 جمادى الآخرة سنة 1007. 7) وقد اختار العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (ت 1386) رحمه الله مباحث من الكتاب، ولخَّص كثيرًا من الفروق وعلَّق على بعضها، في مجموع (ق 234 - 247) بخطه محفوظ في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم 4656. أفادني بذلك أخي الشيخ علي العمران، وأرسل إلي التعليق المذكور بعد ما انتهى صف الكتاب، فرأيت إثباته هنا للفائدة. - تكلم ابن القيم في (ص 699) على الفرق بين الجزع والرقة، فعلَّق عليه الشيخ المعلمي بقوله: "أقول: لم يوضح الفرق. والذي يظهر أن الفرق إنما هو اتباع رضوان الله. ورضوان الله هو في الرقة والرحمة دائمًا، إلا أن تؤدي إلى ترك ما أمر به أو فعل ما نهى عنه" (ق 245). - وفي (ص 702) تكلم ابن القيم على الفرق بين الحقد والموجدة، فعلَّق الشيخ: "أقول: الموجدة ما يمكن أن يزيله العتاب والاعتذار والصلح. والحقد بخلاف ذلك، ولاسيما إذا كان مع إظهار عدم التأثر. وأشد منه إذا كان بعد إظهار العفو والرضا. وأشد منه إذا كان أشد مما تقتضيه الإساءة، بحيث يحمل صاحبه على عقوبة أعظم من الفعل" (ق 246). 8) "مختصر لمسائل كتاب الروح" وقفت على نسخة إلكترونية منه، وهو من إعداد الشيخ سليمان بن صالح الخراشي.

(المقدمة/78)


ثانيًا: ترجمة الكتاب ترجم الشيخ راغب رحماني كتاب الروح إلى اللغة الأردية. وقد صدرت طبعتها العاشرة سنة 1982 في كراشي بباكستان، والناشر: "نفيس أكادمي".

(المقدمة/79)


الطبعات السابقة أول طبعة لكتاب الروح صدرت عن دائرة المعارف النظامية بحيدراباد الدكن سنة 1318= 1900 م في 448 صفحة، وتلتها طبعات أخرى، والتي بين يدي صورة من الطبعة الثانية التي صدرت عن الدائرة سنة 1324= 1906 م، ولم أجد فيها اسم المصحح ولا إشارة إلى النسخة الخطية التي اعتمد عليها في تصحيح الكتاب. أما البلاد العربية فقد طبع فيها كتاب الروح بعد صدور الطبعة الهندية بثمان وخمسين سنة. وقامت بطبعه مكتبة محمد علي صبيح بالقاهرة سنة 1376= 1957 م، وعدد صفحاتها 280 صفحة. ثم طبع الكتاب مرارًا في القاهرة وبيروت ودمشق والرياض، وجلُّها صادرة عن الطبعة الهندية دون الرجوع إلى النسخ الخطية. أما النشرات التي اعتمد فيها على النسخ الخطية، فقد وقفت منها على نشرتين: إحداهما: نشرة الدكتور بسام علي سلامة العموش. وأصلها رسالة علمية نال بها شهادة الدكتوراة من كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سنة 1404. وقد طبعتها دار ابن تيمية للنشر والتوزيع والإعلام بالرياض سنة 1406 في جزئين. وقد اعتمد فيها على ثلاث نسخ: 1 - نسخة محفوظة في الظاهرية، وذكر الباحث أنها كتبت في محرم 1199 هـ، وهو خطأ. فهذا التاريخ المكتوب على صفحة العنوان لوقفها على الخانقاه السميصاتية. والنسخة غير مؤرخة.

(المقدمة/80)


2 - نسخة أخرى من الظاهرية مكتوبة سنة 856. 3 - نسخة تركية من جامعة إستانبول في 87 ورقة، لم يذكر تاريخ نسخها. لم تحظ هذه النشرة بحسن الإخراج، غير أنها كانت الخطوة الأولى في سبيل تحقيق كتاب الروح. وقد مضى عليها الآن نحو خمس وعشرين سنة، وقد طبعت في هذه المدة كتب كثيرة من التراث المخطوط، وظهرت وسائل للبحث والتفتيش لم تكن مهيأة للباحثين في ذلك الزمن، ثم أدوات تحقيق النص لا يملكها كل دارس ولاسيَّما إذا كان حديث عهد بهذا الفن، ولذلك أرى الطالب الذي يقدم على تحقيق كتاب في رسالة علمية خليقًا بأن يشكر ويعذر. ومن ثم لست بصدد نقد هذه النشرة، غير أني أذكر هنا ثلاثة نماذج فحسب من الأغلاط الواضحة التي وقع فيها الباحث في تحقيق المسألة الأولى، ولها فيها نظائر أخرى. 1 - نقل ابن القيم في بداية المسألة الأولى أحاديث وآثارًا من كتاب القبور لابن أبي الدنيا بأسانيدها، وأولها: "حدثنا محمد بن عون، حدثنا يحيى بن يمان، عن عبد الله بن سمعان ... " (ص 169) فترجم المحقق لابن أبي الدنيا وذكر أنه ولد في 208 هـ وتوفي 281 هـ، ثم ترجم لمحمد بن عون نقلا عن تهذيب التهذيب (9/ 384): "محمد بن عون أبو عبد الله الخراساني، قال ابن معين وأبو داود: ليس بشيء ... مات 140 - 150 هـ". ثم ترجم ليحيى بن يمان وبقية رجال الإسناد. ولم يسأل نفسه: كيف يروي ابن أبي الدنيا المولود في 208 هـ عن محمد بن عون الخراساني المتوفى سنة 140 أو 150 هـ؟

(المقدمة/81)


قلت: شيخ ابن أبي الدنيا: أبو عون محمد بن عون الزيادي. 2 - وخبر آخر نقله ابن القيم من كتاب ابن أبي الدنيا بسنده: "حدثني محمد بن عبد العزيز بن سليمان، حدثنا بشر بن منصور قال ... " (ص 175). فترجم المحقق في حاشيته لمحمد بن عبد العزيز نقلًا عن أعلام الزركلي (6/ 208): "محمد بن عبد العزيز بن أبي القاسم عبد الرحمن بن عمر بن سليمان الشريف الهاشمي الإدريسي المصري مؤرخ حافظ للحديث ولد في صعيد مصر 568 هـ وتوفي 649 هـ تصدر للتدريس بالعمرية في القاهرة". أولًا: سقط هنا من أول السند: "حدثني محمد"، وهو محمد بن الحسين البرجلاني شيخ ابن أبي الدنيا. ثانيا: هل يعقل أن يروي ابن أبي الدنيا المولود في 208 هـ، أو شيخه البرجلاني المولود قبله عن محمد بن عبد العزيز الهاشمي المولود في 568 هـ؟ قلت: المقصود هنا: محمد بن عبد العزيز بن سلمان (لا سليمان) العابد. 3 - وفي خبر آخر من كتاب القبور سنده: " ... سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي أن ابن شاس خرج في جنازة ... ". كذا أثبت "ابن شاس"، وذكر في الحاشية أن في (ظ 1): "ابن ميناس". ثم ترجم لابن شاس من الأعلام (4/ 124) فقال: "عبد الله بن محمد بن نجيم بن شاس بن نزار الجذامي السعدي المصري جلال الدين أبو محمد شيخ المالكية في عصره. توفي 616 هـ). (ص 179).

(المقدمة/82)


وفي الحاشية التي قبلها ترجم لأبي عثمان النهدي نقلًا عن تهذيب التهذيب (6/ 277) وذكر أنه مات سنة 95 هـ. وذهب عليه أن أبا عثمان النهدي الذي ذكر قبل سطرين أنه توفي سنة 95 هـ كيف يدرك الجذامي المتوفى سنة 616 هـ، أي بعد وفاة النهدي بأكثر من خمسمائة سنة؟ أما النشرة الأخرى، فهي نشرة الأستاذ يوسف علي بديوي. وهي من مطبوعات دار ابن كثير في دمشق وبيروت. ولعلها صدرت لأول مرة سنة 1410، فهذا تاريخ مقدمة المحقق. وبين يدي طبعتها الخامسة التي ظهرت سنة 1422 في 636 صفحة. والنسخ المعتمدة فيها ثلاث أيضًا وهي: 1 - نسخةالظاهرية برقم 7125 المكتوبة سنة 856. 2 - نسخة الظاهرية برقم 3188 ذكر أنها من خطوط القرن العاشر. 3 - نسخة الظاهرية برقم 4508 المكتوبة سنة 774. وذكر المحقق أنه جعل النسخة الأخيرة أصلًا، واستعان بالنسختين الأوليين. وذكر في منهجه أنه عني بتخريج الأحاديث وبعض الآثار وشرح بعض الألفاظ، ووضع فهرسين، أحدهما للآيات والآخر للأحاديث. وتمتاز هذه النشرة إلى ما ذكره بحسن الإخراج وجمال الخط، ولكنها مثل تحقيقه لطريق الهجرتين وغيره ليست نشرة علمية، وإن كانت أفضل من الطبعات الأخرى التجارية.

(المقدمة/83)


وثمة نشرة ثالثة بتحقيق عادل عبد المنعم أبو العباس صدرت من مكتبة القرآن بالقاهرة، وقد أثبت في أولها صورة للصفحتين الأولى والأخيرة من مخطوطة نسخها عمر بن موسى بن أحمد الصفدي الحنبلي عام 800. وليس في هذه النشرة من التحقيق إلا هذه الصورة!

(المقدمة/84)


النسخ الخطية المعتمدة لكتاب الروح نسخ خطية كثيرة متفرقة في خزائن الكتب في الشرق والغرب، ويبلغ عددها نحو أربعين نسخة كاملة وناقصة، مؤرخة وغير مؤرخة. ولقد وددت لو تهيأ لي الاطلاع على النسخ الجيدة منها ثم اختيار أجودها للاعتماد عليها في إعداد هذه النشرة، ولكن "ما كل ما يتمنى المرء يدركه". فحرصت على الحصول على أقدم نسخ الكتاب، ثم على نسخ تكون منقولة من أصول مختلفة؛ ليمكن الوصول إلى نص أقرب إلى الصحة. وهاك وصفها: 1) نسخة الظاهرية (الأصل/ أ). رقمها في دار الكتب الظاهرية 5408، وهي مكتوبة بخط النسخ، في 178 ورقة، وفي كل صفحة 21 سطرًا، وقد فرغ من نسخها أحمد بن محمد بن أحمد البعلي المسيري الحنبلي في 8 جمادى الأولى سنة 774 كما جاء في خاتمة النسخة. لم أجد ترجمة الناسخ، وكلمة "المسيري" قرأها مفهرس مخطوطات التصوف في دار الكتب الظاهرية الأستاذ رياض المالح رحمه الله: "السري"، ولكن في الكلمة كما رسمها الناسخ بعد اللام ميمًا وسنَّين زائدتين على أسنان السين. فالصواب إن شاء الله ما أثبت، وهي نسبة إلى "مسير" قرية بالغربية من مصر (1). _________ (1) انظر: تاج العروس (سير 12/ 123).

(المقدمة/85)


هذه أقدم نسخ الكتاب، وأقربها من عهد المؤلف، وأدناها إلى الصحة في الجملة. في صفحة العنوان كتب اسم الكتاب: "كتاب الروح والنفس"، ويبدو لي أولًا أنه ليس بخط كاتب النسخة، وثانيًا: كلمة "والنفس" التي كتبت مائلة زيادة من غير كاتب العنوان. وهي خطأ نبه عليه بعض قراء النسخة بقوله: "قلت: الصواب ترك (والنفس) ... " إلخ كما سبق في فصل عنوان الكتاب. وتحت العنوان: "ويشتمل على أحدٍ (كذا) وعشرين مسألة". وتحتها: "تأليف الشيخ الإمام العلم العلامة الحجة البارع بقية السلف الكرام أحد الأئمة الأعلام حامل راية التفسير والعلم الشهير بترجمان القرآن وسابق الأقران أبي عبد الله شمس الدين محمد بن الشيخ الصالح أبي بكر بن أيوب الحنبلي المعروف بابن قيم الجوزية قدس الله روحه ونور ضريحه وجعل أبواب الجنان بين يديه مفتوحة. آمين يا رب العالمين". وتحت العبارة السابقة ختم دار الكتب الظاهرية الأهلية بدمشق. وفي الصفحة قيد مطالعة نصه: "طالع فيه الفقير محمد بن السيد صالح الكيلاني الشافعي عفي عنه"، وثلاثة قيود تملك: 1 - "من كتب محمد بن طولون"، وهو شمس الدين محمد بن علي بن طولون الدمشقي الصالحي الحنفي المتوفى سنة 953. وقد سبق أن ابن طولون اختصر كتاب الروح مع تتمات في كتابه سمَّاه "الفتوح في حقيقة الروح". ولعله اعتمد في اختصاره على نسخته هذه. 2 - "تملكته بالشراء من تركة المرحوم الشيخ محمد البيطار أمين الفتوى في دمشق الشام في 1313. الفقير محمد أبو السعود الشهير بالحسيبي الحسني الحسيني عفا الله عنه آمين".

(المقدمة/86)


الشيخ محمد بن حسن البيطار توفي سنة 1312. وأما الشيخ محمد أبو السعود فكان نقيب الأشراف في دمشق، وتوفي سنة 1341. 3 - "ملكه من صدقات الله تعالى العبد الفقير إلى عفو ربه القدير المعترف بالذنب والتقصير محمد بن النوعي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين ولمن نظر فيه ودعا له بالمغفرة ولجميع المسلمين". بداية النسخة بعد البسملة: "الحمد لله العلي العظيم ... أما بعد، فهذا كتاب مشتمل على إحدى وعشرين مسألة في الروح وما يتعلق بها. أما المسألة الأولى ... ". من يقرأ هذه البداية يظن أن خطبة الكتاب للمؤلف، ولكن الظاهر أنها من عمل بعض النساخ، وهي خطبة ملفقة، أخذت من خطبة كتاب تحفة المودود وغيره. والنسخة قوبلت على أصلها. يدل على ذلك بلاغات المقابلة والتصحيحات الكثيرة في الحواشي والدوائر المنقوطة. وفي بعض المواضع كتب الناسخ في الحاشية "كذا" إذ رسم الكلمة كما وجدها في الأصل (ق 141/ب). وإن تشوهت في الكتاب كتبها في الحاشية مجودة، وفوقها "بيان" كما في (ق 80/ب) وانظر بيانًا آخر في (ق 84/أ). وفي النسخة اقتراحات وتصحيحات بخط بعض القراء. منها أنه جاء في المتن: "يا صاحب القبر الغريب هدية من أخ عليك شفيق". فوضع إشارة بعد "الغريب" وعلق في الحاشية: "لعله هذه" (ق 85/أ) يعني: هذه هدية. وفي الصفحة نفسها: "إي والله يترفون مثل النور". كذا ورد "يترفون"، فقال هذا المحشي: "لعله يترفرف". وقد أصاب.

(المقدمة/87)


وجاء في (ق 70/ب): " ... ألست بربكم أن لا تقولوا إنا كنا عن هذا غافلين" فضرب على "لا" إذ ظن أن المقصود لفظ الآية، وليس كذلك. وفي (ق 86/أ): "ولو خرج أهل الكبائر من الموحدين من النار منها". وضع علامة قبل "منها" وكتب: "لعله: لخرج المشركون". وهو صحيح. وقد سقطت في مواضع من النسخة كلمة أو جملة أو سطر، وفيها أخطاء وتصحيفات، وفي موضع بياض بقدر كلمتين، ولكنها مع ذلك أصح النسخ. 2) نسخة آشتيان (ب) هذه النسخة محفوظة برقم 8 في مكتبة الحوزة العلمية بمدينة آشتيان في شمال إيران، وصورتها الرقمية في مجمع الذخائر الإسلامية الإيرانية. خطها نسخي جميل، وهي في 231 ورقة، وفي كل صفحة 17 سطرًا. وكلمة "فصل" كتبت بالحمرة. وقد فرغ من نسخها أحمد بن عمر بن محمد بن متمم نهار الأحد تاسع شهر ذي القعدة سنة 780 كما ورد في خاتمة النسخة. وقوبلت على أصلها. ضاعت منها الورقة الأولى التي تضمنت اسم الكتاب والمؤلف وخطبته، فأضيفت مكانها ورقة كتبت فيها خطبة الكتاب، فبقيت الصفحة الثانية فارغة، فكتب فيها فهرس المسائل. وكثير من أوراقها قد أصابتها الرطوبة. بدايتها بعد "بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي": "قال الشيخ الإمام العالم العلامة الحجة البارع بقية السلف الكرام الأئمة الأعلام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية رحمه الله: الحمد الله العلي العظيم ... ".

(المقدمة/88)


وفوقها في أعلى الصفحة صورةُ وقفيةٍ باللغة الفارسية تفيد أن هذه النسخة مما وقفه الشيخ زين العابدين، وهو جدُّ الدكتور غلام رضا دانش الآشتياني الذي قتل في انفجار المكتب المركزي للحزب الجمهوري الإسلامي سنة 1981، واسم الدكتور مذكور في الوقفية. وفي حواشي الأوراق (131/أ- 136/ب) نسخة كاملة من الأربعين النووية بخط سيف بن عمر كما في آخرها. ولعل هذا الناسخ هو الذي قرأ هذه النسخة، ونبَّه في حواشيها على أهمية بعض المسائل كقوله في (55/أ) "مسألة جليلة القدر" يعني المسألة السابعة. و"قف على فائدة هذا الفصل" (87/ب)، و"قف على قوله: (في السماء التي فيها الله) " (95/أ)، و"قف على هذا الفصل في إهداء الثواب للميت" (121/ب). لم أقف على ترجمة كاتب النسخة ولا كاتب الأربعين النووية. 3) نسخة قليج علي باشا (ق) صورة منها في مركز الملك فيصل برقم 1 - 2499 - ف. والأصل محفوظ في مكتبة مدرسة قليج علي باشا في تركيا برقم 566. وقد وقفه عليها دباغ زاده الحاج إبراهيم أفندي. عدد أوراق النسخة حسب الترقيم الوارد فيها 295 ورقة، والصواب أنها في 201 ورقة، وذلك أن الذي رقَّمها أخطأ، فترك أولًا ترقيم الورقة الأولى، ثم كرر ترقيم الورقات 19 و 83 و 96، ورقّم الورقة الرابعة والتسعين بالثالثة والثمانين، والخامسة والتسعين بالرابعة والتسعين، ولما وصل إلى ق 122 زاد مائة، فكتب 222 واستمر على ذلك!

(المقدمة/89)


وفي كل ورقة 17 سطرًا. وخطُّها نسخي جميل مضبوط في مواضع كثيرة. وقد فرغ من نسخها محمد بن طُنبُغا الحنفي في سلخ شهر رمضان سنة 822. والنسخة مقابلة على أصلها، يدل على ذلك بلاغات المقابلة. وقد أخذ في مقابلتها على نسخة أخرى أيضًا، ولكن لم يظهر أثرها إلا في الورقات الثلاث الأولى. ومن عناية الكاتب بنسخته أنه يكتب بداية كل حديث أو خبر أو دليل جديد بحرف كبير، كما يقسم النص على فقرات. ويهتم بالضبط أيضًا. ونجد في حواشي النسخة تنويهًا ببعض المطالب فكتب مثلًا في (98/أ): "مطلب حسن". وفي (99/أ): "تحقيق حسن". وفي (102/ب) في بداية "فصل: وأما قولكم إن التكاليف امتحان وابتلاء ... " كتب تحت كلمة "مطلب": "تتبّع هذا الفصل إلى آخره فإنه نافع حسن وإحسان (كذا) والله الموفق والهادي". وهي بخط بعض قراء النسخة. في صفحة العنوان كتب اسم الكتاب وتحته اسم المؤلف هكذا: "كتاب الروح للشيخ الإمام صاحب الأخلاق الملكية والصفات القدسية أبي عبد الله محمد بن قيم الجوزية عفي عنهما آمين". وفوقها قيد تملُّك نصه: "استصحبه الفقير إليه عز شأنه دباغ زاده الحاج إبراهيم ... ". وتحته ختم وقف النسخة على مدرسة قليج علي. وعن يمين القيد المذكور قيد آخر: "من كتب العبد الفقير إليه تعالى علي القاضي بالقدس الشريف سابقًا".

(المقدمة/90)


وعن يساره قيد لم يظهر سطره الأول في التصوير. والمقروء منه: "العبد الفقير حسن بن محمد الصدفي غفر لهم". وتحت اسم مؤلف الكتاب نقل بعضهم نصًّا من تذكرة القرطبي. وفي الركن الأيسر في أسفل الصفحة قيد تملك آخر مؤرخ في شهر صفر 982 كتبه أحمد بن محمد. بداية النسخة بعد البسملة و"رب يسِّر": "الحمد لله المتصف بصفات الكمال ... " وهي خطبة طويلة أنشأها بعض الفضلاء، وقد وردت أيضًا في نسخة الظاهرية المكتوبة سنة 856، وفي النسخة التي طبعت عنها الطبعة الهندية. ذكر الشيخ محمد رياض المالح رحمه الله في حاشية فهرسه لمخطوطات الظاهرية ــ التصوف (1/ 745): "هذه الخطبة من مختصره للبرهان البقاعي كما جاء في مقدمة المطبوعة". يعني طبعة محمد علي صبيح. وقال الأستاذ يوسف علي بديوي في نشرته (ص 52): "وفي النسخة (أ) ثمة مقدمة بقلم برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي (ت 885) كتبها لكتابه "سر الروح" الذي اختصره من كتاب الروح لابن القيم، ثم اشتهرت على أنها لابن القيم. يقول البقاعي: أما بعد، فهذا كتاب عظيم النفع ... بهذه الخطبة المباركة". وهذا كلام متهافت عجيب. أولًا: متى اشتهر أن هذه الخطبة لابن القيم؟ ومن زعم هذا؟ وكيف

(المقدمة/91)


يشتهر ذلك، وكاتب الخطبة نفسه يقول فيها: إنه رأى الكتاب مجرّدًا عن خطبة وسؤال، فأحبَّ أن يفتتحه بهذه الخطبة؟ ثانيًا: كتاب سر الروح مطبوع، وقد طبعه محمد أمين الخانجي في القاهرة سنة 1326 بتصحيح محمد بدر الدين النعساني الحلبي. وليس فيه هذه الخطبة. بل أوله: "الحمد لله جاعل الروح من أمره أبدعها أحسن إبداع، وأودعها خفي السر فدلت بجلالتها على عظيم سلطانه وقدره، وجلّت بدقتها أن يدركها عقل في سرِّه أو جهره ... ". وهي خطبة قصيرة. ثالثًا: ألَّف البقاعي سر الروح سنة 853 كما ذكر في آخر الكتاب، ونسختنا التي تحمل هذه الخطبة قد كتبت سنة 822 أي قبل تأليف سر الروح بإحدى وثلاثين سنة! * نص خطبة الكتاب الواردة في هذه النسخة: "الحمد لله المتصف بصفات الكمال، المنعوت بنعوت الجلال، الذي علم ما كان وما يكون وما هو كائن في الحال والمآل، وحكم بالموت على كل ذي روح من مخلوقاته، وساوى فيه بين الملك والمملوك، والغني والفقير، والشريف والضعيف، والعاصي والمطيع من سكان أرضه وسماواته، فهو أول عدل الآخرة بين برياته. قبض روحَ هذا بعد ما عمر الدنيا، وزَخرَف البناءَ، وتوطَّنها، وليست لحيّ وطنا. وقبض روح الآخر الذي اجتهد في إصلاح آخرته، وجعل الدنيا لجَّةً، واتخذ صالح الأعمال فيها سُفُنا. فشتان ما بين خروج الروحين من الجسدين! هذه لها السعادة والهنا، وتلك لها الخيبة والشقاوة والعنا. هذه

(المقدمة/92)


ترتع في رياض الجنة، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش في لذة ونعيم، وتلك محبوسة تُعذَّب في نار الجحيم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهٌ تحبب إلى عباده بنعمه وآلائه، وابتدأهم سبحانه وتعالى بإحسانه العميم وعطائه، فعياذًا بعزته جل جلاله أن يختم بالإساءة وقد بدأَنا بالإحسان، فله سبحانه الحمد والشكر والنعمة والفضل والخلق والأمر والثناء الحسن الجميل والامتنان. وأشهد أن محمدًا صلوات الله وسلامه عليه عبده ورسوله الطيب الروح والجسد، سيد ولد آدم وأفضل من قام وركع وسجد، الذي أنزل عليه في كتابه العزيز ومن أصدق من الله قيلًا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، وعلى آله وصحبه خير القرون الذين اهتدوا وما بدَّلوا تبديلا، صلاة دائمة بدوام السموات والأرض، إلى أن يرث الله سبحانه وتعالى الأرض ومن عليها للحساب والعرض، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. وبعد، فهذا كتاب عظيم النفع، جليل القدر، كثير الفائدة، ما صُنِّف مثلُه في معناه، فلا تكاد تجد ما تضمنه من بدائع الفوائد وفرائد القلائد في كتاب سواه. ويشتمل على جملة من المسائل تتضمن الكلام على أرواح الأموات والأحياء بالدلائل من الكتاب والسنة والآثار وأقوال العلماء الأخيار، لا أدري أسئل مصنفه قدَّس الله روحه عنها فأجاب، أم سئل عن البعض ولكن هو أطال الخطاب؟ فإني رأيته مجردًا عن خطبة وسؤال أصلًا، مبتدأ فيه بقوله: "أما المسألة الأولى هل تعرف الأموات زيارة الأحياء أم لا؟ ".

(المقدمة/93)


فأحببت بعد استخارة الله سبحانه وتعالى أن أفتتحه بهذه الخطبة المباركة العظيمة، لكونه كتابًا في ضمن مسائله التي تتأملها وتشاهدها كلُّ درَّة يتيمة، لينشرح صدر الناظر فيه، ولتقوى همته على النظر في بدائع فوائده ودقائق معانيه. والله سبحانه وتعالى المسؤول المرجوُّ الإجابة أن يعصمنا من الزيغ والزلل، وأن يوفقنا لصالح النية والقول والعمل، وأن يرفع درجات مؤلفه في جنات النعيم، وأن ينفع به الناظر فيه، إنه سميع عليم، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل". 4) نسخة الشيخ أبا بطين رحمه الله (ط) هي محفوظة في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض برقم 12370. وهي بخط نسخ واضح، وفي 188 ورقة، وفي كل صفحة 17 سطرًا. أما الترقيم الوارد في النسخة، فهو خطأ، إذ قفز العادُّ من 34 إلى 44 فبلغ عدد أوراق النسخة 198 ورقة. ناسخها محمد بن مصطفى الحنفي المقدسي، وقد فرغ من كتابتها ليلة الثلاثاء، الحادي عشر من شهر ذي القعدة سنة 881. في صفحة العنوان تحت عنوان الكتاب كتب اسم المؤلف مع هذه الألقاب: "الشيخ الإمام العالم العامل العلامة الحافظ ناصر السنة ... " ولكن أخطأ في اسم جدّه "سعد" فكتب "سعيد". والخطأ نفسه وارد في آخر النسخة أيضًا. وعن يساره أرخ بعضهم وفاة ابن القيم مع ذكر مدفنه.

(المقدمة/94)


وفي أسفل الصفحة قيدُ تملُّك نصه: "دخل في نوبة فقير رحمة ربه العلي محمد بن عوض السفاريني الحنبلي مذهبًا، الخلوتي طريقةً، التيمي اعتقادًا، في شهر ربيع الأول في اليوم الثالث عشر خلت (كذا) منه سنة 1151 بثمن قدره أربع زلط ونصف". وفوق القيد وتحته ختم كاتبه. لم أجد ترجمة السفاريني المذكور، وكذا قرأت "التيمي"، والظاهر أنه يقصد عقيدة شيخ الإسلام ابن تيمية. و"زُلُط" جمع زلطة، وهي عملة تركية كانت متداولة على الغالب في فلسطين (1). وفي وسط الصفحة ختم كبير لم يظهر منه شيء، وفي أعلاها: "وقف الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله تعالى". والشيخ رحمه الله (1194 - 1282) من أجلة علماء نجد ومفتيها في عهده كما سبق. وقد علق في ثلاثة مواضع من النسخة. (7/أ، 26/ب، 30/ب-31/أ). وقد أكد بعض من قرأها بأنها بخط الشيخ، فقال في آخر الحاشية الثالثة: "هذا الهامش بقلم الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله أعرفه يقينًا، حتى لا يخفى". ونحوه في الحاشيتين الأخريين. وفي الأولى سماه "شيخ مشايخنا". وفي (ق 36/ب) حاشية نقل فيها تفسير كلمة "مشعوف" من النهاية لابن الأثير في آخرها كتب القارئ نفسه: "بقلم الشيخ علي بن عيسى رحمه الله". وهو الشيخ علي بن عبد الله ابن عيسى مفتي الوشم (1249 - 1331) (2) _________ (1) معجم الألفاظ التاريخية في العصر المملوكي، للأستاذ محمد أحمد دهمان (ص 87). (2) انظر ترجمته في علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/ 223 - 228).

(المقدمة/95)


من تلامذة الشيخ أبا بطين رحمهما الله. وفي الحاشية العليا من (ق 30/ب) تعليق يتضمن قول القرطبي من تذكرته في تأويل قوله ^: "حتى ينتهي إلى السماء التي فيها الله تعالى" إن المعنى: أمر الله وحكمته إلخ. وصاحب هذا التعليق هو الذي أرخ وفاة ابن القيم في صفحة العنوان. فعقب بعضهم عليه بقوله: "هذه الحاشية على رأي متأخري الأشاعرة لا على رأي السلف". وتحته حاشية طويلة للشيخ أبا بطين ملأت الحاشيتين اليمنى والسفلى من هذه الصفحة، والحاشيتين السفلى واليسرى من الصفحة التالية، وهي في الرد على من حرَّف في الحديث الوارد في المتن، فكتب "إلى السماء التي يسمع فيها الخطاب". وهو غير من نقل في تعليقه قول القرطبي. والنسخة مقابلة على أصلها. وبعض الفروق المذكورة في الحواشي تدل على أنها قوبلت في مواضع على نسخة أخرى أيضًا. وناسخها أيضًا اهتم بكتابة أول الحديث والخبر ونحوه بحرف كبير أو يضع فوقه خطًّا ممدودًا. بداية النسخة بعد البسملة: "رب يسر برحمتك. الحمد لله العلي العظيم ... وبركاته. المسألة الأولى معرفة الميت ... وسلامه عليه. ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ما من مسلم ... " فهي تتفق في الخطبة مع (أ، ب). في آخر النسخة بعد خاتمة النسخ نقل طويل بعنوان "ذكر شيء من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية ومولده ووفاته تغمده الله برحمته" من كتاب الرد الوافر لابن ناصر الدين.

(المقدمة/96)


5) نسخة مكتبة الأوقاف ببغداد (غ) رقمها في المكتبة 7069، وكانت موقوفة على المدرسة النعمانية. وهي بخط نسخي واضح في 108 ورقة، وفي كل صفحة 25 سطرًا. تم نسخها بعيد الفطر يوم الاثنين السادس والعشرين من شهر جمادى الآخرة سنة 1117، كما في خاتمة النسخة. وكتب الناسخ فيها اسمه هكذا "أحمد بن شيخ درويش الدوري بلدًا والبغدادي مسكنًا خطيب الشيخ معروف عليه الرحمة". لم يكتب اسم الكتاب في أولها، وإنما بدأت النسخة بعد البسملة وما إليها بقوله: "قال الشيخ الإمام العلامة الحجة البارع بقية السلف الكرام أحد الأئمة الأعلام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: الحمد لله العلي ... ". وبجانب هذه العبارة ختم المدرسة النعمانية، ويوجد الختم في الصفحة التالية وفي آخر الكتاب أيضًا. وفي النسخة قيد تملك واحد يفيد أنها وصلت إلى محمد أمين البرقاوي الوصي الحنبلي بدمشق الشام من تركة شيخه محمد سعدي السيوطي في غرة صفر الخير سنة 1258، وتحته ختمه. في موضع واحد رأيت كلمة "بلغ" مما يدل على أن النسخة قوبلت على الأصل. وبعض الفروق المذكورة في الحواشي مع حرف الخاء تدل على أنها قوبلت على نسخة أخرى أيضًا. بين نسخة الظاهرية (أ) وبين هذه النسخة توافق كبير، حتى خيل إلي في أول الأمر أن هذه منقولة من الأولى، ولكن ظهر فيما بعد ما يرد ذلك. فقد

(المقدمة/97)


وقع سقط في عدة مواضع من نسخة الظاهرية من كلمة إلى سطر تقريبًا، ولكن لا سقط في هذه. انظر مثلًا نسخة الظاهرية، الأوراق (109/أ، 112/ب، 113/ب، 117/أ، 120). فذلك التوافق مع هذا الاختلاف يدل على أنهما منحدرتان من أصل واحد. 6) نسخة الحرم المكي الشريف (ج) هي محفوظة في مكتبة الحرم المكي الشريف برقم 2508/أ، عدد أوراقها 186 ورقة. وقد رقمت صفحاتها فبلغت 372 صفحة، وفي كل صفحة 21 سطرًا. وقد تمت كتابتها في شهر جمادى الأولى سنة 1123، كما في آخر النسخة. وذكر في الصفحة السابقة تاريخ الفراغ من أصلها. وهو الخامس من شوال سنة 788. ولكن لم يكتب ناسخ هذه النسخة اسمه ولا ناسخ أصلها. في وسط صفحة العنوان اسم الكتاب واسم المؤلف. وبالجانبين ختمان للشريف عبد المطلب بن الشريف غالب. أحدهما مؤرخ في سنة 1251. والشريف عبد المطلب بن غالب بن مساعد الحسني من أمراء مكة، وقد توفي سنة 1303 (1). والختم الآخر الذي لم يظهر كاملًا يتضمن وقف الكتاب. وفي أسفل الصفحة نصٌّ فيه ذكر ثلاث درجات للعبادة عند الصوفية. وفي الحاشية اليسرى بيتان: كاف الكنوز وكاف الكيمياء معًا ... لا يوجدان فدع عن نفسك الطمعا _________ (1) انظر ترجمته في الأعلام للزركلي (4/ 154).

(المقدمة/98)


وقد تحدث أقوام باجتماعهما ... وما أظنهما كانا ولا اجتمعا كذا ورد صدر البيت الثاني غير موزون، ولعل الصواب "تحدَّث قوم". وفي الحاشية اليمنى من الصفحة التالية ختم آخر لخزانة كتب السلطان عبد المجيد. وقد صرح الناسخ في آخر النسخة بأنها قوبلت على أصلها، وبلاغات المقابلة والتصحيحات والاستدراكات تؤكد ذلك. ولكن قد رتبت المسائل فيها ورقمت على وجه غريب. فترقيم المسائل فيها هكذا: 1 - 4، 6، 7، 5، 6، 7، 7، 8، 10 - 16، 18، 18، 19. الذي يلاحظ مع اضطراب الترقيم أن "المسألة السابعة" تكررت ثلاث مرات، و"الثامنة عشرة" مرتين. أما ترتيب المسائل فهو على هذا الوجه: المسائل (1 - 4) مرتبة، وبعدها المسألتان (17، 18) برقم 6، 7. ثم المسائل (5 - 7) مرتبة. وبعدها المسألتان (8، 9) برقم 7، 8. ثم المسائل (10 - 16) مرتبة. وبعدها المسائل (19 - 21) برقم 18، 18، 19. النظر في هذا الترتيب يكشف أنه لا خطأ فيه إلا أن المسألتين (17، 18) وقعتا في غير مكانهما. ولعل ذلك راجع إلى اضطراب في أوراق الأصل المنقول منه. وهو أمر سهل ولكن الغريب هو الاضطراب والتكرار في ترقيم المسائل، وعدم التنبه والتنبيه عليه في أثناء النسخ والمقابلة.

(المقدمة/99)


والنسخة كاملة إلا أن سقطًا بمقدار ورقة قد وقع بين الصفحتين 163 و 164. وهي في نصها قريبة من نسخة آشتيان (ب) ولعلهما منحدرتان من أصل واحد. بدأت النسخة بعد البسملة والصلاة والتسليم بخطبة انفردت به هذه النسخة، وسيأتي نصُّها. وبعد الخطبة: "ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... " فلم يذكر "المسألة الأولى" ولا عنوانها. وقد انتهت بخاتمة طويلة. والخطبة والخاتمة كلتاهما منقولة من الأصل المنسوخ سنة 788. أما ناسخ هذه النسخة فقد أورد بعد خاتمة الأصل قصة امرأة علوية، ثم أثبت تاريخ الفراغ منها. وميزة هذه النسخة أنها قد انفردت بالصواب والتمام في موضع من المسألة التاسعة عشرة، فإن عبارة منها قد وردت في النسخ الأخرى كلها ناقصة أو مصحفة. * نص خطبة الكتاب الواردة في هذه النسخة الحمد لله مُعِزِّ من أطاعه واتقاه، ومُذِلِّ من خالف أمره وعصاه. الهادي إلى صراطه المستقيم من استهداه، والقريب ممن أمّل فضله ورجاه، والمجيب دعوةَ المضطرِّ إذا دعاه، والرقيب على ما أسرَّه العبد وأبداه، والكافي لمن توكل عليه فلا يكِلُه إلى غيره ولا يُحوِِجه إلى سواه. الحليم الذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه، يبارزه بالعظائم وهو يسوق إليه رزقه ولا ينساه. الكريم الذي يمينه ملأى، لا تَغيضها نفقة، سحَّاءُ الليل والنهار، فلا ينقص خزائنه على سعته عطاياه. الجواد الذي لا يخيب لديه من أنزل به

(المقدمة/100)


آماله وعلّق به رجاه. الغفور الذي يغفر لمن لا يشرك به، ولو ملأت قُرابَ الأرض خطاياه. الرحيم الذي هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها. التواب الذي يفرح بتوبة عبده أشدَّ من فرح الفاقد لراحلته عليها طعامه وشرابه إذا وجدها. السميع الذي يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، فلا يشغله سمع عن سمع، فلا تغلِّطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحِّين. البصير الذي يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء. يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن، يغفر ذنبًا، ويفرِّج كربًا، ويضع أقوامًا، ويرفع آخرين. أحمده، والذي يستحقه من الحمد فوق حمد الحامدين، فإنه ذو القوة المتين. وأستهديه سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله المرسلين ورب الأولين والآخرين. ذلكم الله ربكم فتبارك الله ربُّ العالمين. هو الحي الذي لا إله إلا هو، فادعوه مخلصين له الدين. الحمد لله رب العالمين. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين ورسوله المبين الذي بعثه رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين. فهدى به من الضلالة، وعلَّم به من الجهالة، وكثَّر به بعد القلة، وأعزَّ به بعد الذلة، وأقام به الملة العوجاء، وأبان به المحجة البيضاء، فلم يزل ^ مشمِّرًا في ذات الله لا يردُّه عنه رادّ، صادعًا بأمره لا يصدّه عنه صادّ، حتى طلع فجر الإيمان، وأشرقت شمس التوحيد والعرفان، وسارت دعوته مسيرةَ الشمس في الأقطار، وبلغ دينه ما بلغ الليل والنهار. فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين صلاة دائمة بدوام السموات والأرضين، وسلَّم وبارك".

(المقدمة/101)


7) نسخة مركز الملك فيصل (ن) هذه النسخة محفوظة في مكتبة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض، وكانت ضمن مجموع، ففصلت منه وأعطيت رقم 13494، كما ذكر المفهرس. وهي في 18 كراسة، ضاعت منها الكراسة الأولى، فذهبت صفحة العنوان والمسألة الأولى، وورقة من المسألة الثانية. وقد ذكر اسم الكتاب في بداية كل كراسة مع رقمها. والنسخة في وضعها الراهن في 165 ورقة، وفي كل صفحة 21 سطرًا، وكتبت بخط نسخي واضح، وقد فرغ من كتابتها محمد بن محمد بن بصاقة سنة 813. فهي النسخة الثالثة من النسخ التي بين أيدينا من حيث القدم. وقوبلت على أصلها كما يظهر من بلاغات المقابلة والدوائر المنقوطة. وفيها اهتمام بالضبط في الجملة. وقيمة هذه النسخة في انفرادها بأشياء منها: 1 - قراءات اجتهادية لا توجد في غيرها، وستجد المهم منها في الحواشي. 2 - المسألة الملحقة بالسادسة سميت فيها "المسألة السابعة" والسابعة "المسألة الثامنة" واستمر هذا الترقيم إلى آخر الكتاب، فأصبحت المسألة الحادية والعشرون فيها الثانية والعشرين. 3 - حذفت كلمة "فصل" التي تأتي قبل المسألة الجديدة، وفي داخل المسائل من جميع الكتاب إلا في خمسة مواضع أو أقل.

(المقدمة/102)


4 - لا تثبت الآيات كاملة بل تختصرها. 5 - لا تذكر أحيانًا أسماء كتب الحديث الستة، بل ترمز إليها بالحروف (خ، م، ت، د، س، ق) ويضع عليها خطًّا ممدودًا. نحو "في جامع ت"، و"في سنن ق". انظر الأوراق (52، 53، 66، 68). وقد سقط فصل كامل في (ق 61) بسبب انتقال النظر. 8) نسخة المكتبة الأزهرية (ز) رقمها 1241، وكانت موقوفة على رواق الأروام بالأزهر. وهي بخط النسخ في 81 ورقة، وتمت كتابتها في شهر رجب سنة 853. في صفحة الغلاف كتب عنوان الكتاب واسم المؤلف، وأن النسخة "وقف لله تعالى على رواق الأروام بالجامع الأزهر" ثم فهرس مسائل الكتاب. وبداية الكتاب:"بسم الله الرحمن الرحيم {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}. قال شيخ الإسلام العلامة الأوحد المحقق شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية وقد سئل عن الروح: المسألة الأولى وهي هل تعرف الأموات بزيارة الأحياء وسلامهم عليهم أم لا؟ قال ابن عبد البر: ثبت ... ". وكتب في الحاشية العليا: "وقف عنبر آغا". وفي آخر النسخة بعد خاتمة النسخ عبارة كتبها طوغان شيخ المحمدي الأشرفي سنة 861. يبدو من خطه أنه هو صاحب بعض التعليقات في حواشي النسخة. ولم يترجم السخاوي لطوغان هذا في الضوء اللامع، غير

(المقدمة/103)


أنه مؤلف كتاب "المقدمة السلطانية في السياسة الشرعية" ألفه سنة 875، وهو مطبوع. والنسخة فيها خرم كبير بعد (ق 38) ذهب بآخر المسألة السابعة وأول المسألة التاسعة عشرة، والمسائل (8 - 18) كاملة. من طريقة ناسخ هذه النسخة أنه في موضع "الأولى" و"الثانية" و"الثالثة" يكتب الأرقام (1، 2، 3) في الفصول والمسائل والأقسام والوجوه. فتجد فيها "الوجه 1" مكان "الوجه الأول". وفيها أخطاء وتصحيفات كثيرة، بيد أنها أصابت في موضع أخطأت فيه النسخ كلها.

(المقدمة/104)


منهج التحقيق تبيَّن لي من دراسة النص في النسخ المختلفة أن نسخة المصنف التي ترجع إليها أصول هذه النسخ لم تحظ منه بالمراجعة والقراءة عليه. فبقي فيها أشياء من السهو في الترقيم وسبق القلم وما نتج عن إهمال الحروف وسرعة الكتابة من ضروب الإشكال. وقد اجتهد الوراقون في قراءة النص، فأفلحوا حينًا، وأخفقوا حينًا، فرسم بعضهم الكلمة المشكلة رسمًا. وتجرأ بعضهم فأصلحها بل أصلح الجملة، فأصاب مرة وأخطأ مرات. وقد أدى ذلك كله إلى وجود خلافات كثيرة بين النسخ. وقد رأيت من قبل في تحقيق طريق الهجرتين أن نسخة الفاتح التي نص كاتبها على أنه نقلها من نسخة المصنف لم يكن الاعتماد عليها وحدها كافيًا للوصول إلى نص سليم، لولا نسخة المصنف التي كشفت عن أخطاء وقع فيها كاتب نسخة الفاتح. فكيف بنسخ كتاب الروح التي لم يخبرنا نُسّاخها شيئًا عن أصولهم، فلا ندري من كتبها ومتى كتبها وكم نسخة بينها وبين أصل المؤلف. نعم، ذكر كاتب النسخة (ج) تاريخ كتابة أصلها، ولكن بعدما نسي هو أن يذكر اسمه! النسخ التي اعتمدت عليها في تصحيح النص خمس، وهي ذوات الرموز (أ، ب، ق، ط، غ). وأضفت إليها نسخة سادسة رمزها (ن) لانفرادها بأمور سبق ذكرها في وصفها. أما النسختان (ج، ز) فكان الرجوع إليهما للاستئناس. ولما كانت نسخة الظاهرية المكتوبة سنة 774 أقرب النسخ إلى زمن

(المقدمة/105)


المؤلف وأصحَّها في الجملة على ما فيها من السقط في مواضع وإهمال الحروف ولاسيما في حرف المضارعة في مواضع كثيرة التزمت في الحواشي بالنص على قراءاتها المرجوحة. أما النسخ الأخرى، فقد أغفلت الإشارة إلى كثير من أغلاطها وفروقها التي لا غناء فيها. وفي إثبات خطبة الكتاب اتبعت نسخة الظاهرية، مع اعتقادي بأنها ليست من كلام المؤلف، وهي خطبة ملفقة غير لائقة بمنزلة الكتاب. وللاستفادة من قراءات النسخ الأخرى رجعت في المواضع المشكلة إلى نشرة الدكتور بسام العموش المعتمدة على ثلاث نسخ أخرى. وإذا ذكرت في حاشيتي "النسخ المطبوعة" فأقصد هذه النشرة، ونشرة الأستاذ يوسف بديوي، وطبعة دار الحديث بالقاهرة (ط 2، سنة 1419). أما الطبعة الهندية فقد وصلت إليّ عندما شارفت على الفراغ، ولكن تبيَّن أن الطبعات الأخرى ــ ومنها المحققة ــ كانت في كثير من تصرفاتها في النص تابعة للطبعة الهندية دون إشارة إليها في بعض الأحيان. وإن الرجوع إلى موارد المؤلف قد أفاد كثيرًا في تقويم النص، وحلِّ بعض الإشكالات الناتجة من وهم المصنف في النقل أو وهم مصدره. ومما يؤسفني أني لم أتمكن من الوصول إلى موارد المصنف في مسألة حقيقة النفس، فآمل من الباحثين المختصين بالفلسفة، إذا وقفوا على شيء منها، أن يفيدوني بها مشكورين. وقد عنيت بضبط المشكل من النص، وتفسير غريبه وغامضه، وربط مباحث الكتاب بكتب المؤلف الأخرى وكتب شيخه. ولم أترجم للأعلام إلا إذا اقتضى الأمر.

(المقدمة/106)


وقد تولى تخريج الأحاديث النبوية ما عدا أحاديث الصحيحين أخي الدكتور كمال بن محمد قالمي جزاه الله خيرا. أما أحاديث الصحيحين والآثار والأقوال والأشعار فخرّجتُها أنا. وأخيرًا صنعت للكتاب فهارس كاشفة لفظية وعلمية. والحمد لله رب العالمين أولا وآخرا.

(المقدمة/107)


نماذج مصورة من النسخ الخطيَّة المعتمدة

(المقدمة/109)


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ الحمد لله العلي العظيم، الحليم الحكيم، الغفور الرحيم. الحمد لله ربِّ العالمين. الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين. لقد (1) خلق الإنسان من سُلالة من طين. ثم جعله نطفة في قرارٍ مكين. ثم خلق النطفةَ عَلَقةً سوداءَ للناظرين. ثم خلق العلقةَ مُضغةً، وهي قطعة لحم بقدر أكلة الماضغين. ثم خلق المضغةَ عظامًا مختلفةَ المقادير والأشكال أساسًا يقوم عليه هذا البناءُ المتين (2). ثم كسا العظامَ لحمًا هو لها كالثوب لِلَّابسين. ثم أنشأ خلقًا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين. فسبحان مَن شملت قدرتُه كلَّ مقدور. وجرت مشيئتُه في خلقه بتصاريف الأمور. وتفرَّد بمُلك السماوات والأرض، يخلق ما يشاء. {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 6]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهًا جلَّ عن المثيل والنظير. وتعالى عن الشريك والظهير. وتقدَّس عن شبه خلقه، فـ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. _________ (1) يشبه رسم الكلمة في الأصل (أ): "بهر". والظاهر أنه تحريف "لقد" كما أثبتنا. ولم ترد أصلًا في (ب). وفي (ط): "أبهر"، وفوقها: "الذي"، وكأنّ كاتبها يرى أن "أبهر" تحريف "الذي"، وليس بعيدًا. وفي (غ): "الذي بهر". ويظهر أن ناسخها وجد "الذي" في حاشية نسخة، فظن أنها من المتن. ولا معنى للفعلين: "بَهَرَ" أو "أبهَرَ" هنا. وفي مطبوعة تحفة المودود: أظهر. (2) (غ): "المبين"، وهو تصحيف.

(1/3)


وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، وخيرتُه من خلقه (1)، وأمينُه على وحيه، وحجَّتُه على عباده؛ أرسله رحمةً للعالمين، وقدوةً للعاملين، ومحجَّةً للسالكين، وحجَّةً على العباد أجمعين. فصلّى اللهُ وملائكتُه ورسلُه عليه. وعليه السلام ورحمة الله وبركاته (2). أما بعد (3)، فهذا الكتاب مشتمل على إحدى وعشرين مسألةً في الروح وما يتعلَّق بها (4). _________ (1) "من خلقه" زيادة من (ب، ط). (2) (ب): "ف صلى الله عليه وسلم ". ولم يرد "رحمه الله" في (غ). (3) "أما بعد .. بها" لم يرد في (ط). (4) هذه المقدمة وردت في (أ، ب، ط، غ). وهي مأخوذة من مقدمة كتاب تحفة المودود في أحكام المولود للمصنف، اقتبسها وأضافها إلى كتاب الروح بعض ناسخيه، إذ وجده خِلْوًا من المقدمة. وقد انفردت كل من (ق، ج، ز) بمقدّمة مستقلة. وآثرنا إثبات هذه لورودها في أقدم النسخ التي بين أيدينا. وانظر المقدمات الأخرى في مقدمة التحقيق.

(1/4)


[2 أ] أمّا

 المسألة الأولى وهي هل تَعرفُ الأمواتُ بزيارةِ الأحياء وسلامِهم عليهم أم لا؟

فقال ابنُ عبد البَرِّ: ثبت عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من مسلمٍ (2) يمرُّ بقبر أخيه، كان يعرفه في الدنيا، فيُسلِّمُ عليه إلا ردَّ اللهُ عليه روحَه حتى يردَّ عليه السلام" (3). _________ (1) "أما" لم ترد في (ط، ز). ومن "أما" إلى "ابن عبد البر" لم يرد في (ج). وفي (ط) بعد المسألة الأولى: "معرفة الميت بزيارة الحي ودعائه له وسلامه عليه. ثبت ... ". (2) سيأتي الحديث بلفظ: "ما من رجل". وكذا في المصادر المذكورة في الحاشية الآتية. وفي بعضها: "ما من أحد". (3) وهو حديث ابن عباس. وسيأتي مرة أخرى في هذا الباب. وهنا تنبيهات: الأولى: "قال ابن عبد البر: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... " كذا في بدائع الفوائد (662) وتهذيب السنن (1930). الثانية: في مجموع الفتاوى (24/ 331): "قال ابن المبارك: ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ". والظاهر أن "ابن المبارك" تحريف "ابن عبد البر". وقد ذكر شيخ الإسلام تصحيح ابن عبد البر للحديث في الفتاوى (4/ 295) وغيره. وصححه هو أيضًا في (24/ 173). واستدلّ به في أكثر من عشرة مواضع من كتبه. انظر مثلًا: اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 178) ومجموع الفتاوى (24/ 303، 363). الثالثة: في فيض القدير (5/ 622) أن الحافظ العراقي أفاد أن ابن عبد البر خرّجه في التمهيد والاستذكار بإسناد صحيح من حديث ابن عباس. وعزاه القرطبي في التذكرة (410) والسيوطي في شرح الصدور (273) والصنعاني في بشرى الكئيب (166) أيضًا إلى التمهيد والاستذكار. = ... قلت: لم أجد الحديث في كتاب التمهيد المطبوع. وهو في الاستذكار (1/ 234)، ولكن لم أر فيه تصحيح ابن عبد البر للحديث. الرابعة: قال ابن رجب في أهوال القبور (82): "خرّجه ابن عبد البر. وقال عبد الحق الإشبيلي: إسناده صحيح. يشير إلى أنّ رواته كلهم ثقات. وهو كذلك إلا أنه غريب، بل منكر". وتصحيح عبد الحق للحديث في أحكامه الصغرى (1/ 80) والوسطى (2/ 152). (الإصلاحي). الخامسة: الظاهر أن ابن رجب رحمه الله عنى بثقة رواته الربيع بن سليمان فمن فوقه، وأما شيخ ابن عبد البر، فله ترجمة في جذوة المقتبس (ص 277) للحميدي وقال: "عبيد بن محمد أبو عبد الله كان رجلًا صالحًا يضرب به المثل في الزهد، سكن قرطبة". وأما شيخته المملية فاطمة بنت الريان فلم أجد لها ذكرًا في كتب التراجم المتوفرة، والظاهر أنها لم تكن بتلك الحافظة فقد خالفها في إسناده جمعٌ من أصحاب الربيع بن سليمان المراديّ حيث رووه عنه، عن بشر بن بكر، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، فرفعه. أخرجه تمام في فوائده (139) عن الحسن بن حبيب، وأبي علي أحمد بن محمد بن فضالة الحمصي. وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (6/ 137) من طريق إسحاق بن إبراهيم بن عمران الكرماني، وأبي العباس محمد بن يعقوب الأصم. فرَّقهما. أربعتهم عن الربيع بن سليمان به. وأخرجه ابن جُميع الصيداوي في معجم شيوخه (333) عن عيسى بن موسى البلدي، عن الربيع بن سليمان به. إلا أنه سقط من إسناده عطاء بن يسار، فلا أدري أحصل ذلك سهوًا أو هو لون آخر من الاختلاف؟ والأقرب الثاني، فقد رواه الذهبي في سير أعلام النبلاء (12/ 590) من طريق الصيداوي بإسناده سواء، ثم قا ل: "غريب، ومع ضعفه ففيه انقطاع، ما علمنا زيدًا سمع أبا هريرة". ومن طريق الخطيب أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1523) من طريق أبي العباس الأصم. وحده به. وقال عقبه: "هذا حديث لا يصح وقد أجمعوا على= تضعيف عبد الرحمن بن زيد، قال ابن حبان: كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته من رفع المراسيل وإسناد الموقوف، فاستحقّ الترك" اهـ. وقال ابن رجب: "عبد الرحمن بن زيد فيه ضعف، وقد خولف في إسناده". قلت: يشير إلى ما أخرجه ابن أبي الدنيا في القبور ــ كما عند المصنف، وليس في المطبوع منه ــ عن محمد بن قدامة الجوهريّ، عن معن بن عيسى القزاز، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي هريرة موقوفًا. وإسناده ضعيف جدًّا علته محمد بن قدامة الجوهري البغدادي، قال ابن معين: "ليس بشيء"، وقال أبو داود: "ضعيف لم أكتب عنه شيئًا قط" (انظر: الميزان 4/ 15). والحاصل أن الحديث لا يثبت مرفوعًا ولا موقوفًا، بل هو منكر كما قاله ابن رجب رحمه الله. وقد أورده الألباني في السلسلة الضعيفة (4493) (قالمي).

(1/5)


فهذا نصٌّ في أنه يعرفه بعينه، ويرُدُّ عليه السلام. وفي الصحيحين (1) عنه - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ متعددةٍ: أنه أمر بقتلى بدر، فأُلقُوا في قَلِيب. ثم جاء حتى وقف عليهم، وناداهم بأسمائهم: "يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربُّكم حقًّا؟ فإنّي وجدتُ ما وعدني ربِّي حقًّا". فقال له عمرُ: يا رسول الله، ما تخاطب من أقوامٍ (2) قد جَيَّفوا (3)؟ فقال: "والذي بعثني بالحقِّ ما أنتم بأسمَعَ لما أقول منهم، ولكنَّهم لا يستطيعون جوابًا". وثبت (4) عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنّ الميِّت يسمع قَرْعَ نعال المشيِّعين له، إذا انصرفوا _________ (1) أخرجه البخاري في الجنائز (1370) وغيره عن ابن عمر، وعنه وعن أبي طلحة في المغازي (3980، 3976). وأخرجه مسلم في كتاب الجنة من حديث عمر (2873) وأنس (2874) وأبي طلحة (2875). (2) في حاشية (ق) إشارة إلى أن في نسخة: "قوم". (3) جيَّف الميِّتُ: أنتن. (4) من "وثبت عنه" إلى "وإن لم يسمع المسلم الردّ" في (ص 17) نقله ابن كثير في تفسيره (6/ 325 - 327) بشيء من الاختصار دون إشارة إلى ابن القيم.

(1/7)


عنه (1). وقد شرع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأمَّته، إذا سلَّموا على أهل القبور، أن يسلموا عليهم سلامَ مَن يخاطبونه، فيقول المسلِّم (2): "السلام عليكم دارَ قوم مؤمنين" (3). وهذا خطاب لمن يسمعُ ويعقل، ولولا ذلك لكان هذا الخطابُ بمنزلة خطاب المعدوم والجَماد (4). والسلف مجمِعون على هذا (5)، وقد تواترت الآثار (6) عنهم بأنّ الميّتَ يَعرف بزيارة الحيِّ له ويستبشر به. قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن أبي الدنيا في "كتاب القبور"، باب معرفة الموتى بزيارة الأحياء (7): حدثنا محمد بن عَوْن، حدثنا يحيى بن يَمَان (8)، عن عبد الله بن _________ (1) أخرجه الشيخان من حديث أنس بن مالك، وسيأتي بتمامه في (ص 157). (2) "المسلم" ساقط من (ق). (3) أخرجه مسلم في الطهارة عن أبي هريرة (249)، وفي الجنائز عن عائشة (974). (4) انظر الاستدلال بعينه بهذا الحديث عند شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (24/ 304، 363). وقال في الموضع الأخير: "فهذا خطاب لهم، وإنما يخاطَب من يَسمَع". وهو يرى "أن الميت يسمع في الجملة كلام الحي، ولا يجب أن يكون السمع له دائمًا، بل قد يسمع في حال دون حال ... ". (5) (ب، ج، ط): "ذلك". (6) في (ب): "الأخبار"، وأشير في حاشية (ق) أيضًا إلى هذه النسخة. (7) كتاب القبور مطبوع، ولكنه ناقص، فلم يرد فيه شيء من الأخبار التي نقلها المؤلف هنا، وسأخرجها عمن عزا إلى كتاب القبور وغيره. (8) في (ب): "أنبأنا ابن أبان"، وهو خطأ.

(1/8)


سِمْعان، عن زيد بن أسلم، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِن رجل يزور قبر أخيه ويجلسُ عنده إلا استأنس به وردَّ عليه حتى يقوم" (1). حدثنا محمد بن قُدامة الجوهريُّ، حدثنا معن بن عيسى القزّاز، أخبرنا هشام بن سعد، حدثنا زيد بن أسلم، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: إذا مرَّ الرجل بقبرٍ يعرفه فسلَّم عليه ردَّ عليه السلام وعَرَفه. وإذا مرَّ بقبر لا يعرفه فسلَّم عليه ردَّ عليه السلام (2). حدثنا [2 ب] محمد بن الحسين، حدثني يحيى بن بِسْطام الأصفر (3)، حدثني مِسْمَع (4)، حدثني رجلٌ من آل عاصمٍ الجَحدريِّ (5)، قال: رأيت _________ (1) لم أجده في المطبوع من كتاب القبور. وإسناده ضعيف جدًّا؛ آفته عبد الله بن سمعان نُسب إلى جده، وهو عبد الله بن زياد بن سليمان بن سمعان المخزومي المدني، قال الحافظ في التقريب: "متروك اتهمه بالكذب أبو داود وغيره". ومحمد بن عون شيخ ابن أبي الدنيا هو أبو عون الزيادي البصري، ثقة له ترجمة في الجرح والتعديل (8/ 48). والحديث عزاه ابن رجب في أهوال القبور (ص 164) لابن أبي الدنيا، وأعلّه بعبد الله بن سمعان قال: "وهو متروك". (قالمي). (2) أخرجه البيهقي في الشعب (9296) عن ابن أبي الدنيا بسنده هذا، وقد سبق الكلام عليه في الحديث الأول. (3) ويقال له أيضًا: "المصفّر"، كما في لسان الميزان (6/ 243). (4) في (ز): "مسلم"، وفي (ب، ج): "مستمع". وكلاهما تحريف. وهومسمع بن عاصم، من عُبَّاد أهل البصرة. انظر: لسان الميزان (6/ 36). (5) في (ق) هنا وفيما يأتي: "الحجازي"، تحريف.

(1/9)


عاصمًا الجحدري (1) في منامي بعد موته بسنتين، فقلت: أليس قد متَّ؟ قال: بلى. قلت: فأين أنت؟ قال: أنا والله في روضة من رياض الجنة، أنا ونفرٌ من أصحابي، نجتمع كلَّ ليلةِ جمعةٍ وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المُزَنيِّ، فنتلقَّى أخباركم. قال: قلت: أجسادُكم (2) أم أرواحكم؟ قال: هيهات، بَليتِ الأجسام، وإنما تتلاقى الأرواح. قال: قلت: فهل تعلمون بزيارتنا إياكم؟ قال: نعم، نعلم بها عشيَّةَ الجمعة (3) ويومَ الجمعة كلَّه، ويوم السبت إلى طلوع الشمس. قال: قلت: فكيف ذلك دون الأيام كلِّها؟ قال: لِفَضلِ يوم الجمعة وعظمتهِ (4). وحدثنا محمد بن الحسين، حدثني بكر بن محمد (5)، حدثنا جسر (6) القصاب قال: كنت أغدو مع محمد بن واسع في كل غداةِ سبتٍ حتى نأتي الجَبَّان (7)، فنقف على القبور، فنسلِّم عليهم، وندعو لهم، ثم ننصرف. فقلت ذات يوم: لو صيَّرتُ هذا اليوم يومَ الاثنين! قال: بلغني أنَّ الموتى يعلمون بزُوَّارهم يوم الجمعة، ويومًا قبلها، ويومًا بعدها (8). _________ (1) في (ز): "رأيت رجلًا من أصحابي". (2) في (ط): "أجسامكم"، وأشير في الحاشية إلى ما في غيرها. (3) (ط): "ليلة الجمعة". (4) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (58). وأورده ابن رجب في أهوال القبور (83). (5) (ز): "بشر بن محمد". (6) في (أ، ق، ز، غ): "حسن". وفي (ب، ط، ج): "جبير". وكلاهما تصحيف. وهو جسر بن فرقد القصاب، أبو جعفر، بصري. انظر: لسان الميزان (2/ 104). (7) الجبّان والجبّانة: المقبرة. (8) أورده ابن رجب في أهوال القبور (84) عن ابن أبي الدنيا.

(1/10)


حدثني محمد، حدثنا عبد العزيز بن أبَان، قال: حدثنا سفيان الثوري، قال: بلغني عن الضحاك أنه قال: من زار قبرًا يومَ السبت قبل طلوع الشمس عَلِم الميِّتُ بزيارته. فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لمكان (1) يوم الجمعة (2). حدثنا خالد بن خِدَاش (3)، حدثنا جعفر بن سليمان (4)، عن أبي التَّيَّاح، قال: كان مُطَرِّف يغدو، فإذا كان يومُ الجمعة أَدلَجَ. قال: وسمعت أبا التَّيَّاح يقول: بلغنا أنه كان يُنوَّر له في سوطه، فأقبل ليلةً حتى إذا كان عند المقابر هَوَّمَ (5)، وهو على فرسه، فرأى أهلَ القبور: كلَّ صاحب قبر جالسًا على قبره، فقالوا: هذا مطرِّفٌ يأتي الجمعة. قلت: وتعلمون عندكم يوم الجمعة؟ قالوا: نعم، ونعلم ما يقول فيه الطير، قلت: وما يقولون: قالوا: يقولون: سلامٌ سلامٌ (6). حدثني محمد بن الحسين، حدثني يحيى بن أبي بُكير (7) حدثني الفضل بن الموفَّق ابنُ خالِ سفيانَ بن عيينة، قال: لما مات أبي جزعت عليه _________ (1) في الأصل: "لما كان"، سبق قلم. (2) أخرجه البيهقي في الشعب (7/ 18) عن ابن أبي الدنيا بهذا السند. وعنه أيضًا ابن رجب في الأهوال (84). (3) في (ط): "خراش"، تحريف. (4) في الأصل: "سلمان"، والصواب ما أثبتناه من غيره. (5) هوَّمَ: هزَّ رأسه من النعاس. وقد تحرف في جميع النسخ ماعدا (ز) إلى "يقوم". (6) أخرجه البيهقي في الشعب (7/ 18) من طريق ابن أبي الدنيا. وعزاه إليه ابن رجب في الأهوال (84). وأخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 205). (7) في (ب، ج، ز، غ): "أبي بكر"، وهو خطأ.

(1/11)


جزعًا شديدًا، فكنت [3 أ] آتي قبره في كل يوم؛ ثم إنّي قصَّرتُ عن ذلك (1) ما شاء الله، ثم إني أتَيتُه (2) يومًا، فبينا أنا جالس عند القبر غلبتني عيناي، فنمتُ، فرأيت كأنَّ قبر أبي قد انفرج (3)، وكأنه قاعد في قبره متوشِّحًا أكفانه، عليه سَحنةُ (4) الموتى. قال: فكأني بكيتُ لما رأيته، قال: يا بُنَيَّ ما بَطَّأَ بك عنّي؟ قلت: وإنك لَتعلمُ بمجيئي؟ قال: ما جئتَ مرَّةً إلا علمتُها. وقد كنتَ تأتيني فأُسَرُّ (5) بك، ويُسَرُّ مَن حولي بدعائك. قال: فكنت آتيه بعد ذلك كثيرًا (6). حدثني محمد، حدثني يحيى بن بِسطام، حدثني عثمان بن سَوْدَة (7) الطُّفاوي ــ قال: وكانت أمُّه من العابدات، وكان يقالُ لها: راهبة ــ قال: لما احتُضِرتْ رفعَتْ رأسها إلى السماء فقالت: يا ذُخري وذخيرتي، ومَن عليه اعتمادي في حياتي وبعد موتي؛ لا تخذُلْني عند الموت، ولا تُوحِشني في قبري. قال: فماتت، فكنت آتيها في كلِّ جمعة، فأدعو لها، وأستغفر لها ولأهل القبور. فرأيتها ذات يوم في منامي، فقلت لها (8): يا أُمَّهْ كيف أنت؟ قالت: _________ (1) (ز): "عنه". (2) (ز): "ثم أتيته". (3) (ب): "انفتح". (4) (ط، ز): "سجية"، تصحيف. (5) (ب، ط): "فآنس". وأشير إلى هذه النسخة في طرّة (ق) أيضًا. (6) أخرجه البيهقي في الشعب (6/ 202). وابن رجب في الأهوال (84) بهذا السند. وإلى ابن أبي الدنيا والبيهقي عزاه السيوطي في شرح الصدور (301). (7) (أ، غ): سُوَيد. (8) "لها" من (ب، ط، ج).

(1/12)


أي بُنيَّ إن للموت لكُرْبةً شديدةً، وإنّي بحمد الله لفي برزخ محمود نَفْرِش فيه الرَّيحان ونتوسَّد (1) فيه السُّندسَ والإستبرقَ إلى يوم النشور. فقلت لها: ألكِ حاجة؟ قالت: نعم. قلت: وما هي؟ قالت: لا تَدَعْ ما كنت تصنعُ من زيارتنا والدعاء لنا، فإني لأبشَّرُ (2) بمجيئك يومَ الجمعة إذا أقبلت من أهلك. يقال لي: يا راهبةُ، هذا ابنُك قد أقبل، فأُسَرُّ ويُسَرُّ بذلك مَن حولي من الأموات (3). حدثني محمد، حدثني محمد بن عبد العزيز بن سليمان (4)، حدثنا بِشرْ بن منصور قال: لما كان زمن الطاعون كان رجلٌ يختلف إلى الجَبَّان، فيشهد (5) الصلاة على الجنازة، فإذا أمسى وقف على باب المقابر، فقال: آنَسَ الله وَحْشتَكم، ورحم غُربتَكم، وتجاوز عن مسيئكم، وقَبِل حسناتكم. لايزيد على هؤلاء الكلمات. قال (6): فأمسيت ذات ليلة، وانصرفتُ إلى أهلي، ولم آتِ المقابر، فأدعوَ، كما كنت أدعو. قال: فبينا أنا نائم، إذا (7) _________ (1) كذا في (أ، غ). وفي غيرهما: "يُفرش .. ويُتوسَّد" بالبناء للمجهول. وفي شعب البيهقي: "أفرش ... وأتوسَّد". (2) (ب): "لآنس"، تصحيف. (3) أخرجه البيهقي من طريق محمد بن الحسين في الشعب (6/ 203). وعزاه ابن رجب في الأهوال (85) إلى ابن أبي الدنيا. وإليه وإلى البيهقي عزاه السيوطي في شرح الصدور (301). وانظر: صفة الصفوة (4/ 42). (4) كذا في جميع النسخ. والأرجح: سَلمان، كما سيأتي في المسألة الثالثة. (5) (ب، ط، ج): "ويشهد". (6) "قال" ساقط من الأصل. (7) (ز): "إذا أنا". وكذا في "شعب" البيهقي.

(1/13)


بخلق كثير قد جاؤوني، فقلت (1): ما أنتم؟ وما حاجتُكم؟ قالوا: نحن أهل المقابر. قلت: ما حاجتكم؟ [3 ب] قالوا: إنَّك عَوَّدتنا منك هديةً عند انصرافك إلى أهلك. قلت: وما هي؟ قالوا: الدعواتُ التي كنت تدعو بها. قال: قلت: فإنّي أعود لذلك. قال: فما تركتُها بعد (2). حدثني محمد، حدثني أحمد بن سهل، حدثني رِشْدين بن سعد (3)، عن رجل، عن يزيد بن أبي حبيب، أن سُلَيم بن عُمَير (4) مرَّ على مقبرة، وهو حاقن قد غلبه البول، فقال له بعضُ أصحابه: لو نزلتَ إلى هذه المقابر، فبُلتَ في بعض حُفَرها! فبكى، ثم قال: سبحان الله! والله إنّي لأستحيي من الأموات، كما أستحيي من الأحياء (5). ولولا أن ا لميت يشعر بذلك لما استَحْيا منه. وأبلغُ من ذلك أنَّ الميِّت يعلم بعمل الحيِّ من أقاربه وإخوانه. قال عبد الله بن المبارك: حدثني ثور بن يزيد، عن أبي رُهْم (6)، عن أبي _________ (1) (ب، ق، ج، ز): "قلت". (2) أخرجه البيهقي في الشعب (7/ 17) عن طريق ابن أبي الدنيا. وأورده عنه ابن رجب في الأهوال (125). وعنه وعن البيهقي: السيوطي في شرح الصدور (300). (3) (ز): "رشيد بن سعيد"، تحريف. (4) في (ب): "عتر". وفي (ز): "عمر". وكلاهما تحريف. (5) عزاه السيوطي في شرح الصدور (388) إلى كتاب القبور. (6) في جميع النسخ: "إبراهيم". وهو تحريف. صوابه ما أثبتنا من الزهد وغيره. وهو أبو رُهم السماعي يروي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه. وانظر ما يأتي في (ص 35).

(1/14)


أيوب قال: تُعرَض أعمالُ الأحياء على الموتى (1)، فإذا رأوا حسنًا فرحوا واستبشروا، وإن رأوا سُوءًا قالوا: اللهم راجِعْ به (2). وذكر ابن أبي الدنيا عن أحمد بن أبي الحَوَاري قال: حدثني محمد أخي قال: دخل عبَّاد بن عباد على إبراهيم بن صالح ــ وهو على فلسطين ــ فقال: عظني، قال: بم أعظك أصلحك الله؟ بلغني أن أعمال الأحياء (3) تُعرَض على أقاربهم من الموتى، فانظر ما يُعرَض (4) على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عملك. فبكى إبراهيم حتى أخضَلَ لحيتَه (5). قال ابن أبي الدنيا: وحدثني محمد بن الحسين، حدثني خالد بن عمرو الأمويُّ، حدثنا صدقة بن سليمان الجعفري قال: كانت لي سيرة (6) سَمِجة، فمات أبي، فأُبتُ (7)، وندمتُ على ما فرَّطتُ. قال: ثم زلَلْتُ أيَّما زلّة، فرأيتُ _________ (1) (ز): الأموات. (2) الزهد لابن المبارك (443). ومن طريقه أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (3). (3) (ب، ط، ج): "العباد"، وأشير في حواشيها إلى ما في غيرها. (4) (ب): "ماذا تعرض". (5) عزاه السيوطي في شرح الصدور (343) إلى ابن أبي الدنيا وابن منده وابن عساكر. انظر تاريخ دمشق (6/ 447). وأخرجه أبو نعيم في الحلية (10/ 21). وكان إبراهيم ابن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي أميرًا على كور دمشق والأردن في خلافة المهدي والهادي وهارون الرشيد. وتوفي سنة 176. انظر ترجمته في تاريخ دمشق. (6) كذا في (ط، ز، ج). وفي غيرها: "شرّة" وكذا في المنامات وأهوال القبور. والشِرّة: الحدّة والنشاط والرغبة. ولعلّ المثبت أشبه بالسياق. (7) في (ج): أنبت. وفي (ز): تبتُ.

(1/15)


أبي في المنام، فقال: أي بُنيَّ ما كان أشدَّ فرحي بك، وأعمالُك تُعرَض علينا، فنشَبِّهها بأعمال الصالحين! فلما كانت هذه المرَّة استحييت لذلك حياءً شديدًا، فلا تُخزِني فيمن حولي من الأموات. قال: فكنت أسمعه بعد ذلك يقول في دعائه في السَّحَر ــ وكان لي جارًا (1) بالكوفة ــ: أسألك إنابةً لا رجعةَ فيها ولا حَوْر، يا مصلح الصالحين، ويا هاديَ المضلّين، ويا أرحم الراحمين (2). وهذا باب فيه آثارٌ كثيرة عن الصحابة. وكان بعض الأنصار من أقارب عبد الله بن رواحة يقول: إني أعوذ بك من عمل أخزَى به [4 أ] عند عبد الله بن رواحة. كان (3) يقول ذلك بعد أن استُشْهِد عبد الله (4). ويكفي في هذه تسميةُ المسلِّم عليهم (5) "زائرًا"، ولولا أنهم يشعرون به لما صحَّ تسميته زائرًا؛ فإن المزُورَ إن لم يعلم (6) بزيارةِ مَن زاره لم يصحَّ أن يقال: زاره. هذا هو المعقولُ من الزيارة عند جميع الأمم. وكذلك السلام عليهم أيضًا، فإنَّ السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلِّم محالٌ. وقد علَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمَّته إذا زاروا القبور أن يقولوا: "سلام _________ (1) (ط): "جارًا لي". (2) (ط، ج): "راحم المذنبين". وكذا في المنامات لابن أبي الدنيا (17). وأخرجه عنه ابن رجب في الأهوال (88). (3) لم يرد "كان" في (ب، ط، ج). (4) أخرجه ابن المبارك في الزهد (165) ومن طريقه ابن أبي الدنيا في المنامات. وأورده ابن رجب في الأهوال (87) والسيوطي في شرح الصدور (343، 344). والأنصاري هو أبو الدرداء. (5) "عليهم" ساقط من (ب). (6) (ط): "لو لم يعلم".

(1/16)


عليكم أهلَ الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحمُ الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية" (1). = فهذا السلامُ والخطاب والنداء لِموجودٍ يَسمع ويُخاطب ويَعقِل ويَرُدُّ، وإن لم يسمع المسلِّم الردَّ (2). وإذا صلَّى الرجل قريبًا منهم شاهدوه، وعلموا صلاته، وغَبَطوه على ذلك. قال يزيد بن هارون: أخبرنا سليمان التيميُّ، عن أبي عثمانَ النهديِّ أن ابن مِيناس خرج في جنازةٍ في يوم، وعليه ثياب خِفَاف، فانتهى إلى قبر. قال: فصلَّيت ركعتين ثم اتَّكأت عليه، فوالله إنَّ قلبي ليقظانُ إذ سمعت صوتًا من القبر: إليك عنِّي لا تُؤْذِني (3)، فإنكم قوم تعملون ولا تعلمون ونحن قوم نعلَمُ ولا نعمل، ولأَنْ يكونَ لي مثلُ ركعتيك أحبُّ إليَّ من كذا وكذا (4). فهذا قد علم باتكاء الرجل على القبر، وبصلاته. وقال ابن أبي الدنيا: حدثني الحسين بن علي العِجْليُّ، ثنا محمد بن الصَّلت، ثنا إسماعيل بن عياش، عن ثابت بن سليم (5)، ثنا أبو قلابة قال: أقبلتُ من الشام إلى البصرة، فنزلت منزلًا، فتطهَّرت، وصلَّيت ركعتين بِليل، _________ (1) أخرجه مسلم من حديث عائشة (974) وبريدة (975). (2) هنا انتهى ما نقله ابن كثير في تفسيره. انظر بدايته في ص (7). وانظر تعقيب الألباني على ذلك في مقدمته لكتاب الآيات البينات (ص 60) وحاشيته عليه (ص 132). (3) (أ، ق، ز): "لا تُؤذيني". (4) أخرجه البيهقي في الدلائل (7/ 40). وأورده ابن رجب في الأهوال (40) عن ابن أبي الدنيا. والسيوطي عنه وعن البيهقي في شرح الصدور (285). (5) في (أ، ط) ضُبط بضم السين.

(1/17)


ثم وضعت رأسي على قبر، فنمت. ثم انتبهت فإذا صاحب القبر يشتكيني (1)، يقول: قد آذيتني منذ الليلة. ثم قال: إنكم تعملون ولا تعلمون، ونحن نعلم ولا نقدر على العمل. ثم قال: الركعتين اللتين (2) ركَعْتَهما خير من الدنيا وما فيها. ثم قال: جزى الله أهل الدنيا خيرًا أقْرِهِم (3) منَّا السلام، فإنه يدخل علينا من دعائهم نورٌ أمثالُ الجبال (4). وحدثني الحسين العِجْلي، ثنا عبد الله بن نمير، ثنا مالك بن مِغْول، عن منصور، عن [4 ب] زيد بن وَهْب، قال: خرجت إلى الجَبَّانة، فجلست فيها، فإذا رجل قد جاء إلى قبر، فسوَّاه، ثم تحول إليَّ، فجلس. قال: فقلت له: ما هذا القبر؟ قال: أخ لي. فقلت: أخ لك؟ فقال: أخ لي في الله، رأيته فيما يرى النائم، فقلت: فلانُ، عِشتَ! الحمد لله رب العالمين. قال: قد قلتَها (5)، لأَن أقدرَ على أن أقولها أحبُّ إليّ من الدنيا وما فيها. ثم قال: ألم تر حيث كانوا يدفنوني (6)، فإن فلانًا قام، فصلى ركعتين؟ لأَن أكونَ أقدر على أن أصلِّيَهما أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها (7). _________ (1) (ز، ط، غ): "يشكتي". (2) كذا في جميع النسخ. وفي الأهوال وشرح الصدور: "إنّ الركعتين ... ". (3) كذا في جميع النسخ بحذف الهمزة. (4) أورده عن ابن أبي الدنيا: ابن رجب في الأهوال (40) والسيوطي في شرح الصدور (396). (5) (ج): "كلمة قد قلتها". وهي زيادة من بعض النسّاخ. (6) كذا في جميع النسخ بحذف نون الرفع. (7) أخرجه البيهقي في الشعب (7/ 19) من طريق ابن أبي الدنيا. وعنه أورده ابن رجب في الأهوال (40).

(1/18)


حدثني أبو بكر التَّيمي (1)، ثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث بن سعد، حدثني حُميد الطويل، عن مُطَرِّف بن عبد الله الحَرَشي (2) قال: خرجنا إلى الربيع في زمانه، فقلنا: ندخلُ يوم الجمعة لشهودها، وطريقنا على المقبرة، قال: فدخلنا، فرأيت جنازة في المقبرة، فقلت: لو اغتنمتُ شهودَ هذه الجنازة، فشهدتها. قال: فاعتزلت ناحيةً قريبًا من قبر، فركعت ركعتين خَفَّفتُهما لم أَرْضَ إتقانَهما. ونعستُ، فرأيتُ صاحب القبر يكلِّمني، وقال: ركعتَ ركعتين لم ترضَ إتقانهما! قلتُ: قد كان ذلك. قال: تعملون، ولا نستطيع أن نعمل. لأن أكونَ ركعتُ مثلَ ركعتيك أحبُّ إليّ من الدنيا بحذافيرها. فقلتُ: من هاهنا؟ فقال: كلُّهم مسلِمٌ، وكلُّهم قد أصاب خيرًا (3). فقلتُ: مَن هاهنا أفضلُ؟ فأشار إلى قبر. فقلت في نفسي: اللهم ربَّنا أخرِجْه إليَّ، فأكلِّمَه. قال: فخرج من قبره فتى شابٌّ، فقلت: أنت (4) أفضل مَنْ هاهنا؟ قال: قد قالوا ذلك. قلت: فبأيِّ شيء نلتَ ذلك؟ فوالله ما أرى لك ذلك السِّنَّ، فأقولَ: نلتَ ذلك بطول الحج والعمرة والجهاد في سبيل الله والعمل. قال: قد ابتُلِيتُ بالمصائب، فرُزِقْتُ الصبرَ عليها، فبذلك فَضَلْتُهم (5). _________ (1) في (ب، ط، ج): "النحوي". وفي (ز): "التميمي" ولعلهما تحريف. فإنه من ولد أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وهو تيمي. (2) في (ق) بالسين المهملة، وفي (أ) بالجيم والشين. وفي (ز): "الجهني". والصواب ما أثبتنا من غيرها، نسبة إلى بني الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. انظر: اللباب (1/ 357). (3) (ز): أصابه خير. (4) (ز): إنّك. (5) أخرجه البيهقي في الشعب (7/ 248) من طريق ابن أبي الدنيا. وعنه أورده ابن رجب في الأهوال (40) والسيوطي في شرح الصدور (365).

(1/19)


وهذه المرائي وإن لم تصلُح بمجرَّدها لإثبات مثل ذلك، فهي على كثرتها ــ وإنها لا يحصيها إلا الله ــ قد تواطأَتْ على هذا المعنى. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أرى رؤياكم قد تواطأَتْ على أنها في العشر الأواخر" (1) يعني ليلةَ القدر، فإذا [5 أ] تواطأت رؤيا المؤمنين على شيء كان كتواطؤِ (2) روايتهم له، وكتواطؤ رأيهم على استحسانه واستقباحه. وما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحًا فهو عند الله قبيح (3)؛ على أنَّا لم نُثبِت هذا بمجرد الرؤيا، بل بما ذكرناه من الحُجَج وغيرها. وقد ثبت في الصحيح أنَّ الميِّت يستأنسُ بالمشيِّعين لجنازته بعد دفنه. فروى مسلم في صحيحه (4) من حديث عبد الرحمن بن شِمَاسة المَهْرِيِّ (5) قال: حضَرْنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فبكى طويلًا، وحوَّل وجهه إلى الجدار، فجعل ابنُه يقول: ما يُبكيك يا أبتاه؟ أما بشَّرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا؟ فأقبل بوجهه، فقال: إنَّ أفضلَ ما نُعِدُّ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. وإني كنت على أطباقٍ ثلاث، لقد رأيتُني وما أحدٌ أشدَّ بغضًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني، ولا أحبَّ إليَّ أن أكون قد استمكنتُ منه، فقتلته. فلو مِتُّ على تلك الحال لكنت من أهل النار. _________ (1) أخرجه البخاري (2015)، ومسلم (1165) من حديث ابن عمر. (2) رسمها في جميع النسخ هنا وفيما يأتي: "كتواطي". (3) يشير إلى ما رواه الحاكم في المستدرك (4465) وغيره عن ابن مسعود موقوفًا. (4) برقم (121). (5) (ق): "المهيري"، خطأ.

(1/20)


فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: ابسط يدك فلأبايعْكَ، فبسط يمينه. قال: فقبضتُ يدي. فقال: "مالك يا عمرو؟ " قلت (1): أردتُ أن أشترط. قال: "تشترطُ ماذا؟ " قلت: أن يُغفَر لي. قال: "أما علمتَ أنَّ الإسلام يهدم ما كان قبله، وأنَّ الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأنَّ الحج يهدم ما كان قبله؟ ". وما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أجلَّ (2) في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالًا له، ولو سئلتُ أن أصفه ما أطَقْتُ لأني لم أكن أملأُ عينيَّ منه، ولو متُّ على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة. ثم ولينا أشياءَ ما أدري ما حالي فيها. فإذا أنا متُّ فلا تصحَبْني نائحةٌ ولا نار. فإذا دفنتموني فسُنُّوا عليَّ التراب سَنًّا (3)، ثم أقيموا حول قبري قَدرَ ما تُنحر جَزور ويُقسَم لحمُها، حتى أستأنس بكم، وأنظرَ ماذا [5 ب] أراجعُ به رسلَ ربِّي. فدلَّ على أنَّ الميِّت يستأنس بالحاضرين عند قبره ويُسَرُّ بهم. وقد ذُكِر عن جماعة من السلف أنهم أوصَوْا أن يُقرأ عند قبورهم وقت الدفن. قال عبد الحق (4): يروى أنَّ عبد الله بن عمر أمر أن يُقرأ عند قبره سورة _________ (1) (ب، ز، غ، ج): "قال". (2) ما عدا الأصل و (غ): "أحلا". (3) أي صُبُّوه صبًّا سهلًا. ويروى بالمعجمة. انظر: مشارق الأنوار (2/ 223). وفي الأصل و (غ) وضع النقط مع علامة الإهمال، للدلالة على جواز الوجهين. (4) في (ز): "عبد الحكيم"، وهو خطأ، فإن المقصود عبد الحق الإشبيلي.

(1/21)


البقرة. وممن رأى ذلك العلاء بن عبد الرحمن. وكان الإمام أحمد ينكر ذلك أولًا حيث لم يبلغه فيه (1) أثر، ثم رجع عن ذلك (2). وقال الخلَّال في "الجامع"، كتاب القراءة عند القبور: أخبرنا العباس بن محمد الدُّوريُّ، حدثنا يحيى بن معين، حدثنا مبشِّر الحلبي، حدثني عبد الرحمن بن العلاء بن اللَّجْلاج (3)، عن أبيه قال: قال أبي: إذا أنا متُّ فضعني في اللحد، وقل: بسم الله وعلى سنة رسول الله، وشُنَّ عليّ التراب شنًّا (4)، واقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها (5)، فإني سمعت عبد الله بن عمر يقول ذلك. قال عباس الدُّوري: سألت أحمد بن حنبل، قلت: تحفظُ في القراءة على القبر شيئًا؟ فقال: لا. وسألت يحيى بن معين فحدَّثني بهذا الحديث (6). _________ (1) (ب، ط): في ذلك. (2) كتاب "العاقبة في ذكر الموت" (184). سياق المصنف يوهم أن الذي رآه العلاء، وأنكره أحمد ثم رجع عنه هو: قراءة سورة البقرة، ولكن المقصود مجرّد إباحة القراءة كما في كتاب "العاقبة". ثم فيه أن العلاء "روى" إباحة القراءة، لا "رأى". (3) تصحف في (ق) إلى: "الحلاج"، وفي (ز): "اللحاج". ومثله الأثر التالي. (4) في (ب، ق، ز): بالسين المهملة. (5) في (ب): "بفاتحة الكتاب وخاتمتها". وفي (ز): "فاتحة ... ". وهو غير مستقيم. وفي كتاب الخلَّال: "بفاتحة الكتاب وأول البقرة وخاتمتها". ولكن في المعجم الكبير وغيره كما أثبتنا من النسخ. (6) القراءة عند القبور للخلَّال برقم (1). وانظر: الأمر بالمعروف له (243)، وتاريخ يحيى بن معين برواية الدوري (5413، 5414). وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (19/ 221).

(1/22)


قال الخلَّال: وأخبرني الحسن (1) بن أحمد الورَّاق، حدثني علي بن موسى (2) الحدَّاد ــ وكان صدوقًا ــ قال: كنت مع أحمد بن حنبل ومحمد ابن قُدامة الجوهريِّ (3) في جنازة، فلما دُفن الميت جلس رجل ضرير يقرأ عند القبر، فقال له أحمد: يا هذا، إنَّ القراءة عند القبر بدعة. فلما خرجنا من المقابر قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله، ما تقول في مبشِّر (4) الحلبي؟ قال: ثقةٌ. قال: كتبتَ عنه شيئًا؟ قال: نعم. قال: فأخبَرني مبشرٌ، عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج، عن أبيه أنه أوصى إذا دُفن أن يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها. وقال: سمعت ابن عمر (5) يوصي بذلك. فقال له أحمد: فارجع، وقُل للرجل يقرأ (6). وقال الحسن بن الصباح الزَّعفراني: سألت الشافعيَّ عن القراءة عند القبر، فقال: لا بأس به (7). _________ (1) (ق): الحسين. (2) (ب): حدثني ابن موسى. (3) "ومحمد .. الجوهري" ساقط من (ب). (4) تصحف في (ز) إلى "ميسر" في هذا الأثر والأثر السابق. (5) في (ز): "سمعت عمر"، وهو خطأ. (6) القراءة عند القبور (3)، والأمر بالمعروف (246). وللألباني كلام عليه في أحكام الجنائز له (192). (7) القراءة عند القبور (4)، والأمر بالمعروف (248). قال الحافظ ابن حجر في الإمتاع (85 ــ 86): "وهذا نص غريب عن الشافعي، والزعفراني من رواة القديم، وهو ثقة. وإذا لم يرد في الجديد ما يخالف منصوص القديم فهو معمول به، ولكن يلزم من ذلك أن يكون الشافعي قائلًا بوصول ثواب القرآن". وقال شيخ الإسلام في الاقتضاء (2/ 264): "ولا يحفظ عن الشافعي نفسه في هذه المسألة كلام، وذلك لأن ذلك كان عنده بدعة".

(1/23)


وذكر الخلَّال عن الشَّعبيِّ قال: كانت الأنصار إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره يقرؤون عنده القرآن (1). قال [6 أ]: وأخبرني أبو يحيى الناقد قال: سمعت الحسن بن الجَرَوي (2) يقول: مررت على قبر أختٍ لي فقرأت عندها "تبارك" لِمَا يُذكر فيها، فجاءني رجل فقال: إني رأيت أختَك في المنام تقول جزى الله أبا علي خيرًا، فقد انتفعتُ بما قرأ (3). أخبرني الحسن بن الهيثم قال: سمعت أبا بكر بن الأطروش ابنَ بنت أبي نصر التَّمَّار (4) يقول: كان رجل يجيء إلى قبر أمه يوم الجمعة، فيقرأ سورة يس. فجاء في بعض أيامه، فقرأ سورة يس، ثم قال: اللهم إن كنتَ قسمتَ لهذه السورة ثوابًا فاجعلها في أهل هذه المقابر. فلما كان في الجمعة التي تليها جاءت امرأة، فقالت: أنتَ فلان بن فلانة؟ قال: نعم. قالت: إن بنتًا لي ماتت، فرأيتها في النوم جالسةً على شَفير قبرها، فقلت: ما أجلسكِ هاهنا؟ فقالت: إن فلان بن فلانة جاء إلى قبر أمه، فقرأ سورة يس، وجَعَل ثوابها لأهل المقابر. فأصابنا من رَوح ذلك، وغُفر لنا، أو نحو ذلك (5). وفي النَّسائي وغيره من حديث مَعقِل بن يسار المُزَني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه _________ (1) القراءة عند القبور (7). وانظر الكلام عليه في أحكام الجنائز للالباني (193). (2) في (ط): "الجريري" بالجيم، وفي (ب) بالحاء، وكلاهما خطأ. (3) القراءة عند القبور (9)، والأمر بالمعروف (215) (4) (ط، ق، ز): نصر بن التمار. (5) القراءة عند القبور (11)، والأمر بالمعروف (253).

(1/24)


قال: "اقرؤوا (يس) عند موتاكم" (1). وهذا يَحتمل أن يُراد به قراءتُها على المحتَضَر عند موته، فيكون مثل قوله: "لقِّنوا موتاكم لا إله إلا الله" (2). ويحتمل أن يرادَ به القراءةُ عند القبر (3). والأول أظهَرُ لوجوه: الأول: أنه نظير قوله: "لقِّنوا موتاكم لا إله إلا الله". _________ (1) أخرجه النسائي في الكبرى، كتاب عمل اليوم والليلة (10913) من طريق عبد الله بن المبارك، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن معقل بن يسار، به، فذكره. وأخرجه ابن حبان (3002) من طريق يحيى القطان، عن سليمان التيمي بإسناده، مثله. وأخرجه أبو داود (3121)، وابن ماجه (1448)، والإمام أحمد (20301، 20314)، والحاكم (1/ 565) من طرق عن ابن المبارك، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان ــ وليس بالنهدي ــ عن أبيه، عن معقل بن يسار، به. وقال الحاكم: "أوقفه يحيى بن سعيد وغيره عن سليمان التيمي، والقول فيه قول ابن المبارك؛ إذ الزيادة من الثقة مقبولة". بل سبق أن يحيى القطان رفعه أيضًا كما في رواية ابن حبان، ورفعه أيضًا المعتمر بن سليمان عن أبيه، لكنه جعله عن رجل، عن أبيه، عن معقل بن يسار، به، نحوه مطولًا. أخرجه النسائي في الكبرى (10914)، والإمام أحمد (20300). والخلاصة أن في أسانيده اضطرابًا وجهالة؛ لأن مداره على أبي عثمان وهو غير معروف وليس هو بالنهدي ــ كما جاء في الرواية ــ وكذا أبوه في الرواية الأخرى لا يُعرف أيضًا. قال الحافظ ابن حجر في التلخيص (2/ 104): "أعلَّه ابن القطان بالاضطراب وبالوقف، وبجهالة حال أبي عثمان وأبيه. ونقل أبو بكر بن العربي عن الدارقطني أنه قال: هذا حديث ضعيف الإسناد، مجهول المتن، ولا يصح في الباب حديث" اهـ. وضعَّفه النووي في الخلاصة (2/ 925)، والمجموع (5/ 110). (قالمي). (2) أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري (916) وأبي هريرة (917). (3) ما عدا (أ، غ، ق): "قبره".

(1/25)


الثاني: انتفاعُ المحتَضَر بهذه السورة لما فيها من التوحيد، والمعَادِ، والبشرى بالجنة لأهل التوحيد، وغبطةِ من مات عليه بقوله: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 26، 27]. فتستبشر الروح بذلك، فتحبُّ لقاءَ الله، فيحبُّ اللهُ لقاءَه. فإنَّ هذه السورة قلبُ القرآن (1) ولها خاصِّية عجيبة في قراءتها عند المحتضَر. وقد ذكر أبو الفرج ابن الجوزي قال: كنَّا عند شيخنا أبي الوقت عبد الأول، وهو في السياق، وكان آخر عهدنا به أنه نظر إلى السماء، وضحك، وقال: {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}. [6 ب] وقضى (2). الثالث: أنَّ هذا عملُ الناس وعادتُهم قديمًا وحديثًا: يقرؤون (يس) عند المحتضر. الرابع: أنّ الصحابة لو فهموا من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اقرؤوا (يس) عند موتاكم" قراءتَها عند القبر لما أَخلُّوا به، وكان ذلك أمرًا معتادًا مشهورًا بينهم. الخامس: أنَّ انتفاعَه باستماعها، وحضورَ قلبه وذهنهِ عند قراءتها في آخر عهده بالدنيا هو المقصود. وأما قراءتُها عند قبره، فإنه لا يثابُ على ذلك، لأن الثواب إما بالقراءة أو بالاستماع، وهو عمل، وقد انقطع من الميت. _________ (1) يشير إلى ما رواه الترمذي من حديث أنس (2887). (2) الذي في المنتظم لابن الجوزي (10/ 82) أن أبا عبد الله التكريتي الصوفي حدَّثه، قال: أسندتُه إليّ، فمات، فكان آخر كلمة قالها: {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ}. ومثله في كتاب الثبات عند الممات له (181).

(1/26)


فصل وقد ترجم الحافظ أبو محمد عبد الحق الإشبيليُّ (1) على هذا، فقال: "ذِكْرُ ما جاء أنّ الموتى يَسألون عن الأحياء، ويَعرفون أقوالهم (2) وأعمالهم". ثم قال: ذَكَر أبو عمر ابن عبد البر من حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما من رجل يمرُّ بقبر أخيه المؤمنِ كان يعرفه فيسلِّمُ عليه إلا عَرَفه وردَّ عليه السلام" (3). ويُروَى هذا من حديث أبي هريرة موقوفًا. قال (4):فإن لم يعرفه وسلَّم عليه ردَّ عليه السلام (5). قال: ويروى من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من رجل يزور قبرَ أخيه، فيجلسُ عنده إلا استأنسَ به حتى يقوم" (6). واحتج الحافظ أبو محمد في هذا الباب بما رواه أبو داود في سُننه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من أحد يسلِّم عليَّ إلا ردَّ الله عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام" (7). _________ (1) في كتابه: العاقبة في ذكر الموت والآخرة (155). وكلمة "الإشبيلي" ساقطة من (ب). (2) في العاقبة: "أحوالهم". (3) سبق في (ص 5). (4) يعني أبا هريرة. (5) سبق حديث أبي هريرة في (ص 6). (6) سبق تخريجه في (ص 9). (7) أخرجه أبو داود (2041)، والإمام أحمد (10815)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 245) من طرق عن عبد الله بن يزيد المقرئ، ثنا حيوة بن شريح، عن أبي صخر حميد بن زياد، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة، به. قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 174): "على شرط مسلم". وقال العراقي في المغني عن حمل الأسفار (1023): "سنده جيد". وحسَّن إسناده السخاوي في القول البديع (ص 229). وانظر الكلام عليه مفصلًا في الصارم المنكي (189 ــ 197) لابن عبد الهادي. (قالمي).

(1/27)


قال: وقال سليمان بن نُعَيم: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم، فقلت: يا رسول الله، هؤلاء الذين يأتونك ويسلِّمون عليك، أتفْقَه منهم؟ قال: "نعم، وأردُّ عليهم" (1). قال: وكان - صلى الله عليه وسلم - يعلِّمهم أن يقولوا إذا دخلوا المقابر: "السلام عليكم أهل الديار .. " الحديث (2). قال: وهذا يدل على أنَّ الميّت يعرف سلام من يسلِّم عليه، ودعاءَ من يدعو له (3). قال أبو محمد [7 أ]: ويُذكر عن الفضل بن الموفَّق قال: كنت آتي قبر أبي المرَّة بعد المرَّة، فأُكثِرُ من ذلك، فشهدت يومًا جنازة في المقبرة التي دُفن فيها، فتعجَّلْتُ لحاجتي، ولم آتِه. فلما كان من الليل رأيته في المنام، فقال لي: يا بنيَّ، لم لا تأتيني؟ قلت له: يا أبت، وإنك لَتعلَمُ بي إذا أتيتك؟ قال: إي والله يا بني! لا أزال أطَّلع عليك حين تطلُع من القنطرة حتى تصل إليَّ، وتقعد عندي، ثم تقوم. فلا أزال أنظر إليك حتى تجوز القنطرة (4). _________ (1) كتاب العاقبة (156). (2) سبق تخريجه في (ص 8). (3) كتاب العاقبة (156 - 157). (4) كتاب العاقبة (157 - 158).

(1/28)


قال ابن أبي الدنيا: حدثني إبراهيم بن سيّار (1) الكوفي، قال: حدَّثني الفضل بن الموفق. فذكر القصة (2). وصحَّ عن عمرو بن دينار أنه قال: ما من ميِّتٍ يموت إلا وهو يعلم ما يكون في أهله بعده. وإنهم لَيغسلونه ويكفنونه، وإنه لينظر إليهم (3). وصحَّ عن مجاهد أنه قال: إنَّ الرجلَ لَيُبشَّر (4) في قبره بصلاح ولده من بعده (5). فصل (6) ويدلُّ على هذا أيضًا ما جرى عليه عمل الناس قديمًا وإلى الآن من _________ (1) في جميع النسخ: "بشار"، وهو تصحيف. والصواب ما أثبتنا. انظر: الإكمال لابن ماكولا (4/ 432). وجاء على الصواب في أهوال القبور لابن رجب (84). (2) رواها ابن أبي الدنيا في المنامات (19) عن محمد بن الحسين عن الفضل. ولعل المؤلف نقلها من كتاب القبور. (3) أورده ابن رجب في أهوال القبور (86) عن كتاب القبور لابن أبي الدنيا. (4) (ط): لَيُسَرُّ. (5) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (16) قال: حدثنا أبو هشام، حدثنا يحيى بن يمان عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه. وفيه عبد الوهاب بن مجاهد. قال ابن حجر: متروك، وقد كذّبه الثوري. ويحيى بن يمان صدوق عابد يخطئ كثيرًا وقد تغيَّر. وأبو هشام الرفاعي، قال البخاري: رأيتهم مجمعين على ضعفه. انظر: التقريب (368، 598، 514). وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى أبي نعيم في الحلية، ولم أجده فيه. فقول المصنف: "صحّ عن مجاهد" فيه نظر. هذا، وا لعبارة: "قال ابن أبي الدنيا ... من بعده" ساقطة من (ب). (6) بعده في (ط): "في تلقين الميت". وفوقها في أولها وآخرها حرف الحاء علامة للمحذوف.

(1/29)


تلقين الميت في قبره. ولولا أنه يَسمع ذلك وينتفعُ به لم يكن فيه فائدةٌ وكان عبثًا. وقد سئل عنه الإمام أحمد، فاستحسنه، واحتجَّ عليه بالعمل (1). ويُروى فيه حديثٌ ضعيف ذكره الطبراني في معجمه (2) من حديث أبي _________ (1) لم أجد ما نقله المؤلف عن الإمام أحمد. والذي ذكره شيخ الإسلام أنه رخّص فيه، وإنّما استحبه طائفة من أصحابه وأصحاب الشافعي. انظر: مجموع الفتاوى (24/ 296 - 299)، والاختيارات الفقهية (1/ 446)، والفروع (3/ 384). وابن القيم نفسه قال وهو يذكر هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنائز: "ولا يلقن الميت، كما يفعله الناس اليوم. وأما الحديث الذي رواه الطبراني ... لا يصح رفعه. ولكن قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: فهذا الذي يصنعونه إذا دُفن الميت، يقف الرجل ويقول: يا فلان بن فلانة، اذكر مافارقت عليه الدنيا: شهادة أن لا إله إلا الله. فقال: ما رأيت أحدًا فعل هذا إلا أهل الشام، حين مات أبو المغيرة، جاء إنسان فقال ذلك ... " زاد المعاد (1/ 522 - 523). فليس فيما ذكره ما يدلّ على أن الإمام أحمد استحسنه. وفي نسخة (ط) هنا حاشية طويلة صرّح بعض القراء أنها بخط الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله. نقل فيها الشيخ أولًا من الفروع والاختيارات ما يفيد أن المذكور عن الإمام أحمد إباحة التلقين، لا استحبابه كما قال ابن القيم. ثم نقل من المغني قول ابن قدامة: "لم أسمع في التلقين شيئًا عن أحمد، ولا أعلم للأئمة فيه قولًا سوى ما رواه الأثرم ... إلخ". واحتج به على أن العمل بالتلقين لم يكن "مشهورًا ولا ظاهرًا في جميع بلاد الإسلام، بل كلام أحمد يدلّ على أن جميع بلاد الإسلام التي دخلها أحمد رحمه الله لم يكونوا يفعلون ذلك، سوى ما حكاه عن أهل الشام حين مات هذا الرجل". (2) الكبير (7979) من طريق سعيد بن عبد الله الأودي، قال: شهدت أبا أمامة وهو في النزع، فقال: "إذا مت فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصنع بموتانا، أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال. (فذكره مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ). وأورده المصنف في زاد المعاد (1/ 523) بلفظ الطبراني سواء، ثم قال: "فهذا حديث لا يصح رفعه". وقال في حاشيته على سنن أبي داود (4781 ــ باب في تغيير الأسماء): "هذا الحديث متفق على ضعفه فلا تقوم به حجة". وسيأتي قوله: "إنه لم يثبت". وضعّفه النووي في الخلاصة (2/ 1029) والمجموع (5/ 274)، والعراقي في تخريج الإحياء (2/ 1229) وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 324) للطبراني في الكبير، وقال: "فيه من لم أعرفه جماعة". لكن قال الحافظ في التلخيص (2/ 310): "إسناده صالح، وقد قوّاه الضياء في أحكامه". وتعقبه الألباني بما تراه في الضعيفة (599). (قالمي).

(1/30)


أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مات أحدكم، فسوَّيتُم عليه الترابَ، فلْيقمْ أحدكم على رأس قبره، ثم يقول: يا فلان بن فلانة. فإنه يسمع (1) ولا يجيب. ثم ليقل (2): يا فلان بن فلانة، الثانيةَ. فإنه يستوي قاعدًا. ثم ليقل: يا فلان بن فلانة. فإنه يقول (3): أرشِدْنا، رحمك (4) الله. ولكنكم لا تسمعون. فيقول: اذكر ما خرجتَ عليه من الدنيا: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأنك رضيتَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا، وبالقرآن إمامًا. فإنَّ منكرًا ونكيرًا يتأخر كل واحد منهما ويقول: انطلِقْ ما يُقعِدنا (5) عند هذا، وقد (6) لُقِّن حجتَه؟ _________ (1) (ب): "يسمعه". وأشار إلى هذه النسخة في هامش (ط). وكذا عند الطبراني. (2) (أ، غ): "يقول". (3) (أ، غ): "فيقول". (4) (ط): "يرحمك". (أ، غ، ق): "رحمكم". (5) (ب، ط): "ما نقعد". (6) (ب، ط، ج): "ولقد".

(1/31)


ويكون الله حجيجه دونهما". فقال رجل: يا رسول الله، فإن لم يعرف أمَّه؟ قال [7 ب]: "ينسبه إلى أمه حوَّاء". فهذا الحديث، وإن لم يثبت، فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار، ومن غير إنكار، كافٍ في العمل به (1). وما أجرى الله سبحانه العادةَ قطُّ بأنّ أمّةً طبَّقت مشارق الأرض ومغاربها، وهي أكمل الأمم عقولًا وأوفرُها معارفَ، تُطبِق على مخاطبةِ مَن لا يسمع ولا يعقل، وتستحسن ذلك، ولا ينكرُه منها منكِر، بل سنَّه (2) الأول للآخِر، ويقتدي فيه الآخِر بالأول (3). فلولا أنَّ المخاطَب يسمع وإلا كان (4) ذلك بمنزلة الخطاب للتراب والخشبِ والحجر أو للمعدوم (5)، وهذا، وإن استحسنه واحد، فالعقلاء قاطبةً على استقباحه واستهجانه. وقد روى أبو داود في سننه (6) بإسناد لا بأس به أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حضر _________ (1) سبق أنّ العمل به لم يُعرف إلا في بلاد الشام. (2) (ب، ط، ج): "يسنّه". (3) انظر تعقيب الأمير الصنعاني على ذلك في كتابه جمع الشتيت (80). (4) "وإلا" هنا في غير موضعها، ولا يستقيم المعنى إلا بحذفها. وهو من التراكيب الملحونة الشائعة في عهد المؤلف. انظر تعليقنا على طريق الهجرتين (44) والداء والدواء (500). (5) (ب، ط): "أو المعدوم". (ق، ج): "والمعدوم". (6) برقم (3221). وأخرجه الحاكم (1/ 370)، والضياء المقدسي في المختارة (388) من طرق عن هشام بن يوسف الصنعاني، ثنا عبد الله بن بحير، عن هانئ مولى عثمان، قال: سمعت عثمان بن عفان يقول. (فذكره). وقال الحاكم: "صحيح الإسناد"، وقال النووي في المجموع شرح المهذب (5/ 292): "إسناده جيد". (قالمي).

(1/32)


جنازة رجل، فلما دُفن قال: "سَلُوا لأخيكم التثبيت، فإنه الآن يُسأل". فأخبرَ أنه يُسأل حينئذ، وإذا كان يُسأل فإنَّه يسمع التلقين. وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الميت يسمع قرْعَ نعالهم إذا ولَّوا منصرفين (1). وذكر عبد الحق عن بعض الصالحين: قال: مات أخ لي، فرأيته في النوم، فقلت: يا أخي، ما كان حالك حين وُضِعتَ في قبرك؟ قال: أتاني آتٍ بشهاب من نار، فلولا أنَّ داعيًا دعا لي لهلكتُ (2). وقال شَبِيب بن شَيْبَة: أوصتني أمي عند موتها، فقالت: يا بُنَيَّ إذا دفنتَني فقُم عند قبري، وقل: يا أم شبيب (3) قُولي: لا إله إلا الله. فلما دفنتُها قمتُ عند قبرها، فقلت: يا أمَّ شبيب قُولي: لا إله إلا الله. ثم انصرفتُ. فلما كان من الليل رأيتها في النوم، فقالت: يا بنيَّ، كدتُ أن أهلِكَ لولا أن تداركني (4) "لا إله إلا الله"، فقد حفظتَ وصيتي يا بنيّ (5). وذكر ابن أبي الدنيا عن تُماضِرَ بنت سهل امرأةِ أيوب بن عيينة (6) قالت: رأيت (7) سفيان بن عيينة في النوم فقال لي: جزى الله أخي أيوبَ عنّي _________ (1) سيأتي بتمامه في (ص 157) وثمة تخريجه. (2) كتاب العاقبة (182). (3) في (ز) والمنامات والعاقبة هنا وفيما يأتي: "أم شيبة". (4) (ب، ط، ج): تداركتني. (5) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (18). وانظر: كتاب العاقبة (183). (6) (ب، ز): "عتبة". وفي حاشية (ط): "صوابه عتبة". (7) الذي في كتاب المنامات أن ابنة سفيان بن عيينة هي التي رأت أباها في المنام. وكذا في الأهوال لابن رجب عن ابن أبي الدنيا.

(1/33)


خيرًا، فإنه يزورني كثيرًا، وقد كان عندي اليوم. فقال أيوب: نعم حضرتُ الجبَّان (1) اليوم، فذهبت إلى قبره (2). وصحَّ عن حمَّاد بن سلَمة، [8 أ] عن ثابت، عن شهر بن حَوْشَب أنَّ الصعب بن جَثَّامة وعوفَ بن مالك كانا متواخيين (3). قال صعب لعوف: أي أخي: أيُّنا مات قبل صاحبه فَلْيَتَرايا (4) له. قال: أوَ يكون ذلك؟ قال: نعم. فمات صعب، فرآه عوف فيما يرى النائم، كأنه قد أتاه. قال: قلت: أي أخي. قال: نعم. قلت: ما فُعِل بكم؟ قال: غُفِر لنا بعد المشايب (5). قال: ورأيت _________ (1) (ب، ط، ج): "جنازة". وكذا في المنامات. (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (20). ومنه في كتاب الأهوال (84). (3) لغة في "متآخيين". انظر: اللسان (14/ 22 أخا). (4) كذا في جميع النسخ بإبدال الهمزة ياء وإثبات حرف العلّة في المضارع المجزوم من المعتل اللام. والجادّة: فَلْيَتَراءَ. وتراءى له: تصدّى له ليراه. (5) اضطربت النسخ والمصادر في إثبات هذه الكلمة اضطرابًا شديدًا. ففي (أ، غ، ز): "المشارب"، وفي (ق): بالسين المهملة، وفي (ب، ج): "المشاربة"، وصحح في هامش (ج): "المشازرة" مع تفسيرها بالفارسية. وفي (ط): "المشارفة". وفي أهوال القبور: "المساوي"، وفي شرح الصدور: "المشاق"، وفي المنامات ــ وهو مصدر الجميع ــ: "المصائب". ولكني اخترت ــ مع كون "المصائب" و"المشاق" أوضح ــ ما ورد في الجليس الصالح، لأن المعافى بن زكريا نصّ على روايته وشرحه، ثم هو أقرب إلى ما في معظم أصولنا. أما كتاب المنامات وغيره فلا نعرف ما في أصولها، ولا ثقة بما أثبته ناشروها. قال المعافى: "يتجه فيه وجهان من التأويل: أحدهما: أنه شاب الشيءَ إذا خالطه ومازجه، فكأنه عنى أنه لقي ــ مع أنه نجا وفاز ــ أمورًا فظيعة راعته حين عاينها يومئذ. وهو يوم الفزع الأكبر ... والوجه الثاني: أنه من الشيب والمشيب، وقد وصفه الله تعالى بأنه يجعل الولدان شيبًا". قلت: الوجه الثاني هو الظاهر. ويؤيده ورود كلمة "المُشيبات" في خبر آخر في مثل هذا السياق أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (159). وقد وردت أيضًا في حديث أبي أمامة في مسند أحمد (36/ 566) برقم (22232)، وضبطت بكسر الياء المشددة. ويجوز بسكونها. والمشايب كالمشيبات جمع المُشِيبة.

(1/34)


لُمعةً سوداءَ في عنقه، قلت: أي أخي ما هذه؟ قال: عشرة دنانير استسلفتُها من فلان اليهودي، فهنَّ (1) في قَرَني (2)، فأعطوه إياها. واعلم أي أخي أنه لم يحدث في أهلي حدَثٌ بعد موتي إلا قد لحق بي خبره، حتى هرّةٌ لنا ماتت منذ أيام. واعلم أنَّ بنتي تموت إلى ستة أيام، فاستوصُوا بها معروفًا. فلما أصبحتُ قلت: إنَّ في هذا لَمَعْلمًا (3)، فأتيت أهله، فقالوا: مرحبًا بعوفٍ! أهكذا تصنعون بتركة إخوانكم؟ (4) لم تقرَبْنا منذ مات صعب! قال: فاعتلَلْتُ بما يعتلُّ به الناس. فنظرتُ إلى القرَن، فأنزلتُه، فانتثلْتُ (5) ما فيه، فوجدتُ الصُّرَّة التي فيها الدنانير، فبعثتُ بها إلى اليهودي، فقلت: هل كان لك على صعب شيء؟ قال: رحم الله صعبًا، كان من خيار أصحاب محمد (6) (- صلى الله عليه وسلم -)، هي له. قلت: لَتُخْبِرنِّي. قال: نعم، أسلفتُه عشرة دنانير. _________ (1) (ب، ط، ز، ج): "فهي". (2) (ط): "قرن". والقَرَن: الكنانة. (3) (ز): "لعبرة". (4) (ب، ط، ج): "أهكذا تتركون إخوانكم". (5) أي استخرجت. (6) ما عدا (ب، ط، ج): "رسول الله".

(1/35)


فنبذتُها إليه. قال: هي والله بأعيانها. قال: قلت: هذه واحدة. قال: فقلت: هل حدث فيكم حدثٌ بعد موت صعب؟ قالوا: نعم حدث فينا كذا، حدث فينا كذا. قال: قلت: اذكروا. قالوا: نعم. هِرَّةٌ ماتت منذ أيام، فقلت: هاتان اثنتان. قلت: أين ابنة أخي؟ قالوا: تلعب، فأُتِيتُ بها، فمَسِسْتُها، فإذا هي محمومة، فقلت: استوصُوا بها معروفًا. فماتت لستة أيام (1). وهذا من فقه عوف رحمه الله، وكان من الصحابة، حيث نفَّذ وصية صعب بن جثَّامة بعد موته، وعلم صحة قوله بالقرائن التي أخبره بها، من أنَّ الدنانير عشرة، وهي في القَرَن، ثم سأل اليهودي، فطابق قولُه لما في الرؤيا، فجزم عوف بصحة الأمر، فأعطى (2) اليهودي الدنانير. وهذا فقه إنما يليق بأفقهِ الناس وأعلمِهم، وهم أصحاب [8 ب] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولعل أكثر المتأخرين ينكر ذلك ويقول: كيف جاز لعوف أن ينقل الدنانير من تركة صعب ــ وهي لأيتامه وورثته ــ إلى يهودي بمنام؟ ونظيرُ هذا من الفقه الذي خصَّهم الله به دون الناس قصَّةُ ثابت بن قيس بن الشمَّاس. وقد ذكرها أبو عمر بن عبد البر وغيرُه، قال أبو عمر (3): أخبرنا عبد الوارث بن سفيان، حدثنا قاسم بن أصبَغ، حدثنا أبو الزِّنْباع _________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (25). ومنه في الأهوال (89). ومنه ومن عيون الحكايات لابن الجوزي في شرح الصدور (352). وأخرجه الجريري في الجليس الصالح (3/ 274). وقد أخرجه ابن المبارك في الزهد (830) على وجه آخر. قال ابن رجب: وهو أشبه. (2) (ب، ط، ج): "وأعطى". (3) في كتاب الاستيعاب (1/ 201).

(1/36)


رَوْح بن الفرج، ثنا سعيد بن عفير وعبد العزيز بن يحيى المدني، ثنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن إسماعيل بن محمد بن ثابت الأنصاري، عن ثابت بن قيس بن شمَّاس أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يا ثابتُ، أما ترضى أن تعيش حميدًا، وتُقتَل (1) شهيدًا، وتدخل الجنة؟ " قال مالك: فقُتِل ثابت بن قيس يوم اليمامة شهيدًا (2). _________ (1) (ط): "وتموت". (2) أخرجه محمد بن الحسن الشيباني في موطئه (945 ــ مع التعليق الممجد) عن مالك، بإسناده، وفي أوله قصة. ومن طريق مالك أخرجه أيضًا الطبراني في المعجم الكبير (1312)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (1328). وفي إسناده إسماعيل بن محمد بن ثابت لم يوثقه غير ابن حبان بذكره إياه في الثقات (4/ 16). وفيه انقطاع أيضًا، لأن إسماعيل لم يدرك جده ثابتًا، كما قاله الحافظ في تعجيل المنفعة (1/ 309)، وفي فتح الباري (6/ 621). ورواه الحاكم في المستدرك (3/ 234) من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدثني أبي، عن ابن شهاب، قال: أخبرني إسماعيل بن محمد بن ثابت الأنصاري، عن أبيه، أن ثابت بن قيس قال: يا رسول الله، لقد خشيت أن أكون قد هلكت. (الحديث). وقال: "على شرط الشيخين". وليس كما قال رحمه الله، لأن إسماعيل بن محمد بن ثابت وأباه ليسا من رجال الشيخين، ثم هو مرسل أيضًا محمد بن ثابت لم تثبت له صحبة وهو يستصغر عن حضور القصة المذكورة، بل في سماعه من أبيه نظر، قال الحافظ في ترجمته من التهذيب (9/ 84): "والظاهر أن رواية محمد عن أبيه، وعن سالم أيضًا مرسلة؛ لأنهما قتلا يوم اليمامة وهو صغير إلا أن يكون حفظ عن أبيه وهو طفل، وقد أوردوه في الصحابة على قاعدتهم ولا تصح له صحبة". والحديث يتقوّى بما بعده، ولقصة رفع الصوت شاهد من حديث أنس عند البخاري (3613)، ومسلم (119)، وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - له: "إنك لستَ من أهل النار، ولكن من أهل الجنة". (قالمي).

(1/37)


قال أبو عمر (1): وروى هشام بن عمار، عن صَدقة بن خالد، ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: حدثني عطاء الخراسانيُّ قال: حدثتني ابنة ثابت بن قيس بن شمَّاس قالت: لما نزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] دخل أبوها بيته، وأغلق عليه بابه. ففقده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأرسل إليه يسأله: ما خبره؟ قال: أنا رجل شديد الصوت، أخاف أن يكون قد حَبط عملي. قال: "لستَ منهم، بل تعيشُ بخير، وتموتُ بخير". قال: ثم أنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]. فأغلق عليه بابه (2)، وطفق يبكي. ففقده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل إليه، فأخبره، فقال: يا رسول الله إني أحِبّ الجَمَال، وأحِبّ أن أسودَ قومي. فقال: "لست منهم، بل تعيش حميدًا، وتقتل شهيدًا، وتدخلُ الجنة". قالت (3): فلما كان يومُ اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة، فلما التقَوا انكشفوا، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنَّا نقاتل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم حفر كلُّ واحد له حفرةً، فثبَتا، وقاتلا حتى قُتِلا. وعلى ثابت يومئذ درعٌ له نفيسةٌ، فمرَّ به رجل من المسلمين [9 أ] فأخذها. فبينا رجل من المسلمين نائم، إذ أتاه ثابت في منامه، فقال له: _________ (1) في الاستيعاب أيضًا (1/ 201 - 203). (2) من "ففقده" إلى هنا سقط من (ز). (3) (ب، ط، ز): "قال"، وهو ساقط من (ج).

(1/38)


أوصيك (1) بوصية، فإياك أن تقول: هذا حلم، فتضيعَه! إنّي لمّا قُتِلتُ أمسِ مرَّ بي رجلٌ من المسلمين، فأخذ درعي. ومنزلُه في أقصى الناس، وعند خبائه فرسٌ يستنُّ في طِوَله (2)، وقد كفأ على الدرع بُرمَةً (3)، وفوق البرمة رَحْلٌ. فأتِ خالدًا، فمُرْه أن يبعث إلى درعي، فيأخذَها. وإذا قدمتَ المدينة على خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ــ يعني أبا بكر الصديق ــ فقل له: إن عليَّ من الدين كذا وكذا، وفلانٌ من (4) رقيقي عتيق، وفلان. فأتى الرجل خالدًا، فأخبره، فبعث إلى الدرع فأُتي بها. وحدَّث أبا بكر برؤياه، فأجاز وصيته. قال: ولا نعلم أحدً أجيزت وصيتُه بعد موته غيرَ ثابت بن قيس رحمه الله (5). انتهى ما ذكره أبو عمر. _________ (1) (ب، ط، ج): "إني أوصيك". (2) الطِّوَل: الحبل الذي يطوَّل للدابة، فترعى فيه. والاستنان: النشاط والمرح. (3) البُرمة: القدر. (4) لم ترد "من" في (ب، ط، ج). (5) أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3399) قال: حدثنا هشام بن عمار بإسناده إلى قوله: "إلى مُسيلمة". ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده الكبير ــ كما في المطالب العالية (3721) ــ، والطبراني في المعجم الكبير (1320) من طريقين عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بإسناده، مطولًا. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 322): "رواه الطبراني، وبنت ثابت بن قيس لم أعرفها وبقية رجاله رجال الصحيح، والظاهر أن بنت ثابت بن قيس صحابية، فإنها قالت: سمعت أبي". قلت: وما استظهره رحمه الله وجيه جدًّا؛ لأن تصريحها بالسماع من أبيها الذي قتل في خلافة أبي بكر رضي الله عنه في وقعة اليمامة أوائل سنة (12 هـ) دليل على إدراكها لزمن النبوة وهي مميزة. ولذلك أوردها في الصحابة أبو نعيم في معرفة الصحابة ترجمة (4221) وأخرج لها هذا الحديث من طريق ابن أبي عاصم، واستدركها أبو موسى المديني على ابن منده، كما في أُسد الغابة ترجمة (7635). (قالمي).

(1/39)


فقد اتفق خالد وأبو بكر الصديق والصحابة معه على العمل بهذه الرؤيا، وتنفيذِ الوصية بها، وانتزاعِ الدرع ممَّن هو في يده بها. وهذا (1) محض الفقه. وإذا كان أبو حنيفة وأحمد ومالك يقبلون قول المدَّعي من الزوجين ما يصلح له دون الآخر لقرينة صدقه (2)، فهذا أولى. وكذلك أبو حنيفة (3) يقبل قول المدَّعي للحائط بوجوه (4) الآجُرِّ إلى جانبه وبمعاقد القُمُط (5). _________ (1) (ب، ط، ج): "وهذا هو". (2) انظر: المغني (14/ 333). (3) الصواب أن ما ذكره مذهب صاحبيه. والمؤلف نفسه عزاه في الطرق الحكمية (361) إلى أبي يوسف. أما أبو حنيفة فإنه كالشافعي لا ينظر إلى وجوه الآجرِّ ونحوها. انظر: المبسوط للسرخسي (17/ 165)، والفتاوى الهندية (4/ 99)، والمغني (7/ 43). (4) في النسخ المطبوعة: "بوجود"، والصواب ما أثبتنا، وقد أجمعت عليه النسخ الخطية، فخالفها بعض الناشرين. وانظر: المغني (7/ 43)، والتلقين للقاضي عبد الوهاب (2/ 171). (5) كذا ضبط في (ب، ق) بضمتين: جمع قِماط، وهو ما يُعمل من ليف وخُوص ونحوه يُشَدّ به الخُصُّ وهو البيت الذي يعمل من القصب. وقيل غير ذلك. انظر: المصباح المنير (516). وضبطه الجوهري بكسر القاف وسكون الميم: القِمْط، بمعنى القماط. انظر: الصحاح (1154) والنهاية (4/ 108).

(1/40)


وقد شرَع الله حدَّ المرأة بأيمان الزوج وقرينةِ نُكولها، فإن ذلك من أظهر الأدلَّة على صدق الزوج (1). وأبلغُ من ذلك قتل المقسَم عليه في القَسامة بأيمان المدّعين مع القرينة الظاهرة من اللَّوْث (2). وقد شَرَع الله سبحانه قبول قول المدَّعين لترِكةِ ميتهم، وإذا مات في السفر، وأوصى إلى رجلين من غير المسلمين، فاطَّلع الورثة على خيانة الوصيَّيْن. فإنّهما يحلفان بالله، ويستحقَّانه (3)، وتكون أيمانهما أولى من أيمان الوصيين. وهذا أنزله الله سبحانه في آخر الأمر في سورة المائدة، وهي آخر القرآن نزولًا، ولم ينسخها شيء، وعمل بها الصحابة بعده (4). وهذا دليل على أنه يُقضَى في الأموال باللَّوث، وإذا كان الدم يباح باللَّوث في القسامة مع خطره، فأن يُقضَى باللَّوث ــ وهو القرائن الظاهرة ــ في الأموال أولى وأحرى (5). وعلى هذا [9 ب] عمل ولاةُ العدل في استخراج السَّرِقات من السُّرَّاق _________ (1) انظر: الطرق الحكمية (312)، وزاد المعاد (5/ 368). (2) عرّفه المؤلف بالقرائن الظاهرة. وفي المصباح المنير (560) عن الأزهري أنه: البينة الضعيفة غير الكاملة. وانظر في تأثيره في الدماء والحدود والأموال: إعلام الموقعين (4/ 371)، والطرق الحكمية (11). وانظر: القسامة في إعلام الموقعين (1/ 102). (3) (ب، ط، ج): "يستحقان". (4) انظر: الطرق الحكمية (491 - 492). (5) قارن بالطرق الحكمية (507) وزاد المعاد (3/ 149).

(1/41)


حتى إنّ كثيرًا ممَّن ينكر ذلك عليهم يستعين بهم إذا سُرِق ماله (1). وقد حكى الله سبحانه عن الشاهد الذي شهد بين يوسفَ الصدِّيق وامرأة العزيز أنه (2) حكم بالقرينة على صدق يوسف وكذب المرأة، ولم ينكر الله سبحانه عليه ذلك، بل حكاه عنه تقريرًا له (3). وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نبي الله سليمان بن داود أنه حكم بين المرأتين اللتين تداعتا (4) الولدَ للصغرى، بالقرينة التي ظهرت له، لمَّا قال: ائتوني بالسكِّين أشقُّ الولد بينكما (5). فقالت الكبرى: نعم. رضيَتْ بذلك للتأسّي بفقد ابن صاحبتها. وقالت الأخرى: لا تفعل (6)، هو ابنها. فقضَى به لها للشفقة والرحمة التي قامت بقلبها، حتى سمحت به للأخرى، ويبقى حيًّا وتنظرُ إليه (7). وهذا من أحسن الأحكام وأعدَلها، وشريعةُ الإسلام تقرِّر مثل هذا، وتشهدُ بصحَّته. وهل الحكمُ بالقافة (8) وإلحاقُ النسب بها إلّاَ اعتمادًا (9) _________ (1) انظر: الطرق الحكمية (14 - 18). (2) (ب، ط، ج): "عن شاهد يوسف أنه". (3) (ب، ط): "مقرًّا له". (ج): "مقررًا له". وانظر: الطرق الحكمية (10)، زاد المعاد (3/ 149)، بدائع الفوائد (1037)، إغاثة اللهفان (2/ 66). (4) في جميع النسخ: "تداعيا". وفي (ب) وضعت نقطتا التاء أيضًا، وهو الوجه. (5) (ب): بينهما. (6) (ب): لا تفعلوا. (7) أخرجه البخاري (3427)، ومسلم (1720) من حديث أبي هريرة. (8) (ب): "القسامة"، تحريف. (9) في النسخ المطبوعة: "بها للاعتماد"، وهو خطأ.

(1/42)


على قرائن الشَّبَه، مع اشتباهها وخفائها غالبًا (1). المقصود أنّ القرائن التي قامت في رؤيا عوف بن مالك وقصةِ (2) ثابت بن قيس لا تقصرُ عن كثير من هذه القرائن، بل هي أقوى من مجرد وجوه الآجُرِّ ومعاقد القُمُط، وصلاحية المتاع للمدَّعي دون الآخر في مسألة الزوجَين والصانعَين. وهذا ظاهر لا خفاء به، وفِطَرُ الناس وعقولُهم تشهد بصحته، وبالله التوفيق. والمقصود: جوابُ السائل، وأنَّ الميت إذا عرَف مثل هذه الجزئيات وتفاصيلها، فمعرفتُه بزيارة الحيِّ له وسلامِه عليه ودعائه له أولى وأحرى. _________ (1) انظر: الطرق الحكمية (573)، إعلام الموقعين (2/ 316)، زاد المعاد (5/ 374). (2) (ب، ط، ج): "قضية".

(1/43)


فصل وأما (1)

 المسألة الثانية وهي أن أرواح الموتى هل تتلاقى وتتزاور وتتذاكر أم لا؟

فهي أيضًا مسألة شريفة كبيرة القَدْر، وجوابُها أن الأرواح قسمان: أرواح معذَّبة، وأرواح منعَّمة. فالمعذَّبة في شغلٍ مما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي. والأرواحُ المنعَّمةُ المرسَلَةُ غيرُ المحبوسة تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا وما يكون من أهل الدنيا، فتكون كلُّ روح مع رفيقها الذي هو (2) على مثل عملها. [10 أ] وروحُ نبينا محمد (3) - صلى الله عليه وسلم - في الرفيق الأعلى. قال الله تعالى (4): {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]. وهذه المعيَّةُ ثابتةٌ في الدنيا وفي دار البرزخ وفي دار الجزاء. والمرءُ مع من أحبَّ (5) في هذه الدور الثلاثة (6). _________ (1) لم يرد في (ز). (2) "هو": ساقط من (ط). (3) لم يرد في (ب، ط). (4) (ب): "قال تعالى". (5) يشير إلى حديث: "المرء مع من أحبّ" المتفق عليه من حديث ابن مسعود وأبي موسى. أخرجه البخاري (6168، 6170)، ومسلم (2640، 2641). (6) (ز): "الثلاث". والمثبت من غيرها جائز.

(1/44)


وروى جرير، عن منصور، عن أبي الضحي، عن مسروق قال: قال أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -: ما ينبغي لنا أن نفارقك (1) في الدنيا، فإذا مِتَّ رُفِعْتَ فوقنا، فلم نَرَك. فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] (2). وقال الشعبي: جاء رجل من الأنصار وهو يبكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ما يُبكيك يا فلان؟ " فقال: يا نبيَّ الله والذي (3) لا إله إلا هو لأَنت (4) أحبُّ إليّ من أهلي ومالي، والله الذي لا إله إلا هو لأنت أحبُّ إلي من نفسي. وإنّا نذكرك أنا وأهلي، فيأخذُني كذا حتَّى أراك. فذكرتُ موتَك وموتي، فعرفتُ أنّي لن أجامعك إلا في الدنيا (5)، وأنّك تُرفَعُ في النبيين (6)، وعرفتُ أنّي إن دخلتُ الجنة كنتُ في منزل أدنى من منزلك. فلم يَرُدَّ (7) النبي - صلى الله عليه وسلم - (8) شيئًا، فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} إلى قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} (9) _________ (1) (ب، ط): "نقاربك"، تصحيف. (2) تفسير الطبري ــ شاكر (8/ 534). وأخرجه ابن أبي حاتم (5614). (3) (ب، ج، ط): "والله الذي". (4) في الأصل و (ق، ز): "أنت". (5) "فعرفت ... الدنيا" ساقط من (ب، ج). وجامَعَه: اجتمع معه. (6) (ب، ط): "مع النبيين". (7) (ق): "فلم يردّ عليه". (8) من هنا تبدأ المقابلة على (ن). (9) في (ب، ج، ط) اكتفى بتكملة الآية (69).

(1/45)


[النساء: 69،70] (1). وقال تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30]. أي ادخلي في جملتهم، وكوني معهم. وهذا يقال للروح عند الموت (2). وفي قصة الإسراء من حديث عبد الله بن مسعود قال: "لما أسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لقي إبراهيمَ وموسى وعيسى ــ صلوات الله وسلامه عليهم ــ فتذاكروا الساعة، فبدؤوا بإبراهيم فسألوه عنها، فلم يكن عنده منها علم، ثم بموسى فلم يكن عنده منها علم، حتى أجمعوا (3) الحديثَ إلى [10 ب] عيسى فقال عيسى: عَهِد الله إليَّ فيما دون وَجْبَتها (4). فذكر خروج الدجال، قال: فأهبطُ، فأقتلُه. ويرجع الناس (5) إلى بلادهم فيستقبلهُم يأجوجُ ومأجوج، وهم من كلِّ حَدَب ينسِلون، فلا يمرُّون بماء إلا شربوه، ولا _________ (1) تفسير الطبري، طبعة التركي (7/ 216). وهو ساقط من طبعة شاكر. وانظر: تفسير ابن المنذر (781). وروي مرفوعًا من حديث عائشة، أخرجه الطبراني في الصغير (52)، والأوسط (477). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 7): ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران العابدي، وهو ثقة. (2) وقيل: عند البعث. وسيأتي في المسألة الثامنة أن ظاهر الآية يؤيد القول الأول. وقد رجّح في المسألة الرابعة عشرة ومدارج السالكين (2/ 209 - 210) عدم التنافي بين القولين، فيقال لها ذلك عند الموت وعند البعث. وتبعه ابن كثير في التفسير (4/ 511). (3) "حتى أجمعوا" كذا في جميع النسخ. وفي المستدرك ــ وهو مصدر المؤلف ــ "فتراجعوا". وفي تفسير الطبري (15/ 413) وغيره: "فردُّوا الأمر". (4) الوجبة: صوت الشيء يسقط، فيسمع له كالهدّة. يعني: قيام الساعة. (5) "الناس" ساقط من (أ، ق، غ).

(1/46)


يمرُّون بشيءٍ إلا أفسدوه. فيجأرون إلى الله تبارك وتعالى، فيدعون (1) الله، فيميتهم. فتَجْأَرُ الأرض إلى الله من ريحهم، ويجأرون إليَّ، فأدعو، ويرسل اللهُ السماءَ بالماء، فتحملُ أجسامهم، فتقذفها (2) في البحر. ثم تُنسَفُ الجبالُ وتُمَدُّ الأرض مدَّ الأديم. فعهِدَ الله إليَّ إذا كان كذلك (3) فإنّ الساعة من الناس كالحامل المتِمِّ لا يدري أهلُها متى تَفْجَؤُهم بولادتها (4) ليلًا أو نهارًا" (5). ذكره الحاكم والبيهقي (6) وغيرهما. وهذا نصٌّ في تذاكُر الأرواحِ العلمَ. وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن الشهداء بأنهم أحياءٌ عند ربهم يُرزَقون، وأنهم يستبشِرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، وأنهم _________ (1) في النسخ: "فيدعوا" بالباء أو التاء. صوابه ما أثبتنا من المستدرك. و"فيدعوا الله": ساقط من (ب). (2) (ن، ق): "فيحمل ... فيقذف" بالياء، وكذا في المستدرك. (3) (ب، ج، ط): "ذلك". (4) (ب، ج، ق، غ): "بولادها". (5) أخرجه ابن ماجه (4081)، وابن أبي شيبة (37525)، وأبو يعلى (5294)، والحاكم (2/ 384)، و (4/ 488 ــ 489). وفي إسناده مؤثر بن عفازة. قال العجلي: "من أصحاب عبد الله، ثقة" (معرفة الثقات ترجمة 1808). وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 463). وبقية رجاله ثقات. وقال الحاكم: "صحيح الإسناد" .. وزاد في الموضع الأول: "ومؤثر فليس بمجهول، قد روى عن عبد الله بن مسعود والبراء بن عازب، وروى عنه جماعة من التابعين". وكذا صحح إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (3/ 261). (قالمي). (6) في كتاب البعث والنشور، وليس في المطبوع. وقد عزاه إليه السيوطي في الدر المنثور (5/ 674).

(1/47)


يستبشرون بنعمة من الله وفضل (1). وهذا يدلُّ على تلاقيهم من ثلاثة أوجه: أحدها (2): أنهم أحياءٌ عند الله، وإذا كانوا أحياء فهم يتلاقون. الثاني: أنَّهم إنما استبشروا بإخوانهم لقدومهم عليهم ولقائهم لهم. الثالث: أنّ (3) لفظ "يستبشرون" يفيد في اللغة أنهم يبشِّر بعضُهم بعضًا مثل "يتباشرون". وقد تواترت المرائي بذلك. فمنها ما ذكره صالح بن بَشِير قال: رأيت عطاءً السَّلِيمي (4) في النوم بعد موته فقلت له: يرحمك الله (5)، لقد كنتَ طويل الحزن في الدنيا. فقال: أما والله لقد أعقبني ذلك فرحًا طويلًا وسرورًا دائمًا. فقلتُ: في أيّ الدرجات أنت؟ قال: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] (6). _________ (1) يشير إلى الآيات (169 - 171) من سورة آل عمران. (2) "أحدها": ساقط من (ن). (3) "أن": ساقط من (ب، ط). (4) في جميع النسخ: "السلمي". وقد ضبط في: (أ، ط، غ) بضم السين، وهو تحريف. والصواب ما أثبتنا، نسبة إلى سَليمة بن مالك بن فهم، بطن من الأزد. وهو زاهد مشهور من أهل البصرة، من صغار التابعين، قيل إ نه مات بعد سنة 140. انظر: اللباب لابن الأثير (2/ 134) وسير أعلام النبلاء (6/ 86) وتوضيح المشتبه (5/ 157). (5) (ب، ط): "رحمك الله". (6) إحياء علوم الدين (4/ 508). وأخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (56) بنحوه. ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (6/ 184).

(1/48)


وقال عبد الله بن المبارك: رأيت سفيانَ الثوريَّ في النوم فقلت له: ما فَعَل الله بك؟ قال: لقيتُ (1) محمدًا وحِزْبَه (2). وقال صخر بن راشد (3): رأيتُ عبد الله بن المبارك في النوم بعد موته، فقلتُ أليس قد متَّ؟ قال: بلى، قلت: فما صنَعَ الله بك؟ قال: غفر لي مغفرةً أحاطت بكل ذنبٍ. قلت: فسفيان الثوري؟ قال (4): بخٍ بخ! [11 أ] ذاك {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] (5). وذكر ابن أبي الدنيا (6) من حديث حمّاد بن زيد، عن هشام بن حسّان، عن حفصة (7) بنت راشد قالت: كان مروان المُحَلِّمي لي جارًا (8)، وكان قاضيًا (9) مجتهدًا، قالت: فمات فوجَدْتُ عليه وَجْدًا شديدًا، قالت: فرأيته _________ (1) (ط): "أتيت". (2) العاقبة في ذكر الموت (223). وأخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (45). (3) (ب): "أسد"، تحريف. (4) (أ، ق): "فقال". (5) العاقبة (223). وأخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (63). (6) في المنامات (35). وانظر: العاقبة (229). (7) في (أ، ق، ن): "يقضة"، تحريف. (8) (ن): "جارًا لي". (ط): "قالت: رأيت مروان المحلِّمي، وكان لي جارًا". ونحوه في (ب، ج)، ولكن سقط منهما: "وكان". (9) كذا في (أ، ط، غ)، والمنامات، وأنا في ريب منه. وفي العاقبة: "عابدًا" وهو أقرب إلى السياق. وفي تاريخ مدينة السلام (3/ 293): "ناصبًا". وفي (ب): "مخلصًا"، وهو مغيَّر. ترجمته في التاريخ الكبير للبخاري (1582)، والجرح والتعديل (1247). وكنّاه أبو حاتم بأبي عثمان العجلي، وكنيته في هذه الحكاية أبو عبد الله.

(1/49)


فيما يرى النائم، قلت: أبا عبد الله، ما صنع بك ربُّك؟ قال: أدخلني الجنة. قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم رُفِعتُ إلى أصحاب اليمين. قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم رُفِعتُ إلى المقرَّبين. قلت: فمَنْ رأيتَ من إخوانك؟ قال: رأيت الحسن (1)، وابنَ سيرين، وميمون بن سِيَاه. قال حمّاد: قال هشام بن حسَّان: فحدَّثتني أمُّ عبد الله ــ وكانت من خيار نساء أهل البصرة ــ قالت: رأيتُ فيما يرى النائم كأنّي دخلتُ دارًا حسنة ثم دخلتُ بستانًا ــ فذكرَتْ من حسنه ما شاء الله ــ فإذا أنا فيه برجل متَّكئٍ على سرير من ذهب، وحوله الوُصَفاء (2)، بأيديهم الأكاويب (3). قالت: فإني لمتعجِّبةٌ من حسن ما أرى، إذ قيل: هذا مروان المحلِّمي أقبلَ، فوثبَ، فاستوى جالسًا على سريره. قالت: واستيقظتُ (4) من منامي، فإذا جنازة مروان قد مُرَّ بها على بابي تلك الساعة. وقد جاءت سنّةٌ صريحةٌ بتلاقي الأرواح وتعارُفِها. قال ابن أبي الدنيا (5): حدَّثني محمَّد بن عبد الله بن بَزيع، أخبرنا فُضَيل بن سليمان _________ (1) زاد في (ن): "البصري". وكذا في العاقبة. (2) (ق): "الوصائف". وفي العاقبة: "الوصائف بأيديهن". (ن): "الوصيفات". (ز): "الوصفان". والوصيف: الخادم، غلامًا كان أو جارية. انظر: لسان العرب (9/ 357). (3) جمع أكواب. وفي (ن): "الأكاوب". (4) (ط): "فاستيقظت". (5) في المنامات (14). وعزاه ابن حجر في الإصابة (7/ 351) إلى كتاب القبور لابن أبي الدنيا.

(1/50)


النُّمَيْري (1)، حدثني يحيى بن عبد الرحمن بن أبي لَبيبة (2)، عن جدِّه قال: لما مات بِشْر بن البراء بن معرورٍ وجَدَتْ عليه أمُّ بشر وَجْدًا شديدًا، فقالت: يا رسول الله، إنه لا يزال الهالكُ يهلِك من بني سَلَمة، فهل تتعارف الموتى، فأُرسِلَ إلى بشرٍ بالسلام؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم والذي نفسي بيده، يا أمَّ بشر، إنهم ليتعارفون كما يتعارف الطيرُ في رؤوس الشجر". فكان (3) لا يهلك هالك من بني سَلَمة إلا جاءته أمّ بِشْر، فقالت: يا فلان، عليك السلام. فيقول: وعليك. فتقول: اقرأ على بِشْرٍ السلام (4). وذكر [11 ب] ابن أبي الدنيا (5) من حديث سفيان، عن عمرو بن دينار، _________ (1) تحرفت في (ق) إلى "البهري"، وفي (ن) إلى "النهري". (2) تحرفت في النسخ إلى: "ليينة، ولبينة، وكبيبة". (3) (ب، ن): "وكان". (4) إسناده ضعيف، لأجل يحيى بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة، نُسب إلى جدِّه وهو يحيى بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة. قال ابن معين في تاريخه (251 ــ رواية الدوري): "ابن أبي لبيبة الذي يروي عنه وكيع ليس حديثه بشيء". وقال أبو حاتم: "ليس بقوي" الجرح والتعديل (9/ 166). وانظر: الكامل لابن عدي (7/ 233). تنبيه: وقول ابن معين أنزله المزي على والد المترجم (محمد بن عبد الرحمن) الذي أخرج حديثه أبو داود والنسائي. وجدُّه يحتمل جده الأدنى وهو عبد الرحمن، ويحتمل جدّه الأعلى وهو أبو لبيبة، كما في لسان الميزان (7/ 343). وكل منهما مترجم في القسم الأول من الإصابة لابن حجر على اختلاف في إثبات صحبتهما راجع ترجمة الأول برقم (5214)، والآخر برقم (10563). (قالمي). (5) في كتاب القبور ــ فيما يبدو ــ وليس في القطعة المطبوعة منه. وأخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 311). والبيهقي في الشعب (7/ 21).

(1/51)


عن عبيد بن عمير، قال: أهل القبور يتوَكَّفون (1) الأخبار، فإذا أتاهم الميِّت قالوا: ما فَعَل فلان؟ فيقول: صالح. ما فعل فلان؟ يقول (2): صالح. ما فعل فلان؟ فيقول: ألم يأتكم؟ أوَما قدِمَ عليكم؟ فيقولون: لا. فيقول: إنّا لله وإنا إليه راجعون، سُلِك به غيرُ سبيلنا (3). وقال صالح المُرِّيُّ (4): بلغني أنّ الأرواح تتلاقى عند الموت، فتقول أرواح الموتى للروح التي تخرج إليهم: كيف كان مأواك؟ وفي أي الجسدين (5) كنتِ: في طيِّب أم خبيث؟ ثم بكى حتى غلبه البكاء (6). وقال عُبَيد بن عُمَير أيضًا: إذا مات الميت تلقَّته الأرواح يستخبرونه كما يُستخبَر الرَّكْبُ: ما فعل فلان؟ ما فعل فلان؟ فإذا قال: توفي، ولم يأتهم، قالوا: ذُهِب به إلى أمِّه الهاوية (7). وقال سعيد بن المسيِّب (8): إذا مات الرجل استقبله ولده (9) كما _________ (1) أي: ينتظرونها ويسألون عنها. اللسان (9/ 364). (2) (ب، ج، ط): "فيقول". (3) (ط): "إلى غير سبيلنا". (4) (ج، ق): "المزني"، تصحيف. (5) (ج، ن، ق): "الجسد". (6) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (60) وذكر الموت (273). (7) أخرجه ابن أبي الدنيا في ذكر الموت (276). وأبو نعيم في الحلية (3/ 310). (8) كذا في جميع النسخ. والصواب: سعيد بن جبير، كما صرَّح به ابن رجب في أهوال القبور (30). وانظر: شرح الصدور (135). (9) في (ن): "والده"، ولعلّه مغيّر. وفي أهوال القبور: "أهله".

(1/52)


يُستقبَل الغائب (1). وقال عبيد بن عمير: لو أنِّي آيسٌ من لقاء (2) مَن مات من أهلي لألفاني قد متُّ كَمَدًا (3). وذكر معاوية بن يحيى، عن عبد الله بن سَلَمة (4) أنَّ أبا رُهْمٍ السِّمَعِيَّ (5) حدَّثه أنّ أبا أيوب الأنصاريَّ حدَّثه أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنّ نفس المؤمن إذا قُبضت تلقَّاها أهلُ الرحمة من عند الله كما يُتلقَّى البشيرُ في الدنيا، فيقولون: أنظِروا أخاكم حتَّى يستريح فإنّه كان في كرب شديد، فيسألونه: ماذا فعل فلان (6)؟ وما فعلتْ فلانة؟ وهل تزوّجت فلانة؟ فإذا سألوه عن رجل (7) مات _________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (15)، وذكر الموت (275). (2) (ب، ج، ن): "لُقيّ" مضبوطًا بضمّ اللام. (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في ذكر الموت (276)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 310). (4) في (ن) وحدها: "عبد الرحمن بن سلمة". وفي المعجمين الكبير والأوسط للطبراني: "عبد الرحمن بن سلامة"، وكذا في أهوال القبور (30). وهو أحد شيوخ مكحول الشامي كما في تهذيب الكمال (2/ 281) و (28/ 465). (5) في الأصل و (غ): "المسمعي"، وهو تحريف. والسِّمَعي نسبة إلى السِّمَع بكسر السين وفتح الميم، وقيل: بسكون الميم، وقيل: بفتحهما. وهو السمع بن مالك بطن من حمير. ويقال في السمعي: "السِّماعي" أيضًا. انظر: الإكمال (4/ 459) والمشتبه (370) وتوضيح المشتبه (5/ 166). وتحرّف "أبو رهم" في (ب، ق) إلى: "إبراهيم". وهو أحزاب بن أسِيد. قال ابن حجر في التقريب (286): مختلف في صحبته، والصحيح أنه مخضرم ثقة. (6) في (ب، ط) تكرّر "ماذا فعل فلان". (7) (ط): "قد مات".

(1/53)


قبله قال: إنه قد مات (1) قبلي، قالوا: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ذُهِبَ به إلى أمّه الهاوية؛ فبئست الأمُّ، وبئست المربِّية! " (2). _________ (1) (ن): "إنه مات". (2) في إسناده معاوية بن يحيى ــ لعله الصدفي ــ أبو روح الشامي الدمشقي، وهو ضعيف كما في التقريب، وشيخه لم نظفر له بترجمة، كما سبق .. والحديث أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (3887)، والأوسط (148)، ومسند الشاميين (1544) من طريق مسلمة بن علي، عن زيد بن واقد ــ وزاد في الأوسط والمسند: وهشام بن الغاز ــ عن مكحول، عن عبد الرحمن بن سلامة، عن أبي رهم، به، نحوه، وزاد في آخره: "إن أعمالكم تُعرض على أقاربكم وعشائركم من أهل الآخرة ... ". ومسلمة بن علي هو الخشني الدمشقيّ متروك، كما في التقريب. ورواه ابن حبان في المجروحين (1/ 335 ــ 336)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1522) من طريق سلام بن سلم الطويل، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أبي رُهْم، به، بنحو حديث مسلمة. وسلام الطويل واهٍ، قال ابن حبان: "يروي عن الثقات الموضوعات كأنه كان المتعمد لها". وقال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسلام هو الطويل وقد أجمعوا على تضعيفه، وقال النسائي والدار قطني: "متروك". وقد روي عن أبي أيوب موقوفًا، وهذا شيء يروى عن عبيد بن عمير". والموقوف عن أبي أيوب رواه ابن المبارك في الزهد (443) عن ثور بن يزيد، عن أبي رهم السماعي، عن أبي أيوب الأنصاري، قال (فذكره). قال العراقي في المغني عن حمل الأسفار (4456): "إسناده جيد". قلت: وهو كذلك إن كان الواسطة بين ثور بن يزيد الحمصي وأبي رُهم خالد بن معدان ــ كما في الطريق السابق ــ وإلا فالظاهر أنه منقطع. والمروي عن عبيد بن عمير أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (35006)، وعبد الله بن أحمد في السنة (1464) ورجاله ثقات. قال الحافظ في فتاوى له مطبوعة مع الإمتاع بالأربعين المتباينة السماع (ص 88): "وهذا موقوف على عبيد بن عمير أحد كبار التابعين والإسناد صحيح إليه ومثله لا يقال من قبيل الرأي فهو من قبيل المرسل". ويشهد له وللذي قبله ما رواه النسائي (1832)، وابن حبان (3014)، والحاكم (1/ 353) من طريق معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن قسامة بن زهير، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: "فيأتون به أرواح المؤمنين، فلهم أشدُّ فرحًا به من أحدكم بغائبه يقدم عليه، فيسألونه: ماذا فعل فلان؟ ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دعوه، فإنه كان في غمِّ الدنيا، فإذا قال: أما أتاكم؟ قالوا: ذُهب به إلى أمِّه الهاوية". ورواه الحاكم أيضًا من طريق معمر عن قتادة بهذا الإسناد، ومن طريق همام بن يحيى، عن قتادة، عن أبي الجوزاء، عن أبي هريرة، رفعه. ثم قال: "هذه الأسانيد كلها صحيحة، وشاهدها حديث البراء بن عازب" وحديث البراء أورده المصنف تحت المسألة السادسة، وسيخرج هناك. (قالمي).

(1/54)


وقد تقدمَّ حديث يحيى بن بسطام (1): حدّثني مِسْمَع بن عاصم، قال: رأيتُ عاصمًا الجَحْدَري (2) في منامي بعد موته بسنتين، فقلت: أليس قد مِتَّ؟ قال: بلى، قلت: فأين أنت؟ قال: أنا والله في روضة من رياض الجنة، أنا ونفرٌ من أصحابي، نجتمع كلَّ ليلةِ جمعةٍ وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المُزَني، فنتلقَّى (3) أخباركم. قال: قلت: أجسامكم أم أرواحكم؟ قال: هيهات! بلِيت الأجسام، وإنّما تتلاقى [12 أ] الأرواح (4). _________ (1) في المسألة الأولى. (2) (ق): "الحجازي"، تحريف. (3) (ب، ط): "نتلقى". (4) زاد في (ن): "والله أعلم بالصواب".

(1/55)


فصل وأما (1)

 المسألة الثالثة وهي أنه هل (2) تتلاقى أرواح الأحياء وأرواح الأموات؟

فشواهد هذه المسألة وأدلَّتُها أكثرُ من أن يحصيَها إلا الله تعالى. والحسُّ والواقع من أعدل الشهود بها، فتلتقي أرواح الأحياء والأموات، كما تلتقي أرواح الأحياء. وقد قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42]. قال (3) أبو عبد الله بن منده (4): حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم، ثنا عبد الله بن الحسن (5) الحَرَّاني، ثنا جدِّي أحمد بن أبي شعيب، ثنا موسى بن أعيَن، عن مطرِّف، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في هذه الآية قال: بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام، فيتساءلون بينهم، فيمسك الله أرواحَ الموتى، ويرسل أرواحَ _________ (1) "فصل وأما" لم يرد في (ن). (2) في (ط، ج): "وهي أنه". (ق): "وهي هل". (3) من هنا إلى ما قبل: "وقد دلّ على التقاء ... " منقول بتصرف وتعليق عليه من مجموع الفتاوى (5/ 451 - 453). (4) في كتاب الروح والنفس كما في الفتاوى. (5) في جميع النسخ الخطية والمطبوعة: "حسين". والصواب ما أثبتنا من الفتاوى وكتب الرجال. انظر: تهذيب التهذيب (2/ 254).

(1/56)


الأحياء إلى أجسادها (1). وقال ابن أبي حاتم في تفسيره (2): ثنا عبد الله بن سليمان، ثنا الحسين، ثنا عامر، ثنا أسباط، عن السدِّي في قوله: {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}. قال: يتوفاها في منامها، فتلتقي روحُ الحيّ وروح الميت فيتذاكران ويتعارفان، قال: فترجع روحُ الحي إلى جسده في الدنيا إلى بقية أجلها، وتريدُ روح الميت أن ترجع إلى جسده فتُحْبَسُ. وهذا أحد القولين في الآية، وهو أنَّ الممسَكة مَن تُوفّيت وفاة الموت أولًا، والمرسَلة من توفيت وفاة النوم. والمعنى على هذا القول: أنه يتوفَّى نفسَ الميت، فيمسكها، ولا يرسلها إلى جسدها قبل يوم القيامة. ويَتوفَّى نفس النائم، ثم يرسلها إلى جسدها إلى بقية أجلها، فيتوفاها الوفاةَ الأخرى. والقول الثاني في الآية (3): أنّ الممسَكة والمرسَلة في الآية كلاهما تُوُفِّيَ (4) وفاة النوم، فمن استكمَلت أجلَها أمسكها عنده، فلا يرُدُّها إلى جسدها، ومن لم تستكمل أجلَها ردَّها إلى جسدها لتستكمله. واختار شيخ الإسلام (5) هذا القول، وقال: عليه (6) يدلُّ [12 ب] القرآنُ _________ (1) أخرجه الطبراني في الأوسط (122). وعزاه السيوطي في شرح الصدور (351) إليه وإلى ابن منده وبقي بن مخلد. (2) لم أجده في المطبوع منه. وأخرجه الطبري في التفسير (20/ 216). (3) بعدها في مجموع الفتاوى (5/ 452): "وعليه الأكثرون". وانظر أيضًا: (9/ 289). (4) كذا في جميع النسخ. والوجه: كلتاهما توفيت. (5) زاد في (ب، ط، ج): رحمه الله. وكلام الشيخ ليس فيه تصريح بأن هذا القول مختاره. (6) ما عدا (أ، غ، ق): "يدل عليه".

(1/57)


والسنة. قال: فإنه سبحانه ذكر إمساكَ التي قَضَى عليها الموت من هذه الأنفس التي توفاها وفاةَ النوم. وأما التي توفاها حين موتها، فتلك لم يصفها بإمساكٍ ولا بإرسال، بل هي قِسْم ثالث (1). والذي يترجَّح هو القول الأول: لأنّه سبحانه أخبر بوفاتين: وفاة كبرى وهي وفاة الموت، ووفاة صغرى وهي وفاة النوم. وقسَم الأرواح قسمين: قسمًا قضى عليها الموت، فأمسكها عنده وهي التي تَوفَّاها وفاة الموت. وقسمًا لها بقيةُ أجلٍ، فردَّها إلى جسدها إلى استكمال أجلها. وجعل سبحانه الإمساك والإرسال حُكمَين للوفاتين المذكورتين أولًا: فهذه ممسَكة، وهذه مرسَلة. وأخبر أنَّ التي لم تمُت هي التي توفَّاها في منامها، فلو كان قد قَسَم وفاة النوم إلى قسمين: وفاة موت، ووفاة نوم = لم يقل: {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ} فإنها من حين قُبِضت ماتت. وهو سبحانه قد أخبر أنها لم تمُت، فكيف يقول بعد ذلك: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ}؟ ولمن نصَرَ هذا القولَ أن يقول: قوله: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} بعد أن توفّاها وفاة النوم. فهو سبحانه توفَّاها أولًا وفاة نومٍ، ثم قضى عليها الموت بعد ذلك. والتحقيق (2) أنَّ الآية تتناول النوعين، فإنه سبحانه ذكر وفاتين: وفاة _________ (1) مجموع الفتاوى (5/ 453). ويريد بالسنة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه. فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين" (متفق عليه). انظر: مجموع الفتاوى (4/ 275). وانظر: الردّ على المنطقيين (485). (2) من "والذي يترجح .. " كان من تعليق المصنف على كلام شيخه. ويوهم السياق أن هذا "التحقيق" أيضًا جزء من تعليقه. والواقع أنه من كلام شيخ الإسلام. انظر: مجموع الفتاوى (5/ 453).

(1/58)


نوم، ووفاة موت، وذكر إمساك المتوفاة وإرسال الأخرى، ومعلوم أنه سبحانه يمسك كل نفسِ ميتٍ سواءٌ مات في النوم أو في اليقظة، ويرسل نفس من لم يمت. فقوله: {يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} يتناول من مات في اليقظة ومن (1) مات في المنام (2). وقد دلَّ على التقاء أرواح الأحياء والأموات أنّ الحيَّ يرى الميتَ في منامه، فيستخبره، ويخبره الميّت بما لا يعلمه الحيّ، فيصادِف خبرَه كما أخبر في الماضي والمستقبل. وربما أخبره بمال دفنه الميّتُ في مكان لم يعلم به سواه. وربما أخبره بدَين عليه، وذكر له شواهده وأدلته. وأبلغُ من هذا أنه يخبره بما عمله من عمل لم يطَّلع عليه أحد من العالمين. وأبلغ من هذا (3) أنّه يخبره [13 أ] أنّك تأتينا إلى وقت كذا وكذا، فيكون كما أخبر. وربما أخبره عن أمور يقطع الحيُّ أنه لم يكن يعرفها غيره (4). _________ (1) "مَن" من: (ن، غ). (2) وتكملة كلام شيخ الإسلام: "وما ذكر من التقاء أرواح النيام والموتى لا ينافي ما في الآية، وليس في لفظها دلالة عليه. لكن قوله: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} يقتضي أنه يمسكها، لا يرسلها كما يرسل النائمة، سواء توفاها في اليقظة أو في النوم". (3) ما عدا (أ، غ، ق): "ذلك". (4) "غيره": ساقط من (ن).

(1/59)


وقد ذكرنا قصة الصَّعب بن جَثَّامة وقوله لعوف بن مالك ما قال له (1). وذكرنا قصة ثابت بن قيس بن شمّاس وإخباره لمن رآه بدرعه وما عليه من الدين (2)، وقصةَ صدقة بن سليمان الجعفريِّ وإخبار أبيه (3) له بما عمل من بعده، وقصةَ شَبيب بن شيبة وقول أمّه له بعد الموت: جزاك الله خيرًا، حيث لقَّنها لا إله إلا الله (4)، وقصة الفضل بن الموفق مع أبيه وإخباره إياه بعلمه بزيارته (5). وقال سعيد بن المسيّب: التقى عبد الله بن سلام وسلمانُ الفارسي، فقال أحدهما للآخر: إن متَّ قبلي، فالقَني فأخبِرني ما (6) لقيت من ربك. وإن أنا متُّ قبلك لقيتك فأخبرتك. فقال الآخر: وهل تلتقي الأموات والأحياء؟ قال: نعم، أرواحهم في الجنة تذهب حيث شاءت. قال: فمات فلان، فلقيَه (7) في المنام، فقال له (8): توكَّلْ وأَبشِرْ، فلم أر مثلَ التوكل قطّ (9). _________ (1) انظر: المسألة الأولى (ص 34)، وكلمة "قصة" ساقطة من (ط). وفيها أيضًا: "ما قاله". (2) انظر: المسألة الأولى (ص 37). (3) من (ن) وهو الصواب، وفي غيرها: "ابنه"، تصحيف. وقد سبقت القصة في المسألة الأولى (ص 15). (4) انظر: المسألة الأولى (ص 33). (5) من (أ، ن). وفي غيرهما: "ابنه"، وهو تصحيف. انظر ما سبق في (ص 11، 28). (6) (ن، ط، ز): "بما". (7) كذا في (ط) والمنامات، وهو مقتضى السياق. وفي غيرهما: "فلقيته". (8) "له" من (أ، غ). (9) زاد هنا في (ب، ط، ج): "رواه الإسماعيلي في مسند عمر رضي الله عنه". وأخشى أن يكون حاشية في بعض النسخ متعلّقة بالخبر الآتي، ثم أُقحمت في المتن هنا. وأخرج هذا الخبر ابن أبي الدنيا في المنامات (21) والتوكل على الله (12). وعقب ابن عساكر عليه في تاريخ دمشق (21/ 460) بأن سلمان مات قبل ابن سلام.

(1/60)


وقال العباس بن عبد المطلب: كنت أشتهي أن أرى عمر في المنام، فما رأيته إلا عند قرب الحول (1)، فرأيته يمسح العرق عن جبينه، وهو يقول (2): هذا أوان فراغي. إن كاد عرشي ليُهَدُّ (3)، لولا أنّي لقيتُ رؤوفًا رحيمًا (4). ولما حضرت شُرَيحَ بن عابد (5) الثُّمالي (6) الوفاةُ دخل عليه _________ (1) (ب، ط، ن، ج): "قريب الحول". (2) (ب، ط): "ويقول". (3) (ن): "لَيُتَلُّ". وفسّر تحته بين السطرين: "يُزعزَع". وتَلَّه: صرعه. (4) المنامات (22). وأخرجه ابن سعد في الطبقات من عدة طرق (3/ 375 - 376). وأحمد في فضائل الصحابة (921). وانظر: الحلية (1/ 54) وتاريخ دمشق (44/ 483). (5) كذا في جميع النسخ الخطية والمطبوعة. فالظاهر أنه كذا وقع في نسخة المؤلف. وفيه سقط أدّى إلى خلط بين راوي القصة وصاحبها. أما الراوي فهو شُريح بن عُبيد الحضرمي الحمصي المتوفى بعد المائة كما في التقريب (265). وأما صاحب القصة التي حضره الموت، فهو كما في المنامات، وطبقات ابن سعد والزهد لأبي داود: عبد الله بن عائذ الثُّمالي. وقد اختلفت النسخ في ضبط "عائذ"، فهو كذا بالذال المعجمة في (ن). وبالمهملة "عائد" في (أ، ق، غ). وقد وردت كنيته في القصة "أبو الحجاج" وهذه كنية عبد الله بن عبد ــ ويقال: عابد ــ ويقال: عبد بن عبد الثمالي. انظر المقتنى للذهبي (1338) والإصابة (4/ 663). فهذا يدلّ على أن الشخصين واحد. ولكن الحافظ ابن حجر فرّق بينهما، ونعى في ترجمة عبد الله بن عائذ (4/ 141) على أبي أحمد العسكري أنه وهم في خلطه بينهما. (6) (ب): "اليماني"، تصحيف.

(1/61)


غُضَيف (1) بن الحارث، وهو يجود بنفسه، فقال: يا أبا الحجاج، إن قدرتَ على أن تأتيَنا بعد الموت فتخبرَنا بما ترى، فافعل. قال: وكانت كلمة مقبولة (2) في أهل الفقه. قال: فمكث زمانًا لا يراه، ثم رآه في منامه، فقال له (3): أليس قد متَّ؟ قال: بلى. قال: فكيف حالك؟ قال: تجاوزَ ربُّنا عنّا الذنوبَ، فلم يهلِك منّا إلا الأحراض. قلت: وما الأحراض؟ قال: الذين يشار إليهم بالأصابع في الشرّ (4). وقال عبد الله (5) بن عمر بن عبد العزيز: رأيت أبي في النوم بعد موته، كأنه في حديقة، فدفع إليَّ تفاحات، فأوَّلْتُهنّ الولدَ. فقلت: أيَّ الأعمال _________ (1) كذا في (ط) مضبوطًا، وهو الصواب. وفي غيرها بالعين المهملة أو بالعين والصاد المهملتين، تصحيف. وفي التقريب (443): ويقال بالطاء. وهو ابن الحارث السَّكوني، ويقال: الثمالي. حمصي، مختلف في صحبته. مات سنة بضع وستين. (2) (ب، ط، ز، ج): "مقولة". (3) "له" ساقطة من (ن). (4) في (ق، ز): "الشيء"، تحريف. وكذا في (أ، غ). ولكن أشير في حاشيتهما إلى ما في غيرهما. وقد ورد مثل هذا التفسير لكلمة الأحراض في خبر عوف بن مالك. والأحراض جمع حَرَض. انظر: اللسان (7/ 134، 135). والخبر أخرجه ابن سعد في الطبقات (7/ 415) وابن أبي الدنيا في المنامات (23). وأبو داود في الزهد (521) وانظر: شرح الصدور (359). (5) كذا في جميع النسخ. ولكن في المنامات ــ وهو مصدر المؤلف فيما يظهر ــ وتاريخ دمشق: "عبد العزيز"، وقد غيَّر ناشر طبعة دار ابن كثير المتن، فأثبت "عبد العزيز" مكان عبد الله، وزعم أن تصويبه هذا من نسخة الظاهرية المنسوخة سنة 774 هـ. وهذا غير صحيح.

(1/62)


وجدتَ أفضل؟ فقال: الاستغفار أي بنيّ (1). ورأى مسلمةُ بن عبد [13 ب] الملك عمرَ بن عبد العزيز بعد موته فقال: يا أمير المؤمنين، ليت شِعري إلى أيّ الحالات صرتَ بعد الموت؟ قال: يا مسلمة، هذا أوان فراغي، والله ما استرحتُ إلا (2) الآن. قال: قلت: فأين أنت يا أمير المؤمنين؟ قال: مع أئمة الهدى في جنَّات عدن (3). وقال صالح البرَّاد: رأيت زُرَارة بن أوفى بعد موته، فقلت: رحمك الله، ماذا قيل لك؟ وماذا قلت؟ فأعرضَ عني. قلت: فما صنع الله بك؟ قال: تفضَّلَ عليَّ بجوده وكرمه. قلت: فأبو العلاء يزيد (4) أخو مطَرِّف؟ قال: ذاك (5) في الدرجات العلى، قلت: فأيُّ الأعمال أبلغُ فيما عندكم؟ قال: التوكل وقِصَرُ الأمل (6). وقال مالك بن دينار: رأيت مسلم بن يسار بعد موته، فسلَّمتُ عليه، فلم _________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (26)، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (36/ 331)، وعنه في شرح الصدور (372). (2) (أ، غ، ق): "إلى". (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (27)، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمَشق (45/ 262) وانظر: شرح الصدور (361). (4) في جميع النسخ: "أبو العلاء بن يزيد"، وهو خطأ، وكلمة "بن" مُقحمة، فأبو العلاء هو يزيد بن عبد الله بن الشّخير، أخو مطرِّف بن عبد الله بن الشخّير. من كبار التابعين. كان يقول: أنا أكبر من الحسن البصري بعشر سنين. توفي سنة 108. انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 493). (5) "ذاك" ساقطة من (ب، ن). (6) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (28)، وقصر الأمل (30).

(1/63)


يردَّ عليَّ السلام، فقلت: ما يمنعك أن تردَّ عليَّ السلام؟ قال: أنا ميّت، فكيف أردّ عليك السلام؟ فقلت له: فماذا لقيتَ بعد الموت؟ قال: لقيتُ والله أهوالًا وزلازلَ عظامًا شِدادًا. قال: قلت له: فما كان بعد ذلك؟ قال: وما تراه يكون من الكريم؟ قبل منَّا الحسنات. وعفا لنا عن السيئات، وضمِنَ عنّا التبعات. قال: ثم شهق مالك (1) شهقةً، خرَّ مغشيًّا عليه. قال: فلبث بعد ذلك أيامًا مريضًا، ثم انصدعَ قلبه، فمات (2). وقال سهيل (3) أخو حزمٍ: رأيت مالك بن دينار (4) بعد موته فقلت: يا أبا يحيى (5)، ليت شِعري ماذا قَدِمتَ به على الله؟ قال: قدمتُ بذنوب كثيرة محاها عنّي حسنُ الظن بالله عزَّ وجلَّ (6). _________ (1) كلمة "مالك": ساقطة من (ن). (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (30) وحسن الظن بالله (130) وأبو نعيم في الحلية (2/ 295)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (58/ 149) ومنه في شرح الصدور (371). (3) ما عدا (أ، غ): "سهل". وسهيل بن أبي حزم القُطَعي أبوبكر البصري. وأخوه حزم يكنى أبا عبد الله. انظر: التقريب (259، 157). (4) في جميع النسخ: "خالد بن دينار"، وهو تحريف. والصواب ما أثبتنا من المنامات وحسن الظن بالله لابن أبي الدنيا. ويؤيده أن الكنية المذكورة فيما يأتي: أبو يحيى، وهي كنية مالك بن دينار. أما خالد بن دينار البصري فكنيته: أبو خَلْدة. انظر: التقريب (187). (5) (ب): "أبا الحسن"، تحريف. (6) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (32) وحسن الظن بالله (7)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (56/ 441) ومنه في شرح الصدور (369).

(1/64)


ولما مات رجاءُ بن حَيْوَة رأته امرأة عابدة، فقالت: يا أبا المقدام، إلامَ صِرتُم (1)؟ قال: إلى خير، ولكن فزعنا بعدكم فزعةً ظننّا أنّ القيامة قد قامت. قالت: قلت: وممّ ذاك؟ قال: دخل الجرَّاحُ (2) وأصحابه الجنَّة بأثقالهم حتى ازدحموا على بابها (3). وقال جميل بن مُرَّة: كان مورِّق العِجْليُّ لي أخًا وصديقًا، فقلت له (4) ذات يوم: أيُّنا مات قبل صاحبه فليأتِ صاحبَه، فلْيخبِرْه بالذي صار إليه. قال: فمات مورِّق، فرأت أهلي في منامها كأنّه أتانا كما كان يأتي، فقرع الباب كما كان يقرع (5). قالت [14 أ]: فقمتُ ففتحتُ له كما كنت أفتح، وقلت: ادخل يا أبا المعتَمِر إلى أن يأتي أخوك (6). فقال: كيف أدخل وقد ذقت الموت؟ إنما (7) جئت لأُعلِمَ جميلًا بما صنع الله بي، أعلِميه أنّه قد جعلني في المقرَّبين (8). ولما مات محمد بن سِيرين حزِنَ عليه بعض أصحابه (9) حزنًا شديدًا، _________ (1) (ط): "صرت". (2) يعني: أبا عقبة الجرّاح بن عبد الله الحَكَمي. قتله وأصحابه الخزَرُ سنة 112. وفيها مات رجاء بن حيوة. انظر ترجمة الجرّاح في سير أعلام النبلاء (5/ 189). (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (38) وشرح الصدور (369). (4) "له": ساقط من (أ، غ). (5) (ب، ن، ط، ج): "يقرعه". (6) رسم "يأتي" في (أ، ز): "يأت". وفي (ن): "إلى باب أخيك". (7) (ب، ط، ج): "أنا". (8) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (38). (9) هو الحكم بن عتيبة الكندي، كما في المنامات.

(1/65)


فرآه في المنام في حالٍ حسنة، فقال: يا أخي، قد أراك في حال تَسُرُّني (1)، فما صنع الحسن؟ قال: رُفِع فوقي بسبعين درجةً. قلت: ولمَ ذاك، وقد كنَّا نرى أنك (2) أفضلُ منه؟ قال: ذاك بطول حزنه (3). وقال ابن عيينة: رأيت سفيان الثوريَّ في النوم، فقلتُ: أوصني. فقال: أقِلَّ من معرفة الناس (4). وقال عمّار بن سيف: رأيت الحسن بن صالح (5) في منامي، فقلت: قد كنتُ متمنّيًا للقائك، فماذا عندك فتخبرَنا به؟ فقال: أبشر، فإنّي لم أرَ مثلَ حسنِ الظن بالله شيئًا (6). ولما مات ضَيْغَم العابدُ رآه بعض أصحابه (7) في المنام (8) فقال: أما صلَّيتَ عليَّ؟ قال: فذكرت علّةً كانت، فقال: أما لو كنتَ صلّيت عليّ ربحتَ رأسَك (9). _________ (1) (ب، ط، ق): "يسرّني". (2) (ز): "نراك". (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (40). (4) أخرجه ابن أبي الدنيا المنامات (44). هذه وصيته في المنام، وبها أوصى في اليقظة أيضًا! انظر: كتاب العزلة لابن أبي الدنيا (41). (5) الحسن بن صالح بن صالح بن حيّ بن شُفَي الهمداني الثوري. فقيه عابد (100 - 169) انظر: التقريب (161). (6) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (48). وحسن الظن بالله (9). (7) هو ابن ثعلبة كما في المنامات. وهو عبد الله بن ثعلبة الحنفي المترجم في الحلية (6/ 245). (8) (ط، ج): "منامه". (9) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (50).

(1/66)


ولما ماتت رابعةُ رأتها امرأة (1) من أصحابها وعليها حُلَّةُ إسْتَبْرَقٍ، وخِمارٌ من سُندُس، وخمارٌ من صوف (2)، فقالت لها: ما فعلت الجُبَّة التي كفَّنتُكِ (3) فيها، والخمار الصوف؟ قالت: والله إنّه نُزِعَ عني (4)، وأُبدِلْتُ به هذا الذي ترَيْن عليَّ، وطُوِيت أكفاني، وخُتِم عليها، ورُفِعتْ في علّييّن؛ ليكملَ لي ثوابها يوم القيامة. قالت: فقلت لها: لهذا كنتِ تعملين أيام الدنيا؟ فقالت: وما هذا عندما رأيت من كرامة الله (5) لأوليائه! فقلت لها: فما فعلت عَبْدة (6) بنت أبي كلاب؟ فقالت: هيهات هيهات! سبقتنا ــ والله ــ إلى الدرجات العلى! قالت: قلت: وبمَ، وقد كنتِ عند الناس أعبدَ منها؟ فقالت: إنها لم تكن تبالي على أيّ حال أصبحتْ من الدنيا أو أمست. فقلت: فما فعل أبو مالك؟ تعني ضيغمًا. فقالت: يزور الله تبارك وتعالى متى شاء. قالت: قلت: فما فعل بِشْر بن منصور؟ (7) قالت: بخٍ بخٍ! أُعطِيَ والله _________ (1) هي عبدة بنت أبي شوّال، كما في المنامات. (2) كذا في جميع النسخ: "وخمار من صوف". والصواب حذفها، أو إضافة "وكانت قد دفنت في جبة من شعر" قبلها. (3) رسمها في (أ، ق): "كفّنتكي". (4) (ب، ط، ج): "لقد نزعه عنّي". وفي (ن): " ... مني". (5) هذا في (أ، غ، ق) والمنامات. وفيما عداها: "كرم الله". (6) كذا "عبدة" في جميع النسخ والمنامات وصفة الصفوة في ترجمة رابعة (2/ 211). ولكن سماها ابن الجوزي في ترجمتها (2/ 213): "عُبيدة" مصغّرًا، ولما نقل الجزء المتعلق بها من هذا الخبر في ترجمتها سمَّاها عبيدة أيضًا. (7) بشر بن منصور السَّليمي أبو محمد الأزدي البصري مات سنة 180. ترجمته في الحلية (6/ 239). ونقل ابن الجوزي في ترجمته في صفة الصفوة (2/ 191) الجزء المتعلق به من هذا الخبر. وانظر: التقريب (124).

(1/67)


فوق ما كان يأمل! قالت: قلت: مُرِيني بأمر أتقرَّب به إلى الله تعالى. قالت: عليكِ بكثرة ذكر الله، فيوشك أن تغتبطي بذلك في قبرك (1). ولما مات عبد العزيز بن [14 ب] سليمان (2) العابد رآه بعض أصحابه، وعليه ثياب خضرٌ، وعلى رأسه إكليل من لؤلؤ. فقال: كيف كنتَ بعدنا؟ وكيف وجدتَ طعم الموت؟ وكيف رأيتَ الأمر هنا؟ قال: أما الموت فلا تسأل عن شدة كربه وغمّه (3)، إلا أنّ رحمةَ الله وارَتْ عنا كلَّ عيب، وما تلقَّانا إلا بفضله (4). وقال صالح بن بَشير (5): لما مات عطاء السَّليمي (6) رأيته في _________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (51). وانظر: العاقبة (225)، وصفة الصفوة (2/ 211). (2) كذا "سُلَيمان" في جميع النسخ والمنامات والعاقبة. ولكن في ترجمته في الحلية (6/ 262) وصفة الصفوة (2/ 192) وفي مواضع كثيرة من كتب التراجم: "سلمان". وهو الصحيح فيما يظهر. وابنه محمد يروي عنه. (3) (أ، غ): "وعظمه". (4) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (53). وانظر: العاقبة (118). (5) هذا الصواب من (ط) ومصادر التخريج. وفي (ب): "يسر"، وفيما عدا (ط، ب): "بشر"، وكلاهما تصحيف. وهو صالح بن بشير المُرِّي، أبو بِشر البصري، القاصّ الزاهد. التقريب (271). (6) ما عدا (ب، ط، ج): "السلمي". وهو خطأ. انظر: توضيح المشتبه (5/ 157).

(1/68)


منامي، فقلتُ: يا أبا محمد، ألستَ في زمرة الموتى؟ قال: بلى. قلت: فماذا صرتَ إليه بعد الموت؟ قال: صرتُ والله إلى خير كثير، وربِّ غفور شكور. قال: قلت: أمَا والله لقد كنتَ طويل الحزن في دار الدنيا! فتبسَّم، وقال: والله لقد أعقبني ذلك راحةً طويلة، وفرحًا دائمًا. قلت: ففي أيِّ الدرجات أنت؟ قال: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا (1). ولما مات عاصم الجحدري (2) رآه بعضُ أهله في المنام فقال: أليس قد متَّ؟ قال: بلى. قال: فأين أنت؟ قال: أنا والله في روضة من رياض الجنة أنا ونفر من أصحابي، نجتمعُ كلَّ ليلةِ جمعة وصبيحتها إلى بَكر بن عبد الله المُزَني، فنتلقَّى أخباركم. قال: قلت: أجسادكم أم أرواحكم؟ قال: هيهات! بليتِ الأجساد، وإنّما تتلاقى الأرواحُ (3). ورُئِي الفضيل بن عِيَاض بعد موته، فقال: لم أرَ للعبد خيرًا من ربّه (4). وكان مُرّةُ الهَمْدانيُّ (5) قد سجد حتى أكل التراب جبهته، فلما مات رآه _________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (56) ــ وفي مطبوعته نقص ــ وفي الهم والحزن (128). ومن طريقه في الحلية (6/ 172). (2) (ق): "الحجازي"، تحريف. (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (58). وقد سبق في المسألتين الأولى والثانية. (4) أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/ 104) بسنده عن محمد بن فضيل. (5) (ن): "قرّة"، تصحيف، فهو مُرَّة بن شَرَاحيل الهمْداني الكوفي. يقال له: مرة الطيّب ومرة الخير، لعلمه وعبادته. مخضرم، توفي سنة 76. وقيل: بعد ذلك. انظر: التقريب (525)، وسير أعلام البنلاء (4/ 74).

(1/69)


رجل من أهله في منامه، وكأنَّ موضع سجوده كهيئة الكوكب الدُرِّي، فقال: ما هذا الأثر (1) الذي أرى بوجهك؟ قال: كُسِي موضعُ السجود بأكل التراب له نورًا. قال: قلت: فما منزلتك في الآخرة؟ قال: خيرُ منزلٍ، دارٌ لا ينتقل عنها أهلها ولا يموتون (2). وقال أبو يعقوب القارئ: رأيتُ في منامي رجلًا آدمَ طُوالًا، والناس يتبعونه. قلت: من هذا؟ قالوا: أويسٌ القَرَنيُّ. فاتَّبعتُه، فقلت (3): أوصِني، يرحمك الله. فكلَحَ في وجهي. فقلت: مسترشِدٌ، فأرشِدْني، رحمك الله. فأقبل عليَّ، فقال: ابتغِ رحمةَ الله عند محبّته، واحذر نقمتَه عند معصيته، ولا تقطع رجاءك منه في خلال [15 أ] ذلك. ثم ولَّى، وتركني (4). وقال ابن السَّمَّاك: رأيت مِسْعَرًا في النوم، فقلت: أيَّ الأعمال وجدْتَ أفضلَ؟ قال: مجالس الذكر (5). وقال الأجلح: رأيتُ سَلَمةَ بن كُهيَل في النوم، فقلت: أيَّ الأعمال وجدتَ أفضل؟ قال: قيام الليل (6). _________ (1) "الأثر": ساقط من (ز). (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (65). وانظر: اعتلال القلوب (357) وصفة الصفوة (3/ 34). (3) ساقط من الأصل. (4) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (66)، وحسن الظن بالله (135). ومن طريقه في شعب الإيمان (1065) وتاريخ دمشق (9/ 455). (5) أخرجه ابن ابي الدنيا في المنامات (69). (6) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (70) والتهجد وقيام الليل (33).

(1/70)


وقال أبو بكر بن أبي مريم: رأيت وفاء (1) بن بِشْر بعد موته، فقلت: ما فعلْتَ يا وفاء؟ قال: نجوتُ بعد كلّ جهد. قلت: فأيُّ الأعمال وجدتموها أفضل؟ قال: البكاء من خشية الله عزوجل (2). وقال الليث بن سعد: عن موسى بن وَرْدان (3) أنه رأى عبد الله بن أبي حبيبة بعد موته فقال: عُرِضتْ عليَّ حسناتي وسيئاتي، فرأيت في حسناتي حباتِ رمَّان التقطْتُهنَّ فأكلتُهنّ. ورأيت في سيئاتي خيطَيْ حريرٍ (4) كانا في قَلَنْسُوَتي (5). وقال سُنَيد بن داود: حدثني ابن أخي جُوَيريَة (6) بن أسماء قال: كنا بعَبَّادانَ، فقدم علينا شابٌّ من أهل الكوفة متعبِّدٌ، فمات بها في يوم شديد الحرّ، فقلت: نُبْرِدُ، ثم نأخذ في جَهازه (7). فنمتُ فرأيت (8) كأنّي في المقابر، فإذا بقُبَّةِ جوهرٍ تتلألأُ حسنًا، وأنا أنظر إليها، إذ انفلقَتْ، فأشرفَتْ (9) منها جاريةٌ ما رأيت مثلَ حسنها، فأقبلت عليَّ، فقالت: بالله لا تحبِسهْ عنّا إلى _________ (1) قيّده الخطيب بالقاف، والصواب بالفاء كما هنا. انظر: توضيح المشتبه (9/ 191). وفي الإحياء (4/ 510): "ورقاء"، تحريف. (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (71). (3) (ز): "داود"، وهو خطأ. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (10/ 376). (4) (ز): "خيطين حريرًا". (5) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (75). (6) (ن): "حيوة"، تحريف. وابن أخيه: عبد الله بن محمد بن أسماء. (7) (ن): "جنازته". (ز): "تجهيزه". (8) (ن، ط، ج): "فرأيت في النوم". (ب): " ... في المنام". (9) (أ): "فأشرف". (غ، ق): "وأشرف". وفي (ن، ج، ز) بالقاف، تصحيف.

(1/71)


الظهر. قال: فانتبهتُ فزعًا، وأخذت في جهازه، وحفرت له قبرًا في الموضع الذي رأيت فيه القُبَّة، فدفنته فيه (1). وقال عبد الملك بن عتَّاب (2) الليثيُّ: رأيت عامر بن عبد قيس في النوم، فقلت: أيَّ الأعمال وجدتَ أفضل؟ قال: ما أريدَ به وجهُ الله عزَّ وجلّ (3). وقال يزيد بن هارون: رأيتُ أبا العلاء أيوب بن مسكين في المنام، فقلت: ما فعل بكَ ربُّك؟ قال: غفر لي. قلتُ: بماذا؟ قال: بالصوم والصلاة. قلتُ: أرأيتَ منصورَ بن زاذان؟ قال: هيهاتَ! ذاك نرى قصره (4) من بعيد (5). وقال يزيد بن نَعامة: هلكتْ جاريةٌ في طاعون الجارف، فلقيها أبوها بعد موتها، فقال لها: يا بُنيَّة، أخبريني عن الآخرة. قالت: يا أبتِ، قدِمنا [15 ب] على أمرٍ عظيمٍ، نعلم ولا نعمل، وتعملون ولا تعلمون. واللّهِ، _________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (77). (2) كذا في جميع النسخ وكتاب الإخلاص والنية لابن أبي الدنيا، وعنه في تاريخ دمشق. ولم أجد له ترجمة. وفي كتاب المنامات: عبد الملك بن يعلى الليثي. وكان قاضيًا بالبصرة قبل الحسن البصري ومات بعد المائة. انظر: طبقات ابن سعد (7/ 217)، والتقريب (366). (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (80) والإخلاص والنية (13)، وعنه في تاريخ دمشق (26/ 42). (4) المنامات: "قصوره". (5) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (82).

(1/72)


لتسبيحةٌ أو تسبيحتانِ أو ركعة أو ركعتان (1) في صحيفة عملي (2) أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها (3). وقال كَثِير بن مُرَّةَ: رأيتُ في منامي كأنّي دخلتُ درجةً عليا في الجنة، فجعلتُ أطوف بها، وأتعجبُ منها، فإذا أنا بنساءٍ من نساء المسجد في ناحيةٍ منها، فذهبتُ حتى سلَّمت عليهن، ثم قلت: بمَ بلغتُنَّ هذه الدرجة؟ قُلن: بسجداتٍ، وكُسَيرات (4). وقال مزاحمٌ مولى عمر بن عبد العزيز، عن فاطمة بنت عبد الملك امرأةِ عمر بن عبد العزيز قالت: انتبهَ عمر بن عبد العزيز ليلةً، فقال: لقد رأيتُ رؤيا معجبة. قالت: فقلت: جُعلتُ فِداك، فأخبِرْني بها. فقال: ما كنتُ لأُخبركِ بها حتى أُصْبِحَ. فلما طلع الفجرُ خرجَ، فصلّى، ثم عاد (5) إلى مجلسه. قالت: فاغتنمتُ خَلْوته فقلت: أخبرني بالرؤيا التي رأيتَ. قال: رأيتُ كأنّي دُفِعتُ (6) إلى أرضٍ خضراءَ واسعةٍ، كأنّها بساطٌ أخضرُ. وإذا فيها قصرٌ أبيضُ كأنّه الفضةُ، وإذا خارجٌ قد خرج من ذلك _________ (1) كذا في (ب، ط، ج، ز) والمنامات. وفي (ن، غ): "أو تسبيحات أو ركعة أو ركعات". وفي (أ، ق): "أو تسبيحات أو ركعة أو ركعتان". (2) (أ، غ، ز): "عمل". (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (86) وعنه في الأهوال (41). (4) يعني: تصدَّقن بها. وقد غيَّرها الناشرون فأثبتوا: "وتكبيرات"! (5) (أ، ز): "دعا". (6) كذا في المنامات وجميع النسخ إلا (غ) ــ وهي متأخرة ــ ففيها بالراء، وكذا في النسخ المطبوعة.

(1/73)


القصر، فهتفَ بأعلى صوته يقول: أين محمدُ بن عبد الله بن عبد المطلب؟ أين رسولُ الله؟ إذْ أقبل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى دخل ذلك القصر. قال: ثم إنَّ آخَرَ خرج من ذلك القصر، فنادى: أين أبو بكر الصديقُ؟ أين ابنُ أبي قُحافة؟ إذ أقبل أبو بكر حتى دخل ذلك القصرَ. ثم خرج آخرُ، فنادى: أين عمرُ بن الخطّاب؟ فأقبل عمرُ حتى دخل ذلك القصر. ثم خرج آخرُ، فنادى: أين عثمانُ بن عفان؟ فأقبل حتى دخل ذلك القصر. ثم خرج آخر، فنادى: أين عليُّ بن أبي طالب؟ فأقبل حتى دخل ذلك القصرَ. ثم إنّ آخرَ خرج، فنادى: أين عمرُ بن عبد العزيز؟ قال عمرُ: فقمتُ حتى دخلتُ ذلك (1) القصرَ. قال فدُفِعتُ (2) إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والقوم حولَه. فقلت بيني وبين نفسي: أين أجلِسُ؟ فجلستُ إلى جَنْب أبي عمرَ بن الخطاب. فنظرتُ فإذا أبو بكر عن يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا عمرُ [16 أ] عن يساره، فتأملتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أبي بكر رجل. فقلت (3): من هذا الرجل الذي بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أبي بكر؟ فقال: هذا عيسى ابن مريم. فسمعتُ هاتفًا يهتِف، وبيني وبينه سترُ نور: يا عمر بن عبد العزيز، تمسَّكْ بما أنت عليه، واثبُتْ على ما أنت عليه. ثم كأنّه أُذِنَ لي في الخروج، فقمتُ، فخرجت من ذلك القصر. فالتفتُّ _________ (1) لم ترد في (ن). (2) (ب، ز، غ): "رفعت" بالراء. (3) يعني: لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما في المنامات.

(1/74)


خلفي، فإذا أنا بعثمان بن عفان، وهو خارجٌ من ذلك القصر، يقول (1): الحمدُ لله الذي نصَرني رَبِّي (2)؛ وإذا عليُّ بن أبي طالب في أثره خارجٌ من ذلك القصر (3)، وهو يقول: الحمد لله الذي غَفَرَ لي رَبِّي (4)! وقال سعيد بن أبي عَروبةَ عن عمر بن العزيز: رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر وعمر جالسان عنده، فسلَّمت، وجلستُ، فبينا أنا جالسٌ إذ أُتِي بعليٍّ ومعاوية، فأُدخِلا بيتًا، وأُجيف (5) عليهما البابُ، وأنا أنظر. فما كان بأسرعَ من أن خرج عليٌّ، وهو يقول: قُضي لي، وربِّ الكعبة. وما كان بأسرعَ من أن خرج معاويةُ (6) على أثره، وهو يقول: غُفِر لي، وربِّ الكعبة (7). وقال حمَّاد: عن أبي هاشم (8): جاء رجلٌ إلى عمر بن عبد العزيز فقال: _________ (1) ما عدا (أ، ق، غ): "وهويقول". (2) كذا في جميع النسخ والمنامات وتاريخ دمشق. (3) من "يقول" إلى هنا سقط من (ب). (4) كذا في جميع النسخ غير (ج). وفي تاريخ دمشق وفي (ج) والمنامات: "غفر لي ذنبي". والخبر أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (123) وعنه في تاريخ دمشق (45/ 246). (5) أي: رُدَّ. (6) (ن): "معاوية بن أبي سفيان". (7) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (124)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (59/ 140). (8) ما عدا (ب، ط، ج): "حماد بن أبي هاشم"، وهو خطأ. فالراوي هنا حماد بن زيد عن أبي هاشم الرمّاني الواسطي، كما في مصادر التخريج.

(1/75)


رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام، وأبو بكر عن يمينه، وعمرُ عن شماله (1)، وأقبل رجلان يختصمان، وأنتَ بين يديه جالسٌ. فقال لك: يا عمرُ إذا عَمِلتَ فاعمَلْ بعمل هذين: لأبي بكر وعمر. فاستحلفه عمرُ: بالله، أرأيتَ هذه الرؤيا؟ فحلفَ، فبكى عمرُ (2). وقال عبد الرحمن (3) بن غَنْم: رأيتُ معاذَ بن جبل بعد وفاته بثلاث على فرسٍ أبلق، وخلفَه رجالٌ بيضٌ، عليهم ثيابٌ خضرٌ، على خيل بُلْق. وهو قُدَّامهم، وهو يقول: {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 26 - 27]. ثم التفتَ عن يمينه وشماله يقول: يا ابنَ رواحة، يا ابنَ مظعون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74] ثمّ صافحني، وسلَّم عليَّ (4). وقال قَبيصة بن عُقبة: رأيتُ سفيانَ الثوري في المنام (5) بعد موته [16 ب]، فقلت: ما فعل اللهُ بك؟ فقال (6): _________ (1) (ز): "يساره". (2) (ق): "عمر بن عبد العزيز". والخبر أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (120) وعنه في تاريخ دمشق (45/ 175). وانظر: سير أعلام النبلاء (5/ 127). (3) (ن): "عبد الرحيم"، خطأ. (4) الخبر في كتاب العاقبة (222). (5) (ن): فيما يرى النائم. (6) "رأيت ... فقال" ساقط من (ب).

(1/76)


نظرتُ إلى ربّي عِيانًا فقال لي ... هنيئًا رضائي عنك يا ابن سعيد فقد كنتَ قوَّامًا إذا الليلُ قد دجا ... بِعَبْرةِ محزونٍ وقلبِ عميد فدونكَ فاختَرْ أيَّ قصرٍ تريده ... وزُرْني فإنّي منك غيرُ بعيد (1) وقال سفيانُ بن عُيينة (2): رأيتُ سفيانَ الثوري بعد موته، يطيرُ في الجنة في نخلةٍ إلى شجرة، ومن شجرةٍ إلى نخلة، وهو يقول: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61]. فقيل له: بما أُدْخِلت (3) الجنة؟ قال: بالوَرع، بالورع (4). قيل له: فما فعل عليُّ بن عاصم؟ قال: ما نراه إلا مثلَ الكوكب (5). وكان شعبة بن الحجَّاج ومِسْعَر بن كِدام حافظَين، وكانا جليلَيْن (6). قال أبو أحمد اليزيدي (7): رأيتُهما بعد موتهما فقلت: أبا بسطام، ما فعل الله _________ (1) كتاب العاقبة (223). وأخرجه أبو نعيم في الحلية (7/ 74). (2) (ب، ط، ج): وقال ابن عيينة. (3) (ن): «دخلت». (4) «بالورع» الثانية أسقطها ناسخ (ن) ظنًّا منه أنها مكررة. وخوفًا من ذلك وضعت عليها علامة «صح» في (ب، ط، ق). (5) كتاب العاقبة (223). وانظر: المنامات لابن أبي الدنيا (275). (6) كذا في (ق، غ)، وفي غيرهما: «خليلين»، وفي (ز): «خليطين». وسياق الكلام في العاقبة (223): «رجلين فاضلين جليلين ... وكان شعبة أكبر وأجلّ». (7) كذا في (ب، ق، ز، ج) وكتاب العاقبة. وفي (أ، غ): «الترمذي». وفي (ن): «البريدي». وفي (ط): «أحمد بن اليزيدي». وقد وجدت أبا أحمد الترمذي ممن يروي عن سليمان بن أبي الشيخ (ت 246). والسياق ينبئ بأنه من أقران شعبة ومسعر، بل من تلامذتهما، فإنه قال: وكنت إلى شعبة أميل منّي إلى مسعر. وقد أخرج الخبر ابن عساكر في تاريخ دمشق (52/ 166) بسنده عن هارون بن هزاري قال: سمعت محمد بن تسنيم الدمشقي يقول: «رأيت شعبة ومسعرًا في النوم ... ». وسياقه شبيه بسياق خبرنا. فهذا أيضًا «آنس بشعبة منه بمسعر». لم أعرف محمد بن تسنيم الدمشقي، ولكن هارون بن هزاري معروف، وهو أبو موسى القزويني المتوفى سنة 251. وقال الذهبي في السير (1/ 219): وروي عن عبد القدوس بن محمد الحبحابي: سمعت أبي يقول: «لما مات شبعة أُريته بعد سبعة أيام، وهو آخذ بيد مسعر ... » وهذا مثل ما في خبر الدمشقي: «وكفّ مسعر في كفّ شعبة». وعبد القدوس وأبوه كلاهما معروف. فهو عبد القدوس بن محمد بن عبد الكبير بن شعيب بن الحبحاب الأزدي، أبو بكر العطار البصري، من رواة البخاري. وقد حكى البخاري في التاريخ الصغير (2/ 281) عنه أن أباه أبا عبد الله محمد بن عبد الكبير مات سنة 206. فهذا معاصر لمحمد بن تسنيم الدمشقي، ولكن الغريب أن كليهما أميل إلى شعبة، وأنهما جميعًا رأيا أن كف شعبة بكف مسعر. ثم الأبيات الآتية نفسها أنشدها شعبة محمد بن تسنيم الدمشقي وأبا عبد الله البصري وأبا أحمد اليزيدي أو الترمذي جميعًا!

(1/77)


بك؟ فقال: وفَّقك الله لحفظ ما أقول: حَبَاني إلهي في الجنانِ بقُبَّةٍ ... لها ألفُ بابٍ من لُجَين وجوهرًا (1) _________ (1) في العاقبة: «مجوهرا». وكذا وردت الأبيات في جميع النسخ ومصدر المؤلف ــ وهو كتاب العاقبة ــ مفتوحة القوافي. وعلى هذا نصبُ «جوهر» في البيت الأول و «مسعر» في البيت الثالث يُحوج إلى التكلف. وبيتان آخران في المصادر لا يستقيم نصب القافية فيهما. وقد ضبطها ناشر سير أعلام النبلاء برفع بعضها وكسر الأخرى، ولم يضبط «فأكثر» وهو فعل ماضٍ، ونبّه على أن في الأبيات إقواء ظاهرًا. وأرى أن الأبيات مقيّدة القوافي، وهي من الضرب الثالث من الطويل.

(1/78)


وقال ليَ الرحمنُ يا شعبةُ الذي ... تبحَّرَ في جمعِ العلوم فأكثرا تنعَّمْ بقُربي إنني عنك ذو رضًا ... وعن عبديَ القوَّام في الليل مِسْعَرا كفى مِسْعرًا عِزًّا بأنْ سيزورني ... وأَكشِفُ عن وجهي الكريم لينظرا وهذا فَعالي بالذين تنسَّكوا (1) ... ولم يألَفُوا في سالفِ الدهر منكرا قال أحمدُ بن محمد الكنديُّ: رأيتُ أحمد بن حنبل في النوم، فقلت: يا أبا عبد الله، ما فعل الله بك؟ قال: غفَر لي، ثم قال: يا أحمد، ضُرِبتَ فيَّ ستّين سوطًا؟ قلت: نعم يا ربّ. قال: هذا وجهي قد أبحتُكَ، فانظُرْ إليه (2). وقال أبو بكر (3) أحمدُ بن محمد بن الحجَّاج: حدثني رجلٌ من أهل طَرَسوس قال: دعوتُ الله عز وجل أن يُريني أهلَ القبور حتى أسألَهم عن أحمد بن حنبل ما فَعَل الله به؟ فرأيتُ بعد عشر سنين في المنام، كأنَّ أهلَ القبور قد قاموا على قبورهم، فبادروني (4) بالكلام، فقالوا: [17 أ] يا هذا، كم تدعو الله عز وجل أن يُرِيَك إيَّانا! تسألنا عن رجل لم يَزَلْ منذ فارقكم تحليه (5) الملائكةُ تحت شجرة طوبى. _________ (1) (ط، ز): «تمسّكوا». (2) كتاب العاقبة (224). وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (4/ 421). وانظر: سير أعلام النبلاء (11/ 349). (3) «أبو بكر» ساقط من (ن، ط). (4) (ن):» فبارزوني»، تصحيف. (5) كذا في الأصل مع علامة الإهمال تحت الحاء، وكذا في (غ، ق، ن، ز). وفي (ب، ط): «عليه»، ثم زاد بعضهم في (ب) بعد «الملائكة»: «ترفّه». والذي في كتاب العاقبة ــ مصدر المؤلف ــ: «تحفّه» وهو أظهر.

(1/79)


قال أبو محمد (1) عبد الحقّ: وهذا الكلامُ من أهل القبور إنما هو إخبارٌ عن عُلوِّ درجة أحمد بن حنبل وارتفاع مكانه وعِظَمِ منزلته، فلم يقدِروا أن يُعبِّروا عن صفة حاله وعمّا هو فيه إلّا بهذا (2)، وما هو في معناه (3). وقال أبو جعفر السقَّا صاحبُ بِشْر بن الحارث: رأيتُ بشرًا الحافي ومعروفًا (4) الكرخي، وهما جائيان. فقلت: من أين؟ فقالا: من جنة الفردوس، زُرنا كليم الله موسى (5). وقال عاصم الجزَري (6): رأيتُ في النوم كأنّي لقيتُ بِشْر بن الحارث، _________ (1) ساقط من (ن). (2) (ن، ز): «أو». وكذا في كتاب العاقبة. (3) كتاب العاقبة (224). (4) (أ، ن، ع، ز): «معروف». (5) كتاب العاقبة (225). وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (10/ 224) وعنه في شرح الصدور (373). (6) (ن): «الجحدري» وهو خطأ صرف فإنه توفي سنة 129 قبل مولد الإمام أحمد سنة 164. وأثبتُّ ما اتفقت عليه النسخ الأخرى لموافقتها كتاب العاقبة وهو مصدر المؤلف. ولكن في تاريخ بغداد وغيره من المصادر: «الحربي»، وهو الصواب في ظنِّي، نسبة إلى محلّة الحربيّة ببغداد، ولكن لم أجد له ترجمة. وأثبت ناشر الذيل على طبقات الحنابلة (1/ 309): «الجرمي»، وجزم بصحته، وأحال على تهذيب التهذيب، وهو خطأ بلا ريب؛ فإن عاصم بن كليب الجرمي الكوفي توفي سنة 137 قبل مولد الإمام أحمد. وسأله الأثرم عن الجرمي فقال: لا بأس بحديثه. انظر: تهذيب التهذيب (5/ 55).

(1/80)


فقلتُ: من أين يا أبا نصر؟ قال: من عِلِّيِّين. قلتُ (1): ما فعل أحمدُ بن حنبل؟ قال: تركتُه الساعةَ مع عبد الوهّاب الورّاق بين يدي الله عزَّ وجلَّ يأكلان ويشربان. قلتُ له: فأنتَ؟ قال: عَلِمَ الله قلَّةَ رغبتي في الطعام، فأباحني النظرَ إليه (2). وقال أبو جعفر السقّاء: رأيتُ بِشْر بن الحارث في النوم (3) بعد موته، فقلتُ: أبا نصر، ما فعل الله بك؟ قال: أطلقني (4)، ورحمني، وقال لي: يا بِشْرُ، لو سجدتَ لي في الدنيا على الجمر ما أدّيتَ شكرَ ما حشوتُ قلوب عبادي منك، وأباح لي نصفَ الجنة، فأسرحُ فيها حيث شئتُ، ووعدني أن يغفرَ لمن تَبِع جنازتي. فقلت: ما فعل أبو نصر التمَّار؟ فقال: ذاك فوق الناس بصَبْره على بلائه (5) وفقره (6). قال عبد الحق: لعله أراد بقوله: «نصف الجنة» نصف نعيمها؛ لأن _________ (1) (ب، ن، ط، ج): «فقلت». (2) كتاب العاقبة (226). وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (11/ 27) ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (10/ 223). وانظر: صفة الصفوة (2/ 370) وشرح الصدور (373). (3) «فقلت: من أين يا أبا نصر ... » إلى هنا ساقط من (ز). (4) كذا في (أ، غ). وفي (ز، ق)، العاقبة: «ألطفني». وفي غيرها: «لطف بي». وفي تاريخ بغداد: «وقفني فرحم شيبتي». وفي المنامات: «غفر لي». (5) في تاريخ بغداد وتاريخ دمشق: «على بُنَيَّاته». (6) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (10/ 420) ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (10/ 227). ونحوه مختصرًا في المنامات عن رجل (278). والمنام نفسه رواه أبو نعيم بسنده عن سفيان بن محمد المصيصي! ومصدر المؤلف كتاب العاقبة (226).

(1/81)


نعيمَها نصفان: نصفٌ رُوحاني، ونصفٌ جسماني (1). فيتنعَّمون أولًا بالروحاني، فإذا رُدَّت الأرواحُ إلى الأجساد أَضِيفَ لهم النعيم الجسماني إلى الروحاني (2). وقال غيره: نعيم الجنة مرتَّب على العلم والعمل، وحظُّ بشرٍ من العمل كان أوفى من حظِّه من العلم (3)، والله أعلم. وقال بعض الصالحين: رأيتُ أبا بكر الشِّبلي في المنام، وكأنه قاعدٌ في مجلس الرُّصافة بالموضع الذي كان يقعد فيه. وإذا به قد أقبل، وعليه ثياب [17 ب] حِسان، فقمتُ إليه وسلَّمتُ عليه، وجلستُ بين يديه، فقلت له: مَنْ أقربُ أصحابِك إليك؟ قال: ألهَجُهم بذكر الله، وأقوَمُهم بحقِّ الله، وأسرَعُهم مبادرةً في (4) مرضاة الله (5). وقال أبو عبد الرحمن الساحليُّ: رأيتُ مَيْسرةَ بن سُليم في المنام بعد موته، فقلت له: طالتْ غَيبتُك. فقال: السفر طويل. فقلت له: فما الذي قَدِمتَ عليه؟ فقال: رُخِّصَ لي، لأنّا كنّا نُفتي بالرُّخَص. فقلت: فما تأمرني به؟ قال: اتِّباع الآثار وصحبة الأخيار يُنجِّيان من النار، ويُقرِّبان من _________ (1) (ن): «جثماني» هنا وفي الموضع الآتي. (2) كتاب العاقبة (226). (3) (أ، ق، غ): «في العلم». (4) (ن): «إلى». (5) كتاب العاقبة (227). وكذا فيه أن هذا السؤال والجواب وقعا في المنام. وفي تاريخ بغداد (14/ 428) أن أبا الحسن بن أنس العطار سمع الشبلي سئل فأجاب. يعني في اليقظة. وانظر: تاريخ دمشق (66/ 66).

(1/82)


الجبار (1). وقال أبو جعفر الضرير (2): رأيتُ عيسى بن زاذان بعد موته فقلت: ما فعل الله بك؟ فأنشأ يقول: لو رأيتَ الحِسانَ في الخُلد حولي ... وأكاويبَ مَعْهُمُ (3) لِلشَّرابِ يَترنَّمنَ بالكتاب جميعًا ... يَتمشَّين مُسْبِلاتِ الثِّيابِ (4) وقال بعض أصحاب ابن جُريج: رأيتُ كأنّي جئتُ إلى هذه المقبرةِ التي بمكة، فرأيتُ على عامَّتها سُرادقًا، ورأيتُ منها قبرًا عليه سُرادق، وفُسطاط، وسِدرة. فجئتُ حتى دخلتُ، فسلَّمتُ عليه، فإذا مسلمُ بن خالد الزَّنْجي. فسلَّمت عليه، وقلت: يا أبا خالد، ما بالُ هذه القبور عليها سُرادق، وقبرُك عليه سُرادق وفُسطاط، وفيه سِدرة؟ فقال: إني كنتُ كثيرَ الصيام. فقلت: فأين قبرُ ابن جُريج؟ دُلَّني عليه، فقد كنتُ أجالسه، وأنا أحبُّ أن أسلِّم عليه. فقال هكذا بيده: هيهات، وأدار إصبعَه السبّابةَ: وأين قبرُ ابن جريج؟ رُفِعت صحيفته في عِلِّيِّين (5)! _________ (1) كتاب العاقبة (228). (2) كذا في العاقبة. وفي المنامات أن صاحب المنام إسحاق بن إبراهيم الثقفي، وهو أبو يعقوب الكوفي! (3) كذا ضمير الجمع المذكر للحسان في (أ، ب، ج، ق، غ). وفي (ط، ز)، المنامات: «معهنّ»، ولكنه يكسر الوزن. وفي (ن): «وأكاويب أشرعت بالشراب». وفي العاقبة: «وأكاويبها بصافي الشراب» ولعلهما من إصلاح النسّاخ. (4) كتاب العاقبة (228). وأخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (146). (5) كتاب العاقبة (230).

(1/83)


ورأى حمَّادَ بن سلَمة في النوم بعضُ أصحابه، فقال له: ما فعل اللهُ بك؟ فقال: قال لي: طالما كدَدْتَ نفسَك في الدنيا، فاليوم أطيلُ راحتَك وراحةَ المتعبين. وهذا بابٌ طويل جدًا. فإن لم تسمح نفسك بتصديقه، وقلت: هذه منامات، وهي غير معصومة، فتأمَّلْ من رأى صاحبًا له أو قريبًا أو غيره، فأخبَرَه بأمر لا يعلمه إلا صاحبُ الرؤيا، أو أخبَره بمال دفَنَه هو أو غيره، أو حذَّره من أمر يقع، أو بشَّرَه بأمر يوجد، فوقع كما قال؛ أو أخبَره بأنه يموت هو أو بعضُ [18 أ] أهله إلى كذا وكذا، فيقع كما أخبر؛ أو أخبَره بِخِصْب أو جَدْب أو عدوٍّ أو نازلة أو مرض يعرِضُ له (1)، فوقع كما أخبَر. والواقعُ من ذلك لا يُحصيه إلا الله، والناسُ مشتركون فيه، وقد رأينا نحن وغيرُنا من ذلك عجائب. وأبطَلَ (2) مَن قال: إن هذه كلَّها علوم وعقائد في النفس تظهر لصاحبها عند انقطاع نفسِه عن الشواغل البدنية بالنوم. وهذا عينُ الباطل والمحال، فإنَّ النفسَ لم يكن فيها قطُّ معرفةُ هذه الأمور التي يخبر بها الميِّت، ولا خَطرتْ ببالها، ولا عندها علامةٌ عليها ولا أمارةٌ بوجهٍ ما. ونحن لا ننكر أنَّ الأمرَ قد يقع كذلك، وأنَّ من الرؤيا ما يكون من حديثِ النَّفس وصورة الاعتقاد. بل كثيرٌ من مرائي الناس إنَّما هي من مجرد صور اعتقادهم المطابقِ وغير المطابق، فإنَّ الرؤيا على ثلاثة أنواع: رؤيا من الله، _________ (1) (ق): «مرض أو بغرض له»، زاد «أو» ثم صحَّف. (2) (ن): «وأبطل من ذلك».

(1/84)


ورؤيا من الشيطان، ورؤيا من حديث النفس (1). والرؤيا الصحيحةُ أقسام منها: إلهامٌ يُلقيه الله سبحانه في قلب العبد. وهو كلامٌ يُكلِّم به الربُّ عبدَه في المنام، كما قال عبادة بن الصامت (2) وغيره (3). ومنها: مَثَلٌ يضربِه له ملكُ الرؤيا الموكلُ بها. ومنها: التقاءُ روحِ النائم بأرواح الموتى من أهله وأقاربه وأصحابه وغيرهم، كما ذكرناه (4). ومنها: عروجُ (5) روحه إلى الله سبحانه وتعالى وخطابُها له. ومنها: دخولُ روحه إلى الجنة ومشاهدتُها وغير ذلك. فالتقاءُ أرواح الأحياء والموتى نوعٌ من أنواع الرؤيا الصحيحة التي هي عند الناس من جنس المحسوسات. وهذا موضعٌ اضطرب فيه الناس. فمن قائلٍ: إنَّ العلومَ كلَّها كامنة في النفس، وإنما اشتغالُها بعالم الحسِّ يحجبُ عنها مطالعتَها (6)، فإذا تجرَّدت _________ (1) هذا التقسيم مما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة: البخاري (7017)، ومسلم (2263). (2) أورده المصنف وشيخه في عدة مواضع من كتبهما. انظر: الرد على المنطقيين (485)، النبوات (179)، بدائع الفوائد (513)، مدارج السالكين (1/ 51). وأشار في مواضع أخرى إلى أنه روي مرفوعًا. مجموع الفتاوى (12/ 398)، حادي الأرواح (838). وقد أخرج هذا المرفوع الحكيم الترمذي في النوادر (1/ 390). قال ابن حجر: وهو من روايته عن شيخه عمر بن أبي عمر، وهو واهٍ. وفي سنده جنيد. (فتح الباري 12/ 354). وقال الهيثمي في المجمع (7/ 362): رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفه. (3) لعله يعني: أبا الدرداء. انظر: مجموع الفتاوى (6/ 180). (4) (ب): «ذكرنا». (5) في (أ، غ): «مثل عروج»، وكلمة «مثل» مقحمة. (6) (ب، غ، ق، ز): «مَطالِعها».

(1/85)


بالنوم رأت منها بحسب استعدادها. ولما كان تجرُّدها بالموت أكملَ كانت علومُها ومعارفُها هناك أكملَ. وهذا فيه حقٌّ وباطلٌ، فلا يُرَدُّ كلُّه، ولا يُقبَل كلُّه. فإنَّ تجرُّدَ النفس يُطْلِعُها على علوم ومعارف لا تحصل بدون التجرُّد، لكن لو تجرَّدتْ كلَّ التجرد لم تطَّلِعْ على علم الله الذي [18 ب] بعث به رسولَه، وعلى تفاصيل ما أخبر به عن الرسل الماضية والأمم الخالية، وتفاصيل المعاد وأشراط الساعة، وتفاصيل الأمر والنهي والأسماء والصفات والأفعال وغير ذلك مما لا يُعلَم إلا بالوحي. ولكن تجرُّد النفسِ عونٌ لها على معرفة ذلك، وتلقِّيه من معدِنه أسهل وأقرب وأكثر مما يحصل للنفس المنغمسة (1) في الشواغل البدنية. ومِن قائلٍ: إنَّ هذه المرائي علوم يخلقها (2) الله في النفس ابتداءً بلا سبب. وهذا قول منكري الأسباب والحِكَم والقوى، وهو قولٌ مخالفٌ للشرع والعقل والفطرة. ومِن قائلٍ: إنَّ الرؤيا أمثالٌ مضروبةٌ يضربها الله للعبد بحسب استعداده وإلْفهِ، على يدِ ملَك الرؤيا. فمرةً يكون مثلاً مضروبًا، ومرةً يكون نفسَ ما رآه الرائي، فيطابق الواقعَ مطابقةَ العلم لمعلومه. وهذا أقربُ من القولين قبلَه، ولكن الرؤيا ليست مقصورةً عليه، بل لها أسبابٌ (3) أُخَر كما تقدَّم: من _________ (1) في جميع النسخ: «المنعمة»، وهو تصحيف لما أثبتنا من الطبعة الهندية وغيرها. (2) (ق): «عَلقَها»، تحريف. انظر: فتح الباري (12/ 353). (3) ساقط من (ق).

(1/86)


ملاقاة الأرواح وإخبارِ بعضها بعضًا (1)، ومن إلقاءِ المَلَكِ (2) في القلب والرُّوع، ومن رؤيةِ الروح للأشياء مكافحةً بلا واسطة. وقد ذكر أبو عبد الله ابن منده الحافظ في كتاب «النفس والروح» من حديث محمد بن حُميد، ثنا عبد الرحمن بن مَغْراء الدَّوْسي (3)، ثنا الأزهرُ بن عبد الله الأزدي، عن محمد بن عجلان، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: لقي عمرُ بن الخطاب عليَّ بن أبي طالب، فقال له: يا أبا حسن، ربما شهدتَ وغِبنا، وشهدنا وغِبتَ. ثلاثٌ أسألُك عنهن، فهل عندك منهن علم؟ فقال عليُّ بن أبي طالب: وما هنَّ؟ فقال: الرجل يحبُّ الرجلَ ولم يرَ منه خيرًا، والرجلُ يبغضُ الرجلَ ولم يرَ منه شرًّا. فقال عليٌّ: نعم، سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنَّ الأرواحَ جنودٌ مُجنَّدةٌ تلتقي في الهواء، فتَشَامُّ (4)، فما تعارفَ منها ائتلفَ، وما تناكرَ منها اختلفَ». فقال عمر: واحدة. قال عمر: والرجل: يحدَّث الحديثَ إذا نَسِيَه، فبينا هو قد نَسِيَه (5) إذ ذكَره. فقال: نعم، سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما في القلوب قلبٌ [19 أ] إلا _________ (1) (ن): «وإخبار لبعض». (2) كذا في (ب، ن، ج). وفي غيرها: «الملك الذي». وفي (ق): «التقاء». (3) كذا في (ب)، وهذا هو الصواب. وفي (ن، ج): «عبد الرحمن بن معن»، وهو وهمٌ مشهور. انظر: تقريب التهذيب (350). ولكن في الأصل: «أبو عبد الرحمن بن معن»، وفي (ق، ط، ز): «أبو عبد الرحمن ابن مغراء» فهل سقط «زهير» بعد «أبو»؟ فإن عبد الرحمن يكنى بأبي زهير. (4) وفي حديث ابن مسعود كما سيأتي: «فتشامُّ كما تشامُّ الخيلُ». أي يشَمُّ بعضُها بعضًا. ومنه قولك: شاممتُ فلانًا، إذا دنوتَ منه، وتعرَّفتَ ما عنده. انظر: لسان العرب (شمم 12/ 326). (5) (أ، ق، غ، ز): «هو ومن نسيه».

(1/87)


وله سحابةٌ كسحابةِ القمر، بينا القمرُ مضيء إذ تجلَّلتْه (1) سحابةٌ فأظلمَ، إذ تجلَّتْ فأضاء. وبينا القلبُ يتحدث إذ تجلَّلته سحابةٌ فنسي، إذ تجلَّتْ (2) عنه فيذكر (3)». قال عمرُ: اثنتان. قال: والرجلُ يرى الرؤيا، فمنها ما يصدُق ومنها ما يكذِب. فقال: نعم، سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما مِن عبدٍ ينام يتملَّى نومًا (4) إلا عُرِجَ بروحه إلى العرش. فالذي لا يستيقظ دون العرش، فتلك الرؤيا التي تصدق. والذي يستيقظ دون العرش، فهي التي تكذب». فقال عمرُ: ثلاثٌ كنتُ في طلبهنَّ، فالحمد لله الذي أصبتُهنَّ قبل الموت (5). _________ (1) أي غشيته. وفي الأصل: «تخللته»، تصحيف. (2) الأصل: «انجلت». (3) كذا في جميع النسخ، والسياق يقتضي: «فتذكر» أو «فذكر» كما في الأوسط (5220) وغيره. (4) أي ينام طويلاً. وفي (أ، ن، غ): «يمتلئ». (5) أخرجه العقيلي في الضعفاء (1/ 135)، والطبراني في الأوسط (5220)، والحاكم في المستدرك (4/ 396، 397)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 196) من طرق عن ابن مغراء بإسناده، وهو بتمامه عند الطبراني. واقتصر العقيلي على الحديث الأول، وأبو نعيم على الثاني، والحاكم على الثالث. وضعَّفه العراقي في تخريجه أحاديث الإحياء (1220). ولما سكت عنه الحاكم تعقبه الذهبي بقوله: «حديث منكر، لم يصححه المؤلف، وكأنّ الآفة من أزهر». وقال الهيثمي في المجمع (1/ 162): «فيه أزهر بن عبد الله، قال العقيلي: «حديثه غير محفوظ عن ابن عجلان، وهذا الحديث يعرف من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي موقوفًا». وبقية رجاله ثقات». وكذا أعلَّه بالوقف أيضًا ابن عبد الهادي في الصارم المنكي (301). والحديث الأول يغني عنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم (2638)، والبخاري (3336) تعليقًا من حديث عائشة رضي الله عنها، وسيأتي عند المؤلف. (قالمي).

(1/88)


وقال بقية بن الوليد: ثنا صفوان بن عمرو، عن سُليم بن عامر الحضرمي قال: قال عمر بن الخطاب: عَجِبتُ لرؤيا الرجل يرى الشيء، لم يخطُرْ له على بال، فيكون (1) كأخذٍ بيد. ويرى الشيء، فلا يكون شيئًا. فقال عليُّ بن أبي طالب: يا أميرَ المؤمنين، يقول الله عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]. قال: والأرواحُ يُعرَجُ بها في منامها، فما رأتْ وهي في السماء فهو الحقُّ، فإذا رُدَّتْ إلى أجسادها تلقَّتْها الشياطين في الهواء، فكذَبتْها، فما رأتْ من ذلك فهو الباطل. قال: فجعل عمرُ يتعجَّب من قول عليٍّ (2). قال ابن منده: هذا خبر مشهور عن صفوان بن عمرو وغيره، ورُوي عن أبي الدرداء. وذكر الطبراني (3) من حديث عليِّ بن أبي طلحة، أنَّ عبد الله بن عباس _________ (1) (ب، ط): «ويكون». (2) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (18398) وابن مردويه. انظر: الدر المنثور (7/ 231). (3) لم أجده في معاجمه المطبوعة. وفي بعضها نقص. وقد يكون أخرجه في كتاب الرؤيا له.

(1/89)


قال لعمر بن الخطاب: يا أميرَ المؤمنين، أشياء أسألك عنها. قال: سَلْ عما شئتَ. قال: يا أميرَ المؤمنين، مِمَّ يذكرُ الرجلُ؟ ومِمَّ ينسى؟ وممَّ تصدقُ الرؤيا؟ ومِمَّ تكذبُ؟ فقال له عمر: إنَّ على القلب طَخَاءةً كطخاءة القمر (1)، فإذا تغشَّت القلب نسي ابنُ آدم، فإذا انجلتْ ذكَر ما كان نسِي. وأمَّا مِمَّ تصدقُ الرؤيا، ومِمَّ تكذب؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يقول: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}. فمن دخل منها في ملكوت السماء فهي التي [19 ب] تصدقُ، وما كان منها دون ملكوتِ السماء فهي التي تكذب (2). وروى ابنُ لهيعة عن عثمان بن نُعيم الرُّعيني، عن أبي عثمان الأصبحي، عن أبي الدرداء قال: إذا نام الإنسان (3) عُرِجَ بروحه حتى يُؤتى بها العرش، فإن كان طاهرًا أُذِنَ لها بالسجود، وإن كان جنبًا لم يُؤذنْ لها بالسجود (4). وروى جعفر بن عون عن إبراهيم الهجَري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إنَّ الأرواحَ جنودٌ مجندةٌ تتلاقى، فتَشامُّ كما تشامّ الخيلُ، فما تعارفَ منا ائتلفَ، وما تناكرَ منها اختلفَ (5). ولم يزل الناسُ قديمًا وحديثًا تعرفُ هذا وتشاهِدهُ. قال جميل بن مَعمَر _________ (1) الطخاءة: الغشاء والظلمة والغيم. (2) أورده الحكيم في نوادر الأصول (1/ 169) عن ابن عباس. (3) (ن): «الرجل». (4) أخرجه ابن المبارك في الزهد (1245). وانظر: نوادر الأصول للحكيم (3/ 220). (5) أخرجه البيهقي في الشعب (9038).

(1/90)


العُذْري (1): أظَلُّ نهاري مُستهامًا وتلتقي ... مع الليل روحي في المنام وروحُها (2) فإن قيل: فالنائمُ يرى غيره من الأحياء يُحدِّثه ويخاطبه، وربما كان بينهما مسافة بعيدة، ويكون المرئيُّ يقظانَ، روحُه لم تفارق جسدَه، فكيف التقت روحاهما؟ قيل: هذا إما أن يكون مثلاً مضروبًا، ضربه ملكُ الرؤيا للنائم (3)، أو يكون حديثَ نفس من الرائي تجرَّد له في منامه، كما قال حبيبُ بن أوس (4): سَقيًا لِطَيفِكَ مِن زَورٍ أتاكَ به ... حديثُ نفسِك عنه وهو مشغولُ (5) _________ (1) (ط): «العدوي». (ز): «العبدري». وكلاهما تحريف. و «العذري» ساقط من (ن). وفي (ب) تحرف «جميل» إلى «علي». (2) ديوان جميل (51). (3) «للنائم» ساقط من (ن). (4) هذا وهمٌ، فإن البيت الآتي لجِران العود النُّميري في ديوانه (100) عن منتهى الطلب. وسبب الوهم أن بيت النميري يُذكر مع قول أبي تمام: عادك الزَّورُ ليلةَ الرَّعْلِ مِن رَمْـ ... ـلَةَ بين الحِمَى وبين المَطالي نَمْ فما زارك الخيالُ ولكنْـ ... نَكَ بالفكر زُرتَ طيفَ الخيالِ للدلالة على أنّه أخذ معناه من قول النُّمَيري. وقال أبو تمام أيضًا: استزارته فكرتي في المنامِ ... فأتاني في خُفيةٍ واكتتامِ انظر: الموازنة للآمدي (2/ 168). (5) «لطيفك»: كذا في (ن) والموازنة. وفي النسخ الأخرى: «لضيفك». وفي الديوان: «لِزَورك».

(1/91)


وقد تتناسب الرُّوحانِ وتشتدُّ علاقةُ إحداهما بالأخرى، فيشعر كلٌّ منهما ببعض ما يحدث لصاحبه، وإنْ (1) لم يشعرْ بما يحدثُ (2) لغيره لشدة العلاقة بينهما، وقد شاهد الناس من ذلك عجائب. والمقصود أن أرواحَ الأحياء تتلاقى في النوم، كما تتلاقى أرواحُ الأحياء والأموات. قال بعضُ السلف: إنَّ الأرواحَ تتلاقى في الهواء، فتتعارف، وتتناكر، فيأتيها ملكُ الرؤيا بما هو لاقيها من خير أو شر. قال: وقد وكَّلَ اللهُ بالرؤيا الصادقةِ ملَكًا علَّمه وأَلهمه معرفةَ كلِّ نفس بعينها، واسمِها، ومنقلَبِها في دينها ودنياها، وطبعِها، ومعارفِها؛ لا يشتبه عليه منها شيء، ولا يغلطُ فيها، فيأتيه نسخة (3) من علمِ غيب الله من أُمِّ الكتاب بما هو مُصيبٌ لهذا الإنسان [20 أ] من خيرٍ وشرٍّ في دينه ودنياه. ويضربُ له فيها الأمثال والأشكال على قدر عادته، فتارةً يبشِّره بخير قدَّمه أو يقدِّمه، ويُنذره من معصية ارتكبها أو هَمَّ بها، ويحذّره من مكروه انعقدتْ أسبابه؛ لِيعارض تلك الأسبابَ بأسبابٍ تدفعها، ولغير ذلك من الحِكم والمصالح التي جعلها الله في الرؤيا نعمةً منه ورحمةً وإحسانًا وتذكيرًا وتعريفًا. وجعل أحدَ طُرق ذلك تلاقيَ الأرواح وتذاكُرَها وتعارفَها. وكم ممن كانت توبتُه وصلاحُه وزهدُه وإقبالُه على الآخرة عن منامٍ رآه أو رُئِيَ له! (4) وكم ممن استغنى وأصابَ كنزًا أو دفينًا عن منام! _________ (1) (ن): «وإنما»، وهو خطأ. (2) (ب، ط): «حدث». (3) (ن): «بنتيجة»، وكأنّه مغيَّر. (4) «وكم ممن ... رئي له» ساقط من (ن).

(1/92)


وفي كتاب «المجالسة» (1) لأبي بكر أحمد بن مروان المالكي عن ابن قتيبة (2)، عن أبي حاتم، عن الأصمعيِّ، عن المعتمر بن سليمان، عمن حدَّثه قال: خرجنا مرَّةً في سفر، وكنَّا ثلاثة نفر، فنام أحدُنا، فرأينا مثل المصباح خرج من أنفه، فدخل غارًا قريبًا منه، ثم رجع، فدخل أنفَه. فاستيقظ يمسح وجهَه، وقال: رأيتُ عجبًا، رأيتُ في هذا الغار كذا (3). فدخلناه، فوجدنا فيه بقيةً من كنزٍ كان (4). وهذا عبد المطلب دُلَّ في النوم على زمزم، وأصاب الكنزَ الذي كان هناك (5). وهذا عُمير بن وهب أُتيَ في نومه، فقيل له: قُمْ إلى موضع كذا وكذا من البيت، فاحفِرْه تَجِدْ مال أبيك. وكان أبوه قد دفَن مالاً، ومات، ولم يُوصِ به (6). فقام عُميرٌ من نومه، فاحتفر حيث أمره، فأصاب عشرة آلاف درهم وتِبرًا كثيرًا. فقضى دينَه، وحَسُن حالُه وحال أهل بيته. وكان ذلك عقيب إسلامه، فقالت له الصغرى من بناته: يا أبتِ، ربُّنا هذا الذي حبَانا بدِينه خيرٌ من هُبل والعزَّى! ولولا أنه كذلك ما ورَّثك هذا المالَ، وإنّما عبدتَه أيامًا قلائلَ (7). _________ (1) لم يرد هذا الخبر في المخطوطات التي اعتمد عليها ناشر «المجالسة»، فاستدركه من كتاب الروح. (2) الأصل: «أبي قتيبة»، تحريف. (3) في النسخ المطبوعة: «كذا وكذا» وأشير في حاشية (أ، ط) إلى أن في نسخة: «كنزًا». (4) «كان» ساقط من (ط). (5) سيرة ابن هشام (1/ 146). (6) (ب، ط، ج): «بها». وهو ساقط من (ن). (7) لم أجد هذا الخبر. وقد نقله المؤلف من كتاب للقيرواني العابر كما يظهر من كلامه الآتي. ولعله كتاب «البستان» الذي أحال عليه في المسألة السابعة.

(1/93)


قال عليُّ بن أبي طالب القيرواني العابر (1): وما حديث عُميرٍ هذا واستخراجُه المال بالمنام بأعجبَ (2) مما كان عندنا وشاهدناه في عصرنا بمدينتنا (3) من أبي محمد عبد الله (4) البغانشي. وكان رجلاً صالحًا مشهورًا برؤية [20 ب] الأمواتِ وسؤالهم عن الغائبات ونَقْله ذلك إلى أهلهم وقراباتهم، حتى اشتهر بذلك، وكَثُر منه. فكان المرء يأتيه، فيشكو إليه أنَّ حميمَه (5) قد مات من غير وصيةٍ، وله مالٌ لا يهتدى إلى مكانه، فيَعِدُه خيرًا. ويدعو الله في ليلته، فيتراءى له الميت الموصوف، فيسأله عن الأمر، فيخبره به. فمن نوادره: أنّ امرأةً عجوزًا من الصالحات تُوفيت ولامرأةٍ عندها سبعة دنانير وديعة. فجاءت إليه صاحبةُ الوديعة، وشكَتْ إليه ما نزل بها، وأخبرته باسمها واسمِ الميتة صاحبتها. ثم عادتْ إليه من الغد، فقال لها: تقول لك فلانةُ: عُدِّي من سقف بيتي سبعَ خَشَبات تجدي الدنانيرَ في _________ (1) كُتب القيرواني هذا كانت متداولة بين أهل المغرب في عهد ابن خلدون، كما ذكر في المقدمة (1006)، وسمّى منها «كتاب الممتع». وكانت مؤلفاته ــ وقد بلغت مائة تأليف، ومنها موطأ الموطأ ــ من مرويات ابن خير (ت 575). انظر فهرسته (442). (2) في (أ، ب، ق): «وأما حديث ... بأعجب» وفيه خلل. فإما أن يكون الصواب كما أثبتنا من (ط، غ)؛ أو سقطت كلمة كما في (ج): «وأما حديث ... [ليس] بأعجب». وفي (ز): « .... [ليس هو] بأعجب». وفي (ن): «وأما ... فأعجب»، وهو خطأ. (3) ساقط من (ن). (4) في (ن): «أبي عبد الله»، ففيها سقط. (5) (ق): «حميه»، وكذا كان في الأصل، فأصلح.

(1/94)


السابعة (1) في خِرقة صوفٍ. ففعلتْ ذلك، فوجدَتْها كما وصفَ لها. قال: وأخبرني رجلٌ لا أظنُّ به كذبًا قال: استأجرتني امرأةٌ من أهل الدنيا على هدم دارٍ لها وبنائها بمال معلوم، فلما أخذتُ في الهدم لزمت الفَعَلة هي ومن معها (2). فقلت: مالك؟ قالت: والله ما لي إلى هدمِ هذه الدار من حاجةٍ، لكن أبي مات، وكان ذا يَسار كثير (3)، فلم نجدْ له كبيرَ (4) شيء، فَخِلتُ أنَّ مالَه مدفونٌ، فعمَدتُ إلى هدم الدار لعلِّي أجد شيئًا. فقال لها بعض من حَضَرنا: لقد فاتَكِ ما هو أهونُ عليك من هذا! قالت (5): وما هو؟ قال: فلانٌ تمضِين إليه، وتسألينه أن يُبيِّت قصتكِ (6) الليلةَ، فلعله يرى أباك، فيدلّكِ على مكانِ ماله بلا تعب ولا كُلفة. فذهبتْ إليه ثم عادتْ إلينا، فزعمَتْ أنه كتب اسمَها واسمَ أبيها عنده. فلما كان من الغد بكَّرتُ إلى العمل، وجاءت المرأة من عند الرجل، فقالت: إن الرجل قال لي: رأيتُ أباكِ وهو يقول: المال في الحَنِيَّة (7). قال: فجعلنا نحفِر تحت الحَنِيَّة وفي جوانبها، حتّى لاح لي شَقٌّ، وإذا المالُ فيه. _________ (1) «في السابعة» ساقط من (ن). (2) (ن): «الهدم جاء امرأة فلزمت الفعلة». (3) كذا بالمثلثة في (ط، ق، غ، ج). وفي غيرها مهملة. (4) كذا بالموحدة في (أ، ب، ط). وفي (ج، غ) بالمثلثة. (5) من «والله مالي ... » إلى هنا سقط من (ن). (6) (ق): «قضيتك». (7) الحنيّة من البناء: ما كان منحنيًا كالقوس. والحنية: الطاق، والقبو. انظر: تكملة المعاجم العربية (3/ 358).

(1/95)


قال: فأخذنا في التعجب، والمرأةُ تستخِفُّ بما وجدتْ، وتقول: مال أبي كان (1) أكثرَ من هذا! ولكنّي أعود إليه. فمضتْ، فأعلمَتْه، ثم سألته المعاودةَ. فلما كان من الغد أَتَتْ، وقالت: إنه قال لها: إنّ إباك يقول لك: احفِري [21 أ] تحت الخابية (2) المربَّعة التي في مخزن الزيت. قال: ففتحت المخزنَ، فإذا بخابيةٍ مربَّعة في الركن، فأزلناها، وحفَرنا تحتها، فوجدنا كوزًا كبيرًا فأخذَتْه. ثم دام بها الطمعُ في المعاودة، ففعلَتْ، فرجَعتْ من عنده، وعليها الكآبةُ. فقالت: زعم أنه رآه، وهو يقول له: قد أخذتْ ما قُدِّر لها، وأما ما بقي فقد جلسَ عليه عفريتٌ من الجنِّ يحرُسه إلى من قُدِّر له. والحكاياتُ في هذا الباب كثيرةٌ جدًا. وأما من حصل له الشفاءُ باستعمال دواءٍ رأى مَن وصفَه له في منامه، فكثير جدًا. وقد حدَّثني غيرُ واحدٍ ممّن كان غيرَ مائل إلى شيخِ الإسلام ابن تيمية، أنه رآه بعد موته، وسأله عن شيء كان يُشكِل عليه من مسائل الفرائض وغيرها، فأجابه بالصواب. وبالجملة، فهذا أمرٌ لا ينكره إلا مَن هو مِن أجهلِ الناس بالأرواح وأحكامها وشأنها. وبالله التوفيق. _________ (1) الأصل: «كان مال أبي». ولم ترد «كان» في (ز). (2) الخابية: الجرَّة الكبيرة.

(1/96)


فصل وأمَّا (1)

 المسألة الرابعة وهي أنّ الروح هل تموت، أم الموت للبدن وحده؟

فقد اختلف الناسُ في هذا (2). فقالت طائفة: تموت وتذوق الموتَ؛ لأنها نفس، وكلُّ نفس ذائقةُ الموت. قالوا: وقد دلَّت الأدلَّة على أنه لا يبقى إلا الله وحده. قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27]. وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]. قالوا: وإذا كانت الملائكة تموت، فالنفوسُ البشرية أولى بالموت. قالوا: وقد قال تعالى عن أهل النار إنهم قالوا: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11]، فالموتة الأولى هي المشهودة، وهي للبدن، والأخرى للروح. وقال آخرون: لا تموت الأرواحُ، فإنها خُلِقَت للبقاء، وإنما تموت الأبدانُ. قالوا: وقد دلَّ على هذا الأحاديثُ الدالَّةُ على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يَرجِعَها الله في أجسادها، ولو ماتت الأرواحُ لانقطع (3) _________ (1) «فصل وأما» لم يرد في (ن). (2) لخّص هذه المسألة ابن أبي العزّ في شرح الطحاوية (390 ــ 391) دون الإشارة إلى ابن القيم. (3) (ن): «لزال».

(1/97)


عنها النعيمُ والعذاب. وقد قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} [آل عمران: 169 - 170]. هذا مع القطع بأنَّ أرواحَهم قد فارقتْ أجسادهم، وقد ذاقت الموت. والصوابُ أن يقال: موتُ النفوس هو مفارقتُها لأجسادها وخروجُها منها. فإن أُريد بموتها هذا القدر، فهي ذائقة الموت. وإن أريدَ أنها تُعدَم وتضمحلُّ وتصير عدمًا محضًا، فهي لا تموت بهذا الاعتبار؛ بل هي باقيةٌ بعد خلقها في نعيم أو في عذاب، كما سيأتي إن شاء الله تعالى بعد هذا، وكما صرَّح به النصُّ أنّها كذلك حتى يردَّها الله في جسدها. وقد نظم أحمدُ بن الحسين الكندي (1) هذا الاختلاف في قوله: تنازَعَ الناسُ حتى لا اتفاقَ لهم ... إلَّا على شَجَبٍ والخُلْفُ في شَجَب فقيل تخلُصُ نفسُ المرءِ سالمةً ... وقيل تشرَكُ جسمَ المرء في العَطَب فإن قيل: فعند (2) النفخ في الصور، هل تبقى الأرواحُ حيَّةً كما هي، أو تموت ثم تحيا؟ قيل: قد قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68]. فقد استثنى الله سبحانه بعضَ من في السموات ومن في الأرض من هذا الصَّعق. فقيل: هم الشهداء. هذا قول أبي _________ (1) يعني أبا الطيب المتنبي. وانظر البيتين في شرح ديوانه للواحدي (612). (2) (أ، ب): «فبعد».

(1/98)


هريرة، وابن عباس، وسعيد بن جُبير. وقيل: هم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملَك الموت. وهذا قول مقاتل وغيره. وقيل: هم الذين في الجنةِ من الحور العين وغيرهم ومَن في النار من أهلِ العذاب وخَزَنتها. قاله أبو إسحاق بن شاقلا (1) من أصحابنا (2). وقد نصَّ الإمام أحمد على أنَّ الحورَ العين والوِلدان لا يمُتْنَ عند النفخ في الصور (3). وقد أخبر سبحانه أن أهلَ الجنة {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56]. وهذا نصٌّ على أنهم لا يموتون غيرَ تلك الموتة الأولى، فلو ماتوا مرةً ثانية لكانت موتتان. وأما قولُ أهل النار: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ}، فتفسيرُ هذه الآيةِ: الآيةُ (4) [22 أ] التي في البقرة، وهي قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ _________ (1) ضبط في (ق) بسكون القاف. وكذا ضبطه السمعاني في الأنساب (3/ 382). ولكن صاحب التاج ضبطه في تكملته (6/ 154) بضم القاف. (2) نقل المؤلف الأقوال المذكورة من زاد المسير (6/ 195). وانظر: التذكرة للقرطبي (1/ 454)، وفتح الباري (11/ 370). (3) ذكره أبو العباس الإصطخري في مسائله. انظر: طبقات ابن أبي يعلى (1/ 60). ونقله المصنف عنه في حادي الأرواح (98). وانظر أيضًا: حادي الأرواح (484، 834). (4) (ط، ج): «الآية والآية». أقحم الواو، فأفسد الكلام. وفي (ن): «هذه الآية والتي»، أقحم وأسقط. وفي (غ): «هذه الآية التي»، أسقط إذ ظن «الآية» الثانية مكررة.

(1/99)


بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28]. فكانوا أمواتًا وهم نُطَفٌ في أصلاب آبائهم وفي أرحام أمهاتهم، ثم أحياهم بعد ذلك، ثم أماتهم، ثم يحييهم يوم النشور. وليس في ذلك إماتةُ أرواحهم قبل يوم القيامة، وإلا كانت ثلاث موتات. وصعقُ الأرواح عند النفخ في الصور لا يلزم منه موتُها. ففي الحديث الصحيح: «أن الناسَ يَصْعَقون يومَ القيامة، فأكونُ أولَ من يُفيق، فإذا موسى آخذٌ بقائمة العرش، فلا أدري أفاقَ قبلي أم جُوزي بصعقة يوم الطور» (1). فهذا صعقٌ في موقف القيامة إذا جاء الله سبحانه لفصل القضاء، وأشرقت الأرضُ بنوره (2)، فحينئذٍ تَصعقُ الخلائقُ كلُّهم. قال تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} [الطور: 45]، ولو كان هذا الصَّعق موتًا لكانت (3) موتة أخرى. وقد تنبَّه لهذا جماعةٌ من الفضلاء. فقال أبو عبد الله القرطبي: ظاهرُ هذا الحديث أن هذه صعقةُ غشي تكون يوم القيامة، لا صعقة الموت الحادثة عند نفخ الصور (4). قال: وقد قال شيخنا أحمدُ بن عمر (5): وظاهرُ حديث النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يدلُّ _________ (1) أخرجه البخاري (3398)، ومسلم (2374) من حديث أبي سعيد الخدري. (2) (ب، ط، ن، ج): «بنور ربها». (3) (ن): «لكان». (4) التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (1/ 457). وهو جزء من كلام للحليمي في المنهاج (1/ 431، 432) نقله القرطبي. (5) أبو العباس القرطبي في كتابه المفهم (6/ 232).

(1/100)


على أنّ هذه الصَّعقةَ إنما هي بعد النفخة الثانية: نفخة البعث. ونصُّ القرآن يقتضي أن ذلك الاستثناءَ إنما هو بعد (1) نفخة الصَّعق. ولما كان هذا قال بعضُ العلماء: يَحتمِلُ أن يكون موسى ممن لم يمتْ من الأنبياء. وهذا باطلٌ (2). وقال القاضي عياض (3): يحتمل أن يكون المرادُ بهذه صعقة فزعٍ بعد النشور حين تنشقُّ السماء والأرض. قال: فتستقلُّ الأحاديثُ والآيات (4). وردَّ عليه أبو العباس القرطبي، فقال (5): يردُّ هذا قولُه في الحديث الصحيح: أنه حين يخرجُ من قبره يلقى موسى آخذًا بقائمةِ العرش. قال: وهذا إنما هو عند نفخةِ البعث (6). قال أبو عبد الله: وقال شيخنا أحمدُ بن عمر (7): والذي يُزيح هذا الإشكالَ ــ إن شاء الله تعالى ــ أنّ الموتَ ليس بعدمٍ محض، وإنما هو انتقالٌ من حال إلى حال. ويدلُّ [22 ب] على ذلك أن الشهداءَ بعد قتلهم وموتهم أحياءٌ عند ربهم، يُرزقون فرحين مستبشرين. وهذه صفةُ الأحياء في الدنيا. وإذا كان هذا في الشهداء كان الأنبياءُ بذلك أحقَّ وأولى، مع أنه قد صحَّ عن _________ (1) (ب، ج): «هو تفسير». (ط): «هو بعد تفسير». (2) التذكرة (1/ 459). (3) في إكمال المعلم (7/ 357)، والنقل من التذكرة. (4) (أ، ق، غ): «الآثار»، تحريف. (5) في المفهم (6/ 233)، والنقل من التذكرة. (6) في جميع النسخ: «نفخة الفزع». والصواب ما أثبتنا من المفهم، وكذا في التذكرة. وهو مقتضى السياق. (7) في المفهم (6/ 233 ــ 234). والنقل من التذكرة (1/ 459 ــ 461).

(1/101)


النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الأرضَ لا تأكلُ أجسادَ الأنبياء (1)، وأنه - صلى الله عليه وسلم - اجتمعَ بالأنبياء ليلةَ الإسراء في بيت المقدس وفي السماء وخصوصًا بموسى (2). وقد أخبر بأنه ما من مسلم يُسلِّم عليه إلا ردَّ الله عليه روحَه حتى يردَّ عليه السلام (3)، إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطعُ بأن موتَ الأنبياء إنما هو راجعٌ إلى أن غُيِّبوا عنّا بحيث لا نُدركهم، وإن كانوا موجودين أحياءً (4). وذلك كالحال في الملائكة، فإنهم أحياءٌ موجودون، ولا نراهم. وإذا تقرَّر أنهم أحياءٌ، فإذا نُفخ في الصور نفخة الصَّعق صعق كل من في _________ (1) أخرجه أبو داود (1047، 1531)، والنسائي (1374)، وابن ماجه (1636)، والإمام أحمد (16162)، وابن خزيمة (1733)، وابن حبان (910)، والحاكم (1/ 278) من حديث أوس بن أبي أوس الثقفي رضي الله عنه. وقال الحاكم: «صحيح على شرط البخاري». وقال ابن كثير في تفسيره (6/ 473): «قد صحّح هذا الحديث ابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني، والنووي في الأذكار». وقد أعلَّه بعض الأئمة بما لا يقدح، كما شرحه المؤلف في جلاء الأفهام (78، 83). (قالمي). (2) انظر حديث أنس في صحيح البخاري (3887) وصحيح مسلم (164). (3) سبق تخريجه في المسألة الأولى (ص 27). (4) هنا في (ط) تعليق بخط الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البابطين رحمه الله، لم يظهر كاملاً وفي آخره: «وقوله: إن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غُيِّبوا عنَّا إلخ. مقتضى هذا الكلام أنهم لم يذوقوا الموت، وإنما هو مجرد تغييب كتغييب الملائكة عنَّا. وهذا باطل، ونصوص الكتاب والسنة صريحة في أنهم ماتوا. وابن القيم رحمه الله ردّ هذا القول في الكافية أحسن ردّ، وإنما لم يتكلم على ذلك هنا لأنه ليس بصدد هذه المسألة». وانظر الأبيات التي أشار إليها المحشي في الكافية الشافية (2840 ــ 2955).

(1/102)


السموات والأرض إلا من شاء الله، فأما صعق غير الأنبياء فموت، وأما صَعقُ الأنبياء فالأظهرُ أنه غَشيْةٌ. فإذا نُفِخ في الصور نفخة البعث، فمن مات حَيِي، ومن غُشي عليه أفاقَ. ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته: «فأكون أولَ من يُفيق». فنبيُّنا (1) أولُ من يخرج من قبره قبل جميع الناس إلا موسى، فإنه حصل فيه تردُّدٌ: هل بُعِث قبلَه من غَشْيته، أو بقي على الحالةِ التي كان عليها قبل نفخةِ الصَّعق مفيقًا؛ لأنه حُوسب بصعقةِ (2) يوم الطُّور. وهذه فضيلةٌ عظيمة لموسى عليه السلام (3). ولا يلزم من فضيلةٍ واحدة أفضليَّةُ موسى على نبينا مطلقًا، لأن الشيء الجزئيَّ (4) لا يوجب أمرًا كليًّا. انتهى (5). قال أبو عبد الله القرطبي (6): إنْ حُمِل الحديث على صعقةِ الخلق يوم القيامة فلا إشكالَ. وإنْ حُمِل على (7) صعقة الموت عند النَّفخ في الصور، فيكون ذكرُ يوم القيامة مرادًا به أوائله. فالمعنى: إذا نُفخ في الصور نفخةُ _________ (1) (ن): «فتبين»، تحريف. (2) (ب، ط، ج): «بصعقته». (3) هنا انتهى كلام أبي العباس القرطبي. (4) رسمها في (أ، ب، ق): «الجزوي» بالواو. (5) قوله: «انتهى» يوهم أن ما سبق كله كلام أبي العباس، والحق أن «ولا يلزم ... » إلخ تعليق أبي عبد الله على كلام شيخه. (6) الكلام الآتي ليس لأبي عبد الله، وإنما هو جزء من كلام طويل للحليمي، نقله أبو عبد الله من كتابه المنهاج. وهذا الجزء متصل بما نقله ابن القيم من قبل في أول نقله عن القرطبي. (7) «صعقة الخلق ... على» سقط من (ن) لانتقال النظر.

(1/103)


البعث كنتُ أولَ من يرفع رأسَه، فإذا موسى آخذٌ بقائمةٍ من قوائم العرش، فلا أدري أفاقَ قبلي، أم جُوزي بصعقةِ الطور (1). قلت: وحملُ الحديث على هذا لا [23 أ] يصحُّ: لأنه عليه السلام تردَّدَ هل أفاق موسى قبلَه أم لم يَصْعَق، بل جُوزي بصعقة الطور. فالمعنى: لا أدري أصَعِق أم لم يَصْعَق. وقد قال في الحديث: «فأكون أولَ من يُفيق»، وهذا يدلُّ على أنه - صلى الله عليه وسلم - يَصعق فيمن يَصعق، وأن التردَّدَ حصل في موسى: هل صَعِق وأفاق قبله من صعقته، أم لم يَصعق؟ ولو كان المرادُ به الصعقةَ الأولى ــ وهي صعقةُ موت ــ لكان - صلى الله عليه وسلم - قد جزم بموته، وتردّد: هل مات موسى، أو (2) لم يمتْ. وهذا باطلٌ لوجوه كثيرة. فعُلم أنها صعقةُ فزَع، لا صعقة موت. وحينئذٍ فلا تدلُّ الآية على أنّ الأرواحَ كلَّها تموت عند النفخةِ الأولى. نعم، تدلُّ على موت الخلائق عند النفخة الأولى، وكلُّ من لم يذق الموتَ قبلها فإنه يذوقه حينئذ. وأما من ذاقَ الموتَ أو من لم يُكتب عليه الموتُ، فلا تدل الآية على أنه يموت موتةً ثانية. والله أعلم (3). فإن قيل: فكيف تصنعون بقوله في الحديث: «إن الناسَ يُصعقون يوم القيامة، فأكون أولَ من تنشقُّ عنه الأرضُ، فأجدُ موسى باطشًا بقائمة العرش»؟ (4). قيل: لا ريب أن هذا اللفظَ قد ورد هكذا، ومنه نشأ الإشكالُ، ولكنه _________ (1) التذكرة (1/ 457 ــ 458). (2) (ب، ط، ن): «أم». (3) لم يرد «والله أعلم» في (ن). (4) البخاري (2412).

(1/104)


دخل فيه على الراوي حديثٌ من حديث، فركَّب بين اللفظين، فجاء هذا. والحديثان هكذا: أحدهما: «أن الناسَ يَصعقون يوم القيامة، فأكون أولَ من يُفيق» (1). والثاني هكذا: «أنا أولُ من تنشقُّ عنه الأرضُ يوم القيامة». ففي الترمذي وغيره من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا سيدُ ولد آدمَ يوم القيامة، ولا فخر. وبيدي لواءُ الحمد، ولا فخر. وما من نبيٍّ يومئذ آدمُ فمَن سواه إلا تحت لوائي. وأنا أولُ من تنشقُّ عنه الأرضُ، ولا فخر» قال الترمذي: حديث حسن صحيح (2). فدخل على الراوي هذا الحديثُ في الحديث الآخر. كان (3) شيخنا أبو الحجَّاج (4) يقول ذلك (5). فإن قيل: فما تصنعون بقوله: «فلا أدري أفاقَ قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل»؟ (6). والذين استثناهم الله إنما هم مُستثنَون من صعقة النَّفخة، _________ (1) البخاري (3398). (2) أخرجه في التفسير (3148) وأبواب المناقب (3615). وأخرجه ابن ماجه (4308) وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، لكن له شواهد منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم (2278). (قالمي). (3) (ب، ط): «فان»، تصحيفًا. (4) كذا في (أ، غ). وفي (ن): «الحافظ أبو الحجاج»، وفي (ج، ز): «أبو الحجاج الحافظ». وفي (ق): «أبو الحجاج الحافظ المزّي»، وفي (ب، ط): «أبو الحجاج المزّي الحافظ». (5) وانظر كلامًا للحافظ ابن حجر في الجمع بين الحديثين في فتح الباري (6/ 444). (6) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة (2373).

(1/105)


لا من صعقة يوم القيامة، [23 ب] كما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68]، ولم يقع الاستثناء من صعقة الخلائق يوم القيامة. قيل: هذا ــ والله أعلم ــ غير محفوظ، وهو وَهَمٌ من بعض الرواة. والمحفوظ ما تواطأتْ عليه الرواياتُ الصحيحة من قوله: «فلا أدري أفاقَ قبلي أم جُوزي بصعقة الطور»، فظن بعضُ الرواة أنَّ هذه الصعقة هي صعقة النفخة، وأنَّ موسى داخلٌ فيمن استُثني منها. وهذا لا يلتئم على مَساق الحديث قطعًا، فإن الإفاقة حينئذ هي إفاقة البعث، فكيف يقول: لا أدري أَبُعِثَ قبلي؟ أم جُوزي بصعقة الطور؟ فتأمَّله. وهذا بخلاف الصعقة التي يَصْعَقُها الخلائق (1) يوم القيامة إذا جاء الله سبحانه لفصل القضاء بين العباد، وتجلَّى لهم، فإنهم يَصعقون جميعًا. وأما موسى - صلى الله عليه وسلم - فإن كان لم يَصعق معهم فيكون قد حُوسِبَ (2) بصعقته يوم تجلَّى ربُّه للجبل فجعله دكًّا، فجُعلت صعقةُ هذا التجلِّي عوضًا من صعقة الخلائق لتجلِّي الربّ يوم القيامة. فتأمل هذا المعنى العظيم. ولو لم يكن في الجواب إلا كشفُ هذا الحديثِ وشأنه لكان حقيقًا أن يُعَضَّ عليه بالنواجذ. ولله الحمد والمنة. وبه (3) التوفيق (4). _________ (1) (ب، ط، ن، ج): «الناس». (2) (ب، ط، ن، ج): «جُوزي». (3) (ب، ط، ز، ج): «وبيده». (4) لم يرد ما بعد «بالنواجذ» في (ن).

(1/106)


فصل وأما (1)

  المسألة الخامسة وهي أنّ الأرواحَ، بعد مفارقة الأبدان إذا تجرَّدت، بأيِّ شيء يتميَّز بعضُها من بعض، حتى تتعارفَ وتتلاقى؟ وهل تَشَكَّلُ (2) إذا تجردتْ بشكل بدنها الذي كانت فيه وتلبس صورتَه، أم كيف يكون حالُها؟

فهذه (3) مسألةٌ لا تكاد تجد من تكلَّم فيها، ولا تظفرُ فيها من كتب الناس بطائلٍ ولا غير طائل، ولا سيّما على (4) أصول من يقول بأنها مجرّدةٌ عن المادة وعلائقها، وليست بداخل العالم ولا خارجه، ولا لها (5) شكلٌ ولا قدرٌ ولا شخصٌ؛ فهذا السؤال على أصولهم مما لا جوابَ لهم عنه (6). وكذلك من يقول: هي عَرضٌ من أعراض البدن، فتميُّزها عن غيرها مشروطٌ بقيامها (7) ببدنها. فلا تميُّزَ (8) لها بعد الموت، بل لا وجودَ لها على أصولهم، بل تعدمُ وتبطل باضمحلال [24 أ] البدن كما تبطل سائر صفات _________ (1) «فصل وأما» لم ترد في (ن). وفي (ز) لم ترد «وأما». (2) ما عدا (أ، ق): «تتشكل». (3) (ن): «وهذه». (4) «فيها ... على» ساقط من (ب). (5) «لها» ساقط من الأصل. (6) ستأتي الأقوال في حقيقة الروح في المسألة التاسعة عشرة. (7) (ط): «ببقائها». (8) كذا في (أ، غ). وفي (ق): «تمييز»، وفي غيرها: «ولا تميز».

(1/107)


الحي (1). ولا يمكن جواب هذه المسألة إلا على أصول أهل السنة التي تظاهرتْ عليها أدلةُ القرآن والسنة والآثار والاعتبار والعقل (2)، والقولِ (3): إنّها ذاتٌ قائمةٌ بنفسها تصعَدُ وتنزل، وتتصلُ وتنفصل، وتخرج وتذهب وتجيء، وتتحرك وتسكن. وعلى هذا أكثر من مئة دليلٍ قد ذكرناها في كتابنا الكبير في معرفة الروح والنفس (4)، وبينَّا بطلانَ ما خالف هذا القول من وجوهٍ كثيرة، وأنَّ من قال غيرَه لم يعرف نفسَه. وقد وصفها الله سبحانه وتعالى بالدخول والخروج والقبض والتوفي والرجوع وصعودها إلى السماء وفتحِ أبوابها لها وغَلْقها عنها، فقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام: 93]. وقال تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 ــ 30] وهذا يقال لها عند المفارقة للجسد. وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 - 8]، _________ (1) في الأصل: «صفات سائر الحي»، سبق قلم. (2) «والعقل» ساقط من (ب). (3) «والقول» معطوف على «أصول». وقد ضبط في (ق، غ) بالكسر. وضبط في (ط) بالضم، وهو خطأ. وفي (ن): «فالقول ... تسكن وغير هذا عليه» وهو سياق فاسد. (4) ذكر المؤلف كتابه هذا في جلاء الأفهام (298، 371) ومفتاح دار السعادة (3/ 105) أيضًا. وفي (ن): «الأرواح والأنفس»، وفي (ب): «الأرواح والنفس».

(1/108)


فأخبر أنه سوَّى النفس، كما أخبر أنه سوَّى البدن (1) في قوله: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار: 7]، فهو سبحانه سوَّى نفسَ الإنسان كما سوَّى بدنَه، بل سوَّى بدنه كالقالَب لنفسه (2). فتسويةُ البدن تابعٌ لتسوية النفس، والبدن موضوعٌ لها كالقالَب لما هو موضوعٌ له (3). ومن هاهنا يُعلم أنها تأخذ من بدنها صورةً تتميَّز بها عن غيرها، فإنها تتأثَّر وتنتقل عن البدن، كما يتأثَّر البدنُ وينتقل عنها. فيكتسبُ البدنُ الطيّبَ والخبيثَ من طيِّب النفس وخبيثها، وتكتسب النفسُ الطيِّب والخَبيثَ من طيِّب البدن وخبيثه (4). فأشدُّ الأشياء ارتباطًا وتناسبًا وتفاعلًا وتأثُّرًا من أحدهما بالآخر الروحُ والبدنُ. ولهذا يقال لها عند المفارقة: اخرُجي أيتها الروح (5) الطيبة كانت في الجسدِ الطيِّبِ، واخرُجي أيتها الروح الخبيثة كانت في الجسدِ الخبيث (6). وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]، فوصفَها بالتوفِّي والإمساك والإرسال، كما وصفَها بالدخولِ والخروجِ _________ (1) (أ، غ): «النفس كما سوى البدن». (2) ساقط من (ب). (3) (ن): موضوع لما هو له. (4) كذا في جميع النسخ إلا (ن)، ففيها سقط واضطراب، فأثبتت مرة «الخبيث» وأخرى «الخبث». (5) (ق): «النفس». (6) سيأتي الحديث بتمامه في المسألة القادمة.

(1/109)


والرجوع والتسوية. وقد أخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن بصرَ الميت يتبع نفسَه إذا قُبضت (1). وأخبر أن الملك يَقبِضُها، فتأخذها الملائكةُ من يده، فيوجد لها كأطيبِ نفحةِ مسك وُجدت على وجه الأرض، أو كأنتن (2) ريحِ جِيفةٍ وُجدت على وجه الأرض (3). والأعراض لا ريحَ لها، ولا تُمسَك (4)، ولا تُؤخذ من يدٍ إلى يد. وأخبر أنها تصعَدُ إلى السماء، ويصلِّي عليها كلُّ ملك لله بين السماء والأرض، وأنها تُفتح لها أبوابُ السماء، فتصعد من سماءٍ إلى سماء، حتى يُنتهَى بها إلى السماء التي فيها (5) الله عز وجل، فتوقفُ بين يديه، ويأمر بكتابةِ اسمه (6) في ديوان أهل عِلِّيِّين أو ديوان أهل سِجِّين، ثم تردُّ إلى الأرض. وأنّ روح الكافر تُطرح طرحًا، وأنها تدخل مع البدن في قَبرها للسؤال (7). وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نَسَمةَ المؤمن ــ وهي روحه ــ طائرٌ يعلُقُ في شجر _________ (1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم (920) وسيأتي نصه في المسألة التاسعة عشرة. (2) (ن): «كأشرّ»، تصحيف. (3) يشير إلى حديث البراء بن عازب، وهو حديث طويل سيأتي في أول المسألة القادمة. (4) (ق): «مسك»، غلط. (5) في (ق) طمس بعض القراء: «السماء التي فيها» وكتب مكانها: «بين يدي». (6) ما عدا (أ، غ): «اسمها». (7) كما في حديث البراء الطويل، وسيأتي بتمامه.

(1/110)


الجنة حتى يردَّها الله إلى جسدها (1). وأخبر أن أرواح الشهداء في حواصل طيرٍ خضر ترِد أنهارَ الجنة وتأكلُ من ثمارها (2). وأخبر أن الروحَ تُنَعَّم وتُعذَّب في البرزخ إلى يوم القيامة (3). وقد أخبر سبحانه عن أرواح قومِ فرعونَ أنها تُعرض على النار غُدوًّا وعَشيًّا قبل يوم القيامة (4). وقد أخبر سبحانه عن الشهداءِ بأنهم {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]. وهذه حياةُ أرواحهم، ورزقُها دارًّا (5)، وإلا فالأبدان قد تمزَّقتْ. _________ (1) أخرجه الإمام مالك في الموطأ (1/ 240) ومن طريقه النسائي (2072)، وابن ماجه (4271) والإمام أحمد (15778) من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه. وإسناده صحيح، وصححه ابن حبان (4657). (قالمي). وسيأتي الحديث مع كلام مفصل عليه للمصنف في المسألة الخامسة عشرة. (2) كما ورد في بعض روايات الأحاديث الآتية عن ابن مسعود وابن عباس. (3) ستأتي الأحاديث الدالّة عليه في المسألة القادمة. (4) يشير إلى قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46]. (5) كذا «دارًّا» في (أ، ب، ق، ج)؛ غير أن بعضهم ضرب على الألف في الأصل، وطمسها في (ب) ليكون مرفوعًا خبرًا للرزق. وفي (ز): «درًّا». ثم في (ب، ج): «دارًّا والأبدان» بحذف «وإلا». وفي (ن، غ): «رزقها وإلا فالأبدان» بحذف «دارًّا». ولعل هذا أقرب. ولا أستبعد أن تكون «وإلا» تحرفت إلى «دارا»، ثم أضيفت «وإلا» من نسخة أخرى. وفي (ط): «رزقها والأبدان» بحذف الاثنين.

(1/111)


وقد فسَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الحياةَ بأنّ «أرواحَهم في جوف طيرٍ خُضْرٍ، لها قناديلُ مُعلَّقة بالعرش، تسرحُ في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل. فاطَّلع عليهم ربهم اطّلاعةً فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أيَّ شيء نشتهي؟ ونحن نسرحُ من الجنة حيث شئنا، ففعل (1) بهم ذلك ثلاثَ مرات، فلما رَأَوا أنهم لن (2) يُترَكوا من أن يسألوا قالوا: نريد أن تُرَدَّ أرواحُنا في أجسادنا، حتى نُقتَلَ في سبيلك مرةً أخرى» (3). وصحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم -: «أنّ أرواح الشهداء [25 أ] في طيرٍ خُضْر تَعْلُقُ من ثمر الجنة» (4). وتعلُق بضم اللام: أي تأكل العُلْقة (5). وقال ابن عباس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما أُصيب إخوانُكم بأُحد جعل الله أرواحَهم في أجوافِ طيرٍ خُضْر ترِدُ أنهارَ الجنة، وتأكلُ من ثمارها، وتأوي إلى قناديل (6) من ذهب في ظلِّ العرش. فلما وجدوا طيبَ مَشربهم ومأكلهم وحسنَ مَقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا، لئلا يزهَدوا في الجهاد، ولا ينكُلوا (7) عن الحرب. فقال الله عز وجل: أنا أُبلِّغهم _________ (1) (ب، ط، ن): «يفعل». (2) (ب، ط، ن): «لم». (3) أخرجه مسلم (1887) من حديث عبد الله بن مسعود. (4) أخرجه الترمذي من حديث مالك بن أبي كعب (1641) وقال: حديث حسن صحيح. (5) في هامش (ط): «العلقة: الشيء اليسير». (6) (ن): «قناديل معلقة». (7) (ن): «يتكلفوا»، تحريف.

(1/112)


عنكم. فأنزل الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169] الآيات». رواه الإمام أحمد (1). وهذا صريحٌ في أكلها، وشربها، وحركتها، وانتقالها، وكلامِها. وسيأتي مزيدٌ لتقرير ذلك عن قرب (2) إن شاء الله تعالى. وإذا كان هذا شأنَ الأرواح، فتميُّزُها بعد المفارقة يكون أظهرَ من تميُّز (3) الأبدان. والاشتباهُ بينها أبعد من اشتباهِ الأبدان، فإن الأبدانَ تشتبه كثيرًا، وأما الأرواح فقلَّما تَشتبه. يوضِّح هذا أنَّا لم نشاهد أبدانَ الأنبياء والصحابة والأئمة، وهم متميِّزون في علمنا أظهرَ تميُّز، وليس ذلك التميُّز راجعًا إلى مجرَّد أبدانهم، وإن ذكر لنا من صفات أبدانهم ما يختصُّ به أحدُهم عن الآخر. بل التميُّز _________ (1) في المسند (2388) من طريق إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق، حدثني إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد، عن أبي الزبير المكي، عن ابن عباس. ورواه أبو داود (2520)، وعبد الله بن أحمد في زيادته على المسند (2389)، وأبو يعلى (2331)، والحاكم (2/ 88، 297 ــ 298) من طريق عبد الله بن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فذكره. قال ابن كثير في تفسيره (2/ 163): «وهذا أثبت» يعني بذكر سعيد بن جبير. وقال الحاكم في الموضعين: «صحيح على شرط مسلم». وحسنه ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (4/ 338)، والألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1379). (قالمي). (2) (ب، ط، ن، ج): «عن قريب». (3) (أ، غ): «تمييز».

(1/113)


الذي عندنا بما عَلِمناه وعَرَفناه من صفات أرواحهم وما قام بها. وتميُّزُ الروح عن الروح بصفاتها أعظمُ من تميُّز البدن عن البدن بصفاته. ألا ترى أن بدنَ المؤمن والكافر قد يشتبهانِ كثيرًا، وبين روحَيْهما أعظمُ التباين والتميُّز. وأنت ترى أخوين شقيقين مشتبهين في الخِلْقة (1) غاية الاشتباه، وبين روحَيْهما غايةُ التباين. فإذا تجردتْ هاتان الروحان كان تميُّزهما في غاية الظهور. وأُخبركَ بأمرٍ إذا تأمَّلتَ أحوال الأنفس والأبدان شاهدتَه عِيانًا: قَلَّ أن ترى بدنًا قبيحًا وشكلاً شنيعًا إلا وجدتَه مُرَكَّبًا على نفسٍ تُشاكله وتناسبه، وقَلَّ أن ترى آفةً في بدن إلا وفي روح صاحبه آفةٌ تناسبها (2). ولهذا [25 ب] تأخذ أصحاب الفراسة أحوالَ النفوس من أشكال الأبدان وأحوالها، فقلَّ أن تخطئ (3) ذلك. ويُحكَى (4) عن الشافعي رحمه الله في ذلك عجائب (5). وقلَّ أن ترى شكلاً حسنًا وصورةً جميلة وتركيبًا لطيفًا إلا وجدتَ الروح المتعلِّقةَ به مناسبةً له. هذا ما لم يُعارض ذلك ما يُوجِب خلافَه من تعلُّم وتدرُّب واعتياد. وإذا كانت الأرواح العلوية ــ وهم الملائكة ــ متميزًا بعضهم عن بعض من غير أجسامٍ تحملهم، وكذلك الجن، فتميُّز الأرواح البشرية أولى. _________ (1) (ط): «الخلقة والصورة». (2) «وقل أن ترى آفة ... تناسبها» ساقط من (ق). (3) (ب، ط): «يخطئ». (4) (ب، ط، ن): «حكي». (5) وقد حكى المصنف طائفة منها في مفتاح دار السعادة (3/ 251 ــ 253).

(1/114)


فصل وأما (1)

 المسألة السادسة وهي أنَّ الروح هل تُعاد إلى الميتِ في قبره وقتَ السؤال، أم لا تُعاد؟

فقد كفانا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أمرَ هذه المسألة، وأغنانا عن أقوال الناس، حيث صرَّح بإعادة الروح إليه، فقال البراء بن عازب: كنا في جنازة في بقيع الغَرْقد، فأتانا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقعد، وقعدنا حوله، كأنّ على رؤوسنا الطير، وهو يُلحَدُ له، فقال: «أعوذ بالله من عذاب القبر» ثلاث مرات. ثم قال: «إن العبدَ المؤمن (2) إذا كان في إقبالٍ من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزلت إليه الملائكة (3) كأنَّ وجوهَهم (4) الشمس، فجلسوا (5) منه مدَّ البصر. ثم يجيء ملكُ الموت حتى يجلِسَ عند رأسه، فيقول: أيتها النفسُ الطيِّبة، اخرُجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوان». قال: «فتخرُج تَسيل، كما تسيل القطرةُ من فِي السِّقاء، فيأخذُها. فإذا أخذَها لم يَدَعوها في يده طرفةَ عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحَنُوط، ويخرج منها كأطيبِ نفحةِ مسكٍ وُجدَتْ على وجه الأرض». _________ (1) «فصل وأما» لم يرد في (ن). ولم يرد «وأما» في (ز). (2) «المؤمن» من (أ، غ). (3) (ن): «ملائكة». (4) (ب، ط، ن): «على وجوههم». (5) (أ، ز، غ): «يجلسوا». (ق): «يجلسون».

(1/115)


قال: «فيصعَدون بها فلا يمرُّون بها ــ يعني: على ملأ من الملائكة ــ إلا قالوا: ما هذا الرُّوحُ الطيِّب؟ (1) فيقولون: فلانُ بن فلان ــ بأحسن أسمائه التي كانوا يُسمونه به (2) في الدنيا ــ حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيُفتَحُ له. فيُشيِّعه من كل سماء مقرَّبوها إلى السماء التي تليها، حتى يُنتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل (3)، فيقول الله عز وجل: اكتُبوا [26 أ] _________ (1) (ب، ط، ن، ج): «هذه الروح الطيبة». (2) «به» ساقط من (ب، ط، م، ن). (3) في (ن) بعد «فيها» فوق السطر: «أمر». يعني أن تأويل «فيها الله»: فيها أمر الله. وقد طغى بعض القراء فطمس في (م): «السماء التي فيها»، وكتب مكانها: «بين يدي»! وفي (ط) طمس «فيها الله عز وجل» وكتب مكانها: «يسمع فيها الخطاب». وهذه جراءة غريبة على تغيير لفظ الحديث. وفي الحاشية العليا من (ق 29/ب) من هذه النسخة تعليق منقول من كتاب التذكرة للقرطبي يفيد أن معنى «فيها الله»: فيها أمر الله وحكمه. وفيها تعليق طويل استغرق الحاشيتين اليمنى والسفلى من الصفحة المذكورة، والسفلى واليسرى من (ق 30/أ). وهو بخط الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبابطين رحمه الله. أوله: «يا عجبا لمحرّف حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومغيِّر ألفاظه! كيف يصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربه بأنه في السماء كما في حديث البراء المذكور، وكذلك حديث أبي هريرة الموافق لحديث البراء في إثبات الله سبحانه بأنه في السماء، وكذلك حديث الرقية المرفوع، وكذلك قوله للجارية: أين الله؟ قالت: في السماء= فهذا أعلم الأمة بربه وأخشاهم يصف ربه بأنه في السماء ويشهد لمن وصفه بذلك بالإيمان، ونقل الصحابة ألفاظه للتابعين، ونقلها التابعون وبلّغوها لمن بعدهم كما سمعوها، وتداولها أهل الحديث وأئمة الإسلام، وأثبتوها في كتبهم وأقرُّوها على ظاهرها، وقالوا: أمِرّوها كما جاءت، وقالوا: تفسيرها قراءتها. فلمّا لم يتسع عطن هذا المعطِّل لذلك حمله تعطيله وجهله على أن غيَّر لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحرَّفه. ولم يكتف بتغيير معناه مع إقرار لفظه كما يفعله الكثير كقول القرطبي في تأويل هذا الحديث. فلهذا المحرّف أوفر نصيب من مشابهة اليهود الذين يحرفون الكلم عن مواضعه. ففيه تصديق قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لتتبعن سنن من كان قبلكم». ثم ردّ على تأويل القرطبي وغيره بأنه «باطل قطعًا فإن أمرَه وحكمه لا يختص بسماء دون سماء ولا بالسماء دون الأرض ... ومن توهم من قوله: إنه سبحانه في السماء أنه سبحانه داخل السماوات فهو جاهل ضال. وليس هذا بمراد من اللفظ ولا ظاهر فيه، إذ السماء يراد بها العلو، فكلُّ ما علا فهو سماء سواء كان فوق الأفلاك أو تحتها ... إلخ.

(1/116)


كتابَ عبدي في علِّيِّين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتُهم، وفيها أُعيدهم، ومنها أخرجهم (1) تارة أخرى» (2). قال: «فتُعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان، فيُجلسانه، فيقولان له: من ربُّك؟ فيقول: ربِّي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلامُ. فيقولان له: ما هذا الرجلُ الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله. فيقولان له: وما عِلْمُك؟ فيقول: قرأتُ كتاب الله، فآمنتُ به، وصدَّقت. فينادي منادٍ من السماء أن: صدَق عبدي، فأفرِشوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة». قال: «فيأتيه من ريحها (3) وطِيبها، ويُفسَح له في قبره مدَّ بصره». قال: «ويأتيه رجل حسنُ الوجه حسنُ الثياب طَيِّبُ الريح، فيقول: أبشِرْ بالذي يسُرُّك، هذا يومُك الذي كنت تُوعَد. فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجهُ يجيء بالخير! فيقول له: أنا عملُك الصالح. فيقول: ربِّ أقم الساعة، حتى أَرجع إلى أهلي ومالي». _________ (1) (ن): «خلقته، أعيده، أخرجه» بضمير الإفراد. (2) (ب، ط): «قال قال». (3) (ب، ط، ن، ج): «روحها».

(1/117)


قال: «وإنَّ العبدَ الكافر إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكةٌ سُودُ الوجوه، معهم المُسُوح (1)، فيجلسون منه مدَّ البصر. ثم يجيء ملكُ الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفسُ الخبيثة اخرُجي إلى سَخَطٍ من الله وغَضَب». قال: «فتَفرَّق في جسده، فينتزعها، كما يُنتزَع السَّفُّود من الصوف المبلول، فيأخذها. فإذا أخذَها لم يدَعوها في يده طرفةَ عين حتى يجعلوها في تلك المُسوح، ويخرج منها كأنتنِ ريح جيفةٍ وُجدت على وجه الأرض. فيصعَدون بها فلا يمرُّون بها (2) على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الرُّوحُ الخبيث؟ فيقولون: فلانُ بن فلان ــ بأقبحِ أسمائه التي كان يُسمى بها في الدنيا ــ حتى يُنتهى بها (3) إلى السماء الدنيا، فيُستفتح له (4) فلا يُفتَح له». ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، فيقول الله عز وجل: اكتُبوا كتابَه في سِجِّين في الأرض السُّفلى، فتُطرح روحُه طرحًا». ثم قرأ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]. فتعاد روحُه في جسده، ويأتيه ملكان، فَيُجلِسانه، فيقولان له: من ربُّك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري. فيقولان له: ما هذا الرجلُ الذي بُعِث فيكم؟ _________ (1) جمع المِسْح، وهو الكساء من الشعر. (2) (ن): «فلا تمرّ». (3) (ق، ج): «به». (4) (ط): «لها».

(1/118)


فيقول: هاه، هاه، لا أدري. فينادي منادٍ من السماء: أن: كَذَب، فأفرِشوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار. فيأتيه من حرِّها وسَمُومها، ويُضيَّق عليه قبرُه حتى تختلِفَ فيه أضلاعُه. ويأتيه رجلٌ قبيح الوجه قبيح الثياب مُنتِنُ الريح، فيقول: أبشِرْ بالذي يَسوءك! هذا يومك الذي كنت تُوعَد. فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجهُ يجيء بالشر. فيقول: أنا عملك الخبيثُ. فيقول: ربِّ (1) لا تُقِم الساعة». رواه الإمام أحمد، وأبو داود. وروى النسائي وابن ماجه أوله. ورواه أبو عوانة الإسفراييني في «صحيحه» (2). _________ (1) (ب، ط): «ربّي». (2) أخرجه أبو داود (4753)، وأبو داود الطيالسي (789)، وعبد الرزاق (6737)، والإمام أحمد (18534)، وأبو عوانة في صحيحه كما في إتحاف المهرة (2/ 459)، والحاكم (1/ 37 ــ 39)، والبيهقي في شعب الإيمان (395) بطوله، بعضهم يزيد على بعض. وأخرج بعضه النسائي (2001)، وابن ماجه (1549)، وابن خزيمة في التوحيد (175، 176)، كلهم من طريق المِنهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء بن عازب. وصحَّح إسناده البيهقي، والبوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (2/ 438). وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا جميعًا بالمنهال بن عمرو، وزاذان أبي عمر الكندي. وفي هذا الحديث فوائد كثيرة لأهل السنة وقمع للمبتدعة». كذا قال رحمه الله، وإنما زاذان من رجال مسلم وحده، والمنهال من رجال البخاري وحده. وصحَّحه المؤلف. كما سيأتي، وردّ على من طعن فيه، وكذا فعل في تهذيب مختصر سنن أبي داود (4586) ونقل فيه تصحيح أبي نعيم أيضًا وتحسين أبي موسى المديني له. (قالمي).

(1/119)


وذهب إلى القول بموجب هذا الحديثِ جميعُ أهل السنَّة والحديث من سائر الطوائف. وقال أبو محمد بن حزم في كتاب «الملل والنحل» له (1): وأما من ظنَّ أن الميتَ يحيا في قبره قبل يوم القيامة، فخطأ؛ لأنّ (2) الآيات التي ذكرنا تمنع من ذلك. يعني قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11]، وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28]. قال: ولو كان الميتُ يَحيا في قبره لكان تعالى قد أماتنا ثلاثًا وأحيانا ثلاثًا. وهذا باطلٌ، وخلافُ القرآن، إلا من أحياه اللهُ تعالى آيةً لنبيٍّ من الأنبياء و (3) {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 243]، والذي {مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة: 259]، ومن خصَّه نصٌّ. وكذلك قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42] فصحَّ بنصِّ القرآن أن أرواحَ سائر من ذكرنا لا ترجع إلى جسده _________ (1) الفصل في الملل والنحل (4/ 56 ــ 57). وهنا زيادات لم ترد في المطبوع منه. (2) (م): «إذ». (أ، غ): «إن). (3) كذا بواو العطف في جميع النسخ والملل والنحل (طبعة الخانجي) معطوفًا على «من أحياه». وقد حذفوها في بعض طبعات الملل. وفي المحلى (1/ 22): «كمن أحياه عيسى عليه السلام وكل من جاء فيه بذلك نصّ».

(1/120)


إلا إلى الأجل المسمَّى، وهو يوم القيامة. وكذلك أخبر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى الأرواحَ ليلةَ أُسري به عند سماء الدنيا: من عن يمين [27 أ] آدمَ أرواحُ أهل السعادة، وعن شماله أرواحُ أهل الشقاء (1). وأخبر يومَ بدر إذ خاطب الموتى أنهم قد سمعوا قولَه قبل أن تكون لهم قبورٌ، ولم يُنكِر على الصحابة قولَهم: «قد جَيَّفوا»، وأعلَمَ أنهم سامعون قولَه مع ذلك (2). فصحَّ أن الخطاب والسَّماع لأرواحهم فقط بلا شكّ، وأما الجسد فلا حِسَّ له. وقد قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]، فنفى السمعَ عمن في القبور، وهي الأجساد بلا شك، ولا يشكُّ (3) مسلمٌ أنّ الذي نفى الله عزَّ وجلَّ عنه السمعَ هو غيرُ الذي أثبت له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - السمع (4). قال: ولم يأتِ قطُّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خبرٍ صحيح أن أرواحَ الموتى تُرَدُّ إلى أجسادهم عند المسألة (5)، ولو صحَّ ذلك عنه لقلنا به. _________ (1) (ط، ز): «الشقاوة». وانظر حديث الإسراء عن أنس في صحيح البخاري (349) وصحيح مسلم (163). (2) تقدم تخريجه في أول الكتاب (ص 7). (3) (م): «فلا يشك». (4) هذه الفقرة «وقد قال تعالى ... السمع» لم ترد في النسخ المطبوعة من الملل. (5) هذا في (أ، غ) والملل والنحل (طبعة الخانجي). وفي النسخ الأخرى: «المسايلة»، وكذا في بعض طبعات الملل والنحل أيضًا، وكلاهما صحيح.

(1/121)


قال: وإنما تفرَّد بهذه الزيادة من رَدِّ الأرواحِ في القبور إلى الأجساد المِنهالُ بن عمرو وحده، وليس بالقوي، تركه شعبة (1) وغيره. وقال فيه المغيرة بن مِقْسَم (2) الضبِّي ــ وهو أحد الأئمة ــ: ما جازتْ للمِنهال بن عمرو قطُّ شهادةٌ في الإسلام على باقة بَقْل! (3). وسائرُ الأخبار الثابتة على خلاف ذلك. قال: وهذا (4) الذي قلنا (5) هو الذي صحَّ أيضًا عن الصحابة. _________ (1) (أ، غ، ز): «سعيد»، تحريف. (2) ضبط في (ط، ق) بضم الميم، وفي (ق، ن) بتثقيل السين، ولعل الناسخ ظن علامة الإهمال شدّة. والصواب بكسر الميم وفتح السين كما أثبتنا. (3) في جمع النسخ الخطية والمطبوعة: «على ما قد نقل». و «ما قد نقل» تحريف ما أثبتنا. ونقله الآلوسي في الآيات البينات (83) على الصواب. ولم أجد قول المغيرة هذا. والذي نُقل عنه في تهذيب التهذيب (10/ 320) وغيره أنه قال ليزيد بن أبي زياد: نشدتك بالله تعالى هل كانت تجوز شهادة المنهال على درهمين؟ قال: اللهم، لا. نعم، نقل ابن القيم في تهذيب السنن (1/ 134) أن ابن حزم كان يقول: لا يُقبل في باقة بقل. وانظر: بيان الوهم والإيهام (3/ 362). و «باقة بقل» مثل للشيء الحقير. في ترجمة واصل بن عطاء المعتزلي أنه كان يتوقف في عدالة أصحاب الجمل ويقول: «إحدى الطائفتين فسقت لا بعينها، فلو شهد عندي علي وعائشة وطلحة على باقة بقل لم أحكم بشهادتهم». لسان الميزان (6/ 215). هذا، والعبارة «وقال فيه المغيرة ... بقل» لم يرد في النسخ المطبوعة من كتاب الملل والنحل. (4) (ب، ط، ج): «وهذا الحديث». والظاهر أنّ كلمة «الحديث» مقحمة. (5) (ن): «قلناه».

(1/122)


ثم ذكرَ من طريق ابن عُيينة، عن منصور بن صفيةَ، عن أُمِّه صفيةَ بنت شيبة قالت: دخل ابن عمرَ المسجدَ فأبصر ابنَ الزبير مطروحًا قبل أن يُصلبَ (1)، فقيل له: هذه أسماء بنت أبي بكر الصديق. فمال ابن عمر إليها، فعزَّاها، وقال: إنّ هذه الجُثثَ ليست بشيء، وإنّ الأرواحَ عند الله. فقالت أمه: وما يمنعني، وقد أُهدي رأسُ يحيى بن زكريا إلى بَغيٍّ من بغايا بني إسرائيل (2)! قلت: وما ذكره أبو محمد فيه حقٌّ وباطلٌ. أما قوله: من ظنَّ أنّ الميت يحيا في قبره فخطأ؛ فهذا فيه إجمالٌ إن أراد به الحياةَ المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروحُ بالبدن، وتدبِّره وتصرِّفه ويحتاج معها إلى الطعام والشراب [27 ب] واللِّباس، فهذا خطأ كما قال، والحِسُّ والعقل يُكذِّبه كما يُكذِّبه النصُّ. وإن أراد به حياةً أخرى غيرَ هذه الحياة، بل تُعاد الروحُ إليه إعادةً غير الإعادة المألوفة في الدنيا، ليُسأل ويُمتحن في قبره= فهذا حقٌّ، ونَفيُه خطأ. وقد دلَّ عليه النصُّ الصحيح الصريح، وهو قوله: «فَتُعاد روحُه في جسده». وسنذكر الجوابَ عن تضعيفه للحديث (3) إن شاء الله. وأما استدلاله بقوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} _________ (1) (ط، م): «يغلب»، تحريف. وزاد في (ب) قبله: «يدفن». (2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنَّف (31317، 32567، 38483). وعزاه السيوطي في شرح الصدور (270) إلى المصنف وإلى كتاب العزاء لابن أبي الدنيا. وانظر: المحلى (1/ 22). (3) انظر (ص 137).

(1/123)


[غافر: 11] فلا ينفي ثبوتَ هذه الإعادةِ العارضة للروح في الجسد للمساءلة (1). كما أنَّ قتيلَ بني إسرائيل الذي أحياه الله بعد قتله ثم أماتَه، لم تكن تلك الحياةُ العارضة له مُعتدًّا بها، فإنه حَيِيَ لحظةً بحيث قال: فلانٌ قتلني، ثمَّ خرَّ ميتًا. على أن قوله: «ثم تُعاد روحُه في جسده» لا يدلُّ على حياة مستقرة، وإنما يدلُّ على إعادةٍ لها إلى البدن وتعلُّقٍ به. والرّوحُ لم تزل متعلقةً ببدنها، وإن بَلِي، وتمزَّق. وسِرُّ ذلك أنَّ الروح لها بالبدن خمسةُ أنواع من التعلُّق متغايرةُ الأحكام (2): أحدها: تعلُّقها به في بطن الأمِّ جنينًا (3). الثاني: تعلُّقها به (4) بعد خروجه إلى وجهِ الأرض. الثالث: تعلُّقها به في حال النوم، فلها به تعلُّقٌ من وجه، ومفارقةٌ من وجه. الرابع: تعلُّقها به في البرزخ، فإنها وإن فارقته وتجردَتْ عنه فإنها لم تُفارقْه فراقًا كليًّا بحيث لا يبقى لها التفات (5) إليه البتة. وقد ذكرنا في أول الجواب من الأحاديث والآثار ما يدلُّ على ردِّها إليه وقتَ سلام المسلِّم، وهذا الردُّ إعادةٌ خاصة لا تُوجِب حياةَ البدن قبل يوم القيامة. _________ (1) رسمها في النسخ: «للمسايلة». وفي (م): «للمسألة». (2) هذه الأنواع الخمسة وكلام المصنف عليها نقلها بنصها ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية (395) دون الإشارة إلى ابن القيم. (3) «جنينًا» ساقط من (ب، ط، ج). (4) «به» ساقط من (ن). (5) (ن): «النقل»، تحريف.

(1/124)


الخامس: تعلُّقها به يومَ بعث الأجساد. وهو أكملُ أنواع تعلُّقها بالبدن، ولا نسبة (1) لما قبله من أنواع التعلُّق إليه؛ إذ هو تعلُّقٌ لا يقبل البدنُ معه موتًا ولا نومًا ولا فسادًا. وأما قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42] فإمساكُه سبحانه [28 أ] التي قضى عليها الموتَ لا يُنافي ردَّها إلى جسد الميت في وقتٍ ما ردًّا عارضًا لا يوجب له الحياةَ المعهودة في الدنيا. وإذا كان النائم روحُه في جسده، وهو حيٌّ، وحياتُه غير حياة المستيقظ، فإنَّ النوم شقيقُ الموت؛ فهكذا الميتُ إذا أعيدت روحُه إلى جسده كانت له حالٌ متوسطةٌ بين الحيِّ وبين الميِّت الذي لم تُرَدَّ روحُه إلى بدنه، كحال النائمِ المتوسطة بين الحيِّ والميت. فتأمَّلْ هذا يُزيح (2) عنك إشكالاتٍ كثيرة. وأمَّا إخبارُ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن رؤية الأنبياء ليلةَ أُسرِي به، فقد زعم بعضُ أهل الحديث (3) أنَّ الذي رآه أشباحهم وأرواحهم. قال: فإنهم أحياءٌ عند ربهم يُرزقون. وقد رأى إبراهيمَ مُسنِدًا ظهرَه إلى البيت المعمور (4)، ورأى موسى قائمًا في قبره يُصلِّي (5). وقد نعتَ الأنبياءَ لما رآهم بنعت الأشباح، فرأى _________ (1) في (ط): «ولا يشبه»، تصحيف. ولما أشكل «إليه» الآتية غيَّره الناسخ أو غيرُه: «البتة». (2) كذا في جميع النسخ. وسيأتي نحوه في (ص 186) وفي شرح الطحاوية: «يُزِحْ»، مجزوم لأنه جواب الطلب. (3) (أ، غ): «الخبرة»، تحريف. (4) كما في حديث أنس، أخرجه مسلم في الإيمان (162). (5) كما في حديث أنس، أخرجه مسلم في فضائل موسى (2375).

(1/125)


موسى آدمَ ضَرْبًا طُوالاً كأنه من رجال شَنوءةَ (1)، ورأى عيسى يقطُر رأسُه كأنما خرج من دِيماس (2)، ورأى إبراهيمَ فشبَّهه بنفسه (3). ونازعهم في ذلك آخرون، وقالوا: هذه الرؤية إنما هي لأرواحهم دون أجسادهم، والأجسادُ في الأرض قطعًا، إنما تُبعَث يوم تُبعَث (4) الأجساد. ولم تُبعثْ قبل ذلك، إذ لو بُعثت قبل ذلك لكانت قد انشقَّتْ عنها الأرض قبل يوم القيامة، وكانت تذوقُ الموتَ عند نفخة الصور. وهذه موتة ثالثة، وهذا باطل قطعًا. ولو كانت قد بُعثت الأجسادُ من القبور لم يُعِدْهم الله إليها، بل كانت في الجنة. وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ الله حرَّم الجنَّةَ على الأنبياء حتى يدخُلَها هو (5). وهو أولُ من يستفتح بابَ الجنة (6)، وأولُ من تنشقُّ عنه الأرض، لم تنشقَّ عن أحد قبله (7). ومعلومٌ بالضرورة أن جسدَه - صلى الله عليه وسلم - في الأرض طريٌّ مُطَرًّى. وقد سأله _________ (1) انظر حديث ابن عباس في البخاري (3239) ومسلم (165)، وحديث أبي هريرة في البخاري (3394) وحديث جابر في مسلم (167). والضَّرْب: الخفيف اللحم. (2) يعني: الحمام. وجاء وصف عيسى بهذا في حديث أبي هريرة في صحيح البخاري (3394) وصحيح مسلم (168). (3) انظر الحديث السابق. (4) (ق): «بعث». (5) انظر حديث أنس في صحيح مسلم (197). (6) انظر حديث أنس في صحيح مسلم (196). (7) انظر حديث أبي سعيد في صحيح البخاري (2412).

(1/126)


الصحابةُ: كيف تُعرَض صلاتنا عليك، وقد أَرِمتَ؟ فقال (1): «إنّ الله حرَّم على الأرض أن تأكلَ أجساد الأنبياء» (2). ولو لم يكن جسده في ضريحه لما أجاب بهذا الجواب. وقد صحَّ عنه أنَّ الله وكَّلَ بقبره ملائكةً يُبلِّغونه عن أمته السلام (3). وصحَّ عنه أنه خرج بين أبي بكر وعمرَ، وقال: «هكذا [28 ب] نُبعَث» (4). هذا مع القطع بأنَّ روحَه الكريمةَ في الرفيق الأعلى في أعلى عِلِّيِّين مع أرواح الأنبياء. وقد صحَّ عنه أنه رأى موسى قائمًا يُصلِّي في قبره ليلةَ الإسراء، ورآه في السماء السادسة أو السابعة (5). فالروح كانت هناك، ولها اتصالٌ بالبدن في _________ (1) (ب، ط، ن): «قال». (2) سبق تخريجه في المسألة الرابعة (ص 102). (3) أخرجه النسائي (1282)، والإمام أحمد (4210، 4320)، وأبو يعلى (5213) وعنه ابن حبان (914)، والحاكم (2/ 421) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وقال الحاكم: «صحيح الإسناد» وهو كما قال. وصححه المصنف في جلاء الأفهام (55)، وانظر أيضًا (532). (قالمي). (4) أخرجه الترمذي (3669) وابن ماجه (99)، وابن أبي عاصم في السنة (1418)، والبزار (5852)، والحاكم (3/ 68) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وفي سنده سعيد بن مسلمة بن هشام بن عبد الملك بن مروان الأموي، متفق على ضعفه. انظر: تهذيب التهذيب (4/ 83). وبه أعله الترمذي فقال عقب الحديث: «حديث غريب، وسعيد بن مسلمة ليس عندهم بالقوى». وسكت عنه الحاكم، فتعقبه الذهبي بقوله: «سعيد ضعيف». (قالمي). (5) مرَّ آنفًا.

(1/127)


القبر، وإشرافٌ (1) عليه، وتعلُّقٌ به؛ بحيث يُصلِّي في قبره، ويردُّ سلامَ من سلَّم عليه، وهي (2) في الرفيق الأعلى. ولا تنافي بين الأمرين، فإن شأنَ الأرواح غير شأن الأبدان. وأنت تجد الروحين المتلائمتين المتناسبتين في غاية التجاور والقرب، وإن كان بين بدنيهما بُعْدُ المشرقين. وتجد الروحين المتنافرتين (3) المتباغضتين بينهما غاية البُعد، وإن كان جسداهما متجاورين متلاصقين. «وليس نزول الروح وصعودها وقربها وبعدها من جنس ما للبدن، فإنها تصعَد إلى فوق السموات، ثم تهبط إلى الأرض ما بين قبضها ووضعِ الميت في قبره. وهو زمن يسير لا يصعَد البدن وينزل في مثله. وكذلك صعودها وعَوْدها إلى البدن في النوم واليقظة. وقد مثَّلها بعضهم بالشمس وشعاعها؛ فإنها في السماء، وشعاعُها (4) في الأرض» (5). قال شيخنا: «وليس هذا مثالاً مطابقًا، فإنَّ نفسَ الشمس لا تنزِل من السماء، والشُّعاع الذي على الأرض ليس هو الشمسَ ولا صفتَها، بل هُو عرضٌ حصل بسبب الشمس والجِرم المقابل لها. والروح نفسها تصعَد وتنزِل» (6). _________ (1) (ن): «إشراق»، تصحيف. (2) (ط): «وهو». (3) (أ، غ): «المتفارقتين». (4) «فإنما ... شعاعها» ساقط من (ن). (5) هذه الفقرة منقولة من شرح حديث النزول لشيخ الإسلام ابن تيمية. انظر: مجموع الفتاوى (5/ 437 ــ 438). (6) المصدر السابق.

(1/128)


وأما قولُ الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في قتلى بدر: «كيف تخاطب أمواتًا قد جَيَّفوا؟» (1) مع إخباره بسماعهم (2) كلامَه، فلا ينفي ذلك ردَّ أرواحهم إلى أجسادِهم ذلك الوقتَ ردًّا يسمعون به خطابه، والأجساد قد جَيَّفت، فالخطاب للأرواح المتعلّقة بتلك الأجساد التي قد فسدت. وأما قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] فسياقُ الآية يدلُّ على أنَّ المرادَ منها: أنَّ الكافرَ مَيِّتُ القلب، لا يقدرُ على إسماعه سماعًا ينتفع به، كما أنَّ مَن في القبور لا يقدر (3) على إسماعهم سماعًا ينتفعون به. ولم يُرِدْ [29 أ] سبحانه أنَّ أصحابَ القبور لا يسمعون شيئًا البتة. كيف وقد أخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنهم يسمعون خفقَ نِعال المشيِّعين، وأخبر أن قتلى بدر سمعوا كلامَه وخطابَه، وشرعَ السلامَ عليهم بصيغة الخطاب للحاضر الذي يسمع، وأخبر أنَّ من سلَّم على أخيه المؤمن ردَّ عليه السلام (4)؟ وهذه الآية نظيرُ قوله: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل: 80]. وقد يقال: نفيُ إسماعِ الصُّمِّ مع نفي إسماعِ الموتى يدلُّ على أنَّ المرادَ عدمُ أهليّة كلٍّ منهما للسماع. وأنَّ قلوبَ هؤلاء لما كانت ميتةً صُمًّا (5) كان إسماعها ممتنعًا بمنزلة خطاب الميِّت والأصمِّ. وهذا حقٌّ، ولكن لا ينفي _________ (1) تقدم في أول الكتاب (ص 7). (2) (ب، ج): «إنكاره لسماعهم». (3) (ط): «يقدرون». (4) الأحاديث المذكورة قد سبق تخريجها في أول الكتاب. (5) في معظم النسخ ضبط بتنوين الميم.

(1/129)


إسماعَ الأرواح بعد الموت إسماعَ توبيخٍ وتقريع، بواسطة تعلّقها بالأبدان في وقت ما، فهذا غير الإسماع المنفي (1). والله أعلم. وحقيقةُ المعنى: إنك لا تستطيع أن تُسمِعَ من لم يشأ (2) الله أن يُسمعَه. إن أنت إلا نذير، أي: إنما جعل الله لك الاستطاعةَ على الإنذار الذي كلَّفك إياه، لا على إسماع من لم يشأ الله إسماعَه. وأما قوله: إن الحديث لا يصحُّ لتفرُّدِ المِنهال بن عمرو وحده به (3)، وليس بالقوي؛ فهذا من مجازفته رحمه الله (4). فالحديث صحيحٌ، لا شكَّ فيه. وقد رواه عن البراء بن عازب جماعة غير زاذان، منهم: عَدي بن ثابت، ومحمدُ بن عقبة، ومجاهد. قال الحافظ أبو عبد الله بن منده في كتاب «الروح والنفس» (5): أخبرنا محمد بن يعقوب بن يوسف، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني (6)، أنا أبو النضر هاشمُ بن القاسم، ثنا عيسى بن المسيب، عن عَدِي بن ثابت، عن _________ (1) وانظر: مجموع الفتاوى (24/ 364). (2) (أ، غ): «لو يشاء». (3) «به» من (ط). (4) سيأتي الردّ على تضعيف المنهال. (5) وقد نقله منه شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (5/ 442 ـــ 444). (6) في جميع النسخ الخطية والمطبوعة: «الصفار». وهو تحريف. والصواب ما أثبتنا من الفتاوى. وقد ولد محمد بن إسحاق الصفار سنة 289، وتوفي سنة 371. (تاريخ بغداد 1/ 260، سير أعلام النبلاء 16/ 299). وقد توفي محمد بن يعقوب بن يوسف وهو أبو العباس الأصم سنة 277، فكيف يحدث عن الصفار؟

(1/130)


البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جِنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمَّا يُلحَدْ. فجلس، وجلسنا حوله (1) كأنَّ على أكتافنا فِلَقَ الصخر، وعلى رؤوسنا الطير. فأرَمَّ (2) قليلاً ــ والإرمام: السكوت ــ فلما رفع رأسه قال: «إن المؤمنَ إذا كان في قُبُل [29 ب] من الآخرة، ودُبُر من الدنيا، وحضره ملكُ الموت؛ نزلت (3) عليه ملائكةٌ معهم كفن من الجنة، وحَنوط من الجنة، فجلسوا منه مدَّ البصر. وجاء ملَك الموت، فجلس عند رأسه، ثم قال: اخرجي أيتها النفس المطمئنة، اخرُجي إلى رحمة الله ورضوانه. فتسيل نفسُه كما تقطُر القطرة من السِّقاء. فإذا خرجتْ نفسه صلَّى عليه كلُّ من بين السماء والأرض (4) إلا الثقلين. ثم يصعَد به إلى السماء، فتُفتح له السماء (5). ويُشيِّعه مقرَّبوها إلى السماء الثانية والثالثة والرابعة والخامسة _________ (1) «حوله» من (ن). وفي (ق): «فجلسنا وجلس». (2) «أرمَّ» و «الإرمام» في جميع النسخ الخطية والمطبوعة بالزاي، وهو تصحيف من النسَّاخ. ولعلهم ظنّوا علامة الإهمال في أصولهم نقطة. وفي (ط) حاشية نصّها: «قال في المجمل: الأزم: الإمساك، في الزاي مع الميم». وذهب على المحشي أنّ التصريح بمصدره في الحديث قاطع بأنه من (ر م م)، لا من (أزم). نعم، يروى في حديث آخر: «فأرمَّ القومُ»، و «فأَزَم ... » النهاية (2/ 267). ولكن راوي حديثنا نصّ بذكر المصدر على أن الفعل هنا بالراء. (3) (ب، ط، ز): «نزل». وفي (ز) بعد «عليه» زيادة: «من السماء». (4) (ن): «كل شيء بين ... ». وفي مجموع الفتاوى: «كل ملك». وفي (ز): «كل شيء في ... ». وفي (ب، ط، ج): «كل شيء بين الأرض والسماء». (5) «السماء» لم يرد في (ن).

(1/131)


والسادسة والسابعة إلى العرش: مقرَّبو كلِّ سماء (1). فإذا انتهى إلى العرش كُتِبَ كتابُه في عِلِّيين، ويقول الربُّ عز وجل: رُدُّوا عبدي إلى مَضْجَعه، فإني وعدتُهم أنِّي منها خلقتهم، وفيها أُعيدهم، ومنها أُخرجهم تارةً أخرى. فيُرَدُّ إلى مضجعه، فيأتيه منكرٌ ونكيرٌ يُثيران الأرض بأنيابهما، ويفحصان الأرضَ بأشعارهما، فيجلسانه، ثم يقال له: يا هذا، مَنْ ربُّك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان: صدقتَ. ثم يقال له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان: صدقتَ. ثم يقال له (2): من نبيُّك؟ فيقول: محمدٌ رسول الله. فيقولان: صدقتَ. ثم يُفسَح له في قبره مدَّ بصرِه، ويأتيه رجلٌ حسن الوجه، طيِّبُ الريح، حسن الثياب، فيقول: جزاكَ الله خيرًا، فوالله ــ ما علمتُ ــ إن كنتَ لسريعًا في طاعةِ الله، بطيئًا عن معصية الله. فيقول: وأنت جزاك الله خيرًا، فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح (3). ثم يُفتح له بابٌ إلى الجنة، فينظر إلى مقعدِه ومنزله منها حتى تقومَ الساعة. وإنّ الكافر إذا كان في دُبُرٍ من الدنيا وقُبُلٍ من الآخرة، وحضره الموت؛ نزلتْ عليه من السماء ملائكةٌ معهم كفن من نار، وحَنُوطٍ من نار. قال: فيجلسون منه مدَّ بصرِه، وجاء ملكُ الموت، فجلس عند رأسه، ثم قال: اخرُجي أيتها النفسُ الخبيثة، اخرُجي إلى غضب الله وسَخَطه. فتتفرَّق (4) _________ (1) «مقربو كل سماء» لم يرد في (ن). (2) «له» ساقط من (ط، ج، ن). (3) «الصالح» ساقط من (ن). (4) (ب، ط): «فتفرّق». وفي (ق): «تفترق»، تصحيف.

(1/132)


روحه في جسده كراهية أن [30 أ] تخرج لما تَرى وتُعاين. فيستخرجها، كما يُستخرج السَّفُّود من الصوف المبلول. فإذا خرجت نفسُه لَعنه كل شيء بين السماء والأرض إلا الثقلين. ثم يُصعَد به إلى السماء، فتُغلَق دونه. فيقول الربُّ: رُدُّوا عبدي إلى مضجعه، فإنّي وعدتُهم أنّي منها خلقتهم، وفيها أُعيدهم، ومنها أُخرجهم تارةً أخرى؛ فتُرَدُّ روحه إلى مضجعه. فيأتيه منكرٌ ونكيرٌ يبتدرانِ (1) الأرض بأنيابهما، ويفحصان الأرض بأشعارهما، أصواتُهما كالرعد القاصف، وأبصارُهما كالبرق الخاطف. فيُجلسانه، ثم يقولان: يا هذا، مَنْ ربُّك؟ فيقول: لا أدري، فينادَى من جانب القبر: لا دريتَ! فيضرِبانه بمِرزَبَّةٍ (2) من حديد لو اجتمع عليها مَن بين الخافقين لم تُقَلَّ، ويُضيَّق عليه قبرُه حتى تختلفَ أضلاعُه. ويأتيه رجلٌ قبيحُ الوجه، قبيحُ الثياب، مُنتن الريح؛ فيقول: جزاك الله شرًّا! فوالله ــ ما علمت ــ إن كنتَ لبطيئًا عن طاعةِ الله سريعًا في معصيةِ الله. فيقول: ومن أنت؟ فيقول: أنا عملُكَ الخبيثُ. ثم يُفتح له بابٌ (3) إلى النار، فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعةُ» (4). رواه الإمام أحمد _________ (1) كذا في (أ، ق، غ). وفي غيرها: «يثيران». (2) ضبط في (ط) بتشديد الباء، ويجوز بتخفيفها. والمرزبة: المطرقة الكبيرة. (3) في (أ، ن، غ): «بابًا». (4) في إسناده عيسى بن المسيب البجلي الكوفي قاضيها ضعيف؛ ضعَّفه ابن معين والنسائي والدارقطني وغيرهم. له ترجمة في لسان الميزان (4/ 405). وحديثه يصلح في المتابعات ولأجل ذلك ساق المؤلف حديثه هنا. وعزوه للإمام أحمد فلعله في غير المسند فإني لم أره فيه. (قالمي).

(1/133)


ومحمود بن غيلان وغيرهما عن أبي النضر (1). ففيه أنَّ الأرواح تُعاد إلى القبر، وأنَّ الملَكين يُجلِسان الميِّتَ ويَستنطقانه. ثم ساقه ابن مَنْده من طريق محمد بن سلَمةَ، عن خُصَيفٍ الجَزَري (2)، عن مجاهد، عن البراء بن عازب قال: كنا في جِنازة رجلٍ من الأنصار، ومعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانتهينا إلى القبر، ولم يُلحَد (3)، ووُضعت الجنازة. وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4) فقال: «إنّ المؤمنَ إذا احتُضِرَ أتاه ملَكٌ في أحسن صورةٍ وأطيبه ريحًا، فجلس عنده لقبضِ روحه، وأتاه ملكان بِحَنوطٍ من الجنة وكفنٍ من الجنة، وكانا منه على بعيد، فيستخرج ملَكُ الموت روحَه من جسده رَشحًا. فإذا صارت إلى ملك الموت (5) ابتدَرها الملكان، فأخذاها (6) منه، فحنَّطاها بِحَنوط من الجنة، وكفَّناها بكفن من الجنة. ثم عَرجا به إلى الجنة، فتُفتح له أبوابُ السماء، وتستبشر الملائكة بها، ويقولون: لمن هذه الروحُ الطيِّبة التي فُتحت لها أبواب السماء؟ ويُسمَّى [30 ب] بأحسن الأسماء التي كان يُسمَّى بها في الدنيا، فيقال: هذه روحُ فلان. _________ (1) هنا انتهى النقل من كتاب ابن منده. انظر: مجموع الفتاوى (5/ 444). (2) كذا على الصواب في (أ، غ). وفي معظم النسخ بالحاء المهملة. وكذلك «الجزري» تصحف في (ب، ج، ط) إلى «الجوزي». وفي (ق): «الخرزي». (3) «فانتهينا .... » إلى هنا ساقط من (ب). (4) (ز، ج): «ولما يلحد». (5) (ب، ط، ج): «فإذا استخرج ملك الموت روحه. (6) (ب، ط، ج): «يأخذانها».

(1/134)


فإذا صُعِد بها إلى السماء شيَّعها مُقرَّبو كلِّ سماء حتى تُوضَع بين يدي الله عزَّ وجلَّ عند العرش، فيُخرَج عملُها من عِلِّيين، فيقول الله للمقرَّبين: اشهدوا أنّي قد غفرتُ لصاحب هذا العمل. ويُختَم كتابه، فيُرَدُّ (1) في عِلِّيين، فيقول (2) الله عز وجل: رُدُّوا روحَ عبدي إلى الأرض، فإنّي وعدتُهم أن أردَّهم فيها». ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55]. فإذا وُضِع المؤمن في لحده (3) فُتح له بابٌ عند رجليه إلى الجنة، فيقال له: انظر إلى ما أعدَّ الله لك من الثواب! ويُفتح له بابٌ عند رأسه إلى النار، فيقال له: انظر ماذا صرف الله عنك من العذاب! ثم يقال له (4): نَمْ قرير العين! فليس شيء أحبَّ إليه من قيام الساعة». وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا وُضِع المؤمن في لحده تقول له الأرض: إن كنتَ لحبيبًا إليَّ، وأنت على ظهري؛ فكيف إذا صِرتَ اليوم في بطني! سأُريك ما أصنع بك (5). فيُفسَح له في قبره مدَّ بصره». وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا وُضِع الكافر في قبره أتاه منكر ونكير، فيُجلِسانه، فيقولان له: من ربُّك؟ فيقول: لا أدري. فيقولان له: لا دَريَت! فيضربانه ضربةً، فيصير رمادًا. ثم يُعاد، فيُجلَس، فيقال له: ما قولك في هذا _________ (1) (ب، ط، ن، ج): «ويرد». (2) ما عدا (أ، ق، غ): «ثم يقول». (3) (ق، ز): «قبره». (4) «له» ساقط من (ب). (5) لم يرد «بك» في (أ، غ).

(1/135)


الرجل؟ فيقول: أيُّ رجل (1)؟ فيقولان: محمد (2) - صلى الله عليه وسلم -. فيقول: قال الناسُ إنَّه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. فيضرِبانه ضربةً، فيصير رمادًا» (3). هذا حديث ثابتٌ مشهور مستفيض، صحَّحه جماعةٌ من الحفاظ، ولا نعلم أحدًا من أئمة الحديث طعن فيه. بل رووه في كتبهم، وتلقَّوه بالقبول، وجعلوه أصلاً من أصول الدين في عذاب القبر ونعيمه، ومساءلة (4) منكر ونكير، وقبض الأرواح وصعودها إلى بين يدي الله ثم رجوعها إلى القبر. وقولُ أبي محمد (5): «لم يروه غيرُ زاذان»، فوهَمٌ منه، بل رواه عن _________ (1) كذا في (أ، غ). وفي (ز): «أي الرجال». وفي غيرها: «أي الرجل». (2) (ب، ط، ن، ج): «محمد رسول الله». (3) وهذا إسناد لا بأس به في المتابعات، خصيف هو ابن عبد الرحمن الجزري تُكلم فيه لسوء حفظه، وبقية رجاله ثقات. (قالمي). (4) رسمها في النسخ: «مسايلة». (5) هذه الفقرة من هنا إلى قول ابن عدي في آخرها من كلام شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (5/ 446 ــ 447). نقلها المصنف مع التصرف في أولها. ولفظ الشيخ: «وزعم ابن حزم أنّ (العَود) لم يروه إلا زاذان عن البراء، وضعَّفه. وليس الأمر كما قاله بل رواه غير زاذان عن البراء ... ». والظاهر أن هذا وهمٌ من الشيخ، فإنَّ ما زعمه ابن حزم هو أن (العود) لم يروه إلا المنهال بن عمرو، وضعَّفه. أما زاذان فلم يقل فيه ابن حزم شيئًا لا في المحلى ولا في الملل والنحل. والدليل على ذلك أن الشيخ لم يُشر بعد ذلك إلى زعم ابن حزم بتفرد المنهال بالعود، وإنما ردَّ على تضعيفه إياه. أما ابن القيم، فغيَّر عبارة الشيخ، فنسب إلى ابن حزم أنه قال: «لم يروه غير زاذان». ومفاده أنه لم يرو هذا الحديث عن البراء غير زاذان. وهذا واضح من الردّ عليه. وهو وهمٌ آخر أدّى إليه الاعتماد على كلام الشيخ ثم التصرف فيه، مع أن المصنف قد أورد من قبل كلام ابن حزم من كتابه الملل والنحل، وليس فيه شيء عن زاذان. وسيردّ في الفقرة الآتية على زعم ابن حزم بتفرد المنهال بالعود مع ضعفه، ثم يذكر فيما بعد أن غير ابن حزم ــ يعني ابن حبان ــ أعلّ الحديث بأن زاذان لم يسمعه من البراء. وقد أعلَّه ابن حبان أيضًا بالانقطاع بين الأعمش والمنهال. فإن صح كلام المصنف في هذه الفقرة من تفرُّد زاذان بالحديث اجتمعت فيه أربع علل؛ مع أنه لما تكلم عليه في تهذيب السنن (13/ 63 ــ 64) قال: «ومجموع ما ذكراه ــ يعني ابن حزم وابن حبان ــ ثلاث: إحداها ضعف المنهال. والثانية أن الأعمش لم يسمعه من المنهال، والثالثة أن زاذان لم يسمعه من البراء». وهذا هو الصواب، والأُولى من هذه فقط لابن حزم.

(1/136)


البراء غير زاذان. ورواه عنه عديُّ بن ثابت، ومجاهد بن جبر، ومحمد بن عُقْبة وغيرهم. وقد جمع الدارقطني طُرُقَه في مصنَّف مفرد. وزاذان من الثِّقات، روى عن أكابر الصحابة كعُمر وغيره. وروى له مسلم في «صحيحه». قال يحيى بن معين: ثقة. وقال حُميد بن هلال ــ وقد سئل عنه ــ: هو ثقة، لا يُسأل عن مثل هؤلاء. وقال ابن عديِّ: أحاديثه لا بأس بها إذا روى عنه ثقة (1). وقوله: إن المِنهال بن عمرو تفرَّد بهذه الزيادة، وهي قوله: «فتعاد روحه في جسده»، وضَعَّفه؛ فالمِنهال أحد الثقات العدول. قال ابن معين: المنهال ثقة، وقال العجلي: كوفيٌّ ثقة. وأعظمُ ما قيل فيه: إنه سُمِع من بيته صوتُ غناء. وهذا لا يُوجب القدحَ في روايته واطِّراح حديثه. وتضعيفُ ابن حزم له لا شيء (2)، _________ (1) في جميع النسخ الخطية والمطبوعة: «روى عن ثقة». والصواب ما أثبتنا من الكامل لابن عدي (3/ 236). وانظر: تهذيب التهذيب (3/ 303). وهو على الصواب في مجموع الفتاوى. (2) «له» ساقط من (أ، غ). ثم فيهما وفي (ز، ق): «لا شيئًا».

(1/137)


فإنه لم يذكر موجِبًا لتضعيفه غيرَ تفرُّده بقوله: «فتعاد روحه في جسده» (1)، وقد بينَّا أنه لم يتفرَّد بها، بل قد رواها غيره. وقد رُوي ما هو أبلغُ منها، أو نظيرها، كقوله: «فتُرَدُّ إليه روحُه»، وقوله: «فتصير إلى قبره»، وقوله: «فيستوي جالسًا»، وقوله: «فيُجلِسانه»، وقوله: «فيُجْلَس في قبره». وكلُّها أحاديث صحيحة لا مَغْمزَ فيها (2). وقد أعلَّ غيرُه (3) الحديثَ بأن زاذان لم يسمعه من البراء. وهذه العلَّة _________ (1) قال في تهذيب السنن (1/ 133 ــ 134): «والذي غرّ ابن حزم شيئان: أحدهما قول عبد الله بن أحمد عن أبيه: تركه شعبة على عمد. والثاني أنه سمع من داره صوت طنبور». والذي سمع هو شعبة قال: فرجعت ولم أسأله. قيل: فهلا سألته! فعسى كان لا يعلم به. وانظر أيضًا: تهذيب السنن (9/ 23، 13/ 64). وقال جرير عن مغيرة: كان حسن الصوت، وكان له لحن يقال له: «وزن سبعة». انظر: تهذيب التهذيب (10/ 320). (2) هذه الألفاظ كلها وردت في كتابنا هذا إلا «فيستوي جالسًا». وقد ورد في حديث أبي تميم الداري، وأخرجه أبو يعلى الموصلي بسند ضعيف. انظر: إتحاف الخيرة المهرة (1852). وفي حديث لقيط بن عامر أخرجه الحاكم (8683) وصححه. وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (26/ 123) وصححه ابن القيم في زاد المعاد (3/ 677) وحادي الأرواح (536) ونقل تصحيحه عن أبي عبد الله ابن منده وأبي الخير بن حمدان. وفي سنده دلهم بن الأسود، وعبد الرحمن بن عياش، والأسود بن عبد الله. ولم يوثقهم إلا ابن حبان. وقال ابن حجر: وهو حديث غريب جدًّا. انظر: تهذيب التهذيب (5/ 57). (3) لم يسمّه المصنف هنا، وكأنّه يتابع في هذه الفقرة شيخه. انظر: مجموع الفتاوى (5/ 438، 439). والذي أعلَّه بما ذكر هو ابن حبّان. وقد أعلَّه بعلة أخرى لم يشر إليها المصنف هنا، وهي الانقطاع بين الأعمش والمنهال. انظر: صحيح ابن حبان (3117). وقد أجاب المصنف عن العلتين في تهذيب السنن (13/ 63 ــ 65).

(1/138)


باطلة، فإنّ أبا عوانة الإسفراييني رواه في «صحيحه» بإسناده، وقال: عن ابن عمرو، عن (1) زاذان الكندي قال: سمعتُ البراء بن عازب. وقال الحافظ أبو عبد الله بن منده: هذا إسناد متصل مشهور، رواه جماعة عن البراء (2). ولو نزلنا عن حديث البراء، فسائرُ الأحاديث الصحيحة صريحة في ذلك، مثل حديث ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يسار (3)، عن أبي هريرة أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الميتَ تحضُره (4) الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قال: اخرجي أيتها النفسُ الطيِّبة كانت في الجسد الطيِّب، اخرجي حميدةً، وأبشري برَوح وريحان وربٍّ غير غضبان». قال: «فيقولون (5) ذلك حتى تخرج، ثم يُعرَج بها إلى السماء، فيُستفتَح لها، فيقال: مَن هذا؟ فيقولون: فلان (6). فيقولون: مرحبًا بالنفس [31 ب] الطيِّبة كانت في الجسد الطيِّب، ادخلي حميدةً، وأبشري برَوحٍ ورَيحان وربٍّ غير غضبان. فيقال لها ذلك، حتى يُنتهَى بها (7) إلى السماء التي فيها _________ (1) في (أ، غ): «بن»، وهو تحريف. وابن عمرو هو المنهال بن عمرو. وفي (ن) حذف «عن». وفي (ب، ط): «إن ابن عمرو زاذان». وهو غلط. (2) كتاب الإيمان لابن منده (1064). (3) (ب): «بشار»، تصحيف. (4) (ب، ط، ج): «يحضر». وفي (ز): «إن الملائكة تحضر الميت». (5) (ق): «فيقول». (6) (ق): «فلان بن فلان». (7) (ط): «تنتهي».

(1/139)


الله عزَّ وجلَّ. وإذا كان الرجلَ السوء قال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث. اخرجي (1) ذميمة، وأبشري بحميمٍ وغسَّاقٍ وآخرَ من شَكْله أزواج. فيقولون ذلك حتى تخرج، ثم يُعرَج بها إلى السماء، فيُستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان، فيقولون: لا مرحبًا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث. ارجعي ذميمة، فإنَّه (2) لن تُفتَح (3) لك أبوابُ السماء. فتُرسَل بين السماء والأرض، فتصير إلى القبر. فيُجلَس الرجلُ الصالحُ في قبره غير فَزِع ولا مشعوف (4)، ثم يقال: فيمَ كنتَ؟ يقول: في الإسلام (5). [فيقال]: ما هذا الرجل؟ فيقول: محمدٌ رسول _________ (1) في جميع النسخ: «ارجعي». وهو خطأ هنا. والصواب ما أثبتنا من المسند (14/ 378) و (42/ 15) وغيره. (2) (أ، غ، ز): «فإنها». (3) (ز): «لا تفتح». (4) في جميع النسخ: «معوق». وهو تصحيف ما أثبتنا من المسند (42/ 12) ومجموع الفتاوى (5/ 446). وفي (ط) حاشية بخط الشيخ علي بن عيسى رحمه الله. نقل فيها عن النهاية لابن الأثير (شعف): «في حديث عذاب القبر: فإذا كان الرجل صالحًا أجلس في قبره غير فزع ولا مشعوف. الشعف: شدة الفزع حتى يذهب بها القلب ... ». (5) في جميع النسخ: «فما كنت تقول في الإسلام ما هذا الرجل» وهو سياق فاسد وقد تحرَّف «فيما» ــ وكانوا يكتبون ما الاستفهامية بالألف مع دخول حرف الجر عليها ــ إلى «فما»، ثم سقط «فيقال». انظر: المسند (42/ 12) وإثبات عذاب القبر للبيهقي (29) وقارن بمجموع الفتاوى (5/ 446).

(1/140)


الله، جاءنا بالبينات من قِبَل الله، فآمنَّا، وصدَّقنا». وذكر تمام الحديث (1). قال الحافظ أبو نُعيم: هذا حديث متفق على عدالة ناقليه (2). اتَّفق الإمامان محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجَّاج (3) على ابن أبي ذئب، ومحمد بن عمرو بن عطاء، وسعيد (4) بن يسار، وهم من شرطهما. ورواه المتقدمون الكبار عن ابن أبي ذئب، مثل ابن أبي فُديك، وعنه دُحيم (5) بن إبراهيم. انتهى. ورواه عن ابن أبي ذئب غيرُ واحدٍ (6). وقد احتجَّ أبو عبد الله ابن منده على إعادة الروح إلى البدن، بأن قال: _________ (1) أخرجه ابن ماجه (4262)، والإمام أحمد (8769)، والنسائي في الكبرى (11442)، وابن خزيمة في التوحيد (176: 15 ــ 18)، وابن منده في الإيمان (1068)، وأبو بكر الآجري في الشريعة (923) كلهم من طريق ابن أبي ذئب بإسناده. وعزاه البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (12/ 440) لابن أبي شيبة وصحّح إسناده. (قالمي). (2) (أ، ق، غ): «ناقله». (3) زاد في (ط): «القشيري». (4) (ن): «شعبة»، تحريف. (5) «وعنه دحيم» تحرّف في النسخ إلى «وعبد الرحيم». وأقربها إلى الصحة (ب) التي رسم ناسخها: «وعبد رحم» (كذا). وفي (ن): «وعبد الرحمن بن إبراهيم». ودحيم اسمه: عبد الرحمن، ولكن المقصود هنا أنه رواه عن ابن أبي فديك. (6) «ورواه ... غير واحد» عقَّب به شيخ الإسلام على كلام أبي نعيم. وقد نقل ابن القيم حديث أبي هريرة مع كلام أبي نعيم وتعقيب الشيخ بنصّه من شرح حديث النزول له غير أنه أخّر كلام أبي نعيم، وكان مقدَّمًا في الأصل. انظر: مجموع الفتاوى (5/ 445 - 446).

(1/141)


أبنا محمد بن الحسين بن الحسن، ثنا محمد بن يزيد النيسابوري، ثنا حماد بن قيراط، ثنا محمد بن الفضل، عن يزيد بن عبد الرحمن الصائغ البلخي (1). عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس أنه قال: بينما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يومٍ قاعدٌ تلا هذه الآية: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} الآية [الأنعام: 93]. قال: «والذي نفسُ محمد بيده، ما من نفسٍ تُفارق الدنيا حتى ترى مقعدَها من الجنة أو النار». ثم قال: «فإذا كان عند ذلك صُفَّ (2) له سِماطان من الملائكة، ينتظمان ما بين الخافقين، كأنَّ وجوهَهم الشمسُ. فينظر إليهم ما يرى غيرَهم، وإن (3) كنتم تَرون أنّهم ينظرون (4) إليكم، مع كل ملكٍ أكفانٌ وحَنُوطٍ. [32 أ] فإن كان مؤمنًا بشَّروه بالجنة، وقالوا: اخرجي أيتها النفس الطيِّبة (5) إلى رضوان الله وجنَّته (6)، فقد أعدَّ الله لكِ من الكرامة ما هو خيرٌ لك من الدنيا وما فيها. فلا يزالون يُبشِّرونه ويَحُفُّون به، فلَهم ألطفُ وأرأفُ من الوالدة بولدها. ثم يَسُلُّون روحَه من تحت كل ظُفر ومَفْصِل، ويموت الأول فالأول، ويهون (7) عليه، وإن كنتم ترونه شديدًا، حتَّى تبلغ ذَقَنه». _________ (1) (أ، غ): «البجلي». ولعله تحريف. (2) كذا ضبط في (ب، ط، ن) بالبناء للمجهول. والفعل لازم ومتعد. (3) ما عدا (ط، ن): «فإن»، تحريف. (4) كذا في جميع النسخ، يعني المحتضرين. وفي الدر المنثور (6/ 133): «أنه ينظر»، وهو أشبه بالسياق. (5) (ب، ط، ج): «المطمئنة». (6) (ق): «رحمته». والعبارة «فإن كان ... جنته» ساقطة من (ن). (7) (ب، ط، ج): «تهون».

(1/142)


قال: «فلَهِي أشدُّ كراهيةً للخروج من الجسد، من الولد حين يخرجُ من الرحم، فيبتدرونها، كلُّ ملكٍ منهم، أيُّهم يَقبِضها. فيتولَّى قبضها ملكُ الموت». ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1): {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11] «فيتلقَّاها بأكفانٍ بيض، ثم يحتضنها (2) إليه، فلهو أشدُّ لزومًا لها من المرأة إذا ولدتها. ثم يفوح منها ريحٌ أطيبُ من المسك، فيستنشقون ريحَها، ويتباشرون بها (3)، ويقولون: مرحبًا بالرِّيح الطيبة والرُّوح الطيِّبِ! اللهم صلِّ عليه رُوحًا، وصلِّ على جسدٍ خرجتْ منه». قال: «فيصعَدون بها (4). ولله عزَّ وجلَّ خلقٌ في الهواء لا يَعلَم عِدَّتهم إلا هو، فيفوح لهم منها ريحٌ أطيبُ من المسك، فيصلُّون عليها ويتباشرون بها. وتفتح لهم أبوابُ السماء، فيصلِّي عليها كلُّ ملك، في كلِّ سماء تمرُّ بهم، حتى يُنتهى بها (5) بين يدي الملك الجبَّار. فيقول الجبّارُ: مرحبًا بالنفس الطيِّبة وبجسدٍ خرجتْ منه! وإذا قال الربُّ عزَّ وجلَّ للشيء: مرحبًا، رحُبَ (6) له كلُّ شيء، ويذهب عنه كلُّ ضيق. ثم يقول لهذه النفس الطيبة: أدخلوها الجنةَ، وأرُوها مقعدَها من الجنة، _________ (1) زاد في (ط): «قوله تعالى». (2) (ب، ط، ج): «فيحضنها». (3) «بها» لم يرد في (أ، غ). (4) زاد في (ط): «إلى السماء». (5) زاد في (ط): «إلى». (6) الضبط من (ط)، يعني: اتسع. وفي (ب): «وجب» تصحيف.

(1/143)


واعرِضوا عليها ما أعددتُ لها من الكرامة والنعيم. ثم اذهبوا بها إلى الأرض، فإنِّي قضيتُ أنّي منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارةً أخرى. فوالذي نفس محمد بيده، لهي أشدُّ كراهيةً للخروج، منها حين كانت تخرج من الجسد. وتقول: أين تذهبون بي؟ إلى ذلك الجسد الذي كنتُ فيه؟» قال: «فيقولون: إنَّا مأمورون بهذا، فلابدَّ لك منه. فيهبطون به على قَدْر فراغِهم من غُسْله وأكفانه، فيُدخِلون [32 ب] ذلك الروحَ بين جسده وأكفانه» (1). فدلَّ هذا (2) الحديث أنَّ الروح تُعاد بين الجسد والأكفان. وهذا عَودٌ غير التعلُّق الذي كان لها في الدنيا بالبدن، وهو نوعٌ آخرُ؛ وغير تعلُّقها به _________ (1) في إسناده حماد بن قيراط النيسابوريّ، قال ابن حبان في المجروحين (1/ 254): «يقلب الأخبار على الثقات، ويجيء عن الأثبات بالطامات، لا يجوز الاحتجاج به ولا الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار، وكان أبو زرعة الرازي يمرِّض القول فيه». وأورد ابن عدي في الكامل (2/ 250 ــ 251) بعض مناكيره، ثم قال: «ولحماد بن قيراط غير ما ذكرت من الحديث، وعامة ما يرويه فيه نظر». وتنظر ترجمته في لسان الميزان (2/ 352). وأما شيخه وشيخ شيخه فلم أهتد إليهما. والحديث أشار إليه ابن كثير في تفسيره (3/ 302) فقال: «وقد ذكر ابن مردويه ههنا حديثًا مطولاً جدًا من طريق غريبة، عن الضحَّاك، عن ابن عباس، مرفوعًا». وساقه السيوطي في الدر المنثور (6/ 133) بطوله وقال: «أخرجه ابن مردويه بسند ضعيف». (قالمي). (2) «هذا» ساقط من (ط). وفي (ن): «فثبت بهذا».

(1/144)


حالَ النوم، وغير تعلُّقها به وهي في مقرِّها؛ بل هو عَودٌ خاصٌّ للمسألة (1). قال شيخُ الإسلام (2): الأحاديثُ الصحيحة المتواترة تدلُّ على عَود الروح إلى البدن وقت السؤال. وسؤالُ البدن بلا روح قولٌ قاله طائفة من الناس، وأنكره الجمهور. وقابلهم آخرون، فقالوا: السؤالُ للروح بلا بدن، وهذا قاله ابن مسرَّة (3) وابن حزم. وكلاهما غلط، والأحاديث الصحيحة تردُّه، ولو كان ذلك على الروحِ فقط لم يكن للقبر بالروح اختصاصٌ. * * * _________ (1) ما عدا (أ، غ): «للمساءلة»، ورسم كالعادة بالياء. (2) في شرح حديث النزول. انظر: مجموع الفتاوى (5/ 446). وانظر أيضًا: (4/ 262)، (5/ 525). (3) في (ط، ز، غ) يحتمل قراءة «ابن مرة». وفي (ج، ن): «ابن ميسرة»، وكذا في مجموع الفتاوى في المواضع المذكورة في الحاشية السابقة. والصواب ما أثبتنا من (أ، ب، ق) غير أن كلمة «ابن» سقطت من الأصل. ولعل المقصود هنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مسرّة القرطبي الصوفي المتكلم المتوفى سنة 319. انظر ترجمته في تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي (2/ 55). وهناك أبو الحزم وهب بن مسرّة الحجاري الحافظ الفقيه المحدث المتوفى سنة 346. وابن حزم ممن أخذ عن أصحابه. ترجمته في كتاب ابن الفرضي (2/ 207). وقد ذكر ابن حزم في الملل والنحل مذهب ابن مسرّة الصوفي في بعض المسائل لكن لم يشر إلى أن عذاب القبر عنده على الروح فقط.

(1/145)


فصل (1) وهذا يتضح بجواب المسألة (2) [الملحقة بالسادسة]، وهي قول السائل: هل عذاب القبر على النفس والبدن، أو على النفس دون البدن، أو على البدن دون النفس؟ وهل يُشارك البدنُ النفسَ في النعيمِ والعذاب أم لا؟ وقد سُئل شيخُ الإسلام عن هذه المسألة ــ ونحن نذكر لفظَ جوابه ــ فقال (3): «بل العذابُ والنعيم على النفس والبدن جميعًا باتِّفاق أهل السنة والجماعة. تُنعَّم النفسُ وتُعذَّب منفردةً عن البدن، وتُنعَّم وتُعذَّب متَّصلة بالبدن، والبدن متَّصلٌ بها، فيكون النعيمُ والعذاب عليهما في هذه الحال _________ (1) كلمة «فصل» لم ترد في (ن). (2) كذا في جميع النسخ ما عدا (ق، ن)، ففيهما «المسألة السابعة». واستّمرت (ن) على هذا الترقيم، فالمسألة الأخيرة التي هي الحادية والعشرون في النسخ الأخرى صارت الثانية والعشرين في (ن). أما (ق) فسارت مع (ن) إلى المسألة الثامنة، فهي عندها التاسعة، ولكن لما جاءت التاسعة في غيرها فارقت (ن)، وكتبت «التاسعة» مكررة وتابعت النسخ الأخرى. والظاهر من السياق أن الصواب مع (ن)، وحقّ هذه المسألة أن تكون مستقلّة برقمها، ولكن يظهر لي ــ والله أعلم ــ أن المؤلف رحمه الله أضافها بعد إكمال الكتاب، ولم يرقِّمها في أصله، فبقيت غير مرقَّمة في النسخ المنقولة عنه أيضًا. وزيادة «السابعة» هنا من بعض النسَّاخ، ومن هنا انفردت بها (ن)، ولم تستمر عليها (ق). وقد سميتها «الملحقة بالسادسة» لتمييزها من السادسة مع الحفاظ على ترقيم المسائل في النسخ. (3) انظر: مجموع الفتاوى (4/ 282 ــ 295).

(1/146)


مجتمعَين، كما يكون للروح (1) منفردةً عن البدن. وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح؟ هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنة وأهل الكلام. وفي المسألة أقوال شاذّة ليست من أقوال أهل السنة والحديث: قولُ من يقول (2): إنّ النعيمَ والعذابَ لا يكون إلا على الروح، وإنَّ البدنَ لا يُنعَّم ولا يُعذَّب. وهذا تقوله (3) الفلاسفة المنكرون لمعاد الأبدان، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين. ويقوله كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم الذين يُقِرُّون بمعاد الأبدان، لكن يقولون: لا يكون ذلك في البرزخ، وإنما يكون عند القيام من القبور». [33 أ] لكن (4) هؤلاء يُنكرون عذاب البدن في البرزخ فقط، ويقولون: إنَّ الأرواحَ هي المنعَّمة أو المعذَّبة في البرزخ، فإذا كان يومُ القيامة عُذِّبت الروح والبدن معًا. وهذا القول قاله طوائفُ من المسلمين من أهل الكلام والحديث وغيرهم، وهو اختيارُ ابن حزم وابن مسَرَّة (5). فهذا القول ليس من الأقوال الثلاثة الشاذّة، بل هو مضاف إلى قول من يقول بعذاب القبر، ويُقِرُّ بالقيامة، ويُثبِت معاد الأبدان والأرواح، ولكن هؤلاء لهم في عذاب القبر ثلاثة أقوال: _________ (1) في جميع النسخ: «تكون الروح»، وفي (ب، ز): «يكون». والصواب ما أثبتنا من الفتاوى. (2) ذكر شيخ الإسلام ثلاثة أقوال شاذّة، وهذا هو الأول. (3) ما عدا (أ، ق)، الفتاوى: «يقوله». (4) هذا تعليق ابن القيم عقّب به على كلام شيخه للتوضيح. (5) (أ، ط، غ): «ابن مرة». (ن، ج): «ابن ميسرة». وفي (ز): «مرّة» دون كلمة «ابن». والمثبت من (ب، ق). وقد مرّ ذكره قريبًا.

(1/147)


أحدها: أنَّه على الروح فقط. الثاني: أنَّه عليها وعلى البدن بواسطتها. الثالث: أنَّه على البدن فقط. وقد يُضمُّ إلى ذلك القولُ الثاني (1)، وهو قول من يُثبِت عذاب القبر، ويَجعل الروحَ هي الحياةَ. ويُجعَل الشاذُّ (2) قولَ منكر عذاب الأبدان مطلقًا، وقولَ من يُنكر عذابَ الروح مطلقًا. فإذا جعلت الأقوال الشاذَّة ثلاثةً، فالقولُ الثاني الشاذُّ (3): «قولُ من يقول: إنَّ الروحَ بمفردها لا تُنعَّم ولا تُعذَّب. وإنما الروحُ هي الحياة. وهذا يقوله طوائفُ من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية، كالقاضي أبي بكر وغيره، وينكرون أنَّ الروحَ تبقى بعد فراق البدن. وهذا قولٌ باطل، وقد خالفه أصحابه أبو المعالي الجويني وغيره. بل قد ثبت بالكتابِ والسنّة واتِّفاق [سلف] (4) الأمة أنّ الروحَ تبقى بعد فراق البدن (5)، وأنّها منعَّمة أو مُعذَّبة. والفلاسفة الإلهيون يُقِرُّون بذلك، لكن ينكرون معاد الأبدان. فهؤلاء يُقِرُّون بمعاد الأبدان، لكن ينكرون معاد الأرواح ونعيمها وعذابها بدون الأبدان. وكلا القولين خطأ وضلال، لكن قولُ الفلاسفة أبعدُ عن أقوال أهل _________ (1) يعني: من الأقوال الشاذّة عند شيخه. (2) في جميع النسخ ما عدا (ن): «الفساد»، وهو تحريف. (3) انتهى تعليق ابن القيم، ورجع السياق إلى كلام شيخ الإسلام. (4) من مجموع الفتاوى. (5) «فإذا جعلت ... البدن» ساقط من (ب، ط، ج).

(1/148)


الإسلام، وإن كان قد يوافقهم عليه من يعتقد أنّه متمسِّك بدين الإسلام، بل من يظنُّ أنّه من أهل المعرفة والتصوف والتحقيق والكلام (1). والقول الثالث الشاذُّ: قول من يقول: إن البرزخ ليس فيه نعيم ولا عذاب، بل لا يكون ذلك حتى تقومَ الساعة الكبرى. كما يقول [33 ب] ذلك من يقوله من المعتزلة ونحوهم، ممن ينكر عذابَ القبر ونعيمَه، بناءً على أنَّ الروح لا تبقى بعد فراق البدن، وأنَّ البدنَ لا يُنعَّم ولا يُعذَّب. فجميع هؤلاء الطوائف ضُلَّال في أمر البرزخ، لكنهم خيرٌ من الفلاسفة، فإنهم مُقِرُّون بالقيامة الكبرى». فصل (2) «فإذا عرَفتَ هذه الأقوالَ الباطلة (3)، فلتعلَمْ أنّ مذهب سلف الأمة وأئمتها: أنّ الميتَ إذا مات يكون في نعيم أو عذاب، وأنّ ذلك يحصل لروحه وبدنه، وأنّ الروحَ تبقى بعد مفارقة البدن مُنعَّمة أو مُعذَّبة، وأنها تتَّصل بالبدن أحيانًا فيحصل (4) له معها النعيم أو العذاب. ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أُعيدت الأرواح إلى الأجساد، وقاموا من قبورهم لربِّ العالمين. ومعادُ الأبدان متفقٌ عليه بين المسلمين واليهود والنصارى». _________ (1) (ب، ط، ن، ج): «والتحقيق في الكلام». (2) كلمة «فصل» لم ترد في (ب، ن، ج)، ولا في مجموع الفتاوى. (3) الفتاوى: الثلاثة الباطلة. (4) (ق، ط): «يحصل».

(1/149)


فصل (1) «ونحن ننصر (2) ما ذكرناه. فأما أحاديثُ عذاب القبر ومساءلة منكر ونكير، فكثيرةٌ متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما في «الصحيحين» (3) عن ابن عباس أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بقبرين، فقال: «إنهما لَيُعذَّبان، وما يُعذَّبان في كبير. أما أحدُهما فكان لا يستتر (4) من البول، وأما الآخرُ فكان يمشي بالنميمة». ثم دعا بجريدة رَطْبة، فشقَّها نصفين، فقال: «لعله يخفَّفُ عنهما ما لم يَيْبسا». وفي «صحيح مسلم» (5): عن زيد بن ثابت قال: بينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حائط لبني النجار على بغلته، ونحن معه، إذ حادت به، فكادت تلقيه، فإذا أقبُرٌ ستة أو خمسة أو أربعة. فقال: «من يعرف أصحابَ هذه القبور؟» فقال رجل: أنا. قال: «فمتى مات هؤلاء؟» قال: ماتوا في الإشراك. فقال: «إنَّ هذه الأمةَ تُبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوتُ الله أن يُسمِعكم من عذاب القبر الذي أسمعُ منه». ثم أقبل علينا بوجهه، فقال: «تعوَّذوا بالله من عذاب النار». قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. قال (6): «تعوَّذوا بالله من عذاب القبر». قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر. [34 أ] قال: «تعوَّذوا بالله من الفتن ما _________ (1) لا وجود لكلمة «فصل» في (ب، ن، ج) والفتاوى. (2) من (أ، غ). وفي (ب، ط، ن): «نبيّن». وفي الفتاوى: «ونحن نذكر ما يبيِّن ما ذكرناه». وفي (ق): «نضمن». وفي (ز): «نضم». ولعلها تصحيف «ننصر». (3) البخاري (216) ومسلم (292). (4) (ن): «يستبرئ». (5) برقم (2867). (6) «تعوّذوا ... قال» ساقط من (ط).

(1/150)


ظهر منها وما بطن». قالوا: نعوذُ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قال: «تعوَّذوا بالله من فتنة الدجَّال». قالوا: نعوذُ بالله من فتنة الدجَّال. وفي «صحيح مسلم» (1) وجميع السنن (2): عن أبي هريرة أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا فَرَغ أحدُكم من التشهد الأخير، فليتعوَّذ بالله من أربعٍ: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجَّال». وفي «صحيح مسلم» (3) أيضًا وغيره (4): عن ابن عبّاس أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُعلِّمهم هذا الدعاءَ، كما يُعلِّمهم السورةَ من القرآن: «اللهم إنِّي أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذُ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذُ بك من فتنة المسيح الدجَّال». وفي «الصحيحين» (5): عن أبي أيوب قال: خرج النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وقد وجَبت الشمسُ، فسمع صوتًا، فقال: «يهود تُعذَّب في قبورها». وفي «الصحيحين» (6): عن عائشة قالت: دخلتْ عليَّ عجوزٌ من عجائز _________ (1) برقم (588). (2) أخرجه أبو داود (983) والنسائي (1309) وابن ماجه (909). وانظر: الترمذي (3604). (3) برقم (590). (4) «وغيره» ساقط من (ط). وأخرجه أبو داود (1542) والترمذي (3494) والنسائي (2062). (5) البخاري (1375) ومسلم (2869). (6) البخاري (6366) ومسلم (586). وكذا سياق الحديث في مجموع الفتاوى (4/ 286). وفي الصحيحين أن الداخلة على عائشة عجوزان.

(1/151)


يهود المدينة، فقالت: إنّ أهلَ القبور يُعذَّبون في قبورهم. قالت: فكذَّبتُها، ولم أُنعِمْ أن أُصدِّقَها. قالت: فخرجَتْ، ودخل عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ: يا رسول الله، إنَّ عجوزًا من عجائز يهود أهل المدينة دخلتْ، فزعمتْ أنَّ أهلَ القبور يُعذَّبون في قبورهم. قال: «صدقَتْ، إنَّهم يُعذَّبون عذابًا تسمعُه البهائمُ كلُّها». قالت: فما رأيتُه بعدُ في صلاة إلا يتعوَّذ من عذاب القبر. وفي صحيح ابن حِبَّان (1): عن أمِّ مبشِّر قالت: دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يقول: «تعوَّذوا بالله من عذاب القبر» فقلت: يا رسول الله، وللقبر (2) عذاب؟ قال: «إنهم لَيعذَّبون في قبورهم عذابًا تسمعه البهائم». قال بعض أهل العلم (3): ولهذا السبب يذهب الناس بدوابِّهم إذا مَغِلَتْ (4) _________ (1) برقم (3125) من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن أمِّ مبشر. وأخرجه ابن أبي شيبة (12025)، والإمام أحمد (27044) كلاهما عن أبي معاوية به. وإسناده جيد. أبو سفيان هو طلحة بن نافع الواسطي، وأبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 56): «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح». (قالمي). (2) (ب، ط، ج): «أللقبر». (3) مجموع الفتاوى: «بعضهم». وفي تلخيص كتاب الاستغاثة (2/ 590): «وهذا المعنى كنت أذكره للناس، ولم أعلم أحدًا قاله. ثم وجدته قد ذكره بعض العلماء». وانظر: مجموع الفتاوى (4/ 287)، (35/ 139) ومختصر الفتاوى المصرية (314) والبداية والنهاية (12/ 598). (4) المغَل: مَغْص يأخذ الدوابَّ عن أكل التراب (المصباح المنير). ويظهر مما ذكر هنا وفي المصادر السابقة أنه يسبّب الإمساك الشديد.

(1/152)


إلى قبور اليهود والنصارى والمنافقين كالإسماعيلية والنُّصَيرية والقرامطة من بني عُبيد وغيرهم الذين بأرض مصر والشام، فإنَّ أصحاب الخيل يقصدون قبورهم لذلك، كما يقصِدون قبور اليهود والنصارى. قالوا: فإذا سمعت الخيلُ عذاب القبر أحدَثَ لها ذلك فزَعًا وحرارةً تذهب بالمَغَل (1). وقد قال عبد الحقّ الإشبيليُّ (2): حدثني الفقيه أبو الحكم بن بَرَّجان (3) ــ وكان من أهل العلم والعمل ــ أنهم دفنوا ميتًا بقريتهم في شرق (4) إشبيلية. فلما فرغوا من دفنه قعدوا ناحيةً يتحدثون، ودابةٌ ترعى قريبًا منهم، فإذا بالدابَّة قد أقبلت مسرعةً إلى القبر، فجعلت أذنَها عليه، كأنها تستمع (5)، ثم ولَّت فارَّة. ثم عادت إلى القبر، فجعلت أذنها عليه، كأنها تستمع (6)، ثم ولَّت فارة. فعلت ذلك مرة بعد مرة. _________ (1) في تلخيص كتاب الاستغاثة (2/ 590): «فبسبب الرعب الذي يحصل لها تنحلُّ بطونها، فتروث، فإن الفزع يقتضي الإسهال». (2) في كتاب العاقبة (247). (3) عبد السلام بن عبد الرحمن اللخمي الإشبيلي، من أهل المعرفة بالقراءات والحديث. نعته الذهبي بشيخ الصوفية. توفي سنة 536. سير أعلام النبلاء (20/ 72). و «بَرَّجان» ضبط في (ق) بضم الموحدة، وهو خطأ. انظر: وفيات الأعيان (4/ 237). (4) (أ، ق، ج): «شرف». وفي (ن): «سوق». والمثبت من غيرها. وكذا في العاقبة، وتذكرة القرطبي (408). (5) (ق، ن، ز، غ): «تسمع». (6) ما عدا (أ، ج): «تسمع». و «كأنها تستمع» ساقطة من (ب).

(1/153)


قال أبو الحكم: فذكرت عذاب القبر، وقولَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنهم ليعذَّبون عذابًا تسمعه البهائم». ذكَر لنا هذه الحكاية ــ ونحن نسمع عليه «كتاب مسلم» ــ لما انتهى القارئ إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنهم ليعذَّبون عذابًا تسمعه البهائم» (1). وهذا (2) السماع واقع على أصوات المعذَّبين. قال هنَّاد بن السَّرِيّ في كتاب «الزهد» (3): ثنا وكيعٌ، عن الأعمش، عن شَقِيق، [عن مسروق] (4) عن عائشة قالت: دخلتْ عليَّ يهودية، فذكرتْ عذاب القبر، فكذَّبتُها. فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - عليَّ، فذكرتُ ذلك له، فقال: «والذي نفسي بيده، إنّهم ليعذَّبون في قبورهم حتى تسمعَ البهائم أصواتهم» (5). قلتُ (6): وأحاديث المسألة في القبر كثيرة، كما في الصحيحين والسُّنن عن البراء بن عازب أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «المسلم إذا سُئِل في قبره، فيشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فذلك قول الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]». _________ (1) في (ن): «القارئ إلى هذا الحديث». (2) (ق): «فهذا». (3) برقم (347). وأخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده (1416) عن وكيع، به. وإسناده صحيح. (قالمي). (4) ساقط من جميع النسخ، وقد أضفناه من مصادر التخريج. (5) من «وقد قال عبد الحق الإشبيلي ... » إلى هنا لم يرد في مجموع الفتاوى. ولعله إضافة من ابن القيم إلى كلام شيخه. (6) السياق موهمٌ أن القائل هنا ابن القيم، ولكن الكلام الآتي لشيخ الإسلام. وليس في الفتاوى (4/ 287): «قلت».

(1/154)


وفي لفظ: «نزلت في عذاب القبر. يقال له: مَن ربُّك؟ فيقول: ربِّي الله، ونبيِّي محمد (1). فذلك قول الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}» (2). وهذا الحديث قد رواه أهل السنن والمسانيد مطوَّلاً كما تقدّم. وقد صرح في هذا (3) الحديث بإعادة الروح إلى البدن، وباختلاف أضلاعه. وهذا بيِّنٌ في أنّ العذاب على الروح والبدن [35 أ] مجتمعين. وقد روى مثلَ حديث البراء في قبض الروح والمساءلة (4) والنعيم والعذاب أبو هريرة ــ وحديثُه في المسند وصحيح أبي حاتم (5) ــ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الميّت إذا وُضِع في قبره إنّه يسمع خفق نعالهم حين يولُّون _________ (1) (أ، ق، غ): «الله ربي، ومحمد نبيّي». (2) أخرجه البخاري (4699)، ومسلم (2871)، وأبو داود (4750)، والترمذي (3120)، والنسائي (2057)، وابن ماجه (4269) من حديث سعد بن عبيدة، عن البراء بن عازب رضي الله عنه. وهو عند البخاري وأبي داود بنحو اللفظ الأول. وعند الآخرين بنحو اللفظ الثاني. (قالمي). (3) لم يرد «هذا» في (ب، ط، ز، ج). (4) رسمها في النسخ: «المسايلة». (5) أخرجه أحمد (8563) مختصرًا، وابن حبان (3113)، والحاكم (1/ 379 ــ 380) من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وأخرجه من هذا الوجه ابن أبي شيبة (12062)، وعبد الرزاق (6703)، والطبراني في الأوسط (2630) وغيرهم. وصححه الحاكم على شرط مسلم. وقال الهيثمي في المجمع (3/ 52): «رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن». وهو كما قال. (قالمي).

(1/155)


عنه، فإن كان مؤمنًا كانت الصلاة عند رأسه، والصيام عن يمينه، والزكاة عن شماله، وكان فعلُ الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان عند رجليه. فيؤتَى من قِبَل رأسه، فتقول الصلاة: ما قِبَلي مدخل. ثم يؤتى من يمينه، فيقول الصيام: ما قِبَلي مدخل. ثم يؤتى عن يساره، فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل. ثم يؤتى من قِبَل رجليه، فيقول فِعْلُ الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان: ما قِبَلي مدخل. فيقول له (1): اجلِسْ. فيجلس، قد مُثِّلتْ له الشمسُ، وقد آضَتْ (2) للغروب. فيقال له: هذا الرجلُ الذي كان فيكم، ما تقول فيه؟ وما تشهد به عليه؟ فيقول: دعوني حتى أصلِّي (3). فيقولون: إنك ستصلِّي، أخبِرْنا عَمّا نسألك عنه. أرأيت هذا الرجلَ الذي كان فيكم، ما تقول فيه؟ وماذا تشهد عليه؟ فيقول: محمدٌ، أشهد أنَّه رسول الله، جاء بالحقّ من عند الله. فيقال له: على ذلك حَيِيتَ، وعلى ذلك مِتَّ، وعلى ذلك تُبعَث إن شاء الله. ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيقال له: هذا مقعدك وما أعدَّ الله لك فيها. فيزداد غبطةً وسرورًا. ثم يُفسَح له في قبره سبعون ذراعًا، وينَّور له فيه، ويعاد الجسد لما بُدِئ منه، وتُجعل نَسَمتُه في النَّسَم الطيِّب، وهي طير يعلُق (4) في _________ (1) «له» ساقط من (ط). (2) كذا في جميع النسخ. وفي مجموع الفتاوى: «أصغت». وفي كتاب ابن حبان: «أُدنيت». وفي بعض المصادر: «تدانت أو دنت». وآضت: عادت. (3) (ب، ط، ج): «دعوني أصلي». (4) (ب، ط، ج): «تعلق». وقد سبق تفسيره.

(1/156)


شجر الجنة». قال: «فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}». وذكر في الكافر ضدَّ ذلك إلى أن قال: «ثم يُضَيَّق عليه في قبره إلى أن تختلِفَ فيه أضلاعه، فتلك المعيشةُ الضَّنْكُ التي قال الله: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]» (1). وفي الصحيحين (2) من حديث قتادة، عن أنس أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ الميت إذا وُضِع في قبره، وتولَّى عنه أصحابُه [35 ب] ــ إنّه ليَسمع خفقَ نعالهم ــ أتاه ملكان فيقرِّرانِه (3)، فيقولان له: ما كنتَ تقول في هذا الرجل محمد؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله». قال: «فيقول (4): انظر إلى مقعدك من النار، قد أَبْدَلَك الله به مقعدًا من الجنة». قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فيراهما جميعًا». قال قتادة: وذُكِر لنا أنَّه يُفسَح له في قبره سبعون ذراعًا، ويُملأ عليه خَضِرًا إلى يوم يبعثون. ثم رجع إلى حديث أنس. قال: «فأمّا (5) الكافرُ _________ (1) ثم ساق شيخ الإسلام حديث البراء بطوله، ثم ذكر حديث أنس الآتي وما بعده. مجموع الفتاوى (4/ 292 ــ 295). (2) البخاري (1374) ومسلم (2870). (3) (ق): «فيقعدانه». وهو لفظ الصحيحين. وفي النسخ الأخرى كلها ومجموع الفتاوى ما أثبتنا. (4) كذا في جميع النسخ والفتاوى. وغيَّره بعض القراء في (ن) إلى «فيقولان». وفي الصحيحين: «فيقال له». (5) (ب، ط، ج): «وأما».

(1/157)


والمنافق فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس. فيقولان: لا دريْتَ ولا تَلَيْتَ! ثم يُضرَب بمطراقٍ من حديد بين أذنيه، فيصيح صيحةً، فيسمعُها مَن عليها غيرَ الثقَلَين». وفي صحيح أبي حاتم (1)، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا قُبِر أحدُكم أو الإنسان أتاه ملَكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكَرُ، والآخر: النَّكير، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ فهو قائلٌ ما كان يقول. فإن كان مؤمنًا قال: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله. فيقولان له: إنْ كنّا لَنَعلمُ أنّك تقول ذلك. ثم يُفسَح له في قبره سبعون ذراعًا في سبعين ذراعًا، وينَّور له فيه، ويقال له: نَمْ. فيقول: أرجعُ إلى أهلي ومالي، فأُخبِرهم! فيقولان: نَمْ كنَومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحبُّ أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك. وإن كان منافقًا قال: لا أدري، كنتُ اسمع الناس يقولون شيئًا، فكنتُ أقوله. فيقولان له: كنَّا نعلم أنَّك تقول ذلك. ثم يقال للأرض: التَئِمي عليه. فتلتئم (2) عليه، حتى تختلفَ فيها أضلاعه. فلا يزال معذّبًا حتى يبعثَه الله من مضجعه ذلك». _________ (1) برقم (3117) من طريق عبد الرحمن بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة. وأخرجه من هذا الوجه الترمذي (1071)، وابن أبي عاصم في السنة (864)، والآجري في الشريعة (858)، والبيهقي في إثبات عذاب القبر (56). وقال الترمذي: «حسن غريب». وينظر: السلسلة الصحيحة (1391). (قالمي). (2) رسم الفعلين في النسخ: التامي، تلتيم.

(1/158)


وهذا صريح في أنَّ البدن يُعذَّب (1). وعن أبي هريرة أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا حُضِرَ المؤمنُ (2) أتته الملائكة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي أيتها الروح الطيّبة راضيةً مرضيًّا عنكِ [36 أ] إلى رَوحٍ ورَيحانٍ وربٍّ غيرِ غضبان. فتخرج كأطيب ريح المسك، حتّى إنّه ليناولُه بعضهُم بعضًا، حتّى يأتوا به بابَ السماء، فيقولون: ما أطيبَ هذه الريحَ التي جاءتكم من الأرض! فيأتون به أرواحَ المؤمنين، فلَهم أشدُّ فرحًا به من أحدكم بغائبه يقدَمُ عليه. فيسألونه: ماذا فعل فلان؟» قال: «فيقولون: دَعُوه يستريح، فإنه كان في غمِّ الدنيا. فإذا قال: أتاكم (3)، فيقولون: إنه ذُهِب به إلى أمه الهاوية (4). وإنّ الكافر إذا احتُضِر أتته ملائكة العذاب بمِسْحٍ، فيقولون: اخرجي مسخوطًا عليك إلى عذاب الله! فتخرج كأنتَنِ ريحِ جيفةٍ، حتى (5) يأتوا به بابَ الأرض، فيقولون: ما أنتنَ هذه الروحَ! حتى يأتوا به أرواحَ الكفار». رواه النسائي، والبزار، ومسلم مختصرًا (6). _________ (1) لفظ شيخ الإسلام: «وهذا الحديث فيه اختلاف أضلاعه وغير ذلك، مما يبيِّن أن البدن نفسه يعذَّب». فاختصره المصنف كما ترى. (2) أي حضره الموت. وفي (ق): «احتضر». (3) (ب، ط، ج): «إنه أتاكم». (4) «فإذا قال ... الهاوية» ساقط من (ن). (5) «حتى» ساقطة من (ن). (6) أخرجه النسائي (1833)، والبزار (8219)، وابن حبان (3014)، والحاكم (1/ 353) من طريق هشام الدستوائي، عن قتادة، عن قسامة بن زهير، عن أبي هريرة. وأخرجه الحاكم أيضًا من طريق معمر، عن قتادة، به. وصحَّح إسناده الحافظ العراقي في المغني عن حمل الأسفار (4392). وقال الحاكم: «وقال همام بن يحيى عن قتادة عن أبي الجوزاء عن أبي هريرة». يشير بذلك إلى الاختلاف على قتادة، وما رواه عنه معمر وهشام هو الأشبه بالصواب، ولا يمنع أن يكون فيه لقتادة شيخان؛ لأن قتادة واسع الرواية وهو ممن تدور عليه الأسانيد. وحديث همام أخرجه ابن حبان (3013) وهو الحديث التالي عند المصنف. وحديث أبي هريرة هذا سبق تخريجه بسياق أطول من رواية سعيد بن يسار، عنه. (قالمي).

(1/159)


وأخرجه أبو حاتم في صحيحه (1) وقال: «إن المؤمن إذا حضره الموتُ حضرته ملائكة الرحمة. فإذا قُبض جُعلت (2) روحه في حريرة بيضاء، فيُنطلَق بها إلى باب السماء، فيقولون: ما وجدنا (3) ريحًا أطيب من هذه. فيقال: ما فعل فلان؟ ما فعلت فلانة؟ فيقال: دعوه يستريح (4)، فإنَّه كان في غمِّ الدنيا. وأما الكافر إذا (5) قُبضت نفسُه (6) ذُهب بها إلى الأرض، فتقول خَزَنة الأرض: ما وجدنا ريحًا أنتنَ من هذه، فيُبلغ بها إلى الأرض السفلى» (7). _________ (1) سبق تخريجه في الحاشية السابقة. (2) (ب، ط، ج): «وضعت». (3) (ب، ط): «رحنا». (4) «يستريح» ساقط من (ط). (5) (ب، ط، ج): «فإذا». (6) (ن): «روحه». (7) هنا انتهى ما نقله المصنف من كلام شيخه. انظر: مجموع الفتاوى (4/ 295). وفيما بعده إلى آخر الفصل كأنه اعتمد في سياق الأحاديث على تذكرة القرطبي (323 ــ 325).

(1/160)


وروى النسائي في سننه (1) من حديث عبد الله بن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «هذا الذي تحرَّك له العرش، وفُتِحت له أبوابُ السماء، وشهد له سبعون ألفًا من الملائكة، لقد ضُمَّ ضَمَّةً، ثم فُرِّج عنه». قال النسائي: يعني سعد بن معاذ (2). ورَوَى (3) من حديث عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «للقبر ضغطةٌ لو _________ (1) برقم (2055) عن إسحاق بن إبراهيم (هو ابن راهويه)، عن عمرو بن محمد العنقزيّ، عن عبد الله بن إدريس، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرجه من هذا الوجه أيضًا الطبراني في الكبير (1707) والأوسط (5333). وقال: «لم يرو هذا الحديث عن عبيد الله إلا ابن إدريس». وإسناده صحيح. رجاله رجال الصحيح. وينظر: السلسلة الصحيحة (1695). (قالمي). (2) لم أجده في السنن. وقال السيوطي في شرحه: «زاد البيهقي في كتاب عذاب القبر [109]: يعني سعد بن معاذ». ولكن كذا وقع في تذكرة القرطبي (323)، فلعله وهم في عزو ما قاله البيهقي إلى النسائي، وتابعه المصنف. (3) ضبط في (ب): «رُوي». ولكن قال المصنف فيما بعد: «رواه». والسياق موهمٌ أن هذا الحديث أيضًا رواه النسائي. والمصنف صادر عن تذكرة القرطبي، والقرطبي صادر عن كتاب العاقبة (244). والسياق في العاقبة: «وذكر النسائي عن ابن عمر ... ومن حديث شعبة بن الحجاج بإسناده إلى عائشة أم المؤمنين ... وذكر مسلم من حديث عبد الله بن عمر». فذكرُ حديث شعبة بعد النسائي وقبل مسلم قد يُوهم أن حديث شعبة أيضًا من كتاب النسائي. وسياق القرطبي في التذكرة (323): «النسائي عن عبد الله بن عمر ... ومن حديث شعبة ... » إلخ. فتابع عبد الحق بالنص. وليس فيه تصريح بأن حديث شعبة رواه النسائي، خلافًا لابن القيم الذي تصرَّف في النقل، فقال: «رواه من حديث شعبة»، فصرَّح بأنه رواه النسائي، إذ لا مرجع للضمير غيره؛ إلا أن يقال: إن الفاعل سقط من النسخ، وكان في أصل المصنف مثلاً: «رواه [أحمد] من حديث شعبة». والله أعلم.

(1/161)


نجا منها أحد لنجا منها سعدُ بن معاذ». رواه من حديث شعبة (1). وقال هنَّاد بن السَّرِيّ (2): حدثنا محمد بن فُضَيل، عن أبيه، عن ابن أبي مُليَكة قال: ما أُجِيرَ من ضغطة القبر أحدٌ، ولا سعدُ بن معاذ الذي منديلٌ من مناديله خيرٌ من الدنيا وما فيها. _________ (1) أخرجه البغوي في الجعديات (1566)، وابن جرير الطبري في تهذيب الآثار (897 ــ مسند عمر بن الخطاب)، وابن حبان (3112)، والبيهقي في شعب الإيمان (396)، وفي إثبات عذاب القبر (119، 120) من طرق عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن نافع، عن صفية امرأة ابن عمر، عن عائشة. وأخرجه الإمام أحمد (24283) من طريقين عن شعبة، فقال في الأولى: «عن نافع عن عائشة» ولم يذكر الواسطة، وقال في الأخرى: «عن إنسان عن عائشة» ولم يسمه. وقال الحافظ العراقي في تخريجه أحاديث الإحياء (4466): «رواه أحمد بإسناد جيد». ولكن علم من رواية الجماعة عن شعبة أن نافعًا يرويه عن عائشة بواسطة صفية امرأة ابن عمر. وإسناده صحيح. رجاله رجال الصحيح. (قالمي). (2) في كتاب الزهد (356).

(1/162)


قال (1) [36 ب]: وحدثنا عَبْدة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع قال: لقد (2) بلغني أنه شهد جنازة سعدِ بن معاذ سبعون ألفَ ملَك لم ينزلوا إلى الأرض قطُّ. ولقد بلغني أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقد ضُمَّ صاحبُكم في القبر ضمَّةً». وقال علي بن معبد (3): حدّثنا عبيد الله، عن زيد (4) بن أبي أُنَيْسة، عن جابر، عن نافع قال: أتينا صفيةَ بنت أبي عبيد امرأةَ عبد الله بن عمر، وهي فَزِعةٌ (5)، فقلنا: ما شأنُك؟ فقالت: جئت من عند بعض نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحدَّثتني أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنْ كنت لأرى لو أنَّ أحدًا أُعْفِيَ من عذاب القبر لعُوفيَ (6) منه سعدُ بن معاذ. لقد ضُمَّ فيه ضَمَّةً» (7). _________ (1) في كتاب الزهد (358). ورجاله ثقات ولكنه مرسل. وعبدة هو ابن سليمان الكلابي الكوفي. (قالمي). (2) «لقد» ساقط من الأصل. (3) في (ب، ن): «علي بن سعيد». وهو تحريف. والآثار الثلاثة الآتية خرَّجها القرطبي في التذكرة (324) من كتاب «الطاعة والمعصية» لعلي بن معبد، غير أنه حذف أسانيدها. أما المصنف فساقها بأسانيدها ولكن لم يصرّح باسم الكتاب. وهو علي بن معبد بن شدَّاد العبدي أبو الحسن ــ ويقال: أبو محمد ــ الرَّقِّي نزيل مصر. توفي سنة 218. انظر: تهذيب التهذيب (7/ 384). وكتابه «الطاعة والمعصية» ذكره ابن خير في فهرسته (272) وابن حجر في المعجم المفهرس (92). (4) (أ، ن): «يزيد»، تحريف. (5) (ق): «خزاعة». (6) في جميع النسخ والتذكرة هنا: «لعفي»، ولعله تصحيف سماعي لما أثبتنا من الأوسط للطبراني (1159) وحلية الأولياء (3/ 174). (7) أخرجه الطبراني في الأوسط (1159) قال: حدثنا أحمد (هو ابن داود المكي) ثنا عبيد الله (هو ابن عمرو الرقي) بإسناده. وفيه جابر وهو ابن يزيد الجعفي وهو متروك. وقال الهيثمي في المجمع (3/ 47): «وهو مرسل وفي إسناده من لم أعرفه». كذا قال! ولم يتبين لي وجه الإرسال فيه؛ لأنه من رواية نافع عن صفية، عن بعض زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا إذا كان على مذهب من يسمي حديث الصحابي المبهم مرسلاً كالبيهقي وغيره. وقد سبق في رواية سعد بن إبراهيم أنّ نافعًا يرويه عن صفية، عن عائشة رضي الله عنها. وقوله رحمه الله: «وفي إسناده من لم أعرفه» كذا ولعله يعني شيخ الطبراني وإلا فرواته معروفون بالثقة سوى جابر الجعفي فهو معروف بالضعف. والله أعلم. (قالمي).

(1/163)


وحدثنا مروان بن معاوية، عن العلاء بن المسيّب، عن معاوية العبسي، عن زاذان أبي عمر (1)، قال: لما دَفَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنتَه جلس عند القبر، فتربَّد وجهُه، ثم سُرِّي عنه. فقال له أصحابه: رأينا وجهك آنفًا، ثم سُرِّي عنك. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ذكرت ابنتي وضعْفَها وعذابَ القبر، فدعوت الله، ففرَّج عنها. وَايم الله لقد ضُمَّت ضَمَّةً سمعها مَن بين الخافقين» (2). _________ (1) (ب): «أبي عمرو». (ز): «بن عمر». وفي غيرهما: «بن عمرو». والصواب ما أثبتنا. وكذا في التذكرة. (2) أخرجه سعيد بن منصور في سننه كما في اللآلئ المصنوعة (2/ 434) عن مروان بن معاوية بإسناده. ومن طريق سعيد بن منصور أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1518)، وفي الموضوعات (3/ 233). وهو مرسل، زاذان أبو عمر ذكره ابن سعد في الطبقات (6/ 178) في الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة، وقال: «كان ثقة قليل الحديث»، ووثقه أيضًا ابن معين والخطيب وغيرهما. (انظر: تهذيب التهذيب 3/ 303). وأما معاوية العبسي فلم أظفر له بترجمة. وله شاهد من حديث أنس. أخرجه الطبراني في الأوسط (5810) من طريق زكريا بن سلام، عن سعيد بن مسروق عن أنس. قال الحافظ ابن رجب في أهوال القبور (ص 116): «وزكريا قيل: إنه مجهول، وسعيد بن مسروق لم يُدرك أنسًا فهو منقطع». وله طريق أخرى من رواية الأعمش، لكن اختُلف عليه كثيرًا كما شرح ذلك أبو الحسن الدارقطني في العلل (12/ 251) ثم قال: «والحديث مضطرب عن الأعمش». ونقله عنه ابن الجوزي في الموضوعات وقال: «هذا حديث لا يصح من جميع طرقه». (قالمي).

(1/164)


وحدثنا شعيب، عن ابن دينار (1)، عن إبراهيم الغنَوي، عن رجل قال: كنت عند عائشة، فمرَّت جنازة صبيٍّ، فبكت، فقلت لها: ما يُبكيكِ يا أمَّ المؤمنين؟ فقالت: هذا الصبي بكيتُ له شفقةً عليه من ضمَّة القبر. ومعلوم أنَّ هذا كلَّه للجسد (2) بواسطة الروح. فصل وهذا كما أنَّه مقتضَى السنّة الصحيحة، فهو متفق عليه بين أهل السنة. قال المرُّوذي: قال أبو عبد الله: عذابُ القبر حقٌّ لا ينكره إلا ضالٌّ مُضِلّ (3). وقال حنبل: قلت لأبي عبد الله في عذاب القبر، فقال: هذه أحاديثُ _________ (1) في (ب، ط، ج): «سعيد» موضع «شعيب». وفي (ن): «حدثنا سعيد بن دينار». وعزاه ابن رجب في الأهوال (61) إلى هناد بن السري عن سعيد بن دينار. ولم أجده في كتاب الزهد لهناد. (2) «للجسد» ساقط من (ط). (3) طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 149).

(1/165)


صحاحٌ نؤمن بها، ونُقِرُّ بها. كلُّ ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إسنادُه جيِّدٌ (1) أقررنا به. إذا لم نُقِرَّ بما جاء به الرسول، ودفَعناه، وردَدْناه= رددنا على الله أمرَه. قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]. قلت له: وعذابُ القبر حقٌّ؟ قال: حقٌّ، يعذَّبون في القبور. قال (2): وسمعت أبا عبد الله يقول: نؤمن بعذاب القبر وبمنكر ونكير، وأنَّ العبد يُسأل في قبره فـ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} في القبر (3). وقال أحمد بن القاسم (4): قلتُ: يا أبا عبد الله، تُقِرُّ بمنكر ونكير، وما يروَى في عذاب القبر؟ فقال: سبحان الله! نعم، نُقِرُّ بذلك، ونقوله. قلت: هذه اللفظة نقول (5): «منكَر ونكير» هكذا، أو نقول ملكين؟ قال: منكر ونكير. قلت: يقولون ليس في حديثٍ منكر ونكير. قال: هو هكذا. يعني: أنهما منكر ونكير. _________ (1) في النسخ كلها ما عدا (ن): «إسنادٌ جيِّدٌ». وقد ضبط في الأصل بتنوين الكلمتين. وكذا نقله من كتاب الروح المنبجي في تسلية أهل المصائب (285) والسفاريني في لوامع الأنوار (2/ 23). ولعل صوابه ما أثبتناه من حادي الأرواح للمصنف (708). وفي (ن): «بإسناد جيد». وكذا في مجموع الفتاوى (6/ 500) في جواب أبي عبد الله عن سؤال حنبل في مسألة الرؤية. وفي كتاب اللالكائي (889): بأسانيد جيدة. (2) نقله المنبجي في تسلية المصائب (285) والسفاريني في لوامع الأنوار (2/ 23). (3) «في القبر» ساقط من (ن). وقد سبق أن الآية نزلت في عذاب القبر. (4) ذكره بنحوه ابن أبي يعلى في ترجمته في طبقات الحنابلة (1/ 135). (5) كذا في (ط، ع) بالنون «نقول» هنا وفيما بعد. وفي غيرهما لم ينقط.

(1/166)


وأما أقوال أهل البدع والضلال (1)، فقال أبو الهُذَيل والمَرِيسي (2): من خرج عن سمَة الإيمان فإنه يعذَّب بين النفختين، والمسألةُ في القبر إنما تقع في ذلك الوقت. وأثبت الجُبَّائي وابنه (3) والبَلْخي (4) عذاب القبر، ولكنهم نفَوْه عن المؤمنين، وأثبتوه لأصحاب التخليد من الكفار (5) والفُسَّاقِ على أصولهم. _________ (1) هذه الأقوال إلى آخر الفصل منقولة من كتاب التذكرة للقرطبي (378 ــ 380). وانظر: المواقف للإيجي (3/ 517). (2) كذا في جميع النسخ. وفي تذكرة القرطبي ــ وهو مصدر المؤلف ــ: «بِشْر». والمقصود به: بِشر بن المعتمر الهلالي. وقد صرَّح بذلك الآمدي في أبكار الأفكار (الآيات البينات: 87) والعضد في المواقف (3/ 517). ولكن ابن القيِّم توهَّم أن المراد: بِشر بن غياث المريسي، فتصرَّف في نقل كلام القرطبي، وكتب مكان «بشر»: «المريسي» مع أنَّ القرطبي ميَّز بينهما. فذكر ابن المعتمر باسمه «بشر» في أول الفقرة، وذكر ابن غياث في آخرها باسمه ونسبه: «بشر المريسي». أضف إلى ذلك أن السياق يأبى أن يراد هنا المريسي، فإن القرطبي نقل أولاً أقوال طائفة من المعتزلة القائلين بعذاب القبر، ومنهم أبو الهذيل وبشر، ثم قال: «وأما الباقون من المعتزلة ... فإنهم أنكروا عذاب القبر أصلاً». وذكر من هؤلاء «بشرًا المريسي». فلا يعقل أن يكون المريسي منكرًا لعذاب القبر أصلاً وقائلاً به في وقت واحد. (3) الجبَّائي محمد بن عبد الوهاب (ت 303) وابنه عبد السلام (ت 321). ترجمتهما في طبقات المعتزلة (80، 94). (4) عبد الله بن أحمد البلخي الكعبي، رأس الفرقة الكعبية (ت 319). ترجمته في المصدر السابق (88). (5) في (ط، ج): «في النار» مكان «من الكفار».

(1/167)


وقال كثير من المعتزلة: لا يجوز تسمية ملائكة الله بمنكَر ونكير، وإنّما المنكَر: ما يبدو من تلجلجه إذا سئل؛ والنكير: تقريعُ الملكين له. وقال الصالحي (1) وصالح قُبَّة (2): عذاب القبر يجري على المؤمن من غير ردِّ الأرواح إلى الأجساد، والميتُ يجوز أن يأْلَم ويُحِسَّ ويعلمَ بلا روح. وهذا قول جماعة من الكرَّامية. وقال بعض المعتزلة: إن الله سبحانه يعذِّب الموتى في قبورهم، ويُحدِثُ فيهم الآلام، وهم لا يشعرون. فإذا حُشروا وجدوا تلك الآلام، وأحسُّوا بها. قالوا: وسبيل المعذَّبين من الموتى كسبيل السكران والمغشيّ عليه، لو ضُرِبوا لم يجدوا الألم، فإذا عاد إليهم العقل أحسُّوا بألم الضرب. وأنكر جماعة منهم عذاب القبر رأسًا مثل ضِرار بن عمرو (3). ويحيى بن كامل (4)، وهو قول المَريسي. _________ (1) في (ب، ط، ن، ج): «الصنابحي». والصواب ما أثبتنا من غيرها والتذكرة. وهو أبو الحسين محمد بن مسلم الصالحي، رأس الفرقة الصالحية، من قدماء المعتزلة. انظر: طبقات المعتزلة (72). (2) في جميع النسخ الخطية ما عدا (ن، ز): «فيه»، وكذا في المطبوعة. وفي (ن، ز): «فتنة». وكلاهما تصحيف. والصواب ما أثبتنا من التذكرة. وقد أشار الأستاذ بسام العموش إلى احتمال هذا التصحيف في نشرته للروح (297)، ولكنه لم يكن على بينة منه فلم يثبته في المتن. وانظر في صالح قبَّة: طبقات المعتزلة (73) ومقالات الإسلاميين (406 ــ 407) وفيه سبب تلقيبه. (3) رأس الفرقة الضرارية. ترجمته في الفهرست (214) وسير أعلام النبلاء (10/ 544). (4) كان من أصحاب المريسي ومن المرجئة ثم انتقل إلى مذهب الإباضية. الفهرست (233).

(1/168)


فهذه أقوال أهل الحَيْرة والضلالة (1). فصل ومما ينبغي أن يُعلم أنَّ عذاب القبر هو عذاب البرزخ. فكلُّ من مات، وهو مستحِقٌّ للعذاب، ناله نصيبه منه، قُبر أو لم يُقبر. فلو أكلته السباع، أو أُحرِق حتى صار رمادًا، أو نُسِف في الهواء، [37 ب] أَو صُلِب، أو غَرِق في البحر= وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور (2). وفي «صحيح البخاري» (3) عن سَمُرة بن جُنْدُب قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلَّى صلاةً أقبل علينا بوجهه، فقال: «من رأى منكم الليلة رؤيا؟» قال: فإن رأى أحدٌ رؤيا قصَّها. فيقول ما شاء الله. فسألنا يومًا، فقال: «هل رأى أحد منكم رؤيا؟» قلنا: لا. قال: «لكنّي رأيتُ الليلةَ رجلين أتياني، فأخذا بيدي، وأخرجاني إلى الأرض المقدَّسة. فإذا رجل جالس، ورجل قائم، بيده كَلُّوبٌ من حديد، يُدخله في شِدْقِه حتى يبلغ قفاه، ثم يفعل بشِدقه الآخرِ مثلَ ذلك، ويلتئم شِدقه هذا، فيعود، فيصنع مثله. قلتُ: ما هذا؟ قالا: انطِلْق. فانطلقنا حتى أتَيْنا على رجلٍ مضطجع على قَفاه، ورجلٌ قائمٌ على رأسه بصخرة أو فِهْر، فيشدَخ بها رأسَه. فإذا ضربه تدَهْدَهَ الحجر، فانطلقَ إليه _________ (1) (ن، ز): «الضلال». (2) في (ق، ز) والنسخ المطبوعة: «القبور»، تحريف. وانظر «الأمر الثامن» في المسألة الآتية. (3) برقم (1386).

(1/169)


ليأخذه، فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسُه، وعاد رأسه كما هو، فعاد إليه، فضربه. قلتُ: ما هذا؟ قالا: انطلِق. فانطلقنا إلى نَقْبٍ مثل التنّور، أعلاه ضيِّق، وأسفلُه واسع، يوقَد تحته نارٌ (1). فإذا فيه رجالٌ ونساءٌ عراةٌ. فيأتيهم اللهب من تحتهم، فإذا اقترب (2) ارتفعوا حتى كادوا يخرجوا (3)، فإذا خمدت رجعوا. فقلت: ما هذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا، حتى أتينا على نهر من دمٍ، فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة. فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمَى الرجلُ بحجرٍ في فيه، فردَّه حيث كان. فجَعل كلَّما جاء ليخرج رمَى في فيه بحجر، فرجع كما كان. فقلت: ما هذا، قالا: انطلق. فانطلقنا حتى انتهينا إلى روضة خضراءَ، فيها شجرةٌ عظيمة، وفي أصلها شيخ وصبيان. وإذا رجل قريب من الشجرة، بين يديه نارٌ يوقدها. فصعدا بي الشجرة، وأدخلاني دارًا لم أرَ قط أحسنَ منها، فيها شيوخ وشبَّان (4). ثم صعدا بي فأدخلاني دارًا هي أحسن وأفضل. _________ (1) (ق): «نارًا». (2) (ب، ط): «ضرمت». (ن): «أضرمت». (3) كذا في الأصل وغيره ما عدا (ط، ز) والنون حذفت للتخفيف. وقد يكون المؤلف أثبت «كاد أن يخرجوا» كما في الصحيح، فأخطأ الناسخ. وفي (ط، ز): «يخرجون». (4) في الصحيح: «رجال شيوخ وشباب ونساء وصبيان».

(1/170)


قلت [38 أ]: طَوَّفْتُماني (1) الليلة، فأخبِراني عما رأيتُ. قالا: نعم. الذي رأيتَه يُشَقُّ شِدقُه كذَّاب يحدِّث بالكَذْبة، فتُحمَل عنه حتَّى تبلغ الآفاق؛ فيُصنَع به إلى القيامة. والذي رأيته يُشدَخ رأسُه، فرجلٌ علَّمه الله القرآن، فنام عنه بالليل، ولم يعمل به في النهار؛ يُفعل به إلى يوم القيامة. وأما الذي رأيت في النَّقْب فهم الزناة. والذي رأيتَه في النهر فآكلُ الربا. وأما الشيخ الذي في أصل الشجرة فإبراهيم، والصبيانُ حوله فأولاد الناس، والذي يوقِد النار فمالكٌ خازُن النار. والدارُ الأولى دار عامَّة المؤمنين، وأما هذه الدار فدار الشهداء. وأنا جبريل، وهذا ميكائيل، فارفع رأسك. فرفعتُ رأسي، فإذا قصر مثلُ السحابة. قالا: ذاك منزلك، قلت (2): دَعاني أدخلْ منزلي، قالا: إنه بقي لك عمر لم تستكمله، فلو استكملتَه أتيتَ منزلك». وهذا نصٌّ في عذاب البرزخ، فإنَّ رؤيا الأنبياء وَحْي مطابق لما في نفس الأمر. وقد ذكر الطحاوي (3) عن ابن مسعود عن (4) النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُمِر بعبد _________ (1) (ب، ط): «طُفتمابي». (2) (ب، ط، ج): «فقلت». (3) في مشكل الآثار (3185) قال: حدثنا فهد بن سليمان، ثنا عمرو بن عون الواسطي، ثنا جعفر بن سليمان، عن عاصم، عن شقيق، عن ابن مسعود. ورجاله ثقات غير عاصم هو ابن أبي النجود وهو صدوق له أوهام، حجة في القراءة، وحديثه في الصحيحن، كما في التقريب. وجوَّد إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة (2774). (قالمي). والمصنف صادر عن تذكرة القرطبي. (الإصلاحي). (4) ما عدا (أ، ق، غ): «أنَّ».

(1/171)


من عباد الله أن يُضرَب في قبره مائة جلدة. فلم يزل يسألُ الله ويدعوه حتى صارت واحدة (1)، فامتلأ قبره عليه (2) نارًا. فلما ارتفع عنه أفاق، فقال: علاَم جلدتموني؟ قالوا: إنّك صلَّيت صلاة بغير طهور، ومررت على مظلوم فلم تنصره». وقد ذكر البيهقي (3) حديث الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي _________ (1) في (ب، ط) زيادة: «فضرباه». وفي مشكل الآثار مكانها: «فجُلد جلدة واحدة». (2) (أ): «عليه قبره». (3) في دلائل النبوة (679) والمصنف صادر عن تذكرة القرطبي (401). (الإصلاحي). أخرجه البيهقي من طريق أبي جعفر الرازي وهو عيسى بن ماهان، عن الربيع بن أنس، بطوله. ومن هذا الوجه أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (13184)، وابن جرير الطبري في تفسيره (14/ 424 ــ 435)، والبزار (55 ـ كشف الأستار). إلا أنه وقع عند ابن أبي حاتم والبزار الشك في شيخ الربيع بن أنس أو غيره. ووقع عند الطبري الشك في الصحابي: «عن أبي هريرة أو غيره» وزاد: «شك أبو جعفر» يعني عيسى بن ماهان الرازيّ. قال البزار: «وهذا لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد من هذا الوجه». وفي إسناده أبو جعفر الرازي واسمه عيسى بن أبي عيسى عبد الله بن ماهان، صدوق سيئ الحفظ كما في التقريب، ومن سوء حفظه شكّه في التابعي هل هو أبو العالية الرياحي واسمه نُفيع بن مهران وهو ثقة من رجال الجماعة أو غيره فيكون مجهولاً. ولذلك قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 72) ــ بعد أن عزاه للبزار ــ: «رجاله موثقون إلا أن الربيع بن أنس، قال: عن أبي العالية أو غيره، فتابعيه مجهول». والحديث أورده ابن كثير في تفسيره (5/ 32 ــ 38) عن الطبري بطوله ثم قال عقبه: «أبو جعفر الرازي قال فيه الحافظ أبو زرعة الرازي: يَهِم في الحديث كثيرًا، وقد ضعَّفه غيره أيضًا، ووثقه بعضهم، والأظهر أنه سيئ الحفظ ففيما تفرد به نظر. وهذا الحديث في بعض ألفاظه غرابة ونكارة شديدة، وفيه شيء من حديث المنام من رواية سمرة بن جندب في المنام الطويل عند البخاري، ويشبه أن يكون مجموعًا من أحاديث شتى، أو منام أو قصة أخرى غير الإسراء، والله أعلم». (قالمي).

(1/172)


هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} الآية [الإسراء: 1]، قال: «أُتي بفرس، فحُمل عليه». قال: «كلُّ خطوة منتهى أقصى بصره. فسار، وسار معه جبريلُ، فأتَى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلَّما حصدوا عاد كما كان، فقال: يا جبريل مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء المهاجرون (1) في سبيل الله، يُضاعَف لهم الحسنةُ بسبعمائة {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]. ثم أتى على قوم تُرضَخ رؤوسهم بالصخر، كلَّما رُضِخت عادت [38 ب] كما كانت، لا يُفَتَّرُ عنهم شيءٌ من ذلك. قال: يا جبريل مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل (2) رؤوسهم عن الصلاة. قال: ثم أتى على قوم، على أقبالهم رِقاعٌ، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام على الضَّريع، والزَّقُّوم، ورَضْفِ (3) جهنَّم، وحجارتها. قال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدُّون صدقات أموالهم. وما ظلمهم الله، وما الله بظلام للعبيد. _________ (1) ما عدا (أ، ق): «المجاهدون». وقد غيَّر بعضهم في (ب) «المهاجرون» إلى «المجاهدون». وفي الدلائل ما أثبتنا. (2) (ب، ط، ن، ج): «تنام». (3) ما عدا (ب، ط): «وصف»، تصحيف. والرضف: الحجارة التي حميت بالشمس أو النار.

(1/173)


ثم أتى على قوم، بين أيديهم لحمٌ من (1) قِدْر نضيج، ولحم آخر خبيث. فجعلوا يأكلون من الخبيث، ويدَعُون النضيج الطيب. فقال: يا جبريل مَن هؤلاء؟ قال: هذا الرجل يقوم، وعنده امرأة حلالاً طيبًا (2)، فيأتي المرأةَ الخبيثة، فتبيتُ معه حتى تصبح. ثم أتى على خشبة على الطريق، لا يمرُّ بها شيء إلا قصَفَتْه. يقول الله تعالى: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} [الأعراف: 86]. ثم مرَّ على رجل قد جمَعَ حُزمةً عظيمةً لا يستطيع حملَها، وهو يريد أن يزيدَ عليها. قال: يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا (3) رجل من أمتك، عليه أمانةٌ، لا يستطيع أداءها، وهو يزيد عليها. ثم أتى على قوم تُقَرَض شفاههم بمقاريض (4) من حديد، كلَّما قُرِضت عادت كما كانت، لا يفتَّر عنهم شيء. قال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء الفتنة (5). ثم أتى على حجر صغير، يخرج منه ثور عظيم. فجعل الثور (6) يريد أن يدخل من حيث خرج ولا يستطيع، قال: ما هذا يا جبريل؟ قال (7): هذا الرجل _________ (1) (ن، ز): «في». وكذا في الدلائل. (2) (ق، ز): «حلال طيب». (3) «هذا» من (ق، ن، ج) والدلائل. (4) (أ، غ): «بمقارض». (5) (ط): «أمتك». (6) «الثور» ساقط من (أ، غ). (7) «هؤلاء خطباء ... قال» ساقط من (ن).

(1/174)


يتكلم بالكلمة، فيندم عليها، فيريد أن يردَّها، فلا يستطيع». وذكر الحديث. وذكر البيهقي (1) أيضًا في حديث الإسراء من رواية أبي سعيد الخُدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «فصعدْتُ أنا وجبريلُ، فاستفتح جبريل، فإذا بآدم (2) كهيئته يومَ خلقه الله على صورته، تُعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين، فيقول: روحٌ طيِّبة ونَفْس طيِّبة، اجعلوها في علِّيين. ثم تُعرض عليه (3) أرواح ذريته الفُجَّارِ، فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة، اجعلوها في سِجِّين. ثم مضَيْتُ هنيَّة، فإذا أنا بأَخوِنَة [39 أ]، عليها لحمٌ مُشرَّح (4) ليس بقربها أحد. وإذا بأخْوِنة أخرى، عليها لحم قد أرْوَحَ ونَتِن، وعندها ناس يأكلون منها. قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء يتركون الحلال ويأتون الحرام. _________ (1) في دلائل النبوة (677) والمصنف صادر عن تذكرة القرطبي (403). (الإصلاحي). أخرجه البيهقي بسنده عن أبي محمد بن أسد الحماني، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري. وأخرجه ابن جرير الطبريّ في تفسيره (14/ 436 ــ 441) من طريقين عن أبي هارون به، مطوّلا ومختصرًا. وإسناده ضعيف جدًّا. علّته أبو هارون العبدي مشهور بكنيته واسمه عمارة بن جُوَيْن. قال الحافظ في التقريب: «متروك ومنهم من كذبه». وساقه الحافظ ابن كثير في تفسيره (5/ 21 ــ 25) عن البيهقي بطوله، ثم قال في آخره: «أبو هارون العبدي واسمه عمارة بن جوين وهو مضعَّف عند الأئمة، وإنما سقنا حديثه هاهنا لما في حديثه من الشواهد لغيره». (قالمي). (2) (أ، غ): «آدم». (3) «عليه» ساقط من (ب، ط). (4) زاد بعضهم في الأصل واوًا بين الراء والحاء ليقرأ «مشروح» كما في (غ). وفي (ب، ط، ن، ج): «يشرح».

(1/175)


قال: ثم مضيت هنيَّة فإذا أنا بأقوامٍ بطونُهم أمثالُ البيوت (1)، كلّما نهض أحدهم خرَّ يقول: اللهم لا تُقِم الساعة. قال: وهم على سابلةِ آل فرعون. قال: فتجيء السابلة (2)، فتطؤُهم، فيصيحون (3). قلت: يا جبريل (4) من هؤلاء؟ قال: هؤلاء {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]. قال: ثم مضَيْت هنيَّةً، فإذا أنا بقوم (5)، مشافِرُهم كمشافر الإبل، فتُفتَح (6) أفواهُهم، فيُلْقَمون الجمر، ثم يخرج من أسافلهم، فسمعتهم يصيحون (7). قلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا. ثم مضيت هنيَّة، فإذا أنا بنساء معلَّقات بثُدِيِّهن، فسمعْتُهن يصِحْن. قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزواني. ثم مضيت هنيَّة، فإذا أنا بقوم يُقطع من جنوبهم اللحمُ، فيُلْقَمون، فيقال: كُلْ ما كنت تأكل من لحم أخيك. قلت: من هؤلاء؟ قال: الهمَّازون من أمتك». وذكر الحديث بطوله. _________ (1) (ط): «كأمثال البيوت». (2) السابلة: الطريق المسلوك، والسالكون عليه. (3) (ب، ط، ج): «يضجُّون». (4) «يا جبريل» ساقط من (ط). (5) (ط، ن): «بأقوام». (6) (ط، ج): «فتنفتح». (7) (ب، ط، ج): «يضجُّون».

(1/176)


وفي سنن أبي داود (1) من حديث أنس بن مالك قال (2): قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما عُرج بي مررتُ بقومٍ، لهم أظفارٌ من نحاس، يخمِشُون وجوههم وصدورهم. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم». وقال أبو داود الطيالِسيُّ في مسنده (3): حدثنا شعبةُ، عن الأعمش، عن _________ (1) (ن): «وفي د». كذا اكتفى بالرمز. والحديث فيه برقم (4878). وانظر: تذكرة القرطبي (404). (الإصلاحي». أخرجه أبو داود من طريق بقية وأبي المغيرة كلاهما عن صفوان، عن راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير كلاهما عن أنس. وأخرجه الإمام أحمد (13340)، والطبراني في الأوسط (8)، وفي مسند الشاميين (932) من طريق أبي المغيرة، به. وإسناده صحيح، رجاله ثقات شاميون؛ وصفوان هو ابن عمرو الحمصي، وأبو المغيرة هو عبد القدوس بن الحجاج الحمصي. وانظر: السلسلة الصحيحة (533). (قالمي). (2) «قال» ساقط من (ب، ط). (3) برقم (2768) وانظر: التذكرة (395). (الإصلاحي). ورجاله ثقات، غير أنّ أصحاب الأعمش خالفوا شعبة في إسناده ولفظه؛ فأخرجه البخاري (652)، ومسلم (292) من طريق وكيع. والبخاري (218) من طريق أبي معاوية محمد بن خازم، و (1378) من طريق جرير. ومسلم من طريق عبد الواحد بن زياد. أربعتهم عن الأعمش، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس، وفيه: «لا يستتر من بوله» بدل «فكان يأكل لحوم الناس». فتبين بهذا أن مجاهدًا لم يسمعه من ابن عباس، فيكون في إسناد الطيالسي انقطاع، وشذوذ في قوله: «فكان يأكل لحوم الناس» يعني يغتابهم. ويجوز أن يكون مجاهد سمع الحديث من الوجهين، بواسطة وبغير واسطة؛ يؤيد ذلك أن الإمام البخاري (216، 6055) رواه من طريق منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن ابن عباس، لكن بلفظ الجماعة. (قالمي).

(1/177)


مجاهد، عن ابن عباس أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى على قبرين فقال: «إنهما لَيُعذَّبان في غير كبير (1). أمَّا أحدهما فكان يأكل لحوم الناس. وأما الآخر فكان صاحب نميمة. ثم دعا بجريدة، فشَقَّها نصفَين، فوضع نصفَها على هذا القبر، ونصفها على هذا القبر، وقال: عسى أن يخفَّف عنهما ما دامتا رَطبتين». وقد اختلف الناس في هذين: هل كانا كافرين أو مؤمنين؟ فقيل: كانا كافرين. وقوله: «وما يعذّبان في كبير» (2) يعني: بالإضافة إلى الكفر والشِّرك. قالوا: ويدلُّ عليه [39 ب] أنَّ العذاب لم يرتفع عنهما، وإنما خُفّف (3). وأيضًا فإنه (4) خُفِّف مدةَ رُطوبة الجريدة فقط. وأيضًا فإنّهما لو كانا مؤمنين لشَفَع فيهما ودعا لهما النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرُفع عنهما العذابُ بشفاعته. وأيضًا ففي بعض طرق الحديث: أنهما كانا كافرين. وهذا التعذيبُ زيادةٌ على تعذيبهما بكفرهما وخطاياهما، وهو دليل على أنَّ الكافر يعذَّب بكفره وذنوبه جميعًا. وهذا اختيار أبي الحَكَم بن بَرَّجان (5). _________ (1) (ب، ط، ج، ز): «وما يعذبان في كبير» موضع «في غير كبير». والمثبت من غيرها موافق لما في المسند. ولعل بعض الناسخين نظر إلى اللفظ الذي سيأتي في الكلام على الحديث، فأثبته هنا ليزول الخلاف بين المتن والشرح. (2) لم يسبق هذا اللفظ في كلام المصنف، ولكنه ينقل من تذكرة القرطبي الذي أورد أحاديث مختلفة وتكلم عليها. وهذا لفظ الصحيحين. (3) (ط، ز): «يخفف». (ن): «خفف عنهما». (4) (ط): «إنه». (5) في كتابه: «الإرشاد الهادي إلى التوفيق والسداد». انظر: التذكرة للقرطبي (396). وبه جزم أبو موسى المديني، كما في فتح الباري (1/ 321).

(1/178)


وقيل: كانا مسلمين لنفيْهِ - صلى الله عليه وسلم - التعذيبَ بسببٍ غير السببين المذكورين، ولقوله: «وما يعذبان في كبير»، والكفرُ والشرك أكبر الكبائر على الإطلاق. ولا يلزم أن يشفَع النبي - صلى الله عليه وسلم - لكل مسلم يعذَّب في قبره على جريمة من الجرائم (1)، فقد أَخبر عن صاحب الشَّملة الذي قُتل في الجهاد أنَّ الشملة تشتعل عليه نارًا في قبره، وكان مسلمًا مجاهدًا (2). ولا يُعلَم ثبوت هذه اللفظة، وهي قوله: «كانا كافرين» (3)، ولعلها لو صحَّت ــ وكَلَّا (4) ــ فهي من _________ (1) في (أ، غ): «على الحرام». سقط وتحريف. (2) يشير إلى حديث أبي هريرة. أخرجه البخاري (4234) ومسلم (115). (3) أخرج الطبراني في الأوسط (4628) من طريق ابن لهيعة، عن أسامة بن زيد، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: «مرَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على قبور نساء من بني النجار، هلكوا في الجاهلية، فسمعهم يعذَّبون في القبور في النميمة». قال الطبراني: «لم يرو هذا الحديث عن أسامة بن زيد إلا ابن لهيعة». ومن هذا الوجه رواه أبو موسى المديني، كما في فتح الباري (1/ 321)، ولفظه: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ على قبرين من بني النجار هلكا في الجاهلية، فسمعهما يعذبان في البول والنميمة» قال أبو موسى: «هذا وإن كان ليس بقوي لكن معناه صحيح». قال الحافظ ابن حجر: «لكن الحديث الذي احتج به أبو موسى ضعيف كما اعترف به، وقد رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم وليس فيه سبب التعذيب، فهو من تخليط ابن لهيعة». يعني الحافظ ما أخرجه الإمام أحمد (14152) من طريق ابن جريج، عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله، فذكره. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 55): «رجاله رجال الصحيح». (قالمي). (4) «وكلا» ضرب عليه في الأصل، ولم يرد في (ب، غ).

(1/179)


قول بعض الرواة. والله أعلم. وهذا اختيار أبي عبد الله القرطبي (1). * * * _________ (1) التذكرة (396). ورجح ابن حجر احتمال كونهما كافرين في حديث جابر الطويل الذي أخرجه مسلم (3006). أما حديث ابن عباس، فالظاهر من مجموع طرقه أنهما كانا مسلمين. انظر: فتح الباري (1/ 321).

(1/180)


فصل

 وأما المسألة السابعة (1) وهي قول السائل: ما جوابُنا للملاحدة والزنادقة المنكرين لعذاب القبر وسَعته وضِيقه، وكونِه حفرةً من حُفَر النار أو روضةً من رياض الجنة، وكونِ الميت لا يجلس ولا يقعد فيه؟

قالوا (2): فإنّا نكشف القبر، فلا نجد فيه ملائكة عُمْيًا صُمًّا يضربون الموتى بمطارق الحديد، ولا نجد هناك حيَّاتٍ ولا ثعابينَ ولا نيرانًا تأجَّجُ. ولو كشفنا حالَه في حالة من الأحوال لوجدناه لم يتغير. ولو وضعنا على عينيه الزئبقَ، وعلى صدره الخَرْدل، لوجدناه على حاله. وكيف (3) يُفسَح له مدَّ بصره، أو يُضيَّق عليه، ونحن نجده بحاله، ونجد مساحته على حدِّ (4) ما حفرناها، لم تزد ولم تنقص؟ وكيف يسَعُ ذلك اللحد الضيِّق له وللملائكة وللصورة التي تؤنسه أو توحشه؟ قال إخوانهم من أهل البدع والضلال (5): وكلُّ حديث يخالف مقتضَى [40 أ] العقول والحسِّ يُقطَعُ بتخطئة ناقليه (6). _________ (1) «فصل وأما» لم يرد في (ن). ثم فيها وفي (ق): «المسألة الثامنة» لترقيم المسألة السابقة بالسابعة. (2) قارن بتذكرة القرطبي (371). (3) (ق): «فكيف». (4) (ب، ط، ن، ج): «قدر». والمثبت من غيرها موافق للتذكرة. (5) في التذكرة (373): «فإن قالوا». وفي (ب، ط، ح): «الضلال والبدع». (6) (أ، ق، غ): «قائله». والمثبت من غيرها موافق للتذكرة.

(1/181)


قالوا (1): ونحن نرى المصلوب على خشبته (2) مدةً طويلة، لا يسأل ولا يجيب، ولا يتحرّك، ولا يتوقَّد جسمُه نارًا؛ ومن افترسته السباع، ونهشَتْه (3) الطيور، وتفرّقت أجزاؤه في أجواف السباع، وحواصل الطيور (4)، وبطون الحيتان (5)، ومدارج الرياح= كيف تُسأَلُ أجزاؤه مع تفرُّقها؟ وكيف يُتصوَّر مسألةُ (6) الملكين لِمَن هذا وصفُه؟ وكيف يصير القبر على هذا روضةً من رياض الجنة أو حفرةً من حفر النار؟ وكيف يضيق عليه حتى تلتئم أضلاعه؟ ونحن نذكر أمورًا يُعلم بها الجواب: الأمر الأول (7): أن يُعلَم أنّ الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يخبروا بما تُحيله العقول، وتقطع باستحالته. بل أخبارهم قسمان: أحدهما: ما تشهد به العقول والفِطَر (8). الثاني: ما لا تدركه العقول بمجرَّدها، كالغيوب التي أخبروا بها عن تفاصيل البرزخ واليوم الآخر، وتفاصيل الثواب والعقاب. _________ (1) قارن بالتذكرة (373 ــ 374). (2) (ق، ن، ز): «خشبةٍ». (ط): «الخشبة». (3) في (ق) كتب فوق الشين «معًا» يعني بالمهملة والمعجمة كلتيهما. (4) ما عدا (ق، ز): «حواصل السباع وأجواف الطيور». (5) ما عدا (ب، ط، ط): «الحيّات». وفي التذكرة: «أجواف الطير، وبطون الحيتان، وحواصل الطير». (6) (ب): «تتصور مساءلة». (7) «الأمر» ساقط من (ب). (8) (ق، ن، ز، غ): «الفطن»، تصحيف.

(1/182)


ولا يكون خبرهم مُحالًا في العقول أصلًا. وكلُّ خبر يُظَنُّ (1) أنَّ العقل يُحيله، فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون الخبر كذبًا عليهم، أو يكون ذلك العقلُ فاسدًا. وهو شبهة خيالية يظنُّ صاحبُها أنَّها معقول صريح. قال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6]. وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 19]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} [الرعد: 36]. والنفوس لا تفرح بالمحال. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 57، 58]. والمحال لا يَشفي، ولا يحصل به هدًى ولا رحمةٌ، ولا يُفرَح (2) به. فهذا أمرُ مَن لم يستقرَّ في قلبه خيرٌ، ولم يثبُتْ له على الإسلام قدمٌ، وكان أحسن أحواله الحيرة والشكّ. فصل الأمر الثاني (3): أن يُفهَم عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مرادُه من غير [40 ب] غلُوٍّ ولا _________ (1) (ق): «نظن». وهو مضبوط في (ط). (2) (ط): «فلا يفرح». (3) أورد أوله شارح الطحاوية (396) بشيء من التصرف دون إشارة إلى ابن القيم.

(1/183)


تقصير، فلا يُحمَّلَ (1) كلامُه ما لا يحتمله، ولا يُقَصَّرَ به عن مراده وما قصَدَه من الهدى والبيان. وقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله. بل سوءُ الفهم عن الله ورسوله أصلُ كلِّ بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصلُ كل خطأ في الأصول والفروع؛ لا سيَّما إن أضيف إليه سوءُ القصد، فيتفق سوءُ الفهم في بعض الأشياء من المتبوع مع حُسْن قَصْده، وسوءُ القصد من التابع (2). فيا محنةَ الدين وأهلهِ! والله المستعان. وهل أوقع القدريَّة والمرجئةَ والخوارجَ والمعتزلةَ والجهميةَ والرافضةَ وسائرَ طوائف أهل البدع إلا سوءُ الفهم عن الله ورسوله، حتى صار الدين بأيدي أكثرِ الناس (3) هو مُوجَبَ هذه الأفهام! والذي فهمه الصحابةُ ومن تَبِعهم عن الله ورسوله، فمهجورٌ لا يُلتفَت إليه، ولا يَرفع هؤلاء به رأسًا! ولكثرة أمثلة هذه القاعدة تركناها، فإنَّا لو ذكرناها لزادت على عشرة ألوفٍ (4)؛ حتّى إنّك لتمرُّ على الكتاب من أوله إلى آخره، فلا تجدُ صاحبَه فَهِمَ عن الله ورسوله مرادَه كما ينبغي في موضع واحد! وهذا إنما يعرفه من عَرَف ما عند الناس، وعَرَضه على ما جاء به الرسول. وأما مَن عَكَس الأمرَ بعرض ما جاء به الرسول على ما اعتقده، _________ (1) (ط): «ولا يحمل». (2) وانظر: الصواعق المرسلة (507)، ومجموع الفتاوى (16/ 310). (3) في (أ، غ): «أكثر أهل الناس»! (4) ما عدا (أ، ق، غ): «عشرات ألوف».

(1/184)


وانتحله، وقلَّد فيه مَن أحسَنَ به الظنَّ (1)؛ فليس يُجدي الكلامُ معه شيئًا. فدعه وما اختاره لنفسه، وولِّه ما تولَّى، واحمَدِ الذي عافاك مما ابتلاه به. فصل الأمر الثالث (2): أنّ الله سبحانه جعل الدُّورَ ثلاثةً: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار؛ وجعل لكلِّ دار أحكامًا تختصُّ بها. وركَّب هذا الإنسان من بدن ونفس، وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان، والأرواحُ تبعٌ (3) لها. ولهذا جعل أحكامه الشرعيةَ مرتَّبةً على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح، وإن أضمَرت النفوسُ خلافَه. وجعل أحكام البرزخ على الأرواح، والأبدانُ تبعٌ لها. فكما تبعت الأرواحُ الأبدانَ في أحكام الدنيا، فتألمت بألمها، والتذَّت [41 أ] براحتها، وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب= تبعت الأبدانُ الأرواحَ في نعيمها وعذابها، والأرواح حيئنذ هي التي تباشر (4) العذاب والنعيم. فالأبدان هنا ظاهرة، والأرواح خفية، والأبدان كالقبور لها. والأرواحُ هناك ظاهرة، والأبدان خفية في قبورها. تجري أحكام البرزخ على الأرواح، _________ (1) (ن): «الظن به». (2) لخَّصه شارح الطحاوية مضيفًا إليه جملة من الأمر الرابع (396) دون إشارة إلى ابن القيم. (3) هنا وفيما يأتي غيّره بعض القراء في (أ، ن) إلى «تبعًا»، وكذا في (غ) والنسخ المطبوعة وهو خطأ. (4) كان في الأصل: «باشرت»، فضرب بعضهم على التاء، وزاد تاءً قبل الباء ليقرأ: «تباشر». وفي (ق): «تباشرت»، كأن ناسخها جمع بين الصيغتين.

(1/185)


فتسري إلى أبدانها نعيمًا أو عذابًا، كما تجري أحكام الدنيا على الأبدان، فتسري إلى أرواحها نعيمًا أو عذابًا. فأحِطْ بهذا الموضع علمًا، واعرِفْه كما ينبغي، يزيل (1) عنك كلَّ إشكالٍ يُورَد عليك من داخل وخارج. وقد أرانا الله سبحانه بلطفه ورحمته وهدايته من ذلك أنموذجًا في الدنيا من حال النائم، فإنَّ ما يُنَعَّم به أو يُعذَّب في نومه يجري على روحه أصلًا، والبدنُ تبع له؛ وقد يقوى حتى (2) يؤثرَ في البدن تأثيرًا مشاهَدًا، فيَرى النائم في نومه (3) أنه ضُرِب، فيُصبح، وأثرُ الضرب في جسمه. ويرى أنه قد أكل أو شرب، فيستيقظ، وهو يجد أثر الطعام والشراب في فيه، ويذهب عنه الجوع والظمأ. وأعجبُ من ذلك أنك ترى النائم يقوم في نومه (4)، ويضربُ، ويبطِش، ويدافع، كأنه يقظانُ، وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك. وذلك (5) أنَّ الحكمَ لمَّا جرى على الروح استعانت بالبدن من خارجه، ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحسَّ. فإذا كانت الروح تتألَّم وتنعَم (6) ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع، _________ (1) كذا غير مجزوم في جميع النسخ. وقد سبق نحوه في (ص 125). (2) (ق): «حين»، تحريف. (3) «في نومه» ساقط من (ن). (4) ما عدا (أ، ز، غ): «من نومه». (5) «وذلك» استدرك في حاشية الأصل عند المقابلة. ولم يرد في (ز). وفي غيرهما: «لأن» في موضع «وذلك أن». (6) ضبط في (ط) بضم التاء وتشديد العين. وفي النسخ المطبوعة: «تتنعم».

(1/186)


فهكذا في البرزخ، بل أعظم، فإنَّ تجرُّدَ الروح هناك أكملُ (1) وأقوى وهي متعلقة ببدنها لم تنقطع عنه كلَّ الانقطاع. فإذا كان يومُ حشر الأجساد وقيامِ الناس من قبورهم، صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهرًا باديًا أصلًا. ومتى أعطيتَ هذا الموضع حقَّه تبيَّن لك أنّ ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عذاب القبر ونعيمه، وضيقه وسعته، وضمِّه، وكونه حفرةً من حفر النار، أو روضةً من رياض الجنة مطابقٌ للعقل، وأنَّه حقٌّ لا مِريَة فيه، وأنَّ مَن أشكَلَ عليه ذلك فمن سوء فهمه وقلة علمه أُتيَ، كما قيل [41 ب]: وكم مِن عائبٍ قولًا صحيحًا ... وآفَتُه من الفهمِ السَّقيمِ (2) وأعجبُ من ذلك أنك تجد النائمَين (3) في فراش واحد، وهذا روحُه في النعيم، ويستيقظ وأثرُ النعيم على بدنه. وهذا روحُه في العذاب، ويستيقظ وأثرُ العذاب على بدنه. وليس عند أحدهما خبرٌ بما عند الآخر. فأمرُ البرزخ أعجبُ من ذلك. فصل (4) الأمر الرابع: أنَّ الله سبحانه جعل أمر الآخرة وما كان متصلًا بها غيبًا، وحَجَبها عن إدراك المكلَّفين في هذه الدار. وذلك من كمال حكمته، _________ (1) (ق): «أجمل»، تصحيف. (2) للمتنبي في ديوانه بشرح الواحدي (339). (3) ما عدا (أ، ق، غ): «نائمين». (4) «فصل» لم يرد في (ن).

(1/187)


ولِيتميَّزَ المؤمنون بالغيب من غيرهم. فأولُ ذلك أنَّ الملائكة تنزل على المحتضَر، وتجلس قريبًا منه، ويشاهدهم عِيانًا. ويتحدثون عنده، ومعهم الأكفانُ والحَنُوط، إما من الجنة أو من النار؛ ويؤمِّنون على دعاء الحاضرين بالخير أو الشر. وقد يسلِّمون على المحتضَر، ويردُّ عليهم تارةً بلفظه، وتارةً بإشارته، وتارةً بقلبه حيث لا يتمكن من نطق ولا إشارة (1). وقد سُمِع بعضُ المحتضَرين يقول: أهلًا وسهلًا ومرحبًا بهذه الوجوه! وأخبرني شيخنا عن بعض المحتضَرين، فلا أدري أشاهدَه أو أُخبر عنه، أنَّه سُمِع، وهو يقول: عليك السلام (2)، هاهنا فاجلس، وعليك السلام، هاهنا فاجلس. وقصة خيرٍ النَّسَّاجِ مشهورة، حيث قال عند الموت: اصبِرْ ــ عافاك الله ــ فإنَّ ما أُمِرتَ به لا يفوت، وما أُمِرتُ به يفوت. ثم استدعى بماء، فتوضأ، وصلَّى، ثم قال: امض لما أُمِرتَ به، ومات (3). وذكر ابن أبي الدنيا (4) أنَّ عمر بن عبد العزيز لمَّا كان في يومه الذي _________ (1) ما عدا (أ، ق، غ): «وإشارة». (2) (ط، ن): «وعليك السلام». وفي (ب، ج) جاءت «وعليك ... فاجلس» مرة واحدة. (3) انظر: طبقات الصوفية (323)، وحلية الأولياء (10/ 307)، والرسالة القشيرية (437) والعاقبة (227). وخير النسّاج من الزهاد الكبار، صَحِب الجنيد وأبا حمزة البغدادي. توفي سنة 322. سير أعلام النبلاء (15/ 269). (4) في المحتضرين (88).

(1/188)


مات فيه قال: أجلِسوني. فأجلَسوه، فقال: أنا الذي أمرتَني فقصَّرتُ، ونهيتَني فعصيتُ ــ ثلاثَ مرات ــ ولكن لا إله إلا الله. ثم رفع رأسه، فأحدَّ النظر. فقالوا: إنّك لتنظر نظرًا شديدًا يا أمير المؤمنين! فقال: إني لأرى حَضرةً ما هم بإنس ولا جنّ. ثم قُبض. وقال مَسْلَمة بن عبد الملك: لما احتُضِر عمرُ بن عبد العزيز كنَّا عنده في قبةٍ، فأومأ إلينا أن اخرجوا. فخرجنا، [42 أ] فقعدنا حول القبة، وبقي عنده وصيف، فسمعناه يقرأ هذه الآية: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] ما أنتم بإنس ولا جانٍّ. ثم خرج الوصيف، فأومأ إلينا أن ادخلوا. فدخلنا (1) فإذا هو قد قُبض (2). وقال فَضَالة بن دينار: حضرتُ محمد بن واسع، وقد سُجِّي للموت، فجعل يقول: مرحبًا بملائكة ربِّي، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وشمِمْتُ رائحةً طيبةً لم أشَمَّ رائحةً (3) قطُّ أطيبَ منها. ثم شَخَص ببصره (4)، فمات (5). والآثار في ذلك أكثرُ من أن تُحصَر، وأبلغ. ويكفي من ذلك كلِّه قولُ الله عز وجل: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ _________ (1) «فدخلنا» ساقط من (ن). (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في المحتضرين (89). (3) من (أ، غ). (4) زاد في الأصل: «إلى السماء» وكتب فوقها: «لا» أولها و «إلى» آخرها. (5) أخرجه ابن أبي الدنيا في المحتضرين (193).

(1/189)


إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 83 ــ 85]. أي: أقرب إليه بملائكتنا ورُسُلنا، ولكنكم لا ترونهم. فهذا أول الأمر، وهو غير مرئيّ لنا (1) ولا مشاهَد، وهو في هذه الدار. ثم يمُدُّ الملَكُ يدَه إلى الروح، فيقبضُها، ويخاطبها. والحاضرون لا يرونه، ولا يسمعونه. ثم تخرج، فيخرج لها نور مثلُ شعاع الشمس، ورائحةٌ أطيب من رائحة المسك. والحاضرون لا يرون ذلك، ولا يشَمُّونه. ثم تصعد بين سِماطَين من الملائكة، والحاضرون لا يرونهم. ثم تأتي الروح فتشاهِد (2) غسلَ البدن وتكفينَه وحملَه، وتقول: قدِّموني، قدِّموني، أو إلى أين تذهبون بي؟ ولا يسمع (3) الناس ذلك. فإذا وُضِع في لحده، وسُوِّي عليه التراب؛ لم يحجب الترابُ الملائكة (4) عن الوصول إليه. بل لو نُقِر له حجرٌ، فأودع فيه، وخُتِم عليه بالرصاص؛ لم يمنع وصولَ الملك (5)، إليه. فإن هذه الأجسام الكثيفة لا تَمنَعُ خرق الأرواح لها. بل الجنُّ لا يمنعها ذلك. بل قد جعل الله سبحانه الحجارة والتراب للملائكة بمنزلة الهواء للطير. واتساعُ القبر وانفساحُه للروح بالذات، والبدنِ تَبَعًا، فيكون البدن في لحدٍ أضيقَ من ذراع، وقد فُسِح له مَدَّ بصره تبعًا لروحه. _________ (1) «لنا» ساقط من (ن). (2) (ب، ط، ن): «وتشاهد». (3) (ق): «فلا يسمع». (4) (ن): «الملائكة الترابُ». (5) (ط): «الملائكة».

(1/190)


وأما عَصْرةُ القبر حتى تختلف بعضُ أضلاع الموتى، فلا يردُّه حِسٌّ ولا عقل ولا فطرة. ولو قُدِّر أنَّ أحدًا نبش عن ميِّت، فوجد أضلاعه كما هي لم تختلف [42 ب]، لم يمنع (1) أن تكون قد عادت إلى حالها بعد العصرة (2). فليس مع الزنادقة والملاحدة إلا مجرَّدُ تكذيب الرسول. ولقد أخبَرَ بعضُ الصادقين (3) أنَّه حفر ثلاثة أقْبُر، فلما فرغ منها اضطجع ليستريح، فرأى فيما يرى النائم ملَكَين نزلا، فوقفا على أحد الأقبر، فقال أحدهما لصاحبه: اكتب فرسخًا في فرسخ. ثم وقفا على الثاني، فقال: اكتب ميلًا في ميل. ثم وقفا على الثالث، فقال: اكتب فِتْرًا في فتر. ثم انتبه، فجيء برجل غريب لا يُؤْبَه له، فدُفن في القبر الأول. ثم جيء برجل آخر، فدفن في القبر الثاني. ثم جيء بامرأة مُترَفة من وجوه البلد حولها ناس كثير، فدُفِنتْ في القبر الضيِّق الذي سمعتُه (4) يقول: فِتْرًا في فِتْر. والفِتْر: ما بين الإبهام والسبَّابة. _________ (1) (ب، ط، ن، ج): «لم يمتنع». (2) (ب، ط، ن، ج): «العصر». (3) (ط): «الصالحين». وقد نقل المصنف هذه القصة بنصها من تذكرة القرطبي (387) ولكن سياقه مختلف عن سياق المصنف. قال القرطبي: «سمعتُ بعض علمائنا يقول: إن حفّارًا كان بقرافة مصر يحفر القبور، فحفر ثلاثة أقبر ... ». فالعالم الذي أخبر بالقصة لم يكن حفَّارًا، ولا صرَّح بأنه سمع القصة من الحفّار نفسه. (4) (ب): «سمعه». وهو مقتضى السياق، ولكن يظهر أن ناسخها أصلح ما في سائر النسخ. هذا، وفي التذكرة: «سَعتُه فِترًا في فِتر» (كذا).

(1/191)


فصل الأمر الخامس (1): أنَّ النار التي في القبر والخُضْرة (2) ليست (3) من نار الدنيا ولا من (4) زرع الدنيا، فيشاهدَه مَن شاهد نار الدنيا وخُضرَتها. وإنما هي (5) من نار الآخرة وخضرتها، وهي (6) أشدُّ من نار الدنيا. ولا يحسُّ به أهل الدنيا، فإن الله سبحانه يُحْمي عليه ذلك الترابَ والحجارة التي عليه وتحته حتى يكون أعظمَ حرًّا من جمر الدنيا. ولو مسَّها أهل الدنيا لم يحسُّوا بذلك. بل أعجبُ من هذا أنَّ الرجلين يُدفنان، أحدُهما إلى جنب الآخر، وهذا في حفرة من حُفَر النار، لا يصل حرُّها إلى جاره. وذلك في روضة من رياض الجنة، لا يصل رَوْحُها ونعيمُها إلى جاره. وقدرة الربِّ تعالى أوسع وأعجب من ذلك. وقد أرانا من آيات قدرته في هذه الدار ما هو أعجبُ من ذلك بكثير، ولكنَّ النفوس مولعة بالتكذيب بما لم تُحِط به علمًا، إلا من وفَّقه الله وعصمه. فيفرَش للكافر لوحان من نار، يشتعل عليه قبرُه بهما كما يشتعل التنور. فإذا شاء الله سبحانه أن يُطلِع على ذلك بعضَ عَبيده (7) أطلعه، وغيَّبه عن غيره؛ إذ لو اطَّلع عليه العباد _________ (1) لخَّصه شارح الطحاوية (396) دون إشارة إلى المصنف. (2) في (ب، ج) هنا وفيما يلي: «خَضِر» مكان «الخضرة». (3) (ب، ط): «ليس». (4) هنا وقع خرم كبير في (ز) امتدَّ إلى المسألة التاسعة عشرة. (5) (ب، ط، ج): «هو». (6) (أ، ب، ط، ج): «هو». (7) (ب، ط، ن، ج): «عباده».

(1/192)


كلُّهم لزالت حكمةُ (1) التكليف والإيمان بالغيب، ولما تدافَنَ الناس، كما في الصحيح (2) عنه - صلى الله عليه وسلم -: «لولا أن تدافنوا لدعوتُ الله أن يُسمِعَكم من عذاب القبر [43 أ] ما أسمع». ولما كانت هذه الحكمة منفيَّةً في حقّ البهائم سمعت ذلك وأدركته (3)، كما حادت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغلتُه، وكادت تُلقِيه لمّا مرَّ بمن يُعذب في قبره (4). وحدَّثني صاحبنا أبو عبد الله محمد بن الرُّزَيز (5) الحَرَّانيُّ أنه خرج من _________ (1) في جميع النسخ: «كلمة» غير الأصل التي يحتمل رسمها قراءة «حكمة»، وهي الصواب. (2) (أ، ق، غ): «الصحيحين» والحديث في صحيح مسلم، وقد سبق. (3) (ق): «فأدركته». (4) جزء من الحديث السابق. (5) كذا في (أ، غ) بالراء والزاي مكررةً. وضبط بعض قراء (غ) بضم الراء وفتح الزاي مصغَّرًا. وهذا هو الصواب. وقد نصّ عليه في تبصير المنتبه (642) وتوضيح المشتبه (4/ 294). وفي (ق): «رزين». وفي النسخ الأخرى والبداية والنهاية (18/ 179، 458) والدارس (2/ 417، 418): «الوزير»، وكلاهما تصحيف. وهو محمد بن عبد الواحد بن يوسف الحرّاني الآمدي (في البداية والنهاية: «الأسدي»، تحريف) الحنبلي. نعته ابن كثير بـ «الإمام العالم العابد الناسك الصالح خطيب الجامع الكريمي بالقُبيبات»، وأرخ وفاته في 17 شعبان من سنة 743. وقد ضبط في السحب الوابلة (994): «الرَّزيز» مكبّرًا، وقال محققه: «ولم أجده في مصدر آخر ــ يعني غير الدرر الكامنة (4/ 35) ـ لذا لا نحسن ضبط الرزيز» ومن ثم لم يقف على الصواب في تاريخ وفاته أيضًا، فاكتفى بالنقل من حاشية الدرر: «مات في رجب سنة 796 هـ» مع التنبيه على أن الحافظ لم يذكره في وفياتها في إنباء الغمر.

(1/193)


داره بعد العصر بآمِدَ إلى بستانٍ. قال: فلمّا كان قبل غروب الشمس توسطتُ (1) القبورَ، فإذا بقبر منها، وهو جمرةُ نار مثلُ كُور الزجَّاج (2)، والميتُ في وسطه. فجعلتُ (3) أمسح عينيَّ، وأقول: أنائم أنا أم يقظانُ؟ قال: ثم التفتُّ إلى سور المدينة، وقلت: والله ما أنا بنائم. ثم ذهبت إلى أهلي، وأنا مدهوشٌ، فأتَوْني بطعام، فلم أستطع أن آكلُ. ثم دخلت البلد، فسألت عن صاحب القبر، فإذا به مَكَّاسٌ قد توفِّي ذلك اليوم (4). فرؤيةُ هذه النار في القبر كرؤية الملائكة والجنِّ تقع أحيانًا لمن شاء الله أن يُريه ذلك. وقد ذكر ابن أبي الدنيا في «كتاب القبور» (5) عن الشعبي أنّه ذكر _________ (1) (أ، غ): «توسط». (2) ضبطه من (غ). وكور الزجّاج: مَوقده لصهر الزجاج. (3) (ب، ط، ج): «وجعلت». (4) (ن): في ذلك اليوم. وقد نقل الحكاية من كتابنا هذا ابن رجب في أهوال القبور (69). (5) برقم (92)، ومن طريقه البيهقي في دلائل النبوة (3/ 89، 90)، وفي سنده مجالد وهو ابن سعيد الهمداني فيه ضعف، وهو مرسل. وأخرجه ابن أبي شيبة (30478) بسنده عن مسلم (وهو ابن صُبَيْح أبو الضُّحى) نحوه ورجاله ثقات وهو مرسل أيضًا. وجاء موصولًا عن ابن عمر رضي الله عنهما، رواه الطبراني في الأوسط (6560)، واللالكائي في أصول الاعتقاد (1739) من طريق عبد الله بن محمد بن المغيرة، عن مالك بن مغول، عن نافع عن ابن عمر قال: «بينا أنا أسير، بجنبات بدر إذ خرج رجل من الأرض ... » فذكره بنحوه، وفي سنده عبد الله بن محمد بن المغيرة الكوفي نزيل مصر، له ترجمة في لسان الميزان (3/ 332) قال أبو حاتم: «ليس بقوي»، وقال ابن عدي: «عامة ما يرويه لا يتابع عليه». لكنه توبع على هذا الحديث، فرواه أبو نعيم في أخبار أصبهان (1/ 253) من طريق جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر. وإسناده لا بأس به في المتابعات. وبالجملة فالحديث بمجموع طرقه حسن لغيره. والله أعلم. (قالمي).

(1/194)


رجلًا (1) قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: مررتُ ببدر، فرأيت رجلًا يخرج من الأرض، فيضربُه رجلٌ بمِقْمعة حتى يغيبَ في الأرض؛ ثم يخرج، فيفعل به ذلك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ذلك أبو جهل بن هشام يُعذَّب إلى يوم القيامة». وذكر (2) من حديث حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: بينا أنا أسير بين مكة والمدينة على راحلة، وأنا مُحقِبٌ (3) إداوةً، إذ مررت بمقبرة، فإذا رجل خارجٌ من قبره يلتهب نارًا، وفي عنقه سلسلةٌ يجرُّها. فقال: يا عبد الله انضَحْ، يا عبد الله انضح (4). فوالله ما أدري أعرفني باسمي، أم كما يدعو الناس. قال: فخرج آخَرُ فقال: لا عبد الله لا تنضح، يا عبد الله لا تنضح. ثم اجتذب السلسلة، فأعاده في قبره. وقال ابن أبي الدنيا (5): وحدَّثني أبي، ثنا موسى بن داود، ثنا حمّاد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: بينما راكبٌ يسير بين مكة والمدينة، _________ (1) (ب، ط، ن، ج): «الشعبي أن رجلًا». (2) في كتاب القبور (93). (3) (ن): «محتقب»، وهو بمعناه. (4) هذه الجملة هنا وفيما يأتي وردت في (ن) مرة واحدة. ظنّها ناسخها مكررةً. ثم فيها في الموضعين: «يا أبا عبد الله» وهو غلط. نبَّه عليه بعض القراء في حاشية النسخة. (5) في كتاب القبور (95).

(1/195)


إذ مرَّ بمقبرة، فإذا برجل قد خرج من قبره، يلتهبُ نارًا، مصفَّدًا في الحديد، فقال: يا عبد الله انضح، يا عبد الله انضح، قال: وخرج [43 ب] آخرُ يتلوه فقال: يا عبد الله لا تنضح، يا عبد الله لا تنضح. قال: وغُشِي على الراكب، وعَدَلتْ به راحلته إلى العَرْج (1). قال: وأصبح قد (2) ابيضَّ شعره. فأُخبِر عثمانُ بذلك، فنهى أن يسافر الرجل وحدَه. وذكر (3) من حديث سفيان، حدثنا داود بن شابور (4)، عن أبي قَزَعة (5) قال: مررنا في بعض المياه التي بيننا وبين البصرة، فسمعنا نهيق حمار، فقلنا لهم: ما هذا النهيقُ؟ قالوا: هذا رجل كان عندنا، كانت أمه (6) تكلِّمه بالشيء، فيقول لها: انهقي نهيقَك. فلما مات سُمِع هذا النهيقُ من قبره كلَّ ليلة. وذكر (7) أيضًا عن عمرو بن دينار قال: كان رجلٌ من أهل المدينة، وكانت له أخت في ناحية المدينة، فاشتكت، وكان يأتيها يعودها. ثم ماتت، فدفنها. فلما رجع ذكَر أنه نسي شيئًا في القبر (8) كان معه، فاستعان برجل من _________ (1) واد في طريق الحاج القديم بين مكة والمدينة، ويقع على بعد 113 كِيلا من المدينة. معجم المعالم الجغرافية في السيرة (203). (2) (ب، ط، ن، ج): «وقد». (3) في كتاب القبور (96) ومن عاش بعد الموت (26). (4) ما عدا الأصل: بالسين المهملة. (5) في كتاب القبور زيادة: «رجل من أهل البصرة، عنه أو عن رجل». وفي كتاب من عاش: « ... عنه أو عن غيره». (6) في (أ، غ): «له أمّ»، وهو مستدرك في حاشية الأصل. وفي (ط): «امرأته»، تحريف. (7) في كتاب القبور (97). وأخرجه أيضًا في كتاب الوَرع (84). (8) (ب، ط): «قبرها».

(1/196)


أصحابه. قال: فنبشنا (1) القبر، ووجدتُ (2) ذلك المتاع. فقال للرجل: تنحَّ، حتَّى أنظر على أي حال أختي؟ فرفع بعضَ ما على اللحد؟ فإذا القبر مشتعلٌ نارًا، فردَّه، وسوَّى القبر. فرجع إلى أمه، فقال: ما كان حال أختي؟ فقالت: ما تسألُ عنها، وقد هلكتْ؟ فقال: لَتُخْبِرِنِّي (3). قالت: كانت تؤخِّر الصلاة، ولا تصلِّي فيما أظنّ بوضوء؛ وتأتي أبواب الجيران، فتُلْقِمُ أذنهَا أبوابَهم، وتُخرِج حديثهم. وذَكر (4) عن حصين الأسدي قال: سمعت مَرثَد بن حَوشَب قال: كنتُ جالسًا عند يوسف بن عمر، وإلى جنبه رجل كأنَّ شُقَّة وجهه صفحةٌ من حديد. فقال له يوسف: حدِّث مرثدًا بما رأيت. فقال: كنت شابًّا قد أتيتُ هذه الفواحش، فلما وقع الطاعون قلت: أخرجُ إلى ثغر من هذه الثغور. ثم رأيت أن أحفر القبور، فإنّي لِلَيلةٍ (5) بين المغرب والعشاء قد حفرتُ قبرًا، وأنا متكئٌ على تراب قبر آخر، إذ جيء (6) بجنازة رجلٍ حتى دُفن في ذلك القبر، وسوَّوا عليه. فأقبل طيران أبيضان من المغرب مثلُ البعيرين حتَّى سقط أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه. ثم أثاراه، ثم تدلَّى أحدهما في القبر، والآخر على شفيره. فجئت حتى [44 أ] جلست على شفير القبر، وكنتُ رجلًا لا يملأ جوفي شيءٌ. قال: فسمعته يقول: ألستَ الزائرَ أصهارَك في _________ (1) (ط): «نبشنا». (ب): «فنبشا». (2) (ط): «ووجدنا». (ن): «فوجدنا». (ب): «ووجدا». (3) (ق، ن، غ): «لتخبريني». (4) في كتاب القبور (98). (5) (ق، ن، ج): «الليلة». وفي كتاب القبور: «فإذا بي بليلة». (6) (ق): «جاءوا».

(1/197)


ثوبين مُمَصَّرين تسحبُهما (1) كِبْرًا، تمشي الخيلاء؟ فقال: أنا أضعف من ذلك (2). قال: فضربه ضربةً امتلأ القبر حتى فاض ماءً ودُهنًا. ثم عاد، فأعاد عليه القول، حتى ضربه ثلاث ضربات، كلَّ ذلك يقول ذلك. ويذكر أنّ القبر يفيض ماءً ودهنًا. قال: ثم رفع رأسه، فنظر إليَّ، فقال: انظر (3)، أين هو جالس نكَّسه (4) الله! قال: ثم ضرب جانب وجهي فسقطتُ. فمكثتُ ليلتي حتّى أصبحت. قال: ثم أخذت أنظر إلى القبر، فإذا هو على حاله. فهذا الماء والدهن في رأي العين لهذا الرائي هو نار تأجَّجُ للميِّت، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الدجّال: أنه يأتي معه بماء ونار، فالنار ماء بارد، والماء نار تأجَّجُ (5). وذكر ابن أبي الدنيا (6) أنَّ رجلًا سأل أبا إسحاق الفزاريَّ عن النَّباش: هل له توبة؟ فقال: نعَم إن صحَّت نيته، وعلم الله منه الصدقَ. فقال له الرجل: كنت أنبُش القبور، وكنت أجد قومًا وجوهُهم لغير القِبلة. فلم يكن عند الفزاريِّ في ذلك شيء، فكتب إلى الأوزاعي يخبره بذلك، فكتب إليه _________ (1) (ق): «بمصرين». وفي (ب، ط): «نسجتهما». وكلاهما تصحيف. وثوب ممصَّر: مصبوغ بالطين الأحمر أو بحمرة خفيفة. (2) «فقال ... ذلك» ساقط من (ن). (3) ما عدا (أ، ق، غ): «انظروا». (4) (ن): «ثبَّتَه». وفي غيرها: «بلسه» وتصحيحه من كتاب القبور، وشرح الصدور (138). (5) أخرجه البخاري (3450) من حديث حذيفة بن اليمان. (6) في كتاب القبور (99).

(1/198)


الأوزاعي: تُقبَل توبتُه (1) إذا صحَّت نيته، وعلم الله الصدق من قلبه. وأما قوله: إنَّه كان يجد قومًا وجوههم لغير القبلة، فأولئك قوم ماتوا على غير السنّة. وقال ابن أبي الدنيا (2): حدَّثني عبد المؤمن بن عبد الله بن عيسى القيسي أنه قيل لنبّاشٍ قد تاب: ما أعجبُ ما رأيتَ؟ قال: نبشتُ رجلًا. قال (3): فإذا هو مسمَّر بالمسامير في سائر جسده، ومسمارٌ كبير في رأسه، وآخرُ في رجليه. قال (4): وقيل لنبَّاشٍ آخر: ما أعجبُ ما رأيتَ؟ قال: رأيتُ جمجمةَ إنسانٍ مصبوبٌ (5) فيها رصاص (6). قال (7): وقيل لنبَّاشٍ آخرَ: ما كان سبب توبتك؟ قال: عامَّةُ مَن كنت أنبُش، كنتُ أراه محوَّلَ الوجه عن القبلة. قلتُ: وحدَّثني صاحبنا أبو عبد الله محمد ابن مُنتاب السَّلامي (8)، _________ (1) «توبته» ساقط من (ق). (2) في كتاب القبور (100). (3) من (أ، ق، غ). (4) هذا الخبر ساقط من كتاب القبور المطبوع. (5) كذا ضبط في (غ). وفي شرح الصدور (238): «مصبوبًا». (6) (ق، ب، ج): «رصاصًا». (7) وقد عزاه إليه ابن رجب في أهوال القبور (68) وهو ساقط من كتاب القبور المطبوع. (8) هو محمد بن داود بن محمد بن منتاب، شمس الدين أبو عبد الله الموصلي السلامي الشافعي التاجر. قال الذهبي: قلّ أن رأيت مثله في الدين والمحاسن والوقار والإيثار. وقف كتبًا كبارًا بدمشق وبغداد. توفي بدمشق سنة 728. أعيان العصر (4/ 437)، الدرر الكامنة (3/ 437).

(1/199)


وكان من خيار عباد الله، وكان يتحرَّى [44 ب] الصدق. قال: جاء رجل إلى سوق الحدَّادين ببغداد، فباع مساميرَ صغارًا، المسمارُ برأسين. فأخذها الحدَّاد، وجعل يُحْمي عليها، فلا تلينُ معه حتى عجَز عن ضربها. فطلب البائعَ، فوجده، فقال: من أين لك هذه المسامير؟ فقال: لقيتُها. فلم يزل به حتَّى أخبره أنه (1) وجد قبرًا مفتوحًا، وفيه عظامُ ميِّتٍ منظومةٌ بهذه المسامير. قال: فعالجتُها على أن أُخرِجها، فلم أقدر، فأخذتُ حجرًا، فكسرتُ عظامه، وجمعتُها. قال: وأنا رأيت تلك المسامير. قلت له: فكيف صفتها؟ قال: المسمار صغير برأسين (2). قال ابن أبي الدنيا (3): وحدَّثني أبي، عن أبي الحَريش (4)، عن أمِّه قالت (5): لما حفر أبو جعفر (6) خندقَ الكوفة حوَّل الناسُ موتاهم، فرأينا _________ (1) ما عدا (أ، ق، غ): «بأنه» (2) نقله من كتاب الروح: ابن رجب في أهوال القبور (68) وعلَّق عليه بقوله: «هذه الحكاية مشهورة ببغداد، وقد سمعتها وأنا صبي ببغداد، وهي مستفيضة بين أهلها». ونقله أيضًا السيوطي في شرح الصدور (245). وتحرّف «منتاب» في الكتابين إلى «سنان». (3) في كتاب القبور (102). (4) كذا في (ن). وفي (ط): «الحرس». وفي (غ) بالجيم. وفي النسخ الأخرى: «الحريس». وفي مطبوعة القبور وشرح الصدور: «الجريش». (5) ما عدا (ق): «عن أبيه قال». والمثبت موافق لما في كتاب القبور وشرح الصدور (238)، والأهوال (68). ويظهر أنه كان كذا في الأصل، فغيَّره بعضهم. (6) تعني: المنصور الخليفة، وقد أمر بحفر خندق الكوفة سنة 155. البداية والنهاية (13/ 435).

(1/200)


شابًّا ممن حُوِّل عاضًّا على يديه. وذكر (1) عن سِمَاك بن حرب قال: مرَّ أبو الدرداء بين القبور، فقال: ما أسكَنَ ظواهرَك، وفي دواخلك (2) الدواهي! وقال ثابت البُنَاني: بينا أنا أمشي في المقابر، وإذا صوتٌ خلفي (3)، وهو يقول: يا ثابتُ، لا يغرَّنَّك سكوتُها (4)، فكم من مغمومٍ فيها! فالتفتُّ فلم أر أحدًا (5). ومرَّ الحسن على مقبرة، فقال: يا لهم من عسكر، ما أسكتهم (6)! وكم فيهم من مكروب (7)! وذكر ابن أبي الدنيا (8) أنّ عمر بن عبد العزيز قال لمسلمة بن عبد الملك: يا مسلمةُ، مَن دفن أباك؟ قال: مولاي فلان. قال: فمن دفن الوليد؟ قال: مولاي فلان. قال: فأنا أحدِّثك ما حدَّثني به: إنه لما دفَن أباك والوليدَ، فوضعهما في قبورهما، وذهب ليحُلَّ العقد عنهما= وجد وجوههما قد حُوِّلت في أقفيتهما. فانظر يا مسلمة، إذا أنا مِتُّ فالتمس وجهي، فانظر: _________ (1) في كتاب القبور (101). (2) (ب، ق، ن): «داخلك». وكان في الأصل: «دواخلك»، فضرب بعضهم على الواو. (3) (ب، ج): «خفي»، تحريف. (4) (ق، ط): «سكونها». (5) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور (107، 14) والهواتف (45). (6) (ق، ب، ط): «أسكنهم». وفي الأهوال (130): «يسكتهم». (7) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور (108). (8) في كتاب القبور (123).

(1/201)


هل نزل بي ما نزل بالقوم، أوْ هل عوفيتُ من ذلك؟ قال مسلمة: فلما مات عمر وضعته في قبره، فلمست وجهه، فإذا هو مكانه. وذكر ابن أبي الدنيا (1) عن بعض السلف قال: ماتت ابنة لي، فأنزلتُها القبر. فذهبتُ أُصلِح اللَّبِنَة، فإذا هي قد حُوِّلت عن القبلة. فاغتممتُ لذلك غمًّا شديدًا، فأُريتُها في النوم، فقالت: يا أبتِ أغتممتَ لِما رأيت؟ فإنَّ عامَّة مَن حولي محوَّلون (2) عن القبلة. قال: كأنها تريد الذين ماتوا مُصرِّين على الكبائر. وقال عمرو بن ميمون: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: كنتُ فيمن دلَّى الوليدَ بن عبد الملك في قبره، فنظرتُ إلى ركبتيه قد جُمِعتا في عنقه. فقال ابنه: عاش أبي، وربِّ الكعبة! فقلتُ: عُوجِلَ أبوك، وربِّ الكعبة! فاتَّعظ بها عمر بعده (3). وقال عمر بن عبد العزيز ليزيد بن المهلَّب لما استعمله (4) على العراق: يا يزيدُ، اتَّقِ الله، فإنّي حين وضعتُ الوليد في لحدِه، فإذا هو _________ (1) في كتاب القبور (125)، قال: حدثني عبد المؤمن، حدثني رجل قال: ماتت ابنة لي ... إلخ. (2) ما عدا (ن): «محوّلين». وكذا في كتاب القبور، فلعل ناسخ (ن) أصلح المتن. (3) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور (127). (4) الذي في كتاب القبور أن سليمان بن عبد الملك لما استعمل يزيد على العراق وخراسان ودَّعه عمر بن عبد العزيز قائلًا: يا يزيد ... إلخ. وانظر: تاريخ دمشق (63/ 181). ولعلّ المصنف كتب: «اُستُعمل» مبنيًّا للمجهول، فقرأه الناسخون: استعمله.

(1/202)


يركض (1) في أكفانه (2). وقال يزيد بن هارون: أبنا هشام بن حسَّان، عن واصلٍ مولى أبي عُيينة (3)، عن عَمرو بن هَرِم (4) عن عبد الحميد بن محمود قال: كنت جالسًا عند ابن عباس، فأتاه قوم، فقالوا: إنّا خرجنا حُجَّاجًا، ومعنا صاحبٌ لنا، حتى إذا أتينا ذا الصِّفاح (5) مات. فهيأناه، ثم انطلقنا، فحفرنا له، ولحَدْناه (6). فلما فرغنا من لحده إذا نحن بأسْودَ قد ملأ اللحد، فحفرنا له آخر، فإذا به قد ملأ لحدَه. فحفرنا آخر، فإذا به. فقال ابن عباس: ذاك الغُلُّ الذي يُغَلُّ به (7). انطلقوا، فادفنوه في بعضها. فوالذي نفسي بيده، لو حفرتم _________ (1) (ب): «إذا هو يركض». (ق): «فإذا يركض». وفي كتاب القبور: «يرتكض». وفي رواية أخرى في تاريخ دمشق: «اضطرب في أكفانه»، وفيه: «ركض في لحده، أي: ضرب برجله الأرض». (2) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور (126). (3) في جميع النسخ: «ابن عيينة»، والصواب ما أثبتنا من كتاب القبور. وانظر: تهذيب التهذيب (11/ 105) وغيره. (4) في جميع النسخ: «زهدم»، وهو تحريف ما أثبتنا من كتاب العقوبات، وشعب الإيمان (5311)، وشرح أصول الاعتقاد للالكائي (1742). وهو عمرو بن هرم الأزدي البصري، مات سنة 245. انظر: تهذيب التهذيب (8/ 113). (5) كذا في جميع النسخ وكتاب القبور، وغيّره بعضهم في الأصل إلى «ذات» كما في الأهوال (66) وشرح الصدور (239). وفي شعب الإيمان وكتاب اللالكائي: «الصفاح»، وهو المعروف. انظر: معجم البلدان (3/ 412). (6) (ق): «لحدنا له». وهو ساقط من (ن). (7) في شعب الإيمان وكتاب اللالكائي: «ذاك عمله الذي كان يعمل». ولا يبعد أن يكون ما في كتاب القبور تحريفًا لهذا.

(1/203)


الأرضَ كلَّها لوجدتموه فيه (1)، فانطلقنا فوضعناه في بعضها. فلما رجعنا أتينا أهله بمُتَيِّعٍ (2) له معنا، فقلنا لامرأته: ما كان يعمل زوجك؟ قالت: كان يبيع الطعام، فيأخذ منه كلَّ يومٍ قوتَ أهله، ثم يقرِضُ القَصَل (3) مثلَه (4)، فيلقيه فيه (5). وقال ابن أبي الدنيا (6): حدثني محمد بن الحسين، قال: حدَّثني أبو إسحاق صاحب الشاء (7) قال: دُعيت إلى ميت لأغسِّله، فلما كشفت الثوب _________ (1) كذا في جميع النسخ. ولعل المقصود: في لحده. وفي كتاب القبور: «فيها». (2) تصغير «متاع». (3) وهو ما يخرج من الطعام فيرمى به، ومثله: القُصالة .. قال اللحياني: هي ما يخرج من الطعام، فيرمى به، ثم يُداس الثانيةَ، وذلك إذا كان أجَلَّ من التراب والدقاق قليلًا. انظر: اللسان (11/ 558). وفي كتاب العقوبات: «ثم ينظر مثله من الشعير والقصب، فيقطعه، ويخلطه في طعامه». وفي شعب الإيمان: «ثم ينظر مثله من قصب الشعير». ولعل القصب تحريف القصل. (4) (ب، ط): «منه». (5) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور (128) والعقوبات (338). (6) في كتاب القبور (129). (7) رسمها في الأصل: «السا» وفوقها تضبيب. وفي الحاشية: «ط» فأثبت صاحبا نشرتي دار ابن تيمية ودار ابن كثير «الشاط». والظاهر أنها «ظ» المعجمة وهو رمز معروف لما فيه نظر. وفي كتاب القبور: «الشاة»، فأقرب ما يكون منه ومن رسم الأصل: «الشاء» جمع الشاة كما أثبتنا. وفي (ن): «صاحب أبي». وفي (غ): «صاحب النعا» وفوق الألف: ن. أما في (ب، ط، ج) فحذفوا الكلمتين، واستراحوا. وكذا فعل السيوطي أو ناسخ كتابه شرح الصدور (238). وممن لقب بصاحب الشاء: أبو سعيد سكن بن أبي خالد، يروي عن الحسن. ويقال له أيضًا: صاحب الغنم. انظر: الزهد لأحمد (270) والجوع لابن أبي الدنيا (200). ومنهم خلف بن عنبس صاحب الشاء. انظر: الإكمال (6/ 82).

(1/204)


عن وجهه إذا بحيَّة قد تطوَّقتْ على حلقه. فذكر من غِلَظها، قال: فخرجت ولم أغسله. فذكروا أنه كان يسبُّ الصحابة رضي الله عنهم. وذكر ابن أبي الدنيا (1)، عن سعيد بن خالد بن يزيد (2) الأنصاري، عن رجل من أهل البصرة كان يحفر القبور. قال: حفرت قبرًا ذات يوم، ووضعت رأسي قريبًا منه، فأتتني امرأتان في منامي، فقالت إحداهما: يا عبد الله، نَشَدتُك [45 ب] بالله إلا صرَفتَ عنَّا هذه المرأة، ولم تجاورنا بها. فاستيقظتُ فَزِعًا، فإذا (3) بجنازة امرأة قد جيء بها. فقلت: القبر وراءكم، فصرفتُهم عن ذلك القبر. فلما كان بالليل إذا أنا بالمرأتين في منامي تقول إحداهما: جزاك الله عنَّا خيرًا، فلقد صرفتَ عنا شرًّا طويلًا. قلت (4): ما لِصاحبتِك لا تكلّمني، كما تكلِّميني (5) أنت؟ قالت: إن هذه ماتت عن غير وصية وحُقَّ لمن مات عن غير وصية (6) ألا يتكلَّم إلى يوم القيامة. وهذه (7) الأخبار وأضعافُها وأضعاف أضعافِها ــ مما لا يتَّسع لها _________ (1) في كتاب القبور (137). (2) (ب، ج): «زيد». (3) (ط): «وإذا». (4) (ط): «فقلت». (5) كذا بحذف نون الرفع في جميع النسخ وكتاب القبور. (6) «وحقّ ... وصية» ساقط من (ن). (7) ما عدا (أ، ق، غ): «فهذه».

(1/205)


الكتاب ــ مما أراه الله سبحانه لبعض عباده من عذاب القبر ونعيمه عِيَانًا. وأما رؤية المنامِ، فلو ذكرناها لجاءت عدّة أسفار. ومن أراد الوقوفَ عليها، فعليه بكتاب «المنامات» لابن أبي الدنيا، وكتاب «البستان» (1) للقيرواني، وغيرِهما من الكتب المتضمِّنة لذلك. وليس عند الملاحدة والزنادقة إلا التكذيبُ بما لم يحيطوا بعلمه. فصل الأمر السادس (2): أنّ الله سبحانه يُحْدِث في هذه الدار ما هو أعجبُ من ذلك. فهذا جبريلُ كان ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويتمثَّلُ له رجلًا، فيكلِّمه بكلام يسمعه. ومَن (3) إلى جانب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يراه، ولا يسمعُه. وكذلك غيره من الأنبياء. وأحيانًا يأتيه الوحي في مثل صَلصلَة الجرس، ولا يسمعه غيره من الحاضرين. وهؤلاء الجنُّ يتحدَّثون ويتكلَّمون بالأصوات المرتفعة بيننا، ونحن لا نسمعهم. وقد كانت الملائكة تضرب الكفَّارَ بالسياط، وتضربُ رقابهم، وتصيح بهم؛ والمسلمون معهم لا يرونهم، ولا يسمعون كلامهم. والله سبحانه قد حجب بني آدم عن كثير مما يُحْدِثه في الأرض، وهو بينهم. وقد _________ (1) لم ينقط ناسخ الأصل التاء، وأسنان السين أيضًا لم تبرز، فقرأه ناسخ (غ): «البيان» وكذا في نشرة دار ابن كثير. وقد سبق ذكر القيرواني في (ص 94)، وسيأتي النقل من كتاب البستان هذا (ص 544، 551، 552). (2) ما عدا (أ، ن، غ): «السابع» وهو خطأ. وهذا الأمر تفصيل الوجه الثاني من جواب القرطبي عن هذه المسألة. التذكرة (375). (3) (ب، ط): «ومن هو».

(1/206)


كان جبريل يقرئ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويدارسُه القرآن، والحاضرون لا يسمعونه. وكيف يستنكر من يعرف (1) الله سبحانه ويُقِرُّ بقدرته، أن يُحدِثَ حوادثَ يَصرِفُ (2) عنها أبصارَ بعض خلقه (3)، حكمةً منه ورحمةً بهم؛ لأنّهم لا يطيقون رؤيتها وسماعَها؟ والعبد أضعفُ بصرًا وسمعًا من أن يثبُتَ لمشاهدة عذاب القبر. وكثيرٌ (4) ممن أشهده الله ذلك صَعِق [46 أ] وغُشي عليه، ولم ينتفع بالعيش زمنًا. وبعضهم (5) كُشِف قناعُ قلبه، فمات. فكيف ينكَر في الحكمة الإلهية إسبالُ غطاء يحول بين المكلَّفين وبين مشاهدة ذلك، حتى إذا كُشِفَ الغطاءُ رأوه وشاهدوه عيانًا. ثم إنّ العبد قادر على أن يزيل الزئبق والخردل عن عين الميِّت وصدره، ثم يردَّه بسرعة. فكيف يعجزُ عنه الملَك؟ وكيف لا يقدر عليه مَن هو على كل شيء قدير؟ وكيف (6) تعجز قدرته عن إبقائه في عينيه وعلى صدره، لا _________ (1) (ن): «يعبد». (2) (ن): «تُصرَف». (3) (ن): «أبصار خلقه». (4) ما عدا (ن): «وكثيرًا» ولم يتبين لي وجه نصبه. (5) (ب، ط): «بالعيش وسأل بعضهم»، وهو تحريف طريف. والمصنف يشير إلى ما رواه ابن إسحاق في حديث شهود الملائكة غزوة بدر من قول الغفاري: « ... إذ دنت منّا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعتُ قائلًا يقول: أقدِمْ حَيزومُ. فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه، فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلِكُ، ثم تماسكتُ». سيرة ابن هشام (1/ 633). (6) (ب، ط، ج): «فكيف».

(1/207)


يسقط (1) عنه؟ وهل قياسُ أمر البرزخ على ما يشاهدُه (2) الناس في الدنيا إلا محض الجهل والضلال، وتكذيب أصدق الصادقين، وتعجيز رب العالمين، وذلك غايةُ الجهل والظلم. وإذا كان أحدنا يمكنه توسعةُ (3) القبر عشرةَ أذرع ومائة ذراع فأكثر (4)، طولًا وعرضًا وعمقًا، ويستر توسُّعه (5) عن الناس، ويُطلِع عليه من يشاء (6) = فكيف يعجز ربُّ العالمين أن يوسِّعه ما يشاء على من يشاء، ويسترَ ذلك عن أعين بني آدم (7)، فيراه بنو آدم ضيِّقًا، وهو أوسعُ شيء، وأطيبُه ريحًا، وأعظمُه إضاءةً ونورًا، وهم لا يرون ذلك؟ وسرُّ المسألة: أنَّ هذه التوسعةَ والضيق والإضاءة والخضرة والنار ليس من جنس المعهود في هذا العالم، والله سبحانه إنما أشهدَ بني آدم في هذه الدار ما كان فيها ومنها. فأما ما كان من أمر الآخرة، فقد أَسْبَلَ عليه الغطاءَ ليكون (8) الإقرارُ به والإيمانُ سببًا لسعادتهم، فإذا كُشِفَ عنهم الغطاءُ صار عيانًا مشاهدًا. _________ (1) (ب، ط، ج): «ولا يسقط». (2) (ب، ط، ج): «يشاهد». (3) ما عدا (أ، ق، غ): «توسيع». (4) ما عدا (أ، غ): «وأكثر». (5) (ب، ق، ن): «توسيعه». (ط): «توسعته». (6) في (ب، ط) هنا وفيما يأتي: شاء. (7) (ب، ط، ج): «عيون بني آدم». (8) (ب، ط، ج): «فيكون». وقد سقط «ليكون ... الغطاء» من (ن).

(1/208)


فلو كان الميت بين الناس موضوعًا لم يمتنع أن يأتيه الملكان ويسألانه، من غير أن يشعر الحاضرون بذلك، ويجيبهما من غير أن يسمعوا كلامه، ويضربانه من غير أن يشاهد الحاضرون ضرْبَه. وهذا الواحد منّا ينام إلى جنب صاحبه، فيُعذَّب في النوم، ويُضرَب، ويألَم، وليس عند المستيقظ خبر من ذلك البتَّة، وقد يسري (1) أثر الضرب والألم إلى جسده. ومِن أعظم الجهل استبعادُ شقِّ الملَكِ الأرضَ والحجرَ، وقد جعلها (2) الله سبحانه له (3) كالهواء للطير، ولا يلزم من حَجْبِها للأجسام الكثيفة [46 ب] أن تتولَّج فيها حَجْبُها للأرواح اللطيفة. وهل هذا إلا من أفسد القياس؟ وبهذا وأمثالِه كُذِّبت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم. فصل الأمر السابع (4): أنه غير ممتنِعٍ أن تُردَّ الروح (5) إلى المصلوب والغريق والمحترق (6) ونحن لا نشعر بها، إذ ذلك الردُّ نوع آخرُ غير المعهود. فهذا المغمَى عليه والمسكوتُ (7) والمبهوتُ أحياء، وأرواحُهم معهم، ولا _________ (1) ما عدا (أ، غ): «سرى». (2) (ق): «جعلهما». (3) «له» لم يرد في (أ، غ). (4) (ق، ب، ط، ج): «الثامن»، والصواب ما أثبتنا من الأصل و (ن، غ) وقارن هذا الأمر بالوجه الثالث من جواب القرطبي في التذكرة (376). (5) في (أ، غ): «الروح ترد». (6) كذا في الأصل. وفي (ق، ب، ط، غ): «المحرَق». وفي (ن، ج): «الحريق». (7) يعني من أصابته السكتة. والكلمة لم ترد في المعجمات. وفي التذكرة: صاحب السكتة.

(1/209)


نشعر (1) بحياتهم. ومن تفرقت أجزاؤه لا يمتنع على من هو على كل شيء قدير أن يجعل للروح اتصالًا بتلك الأجزاء، على تباعُدِ ما بينهما (2) وقربه، ويكون في تلك الأجزاء شعورٌ بنوع من الألم واللذَّة. وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد جعل في الجمادات شعورًا (3) وإدراكًا تُسبِّح ربَّها به، وتسقط (4) الحجارةُ من خَشيته، وتسجد له الجبال والشجر، وتسبِّحه الحصَى والمياهُ والنبات. قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]. ولو كان التسبيح هو مجرَّد دلالتها على صانعها لم يقل: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (5) فإنَّ كلَّ عاقل يفهم (6) دلالتها على صانعها (7). _________ (1) ما عدا (أ، ق، غ): «يُشعر». (2) كذا في (أ، غ) يعني بين الروح وأجزاء الجسم. وفي غيرهما: «بينها». وكأنّ في (ق، ط) تغييرًا في المتن. (3) زاد في (ب): «بنوع من الألم». وأشير إليها في حاشية (ط). وهو غلط سببه انتقال النظر. وجواب «إذا» سيأتي بعد الشواهد على تسبيح الجمادات. (4) (ن): «تهبط». (5) «ولو كان ... تسبحهم» ساقط من (ن). (6) ما عدا (أ، غ): «يفقه». (7) وقد ذكر المصنف في مفتاح دار السعادة (2/ 106) أن هذا القول ــ وهو أنّ المراد من تسبيح الجمادات دلالتها على صانعها فقط ــ باطل من أكثر من ثلاثين وجهًا قد ذكر أكثرها في موضع آخر. وانظر: جامع الرسائل لشيخ الإسلام (1/ 40). والقول المذكور نسبه ابن الجوزي في زاد المسير (4/ 453) إلى جماعة من العلماء.

(1/210)


وقال تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} [ص: 18] والدلالة على الصانع لا تَختصُّ بهذين الوقتين. وكذلك قوله: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10] والدلالة لا تختصُّ معِيَّته (1) وحده. وكذَب على الله من قال: التأويبُ رجعُ الصدى (2)، فإنّ هذا يكون لكل مصوِّت. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18]. والدلالة على الصانع لا تختصُّ بكثير من الناس. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] فهذه صلاةٌ وتسبيح حقيقة يعلمها الله وإن جحدها الجاهلون (3) المكذبون. وقد أخبر تعالى عن الحجارة أنَّ بعضها يزولُ من مكانه، ويسقط (4) من _________ (1) (ن): «بمعيته». وفي (ب، ج): «بعينه». وفي (ط): «بعينيه» وكلاهما تصحيف. (2) ما عدا (أ، غ): «الصدر»، وهو تحريف. وفي (ط) حاشية لبعض القراء: «لعله الصوت أو الصدا». ثم نقل قول البغوي في تفسيره (3/ 595): «وكان داود إذا نادى بالناحية أجابته الجبال بصداها، وعكف الطير عليه من فوقه، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس اليوم من ذلك». ثم قال: فلعل هذا هو الذي ردّه المصنّف. (3) في (ج) زاد بعده واو العطف. وفي (ب، ط، ن): «الجاحدون». وفي (ط، ن) زاد واو العطف. (4) (ن): «يهبط».

(1/211)


خشيته. وقد أخبر عن الأرض والسماء أنهما يأذنان له، ــ وحُقَّ لهما (1) ذلك ــ أي (2): يستمعان كلامه؛ وقد خاطبهما، فسمعا خطابه، وأحسنا جوابه، فقال لهما: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]. وقد كان الصحابة يسمعون تسبيح الطعام، وهو يؤكل (3). وسمعوا حنين الجذع اليابس في المسجد (4) [47 أ]. فإذا (5) كانت هذه الأجسام فيها (6) الإحساس والشعور، فالأجسام التي كانت فيها الروح والحياة أولى بذلك. وقد أشهد الله سبحانه عباده في هذه الدار إعادةَ حياةٍ كاملة إلى بدن قد فارقته الروح، فتكلَّم، ومشى، وأكل وشرب، وتزوّج ووُلد له؛ كالذين {خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 243]، وكالذي {مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة: 259]، وكقتيلِ بني _________ (1) (أ، ق، غ): «قولهما»، تحريف. (2) (ب، ط، ج): «أن». (3) يشير إلى حديث ابن مسعود الذي أخرجه البخاري في المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3579). (4) انظر ما أخرجه البخاري في كتاب المناقب من حديث ابن عمر (3583) وجابر بن عبد الله (3584، 3585). (5) سياق الكلام: «وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد جعل في الجمادات شعورًا وإدراكًا ... فإذا كانت هذه الأجسام». طال الفصل بين إذا وجوابها فأعاد «فإذا كانت ... ». (6) (أ، غ): «منها».

(1/212)


إسرائيل، وكالذين قالوا لموسى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] فأماتهم الله، ثم بعثهم من بعد موتهم، وكأصحاب الكهف، وكقصة إبراهيم في الطيور الأربعة. = فإذا أعاد الحياة التامَّة (1) إلى هذه الأجساد بعد ما بَرَدت بالموت، فكيف يمتنع على قدرته الباهرة (2) أن يعيد إليها بعدَ موتها حياةً ما غيرَ مستقرَّة يقضي بها ما أمره فيها، ويستنطقُها بها، ويعذِّبها أو ينعِّمها بأعمالها؟ وهل إنكار ذلك إلا مجردُ تكذيب وعناد وجحود؟ وبالله التوفيق. فصل الأمر الثامن (3): أنه ينبغي أن يُعلَم أنَّ عذاب القبر ونعيمَه اسمٌ لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة (4). قال تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100]. وهذا البرزخ يُشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة. وسمِّي عذابَ القبر ونعيمَه وأنه روضة (5) أو حفرةُ نار باعتبار غالب الخلق، فالمصلوبُ والحريق والغريق (6) وأكيل السِّباع والطيور، له من _________ (1) (ب): «العامة»، تحريف. (2) (ب، ط، ن، ج): «القاهرة». (3) (ب، ط، ق، ج): «التاسع»، خطأ. (4) (أ، ق، غ): «وقال». (5) زاد في (ط): «من رياض الجنة». (6) (ب، ط، ج): «المحرق والمغرق». (ق، ن): «الحرق والغرق».

(1/213)


عذاب البرزخ ونعيمه قِسْطُه الذي تقتضيه (1) أعماله، وإن تنوعت أسباب النعيم والعذاب وكيفياتهما. وقد (2) ظنَّ بعضُ الأوائل (3) أنّه إذا حُرِق جسده بالنار، وصار رمادًا، وذُرِي بعضه في البحر وبعضه في البرِّ (4) في يوم شديد الريح= أنه ينجو من ذلك، فأوصى (5) بنيه أن يفعلوا به ذلك. فأمر الله البحرَ فجمع ما فيه، وأمر البرَّ فجمع ما فيه، ثم قال: قم، فإذا هو قائم بين يدي الله فسأله (6): ما حملك على ما فعلت؟ فقال (7): خَشْيتُك يا ربِّ، وأنت أعلم. فما تلافاه أن رحمه (8). فلم يفُتْ عذابُ البرزخ [47 ب] ونعيمه لهذه (9) الأجزاء التي صارت في هذه الحال، حتى لو عُلِّق الميت على رؤوس الأشجار في مهابِّ الرياح لأصابَ جسده من عذاب البرزخ حظُّه ونصيبُه. ولو دُفن الرجل الصالح في _________ (1) (ق، غ): «يقتضيه». ولم ينقط أوله في الأصل. (2) (أ، ق، غ): «فقد». (3) (ن): «أولئك»، تحريف. (4) في (ب، ج) قدّم البرّ على البحر. (5) (ب، ج)، «ما حرض» تحريف. (6) (ب، ط، ج): «قال». (7) (ب، ط، ج): «قال». (8) يشير إلى ما أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3478، 3481) ومسلم في التوبة باب سعة رحمة الله (2756، 2757) من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري. (9) في الأصل: «هذه» ولكن أخشى أن اللام لم تظهر في الصورة كما لم تظهر همزة الوصل من «الأجزاء».

(1/214)


أتُّون من النار لأصاب جسدَه من نعيم البرزخ ورَوحه نصيبُه وحظُّه، فيجعل الله النارَ على هذا بردًا وسلامًا، والهواءَ على ذلك (1) نارًا وسَمُومًا. فعناصرُ العالم وموادُّه منقادة لربِّها وفاطرِها وخالقها، يُصَرِّفُها كيف يشاء (2). ولا يستعصي عليه منها شيء أراده، بل هي طوع مشيئته، مذلَّلةٌ منقادةٌ لقدرته. ومَن أنكر هذا فقد جحدَ ربَّ العالمين، وكفر به، وأنكر ربوبيته. فصل الأمر التاسع (3): أن الموت معادٌ وبعث أوَّل، فإنَّ الله سبحانه جعل لابن آدم معادَين وبعثَين، يجزي فيهما الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. فالبعث الأول: مفارقةُ الروح للبدن، ومصيرها إلى دار الجزاء (4) الأول. والبعث الثاني: يومَ يردُّ الله الأرواح إلى أجسادها، ويبعثُها من قبورها إلى الجنة أو إلى النار، وهو الحشر الثاني. ولهذا في الحديث الصحيح: «وتؤمن بالبعث الآخر» (5)، فإنَّ البعث الأول لا ينكره أحد، وإن أنكر كثير من الناس الجزاء فيه والنعيم والعذاب. _________ (1) (ط): «هذا». (2) (ط): «شاء». (3) كذا في (ن، غ). وهو الصواب. ومما يستغرب أن الأصل الذي استمرّ على الصواب من الأمر الأول إلى الثامن أخطأ هنا وساير النسخ الأخرى. (4) (ن): «الحشر»، تصحيف. وانظر في تفسير «البعث الأول»: فتح الباري (1/ 118). (5) أخرجه البخاري في التفسير (4777) ومسلم في الإيمان (9) من حديث أبي هريرة.

(1/215)


وقد ذكر الله سبحانه هاتين القيامتين ــ وهما الصغرى والكبرى ــ في سورة المؤمنين، وسورة الواقعة، وسورة القيامة، وسورة المطففين، وسورة الفجر، وغيرها من السور. وقد اقتضى عدلُه وحكمتُه أن جعلهما داري جزاءٍ للمحسن والمسيء (1)، ولكنَّ توفية الجزاء إنما يكون يومَ المعاد الثاني في دار القرار، كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185]. وقد اقتضى عدلُه وأوجبت أسماؤه الحسنى وكمالُه المقدَّس تنعيمَ أبدان أوليائه وأرواحهم، وتعذيبَ أبدان أعدائه وأرواحهم؛ فلابدَّ أن يذيق بدنَ المطيع له وروحَه من النعيم واللذة ما يليق به [48 أ]، ويذيق بدنَ الفاجر العاصي له وروحَه من الألم والعقوبة ما يستحقّه. هذا موجَب عدلِه وحكمتِه وكمالِه المقدَّس. ولما كانت هذه الدارُ دارَ تكليف وامتحان، لا دار جزاء، لم يظهر فيها ذلك. وأما البرزخ فأولُ دار الجزاء، فظهر فيها من ذلك ما يليق بتلك الدار، وتقتضى الحكمةُ إظهارَه. فإذا كان يومُ القيامة الكبرى وَفَّى (2) أهلَ الطاعة وأهلَ المعصية ما يستحقُّونه من نعيم الأبدان والأرواح وعذابهما. وعذابُ (3) البرزخِ ونعيمُه أولُ عذاب الآخرة ونعيمها. وهو مشتقٌّ منه، وواصِلٌ إلى أهل البرزخ من هناك، كما دلَّ عليه القرآن والسنة الصريحةُ في _________ (1) (ن): «للمحسنين والمسيئين». ونحوه في (ق) دون لام الجرّ. (2) الضبط من (أ، ط، ن). ويجوز بالبناء للمجهول. (3) ما عدا الأصل: «فعذاب». وقد عدّل بعض القراء في الأصل أيضًا، فزاد فاءً، ونسي حذف الواو.

(1/216)


غير موضع دلالةً صريحةً، كقوله: «فيفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من رَوْحها ونعيمها»، وفي الفاجر: «فيفتح له باب إلى النار، فيأتيه من حرِّها وسمومها» (1). ومعلوم قطعًا أنَّ البدن يأخذ حظَّه من هذا الباب كما تأخذ الروح حظَّها، فإذا كان يومُ القيامة دخَلَ من ذلك الباب إلى مقعده الذي هو داخلُه. وهذان البابان يصل منهما إلى العبد في هذه الدار أثرٌ خفيٌّ محجوب بالشواغل والغواشي الحسيَّة (2) والعوارض، ولكن يُحِسُّ به كثير من الناس، وإن لم يعرف سببه، ولا يُحسِن التعبيرَ؛ فوجود الشيء غيرُ الإحساس به والتعبيرِ عنه. فإذا مات كان وصول ذلك الأثر إليه من ذَيْنك البابين أكملَ، فإذا بُعِث كَمُل وصولُ ذلك (3) الأثر إليه. فحكمةُ الربِّ تعالى منتظمة لذلك أكملَ انتظام في الدور الثلاثة. _________ (1) سبق تخريجه في أول المسألة السادسة. (2) (ن): «الجسمية». (ب، ط، ج): «الجسيمة». (3) (أ، غ): «بُعِث وصل ذلك».

(1/217)


فصل

  وأما المسألة الثامنة (1) وهي قول السائل: ما الحكمةُ في كون عذاب القبر لم يذكر في القرآن، مع شدة الحاجة إلى معرفته والإيمان به ليُحذَر ويُتَّقى؟

فالجواب من وجهين: مجمل، ومفصل. فأما (2) المجمل، فهو أنَّ الله سبحانه أنزل على رسوله وَحْيَين، وأوجب على عباده الإيمان بهما والعمل بما فيهما، وهما الكتابُ والحكمةُ؛ كما (3) قال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113]. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2]. وقال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]. والكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة، باتفاق السلف. وما أخبر به الرسول عن الله، فهو في وجوب تصديقه والإيمان به كما أَخبرَ به الربُّ تعالى على لسان رسوله. هذا أصلٌ متفق عليه بين أهل الإسلام، لا ينكره إلا من ليس منهم. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إني أوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه» (4). _________ (1) «فصل وأما» لم يرد في (ن). وسقط من (ب، ط): «وأما». وفي (ق، ن): «التاسعة». وزاد في (ن) بعدها: «منه». (2) ما عدا (أ، غ): «وأما». (3) «كما» من (أ، غ). وفي (ط): «وقال». (4) أخرجه أبو داود (4604)، والإمام أحمد (17147) من حديث المقدام بن معديكرب رضي الله عنه وإسناده صحيح. وصححه المصنف في التبيان في أيمان القرآن (ص 370). وانظر: السلسلة الصحيحة (2870). (قالمي).

(1/218)


وأما الجواب المفصل، فهو أنَّ نعيم البرزخ (1) وعذابَه مذكور في القرآن في غير موضع. فمنها: قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93]. وهذا خطاب لهم عند الموت قطعًا (2)، وقد أخبرت الملائكة ــ وهم الصادقون ــ أنَّهم حينئذٍ يُجزون عذاب الهون. ولو تأخَّر عنهم ذلك إلى انقضاء الدنيا لما صحَّ أن يقال لهم: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ}. ومنها (3) قوله تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45 - 46]. فذَكَر عذابَ الدَّارَين ذكرًا صريحًا لا يحتمل غيره. ومنها قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الطور: 45 ــ 47] وهذا يحتمل أن (4) يراد به عذابهم بالقتل _________ (1) ما عدا (أ، ق، غ): «الروح»، تصحيف. وفي (ق): «النعيم»، خطأ. (2) لم يرد «قطعًا» في (أ، ق، غ). (3) «منها» من (أ، ق، غ). (4) في (ب، ط، ج): «الذي». تحريف اختلّ به المعنى.

(1/219)


وغيره في الدنيا، وأن يراد به عذابُهم في البرزخ. وهو أظهر، لأن كثيرًا منهم مات (1)، ولم يعذَّب في الدنيا. وقد يقال ــ وهو أظهر ــ أنَّ من مات منهم عُذِّب في البرزخ، ومن بقي منهم (2) عُذِّب في الدنيا بالقتل وغيره. فهو وَعيدٌ بعذابهم في الدنيا وفي البرزخ. ومنها قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]. وقد احتجَّ بهذه الآية جماعة ــ منهم عبد الله بن عباس (3) ــ على عذاب القبر. وفي الاحتجاج بها شيءٌ؛ لأنَّ هذا عذابٌ في الدنيا يُستدعى به (4) رجوعُهم عن الكفر. ولم يكن هذا مما يخفَى على حبر الأمة وترجمان القرآن (5)، لكن من فِقْهه [49 أ] في القرآن ودِقَّة فهمه فيه، فَهِم منها عذابَ القبر؛ فإنَّه سبحانه أخبر أنَّ له فيهم عذابين: أدنى وأكبر، فأخبر أنه يذيقُهم بعض الأدنى ليرجعوا، فدلَّ على أنه بقي لهم من الأدنى بقيةٌ يعذَّبون بها بعد عذاب الدنيا. ولهذا قال: {مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى}، ولم يقل: ولنذيقنَّهم العذاب الأدنى (6) فتأمَّلْه. _________ (1) «مات» ساقط من (ن). (2) «منهم» من (أ، ق، غ). (3) لم أجده منهم، وإنما نُسب إليه في رواية ابن أبي طلحة: أنه مصائب الدنيا. وفيما رواه عكرمة: الحدود. أما القول بأن المراد عذاب القبر أو هو وعذاب الدنيا، فنسب إلى البراء بن عازب، ومجاهد. انظر: تفسير الطبري (18/ 631)، وزاد المسير (6/ 341). (4) ما عدا (أ، ق، غ): «بهم»، وهو خطأ. (5) في (ب، ط، ج) دون واو العطف قبله. (6) «ولم يقل ... الأدنى» ساقط من (ن).

(1/220)


وهذا نظير قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فيفتح له طاقةٌ إلى النار، فيأتيه من حرِّها وسَمومها» (1). ولم يقل: فيأتيه حرُّها وسمومها، فإنَّ الذي وصل إليه بعض ذلك، وبقي له أكثر. والذي ذاقه أعداء الله في الدنيا بعضُ العذاب الأدنى، وبقي لهم ما هو أعظم منه. ومنها: قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 83 ــ 96] (2)، فذكر هاهنا أحكامَ الأرواح عند الموت، وذكر في أول السورة أحكامها يوم المعاد الأكبر (3)، وقدَّم ذلك على هذا تقديم الغاية (4)، إذ هي أهم وأولى بالذكر. وجعلهم عند الموت ثلاثةَ أقسام، كما جعلهم في الآخرة ثلاثة أقسام. ومنها: قوله تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} (5) [الفجر: 27 ــ 30]. وقد اختلف السلف _________ (1) سبق تخريجه في المسألة السادسة. (2) في (ن) اكتفى الناسخ بكتابة الآيات إلى «المقربين» ثم قال: «إلى آخرها». (3) ما عدا (أ، غ): «الآخرِ». وانظر: المسألة الرابعة عشرة، وطريق الهجرتين (420). (4) زاد في (ق): «للقائه». (5) هنا أيضًا أثبت ناسخ (ن) الآيتين 27 ــ 28 ثم قال: إلى آخر الآية.

(1/221)


متى يقال لها ذلك؟ فقالت طائفة: يقال لها ذلك (1) عند الموت. وظاهرُ اللفظ مع هؤلاء، فإنه خطابٌ للنفس التي قد تجرَّدت عن البدن، وخرجت منه. وقد فسَّر ذلك النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله في حديث البراء وغيره: «فيقال لها: اخرجي راضيةً مرضيًّا عنك» (2). وسيأتي تمام تقرير هذا في المسألة التي يُذكَر فيها مُستقَرُّ الأرواح في البرزخ إن شاء الله تعالى (3). وقوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} مطابق لقوله عليه السلام [49 ب]: «اللهم الرفيق الأعلى» (4)، وأنت إذا تأمَّلت أحاديث (5) عذاب القبر ونعيمه وجدتها تفصيلًا وتفسيرًا لما دلَّ عليه القرآن. وبالله التوفيق (6). _________ (1) «ذلك» من (ب، ط، ج). (2) سبق تخريجه في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 159). (3) انظر المسألة الخامسة عشرة. ومدارج السالكين (2/ 179). (4) أخرجه البخاري (4463) ومسلم (2444) من حديث عائشة. (5) كلمة «أحاديث» ساقطة من (ن). (6) «وبالله التوفيق» لم يرد في (ن).

(1/222)


فصل

 وأما المسألة التاسعة (1) وهي قول السائل: ما الأسباب التي يعذَّب بها أصحاب القبور؟

فجوابها من وجهين: مجمل ومفصَّل. أما المجمل: فإنهم يعذَّبون على جهلهم بالله، وإضاعتهم لأمره، وارتكابهم لمعاصيه. فلا يعذِّب الله روحًا عرفته، وأحبَّته، وامتثلت أمرَه، واجتنبت نهيَهُ؛ ولا بدَنًا (2) كانت فيه أبدًا، فإنّ عذاب القبر وعذاب الآخرة أثرُ غضب الله وسُخْطِه على عبده، فمَن أغضب الله وأسخطَه في هذه الدار، ثم لم يتب، ومات على ذلك (3)، كان له من عذاب البرزخ بقدر غضبِ الله وسخطهِ عليه؛ فمستقِلٌّ ومستكثِر، ومصدِّقٌ ومكذِّب. وأما الجواب المفصَّل، فقد أخبرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجلين الذين رآهما يعذَّبان في قبورهما، يمشي أحدهما بالنميمة بين الناس، ويترك (4) الآخرُ الاستبراءَ من البول (5). فهذا ترَكَ الطهارة الواجبة، وذلك ارتكب السببَ المُوقِعَ للعداوة بين الناس بلسانه، وإن كان صادقًا. وفي هذا تنبيه على أنَّ المُوقِعَ بينهم العداوةَ بالكذب والزُّور والبهتان أعظمُ عذابًا، كما أنَّ _________ (1) في (ن): «العاشرة» ولم يرد فيها «فصل وأما». (2) (ب، ج): «ولابدمَا» وكذا كان محرّفًا في (ط) أيضًا فأصلحه بعضهم. (3) «على ذلك» ساقط من (ن). (4) (ب، ن، ج): «ترك». (5) تقدم الحديث في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 150).

(1/223)


في ترك الاستبراء من البول تنبيهًا على أنَّ مَن تَرَك الصلاة التي الاستبراءُ من البول بعضُ واجباتها وشروطها (1)، فهو أشدُّ عذابًا. وفي حديث شعبة: «أما أحدهما فكان يأكل لحوم الناس» (2). فهذا مغتاب، وذلك نمَّام. وقد تقدَّم (3) حديث ابن مسعود في الذي ضُرب سوطًا امتلأ القبر عليه به (4) نارًا، لكونه صلَّى صلاة واحدة بغير طهور، ومرَّ على مظلوم فلم ينصره. وقد تقدَّم (5) حديث سَمُرة في صحيح البخاري في تعذيب من يكذب الكذبة، فتبلغ الآفاق؛ وتعذيب من يقرأ القرآن، ثم ينام عنه بالليل، ولا يعمل به بالنهار؛ وتعذيب الزُّناةِ والزواني، وتعذيب آكل الربا، كما شاهدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - [50 أ] في البرزخ. وتقدَّم (6) حديث أبي هريرة الذي فيه رَضْخُ رؤوس أقوام بالصخر لتثاقُلِ رؤوسهم عن الصلاة، والذين يسرحون بين الضَّريع والزقّوم لتركهم زكاة أموالهم، والذين يأكلون اللحم المنتِنَ الخبيث لزناهم، والذين تُقرَض شفاهُهم بمقاريض من حديث لقيامهم في الفتن بالكلام والخطب. _________ (1) (ن): «وأعظم شروطها». (2) تقدّم في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 177). (3) في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 171). (4) «به» في (أ، ق، غ). (5) في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 169). (6) في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 172).

(1/224)


وتقدَّم (1) حديث أبي سعيد وعقوبة أرباب تلك الجرائم. فمنهم مَن بطونُهم أمثالُ البيوت، وهم على (2) سابلة آل فرعون، وهم أَكَلة الربا. ومنهم من تُفتَح أفواههم فيُلقَمون الجمرَ حتى (3) يخرج من أسافلهم، وهم أَكَلة (4) أموال اليتامى. ومنهم المعلَّقات بثُدِيِّهنَّ، وهنَّ الزواني. ومنهم من تُقطَع جنوبهم ويُطعَمون لحومَهم، وهم المغتابون. ومنهم من لهم أظفار من نحاس يخمِشون وجوههم وصدورهم، وهم الذين يمزّقون أعراض الناس. وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صاحب الشَّملة التي غلَّها من المغنم أنها تشتعل عليه نارًا في قبره (5). هذا، وله فيها حقٌّ، فكيف بمن ظلم غيرَه بما (6) لا حقَّ له فيه! فعذابُ القبر من معاصي القلب والعين والأذن والفم واللسان والبطن والفرج واليد والرجل، والبدنِ كلِّه. فالكذَّابُ (7)، والنمَّام، والمغتاب، وشاهد الزور، وقاذف المحصَن، والمُوضِع في الفتنة، والداعي إلى البدعة، والقائل على الله ورسوله ما لا علمَ له به، والمجازف في كلامه. _________ (1) في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 175). (2) ساقطة من (ن). (3) في (ب، ط، ج): «ويخرج». (4) (ب، ط، ج): «أكلوا» ولعل المقصود: «آكِلو»، فقد ضبطت الكاف بالكسرة في (ب). (5) سيأتي نصه في (ص 347). (6) كذا في الأصل. وفي غيرها: «ما». وغيّره بعضهم في (ن) إلى «فيما». (7) (ب، ن، ج): «كالكذاب».

(1/225)


وآكلُ الربا، وآكل أموال اليتامى، وآكل السُّحت من الرشوة والبِرْطِيل (1) ونحوهما، وآكل مالِ أخيه المسلم بغير حقٍّ أو مال المعاهَد، وشارب المسكِر، وآكل لقمة الشجرة الملعونة، والزاني، واللوطي، والسارق، والخائن، والغادر (2)، والمخادع، والماكر، وآخذ الربا (3)، ومعطيه، وكاتبه (4)، وشاهداه؛ والمحلل والمحلَّل له، والمحتال على إسقاط فرائض الله وارتكاب محارمه، ومؤذي المسلمين، ومتَّبع عوراتهم. والحاكم بغير ما أنزل الله (5)، والمفتي بخلاف (6) ما شرَعَه الله، والمعين على الإثم والعدوان، وقاتل النفس التي حرم الله، والملحِد في حرم الله، والمعطِّل لحقائق أسماء الله وصفاته الملحِد (7) فيها، والمقدِّم رأيَه (8) وذوقَه وسياسته على سنَّة [50 ب] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والنائحةُ والمستمِعُ إليها، ونوَّاحو (9) جهنَّم ــ وهم المغنُّون (10) الغناءَ الذي حرَّمه الله ورسولُه ــ والمستمعُ إليهم، والذين يبنون المساجد على _________ (1) البِرطيل: الرشوة. (2) (ب): «الغالّ». (3) (ب، ط، ج): «آكل الربا وموكله». (4) ساقط من (ب، ط، ن، ج). (5) «والحاكم ... » ساقط من (ب، ج). (6) (ط): «بغير». (7) (ب، ط، ن): «والملحد». (8) «رأيه» ساقط من (ب، ج). (9) في جميع النسخ: «ونوّاحي»، وهو معطوف على مرفوع. (10) (أ، ق، غ): «المغنيون».

(1/226)


القبور، ويُوقدون عليها القناديل والسرج؛ والمطفِّفون في استيفاء ما لهم إذا أخذوه، وهَضْمِ ما عليهم إذا بذلوه، والجبَّارون، والمتكبِّرون، والمراؤون (1) والهمّازون، واللمّازون، والطاعنون (2) على السلف، والذين يأتون الكَهَنة والمنجِّمين والعرَّافين (3)، فيسألونهم، ويصدِّقونهم. وأعوانُ الظلَمَة الذين قد باعوا آخِرَتهم بدنيا غيرهم (4)، والذي إذا خوَّفتَه بالله وذكَّرته به لم يرعَوِ، ولم ينزجر؛ فإذا خوَّفته بمخلوقٍ مثلِه خاف، وارعوى، وكفَّ عمَّا هو فيه. والذي يُهدَى بكلام الله ورسوله، فلا يهتدي، ولا يرفع به رأسًا؛ فإذا بلغه عمَّن يُحسِنُ به الظنَّ، ممَّن يصيب ويخطئ، عضَّ عليه بالنواجذ، ولم يخالفه. والذي يُقرأ عليه القرآنُ، فلا يؤثِّر فيه، وربما استثقَلَ به؛ فإذا سمع قرآن الشيطان، ورقية الزنا، ومادّة النفاق= طاب سِرُّه (5)، وتواجَدَ، وهاج من قلبه دواعي الطرب، وودَّ أنَّ المغنِّي لا يسكتُ. والذي يحلف بالله، ويكذب، فإذا حلف بالبندق (6)، أو _________ (1) ساقط من (ن). (2) أسقط ناسخ (ن): «اللمازون»، وكتب: «الطعانون». (3) (ط): «الطرقين»، تحريف. (4) سقط «غيرهم» من (ج). وفي (ب، ط): «بدنياهم ودنيا غيرهم». (5) (ب): «مسرة». (ط): «مرةً». (ن): «مشربه». وكله تحريف. (6) كان رماة البندق يحلفون به في عهودهم فيما بينهم. انظر: مجموع الفتاوى (1/ 204). وانظر عن شرع البندق وعهود رماته: مجموع الفتاوى (11/ 451)، (25/ 407). وفي (ن): «حلف بأبيه». ولعل «بالبندق» خفي على ناسخها أو ناسخ أصلها، فتصرَّف في المتن.

(1/227)


برأس شيخه (1) أو تُربته (2) أو سراويل الفتوة (3)، أو حياة من يحبُّه ويعظِّمه من المخلوقين= لم يكذب، ولو هُدِّد وعُوقب. والذي يفتخرُ بالمعصية، ويتكثَّر بها بين إخوانه وأضرابه، وهو المجاهر؛ والذي لا تأمنُه على مالك وحرمتك (4)، والفاحش اللسان البذيء (5) الذي تركه الناس (6) اتقاءَ شرَّه وفُحْشه. والذي يؤخِّر الصلاة إلى آخر وقتها، وينقُرُها، ولا يذكر الله فيها إلا قليلًا، ولا يؤدِّي زكاةَ ماله طيِّبةً بها نفسُه، ولا يحجُّ مع قدرته على الحجِّ، ولا يؤدِّي ما عليه من الحقوق مع قدرته عليها، ولا يتورَّع من لَحْظةٍ (7) ولا لفظةٍ ولا أَكلةٍ ولا خَطوةٍ، ولا يبالي بما حصّل المال من حلال أو حرام، ولا يصلُ رَحِمه؛ ولا يرحم [51 أ] المسكين، ولا الأرملَة ولا اليتيمَ، ولا الحيوان البهيمَ؛ بل يدُعُّ اليتيم، ولا يحضُّ على طعام المسكين، ويرائي العالمين، _________ (1) «برأس» تحرّف في أكثر النسخ المطبوعة إلى «برئ من». (2) في (أ، ق، غ): «قريبه»، وهو تصحيف. ويبدو أنّ الحلف بتُرَب الأنبياء والصالحين كان رائجًا في عهد المصنف. وقد ذكره شيخ الإسلام مع أيمان البندق وسراويل الفتوة في رسالته في التوسل. مجموع الفتاوى (1/ 204). (3) كان الحلف بها شائعًا عند أهل الفتوة. انظر المصدر السابق. وفي (ن): «لباس الفتوة». وهو تصرّف في المتن. (4) غيّره بعضهم في الأصل إلى «حريمك»! (5) ساقط من (ب، ط). (6) «الناس» ساقط من (ق). وفي (ب، ط) مع هذا السقط: «تتركه»، يعني: أنت. وكأنه إصلاح للجملة. (7) (ن): «في لحظة».

(1/228)


ويمنع الماعون، ويشتغل بعيوب الناس عن عيبه، وبذنوبهم عن ذنبه. = فكلُّ هؤلاء وأمثالُهم يعذَّبون في قبورهم بهذه الجرائم بحسَبِ كثرتها وقلِّتها، وصِغَرها وكِبَرها (1). ولما كان أكثر الناس كذلك كان أكثر أصحاب القبور معذَّبين، والفائزُ منهم قليل. فظواهر القبور تراب، وبواطنها (2) حسرات وعذاب. ظواهرُها بالتراب والحجارة المنقوشة مَبْنِيَّات، وفي باطنها الدواهي والبَلِيَّات، تغلي بالحسرات، كما تغلي القدور بما فيها. ويحِقّ لها، وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها. تالله لقد وعظَتْ، فما تركت لواعظٍ مقالًا، ونادت: يا عُمَّار الدنيا لقد أعمرتم (3) دارًا موشكة بكم زوالًا، وخرَّبتم دارًا أنتم مسرعون (4) إليها انتقالًا. عمَّرتم بيوتًا لغيركم منافعُها وسُكنْاها، وخرّبتم بيوتًا ليس لكم مساكنُ سواها: هذه دار الاستيفاء (5)، ومستودعُ الأعمال، وبَيدَر الزرع (6). _________ (1) (أ، ق، غ): «صغيرها وكبيرها». (2) ما عدا (أ، ق، غ): «فظاهر ... وباطنها». (3) ما عدا (أ، غ): «عمرتم. ثم جاءت السجعتان: «زوالًا» وانتقالًا في (ب، ط) بعد «سواها». (4) (ب، ن): «تسرعون». (5) كذا في جميع النسخ. والمراد بها المساكن التي خرّبوها، وهي مساكن البرزخ والدار الآخرة. فلمَّا توهم ناشرو الكتاب أن المراد بهذه دار الدنيا، وبما بعدها دار الآخرة، غيَّر كثير منهم «الاستيفاء» إلى «الاستباق»، وزادوا واوًا قبل «محلّ العبر». (6) كذا في جميع النسخ. وغيّره الناشرون لوهمهم المذكور إلى «بذر».

(1/229)


هذه محلُّ العبر (1)، رياض من رياض الجنة، أو حُفرة (2) من حُفَر النار. _________ (1) (ق): «الغير». (ن): «الصبر». وفي النسخ المطبوعة: «وهذه محلٌّ للعبر». (2) في (ج): «حُفَر»، وهو أشبه بالسياق.

(1/230)


فصل

 وأمَّا المسألة العاشرة (1) وهي قوله: ما هي الأسباب المنجية من عذاب القبر؟

فجوابها أيضًا من وجهين: مجمل، ومفصّل. أمَّا المجمل، فهو تجنُّب (2) تلك الأسباب التي تقتضي عذاب القبر. ومن أنفعها (3): أن يجلس الإنسان (4) عندما يريدُ النومَ لله (5) ساعةً، يحاسبُ نفسه فيها (6) على ما خسِره وربِحه في يومه، ثم يجدِّد له (7) توبةً نصوحًا بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة، ويعزِم على أن لا يعاوِدَ الذنب إذا استيقظ. ويفعل هذا (8) كلَّ ليلة، فإن مات من ليلته مات على توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبِلًا للعمل، مسرورًا بتأخير أجله حتى يستقيل ربَّه، ويستدرِكَ ما فاته. وليس للعبد أنفعُ من هذه التوبة (9) ولاسيَّما إذا عقَّب (10) ذلك بذكر الله _________ (1) في (ن): «الحادية عشرة». ولم يرد فيها «فصل وأما». (2) (أ، ق، غ): «بحسب»، تصحيف. (3) يعني الأسباب المنجية. (4) ما عدا (أ، غ): «الرجل». (5) ساقط من (ن). (6) ما عدا (أ، ق، غ): «فيها نفسه». (7) ساقط من (ط). (8) (ط): «هكذا». (9) ساقط من (ط). وفي (ب، ق، ن): «النومة»، تصحيف. (10) (ط، ن): «أعقب».

(1/231)


واستعمال السُّنن التي وردت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[51 ب] عند النوم، حتى يغلبَه النوم. فَمَن أراد الله به خيرًا وفَّقه لذلك، ولا قوة إلا بالله. وأما الجواب المفصَّل، فنذكر أحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يُنجِي من عذاب القبر. فمنها: ما رواه مسلم في صحيحه (1) عن سلمان قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «رِباطُ يومٍ وليلةٍ (2) خيرٌ من صيام شهر وقيامه. وإن مات أُجري عليه عملُه الذي كان يعمله (3)، وأجري عليه رزقُه، وأمِنَ الفَتَّانَ». وفي جامع الترمذي (4) من حديث فَضالة بن عبيد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كلُّ ميِّت يُخْتَم على عمله إلا الذي مات مرابطًا في سبيل الله، فإنه يُنمَى له عملُه إلى يوم القيامة، ويأمنُ من فتنة القبر». قال الترمذي (5): هذا حديث حسن صحيح. وفي سنن النسائي (6) عن راشد بن سعد، عن رجل من أصحاب _________ (1) برقم (1913). (2) زاد في (ط): «في سبيل الله». (3) (ط): «يعمل». (4) برقم (1621)، وأخرجه أبو داود (2500)، والإمام أحمد (23951)، وابن حبان (4624)، والحاكم (2/ 79) من طريق أبي هانئ الخولاني، عن عمرو بن مالك الجَنْبِي، عن فضالة بن عبيد. وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم». قلت: عمرو بن مالك الجنبي المصري ثقة لكنه ليس من رجال الشيخين. (قالمي). (5) في (ن) مكان «الترمذي»: «ت»، وحذف بعده «هذا». وفي أول هذه الفقرة، وفيما يأتي أيضًا استعمل هذا الرمز أحيانًا. (6) برقم (2053)، وصحح إسناده الألباني في أحكام الجنائز (ص 50). (قالمي). وسيأتي شرح الحديث.

(1/232)


النبي (1) - صلى الله عليه وسلم - أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله ما بالُ المؤمنين (2) يُفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: «كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنةً». وعن المقدام (3) بن معدِ يكَرِب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «للشهيد عند الله ستُّ خصال: يُغفَر له في أول دَفعةٍ من دمه (4)، ويُرَى مقعدَه من الجنة، ويُجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويُوضَع على رأسه تاج الوقار، الياقوتةُ منه خيرٌ من الدنيا وما فيها، ويزوَّج ثنتين (5) وسبعين زوجةً من الحور العين، ويشفَّع في سبعين من أقاربه» (6) رواه ابن ماجه، والترمذيُّ (7)، وهذا لفظه، وقال: هذا حديث حسن صحيح (8). _________ (1) (ط): «رسول الله». (2) بعدها سقطت ورقة من (ج). (3) (ط): «المقداد»، تحريف. (4) «من دمه» لم يرد في (ب، ط). وكذلك في بعض نسخ الجامع. (5) (ط): «بثنتين». (6) «من أقاربه» ساقط من (ن). (7) أخرجه الترمذي (1663) من طريق بقية بن الوليد. وأخرجه ابن ماجه (2799)، وسعيد بن منصور في سننه (2562)، وعبد الرزاق في مصنفه (9559)، والإمام أحمد (17182)، وابن أبي عاصم في الجهاد (204) من طريق إسماعيل بن عياش كلاهما عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن المقدام بن معديكرب. وصحّح إسناده الألباني في أحكام الجنائز (ص 50). (قالمي). (8) في (ب، ن): «حسن صحيح غريب». وكذا في النسخ المطبوعة للجامع، وتذكرة القرطبي (419).

(1/233)


وعن ابن عباس قال: ضرَبَ رجلٌ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خِباءَه على قبر، وهو لا يحسَبُ أنه قبرٌ؛ فإذا (1) إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ضربتُ خبائي على قبر، وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا (2) قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - [52 أ]: «هي المانعة، هي المنجيةُ، تُنجِيه من عذاب القبر» (3). قال _________ (1) (ب، ط): «فإذا هو». (2) (ب، ط): «فإذا هو». (3) أخرجه الترمذي (2890) قال: ثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، ثنا يحيى بن عمرو بن مالك، عن أبيه، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس. ومن هذا الوجه أخرجه البزار في مسنده (5300)، والطبراني في المعجم الكبير (12801)، وابن عدي في الكامل (7/ 205)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 81)، والبيهقي في إثبات عذاب القبر (165). وفيه يحيى بن عمرو بن مالك النُّكريّ له ترجمة في التهذيب، وهو متفق على ضعفه، وقال العقيلي: «لا يتابع على حديثه»، وترجمه ابن عدي في الكامل وعدّ له هذا الحديث من جملة ما أنكر عليه، وقال في آخر ترجمته: «وهذه الأحاديث التي ذكرتها عن يحيى بن عمرو بن مالك عن أبيه عن أبي الجوزاء عن ابن عباس كلها غير محفوظة تفرد بها يحيى بهذا الإسناد». وفي الباب عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «يؤتى الرجل في قبره من قبل رجليه فتقول رجلاه: ليس لكم على ما قبلي سبيل، قد كان يقوم عليّ بسورة الملك. قال: فيؤتى جوفه فيقول جوفه: ليس لكم على ما قبلي سبيل، قد وعى فيَّ سورة الملك. قال: فتؤتى رأسه فيقول لسانه ليس لكم على ما قبلي سبيل، قد كان يقوم فيّ بسورة الملك. فقال عبد الله: هي المانعة بإذن الله عز وجل من عذاب القبر، وهي في التوارة سورة الملك، ومن قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب». رواه عبد الرزاق (6025)، والفريابي في فضائل القرآن (32، 34، 35)، وابن الضريس في فضائل القرآن (232، 233)، والحاكم (2/ 498) وإسناده جيد، وصحَّحه الحاكم. وهو في حكم المرفوع. (قالمي).

(1/234)


الترمذي: هذا حديث حسن غريب (1). ورُوِّينا في «مسند عبد بن حُميد» (2)، عن إبراهيم بن الحكم، عن أبيه، _________ (1) في بعض نسخ «الجامع»: «حديث غريب» فقط كما في تحفة الأشراف (5367)، وتفسير ابن كثير (8/ 174) وهو الأنسب لحال إسناده. (قالمي). (2) المنتخب من المسند (601)، وأخرجه البزار (2305. كشف الأستار)، والطبراني في المعجم الكبير (11616) من طريق سلمة بن شبيب، عن إبراهيم بن الحكم، به، مقتصرًا على المرفوع، وزاد في آخره: «يعني {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}» وعند البزار: «يعني يس». وقال البزار: «لا نعلمه يروى عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد». قلت: وإسناده ضعيف جدًّا؛ علّته إبراهيم بن الحكم هو ابن أبان له ترجمة في التهذيب (1/ 115 ــ 116) وهو مجمع على ضعفه، ضعّفه جدًّا ابن معين، والبخاري وأبو داود والنسائي والعقيلي وغيرهم، ونقل ابن عدي في الكامل (1/ 242) عن عباس بن عبد العظيم يقول: وذكرنا له أو ذكر له إبراهيم بن الحكم بن أبان فقال: كانت هذه الأحاديث في كتبه مراسيل ليس فيها ابن عباس ولا أبو هريرة يعني أحاديث أبيه عن عكرمة. وأورد له ابن عدي أحاديث يرويها عن أبيه عن عكرمة موصولة، ثم قال: «ولإبراهيم بن الحكم غير هذه الأحاديث عن أبيه، وبلاؤه مما ذكروه أنه كان يوصل المراسيل عن أبيه، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه». وبه أعلّ الحديث الحافظ ابن كثير في تفسيره (8/ 174 ــ 175)، والهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 127)، والبوصيري في إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة (6/ 291). ولكن لم يتفرد به بل توبع عليه، فأخرجه الحاكم (1/ 565) من طريق حفص بن عمر العدني، حدثني الحكم بن أبان، به. وقال: «هذا إسناد عند اليمانيين صحيح». فتعقبه الذهبي بقوله: «حفص واهٍ» يعني حفص بن عمر بن ميمون العدني، له ترجمة في التهذيب (2/ 410 ــ 411) قال ابن معين والنسائي: ليس بثقة، وقال أبو داود: ليس بشيء، وفي رواية عنه: منكر الحديث، وقال العقيلي: يحدث بالأباطيل، وقال ابن عدي: عامة حديثه غير محفوظ، وبالجملة فهو لا يختلف عن إبراهيم بن الحكم في الضعف إن لم يكن أسوأ حالًا منه. (قالمي).

(1/235)


عن عكرمة، عن ابن عباس أنَّه قال لرجل: ألا أُتحِفُك بحديثٍ تفرح به؟ قال الرجل: بلى. قال: اقرأ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] احفَظْها، وعَلِّمها أهلَك وولدَك وصبيانَ بيتك وجيرانك، فإنّها المنجيةُ، والمجادِلةُ، تجادلُ ــ أو تخاصمُ (1) ــ يوم القيامة عند ربِّها لقارئها، وتطلبُ له إلى ربِّها أن يُنجِيَه من عذاب النار، إذا كانت في جوفه. وينجي الله بها صاحبَها (2) من عذاب القبر. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لودِدْتُ أنها في قلب كل إنسان من أمتي». قال أبو عمر بن عبد البر (3): وصحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن سورة ثلاثين آيةً شفعت في صاحبها حتى غُفِر له {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}» (4). _________ (1) (ط، ن): «وتخاصم». (2) (ق): «صاحبتها»، خطأ. (3) في التمهيد (7/ 262). (4) أخرجه أبو داود (1400)، والترمذي (2891)، والنسائي في الكبرى (11612)، وابن ماجه (3786)، والإمام أحمد (7975)، وابن حبان (787، 788)، والحاكم (1/ 565) من طرق عن شعبة، عن قتادة، عن عباس الجشمي، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (فذكره). وحسنه الترمذي، وصحح إسناده الحاكم. ورجاله ثقات سوى عباس الجشمي فلم يوثقه غير ابن حبان، ولم يرو عنه إلا قتادة وسعيد الجريريّ. وله شاهد من حديث أنس رضي الله عنه أخرجه الطبراني في الأوسط (3654)، والصغير (490) ومن طريقه ضياء الدين المقدسي في المختارة (1739). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 127): «رواه الطبراني في الصغير والأوسط ورجاله رجال الصحيح». قلت: سوى شيخ الطبراني سليمان بن داود بن يحيى الطبيب فلا يعرف بجرح أو تعديل. (قالمي).

(1/236)


وفي «سنن ابن ماجه» (1) من حديث أبي هريرة يرفعه: «من مات مريضًا مات شهيدًا، ووُقِيَ فتنة القبر، وغُدِيَ ورِيحَ عليه برزق من الجنّة». وفي «سنن النسائي» (2) عن جامع بن شداد قال: سمعت عبد الله بن _________ (1) برقم (1615) من طريق ابن جريج، أخبرني إبراهيم بن محمد بن أبي عطاء، عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة. ومن هذا الوجه أخرجه عبد الرزاق (9622)، وأبو يعلى الموصلي (6145)، والطبراني في الأوسط (5262)، وابن الجوزي في الموضوعات (3/ 216). وقال ابن الجوزي عقبه: «هذا حديث لا يصح، ومدار الطرق على إبراهيم وهو ابن أبي يحيى، وقد كانوا يدلسونه لأنه ليس بثقة ... وهو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي واسم أبي يحيى سرحان، قال مالك ويحيى بن سعيد وابن معين: هو كذاب، وقال أحمد بن حنبل: قد ترك الناس حديثه، وقال الدارقطني: هو متروك». ونقل عن الإمام أحمد أنه قال: «إنما هو من مات مرابطًا وليس هذا الحديث بشيء» اهـ. وكذا قال أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان، كما في العلل لابن أبي حاتم (1065). وسيأتي تنبيه المصنف رحمه الله على ضعف الحديث وأن ابن ماجه انفرد بتخريجه من بقية أصحاب الكتب الستة وفي إفراداته غرائب ومنكرات. (قالمي). (2) برقم (2052) من طريق شعبة، عن جامع بن شداد، بهذا الإسناد. ومن هذا الوجه أخرجه أبو داود الطيالسي (1384)، والإمام أحمد (18310، 18311)، وابن حبان (2933). وزادوا جميعًا: «قال الآخر: بلى». قال الحافظ ابن حجر في فتاوى له مطبوعة مع الإمتاع بالأربعين المتباينة السماع (ص 81): «إسناده صحيح». وأخرجه الترمذي (1064)، والإمام أحمد (18312) من طريق أبي سنان سعيد الشيباني، عن أبي إسحاق، قال: مات رجل صالح فأُخرج بجِنازته، فلما رجعنا تلقانا خالد بن عرفطة وسليمان بن صُرَد. وكلاهما قد كانت له صحبة. فذكره. وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب في هذا الباب، وقد روي من غير هذا الوجه». (قالمي).

(1/237)


يسار (1) يقول: كنت جالسًا مع سليمان بن صُرَد وخالد بن عُرْفُطة، فذكروا أنَّ رجلًا مات ببطنه، فإذا هما يشتهيان أن يكونا شَهِدا جنازته، فقال أحدهما للآخر: ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من يقتله بطنه لم يعذَّب في قبره»؟ وقال أبو داود الطيالسي في «مسنده» (2): ثنا شعبة، حدَّثني أحمد بن جامع بن شدَّاد قال: حدَّثني (3) أبي، فذكره، وزاد: فقال الآخر: بلى (4). وفي «الترمذي» (5) من حديث ربيعة بن سيف، عن عبد الله بن عمرو _________ (1) (أ، ق، غ): «يشكر»، تحريف. (2) برقم (1384). (3) «حدثني أحمد بن جامع .... أبي» كذا في جميع النسخ. ولا أدري ما هذا! فإن إسناد الطيالسي كإسناد النسائي: «حدثنا شعبة قال: أخبرني جامع بن شداد، عن عبد الله بن يسار». ولا يعرف ابن لجامع يسمى أحمد ويروي عنه. والمصنف ينقل عن تذكرة القرطبي (422) والسند فيها على الصواب. (4) تابع المصنف في ذلك القرطبي. وهو غريب، فإن الزيادة المذكورة واردة في سنن النسائي: المجتبى والكبرى كلتيهما. (5) برقم (1074). وأخرجه الإمام أحمد (6582) من طريق هشام بن سعد، عن سعيد بن أبي هلال، عن ربيعة بن سيف، به. وإسناده منقطع كما قاله الترمذي. ولكن جاء موصولًا من وجه آخر، كما ذكره المصنف فيما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (1514، 1569) من طريق بشر بن عمر، والطبراني في المعجم الكبير (14251) من طريق خالد بن نزار. كلاهما عن هشام بن سعد، عن سعيد بن أبي هلال، عن ربيعة بن سيف الإسكندراني، عن عياض بن عقبة الفهري، عن عبد الله بن عمرو، به. وعياض بن عقبة مجهول لا يعرف. لكن له طريق أخرى أخرجها الإمام أحمد (6646، 7050)، والطبراني في الكبير (14747)، والبيهقي في إثبات عذاب القبر (173) من طرق عن بقية بن الوليد، عن معاوية بن سعيد التجيي، عن أبي قبيل، عن عبد الله بن عمرو، به. ومعاوية بن سعيد روى عنه جمع وذكره ابن حبان في الثقات (9/ 166)، وبقية رجاله ثقات؛ أبو قبيل اسمه حُيي بن هانئ المصري وثقه الإمام أحمد وابن معين وأبو زرعة والفسوي وأحمد بن صالح المصري، وقال أبو حاتم: صالح الحديث (تهذيب التهذيب 3/ 73)، وبقية بن الوليد صرَّح بالتحديث في جميع السند عند أحمد والبيهقي. وله طريق أخرى عند البيهقي في إثبات عذاب القبر (174) من طريق ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة، عن سيار بن عبد الرحمن الصدفي، أن عبد الله بن عمرو كان يقول: «من توفي يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقي الفتّان». وفيه ابن لهيعة وهو سيئ الحفظ غير أنّ رواية العبادلة عنه أعدل من غيرها وهذه منها، ولكن فيه انقطاع فإن سيار بن عبد الرحمن الصدفي المصري لم يدرك عبد الله بن عمرو وهو معدود عند الحافظ في الطبقة السادسة الذين لم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة؛ ولذا قال ابن حبان بعد أن ترجمه في ثقات التابعين (4/ 335): «يروي المراسيل» ثم أعاد ترجمته في ثقات أتباع التابعين (6/ 421). وله شاهد من حديث أنس رضي الله عنه، أخرجه أبو يعلى (4113). قال الهيثمي في المجمع (2/ 319): «وفيه يزيد الرقاشي وفيه كلام». وبالجملة فالحديث بمجموع طرقه وشاهده قابل للتحسين. والله أعلم. (قالمي).

(1/238)


قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة

(1/239)


إلا وقاه الله فتنةَ القبر». قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب (1). وليس إسناده بمتصل، ربيعةُ بن سيف إنما يروي عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي (2) عن عبد الله بن عمرو، ولا يُعرف لربيعة بن سيف سماع من عبد الله بن عمرو. انتهى. [52 ب] وقد روى الترمذي الحكيم (3) من حديث ربيعة بن سيف (4) هذا عن عِياض بن عُقبة الفِهْري عن عبد الله بن عمرو. وقد رواه أبو نعيم الحافظ (5) عن محمد بن المنكدر (6)، عن جابر مرفوعًا، ولفظه: «من مات ليلةَ الجمعة أو يوم الجمعة أُجيرَ من عذاب القبر، وجاء يوم القيامة وعليه طابَعُ الشهداء». تفرَّد به عمر بن موسى الوَجِيهي (7)، _________ (1) في النسخ المطبوعة وتحفة الأشراف: «حديث غريب» من غير تحسين، فلعله هو الصواب لحكمه عليه بالانقطاع. (قالمي). (2) (ق): «الحيلي»، تصحيف. (3) في نوادر الأصول برقم (1514، 1569). وفي (ب، ط): «روى الحاكم»، سقط وتحريف. وانظر: تذكرة القرطبي (422). (4) «بن سيف» ساقط من (ب). (5) في حلية الأولياء (3/ 155)، وقال: «غريب من حديث جابر ومحمد (يعني ابن المنكدر) تفرد به عمر بن موسى وهو مدني فيه لين». هو عمر بن موسى بن وجيه الوجيهي والمشهور أنه حمصي، ويقال: كوفي، وهو هالك، قال ابن معين: ليس بثقة، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي والدارقطني: متروك، وقال: أبو حاتم: ذاهب الحديث كان يضع الحديث، وقال ابن عدي: هو في عداد من يضع الحديث متنًا وإسنادًا. انظر: لسان الميزان (4/ 332 ــ 334). (قالمي). (6) في (ب، ط): «من حديث محمد بن المنذر»، تصرف وتحريف. (7) (ب): «الوجهين»، تحريف.

(1/240)


وهو مدني ضعيف (1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة» معناه (2) ــ والله أعلم ــ أنَّه: قد (3) امتُحِن نفاقُه من إيمانه ببارقة السيف على رأسه، فلم يفِرَّ. فلو كان منافقًا لما صبر لبارقة السيف على رأسه (4)، فدلَّ على أنَّ إيمانه هو الذي حمله على بذل نفسه لله وتسليمها له، وهاجَ من قلبه حميةَ (5) الغضبِ لله ورسوله وإظهارِ دينه وإعزاز كلمته. فهذا قد أظهر صدق ما في ضميره، حيث (6) برز للقتل، فاستغنى بذلك عن الامتحان في قبره. قال أبو عبد الله القُرطبيُّ (7): إذا كان الشهيد لا يُفتَن، فالصِّدِّيق أجلُّ خطرًا وأعظم أجرًا (8) أن لا يُفتَن؛ لأنه مقدَّمٌ ذكرُه في التنزيل على الشهداء. _________ (1) وانظر: تذكرة القرطبي (423). وقال المصنف في تهذيب السنن (1/ 368): «متروك، منسوب إلى الوضع». (2) أصل هذا التفسير للحكيم الترمذي في نوادر الأصول (2/ 1218). نقله المصنف من تذكرة القرطبي (424) مع التصرف في صياغته. (3) (ق): «أعلم وقد». (4) «فلم يفر ... رأسه» ساقط من (ب). (5) هنا انتهى السقط في (ج). (6) (ن): «حين». (7) في التذكرة (424). ولكنه ليس من كلام القرطبي، وإنما هو تتمة كلام الحكيم الترمذي السابق في شرح الحديث. وقد ختمه القرطبي بعزوه إليه: «قاله الترمذي الحكيم»، ثم قال: «قلت: وإذا كان الشهيد ... » فاقتطع هذه التتمة من كلام الحكيم، وفصل بينها وبينه بالعزو! (8) كذا في جميع النسخ. وفي التذكرة بعده: «فهو أحرى أن لا يفتن». وفي نوادر الأصول: «أجلّ خطرًا، فهو أحرى ... ». وأخشى أن يكون في نسخة منه: «أحرا» بالألف فقرأه ناسخ بالجيم فزاد قبله: «أعظم».

(1/241)


وقد صحَّ في المُرابط الذي هو دون الشهيد أنه لا يُفتن (1)، فكيف بمن هو أعلى رتبةً منه ومن الشهيد؟ والأحاديث الصحيحة تردُّ هذا القول، وتُبيِّن أنَّ الصدِّيق يُسأل في قبره كما يُسأل غيرُه. وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأس الصدِّيقِين، وقد قال للنبي (2) - صلى الله عليه وسلم - لما أخبره عن سؤال الملك (3) في القبر، فقال: وأنا على مثل حالتي هذه؟ فقال: «نعم» وذكر الحديث (4). _________ (1) (ق): «لا يفتتن». (2) ما عدا (أ، ق، غ): «النبي»، تصحيف. (3) (ب، ن): «الملكين». (4) أخرجه أبو بكر بن أبي داود في البعث والنشور (7) عن محمد بن إسماعيل الأحمسي، ثنا مفضل بن صالح أبو جميلة، ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي شهر، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كيف أنت إذا كنت في أربعة أذرع في ذراعين، ورأيت منكرًا ونكيرًا؟ ... » الحديث. ومن هذا الوجه أخرجه الذهبي في الميزان (4/ 167 ــ 168) وقال: «أبو شهم ــ ويقال: أبو شمر ــ فيه جهالة»، وقال في ترجمة أبي شهر (4/ 537): عن عمر، وعنه ابن أبي خالد بخبر منكر في منكر ونكير. لا يعرف، وقيل: مصحّف أبو شهم، وقيل: أبو شمر، وقيل: أبو سهيل» اهـ. وأخرجه البيهقي في إثبات عذاب القبر (118) والاعتقاد (ص 127) من طريق علي بن المديني، ثنا مفضل بن صالح، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي سهيل، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا عمر، كيف أنت إذا كنت في أربع من الأرض في ذراعين فرأيت منكرًا ونكيرًا ... » الحديث. قال البيهقي في الاعتقاد: «غريب بهذا الإسناد، تفرّد به مفضّل هذا، وقد رويناه من وجه آخر عن ابن عباس، ومن وجه آخر صحيح عن عطاء بن يسار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا ... ». ومفضل بن صالح هذا، قال فيه البخاري وأبو حاتم: منكر الحديث. تهذيب التهذيب (10/ 272). وأما رواية عطاء المرسلة فأخرجها الحارث بن أبي أسامة (281 ــ بغية الباحث) والبيهقي في إثبات عذاب القبر (116) من طريق إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب (الحديث). قال البوصيري في إتحاف الخيرة (2/ 492): «مرسل ورجاله ثقات». (قالمي).

(1/242)


وقد اختلف الناس (1) في الأنبياء: هل يسألون في قبورهم؟ على قولين، وهما وجهان في مذهب أحمد وغيره (2). ولا يلزم من هذه الخاصِّية (3) التي اختصَّ بها الشهيد أن يشاركه الصدِّيق في حُكمها، وإن كان أعلى منه، فخواصُّ الشهداء قد تنتفي عمَّن هو أفضلُ منهم، وإن كان أعلى منهم درجة. وأما حديث «ابن ماجه»: «من مات مريضًا مات شهيدًا، ووُقِيَ فتنةَ القبر» فمن أفراد ابن ماجه، وفي أفراده غرائبُ ومنكراتٌ. ومثل هذا الحديث مما يُتوقف فيه (4) ولا يشهد به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فإن صحَّ فهو مقيَّد بالحديث (5) الآخر، وهو الذي يقتله بطنه. فإنَّه (6) صحَّ عنه أنه قال: _________ (1) «الناس» ساقط من (ق). (2) انظر: جامع المسائل (3/ 238). (3) (ن): «الخاصة». (4) «فيه» ساقط من (ب، ط، ج). (5) (ق): «للحديث». (6) (ب، ق): «فإن»، خطأ.

(1/243)


«المبطون شهيد» (1)، فيحمل هذا المطلق على ذلك المقيَّد. والله أعلم. وقد جاء فيما يُنجي من عذاب القبر حديث فيه الشفاء، رواه أبو موسى (2) المديني، وبنى عليه كتابه (3) في «الترغيب والترهيب»، وجعله شرحًا له (4). رواه (5) من حديث الفَرَج (6) بن فَضَالة، حدَّثنا هلالٌ أبو جَبَلة، عن سعيد بن المسيِّب، عن عبد الرحمن بن سَمُرة قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونحن في صُفَّة بالمدينة، فقام علينا، فقال: «إني رأيتُ البارحةَ عجبًا، رأيتُ رجلًا من أمتي أتاه ملكُ الموت ليقبضَ روحَه، فجاءه (7) برُّه بوالديه، فردَّ ملكَ الموت عنه. ورأيتُ رجلًا من أمتي قد بُسط عليه عذابُ القبر، فجاءه (8) وضوؤه، فاستنقذه من ذلك (9). ورأيت رجلًا من أمتي قد احتوشَتْه الشياطين، فجاءه (10) ذكرُ الله، _________ (1) أخرجه البخاري (5733) ومسلم (1914) من حديث أبي هريرة. (2) (ب، ج): «أبو علي»، خطأ. (3) (ق): «وبيّن علَّته في كتابه»، تصحيف طريف. (4) أورده المصنف أيضًا في الوابل الصيب (199 ــ 205) وقال نحو هذا، وسيأتي كلام المصنف على رواته. (5) «رواه» ساقط من (ط). (6) (أ، ق، غ): «أبي الفرج»، وهو خطأ، وسيأتي فيها مرة أخرى على الصواب. (7) ما عدا (أ، ن، غ): «فجاء». (8) (ب، ط): «فجاء». (9) «ورأيت ... ذلك» ساقط من (ق). (10) (ب، ط): «فجاء».

(1/244)


فطرد (1) الشياطين عنه. ورأيتُ رجلًا من أمتي قد احتوشَتْه ملائكةُ العذاب، فجاءته صلاتُه (2)، فاستنقذَتُه من أيديهم (3). ورأيت رجلًا من أمتي يلهثُ عطَشًا، كلَّما دنا من حوضٍ مُنِعَ وطُرِد، فجاءه صيامُ شهر رمضان (4)، فأسقاه وأَرواه (5). ورأيتُ رجلًا من أمتي ورأَيتُ النبيين جلوسًا حَلَقًا حَلَقًا (6)، كلَّما دنا إلى حَلْقةٍ طُرِد، فجاءه غُسلُه من الجنابة، فأخذ بيده، فأقعدَه (7) إلى جنبي. ورأيتُ رجلًا (8) من أمتي من بين يديه ظُلمةٌ، ومن خَلْفه ظُلمة (9)، وعن يمينه ظُلْمةٌ، وعن يساره ظُلمةٌ، ومن فوقه ظُلمةٌ، وهو مُتحيِّر فيه. فجاءه حَجُّه وعُمرته، فاستخرجاه من الظُّلمة، وأدْخلاه في النور. ورأيت رجلًا من أمتي يتَّقي بوجهه وَهَجَ النار وشَررَها. فجاءته صدقتُه، فصارتْ سُتْرةً بينه وبين النار، وظلًّا (10) على رأسه. _________ (1) (ق): «فطيّر». (2) (أ، ب): «صلواته». (3) هذه الفقرة ساقطة من (ن). (4) (ط): «صيام رمضان». (5) «وأرواه» ساقط من (ب). (6) ساقط من (ن). (7) (ط): «وأقعده». (8) ساقط من (ب). (9) «ومن خلفه ظلمة» ساقط من (ط). (10) (ق، ج، غ): «ظلل». وفي الأصل غيَّر بعضهم «ظلا» إلى «ظلل». وفي (ب): «ظلل». وفي الوابل الصيب: «وظللت».

(1/245)


ورأيت رجلًا من أمتي يُكلِّم المؤمنين، ولا يُكلّمونه، فجاءته صلتُه لرحمه، فقالت: يا معشر المسلمين إنَّه كان وَصُولًا لرحِمه، فَكلِّموه. فكلَّمه المؤمنون، وصافحوه، وصافَحهم. ورأيت رجلًا من أمتي قد احتوشَتْه الزَّبانية. فجاء أمره بالمعروف ونَهيْه عن المنكر، فاستنقَذَه من أيديهم، وأَدخله في ملائكة الرحمة. ورأيتُ رجلًا من أمتي جاثيًا على رُكبتَيْه، وبينه وبين الله حِجابٌ فجاءه حسنُ خُلُقه، فأخذ بيده، فأدخله (1) على الله عز وجل. ورأيتُ رجلًا من أمتي قد ذهبت صحيفته من قِبَل شماله، فجاءه (2) خوفُه من الله عز وجل، فأخذ صحيفتَه، فوضعها في يمينه. ورأيت رجلًا من أمتي خَفَّ ميزانُه، فجاءه أفراطُه (3) فثقَّلوا ميزانَه. ورأيتُ رجلًا من أمتي قائمًا على شفير جهنم، فجاءه رجاؤه من الله عز وجل، فاستنقذه من ذلك، ومضى. ورأيتُ رجلًا من أمتي قد هوى في النار. فجاءته (4) دمعتُه التي بكى من خشية الله عز وجل، فاستنقذتْه من ذلك. ورأيتُ رجلًا من أمتي قائمًا على الصراط، يُرعَدُ كما ترعدُ السَّعَفةُ في _________ (1) (ط): «وأدخله». (2) (ط): «فجاء». (3) يعني: أولاده الصغار. (4) (ب): «فجاءه».

(1/246)


ريح عاصف. فجاءه حسنُ ظنِّه بالله عز وجلّ، فسكَّن رُوعَه (1)، ومضى. ورأيتُ رجلًا من أمتي يزحَفُ (2) على الصراط، ويَجثو (3) أحيانًا، ويتعلّق أحيانًا. فجاءته صلاتُه عليَّ، فأقامته على قدميه، وأنقذتُه. ورأيتُ رجلًا من أمتي انتهى إلى باب الجنة (4)، فَغُلِّقت الأبوابُ دونه. فجاءته «أشهد (5) أن لا إله إلا الله» ففَتحَتْ له الأبوابَ، وأدخلَتْه الجنة» (6). _________ (1) في حاشية الأصل إشارة إلى أن في نسخة: «رعدة». (2) (ق، ج): «يرجف»، تصحيف. (3) ما عدا (أ، ق، غ): «يحبو». (4) ما عدا (أ، غ): «أبواب». (5) ما عدا (أ، غ): «شهادة». (6) ومن هذا الوجه أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1165)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (34/ 406 ــ 407). وسيأتي تعليق المصنف رحمه الله على هذه الرواية. وأخرجه بحشل في تاريخ واسط (ص 169 ــ 170)، والخرائطي في مكارم الأخلاق (49)، والطبراني في الأحاديث الطوال (39 ــ آخر المعجم الكبير)، وعبد الملك بن بشران في الأمالي (250)، وابن شاهين في الترغيب في فضائل الأعمال (526)، وابن حبان في المجروحين (3/ 43 ــ 44)، وأبو القاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب (1682، 2518)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1166) من طريق علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب، به. بطوله إلا الخرائطي وابن حبان وابن الجوزي فببعضه. وأخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (1329) من طريق ابن أبي فديك، عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله، عن سعيد بن المسيب، به، بطوله. وله طرق أخرى غير هذه لكن لا تخلو من صاحب مناكير أو مجهول لا يعرف، وقد تتبعها ودرسها وتكلم على رواتها محقق كتاب «الوابل الصيب» الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن قائد فجزاه الله خيرًا وخلص إلى ضعف الحديث، وسبقه إلى ذلك العلامة الألباني رحمه الله في «السلسلة الضعيفة» (1084)، وقبلهما الحافظ ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 211) فقال: «هذا حديث لا يصح». ومع ذلك فقد كان بعض أهل العلم يعظِّم شأنه، كما ذكر المصنّف ذلك عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وأورده في الوابل الصيب (ص 199)، فقال: «هذا الحديث العظيم الشريف القدر الذي ينبغي لكل مسلم أن يحفظه فنذكره بطوله لعموم فائدته وحاجة الخلق إليه»، ثم نقل عن شيخ الإسلام بنحو ما نقله عنه ههنا، وقال أبو عبد الله القرطبي في التذكرة (2/ 595): «هذا حديث عظيم؛ ذكر فيه أعمالًا خاصة تنجي من أهوال خاصة». وقال المناوي في فيض القدير (3/ 34) معلقًا على كلام المصنف فيما نقله عن شيخ الإسلام أن أصول السنة تشهد له: «ورونق كلام النبوة يلوح عليه، وهو من أحسن الأحاديث الطوال، ليس من دأب المصنف إيرادها في هذا الكتاب (يعني السيوطي في الجامع الصغير) لكنه لكثرة فوائده وجموم فرائده وأخذه بالقلوب اقتحم مخالفة طريقته فأورده إعجابًا بحسنه وحرصًا على النفع به». قلت: وعلى هذا المعنى يُنزَّل قول أبي موسى المديني رحمه الله: «هذا حديث حسن جدًا» لا أنه أراد به الحسن الاصطلاحي، فتنبه. ولا ريب أنَّ كلَّ كلام ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو حسن عظيم، ولكن ليس كلُّ كلام حسن جميل يضاف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما ذكر ابن الجوزي في مقدمة كتابه الموضوعات (1/ 41 ــ 42) عن قوم استجازوا وضع الأسانيد لكل كلام حسن، ونقله عنه الشيخ اللكنوي في الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة (ص 16) وعلَّق عليه بقوله: «زعمًا منهم أن الحسن كله أمر شرعي لا بأس بنسبته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يفهموا أن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - حسن صادق، وعكس الكلية لا يصدق؛ فلا يصح كون كلّ حسن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فنسبته إليه كذب» اهـ. (قالمي).

(1/247)


قال الحافظ أبو موسى: هذا حديثٌ حسنٌ جدًّا، رواه عن سعيد بن

(1/248)


المسيِّب عمر (1) بن ذرٍّ، وعليُّ بن زيد بن جُدعان. ونحو هذا الحديث ممَّا قيل فيه: إن رؤيا الأنبياء وحي (2)، فهي على ظاهرها؛ لا (3) كنحو ما رُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «رأيتُ كأنَّ سَيفي انقطع، فأوَّلتُه كذا وكذا، ورأيتُ بقرًا تُنحَر» (4)، و «رأيتُ كأنَّا في دار عُقبةَ بن رافع» (5). وقد روى في رؤياه الطويلة من حديث سَمُرة في «الصحيح» (6) ومن حديث عليٍّ (7)، وأبي أُمامةَ (8). ورواياتُ هؤلاء الثلاثة قريبٌ بعضها من بعض، مشتملة على ذكر عقوبات جماعةٍ من المعذَّبين في البرزخ. فأما في _________ (1) (ق): «وعمر». وفي (ن): «عمرو»، وكلاهما خطأ. (2) روي عن عبيد بن عمير في صحيح البخاري (138) وعن ابن عباس في جامع الترمذي (3689). (3) «لا» ساقطة من (ب، ط). (4) من حديث أبي موسى. أخرجه البخاري (3622) ومسلم (2272). (5) أخرجه مسلم (2270) من حديث أنس. (6) تقدم في المسألة الملحقة بالسادسة. (7) أخرجه ابن عدي في الكامل (5/ 123 ــ 124) مختصرًا، وابن عساكر في تاريخ دمشق (19/ 451) مطولًا، وفي سنده عمرو بن خالد الكوفي ثم الواسطيّ كذبه الإمام أحمد وابن معين وغيرهما. (قالمي). (8) أخرجه ابن خزيمة (1986)، وابن حبان (7491)، والحاكم (2/ 209 ــ 210)، والطبراني في الكبير (7667)، والبيهقي في إثبات عذاب القبر (111). وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم». وعزاه الهيثمي في المجمع (1/ 77) للطبراني في الكبير وقال: «ورجاله رجال الصحيح». وأخرجه النسائي في السنن الكبرى (3286) مختصرًا. (قالمي).

(1/249)


هذه الرواية، فذَكَر العقوبةَ، وأتبعها بما يُنجي صاحبها من العمل (1). وراوي (2) هذا الحديث عن ابن المسيِّب هلالٌ أبو جبَلة، مدنيٌّ، لا يُعرف بغير هذا الحديثِ (3). ذكره ابنُ أبي حاتم (4) عن أبيه هكذا، وذكره الحاكمُ أبو أحمد والحاكمُ أبو عبد الله: «أبو جبل» بلا هاء، وحَكَياه عن مسلم (5). وراويه (6) عنه الفَرَج بن فَضالةَ. وهو وسطٌ في الرواية، ليس بالقويِّ [54 أ] ولا المتروك (7). وراويه عنه بشرُ بن الوليد الفقيهُ المعروف بأبي الخطيب (8). كان حسنَ المذهب جميلَ الطريقة. _________ (1) (ب، ط): «الغل»، تحريف. و «صاحبها» ساقط من (ب، ط، ن، ج). (2) (ن): «وروى». (3) قال ابن الجوزي في العلل المتناهية (1166): مجهول. (4) في الجرح والتعديل (9/ 77). (5) انظر: الأسامي والكنى لأبي أحمد الحاكم (1236)، والكنى والأسماء لمسلم (611)، والمقتنى (1215) وفيها جميعًا «أبو جيل» بالياء المثناة، وهو تصحيف. (6) (ق): «ورواه» هنا وفيما يأتي. (7) قال عبد الرحمن بن مهدي: «حديث فرج بن فضالة عن أهل الحجاز أحاديث مقلوبة منكرة». وهو هنا يروي عن مدني مجهول. وقال أبو عبد الله الحاكم: «ممن لا يحتج بحديثه». انظر: تهذيب التهذيب (8/ 260). (8) في (ق، ب) بالسين مع علامة الإهمال. وهو القاضي بشر بن الوليد الكندي، من أخصّ أصحاب القاضي أبي يوسف. توفي سنة 238. وكنيته المذكورة في ترجمته: أبو الوليد. فلا أدري أتحرّف «الوليد» إلى «الخطيب» هنا أم هي كنية أخرى له. انظر: تاريخ بغداد (7/ 80 ــ 84).

(1/250)


وسمعتُ (1) شيخَ الإسلام يُعظِّم أمرَ هذا الحديث، وقال: أصول السنة تشهدُ له، وهو من أحسن الأحاديث (2). والله التوفيق. _________ (1) وقال في الوابل الصيب (205): «وكان شيخ الإسلام ابن تيمية ــ قدس الله روحه ــ يعظم شأن هذا الحديث. وبلغني عنه أنه كان يقول: «شواهد الصحة عليه». (2) قوله: «من أحسن الأحاديث» كقول أبي موسى: «حديث حسن جدًّا»، ليس المقصود منه الحسن الاصطلاحي كما سبق في تخريج الحديث. وانظر تعقيب الألباني على قوله: «أصول السنة تشهد له» في الضعيفة (14/ 1239).

(1/251)


فصل

  وأمّا المسألة الحادية عشرة (1) وهي أن السؤال في القبر هل هو عامٌّ في حقِّ المسلمين والمنافقين والكفار، أو يختصُّ بالمسلم والمنافق؟

فقال أبو عمر بن عبد البرّ في كتاب «التمهيد» (2): والآثارُ الدالَّة (3) على أنَّ الفتنة في القبر لا تكون إلا لمؤمنٍ أو منافق ممَّن (4) كان منسوبًا إلى أهل القبلةِ ودين الإسلام بظاهر الشهادة. وأمّا الكافر الجاحد (5) المبطل، فليس ممّن يُسأل عن ربِّه ودينه ونبيِّه. وإنما يُسأل عن هذا أهل الإسلام، فيُثبِّتُ الله الذين آمنوا، ويرتابُ المبطلون (6). والقرآن والسنَّة تدلُّ على خلاف هذا القول (7)، وأنَّ السؤالَ للكافر _________ (1) (ب، ط، ج): «عشر» بالتذكير. وفي (ن): «الثانية عشرة»، ولم يرد فيها «فصل وأمَّا». (2) (22/ 252). والنقل من كتاب التذكرة للقرطبي (413 ــ 414). (3) كذا في الأصل. وفي غيره: «الدالَّة تدلُّ»، ومثله في التذكرة، وصوابه في التمهيد: «الآثار الثابتة تدلّ». (4) ما عدا الأصل: «مَن»، خطأ. (5) (ق، ن): «والجاحد». (6) كذا في التذكرة. وفي التمهيد مكان «فيثبت ... المبطلون» قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا .. } الآية. (7) «القول» ساقط من (ط). وذكر الحافظ ابن حجر أن مستند القائلين به ما رواه عبد الرزاق من طريق عبيد بن عمير أحد كبار التابعين قال: «إنما يفتن رجلان: مؤمن ومنافق. وأما الكافر فلا يسأل عن محمد ولا يعرفه» ثم قال: «وهذا موقوف، والأحاديث الناصة على أن الكافر يُسأل مرفوعة مع كثرة طرقها الصحيحة، فهي أولى بالقبول». ثم نقل كلام ابن عبد البر وتعقيب ابن القيم عليه. فتح الباري (3/ 239). وقد ردَّ السيوطي في شرح الصدور (199) على ابن القيم.

(1/252)


والمسلم. قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، وقد ثبت في الصحيح (1) أنها نزلت في عذاب القبر حين يُسأل: من ربُّك، وما دينُك. وفي «الصحيحين» (2): عن أنس بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن العبدَ إذا وُضِع في قبره وتولَّى عنه أصحابُه إنه ليسمع قَرْعَ نعالهم» وذكر الحديث. زاد البخاري: «وأما المنافقُ والكافر فيقال له: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنتُ أقول ما يقول الناسُ. فيقال: لا دَريتَ ولا تَليت. ويُضرب بمطرقةٍ من حديد، يصيحُ صيحةً يسمعها من يليه إلا الثقلين». هكذا في البخاري: «وأما المنافق والكافر» بالواو (3). وقد تقدَّم (4) في حديث أبي سعيدٍ الخدري الذي رواه ابن حبّان (5) _________ (1) (ن): صحيح مسلم. وقد سبق في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 154). (2) تقدَّم في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 157). (3) كذا في باب ما جاء في عذاب القبر (1374). ولكن في باب الميت يسمع خفق النعال (1338): «الكافر أو المنافق» بالشك. وانظر: فتح الباري (3/ 238). (4) كذا السياق في جميع النسخ. وحديث أبي سعيد لم يتقدم. فلعل قوله: «وقد تقدم» متعلق بالحديث السابق إذ تقدَّم في المسألة الملحقة بالسادسة، ثم لعله كان في الأصل: «وفي حديث أبي سعيد ... » فسقطت الواو من النسخ. (5) كذا في جميع النسخ التي بين يديّ. وفي نشرة العموش وغيرها: ابن ماجه. ولم أجد عزوه إلى ابن ماجه ولا إلى ابن حبان. وقد عزاه السيوطي في شرح الصدور (184) إلى أحمد، والبزار، وابن أبي الدنيا، وابن أبي عاصم في السُّنة، وابن مردويه، والبيهقي. أما ابن حبَّان فقد أخرج حديث أبي هريرة، وقد تقدَّم في المسألة الملحقة بالسادسة.

(1/253)


والإمام أحمدُ (1): كنّا في جنازة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا أيها الناسُ إنَّ هذه الأمةَ تُبتلى في قبورها، فإذا الإنسان دُفِنَ (2) وتولَّى عنه أصحابه جاءه ملك (3) وفي يده مِطراقٌ (4)، فأقعدَه فقال: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنًا قال: أشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، [54 ب] وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله. فيقول له: صدقتَ، فيَفتح له بابًا إلى النار، فيقول له (5): هذا منزلُكَ لو كفرتَ بربك. _________ (1) في المسند (17/ 32). وأخرجه البزَّار (872 كشف الأستار) من طريق أبي عامر عبد الملك بن عمرو، ثنا عباد بن راشد، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري. قال البزَّار: لا نعلمه عن أبي سعيد إلا بهذا الإسناد. وأورده الهيثمي في «المجمع» (3/ 48) وقال: «ورواه أحمد والبزَّار ورجاله رجال الصحيح». قلت: بل عباد بن راشد إنما أخرج له البخاري حديثًا واحدًا مقرونًا بغيره، كما في هدي الساري (ص 412)، ولذلك لما أورده ابن كثير في تفسيره (4/ 498) من طريق الإمام أحمد قال: «وهذا إسناد لا بأس به؛ فإن عباد بن راشد التميمي روى له البخاري مقرونًا، ولكن ضعَّفه بعضهم». (قالمي) (2) (ط): «فإن الإنسان إذا دفن». (3) (ط): «الملك». (4) (ط): «مطرق». (5) «له» ساقط من (ب، ط، ق).

(1/254)


وأما الكافر والمنافق، فيقول له (1): ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: لا دريتَ ولا اهتديتَ! ثم يَفتح له بابًا إلى الجنة، فيقول له (2): هذا منزلك (3) لو آمنتَ بربك. فأمَّا إذ كفرتَ، فإنّ الله أبدلك به هذا. ثم يَفتح له بابًا (4) إلى النار. ثم يقمعه الملكُ بالمطراق (5) قمعةً يسمعه خلقُ الله إلا الثقلين». فقال بعضُ الصحابة: يا رسول الله، ما أحدٌ يقوم على رأسه ملَكٌ إلا هِيلَ (6) عند ذلك! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]». وفي حديث البراء بن عازب الطويل (7): «وأما الكافر إذا كان في قُبل من الآخرة وانقطاعٍ من الدنيا نزل عليه ملائكة من السماء معهم مُسوح». وذكر الحديث إلى أن قال: «ثم تعاد روحُه في جسده في قبره»، وذكر الحديث. _________ (1) ساقط من (ط). (2) ساقط من (ن). (3) (ب، ن، ج): «مقعدك». (4) (ب، ط، ج): «باب». (5) (ب، ط، ج): «بالمطارق». (6) أي فزع من الهول. وفي (ق، ب، ط، ج) بالباء الموحدة، وضبط في (ط): «هَبُل». وهو تصحيف. (7) سبق تخريجه في المسألة السادسة (ص 131).

(1/255)


وفي لفظ: «فإذا كان فاجرًا (1) جاءه ملك الموت فجلس عند رأسه». فذكر الحديث إلى قوله: «ما هذه الرُّوح الخبيثة؟ فيقولون: فلان، بأسوأ أسمائه. فإذا انتُهي به (2) إلى السماء الدنيا أُغلقتْ دونه». قال: «فيُرمى به من السماء». ثم قرأ قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]. قال: «فتعاد إليه روحه في جسده، ويأتيه ملكان شديدا الانتهار، فيُجلِسانه، وينتهرانه، فيقولان: من ربُّك؟ فيقول: هاه لا أدري. فيقولان: لا دريتَ! فيقولان: ما هذا النبي (3) الذي بُعِث فيكم؟ فيقول: سمعتُ الناس يقولون ذلك، لا أدري. فيقولون له: لا دريتَ! وذلك قوله تعالى: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]». وذكر الحديث. واسمُ «الفاجر» في عُرف القرآن والسنّة يتناول الكافرَ قطعًا، كقوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13، 14]، وقوله: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين: 7]. وفي لفظ آخر في حديث البراء: «وإنَّ الكافرَ إذا كان في قُبُل من الآخرة وانقطاعٍ [55 أ] من الدنيا نزل إليه ملائكة شِداد (4) غِضاب، معهم ثيابٌ من _________ (1) (أ، ق، غ): «كافرًا». والمثبت من غيرها هو الشاهد. وهذا اللفظ في مسند الطيالسي (789). (2) ساقط من (ب، ط، ن، ج). (3) (ب، ط، ج): «هذا الذي». (4) ساقط من (ط).

(1/256)


نار، وسرابيلُ من قَطِران، فيحتوشونه، فتُنزَع (1) روحُه كما يُنزَع السَّفُّود الكثيرُ (2) الشُّعَب من الصوف المبتلِّ. فإذا خرجت لعنه كلُّ ملكٍ بين السماء والأرض وكلُّ ملك في السماء». وذكر الحديث إلى أن قال: «إنه لَيسمعُ خفق نعالهم إذا ولَّوا مدبرين، فيقال: يا هذا، من ربُّك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: لا أدري. فيقال: لا دريت!» وذكر الحديث. رواه حمَّاد بن سلمة، عن يونس بن خبَّاب (3)، عن المنهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء (4). وفي حديث عيسى بن المسيّب، عن عدي بن ثابت، عن البراء: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار وذكر الحديث إلى أن قال: «وإن الكافرَ إذا كان في دُبر من الدنيا، وقُبل (5) من الآخرة، وحضره الموتُ= نزلتْ عليه من السماء (6) ملائكة معهم كفن من نار وحَنوط من نار». فذكر الحديث إلى أن قال: «فَتُردُّ روحُه إلى مَضْجعه، فيأتيه منكرٌ ونكيرٌ يثيران الأرض بأنيابهما، ويفحصانِ (7) الأرض بأشعارهما، أصواتُهما كالرعد القاصف، وأبصارُهما كالبرق الخاطف، فيُجلِسانه، ثم يقولان: يا هذا، من _________ (1) (ق): «فتنتزع». (2) (ق): «الكبير»، تصحيف. (3) (ط): «حِبّان»، تصحيف. (4) أخرجه أحمد في المسند من طريق معمر عن يونس (30/ 577) ومن طريق حماد بن زيد عن يونس (3/ 579) مثله. (5) (ب، ط، ج): «إقبال». (6) لم يرد في (أ، ق، غ). (7) (ب، ط): «يفصحان»، تصحيف.

(1/257)


ربُّك؟ فيقول: لا أدري. فينادى من جانب القبر: لا دَريتَ! فيضرِبانه بمِرْزبة من حديدٍ لو اجتمع عليها (1) مَن بين الخافقين لم يُقِلَّ (2) ويضيَّق عليه قبرُه حتى تختلف أضلاعه». وذكر الحديث. رواه الإمام أحمدُ في «مسنده» (3) عن أبي النَّضر هاشم بن القاسم، حدثنا عيسى بن المسيّب، فذكره. وفي حديث محمد بن سلمة، عن خُصيفٍ، عن مجاهد، عن البراء قال: كنّا في جِنازة رجل من الأنصار، ومعنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. فذكر الحديث إلى أن قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وإذا وُضِعَ الكافرُ في قبره (4) أتاه منكر ونكير، فيُجلِسانه، فيقولان له: من ربُّك؟ فيقول: لا أدري. فيقولان له: لا [55 ب] دَريتَ!». الحديث وقد تقدَّم (5). وبالجملة فعامَّةُ من روى حديثَ البراء (6) بن عازب قال فيه: «وأما الكافر» بالجزم. وبعضهم قال: «وأما الفاجر». وبعضهم قال: «وأما المنافق _________ (1) «عليها» ساقط من (ب، ط، ن). (2) ضُبط في (ط): «يُقَلّ. وفي (ن): «تُقَلَّ». (3) لم أجده في المسند من هذا الطريق. وقد أخرجه الطبري في تهذيب الآثار ــ مسند عمر (723)، وابن منده في كتاب الروح والنفس، ومنه قد أورده المصنف في المسألة السادسة. (4) «في قبره» لم يرد في (أ، ق، غ). (5) في المسألة السادسة. (6) (ب، ط): «فعامة ما روى البراء».

(1/258)


أو المرتاب» (1). وهذه اللفظة (2) من شكّ بعض الرواة هكذا في الحديث: لا أدري أيّ ذلك قال. وأما مَن ذكر الكافر والفاجرَ فلم يشكَّ، وروايةُ من لم يشكّ مع كثرتهم أولى من رواية من شكَّ مع انفراده؛ على أنه لا تناقضَ بين الروايتين، فإنّ المنافق يُسأل كما يُسأل الكافرُ والمؤمن، فَيُثبِّتُ الله الذين آمنوا بالإيمان (3)، ويُضِلُّ الله الظالمين، وهم الكفار والمنافقون. وقد جمع أبو سعيد الخدري في الحديث الذي رواه أبو عامر العَقَدي (4)، حدثنا عبَّاد بن راشد، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: شهدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جنازة. فذكر (5) الحديث، وقال: «وإن كان كافرًا أو منافقًا يقول له (6): ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري» (7) وهذا صريحٌ في أنَّ السؤالَ للكافر والمنافق. وقولُ أبي عمر رحمه الله: «وأما الكافر الجاحد المبطِل، فليس ممن يُسأل عن ربه ودينه». فيقال له: ليس كذلك، بل هو من جملةِ المسؤولين، وأولى بالسؤال من غيره. وقد أخبر الله تعالى في كتابه أنه يَسأل الكفارَ (8) _________ (1) في حديث أسماء، أخرجه البخاري (86) ومسلم (905). وفي (أ، ق، غ): «والمرتاب» خطأ. (2) «اللفظة» ساقطة من الأصل. (3) ما عدا (أ، غ): «أهل الإيمان». (4) زاد في (ط): «قال». (5) (ط): «وذكر». (6) «له» ساقط من (ط). وفي (ب، ج): «يقولوا». (7) سبق تخريجه قريبًا. (8) (ق، ن): «الكافر». وفي الأصل: «يسأل يوم القيامة» دون هذه الزيادة.

(1/259)


يومَ القيامة قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]، وقال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93]، وقال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]، فإذا سئلوا يومَ القيامة، فكيف لا يُسألون في قبورهم؟ (1) فليس لما ذكَره أبو عمر رحمه الله وجه. _________ (1) لخص الحافظ ابن حجر في الفتح (3/ 239) جواب ابن القيم، وأورد على الاستدلال بالآيات المذكورة هنا أن «للنافي أن يقول: إن هذا السؤال يكون يوم القيامة»، ولم يلتفت إلى آخر كلام ابن القيم: «فإذا سئلوا ... » إلخ.

(1/260)


فصل

 وأما المسألة الثانية عشرة (1) وهي (2) أنَّ سؤالَ منكرٍ ونكيرٍ هل هو مختصٌّ بهذه الأمة، أو يكون لها ولغيرها؟

فهذا موضعٌ قد (3) تكلَّم فيه الناس. فقال أبو عبد الله الترمذي (4): إنما سؤال الميت في هذه الأمة خاصّةً؛ لأنّ الأمم قبلنا كانت الرسل تأتيهم بالرسالة، فإذا أبوا كفَّت الرسل، واعتزلوهم، وعوجلوا بالعذاب. فلما بَعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالرحمة أمانًا (5) للخلق كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] أمسك عنهم العذابَ، وأعطى السيفَ، حتى يدخل في دين الإسلام مَن دخل لمهابة (6) السيف، ثم يرسخ الإيمان في قلبه، فأُمهِلوا. فمِن هاهنا ظهر أمرُ النِّفاق، فكانوا يُسِرُّون الكفر، ويُعلِنون الإيمان، فكانوا بين المسلمين في سِتْر. فلما ماتوا قيَّض الله لهم فتَّانَي القبر ليستخرج سرّهم بالسؤال. و {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال: 37]، _________ (1) ما عدا الأصل: «عشر» بالتذكير. وفي (ن): «الثالثة عشرة» ولم يرد فيها «فصل وأمَّا». (2) «وهي» ساقط من (ب، ج). والواو ساقطة من (ط). (3) ساقطة من (ب، ط، ن، ج). (4) في نوادر الأصول ــ المسندة (1020). والمؤلف صادر عن تذكرة القرطبي (414). (5) (ق، ن): «إمامًا»، تصحيف. وفي النوادر: «وأمانًا». (6) كان في الأصل: «من مهابة»، ثم ضرب على «من»، ولم تظهر اللام في الصورة. وفي غيره والتذكرة والنوادر ما أثبتنا. ولو قيل: «مهابةَ السيف» لكان صوابًا أيضًا.

(1/261)


فـ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27]. وخالف (1) في ذلك آخرون، منهم عبدُ الحق الإشبيليُّ والقرطبيُّ (2)، وقالوا (3): السؤال لهذه الأمة ولغيرها (4). وتوقَّف في ذلك آخرون، منهم أبو عمر بن عبد البر، فقال: وفي حديث زيد (5) بن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن هذه الأمة تُبتلى في قبورها» (6). ومنهم (7) من يرويه: «تُسأل» (8). وعلى هذا اللفظ يحتمل أن تكون هذه الأمة خُصَّت بذلك، فهذا (9) أمر لا يُقطَع عليه (10). وقد احتجَّ مَن خصَّه بهذه الأمة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ هذه الأمة تُبتلى في _________ (1) (ب، ط، ن، ج): «وخالفه». (2) «منهم ... القرطبي» ساقط من (ب، ج). و «القرطبي» فقط ساقط من (ط). (3) (أ، غ): «وقال». (4) (ب، ط، ن، ج): «وغيرها». وانظر قول عبد الحق في كتاب العاقبة (246). وقد صوَّبه القرطبي في التذكرة (415). (5) (ب، ط، ج): «يزيد». وكان في الأصل أيضًا هكذا ثم أصلح. وقد سبق الحديث في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 150). (6) (ب، ط، ج): «قبورهم». (7) الواو ساقطة (ب، ط، ن، ج). (8) تحرف في (ب، ج) إلى «قال»، ثم زاد قبله في (ط) «يسأل». وفي (ن): «ولا يسأل»، خطأ. (9) (ب، ط، ج، ن): «وهذا». (10) التمهيد (22/ 253). وانظر تذكرة القرطبي (414).

(1/262)


قبورها»، وبقوله: «أوحي إليَّ أنَّكم تُفتَنون في قبوركم» (1). وهذا ظاهر في الاختصاص بهذه الأمة. قالوا: ويَدلُّ عليه قول الملَكين له: ما كنتَ تقول في هذا الرجل الذي بُعثَ فيكم؟ فيقول المؤمن: أشهد أنه عبد الله ورسوله (2). فهذا خاصٌّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله في الحديث الآخر: «إنّكم بي تُمتَحنون، وعنّي تُسألون» (3). وقال الآخرون: لا يدلُّ هذا على اختصاص السؤال بهذه الأمة دون سائر الأمم، فإنّ قوله: «إنّ (4) هذه الأمة» إما أن يراد به أمّة الناس، كما قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] وكلُّ جنس من أجناس الحيوان يُسمَّى أمّةً، وفي الحديث: «لولا أنّ الكلاب أمةٌ من الأمم لأمَرْتُ بقتلها (5)» (6). وفيه أيضًا حديث النبي الذي _________ (1) أخرجه البخاري (86) ومسلم (505) من حديث أسماء. (2) سبق تخريجه. (3) قطعة من حديث طويل أخرجه الإمام أحمد (25089)، والبيهقي في «إثبات عذاب القبر» (37، 38) من حديث عائشة رضي الله عنها، بلفظ: «وأما فتنة القبر فبي تفتنون وعني تُسألون». وكذا رواه إسحاق بن راهويه (1170، مسند عائشة) بلفظ: «وأما فتنة القبر فإنهم يسألون عني». وصحَّح إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (5184). (قالمي) (4) ساقطة من (ب، ط، ج). (5) (أ، غ): «بقتلهم». (6) أخرجه أبو داود (2845)، والترمذي (1486)، والنسائي (4280)، وابن ماجه (3205)، وأحمد (6788)، وابن حبان (5657) من طريق يونس بن عبيد، عن الحسن، عن عبد الله بن المغفل رضي الله عنه. وإسناده صحيح. والحسن صرَّح بالتحديث عند ابن حبان (5656) من وجه آخر. (قالمي)

(1/263)


قرصته نملةٌ، فأمَرَ بقرية النمل، فأُحرِقت، فأوحى الله إليه (1): من أجل أن قرصتك (2) نملةٌ واحدةٌ [56 ب] أحرقْتَ أمّةً من الأمم تسبِّح (3)؟ وإن كان المراد به أمته - صلى الله عليه وسلم - الذين (4) بُعِث فيهم، لم يكن فيه ما ينفي سؤالَ غيرهم من الأمم؛ بل قد يكون ذكرُهم إخبارًا بأنهم مسؤولون (5) في قبورهم، وأنَّ ذلك لا يختصُّ بمن قَبْلَهم لفضل هذه الأمة وشرفها على سائر الأمم. وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أوحي إلي أنّكم تُفتنون في قبوركم»، وكذلك إخباره عن قول الملكين: «ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟» هو إخبارٌ لأمته بما تُمتَحن به في قبورها. والظاهر ــ والله أعلم ــ أنّ كلَّ نبيٍّ (6) مع أمته كذلك، وأنَّهم معذَّبون (7) في قبورهم بعد السؤال لهم، وإقامةِ الحجّة عليهم، كما يعذَّبون في الآخرة بعد السؤال (8) وإقامة الحجَّة (9)، والله سبحانه وتعالى أعلم. _________ (1) «إليه» ساقط من (ن). (2) «أن قرصتك» ساقط من (ب). (3) أخرجه البخاري (3019) من حديث أبي هريرة. (4) (ق، غ): «الذي». وكذا كان في الأصل، فأصلح. (5) الأصل: «مساولون». يعني: مساءلون. (6) في (ب، ط) زيادة: «أرسل». (7) (ط): «يعذبون». (8) في (ط، ن) زيادة: «لهم». (9) في (ب، ط، ن) زيادة: «عليهم». وقال الحافظ في الفتح (3/ 240): «ظاهر الأحاديث الأول، وبه جزم الحكيم الترمذي ... وجنح ابن القيم إلى الثاني. وقال ... » فنقل جوابه. وانظر تلخيص المسألة من كتابنا هذا في شرح الطحاوية (397).

(1/264)


فصل

 وأما المسألة الثالثة عشرة (1) وهي أنَّ الأطفال هل يمتحنون (2) في قبورهم؟

اختلفَ الناس في ذلك على قولين، هما وجهان لأصحاب أحمد (3). وحجة من قال إنهم يُسألون: أنه تُشرَع (4) الصلاة عليهم، والدعاء لهم، وسؤالُ الله أن يَقِيَهم عذاب القبر وفتنة القبر؛ كما ذكر مالكٌ في موطَّئه (5) عن أبي هريرة أنه (6) صلَّى على جنازة صبيٍّ، فسُمِع من دعائه: «اللهم قِهِ عذاب _________ (1) (ق، غ): «عشر» بالتذكير. وفي (ن): «الرابعة عشر» ولم يرد فيها «فصل وأمّا». (2) (أ، غ): «تمتحن». (3) انظر: مجموع الفتاوى (4/ 277، 280)، قال: «أحدهما أنه لا يمتحن ــ يعني الصغير ــ وأن المحنة إنما تكون على من كلف في الدنيا. قاله طائفة منهم القاضي أبو يعلى وابن عقيل. والثاني: أنه يمتحن، وهو قول أكثر أهل السُّنة. ونقله أبو الحسن بن عبدوس عن أصحاب الشافعي». (4) (ق): «لم تشرع»، وهو خطأ غريب. (5) في كتاب الجنائز برقم (610). ولفظه: «اللهم أعِذْه من عذاب القبر». ولعل المؤلف اعتمد على كلام شيخه. انظر: جامع المسائل (4/ 222). (6) في الأصل بعده: «صلى الله عليه وسلم». (ونحوه في مجموع الفتاوى 4/ 277، 280). وفوق السطر قبل «صلى»: مِن، وبعد «سلم»: إلى. يعني أنها زائدة. ثم جاء بعض القراء، فضرب على الكلمتين. ولعل مردّ هذه الزيادة وحذفها إلى ما ذكر شيخ الإسلام في جامع المسائل (3/ 238) أنه «ثبت عن أبي هريرة ــ وروي مرفوعًا ــ أنه صلَّى على طفل ... ». والمرفوع أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (1/ 374) والبيهقي في إثبات عذاب القبر (160). والصواب هو الموقوف.

(1/265)


القبر». واحتجُّوا بما رواه علي بن معبد (1) عن عائشة أنَّه مُرَّ عليها بجنازة صبيٍّ صغير، فبكت، فقيل لها: ما يُبكيك يا أمَّ المؤمنين؟ فقالت: هذا (2) الصبي بكيتُ له شفقةً عليه من ضَمَّة القبر. واحتجوا بما رواه هنَّاد بن السَّريّ (3)، ثنا أبو معاوية عن يحيى بن سعيد، عن سعيد (4) بن المسيّب، عن أبي هريرة قال: إن كان لَيُصلِّي على المنفُوسِ، ما إن عمل خطيئةً قطُّ، فيقول: اللهم أَجِرْه من عذاب القبر. قالوا: والله سبحانه يُكمِل لهم عقولهم ليعرفوا بذلك منزلتهم، ويُلهَمون (5) الجوابَ عما يُسألون عنه. قالوا: وقد دلَّ على ذلك الأحاديث الكثيرة التي فيها أنهم يُمتحنون في الآخرة. وحكاه الأشعريُّ عن أهل السنّة والحديث (6)، فإذا امتُحِنوا في _________ (1) في كتاب الطاعة والمعصية. وقد سبق. (2) ساقط من (ط). (3) في كتاب الزهد (351). (4) «عن سعيد» ساقط من (ط، ن). (5) (ق): «ويكتمون»، تحريف. (6) يعني امتحانهم في الآخرة. ومثله في طريق الهجرتين (873) ومجموع الفتاوى (4/ 278): «وهو الذي ذكره أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة واختاره». وانظر: الفتاوى (4/ 281، 303) وجامع المسائل (3/ 238). ونصّ ما ذكره الأشعري في المقالات (296) من قول أصحاب الحديث وأهل السُّنة: «أن الأطفال أمرهم إلى الله؛ إن شاء عذّبهم، وإن شاء فعل بهم ما أراد». وفي الإبانة (194) نقل حديثًا يدلّ على امتحان الأطفال في الآخرة.

(1/266)


الآخرة لم يمتنع امتحانهم في القبور. قال الآخرون: السؤال إنما يكون لمن عَقَل الرسولَ والمرسِل (1) [57 أ]، فيُسأل: هل آمن بالرسول وأطاعه أم لا؟ فيقال له: ما كنتَ تقول في هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فأما الطفلُ الذي لا تمييزَ له بوجه ما، فكيف يقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بُعِث فيكم؟ ولو رُدَّ إليه عقله في القبر فإنه لا يُسأل عما لم يتمكَّن من (2) معرفته والعلم به، فلا فائدة في هذا السؤال (3). وهذا بخلاف امتحانهم في الآخرة، فإنَّ الله سبحانه يُرسل إليهم رسولاً، ويأمرُهم بطاعة أمره، وعقولُهم معهم. فمن أطاعه منهم نجا، ومن عصاه أدخله النار. فذلك امتحانٌ بأمر (4) يأمرهم به يفعلونه ذلك الوقت، لا أنه سؤال عن أمر مضى لهم في الدنيا من طاعةٍ أو عصيانٍ كسؤال الملكين في القبر. وأما حديث أبي هريرة فليس المرادُ بعذاب القبر فيه عقوبة الطفل على ترك طاعة أو فعلِ معصية قطعًا، فإنّ الله لا يعذِّب أحدًا بلا ذنبٍ عَمِله، بل عذاب القبر قد يراد به الألمُ الذي يحصلُ للميت بسبب غيره، وإن لم يكن عقوبةً على عملٍ عَمِله (5). ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ الميِّت لَيُعَذَّبُ ببكاء أهله _________ (1) «والمرسل» ساقط من (ب). (2) ساقط من (ب، ط، ج). (3) (ق): «ولا فائدة ... ». (أ، غ): «ولا فائدة بهذا السؤال». (4) «بأمر» ساقط من (ب، ن، ج). (5) (ب، ط، ج): «على عمله».

(1/267)


عليه» (1). أي: يتألَّم بذلك (2) ويتوجَّع منه، لا أنه يعاقَبُ بذنب الحيِّ {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. وهذا كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «السفر قطعة من العذاب» (3). فالعذابُ أعمُّ من العقوبة. ولا ريبَ أنَّ في القبر من الآلام والهموم (4) والحسرات ما قد يَسْري أثرُه إلى الطفل فيتألمُ به، فيشرعُ للمصلِّي عليه أن يسأل الله تعالى له أن يَقِيَه ذلك العذاب (5). والله أعلم (6). _________ (1) أخرجه البخاري (1286) ومسلم (927) من حديث ابن عمر. (2) (ب، ط، ج): «من ذلك». (3) أخرجه البخاري (1804) ومسلم (1927) من حديث أبي هريرة. (4) في (ب، ط، ن، ج) زيادة: «والغموم». (5) (ب، ط، ج): «يقيه عذاب القبر». (6) لم يرد «والله أعلم» في (ن).

(1/268)


فصل

 وأما المسألة الرابعة عشرة (1) وهي قوله: هل عذاب القبر دائم أو منقطع؟ (2)

فجوابها أنه نوعان: نوع دائم، سوى ما وردَ في بعض الحديث (3) أنه يخفَّف عنهم ما بين النفختين، فإذا قاموا من قبورهم قالوا: {يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} (4) [يس: 52]. ويدلُّ على دوامه قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46]. ويدلُّ عليه ما تقدَّم (5) في حديث سَمُرة الذي رواه البخاري في رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: «فهو يُفعَل به ذلك إلى يوم القيامة». وفي [57 ب] حديث ابن عبّاس في قصة الجريدتين: «لعله يخفَّف عنهما ما لم يَيْبَسا». فجعل التخفيف مقيَّدًا بمدّة رطوبتهما فقط. _________ (1) (أ، ق، غ): «عشر». وفي (ن): «الخامسة عشرة» ولم يرد فيها «فصل وأمَّا». (2) (ب، ط، ن، ج): «ينقطع». (3) لم أجد فيه حديثًا مرفوعًا. ولعله يشير إلى ما روي عن أُبي بن كعب وابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم أن الله تعالى يرفع عنهم العذاب بين النفختين، فيرقدون. تفسير البغوي (3/ 644). وانظر: تفسير الطبري (19/ 456) وتذكرة القرطبي (478) وتفسيره (17/ 464 ــ 465). (4) فيما عدا (أ، ن، غ): « ... مرقدنا هذا». (5) في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 169)، وكذا الحديثان الآتيان (ص 150، 172).

(1/269)


وفي حديث الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي هريرة: «ثم أتى على قوم ترضَخ رؤوسهم بالصخر، كلما رُضخت عادت، لا يفتَّر عنهم من ذلك شيء» وقد تقدَّم. و (1) في الصحيح (2) في قصة الذي لبس بُردين، وجعل يمشي يتبختر: «فخَسَف الله به الأرض، فهو يتجَلجَل فيها إلى يوم القيامة». وفي حديث البراء بن عازب في قصة الكافر: «ثمّ يُفتَح له بابٌ (3) إلى النار، فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة». رواه الإمام أحمد (4). وفي بعض طرقه: «ثمّ يخرِقُ له خرقًا إلى النار، فيأتِيه من غَمِّها ودخانها إلى يوم القيامة» (5). النوع الثاني: إلى (6) مدّةٍ، ثم ينقطع. وهو عذابُ بعض العصاة الذين خفَّت جرائمهم، فيعذَّب بحسَب جُرْمه (7)، ثم يخفَّفُ عنه؛ كما يعذَّب في النار مدّةً، ثم يزول عنه العذاب. وقد ينقطع عنه العذاب بدعاءٍ أو صدقة أو استغفار، أو ثواب حج، أو قراءةٍ تصل إليه من بعض أقاربه أو غيرهم. وهذا كما يشفع الشافع في _________ (1) الواو ساقطة من (أ، ب، غ). (2) أخرجه البخاري (5789) ومسلم (2088) من حديث أبي هريرة. (3) (ق): «بابًا». (4) سبق تخريجه في المسألة السادسة (ص 131). (5) نحوه في فتاوى ابن حجر في آخر كتابه الإمتاع (75). ولعله صادر عن كتاب الروح. (6) (ب): «أنه»، تحريف. (7) (ط): «جريمته».

(1/270)


المعذَّب في الدنيا (1)، فيخلصُ من العذاب بشفاعته (2)؛ لكن هذه شفاعة قد تكون بدون (3) إذن المشفوع عنده. والله تعالى لا يتقدَّم أحدٌ بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه، فهو الذي يأذن للشافع أن يشفع إذا أراد أن يرحمَ المشفوعَ له (4). ولا يُغترَّ (5) بغير هذا، فإنه شركٌ وباطل يتعالى الله عنه: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} (6) [يونس: 3]، {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]، {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر: 44]. وقد ذكر ابنُ أبي الدنيا (7): حدَّثني محمد بن موسى الصائغ، حدثنا عبد الله بن نافع، قال: مات رجل من أهل المدينة، فرآه رجل كأنه من أهل النار، فاغتمَّ لذلك. ثم إنه بعد سابعة أو ثامنة رآه كأنه من أهل الجنة، فقال (8): _________ (1) «في الدنيا» ساقط من (ط). (2) (أ، غ): «بشفاعة». و «الشافع ... بشفاعته» ساقط من (ب). وكذا «في المعذب ... بشفاعته» ساقط من (ج). (3) (ق): «بذلك»، تحريف. (4) (ب، ط، ج): «الميت المشفوع له». (5) (ب، ط، ج): «فلا يغتر». (ن): «فلا تغتر». (6) ما عدا (أ، غ): «فما ... »، وهو خطأ. ولم ترد هذه الآية في (ن). (7) في كتاب القبور (139). (8) (ب، ط، ج): «قال».

(1/271)


ألم تكن قلت إنّك من أهل النار؟ قال: قد كان ذلك إلا أنه دُفن معنا رجل من الصالحين [58 أ]، فشفَع في أربعين من جيرانه، فكنت أنا (1) منهم. قال ابنُ أبي الدنيا (2): وحدَّثنا أحمد بن يحيى (3) قال: حدثني بعضُ أصحابنا (4) قال: مات أخي (5)، فرأيته في النوم، فقلت: ما كان حالُك حين وُضِعْت في قبرك؟ قال: أتاني آتٍ بشهابٍ من نار، فلولا أنّ داعيًا دعا لي لرأيت أنه سيضربني به (6). وقال عمرو (7) بن جرير: إذا دعا العبد لأخيه الميت أتاه بها ملَكٌ إلى القبر، فقال: يا صاحب القبر الغريب (8)، هديةٌ من أخ عليك شفيق (9). وقال بشَّار بن غالب: رأيت رابعةَ في منامي، وكنتُ كثير الدعاء لها، فقالت لي: يا بشَّار بن غالب، هداياك تأتينا على أطباقٍ من نور مخمَّرةٍ بمناديل الحرير. قلت: وكيف ذاك؟ قالت: هكذا دعاءُ المؤمنين الأحياء إذا _________ (1) ساقط من (ب، ط، ن، ج). (2) عزاه إليه ابن رجب في الأهوال (22) والسيوطي في شرح الصدور (366). (3) الأهوال وشرح الصدور: أحمد بن بجير. (4) (ن): «يحيى عن بعض أصحابه». (5) (ط، ن، ج): «أخ لي». وكذا في الأهوال وشرح الصدور. (6) هذا الخبر ساقط من (ب). (7) (ط): «عمر». (8) في الأصل وضع بعض القراء علامة بعد «الغريب» وكتب في الحاشية: «لعله هذه». يعني: هذه هدية. فظنه ناسخ لحقًا، وأقحم في (غ) في المتن. (9) أخرجه ابن أبي الدنيا كما في الأهوال (125) وشرح الصدور (396).

(1/272)


دَعَوا للموتى فاستُجيب لهم، جُعِل (1) ذلك الدعاء على أطباقِ النور، وخُمِّرَ بمناديل الحرير، ثم أُتِيَ (2) الذي دُعِيَ (3) له من الموتى، فقيل: هذه هدية فلان إليك (4). قال ابنُ أبي الدنيا: وحدَّثني أبو عبد الله بن بُجير (5) قال: حدثني بعض أصحابنا (6) قال: رأيتُ أخًا لي في النوم بعد موته، فقلت: أيصل إليكم دعاء الأحياء؟ قال: إي والله، يترفرف (7) مثلَ النور، ثم نَلبَسه (8)! وسيأتي ــ إن شاء الله تعالى ــ تمامٌ لهذا (9) في جواب السؤال عن (10) انتفاع الأموات بما يُهديه إليهم الأحياء. _________ (1) (ب، ط، ن، ج): «يجعل». (2) زاد بعده في (ط): «به». (3) (ب، ط، ن، ج): «دعا». (4) أخرجه ابن أبي الدنيا كما في الأهوال (125) وشرح الصدور (397). (5) (أ، غ): «أبو عبد بن بحتر». وفي (ق) أيضًا: «أبو عبد» وفي (ن): «عبد الله بن بجير». والصواب المثبت من غيرها. (6) (ن): « ... بجير عن بعض أصحابه». (7) (أ، ق): «يترفون». وفي حاشية الأصل: «لعله يترفرف». (8) كذا بالنون في (ق) والمصادر الأخرى. ولم يتضح أوله في الأصل. وفي غيرها: «يلبسه». والخبر عزاه إلى ابن أبي الدنيا: ابن رجب في الأهوال (125) والسيوطي في شرح الصدور (396). (9) ما عدا (أ، ن، غ): «لهذه». (10) «جواب السؤال عن» ساقط من (ن).

(1/273)


فصل

 وأمّا المسألة الخامسة عشرة (1) وهي: أين (2) مستقرُّ الأرواح ما بين الموت إلى القيامة؟ هل هي في السماء أم (3) في الأرض؟ وهل هي في الجنة والنار (4) أم لا؟ وهل تُودَع في أجساد غير أجسادها التي كانت فيها، فتنعَّم وتعذَّب فيها، أم تكون مجرَّدة؟

فهذه مسألة عظيمة تكلَّم فيها الناس، واختلفوا فيها. وهي إنما تُتلقَّى من السمع فقط، واختُلِف في ذلك (5). فقال قائلون: أرواح المؤمنين عند الله في الجنة ــ شهداء كانوا أم غير شهداء ــ إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرةٌ ولا دَيْن، وتلقَّاهم (6) ربّهم بالعفو عنهم والرحمة لهم. وهذا مذهب أبي هريرة، وعبد الله بن عمرو (7). _________ (1) (ق، غ): «عشر» بالتذكير. وفي (ن): «السادسة عشر». ولم يرد فيها «فصل وأمَّا». (2) ما عدا الأصل: «أن». (3) (ن): «هل هو في السماء أو». (4) (ق، ن): «أو النار». (5) لخَّص هذه المسألة من كتاب الروح شارح الطحاوية (398 ــ 401) دون الإشارة إليه. (6) في (أ، ب، ط، ج): «يلقاهم». والمثبت من (ق) والتمهيد لابن عبد البر (11/ 59). (7) في (أ، ق، غ): «عبد الله بن عمر»، وكذا في التمهيد، ولعل الصواب: «عبد الله بن عمرو» كما أثبتنا من النسخ الأخرى. وسيأتي هكذا في الأصل أيضًا. وكذا نقله ابن رجب في الأهوال (105) عن ابن عبد البر. والعبارة «فقال قائلون ... عمرو» منقولة من التمهيد، وسيأتي النص على ذلك.

(1/274)


وقالت طائفة: هم بفناء الجنة على بابها يأتيهم من رَوْحها [58 ب] ونعيمها ورزقها. وقال طائفة: الأرواح على أفنية قبورها. وقال مالك: بلغني أنَّ الروح مرسَلة تذهب حيث شاءت (1). وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله: أرواح الكفار (2) في النار، وأرواح المؤمنين في الجنة (3). وقال أبو عبد الله بن منده: وقال طائفة من الصحابة والتابعين: أرواح المؤمنين عند الله عزَّ وجلَّ، ولم يزيدوا على ذلك. قال: وروي عن جماعة من الصحابة والتابعين أنّ (4) أرواح المؤمنين بالجابية، وأرواح الكفار ببَرَهُوتَ: بئرٌ بحضرموت (5). _________ (1) أخرجه ابن أبي الدنيا عنه في كتاب ذكر الموت. كذا في مجموع الفتاوى (4/ 295) ولم أجده في المطبوع منه. وذكره ابن عبد البر في الاستذكار (3/ 88). (2) (ب، ط، ج، ن): «إن أرواح». (3) كذا حكاه القاضي أبو يعلى ومن اتبعه عن عبد الله بن أحمد عن أبيه. ولم ينقله عبد الله، وإنما نقله حنبل. قاله ابن رجب في الأهوال (103). وفي مسائل عبد الله (546): سألت أبي عن أرواح الموتى: أتكون في أفنية قبورها، أم في حواصل طير، أم تموت كما تموت الأجساد؟ فقال: قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «نسمة المؤمن طائر يعلق ... » الحديث. ثم ذكر قول عبد الله بن عمرو: إن أرواح المؤمنين في أجواف طير خضر ... إلخ. (4) لم ترد «أن» في (ب، ط، ج، ن). (5) أخرجه ابن أبي الدنيا في ذكر الموت (544) عن عبد الله بن عمرو.

(1/275)


وقال صفوان بن عمرو: سألت عامر بن عبد الله أبا اليمان: هل لأنفس المؤمنين مجتمَع؟ فقال: إنَّ الأرض التي يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] قال: هي الأرض التي يجتمع إليها أرواح المؤمنين (1) حتى يكون البعث (2)، وقالوا: هي الأرض التي يُورِثها الله المؤمنين في الدنيا. وقال كعب: أرواح المؤمنين في علِّيين في السماء السابعة، وأرواح الكفار في سجِّينٍ في الأرض السابعة تحت خَدّ إبليس (3). وقالت طائفة: أرواح المؤمنين ببئر زمزم، وأرواح الكفار ببئر بَرَهُوتَ (4). وقال سلمان الفارسي: أرواح المؤمنين (5) في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت، وأرواح الكفار في سجِّين (6). وفي لفظ عنه: نَسَمةُ المؤمن _________ (1) زاد في (ط): «في الدنيا». (2) قال السيوطي في شرح الصدور (330): «أخرجه ابن منده. وهذا غريب جدًّا. وتفسير الآية بذلك أغرب». وأخرجه ابن جرير في تفسيره (16/ 437). وانظر: الأهوال (114). وسيأتي الكلام على الآية. (3) أخرجه ابن المبارك في الزهد (1223) والطبري في التفسير (24/ 194، 195) وسيأتي الأثر كاملاً عند مناقشة القائلين بأن أرواح المؤمنين عند الله تعالى ولم يزيدوا على ذلك. (4) أخرجه ابن أبي الدنيا في ذكر الموت (541، 542) عن علي بن أبي طالب. (5) (ط): «إن أرواح المؤمنين». وقد سقط من (ب، ج): «أرواح ... من الأرض». (6) أخرجه ابن المبارك في الزهد (429) وابن أبي الدنيا في ذكر الموت (543).

(1/276)


تذهب في الأرض حيث شاءت (1). وقالت طائفة: أرواح المؤمنين عن يمين آدم، وأرواح الكفار عن شماله. وقالت طائفة أخرى منهم ابن حزم (2): مستقرُّها حيث كانت قبل خلق أجسادها. قال (3): والذي نقول به (4) في مستقَرِّ الأرواح هو ما قاله الله عز وجل ونبيُّه - صلى الله عليه وسلم -، لا نتعداه. فهو البرهان الواضحُ، وهو أنَّ الله عزَّ وجلَّ قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ (5) وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [الأعراف: 11]، فصحَّ أنَّ الله تعالى خلق الأرواح جملةً. وكذلك أخبر - صلى الله عليه وسلم -: «أنّ الأرواح جنودٌ مجنَّدةٌ، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» (6). وأخذ الله عهدها وشهادتها له (7) بالربوبية، وهي _________ (1) صفة الصفوة (1/ 555). (2) (ن): «أبو محمد ابن حزم». (3) في الفِصَل (2/ 321 ــ 322). (4) (ن): «نعوِّل عليه، ونقول به». (5) كذا في جميع النسخ على قراءة أبي عمرو من السبعة. ولم يثبت ناسخ (ن) الآية كاملة. (6) أخرجه البخاري من حديث عائشة (3336)، ومسلم من حديث أبي هريرة (2638). (7) «له» ساقط من (ن). وفي (ط): «وأخذ شهادتها له». وفي (ب، ج): «وأخذ الله شهادتها له».

(1/277)


مخلوقة مصوَّرة عاقلة، قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم، وقبل أن يُدخلَها في الأجساد، والأجسادُ يومئذ تراب وماء. ثم أقرَّها (1) حيث شاء، وهو البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت. ثم لا يزال يبعث منها الجملةَ بعد الجملة، فينفخها في الأجساد المتولِّدة من المنيِّ. إلى أن قال: فصحَّ أنَّ الأرواح أجسام حاملة (2) لأعراضها من التعارف والتناكر، وأنَّها عارفة مميزة. فيبلوهم الله في الدنيا كما يشاء، ثم يتوفّاها، فترجعُ إلى البرزخ الذي رآها فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أُسري به عند سماء الدنيا. أرواحُ أهل السعادة عن يمين آدم، وأرواح أهل الشقاء عن يساره، وذلك عند منقطع العناصر. وتُعجَّل أرواحُ الأنبياء والشهداء إلى الجنة. قال: وقد ذكر محمد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا الذي قلنا بعينه. قال: وعلى هذا أجمع أهل العلم. قال ابن حزم: وهو قول جميع أهل الإسلام. قال: وهذا هو قول الله تعالى: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 8 ــ 14] (3)، وقوله تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} [الواقعة: 88 ــ 89] إلى آخرها. _________ (1) (ب، ط): «أخرها». (ج): «أخرجها». وكلاهما تصحيف. (2) (ب، ط، ق، ج): «كاملة»، تصحيف. (3) لم يثبت ناسخ (ن) إلا الآيتين (8، 9).

(1/278)


فلا تزال (1) الأرواح هنالك حتى يتمَّ عدد الأرواح (2) كلِّها بنفخها في الأجساد، ثم برجوعها (3) إلى البرزخ، فتقوم الساعة، ويعيد الله عزَّ وجلَّ الأرواح إلى الأجساد ثانيةً (4)، وهي الحياة الثانية، ويحاسب الخلق: فريق في الجنة، وفريق في السعير، مخلَّدين أبدًا. انتهى. وقال أبو عمر بن عبد البرّ: أرواح الشهداء في الجنة، وأرواح عامَّة المؤمنين على أفنية قبورهم. [59 ب] ونحن نذكر كلامه وما احتجَّ به، ونبيِّن ما فيه. وقال ابن المبارك، عن ابن جريج، فيما قرئ (5) عليه عن مجاهد: ليس هي في الجنة، ولكن يأكلون من ثمارها، ويجدون ريحها (6). وذكر معاويةُ بن صالح عن سعيد بن سويد أنه سأل ابن شهاب عن أرواح المؤمنين، فقال: بلغني أنَّ أرواح الشهداء كطير خضر معلَّقة بالعرش، تغدو وتروح إلى رياض الجنة، تأتي ربَّها في (7) كلِّ يوم، تسلِّمُ عليه (8). _________ (1) (ن): «ولا تزال». (2) (ن): «عددها». (3) (ن): «يرجعها» ولعله إصلاح من الناسخ؛ لأنه أثبت قبله: «ينفخها». (4) (ن): «ثانيًا». (5) كذا في الأصل والتمهيد. وفي (ب، ط، ق، ج): «قرأ»، ومثله في تفسير ابن المنذر. وفي (ن): «قرأه». (6) أخرجه من هذا الطريق ابن عبد البر في التمهيد (11/ 63) وابن المنذر في تفسيره (1179). وانظر تفسير مجاهد (21). وقوله: «هي» أي أرواح الشهداء. وانظر: الاستذكار (3/ 90). (7) ساقطة من (ن). (8) عزاه ابن رجب في الأهوال (93) إلى ابن منده. وفيه: «يحيى بن صالح عن سعيد». وانظر: شرح الصدور (305).

(1/279)


وقال أبو عمر بن عبد البرّ (1) في شرح حديث ابن عمر: «إنّ أحدكم إذا مات عُرِض عليه مقعدُه بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار. يقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إلى يوم القيامة» (2). قال (3): وقد استدَلَّ به مَن ذهب إلى أنَّ الأرواح على أفنية القبور. وهو أصحُّ ما ذُهِب إليه في ذلك ــ والله أعلم ــ لأنَّ الأحاديث بذلك أحسنُ مجيئًا وأثبتُ نقلاً من غيرها (4). قال: والمعنى عندي أنَّها قد تكون على أفنية قبورها، لا على أنها تلزم (5) ولا تفارقُ أفنية القبور. بل هي (6) كما قال مالك (7) رحمه الله: إنه (8) بلغنا أنَّ الأرواح تسرح حيث شاءت. قال: وعن مجاهد أنه قال: الأرواح على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفنِ الميت، لا تفارق ذلك. والله أعلم (9). وقالت فرقة: مستقرُّها العدمُ المحض. وهذا قول من يقول: إنّ النفس _________ (1) (ب، ط، ج): «وقال أبو عمرو» وهو خطأ. (2) أخرجه البخاري (1379) ومسلم (2866). (3) ساقط من (ن). وفي (ب، ط): «وقال». (4) «لأن ... غيرها» ساقط من (ق). (5) (ن): «لا تلزم»، وهو خطأ. وفي الاستذكار: «لا تريم» ولعله تحرّف في (ن). (6) «بل هي» ساقط من (أ، ق، غ). ولا يستقيم المعنى بدونها. (7) (ق): «الإمام مالك». (8) «إنه» ساقط من (أ، غ). (9) الاستذكار (3/ 88).

(1/280)


عرَض من أعراض البدن كحياته وإدراكه، فتُعدَم بموت البدن، كما تُعدَم سائرُ الأعراض المشروطة بحياته. وهذا قولٌ مخالفٌ لنصوص القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين، كما سنذكر ذلك إن شاء الله. والمقصود: أنَّ عند هذه الفرقة المبطِلة مستقَرّ الأرواح بعد الموت العدمُ المحض. وقالت فرقة: مستقرُّها بعد الموت أبدان أُخَر تُناسب أخلاقها وصفاتها التي اكتسبتها في حال حياتها، فتصيرُ كلُّ روح إلى بدن حيوانٍ يشاكِلُ تلك الأرواحَ. فتصيرُ النفس السَّبُعيّةُ إلى أبدان السباع، والكَلبيةُ إلى أبدان الكلاب، والبهيميةُ إلى أبدان البهائم، والدنيَّة السُّفليَّة (1) إلى أبدان الحشرات. وهذا قول التناسُخيَّة منكري المعاد [60 أ] وهو قول خارج عن أقوال أهل الإسلام كلّهم. فهذا ما تلخَّص لي من جميع (2) أقوال الناس في مصير أرواحهم بعد الموت، ولا تظفر (3) به مجموعًا في كتاب واحد غير هذا (4) البتَّة. ونحن نذكر مآخذ هذه الأقوال، وما لكل قول وما عليه، وما هو الصواب من ذلك الذي دلَّ عليه الكتاب والسنَّة، على طريقتنا التي مَنَّ الله بها، وهو مَرجوُّ الإعانة (5) والتوفيق. _________ (1) (ق): «والسفلية». (2) كذا في (أ، ن). وهي ساقطة من (غ). وفي غيرها: «جمع». (3) (ب، ط، ن): «يظفر» وضبطت الياء في (ط) بالضم. (4) (ق): «واحد هكذا». (5) (ب، ط، ج): «المرجو للاعانة». وقد تحرّف «المرجو» في (ن) إلى «الموجد».

(1/281)


فصل فأمَّا (1) من قال: هي في الجنة، فاحتجَّ بقوله تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} [الواقعة: 88، 89]. قال: وهذا ذكره سبحانه عقيبَ ذكر (2) خروجها من البدن بالموت، وقسَّم الأرواح إلى (3) ثلاثة أقسام: مقرَّبين، وأخبر أنّهم (4) في جنّة نعيم (5)؛ وأصحاب يمين (6)، وحكم لها بالسلام (7)، وهو يتضمَّن سلامتها من العذاب. ومكذِّبةٍ ضالَّةٍ، وأخبر أنَّ لها نُزُلاً من حميم وتصليةَ جحيم. قالوا: وهذا بعد مفارقتها للبدن قطعًا. وقد ذكر سبحانه حالها يوم القيامة في أول السورة. فذكر (8) حالها بعد الموت، وبعد البعث. واحتجُّوا بقوله تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 ــ 30]. وقد قال غيرُ واحد من الصحابة والتابعين: إنَّ هذا يقال لها عند خروجها من الدنيا، يبشِّرها _________ (1) (ط): «وأما». (2) ساقط من (ق). (3) (ق): «على». (4) كذا في الأصل و (غ). وفي غيرهما: «أنّها». (5) ما عدا (أ، ن، غ): «النعيم». (6) (ط): «اليمين». (7) (ن): «السلامة». (8) ما عدا (أ، ق، غ): «وذكر»، تصحيف.

(1/282)


الملَك بذلك. ولا ينافي ذلك قولَ من قال: إن هذا يقال لها (1) في الآخرة، فإنه يقال لها عند الموت وعند البعث (2). وهذه من البشرى التي قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] (3). وهذا التنزُّل (4) يكون عند الموت، ويكون في القبر، ويكون عند البعث، وأول بشارة الآخرة عند الموت. وقد تقدَّم في حديث البراء بن عازب (5) أنَّ الملَك يقول لها عند قبضها: أبشري برَوْح ورَيحان. وهذا من ريحان الجنّة. واحتجُّوا بما رواه مالك في الموطأ (6)، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، أنّه (7) أخبره أنَّ أباه كعب بن مالك كان يحدِّث أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما نَسَمةُ المؤمن طائرٌ يعلُق في شجر الجنة حتى يَرجِعه الله إلى جسده (8) يوم يبعثه». _________ (1) «عند خروجها ... لها» ساقط من (ن). (2) انظر: مدارج السالكين (2/ 178 ــ 179). (3) اختصر ناسخ (ن) الآية. (4) (ط): «النزل». (ن): «التنزيل». وكلاهما تصحيف. (5) بل في حديث أبي هريرة. وقد سبق في المسألة السادسة (ص 139). (6) برقم (569). وانظر التمهيد (11/ 56). (7) «أنه» ساقط من (ن). و «بن مالك» ساقط من (ب، غ). (8) (أ، ق، غ): «إلى حياة»، تحريف.

(1/283)


قال أبو عمر (1): وفي رواية مالكٍ هذه بيانُ سماع الزهري لهذا الحديث من عبد الرحمن بن كعب بن مالك. وكذلك [60 ب] رواه يونس عن الزهري قال: سمعت عبد الرحمن بن كعب بن مالك (2) يحدِّث عن أبيه. وكذلك رواه الأوزاعيُّ عن الزهري: حدثني عبد الرحمن بن كعب. وقد أَعَلَّ محمد بن يحيى الذُّهلي هذا الحديث بأنَّ شعيب بن أبي حمزة، ومحمد ابن أخي الزهري، وصالح بن كيسان= روَوْه عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن جدِّه كعب، فيكون منقطعًا (3). وقال صالح بن كيسان: عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن أنَّه بلغه أنَّ كعب بن مالك كان يحدِّث. قال الذهلي: وهذا المحفوظ عندنا، وهو الذي يُشبه حديث صالح وشعيب وابن أخي الزهري. وخالفه في هذا غيرُه من الحفَّاظ، فحكموا لمالك والأوزاعي (4). قال أبو عمر (5): فاتفق مالك، ويونس بن يزيد، والأوزاعي، والحارث بن فُضَيل على رواية هذا الحديث عن الزهري، عن _________ (1) في كتاب التمهيد (11/ 56 ــ 57). (2) «وكذلك ... مالك» ساقط من (ب، ج، ن). (3) على رأي من يرى عدم سماعه من جده، وهو قول الذهلي حيث قال في علل حديث الزهري: «ما أظنه سمع من جدِّه شيئًا». وقال الدارقطني: «روايته عن جده مرسل». انظر: تهذيب التهذيب (9/ 215). (قالمي) (4) (ب، ط، ن، ج): «للأوزاعي». ولم ترد هذه الفقرة في التمهيد، فلعله من كلام المؤلف. (5) التمهيد (11/ 57).

(1/284)


عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه. وصححه الترمذي وغيره (1). قال أبو عمر (2): ولا وجهَ عندي لما قاله (3) محمد بن يحيى من ذلك، ولا دليل عليه. واتفاقُ (4) مالك ويونس بن زيد والأوزاعيِّ ومحمد بن إسحاق أولى بالصواب، والنفسُ إلى قولهم وروايتهم أسكنُ، وهم من الحفظ والإتقان بحيث لا يقاس بهم مَن خالفهم في هذا الحديث (5). انتهى (6). وقد قال محمد الذهلي: سمعت علي بن المديني يقول: وُلِدَ لكعبٍ (7) خمسة: عبد الله، وعبيد الله، ومعبد، وعبد الرحمن، ومحمد. قال الذهلي: فسمع الزهري من عبد الله (8) بن كعب، وكان قائد أبيه حين عمِيَ، وسمع _________ (1) إنما صحَّحه الترمذي (1641) من رواية سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه. بلفظ: «إن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمرة الجنة أو شجر الجنة». ولكن صحَّحه ابن حبان (4657) من رواية الليث عن الزهريّ، به، بمثل رواية مالك سندًا ومتنًا. (قالمي) والجملة «وصححه الترمذي وغيره» لم ترد في التمهيد (الإصلاحي). (2) التمهيد (11/ 58). (3) (ب، ج): «والأوجه عندي ما قاله»، تحريف عكس المعنى. (4) (ط): «ولا دليل على اتفاق» تحريف أفسد السياق. (5) انظر: الاستذكار (8/ 357)، وللمزيد يراجع كتاب الإيماء إلى أطراف أحاديث كتاب الموطأ لأبي العباس الداني (2/ 182 ــ 187) (قالمي). (6) يعني كلام أبي عمر، لا النقل من كتابه، فإن الفقرة الآتية منقولة منه (11/ 56). (7) (ب، ط، ج): «ولدُ كعبٍ». (8) (ب، ط، ن): «عبيد الله». والصواب ما أثبتنا من غيرها والتمهيد. وانظر: تهذيب التهذيب (5/ 369).

(1/285)


من عبد الرحمن بن كعب، وسمع من عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب (1). وروى عن بَشير (2) بن عبد الرحمن بن كعب، ولا أراه سمع منه. انتهى. فالحديث إن كان لعبد الرحمن (3) عن أبيه كعبٍ ــ كما قال مالك ومَن معه ــ فظاهرٌ. وإن كان لعبد الرحمن بن عبد الله بن كعب عن جدِّه ــ كما قال شعيب ومَن معه ــ فنهايته أن يكون مرسَلاً من هذه الطريق، وموصولاً من الأخرى. والذين وصلوه ليسوا بدون الذين أرسلوه قَدْرًا ولا عددًا (4). فالحديث من صحاح الأحاديث، وإنما لم يخرِّجه صاحبا الصحيح لهذه العلّة، والله أعلم. قال أبو عمر (5): وأما قوله: «نسمة المؤمن»، فالنسمة هاهنا: الروح. _________ (1) هذه الجملة ساقطة من (ن). (2) ضبط في الأصل بضم الباء. وفي (ن): «بشر». والصواب ما أثبتنا. انظر: الإكمال لابن ماكولا (1/ 284). (3) (ن): «لعبد الله»، خطأ. (4) ويجوز أن يكون ذلك كله محفوظًا عن الزهري لاختلاف أصحابه الثقات الكبار عليه، فكان تارة يحدث به عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، وتارة عن ابن أخيه عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب. ونظير ذلك روايته عنهما في قصة توبة كعب بن مالك رضي الله عنه في غزوة تبوك، وقد أخرج البخاري بعضه عنه عن عبد الرحمن بن كعب، وبعضه عن عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب. قال الحافظ في الفتح (6/ 114): «وقد سمع الزهري منهما جميعًا». (قالمي). (5) التمهيد (11/ 58).

(1/286)


يدلُّ على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث نفسه: «حتى يَرْجِعَه الله إلى جسده يوم يبعثه». وقيل: النسمة: الروح والنفس والبدن. وأصل هذه اللفظة، أعني النسمة: الإنسان بعينه، وإنما قيل للروح: نسمةٌ ــ والله أعلم ــ لأن (1) حياة الإنسان بروحه (2)، فإذا فارقته (3) عُدم أو صار كالمعدوم. والدليل على أنّ النسمة الإنسان قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أعتق نسمةً مؤمنةً» (4)، وقولُ عليٍّ رضي الله عنه: «والذي فلَقَ الحبَّةَ وبرأ النسمة» (5). وقال الشاعر (6): _________ (1) ما عدا (أ، غ): «أن». (2) (ب، ط، ن، ج): «روحه». (3) (ب، ن، ج): «وإذا فارقه». (ط): «فإذا فارقه». (4) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (8/ 466)، وابن أبي شيبة في المصنف (12634)، والنسائي في الكبرى (4877)، والطبراني في المعجم الكبير (186)، والأوسط (3738) من حديث فاطمة بنت علي بن أبي طالب، عن أبيها رضي الله عنه. وإسناده حسن لولا أن فيه انقطاعًا؛ فإن فاطمة وهي الصغرى قال أبو حاتم في المراسيل (969): «لم تسمع من أبيها شيئًا، وقد رأت أباها». وكذا قال العجلي في ثقاته (2346). وله شاهد من حديث أبي قلابة عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه، أخرجه عبد الرزاق (154) في حديث طويل، وفيه انقطاع أيضًا؛ فإن أبا قلابة هو عبد الله بن زيد الجرمي عن عمرو بن عبسة مرسل، قاله المزي في تهذيب الكمال (22/ 120. ترجمة عمرو بن عبسة). وروي من وجوه كثيرة عن عمرو بن عبسة، لكن بلفظ: «من أعتق رقبة» أو نحوه، انظر: السلسلة الصحيحة (2681). وهو بهذا اللفظ في الصحيحين وغيرهما. (قالمي) (5) البخاري (3047)، ومسلم (78). (6) كذا في التمهيد (11/ 58). ولكن في الاستذكار (3/ 91) نسب البيت إلي ذي الرمة. والصواب أنه للأعشى من قصيدة يمدح بها قيس بن معديكرب. وصلة البيت قبله في ديوانه (1/ 200): وما أيْبُليٌّ على هَيكلٍ ... بناه وصلَّبَ فيه وصارا يُراوِح من صلَوات المليـ ... ـكِ طورًا سجودًا وطورًا جُؤارًا بأعظم منك ................... ... ............................... وفي الديوان: «منه». وقد تصحفت «نقضن» و «تقى» و «منك» في النسخ الخطية.

(1/287)


بأعظمَ منك تُقًى في الحسابِ ... إذا النَّسَماتُ نَفَضْنَ الغُبارا يعني: إذا بُعِث الناس من قبورهم يوم القيامة. وقال الخليل بن أحمد: النسمة: الإنسان. قال: والنسمة الروح. والنسيم: هبوب الريح (1). وقوله: «تعلق في شجر الجنَّة»، يُروىَ بفتح اللام، وهو الأكثر، ويروى بضمِّ اللام، والمعنى واحد، وهو: الأكل والرعي. يقول: تأكل من ثمار الجنة، وترعى (2) وتسرحُ بين أشجارها (3). والعَلوقة والعَلاق والعَلوق: الأكل والرَعي (4). تقول العرب: ما ذاق اليوم عَلوقًا أي: طعامًا. قال الربيع بن زياد يصف الخيل (5): _________ (1) كتاب العين (7/ 275). (2) «ترعى» لم ترد في (أ، ق، غ). (3) كذا قال في التمهيد (11/ 59) إن معنى «تعلق» بضم اللام وفتحها واحد. وفي الاستذكار (3/ 90): «وفي قول ابن مسعود: «تسرح بالجنة» ما يعضد رواية من روى «تعلَق» بفتح اللام؛ لأن معنى ذلك: تسرح. ومن روى «تعلُق» فالمعنى فيه عند أهل اللغة: تأكل وترعى». وما قاله في التمهيد أصح. (4) يقصد ما يؤكل وما يُرعى، أي الاسم لا المصدر. (5) من أبيات له في الحماسة (1/ 495) والأغاني (17/ 130) وغيرهما. وكذا «علوقة» في التمهيد والاستذكار. والرواية: عدوفًا وعدوفةً، بالدال والذال. انظر قصة أبي عمرو مع يزيد بن مزيد الشيباني في اللسان (عدف). وانظر: إصلاح المنطق (390) والتعازي والمراثي (281) والمستقصى (2/ 322).

(1/288)


ومجنَّباتٍ ما يَذُقْنَ عَلوقةً ... يمصَعْن بالمُهُرات والأمهار وقال الأعشى (1): وفَلاةٍ كأنّها ظهرُ تُرْسٍ ... ليس فيها غيرَ الرَّجيعِ علاقُ قلت (2): ومنه قول عائشة: والنساءُ إذ ذاك خِفافٌ، لم يغشَهنَّ اللحمُ، إنَّما يأكلن العُلْقَة من الطعام (3). وأصل اللفظة من التعلُّق، وهو ما يَعلَقُ القلبَ والنفسَ من الغذاء. قال (4): واختلف العلماء في معنى هذا الحديث، فقال قائلون منهم: أرواح المؤمنين عند الله في الجنة، شهداءَ كانوا أم غيرَ شهداء، إذ لم يحبِسْهم عن الجنَّة كبيرةٌ ولا دَين، وتلقَّاهم ربُّهم بالعفو عنهم والرحمة لهم. قال: واحتجّوا بأنَّ هذا الحديث لم يخُصَّ فيه شهيدًا من غير شهيد. _________ (1) من قصيدة في ديوانه (2/ 55). والرواية المشهورة: ليس إلا الرجيعَ فيها علاق. وفي التمهيد: «ليس فيها إلا ... ». وكذا في المحكم (1/ 124). وفي (أ، ق): «فيها الرجيع». وفي طرّة الأصل: «من» مع علامة صح. يعني: «فيها من الرجيع» كما في (غ). وفي النسخ الأخرى: «غير الرجيع» كما أثبتنا. ولا أدري أكان في أصل المؤلف هكذا، أم سقطت «إلا» من الأصل ــ والمصدر: التمهيد ــ فأكمل النساخ بزيادة «غير»، فاستقام الوزن، وصحّ المعنى! (2) والقائل: ابن القيم. (3) أخرجه البخاري (2661)، ومسلم (2770). (4) التمهيد (11/ 59 ــ 61).

(1/289)


واحتجُّوا أيضًا بما رُويَ عن أبي هريرة (1): إنَّ أرواح الأبرار في علِّيين، وأرواحَ الفُجَّار في سجين (2). وعن عبد الله بن عمرو (3) مثلُ ذلك (4). قال أبو عمر: وهذا قول يعارضه من السنّة ما لا مَدْفعَ في صحة نقله، وهو قوله: «إذا مات أحدُكم عُرِض عليه [61 ب] مقعدُه بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار. يقال له: هذا مقعدك، حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة» (5). وقال آخرون (6): إنما معنى هذا الحديث في الشهداء دون غيرِهم، لأن القرآن والسنةَ إنما يدُلان على ذلك. أما القرآن فقوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية [آل عمران: 169، 170]. وأما الآثار، فذكَرَ حديث أبي سعيد الخُدريِّ (7) من طريق بقيِّ بن مخلد مرفوعًا: «الشهداء يغدون ويروحون (8)، ثم يكون مأواهم إلى قناديلَ معلَّقةٍ بالعرش، فيقول لهم الربُّ تبارك وتعالى: هل تعلمون كرامةً أفضلَ من _________ (1) فيما عدا (أ، ق، غ) زيادة: «قال». (2) لم أجده في غير التمهيد. (3) كذا في جميع النسخ. وفي التمهيد: «ابن عمر». (4) (أ، غ): «مثل هذا الحديث». (5) تقدم قبل قليل (ص 280). (6) (ب، ط، ن، ج): «الآخرون». (7) (ب، ط، ج): «فذكر عن أبي سعيد الخدري». (8) بعده في التمهيد: «إلى رياض الجنة».

(1/290)


كرامةٍ أكرَمْتُكموها؟ فيقولون: لا، غير أنا وددنا أنَّك أعدْتَ أرواحنا في أجسادنا حتَّى نقاتلَ مرةً أخرى، فنُقتَل في سبيلك». رواه عن هنَّاد، عن إسماعيل بن المختار، عن عطيَّة، عنه (1). ثم ساق حديث ابنِ عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لمَّا أصيب إخوانكم ــ يعني يومَ أحد ــ جعل الله أرواحَهم في أجواف طير خُضْرٍ تَرِدُ أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديلَ من ذهبٍ مذلَّلةٍ (2) في ظلّ العرش. فلما وجدوا طيبَ مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلِّغ إخواننا أنَّا أحياءٌ (3) في الجنة نُرزَق لئلا ينكُلوا عن الحرب، ولا يزهَدوا في الجهاد؟ قال: فقال الله تعالى: أنا أبلِّغهم عنكم، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]» (4). والحديث في مسند أحمد، وسُنن أبي داود (5). _________ (1) أخرجه هنّاد بن السري في الزهد (156). ومن طريقه أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (1411). وإسناده ضعيف، فيه علتان: عطية وهو ابن سعد العوفي سيئ الحفظ وهو مدلس وقد عنعن، وشيخ هنّاد إسماعيل بن المختار لا يُعرف، وقال البخاري في التاريخ الكبير (1/ 374): «عن عطية، سمع منه هنَّاد بن السري فيه نظر لم يصح حديثه». وانظر: لسان الميزان (1/ 438). (قالمي) (2) في (أ، غ): «مدلية»، ولعل صوابها: «مدلّاة». وفي غيرهما: «مدللة» وصوابها ما أثبتنا ــ وكذا في التمهيد ــ من ذُلِّل الكرْمُ: دُلِّيت عناقيده. قال تعالى: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان: 14]. (3) «أحياء» ساقط من (أ، غ). (4) «وأما الآثار ... يرزقون» ساقط من (ن). (5) المسند (4/ 218)، أبو داود (2520). وقد سبق في المسألة الخامسة (ص 112).

(1/291)


ثم ذكر حديث الأعمش عن عبد الله بن مُرَّة عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (1) [آل عمران: 169] فقال: أمَا إنَّا قد سألنا عن ذلك، فقال: «أرواحُهم في جَوْف طير خُضْر تسرَح في الجنة في أيِّها شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل. فاطَّلع إليهم ربُّك اطِّلاعةً، فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: وأيَّ شيء (2) نشتهي، ونحن [62 أ] نسرَحُ من الجنة حيث نشاء! ففعَل بهم ذلك (3) ثلاثَ مرات، فلما رأَوْا أنهم لم يُترَكوا من أن يُسألوا قالوا: يا ربِّ نريدُ أن تَرُدَّ أرواحَنا في أجسادنا حتى نُقتَل في سبيلك مرّةً أخرى. فلما رأى أن ليس لهم حاجةٌ تُرِكوا».والحديث في صحيح مسلم (4). قلتُ: وفي صحيح البخاري (5) عن أنس أنَّ أمَّ الرُّبَيِّع بنت البراء ــ وهي (6) أمُّ حارثة بن سُراقة ــ أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا نبيَّ الله، ألا تحدِّثني عن حارثة؟ ــ وكان قُتِل يومَ بدر، أصابه سهمٌ غَرْبٌ (7) ــ فإن كان في الجنة صبرتُ، وإن كان غير ذلك اجتهدتُ عليه في البكاء. قال: «يا أمَّ حارثة، إنّها جِنان (8)، وإنَّ ابنكِ أصاب الفردوس الأعلى». _________ (1) الآية فيما عدا (أ، ق، غ) إلى {أمواتًا}. (2) ما عدا (أ، ق، غ): «أي شيء» دون الواو. (3) (ق): «ذلك بهم». (4) برقم (1887) وقد تقدم في المسألة الخامسة (ص 112). (5) برقم (2809). (6) «وهي» ساقط من (ط). (7) وهو الذي لا يُدرى راميه. (8) بعدها في (ق): «في الجنة». وكذا في الصحيح في كتاب الجهاد.

(1/292)


ثم ساق (1) من طريق بَقي بن مخلد، ثنا يحيى بن عبد الحميد، ثنا ابن عيينة، عن عبيد الله (2) بن أبي يزيد، سمع ابن عباس يقول: أرواحُ الشهداء تَجُول في أجواف طير خضر تَعْلُق في ثمر الجنة. ثم ذكر عن معمر، عن قتادة قال: بلغنا أنَّ أرواح الشهداء في صُوَر طيرٍ بيضٍ تأكل من ثمار الجنة. ومن طريق أبي عاصم النبيل، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن مَعْدان، عن عبد الله (3) بن عمرو (4): «أرواح الشهداء في طير كالزرازير يتعارفون ويُرزَقون من ثمر الجنة». قال أبو عمر (5): وهذه الآثار كلّها تدلُّ على أنهم الشهداءُ دون غيرهم. وفي بعضها: في صُوَر طير، وفي بعضها: في أجواف طير، وفي بعضها: كطير خضر. قال: والذي يُشبِه عندي ــ والله أعلم ــ أن يكون القول (6) قولَ من قال: كطير (7)، أو صور طير؛ لمطابقته لحديثنا (8) المذكور. يريد حديث كعب بن _________ (1) التمهيد (11/ 63 ــ 64). (2) (أ، ن، غ): «عبد الله»، تصحيف. (3) (ط): «عبيد الله»، تصحيف. (4) زاد في (ط): «أنّ». (5) التمهيد (11/ 64 ــ 65). (6) (ب، ج): «العدل»، تصحيف. (7) (ب، ط): «كطير خضر». وبعده في (ط): «أو صور طير خضر». (8) (ب، ط، ج): «حديثنا».

(1/293)


مالك، وقوله فيه: نسمة المؤمن طائر، ولم يقل: في جوف طائر (1). قال: وروى عيسى بن يونس حديث ابن مسعود (2) عن الأعمش، عن عبد الله بن مُرَّة، عن مسروق، عن عبد الله: «كطير خضر». قلت: والذي في صحيح مسلم: «في أجواف طير خُضر». قال أبو عمر: فعلى هذا التأويل، كأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما نسَمَةُ المؤمن من الشهداء طائر (3) يعلق في شجر الجنة». قلتُ: لا تنافي بين قوله - صلى الله عليه وسلم -: «نسمة المؤمن طائر [62 ب] يعلق في شجر الجنة» وبين قوله: «إن أحدكم إذا مات عُرِض عليه مقعدُه بالغداة والعَشِيِّ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار».وهذا الخطاب يتناول الميِّتَ على فراشه والشهيدَ، كما أنَّ قوله: «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة» يتناول الشهيدَ وغيرَه. ومع كونه يُعرَض عليه مقعده بالغداة والعشيِّ تَرد روحُه أنهارَ الجنة، وتأكل من ثمارها. وأما المقعدُ الخاص به والبيتُ الذي أُعِدَّ له، فإنَّه إنما يدخله يوم القيامة. ويدلُّ عليه أنَّ منازلَ الشهداء ودُورَهم وقصورَهم التي أَعدَّ الله لهم ليست هي (4) تلك القناديل التي تأوي إليها أرواحُهم في البرزخ قطعًا. فهم _________ (1) «ولم ... طائر» ساقط من (ن). (2) في الأصل ضرب بعضهم على «مسعود» وكتب في الطرّة: «منصور» مع علامة صح. وهو غلط منه إذ ظنَّ أن «ابن مسعود» هنا يروي عن الأعمش! وكذا «ابن منصور» في (غ). (3) (ب، ج): «كطائر». وأشار إلى هذه النسخة في طرّة (ط). وهو خطأ. (4) (ب، ط، ج): «من»، تحريف.

(1/294)


يَرَوْن منازلهم ومقاعدهم من الجنّة، ويكون مستقرُّهم في تلك القناديل المعلَّقة بالعرش، فإنَّ الدخول التامّ الكامل إنما يكون يوم القيامة، ودخولُ الأرواح الجنة في البرزخ أمرٌ دون ذلك. ونظير هذا: أهلُ الشقاء تُعرَض أرواحُهم على النار غدوًّا وعشيًّا، فإذا كان يومُ القيامة دخلوا منازلهم ومقاعدهم التي كانوا يُعرضون عليها في البرزخ. فتنعُّمُ الأرواحِ بالجنة في البرزخ شيء، وتنعُّمُها مع الأبدان بها يوم القيامة شيء آخر. فغذاء الروح من الجنة في البرزخ دون غذائها (1) مع بدنها يوم البعث. ولهذا قال: «تعلُق في شجر الجنة»، أي: تأكل العلقة، وأما تمامُ الأكل والشرب واللبس والتمتُّع فإنما (2) يكون إذا رُدَّت (3) إلى أجسادها يوم القيامة. فظهر (4) أنه لا يعارِض هذا القولَ من السنّة شيءٌ، وإنما تُعاضدِهُ السنَّةُ وتوافقه. وأما قول من قال: إنَّ حديث كعب في الشهداء دون غيرهم، فتخصيصٌ ليس في اللفظ ما يدلُّ عليه. وهو حَمْلُ اللفظ العامِّ على أقلِّ مسمَّياته، فإنّ الشهداء بالنسبة إلى عموم المؤمنين قليلٌ جدًّا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - علَّق هذا الجزاء بوصفِ الإيمان، فهو المقتضي له، لم يعلِّقه بوصف الشهادة. ألا ترى أنَّ الحكم الذي اختَصَّ [63 أ] بالشهداء عُلِّق بوصف الشهادة، كقوله في حديث المقدام بن معديكرب: «للشهيد عند الله ستُّ خصال: _________ (1) (ق): «عذابها». (2) (ب، ط، ج): «إنما». (3) زاد في (ق): «الأرواح». (4) (ق): «وظهر».

(1/295)


يُغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعدَه من الجنة، ويُحلَّى حُلَّة الإيمان، ويزوَّجُ من الحور العين، ويجارُ من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضعُ على رأسه تاجُ الوَقار، الياقوتةُ منه خيرٌ من الدنيا وما فيها، ويزوَّج اثنتين وسبعين من الحور العين (1)، ويشفَّع في سبعين إنسانًا (2) من أقاربه» (3). فلما كان هذا يختصُّ (4) بالشهيد قال: «إنَّ للشهيد»، ولم يقل: إنّ (5) للمؤمن. وكذلك قولُه في حديث قيسٍ الجُذاميِّ: «يعطَى الشهيدُ ستَّ خصال» (6). وكذلك سائر الأحاديث والنصوص التي عُلِّق فيها الجزاءُ بالشهادة. وأما ما عُلِّق فيه الجزاءُ بالإيمان، فإنَّه يتناول كلَّ مؤمن، شهيدًا كان أو غير شهيد. وأما النصوصُ والآثار (7) التي ذُكرت (8) في رزق الشهداء وكَوْنِ _________ (1) هذه الخصلة ساقطة من (ن). (2) لم يرد «إنسانًا» في (أ، غ). (3) تقدم تخريجه في المسألة العاشرة (ص 233). (4) (ط): «هذه تختص». (5) ساقطة من (ط). (6) أخرجه الإمام أحمد (17783)، والطبراني في مسند الشاميين (204)، والبيهقي في شعب الإيمان (4252، 4253)، وفي إثبات عذاب القبر (161) من طريق عبد الرحمن ابن ثابت بن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن كثير بن مرة، عن قيس الجذاميّ. وهذا إسناد لا بأس به في الشواهد؛ عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان الدمشقي فيه ضعف من قِبل حفظه، وبقية رجاله ثقات. (قالمي) (7) (ق): «فالآثار». (8) ما عدا (ن): «ذكر».

(1/296)


أرواحهم في الجنّة، فكلُّها حقٌّ، وهي لا تدلُّ على انتفاءِ دخول أرواح المؤمنين الجنَّة، ولاسيَّما الصدِّيقين الذين هم أفضلُ من الشهداء بلا نزاع (1) بين الناس. فيقال لهؤلاء: ما تقولون في أرواح الصدِّيقين، هل هي في الجنة أم لا؟ فإن قالوا: إنَّها في الجنة ــ ولا يسوغ لهم غير هذا القول ــ قيل: فثبت أنَّ هذه النصوص لا تدلُّ على اختصاص أرواح الشهداء بذلك. وإن قالوا: ليست في الجنة، لزمهم من ذلك أن تكون أرواحُ سادات الصحابة كأبي بكر الصدِّيق (2) وأُبَيِّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وأبي الدرداء، وحذيفة بن اليمان وأشباههم ليست في الجنة؛ وأرواحُ شهداء زماننا في الجنة. وهذا معلومُ البُطلانِ ضرورةً. فإن قيل: فإذا كان هذا حكم (3) لا يختصُّ بالشهداء، فما الموجِبُ لتخصيصهم بالذكر في هذه النصوص؟ قيل: تخصيصهم بالذكر في هذه النصوص دلَّ على (4) التنبيه على فضل الشهادة وعلوِّ درجتها، وأنَّ هذا مضمون لأهلها ولا بدَّ، وأنَّ لهم منها أوفرَ نصيب. فنصيبُهم (5) من هذا النعيم في البرزخ أكملُ من نصيب غيرهم _________ (1) (ب، ط): «فلا نزاع»، تصحيف. (2) (ق): «كأبي بكر وعمر». وانظر ما يأتي في (ص 332). (3) كذا في جميع النسخ. وفي (ج): «حكمًا»، ولكن الظاهر أنه إصلاح. (4) «قيل ... دلَّ» مستدرك في طرّة الأصل بخط ناسخه، وفي صلب المتن في (غ). والعبارة ساقطة من غيرهما، إلا أن بعض قراء (ط) غيّر «على» إلى «قلت». وفي متن (ن) في موضعها: «قلنا»، فاستقام الكلام. (5) ما عدا (ب، ط): «فيصيبهم»، تصحيف.

(1/297)


من الأموات على فُرُشِهم، وإن كان الميِّت على فراشه أعلى درجةً من كثير (1) منهم، فله نعيمٌ يختصُّ به، لا يشاركه فيه مَن هو دونه. ويدلُّ [63 ب] على هذا أنَّ الله سبحانه جعل أرواح الشهداء في أجواف طير خُضر، فإنَّهم لما بذلوا أبدانَهم (2) لله حتى أتلفها أعداؤه فيه أعاضَهم منها في البرزخ أبدانًا خيرًا منها، تكونُ فيها إلى يوم القيامة. ويكون تنعُّمها بواسطة تلك الأبدان أكملَ من نعيم (3) الأرواح المجرَّدة عنها. ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير أو كطير، ونسمةُ الشهيد في جوف طير. وتأمَّلْ لفظ الحديثين، فإنه قال: «نسمةُ المؤمن طير»، فهذا يعمُّ الشهيد وغيرَه. ثم خصَّ الشهيد بأن قال: «هي في جوف طير»، ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صَدَق عليها أنها طير. فصلوات الله وسلامه على مَن يصدِّقُ كلامُه بعضُه بعضًا، ويدلُّ على أنه حقٌّ من عند الله. وهذا الجمع أحسن من جمعِ أبي عمر وترجيحِه روايةَ مَن روى: «أرواحهم كطير خضر». بل الروايتان حقٌّ وصواب، فهي كطير خضر، وفي أجواف طير خضر. فصل وأما قول مجاهد: ليس هي في الجنة، ولكن يأكلون من ثمارها ويجدون ريحها. فقد يُحتَجُّ لهذا القول بما رواه الإمام أحمد في مسنده (4) _________ (1) «من كثير» ساقط من (ط). (2) (ق): «أنفسهم». (3) ما عدا (أ، غ): «تنعم». (4) برقم (2390). وأخرجه ابن حبان (4658)، والحاكم (2/ 74)، والطبراني في المعجم الكبير (10825)، والبيهقي في إثبات عذاب القبر، كلهم من طريق ابن إسحاق، به. وهو في سيرة ابن إسحاق (2/ 119 ــ سيرة ابن هشام) وإسناده حسن لأجل ابن إسحاق وقد صرّح بالتحديث في السيرة وعند أحمد وابن حبان وغيرهما. وصححه الحاكم، وقال ابن كثير في تفسيره (2/ 164): «وهو إسناد جيد». (قالمي).

(1/298)


من حديث ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر (1)، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الشهداء على بارِقِ نهرٍ (2) بباب الجنة، في قبةٍ خضراءَ، يخرج عليهم رزقُهم من الجنة بكرةً وعشيةً». وهذا لا ينافي كونَهم في الجنة، فإنَّ ذلك النهرَ من الجنّة، ورزقُهم يخرج عليهم من الجنة، فهم في الجنة، وإن لم يصيروا على مقاعدهم منها. فمجاهدٌ نفى الدخول الكامل من كلِّ وجه، والتعبيرُ يقصُر عن الإحاطة بتمييز هذا من هذا. وأكملُ العبارة وأدلُّها على المراد عبارةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم عبارة الصحابة. وكلَّما علوتَ رأيتَ الشفاء والهدى والنور، وكلَّما نزلتَ رأيتَ الحَيْرة والدعاوى والقولَ بلا علم. _________ (1) كذا في جميع النسخ. وهو عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري كما في الأهوال لابن رجب (96). ولكن الرواية في المسند من طريق ابن إسحاق عن الحارث بن فضيل الأنصاري. ولم أجده من طريق عاصم. (2) ضبط في المسند وغيره «بارِقِ نهرٍ» بالإضافة وقال السندي: «لعل المراد به الموضع الذي يبرُق منه النهر الذي بباب الجنة ويظهر». ولكن لفظه في الروض الأنف (3/ 307): «والشهداء بنهر ــ أو على نهر ــ يقال له: بارق، عند باب الجنة ... ». وفي تفسير القرطبي (5/ 414): «أرواح الشهداء على نهر بباب الجنة يقال له: بارق ... ». وهذا يقتضي أن يضبط هكذا: «على بارقٍ ــ نهرٍ بباب الجنة ــ في قبة ... » وانظر: تاج العروس (برق).

(1/299)


قال أبو عبد الله بن منده (1): وروى موسى بن عبيدة (2)، عن عبد الله بن يزيد (3)، عن أم كبشة بنت المعرور (4) قالت: دخل علينا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فسألناه عن هذه الأرواح. فوصفها صِفةً أبكَى (5) أهلَ البيت، فقال: «إن أرواح المؤمنين [64 أ] في حواصل طيرٍ خُضْرٍ ترعى في الجنة، وتأكلُ من ثمارها، وتشرب من مائها، وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش، تقول: ربَّنا أَلحِق بنا إخواننا وآتِنا ما وعدَتنا. وإنَّ أرواح الكفار في حواصل طيرٍ سُودٍ تأكل من النار، وتشرب من النار، وتأوي إلى حُجَر (6) في النار، يقولون: ربَّنا لا تُلحِقْ بنا إخواننا، ولا تُؤتِنا ما وعدتنا». وقال الطبراني (7): حدثنا أبو زُرعة الدمشقيُّ، ثنا عبد الله بن صالح، _________ (1) وعزاه إليه ابن رجب في الأهوال (104) والسيوطي في شرح الصدور (310) أيضًا. (2) (أ، ق، غ): «عبدة». (ط): «عبيد». وقد نصّ ابن رجب على أنه موسى بن عبيدة الرَّبَذي. قال: وهو شيخ صالح، شغلته العبادة عن حفظ الحديث، فكثرت المناكير في حديثه. وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب (10/ 356). (3) (ن): «بريدة»، تصحيف. (4) كذا في جميع النسخ، وشرح الصدور، وإتحاف السادة المتقين (10/ 386). ولم أجد لها ترجمة. والظاهر أنها أم مبشر بنت البراء بن معرور. انظر: الإصابة (8/ 300). (5) (ب، ط): «وصفًا أسكن»، ولعل «وصفًا» من إصلاح النسّاخ إذ رأوا أن «صفة» مؤنث، والفعل بعدها مذكر. وخفي عليهم أنها مصدر. و «أسكن» تحريف. وفي شرح الصدور: «صفةً لكنه أبكى». (6) لم ينقط في الأصل. وفي غيرها جميعًا بالحاء قبل الجيم. (7) لم أجده في معاجمه الثلاثة.

(1/300)


حدثني معاوية بن صالح (1)، عن ضَمْرة بن حبيب، قال: سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أرواح المؤمنين، فقال: «في طيرٍ خضرٍ تسرَح في الجنة حيث شاءت». قالوا: يا رسول الله، أرواحُ الكفار (2)؟ قال: «محبوسة في سجِّينٍ». ورواه أبو الشيخ عن هشام بن يونس، عن عبد الله بن صالح. ورواه أبو المغيرة (3)، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن ضمرة بن حبيب (4). وذكر أبو عبد الله بن منده (5) من حديث غُنجار، عن الثوري، عن _________ (1) «حدثني معاوية بن صالح» ساقط من (أ، غ). (2) (ن): «وأرواح الكفار». (3) «أبو» ساقط من (ب، ط، ج). (4) عزاه ابن رجب في الأهوال (105) إلى ابن منده، والسيوطي في شرح الصدور (307) إليه وإلى الطبراني وأبي الشيخ. وإسناده حسن لولا أنه مرسل. ضمرة بن حبيب من ثقات تابعي أهل الشام. (قالمي). (5) في إسناده غنجار وهو لقب عيسى بن موسى البخاري، وهو ثقة في نفسه لكن أخذ عليه التدليس وكثرة الرواية عن الضعفاء والمجهولين، كما في ترجمته من التهذيب (8/ 233)، وقد خولف أيضًا في هذا الإسناد. فرواه البيهقي في شعب الإيمان (196) من طريق محمد بن يوسف عن الثوري به، عن عبد الله بن عمرو من قوله. وقد تابع الثوريَّ على هذا الوجه الموقوف غير واحد، منهم عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد له (446)، وعيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي عند ابن أبي شيبة (33978) ومن طريقه أبو نعيم في صفة الجنة (133)، وأبو عاصم الضحاك بن مخلد عند أبي نعيم في الحلية (1/ 289). وعزاه ابن رجب في أهوال القبور (ص 204) لابن منده أيضًا ونقل عنه أنه قال: «رواه جماعة عن الثوري موقوفًا. يعني على عبد الله بن عمرو» قال ابن رجب: «والصواب وقفه». (قالمي).

(1/301)


ثور بن يزيد (1)، عن خالد بن معدان، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أرواح المؤمنين في طيرٍ كالزرازير، تأكل من ثمر الجنة» ورواه غيرُه موقوفًا. وذكر يزيدُ الرَّقاشيُّ عن أنس، وأبو عبد الله (2) الشاميُّ عن تميمٍ الداريِّ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا عَرَج ملك الموت بروح المؤمن إلى السماء استقبله جبريلُ في سبعين ألفًا من الملائكة، كلٌّ منهم (3) يأتيه ببشارة من السماء سوى بشارةِ صاحبه. فإذا انتهى به إلى العرش خرَّ ساجدًا، فيقول الله عزَّ وجلَّ لملك الموت: انطلِقْ بروح عبدي، فضَعْه في سِدْرٍ مخضودٍ (4)، وظلٍّ ممدود، وماء مسكوب». رواه بكر بن خُنَيس (5)، عن ضرار بن عمرو، عن يزيد وأبي عبد الله (6). _________ (1) (ن): «الثوري عن يزيد»، خطأ. (2) (ق): «أبي عبد الله» خطأ. (3) (ب، ط، ج): «كلهن» وهي ساقطة من (ن). (4) زاد بعده في طرّة الأصل: «وطلح منضود» مع علامة صح. وليست بخط الناسخ. وقد أدخلها ناسخ (غ) في المتن. وهي في متن (ط) بين «لا» و «إلى» فوق السطر يعني حذفها أو أنها ليست في نسخة أخرى. (5) (أ، ق، غ): «حُبيش». (ط): «حُنبش». والصواب ما أثبتنا من (ب، ج). (6) ويُفهم من هذا السياق أنهما حديثان: الأول من رواية بكر بن خنيس، عن ضرار بن عمرو، عن يزيد الرقاشي، عن أنس. والثاني: من رواية بكر بن خنيس، عن ضرار بن عمرو، عن أبي عبد الله الشامي، عن تميم الداري. ولم أجده بهذا السياق فينظر، وهو جزء من حديث طويل جدًّا أخرجه أبو يعلى. كما في المطالب العالية (4558) ــ قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي، ثنا محمد بن بكر البرساني، قال: قال أبو عاصم الحبطي، وكان من خيار أهل البصرة، وكان من أصحاب حزم وسلام بن أبي مطيع قال: حدثنا بكر بن خنيس، عن ضرار بن عمرو، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، عن تميم الداري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يقول الله تبارك وتعالى لملك الموت: انطلق إلى وليي فأتني به، فإني قد جربته بالسراء والضراء، فوجدته حيث أحبُّ، ائتني به فلأريحنه» فساقه بطوله. قال الحافظ ابن حجر عقبه: «هذا حديث عجيب السياق، وهو شاهد لكثير مما ثبت في حديث البراء رضي الله عنه الطويل المشهور، ولكن هذا الإسناد غريب، لا نعرف أحدًا روى عن أنس، عن تميم الداري رضي الله عنهما إلا من هذا الوجه، ويزيد الرقاشي سيئ الحفظ جدًّا، كثير المناكير، كان لا يضبط الإسناد فيلزق بأنس كل شيء يسمعه من غيره، ودونه أيضًا من هو مثله أو أشد ضعفًا». (قالمي)

(1/302)


فصل وأما قول من قال: الأرواحُ على أفنية قبورها، فإن أراد أنَّ هذا أمر لازمٌ لها (1) لا تفارق (2) أفنية القبور أبدًا فهذا خطأ تردُّه (3) نصوص الكتاب والسنة من وجوه كثيرة، قد (4) ذكرنا بعضها، وسنذكر منها ما لم نذكره إن شاء الله. وإن أراد أنها تكون على أفنية القبور وقتًا، أو لها إشرافٌ على قبورها وهي في مقرِّها (5)، فهذا حقٌّ، ولكن لا يقال: مستقرُّها أفنية القبور. وقد ذهب إلى هذا [64 ب] المذهب جماعةٌ، منهم أبو عمر بن عبد البرِّ. _________ (1) «لها» ساقط من (ب، ن، ج، غ). (2) في (ب، ن، ج): «يفارق»، تصحيف. (3) (ب، ط): «ردّه». (4) (ب، ط): «وقد». (5) (ب، ط، ج): «منزلها».

(1/303)


قال في كتابه (1) في شرح حديث ابن عمر: «إن أحدكم إذا مات عُرِض عليه مقعدُه بالغداة والعشي»: وقد استدل به من ذهب إلى أنَّ الأرواح على أفنية القبور. وهو (2) أصح ما ذهب إليه في ذلك من طريق الأثر، ألا ترى أنَّ الأحاديث الدَّالَّة على ذلك ثابتة متواترة، وكذلك أحاديث السلام على القبور. قلت: يريد بالأحاديث المتواترة مثلَ حديث ابن عمر هذا، ومثل حديث البراء بن عازب الذي تقدَّم (3)، وفيه: «هذا مقعدُك حتى يبعثك الله يوم القيامة»، ومثلَ حديث أنس: «إن العبد إذا وُضِع في قبره وتولّى عنه أصحابُه إنه لَيسمع قرْعَ نعالهم»، وفيه: أنه يرى مقعدَه من الجنة والنار، وأنه يُفسَح للمؤمن في قبره سبعين ذراعًا، ويضيَّق على الكافر (4)؛ ومثلَ حديث جابر: «إن هذه الأمة تُبتلَى في قبورها، فإذا دخل المؤمن قبرَه وتولَّى عنه أصحابه أتاه ملك ... » الحديث، وأنه يرى مقعده من الجنة فيقول: «دعوني أبشِّرْ أهلي، فيقال له: اسكن، فهذا مقعدك أبدًا» (5). ومثلَ سائر أحاديث عذاب القبر ونعيمه التي تقدَّمتْ (6)، ومثلَ أحاديث السلام على أهل القبور، وخطابهم، ومعرفتِهم بزيارة الأحياء لهم (7). وقد تقدَّم ذكرُ ذلك كلِّه (8). _________ (1) التمهيد (14/ 109). (2) (ن): «وهذا». (3) هذا اللفظ من حديث ابن عمر، ولم أجده عن البراء. (4) سبق في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 157). (5) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6744) بهذا اللفظ. (6) في المسألة الملحقة بالسادسة. (7) «لهم» ساقطة من (ن). (8) في المسألة الأولى.

(1/304)


وهذا القول تردُّه السنة الصحيحة والآثار التي لا مَدْفَعَ لها، وقد تقدَّم ذكرها. وكلُّ ما ذكره من الأدلّة، فهو يتناول الأرواح التي هي في الجنة بالنصِّ وفي الرفيق الأعلى. وقد بيَّنَّا أنَّ عرضَ مقعد الميِّت عليه من الجنة أو النار لا يدلُّ على أنّ الرُّوح في القبر ولا على فنائه دائمًا من جميع الوجوه، بل لها إشرافٌ واتصال بالقبر وفِنائه، وذلك القدرُ منها يُعرَض عليه مقعده. فإنَّ (1) للروح شأنًا آخرَ: تكون في الرفيق الأعلى في أعلى علِّيين، ولها اتصال بالبدن، بحيث إذا سلَّم المسلِّم على الميِّت ردَّ الله عليه روحَه، فيردُّ (2) عليه السلامَ، وهي في الملأ الأعلى. وإنما يغلط أكثرُ الناس في هذا الموضع حيث يعتقد أنَّ الروح من جنس ما يعهد من الأجسام التي إذا شغلتْ مكانًا لم يمكن أن تكون في غيره. وهذا غلط محضٌ، بل الروحُ تكون فوق السموات في أعلى عليين، وتُرَدُّ (3) إلى القبر، فَتَرُدُّ السّلام، وتعلم بالمسلِّم، وهي في مكانها هناك. وروح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرفيق الأعلى دائمًا، ويردُّها (4) الله سبحانه وتعالى إلى القبر، فترُدُّ السّلام على من سلّم عليه، وتسمعُ كلامه (5). وقد رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موسى قائمًا يصلِّي في قبره، ورآه في السماء السادسة أو السابعة (6). فإما أن تكون سريعةَ الحركة والانتقال كلمح البصر، وإما أن _________ (1) (ن): «قال»، تصحيف. فلمّا صحّف كتب بعده: للروح شأن. (2) (ب، ط، ج): «فردّ». (3) ضبطه في (ط): «تَرِد» من الورود. (4) (ن): «الأعلى وإنّما يردّها». (5) (ب، ط، ن، ج): «سلامه». (6) تقدم في المسألة السادسة (ص 125).

(1/305)


يكون المتّصِلُ منها (1) بالقبر وفِنائه بمنزلة شعاعِ الشمس، وجِرمُها في السماء (2). وقد ثبت أنّ روح النائم تصعدُ حتى تخترقَ السبع الطّباق، وتسجدَ لله بين يدي العرش، ثم تُرَدُّ إلى جسده في أيسر زمان. وكذلك روح الميِّت تصعد بها الملائكة حتى تُجاوزَ السموات السبع، وتقِفها بين يدي الله، فتسجدُ له، ويقضي فيها قضاءه (3). ويُريها الملَكُ ما أعدَّ الله لها في الجنة، ثم تهبط، فتشهد (4) غسلَه وحمله ودفنه. وقد تقدَّم (5) في حديث البراء بن عازب أنَّ النفسَ يُصعَد بها حتى تُوقَف بين يدي الله، فيقول تعالى: «اكتبوا كتاب عبدي في علِّيين، ثم أعيدوه إلى الأرض». فيعاد إلى القبر، وذلك في مقدارِ تجهيزه وتكفينه. فقد صرَّح به في حديث ابن عباس حيث قال: «فيهبطون به (6) على قدر فراغه من غُسْله وأكفانه، فيُدخلون ذلك الروحَ بين جسده وأكفانه» (7). وقد ذكر أبو عبد الله بن منده من حديث عيسى بن عبد الرحمن، ثنا ابن شهاب، ثنا عامر بن سعد، عن إسماعيل بن طلحة بن عبيد الله، عن أبيه قال: _________ (1) (ب، ط، ن، ج): «بها»، وهو خطأ. (2) انظر ما سبق في المسألة السادسة (ص 128) من ردّ شيخ الإسلام على هذا المثل. (3) (ق): «قضاؤه». (4) في الأصل نقطه بالتاء والياء معًا. وفي (ب، ط، ج): «وتشهد». (5) في أول المسألة السادسة. (6) «به» ساقط من (ق). (7) تقدم في المسألة السادسة (ص 142).

(1/306)


أردتُ مالي بالغابة (1)، فأدركني الليل، فأوَيْتُ إلى قبر عبد الله بن عمرو بن حرام (2)، فسمعت قراءةً من القبر ما سمعت أحسنَ منها، فجئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك له، فقال: «ذلك عبد الله، ألم تعلم أن الله قبضَ أرواحهم، فجعلها في قناديل من زَبَرْجَد وياقوت، ثم علَّقها وسط الجنة. فإذا كان الليلُ رُدَّت إليهم أرواحُهم، فلا تزال كذلك حتى إذا طلع الفجر رُدَّت أرواحُهم إلى مكانهم الذي (3) كانت به» (4). _________ (1) موضع أسفل المدينة من ناحية الشام، لا يزال معروفًا. انظر: المغانم المطابة (299). (2) في الأصل ضرب بعضهم على «بن عمرو»، فأثبت ناسخ (غ): «عبد الله بن حرام». وتحرّف «حرام» في (ن) إلى «حزم». (3) في (أ، غ، ن): «التي»، خطأ. (4) في إسناده عيسى بن عبد الرحمن هو ابن فروة أبو عُبادة الأنصاري، قال البخاري: منكر الحديث وكذا قال أبو حاتم: ضعيف الحديث شبيه بالمتروك، لا أعلم روى عن الزهري حديثًا صحيحًا. وقال ابن عدي: يروي عن الزهري أحاديث مناكير. انظر: تهذيب التهذيب (8/ 218). وابن شهاب هو الإمام الزهري، وعامر بن سعد هو ابن أبي وقاص الزهري. وأما إسماعيل بن طلحة فلم أجد له ذكرًا في كتب الرجال المتوفرة، ولا ذكره علي بن المديني في ولد الصحابي الجليل طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي رضي الله عنه في جزئه «تسمية من روي عنه من أولاد العشرة» (ص 37)، لكن له ابن اسمه يعقوب هو من رواة الحديث، له ترجمة في الجرح والتعديل (9/ 204)، وثقات ابن حبان (5/ 554). والحديث عزاه ابن رجب في أهوال القبور (ص 84، 85) لابن منده أيضًا وضعَّف إسناده. وقال في موضع آخر (ص 185): «وهو منكر، وأبو عبادة هذا ــ يعني عيسى بن عبد الرحمن ــ ضعيف جدًّا». (قالمي).

(1/307)


ففي هذا الحديثِ بيانُ سرعة انتقال [65 ب] أرواحهم من العرش إلى الثَّرى، ثم انتقالها من الثرى إلى مكانها (1). ولهذا قال مالك وغيرُه من الأئمة: إنَّ الروحَ مرسَلةٌ تذهب حيث شاءت (2). وما يراه الناس من أرواح الموتى ومجيئهم إليهم من المكان البعيد أمرٌ يعلمه عامّة الناس، ولا يشكُّون فيه. والله أعلم. وأما السلامُ على أهل القبور وخطابُهم فلا يدلُّ على أن أرواحهم ليست في الجنة وأنها على أفنية القبور، فهذا سيِّدُ ولد آدم الذي روحه في أعلى علِّيين مع الرفيق الأعلى يُسلَّم عليه عند قبره، ويرُدُّ سلام المسلِّم عليه. وقد وافق أبو عُمر رحمه الله على أنَّ أرواح الشهداء في الجنَّة، ويسلَّم عليهم عند قبورهم، كما يسلَّم على غيرهم، كما علَّمَنا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن نسلِّم عليهم؛ وكما كان الصحابة يسلِّمون على شهداء أحد، وقد ثبت أنَّ أرواحهم في الجنة تسرح حيث شاءت كما تقدَّم (3). ولا يضيق (4) عَطَنُك عن كون الروح في الملأ الأعلى تسرح في الجنة حيث شاءت، وتسمع سلام المسلِّم عليها عند قبرها، وتدنو حتى ترُدَّ عليه السلام، فللروح (5) شأن آخر غيرُ شأن البدن. وهذا جبريل صلوات الله _________ (1) (ب، ط، ج): «أماكنها». (2) تقدّم في أول هذه المسألة. (3) من حديث ابن مسعود، ضمن ما احتجّ به القائلون بأن أرواح المؤمنين في الجنة. (4) كذا في جميع النسخ: «يضيق» بإثبات الياء. والخبر بمعنى الطلب، كما في الحديث الآتي في (ص 372): «لا يصلي أحد على أحد ولا يصوم أحد عن أحد». (5) ما عدا (ن): «وللروح».

(1/308)


وسلامه عليه رآه النبيُ - صلى الله عليه وسلم -، وله ستمائة جناحٍ، منها جناحان قد سدَّ بهما (1) ما بين المشرق والمغرب. وكان يدنو (2) من النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يضع ركبتيه بين (3) ركبتيه، ويديه على فخذيه. وما أظنك يتسع بِطانُك أنه كان حينئذ في الملأ الأعلى فوق السموات ــ حيث هو مستقرُّه ــ وقد دنا من النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الدنوَّ، فإنَّ التصديق بهذا له قلوبٌ خُلِقت له وأهِّلت لمعرفته. ومن لم يتَّسع بطانه لهذا فهو أضيَقُ (4) أن يتسع للإيمان بالتنزّل (5) الإلهي إلى سماء الدنيا كلَّ ليلة، وهو فوق سماواته على عرشه، لا يكونُ فوقه شيء البتَّة (6)، بل هو العالي على كلِّ شيء، وعلوُّه من لوازم ذاته. وكذلك دنوُّه عشيَّةَ عرفة من أهل الموقف (7). وكذلك مجيئُه يوم (8) القيامة لمحاسبة خلقه، وإشراقُ الأرض بنوره. وكذلك مجيئه إلى الأرض حين دحاها، وسوَّاها، ومدَّها، وبسطها، [66 أ] وهيَّأها لما يرادُ منها. وكذلك مجيئه إليها قبل يوم القيامة حين (9) يقبض مَن عليها، ولا يبقى بها أحد؛ كما _________ (1) (ق): «قد مدّهما». (2) «يدنو» ساقط من (ق). (3) (ق، ن): «على». (4) (أ، غ): «ضيق»، خطأ. (5) (ق): «بالنزل». (ج، غ): «بالتنزيل». وكلاهما تصحيف. (6) «البتة» ساقط من (ن). (7) أخرجه مسلم (1348) من حديث عائشة. (8) «ذاته ... يوم» ساقط من (ب). (9) (ب، ط، ج): «حتى».

(1/309)


قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فأصبح ربُّك يطوف في الأرض، وقد خلت عليه البلاد» (1). هذا وهو فوق سماواته على عرشه. _________ (1) قطعة من حديث أخرجه بطوله ابن أبي عاصم في السُّنة (636) عن إبراهيم بن المنذر الحزامي، ثنا عبد الرحمن بن عياش الأنصاري، عن دلهم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن المنتفق العقيلي، عن جدّه عبد الله، عن عمِّه لقيط بن عامر بن المنتفق. قال دلهم: وحدثني أيضًا أبي الأسود بن عبد الله، عن عاصم بن لقيط بن عامر: أن لقيط بن عامر خرج وافدًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه صاحب له يقال له نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق ... الحديث. ومن هذا الوجه أخرجه عبد الله بن أحمد في زياداته على المسند (16206) وفي كتابه السُّنة (1120) إلا أنه قال: «عن أبيه» بدل «عن جده». وبالإسناد الثاني أخرجه الطبراني في الكبير (477) ج 19 إلا أنه قال: «عن دلهم بن الأسود عن عاصم بن لقيط» وسقط منه «عن أبيه». وإسناده مسلسل بالمجاهيل؛ عبد الرحمن بن عياش، ودلهم بن الأسود، وأبوه لا يعرفون إلا بهذا الحديث، وذكرهم ابن حبان في ثقاته (7/ 71، 6/ 291، 4/ 32) على قاعدته في توثيق من لم يعرف فيه جرح، وهي قاعدة مردودة عند عامة أهل الحديث؛ ولذلك أوردهم جميعًا الحافظ الذهبي في الميزان (2/ 580، 2/ 28، 1/ 256) وقال في دلهم بن الأسود: «لا يعرف». وأما جدُّه عبد الله بن حاجب العقيلي فلم يذكره ابن حبان في الثقات ولذا قال الحافظ في التقريب: «مجهول». والإسناد الثاني علاوة على ما فيه من مجاهيل فهو مرسل. والحديث ساقه بتمامه وطوله ابن كثير في البداية والنهاية (5/ 80 ــ 82) ثم قال عَقِبه: «هذا حديث غريب جدًّا، وألفاظه في بعضها نكارة». (قالمي). وانظر ما قاله المصنف في زاد المعاد (3/ 677) وحادي الأرواح (536) في تصحيحه. (الإصلاحي).

(1/310)


فصل ومما ينبغي أن يُعلَم أنَّ ما ذكرناه من شأن الروح يختلفُ بحسَب حال الأرواح، مِن (1) القوة والضعف، والكِبَر والصغر. فللروح العظيمة الكبيرة (2) من ذلك ما ليس لمن هو دونها (3). وأنت ترى أحكام الأرواح في الدنيا كيف تتفاوتُ أعظمَ تفاوت بحسَب تفاوت (4) الأرواح في كيفيَّاتها، وقواها، وبِطائها (5) وإسراعها، والمعاونة (6) لها. فللروح المطلَقة من أَسْر البدن وعلائقه وعوائقه مِن التصرُّف والقوة والنَّفاذ والهمَّة وسرعة الصعود إلى الله والتعلُّق بالله ما ليس للروح المَهينة المحبوسة في علائق البدن وعوائقه. فإذا كان هذا وهي محبوسة في بدنها، فكيف إذا تجرَّدت، وفارقته، واجتمعت فيها قواها، وكانت في أصل شأنها روحًا عليِّة زكيَّة كبيرة ذات همّة عالية، فهذه لها بعد مفارقة البدن (7) شأنٌ آخر، وفعلٌ آخر. وقد تواترت الرُّؤيا من أصناف (8) بني آدم على فعل الأرواح بعد موتها _________ (1) (ب، ط، ن، ج): «في». (2) «الكبيرة» ساقط من (ن). (3) (ن): «لمن دونها» بإسقاط «هو». (4) ساقط من (أ، غ). (5) كذا في الأصل (أ، غ). والبطاء مصدر كالبطء. وفي غيرهما: «إبطائها». (6) (ب، ج): «المعاوق» وهو: المانع. (ن): «العارف»، وهذا تصحيف. (7) (ن): «مفارقتها للبدن». (8) «أصناف» ساقط من (ن).

(1/311)


ما لا تقدِرُ (1) على مثله حالَ اتصالها بالبدن، من هزيمةِ الجيوش الكثيرة بالواحد والاثنين والعدد القليل ونحو ذلك. وكم قد رُئِيَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ومعه أبو بكر وعمر في النوم قد هزَمتْ أرواحُهم عساكرَ الكفر والظلم، فإذا بجيوشهم مغلوبةً (2) مكسورة، مع كثرة عَدَدهم وعُدَدهم (3)، وضعف المؤمنين وقلَّتهم. ومن العجب أنَّ أرواحَ المؤمنين المتحابِّين المتعارفين تتلاقَى وبينها أعظم مسافة وأبعدها، فتتشامُّ (4)، وتتعارف، فيعرف بعضُها بعضًا كأنه جليسُه وعشيرُه. فإذا رآه طابقَ ذلك ما كان عرفَتْه به روحه قبل رؤيته. قال عبد الله بن عمرو: إنَّ أرواح المؤمنين تتلاقَى على مسيرة يوم، وما رأى أحدهما صاحبه قطُّ. ورفعه بعضهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (5). _________ (1) ضبط في (ن): «يُقدَر». (2) كذا في (أ، غ). وفي غيرها: «مفلولة». (3) «وعُددهم» ساقط من (ب، ج). (4) في (أ، ق، ن، غ): «فتتسالم». والصواب ما أثبتنا من (ط). وكذا في (ب) ولكن بعضهم زاد همزة مفتوحة قبل الميم. وفي (ج): «هشام». والتشامّ: التقارب والتعارف. وقد ورد في حديث تقدَّم. (5) المرفوع أخرجه الإمام أحمد في المسند (6636، 7048)، والبخاري في الأدب المفرد (261)، وأبو يعلى كما في إتحاف الخيرة المهرة (7362، 7363) من طريق درّاج أبي السّمح، عن عيسى بن هلال الصدفي، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. ودرّاج وثقه ابن معين، وضعّفه الجمهور، فقال الإمام أحمد: حديثه منكر، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال في موضع: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: في حديثه ضعف، وقال الدارقطني: ضعيف، وقال في موضع آخر: متروك. انظر: تهذيب التهذيب (3/ 208 ــ 209). وانظر: السلسلة الضعيفة (1947). (قالمي).

(1/312)


وقال عكرمة ومجاهد: إذا نام [66 ب] الإنسانُ فإنَّ له سببًا تجري فيه الروح، وأصلُه (1) في الجسد، فتبلغ حيث شاء الله. فما دام (2) ذاهبًا فالإنسانُ نائمٌ، فإذا رجعَ (3) إلى البدن انتبه الإنسان. وكان بمنزلة شعاع الشمس، هو ساقطٌ بالأرض، وأصلُه مُتَّصِلٌ بالشمس (4). وقد ذكر أبو عبد الله بن منده عن بعض أهل العلم (5) أنه (6) قال: إنَّ الروحَ (7) تمتدُّ من منخر الإنسان، ومركبُه وأصلُه (8) في بدنه، فلو خرج الروحُ بالكلّية لمات؛ كما أنّ السِّراجَ لو فُرِّق بينه وبين الفتيلة لطفئتْ. ألا ترى أنَّ (9) مركبَ النار في الفتيلة، وضَوْؤها وشعاعها يملأ البيت؟ فكذلك الروحُ تمتدُّ من منخر الإنسان في منامه حتى تأتي السماء، وتجول في البلدان، وتلتقي مع أرواح الموتى، فإذا أراه (10) الملَك الموكَّلُ بأرواح _________ (1) (ب، ط، ن، ج): «داخله»، تصحيف. (2) (أ، ق، غ): «ما دام». والمثبت من غيرها ومجموع الفتاوى، وشرح الصدور (357). (3) (ب، ط): «راجع». (4) قول عكرمة ومجاهد هذا نقله شيخ الإسلام في شرح حديث النزول، ولعل مصدره كتاب النفس والروح لابن منده. انظر: مجموع الفتاوى (5/ 457). (5) هو علي بن يزيد السمرقندي. قال ابن منده: وكان من أهل العلم والأدب، وله بصر بالطب والتعبير. مجموع الفتاوى (5/ 457). (6) «أنه» ساقطة من (ب، ط، ج). (7) (ب): «قال الأرواح». (8) (ب، ن، ج): «داخله»، تحريف. (9) «أن» ساقطة من (ط). (10) (ن، ق): «رآه».

(1/313)


العباد ما أحبَّ أن يُريَه، وكان المرأ (1) في اليقظة عاقلاً ذكيًّا صَدوقًا لا يلتفت في يقظته إلى شيء من الباطل= رجع إليه روحُه، فأدَّى إلى قلبه الصِّدقَ مما أراه الله عزَّ وجلَّ على حسب خلقه. وإن كان خفيفًا نَزقًا يُحبُّ الباطل والنظرَ إليه، فإذا نام وأراه الله أمرًا من خيرٍ أو شرٍّ= رجعت روحُه إليه، فحيثما رأى شيئًا من مخاريق الشيطان أو الباطل وقفتْ روحُه عليه، كما تقف في يقظته، فكذلك يؤدي (2) إلى قلبه، فلا يعقل ما رأى؛ لأنه خَلَطَ الحقَّ بالباطل، فلا يمكن معبِّرًا (3) أن يعبِّر له، وقد خلط الحق بالباطل (4). وهذا من أحسن الكلام، وهو دليل على معرفة قائله (5) وبصيرته بالأرواح وأحكامها. وأنت ترى الرجل يسمع العلم والحكمة وما هو أنفع شيء له، ثم يمرُّ بباطل ولهو من غناءٍ أو شبهة (6) أو زور أو غيره، فيصغي إليه، ويفتحُ له قلبه حتى يتأدَّى (7) إليه، فيتخبَّط عليه ذلك الذي سمعه (8) مع العلم والحكمة، ويلتبس (9) عليه الحقُّ بالباطل. _________ (1) (ق): «الرائي». (2) (أ، ق، ن): «لا يؤدي». والمثبت من غيرها ومجموع الفتاوى. (3) ما عدا (ج): «معبِّرٌ»، وهو خطأ. (4) «فلا يمكن ... بالباطل» ساقط من (ب). وانظر النصَّ في مجموع الفتاوى (5/ 357). (5) في (ط، ن) غيّر بعضهم إلى «قابليته»! (6) في (ب، ج): «شبه»، وفي (ط) بالمهملة وتشديد الباء. (7) (ب، ط، ج): «يبادر». (ن): «يُنادى» وكلاهما تصحيف. (8) (ب، ن، ج): «يسمعه». (9) (ن): «يُلبس».

(1/314)


فهكذا شأن الأرواح عند النوم (1). وأما بعد المفارقة فإنها تُعَذَّب بتلك الاعتقادات والشُّبه الباطلة التي كانت حظَّها (2) حال اتصالها بالبدن. وينضافُ إلى ذلك عذابها بتلك الإرادات والشهوات التي حيل بينها (3) وبينها. وينضاف إلى ذلك (4) عذابٌ آخر يُنشئه الله لها ولبدنها من الأعمال التي اشتركت معه فيها. وهذه هي المعيشةُ الضَّنْك [67 أ] في البرزخ، والزاد الذي تزودته (5) إليه. والروحُ الزكية العُلْوية المحِقَّة التي لا تُحبُّ الباطلَ ولا تألفه بضدِّ ذلك كلِّه. تَنعَّمُ بتلك الاعتقادات الصحيحة والعلوم والمعارف التي تلقّتها (6) من مشكاة النبوة، وتلك الإرادات والهمم الزَّكية. وينشئُ الله لها من أعمالها نعيمًا يُنعِّمها (7) به في البرزخ، فتصيرُ (8) لها روضةً من رياض الجنة؛ وكذلك (9) حفرة من حفر النار. _________ (1) ما عدا (أ، ق، غ): «في النوم». وفي طرّة (ط) ذكر ما أثبتنا من غيرها. (2) (ن): «جَنَتْها». (3) (ط): «بينه» وسقط من (ق) «بينها» الثانية. (4) (ط): «ويضاف إلى ذلك». وقد سقط من (ب): «عذابها ... ذلك». (5) (أ، ج، غ): «يزود به». (ب): «تزود به». (ق): «تردد به». والصواب المثبت من (ط، ن) و «إليه» بعده ساقط من (ن). (6) (أ، غ): «تلقيها»، تصحيف. وفي (ن): «بُلِّغَتْها»، هكذا مضبوطًا. (7) (ب، ط): «تتنعّم». (ج): «يتنعّم». (ن): «تَنَعَّمُ». (8) (ق): «تصير» يعني الأعمال. وفي (ب، ط، ن، غ): «يصير» يعني البرزخ. وفي الأصل بالتاء والياء جميعًا. (9) كذا في جميع النسخ. يعني: وكذلك ينشئ الله من أعمال الروح السفلية المبطلة عذابًا يعذِبها به في البرزخ، فتصير لها حفرة من حفر النار. وفي النسخ المطبوعة التي بين يديّ: «ولتلك».

(1/315)


فصل وأما قول (1) من قال: أرواحُ المؤمنين عند الله تعالى، ولم يزد على ذلك؛ فإنه تأدَّبَ مع لفظ القرآن، حيث يقول الله عزَّ وجلَّ: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]. وقد احتجَّ أربابُ هذا القول بحُجج، منها: ما رواه محمد بن إسحاق الصَّغَاني (2)، ثنا يحيى بن أبي بُكير (3)، ثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء (4)، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ الميتَ إذا خرجت نفسُه يُعرَج بها إلى السماء حتى يُنتهى بها (5) إلى السماء التي فيها الله عزَّ وجلَّ. وإذا كان الرجلُ السوءُ يُعرجَ بها إلى السماء، فإنه لا يُفتَح لها أبواب السماء، فترسَل من السماء، فتصير (6) إلى القبر». _________ (1) «قول» ساقط من (ب، ط، ج، ن). (2) في (أ، غ): «الصنعاني»، تحريف. وقد تحرّف من قبل في جميع النسخ إلى الصفار. (3) (ب، ج، ط، ن): «أبي بكر»، تحريف. (4) زاد في (ب، ط) بعده: «عن عطاء»، وهو خطأ. (5) «بها» ساقطة من (ب، ج). (6) «فترسل ... فتصير» كذا في (ط، ج، ن). وفي الأصل: «فيرسل ... فيصير». وفي (ب): «فترسل ... فيصير».

(1/316)


وهذا إسنادٌ لا تَسألْ (1) عن صحته، وهو في مسند أحمد وغيره (2). وقال أبو داود الطيالسيُّ (3): ثنا حماد بن سلَمة: عن عاصم بن بَهْدلة، عن أبي وائل، عن أبي موسى الأشعري قال: تخرج روح المؤمن (4) أطيبَ من ريح المسك، فتنطلق (5) بها الملائكة الذين يتوفَّونه، فتتلقاه الملائكة (6) من دون السماء، فيقولون: هذا فلان بن فلان، كان يعمل كَيْتَ وكيت ــ لمحاسن (7) عمله ــ فيقولون: مرحبًا بكم وبه! فيقبضونها منهم، فيُصعَد به من الباب الذي كان يَصعَد منه عمله (8)، فتشرق في السماوات (9) ولها برهانٌ كبرهان الشمس، حتى ينتهي (10) إلى العرش. _________ (1) (ب، ط، ن): «يُسأل». وانظر ما سبق من قول أبي نعيم في الإسناد. (2) تقدَّم الحديث في المسألة السادسة (ص 141) من طريق ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب، وثَمَّ تخريجه. (3) ليس في المطبوع من مسنده. وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (12187) والبيهقي في إثبات عذاب القبر (199) من غير هذا الطريق وبلفظ مختلف. وعزاه ابن رجب في الأهوال (106) والسيوطي في شرح الصدور (104) إلى اللالكائي أيضًا. وليس في كتابه المطبوع. (4) ما عدا (أ، غ): «نفس المؤمن». وأشير إلى هذه النسخة في حاشية (ط) أيضًا. (5) (ن): «ينطلق». (6) (أ، غ): «فيتلقاه ... ». (ب، ط): «فتلقاهم ملائكة». (ن، ج): «فيتلقاهم». (7) (ب، ط، ن): «بمحاسن». (8) «فيقولون ... عمله» ساقط من (ن). (9) (ن): «السماء». و «في» ساقطة من (ب). (10) (غ): «تنتهي». ولم ينقط أوله في (ب، ق).

(1/317)


وأما الكافرُ، فإذا قُبض اُنطُلِق بروحه، فيقولون: ما هذا؟ فيقولون: هذا (1) فلان بن فلان، كان يعمل كيت وكيت ــ لمساوي (2) عمله ــ فيقولون: لا مرحبًا! لا مرحبًا! رُدُّوه إلى أسفل الأرض (3) إلى الثرى. وقال المكّي (4) بن إبراهيم، عن داود بن [67 ب] يزيد الأودي (5)، قال: أراه عن عامر الشعبي، عن حذيفة بن اليمان، أنه قال: الأرواح موقوفة عند الرحمن عزَّ وجلَّ تنتظر موعدها (6) حتى يُنفَخ فيها (7). وذكر سفيان بن عيينة، عن منصور بن صفية، عن أمه أنه (8) دخل ابن عمر المسجد بعد قتل (9) ابن الزبير، وهو مصلوب، فأتى أسماء يعزِّيها، فقال لها: عليكِ بتقوى الله والصبر، فإنَّ هذه الجثث ليست بشيء، وإنما الأرواح عند الله. فقالت: وما يمنعني من الصبر، وقد أُهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل (10). _________ (1) «هذا» ساقط من (ب، ط، ن). ومكانها في (ج): «روح». (2) (ب، ط، ن): «بمساوي». (3) ما عدا (أ، ق، غ): «الأرضين». (4) ما عدا (أ، ق، غ): «مكي»، دون لام التعريف. (5) (ق): «الأزدي»، تصحيف. (6) ما عدا (أ، ق، غ): «فتنظر موعودها». (7) (ب، ط): «في الصور». والأثر أخرجه ابن منده. عزاه إليه ابن رجب في الأهوال (115) وقال: هذا إسناد ضعيف. وانظر: شرح الصدور (331). (8) «أنه» ساقط من (ب، ط، ج). (9) (ب، ط، ن): «أن قُتِل». (10) سبق تخريجه في المسألة السادسة (ص 123).

(1/318)


وذكر جريرٌ، عن الأعمش، عن شِمْر بن عطية، عن هلال بن يساف (1)، قال: كنَّا جلوسًا إلى كعب، والربيع بن خُثَيم (2)، وخالد بن عَرْعَرة في أناس، فجاء ابن عبَّاس فقال: هذا ابنُ عمِّ نبيِّكم. قال: فأوسعَ له، فجلس (3) فقال: يا كعب، كلُّ ما في القرآن قد عرفتُ غيرَ أربعة أشياء، فأخبرني عنهن: ما سجِّين؟ وما علِّيون؟ (4) وما سِدرة المنتهى؟ وما قول الله لإدريس: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57]؟ قال: أما عِلِّيُّون، فالسماء السابعة، فيها أرواح المؤمنين. وأما سِجِّين، فالأرض السابعة السفلى، وأرواح الكفار تحت خدِّ إبليس (5). وأما قول الله سبحانه لإدريس {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57]، فإنَّ الله أوحى إليه أنّي رافعٌ لك كلَّ يوم مثل أعمال بني آدم. وكلَّم صَديقًا له من الملائكة أن يُكلِّم له ملَكَ الموت، فيؤخِّرَه حتى يزدادَ عملاً، فحمله بين جناحيه، فعرج به. حتى إذا كان في السماء الرابعة لقيه ملَكُ الموت، فكلَّمه في حاجته، فقال: وأين هو؟ قال: هو ذا بين جناحيَّ. قال: فالعجبُ أنِّي أُمِرتُ أن أقبض روحَه في السماء الرابعة. فقبض روحه (6). _________ (1) (ن): «يسار»، تحريف. (2) (ق، ب، ن): «خَيثم»، تصحيف. (3) (ق): «في المجلس». (4) (أ، غ): «عليين». (5) هذا الجزء من الجواب قد سبق في أول هذه المسألة. (6) «فقبض روحه» ساقط من (ن). وأخرج الطبري هذا الجزء في تفسيره (15/ 562 ــ 563). وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}: «وقد روى ابن جرير هنا أثرًا غريبًا عجيبًا» وبعد ما أورده قال: «هذا من أخبار كعب الأحبار الإسرائيليات، وفي بعضه نكارة». تفسير ابن كثير (3/ 123).

(1/319)


وأما سِدرة المنتهى فإنها سِدرة على رؤوس حَمَلة العرش، ينتهي إليها علمُ الخلائق، ثم ليس لأحد وراءها علمٌ، فلذلك سُمِّيتْ سدرة المنتهى (1). قال ابن منده: ورواه وهب بن جرير، عن أبيه، ورواه يعقوب القُمِّي عن شِمْر (2). ورواه خالد بن عبد الله، عن العوَّام بن حَوشَب، عن القاسم بن عوف، عن الربيع بن خُثَيم، قال: كنَّا جلوسًا عند كعب، فذكره [68 أ]. وذكر يعلى بن عبيد، عن الأجلَح، عن الضحَّاك قال: إذا قُبِض روحُ العبد المؤمن عُرِج به إلى السماء الدنيا، فينطلق معه المقرَّبون إلى السماء الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة، ثم السابعة، حتى يُنتهى به إلى سدرة المنتهى. قلت للضحّاك: لِمَ سُمِّيت سدرة المنتهى؟ قال: لأنه ينتهي إليها كلُّ شيء من أمر الله عزَّ وجلَّ لا يعدُوها. فيقول: ربِّي (3) عبدك فلان، وهو أعلم به منهم (4)، فيبعث الله إليه بصكٍّ مختوم بأمنه من العذاب، وذلك قوله: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 18 ــ 21] (5). وهذا القولُ لا ينافي قولَ من قال: هم في الجنة، فإنَّ الجنّة عند سدرة _________ (1) هذا الجزء أخرجه الطبري في تفسيره (22/ 33). (2) (ق): «شمس»، تحريف. (3) (ب، ج): «ربِّ». (ط): «فيقولون: ربِّ». (4) «من أمر الله ... منهم» ساقط من (ن). (5) في (ن) اكتفي بإثبات الآية الأولى. والأثر أخرجه الطبري في تفسيره (24/ 209).

(1/320)


المنتهى، والجنةُ عند الله. وكأنَّ قائلَه رأى أنَّ هذه العبارة أسلمُ وأوفق، وقد أخبر الله سبحانه أنَّ أرواح الشهداء عنده، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها تسرح في الجنة حيث شاءت. فصل وأما من قال (1): إنَّ أرواح المؤمنين بالجابية، وأرواح الكفار بحضرموت ببَرَهُوت (2)؛ فقال أبو محمد بن حزم: هذا من قول الرافضة (3). وليس كما قال، بل قد قاله جماعةٌ من أهل السنّة. قال أبو عبد الله بن منده: ورُوي عن جماعة من الصحابة والتابعين أنَّ أرواح المؤمنين بالجابية، ثم قال: أنا محمد (4) بن محمد بن يونس، حدثنا أحمد بن عصام، ثنا أبو داود سليمان بن داود، ثنا همّام، حدثني قتادة، حدثني رجلٌ، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو، أنه قال: إنَّ أرواحَ المؤمنين تجتمع بالجابية، وإن أرواحَ الكُفَّار تجتمع في سَبَخة (5) بحضرموت يقال لها: بَرَهُوت (6). _________ (1) ما عدا (أ، ق، غ): «قول من قال». (2) (ن): «بحضرموت بئر ببرهوت». (3) الفصل في الملل والنحل (2/ 320). (4) (ق): «قال أبو محمد»، خطأ. (5) (ط): «بسبخة». وهي الأرض التي تعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر. (6) أخرجه ابن أبي الدنيا في ذكر الموت (544) وابن عساكر في تاريخ دمشق (2/ 334) من طريق همام. ورواه معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن ابن المسيب من قوله. أخرجه ابن عساكر من طريق ابن أبي الدنيا. وانظر: صحيح ابن حبان (3013).

(1/321)


ثم ساق من طريق (1) حماد بن سلمة، عن عبد الجليل بن عطية، عن شهر بن حوشَب، أنَّ كعبًا رأى عبد الله بن عمرو، وقد تكابَّ (2) الناسُ عليه يسألونه، فقال له رجل (3): سَلْه أين أرواح المؤمنين وأرواح الكفار؟ فسأله (4) فقال: أرواح المؤمنين بالجابية، وأرواح الكفار ببَرَهُوت (5). قال ابن منده: ورواه أبو داود وغيره عن عبد الجليل. ثم ساق من حديث سفيان، عن فرات القزَّاز، عن أبي الطُّفيل، عن علي قال: خيرُ بئر في الأرض زمزمُ، وشرُّ بئر في الأرض بَرَهوت، بئر في حضرموت (6). وخير وادٍ في الأرض وادي مكة، والوادي [68 ب] الذي أُهبِط فيه آدمُ بالهند، منه (7) طِيبكم. وشرُّ وادٍ في الأرض الأحقاف، وهو في حضرموت، تَرِدُه أرواحُ الكفار (8). قال ابن منده: وروى حماد بن سلَمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عبَّاس، عن علي، قال: أبغضُ بقعة في الأرض وادٍ _________ (1) (ن): «حديث». (2) أي ازدحموا عليه. وفي (ب، ج): «تكابت». (3) (ن): «فقال لرجل». (4) «فقال ... فسأله» ساقط من (ب). (5) عزاه ابن رجب في الأهوال (114) إلى ابن منده. (6) (ن): «بحضرموت». وقد سقط من (ب، ج): «بئر في حضرموت». (7) (ن): «فمنه». (8) من «ترده» إلى هنا ساقط من (ن). والخبر بهذا الإسناد أخرجه عبد الرزاق في المصنف (1918)، والفاكهي في أخبار مكة (1110) وانظر: ذكر الموت لابن أبي الدنيا (541، 542). وعزاه ابن رجب في الأهوال (112) إلى ابن منده كما هنا.

(1/322)


بحضرموت يقال له: بَرَهوت، فيه أرواح الكفار. وفيه بئر ماؤها بالنهار أسودُ كأنه قَيحٌ، يأوي (1) إليه الهوامُّ (2). ثم ساق من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، ثنا أبَان بن تَغلب قال: قال رجل: بِتُّ (3) فيه ــ يعني وادي برهوت ــ فكأنما حُشِرتْ فيه أصواتُ الناس، وهم يقولون: يا دُومة! يا دُومة (4)، قال أبان: فحدّثنا رجلٌ من أهل الكتاب أنَّ دومة هو الملَك الذي على أرواح الكفار. قال سفيان: وسألْنَا الحضرميين، فقالوا: لا يستطيع أحدٌ أن يبيتَ (5) فيه بالليل (6). فهذا جملةُ ما علمتُه في هذا القول. فإن أراد عبد الله بن عمرو بالجابية التمثيل والتشبيه، وأنها تجتمع في مكان فسيح يُشبه الجابية لسعته وطيب هوائه، فهذا قريب. وإن أراد نفسَ الجابية دون سائر الأرض، فهذا لا يُعلم إلا بالتوقيف (7). ولعلَّه ممّا تلقّاه عن بعض أهل الكتاب. _________ (1) (ن، غ): «تأوي». (2) أورده ابن رجب في الأهوال (112) عن ابن منده. وأخرجه بهذا الإسناد الفاكهي في أخبار مكة (111). (3) (ق): «رأيت»، تحريف. (4) في (ن) مرة واحدة. ولم أجد نصًّا على ضبط الدال. (5) (ق): «رجل يثبت»، سقط وتصحيف. (6) أورده ابن رجب في الأهوال (112) عن ابن منده. وأخرجه الفاكهي في أخبار مكة (1112) من طريق ابن أبي عمر عن سفيان. (7) تحرف في بعض النسخ المطبوعة إلى «التوفيق» و «التوقيت».

(1/323)


فصل وأما قول من قال: إنها (1) تجتمع في الأرض التي قال الله فيها: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] فهذا إن كان قاله (2) تفسيرًا للآية، فليس هو تفسيرًا لها. وقد اختلفَ الناسُ في الأرض المذكورة هنا. فقال سعيد بن جبير عن ابن عبَّاس: هي أرض الجنة (3). وهذا قول أكثر المفسرين. وعن ابن عبَّاس (4) قولٌ آخر: إنها الدنيا التي فتحها الله على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - (5). وهذا القول هو الصحيح، ونظيره قوله تعالى في سورة النور: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55]. وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «زُوِيتْ لي الأرضُ مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملكُ أمتي ما زُوي لي منها» (6). _________ (1) «إنها» ساقطة من (ب، ج). (2) (ن): «قد قاله». (3) أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 435) وابن أبي حاتم (14613، 14614). (4) «هي ... عباس» ساقط من (ط). (5) أخرجه الطبري (16/ 435) وابن أبي حاتم (141615). (6) أخرجه مسلم (2889) من حديث ثوبان.

(1/324)


وقالت طائفةٌ من المفسرين: المراد بذلك أرض (1) بيت المقدس (2). وهي من الأرض التي أورثها الله عباده الصالحين، وليست الآية مختصةً بها. فصل وأمَّا قولُ من قال: إنَّ (3) أرواحَ المؤمنين في علِّيِّين في السماء السابعة، وأرواح الكفار في سجِّينٍ في الأرض السابعة؛ فهذا قولٌ قد قاله جماعةٌ من السَّلف والخلف. ويدلُّ عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عند موته: «اللهم الرفيقَ الأعلى» (4). وقد تقدَّم (5) حديث أبي هريرة: «إن الميت إذا خرجت روحُه عُرِجَ بها إلى السماء حتى يُنتهىَ بها إلى السماء السابعة التي فيها الله عز وجل». وتقدَّم (6) قول أبي موسى: إنها تصعد حتى تنتهي إلى العرش. وقول حذيفة: إنها موقوفةٌ عند الرحمن. وقول عبد الله بن عمر: إنَّ هذه الأرواح عند الله. وتقدَّم (7) قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن أرواح الشهداء تأوي إلى قناديل تحت _________ (1) «بذلك أرض» ساقط من (ن). (2) في تفسير القرطبي (14/ 301) نسب هذا القول أيضًا إلى ابن عباس. وفي زاد المسير (5/ 397): قاله ابن السائب. يعني الكلبي. (3) «إن» ساقطة من (ب، ط، ن، ج). (4) سبق تخريجه في آخر المسألة الثامنة (ص 222). (5) في هذه المسألة (ص 316). (6) الأقوال الثلاثة كلها في هذه المسألة (ص 317، 318). (7) في المسألة الخامسة (ص 112) وهذه المسألة (ص 291).

(1/325)


العرش». وتقدَّم (1) حديث البراء بن عازب: «أنها تصعد من سماء إلى سماء، ويشيِّعها مِن كلِّ سماء مقرّبوها حتى يُنتهى بها إلى السماء السابعة». وفي لفظ: «إلى السماء التي فيها الله عزَّ وجلَّ». ولكن هذا لا يدلُّ على استقرارها هناك دائمًا، بل يُصعدُ بها إلى هناك للعرض على ربِّها عزَّ وجلَّ، فيقضي فيها أمره، ويَكتب كتابه: من أهل علِّيين، أو من أهل سجِّين. ثم تعود إلى القبر للمسألة، ثم ترجع إلى مقرِّها الذي أودِعَتْ فيه. فأرواحُ المؤمنين في علِّيين بحسب منازلهم، وأرواحُ الكفار في سجِّين بحسب منازلهم. فصل وأما قول من قال: إنَّ أرواحَ المؤمنين تجتمع ببئر زمزم، فلا دليل على هذا القول من كتابٍ، ولا سنَّةٍ يجب (2) التسليم لها، ولا قولِ صاحبٍ يُوثق به. وليس بصحيح، فإنَّ (3) تلك البئر لا تسَعُ أرواحَ المؤمنين جميعهم. وهو مخالفٌ لما ثبتت به السُّنَّة الصريحة من أنَّ نسَمةَ المؤمن طائرٌ يعلُق في شجر الجنة. وبالجملة فهذا من أبطل الأقوال وأفسَدِها. وهو أفسدُ من قول من قال: _________ (1) في أول المسألة السادسة. (2) (أ، ق، غ): «ولا سنة ولا يجب»، وهذا خطأ. (3) (ب، ط): «بأن»، تصحيف.

(1/326)


إنها بالجابية، فإنَّ (1) ذلك مكانٌ (2) متَّسِعٌ فضيٌّ (3) بخلاف البئر الضيقة (4). فصل وأما قول من قال: إنَّ أرواحَ المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت، فهذا مرويٌّ عن سلمان الفارسي (5). والبرزخ هو: الحاجزُ بين شيئين، وكأنَّ سلمان أرادَ بها: في أرضٍ (6) بين الدُّنيا [69 ب] والآخرة، مُرسَلة هناك تذهب حيث شاءت. وهذا قولٌ قويٌّ، فإنها قد فارقت الدنيا، ولم تلِج الآخرة، بل هي في برزخ بينهما. فأرواح المؤمنين في برزخٍ واسعٍ فيه الرَّوح والريحان والنعيم، وأرواحُ الكفار في برزخ ضيِّق فيه الغم والعذاب. قال تعالى: {وَمِنْ وَرَاءِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100]، فالبرزخ هنا (7): ما بين الدنيا والآخرة، وأصله: الحاجز بين الشيئين. _________ (1) (ب، ط، ج): «وإن»، تصحيف. (2) ساقط من (ق). (3) كذا في جميع النسخ إلا (ط). من فضا المكانُ يفضو فَضاءً وفُضُوًّا: اتسع. ولم تثبت في المعجمات. وفي (ط): «قصي» بالقاف، تصحيف. وفي النسخ المطبوعة: «فضاء» ولعله من إصلاح الناشرين. (4) هذا الفصل برمَّته ساقط من (ن). (5) سبق تخريجه في أول المسألة. (6) (ب، ن): «أراد أنها في الأرض». (ط): « ... بالأرض» واقترح بعض قرائها أن يكون: «أراد بالأرض أنها». وفي (ج): «أنها بين الدنيا». والمثبت من الأصل وغيره صحيح. (7) (ب، ط): «بها»، تصحيف.

(1/327)


فصل وأما قول من قال: إنَّ أرواحَ المؤمنين عن يمين آدم، وأرواحَ الكفار عن يساره (1)؛ فلَعمرُ الله، لقد قال قولاً يؤيِّده الحديث الصحيح. وهو حديث الإسراء، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - رآهم كذلك (2)؛ ولكن لا يدلُّ (3) ذلك على تعادلهم في اليمين والشمال، بل يكون هؤلاء عن يمينه في العلوِّ والسعة، وهؤلاء عن يساره في السُّفْل والسِّجن. وقد قال أبو محمد بن حزم: إن ذلك البرزخ الذي رآها فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أُسْري به (4) عند سماء الدنيا. قال: وذلك عند منقطَع العناصر (5). قال: وهذا يدلُّ على أنها عنده تحت السماء حيث تنقطع العناصر، وهي الماء (6) والتراب والنار والهواء (7). وهو دائمًا يشنِّع على من قال قولاً لا دليل عليه، فأيُّ دليل له على هذا القول من كتاب أو سنَّة؟ وسيأتي إشباع الكلام على قوله إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى. فإن قيل: فإذا كانت أرواحُ أهل السعادة عن يمين آدم، وآدم في سماء الدنيا، وقد ثبت أن أرواح الشهداء في ظل العرش، والعرش فوق السماء _________ (1) (ن): «شماله». (2) انظر حديث أنس في البخاري (349)، ومسلم (263). (3) (ق): «يدرك»، تصحيف. وسقط بعده «ذلك» من (ط). (4) زاد بعده في (ب، ط، ن، ج): «إنه». (5) الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/ 322). (6) الهواء بعد الماء في (ب، ط، ن، ج). (7) هذا النص لم أجده في الفصَل المطبوع.

(1/328)


السابعة، فكيف تكون عن يمينه؟ وكيف يراها النبي - صلى الله عليه وسلم - هناك في السماء الدنيا؟ فالجواب من وجوه: أحدها (1): أنه لا يمتنع كونُها عن يمينه في جهة العلوِّ، كما كانت أرواح الأشقياء عن يساره في جهة السفل. الثاني: أنه غيرُ ممتنع أن تُعرَض على النبي - صلى الله عليه وسلم - في سماء الدنيا، وإن كان مستقَرُّها فوق ذلك. الثالث: أنه لم يخبِر أنه رأى أرواح السعداء جميعًا (2) هناك، بل قال: «فإذا عن يمينه أَسْوِدة، وعن يساره أسْوِدة». ومعلوم قطعًا أنَّ روح إبراهيم وموسى فوق ذلك في السماء [70 أ] السادسة والسابعة. وكذلك الرفيق الأعلى أرواحُهم فوق ذلك. وأرواحُ السعداء (3) بعضُها أعلى من بعض بحسب منازلهم، كما أنَّ أرواحَ الأشقياء بعضُها أسفلُ (4) من بعض بحسب منازلهم (5). والله أعلم. _________ (1) (ب، ط، ن، ج): «وجهين أحدهما» مع ذكر الوجوه الثلاثة! وأصلح بعضهم في (ن): «وجوه»، وترك «أحدهما». (2) (ن): «جميعها». (ب، ط، ج): «رأى السعداء جميعها». (3) (ن): «الشهداء». (4) (ط): «أعلى». (5) «كما أن ... منازلهم» ساقط من (ب، ن، ج).

(1/329)


فصل وأما قول أبي محمد بن حزم: إنَّ مستقرَّها حيث كانت قبل خلق أجسادها، فهذا بناء منه على مذهبه الذي اختاره، وهو أنَّ الأرواح مخلوقة قبل الأجساد. وهذا فيه قولان للناس. وجمهورُهم على أنَّ الأرواح خُلِقت بعد الأجساد. والذين قالوا: إنها خُلقت قبل الأجساد (1)، ليس معهم على ذلك دليل من كتاب ولا سنّة (2) ولا إجماع، إلا ما فهموه من نصوص لا تدلُّ على ذلك، أو أحاديث لا تصحُّ؛ كما احتج به أبو محمد بن حزم من قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} الآية (3) [الأعراف: 172]، وبقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [الأعراف: 11]. قال (4): فصحَّ أنَّ الله خلق الأرواح جملةً، وهي (5) الأنفس. وكذلك _________ (1) «وهذا فيه ... الأجساد» ساقط من (ب، ج) ومستدرك في حاشية (ن). (2) (ط): «وسنة». (3) كذا وردت الآية في (ق). وفي غيرها: «ذرّياتهم». وزاد في (ب، ط، ج): «أن يقولوا». وهذه قراءة أبي عمرو بالجمع في «الذريات»، والياء في «يقولوا». انظر: الإقناع لابن الباذش (651). (4) ساقط من (ب، ط، ن، ج). (5) (ن): «هنّ».

(1/330)


أخبر عليه السلام أنَّ «الأرواح جنود مجنَّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» (1). قال: وأخذ عزَّ وجلَّ عهدها وشهادتَها، وهي مخلوقة مصوَّرة عاقلة، قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم، وقبل أن يُدخِلها في الأجساد، والأجسادُ يومئذ تراب. وقال: لأنَّ الله تعالى [ذكر] (2) ذلك بلفظة «ثمَّ» التي توجب التعقيب والمهلة. ثم أقرَّها سبحانه حيث شاء، وهو البرزخ الذي ترجع إليه (3) عند الموت (4). وسنذكر ما في هذا الاستدلال عند (5) جواب سؤال السائل عن الأرواح: أهي (6) مخلوقةٌ مع الأبدان أم قبلها؟ إذ الغرضُ هنا الكلام على مستقَرِّ الأرواح بعد الموت. وقوله: «إنها تستقرُّ في البرزخ الذي كانت فيه قبل خلق الأجساد» مبنيٌّ _________ (1) سبق تخريجه في (ص 277). (2) في (ب، ج): «حلف». وفي النسخ الأخرى جميعًا ــ خطيةً كانت أو مطبوعة ــ: «خلق». ولا معنى للخلق بلفظة «ثم». والظاهر أنه تحريف ما أثبتناه من كتاب ابن حزم. ولما أشكل على ناسخ (ط) غيَّر «بلفظة» إلى «بلطفه». وأسقط ناسخا (ب، ج): «ذلك بلفظة». (3) «إليه» ساقط من الأصل. (4) الفصل لابن حزم (2/ 321). (5) (ب، ط، ج): «عن»، خطأ. (6) (ق): «هل» موضع «أهي».

(1/331)


على هذا الاعتقاد الذي اعتقده (1). وقوله: «إن أرواح السعداء عن يمين آدم، وأرواحَ الأشقياء عن يساره» حقٌّ، كما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: «إن ذلك عند منقطَعِ العناصر» [70 ب] لا دليل عليه من كتاب ولا سنَّة، ولا يشبه أقوال أهل الإسلام. والأحاديث الصحيحة تدلُّ على أنَّ الأرواح فوق العناصر في الجنة عند الله تعالى. وأدلَّةُ القرآن تدلُّ (2) على ذلك. وقد وافق أبو محمد على أنَّ أرواح الشهداء في الجنَّة، ومعلومٌ أنَّ الصدِّيقين أفضلُ منهم، فكيف تكون روح أبي بكر الصديق وعبد الله بن مسعود وأبي الدرداء وحذيفة بن اليمان وأشباههم عند منقطَع العناصر ــ وذلك تحت هذا الفلك الأدنى (3)، وتحت السماء الدنيا ــ وتكون أرواح شهداء زماننا وغيرهم فوق العناصر وفوق السموات؟ وأما قوله: قد ذكر محمد بن نصر المروزيُّ عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا الذي قلناه (4) بعينه. قال: وعلى هذا جميع أهل العلم، وهو قول (5) جميع أهل الإسلام (6). _________ (1) (أ، ق، غ): «اعتقدوه». (2) (أ، غ): «تدلّك». (3) (ب، ط): «العالم الأدنى». (ج): «العالم العلوي». (4) (ب، ن، ج): «قلنا». (5) «جميع ... قول» ساقط من (ب، ط، ج). (6) الفِصَل (2/ 322).

(1/332)


قلت: محمد بن نصر المروزي (1) ذكر في كتاب «الردِّ على ابن قتيبة» في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} (2) [الأعراف: 172] الآثار التي ذكرها السلف من استخراج ذرية آدم من صلبه، ثم أخذِ الميثاق عليهم وردِّهم في صلبه، وأنّه أخرجهم مثلَ الذرِّ، وأنَّه سبحانه قَسَمهم إذ ذاك إلى شقيٍّ وسعيد، وكتب آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم، وما يصيبُهم من خير وشر. ثم قال (3): «قال إسحاق: أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد، استنطقهم، وأشهدهم على أنفسهم: ألست ربكم؟ أن لا يقولوا (4): إنا كنَّا عن هذا غافلين أو يقولوا: إنَّما أشرك آباؤنا من قبل». هذا نصُّ كلامه. وهو ــ كما ترى ــ لا يدلُّ على أنَّ مستقَرَّ الأرواح ما ذكر أبو محمد حيث منقطعُ العناصر (5) بوجهٍ من الوجوه، بل (6) ولا يدلُّ على أن الأرواح كائنةٌ قبل خلق الأجساد. بل إنما يدل على أنه سبحانه _________ (1) «المروزي» ساقط من (ب، ط، ن، ج). (2) هنا أيضًا في (ق): «ذريتهم» على قراءة الكوفيين وابن كثير. وفي غيرها: «ذرياتهم» وهي قراءة الباقين من السبعة. (3) زاد بعده في (ن): «محمد بن نصر». وقد سقط «قال» من (ب، ج). (4) كذا في الأصل، (ب، ق، ج). ولكن ضرب بعضهم في الأصل على «لا»، وحذفها ناسخ (غ)، وكتب: «أن يقولوا». وكذا في (ط). وزاد في (ن): «يوم القيامة»، وقد توهم هؤلاء أن المقصود نصّ الآية. (5) (ن): «ينقطع العناصر». (6) ساقطة من (ن).

(1/333)


استخرجها (1) حينئذ، فخاطبها، ثم ردَّها إلى صلب آدم. وهذا القول وإن كان قد قاله جماعة من السلف والخلف، فالقول الصحيح غيرُه، كما ستقف عليه إن شاء الله (2)؛ إذ ليس الغرض في جواب هذه المسألة الكلامُ في الأرواح: هل هي مخلوقة قبل الأجساد أم لا؟ حتى لو سلّم لأبي محمد هذا كلُّه لم يكن فيه دليل على أنَّ مستقرَّها حيث منقطعُ العناصر (3)، ولا أنَّ ذلك الموضع كان مستقرَّها أوّلاً. فصل وأما قول من قال: إنَّ (4) مستقرَّها العدمُ المحضُ، فهذا قول من قال: إنها عرَض من أعراض البدن، هو الحياة. وهذا قول ابن الباقِلَّاني ومَن تبعه (5). وكذلك قال أبو الهذيل (6) العلَّاف: النفسُ عرَضٌ من الأعراض، ولم يعيِّنه بأنه الحياةُ، كما عيَّنه ابن الباقلاني. ثم قال (7): هي عرَض كسائر أعراض الجسم. وهؤلاء عندهم أن الجسم إذا مات عَدِمت روحُه كما تعدم سائر أعراضه المشروطة بالحياة. _________ (1) ما عدا (أ، غ): «أخرجها». (2) في المسألة الثامنة عشرة. (3) (ب، ق): «تنقطع العناصر». (4) لم ترد «إن» فيما عدا الأصل و (غ). (5) نقل المؤلف هذا القول وغيرَه من الفصل لابن حزم (3/ 214، 217)، وستأتي في المسألة التاسعة عشرة في حقيقة النفس. (6) (ب، ج): «قول أبي الهذيل». (7) (ب، ط، ج): «بل قال». (ن): «ومن ثم قال».

(1/334)


ومَن يقول منهم: إن العَرَض لا يبقى زمانين ــ كما يقوله (1) أكثر الأشعرية ــ فمِن قولهم: إنَّ روحَ الإنسان الآن هي غيرُ روحه قبلُ، وهو لا ينفكُّ تحدث له روحٌ ثم تُغَيَّر، ثم روحٌ ثم تغيَّر (2)، هكذا أبدًا، فتُبدَّل له ألفُ روح فأكثر في مقدار ساعة (3) من الزمان فما دونها. فإذا مات فلا روحَ (4) تصعد إلى السماء، وتعودُ إلى القبر وتقبضُها الملائكة، ويستفتحون لها أبواب السماوات، ولا تُنعَّم، ولا تُعذَّب. وإنما ينعَّم ويعذَّب الجسد. إذا شاء الله تنعيمه وعذابه (5) ردَّ إليه الحياة في وقت يريد نعيمه وعذابه، وإلا فلا روح هناك قائمة بنفسها البتَّة. وقال بعض أرباب هذا القول: تُرَدُّ الحياة إلى عَجْب الذَّنَب، فهو الذي يعذَّب وينعَّم حَسْبُ. وهذا قولٌ يردُّه الكتاب والسنَّة، وإجماع الصحابة، وأدلَّة العقول والفِطَر (6). وهو قول مَن لم يَعرِف روحَه، فضلاً عن روح غيره. وقد خاطب الله سبحانه النفس بالرجوع والدخول والخروج، ودلَّت النصوص الصحيحة الصريحة (7) على أنها تصعد وتنزل، وتُقبَض وتُمْسَك، _________ (1) (ط): «يقول». (2) في الفصل ابن حزم (2/ 320): «ثم تفنى» في الموضعين. (3) (ط): «ساعاته»، خطأ. (4) «روح» لم يرد في (أ، غ). (5) (ق، غ): «تنعيمه وتعذيبه». (ب، ط، ج): «تعذيبه وتنعيمه». (ن): «نعيمه وتعذيبه». (6) ما عدا (ب، ط، ج): و «الفِطَن والفِطَر». والظاهر أن «الفطر» تحرَّف إلى «الفطن» ثم جُمع بينهما. (7) النصوص التي أشار المصنف إليها فيما يأتي قد سبقت، ثم تأتي مرة أخرى في المسألة التاسعة عشرة.

(1/335)


وتُرسَل ويُستفتَح لها أبوابُ السماء، وتسجُد وتتكلَّم. وأنَّها تخرج تسيلُ كما تسيل القطرة، وتُكفَّن وتُحنَّط في أكفان الجنة أو النار. وأنَّ ملك الموت يأخذها بيده، ثم تتناولها الملائكة من يده، ويُشتَمُّ (1) لها كأطيبِ نفحة مسكٍ، أو أنتنِ جيفةٍ [71 ب]، وتُشيَّع من سماء إلى سماء، ثم تُعاد إلى الأرض مع الملائكة. وأنَّها إذا خرجت تبعها البصر بحيث يراها وهي خارجةٌ. ودلَّ القرآن على أنها تنتقل من مكان إلى مكان حتى تبلغ الحلقوم في حركتها. وجميعُ ما ذكرنا من الأدلَّة الدالَّة (2) على تَلاقي الأرواح وتعارفها، وأنها أجناد مجنَّدة، إلى غير ذلك= يُبطِل (3) هذا القول. وقد شاهد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الأرواحَ ليلة الإسراء عن يمين آدمَ وشماله. وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - إنَّ نسمة المؤمن طائر يعلُق في شجر الجنة، وأنَّ أرواح الشهداء في حواصل طير خُضر. وأخبر تعالى عن أرواح آل فرعون أنَّها تُعرَض على النار غدوًا وعشيًّا. ولمَّا أُورِد ذلك على ابن الباقِلَّاني لَجَّ في الجواب، وقال: يخرج هذا على (4) أحد وجهين: إما بأن يوضع عَرَض من الحياة في أقلِّ جزء (5) من أجزاء الجسم، وإما أن يُخْلَق لتلك الحياة والنعيم والعذاب جسدٌ (6) آخر. _________ (1) ما عدا (أ، ق، غ): «يُشَمّ». (2) «الدالّة» ساقطة من (ب، ط، ج). (3) (ن، غ): «تبطل». (4) (أ، ق، غ): «على هذا» ولعله سهو. وكلمة «أحد» بعده ساقطة من (ن). (5) (أ، ق، غ): «أول جزء». ولعله تحريف. والمثبت من غيرها موافق لما في كتاب الفصل (2/ 217) وهو المصدر لهذا النقل. وانظر أيضًا كتاب الفصل (3/ 320). (6) (ق): «جسدًا».

(1/336)


وهذا قولٌ في غاية الفساد من وجوه كثيرة. وأيُّ قول أفسدُ مِن قول مَن يجعل روح الإنسان عَرَضًا (1) من الأعراض تتبدَّل كلَّ ساعةٍ ألوفًا من المرَّات، فإذا فارقه هذا العرضُ لم يكن بعد المفارقة روحٌ تنعَّمُ ولا تعذَّب، ولا تصعد ولا تنزل، ولا تُمسَك ولا تُرسَل؟ فهذا قولٌ (2) مخالف للعقل ونصوص الكتاب والسنَّة والفطرة. وهو قول مَنْ لم يعرف نفسَه. وسيأتي ذكرُ الوجوه الدالَّة على بُطلان هذا القول في موضعه من هذا الجواب إن شاء الله (3). وهو قول لم يقل به أحد من سلف الأمة من الصحابة والتابعين (4) ولا أئمة الإسلام. فصل وأمَّا قولُ من قال: إن مستقرَّها بعد الموت أبدانٌ أُخَرُ غيرُ هذه الأبدان (5)، فهذا القول فيه حقٌّ وباطل. فأما الحقُّ، فما أخبر به (6) الصادق المصدوقُ عن أرواح الشهداء، أنَّها _________ (1) (ب، ط): «عرضٌ»، خطأ. (2) (ق): «فهذه أقوال»، خطأ. (3) انظر المسألة التاسعة عشرة. (4) (ب، ط، ن): «ولا التابعين». (ق): «ولا من الصحابة والتابعين». (5) ساقط من (ن). (6) لم يرد «به» في (أ، ق). وفي (غ) بعد «المصدوق».

(1/337)


في حواصلِ طيرٍ خُضْرٍ تأوي إلى قناديل معلَّقةٍ بالعرش، هي لها كالأوكار للطائر. وقد صرَّح بذلك في قوله: «جعل الله أرواحَهم في أجواف طير خُضر». وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «نسَمةُ المؤمن طائر يعلُق في شجر الجنة»، يحتمل (1) أن يكون هذا الطائرُ مَرْكبًا للروح كالبدن لها، ويكون ذلك لبعض المؤمنين والشهداء. ويَحتمل أن يكون الروحُ في صورة طائر. [72 أ] وهذا اختيار أبي محمد بن حزم وأبي عمر بن عبد البر (2). وقد تقدَّم كلام أبي عمر، والكلام عليه (3). وأما ابن حزم، فإنه قال: معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «نسمة المؤمن طائر يعلُق» هو على ظاهره، لا على ظنِّ أهل الجهل. وإنما أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنَّ نسمة المؤمن طائر (4) يعلُق، بمعنى (5) أنَّها تطير في الجنَّة، لا أنَّها تُمْسَخ (6) في صورة الطير. قال: فإن قيل: إنَّ النسمة مؤنثة (7)، قلنا: قد صحَّ عن عربي فصيح أنَّه _________ (1) زاد في (ن) قبله: «فهذا». (2) كذا ورد في جميع النسخ. والظاهر أن هذا اختيار أبي عمر. أما ابن حزم فذهب إلى أن النسمة هي التي ستطير في الجنة، كما نقل عنه المصنف. (3) انظر (ص 293) فما بعدها. (4) «هو على ... طائر» ساقط من (ن). وكذا «يعلق» بعد «طائر» في جميع النسخ، ولم يرد في كتاب الفصل، وهو الأفضل في هذا السياق؛ لأن ابن حزم أراد تفسير كلمة «طائر» لا إعادة الحديث. (5) (ب، ط، ن، ج): «يعني». والمثبت من غيرها موافق لما في مصدر النقل. (6) الفصَل: «تنسخ». (7) يعني: مقتضى تأنيثها أن يقال: طائرة، لا طائر كما في الحديث.

(1/338)


قال: أتتك كتابي، فاستخفَفْت بها. فقيل له: أتؤنِّثُ الكتاب؟ قال: أوَليس صحيفةً؟ (1) وكذلك النسمة [روحٌ]، فتُذكَّر (2) لذلك. قال: وأما الزيادة التي فيها أنها في حواصِل طيرٍ خُضْرٍ، فإنَّها صفة تلك القناديل التي تأوي إليها. والحديثان معًا حديث واحد (3). وهذا الذي قاله في غاية الفساد لفظًا ومعنًى، فإنَّ حديث: «نسَمةُ المؤمن طائرٌ يعلُق في شجر الجنة» غير حديث: «أرواحُ الشهداء في حواصلِ طيرٍ خُضْرٍ». والذي ذكره محتمل في الحديث الأول. وأما الحديث الثاني، فلا يَحتملُه (4) بوجه. فإنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنَّ أرواحَهم في حواصل طير (5)، وفي لفظ (6): «في أجواف طير خُضر». وفي لفظ: «بِيض» (7)، _________ (1) حكاه الأصمعي عن أبي عمرو قال: سمعت رجلاً من اليمن يقول: فلان لغوب، جاءته كتابي، فاحتقرها، فقلت له: أتقول: جاءته كتابي! قال: نعم، أليس بصحيفة؟ انظر: الخصائص لابن جني (1/ 249)، ولسان العرب (لغب) (1/ 742). (2) كذا بالفاء في كتاب الفصَل. وما بين المعقوفين زدناه منه، لأن السياق يقتضيه. وفي (أ، ق، ن، غ): «تذكر لذلك». وفي (ب): «ولذلك». وفي (ط): «تؤنث وتذكر وكذلك». (3) كتاب الفصَل (2/ 217). (4) (ب، ط، ج): «ما لا يحتمله»، تحريف. (5) (ق، ن): «طير خضر». (6) (ب، ط، ج): «لفظ آخر». (7) عزاه ابن رجب في أهوال القبور (ص 185) لأبي الشيخ الأصبهاني من طريق عبد الله بن ميمون، عن عمّه مصعب بن سُليم، عن أنس بن مالك، مرفوعًا بلفظ: «يبعث الله الشهداء من حواصل طير بيض كانوا في قناديل معلقة بالعرش». وعبد الله بن ميمون ذكره المزي في تهذيب الكمال (28/ 27) في الرواة عن مصعب بن سُليم ووصفه بصاحب الطيالسة، ولم أظفر له بترجمة. (قالمي)

(1/339)


وأنَّ تلك الطيرَ (1) تسرح في الجنة، فتأكلُ من ثمارها، وتشرب من أنهارها، ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش، هي لها كالأوكار للطائر. وقوله: «إنَّ حواصل تلك الطير هي صفة القناديل (2) التي تأوي إليها» خطأٌ قطعًا، بل تلك القناديل مأوىً لتلك الطير. فهاهنا ثلاثة أمور صرَّح بها الحديث: أرواحٌ، وطير هي في أجوافها، وقناديل هي مأوىً لتلك الطير. والقناديلُ مستقرَّة (3) تحت العرش لا تسرح، والطير تسرح وتذهب وتجيء، والأرواح في أجوافها. فإن قيل: يحتمل أن تُجعَل نفسُها في صورة طير، لا أنها تُرَكَّب [72 ب] في بدن طير، كما قال تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8]، ويدلُّ عليه (4) قولُه في اللفظ الآخر: «أرواحهم كطير خضر». كذلك رواه ابن أبي شيبة (5)، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عبد الله بن مُرَّة، عن مسروق، عن عبد الله. قال أبو عمر: والذي يشبه عندي ــ والله أعلم ــ أن يكون القول _________ (1) لم ترد كلمة «الطير» في (أ، غ). وفي (ن): «الطيور». (2) (ط): «للقناديل». (3) (ن): «معلّقة». (4) «عليه» ساقطة من الأصل، أو استدركت في طرّتها ولم تظهر في الصورة. (5) في المصنّف (19731).

(1/340)


قول من قال: كطير، أو صُوَر طير (1)، لمطابقته لحديثنا المذكور (2). يعني حديث كعب بن مالك في نسمة المؤمن. فالجواب: أنَّ هذا الحديث قد رُوي بهذين اللفظين. والذي رواه مسلم في الصحيح من حديث الأعمش، عن مسروق: «أرواحهم في جوف طير خُضْر» (3) قد (4) رواه ابن عبَّاس وكعب بن مالك، فلم يختلف حديثهما أنّها في أجواف طير خُضر. فأما (5) حديث ابن عباس، فقال عثمان بن أبي شيبة: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير (6)، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما أصيب إخوانكم ــ يعني يومَ أحد ــ جعل الله أرواحَهم في أجواف طيرٍ خُضْرٍ تَرِد أنهارَ الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب مذلَّلة (7) في ظلِّ العرش. فلما وجدوا طِيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم، قالوا: من يبلِّغُ إخواننا عنَّا أنَّا أحياءٌ في الجنة نُرزَق، لئلا يَنْكُلوا عن الحرب، ولا يزهدوا في الجهاد، فقال الله تعالى: أنا أبلِّغهم عنكم. فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ _________ (1) (ط، ق، ن): «صورة طير». (2) التمهيد (11/ 64) وقد سبق في (ص 293) أيضًا. (3) تقدّم في هذه المسألة (ص 292). (4) (ب، ط، ج): «وقد». (5) (أ، ق، غ): «وأما». (6) «عن أبي الزبير» ساقط من (أ، ق، غ). (7) ما عدا (ن): «مدللة» بالدال، تصحيف. وفي النسخ المطبوعة: مدلاة.

(1/341)


الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]» (1). وأما حديث كعب بن مالك، فهو في السنن الأربعة ومسند أحمد. ولفظه للترمذي أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ أرواح الشهداء في طيرٍ خُضْرٍ تعلُق في ثمر الجنة أو شجر الجنة» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (2). ولا محذور في هذا، ولا يبطِل قاعدة من قواعد الشرع، ولا يخالف نصًّا من كتاب الله ولا سنَّةً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. بل هذا من تمام إكرام الله تعالى للشهداء أن أعاضَهم من أبدانهم التي مَزَّقوها لله أبدانًا (3) خيرًا منها، تكون مَرْكبًا لأرواحهم، ليحصل بها كمال تنعُّمهم (4). فإذا كان يومُ القيامة ردَّ أرواحَهم (5) إلى تلك الأبدان التي كانت [73 أ] فيها في الدنيا. فإن قيل: فهذا هو القولُ بالتناسخُ وحلولِ الأرواح في أبدانٍ غيرِ أبدانها التي كانت فيها. قيل: هذا المعنى الذي دلَّت عليه السنَّة الصريحة حقٌّ يجب اعتقاده. ولا يُبطلِه تسميةُ المسمِّي له: تناسخًا، كما أنَّ إثبات ما دلَّ عليه العقل والنقل _________ (1) سبق تخريجه في المسألة الخامسة (ص 112). (2) الترمذي (1641). وقد سبق في (ص 112) تخريجه والتنبيه على أن لفظ الترمذي من رواية عمرو بن دينار عن الزهري، وأما سائر أصحاب الزهري كمالك ومعمر ويونس والأوزاعي فلم يذكروا الشهداء، وإنما ذكروا «نسمة المؤمن أو المسلم». (قالمي). (3) (ب، ط، ن، ج): «أبدانًا أُخَر». (4) (ق): «تنعيمهم». (ن، غ): «نعيمهم». (5) «يحصل ... أرواحهم» ساقط من (ب).

(1/342)


من صفات الله عزَّ وجلَّ وحقائق أسمائه الحسنى حقٌّ لا يُبطلِه تسميةُ المعطلين لها: تركيبًا وتجسيمًا. وكذلك ما دلَّ عليه العقل والنقل من إثبات أفعاله وكلامه بمشيئته، ونزوله كلَّ ليلة إلى سماء الدنيا، ومجيئه يوم القيامة للفصل بين عباده= حقٌّ لا يُبطلِه تسميةُ المعطِّلين (1) له: حلولَ حوادثَ. وكما أنَّ ما دلَّ عليه العقل والنقل من علوِّ الله على خلقه ومباينته لهم (2)، واستوائه على عرشه، وعروجِ الملائكة والروح إليه ونزولِها من عنده، وصعودِ الكلِم الطيِّب إليه، وعروجِ رسوله إليه ودنوِّه منه حتى صار قاب قوسين أو أدنى، وغير ذلك من الأدلّة= حقٌّ لا يبطله تسمية الجهمية له: حيِّزًا وجهةً وتجسيمًا. قال الإمام أحمد: لا نُزيل عن الله صفةً (3) من صفاته لأجل شناعة المشنِّعين (4). فإنَّ هذا شأن أهل البدع، يلقِّبون أهلَ السُّنَّة وأقوالَهم بالألقاب التي ينفِّرون منها الجُهَّال، ويسمونها: حشوًا وتركيبًا وتجسيمًا. ويسمُّون عرش الربِّ تبارك وتعالى: حيِّزًا وجهةً، ليتوصَّلوا بذلك إلى نفي علوِّه على (5) خلقه _________ (1) (غ): «المعطل». وكذا كان في الأصل ثم أصلح. (2) (ط): «له». وهو ساقط من (ب، ج). (3) (ب، ط، ن): «لا تزيل ... ». وفي (أ، غ): «لا تُزِلِ الله عن صفة». والمثبت من (ق)، وهو الموافق للمصادر الأخرى. (4) أوردها المؤلف بهذا اللفظ في الصواعق المرسلة (440) ومدارج السالكين (3/ 259) ومفتاح دار السعادة (2/ 458) وغيره. ولفظه في رواية حنبل: «ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعات شُنِّعت». إبطال التأويلات لأبي يعلى (1/ 44). وانظر أيضًا (2/ 297). ونحوه عن حنبل في اجتماع الجيوش الإسلامية (322). (5) (أ، غ): «عن».

(1/343)


واستوائه على عرشه؛ كما تسمِّي الرافضةُ موالاةَ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلِّهم، ومحبتَهم والدعاءَ لهم نَصْبًا، وكما تسمِّي القدريةُ المجوسيةُ إثباتَ القدر جبرًا (1). فليس الشأن في الألقاب، وإنما الشأن في الحقائق. والمقصود: أنَّ تسمية ما دلَّت عليه السُّنَّة الصريحة من جَعْل أرواح الشهداء في أجواف طيرٍ خُضْرٍ تناسخًا لا يبطل هذا المعنى. وإنما التناسخ الباطل ما يقوله (2) أعداء الرسل من الملاحدة وغيرِهم الذين ينكرون المعاد: إنَّ الأرواح تصير بعد مفارقة الأبدان إلى أجناس الحيوان والحشرات والطيور التي (3) تناسبها وتشاكلها، فإذا فارقت هذه الأبدانَ انتقلت إلى أبدان تلك الحيوانات فتنعَّم فيها وتعذَّب، ثم تفارقها وتحلُّ في أبدان أُخَر [73 ب] تناسب أعمالها وأخلاقها؛ وهكذا أبدًا. فهذا معادُها عندهم ونعيمُها وعذابها، لا معادَ لها عندهم غيرُ ذلك. فهذا هو التناسخ الباطل المخالف لما اتفقت (4) عليه الرسل والأنبياء من أولهم إلى آخرهم، وهو كفر بالله وباليوم (5) الآخر. وهذه الطائفة تقول: إنَّ مستقرَّ الأرواح بعد المفارقة أبدانُ الحيوانات التي تناسبها. وهو أبطلُ قولٍ وأخبثُه. ويليه قول من قال: إنَّ الأرواح تُعدَم جملةً بالموت، ولا تبقى هناك _________ (1) انظر في هذا المعنى أيضًا: الصواعق المرسلة (ص 438 ــ 441). (2) (ن): «تقوله». وأهمل نقطه في (أ، ق). (3) في (ب، ط، ن، ج) زيادة بعد «التي»: «كانت». (4) (ط): «أنفق». (5) (ب، ن): «واليوم».

(1/344)


روح تنعَّم ولا تعذَّب، بل النعيم والعذاب يقع على أجزاء الجسد أو على جزء منه: إمَّا عَجْبِ الذنَب (1) أو غيرِه؛ فيخلق الله فيه الألم واللذة، إما بواسطة ردِّ الحياة إليه كما قال (2) بعض أرباب هذا القول، أو بدون ردِّ الحياة كما قاله آخرون منهم. فهؤلاء (3) عندهم: لا عذابَ في البرزخ إلا على الجسد (4). ومقابلُهم (5) من يقول: إنَّ الروح لا تعاد إلى الجسد بوجهٍ ولا تتصل به، والعذابُ والنعيم على الروح فقط. والسُّنَّة الصريحة المتواترة (6) تردُّ قول هؤلاء وهؤلاء، وتبيِّن أن العذاب على الروح والجسد مجتمعين ومنفردين (7). فإن قيل: فقد (8) ذكرتم أقوال الناس في مستقرِّ الأرواح ومآخذهم، فما هو الراجح من هذه الأقوال حتى نعتقده (9)؟ قيل: الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت: _________ (1) (ب، ط، ن، ج): «عجم الذنب». (2) ما عدا (أ، غ): «قاله». (3) (ق): «وهؤلاء». (4) ما عدا (أ، غ): «الأجساد». (5) (ب، ط): «ومقابله». (6) «المتواترة» ساقط من (ن). (7) (ط): «متفرقين». (8) (ب، ط، ج): «قد». (9) (ط، ج): «يُعتقَد». (ن): «نعتقد».

(1/345)


فمنها أرواح في أعلى علِّيين في الملأ الأعلى. وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهم متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء. ومنها أرواح في حواصل طيرٍ خُضْرٍ تسرح في الجنَّة حيث شاءت. وهي (1) أرواح بعض الشهداء لا جميعهم، بل من الشهداء من تُحبَس روحه عن دخول الجنة لدَين عليه أو غيره، كما في المسند (2) عن محمد بن عبد الله بن جحش أنَّ رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ما لي إن قُتلت في سبيل الله؟ قال: «الجنة». فلما ولَّى قال: «إلا الدَّين، سارَّني به جبريلُ آنفًا» (3). ومنهم من يكون محبوسًا على باب الجنَّة، كما في الحديث الآخر [74 أ]: «رأيت صاحبكم محبوسًا على باب الجنَّة» (4). _________ (1) (ب، ط): «هم». (2) برقم (17253) (28/ 491) ورقم (19077) (31/ 430). (3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (17253) قال: ثنا محمد بن بشر، ثنا محمد بن عمرو، ثني أبو كثير مولى الليثيين، عن محمد بن عبد الله بن جحش. ومن هذا الوجه أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (12019) ومن طريقه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (930)، والطبراني في معجمه الكبير (19/ 247). وإسناده حسن لأجل محمد بن عمرو وهو ابن علقمة بن وقاص الليثي فإنه حسن الحديث. وله شواهد منها حديث أبي قتادة الأنصاريّ رضي الله عنه في صحيح مسلم (1885). (قالمي). (4) أخرجه الإمام أحمد (20124، 20157)، والحاكم (2/ 52) وغيرهما من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر الشعبي، عن سمرة بن جندب، بنحوه. وإسناده صحيح. (قالمي).

(1/346)


ومنهم من يكون محبوسًا في قبره، كحديث صاحب الشَّملة التي غلَّها ثم استُشهِد، فقال الناس: هنيئًا له الجنة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كلّا، والذي نفسي بيده، إنَّ الشملة التي غلَّها لَتشتعل عليه نارًا في قبره» (1). ومنهم من يكون مقرُّه بباب الجنة، كما في حديث ابن عباس: «الشهداء على بارقِ نهرٍ بباب الجنة، في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقُهم من الجنة بكرةً وعشية» رواه أحمد (2). وهذا بخلاف جعفر بن أبي طالب حيث أبدله الله مِن يديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء (3). _________ (1) تقدّم تخريجه في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 179). (2) تقدم تخريجه (ص 299). (3) أخرج الترمذي (3763)، وأبو يعلى الموصلي (6464)، والحاكم (3/ 209) من طريق عبد الله بن جعفر المديني، ثنا العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رأيت جعفر بن أبي طالب ملكاً يطير مع الملائكة بجناحين». وإسناده ضعيف لأجل عبد الله بن جعفر وهو والد علي بن المديني، وبه أعلّه الترمذي فقال: «هذا حديث غريب من حديث أبي هريرة لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن جعفر وقد ضعفه يحيى بن معين وغيره». ولذلك لما صحح إسناده الحاكم تعقبه الذهبي بقوله: «المديني واه». ولكن الحديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده، وتراها مخرّجة في السلسلة الصحيحة رقم (1226). كما يشهد له ما أخرجه البخاري في صحيحه (3709) عن الشعبي أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا سلّم على ابن جعفر قال: «السلام عليك يا ابن ذي الجناحين». (قالمي).

(1/347)


ومنهم من يكون محبوسًا في الأرض، لم تَعْلُ (1) روحُه إلى الملأ الأعلى، فإنها كانت روحًا سُفْلِيَّة أرضية؛ فإنَّ الأنفس الأرضية لا تُجامع الأنفسَ السماوية، كما لا تجامعها في الدنيا. والنفسُ التي لم تكتسب في الدنيا معرفة ربِّها ومحبتَه وذكرَه والأنسَ به والتقرُّب إليه، بل هي أرضية سفلية= لا تكون بعد المفارقة لبدنها إلّا هناك. كما أنَّ النفس العلوية التي كانت في الدنيا عاكفةً على محبةِ الله وذكرِه والتقربِ إليه والأنس (2) به تكون بعد المفارقة مع الأرواح العلوية المناسبة لها. فالمرء مع من أحبَّ في البرزخ ويوم القيامة (3). والله تعالى (4) يزوِّج النفوسَ بعضَها ببعض في البرزخ ويوم المعاد، كما تقدَّم (5) في الحديث: «ويجعل روحه ــ يعني المؤمن ــ مع النَّسَم الطيِّب». أي: الأرواحِ الطيِّبةِ المشاكلةِ لروحه. فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها وإخوانها (6) وأصحاب عملها، فتكون معهم هناك. ومنها أرواحٌ تكون في تنوُّر الزُّناة والزواني، وأرواحٌ في نهر الدم تَسْبح فيه، وتُلقَم الحجارة (7). _________ (1) ضبط هكذا في (ط، ن). وفي (ب): «يُعَدْ»، تصحيف. (2) «بل هي .. والأنس» ساقط من (ن). (3) انظر ما سبق في المسألة الثانية. (4) (ق): «فالله تعالى». (5) بعده في (ب، ط، ن، ج): «من قوله». وقد تقدم الحديث في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 156). (6) (ب، ط، ن، ج): «أخدانها». (7) كما في الحديث المتقدم في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 170).

(1/348)


فليس للأرواح ــ سعيدِها وشقيِّها (1) ــ مستقرٌّ واحد. بل روح في أعلى عليين، وروح أرضية سفلية لا تصعد عن الأرض، وأنت إذا تأملتَ السنن والآثار في هذا الباب، وكان لك بها فضلُ اعتناءٍ، عرفتَ صحة (2) ذلك. ولا تظنَّ أنَّ بين الآثار الصحيحة في هذا الباب تعارضًا، فإنَّها كلَّها حقٌّ يصدِّق بعضُها بعضًا (3)، لكن الشأن في فهمهما ومعرفةِ النفس وأحكامها، وأنَّ لها شأنًا (4) غيرَ شأن البدن، وأنَّها مع كونها في الجنَّة فهي في السماء، وتتصل بفناء القبر وبالبدن فيه، وهي أسرع شيء حركةً وانتقالاً وصعودًا وهبوطًا، وأنَّها تنقسم إلى مرسَلة ومحبوسة، وعلويّة وسفليّة. ولها بعد المفارقة صحّة ومرض، ولذّة ونعيم، وألم أعظم مما كان لها حال اتصالها بالبدن بكثير. فهنالك الحبس والألم والعذاب والمرض والحسرة، وهناك اللذة والراحة والنعيم والإطلاق. وما أشبهَ حالَها في هذا البدن بحال البدن (5) في بطن أمه، وحالَها بعد المفارقة بحاله بعد خروجه من البطن إلى هذه الدار! فلهذه الأنفس أربع دُورٍ (6) كلُّ دار أعظم من التي قبلها: _________ (1) (ب، ط): «شقيها وسعيدها». (2) (أ، ق، غ): «حجة»، ولعلها تصحيف. (3) انظر: مختصر الفتاوى المصرية (234). (4) (ق): «شأن»، وكذا كان في الأصل، فأصلحه بعضهم. (5) كذا في جميع النسخ. وفي بعض النسخ المطبوعة: «الولد». ولعله من تصرّف الناشرين. (6) (ب، ط، ن، ج): «أربعة دور».

(1/349)


الدار الأولى: في بطن الأمِّ، وذلك الحصَر والضِّيق والغمِّ، والظلمات الثلاث. الدار الثانية: هذه الدار التي نشأتْ فيها وأَلِفَتْها، واكتسبتْ فيها الخيرَ والشرَّ وأسبابَ السعادة والشقاوة. والدار الثالثة: دار البرزخ. وهي أوسعُ من هذه الدار وأعظم، بل نسبتها إليها كنسبة هذه الدار إلى الدار الأولى (1). الدار الرابعة (2): دار القرار. وهي الجنة أو النار، فلا دار بعدها. والله تعالى ينقلها في هذه الدور طَبَقًا بعد طَبَق، حتى يبلِّغها الدار التي لا يصلح لها غيرُها، ولا يليق بها سواها. وهي التي خُلِقتْ لها وهُيِّئت للعمل الموصل لها إليها. ولها في كلِّ دار من هذه الدور حكمٌ وشأن غير شأن الدار الأخرى. فتبارك الله فاطرُها ومنشيها، ومميتُها ومحييها، ومُسعدُها ومُشقيها، الذي (3) فاوَت بينها في درجات سعادتها وشقاوتها، كما فاوت بينها في مراتب علوِّها (4) وأعمالها وقواها وأخلاقها (5). فمن عَرَفها كما ينبغي شهِدَ أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، الذي له _________ (1) ما عدا (أ، غ): «إلى الأولى». (2) بعده في الأصل: «هي»، وكأنها زيدت فيما بعد في آخر السطر. وهي في (غ) في المتن. (3) (ب، ط، ق، ج): «التي» وكذا كان في الأصل ثم أصلح. (4) كذا في (أ، ق، غ). وفي غيرها: «علومها». (5) «وقواها وأخلاقها» ساقط من (ب، ج).

(1/350)


الملكُ كلُّه، وله الحمدُ كلُّه، وبيده الخيرُ كلُّه، وإليه يرجع الأمرُ كلُّه، وله القوة كلُّها، والقدرةُ كلُّها، والعزُّ كلُّه، والحكمةُ كلُّها، والكمالُ المطلقُ من جميع الوجوه؛ وعَرَف بمعرفة نفسه صدقَ أنبيائه ورسله، وأنَّ الذي جاؤوا به هو الحقُّ الذي تشهد به العقول، وتُقِرُّ به الفِطر؛ وما خالفه فهو الباطل. وبالله التوفيق.

(1/351)


فصل

 المسألة السادسة عشرة (1) وهي: هل تنتفع أرواح الموتى بشيء من سعي الأحياء أم لا؟

فالجواب: أنها تنتفعُ من سعي (2) الأحياء بأمرين مجمعٍ عليهما بين أهل السُّنَّة من الفقهاء وأهل الحديث والتفسير. أحدهما: ما تسبَّب إليه الميت في حياته. والثاني: دعاء المسلمين له واستغفارهم له والصدقة والحجُّ على نزاع (3): ما الذي يصل إليه من ثوابه: هل هو ثواب الإنفاق أو ثواب العمل؟ فعند الجمهور يصل ثواب العمل نفسِه، وعند بعض الحنفية إنما يصل ثوابُ الإنفاق (4). واختُلِفَ في العبادات البدنية، كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر. فمذهب الإمام أحمد وجمهور السلف وصولُها، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة (5). _________ (1) في (ق، ن): «عشر» بالتذكير. وفي (ق، ب، ج): «وأما» قبل «المسألة». (2) (أ، غ): «بسعي». (3) في (ن) زيادة: «فيه». (4) روي ذلك عن محمد بن الحسن. انظر: المبسوط للسرخسي (4/ 265، 283)، وبدائع الصنائع (2/ 212)، وشرح الطحاوية (458). (5) في مجموع الفتاوى (24/ 366): «وهذا مذهب أحمد وأبي حنيفة وطائفة من أصحاب مالك والشافعي». وهذا هو الصحيح. شرح الطحاوية (458).

(2/352)


نصَّ على هذا الإمام (1) أحمد في رواية محمد بن يحيى الكحَّال (2). قال: قيل لأبي عبد الله: الرجل يعمل الشيء من الخير، من صلاة أو صدقة أو غيرِ ذلك، فيجعل نصفه لأبيه أو لأمه؟ قال: أرجو. وقال: الميِّت يصل إليه كلّ شيء من صدقة أو غيرها (3). وقال أيضًا: اقرأ آية الكرسي ثلاث مرات، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، وقل: اللهم إنَّ فضلَه لأهل المقابر (4). والمشهور من مذهب الشافعي ومالكٍ أنَّ ذلك (5) لا يصل (6). وذهب بعضُ أهل البدع من أهل الكلام: أنه لا يصل إلى الميت شيء البتَّة، لا دعاء (7) ولا غيره (8). فالدليل على انتفاعه بما تسبَّب إليه في حياته ما رواه مسلمٌ في صحيحه (9) من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتفَع به، أو _________ (1) لم ترد كلمة «الإمام «في (ب، ط، ج). (2) (ب، ط، ج): «محمد بن الكحال». (3) انظر القولين في بدائع الفوائد (1477). (4) رواه محمد بن أحمد المَرْوَرُّوذي عن الإمام أحمد. انظر: طبقات الحنابلة (2/ 224). وفيه: « ... آية الكرسي وثلاث مرات {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ... ». (5) (ط): «ذاك كله». (6) انظر: مواهب الجليل (2/ 625)، والفروق للقرافي (3/ 990) وشرح صحيح مسلم للنووي (1/ 205). (7) «لا دعاء» ساقط من (ب، ج). وفي موضعه في (ن): «لا قرآن». (8) شرح صحيح مسلم للنووي (1/ 205). (9) برقم (1631).

(2/353)


[75 ب] ولدٍ صالحٍ يدعو له». فاستثناء هذه الثلاثِ من عمله يدلُّ على أنها منه، فإنه هو الذي تسبَّب إليها. وفي سنن ابن ماجه (1) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ ممَّا (2) يلحقُ المؤمنَ من عمله وحسناته بعد موته علمًا علَّمه ونَشَره، أو ولدًا صالحًا ترَكه، أو مصحفًا ورَّثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أكْراه (3)، أو صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقُه من بعد موته». _________ (1) برقم (242)، وأخرجه ابن خزيمة (2293)، والبيهقي في شعب الإيمان (3448). وفي سنده مرزوق بن أبي الهذيل الدمشقي تفرد به عن الزهري، وقد ضُعِّف فيه، قال ابن حبان في المجروحين (3/ 38): «ينفرد عن الزهري بالمناكير التي لا أصول لها من حديث الزهري، كان الغالب عليه سوء الحفظ فكثر وهمه، فهو فيما انفرد من الأخبار ساقط الاحتجاج به، وفيما وافق الثقات حجة إن شاء الله». وروي من حديث أنس أخرجه البزار في مسنده (7289)، وابن أبي داود في كتاب المصاحف (815)، والبيهقي في شعب الإيمان (3449) وفي سنده محمد بن عبيد الله بن أبي سليمان العَرْزَمِيّ وهو متروك كما في التقريب. ويغني عنهما حديث أبي هريرة في صحيح مسلم السابق؛ وفيه: «صدقة جارية» وهذا يعم كل وقف وصدقة تبقى منفعتها كبناء المساجد وحفر الآبار وبناء الدور للأيتام والمساكين وغير ذلك من أعمال البر ووجوه الصدقات الجارية؛ ولذا قال البيهقي عقب الحديثين المذكورين: «وهما لا يخالفان الحديث الصحيح فقد قال فيه إلا من صدقة جارية وهي تجمع ما قد جاء به من الزيادة». (قالمي). (2) في جميع النسخ: «إنما»، وصححه بعضهم في طرّة الأصل. (3) كذا «أكراه» في جميع النسخ. وفي سنن ابن ماجه: «أجراه». وفي صحيح ابن خزيمة: «كراه» أي حفره. ولم أصب في كتب اللغة «أكرى» بمعنى حفر. ولا يبعد أن يكون «أكراه» تصحيف «أجراه» وانظر ما يأتي في (ص 368).

(2/354)


وفي صحيح مسلم (1) أيضًا من حديث جرير (2) بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن سنَّ في الإسلام سُنَّة حسنةً فله أجرُها وأجرُ من عمل بها بعده، من غير أن ينقُصَ من أجورهم شيءٌ. ومن سنَّ في الإسلام سنَّةً سيئةً كان عليه وزرُها ووزرُ من عَمِل بها من بعده (3)، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء». وهذا المعنى رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عدّة وجوهٍ صِحاح وحِسان. وفي المسند (4) عن حذيفة قال: سأل رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمسك القوم. ثم إنَّ رجلاً أعطاه، فأعطى القوم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من سنَّ خيرًا فاستُنَّ به كان له أجرُه ومِن أجورِ من يتبَعه (5) غيرَ منتقصٍ من أجورهم شيئًا، ومن سنَّ شرًّا فاستُنَّ به كان عليه وزرُه ومن أوزار من يتبَعه غيرَ منتقصٍ من أوزارهم شيئًا». وقد دلَّ على هذا قولُه - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُقْتَلُ نفسٌ ظلمًا إلا كان على ابن آدم _________ (1) برقم (1017). (2) (أ، غ): «جابر»، ولعله سهو من الناسخ. (3) ما عدا (أ، غ): «عمل بها بعده». (4) برقم (23289)، والبزار (2963)، والطحاوي في مشكل الآثار (1542)، والحاكم (2/ 516) وصحّح إسناده. وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 167): «رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح إلا أبا عبيدة بن حذيفة وقد وثقه ابن حبان». قلت: ووثقه أيضًا العجلي في كتابه الثقات (2199) فقال: «كوفي تابعي ثقة». (قالمي). (5) كذا في (أ، ق، غ)، والمسند هنا وفيما يأتي. وفي النسخ الأخرى: «تبعه».

(2/355)


الأول كِفْلٌ من دمها؛ لأنه أولُ من سنَّ القتلَ» (1). فإذا كان هذا في العدل (2) والعقاب، ففي الفضل والثواب أولى وأحرى. فصل والدليل على انتفاعه بغير ما تسبَّب فيه: القرآنُ، والسُّنَّة، والإجماعُ، وقواعد الشرع. أما القرآن، فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ [76 أ] رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]، فأثنى الله سبحانه عليهم باستغفارهم للمؤمنين قبلَهم، فدلَّ (3) على انتفاعهم باستغفار الأحياء. وقد يمكن أن يقال: إنَّما انتفعوا باستغفارهم لأنهم سَنُّوا لهم الإيمان بسبقهم إليه، فلما اتَّبعوهم فيه كانوا كالمتسبِّبين (4) في حصوله لهم. لكن قد دلَّ على انتفاع الميِّت بالدعاء إجماعُ الأمة على الدعاء له في صلاة الجنازة. وفي «السنن» (5) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا صلَّيتم على الميت فأخلِصُوا له الدعاء». _________ (1) من حديث عبد الله بن مسعود. أخرجه البخاري (3335)، ومسلم (1677). (2) في (غ) والنسخ المطبوعة: «العذاب» وهو تحريف. (3) (ب، ط): «فيدلّ». (4) (ق، غ): «كالمستنين». تصحيف. وفي الأصل: «كالمسببين» ولعله مغيّر. (5) أخرجه أبو داود (3199) وابن ماجه (1497) وابن حبان (3077) وإسناده حسن لأجل ابن إسحاق، وقد صرّح بالتحديث عند ابن حبان. (قالمي)

(2/356)


وفي «صحيح مسلم» (1) من حديث عوف بن مالك قال: صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة، فحفظتُ من دعائه وهو يقول: «اللهم اغفِرْ له وارحَمْه، وعافِه واعفُ عنه، وأكرِمْ نُزُلَه، ووَسِّع (2) مُدْخَله، واغسِلْه بالماء والثلج والبرد، ونقِّه من الخطايا كما نَقَّيْتَ الثوب الأبيض من الدنس. وأبدِلْه دارًا خيرًا من داره، وأهلاً خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه. وأدْخِلْه الجنّة، وأَعِذْه من عذاب القبر ومن عذاب النار». وفي «السنن» (3) عن واثلة بن الأسقع قال: صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رجل من المسلمين، فسمعته يقول: «اللهم إنَّ فلان بن فلان في ذمِّتك وحَبْلِ جوارك (4)، فقِهِ من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهلُ الوفاء والحقِّ، فاغفِرْ له وارحَمْه، إنَّك أنت الغفور الرحيم». وهذا كثير في الأحاديث، بل هو المقصود بالصلاة على الميت، وكذلك الدعاء له (5) بعد الدفن. _________ (1) برقم (963). (2) (ق، ن، غ): «أوسع». (3) أخرجه أبو داود (3202)، وابن ماجه (1499)، والإمام أحمد (16018) وابن حبان (3074) من طريق الوليد بن مسلم، حدثنا مروان بن جناح، حدثني يونس بن ميسرة بن حَلْبَسٍ، عن واثلة ابن الأسْقع فذكره. وإسناده حسن من أجل مروان بن جناح الدمشقي، فإنه لا بأس به، كما في التقريب، والوليد بن مسلم مدلس غير أنه صرَّح بالتحديث. (قالمي) (4) تحرَّف فيما عدا (ط، ج) إلى «وحيك وجوارك». (أ، غ): و «حبك وجوارك» (ق) ونحوه. (5) «له» ساقط من (ب، ن، ج).

(2/357)


وفي «السنن» (1) من حديث عثمان بن عفان قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فَرَغ من دفن الميت وقف عليه فقال: «استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيتَ، فإنه الآن يُسأل». وكذلك الدعاء لهم عند زيارة قبورهم، كما في صحيح مسلم (2) من حديث بُرَيْدة بن الحُصَيْب قال: كان [76 ب] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلِّمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: «السلام عليكم أهلَ الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية». وفي «صحيح مسلم» (3) أنَّ عائشة رضي الله عنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف تقولُ إذا استغفرَتْ لأهل القبور؟ قال: «قولي: السلامُ على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم (4) الله المستقدِمين منَّا والمستأخِرين، وإنَّا إن شاء الله بكم (5) للاحقون». وفي «صحيحه» (6) عنها أيضًا أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج في ليلتها من آخر الليل إلى البقيع، فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدًا مؤجَّلون (7)، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع _________ (1) سبق تخريجه في (ص 33). (2) برقم (975)، وقد تقدَّم هذا وما بعده في المسألة الأولى (ص 8، 17). (3) برقم (974). (4) (أ، غ): «ورحم». وقد سقطت هذه الجملة من (ب). (5) «بكم» ساقطة من الأصل. (6) برقم (974). (7) (ب): «ترحلون»، تحريف. والجملة «وأتاكم» إلى هنا ساقطة من (ن).

(2/358)


الغرقد». ودعاءُ النبي - صلى الله عليه وسلم - للأموات فعلًا وتعليمًا، ودعاءُ الصحابة والتابعين والمسلمين عصرًا بعد عصرٍ أكثرُ من أن يُذكَر، وأشهرُ من أن يُنْكر. وقد جاء أنَّ الله يرفع درجةَ العبد في الجنة، فيقول: أنَّى لي هذا؟ فيقال: بدعاء ولدك لك (1). فصل وأما وصولُ ثواب الصدقة، ففي «الصحيحين» (2) عن عائشة أنَّ رجلًا أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنَّ أمِّي افْتُلِتَتْ نفسُها ولم تُوصِ، وأظنُّها لو تكلَّمتْ تصدَّقَتْ، أفَلَها أجرٌ إنْ تصدَّقْتُ عنها؟ قال: «نعم». وفي «صحيح البخاري» (3) عن عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّ سعد بن عُبادة تُوفِّيت أمُّه وهو غائب عنها، فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، إنَّ أمِّي تُوُفِّيتْ وأنا غائب عنها، فهل ينفعُها إن تصدَّقتُ عنها؟ قال: «نعم». قال: فإنِّي أُشْهِدُك أنَّ حائطي «المِخْراف» صدقة عنها. _________ (1) أخرجه البزار (9024)، والطبراني في الدعاء (1249)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 78) من طريق عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه ابن ماجه (3660)، والإمام أحمد (10610) من هذا الوجه بلفظ: «باستغفار ولدك لك». وإسناده حسن لأجل عاصم بن بهدلة، وأبو صالح هو ذكوان السمان. (قالمي). (2) البخاري (1388)، ومسلم (1004). (3) برقم (2756).

(2/359)


وفي «صحيح مسلم» (1) عن أبي هريرة أنَّ رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ أبي مات، وترك مالاً، ولم يوص؛ فهل يكفي (2) عنه أن أتصدَّق (3) عنه؟ قال: «نعم». وفي «السنن» [77 أ] و «مسند أحمد» (4)، عن سعد بن عبادة أنَّه قال: يا رسول الله، إنَّ أمَّ سعدٍ ماتت، فأيُّ الصدقة أفضل؟ قال: «الماء». فحفَر بئرًا، وقال: هذه لأمِّ سعد. _________ (1) برقم (1630). (2) في المتن المطبوع مع شرح النووي (6/ 92): «يكفِّر». (3) (ب، ط): «إن تصدقت». (4) أخرجه الإمام أحمد برقم (22459)، والنسائي (3668) من طريق حجاج، عن شعبة، عن قتادة، قال: سمعت الحسن يحدث عن سعد بن عبادة. والحسن لم يدرك سعد بن عبادة رضي الله عنه؛ لأن سعدًا مات في خلافة عمر سنة خمس وعشرين بالشام. وأخرجه أبو داود (1680)، وابن خزيمة (2496)، والحاكم (1/ 414) من طريق محمد بن عرعرة عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب والحسن. كلاهما عن سعد بن عبادة دون القصة. وأخرجه ابن خزيمة (2498) وعنه ابن حبان (3348) من طريق هشام (هو ابن عبد الله الدستوائي) عن قتادة به. وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين»، فتعقبه الذهبي بقوله: «لا فإنه غير متصل» وهو كذلك؛ لأن سعيد بن المسيب لم يسمع من سعد أيضًا؛ لأنه ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل: لأربع سنين. كما في ترجمته في تهذيب الكمال (11/ 67). ولذلك لم يجزم ابن خزيمة بصحته، فترجم له بقوله: «باب فضل سقي الماء إن صحَّ الخبر». لكن له شاهد يتقوَّى به وهو ما أخرجه الطبراني في الأوسط (8061) عن أنس رضي الله عنه أنّ سعدًا أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنّ أمِّي توفيت ولم تُوص، أفينفعها أن أتصدّق عنها؟ قال: «نعم، وعليك بالماء». قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 138): «رجاله رجال الصحيح». (قالمي).

(2/360)


وعن عبد الله بن عمرو، أنَّ العاصَ بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدَنة، وأنَّ هشام بن العاص نحر حِصَّته خمسين، وأنَّ عمرًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: «أما أبوك، فلو أقرَّ بالتوحيد فصُمْتَ وتصدَّقتَ عنه نَفَعه ذلك». رواه الإمام أحمد (1). فصل وأمَّا وصولُ ثواب الصوم، ففي «الصحيحين» (2) عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليُّه». وفي «الصحيحين» (3) أيضًا عن ابن عبَّاس قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، إنَّ أمِّي ماتت، وعليها صومُ شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: «نعم، فدَيْن الله أحقُّ أن يُقْضَى». وفي رواية: جاءت امرأة إلى النبي (4) - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إنَّ أمي ماتت، وعليها صوم نذر، أفأصوم (5) عنها؟ قال: «أفرأيتِ لو كان على أمِّكِ دينٌ، فقضَيته، أكان يؤدي ذلك (6) عنها؟» قالت: نعم، قال: «فصومي عن _________ (1) في المسند برقم (6704)، وابن أبي شيبة (12078) من رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وأخرجه أبو داود من وجه آخر عن عمرو بن شعيب، بنحوه، وإسناده حسن. (قالمي). (2) البخاري (1952)، ومسلم (1147). (3) البخاري (1953)، ومسلم (1148 ــ 155). (4) ما عدا (أ، غ): «رسول الله». (5) (ط): «أفأقضيه». (6) (ب، ط، ن، ج): «ذلك يؤدي».

(2/361)


أمِّكِ». وهذا اللفظُ للبخاريِّ وحده تعليقًا (1). وعن بُرَيدة قال: بينَا أنا جالس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ أتته امرأةٌ فقالت: إنِّي تصدَّقتُ على أمِّي بجارية، وإنِّها ماتت. فقال: «وجَبَ أجرُكِ، ورَدَّها عليك الميراثُ». قالت: يا رسول الله، إنه كان عليها صومُ شهرٍ، أفأصوم عنها؟ قال: «صومي عنها». قالت: إنِّها لم تحُجَّ قطُّ، أفأحُجُّ عنها؟ قال: «حُجِّي عنها». رواه مسلم (2). وفي لفظ: صوم شهرين (3). وعن ابن عباس أنَّ امرأة ركبت البحر، فنذرتْ إن نجَّاها الله (4) أن تصوم شهرًا (5). فنجَّاها الله، فلم تصم حتى ماتت. فجاءت بنتُها أو أختها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمرها أن تصوم عنها. رواه أهل السنن والإمام أحمد (6). وكذلك رُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - وصولُ ثوابِ بدلِ الصوم، وهو الإطعام. ففي السنن عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من مات وعليه صيامُ شهر، فلْيُطعَمْ عنه لكلِّ يومٍ مسكينٌ». رواه الترمذي، وابن ماجه. قال الترمذي: ولا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، والصحيح عن ابن عمر قولُه موقوفًا (7). _________ (1) بل هذا اللفظ في صحيح مسلم (1148 ــ 156). (2) برقم (1149 ــ 157). (3) صحيح مسلم (1149 ــ 158). (4) كذا في (أ، غ). وهو لفظ أبي داود. وفي غيرهما: «إن الله نجّاها». (5) (ب، ط): «شهرها». (6) في المسند برقم (1861)، وأخرجه أبو داود (3308)، والبيهقي في الكبرى (4/ 256) وإسناده صحيح. (7) أخرجه الترمذي (718)، وابن ماجه (1757)، وابن خزيمة (2056)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 254) من طريق أشعث، عن محمد، عن نافع، عن ابن عمر. وفي إسناده أشعث هو ابن سوّار الكندي وهو ضعيف كما في التقريب. ومحمد جاء مهملاً ونُسب في ابن ماجه «ابن سيرين». قال المزيّ في التحفة (6/ 227): «وهو وهمٌ». والصواب ما قاله الترمذي: «هو عندي ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى» ويؤيده أن شريكًا القاضي رواه عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن نافع، به، بنحوه. أخرجه البيهقيّ، وكذا ابن خزيمة (2057) إلا أنه قال: «ابن أبي ليلى» وهذه علة أخرى؛ لأن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وإن كان صدوقًا فهو سيئ الحفظ جدًا، كما في التقريب. ولذلك قال ابن خزيمة: «إن ثبت الخبر، فإن في القلب من هذا الإسناد». وثمّة علة ثالثة وهي مخالفته لأصحاب نافع الثقات، فقد رووه عنه من قول ابن عمر موقوفًا، كما أشار إلى ذلك الترمذي ونقله عنه المصنف رحمه الله. والموقوف خرّجه البيهقي (4/ 254) ثم قال: «هذا هو الصحيح موقوف على ابن عمر، وقد رواه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن نافع فأخطأ فيه». ثم ساق روايته السابقة. وسيأتي قول المصنف رحمه الله بأن المرفوع باطل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (قالمي)

(2/362)


وفي «سنن أبي داود» (1) عن ابن عبَّاس قال: إذا مرض الرجل في رمضان ولم يصُمْ أُطعِمَ عنه، ولم يكن عليه قضاء. وإن نذر قضَى عنه وليُّه. فصل وأما وصول (2) ثواب الحج، ففي «صحيح البخاري» (3) عن ابن عباس أنَّ امرأةً من جُهَينة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: إنَّ أمي نذرت أن تحُجَّ، فلم تحُجَّ حتى ماتت. أفأحُجُّ عنها؟ قال: «حُجِّي عنها. أرأيتِ لو كان على أمِّك _________ (1) برقم (2401). (2) «وصول» ساقط من (ب، ن، ج). (3) برقم (1852).

(2/363)


دَين، أكنتِ قاضِيَتَه؟ اقضوا الله (1) فالله أحقُّ بالقضاء». وقد تقدَّم (2) حديث بريدة، وفيه: إنَّ أمِّي لم تحجَّ قطُّ، أفأحجُّ عنها؟ قال: «حُجِّي عنها». وعن ابن عباس قال: إنَّ امرأةَ سِنان بن سلَمة الجُهَني سألتْ (3) رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أمَّها (4) ماتت ولم تحجَّ، أفيجزئ أن أحجَّ عنها؟ (5) قال: «نعم لو كان على أمِّها دَين، فقضَتْه عنها، ألم يكن يُجزئ عنها؟». رواه النسائي (6). وروى (7) أيضًا عن ابن عباس أنَّ امرأةً سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبيها (8) مات ولم يحجَّ. قال: «حُجِّي عن أبيك». وروى (9) أيضًا عنه قال: قال رجل: يا نبيَّ الله، إنَّ أبي مات ولم يحجَّ، أفأحجُّ عنه؟ قال: «أرأيتَ لو كان على أبيك دَين، أكنتَ قاضيَه (10)». قال: نعم. قال: _________ (1) (ن): «حق الله». (2) في الفصل السابق. (3) (ب، ط، ن): «أرسلت نسأل». (4) (ب، ط، ج): «أمي». (5) (ق): «تحج عنها». (ب، ط، ن، ج): «ابنتها أن تحجَّ عنها» (6) برقم (2632) بهذا السياق، وزاد: «ألم يكن يجزئ عنها؟ فلتحجَّ عن أمِّها». وأخرجه الإمام أحمد (2518) مطوَّلاً وفي أوله قصة. وإسناده صحيح. (قالمي) (7) برقم (2633) بإسناد صحيح. (قالمي) (8) في (ق، ن) هنا وفيما يأتي: «ابنها ... ابنك»، تصحيف. (9) برقم (2638) بإسناد صحيح. وصححه ابن حبان (3992) من وجه آخر عن ابن عباس. (قالمي) (10) بعده في (ق): «وصيته».

(2/364)


«فديَن الله أحقُّ». وأجمع المسلمون على أنَّ قضاء الدَّين يُسقِطه من ذمته، ولو كان من أجنبي، أو من غير تَرِكته. وقد دلَّ عليه حديث أبي قتادة، حيث ضمن الدينارين عن الميت، فلمَّا قضاهما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الآن بردتْ عليه (1) جِلدتُه» (2). وأجمعوا على أنَّ الحيَّ إذا كان له قِبَل الميِّت (3) حقٌّ من الحقوق، فأحلَّه منه= أنَّه ينفعه، ويبرأُ منه (4)، كما يسقط من ذمة الحي. فإذا سقط من ذمّة الحي بالنصِّ والإجماع، مع إمكان أدائه له بنفسه، ولو لم يرضَ به (5)، بل ردَّه= فسقوطه من ذمة الميِّت بالإبراء حيث لا يتمكن من أدائه أولى وأحرى. وإذا انتفع بالإبراء والإسقاط فكذلك ينتفعُ بالهبة والإهداء. ولا فرق (6) _________ (1) «عليه» ساقط من (ط). (2) أخرجه الإمام أحمد (14536)، وأبو داود الطيالسي (1778)، والحاكم (2/ 58) من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر. وهذا إسناد حسن لحال ابن عقيل. وصحَّح الحاكم إسناده. وأخرجه الإمام أحمد أيضًا (14159)، وأبو داود (3343)، والنسائي (1961)، وابن حبان (3064) من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر، نحوه مختصرًا، وليس فيه قوله: «الآن بردت عليه جلدته». وإسناده صحيح. (قالمي) (3) (ق): «على الميت». (4) (ن): «وتبرأ ذمّته». وفي الأصل: «وتبرأ من ذمة الحيّ»، فكأن العبارة «منه كما يسقط» ساقطة منها. (5) «به» ساقطة من الأصل. (6) (ب، ط): «فلا فرق».

(2/365)


بينهما، فإنَّ ثواب [78 أ] العمل حقٌّ للمُهْدي (1) الواهب، فإذا جعله للميِّت انتقل إليه. كما أنَّ ما على الميِّت من الحقوق ــ من الدَّين وغيره ــ هو محضُ حقِّ الحيِّ، فإذا أبرأه وصل الإبراء إليه، وسقط من ذمته، فكلاهما (2) حقٌّ للحيّ (3)، فأيُّ نصٍّ أو قياس أو قاعدةٍ من قواعد الشرع يوجب وصول أحدهما، ويمنع (4) وصول الآخر؟ وهذه النصوص متظاهرةٌ (5) على وصول ثواب الأعمال إلى الميِّت إذا فعلها الحيُّ عنه. وهذا محض القياس، فإنَّ الثواب حقٌّ للعامل، فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يُمنَع من ذلك، كما لم يُمنْعَ من هبة ماله في حياته له وإبرائه له منه بعد موته. وقد نبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - بوصول ثواب الصوم الذي هو مجرَّد تركٍ ونية تقوم (6) بالقلب، لا يطَّلع عليه إلا الله، وليس بعمل الجوارح (7) = على (8) _________ (1) (ق): «المهدي». (2) (ق): «وكلاهما». (3) «فإذا أبرأه ... للحي» ساقط من (أ، ط). (4) (أ، ن، غ): «ومنعَ». (5) (ط): «متظافرة». (6) (أ، غ): «تقرّب». (7) (ب، ط، ن، ج): «للجوارح». (8) كذا النص على الصواب في (ج). وفي (أ، ق، ن): «وعلى». والواو زائدة. وفي (غ): «وعلى ذلك». وفي (ب، ط): «دلّ ذلك على». ولعله إصلاح من الناسخين. والسياق: «وقد نبّه النبي - صلى الله عليه وسلم - بوصول ثواب الصوم على وصول ثواب القراءة بطريق الأولى». انظر تلخيص ابن أبي العزّ لكلام ابن القيم في شرح الطحاوية (461).

(2/366)


وصولِ ثواب القراءة التي هي عملٌ باللسان تسمعه الأذن وتراه العين بطريق الأَوْلى. يُوضِّحه أنَّ الصومَ نيةٌ محضة وكفٌّ للنفس عن المفطِرات، وقد أوصل الله ثوابه إلى الميت، فكيف بالقراءة التي هي عملٌ ونية، بل لا تفتقرُ إلى النية! فوصول ثواب الصوم (1) إلى الميِّت، فيه تنبيهٌ على وصول سائر الأعمال. والعبادات قسمان: مالية، وبدنية. وقد نبَّهَ الشارعُ بوصول ثواب (2) الصدقة على وصول ثواب سائر العبادات المالية. ونبَّه بوصول ثواب الصوم على وصول ثواب سائر العبادات البدنية (3). وأخبر (4) بوصول ثواب الحجِّ المركَّبِ من المالية والبدنية. فالأنواع (5) الثلاثة ثابتة بالنصِّ والاعتبار، وبالله التوفيق. قال المانعون من الوصول: قال الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]. وقال: {وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: 54]. وقال: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]. وقد ثبَتَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا مات العبد انقطع عمله إلا من _________ (1) في الأصل: «الصدقة»، وهو سهو. (2) (ب، ج): «الشارع بثواب». (3) «ونبه ... البدنية» ساقط من (ن). (4) (أ، غ): «فأخبر». (5) ما عدا (أ، ق، غ): «والأنواع».

(2/367)


ثلاث: صدقة (1) جارية عليه، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده» (2). فأخبر أنه إنما ينتفع بما كان تسبب إليه في الحياة، وما لم يكن قد [78 ب] تسبَّب إليه فهو منقطع عنه. وأيضًا فحديث أبي هريرة المتقدِّمُ، وهو قوله: «إنَّ مما (3) يلحقُ الميتَ من عمله وحسناته بعد موته علمًا نشرَه» الحديث (4)، يدلُّ على أنه إنما ينتفع بما كان قد تسبَّب فيه. وكذلك (5) حديث أنسٍ يرفعُه: «سبعٌ يجرى على العبد أجرُهن (6)، وهو في قبره بعد موته: من علَّم علمًا، أو أَكْرى (7) نهرًا، أو حفَرَ بئرًا، أو غرس نخلًا، أو بنى مسجدًا، أو ورَّث مصحفًا، أو ترك ولدًا صالحًا يستغفر (8) له بعد موته» (9). وهذا يدلُّ على أن ما عدا ذلك لا يحصل له منه ثواب وإلَّا لم يكن _________ (1) ضبط في (ط) بالرفع، وفي (ق) بالجرّ. وكلاهما صحيح. (2) سبق تخريجه في أول المسألة. (3) ما عدا (أ، غ): «إنّ ما». (4) سبق تخريجه في هذه المسألة. (5) «كذلك» لم يرد في (ب، ط، ج). (6) (ب، ط، ج): «أجرها». (7) (ب): «كرى». وكذا في مسند البزَّار (7289). وفي الحلية (2/ 344): «أجرى». وفي النسخ الأخرى: «أكرى». وكذا في البدر المنير (7/ 102). ولم تثبت كتب اللغة «أكرى» بمعنى كرى أي حفر. وانظر ما سبق في (ص 354). (8) (ق): «فيستغفر». (9) مضى تخريجه مع حديث أبي هريرة.

(2/368)


للحصر (1) معنى. قالوا: والإهداء حَوالة، والحوالة إنما تكون بحقٍّ لازم. والأعمالُ لا توجب الثوابَ، وإنما هو مجرَّد تفضُّل الله وإحسانه. فكيف يحيلُ العبد على مجرَّد الفضل الذي لا يجب على الله، بل إن شاء آتاه، وإن شاء لم يؤتِه. وهو نظير حَوالة الفقير على مَن يرجو أن يتصدَّق عليه، ومثل هذا لا يصح إهداؤه وهِبته، كصلةٍ تُرجى من ملِك لا يتحقَّق حصولها. قالوا: وأيضًا فالإيثار (2) بأسباب الثواب مكروهٌ، وهو الإيثار بالقُرَب، فكيف الإيثار بنفس الثواب الذي هو غاية! فإذا كُرِه الإيثار بالوسيلة، فالغايةُ أولى وأحرى. ولذلك كره الإمام أحمد التأخُّرَ عن الصفِّ الأوَّل، وإيثارَ الغير به، لِمَا فيه من الرغبة عن سبب الثواب. قال (3) أحمد في رواية حنبل، وقد سُئل عن الرجل يتأخَّرُ عن الصفِّ الأوَّل، ويقدِّمُ أباه في موضعه (4). قال: ما يعجبني، هو يقدرُ أن يبَرَّ أباه بغير هذا (5). قالوا: وأيضًا: لو ساغ الإهداء إلى الميِّت لساغ نقلُ الثواب والإهداءُ إلى الحي. وأيضًا لو ساغ ذلك لساغ إهداءُ نصفِ الثواب ورُبعِه وقيراطٍ منه. _________ (1) (ب): «للخير»، تحريف. (2) (ب، ط): «فالإيراث»، تحريف. (3) (ق): «قال الإمام». (4) «في موضعه» ساقط من (ن). (5) ذكره الشيخ مجد الدين في المحرر (1/ 211) من مسائل أبي الفرج بن الصباح البُرزاطي.

(2/369)


وأيضًا: لو ساغ ذلك لساغ إهداؤه بعد أن يعمله لنفسه. وقد قلتم: إنه لابدَّ أن ينويَ حالَ الفعل إهداءه (1) إلى الميت وإلّا لم يصل إليه، فإذا ساغ له نقلُ الثواب، فأيُّ فرق بين أن ينويَ قبل الفعل أو بعده؟ وأيضًا: لو ساغ الإهداءُ لساغ إهداءُ [79 أ] ثواب (2) الواجبات على الحيِّ، كما يسوغ إهداءُ ثواب التطوُّعات التي يتطوَّع بها. قالوا: وإنَّ التكاليف امتحانٌ وابتلاء، لا تقبل البدل، فإنَّ المقصود منها عينُ المكلَّف العامل المأمور المنهيِّ، فلا يبدَّل المكلَّفُ الممتحَنُ بغيره. ولا ينوب غيره عنه (3) في ذلك، إذ المقصود طاعتُه هو نفسه وعبوديته. ولو كان ينتفع بإهداء غيره له من غير عمل منه (4) لكان أكرمُ الأكرمين أولى بذلك، وقد حكم سبحانه أنه لا ينتفعُ إلا بسعيه. وهذه سنَّتُه تعالى في خلقه وقضائه، كما هي سنته في أمره وشرعه. فإن المريض لا ينوب عنه غيرُه في شرب الدواء، والجائع والظمآن والعاري لا ينوب عنه غيرُه في الأكل والشرب واللباس. قالوا: ولو نفعه عملُ غيره لنفعه توبتُه عنه (5). قالوا: ولهذا لا يقبل الله إسلام أحد عن أحد، ولا صلاتَه عن صلاته (6). فإذا كان رأسُ العبادات لا يصحُّ إهداء ثوابه، فكيف فروعها؟ _________ (1) في (أ، ق): «إهداؤه» بالواو، فيكون «يُنوى» مبنيًا للمجهول. (2) زاد بعده في (ط): «هذه». (3) (ط): «عنه غيره». (4) (أ، ق، غ): «سنّة». وفي (ن): «عمله». (5) «وأيضًا لو ساغ الإهداء لساغ ... توبته عنه» ساقط من (ب، ج). (6) ما عدا (أ، ق، غ): «ولا صلاته عنه».

(2/370)


قالوا: وأما الدعاءُ، فهو سؤالٌ ورغبة إلى الله أن يتفضَّل على الميت (1)، ويسامَحه، ويعفوَ عنه. وهذا غيرُ إهداء ثواب عمل الحي إليه. قال المقتَصِرون على وصول العبادات التي يدخلها (2) النيابة كالصدقة والحج: العبادات نوعان: نوع لا يدخله النيابة بحال كالإسلام، والصلاة، وقراءة القرآن، والصيام. فهذا النوع يختص ثوابه بفاعله، لا يتعدَّاه، ولا يُنقل عنه؛ كما أنه في الحياة لا يفعله أحدٌ عن أحد، ولا ينوب فيه عن فاعله غيرُه. ونوعٌ يدخله النيابة كردِّ الودائع، وأداء الديون، وإخراج الصدقة، والحجِّ. فهذا يصل ثوابه إلى الميت؛ لأنه يقبل النيابة، ويفعلُه العبد عن غيره في حياته، فبعد موته بطريق الأولى والأحرى. قالوا: وأما حديث «من مات وعليه صيام صامَ عنه وليُّه». فجوابه من وجوه: أحدها: ما قاله مالكٌ (3) في موطئه. قال: لا يصومُ أحد عن أحد. قال: وهو أمر مجتمَع (4) عليه عندنا، لا خلافَ فيه (5). الثاني: أنَّ ابن عبَّاس هو الذي روى حديثَ الصوم عن الميت. وقد روى عنه النَّسائي: أبنا محمد بن عبد الأعلى، ثنا يزيد بن زُريع، ثنا حجَّاج _________ (1) في الأصل: «عن الميت» تحريف. (2) (ب، ط، ق): «تدخلها». وكذا فيما بعد: «تدخله». (3) (ق): «الإمام مالك». (4) ما عدا (أ، ق، غ): «مجمَع». والمثبت موافق لما في الاستذكار. (5) كذا في الاستذكار (3/ 339) ولم أجده بهذا اللفظ في الموطأ، ولكن انظر نحوه في رواية أبي مصعب (1/ 322) والقعنبي (342).

(2/371)


الأحول، ثنا أيوب بن موسى، عن عطاء بن أبي ربَاح، عن ابن عبَّاس قال [79 ب]: لا يصلِّي أحد عن أحدٍ، ولا يصوم أحدٌ عن أحدٍ (1). الثالث: أنه حديث اختُلف في إسناده. هكذا قال صاحب المفهِم في شرح مسلم (2). الرابع: أنه معارَض بنصّ القرآن كما تقدَّم من قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]. الخامس: أنه معارَض بما رواه النسائي عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يصلي أحدٌ عن أحدٍ ولا يصوم أحدٌ عن أحدٍ، ولكن يطعَمُ عنه مكان كلِّ يوم مدًّا من حنطة» (3). السادس: أنه معارَض بحديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَن مات وعليه صومُ رمضان يُطعَم عنه» (4). السابع: (5) أنه معارَض بالقياس الجليِّ على الصلاة والإسلام والتوبة، فإن أحدًا لا يفعلها عن أحد (6). _________ (1) أخرجه النسائي في الكبرى (2930). وانظر: التمهيد (9/ 27). (2) وهو أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي (ت 656) وانظر: المفهم (3/ 209). (3) هذا الوجه أيضًا من قول صاحب المفهم. وسيأتي في الردّ عليه أن النسائي إنما رواه في الكبرى موقوفًا على ابن عباس، كما سبق في الوجه الثاني. وقد عزا المرفوع إلى النسائي قبل صاحب المفهم: القاضي عياض في إكمال المعلم (4/ 104). (4) تقدم قريبًا. (5) أسقط ناسخ (ن) الوجه السادس بتمامه، فجعل السابع سادسًا. (6) في (ب، ج): «السابع: قال الشافعي ... » فسقط الوجه السابع منهما.

(2/372)


قال الشافعيُّ (1) فيما تكلَّم به على خَبَر ابن عباس (2): لم يسمِّ ابنُ عبَّاس ما كان نذرُ (3) أمِّ سعد، فاحتمل أن يكون نذرَ حجِّ أو عمرة أو صدقة، فأمره بقضائه عنها. فأما من نَذَر صلاةً، أو صيامًا، ثمَّ مات، فإنَّه يكفَّر عنه في الصوم، ولا يصامُ عنه؛ ولا يصلَّى عنه، ولا يكفَّر عنه في الصلاة. ثم قال: فإن قيل: فرُوِي أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أمَر أحدًا أن يصوم (4) عن أحد؟ قيل: نعم، روَى ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (5). فإن قيل: فلِمَ لا تأخذ به؟ قيل: حديث الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نذرًا»، ولم يسمّه، مع حفظ الزهري وطولِ مجالسة عبيد الله لابن عباس. فلما جاء غيره عن رجل، عن ابن عباس بغيرِ (6) ما (7) في حديث عبيد الله أشبَهَ أن لا يكون محفوظًا. _________ (1) زاد في (ق): «الإمام رحمه الله تعالى». (2) يعني ما أخرجه مالك في الموطأ (1007) والبخاري (2761) ومسلم (1638) أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أمي ماتت وعليها نذر. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اقضه عنها» وسيأتي. (3) الضبط من (أ، ط). (4) (ب، ط، ج): «يصلي». (5) يشير إلى حديث مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قالت: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر ... الحديث، أخرجه الشيخان، وقد سبق في فصل وصول ثواب الصوم. (6) في جميع النسخ: «يعني»، وهو تصحيف محيل للمعنى. وصوابه ما أثبتنا من المصادر. (7) بعدها في (ب، ط) زيادة: «جاء».

(2/373)


إن قيل: فتعرفُ الرجل الذي جاء بهذا الحديث يغلَطُ (1) عن ابن عباس؟ قيل: نعم روى أصحاب ابن عباس عن ابن عباس أنَّه قال لابن الزبير: إنَّ الزبير حلَّ من متعة الحج، فروى هذا عن ابن عباس أنَّها متعةُ النساء، وهذا غلطٌ فاحش (2). فهذا الجواب عن فعل الصوم، وأما فعلُ الحج فإنَّما يصل (3) منه ثواب الإنفاق. [80 أ] وأما أفعالُ المناسك فهي كأفعال الصلاة، إنما تقع عن فاعلها. قال أصحاب الوصول: ليس في شيء مما (4) ذكرتم ما يعارِض أدلَّة الكتابِ والسُّنَّة، واتفاقَ سلفِ الأمة، ومُقتضَى (5) قواعد الشرع. ونحن نجيب عن كلِّ ما ذكرتموه بالعدل والإنصاف. أما قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، فقد اختلفت طرق الناس في المراد بالآية. فقالت طائفة: الإنسان هاهنا: الكافر. وأما المؤمن، فله ما سَعَى وما سُعِي له، بالأدلَّة التي ذكرناها (6). قالوا: وغاية ما في هذا: التخصيص، وهو جائز إذا دلَّ عليه الدليل. _________ (1) في جمع النسخ: «فغلط» وصوابه المناسب للسياق ما أثبتنا من مصدر النص. (2) كتاب اختلاف الحديث للشافعي في ذيل كتاب الأم (2/ 115 ــ 116). وانظر: معرفة السنن والآثار للبيهقي (6/ 307)، والمجموع شرح المهذب (6/ 416). (3) (أ، ق، غ): «يتصل». (4) (ب، ط، ج): «ليس فيما». (5) «مقتضى» ساقط من (ن). (6) انظر: تفسير القرطبي (20/ 55) والتذكرة له (1/ 289). وقد نقل هذا التأويل عن الربيع بن أنس.

(2/374)


وهذا الجواب ضعيف جدًّا، ومثل هذا العامِّ لا يراد به الكافر وحده، بل هو للمسلم والكافر. وهو كالعامِّ الذي قبله وهو قوله: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38]. والسياق كلُّه (1) من أوله إلى آخره كالصريح في إرادة العموم لقوله: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم: 40، 41]. وهذا يعمُّ الخيرَ والشرَّ قطعًا، ويتناول البرَّ والفاجر، والمؤمن والكافر؛ كقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]. وكقوله في الحديث الإلهي: «يا عبادي إنَّما هي أعمالُكم، أحُصِيها لكم، ثمَّ أوفِّيكم إياها. فمن وَجَد خيرًا فليَحْمَد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفسَه» (2). وهو كقوله: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6]. ولا تغترَّ (3) بقول كثير من المفسرين في لفظ «الإنسان» في القرآن: الإنسان هاهنا (4) أبو جهل، والإنسان هاهنا عُقبة بن أبي مُعَيط، والإنسان هاهنا الوليد بن المغيرة (5). فالقرآن أجلُّ من ذلك، بل الإنسان هو الإنسان _________ (1) «كله» ساقط من (ب، ج). (2) أخرجه مسلم (2577). (3) ما عدا (ق، ن، غ): «يُغترَّ». (4) «هاهنا» ساقط من (ب، ط، ن، ج). (5) انظر في مثل هذا التخصيص للعموم: الصواعق المرسلة للمصنف (ص 693 ــ 708).

(2/375)


من حيث هو، من غير اختصاصٍ بواحد بعينه، كقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2]. و {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6] و {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19]. و {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 ــ 7]. و {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]. و {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]. فهذا شأنُ الإنسان من حيث ذاتُه ونفسُه. وخروجُه عن هذه الصفات بفضلِ ربِّه، وتوفيقِه له، ومنَّتِه عليه، لا من ذاتِه (1)؛ فليس له من ذاته إلا هذه الصفات. وما به من نعمةٍ فمن الله وحده [80 ب]، فهو الذي حبَّب إلى عبده الإيمان، وزيَّنَه في قلبه، وكرَّه إليه الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ، وهو الذي كتب في قلبه الإيمان. وهو الذي ثبَّت أنبياءه ورسله وأولياءه على دينه، وهو الذي يصرِف عنهم السوءَ والفحشاء. وكان يُحدى (2) بين يدي النبي (3) - صلى الله عليه وسلم -: والله لولا اللّهُ ما اهتدَينا ... ولا تصَدَّقْنا ولا صَلَّيْنا (4) وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس: 100]. وقال تعالى: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 56]. {وَمَا تَشَاءُونَ _________ (1) (ن): «من حيث ذاته». (2) (ن): «يحتدي». (ق): «يجري»، تصحيف. (3) ما عدا (أ، ق، غ): «رسول الله». (4) حدا بهذا الرجز عامر بن الأكوع في غزوة خيبر. أخرجه البخاري (4196) ومسلم (1802) من حديث سلمة بن الأكوع.

(2/376)


إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (1) [التكوير: 29]. فهو ربُّ جميع العالم ربوبيَّةً (2) شاملةً لجميع ما في العالم (3) من ذواتٍ وأفعالٍ وأحوال. وقالت طائفة (4): الآيةُ إخبارٌ عن شرعِ مَنْ قَبلنا، وقد دلَّ شرعُنا على أنَّ (5) له ما سَعى، وما سُعِي له (6). وهذا أيضًا أضعفُ من الأول، أو من جنسه. فإنَّ الله سبحانه أخبر بذلك إخبارَ مقرِّرٍ له محتجٍّ به، لا إخبارَ مُبطِلٍ له. ولهذا قال: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} [النجم: 36]. فلو كان هذا باطلاً في هذه الشريعة لم يُخبِر به إخبارَ مقرِّر له محتجٍّ به. وقالت طائفة: اللام بمعنى على، أي: وليس على الإنسان إلا ما سعى (7). وهذا أبطَلُ من القولين الأوَّلَين، فإنَّه قَلْبُ موضوعِ الكلام (8) إلى ضدِّ معناه المفهوم منه. ولا يسوغ مثلُ هذا، ولا تحتمله اللغة. وأما نحو: {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} [غافر: 52] فهي على بابها (9)، أي: هي نصيبُهم وحظهم. _________ (1) لم ترد هذه الآية في (ب، ط، ن، ج). (2) كذا مضبوطة في (ق). وفي (ب، ن): «ربوبيته». (3) «فهو رب ... العالم» ساقط من (ط). (4) (ن): «طائفة أخرى». (5) (ق، ط): «أنه». (6) وهو قول عكرمة. انظر: الكشف والبيان (9/ 153) وزاد المسير (8/ 81). (7) زاد المسير (8/ 81) وذكر أنّه حكاه شيخه علي بن عبيد الله الزاغوني (ت 527). (8) هذا الضبط من الأصل. وفي (ط): «قلَبَ موضوعَ الكلام». (9) خلافًا لمن فسَّر اللام فيها بمعنى (على). انظر: زاد المسير (7/ 231)، البحر المحيط (7/ 496).

(2/377)


وأمَّا أنَّ العرب تعرف في لغاتها (1): لي درهم، بمعنى: عليَّ درهم، فكلَّا! وقالت طائفة: في الكلام حذف، تقديره: وأن ليس للإنسان إلا ما سَعَى أو سُعِي له (2). وهذا أيضًا من النمط الأول، فإنَّه حذفُ ما لا يدلّ السياقُ عليه بوجه، وقولٌ على الله وكتابه بلا علم. وقالت طائفة أخرى (3): الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَأتْبَعْناهُمْ ذُرِّيَّاتِهم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهم} (4) [الطور: 21]. وهذا منقول عن ابن عباس (5). وهذا ضعيف أيضًا. ولا يُرفع (6) حكمُ الآية بمجرَّد قول ابن عباس ولا غيرِه: إنهَّا منسوخة. والجمعُ بين الآيتين غيرُ متعذِّر ولا ممتنِع، فإنَّ الأبناء تبِعوا الآباء في الآخرة، كما [81 أ] كانوا (7) تَبَعًا لهم في الدنيا. وهذه التبعية هي من كرامة الآباء وثوابهم الذي نالوه بسعيهم. وأمَّا كون الأبناء لحقوا بهم في الدرجة بلا سعيٍ منهم، فهذا ليس هو لهم، وإنما هو للآباء، أقرَّ الله أعينَهم بإلحاق ذرِّيتهم بهم في الجنة، وتفضَّل على الأبناء بشيء لم يكن لهم، كما تفضَّل _________ (1) (ب، ط): «يُعرف في لغتها». (2) لم أقف على قائله. (3) (ط): «وقالت أخرى». (4) كذا وردت الآية في جميع النسخ على قراءة أبي عمرو، وكانت هي السائدة في بلاد الشام في عهد المؤلف. (5) رواه عنه علي بن أبي طلحة. وأخرجه الطبري في تفسيره (22/ 80) وأبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ (230). (6) الأصل: «ولا نرفع». (7) (ب): «الأبناء في الآخرة كما قالوا» سقط وتحريف.

(2/378)


بذلك على الوِلدان والحورِ العِين والخلقِ الذين يُنشئهم للجنَّة بغير أعمال، والقومِ الذين يُدخلهم الجنة بلا خيرٍ قدَّموه ولا عملٍ عملوه. فقوله تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38]، وقوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] آيتان محكَمتان، يقتضيهما عدلُ الربِّ تعالى، وحكمتُه (1)، وكمالُه المقدَّس؛ والعقل والفطرة شاهدان بهما. فالأولى تقتضي (2) أنَّه لا يعاقَب بجرم غيره، والثانية تقتضي أنَّه لا يفلح إلا بعمله وسعيه. فالأولى تؤمِّن العبد من أخْذِه بجريرة غيره، كما يفعله ملوك الدنيا. والثانية تقطَع طمعَه من نجاته (3) بعمل آبائه وسلفه ومشايخه، كما عليه أصحاب الطمع الكاذب. فتأمَّلْ حسنَ اجتماع هاتين الآيتين! ونظيره قوله تعالى: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. فحكَم سبحانه لعباده بأربعة أحكامٍ هي غايةُ العدلِ والحكمة: أحدها: أنَّ هُدى العبد بالإيمان والعمل الصالح لنفسه، لا لغيره. الثاني: أنَّ ضلالَه بفوات ذلك وتخلُّفَه عنه على نفسه، لا على غيره. الثالث: أنَّ أحدًا لا يؤاخَذُ بجريرة غيره. الرابع: أنَّه لا يعذِّب أحدًا إلا بعد إقامة الحُجَّة عليه برسله. _________ (1) «وحكمته» ساقط من (ب، ط). (2) (ق، ب، ط): «فالأول يقتضي»، خطأ، فإن المقصود: الآية، لا العقل. (3) (ق): «نَجائه». (أ، غ): «لَحاقه».

(2/379)


فتأمَّلْ ما في ضمنِ هذه الأحكام الأربعة من حكمته تعالى وعدله وفضله، والردِّ على أهل الغرور والأطماع الكاذبة، وعلى أهل الجهل بالله وأسمائه وصفاته. وقالت طائفة أخرى: المراد بالإنسان هاهنا: الحيُّ دون الميِّت (1). وهذا أيضًا من النَّمط الأول في الفساد. وهذا كلُّه من سوء التصرُّف في اللفظ العامّ. وصاحبُ هذا التصرُّف لا ينفد (2) تصرّفُه في دلالاتِ الألفاظ وحَمْلِها على خلاف موضوعها [81 ب] وما يتبادر إلى الذهن منها. وهو تصرُّف فاسد قطعًا يُبطِله السياقُ، والاعتبارُ، وقواعدُ الشرع وأدلَّتُه وعرفُه. وسببُ هذا التصرف السيئ أن صاحبه يعتقد قولاً، ثم يردُّ كلَّ ما دلَّ على خلافه، بأي طريق اتَّفقت له. فالأدلّةُ المخالفة لما اعتقده عنده من باب الصائِل (3)، لا يبالي بأيِّ شيء دفَعَه! وأدلَّةُ الحقِّ لا تتعارض ولا تتناقض، بل يصدِّق بعضُها بعضًا (4). وقالت طائفة أخرى، وهو جوابُ أبي الوفاء بن عَقيل (5)، قال: الجوابُ الجيِّد عندي أن يقال: الإنسانُ (6) بسعيه وحسن عِشرته اكتسب الأصدقاء، وأولَدَ الأولاد، ونكح الأزواج، وأسدى الخير، وتودَّد إلى الناس، فترحَّموا _________ (1) لم أقف على هذا القول. (2) ما عدا (ق): «ينفذ» بالذال المعجمة، تصحيف. (3) (ب، ط، ج): «دفع الصائل». وبعده: «بل لا يبالي». ولعلّ زيادة «دفع» جرّت إلى زيادة «بل». (4) في (ب، ط، ن، ج) زيادة: «ويؤيد بعضها بعضًا». (5) ذكر نحوه ابن الجوزي في زاد المسير (7/ 231) بما حكاه شيخه ابن الزاغوني. (6) (أ، ق، غ): «للإنسان».

(2/380)


عليه، وأهدَوا له العبادتِ؛ فكان (1) ذلك أثرَ سعيه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أطيبَ ما أكل الرجلُ مِن كَسْبه، وإنَّ ولَدَه مِنْ كَسْبِه» (2). ويدلُّ عليه قولُه في _________ (1) (ن): «وكان». (2) أخرجه أبو داود (3528)، والنسائي (4449)، والإمام أحمد (24032)، وابن حبان (4259)، والحاكم (2/ 46) من طريق منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن عُمارة بن عمير، عن عمّته، أنها سألت عائشة رضي الله عنها: في حجري يتيم أفآكل من ماله؟ فقالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فذكره). وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. كذا قال! مع أن في إسناده جهالة؛ لأن عمّة عمارة بن عمير لا تعرف كما قاله ابن القطان الفاسي في بيان الوهم والإيهام (4/ 546). ثم في سنده اختلاف كثير أيضًا، فرواه الأعمش، واختلف عليه: فروي عنه، عن إبراهيم النخعي، به، بمثل رواية منصور. أخرجه النسائي (4450)، والإمام أحمد (24135)، والحميدي (246) عن سفيان بن عيينة، عن الأعمش، به. وروي عنه، عن عمارة بن عمير، به. ولم يذكر إبراهيم النخعي. أخرجه الترمذي (1358) وقال: حديث حسن. وروي عنه، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود، عن عائشة، بنحوه. أخرجه النسائي (4452)، وابن ماجه (2137)، والإمام أحمد (24148)، وابن حبان (4261)، والبيهقي (7/ 480) من طريق الأعمش، به. وقال البيهقي: وهو بهذا الإسناد غير محفوظ. وهناك أوجه أخرى من الاختلاف أوردها الإمام الدارقطني في العلل (14/ 250 ــ 252) ثم قال: «والصحيح حديث منصور عن إبراهيم عن عمارة عن عمّته عن عائشة». وفي إسناده جهالة، كما سبق. لكن له شواهد يتقوّى بها منها حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، أخرجه الإمام أحمد (6678) وغيره بإسناد حسن، وفي الباب أحاديث أخرى يراجع تخريجها في إرواء الغليل (3/ 329 ــ 330). (قالمي)

(2/381)


الحديث الآخر: «إذا مات العبدُ انقطع عملُه إلا من ثلاث: علمٍ ينتفع به من بعده (1)، وصدقةٍ جارية عليه (2)، أو ولدٍ صالح يدعو له» (3). ومن هنا قال الشافعي (4): إذا بذل له ولدُه طاعةَ الحج كان ذلك سببًا لوجوب الحجِّ (5) عليه، حتى كأنه في ماله زادٌ وراحلة (6)، بخلاف بذل الأجنبيِّ. وهذا جوابٌ متوسِّط يحتاج إلى تمام. فإنَّ العبدَ بإيمانه وطاعته لله ورسوله قد سعى في انتفاعه (7) بعمل إخوانه المؤمنين مع عمله، كما ينتفع بعملهم في الحياة الدنيا (8) مع عمله. فإن المؤمنين ينتفعُ بعضهم بعمل بعض في الأعمال التي يشتركون فيها، كالصلاة في جماعة (9)، فإن كلَّ واحد منهم تُضاعَف صلاتُه إلى سبع وعشرين (10) ضِعفًا، لمشاركة (11) _________ (1) «من بعده» لم يرد في (ق). (2) لم ترد «عليه» في (ن، غ). وهي مضروب عليها في الأصل. (3) تقدَّم تخريجه في أول المسألة. (4) (ق): «الإمام الشافعي رحمة الله عليه». (5) (ق): «سبب وجوب الحج». (6) (ق، ن): «زادًا وراحلةً!» (7) (غ): «في عمله بانتفاعه». وكان في الأصل على الصواب، فغيّره بعضهم كما أثبته ناسخ (غ). وفي (ن) تحرّف «سعى» إلى «ينتفع». (8) لم يرد لفظ «الدنيا» فيما عدا (أ، غ). (9) (أ، غ): «الجماعة». (10) يعني: درجة أو صلاة. وفي (ق): «سبعة وعشرين». وجاء ذلك في حديث ابن عمر الذي أخرجه مسلم (650). (11) (ب، ط، ج، ن): «بمشاركة».

(2/382)


غيره له في الصلاة. فعملُ غيره كان سببًا لزيادة أجره، كما أنَّ عملَه سببٌ لزيادة أجر الآخر. بل قد قيل: إنَّ الصلاةَ يُضاعَف ثوابُها بعدد المصلِّين. وكذلك اشتراكهم في الجهاد والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البرِّ والتقوى. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمنُ للمؤمن كالبُنيان يشُدُّ بعضُه بعضًا»، وشبَّكَ بين أصابعه (1). ومعلوم [82 أ] أنَّ هذا بأمورِ الدين أولى منه بأمور الدنيا. فدخولُ المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كلٍّ من المسلمين إلى صاحبه في حياته وبعد مماته، ودعوة المسلمين تُحيط من ورائهم. وقد أخبر الله سبحانه عن حَمَلة العرش ومَن حولَه أنهم يستغفرون للمؤمنين ويَدْعون لهم، وأخبر عن دعاء رُسُله واستغفارهم للمؤمنين، كنوحٍ وإبراهيمَ ومحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. فالعبدُ بإيمانه قد تسبَّب إلى وصول هذا الدعاء إليه، فكأنه من سَعْيه (2). يُوضِّحه أنَّ الله سبحانه جعل الإيمان (3) سببًا لانتفاع صاحبه بدعاء إخوانه من المؤمنين وسَعْيهم، فإذا أتى به فقد سعى في السَّببِ الذي يُوصل إليه ذلك. وقد دلَّ على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن العاص: «إن أباك لو كان أقرَّ بالتوحيد نفعَه ذلك» (4). يعني العِتقَ الذي فعل عنه بعد موته. فلو _________ (1) أخرجه البخاري (481) ومسلم (2585) من حديث أبي موسى الأشعري. (2) انظر: مجموع الفتاوى (24/ 307). (3) (أ، ق، غ): «الإعادة»، وهو تحريف. وفي طرَّة الأصل تصحيح بخط بعضهم. (4) سبق في فصل وصول ثواب الصدقة.

(2/383)


أتى بالسبب لكان قد سعى في عملٍ يُوصِل إليه ثوابَ العتق. وهذه (1) طريقة لطيفة حسنة جدًّا. وقالت طائفةٌ أخرى: القرآن لم يَنْفِ انتفاعَ الرجل بسعي غيره، وإنما نفى مُلكَه لغير سعيه (2)، وبين الأمرين من الفرق ما لا يَخفى. فأخبر تعالى أنَّه لا يملِك إلا سعيَه، وأما سعيُ غيره فهو مِلْكٌ لساعيه، فإن شاء أن يبذله لغيره، وإن شاء أن يُبقِيَه لنفسه. وهو سبحانه لم يقُل: لا يَنتِفع إلا بما سعى. وكان شيخنا يختار هذه الطريقة ويرجِّحها (3). فصل وكذا قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وقوله: {وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: 54]، على أنَّ هذه الآيةَ أصرحُ في الدلالة على أنَّ سِياقَها إنما ينفي عقوبةَ العبد بعمل غيره وأخذَه بجَرِيرته. فإنَّه (4) سبحانه قال: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: 54] فنفى أن يُظلَم بأن يُزادَ عليه في سيئاته، أو يُنقَص من حسناته (5)، أو يُعاقَب بعمل غيره. ولم يَنْفِ أن ينتفعَ بعمل غيره، لا على وجه الجزاء، فإنَّ انتفاعَه بما يُهدَى إليه ليس جزاءً على عمله، وإنما هو صدقةٌ تصدَّق الله بها _________ (1) ما عدا (ق): «فهذه». (2) (ن): «لسعي غيره». (3) انظر: مجموع الفتاوى (24/ 312). (4) (ب، ط، ج): «فإن الله». (5) (ب، ط): «سيئاته».

(2/384)


عليه، وتفضَّل بها عليه [82 ب] من غير سَعْي منه؛ بل وهَبه ذلك على يدِ بعض عباده، لا على وجه الجزاء. فصل وأمَّا استدلالكم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مات العبدُ انقطعَ عملُه ... » (1)، فاستدلالٌ ساقط، فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: انقطع انتفاعُه، وإنَّما أخبر عن انقطاع عمله. وأمَّا عملُ غيره فهو لِعامله، فإن وهَبه له (2) فقد وصل إليه ثوابُ عمل العامل، لا ثوابُ عمله هو. فالمنقطعُ شيءٌ، والواصلُ إليه شيء آخرُ. وكذلك الحديثُ الآخر، وهو قوله: «إنَّ ممَّا يلحَقُ الميِّتَ من حسناته وعمله ... » (3). فلا ينفي أن يلحقَه غيرُ ذلك من عمل غيرِه وحسناتِه. فصل وأما قولُكم: الإهداءُ حوالةٌ، والحوالةُ إنما تكون بحقٍّ (4) لازم؛ فهذه حوالة المخلوق على المخلوق (5). وأمَّا حوالةُ المخلوق على الخالق، فأمرٌ آخر لا يصحُّ قياسُها على حوالة العبيد بعضِهم على بعض. وهل هذا (6) إلا مِن أبطَلِ القياسِ وأفسَدِه! _________ (1) سبق تخريجه في أول المسألة. (2) «له» ساقط من (أ، غ). (3) سبق تخريجه في أول المسألة. (4) (ب، ط): «لحقّ». (5) «على المخلوق» ساقط من (ب، ط، ج). (6) (ق): «هذا الأمر».

(2/385)


والذي يُبطِله: إجماعُ الأمة على انتفاعه بأداء دَينه وما عليه من الحقوق، وإبراء المستحقِّ لذمّته، والصدقة والحجِّ عنه، بالنصِّ الذي لا سبيل إلى ردِّه ودَفعِه؛ وكذلك الصوم. فهذه (1) الأقيسةُ الفاسدةُ (2) لا تُعارِض نصوصَ الشرع وقواعدَه. فصل وأمَّا قولكم: الإيثارُ بسبب الثواب مكروهٌ ــ وهو مسألة الإيثار بالقُرَب ــ فكيف الإيثار بنفس الثواب الذي هو الغاية! فقد أجيب (3) عنه بأجوبة. أحدُها: أنَّ حالَ الحياة حالٌ لا يُوثق فيها بسلامة العاقبة، لجواز أن يرتدَّ الحيُّ، فيكون قد آثرَ بالقُربة غيرَ أهلها؛ وهذا قد أمِنَ بالموت. فإن قيل: والمُهدَى إليه أيضًا قد لا يكون ماتَ على الإسلام باطنًا، فلا يَنتفع بما يُهدَى إليه. فهذا سؤالٌ في غاية البطلان، فإنَّ الإهداءَ له من جنس الصلاة عليه، والاستغفار له، والدعاء له. فإن (4) كان أهلاً، وإلا انتفع به الداعي وحدَه. الجواب الثاني: أنَّ الإيثارَ بالقُرَب يدلُّ على قِلَّة الرغبة فيها، والتأخير عن فعلها (5). فلو ساغ الإيثار بها لأفضى إلى التقاعد عنها [83 أ] والتكاسل _________ (1) (ق): «وهذه». (2) «الفاسدة» ساقطة من (ن). (3) (ب، ط، ن): «أجبتُ»، تصحيف. (4) (ب، ط): «فإذا». (5) ما عدا (أ، ق، غ): «عنها».

(2/386)


والتأخُّر، بخلافِ إهداء ثوابها، فإنَّ العاملَ يحرِص عليها (1) لأجل ثوابها، لينتفعَ به، أو ينفعَ به أخاه المسلم. فبينهما (2) فرقٌ ظاهرٌ. الجواب الثالث: أنَّ الله سبحانه يحبُّ المبادرة والمسارعة إلى خدمته، والتنافس فيها، فإنَّ ذلك أبلغُ في العبودية، فإنَّ الملوك تحبُّ المسارعة والمنافسة في طاعتها وخدمتها؛ فالإيثار بذلك مُنافٍ لمقصود العبودية. فإنَّ الله سبحانه أمر عبدَه بهذه القربة إما إيجابًا وإما استحبابًا، فإذا آثرَ بها تركَ ما أُمِرَ به (3)، وولَّاه غيرَه، بخلاف ما إذا فعل ما أُمِرَ به طاعةً وقُربةً، ثم أرسل ثوابَه إلى أخيه المسلم. وقد قال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (4) [الحديد: 21]. وقال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]. ومعلومٌ أن الإيثارَ بها يُنافي الاستباقَ إليها والمسارعةَ. وقد كان الصحابة يُسابق بعضهم بعضًا بالقُرَب، ولا يُؤثِر الرجلَ منهم غيره بها. قال عمرُ: والله ما سابقني أبو بكر إلى خير إلا سبقني إليه (5)، حتى قال: واللَّهِ لا أُسابقك إلى خيرٍ أبدًا (6). _________ (1) «والتأخر ... عليها» ساقط من (ن). (2) ما عدا (أ، ق، غ): «وبينهما». (3) (غ): «أمره». وكذا في الأصل، لكن يظهر أن الهاء مزيدة فيما بعد. (4) في (أ، ق، ج، غ): « ... عرضها السموات والأرض» وهو سهو، فإنها آية أخرى أولها: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ.} في سورة آل عمران (133). (5) «إليه» ساقط من (ب، ط). (6) انظر ما أخرجه الإمام أحمد في المسند عن ابن مسعود (3662)، وأبو داود (1678) والترمذي (3675) عن عمر رضي الله عنه.

(2/387)


وقد قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]. يقال: نافستُ في الشيء منافسةً، ونِفاسًا، إذا رغبتَ فيه على وجه المباراة. ومن هذا قولهم: شيء نفيسٌ، أي: هو أهلٌ أن يُتنافَس فيه ويُرغَب فيه. وهذا أنفسُ مالي أي: أحَبُّه إليَّ. وأنفَسَني فلانٌ في كذا أي: أَرغَبني فيه (1). وهذا كلُّه ضدُّ الإيثار به والرغبة عنه. فصل وأما قولكم: لو ساغ الإهداء إلى الميِّت لساغ إلى الحيِّ؛ فجوابه من وجهين: أحدهما: أنّه قد ذهب إلى ذلك بعض الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم. قال القاضي: وكلامُ أحمد (2) لا يقتضي التخصيصَ بالميِّت، فإنه قال (3): «يفعل الخير ويجعل نِصفَه لأبيه وأمِّه»، ولم يفرِّق (4). واعترض عليه أبو الوفاء بن عَقيل وقال: هذا فيه بُعْد. وهو تلاعبٌ بالشرع، وتصرُّفٌ في أمانة (5) الله، وإسجالٌ على الله سبحانه بثوابٍ على عمل ينقله (6) إلى غيره. وبعد الموت قد جعل لنا طريقًا (7) إلى إيصال _________ (1) انظر: الصحاح للجوهري (نفس 985) وكأن المصنف صادر عنه. (2) (ق): «الإمام أحمد». (3) «قال» ساقط من (ن). وفي (ط) مكانها: «قد». (4) انظر: الفروع (3/ 430). (5) كذا في (ق، ن). وفي (أ، غ): «آيات». وفي (ب، ط): «إثابة». وأشير في حاشية (ط) إلى أن في نسخة: «أمانة». (6) (أ، ق، غ): «يفعله». (7) (ب، ط، ن، ج): «طريق».

(2/388)


[83 ب] النفع كالاستغفار والصلاة على الميِّت. ثم أورد على نفسه سؤالاً وهو: فإنْ قيل: أليس قضاءُ الديون وتحمُّلُ الكَلِّ حالَ الحياة كقضائه بعد الموت؟ فقد (1) استوى ضمان الحياة وضمان الموت (2) في أنَّهما يُزيلان المطالبة عنه. فإذا وصل قضاء الديون بعد الموت وحال الحياة، فاجعلوا ثوابَ الإهداء واصلاً حالَ الحياة وبعد الموت. وأجاب عنه (3) بأنه لو صحَّ هذا وجب أن تكون الذنوبُ تُكفَّر عن الحيِّ بتوبة غيره عنه، ويندفع عنه مآثمُ (4) الآخرة بعمل غيره واستغفاره. قلتُ: وهذا لا يلزم، بل طردُ ذلك انتفاعُ الحيِّ بدعاءِ غيره له، واستغفارِه له، وتصدُّقِه عنه، وقضاءِ ديونه. وهذا حقٌّ. وقد أَذِنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في (5) أداء فريضة الحجِّ عن الحيِّ المعضوبِ (6) والعاجز، وهما حيَّان. وقد أجابَ غيره من الأصحاب بأنَّ حالَ الحياة لا نَثِقُ بسلامة العاقبة، خوفًا أن يرتدَّ المُهدى له، فلا ينتفع بما يُهدَى إليه. قال ابن عَقيل: وهذا عذر (7) باطل بإهداء هذا (8) الحيِّ فإنه لا يُؤمَن أن _________ (1) (ب، ط): «فإن». (2) ما عدا (أ، ق، غ): «ضمان الموت وضمان الحياة». (3) «عنه» ساقط من (ب، ط). (4) كذا بالمدّ في (أ، ن). وفي (ط): «مأثَم». (5) «في» ساقطة من (أ، غ). (6) المعضوب: الذي لازمه المرض المزمن، فمنعه الحركة. (7) ما عدا (أ، ق، غ): «عندي». (8) «هذا» ساقط من (ب، ط، ن). وفيما عدا (أ، ق، غ) بعد «الحي»: «للميت».

(2/389)


يرتدَّ ويموت، فيحبَطَ عملُه كلُّه، ومن جُملته ثوابُ ما أهدى إلى الميِّت. قلت: هذا لا يلزمهم، ومواردُ النص والإجماع تُبطِله وترُدُّه، فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَذِن في الحجِّ والصوم عن الميِّت. وأجمع الناس على براءة ذمَّته من الدَّين، إذا قضاه عنه الحيُّ، مع وجود (1) ما ذكر من الاحتمال. والجوابُ أن يقال: ما أهداه من أعمال البرِّ إلى الميت فقد صار ملكًا له، فلا يبطلُ برِدَّة فاعله بعد خروجه عن ملكه، كتصرُّفاته التي تصرَّفها قبل الرِّدَّة، من عِتْق وكفَّارة (2)، بل لو حجَّ عن معضوبٍ، ثم ارتدَّ بعد ذلك لم يلزم المعضوبَ أن يُقيم غيره يحج عنه، فإنه لا يُؤمن في الثاني والثالث ذلك. على أنَّ الفرقَ بين الحي والميّت [84 أ] أنّ الحيَّ ليس بمحتاج (3) كحاجة الميت، إذ يمكنه أن يباشر ذلك العمل أو نظيره، فعليه (4) اكتسابُ الثواب بنفسه وسَعْيه، بخلاف الميت. وأيضًا فإنه يفضي إلى اتِّكال بعض الأحياء على بعض، وهذه مفسدة كبيرة، فإنَّ أربابَ الأموال إذا فهموا ذلك واستشعروه استأجروا من يفعل ذلك عنهم، فتصير الطاعاتُ معاوضاتٍ، وذلك يفضي إلى إسقاط العباداتِ والنوافل، ويصير ما يُتقرَّب به إلى الله يُتقرَّب (5) به إلى الآدميين، فيخرج عن _________ (1) «وجود» ساقط من (ن). (2) (ق): «إجارة». (3) (ب، ط، ج): «يحتاج». (4) (ب، ط، ج): «فيمكنه». (5) (ب، ط، ج): «متقرَّبًا».

(2/390)


الإخلاص، فلا يحصل الثوابُ لواحد منهما. ونحن نمنع من أخذ الأجرة عن كل قربة، ونحبطها بأخذ الأجرة عليها، كالقضاء والفُتيا وتعليم العلم والصلاة وقراءة القرآن وغيرها، فلا يُثيب الله عليها إلا لمخلصٍ (1) أخلصَ العملَ لوجهه (2) فإذا فعله للأجرة لم يُثَب عليه الفاعلُ ولا المستأجِرُ. فلا يليق بمحاسن الشرع أن يجعلَ العباداتِ الخالصةَ له معاملاتٍ يُقصَد بها المعاوضات والأكساب الدنيوية. وفارَقَ قضاءَ الدُّيون وضمانَها، فإنَّها حقوقُ الآدميين ينوب بعضهم فيها عن بعض، فلذلك جازت في الحياة وبعد الموت (3). فصل وأما قولكم: لو ساغ ذلك لساغ إهداءُ نصف الثواب ورُبعه إلى الميت، فالجواب من وجهين: أحدهما: منع الملازمة، فإنكم لم تذكروا عليها دليلاً إلا مجرَّد الدعوى. الثاني: التزام ذلك والقول به، نصَّ عليه الإمام أحمد في رواية محمد بن يحيى الكحَّال (4). ووجهُ هذا أنَّ الثوابَ ملكٌ له، فله أن يهديَه _________ (1) كذا باللام في جميع النسخ، وضبط بتنوين الصاد بالكسر في (ق، ط، غ). وفي (ب): «المخلص»، والظاهر أنه إصلاح من الناسخ. (2) (ب، ط، ج): «لوجه الله تعالى». (3) قارن بما نقل ابن مفلح من كلام ابن عقيل في كتاب الفروع (3/ 433 ــ 434). (4) سبق في (ص 353).

(2/391)


جميعَه، وله أن يهديَ بعضَه. يوضِّحه: أنه لو أهداه إلى أربعةٍ مثلاً يحصل لكلٍّ منهم ربعُه، فإذا أهدى الربعَ وأبقى لنفسه الباقي جاز، كما لو أهداه إلى غيره. فصل وأما قولكم: لو ساغ ذلك لساغ إهداؤه بعد أن يعملَه لنفسه. وقد قلتم: إنَّه لابد أن يُنوى حالَ الفعل إهداؤه (1) إلى الميِّت، وإلا لم يصل. فالجواب: أنّ هذه المسألة غير منصوصة عن أحمد (2)، ولا هذا [84 ب] الشرط في كلام المتقدِّمين من أصحابه، وإنَّما ذكره المتأخِّرون، كالقاضي وأتباعه. قال ابنُ عَقيل: إذا فعل طاعةً من صلاة وصيام وقراءة قرآن وأَهداها بأنْ جعل ثوابَها للميت المسلم، فإنه يصلُ إليه ذلك (3) وينفعه، بشرط أن تتقدَّم نيةُ الهدية على الطاعة أو تقارنها (4). وقال أبو عبد الله بن حمدان في «رعايته»: ومن تطوَّع بقُربة من صدقةٍ وصلاة وصيام وحجٍّ وعُمرة وقراءة وعِتق وغير ذلك من عبادةٍ بدنية تدخُلها النِّيابة أو عبادة مالية، وجعل ثوابها أو بعضَه لميِّت مسلم حتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودعا له، أو استغفرَ له، أو قضى ما عليه من حقٍّ شرعي أو واجب تَدخلُه _________ (1) (ب، ط): «إهداؤه». (2) (ق): «الإمام أحمد رضي الله عنه». (3) «ذلك» ساقط من (ن). (4) نقله في الفروع (3/ 425) من مفردات ابن عقيل.

(2/392)


النيابة= نفَعَه ذلك، ووصل إليه أجرُه. وقيل: إنْ نواه حالَ فِعله أو قبلَه وصل إليه، وإلا فلا. وسِرُّ المسألة أنَّ شرط (1) حصول الثواب أن يقع لمن أُهدي له أولاً، أو يجوز (2) أن يقعَ للعامل، ثم ينتقلُ عنه إلى غيره؟ فمن شرَطَ أن ينويَ قبل الفعل أو الفراغ منه وصولَه قال: لو لم ينوِه وقع الثوابُ للعامل، ولا يقبل (3) انتقاله عنه إلى غيره، فإن الثوابَ يترتَّب على العمل ترتُّبَ الأثر على مُؤثِّره. ولهذا لو أعتقَ عبدًا عن نفسه كان ولاؤه له، فلو نقل ولاءَه إلى غيره بعد العتق لم ينتقل؛ بخلاف ما لو أعتقه عن الغير، فإن ولاءه يكون لِلمُعتَق عنه. وكذلك لو أدَّى دَيْنًا عن نفسه، ثم أراد بعد الأداء أن يجعلَه عن غيره لم يكن له ذلك. وكذلك لو حجَّ أو صام أو صلَّى لنفسه (4)، ثم بعد ذلك أراد (5) أن يجعلَ ذلك عن غيره لم يملِكْ ذلك. ويُؤيِّد هذا أنَّ الذين سألوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك لم يسألوه عن إهداء ثواب العمل بعده، وإنما سألوه عما يفعلونه عن الميِّت، كما (6) قال سعد: أينفعها إن تصدَّقتُ عنها؟ ولم يقل: أن أُهديَ لها ثواب ما تصدَّقتُ به عن نفسي. وكذلك قول المرأة الأخرى (7): أفأحجُّ عنها؟ وقول الرجل الآخر: أفأحجُّ _________ (1) كذا في (ب، ج). وفي غيرهما والنسخ المطبوعة: «أنّ أوان شرط». (2) (ب): «ويجوز». (ط): «يجوز». وكلاهما خطأ. (3) (ق، ن، غ): «فلا يقبل». (4) (ب، ط، ج): «عن نفسه». (5) (ن): «أراد بعد ذلك». (6) سبقت الأحاديث الآتية في (ص 359، 364). (7) «الأخرى» ساقط من (ن)، ولعل ناسخها حذفه.

(2/393)


عن أبي؟ فأجابهم بالإذن في الفعل عن الميت، [85 أ] لا بإهداء ثواب ما عملوه لأنفسهم إلى موتاهم. فهذا لا يُعرف أنه - صلى الله عليه وسلم - سُئل عنه قطُّ، ولا يُعرف عن أحد من الصحابة أنه فعله، وقال (1): اللهم اجعل لفلان ثوابَ عملي المتقدِّم، أو ثوابَ ما عملتُه لنفسي. فهذا سِرُّ الاشتراط، وهو أفقهُ. ومن لم يشترط ذلك يقول: الثواب للعامل، فإذا تبرَّع به وأهداه إلى غيره كان بمنزلة ما يُهديه إليه (2) من ماله. فصل وأما قولكم: لو ساغ الإهداءُ لساغ إهداءُ ثواب الواجبات التي تجب على الحيِّ. فالجواب: أنَّ هذا الإلزامَ محالٌ على أصل من شَرَط في الوصول نيةَ الفعل عن الميت، فإن الواجبَ لا يصح أن يفعله عن الغير، فإن هذا واجبٌ على الفاعل يجب عليه أن ينويَ به القُربة إلى الله. وأما من لم يشترط نية الفعل عن الغير، فهل يسوغ عنده أن يجعل للميت ثواب فرضٍ من فروضه؟ فيه وجهان. قال أبو عبد الله بن حمدان: وقيل: إن جعل له ثوابَ فرض من صلاة أو صوم أو غيرهما جاز وأجزأ فاعلَه. قلت: وقد نُقِل عن جماعة أنهم جعلوا ثوابَ أعمالهم من فرض ونفل _________ (1) ما عدا (أ، ق، غ): «أو قال». (2) ساقط من (ن).

(2/394)


للمسلمين، وقالوا: نلقى الله بالفقر والإفلاس المجرَّد (1)! والشريعة لا تمنع من ذلك، فالأجرُ ملكُ العامل (2) فإن شاء أن يجعلَه لغيره، فلا حجرَ عليه في ذلك. والله أعلم. فصل وأما قولكم: إنَّ التكاليفَ امتحان وابتلاء، لا تقبل (3) البدلَ؛ إذ المقصود منها عينُ المكلَّف العامل إلى آخره. فالجوابُ عنه: أنَّ ذلك لا يمنع إذنَ الشارع للمسلم أن ينفع أخاه بشيء من عمله. بل هذا من تمام إحسان الربِّ ورحمته لعباده، ومن كمال هذه الشريعة التي شرعها لهم، التي مبناها على العدل، والإحسان، والتعاون (4). والربُّ تعالى أقام ملائكتَه وحَمَلة عرشه يدعون لعباده المؤمنين، ويستغفرون لهم، ويسألونه لهم (5) أن يَقيهم السيئاتِ. وأمر خاتمَ رسله (6) _________ (1) ذكر المصنف رحمه الله في مدارج السالكين أن من له بصيرة بنفسه وبصيرة بحقوق الله لم يُبقِ له نظرُه في سيئاته حسنةً البتة، فلا يلقى الله إلا بالإفلاس المحض والفقر الصرف؛ لأنه إذا فتش عن عيوب نفسه وعيوب عمله علم أنها لا تصلح لله (1/ 221). وهذا لا غبار عليه. أما ما نقله هنا عن جماعة ــ والظاهر أنهم من المتصوفة ــ من التخلِّي عن أعمالهم بإهدائها إلى المسلمين ليلقوا الله بالإفلاس، فأمر غريب، وتأييد المؤلف لهم أغرب. (2) (ن): «للعامل». (ب، ط، ج): «الفاعل». (3) (ب، ط، ج): «لا يقبل». والمثبت من (ق، غ). (4) (ق): «التعارف»، تصحيف. (5) ساقط من (ن). (6) (أ، غ): «خاتم الرسل».

(2/395)


أن يستغفرَ للمؤمنين والمؤمنات، ويقيمُه يوم القيامة مقامًا محمودًا يشفعُ (1) في العُصاة من أتباعه وأهل سُنَّته (2). وقد أمره تعالى أن يصلِّي على أصحابه [85 ب] في حياتهم وبعد مماتهم. وكان يقوم على قبورهم، فيدعو لهم. وقد استقرَّت الشريعة على أنَّ المأثم (3) الذي على الجميع بترك فروض الكفايات يسقط إذا فعله مَن يحصل المقصودُ بفعله، ولو واحد. وأسقط سبحانه الارتهانَ وحرارةَ الجلود (4) في القبر بضمان الحيِّ دَيْنَ الميت وأدائه عنه، وإن كان ذلك الوجوبُ امتحانًا في حق المكلَّف (5). وأَذِن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الحجِّ والصيام عن الميِّت، وإن كان الوجوبُ امتحانًا في حقِّه. وأسقط عن المأموم سجودَ السهو بصحة صلاة الإمام وخلوِّها من السهو، وقراءةَ الفاتحة بتحمُّل الإمام لها. فهو يتحمَّل عن المأموم سهوَه وقراءته وسترته، فقراءةُ الإمام وسترتُه قراءةٌ لمن خلفَه وسترةٌ له. وهل (6) الإحسان إلى المكلَّف بإهداء الثواب إليه إلا تأسٍّ (7) بإحسان الربِّ تعالى؟ والله يحبُّ المحسنين. «والخلقُ عيالُ الله، فأحبُّهم إليه أنفعُهم لعياله» (8). وإذا كان سبحانه يحبُّ من ينفع عيالَه بشَربْة ماء، ومَذْقة لبن، _________ (1) في النسخ المطبوعة: «ليشفع» خلافًا لجميع النسخ التي بين يدي. (2) يشير إلى حديث الشفاعة. أخرجه البخاري (7440) ومسلم (326) عن أنس. (3) (ب، ط، ج): «الإثم». (4) (ق، ب، ط): «الخلود»، تصحيف. وبعده في (ن): «في القبور». (5) انظر الحديث المذكور في فصل وصول ثواب الحج إلى الميت. (6) (ب، ط، ج): «فهل». (7) ج: «يأتي»، تصحيف. وقد سقطت «إلا» من (ب، ط). (8) أخرجه البزار (6947)، وأبو يعلى (3315، 3478) من طريق يوسف بن عطية، عن ثابت، عن أنس، مرفوعًا. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 191): «وفيه يوسف بن عطية الصفار، وهو متروك». وقال الحافظ في المطالب العالية (977): «تفرد به يوسف وهو ضعيف جدًّا». وانظر: السلسلة الضعيفة (1900). (قالمي).

(2/396)


وكِسْرة خبز؛ فكيف من ينفعهم في حال ضعفهم، وفقرهم، وانقطاع أعمالهم، وحاجتهم إلى شيء يُهدى إليهم أحوجَ ما كانوا إليه! فأحبُّ الخلق إلى الله من ينفع عيالَه في هذه الحال. ولهذا جاء أثرٌ عن بعض السلف: أنه من قال كلَّ يوم سبعين مرةً: ربِّ اغفر لي ولوالديَّ وللمسلمين والمسلمين والمؤمنين والمؤمنات، حصل له من الأجر بعدَد كلِّ مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة (1). ولا تستبعد (2) هذا، فإنه إذا استغفر لإخوانه، فقد أحسن إليهم، والله لا يُضيع أجرَ المحسنين. فصل وأما قولكم: إنه لو نفعه عملُ غيره لنفعه توبتُه عنه وإسلامُه عنه، فهذه الشبهة تُورَد على صورتين (3): صورة تلازُم يُدَّعَى فيها اللُّزوم بين الأمرين، ثم يُبيَّن انتفاءُ اللازم، _________ (1) لم أجد هذا الأثر، لكن المصنف ذكر في مفتاح دار السعادة أن بعض السلف كان يستحب لكل أحد أن يداوم على هذا الدعاء كل يوم سبعين مرة، فيجعل له منه وردًا لا يُخِلُّ به (1/ 298). وقد أخرج الطبراني بإسناد جيد عن عبادة بن الصامت مرفوعًا: «من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة» قاله الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 352). (2) (ط، ج): «يُستبعد». (3) (ط): «ضربين»، تصحيف. وفي (ن): «عليك صورتين».

(2/397)


فينتفي ملزومُه. وصورتها هكذا: لو نفعه عملُ الغير عنه لنفعه إسلامُه وتوبتُه عنه، لكن لا ينفعه ذلك، فلا ينفعه عملُ الغير. والصورة الثانية: أن يقال: لا يَنتفع بإسلامِ الغير وتوبته عنه، فلا [86 أ] ينتفعُ بصلاته وصيامه وقراءته عنه. ومعلومٌ أن هذا التلازمَ والاقتران باطلٌ قطعًا. أمَّا أولاً، فلأنه قياسٌ مصادمٌ لما تظاهرت به النصوص وأجمعت (1) عليه الأمة. وأمَّا ثانيًا، فلأنه جمع بين ما فرَّق الله بينه، فإنَّ الله سبحانه فرَّق بين إسلام المرء عن غيره، وبين صدقته وحجِّه وعِتقه عنه، فالقياسُ المسوِّي (2) بينهما من جنس قياس الذين قاسوا الميتة على المذكَّى والربا على البيع. وأما ثالثًا، فإن الله سبحانه جعل الإسلام سببًا لنفع المسلمين بعضهم بعضًا في الحياة وبعد الموت، فإذا لم يأت بسبب انتفاعه بعمل المسلمين لم يحصل له ذلك النفع؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو: «إن أباك لو كان أقرَّ بالتوحيد، فصُمْتَ، أو تصدَّقتَ عنه= نفعه ذلك» (3). وهذا كما جعل سبحانه الإسلام سببًا لانتفاع العبد بما عمل من خير، فإذا فاته هذا السبب لم ينفعه خيرٌ عمله ولم يُقبَل منه، كما جعل الإخلاص والمتابعة سببًا لقبول الأعمال، فإذا فُقِدا لم تُقبَل الأعمال. وكما جعل _________ (1) (ط): «اجتمعت». (2) (ب، ط): «المستوي». (3) سبق تخريجه في (ص 361).

(2/398)


الوضوء وسائر شروط الصلاة سببًا لصحتها، فإذا فُقِدت (1) فُقِدت الصحة. وهذا شأن سائر الأسباب مع مُسبَّباتها الشرعية والعقلية والحسيّة، فمن سوَّى بين حالين (2): وجودِ السبب وعدمِه، فهو مُبطلٌ. ونظيرُ هذا الهوَس (3) أن يقال: لو قُبلت الشفاعة في العُصاة لقُبلت في المشركين. ولو خرج (4) أهلُ الكبائر من الموحِّدين من النار لخرج الكفار (5) منها، وأمثالُ ذلك من الأقيسة التي هي (6) من نجاسات مِعَدِ أصحابها ورَجيع أفواههم! وبالجملة فالأولى بأهل العلم الإعراضُ عن الاشتغال بدَفْع هذه الهَذَيانات، لولا أنهم قد سوَّدوا بها صُحفَ الأعمال والصُّحف التي بين الناس! فصل وأما قولكم: العباداتُ نوعان: نوعٌ تدخله النيابة، فيصل ثوابُ إهدائه إلى الميت، ونوعٌ لا تدخله فلا يصل ثوابه. _________ (1) ساقطة من (ب). وفي بعض النسخ استدركت في الحاشية. (2) ما عدا (أ، ق، غ): «حالتي». (3) «الهوس» ساقط من (ب). وفي (ج): «هذه الشبهة». (4) (ب، ط): «أُخرج». (5) «لخرج الكفار» ساقط من الأصل، فاستدرك بعضهم في طرّتها ظنًّا: «لعله: لخرج المشركون». وكذا أثبته في المتن ناسخ (غ). (6) ساقط من (ب، ط، ج).

(2/399)


فهذا هو نفس المذهب والدعوى، فكيف تحتجُّون به؟ ومن أين لكم هذا الفرق؟ فأيُّ كتابٍ، أم أيُّ سُنَّة، أم أيُّ اعتبار دلَّ عليه حتى يجب المصير [86 ب] إليه. وقد شرع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصومَ عن الميت مع أنَّ الصومَ لا تدخله النيابة. وشرع للأمَّة أن ينوب بعضهم عن بعض في أداء فرض الكفاية، فإذا فعله واحدٌ ناب عن الباقين في فعله، وسقطَ عنهم المأثم. وشرع لقيِّم الطفل الذي لا يعقل أن ينوب عنه في الإحرام وأفعال المناسك، وحكم له بالأجر بفعل نائبه (1). وقد قال أبو حنيفة: يُحرِم (2) الرُّفْقَة عن المغمَى عليه، فجعلوا إحرامَ رفقته بمنزلة إحرامه (3). وجعل الشارعُ إسلامَ الأبوين بمنزلة إسلام أطفالهما، وكذلك إسلامُ السابي والمالك على القول المنصور (4). فقد (5) رأيت كيف عَدَّت هذه الشريعة الكاملة أفعالَ البِرِّ من فاعلها إلى غيرهم، فكيف يليقُ (6) بها أن تحجُرَ على العبد أن ينفعَ والديه ورَحِمَه وإخوانه من المسلمين، في أعظم أوقات حاجاتهم، بشيء من الخير والبرِّ _________ (1) يشير إلى حديث ابن عباس الذي أخرجه مسلم (1336). (2) (ط، ن): «تحرم». (3) انظر: الهداية (1/ 151). (4) انظر: إعلام الموقعين (2/ 67 - 69). وفي بعض النسخ المطبوعة: «المنصوص» موضع «المنصور»، ولعله من تغيير الناشرين. (5) (ق): «وقد». (6) «فكيف» ساقط من (ب). وفي (ج): «أيليق».

(2/400)


يفعله ويجعل ثوابَه لهم؟ وكيف (1) يَتحجَّر العبدُ واسعًا، أو يحجُر على من لم يحجُرْ عليه الشارع في ثواب عمله أن يصرف منه ما شاء إلى من شاء من المسلمين؟ والذي أوصل ثوابَ الحج والصدقة والعِتق هو بعينه الذي يُوصِل ثوابَ الصيام والصلاة والقراءة والاعتكاف. وهو: إسلامُ (2) المُهدَى إليه، وتبرُّع المُهدي وإحسانُه، وعدمُ حَجْر الشارع عليه في الإحسان، بل نَدْبُه (3) إلى الإحسان بكل طريق. وقد تواطأتْ رؤيا المؤمنين وتواترت أعظمَ تواتر على إخبار الأموات لهم بوصول ما يُهدُونه إليهم من قراءةٍ وصلاة وصدقة وحجٍّ وغيره. ولو ذكرنا ما حُكي لنا من أهل عصرنا وما بلَغَنا عمَّن قبلَنا من ذلك لطالَ (4) جدًّا. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أرى رؤياكم قد تواطأتْ على أنَّها في العَشْرِ الأواخر» (5)، فاعتبرَ (6) - صلى الله عليه وسلم - تواطؤَ رؤيا المؤمنين. وهذا كما يعتبر تواطؤ روايتهم عمَّا شاهدوه، فهم لا يَكذبون في روايتهم ولا في رؤياهم (7) إذا تواطأت. _________ (1) (ق): «فكيف». وهو ساقط من (ب، ج). (2) (ق): «الإسلام»، وهو خطأ. (3) ضبط في (ب): «ندَبَه». والضبط المثبت من (ن). (4) (ن): «لكثر». (5) سبق تخريجه في المسألة الأولى (ص 20). (6) بعده في (ط) زيادة: «النبي». وقد تحرّف «فاعتبر» في (أ، ق) إلى «كما عنه» فزاد ناسخ (غ) بعد «كما»: «روي»! (7) (ب، ط، ج): «رواياتهم ولا في رؤيتهم».

(2/401)


فصل وأما ردُّ حديثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو قوله: «من ماتَ وعليه صيامٌ [87 أ] صام عنه وليُّه» بتلك الوجوه التي ذكرتموها، فنحن ننتصر لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1)، ونبيِّن موافقته للصحيح من تلك الوجوه. وأما الباطل منها فيكفينا (2) بطلانه من معارضته للحديث الصحيح الصريح الذي لا تُغمَز قناتُه، ولا سبيلَ إلى مقابلته إلا بالسمع والطاعة والإذعان (3) والقبول. وليس لنا بعده الخِيَرة (4)، بل الخِيَرةُ كلُّ الخِيَرة في التسليم له والقول به، ولو خالفه مَن بين المشرق والمغرب. فأما (5) قولكم: نردُّه بقول مالك (6) في «موطَّئه»: لا يصومُ أحدٌ عن أحد، فمنازعوكم (7) يقولون: بل نردُّ قولَ مالك هذا بقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (8). فأيُّ الفريقين أحقُّ بالصواب، وأحسنُ ردًّا؟ وأما قوله (9): وهو أمرٌ مجمَعٌ عليه عندنا لا خلاف فيه، فمالكٌ رحمه _________ (1) (ن): «للحديث». (2) (ب، ج): «فتلقينا»، تصحيف. (3) (ب، ط، ج): «والانقياد». (4) ضبطت هذه في (ط) بفتح الحاء المهملة مع علامة الإهمال تحتها. (5) (ط): «وأما». (6) بعده في (ق) زيادة: «الإمام». (7) (ب، ط، ن): «فمنازعيكم». (8) (ب، ط، ج): «بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». (9) (ب، ط، ج): «قولكم»، وهو خطأ.

(2/402)


الله لم يحكِ إجماعَ الأمة من (1) شرق الأرض وغربها، وإنما حكى قولَ أهل المدينة فيما بلغه، ولم يبلُغْه خلافٌ بينهم، وعدمُ اطِّلاعه رحمه الله على الخلاف في ذلك لا يكون مُسقِطًا لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. بل لو أجمع (2) عليه أهلُ المدينة كلُّهم لكان الأخذ بالحديث المعصوم أولى من الأخذ بقول أهل المدينة الذين لم تُضمَن (3) لنا العِصمةُ في قولهم دون الأمة، ولم يجعل الله ورسولُه أقوالَهم حجَّةً يجب الردُّ عند التنازع إليها. بل قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. وإن (4) كان مالكٌ وأهل المدينة قد قالوا: لا يصوم أحدٌ عن أحدٍ، فقد روى الحكمُ بن عُتيبة (5) وسلَمةُ بن كُهَيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه أفتى في قضاء رمضانَ: يُطعَم عنه، وفي النذر: يُصام عنه (6). وهذا مذهبُ الإمام أحمدَ وكثيرٍ من أهل الحديث، وهو قول أبي عبيد. وقال أبو _________ (1) (ب، ط، ج): «في». (2) (ب، ط، ج): «اجتمع». (3) (ب، ط، ج): «يضمن». وفي (ن) بالياء والتاء جميعًا. (4) (ب، ط، ج): «ولو». (5) تصحف في (ب، ط، ج) إلى «عيينة». (6) فتوى ابن عباس هذه أخرجها أبو داود (2401) من رواية أبي حصين عن سعيد بن جبير عنه. وقد عزاها المصنف من قبل إلى أبي داود في فصل وصول ثواب الصوم إلى الميت. وذكر صاحب المغني (3/ 84) أن الأثرم رواها في السنن، ولا أدري أبالإسناد الذي ذكره المؤلف هنا أم بغيره.

(2/403)


ثور: يُصام عنه (1) النذر وغيره (2). وقال الحسنُ بن صالح في النذر: يصومُ عنه وَليُّه (3). فصل وأمَّا قولكم: ابن عباس هو روَى حديث الصوم عن الميت، وقد قال: لا يصوم [87 ب] أحدٌ عن أحد؛ فغاية هذا أن يكون الصحابيُّ قد أفتى بخلاف ما رواه. وهذا لا يقدح في روايته، فإنَّ روايته معصومةٌ، وفتواه غير معصومة. ويجوز أن يكون نسي الحديثَ، أو تأوَّله، أو اعتقد له معارضًا راجحًا في ظنِّه أو لغير ذلك من الأسباب؛ على أنَّ فتوى ابن عباس غيرُ معارضةٍ للحديث، فإنه أفتى في رمضان أنه لا يصوم أحدٌ عن أحد، وأفتى في النذر أنه يُصام عنه. وليس هذا بمخالف لروايته، بل حَمَل الحديث على النذر. ثم إنَّ (4) حديثَ: «من مات، وعليه صيامٌ، صام عنه وليُّه» هو ثابت من رواية عائشةَ، فهَبْ أنَّ ابن عباس خالفه، فكان ماذا؟ فخلافُ ابن عباس لا يقدحُ في رواية أمِّ المؤمنين، بل ردُّ قول ابن عباس بروايةِ عائشة أولى من ردِّ روايتها بقوله. _________ (1) «وهذا مذهب ... عنه» ساقط من (ب). (2) انظر: تهذيب السنن للمؤلف (7/ 27)، والتمهيد (9/ 27 ــ 28). (3) كلام ابن عبد البر في التمهيد يدل على أن الحسن بن صالح يرى الإطعام في قضاء رمضان والنذر جميعًا كأبي حنيفة والثوري والشافعي إلا أنه إذا لم يوجد ما يطعم عنه صام عنه وليُّه. (4) في (ب، ط) أقحم بعدها: «من».

(2/404)


وأيضًا فإنَّ ابنَ عباس (1) قد اختُلِف عنه في ذلك، وعنه روايتان، فليس إسقاطُ الحديث للرواية المخالفة له عنه أولى من إسقاطها بالرواية الأخرى وبالحديث. فصل وأما قولكم: إنه حديثٌ اختلف (2) في إسناده (3)، فكلامُ مُجازفٍ لا يُقبَل قوله، فالحديث صحيحٌ ثابت متَّفَق على صحته (4)، رواه صاحبا الصحيح (5) ولم يُختلَف في إسناده. قال ابن عبد البر: ثبت (6) عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من مات، وعليه صيامٌ، صام عنه وليُّه» (7). وصحَّحه الإمام أحمد، وذهب إليه. وعلَّق الشافعي القولَ به على صحته، فقال: وقد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصوم عن الميت شيء، فإن كان ثابتًا صِيم عنه كما يُحَج عنه (8). وقد ثبت بلا شك، فهو مذهب الشافعي. كذلك قال غير واحدٍ من أئمة أصحابه. قال البيهقي بعد _________ (1) ما عدا الأصل و (غ): «وأيضًا فابن عباس». (2) (ن): «مختلف». (3) يعني حديث عائشة الآتي، وقد سبق في فصل وصول ثواب الصوم إلى الميت. (4) في (ب، ط، ج): «فالحديث متفق عليه ثابت». (5) (ب، ط، ن): «صاحب الصحيح». (6) «ثبت» ساقط من (ط). (7) الاستذكار (3/ 340). (8) قاله الشافعي في كتاب المناسك في القديم، كما في معرفة السنن والآثار (6/ 309) والسنن الكبرى للبيهقي (4/ 256).

(2/405)


حكايته هذا اللفظ عن الشافعي: قد ثبت جوازُ القضاء عن الميِّت برواية سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعكرمة عن ابن عباس. وفي رواية أكثرهم: أنَّ امرأةً سألت، فأشبه أن يكون غيرَ قصة أم سعد (1). وفي رواية بعضهم [88 أ]: «صومي عن أمِّك» (2). وسيأتي تقرير ذلك عند الجواب عن كلامه رحمه الله. قولُكم: إنَّه معارَض (3) بنصِّ القرآن، وهو قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] إساءةُ أدب في اللفظِ، وخطأ عظيم في المعنى. وقد أعاذ الله رسولَه - صلى الله عليه وسلم - أن تُعارِض سنَّتُه لنصوص القرآن (4). بل تُعاضِدها وتُؤيِّدها، ولله (5) ما يصنع التعصبُ ونُصرة التقليد! وقد تقدَّم من الكلام على الآية ما (6) فيه كفايةٌ، وبينَّا أنها (7) لا تعارض بينها وبين سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهٍ، وإنما يُظنُّ التعارضُ من سوء الفهم. وهذه طريقةٌ وخيمة ذميمة، وهي ردُّ السنن الثابتة بما يُفهم من ظاهر القرآن. والعلمُ كلُّ العلمِ تنزيلُ السنن على القرآن، فإنها مُشتقَّة منه، ومأخوذة عمن جاء به. وهي بيانٌ له، لا أنها _________ (1) (أ، غ): «أم سعيد»، خطأ. (2) معرفة السنن والآثار (6/ 309). (3) (ب، ج): «يعارَض». (ن): «يُعارِض نصَّ ... ». (4) كذا في جميع النسخ: «لنصوص ... » باللام. (5) (ط): «فلله». (6) في الأصل: «بما». وكان السياق فيه: «تقدَّم الكلام بما ... » ثم استدركت «من»، ولم تحذف الباء. (7) ما عدا (أ، ق، غ): «أنه».

(2/406)


مناقضةٌ له. قولكم: إنه معارَض بما رواه النسائي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يُصلِّي أحدٌ عن أحد، ولا يصومُ أحدٌ عن أحد، ولكن يُطعم عنه كلَّ يوم مدٌّ من حنطة» فخطأ قبيحٌ (1)، فإن النسائي رواه هكذا: أخبرنا محمد بن عبد الأعلى، ثنا يزيدُ بن زُريع، ثنا حجَّاج الأحول، ثنا أيوبُ بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال: لا يُصلِّي أحدٌ عن أحد، ولا يصوم أحدٌ عن أحد، ولكن يُطعم عنه (2) مكان كل يوم مُدٌّ من حنطة. هكذا رواه: قول ابن عباس، لا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فكيف يُعارَض قولُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقول ابن عباس، ثم يُقدَّم عليه، مع ثبوت الخِلاف عن ابن عباس؟ ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقل هذا الكلام قطُّ (3). وكيف يقوله، وقد ثبت عنه في «الصحيحين» أنه قال: «من مات، وعليه صيام، صام عنه وليُّه» (4)؟ وكيف يقوله، وقد قال في حديث بُريدةَ الذي رواه مسلم في «صحيحه» أنَّ امرأة قالت له: إنَّ أمِّي ماتتْ، وعليها صوم شهر؟ قال: «صُومي عن أمِّك» (5). _________ (1) في (ب، ط، ج): «مخطيا فيه»، وهو تحريف. وقد صححه بعضهم في حاشية (ط). (2) «عنه» ساقط من (أ، غ). (3) «قط» ساقطة من (ق). (4) سبق قريبًا. (5) سبق في فصل وصول ثواب الصوم.

(2/407)


وأما قولكم: إنه معارَض بحديث ابن عمر: «من مات، وعليه صوم رمضان، يُطعَم عنه» (1)، فمن هذا النمط، فإنه حديثٌ باطل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال البيهقي: حديثُ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «من مات وعليه صومُ رمضانَ يُطعم عنه» = لا يصحُّ (2). ومحمد بن عبد الرحمن كثيرُ الوَهَم، وإنما رواه أصحابُ نافع عن نافع عن ابن عمر من قوله (3). وأما قولكم: إنه معارَضٌ بالقياس الجلي على الصلاة والإسلام والتوبة، فإنَّ أحدًا لا يفعلها عن أحد؛ فلَعَمرُ الله، إنّه لَقياسٌ (4) جَليُّ البطلان والفساد؛ لِردِّ سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحةِ الصريحة له، وشهادتها ببطلانه. وقد أوضحنا الفرق بين قبول الإسلام عن الكافر بعد موته، وبين انتفاعِ المسلم بما يُهديه إليه أخوه المسلمُ من ثواب صيامٍ أو صدقة أو صلاة. ولَعمرُ الله إنَّ الفرقَ بينهما أوضحُ من أن يخفى. وهل في القياس أفسَدُ من قياس انتفاع المرء المسلم بعد موته بما يُهديه إليه أخوه المسلمُ من ثواب عمله (5)، على قبول الإسلام عن الكافر بعد موته، أو قبولِ التوبة عن المجرم بعد موته؟ _________ (1) «وأما قولكم» ثم نصّ الحديث ساقط من (ب). وقد سبق تخريج الحديث في فصل وصول ثواب الصوم. (2) في (ب، ط، ج) زيادة «عنه». (3) معرفة السنن والآثار (6/ 311). (4) (ب): «إن القياس». (5) (ب، ط): «عمل».

(2/408)


فصل وأما (1) كلامُ الشافعي رحمه الله في تغليط راوي حديث ابن عباس أنَّ نذرَ أمِّ سعد كان صومًا؛ فقد أجاب عنه أنصَرُ الناس له، وهو البيهقيُّ، ونحن نذكر كلامه بلفظه. قال في كتاب «المعرفة» (2) بعد أن حكى كلامه: قد ثبت جوازُ القضاء عن الميِّت برواية سعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، عن ابن عباس. وفي رواية أكثرهم: أنَّ امرأةً سألت، فأشبهَ أن يكون غير قصّة أم سعد. وفي رواية بعضهم: «صُومي عن أمِّك». قال: ويشهد له بالصحة روايةُ عبد الله (3) بن عطاء المدني قال: حدَّثني عبد الله بن بُريدة (4) الأسلميُّ عن أبيه قال: كنتُ عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فأتَتْه امرأةٌ، فقالت: يا رسولَ الله، إنّي كنتُ تصدَّقتُ بوليدةٍ على أمِّي، فماتتْ، وبقيت الوليدة. قال: «قد وجب (5) أجرُكِ، ورجعَت إليك في الميراث». قالت: فإنها ماتتْ، وعليها صومُ شهر؟ قال: «صُومي عن أمِّك». قالت: وإنها ماتَتْ، ولم تحُجَّ؟ قال: «فحُجِّي عن أمِّك». رواه مسلم في «صحيحه» من أوجُهٍ عن عبد الله [89 أ] بن عطاء (6). انتهى. _________ (1) (ب، ج): «فأما». وزاد بعد «كلام» في (ق): «الإمام». (2) معرفة السنن والآثار (6/ 309 ــ 310). (3) (ب، ط): «عبد الملك». وصحح في حاشية (ط). (4) (أ، غ): «عبد بن بريدة». (5) (ب، ط، ج): «وقع». (6) وانظر: السنن الكبرى للبيهقي (4/ 151). وقد سبق تخريج حديث بريدة في فصل وصول ثواب الصوم.

(2/409)


قلت: وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم البَطين عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس قال: جاء رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنَّ أمّي ماتتْ، وعليها صيامُ شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: «فدَيْنُ الله أحقُّ أن يُقضى» (1). ورواه ابن أبي خَيْثمة: حدثنا معاويةُ بن عمرو، ثنا زائدةُ، عن الأعمش. فذكره (2). ورواه النسائي (3) عن قتيبة بن سعيد، ثنا عَبْثَر، عن الأعمش. فذكره (4). فهذا (5) غير حديث أمِّ سعد إسنادًا ومتنًا. فإنَّ قصةَ أمِّ سعدٍ رواها مالك، عن الزُّهري، عن عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة، عن ابن عباس: أنَّ سعد بن عُبادة استفتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنَّ أمِّي ماتَتْ وعليها نذر، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اقضِهِ عنها». وهكذا أخرجاه في «الصحيحين» (6). فهَبْ أنَّ هذا هو المحفوظ (7) في هذا الحديث أنه نذرٌ مطلق لم يسمَّ، _________ (1) أخرجه الشيخان، وقد سبق في فصل وصول ثواب الصوم. ومن طريق أبي معاوية أخرجه البزار (5004). (2) من طريق معاوية بن عمرو أخرجه أحمد في المسند (2336) والبخاري (1953). (3) في الكبرى (2924). (4) «ورواه النسائي ... فذكره» ساقط من (ن). (5) تكررت كلمة «فهذا» في الأصل سهوًا. (6) البخاري (2761)، ومسلم (1638). (7) في (ب، ط، ج) زيادة: «عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -».

(2/410)


فهل يكون هذا علَّةً (1) في حديث الأعمش عن مسلم البَطين عن سعيد بن جُبير عنه؟ على أنَّ (2) تركَ استفصالِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لسعدٍ في النذر: هل كان صلاة أو صدقة أو صيامًا (3)؟ مع أنَّ الناذر قد ينذِرُ هذا وهذا وهذا (4) = يدلُّ على أنه لا فرقَ بين قضاء نذرِ الصيام والصلاة، وإلا لقال له: ما هو النذرُ؟ فإنَّ النذر إذا انقسمَ إلى قسمين: نذر يقبل القضاءَ عن الميت، ونذر لا يقبله، لم يكن بدٌّ من الاستفصال (5). فصل ونحن نذكر أقوال أهل العلم في الصوم عن الميت، لئلا يُتوهمَّ أنَّ في المسألة إجماعًا بخلافه. قال عبد الله بن عباس: يُصام عنه في النذر، ويُطعَم عنه في قضاء رمضان. وهذا مذهب الإمام أحمد. وقال أبو ثور: يُصام عنه النذر والفرض. وكذلك قال داود بن علي وأصحابه: يُصام عنه نذرًا كان أو فرضًا. وقال الأوزاعي: يجعل وليُّه مكان الصوم صدقةً، فإن لم يجد صام عنه. وهذا [89 ب] قول سفيان الثوري في إحدى الروايتين عنه. _________ (1) «علَّة» ساقط من (أ، ق، غ). وسقط من (ن) «هذا» أيضًا. (2) «حديث الأعمش ... أنّ» ساقط من (ق). (3) (ب، ط، ج): «صيامًا أو صدقة». (4) وردت «هذا» في (ب، ج) مرتين فقط. (5) في (ن) هنا وفيما سبق: «الاستفسار».

(2/411)


وقال أبو عبيد القاسم بن سلَّام (1): يُصام عنه النذر، ويُطعَم عنه في الفرض (2). وقال الحسن: إذا كان عليه صيامُ شهر، فصام عنه ثلاثون رجلاً يومًا واحدًا، جاز (3). فصل وأما قولكم: إنه (4) يَصِل إليه في الحج ثوابُ النفقة دون أفعال المناسك، فدعوى مجرَّدة بلا برهان. والسُّنَّة تردُّها، فإنه (5) - صلى الله عليه وسلم - قال: «حُجَّ عن أبيك» (6). وقال للمرأة: «حُجِّي عن أمك» (7). فأخبر أنَّ الحجَّ نفسه عن الميت (8)، ولم يقُلْ: إنَّ الإنفاقَ هو الذي يقع عنه. وكذلك قال للذي سَمِعه يُلبِّي عن شُبْرُمة: «حُجَّ عن نفسك، ثم حُجَّ عن شُبْرمة» (9). ولما سألته المرأة عن الطفل الذي معها، فقالت: ألهذا حجٌّ؟ _________ (1) زاد بعده في (ن): «أيضًا». (2) انظر الأقوال المذكورة في التمهيد (9/ 27 ــ 28) والمحلى (7/ 2) والمغني (3/ 84) وجامع المسائل (4/ 246). وقد تقدَّم بعضها في الفصول السابقة. (3) قول الحسن ذكره البخاري في كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم. وقال ابن حجر في الفتح (4/ 193) إن الأثر وصله الدارقطني في كتاب الذبح. (4) «إنه» ساقط من (ب، ج). (5) السياق في (ب، ج): «برهان فإن النبي». (6) كما في حديث ابن عباس، وقد تقدَّم (ص 364). (7) كما تقدم عن بريدة وابن عباس (ص 362، 363). (8) «عن الميت» ساقط من (ب، ج). (9) أخرجه أبو داود (1811)، وابن ماجه (2903)، وابن الجارود (499)، وابن خزيمة (3039)، وابن حبان (3988)، والبيهقي (4/ 336) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال البيهقي: «هذا إسناد صحيح، ليس في الباب أصح منه». وكذا صحّح إسناده ابن الملقن في البدر المنير (6/ 46)، وابن حجر في الفتح (12/ 327). وللمزيد انظر: التلخيص الحبير (2/ 224)، وإرواء الغليل (994). (قالمي).

(2/412)


قال: «نعم، ولكِ أجر» (1). ولم يقل: إنما له ثوابُ الإنفاق، بل أخبر (2) أنَّ له حجًّا، مع أنه لم يفعل شيئًا، بل وليُّه ينوب عنه في أفعال المناسك. ثم إنَّ النائبَ عن الميت قد لا يُنفق شيئًا في حجَّته غيرَ نفقةِ مقامه، فما الذي يجعل ثوابَ نفقةِ مقامه للمحجوج عنه، وهو لم ينفقها على الحجِّ؟ بل تلك نفقته، أقام أم سافر. فهذا القولُ تردُّه السُّنَّة والقياس. والله أعلم. فصل فإن قيل: فهل (3) تشترطون في وصولِ الثواب أن يُهدِيَه بلفظه، أم يكفي في وصوله مجرّدُ نية العامل أن يُهديه إلى الغير؟ قيل: السُّنَّة لم تشترط التلفُّظَ بالإهداء في حديث واحد، بل أطلق - صلى الله عليه وسلم - الفعلَ (4) عن الغير، كالصوم والحجِّ والصدقة، ولم يَقُلْ لفاعِل ذلك: قل: اللهم هذا عن فلان بن فلان. والله سبحانه يعلمُ نيةَ العبد وقصدَه بعمله، فإن ذكره جاز، وإن ترك ذِكْرَه واكتفى بالنية والقصد وصل إليه، ولا يحتاج أن _________ (1) أخرجه مسلم من حديث ابن عباس (1336). ولم يرد «ولك أجر» في (ب، ط، ج). (2) في (ب، ط، ج): «فأخبر» في موضع «بل أخبر». (3) (ق): «وهل». (4) (ب، ط، ج): «بالفعل».

(2/413)


يقول: اللهم إني صائمٌ غدًا عن فلان بن فلان. ولهذا ــ والله أعلم ــ اشترطَ مَن اشترط نيةَ الفعل عن الغير قبله، ليكونَ واقعًا بالقصدِ عن الميت. فأمَّا إذا فعله لنفسه، ثم نوى أن [90 أ] يجعلَ ثوابَه للغير، لم يَصِرْ للغير (1) بمجرد النية، كما لو نوى أن يَهَب أو يُعتِقَ أو يتصدَّقَ لم يحصل ذلك بمجرد النية (2). ومما يوضِّح ذلك أنه لو بنى مكانًا بنية (3) أن يجعلَه مسجدًا أو مدرسةً أو سِقايةً (4) ونحو ذلك صار وَقْفًا بفعله مع النية، ولم يحتَجْ إلى تلفظ (5)، وكذلك لو أعطى الفقير مالاً بنية الزكاة سقطَتْ عنه الزكاة، وإن لم يتلفَّظ (6) بها. وكذلك لو أدَّى عن غيره دَيْنًا، حيًّا كان أو ميتًا، سقط من ذمَّته، وإن لم يقُلْ: هذا (7) عن فلان. فإن قيل: فهل يتعينَّ عليه تعليقُ الإهداء بأن يقول: اللهم إن كنتَ قبلتَ هذا العملَ، وأثبتَني عليه، فاجعَلْ ثوابَه لفلان؛ أم لا (8)؟ _________ (1) «للغير» ساقط من (ب). (2) «يجعل ثوابه ... النية» ساقط من (ب، ن). (3) (ط): «نيتُه». (4) (ب، ط، ج): «سقاية أو مدرسة». (5) (ب، ط، ج): «يحتج أن يلفظ». (6) (ب، ط، ج): «يلفظ». (7) في (ب، ج) قبل «هذا»: «اللهم»، وفي (ط): «اللهم إنّ». (8) «أم لا» ساقط من (ب، ج).

(2/414)


قيل: لا يتعيَّن ذلك لفظًا ولا قصدًا. بل لا فائدةَ في هذا الشرط، فإنَّ اللهَ سبحانه إنما يفعل هذا، سواء شرَطه أو لم يشرطه. فلو كان سبحانه يفعل غيرَ هذا بدون الشرط كان في الشرط فائدة. وأما قوله: اللهم إن كنت أثبتَني على هذا، فاجعَلْ ثوابه لفلان؛ فهو بناء على أنَّ الثوابَ يقع للعامل، ثم ينتقل منه إلى من أهدى له. وليس كذلك، بل إذا نوى حالَ الفعل أنه عن فلان وقَع الثوابُ أولاً عن المعمول له. كما لو أعتق عبدَه (1) عن غيره لا نقول: إن الولاءَ يقع للمُعتِق، ثم ينتقل عنه إلى المعتَق عنه، فهكذا هذا. والله الموفق (2). فإن قيل: فما الأفضل أن يُهدَى إلى الميت؟ قيل: الأفضل ما كان أنفعَ في (3) نفسه. فالعِتْقُ عنه والصدقةُ أفضلُ من الصيام عنه (4). وأفضلُ الصدقة ما صادفتْ حاجةً من المتصدَّق عليه، وكانت دائمة مستمرَّة. ومنه قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أفضلُ الصدقةِ سَقْيُ الماء» (5). وهذا في موضع يقِلُّ فيه الماء، ويكثُر فيه العطش؛ وإلا فسَقْيُ الماء على الأنهار والقُنِيِّ (6) لا يكون أفضلَ من إطعام الطعام عند الحاجة. _________ (1) (ب، ط، ج): «عبيده». (2) ما عدا (أ، غ): «وبالله التوفيق». ولم يرد شيء في (ن). (3) (ب، ط): «من»، تحريف. (4) ساقط من (ب، ط، ج). (5) سبق تخريجه من حديث سعد بن عبادة رضي الله عنه. (6) كذا مضبوطًا في (أ، غ، ط). وهو جمع الجمع للقناة.

(2/415)


وكذلك الدعاء [90 ب] والاستغفار (1) له إذا كان بصدقٍ من الداعي وإخلاص وتضرُّع، فهو في موضعه أفضل من الصدقة عنه، كالصلاة على جنازته، والوقوف للدعاء على قبره. وبالجملة، فأفضلُ ما يُهدَى إلى الميت: العِتْق، والصدقة، والاستغفار له، والدعاء له، والحجُّ عنه. وأمَّا قراءةُ القرآن وإهداؤها له تطوعًا بغير أجرة، فهذا يصل إليه، كما يصل (2) ثوابُ الصوم والحجِّ (3). فإن قيل: فهذا لم يكن معروفًا في السلف، ولا يمكن نقلُه عن واحد منهم مع شدة حرصهم على الخير، ولا أرشَدهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إليه (4). وقد أرشدهم إلى الدعاء والاستغفار والصدقة والحجِّ والصيام، فلو كان ثوابُ القراءة يصل لأرشدَهم إليه، ولكانوا (5) يفعلونه. فالجواب: أنَّ مُوردَ هذا السؤال إن كان معترِفًا بوصول ثواب الحجِّ والصيام والدعاء والاستغفار، قيل له: ما هذه الخاصيَّة التي مَنعتْ وصولَ ثواب القرآن، واقتضَتْ وصول ثواب هذه الأعمال، وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات! وإن لم يعترِفْ بوصول تلك الأشياء إلى الميت فهو محجوج _________ (1) (ب، ط، ج): «الاستغفار والدعاء». (2) بعده في (ب، ط) زيادة: «إليه». (3) أورد شارح الطحاوية (464 - 465) كلام ابن القيم في هذه المسألة بنصه ملخصًا، دون إشارة إليه. (4) «إليه» ساقط من (ن). (5) (ط): «وكانوا».

(2/416)


بالكتاب والسنة والإجماع وقواعد الشرع. وأما السبب الذي لأجله لم يظهر ذلك في السلف، فهو أنهم لم يكن لهم أوقاف على من يقرأ ويُهدي إلى الموتى، ولا كانوا يعرفون ذلك البتة، ولا كانوا يقصدون القبر للقراءة عنده كما يفعله الناس اليوم، ولا كان أحدهم يُشهِد من حضرَه من الناس على أنَّ ثواب هذه القراءة لفلان الميت، بل ولا ثواب هذه الصدقة والصوم. ثم يقال لهذا القائل: لو كُلِّفت أن تنقل عن واحد من السلف أنه قال: اللهم ثوابُ (1) هذا الصوم لفلان لعجزتَ، فإنَّ القومَ كانوا أحرصَ شيء على كتمان (2) أعمال البرِّ، فلم يكونوا [91 أ] لِيُشهِدوا على الله بإيصال ثوابها إلى أمواتهم. فإن قيل: فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرشدَهم إلى الصوم والصدقة والحجِّ (3) دون القراءة. قيل: هو - صلى الله عليه وسلم - لم يبتدئهم بذلك، بل خرج ذلك منه مخرجَ الجواب لهم، فهذا سأله عن الحجِّ عن ميته، فأذِنَ له، وهذا سأله عن الصيام، فأَذِنَ له، وهذا سأله عن الصدقة فأَذِنَ له، ولم يمنعهم مما سوى ذلك. وأيُّ فَرْقٍ بين وصول ثواب الصوم الذي هو مجرَّدُ نية وإمساك، وبين وصول ثواب القراءة والذكر؟ والقائل: إنَّ أحدًا من السلف لم يفعل ذلك قائلٌ ما لا علْمَ له به، فإن _________ (1) (ب، ط، ج): «إن ثواب». وكتب بعضهم في الأصل فوق السطر: «اجعل» أي: «اجعل ثواب». وكذا في (غ). (2) «كتمان» ساقط من (ب، ط، ج). (3) (ب، ط، ج): «الحج والصدقة».

(2/417)


هذه شهادة على نفي ما لم يعلمه. فما يُدريه أنَّ السلف كانوا يفعلون ذلك، ولا يُشهِدون من حضَرَهم عليه، بل يكفي (1) اطِّلاع علَّام الغيوب على نيَّاتهم ومقاصدهم، لا سيَّما والتلفظُ بنيَّة الإهداء لا يُشترَط، كما تقدم. وسِرُّ المسألة: أنَّ الثوابَ مِلكٌ للعامل، فإذا تبرَّع به وأهداه إلى أخيه المسلم أوصله الله إليه. فما الذي خَصَّ من هذا ثوابَ قراءة القرآن، وحجَرَ على العبد أن يُوصله إلى أخيه (2)؟ وهذا عملُ الناس حتى المنكرين في سائر الأعصار (3) والأمصار من غير نكيرٍ من العلماء (4). فإن قيل: فما (5) تقولون في الإهداء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قيل: من الفقهاء المتأخرين (6) من استحبَّه. ومنهم من لم يستحِبَّه، ورآه بدعةً (7)؛ لأنَّ الصحابة لم يكونوا يفعلونه، وأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - له أجرُ كل من عمِل خيرًا من أمته، من غير أن يَنقُص من أجر العامل شيء؛ لأنه هو الذي دلَّ أمَّتَه _________ (1) (ط): «كفى». (2) في (ب، ط) زيادة: «المسلم». (3) في (ب، ط، ج): «الأقطار والأعصار». (4) (أ، غ): «بين العلماء». وانظر في تعقب كلام المؤلف في هذا الفصل: تفسير المنار (8/ 226 - 232). (5) (ب، ط، ج): «ما». (6) (ب، ط، ج): «من المتأخرين». وفي جامع المسائل (4/ 254): «ذهب إليه طائفة من الفقهاء والعبّاد من أصحاب أحمد وغيرهم. وأقدم من بلغنا ذلك عنه علي بن الموفق أحد الشيوخ المشهورين. كان أقدم من الجنيد وطبقته. وقد أدرك أحمد وعصره، وعاش بعده». (7) قال شيخ الإسلام: «وهو الصواب المقطوع به». المصدر السابق.

(2/418)


على كلِّ خير، وأرشدهم، ودعاهم إليه. و «من دعا إلى هُدًى، فله من الأجرِ مثلُ [91 ب] أجور من اتبعه، من غير أن يَنقُص من أجورهم شيء» (1). وكلُّ هدًى وعلم فإنما ناله أمته على يده، فله مثلُ أجر من اتَّبعه، أهداه إليه أو لم يُهْدِه. والله أعلم (2). _________ (1) أخرجه مسلم (2674) من حديث أبي هريرة. (2) انظر في هذه المسألة جامع المسائل (4/ 243 ــ 299) ومجموع الفتاوى (1/ 191، 327)، (26/ 156)، وقد لخص كلام المصنف شارح الطحاوية (465) حسب منهجه.

(2/419)


فصل

 وأما المسألة السابعة عشرة (1) وهي: هل الروح قديمة أم محدثة مخلوقة؟

وإذا كانت مُحدَثة مخلوقة، وهي من أمر الله، فكيف يكون أمرُ الله مُحدَثًا مخلوقًا؟ وقد أخبر سبحانه أنه نفخَ في آدم من روحه، فهذه الإضافةُ إليه هل تدلُّ على أنها (2) قديمة أم لا؟ وما حقيقة هذه الإضافة (3)؟ فقد أخبر عن آدم أنه خلَقه بيده، ونفخَ فيه من روحه، فأضاف اليد والروح إليه إضافة واحدة. فهذه مسألةٌ زلَّ فيها عالَم، وضلَّ فيها طوائف من بني آدم. وهدى الله أتباعَ رسوله فيها للحق المبين والصواب المستبين. فأجمعت الرسل ــ صلوات الله وسلامه عليهم ــ على أنها محدَثةٌ مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبَّرة. هذا معلومٌ بالاضطرار من دين الرسل ــ صلوات الله وسلامه عليهم ــ كما يُعلَم بالاضطرار من دينهم أنَّ العالَم حادث، وأنَّ معاد الأبدان واقع، وأنَّ الله وحده الخالق (4)، وكلُّ ما سواه مخلوق له. وقد انطوى عصرُ الصحابة والتابعين وتابعيهم ــ وهم القرون المفضَّلة (5) ــ على ذلك من غير اختلاف بينهم في حدوثها، وأنها مخلوقة _________ (1) (ن): «المسألة الثامنة عشرة». ولم يرد فيها «فصل وأما». (2) «أنها» ساقط من (ق). (3) (ن): «الأوصاف»، تحريف. (4) (ط): «خالق». (5) في (ق): «الفضيلة». و «القرون المفضلة» ساقطة من (ن).

(2/420)


حتى نبغَت نابغةٌ ممن قَصَر فهمه في الكتاب والسُّنَّة، فزعم أنها قديمة غير مخلوقة. واحتجَّ على ذلك (1) بأنها من أمر الله، وأمرُه (2) غير مخلوق، وبأن الله تعالى أضافها إليه كما أضاف إليه علِمه وكتابه (3) وقدرته وسمعه وبصره ويدَه. وتوقَّف آخرون، وقالوا: لا نقول: مخلوقة ولا غير مخلوقة (4). وسُئل عن ذلك حافظُ أصبهان أبو عبد الله بن منده، فقال (5): أما بعد، فإنَّ سائلاً سألني عن الروح التي جعَلها الله سبحانه قِوامَ أنفُسِ (6) الخلق وأبدانهم، وذكَر أنَّ أقوامًا تكلَّموا في الروح، وزعموا أنها غير مخلوقة، وخصَّ بعضهم منها أرواحَ القدس، وأنها من ذات الله. قال: وأنا أذكر اختلاف أقاويل متقدِّميهم، وأبيِّن ما يخالف أقاويلهم من الكتاب والأثر وأقاويل الصحابة والتابعين وأهل العلم. وأذكر بعد ذلك وجوهَ الروح من الكتاب والأثر، وأوضِّح به (7) خطأ المتكلِّم في الروح بغير علم، وأنَّ كلامهم يوافق قولَ جهم (8) وأصحابه. فنقول وبالله التوفيق: إنَّ الناس اختلفوا في معرفة الأرواح ومحلِّها من النفس، فقال بعضهم: _________ (1) «على ذلك» من (أ، غ) فقط. (2) (ط): «أمر الله». (3) (ب، ج): «حياته». (4) «وتوقف ... مخلوقة» ساقط من (ط). و «لا غير مخلوقة» ساقط من (ب). (5) (أ، غ): «قال». والظاهر أن النقل من مقدمة كتاب الروح والنفس لابن منده. (6) (ب، ج، ن): «نفس». (7) «به» ساقط من (ط). (8) في (ن) زيادة: «بن صفوان».

(2/421)


الأرواح كلُّها مخلوقة. وهذا مذهب أهل الجماعة والأثر. واحتجَّت بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الأرواح جنود مجنَّدة، فما تعارَف منها ائتلف، وما تناكرَ منها اختلف» (1). والجنود المجنَّدة لا تكون إلا مخلوقة. وقال بعضهم: الأرواح من أمر الله، أخفى الله حقيقتَها وعِلمَها عن الخلق. واحتجَّتْ بقول الله (2) تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]. وقال بعضهم: الأرواح نور من نور الله تعالى وحياة من حياته (3). واحتجَّتْ بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله خلقَ خلْقَه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره» (4). ثم ذكر الخلافَ في الأرواح، هل تموت أم لا؟ وهل تعذَّب مع الأجساد في البرزخ؟ وفي مستقرِّها بعد الموت، وهل هي النفس أو غيرها؟ _________ (1) سبق تخريجه في المسألة الرابعة عشرة. (2) (ب، ن): «بقوله». (3) و «احتجت بقول الله ... حياته» ساقط من (ب). (4) أخرجه الترمذي (2642)، والإمام أحمد (6854)، وابن أبي عاصم في السُّنَّة (241، 242، 243، 244)، وابن حبان (6169، 6170)، من طرق عن عبد الله بن فيروز الديلمي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله يقول (فذكره) وزاد: «فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضلّ، فلذلك أقول: جفّ القلم على علم الله». وقال الترمذي: «هذا حديث حسن». وأخرجه الإمام أحمد (6644)، والحاكم (1/ 30) من هذا الوجه في حديث طويل، وقال الحاكم: «هذا صحيح قد تداوله الأئمة» وهو كما قال. (قالمي)

(2/422)


وقال محمد بن نصر المروزيُّ في كتابه (1): تأوَّل صنفٌ من الزنادقة وصنفٌ (2) من الروافض في روح آدم ما تأوَّلت (3) النصارى في روح عيسى، وما تأوَّله قومٌ من أن الروح انفصل من ذات الله، فصار [92 ب] في ذات المؤمن (4). فعَبَد صنفٌ من النصارى عيسى ومريم جميعًا لأنَّ عيسى عندهم روحٌ من الله صار في مريم، فهو غير مخلوق عندهم (5). وقال صنفٌ من الزنادقة وصنفٌ من الروافض: إنَّ روحَ آدم مثل ذلك أنه غير مخلوق (6). وتأوَّلوا قوله تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحِجر: 29]. وقوله: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة: 9]. فزعموا أنَّ روحَ آدم ليس بمخلوق، كما تأوَّل من قال: إن النورَ من الربِّ غير مخلوق، وقالوا: ثم صار بعد آدم في الوصيِّ بعده، ثم هو في كل نبيٍّ ووصيٍّ إلى أن صار في عليٍّ، ثم في الحسن والحسين، ثم في كل وصيٍّ وإمام. فبه يعلم الإمامُ كلَّ _________ (1) لم يصرّح المصنف باسم الكتاب. وقد نقل من قبل في المسألة الخامسة عشرة في مستقرّ الأرواح من كتابه في الرد على ابن قتيبة. وقد نص الحافظ في الفتح (8/ 404) على أن ابن منده في كتاب الروح له نقل عن المروزي الإجماع على كون الروح مخلوقة. فلا يبعد أن يكون هذا النقل كسابقه من كتاب ابن منده. (2) «وصنف» ساقط من (ب، ج). (3) ما عدا (أ، غ): «تأولته». (4) ما عدا (أ، غ): «في المؤمن». نقله التيمي في كتاب الحجة في بيان المحجة (1/ 469) بلفظ: «أن النور والروح انفصلا من ذات الله عزَّ وجلَّ فصارا في المؤمن». (5) «عندهم» ساقط من (ط). (6) «أنه غير مخلوق» ساقط من (ن).

(2/423)


شيء، ولا يحتاج (1) أن يتعلَّمَ من أحد. ولا خلافَ بين المسلمين أنَّ الأرواحَ التي في آدم وبنيه وعيسى ومن سواه من بني آدم كلَّها مخلوقةٌ لله، خلَقَها (2)، وأنشأها، وكوَّنها، واخترعها؛ ثم أضافَها إلى نفسه كما أضاف إليه سائرَ خلقه. قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] (3). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (4): روحُ الآدمي مخلوقةٌ مبتدَعةٌ (5) باتِّفاق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة. وقد حَكى إجماعَ العلماء على أنها مخلوقة غيرُ واحد من أئمة المسلمين، مثل محمد بن نصر المروزي الإمام المشهور الذي هو من أعلم أهل زمانه (6) بالإجماع والاختلاف. وكذلك أبو محمد بن قُتيبة قال في كتاب «اللفظ» (7) لما تكلَّم على الروح، قال: النَّسَم: الأرواح. قال: وأجمعَ الناس على أنَّ الله تعالى هو فالقُ _________ (1) في (أ، غ) دون واو العطف قبله. وفي (ط) بعده: «إلى». (2) السياق في كتاب الحجة: «مخلوقة. اللهُ خلَقَها». (3) هنا انتهى النقل من كتاب المروزي. وقد نقل أبو القاسم التيمي في كتاب الحجة (1/ 506 ــ 507) هذه الفقرة، ثم الفقرة الأولى، دون قوله: «وقال صنف من الزنادقة ... يتعلم من أحد». (4) انظر: مجموع الفتاوى (4/ 216 ــ 220). (5) ما عدا (أ، غ): «مبدعة». (6) «أهل» ساقط من (ب، ج). وفي (ط): «هو أعلم من». (7) وهو كتاب الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية. انظر: طبعة دار الراية (66) وطبعة العلمية (56).

(2/424)


الحبَّة (1)، وبارئ النَّسَمة، أي: خالق الروح. وقال أبو إسحاق ابن شاقْلا (2) فيما أجاب به في هذه المسألة: سألتَ ــ رحمك الله ــ عن الروح مخلوقةٌ هي، أو غيرُ مخلوقة؟ قال: وهذا مما لا يشُكُّ فيه مَن وُفِّق للصواب أنَّ الروحَ من الأشياء المخلوقة. وقد [93 أ] تكلَّم في هذه المسألة طوائفُ من أكابر العلماء والمشايخ، وردُّوا على من يزعم أنها غير مخلوقة. وصنَّف الحافظُ أبو عبد الله ابن منده في ذلك كتابًا كبيرًا. وقبله الإمام محمد بن نصر المروَزي وغيره، والشيخ أبو سعيد الخرَّاز، وأبو يعقوب النهرَجُوري (3) والقاضي أبو يعلى. وقد نصَّ على ذلك الأئمة الكبار، واشتدَّ نكيرُهم على من يقول ذلك في روح عيسى ابن مريم، فكيف بروح غيره! كما ذكره الإمام أحمد فيما كتبه في محبِسه (4) في «الرد على الزنادقة والجهمية» (5): «ثم إنَّ الجهميَّ ادَّعى أمرًا، فقال: أنا أجد آيةً في كتاب الله مما يدلُّ على أنَّ القرآن مخلوقٌ: قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ _________ (1) (ب، ج): «فالق الحب والنوى». وفي (ن): «فالق الحبّ وبارئ النسم ... الأروح». وفي طبعة دار الراية: «خالق الجن»، تحريف. (2) هنا أيضًا ضبط في (ق) بسكون القاف مع علامة صح، وانظر ما سبق في (ص 99). (3) أبو سعيد (ت 279) من أصحاب ذي النون، وأبو يعقوب (ت 330) من أصحاب الجنيد. انظر: طبقات الصوفية للسلمي (228، 378). وقد ذكر شيخ الإسلام من كلامهما على الروح. مجموع الفتاوى (4/ 220 ــ 221). (4) في (ب، ن): «مِحنته»، وهو مع صحة معناه تصحيف. انظر: منهاج السُّنَّة (5/ 190) ودرء التعارض (1/ 120). (5) (ص 31 ــ 32).

(2/425)


وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171]. وعيسى مخلوق. قلنا له: إن الله تعالى منَعَك الفهمَ للقرآن. إنَّ عيسى تجري عليه ألفاظٌ لا تجري على القرآن، لأنا نُسمِّيه مولودَا وطفلاً وصبيًّا وغلامًا يأكل ويشرب، وهو مخاطَبٌ بالأمر والنهي، يجري عليه الخطاب والوعد والوعيد، ثم هو من ذرِّية نوح ومن ذرِّية إبراهيم. فلا يحِلُّ لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى فهل سمعتم الله يقول في القرآن ما قال في عيسى؟ ولكن المعنى في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ}: فالكلمة التي ألقاها إلى مريم (1) حين قال له: كُن، فكان عيسى هو بكُنْ، وليس عيسى هو «كن»، ولكن كان بـ «كُن». فـ «كُن» من الله قولٌ، وليس «كُن» مخلوقًا. وكذبت النصارى والجهمية على الله في أمر (2) عيسى. وذلك أنَّ الجهمية قالوا: روحُ الله وكلمتُه، إلا أنَّ كلمتَه مخلوقة. وقالت النصارى: عيسى روحُ الله وكلمته، فالكلمةُ (3) من ذاته، كما يقال (4): هذه الخِرْقة من هذا الثوب. قلنا نحن: إن عيسى بالكلمةِ كان، وليس عيسى هو الكلمة، وإنما الكلمة قولُ الله. وقوله: {وَرُوحٌ مِنْهُ} يقول: من أمرِه كان الروح فيه، كقوله تعالى: _________ (1) «فالكلمة ... مريم» ساقط من (ق). (2) «أمر» ساقط من (ن). (3) «فالكلمة» من (أ، غ). (4) (ن): «نقول».

(2/426)


{وَسَخَّرَ لَكُمْ [93 ب] مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]. يقول: من أمره. وتفسيرُ روح الله إنما معناها: بكلمة الله خلَقَها، كما يقال: عبد الله، وسماءُ الله، وأرضُ الله» (1). فقد صرَّح (2) بأنَّ روحَ المسيح مخلوقة، فكيف بسائر (3) الأرواح! وقد أضاف الله سبحانه إليه الروحَ الذي أرسله إلى مريم، وهو عبده (4) ورسوله، ولم يدلَّ ذلك على أنه قديم غير مخلوق، فقال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} [مريم: 17 ــ 19]. فهذا الروح هو روح الله، وهو عبده (5) ورسوله. وسنذكر إن شاء الله أقسامَ المضاف إلى الله، وأنَّى يكون المضاف صفةً له قديمة؟ وأنَّى يكون مخلوقًا؟ وما ضابط ذلك؟ فصل والذي يدلُّ على خَلْقها وجوه: أحدها: قول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 63]. فهذا لفظٌ عامٌّ لا تخصيصَ فيه بوجهٍ ما. ولا يدخل في ذلك صفاتُه، فإنها داخلةٌ في _________ (1) انتهى النقل من كتاب الرد على الزنادقة والجهمية. (2) يعني الإمام أحمد. وقارن بمجموع الفتاوى (4/ 220). (3) (ب، ط، ج): «سائر». (4) (ط): «عبد الله». (5) (ط): «عبد الله».

(2/427)


مُسمَّى اسمه. فالله سبحانه هو الإله الموصوف بصفات الكمال، فعِلمُه وقدرتُه وحياتُه وإرادتُه وسمعُه وبصرُه وسائرُ صفاته داخلٌ في مسمَّى اسمه، ليس داخلاً في الأشياء المخلوقة، كما لم تدخُل ذاته فيها. فهو سبحانه بذاته وصفاته الخالقُ، وما سواه مخلوقٌ، ومعلومٌ قطعًا أنَّ الروحَ ليست هي الله، ولا صفةً من صفاته، وإنما هي مصنوعٌ من مصنوعاته؛ فوقوعُ (1) الخَلْق عليها كوقوعه على الملائكة والجنِّ والإنس. الوجه الثاني (2): قوله تعالى لزكريا: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9]. وهذا الخطابُ لروحه وبدنه، ليس لبدنه فقط. فإنَّ البدنَ وحده لا يَفهم، ولا يخاطَب، ولا يَعقِل؛ وإنما الذي يفهَم ويَعقِل ويخاطَب هو الروح. الثالث: قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصفات: 96]. الرابع: قوله [94 أ]: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف: 11]. وهذا الإخبار إما أن يتناول أرواحنا وأجسادنا، كما يقوله الجمهور؛ وإما أن يكون واقعًا على الأرواح قبل خَلْق الأجساد، كما يقوله من يزعم ذلك (3). وعلى التقديرين فهو صريحٌ في خلق الأرواح. الخامس: النصوص الدالَّة على أنه سبحانه ربُّنا وربُّ آبائنا الأولين وربُّ كل شيء. وهذه الرُّبوبية شاملةٌ لأرواحنا وأبداننا، فالأرواحُ مربوبة له _________ (1) (ب): «بوقوعه»، تصحيف. (2) «الوجه» ساقط من (ن). (3) سيأتي الكلام على الآية في المسألة الآتية.

(2/428)


مملوكة (1)، كما أنَّ الأجسامَ (2) كذلك، وكلُّ مربوبٍ مملوكٍ فهو مخلوقٌ. السادس: أولُ سورة في القرآن ــ وهي الفاتحة ــ تدلُّ على أنَّ الأرواحَ مخلوقة من عدَّة أوجه: أحدها (3): قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. والأرواح من جُملة العالَم، فهو ربُّها. الثاني: قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. فالأرواح عابدة له، مستعينة به. ولو كانت غير مخلوقة لكانت معبودةً مستعانًا بها. الثالث: أنها فقيرة إلى هدايةِ فاطرِها وربِّها، تسأله أن يهديها صراطَه المستقيم. الرابع: أنها منعمٌ عليها مرحومة، ومغضوبٌ عليها وضالَّة شقيّة (4). وهذا شأنُ المربوب المملوك، لا شأنُ القديم غيرِ المخلوق. الوجه السابع (5): النصوص الدالَّة على أنَّ الإنسان عبد بجملته، وليست عبوديَّته واقعة على بدنه دون روحه، بل عبوديةُ الروح أصلٌ، وعبودية البدن تَبَعٌ، كما أنه تَبَعٌ لها في الأحكام، وهي التي تُحرِّكه وتستعمله، _________ (1) بعده في (أ، غ): «مخلوقة»، ولعله من سهو الناسخ. وفي (ن) ورد «له» بعد «مملوكة». (2) (ن): «الأجساد». (3) (ن): «الأول». (4) «صراطه ... شقية» ساقط من (ن). (5) «الوجه» ساقط من (أ، غ).

(2/429)


فهو (1) تَبَعٌ لها في العبودية. الوجه الثامن: قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1]. فلو كانت روحه قديمةً لكان الإنسانُ لم يزَل شيئًا مذكورًا، فإنه إنما هو إنسانٌ بروحه، لا ببدنه فقط، كما قيل (2): يا خادمَ الجسمِ كم تشقَى بخدمته ... فأنت بالروح، لا بالجسم، إنسانُ (3) [94 ب] الوجه التاسع: النصوص الدالَّة على أنَّ الله سبحانه كان، ولم يكن شيءٌ غيرُه، كما ثبت في «صحيح البخاري» (4) من حديث عمران بن حُصين أن أهلَ اليمن قالوا: يا رسولَ الله، جئناك لِنتفقَّه في الدين، ونسألَك عن أول هذا الأمر، فقال: «كان الله، ولم يكن شيء غيرُه. وكان عرشُه على الماء، وكتَبَ في الذِّكر كلَّ شيء». فلم يكن مع الله أرواحٌ ولا نفوسٌ قديمةٌ يساوي وجودُها وجودَه، تعالى الله عن ذلك عُلوًّا كبيرًا، بل هو الأول وحده، لا يشاركه غيره في أوَّليته بوجهٍ من الوجوه. الوجه العاشر: النصوصُ الدالَّة على خلق الملائكة. وهم أرواحٌ _________ (1) (أ، ق، غ): «وهو». (2) بعده في الأصل: «شعر». (3) كذا أنشده المؤلف في مفتاح دار السعادة (1/ 362) ومدارج السالكين (3/ 74) وهو ملفق من بيتين لأبي الفتح البستي. وهما في ديوانه (183). ووردا على الصواب في عدة الصابرين للمؤلف (68): يا خادمَ الجسم كم تشقى بخدمته ... لتطلب الربحَ فيما فيه خُسرانُ أقبِلْ على النفس فاستكمِلْ فضائلَها ... فأنت بالنفس، لا بالجسم، إنسانُ (4) برقم (3191).

(2/430)


مستغنية عن أجسادٍ (1) تقوم بها، وهم مخلوقون قبلَ خلق الإنسان وروحِه، فإذا (2) كان الملَك الذي يُحدِث الروحَ في جسد ابن آدم بنفخته مخلوقًا، فكيف تكون الروحُ الحادثةُ بنفخه قديمةً (3)؟ وهؤلاء الغالطون يظنون أنَّ الملَك يُرسَل إلى الجنين بروح قديمة أزليَّة ينفخها فيه، كما يرسل الرسول بثوب إلى الإنسان يلبسه إيَّاه. وهذا ضلالٌ وخطأ، وإنما يُرسِل الله سبحانه إليه الملَك، فينفخ فيه نفخةً، تحدثُ له الروحُ بواسطة تلك النفخة. فتكون النفخةُ هي سببَ حصول الروح وحُدوثها له، كما كان الوطءُ والإنزالُ سببَ تكوين (4) جسمه، والغذاءُ سببَ نموِّه. فمادَّةُ الروح من نَفْخةِ الملك، ومادَّةُ الجسم من صَبِّ الماء في الرحم. فهذه مادة سماويَّة، وهذه مادة أرضيَّة. فمن الناس من تغلِبُ عليه المادَّة السماوية، فتصير روحُه علويةً شريفةً تُناسِب الملائكة. ومنهم من تغلِبُ عليه المادَّة الأرضية، فتصير روحُه سفليةً ترابيةً مَهينةً تُناسب الأرواحَ السُّفلية. فالملَكُ أبٌ لروحه، والترابُ أبٌ لبدنه وجسمه. الوجه الحادي عشر: حديثُ أبي هريرة الذي في «صحيح البخاري» وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الأرواح جنودٌ مُجنَّدةٌ، [95 أ] فما تعارفَ منها ائتلفَ، وما تَناكرَ منها اختلفَ» (5). والجنود المجنَّدة لا تكون إلا مخلوقة. _________ (1) (ط): «أجسادها». (ن): «أجسادها التي». (2) (أ، غ): «وإذا». (3) في (ق، غ): «بنفخةٍ قديمةٍ» كذا مضبوطتين. وهو خطأ. (4) (ب، ج): «تكوّن». (5) سبق تخريجه في (ص 277).

(2/431)


وهذا الحديث رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو هريرة، وعائشة أمُّ المؤمنين، وسلمان الفارسي، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعلي بن أبي طالب، وعمرو بن عَبَسة. الوجه الثاني عشر: أن الروح تُوصف بالوفاة (1) والقبض والإمساك والإرسال (2)، وهذا شأنُ المخلوق المحدَث (3) المربوب. قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42]. والأنفس هاهنا هي الأرواح قطعًا. وفي «الصحيحين» (4) من حديث عبد الله بن أبي قتادة الأنصاريِّ عن أبيه قال: سَرَينا (5) مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ ذاتَ ليلة، فقلنا: يا رسولَ الله، لو عرَّستَ بنا، فقال: «إني أخاف أن تناموا، فمن يوقظنا للصلاة (6)؟». فقال بلال: أنا يا رسول الله. قال: فعرَّس بالقوم، فاضطجعوا. واستندَ بلال (7) إلى راحلته، فغلبَتْه عيناه. فاستيقظ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقد طلع حاجبُ الشمس (8)، _________ (1) (ط): «بالحياة». (2) (ط): «الإرسال والإمساك». (3) «المحدث» ساقط من (ن). (4) البخاري (595)، ومسلم (681). (5) (ط، ن): «سِرْنا». (6) (ب، ج): «للغداة». (7) (ب، ج، ن): «وأسند بلالٌ ظهره». (8) (ب، ط، ج، ن): «جانب الشمس».

(2/432)


فقال: «يا بلالُ، أين ما قلتَ لنا؟» فقال: والذي بعثك بالحق، ما أُلقِيتْ عليَّ نَوْمةٌ مثلها! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله قبَضَ أرواحَكم حين شاء، وردَّها حين شاء». فهذه الروح المقبوضة هي النفس التي يتوفَّاها الله حين موتها وفي منامها، وهي التي يتوفَّاها ملكُ الموت (1)، وهي التي تتوفاها رسُلُ الله سبحانه. وهي التي يجلسُ الملَك عند رأس صاحبها، ويُخرجها (2) من بدنه كرهًا، ويكفِّنها (3) بكفن من الجنة أو النار، ويصعَد بها إلى السماء، فتصلِّي عليها الملائكة أو تلعنها، وتُوقَف بين يدي ربها، فيقضي فيها أمَره. ثم تُعاد إلى الأرض فتدخل بين الميت وأكفانه، فتُسأل وتُمتحَن وتُعاقَب وتُنعَّم. وهي التي تُجعَل في أجواف الطير الخُضْر تأكل وتشرب من الجنة. وهي التي تُعرَض على النار غُدوًّا وعَشِيًّا (4). وهي التي (5) تؤمن وتكفر، وتطيع وتعصي. وهي الأمَّارة بالسوء، وهي اللوَّامة، وهي المطمئنة إلى ربِّها وأمرِه وذكرِه. وهي التي تعذَّب وتنعَّم (6)، وتسعَد وتشقى، وتُحبَس وتُرسَل، وتصِحُّ وتسقَمُ، وتلذُّ وتألمُ، وتخاف وتحزن. _________ (1) «وهي ... الموت» ساقط من (ن). (2) (ن): «ليخرجها». (3) (ب، ج): «يلفّها». (4) الأحاديث الشواهد على الأمور المذكورة قد تقدمت في المسألة السادسة. (5) «التي» ساقط من (ب، ج). (6) (ط): «تنعم وتعذب».

(2/433)


وما ذاك إلّا سِماتُ مخلوق مُبدَع، وصِفات مُنْشَأ مُخْترَع، وأحكام مربوب مدبَّر مصرَّف تحت مشيئة خالقه وفاطره وبارئه. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عند نومه: «اللهم أنت خلقتَ نفسي وأنت تَوَفَّاها (1). لك مماتها ومحياها، فإن أمسكتَها فارحَمْها، وإن أرسلتَها فاحفَظْها بما تحفظُ به عبادَك الصالحين» (2). وهو تعالى بارئ النفوس كما هو بارئُ الأجساد. قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22]. قيل: من قبل أن نبرأ (3) المصيبة. وقيل: من قبل أن نبرأ الأرض. وقيل: من قبل أن نبرأ الأنفس، وهو أولى؛ لأنه أقرب مذكور إلى الضمير. ولو قيل: يرجع إلى الثلاثة أي: من قبل أن نبرأ المصيبة والأرض والأنفس لكان أوجَه (4). _________ (1) (ط): «تتوفاها». (2) كذا في جميع النسخ. وهذا اللفظ مركب من حديثين: حديث ابن عمر الذي أخرجه مسلم (2712) وفيه بعد «محياها»: «إن أحييتها فاحفظها وإن أمَتَّها فاغفر لها. اللهم إني أسألك العافية». وحديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري (6320، 7393) ومسلم (2714) وأوله: «باسمك ربِّي وضعتُ جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها ... ». (3) في (ق، غ) هنا وفي المواضع الآتية: «يبرأ». وفي (ب): «نبرأها: المصيبة» وكذلك فيما بعد. (4) انظر المحرر الوجيز (5/ 268) وقد نقل عن المهدوي جواز عود الضمير على جميع ما ذكر.

(2/434)


وكيف تكون قديمةً مستغنيةً عن خالق مُحدِث مُبدِع لها، وشواهدُ الفقر والحاجة والضرورة أعدلُ شواهد على أنها مخلوقة مربوبة مصنوعة، وأن وجود ذواتها (1) وصفاتها وأفعالها من ربِّها وفاطرها، ليس لها من نفسها إلا العدَم؟ فهي (2) لا تملِك لنفسها [96 أ] ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا. لا تستطيع (3) أن تأخذ من الخير إلا ما أعطاها، ولا تتّقي من الشر إلا ما وقَاها. ولا تهتدي إلى شيء من مصالح دنياها وأخراها إلا بهداه، ولا تصلح إلا بتوفيقه لها وإصلاحه إيَّاها. ولا تعلم إلا ما علَّمها، ولا تتعدَّى ما ألهمها. فهو الذي خلقها فسوَّاها، وألهمها فجورها وتقواها. فأخبر سبحانه أنه خالقها ومبدعها وخالق أفعالها من الفجور والتقوى، خلافًا لمن يقول: إنها ليست مخلوقة، ولمن يقول: إنها (4) وإن كانت مخلوقة، فليس خالقًا لأفعالها، بل هي التي تخلق أفعالها، وهما قولان لأهل الضلال والغيِّ. ومعلومٌ أنها لو كانت قديمة غيرَ مخلوقة لكانت مستغنيةً بنفسها في وجودها وصفاتها وكمالها. وهذا من أبطَلِ الباطل، فإنَّ فقرَها إليه سبحانه في وجودها وكمالها وصلاحِها هو من لوازم ذاتها، ليس معلَّلًا بعلَّة، فإنه أمرٌ ذاتيٌّ لها، كما أن غنى ربِّها وفاطرها ومبدعها من لوازم ذاته، ليس معلَّلاً بعلَّة (5). فهو الغني بالذات، وهي الفقيرة إليه بالذات. فلا يشاركه سبحانه في _________ (1) (ق): «رفاتها»، تصحيف. (2) (ب، ج): «وهي». (3) (ط): «ولا تستطيع». (4) (ط): «فيها». (5) (ق): «يعلمه»، تحريف.

(2/435)


غناه مشاركٌ، كما لا يشاركه في قِدَمه وربوبيّته وإلهيته وملكه التامِّ وكماله المقدَّس مشاركٌ. فشواهدُ الخلق والحدوث على الأرواح كشواهده على الأبدان. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]. وهذا الخطابُ بالفقر إليه للأرواح والأبدان، ليس هو للأبدان فقط. وهذا الغِنى التامُّ لله وحده لا يَشرَكُه فيه غيره (1). وقد أرشد الله سبحانه عبادَه إلى أوضح دليل على ذلك بقوله: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة: 83 ــ 87]. أي: فلولا، إن كنتم غيرَ مملوكين ومقهورين ومربوبين ومُجازَين بأعمالكم، ترُدُّون الأرواح إلى الأبدان إذا وصلتْ إلى هذا الموضعِ! أوَلا تعلمون بذلك أنها مدينة مملوكة مربوبة محاسبة مجزيَّة بعملها. وكلُّ ما [96 ب] تقدَّم ذكرُه في هذا الجواب من أحكام الروح وشأنها ومستقرِّها بعد الموت، فهو دليلٌ على أنها محدَثة (2) مخلوقة مربوبة مدبَّرة، ليست بقديمة. وهذا الأمر أوضحُ من أن تُساقَ الأدلةُ عليه لولا ضُلَّالٌ (3) من المتصوفة وأهل البدع، ومن قصَر فهمُه في كتاب الله وسنة رسوله، فأتِيَ من سوء الفهم (4) لا من النصِّ؛ تكلَّموا في أنفسهم وأرواحهم بما دلَّ على أنهم _________ (1) انظر الفصل الأول من «طريق الهجرتين» للمؤلف (12). (2) «محدثة» من (ب، ج، ن). (3) كذا في الأصل مضبوطًا. (4) (ن): «فمن سوء الفهم أتي». وقد تصحف «فأتي» إلى «فإن» في (ط). وفيها أيضًا: «من سوء النص».

(2/436)


من أجهل الناس بها. وكيف يمكن مَن له أدنى مُسكةٍ من عقل أن ينكر أمرًا يشهد به عليه نفسه وصفاته وأفعاله وجوارحه وأعضاؤه، بل تشهد به (1) السماوات والأرض والخليقة؟ فلله سبحانه في كل ما سواه آيةٌ، بل (2) آياتٌ تدلُّ على أنه مخلوق مربوب، وأنه (3) خالقه وربُّه (4) ومليكه. ولو جحَدَ ذلك، فمعه شاهدٌ عليه به (5). فصل وأمَّا ما احتجَّت به (6) هذه الطائفة: فأمَّا ما أتَوا به من اتِّباع متشابه القرآن، والعدول عن محكمه (7) ــ وهذا شأن كلِّ ضالٍّ مبتدع ــ فمحكمُ (8) القرآن من أوله إلى آخره يدلُّ على أن الله تعالى خالق الأرواح ومبدعها. وأما قوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]. فمعلومٌ قطعًا أنه ليس المرادُ هاهنا بالأمر الطلبَ الذي هو أحد أنواع الكلام، فيكون المراد أنَّ الروح كلامه الذي يأمر به، وإنما المراد بالأمر هاهنا: المأمور. وهو عُرفٌ _________ (1) (ط): «له». (2) «آية بل» ساقط من (ن). (3) (ط): «والله». (4) في (ق) بعده زيادة: «وباريه». (5) «به» ساقط من (ق). (6) ساقط من (ط). (7) ما عدا (ط، ج، ن): «محلّه»، تحريف. (8) (ط، ن): «فحكم»، تحريف.

(2/437)


مستعمل في لغة العرب (1)، وفي القرآن منه كثير، كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] أي: مأموره الذي قدَّره وقضاه، وقال له: كن (2)، وكذلك قوله: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} [هود: 101]. أي: مأموره الذي أمرَ به من إهلاكهم. وكذلك قوله: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} [النحل: 77]. وكذلك لفظ الخَلْق يستعمل بمعنى المخلوق كثيرًا (3)، كقوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11]. والرحمة تُستعمل (4) بمعنى المخلوق بالرحمة (5)، كقوله للجنة: «أنت رحمتي» (6). فليس في قوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] ما يدل على أنها قديمة غير مخلوقة بوجهٍ ما. وقد قال بعض السلف في تفسيرها: جرى بأمر [97 أ] الله في أجساد الخلق، وبقدرته استقرَّ (7). _________ (1) انظر: درء التعارض (7/ 261) والجواب الصحيح (2/ 158)، (4/ 65)، ومجموع الفتاوى (20/ 493). (2) ساقط من (ن). (3) «كثيرًا» ساقط من (ط). (4) «بمعنى ... نستعمل» ساقط من (ن). (5) لم يرد «بالرحمة» في (أ، غ). وانظر: بدائع الفوائد (676) ودرء التعارض (7/ 261) والجواب الصحيح (2/ 198). (6) أخرجه البخاري (4850) ومسلم (2846) من حديث ابي هريرة. (7) لم أقف عليه.

(2/438)


وهذا بناء على (1) أنَّ المراد بالروح في الآية روح الإنسان. وفي ذلك خلافٌ بين السلف والخلف، وأكثرُ السلف بل كلُّهم على أنَّ الروح المسؤول عنها في الآية ليست أرواحَ بني آدم. بل هو الروح الذي أخبر الله عنه في كتابه أنه يقوم يوم القيامة مع الملائكة (2). وهو ملَك عظيم. وقد ثبت في الصحيح (3) من حديث الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: بينا أنا أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حَرْثِ (4) المدينة، وهو متكئ على عَسيب، فمررنا على نفرٍ من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح. وقال بعضهم: لا تسألوه، عسى أن يجيء (5) فيه بشيء تكرهونه. وقال بعضهم: نسأله، فقام رجلٌ، فقال: يا أبا القاسم، ما الروح؟ فسكتَ عنه (6) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعلمتُ أنه يُوحى إليه، فقمتُ، فلما تجلَّى عنه قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]. ومعلومٌ أنهم إنما سألوه (7) عن أمر لا يُعرف إلا بالوحي، وذلك هو _________ (1) في (ق): «وهذا بيان أن» سقط وتحريف. (2) يشير إلى قوله تعالى في سورة النبأ (38): {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا}. (3) أخرجه البخاري (125، 4721، 7297) ومسلم (2794). (4) في (ق، ط): «خِرَب». وكذا في كتاب العلم من صحيح البخاري (125). وكذا ضبط بكسر أوله وفتح ثانيه في (ط)، ويجوز بالعكس. وفي المواضع الأخرى من الصحيح ما أثبتنا من الأصل وغيره. (5) ما عدا (أ، غ): «يخبر». وفي (ن) بعده «عنه» موضع «فيه». (6) «عنه» ساقط من (ط). (7) (ق): «يسألوه». (ن): «يسألونه». وفي (ب، ج) تحرّف «إنما» إلى «لا».

(2/439)


الروحُ التي (1) عند الله، لا يعلمها الناس. وأما أرواحُ بني آدم فليست من الغيب، وقد تكلَّم فيها طوائف من الناس من أهل الملل وغيرهم، فلم يكن الجواب عنها من أعلام النبوة. فإن قيل: فقد قال أبو الشيخ: حدثنا الحسين بن محمد بن إبراهيم، أخبرنا إبراهيم (2) بن الحكم عن أبيه عن السُّدِّي عن أبي مالك عن ابن عباس قال: بعثت قريش عُقبةَ بن أبي مُعَيط وعبدَ الله بن أبي أمية بن المغيرة إلى يهود المدينة يسألونهم عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (3)، فقالوا لهم: إنه قد خرج فينا رجلٌ يزعُم أنه نبيٌّ، وليس على ديننا ولا على دينكم. قالوا: فمن تبِعه (4)؟ قالوا: سَفِلَتُنا والضعفاء والعَبيد ومن لا خيرَ فيه، وأما أشراف قومه فلم يتَّبعوه. فقالوا: إنه قد [97 ب] أظلَّ زمانُ نبيٍّ يخرج، وهو على ما تصفون من أمر هذا الرجل، فَأْتوه، فاسألوه عن ثلاث خِصال نأمركم (5) بهن. فإن أخبركم بهن فهو نبيٌّ صادق، وإن لم يخبِرْكم بهن فهو كذابٌ: سَلُوه عن الروح التي نفخ الله تعالى في آدم. فإن قال لكم: هي من الله، فقولوا له: كيف يُعذِّب الله في النار شيئًا هو منه؟ فسأل جبريلَ عنها، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]. يقول: هو خلقٌ _________ (1) (أ، غ): «الذي». (2) «أخبرنا إبراهيم» ساقط من (أ، ب، غ). (3) بعده في (ب، ج): «فأتوهم». (4) (ب، ج): «معه». (5) في جميع النسخ: «يأمركم»، وفي حاشية (ط): «لعله: يخبركم». والصواب ما أثبتنا.

(2/440)


من خلق الله، ليس هو الله (1). ثم ذكر باقي الحديث (2). قيل: مثلُ هذا الإسناد لا يُحتجُّ به، فإنه من تفسير السُّدِّي عن أبي مالك، وفيه أشياء منكرة، وسياقُ هذه القصة في السؤال من الصحاح والمساند (3) كلِّها يخالف سياقَ السُّدي. وقد رواها الأعمش والمغيرة بن مِقْسَم، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على ملأ من اليهود، وأنا أمشي معه، فسألوه عن الروح. قال: فسكتَ، فظننتُ أنه يُوحَى إليه. فنزلت: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} يعني اليهود {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أوتُوا مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (4) ــ وكذلك هي في قراءة عبد الله (5) ــ فقالوا: كذلك نجدُ مثلَه في التوراة أنَّ الروحَ من أمر الله عزَّ وجلَّ. رواه جرير بن عبد الحميد وغيره عن المغيرة (6). _________ (1) كذا في الأصل و (غ). وفي (ق، ط، ن): «من الله». وفي (ب، ج): «شيء من الله». (2) إسناده تالف. آفته إبراهيم بن الحكم هو ابن ظُهير الكوفي، شيعي جلد، كذبه أبو حاتم الرازي. (الجرح والتعديل 2/ 94 ــ 95، ولسان الميزان 1/ 49). وكذا أبوه الحكم بن ظهير، قال الحافظ: «متروك رُمي بالرفض، واتهمه ابن معين». والسدي هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة الكوفي فيه ضعف، وشيخه أبو مالك اسمه غزوان الغفاري ثقة من رجال التهذيب. (قالمي) (3) (ق، ط): «المسانيد». (4) وردت الآية في جميع النسخ على القراءة المشهورة {وَمَا أُوتِيتُمْ} ولكن السياق يقتضي ما أثبتنا من بعض طرق الحديث في الصحيحين، وقد نبَّه عليه بعضهم في طرّة الأصل. (5) (ط): «قوله عند الله»، تحريف. (6) أخرجه البخاري (125) ومسلم (2794) من طريق الأعمش. وليس فيه: «فقالوا: كذلك نجد ... » إلخ.

(2/441)


وروى يحيى بن زكريا بن (1) أبي زائدة، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أتَتِ اليهود إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فسألوه عن الروح، فلم يُجبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء فأنزل الله عزَّ وجلَّ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]. فهذا يدلُّ على ضَعف حديث السُّدِّي وأنَّ السؤال كان بمكة، فإنَّ هذا الحديثَ وحديثَ ابن مسعود صريحٌ أن السؤال كان بالمدينة مباشرةً (2) من اليهود. ولو كان قد تقدَّم السؤال والجواب بمكة لم يسكت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولبادَرَ إلى جوابهم بما تقدَّم من إعلامِ [98 أ] الله له وما أنزل عليه. وقد اضطربت الروايات عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أعظمَ اضطراب. فإما أن تكونَ من قِبَل الرُّواة (3)، أو تكون أقوالُه قد اضطربَت فيها. ونحن نذكر ذلك. فقد ذكرنا روايةَ السدِّي عن أبي مالك عنه، وروايةُ داود بن أبي هند عن عكرمة عنه تُخالفها. وفي رواية داودَ بن أبي هند هذه اضطراب. فقال مسروق بن المرزُبان وإبراهيمُ بن أبي طالب عن يحيى بن زكريا عنه: إنَّ اليهود أتَتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - (4). وقال محمد بن نصر المروزي: ثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا _________ (1) (ب): «عن»، خطأ. (2) (ن): «بمباشرة». (3) (أ، غ): «الرواية». (4) لم أقف عليه بهذا اللفظ من رواية يحيى بن زكريا بن أبي زائدة. وسيأتي أن مسروق بن المرزبان رواه عنه بلفظ: «قالت قريش لليهود ... » موافقًا لرواية الجماعة. (قالمي)

(2/442)


يحيى بن زكريَّا، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قالت قريشٌ لليهود: أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجلَ. فقالوا: سلوه عن الروح. فنزلت {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية [الإسراء] (1). وهذا يُخالف الروايةَ (2) الأخرى عنه وحديثَ ابن مسعود. وعن ابن عباس رواية ثالثة. قال هُشَيم (3): ثنا أبو بشر، عن مجاهد، عن _________ (1) أخرجه الترمذي (3140)، والنسائي في الكبرى (11314)، والإمام أحمد (2309) من طريق قتيبة بن سعيد. وأبو يعلى (2501). وعنه ابن حبان (99)، وأبو الشيخ في العَظَمة (403) من طريق مسروق بن المرزبان. والحاكم (2/ 531) وعنه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 269) من طريق يحيى بن يحيى النيسابوري ثلاثتهم عن يحيى بن زكريا، به. بمثله. وإسناده صحيح، وصحَّحه الترمذي والحاكم. وأما قول المصنف رحمه الله بأن هذه الرواية تخالف الرواية الأخرى عن ابن عباس، فيمكن ترجيح رواية الجماعة عن يحيى بن زكريا وهي أن السؤال وقع من قريش في مكة. كما يمكن الجمع بين حديث ابن عباس هذا وبين حديث ابن مسعود الذي دلّ على أن السؤال وقع بالمدينة من اليهود، وذلك بحملهما على تعدد النزول، وهذا المسلك له نظائر كثيرة في أسباب النزول، وهو أولى من تضعيف الروايات وتوهيم الثقات إذا سلم من التعسف والتكلف. وكأن الحافظ ابن حجر يميل إلى هذا المسلك حيث قال: «ويمكن الجمع بأن يتعدد النزول بحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك، وإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح». فتح الباري (8/ 401). (قالمي) (2) (ط): «مخالف للرواية». (3) (ق): «هشام»، خطأ.

(2/443)


ابن عباس قال: الروحُ أمرٌ من أمر الله عزَّ وجلَّ، وخَلْقٌ من خلق الله، وصُوَر من صوَر بني آدم. وما نزل من السماء ملكٌ إلا ومعه واحدٌ من الروح (1). وهذا يدلُّ على أنها غيرُ الروح التي في ابن آدم. وعنه رواية رابعة. قال ابن منده: وروى (2) عبد السلام بن حرب، عن خُصَيف، عن مجاهد، عن ابن عباس: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] قد نزل من القرآن بمنزلة «كن»، نقول كما قال الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}. ثم ساقَ من طريق خُصَيف، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه كان لا يُفسِّر أربعةَ أشياء: الرَّقيم، والغِسلين، والروح، وقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] (3). وعنه رواية خامسة رواها جُويبر، عن الضحَّاك، عنه: أن اليهودَ سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الروح، قال: «قال الله تعالى [98 ب]: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}. يعني: خلقًا من خَلْقي {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] يعني: لو سُئلتم عن خلق أنفسكم وعن مدخل الطعام والشراب ومخرجهما ما وصفتم ذلك حقَّ صفته، وما اهتديتم لصفتها (4). _________ (1) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (779). (2) ما عدا (أ، غ): «روى» دون الواو قبله. (3) عزاه السيوطي في الدر المنثور (13/ 292) إلى ابن المنذر. (4) لم أقف عليه بهذا الإسناد، وهو من الروايات التي لم تصح عن ابن عباس في التفسير، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في مقدمة كتابه العجاب في بيان الأسباب (1/ 209) حيث قال: «ومن روايات الضعفاء عن ابن عباس: ... ومنهم جويبر بن سعيد. وهو واهٍ. روى التفسير عن الضحاك بن مزاحم. وهو صدوق. عن ابن عباس، ولم يسمع منه شيئًا» (قالمي)

(2/444)


وعنه رواية سادسة: روى عبد الغني بن سعيد، ثنا موسى بن عبد الرحمن، عن ابن جُريج، عن عطاء، عن ابن عباس (1)؛ وعن مقاتل عن الضحَّاك عن ابن عباس (2) في قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ}. وذلك أنَّ قريشًا اجتمعت، فقال بعضهم لبعض: والله ما كان محمد يكذب، ولقد نشأ فينا بالصدق والأمانة. فأرسَلوا جماعةً إلى اليهود فسألوهم (3) عنه. وكانوا مستبشرين به، ويُكثِرون ذكرَه، ويدَّعون نبوتَه، ويرجون نصرتَه، موقنين بأنه سيهاجر إليهم، ويكونون له أنصارًا. فسألوهم عنه، فقالت لهم اليهود: سلوه عن ثلاثٍ: سلوه عن الروح. وذلك أنه ليس في التوراة قصته ولا تفسيره إلا ذكرَ اسمِ الروح. فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]. يُريد: من خَلْق ربِّي عزَّ وجلَّ (4). _________ (1) إسناد منقطع؛ لأن عطاء وهو ابن أبي مسلم الخراساني لم يسمع من ابن عباس. قال الحافظ ابن حجر: «ومن طريق ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، لكن فيما يتعلق بالبقرة وآل عمران، وما عدا ذلك يكون عطاء هو الخراساني، وهو لم يسمع من ابن عباس، فيكون منقطعًا إلا إن صرّح ابن جريح بأنه عطاء بن أبي رباح» العجاب (1/ 209 ــ 209). (قالمي) (2) «وعن مقاتل ... عباس» ساقط من (ب، ج). (3) كذا رسمه في جميع النسخ، وقد ضبط بفتح السين في (ط). وقراءة بعض النسخ المطبوعة: «فاسألوهم». (4) إسناده منقطع أيضًا. الضحاك بن مزاحم لم يسمع التفسير من ابن عباس، كما سبق. (قالمي)

(2/445)


و «الروح» في القرآن على عدَّة أوجه: أحدها: الوحي، كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]. وقوله: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15]. وسُمِّي الوحيُ روحًا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح. الثاني: القوة والثَّبات والنُّصرة التي يؤيد بها من يشاء من عباده المؤمنين (1)، كما قال: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22]. الثالث: جبريل، كقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 193 - 194]. وقال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 97]. وهو روح القدس، قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} (2) [النحل: 102]. الرابع: الروح التي سأل عنها اليهود، فأجيبوا بأنها أمرٌ (3) من أمر الله. وقد قيل: إنها [99 أ] الروح المذكورة في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ} [النبأ: 38]، وإنها الروح المذكورة في قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [القدر: 4] (4). _________ (1) روي عن ابن عباس والحسن. زاد المسير (8/ 200). (2) «قال ... القدس» ساقط من (ط). (3) «أمر» لم يرد إلا في الأصل و (غ). (4) انظر: زاد المسير (9/ 12، 193)، ومجموع الفتاوى (4/ 226).

(2/446)


الخامس: المسيح ابن مريم قال تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ (1) رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171]. وأما أرواحُ بني آدم، فلم يقع تسميتها في القرآن إلا بالنفس. قال تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27]. وقال: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2]. وقال: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]. وقال: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام: 93]. وقال: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8]. وقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]. وأما في السُّنَّة (2) فجاءت بلفظ النفس والروح. والمقصود أنَّ كونها من أمر الله لا يدلُّ على قِدَمها وأنها غير مخلوقة. فصل وأما استدلالُهم بإضافتها إليه سبحانه بقوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحِجر: 29، ص: 72]، فينبغي أن يُعلمَ أنَّ المضاف إلى الله سبحانه نوعان: صفاتٌ لا تقوم بأنفسها، كالعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر. فهذه إضافةُ صفةٍ إلى الموصوف بها. فعلمُه وكلامُه وإرادتُه وقدرتُه وحياتُه صفاتٌ له غير مخلوقة. وكذلك وجهه ويده سبحانه. _________ (1) «قال ... مريم» ساقط من (ق). (2) (ن، غ): «وأما السُّنَّة». وقد ضرب بعضهم على «في» ووضع على «السُّنَّة» ضمَّةً في الأصل.

(2/447)


والثاني: إضافةُ أعيانٍ منفصلةٍ عنه، كالبيت والناقة والعبد (1) والرسول والروح. فهذه إضافة مخلوقٍ إلى خالقه ومصنوعٍ إلى صانعه، لكنها إضافة تقتضي تخصيصًا وتشريفًا يتميَّز به المضاف إليه (2) عن غيره، كـ «بيت الله»، وإن كانت البيوتُ كلها مِلْكًا له. وكذلك «ناقة الله»، والنوقُ كلُّها مِلْكه وخَلْقه. لكن هذه إضافةٌ إلى إلهيته تقتضي محبتَه لها وتكريمه وتشريفَه، بخلاف الإضافة العامة إلى ربوبيّته حيث تقتضي (3) خلقَه وإيجاده. فالإضافةُ العامَّةُ تقتضي الخلق (4) والإيجاد، والخاصَّةُ تقتضي الاختيار. والله يخلق ما يشاء ويختار مما خلقه، كما قال [99 ب] تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} (5) [القصص: 68]. وإضافةُ الروح إليه من هذه الإضافة الخاصة، لا من العامة، ولا من باب إضافة الصِّفات. فتأمَّل هذا الموضع، فإنه يخلِّصك من ضلالات كثيرة وقع فيها من شاء الله من الناس (6). _________ (1) «والعبد» ساقط من (ن). (2) يعني: المضاف إلى الله. ولما فهم الناشرون أن «المضاف إليه» هو الله، والمقصود هنا: المضاف، حذفوا «إليه»، مع اتفاق النسخ على إثباته. وهو صواب محض. (3) (ط): «حسب مقتضى»، تصحيف. (4) «الخلق و» ساقط من (ق). (5) «مما خلقه ... يختار» ساقط من (ب، ج). (6) وقال شيخ الإسلام في الجواب الصحيح: «ضلَّ فيه كثير من أهل الأرض من أهل الملل كلهم». انظر كلامًا مفصَّلًا له على المضافات إلى الله في الكتاب المذكور (2/ 155 ــ 161) ودرء التعارض (7/ 263 ــ 266). وانظر: التبيان في أيمان القرآن (267) وهداية الحيارى (360) للمصنف.

(2/448)


فإن قيل: فما تقولون (1) في قوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ} [الحجر: 29]، فأضاف النَّفخ إلى نفسه؟ وهذا يقتضي المباشرةَ منه تعالى كما في قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]. ولهذا قرَنَ (2) بينهما في الذكر في الحديث الصحيح في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فيأتون آدمَ، فيقولون: أنت آدم أبو البشر، خلقَكَ الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجَدَ لك ملائكتَه، وعلَّمك أسماءَ كلِّ شيء» (3)، فذكروا لآدم أربعَ خصائص (4) اختصَّ بها عن غيره، ولو كانت الروح التي فيه إنما هي من نفخة الملك لم يكن له خَصيصةٌ (5) بذلك، وكان بمنزلة المسيح، بل وسائر أولاده، فإنَّ الروح حصلتْ فيهم من نفخة الملك. وقد قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29] فهو الذي سوَّاه بيده، وهو الذي نفخ فيه من روحه؟ قيل: هذا الموضع هو الذي أوجَبَ لهذه الطائفة أن قالت بِقدَم الروح، وتوقَّف فيها آخرون، ولم يفهموا مرادَ القرآن. فأما الروح المضافة إلى الربِّ، فهي روحٌ مخلوقة أضافها إلى نفسه إضافةَ تخصيص وتشريف، كما بيَّناه. وأما النفخ فقد قال تعالى في مريم: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا _________ (1) (ط): «تقول». (2) ما عدا الأصل و (غ) وطرّة (ط): «فرق»، تصحيف. (3) وهو حديث الشفاعة. أخرجه البخاري (3340) ومسلم (194) من حديث أبي هريرة. (4) (ط): «خصال». (5) (ط): «تخصيص».

(2/449)


فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الأنبياء: 91]. وقد أخبر في موضع آخر (1) أنه أرسل إليها الملَك، فنفخ في فرجها. فكان النفخُ مضافًا إلى الله أمرًا وإذنًا، وإلى الرسول مباشرة. يبقى هاهنا (2) أمران: أحدهما: أن يقال: فإذا كان النفخُ حصل في مريم من جهة الملك، وهو الذي ينفخ الأرواحَ في سائر البشر، فما وجه تسمية المسيح بروح الله؟ وإذا كان سائرُ الناس تحدث أرواحُهم من هذه الروح، فما خاصِّيَّة (3) المسيح؟ الثاني: أن يقال: فهل تعلُّق الروح بآدم كانت (4) بواسطة نفخ هذا الروح، هو الذي نفَخها فيه بإذن الله كما نفَخها في مريم، أم الربُّ تعالى هو الذي نفَخها بنفسه (5) كما خلَقه بيده؟ قيل: لَعَمْرُ الله، إنَّهما سؤالان مهمّان. فأما الأول (6)، فالجوابُ عنه أنَّ الروحَ الذي نَفَخ في مريم هو الروح المضاف إلى الله الذي اختصَّه لنفسه وأضافه إليه، وهو روح خاصٌّ من بين سائر الأرواح، وليس بالملَك الموكَّل _________ (1) يشير إلى قوله تعالى في سورة مريم (17): {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا}. (2) (ط): «ويبقى هنا». (3) (ب، ج): «خاصَّة». (4) كذا بتاء التأنيث في جميع النسخ. (5) (أ، غ): «في نفسه»، خطأ. (6) ما عدا (أ، ق، غ): «السؤال الأول».

(2/450)


بالنفخ في بطون الحوامل من المؤمنين والكفار. فإن الله سبحانه وكَّل بالرحمِ ملَكًا ينفخُ الروح (1) في الجنين، فيكتب (2) رزقَ المولود، وأجله، وعمله، وشقاوته وسعادته (3). وأما هذا الروح المرسَل إلى مريم، فهو روح الله الذي اصطفاه من الأرواح لنفسه، فكان لمريم بمنزلة الأب لسائر النوع، فإنَّ نفخته لما دخلتْ في فرجها كان ذلك بمنزلة لقاح (4) الذكر للأنثى من غير أن يكون هناك وطء. وأما ما اختصَّ به آدم، فهو أنه لم يُخلَق كخلقة المسيح من أمٍّ، ولا كخلقة سائر النوع من أب وأمّ، ولا كان الروح الذي نفخ الله فيه منه هو الملك الذي ينفخ الروحَ في سائر أولاده. ولو كان كذلك لم يكن لآدم فيه (5) اختصاص. وإنما ذكر في الحديث ما اختُصَّ به على غيره، وهو أربعة أشياء: خلقُ الله له بيده، ونفخُه فيه من روحه، وإسجادُ ملائكته له، وتعليمُه أسماءَ كل شيء. فنفخُه فيه من روحه يستلزم نافخًا، ونَفْخًا، ومنفوخًا منه. فالمنفوخ منه هو الروح المضافة إلى الله، فمنها سرَت النفخة في طينة آدم، والله تعالى هو الذي نفخ في طينته من تلك الروح. هذا هو الذي دلَّ عليه النصُّ. وأمَّا كونُ النفخةِ بمباشرةٍ منه سبحانه كما _________ (1) «الروح» ساقط من (ط). (2) (ب، ج): «ويكتب». (3) كما في حديث عبد الله بن مسعود. أخرجه البخاري (3332، 7454) ومسلم (2643). (4) (ب): «إلقاح». (5) (ق): «به». وهو ساقط من (ب، ط، ج، ن).

(2/451)


خلَقَه بيده (1)، أو أنها حصلت بأمره كما حصلت في مريم؛ فهذا يحتاجُ إلى دليل. والفرقُ [100 ب] بين خلق الله له بيده، ونفخه فيه من روحه: أنَّ اليدَ غيرُ مخلوقة، والروحَ مخلوقةٌ. والخلق فعل من أفعال الربِّ. وأمَّا النفخُ، فهل هو فعلٌ من أفعاله القائمة به، أو هو مفعولٌ من مفعولاته القائمة بغيره المنفصلة عنه؟ هذا مما يحتاج (2) إلى دليل. وهذا بخلاف النفخ في فرج مريم، فإنه مفعول من مفعولاته. وأضافه إليه لأنه بإذنه وأمره. فنفخُه في آدم، هل هو فعلٌ له أو مفعول؟ وعلى كلِّ تقدير، فالروح التي نفخ منها في آدم (3) روحٌ مخلوقة غير قديمة، وهي مادَّة روح آدم، فروحُه أولى أن تكون حادثة مخلوقة، وهو المراد (4). _________ (1) «هذا ... بيده» ساقط من (ط). (2) كذا في جميع النسخ التي بين يديّ. وفي بعض الطبعات: «لا يحتاج». وهو غلط. (3) (ق، ب، ج): «فيها من آدم»، وفي (ط): «فيها في آدم». وفي (ن): «نفخها في آدم». (4) زاد في (ط): «وبالله التوفيق».

(2/452)


فصل

 وأمَّا المسألة الثامنة عشرة (1) وهي: هل (2) تقدَّم خلقُ الأرواح على الأجساد أو تأخَّر خلقُها عنها؟

فهذه المسألة، للناس فيها قولان معروفان، حكاهما شيخُ الإسلام (3) وغيره. وممن ذهب إلى تقدُّم خَلْقها محمد بن نصر المروزي وأبو محمد بن حزم، وحكاه ابن حزم إجماعًا (4). ونحن نذكر حججَ الفريقين، وما هو الأولى منها بالصواب. قال مَن ذهبَ إلى تقدمُّ خلقها على خَلْق البدن: قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [الأعراف: 11]. قالوا: «ثُمَّ» للترتيب والمُهلة (5)، فقد تضمَّنت الآية أنَّ خَلْقَنا (6) مقدَّمٌ على أمر الله للملائكة بالسجود لآدم. ومن المعلوم قطعًا أنَّ أبدانَنا حادثةٌ بعد ذلك، فعُلِم أنها الأرواح. _________ (1) (ن): «التاسعة عشر» ولم يرد فيها «فصل وأما». والمثبت من (ط). وفي غيرها: «الثامنة عشر». (2) «هل» ساقطة من (ق، ط، ج). وفي (ب): أضافها بعض القراء. (3) في (ن) زيادة: «ابن تيمية». وانظر: درء التعارض (8/ 414). (4) الفصل لابن حزم (2/ 322). وانظر: التمهيد (18/ 84)، وشفاء العليل للمصنف (444). وشرح الطحاوية (216). (5) الفصل لابن حزم (2/ 321). (6) كذا في (ب، ط، ق، ج). وكذا كان في الأصل فغيَّره بعضهم إلى «خلقها» كما في (ن، غ) والنسخ المطبوعة. ويؤيد المثبت ما يأتي في (ص 499).

(2/453)


قالوا: ويدلُّ عليه قوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهْم وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (1) [الأعراف: 172]. قالوا: وهذا الاستنطاق والإشهاد إنما كان لأرواحنا، إذ لم تكن الأبدان حينئذ موجودة. ففي «الموطأ» (2): حدثنا مالك، عن زيد بن أبي أُنيسة، أنَّ عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره، عن مسلم بن يسار الجُهني، أنَّ عمر بن الخطاب سُئل [101 أ] عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ _________ (1) كذا وردت الآية في جميع النسخ. {ذرياتهم} وهي قراءة نافع وأبي عمرو وابن عامر من السبعة. وقرأ الباقون بالإفراد: {ذريتهم}. الإقناع (651). وقد سبق التنبيه على أن قراءة أبي عمرو كانت هي السائدة في بلاد الشام في زمن المؤلف. (2) برقم (1593). ومن طريقه أبو داود (4703)، والترمذي (3075)، والنسائي في الكبرى (11190)، والإمام أحمد (311)، وابن أبي عاصم في السنة (196)، وأبو بكر الفريابي في كتاب القدر (27)، والطحاوي في مشكل الآثار (3886)، وابن حبان (6166)، والحاكم (1/ 27) وغيرهم. وقال الترمذي: «هذا حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر رجلًا» وكذا قال الطحاوي. ونقل ابن كثير في تفسيره (3/ 503) كلام الترمذي ثم قال: «وكذا قاله أبو حاتم وأبو زرعة. زاد أبو حاتم: وبينهما نُعَيم بن ربيعة». وانظر: المراسيل لابن أبي حاتم (786، 787). وهو قول أبي عمر بن عبد البر كما سيأتي بيانه عند المصنِّف؛ ولذلك لما صحّحه الحاكم على شرط الشيخين تعقبه الذهبي بقوله: «فيه إرسال». قلت: وجهالة أيضًا؛ فإن مسلم بن يسار هذا ليس من رجال الصحيحين وهو غير معروف كما قاله ابن عبد البر ونقله عن ابن معين. (قالمي).

(2/454)


ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهْم} (1)، فقال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُسأل عنها فقال: «خلقَ الله آدمَ، ثم مسحَ ظهرَه بيمينه، فاستخرجَ منه ذريةً، فقال: خلقتُ هؤلاء للنار وبعمل أهلِ النار يعملون، وخلقتُ هؤلاء للجنةِ وبعمل أهل الجنة يعملون». فقال رجلٌ يا رسولَ الله، ففيم العمل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله إذا خلق الرجلَ للجنة استعمَلَه بعمل أهل الجنةِ، حتى يموتَ على عملٍ من أعمال أهل الجنة، فيُدخِلُه به الجنة. وإذا خلق العبدَ للنار استعمَلَه بعمل أهل النار، حتى يموتَ على عملٍ من أعمال أهل النار، فيُدخِله به النار». قال الحاكم (2): هذا حديث على شرط مسلم. وروى الحاكم (3) أيضًا من طريق هشام بن سعد (4) عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعًا: «لما خلق الله آدم مَسَح ظهره، فسقط من ظهره كلُّ نَسَمة هو خالقها إلى يوم القيامة أمثالَ الذرِّ (5)، ثم جعل بين عينَي كلِّ إنسان منهم وَبيصًا من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: من هؤلاء يا رب؟ قال: هؤلاء ذريتُك. فرأى رجلًا منهم أعجبه وَبيصُ ما بين عينيه، فقال: يا ربِّ مَن هذا؟ فقال: هذا ابنُك داود، يكون في آخر الأمم. قال: كم _________ (1) كذا وردت الآية في جميع النسخ على قراءة أبي عمرو وغيره. انظر ما علَّقنا آنفا. (2) في المستدرك (3256). (3) في المستدرك (3257). وأخرجه الترمذي (3076)، وابن سعد في الطبقات (1/ 27، 28)، وأبو يعلى (6654)، وابن خزيمة في التوحيد (455) كلهم من طريق هشام بن سعد، به. (قالمي). (4) تحرّف «سعد» في (ق) إلى «يزيد»، وفي غيرها إلى «زيد». وفي (ط): «هشام بن زيد بن أسلم»! (5) (ط): «مثل الذرّ».

(2/455)


جعلتَ له من العُمْر؟ قال: ستِّين سنة، قال: يا رب زِدْه من عُمْرِي أربعين سنةً. فقال الله تعالى: إذًا يُكتَبُ ويُختَم فلا يبدَّل. فلما انقضى عمرُ آدم جاءه ملك الموت. قال: أو لم يبقَ من عمري أربعون (1) سنةً؟ فقال: أوَلم تجعلها لابنك داود؟ قال: فجحَدَ، فجحدت ذريتُه. ونسيَ، فنسيت ذريته. وخَطِئ، فخطئت ذريته». قال: هذا على شرط مسلم. ورواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح. [101 ب] ورواه الإمام أحمد (2) من حديث ابن عباس، قال: لما نزلت آية الدَّين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أول من جحد آدم». وزاد محمد بن سعد: «ثم أكملَ الله لآدم ألفَ سنة، ولداود مائة سنة» (3). وفي صحيح الحاكم (4) أيضًا من حديث أبي جعفر الرَّازيِّ (5)، حدثنا _________ (1) في جميع النسخ: «أربعين» ما عدا الأصل، ولكن يبدو أن فيه إصلاحًا. (2) في المسند (2270)، (2713)، (3519)، وأبو داود الطيالسي (2815)، وابن سعد في الطبقات الكبرى (1/ 28، 29)، وابن أبي عاصم في السنة (204)، وأبو يعلى (12928) من طرق عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس. وإسناده ضعيف؛ علي بن زيد هو ابن جدعان مشهور بالضَّعف. (قالمي). (3) طبقات ابن سعد (1/ 29). وهي أيضًا عند الإمام أحمد في الموضع الثاني، وأبي يعلى. (قالمي). (4) برقم (3255). (5) (ق): «الداري» تصحيف.

(2/456)


الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبيِّ بن كعب في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} الآية [الأعراف: 172]، قال: جمعهم له يومئذ جميعًا ما هو كائن إلى يوم القيامة، فجعلهم أرواحًا، ثم صوَّرهم، واستنطقهم، فتكلَّموا، وأخذ عليهم العهد والميثاق، {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]. قال: فإنِّي أُشهِدُ عليكم السمواتِ السبع والأرَضين السبع، وأُشهِد عليكم أباكم آدمَ {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}. فلا تُشركوا بي شيئًا، فإنِّي أُرسِل إليكم رُسُلي يذكِّرونكم عهدي وميثاقي، وأُنزِلُ عليكم كتبي. فقالوا: نشهد أنك ربُّنا وإلهنا، لا ربَّ لنا غيرُك. ورُفِع لهم أبوهم آدمُ، فرأى فيهم الغنيَّ والفقيرَ، وحَسنَ الصورة، وغيرَ ذلك؛ فقال: ربِّ لو سوَّيتَ بين عبادك! فقال: إني أحبُّ أن أُشكَر. ورأى فيهم الأنبياء مثلَ السُّرُج، وخُصُّوا بميثاق آخر بالرسالة والنبوة. فذلك قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب: 7]. وهو قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]. وهو قوله: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} [النجم: 56]. وقوله: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102]. وكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخَذَ عليها الميثاق، فأرسل ذلك الرُّوحَ [102 أ] إلى مريم، حين انتبذَتْ من أهلها مكانًا شرقيًّا، فدخل مِن فيها. وهذا إسناد صحيح.

(2/457)


وقال إسحاق بن راهويه: أخبرنا بقية بن الوليد قال: أخبرني الزُّبَيْديُّ محمد بن الوليد، عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن أبي قتادة النَّصْري (1)، عن أبيه، عن هشام بن حكيم بن حزام أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، أتُبتَدأ الأعمال، أم قد مضى القضاء (2)؟ فقال: «إن الله لما أخرج ذريةَ آدم من ظهره أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم (3) في كفَّيه، فقال: هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار. فأهلُ الجنة ميسَّرون لعمل أهل الجنة، وأهلُ النار ميسَّرون لعمل أهل النار» (4). _________ (1) الأصل غير منقوط. وفيما عداه: «البصري» وهو تصحيف. وقد اتفقت النسخ على «أبي قتادة» وكذا في شفاء العليل (31). والصواب: عبد الرحمن بن قتادة. والنصّ على ضبط «النصري» بالنون في الإكمال (1/ 390). وانظر: تفسير الطبري ــ شاكر (13/ 247) حاشية المحقق. (2) في (ب) بعده زيادة: «يوم القيامة». (3) من أفاض الرجل بقداح الميسر: ضرب بها وأجالها. (4) أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده كما في المطالب العالية (2962)، ومن طريقه البيهقي في الأسماء والصفات (696)، وفيهما: «عن عبد الرحمن بن أبي قتادة النّصري». وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (8/ 191، 192) تعليقًا، والبزار (2140 ــ كشف الأستار)، وابن جرير الطبري في تفسيره (10/ 562)، والطبراني في المعجم الكبير (22/ 169) من طرق عن بقية، به. وفي إسناده اختلاف على راشد بن سعد: فروي عنه من هذا الوجه. وروي عنه عن عبد الرحمن بن قتادة، عن هشام بن حكيم. وليس فيه «عن أبيه». أخرجه أبو بكر الفريابي في القدر (22)، ومن طريقه الآجري في الشريعة (330)، والطبراني في مسند الشاميين (1855، 2046). وروي عنه، عن عبد الرحمن بن قتادة السلمي، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه الإمام أحمد (17660)، والفريابي في القدر (25، 26)، وابن حبان (338)، والحاكم (1/ 30) وصحّحه. وبناء على هذه الرواية تُرجم لعبد الرحمن هذا في الصحابة، كما في الإصابة ترجمة (5207) وغيره. لكن جزم البخاري في التاريخ الكبير (5/ 341) بخطأ هذه الرواية. ونقله عنه الحافظ في تعجيل المنفعة في ترجمة عبد الرحمن بن قتادة السلمي (643) وزاد: «وأن الصواب: عن راشد، عن عبد الرحمن، عن هشام». وهذا يعني عدم ثبوت صحبة عبد الرحمن بن قتادة. هذا وقد أعلّ ابن السكن، وابن عبد البر، والحسيني الحديث بالإضطراب. انظر: الاستيعاب ترجمة (1450)، والإكمال ترجمة (532)، والإصابة. وعلى القول بترجيح الوجه الثاني كما قاله البخاري، يكون في إسناده جهالة؛ لأن عبد الرحمن بن قتادة لم تصح صحبته وإنما ذُكر فيهم بناءً على رواية الإمام أحمد وغيره، وهي خطأ، وأما قول الحافظ في آخر ترجمته: «ويكفي في صحته إثبات الرواية التي شهد له فيها التابعي بأنه من الصحابة، فلا يضرّ بعد ذلك إن كان سمع الحديث من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بينهما فيه واسطة». فالجواب أن هذا يستقيم لو لم يختلف عليه في إسناده، أما وأن الرواية التي شهد له التابعي بالصحبة هي خطأ. كما نقله هو عن البخاري. فحقُّه حينئذ أن يترجمه في القسم الرابع، كما هي عادته في مثل هذا. والله أعلم. (قالمي).

(2/458)


قال إسحاق (1): وأخبرنا النَّضْر، أنا أبو مَعشَر (2)، عن سعيد المقبُريِّ ونافع مولى الزبير، عن أبي هريرة، قال: لما أراد الله أن يخلق آدم ــ فذكر خلق آدم ــ فقال له (3): يا آدمُ، أيُّ يديَّ أحبُّ أن أُرِيَك ذريتَك فيها؟ فقال: _________ (1) (ب، ج): «ابن إسحاق»، خطأ. (2) (ق): «أبو مسعر»، تحريف. (3) «له» ساقط من (ب، ط، ن).

(2/459)


يمينُ ربي، وكلتا يدَي ربِّي يمين. فبسَط يمينه، وإذا فيه (1) ذرِّيته كلُّهم ما هو خالقٌ إلى يوم القيامة: الصحيحُ على هيئته، والمبتلى على هيئته، والأنبياء على هيئتهم. فقال: ألَّا أعفيتَهم (2) كلَّهم! فقال: إنِّي أحببتُ أن أُشكَر». وذكر (3) الحديث. وقال محمد بن نصر: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا سعيد بن أبي مريم، أنا الليث بن سعد، حدثني ابن (4) عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبُري، عن أبيه، عن عبد الله بن سلام، قال: خلق الله آدم، ثم قال بيديه، فقبضهما. فقال (5): اختَرْ يا آدم. فقال: اخترت يمينَ ربي، وكلتا يديك يمين. فبسطها، فإذا فيها ذرِّيته. فقال: من هؤلاء يا ربِّ؟ قال: مَن قضيتُ أن أخلق من ذريتك من أهل الجنة (6) إلى أن تقوم الساعة (7). قال: وأخبرنا إسحاق [102 ب] حدثنا جعفر بن عون (8)، أنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لما خلق الله آدمَ مسَح ظهرَه فسقط من ظهره كلُّ نَسَمة هو خالقُها من ذريته إلى يوم _________ (1) كذا في جميع النسخ. والوجه: «فيها» كما في الخبر الآتي، فإن «اليمين» مؤنثة. (2) (أ، ط، غ): «أغنيتَهم»، والمثبت من غيرها موافق لما في شفاء العليل (32). (3) «وذكر» ساقط من (ق). وقد أورد المصنف الأثر في شفاء العليل (32). وانظر: أمالي ابن بشران (663). (4) «ابن» ساقط من (ط). (5) (ط): «ثم قال». (6) (ط): «من الجنة». (7) أورده المصنف أيضًا في شفاء العليل (32). (8) (ق): «عوف»، تصحيف.

(2/460)


القيامة» (1). وحدثنا إسحاق وعمرو بن زُرارة، أنا إسماعيل، عن كلثوم بن جَبْر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} الآية [الأعراف: 172]. قال: «مسح ربك ظهرَ آدم، فخرجت منه كلُّ نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة بنَعمانَ هذا الذي وراء عرفة (2)، فأخذ ميثاقهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا}» (3). ورواه أبو جَمْرة الضُّبَعي، ومجاهد، وحبيب بن أبي ثابت وأبو صالح، وغيرُهم عن ابن عباس (4). وقال إسحاق: أخبرنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو في هذه الآية (5) قال: أخَذَهم، كما يؤخذ بالمشط من الرأس (6). وحدثنا حَجَّاج، عن ابن جُرَيج، عن الزبير بن موسى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إنَّ الله ضرب مَنكِبه الأيمَن، فخرجت كلُّ نفس مخلوقة للجنة بيضاءَ نقية، فقال: هؤلاء أهل الجنة. ثم ضرب (7) مَنْكِبه _________ (1) تقدم تخريجه قريبًا. (2) وهو الوادي الذي يسمى: نعمان الأراك. (3) أخرجه الطبري في تفسيره ــ شاكر (13/ 224) من طريق يعقوب عن إسماعيل. (4) حديث أبي جمرة أخرجه ابن منده في الرد على الجهمية (31) والطبري في تفسيره (13/ 229). وحديث حبيب أخرجه الطبري (13/ 227). وحديث أبي صالح أخرجه ابن منده في الرد على الجهمية (37). (5) «الآية» ساقط من (ط). (6) أخرجه الطبري في تفسيره (13/ 233). (7) «منكبه ... ضرب» ساقط من (ن).

(2/461)


الأيسر، فخرجت كلُّ نفس مخلوقة للنار سوداء، فقال: هؤلاء أهل النار. ثم أخذ عهده على الإيمان به، والمعرفةِ له ولأمره، والتصديق له وبأمره من بني آدم كلِّهم، وأشهدهم على أنفسهم. فآمنوا، وصدَّقوا، وعَرَفوا، وأقرُّوا (1). وذكر محمد بن نصر (2) من تفسير السُّدِّي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس؛ وعن مُرَّة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} الآية [الأعراف: 172]. لما أخرَجَ الله آدم من الجنة قبل أن يهبط من السماء مسَحَ صَفْحة ظهر [103 أ] آدم اليمنى، فأخرج منه ذرِّيةً بيضاءَ مثلَ اللؤلؤ وكهيئة الذرِّ، فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي. ومسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منه ذرِّيةً سوداءَ كهيئة الذرِّ (3)، فقال لهم (4): ادخلوا النار، ولا أبالي. فذلك حيث (5) يقول: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة: 27]، {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ} [الواقعة: 41]. ثم أخذ منهم الميثاق فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} فأعطاه طائفةٌ طائعين، وطائفة كارهين على وجه التقِيَّة. فقال هو والملائكة: {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا _________ (1) أخرجه الطبري في تفسيره (13/ 237). (2) زاد في (ط): «المروزي». (3) «كهيئة الذر» ساقط من (ب، ط، ج، ن). (4) «لهم» من (أ، غ). (5) (ب، ج، ن): «حين».

(2/462)


مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} (1) [الأعراف: 172 ــ 173]. فليس أحدٌ من ولد آدم إلا وهو يعرف أنَّ ربَّه الله (2)، ولا مشرك (3) إلا وهو يقول: إنا وجدنا آباءنا على أمَّة. فذلك قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ}، وقوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83]، وقوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]. قال: يعني يوم أخذ عليهم الميثاق (4). قال إسحاق: وأخبرنا رَوْح بن عُبادة، ثنا موسى بن عبيدة الرَّبَذي (5) قال: سمعت محمد بن كعب القُرَظي يقول في هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} الآية: أقرُّوا له بالإيمان والمعرفة، الأرواح قبل أن يخلق أجسادها (6). قال: وثنا الفضل بن موسى، عن عبد الملك، عن عطاء في هذه الآية، _________ (1) في (ب، ط، ج، غ): «أن يقولوا»، و «أو يقولوا» بالياء، وهي قراءة أبي عمرو. وفي (ن) بالتاء على قراءة الباقين من السبعة. ولم ينقط حرف المضارعة في (أ، ق). (2) (ق، ط): «الله ربُّه». (3) ما عدا (أ، ق، غ): «يشرك». (4) أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (18/ 70). وانظر: تفسير الطبري (13/ 242 ــ 243). (5) تصحف في (ق، ب، ن، غ): «الزيدي». (6) أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (18/ 80). وعزاه السيوطي في الدر المنثور (6/ 653) إلى ابن جرير وأبي الشيخ.

(2/463)


قال: أُخرِجوا من صُلْب آدم حتى (1) أخذ منهم الميثاق، ثم رُدُّوا في صلبه (2). قال إسحاق: وأخبرنا علي بن الأَجْلَح (3)، عن الضحاك قال: إنَّ الله أخرج من ظهر آدم يوم خلقه ما يكون إلى أن تقوم الساعة (4) فأخرجهم مثلَ الذرِّ فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}. قالت الملائكة: {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (5) [الأعراف: 172]. ثم قبض قبضة بيمينه (6)، فقال: هؤلاء في الجنة. وقبض أخرى، فقال: هؤلاء في النار (7). قال إسحاق: وأخبرنا أبو عامر العَقَدي وأبو نُعَيم المُلَائي قالا: ثنا هشام بن سعد، عن يحيى ــ وليس بابن سعيد ــ (8) قال: قلت لابن المسيِّب [103 ب]: ما تقول في العَزْل؟ قال: إن شئت حدَّثتُك حديثًا هو حقٌّ (9): إنَّ الله سبحانه لما خلق آدم أراه كرامةً لم يَرها أحدٌ (10) من خلقه: أراه كلَّ نسمة هو _________ (1) ما عدا (ط): «حين». والمثبت مطابق لما في تفسير الطبري. (2) أخرجه الطبري في التفسير (13/ 241). (3) كذا في النسخ وأحكام أهل الذمة (2/ 555)، والصواب: «يعلى عن الأجلح» كما سبق (ص 320). قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذا التعليق ليس في المطبوع، وهو ثابت في الأصل الوارد من «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا (4) (ن): «إلى يوم القيامة». (5) في (ب، ط، ج، غ): «يقولوا» بالياء على قراءة أبي عمرو. وقد سلف نحوه آنفًا. (6) (ط): «في يمينه». (7) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (8538). وقد عزاه السيوطي إلى عبد بن حميد أيضًا. الدر المنثور (6/ 672). (8) بل هو يحيى بن حسان البكري، كما صرَّح به في كتاب القدر لابن وهب. (9) في مطبوعة كتاب القدر: حديثًا موجزًا. (10) (ب، ج): «لم يُرها أحدًا».

(2/464)


خالقها من ذريته (1) إلى يوم القيامة. فمن حدَّثك أنه يزيد فيهم شيئًا أو ينقص منهم، فقد كَذَب. ولو كان لي سبعون ما بالَيْت (2). وفي «تفسير ابن عيينة» عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا} [آل عمران: 83]. قال: يوم أخْذِه (3) الميثاق (4). قال إسحاق: فقد كانوا في ذلك الوقت مقِرِّين. وذلك أنَّ الله عزَّ وجلَّ أخبر أنه قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] والله تعالى لا يخاطِب إلا من يفهم عنه المخاطبة، ولا يجيب إلا مَن فهِم السؤال. فإجابتُهم إياه بقولهم دليلٌ على أنَّهم قد فهموا عن الله عزَّ وجلَّ وعقلوا عنه استشهاده إياهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}، فأجابوه من بعد عَقْلٍ منهم للمخاطبة وفهمٍ لها بأن: {قَالُوا بَلَى} فأقرُّوا له بالرُّبوبية. _________ (1) في كتاب القدر: «بين يديه». (2) أخرجه ابن وهب في كتاب القدر (14) عن هشام بن سعد. (3) (ق): «أخذ». (4) أخرجه ابن أبي حاتم (8781) عن الربيع عن أبي العالية نحوه في تفسير قوله تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} [الأعراف: 102]. أما في تفسير الآية المذكورة من آل عمران، فأخرج ابن أبي حاتم (3776)، والطبري (6/ 565) عن الربيع عن أبي العالية قوله: «كلُّ آدمي قد أقرَّ على نفسه بأن الله ربِّي وأنا عبده، فمن أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرهًا، ومن أخلص له العبودة فهذا الذي أسلم طوعًا». هذا لفظ الطبري. وقد أخرج بعد هذا الأثر عن ابن عباس نحو ما روي هنا عن أبي العالية.

(2/465)


فصل واحتجُّوا أيضًا بما رواه أبو عبد الله بن منده، أخبرنا محمد بن محمد بن صابر البخاريُّ، ثنا محمد بن المنذر بن سعيد الهَرَوي، ثنا جعفر بن محمد بن هارون المِصِّيصي، ثنا عتبة بن السَّكَن، ثنا أرطاة بن المنذر، ثنا عطاء بن عجلان، عن يونس بن حَلْبَس (1)، عن عمرو بن عَبَسَة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله خلق أرواح العباد قبل العباد بألفي عام، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» (2). فهذا بعض ما احتج به هؤلاء. قال الآخرون: الكلام معكم في مقامين: أحدهما: ذكر الدليل على الأرواح إنما خلقت بعد خلق الأبدان. الثاني: الجواب عما استدلَلْتم به. فأما المقام الأول، فقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13]. وهذا خطاب للإنسان الذي هو روح وبدن، فدلَّ على أنَّ جملته مخلوقة بعد خلق الأبوين. _________ (1) تصحف في (ق، ب) إلى «جليس»، وفي (ن) إلى «حبيب». (2) إسناده ضعيف جدًّا؛ وقد بيَّن المصنف رحمه الله ــ كما سيأتي ــ أن إسناده لا يصح؛ لأن فيه عتبة بن السكن قال عنه الدارقطني: متروك، وشيخه أرطاة بن المنذر قال ابن عدي: بعض أحاديثه غلط. وفي إسناده أيضًا عطاء بن عجلان الحنفي، قال الحافظ في التقريب: «متروك، بل أطلق عليه ابن معين والفلاس وغيرهما الكذب». ثم أعلَّ الجزء الأول من متنه بمخالفته للأحاديث الصحيحة التي دلّت على خلق الجسد قبل الروح. (قالمي).

(2/466)


وأصرحُ منه قوله (1): {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]. وهذا صريح في أنَّ خلْقَ جُملةِ النوعِ الإنساني بعد خلقِ [104 أ] أصله. فإن قيل: هذا (2) لا ينفي تقدُّمَ خلق الأرواح على أجسادها، وإن خُلِقت بعد خلق أبي البشر، كما دلَّت عليه الآثار المتقدمة. قيل: سنبيِّن ــ إن شاء الله ــ أنَّ الآثار المذكورة لا تدلُّ على سَبْق الأرواحِ الأجسادَ (3) سَبْقًا مستقرًّا ثابتًا. وغايتُها أن تدلَّ بعد صحتها وثبوتها على أنَّ بارئها وفاطرها سبحانه صوَّر النَّسَمَ، وقدَّر خلْقَها وآجالها وأعمالها، واستخرج تلك الصورَ من مادتها، ثم أعادها إليها، وقدَّر خروج (4) كلِّ فرد من أفرادها في وقته المقدَّر له. ولا تدل على أنها خُلقت خلقًا مستقرًّا، ثم استمرَّت موجودةً (5) حيَّةً عالمةً (6) ناطقةً، كلُّها في موضع واحد. ثم تُرسَل منها إلى الأبدان جملةً بعد جملة، كما قاله أبو محمد بن حزم، فهل تحتمل (7) الآثارُ ما لا طاقة لها به؟ نعم الربُّ سبحانه يخلق منها جملةً بعدَ جملةٍ على الوجه الذي سبق به التقدير أولًا، فيجيءُ الخلق الخارجيُّ مطابقًا _________ (1) لم يرد «قوله» في (أ، غ). (2) ما عدا (أ، غ): «فهذا». (3) (ب، ج، ن): «للأجساد». (4) (أ، ق، غ): «كل خروج»، ولعله سهو. (5) (ق، ط، ن): «بوجوده». (6) «حية» ساقط من (ب، ج). وسقط من (ن) معه «عالمة». (7) (ب، ج، ن): «تحمل».

(2/467)


للتقدير السابق؛ كشأنه تعالى في جميع مخلوقاته، فإنه قدَّر لها أقدارًا وآجالًا وصفاتٍ وهيئات، ثم أبرزها إلى الوجود (1) مطابقةً لذلك التقدير الذي قدَّره لها، لا تزيد عليه ولا تنقص منه. فالآثار المذكورة إنما تدل على إثبات القدَر السابق، وبعضُها يدل على أنه سبحانه استخرج أمثالهم وصُورَهم، وميَّزَ أهل السعادة من أهل الشقاوة. وأمَّا مخاطبتهم واستنطاقهم، وإقرارهم له بالربوبية، وشهادتهم على أنفسهم بالعبودية؛ فمَن قاله من السلف فإنما هو بناءٌ منه على فهم الآية، والآيةُ لم تدلَّ على هذا، بل دلَّت على خلافه. وأما حديث مالك، فقال أبو عمر (2): هو (3) حديث منقطع، مسلم بن يسار لم يلقَ عمر بن الخطاب، وبينهما في هذا الحديث نُعيم بن ربيعة، وهو أيضًا مع هذا الإسناد لا تقوم به حجة. ومسلم بن يسار (4) هذا مجهول، قيل: إنه مدني، وليس بمسلم بن يسار البصري. قال ابن أبي خَيثمة (5) [104 ب]: قرأت على يحيى بن معين حديثَ مالكٍ هذا عن زيد بن أبي أُنَيسة، فكتب بيده على مسلم بن يسار: لا يُعرف. ثم ساقه أبو عمر من طريق النسائي: أخبرنا محمد بن وهب (6)، ثنا _________ (1) (ط): «للوجود». (2) في التمهيد (6/ 3 ــ 5). (3) (ن): «هذا». (4) زاد في (ن): «الجهني». (5) في تاريخه (2667، 4575). (6) (ب، ج): «وهب بن منبه»، خطأ.

(2/468)


محمد بن سَلَمة قال: حدثني أبو عبد الرحيم قال: حدثني زيد بن أبي أُنيسة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مسلم بن يسار، عن نُعيم بن ربيعة (1). ثم ساقه من طريق ابن سنجَر (2): حدثنا أحمد بن عبد الملك بن واقد، ثنا محمد بن سَلَمة (3)، عن أبي عبد الرحيم، عن زيد بن أبي أُنيسة، عن عبد الحميد، عن مسلم، عن نُعيم. قال أبو عمر (4): وزيادة مَن زادَ في هذا الحديث: «نُعيم بن ربيعة» _________ (1) رواية النسائي هذه هي في خارج السنن فإن المزيّ في تحفة الأشراف (10654) لم يورد له من سننه الكبرى إلا طريق مالك السابق. ومن هذا الوجه أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (3888)، وابن منده في التوحيد (454). وأخرجه أبو داود (4704) من طريق عمر بن جعثم القرشي، وابن أبي عاصم في السنة (201)، والطحاوي في مشكل الآثار (3887) من طريق يزيد بن سنان. كلاهما عن زيد بن أبي أنيسة، به. ونعيم بن ربيعة لا يعرف أيضًا كما في الميزان (4/ 270). (قالمي). (2) في النسخ المطبوعة تصحف إلى «سخبرة»، وحذفوا كلمة «ابن». وهو محمد بن عبد الله بن سنجر الجرجاني الحافظ صاحب المسند، نزيل مصر. توفي سنة 258. انظر: التمهيد، وتذكرة الحفاظ (578) وتوضيح المشتبه (5/ 183). (3) هنا في جميع النسخ: «مسلمة»، وهو تحريف. (4) التمهيد (6/ 5 ــ 6) وقد سبق أن الذي زاد نعيم بن ربيعة هم: أبو عبد الرحيم وهو ثقة، وعمر بن جعثم وهو مقبول كما في التقريب، ويزيد بن سنان الرُّهاوي وهو ضعيف. ورجَّح الإمام الدارقطني في العلل (2/ 222) أن الرواية المتصلة أولى بالصواب. ورجّحها أيضًا أبو جعفر الطحاوي. وزعم الحافظ ابن كثير في تفسيره (3/ 503، 504) أنّ مالكًا وقعت عنده الرواية متصلة وإنما أسقط نعيم بن ربيعة عمدًا لما جهل حاله ولم يعرفه. قال: «وكذلك يُسقط ذكر جماعة ممن لا يرتضيهم؛ ولهذا يرسل كثيرًا من المرفوعات، ويقطع كثيرًا من الموصولات» اهـ. قلت: وأيًّا كان فالإسناد لا يخلو من علتين؛ فالمنقطع فيه إرسال وجهالة، والمتصل فيه مجهولان. والله تعالى أعلم. (قالمي).

(2/469)


ليست حجَّةً. إنَّ (1) الذي لم يذكره أحفَظُ، وإنما تُقبَل الزيادة من الحافظ المتقِن. وجملة القول في هذا الحديث: أنه حديث ليس إسناده بالقائم؛ لأن مسلم بن يسار ونُعيم بن ربيعة جميعًا غيرُ معروفَين بحمل العلم. ولكنَّ معنى هذا الحديث قد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه كثيرة ثابتة (2) يطول ذكرها، من حديث عمر بن الخطاب وغيره وجماعةٍ (3) يطول ذكرهم (4). ومرادُ أبي عمر الأحاديثُ الدالَّةُ على القدر السابق، فإنها هي التي ساقها بعد ذلك، فذكر حديثَ عبد الله بن عمر في القدر، وقال في آخره: وسأله رجل من مُزَينة ــ أو جُهَينة ــ فقال: يا رسول الله، ففيمَ العمل؟ فقال: «إن أهل الجنة يُيَسَّرون (5) لعمل أهل الجنة، وأهلَ النار يُيَسَّرون (6) لعمل أهل النار» (7). _________ (1) (ب): «لأن». وكذا في مطبوعة التمهيد. (2) (ب، ن، ج): «ثابتة كثيرة». (3) كذا «وجماعة» في جميع النسخ. ولعل الصواب حذف الواو كما في التمهيد. (4) وانظر نحوه في الاستذكار (8/ 260). (5) (ق، ب، ج، ن): «ميسرون». (ط): «لييسَّرون». (6) (ق، ن): «ميسرون». (7) أخرجه ابن عبد البر (6/ 6، 7) من طريق أبي داود (4696) في سياق مختصر، وهو بطوله وتمامه في مسند أحمد (184) وجاء مطولًا أيضًا في كتاب الإيمان من صحيح مسلم (8) لكن بدون هذه الزيادة. (قالمي).

(2/470)


قال: ورُوي هذا المعنى [عن عمر] (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طرق. وممن رَوى هذا المعنى في القدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: عليُّ بن أبي طالب (2)، وأُبيّ بن كعب (3)، وعبد الله بن عباس (4)، وابن عمر (5)، وأبو هريرة (6)، وأبو سعيد (7)، وأبو سَرِيحة الغِفاري (8)، وعبد الله بن مسعود (9)، وعبد الله بن _________ (1) زيادة من التمهيد. (2) أخرجه البخاري (4945، 4949) ومسلم (2647). (3) أخرجه عبد الله بن أحمد في زياداته على المسند (21232)، ومن طريقه الضياء في المختارة (1158)، والفريابي في القدر (52، 53)، وابن جرير الطبري (10/ 557، 558)، وابن أبي حاتم في تفسيره (8535) والحاكم (2/ 323، 324). وسيأتي كلام المصنف رحمه الله على إسناده، وبيان ما جاء فيه من النكارة في متنه. (قالمي). (4) وهو الآتي تخريجه بعد حديث أبي هريرة. (قالمي). (5) أخرجه مسلم (2655). وله حديث آخر في القدر أخرجه البزار (2149) وأبو يعلى (5775) وابن حبان (6178) بإسناد صحيح. (قالمي). (6) أخرجه البخاري (3409) ومسلم (2652). وله حديث آخر عند مسلم (2651). (قالمي). (7) له حديث في محاجّة آدم موسى عليهما السلام، أخرجه البزار (2147 ــ كشف الأستار). وأخرجه أبو يعلى (1204) موقوفًا. قال الهيثميّ في مجمع الزوائد (7/ 191): «رواه أبو يعلى والبزّار مرفوعًا ورجالهما رجال الصحيح». وله حديث آخر في خلق بني آدم على طبقات شتى. أخرجه البيهقي في القضاء والقدر (91) وصحّح إسناده. (قالمي). (8) أخرجه مسلم (2644). (9) أخرجه البخاري (3208) ومسلم (2643).

(2/471)


عمرو (1)، وعمران بن حُصَين (2)، وعائشة (3)، وأنس بن مالك (4)، وسُراقة بن جُعْشُم (5)، وأبو موسى الأشعري (6)، وعبادة بن الصامت (7). _________ (1) أخرجه مسلم (2653). وله حديث آخر أخرجه الإمام أحمد (6563)، والترمذي (2141) وقال: «حسن صحيح غريب». وانظر: السلسلة الصحيحة (848). وذكر بعده في التمهيد (6/ 7) ذا اللحية الكلابي. وحديثه أخرجه عبد الله بن أحمد في زياداته على المسند (16630، 16631) ج 27، والبغوي في معجم الصحابة (664)، والطبراني في الكبير (2435، 2436)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (2619، 2620). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 194): «رواه ابن أحمد والطبراني، ورجاله ثقات». (قالمي). (2) أخرجه البخاري (6596) ومسلم (2649). (3) أخرجه مسلم (2662). (4) أخرجه البخاري (3333) ومسلم (2646). وله حديث آخر في القدر أخرجه الإمام أحمد (12214) وأبو يعلى (3840) والضياء في المختارة (1980) بإسناد صحيح. (قالمي). (5) أخرجه ابن ماجه (91)، والطبراني في الكبير (6588) بإسناد ضعيف. انظر: مصباح الزجاجة (1/ 61). ولكن أخرجه مسلم (2648) من حديث جابر رضي الله عنه قال: جاء سراقة بن مالك بن جعشم قال: يا رسول الله بيِّن لنا ديننا كأنّا خُلقنا الآن فيما العمل اليوم؟ ... » (قالمي). (6) له حديث في القبضتين أخرجه أبو داود (4693)، والترمذي (2955)، والإمام أحمد (19582)، وابن خزيمة في التوحيد (101، 102)، والحاكم (2/ 261) وصححه هو والترمذي. (قالمي). (7) له حديث في خلق القلم، أخرجه الإمام أحمد (22705)، وابن أبي شيبة (35922)، وابن أبي عاصم في السنة (107) بإسناد حسن، وعند أحمد قصة. وأخرجه الترمذي (2155) من وجه آخر مطولًا وفيه ضعف. (قالمي).

(2/472)


وأكثر أحاديث [105 أ] هؤلاء لها طرُق (1) شتى. ثم ساق كثيرًا منها بإسناده. وأما حديث أبي صالح عن أبي هريرة، فإنما يدل على استخراج الذرية وتمثيلهم (2) في صُوَر الذرّ، وكان منهم حينئذ المشرق والمظلم. وليس فيه أنه سبحانه خلق أرواحهم (3) قبل الأجساد وأقرَّها بموضع واحد ثم إنه يرسل كلَّ روح من تلك الأرواح عند حدوث بدنها إليه. نعم هو سبحانه يخُصُّ كلَّ بدن بالروح التي قَدَّر أن تكون له في ذلك (4) الوقت. وأمَّا أنه خلق نفسَ ذلك البدن في ذلك الوقت (5)، وفرغ من خلقها، وأودعها في مكانٍ معطَّلةً عن بدنها، حتى إذا أحْدَث بدنَها أرسلها إليه من ذلك المكان؛ فلا يدلُّ شيء من الأحاديث على ذلك البتةَ لمن تأمَّلَها. وأمَّا حديث أُبيّ بن كعب، فليس هو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وغايته لو صحَّ ــ ولم يصحَّ ــ أن يكون من كلام أُبيّ. وهذا الإسناد يروَى به أشياءُ منكرةٌ جدًّا مرفوعة وموقوفة. وأبو جعفر الرازيُّ وُثِّق وضُعِّف. قال علي بن المديني: كان ثقة. وقال أيضًا: كان يخلط. وقال ابن معين: هو ثقة. وقال أيضًا: يُكتب (6) حديثه إلا أنه يخطئ. وقال الإمام أحمد: ليس بقوي في الحديث. _________ (1) في (ط) بعده: «كثيرة شتى». (2) (ق، ط، ن): «تمثّلهم». (3) (ب، ج، ن): «الأرواح». (4) (ط): «هذا». (5) «وأما .. الوقت» ساقط من (ط، ن). (6) في الأصل بعده فوق السطر: «عنه» ولعله زيادة من بعض القراء. وهي في (غ) في داخل المتن.

(2/473)


وقال أيضًا: صالح الحديث (1). وقال الفلَّاس: سيئِّ الحفظ. وقال أبو زُرعة: يَهِم كثيرًا. وقال ابن حِبَّان: ينفرد (2) بالمناكير عن المشاهير (3). قلت: ومما يُنكَر من هذا الحديث قوله: «فكان رُوح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها الميثاق، فأرسل ذلك الروح إلى مريم حين انتبذت من أهلها مكانًا شرقيًا، فدخل مِن فيها» (4). ومعلومٌ أن الروح الذي أُرسل إلى مريم ليس هو روح المسيح بل ذلك الروح الذي نفخ فيها فحملت بالمسيح. قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} (5) [مريم: 17 ـ 19]. فروح المسيح لا يخاطبها عن نفسه بهذه المخاطبة قطعًا. وفي بعض طرق حديث أبي جعفر هذا أنَّ روح المسيح هو الذي خاطبها، وهو الذي أُرسِل إليها. وهاهنا أربع مقامات: أحدها: أنَّ الله سبحانه استخرج صورهم وأمثالهم، فميَّز (6) شقيَّهم _________ (1) هذا القول الثاني لأحمد ساقط من (ن). (2) في الأصل: «يتفرد». وفي (غ): «متفرِّد». (3) انظر هذه الأقوال في تهذيب الكمال (3/ 194 ــ 196) إلا قول ابن حبان فهو في كتاب المجروحين (2/ 120). (4) في (أ، غ): «في فيها»، خلافًا لما سبق، وهو المطابق لما ورد في المستدرك. وقد سقطت «من» من (ق). (5) في (أ، ق، غ): «ليهَبَ» بالياء. وهي قراءة أبي عمرو. انظر: الإقناع لابن الباذش (696). (6) (ب، ج): «وميَّز».

(2/474)


وسعيدَهم (1)، ومعافاهم من مبتلاهم. والثاني: أنَّه سبحانه أقام عليهم الحجةَ حينئذ، وأشهدهم بربوبيته، واستشهد عليهم ملائكتَه (2). الثالث: أن هذا (3) تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهْم} (4) [الأعراف: 172]. الرابع: أنه أقرَّ تلك الأرواح كلَّها بعد إخراجها بمكان، وفرغ من خلقها. وإنما يتجدَّد كلَّ وقت إرسالُ جملة منها بعد جملة إلى أبدانها. فأما المقام الأول: فالآثارُ متظاهرةٌ به مرفوعةً وموقوفةً. وأما المقام الثاني: فإنما أخذه مَن أخَذه من المفسرين من الآية، وظنوا (5) أنه تفسيرها. وهذا قول جمهور المفسرين (6) من أهل الأثر. قال أبو إسحاق (7): جائز أن يكون الله سبحانه جعل لأمثال الذرّ التي أخرجها فهمًا تعقِل به كما قال (8): {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا _________ (1) ما عدا (أ، ق، غ): «من سعيدهم». (2) (ق): «يعني ملائكته». (3) ما عدا (أ، ن، غ): «هذا هو». (4) كذا في جميع النسخ على قراءة أبي عمرو ونافع وابن عامر من السبعة. الإقناع (651). (5) (ق): «فظنوا». (6) «مِن ... المفسرين» ساقط من (ب). (7) وهو الزجّاج. انظر: معاني القرآن له (2/ 390). ويبدو أنّ النقل من البسيط للواحدي (9/ 447). (8) «قال» ساقط من (ط، ن).

(2/475)


النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18]. وقد سخَّر مع داود الجبال تسبِّح (1) معه والطيرَ. وقال ابن الأنباري (2): مذهب أصحاب الحديث وكُبَراء (3) العلم في هذه الآية: أنَّ الله أخرج ذرية آدم من صُلبه وأصلابِ أولاده، وهم في صوَر الذر، فأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم وأنهم مصنوعون. فاعترفوا بذلك، وقبلوا. وذلك بعد أن ركَّب فيهم عقولًا عرفوا بها ما عُرِض عليهم، كما جعل للجبل عقلًا حتى (4) خُوطب (5)، وكما فعل ذلك بالبعير لما سجد (6)، _________ (1) (ق، ط): «يسبِّحن». وفي معاني الزجاج والبسيط ورد نصّ الآية (10) من سورة سبأ. (2) انظر: البسيط للواحدي (9/ 448). والمصنف صادر عنه. (3) (ب، ج، ن): «أكثر». (4) (ب، ج، ن): «حين». (5) يشير إلى قوله تعالى: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10] وما رواه البخاري [3675] عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد أحدًا وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فقال: «اثبُتْ أحدُ، فإنما عليك نبي وصدِّيق وشهيدان». (6) يشير إلى حديث أنس بن مالك قال: كان أهلُ بيت من الأنصار لهم جملٌ يَسنُون عليه، وإن الجمل استصعب عليهم، فمنعهم ظهرَه ... الحديث. وفيه: «فلما نظر الجمل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل نحوَه، حتى خرَّ ساجدًا بين يديه» أخرجه الإمام أحمد (12614) ــ ومن طريقه الضياء المقدسي في المختارة (1895) ــ، والبزار (6452)، وأبو نعيم في دلائل النبوة (287). أورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (6/ 135) من المسند، ثم قال: «وهذا إسناد جيد». وعزاه الهيثمي في المجمع (9/ 4) للإمام أحمد والبزار وقال: «ورجاله رجال الصحيح غير حفص ابن أخي أنس وهو ثقة». (قالمي).

(2/476)


والنخلة (1) حتى سمعتْ، وانقادت حين دُعِيتْ. وقال الجرجانيُّ (2): ليس [106 أ] بين قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله مسح ظهر آدم فأخرج منه ذرية» وبين الآية اختلافٌ بحمد الله، لأنه (3) عزَّ وجلَّ إذا أخذهم من ظهر آدم فقد أخذهم من ظهور ذريته؛ لأنَّ ذرية آدم ذريةٌ لذريته، بعضُهم من بعض (4). وقوله: {أَنْ يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (5) [الأعراف: 172]. أي: عن الميثاق المأخوذ عليهم، فإذا قالوا ذلك كانت الملائكة شهودًا عليهم بأخذ الميثاق. قال: وفي هذا دليل على التفسير الذي جاءت به الرواية (6) من أن الله _________ (1) (أ، ق، ط، غ): «النملة»، تحريف. والمصنف يشير إلى ما أخرجه الترمذي (3628) من حديث ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: بما أعرف أنك نبيٌّ؟ قال: إن دعوت هذا العِذق من هذه النخلة، أتشهد أني رسول الله؟ فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم قال: ارجع، فعاد. فأسلم الأعرابي. قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب صحيح». وانظر تخريجه في حاشية المسند ــ طبعة الرسالة (3/ 424). (2) صاحب «نظم القرآن»، وهو أبو علي الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني. انظر ترجمته في تاريخ جرجان للسهمي (146). وقد وهم الداودي في طبقات المفسرين (1/ 138) فترجم للحافظ أبي علي الحسن بن علي بن نصر الطوسي، ونسب «نظم القرآن» إليه. (3) (ب، ج، ن): «لأن الله». (4) قول الجرجاني إلى هنا نقله الواحدي في البسيط (9/ 449). (5) كذا وردت الآية (أن يقولوا) بالياء على قراءة أبي عمرو. ولم ينقط حرف المضارعة في (أ، ق). (6) (ن): «الرواة».

(2/477)


قال للملائكة: اشهدوا، فقالوا: شهدنا. قال: وزعم بعض أهل العلم أن الميثاقَ إنما أُخِذ على الأرواح دون الأجساد، لأنَّ (1) الأرواح هي التي تعقل وتفهم، ولها الثواب وعليها العقاب، والأجساد مَواتٌ (2) لا تعقل ولا تفهم. قال: وكان إسحاق بن راهويه يذهب إلى هذا المعنى، وذكر أنه قول أبي هريرة. قال إسحاق: وأجمعَ أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد، استنطقهم، وأشهدهم. قال الجرجاني: واحتجوا بقوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]. والأجسادُ قد بَلِيت وضلَّت (3) في الأرض، والأرواح تُرزَق وتَفرح، وهي التي تلَذُّ وتألم، وتفرح وتحزن (4)، وتَعرفُ وتُنكر. وبيانُ ذلك في الأحلام موجودٌ: أنَّ الإنسان يصبح، وأثرُ لذة الفرح وألم الحزن باقٍ في نفسه مما (5) تلقى الروح دون الجسد. قال: وحصل (6) الفائدة في هذا الفصل أنه سبحانه قد أثبت الحجَّةَ على _________ (1) (ط، ن): «وأن». (2) (ن): «مقامات»، تحريف. (3) (ق): «صليت». (ب): «صارت». وكلاهما تحريف. (4) «وتفرح وتحزن» ساقط من (ب، ج). (5) (ن، غ): «بما». (6) كذا في (أ، ق، ب، ج، غ). وكذا في البسيط للواحدي (9/ 449). وفي (ط): «جعل» تصحيف. وفي (ن) والنسخ المطبوعة: «حاصل» ولعله إصلاح. وفي تفسير الخازن (2/ 268): تحصل. وقد يكون الصواب: «مُحصَّل».

(2/478)


كل منفوس ممن بلغ وممن (1) لم يبلغ بالميثاق الذي أخذه عليهم، وزاد (2) على من بلغَ منهم الحجَّةَ بالآيات والدلائل التي نصبَها في نفسه وفي العالَم، وبالرسل المُنفَذة (3) إليهم مبشِّرين ومنذرين، وبالمواعظ بالمَثُلات (4) المنقولة إليهم أخبارُها (5)؛ غيرَ أنه عزَّ وجلَّ لا يطالب أحدًا منهم من الطاعة إلا بقدر (6) ما لزمه من الحجة، وركَّب فيهم من القدرة، وآتاهم من الآلة (7). وبيَّن سبحانه ما هو عاملٌ في البالغين الذين أدركوا الأمر والنهي، وحجب عنَّا علمَ ما قدَّره في غير البالغين، إلا أنا نعلم أنه عدلٌ لا يجور في حكمه، وحكيمٌ لا تفاوتَ في صنعه، وقادرٌ لا يُسأل عمَّا يفعل، له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين. فصل ونازع هؤلاء غيرُهم في كون هذا معنى الآية (8)، وقالوا: معنى قوله: _________ (1) (ب، ط، ن، ج): «ومن». (2) (ن): «ردًّا»، خطأ. (3) في الأصل: «المتقدمة». ويظهر أنه مغيَّر وكذا في (غ). والمثبت موافق لما في البسيط والخازن. (4) (ق): «والمثلات». وكذا في البسيط. (5) «وحصل ... أخبارها» نقله الواحدي في البسيط (9/ 449). (6) (ط): «الطاعة ما لا يقدر»، تحريف. (7) كذا في جميع النسخ. وقد زاد بعضهم دالًا في الأصل قبل اللام فوق السطر ليقرأ «أدلة». وكذا في (غ) والنسخ المطبوعة. والظاهر أنه إصلاح من بعض النسَّاخ. (8) (ب، ج، ن): «تفسير الآية». وفي الأصل: «هذا المعنى الآية». فكتب بعضهم في حاشيته: «معنى» يعني: «هذا المعنى معنى الآية». وكذا في (غ). وفي (ط): «كون هذا الآية»، فعلق بعضهم في طرّتها: «لعله: هذا معنى». يريد ما أثبتنا.

(2/479)


{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهم} (1) [الأعراف: 172]، أي: أخرجهم وأنشأهم بعد أن كانوا نُطَفًا في أصلاب الآباء إلى الدنيا على ترتيبهم في الوجود، وأشهدَهم على أنفسهم أنه ربُّهم، بما أظهرَ لهم من آياته وبراهينه التي تضطرُّهم إلى أن يعلَموا أنه خالقُهم؛ فليس من أحد إلا وفيه من صنعة ربِّه ما يَشهدُ (2) على أنه بارئُه ونافذُ الحكم فيه. فلمَّا عرفوا ذلك ودعاهم كلُّ ما يرون ويشاهدون إلى التصديق به كانوا بمنزلة الشاهدين والمشهَدين (3) على أنفسهم بصحته، كما قال في غير هذا الموضع: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17] يريد: هم بمنزلة الشاهدين، وإن لم يقولوا: نحن كفَرة. وكما تقول: شهدَتْ جوارحي بقولك، تريد (4): قد عرفتُه، فكأنَّ جوارحي لو استُشْهدتْ وفي وُسعها أن تنطِق لشهدتْ. ومن هذا الباب أيضًا {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] يريد: أعلَمَ وبيَّن، فأشبه إعلامُه وتبيينُه ذلك شهادةَ من شَهِد عند الحكام وغيرهم (5). هذا كلام ابن الأنباري (6). _________ (1) كذا وردت الآية في النسخ: {ذرياتهم} على قراءة أبي عمرو ونافع وابن عامر ما عدا (ق)، ففيها بالإفراد على قراءة الباقين من السبعة. (2) (ب): «ينبهه». ولعله تصحيف. (3) في طرّة الأصل أن في نسخة: «والمستشهدين». (4) زاد بعده في (ط): «به». (5) قوله: «ومن هذا الباب» إلى هنا مضطرب في (ق). (6) نقله الواحدي في البسيط (9/ 456) وهو مصدر المصنف .. ولفظ المصنف قد يُفهم منه أن هذا قول ابن الأنباري. ولكن الواحدي لم يصرِّح بهذا. وقال ابن الجوزي في زاد المسير (3/ 286) أن ابن الأنباري حكى نحو هذا القول.

(2/480)


وزاد الجرجانيُّ (1) بيانًا لهذا القول فقال حاكيًا عن أصحابه (2): إنَّ الله لما خلق الخلقَ، ونفَذَ علمُه فيهم بما هو كائن= صار (3) ما لم يكن بعدُ ــ مما هو كائن ــ كالكائن؛ إذ علمُه بكونه مانعٌ (4) من غير كونه، فسائغٌ (5) في مجاز العربية أن يضع (6) ما هو منتظَرٌ ــ مما لم يقع بعدُ ــ موضع الواقع (7) لسَبْق علمه بوقوعه، كما قال عزَّ وجلَّ في مواضعَ من القرآن، كقوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ} [الأعراف: 50]، {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 44]، [107 أ] {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ} [الأعراف: 48]. _________ (1) يعني: صاحب النظم، وقد سبق ذكره قريبًا. وانظر كلامه في البسيط (9/ 457). (2) يعني: أصحاب هذا القول. ولفظ الواحدي: «وزاد صاحب النظم لهذا المذهب بيانًا حكايةً عن بعضهم». (3) «صار» انفردت به (ج)، ولكن مطابقتها للبسيط (9/ 457) تدل على صحة هذه الزيادة. وقد أدّى سقوطها من النسخ الأخرى إلى اختلال السياق، فاجتهد بعض النسَّاخ في إصلاحه. فجاء في (ن): « ... كائن [و] ما لم يكن بعد، [فما] هو كائن كالكائن ... [ساغ] في مجاز العربية». فزاد واوًا مكان «صار»، وكتب «ساغ» مكان «فسائغ» ليكون جواب لمّا. (4) بعض قرَّاء الأصل غيَّره إلى «مانعًا» ظنًّا منه أنه خبر الكون. وتصحف «مانع» في (ط) إلى «تابع» وفي (ب) إلى «نافع». (5) تصحف في (ق) إلى «تابع» وفي (ب) إلى «نافع». وقد رسمها ناسخ (ط) دون النقط في الموضعين وكتب فوقها حرف «ظ». وقد وجد في أصلها حاشية: «لعله واقع هنا وفي الذي قبله» فظنَّها لحقًا وأقحمه في المتن. (6) (ن): «نضع». (7) ما عدا (ب، ج): «موقع الواقع». والمثبت موافق لما في البسيط.

(2/481)


قال: فيكون تأويل قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} [الأعراف: 172]: وإذ يأخذ ربك. وكذلك قولُه: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الأعراف: 172]، أي: ويُشهِدهم بما ركَّبه (1) فيهم من العقل الذي يكون به (2) الفهم، ويجب به الثواب والعقاب. وكلُّ من وُلد وبلغ الحِنْثَ، وعَقَل الضَّر والنفع، وفهم الوعد والوعيد، والثواب والعقاب= صار (3) كأن الله تعالى أخذ عليه الميثاق في التوحيد بما ركَّب فيه من العقل، وأراه من الآيات والدليل على حدوثه، وأنه لا يجوز أن يكون قد خَلَق نفسه. وإذا لم يجز ذلك، فلابدَّ له من خالقٍ هو غيرُه، ليس كمثله. وليس من مخلوق يبلُغ (4) هذا المبلغ، ولم يقدَح فيه مانع من فهم، إلا إذا حَزَبه أمرٌ يفزع إلى الله عزَّ وجلَّ، حتى (5) يرفع رأسه إلى السماء، ويشير إليها بإصبَعه، علمًا منه بأنَّ خالقه تعالى فوقه. وإذا كان العقل الذي منه الفهم والإفهام مؤدِّيًا (6) إلى معرفة ما ذكرنا ودالًّا عليه، فكلُّ من بلغ هذا المبلغ فقد أخَذ عليه العهد والميثاق، إذ جعل فيه السببَ والآلة اللذَين بهما يؤخذ العهد والميثاق (7). وجائز أن يقال له: قد أقرَّ، وأذعَنَ، وأسلَمَ؛ كما قال الله _________ (1) (ب، ط، ن، ج): «ركب». (2) (ط): «منه». (3) (ط، ن): «صائر». (4) (ب، ن، ج): «بلغ». (5) (أ، ق، غ، ط): «حين». (6) (ن): «مؤدِّيه». (7) إلى هنا نقله الواحدي في البسيط (9/ 457).

(2/482)


عزَّ وجلَّ: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد: 15]. قال: واحتجُّوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «رُفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتَلِم، وعن المجنون حتى يُفيقَ، وعن النائم حتى ينتبه» (1) وقوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} ثم قال: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} [الأحزاب: 72]. الأمانةُ (2) هاهنا: عهد وميثاق. فامتناعُ السموات والأرض والجبال من حملِ الأمانة خلوُّها (3) من العقل الذي يكون به الفهم والإفهام، وحَمْلُ الإنسان إياها لمكان العقل (4) فيه (5). قال: وللعرب في مثل هذا المعنى ضروبُ نظمٍ (6). [107 ب] فمنها قوله: _________ (1) أخرجه أبو داود (4398)،والنسائي (3432)، وابن ماجه (2041)، والإمام أحمد (24694)، وابن حبان (142)، وابن الجارود (148)، والحاكم (2/ 59) من حديث عائشة رضي الله عنها. وفي ألفاظهم بعض الاختلاف والمعنى واحد. قال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم». وقال ابن تيمية: «وهو حديث حسن مشهور» شرح العمدة في بيان مناسك الحج والعمرة (1/ 118). وفي الباب عن علي رضي الله عنه. انظر: إرواء الغليل (297). (قالمي). (2) (ط): «والأمانة». (3) كذا في جميع النسخ، وهو الصواب. وفي النسخ المطبوعة: «لأجل خلوِّها» تصرُّف من الناشرين أو بعض النسّاخ. (4) في الأصل: «مكان العقل». وكذا في نسخة من البسيط. (5) هذه الفقرة أيضًا منقولة في البسيط (9/ 458) دون الاستدلال بالحديث. (6) (ن): «من النظم».

(2/483)


ضَمِنَ القَنانُ لِفَقْعَسٍ سَوءاتِها ... إنَّ القَنانَ لِفَقْعَسٍ لا يأتلي (1) والقَنان: جبل، فذكر أنه قد ضمن لفقعس، وضمانُه لهم أنهم كانوا إذا حَزَبهم أمرٌ من هزيمة أو خوف لجؤوا إليه، فجعل ذلك كالضمان منه لهم. ومنه قول النابغة: كأجارف الجولان مِن هُلْكِ ربِّه ... وحَورانُ منها خاشعٌ متضائلُ (2) _________ (1) «لا يأتلي» كذا في جميع النسخ. والرواية: «لَمُعَمَّرُ». ويروى: «بفقعس». والبيت لنَهشَل بن حَرِّي الدارمي التميمي ــ شاعر مخضرم ــ من قصيدة رائية ناقض بها قصيدة لأبي المهوَّش الفقعسي الأسدي. انظر ثلاثة أبيات من قصيدة نهشل ــ وهذا ثانيها ــ في أنساب الأشراف (11/ 159). وهذا البيت وحده في سمط اللآلي (858) ومعجم ما استعجم (1150) وشرح نهج البلاغة (5/ 25) وغيره. وقصيدة أبي المهوش في الخزانة (6/ 373 ــ 374). والقَنان: جبل مشهور في بلاد بني أسد، باق بهذا الاسم إلى اليوم. وهو واقع بين الجواء وسميراء. قاله ابن بليهد في صحيح الأخبار (1/ 30). وقد تصحفت «سوءاتها» في (أ، ق) إلى «ثبواتها»، وفي (ن، غ): «لشواتها». وفي (ط): «نشؤوابها»، وهذا إصلاح. وفي بعض النسخ المطبوعة: «بثباتها» وهو إصلاح أيضًا. ورسمها في (ب، ج) أقرب إلى الصواب. قال ياقوت: «لمعمرُ، أي ملجأ». كذا قال، ولم أجد هذا المعنى لكلمة «معمر» في كتب اللغة. وأخشى أن يكون معنى الملجأ مأخوذًا من تفسير البيت بنحو ما نقله ابن القيم من كتاب الجرجاني، لا تفسيرًا لكلمة «معمر». (2) «كأجارف» كذا ورد البيت في النسخ الخطية والمطبوعة، وهو تحريف بلا ريب. والصواب كما في الديوان وغيره: «بكى حارثُ الجولان». ولعل ناسخًا كتب «بكاحارث» بإهمال الثاء وخفيت سنّ الباء، فتحرفت الكلمة إلى ما ترى وقد هممتُ بإثبات الصواب في المتن لولا ما تبعه من التفسير: «وأجارف الجولان: جبالها». فهذا ينبئ بأن التحريف وقع في الأصل. والبيت من قصيدة يرثي بها النابغة النعمانَ بن الحارث الغسَّاني، ويصوِّر عظم المصاب، وهو المراد بـ «ربِّه». ورواية الأصمعي: «فقد ربِّه». وما هنا رواية ابن السكيت. انظر ديوان النابغة (121، 254) والأغاني (8/ 214) والصاحبي (268). و «منها» كذا في (أ، ق، غ، ط). وفي (ب، ج، ن): «فيها». والرواية: منه.

(2/484)


وأجارفُ الجَولان: جبالها (1)، وحَوران: الأرض التي إلى جانبها. وقال هذا القائل: إنَّ في قوله تعالى: {أَنْ يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} (2) [الأعراف: 172، 173] دليلًا على هذا التأويل؛ لأنه عزَّ وجلَّ أعلَمَ أنَّ هذا الأخذ للعهد عليهم لئلا يقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين. والغفلة هاهنا لا تخلو من أحد وجهين: إمَّا أن تكون عن يوم القيامة، أو عن أخذِ الميثاق. فأمَّا يومُ القيامة: فلم يذكر سبحانه في الكتاب أنه أخذ عليهم عهدًا وميثاقًا بمعرفة البعث والحساب، وإنما ذكَر معرفتَه فقط. وأما أخذُ الميثاق، فالأطفال والأسقاط إن كان هذا العهدُ مأخوذًا عليهم ــ كما قال المخالف ــ فهم (3) لم يبلغوا بعدَ أخذِ هذا الميثاق عليهم مبلَغًا يكون منهم _________ (1) كذا وردت الكلمة وتفسيرها. ولم أجد «أجارف» في كتب اللغة بمعنى الجبال أو غيره. وهي مخلّة بوزن البيت أيضًا. والصواب: «حارث الجولان» كما سبق. قال الجوهري: الحارث: قُلَّة من قُلل الجولان، وهو جبل بالشام. الصحاح (حرث 1/ 279). (2) كذا ورد قوله تعالى في (ط، ب، ج) على قراءة أبي عمرو: «يقولوا» بالياء في الآيتين. وقد سبق مثل ذلك. وفي (ن): «تقولوا» على القراءة المشهورة. (3) (ط): «فيهم». وفي (ب، ج، ن): «لهم».

(2/485)


غَفْلةٌ عنه، فيجحدونه، ويُنكرونه؛ فمتى تكون هذه الغفلة منهم؟ وهو عزَّ وجلَّ لا يؤاخذهم بما لم يكن منهم، وذكرُ ما لا يجوز ولا يكون مُحال (1). وقوله: {أَوْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف: 173]، فلا يخلو هذا الشرك الذي يؤاخَذون به أن يكون منهم أنفسِهم، أو من آبائهم. فإن كان منهم، فلا يجوز (2) أن يكون ذلك إلا بعد البلوغ وثُبوتِ الحجة عليهم؛ إذ الطفل لا يكون منه شرك ولا غيره. وإن كان من غيرهم، فالأمَّةُ (3) مُجمِعة على أنْ {لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] كما قال عزَّ وجلَّ في الكتاب. وليس هذا (4) بمخالف لما رُوي عن النبي [108 أ] - صلى الله عليه وسلم -: «أن الله مسح ظهرَ آدم، وأخرج منه ذرِّيتَه، فأخذ عليهم العهد» (5)؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - اقتَصَّ قول الله عز وجل، فجاء مثلَ نظمِه (6)، فوضع الماضي من اللفظ موضعَ المستقبل. قال: وهذا شبيهُ القصَّة بقصَّة قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81]. فجعل سبحانه ما أَنزلَ على الأنبياء من الكتاب _________ (1) (ن): «محالًا» ظنَّه خبر كان. (2) في الأصل: «يخلو»، سهو من الناسخ. (3) (ق، ب، ط): «فالآية»، تحريف. (4) «هذا» ساقط من الأصل. (5) تقدم تخريجه من حديث عمر رضي الله عنه (ص 455). (6) هذه الجملة محرَّفة في (ب، ج، ن).

(2/486)


والحكم ميثاقًا أَخذَه من أممهم بعدَهم. يدلُّ على ذلك قوله: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ}، ثم قال للأمم (1): {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81]. فجعل سبحانه بلوغ الأممِ كتابَه المنزّلَ على أنبيائهم حجةً عليهم كأخذ الميثاق عليهم، وجَعَل معرفتَهم به إقرارًا منهم. قلت: وشبيهٌ به أيضًا قوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [المائدة: 7]. فهذا ميثاقُه الذي أخذه عليهم بعد إرسال رسله (2) إليهم بالإيمان به وتصديقِه. ونظيرُه قوله تعالى: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [الرعد: 20]. وقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 60، 61]. فهذا (3) عهدُه إليهم على ألسنة رسله. ومثله: قوله لبني إسرائيل: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40]. ومثله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَه} (4) [آل عمران: 187]، وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ _________ (1) (ط): «للأمة». (2) (ب، ط، ن، ج): «رسوله». (3) في الأصل: «فهذه». (4) كذا وردت الآية في جميع النسخ على قراءة أبي عمرو، وهي قراءة ابن كثير وشعبة عن عاصم أيضًا. وقرأ الباقون: {لتبيننه للناس ولا تكتمونه} بالتاء في الفعلين. الإقناع (625).

(2/487)


وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7]. فهذا ميثاقٌ أخَذه (1) منهم بعدَ بعثهم كما أخذ من أممهم بعدَ إنذارهم. [108 ب] وهذا الميثاق الذي لعَن سبحانه مَن نقَضه، وعاقبه بقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13]، فإنما عاقبهم بنقضهم الميثاقَ الذي أخذه عليهم على ألسنة رسله. وقد صرَّح به في قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63]. ولما كانت هذه الآية ونظيرتها (2) في سورة مدنية خاطب بالتذكير بهذا الميثاقِ فيها أهلَ الكتاب، فإنه ميثاقٌ أخَذه عليهم بالإيمان به وبرسله. ولما كانت هذه (3) آيةُ الأعراف في سورة مكية ذكَر فيها الميثاق والإشهاد العامَّ لجميع المكلَّفين (4) بالإقرار بربوبيته ووحدانيته وبطلان الشرك، وهو ميثاقٌ وإشهاد يقومُ به عليهم الحجة (5)، وينقطع به العذر (6)، وتحلُّ به العقوبة، _________ (1) (ب، ج، ن): «أُخِذ». (2) (ط، ن): «نظيرها». (3) «هذه» ساقط من (ب، ج). (4) في (أ، ق) بعده: «ممَّن» كذا مضبوطًا في الأصل. ولعله سهو، ولكن في (غ): «ممَّن أقرَّت»! (5) (ط): «عليهم به الحجة». (ن): «به الحجة عليهم». (6) ما عدا (أ، ق، غ): «المعذرة».

(2/488)


ويُستَحقُّ بمخالفته الإهلاك. فلابدَّ أن يكونوا ذاكرين له، عارفين به؛ وذلك ما فطرَهم عليه من الإقرار بربوبيته، وأنَّه ربُّهم وفاطرُهم، وأنَّهم مخلوقون مربوبون. ثم أرسل إليهم رسُلَه يذكِّرونهم بما في فِطَرهم وعقولهم، ويعرِّفونهم حقَّه عليهم وأمرَه ونهيَه ووعدَه ووعيدَه (1). ونظمُ الآية إنما يدلُّ على هذا من وجوه متعددة (2): أحدها: أنه قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} ولم يقل: آدم (3)، وبنو آدم غيرُ آدم. الثاني: أنه قال: {مِنْ ظُهُورِهِمْ}، ولم يقل: من ظهره، وهذا بَدَلُ بعضٍ من كلٍّ، أو بدلُ اشتمالٍ (4)، وهو أحسن (5). الثالث: أنه قال: {ذُرِّيَّاتِهم}، ولم يقل: ذرِّيته. الرابع: أنه قال: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أي: جعلهم شاهدِين على _________ (1) «ووعده ووعيده» ساقط من (ب). (2) هذه الوجوه العشرة كلها نقلها شارح الطحاوية (219 ــ 220) دون الإشارة إلى مصدرها حسب طريقته. وانظر جملة منها بالنص أو غيره في مفاتيح الغيب (15/ 50 - 53). (3) ما عدا (أ، ق، غ): «من آدم». (4) اقتصر على الثاني العكبري في التبيان (1/ 602). وعلى الأول مكي في مشكل إعراب القرآن (1/ 306) والزمخشري في الكشاف (2/ 176). قال السمين في الدر المصون (5/ 511): «وهو الظاهر، كقولك: ضربت زيدًا ظهره، وقطعته يده. لا يعرب أحد هذه بدل اشتمال». (5) (ب): «وهذا أحسن».

(2/489)


أنفسهم؛ فلابدَّ أن يكون الشاهدُ ذاكرًا لما شهِد به، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار، لا يذكر شهادةً (1) قبلها. الخامس: أنه سبحانه أخبر أنَّ حكمةَ هذا الإشهاد إقامةُ الحجَّةِ عليهم، لئلا يقولوا يوم القيامة [109 أ]: إنا كنا عن هذا غافلين. والحجة إنما (2) قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فُطِروا عليها، كما قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]. السادس: تذكيرُهم بذلك لئلا يقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]. ومعلوم أنهم غافلون (3) بالإخراج (4) لهم من صلب آدم كلِّهم، وإشهادِهم جميعًا ذلك الوقت، فهذا لا يذكره أحد منهم (5). السابع: قوله: {أَوْ يَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} (6) [الأعراف: 173]. فذكر حكمتين في هذا التعريف والإشهاد: _________ (1) (ب، ج): «شهادته». (2) (ن): «وإنما الحجة». و «الحجة» ساقطة عن (ب، ج). (3) في الأصل: «غافلين»، ولعله سهو. ولكن في (غ): «كانوا غافلين»، فزاد: كانوا. (4) كذا في جميع النسخ ما عدا (ن) التي فيها: «فالإخراجُ» مضبوطًا. و «غفل» لا يتعدى بالباء، فقوله: «بالإخراج» قد يكون سهوًا، والصواب: «عن الإخراج»، كما في شرح الطحاوية (219)، وقد نقل فيه الوجه السادس برمَّته نقلًا حرفيًّا. ولعل الذي في (ن) سعي لإصلاح النص. (5) (ن): «منهم أحد». (6) سبق التنبيه على أن «يقولوا» بالياء قراءة أبي عمرو، وبها وردت الآية في النسخ.

(2/490)


إحداهما: أن لا يدَّعوا الغفلة، والثانية: أن لا يدَّعوا التقليد؛ فالغافلُ لا شعورَ له، والمقلِّدُ متَّبِعٌ في تقليده لغيره. الثامن: قوله: {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} أي: لو عذَّبهم (1) بجحودهم وشركهم لقالوا ذلك. وهو سبحانه إنما يُهلِكهم لمخالفة رسله وتكذيبهم، فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجَّة عليهم بالرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون، أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بُطلان (2) ما كانوا عليه. وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليُهلِك القرى بظلم، وأهلُها غافلون، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار (3). التاسع: أنه سبحانه أشهدَ كلَّ واحدٍ واحدٍ (4) على نفسه أنه ربُّه وخالقُه، واحتَجَّ عليهم (5) بهذا الإشهاد في غير موضع من كتابه، كقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87]. أي: فكيف يُصرَفون عن التوحيد بعد هذا الإقرار منهم أنَّ الله ربُّهم وخالقُهم. وهذا كثير في القرآن. فهذه هي الحجَّةُ التي أشهدَهم على أنفسهم بمضمونها، وذكَّرتْهم بها رسلُه بقوله (6): {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10]. _________ (1) (ط): «عذبتهم». (ن): «لِوَعْدِهم»، وهو تصحيف. والنص في شرح الطحاوية أيضًا مصحف. (2) في (أ، غ): «معرفته لبطلان»، وفي (ق): «معرفته بطلان». ولعله من سهو الأصل. (3) (ط): «الإنذار والإعذار». (4) كذا في الأصل وفي (ق). وحذفت الثانية في النسخ الأخرى. لعلهم ظنوها مكررة سهوًا. (5) «عليهم» ساقط من (ط). (6) (ب، ج): «بقولهم».

(2/491)


فالله تعالى إنما ذكَّرهم على ألسنة رسله بهذا الإقرار والمعرفة، ولم يذكِّرهم قطُّ (1) [109 ب] بإقرارٍ سابقٍ على إيجادهم، ولا أقام به عليهم حجَّة. العاشر: أنه جعل هذا آيةً، وهي الدِّلالة الواضحة البيِّنة المستلزِمة لمدلولها بحيث لا يتخلَّف عنها المدلول. وهذا شأن آيات الرب تعالى (2) فإنها أدلةٌ معيَّنةٌ (3) على مطلوب معيَّن مستلزِمةٌ للعلم به، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} [الأنعام: 55]. أي: مثلَ هذا التفصيلِ والتَّبيين نفصل الآيات لعلهم يرجعون من الشرك إلى التوحيد، ومن الكفر إلى الإيمان. وهذه الآيات التي فصَّلها هي التي بيَّنها في كتابه من أنواع مخلوقاته. وهي آيات أفقية (4) ونفسية، آياتٌ في نفوسهم وذواتهم (5) وخَلْقهم، وآياتٌ في الأقطار والنواحي مما يُحدِثه الربُّ تبارك وتعالى، مما يدل على وجوده ووحدانيته وصدقِ رسلِه، وعلى المعاد والقيامة. ومن أبْيَنِها (6) ما أشهدَ به كلَّ واحد على نفسه من أنه ربُّه وخالقُه (7) ومبدعُه، وأنه مربوب مصنوع _________ (1) «قط» ساقط من (ط). (2) «لمدلولها ... تعالى» ساقط من الأصل. (3) (ب، ج): «يقينية»، ولعله تصحيف. (4) ضبط في (ط) بفتح أوله وثانيه، ثم كتب في طرّتها كل حرف على حدة مع ضبطه. قال ابن السكيت في إصلاح المنطق (132): «رجل أَفَقي، إذا أضفته إلى الآفاق. وبعضهم يقول: أُفُقي». وقد تحرَّف الكلمة في (ق) إلى «فقهية»، واختارها بعض الناشرين! (5) في (ط): «دوابهم»، تصحيف. (6) (ق): «أثبتها»، تصحيف. وفي (ب، ج): «آياتها»، تحريف. (7) (ط): «خالقه وربه».

(2/492)


مخلوق حادث بعد أن لم يكن، ومُحالٌ أن يكون حدَثَ بلا مُحدِث، أو يكون هو المحدِثَ لنفسه. فلابد له من مُوجِد أوجده (1) ليس هو كمثله. وهذا الإقرار والشهادة (2) فطرةٌ فُطِروا عليها ليست بمكتسَبة. وهذه الآية وهي قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهم} (3) [الأعراف: 172]. مطابقةٌ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كلُّ مولود يولد على الفطرة» (4). ولقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم: 30 - 31]. ومن المفسرين من لم يذكر إلا هذا القول فقط كالزمخشري (5). ومنهم من لم يذكر إلا القول الأول فقط، ومنهم من حَكَى القولين كابن الجوزيِّ (6)، والواحديِّ (7)، والماوردي (8)، وغيرهم. _________ (1) (ط): «يوجده». (2) ما عدا (ب، ج، ن): «المشاهدة». (3) سبق التنبيه غير مرة على أن الآية وردت كذا في النسخ على قراءة أبي عمرو. وبها قرأ نافع وابن عامر أيضًا. (4) أخرجه البخاري (1385) من حديث أبي هريرة. وبلفظ آخر عنه في البخاري (1358) ومسلم (2658). (5) الكشاف (2/ 176). (6) زاد المسير (3/ 283 ــ 286). (7) البسيط (9/ 443 ــ 458). (8) النكت والعيون (2/ 277 ــ 279).

(2/493)


قال الحسن بن يحيى الجرجاني (1): فإن اعترض معترِضٌ في هذا الفصل بحديث يُروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله مسَح [110 أ] ظهرَ آدم، فأخرج منه ذريته، وأخذ عليهم العهد، ثم ردَّهم في ظهره» (2)، وقال: إنَّ هذا مانع من جواز التأويل الذي ذهبتَ إليه، لامتناع ردِّهم في الظَّهر إن كان أخذ الميثاق عليهم بعد البلوغ وتمام العقل. قيل له: إنَّ معنى «ثم ردَّهم في ظهره»: ثم يردُّهم في ظهره (3)، كما قلنا: إن معنى {أَخَذَ رَبُّكَ}: يأخذ ربك. فيكون معناه: ثم يردُّهم في ظهره بوفاتهم، لأنهم إذا ماتوا رُدُّوا إلى الأرض للدفن، وآدمُ خلق منها ورُدَّ فيها، فإذا رُدُّوا فيها فقد رُدُّوا في آدم وفي ظهره (4)؛ إذ كان آدمُ خُلِق منها وفيها رُدَّ، وبعضُ الشيء من الشيء. وفيما ذهبتم إليه من (5) تأويل هذا الحديث على ظاهره تفاوتٌ بينه وبين ما جاء به القرآن في هذا المعنى، إلا أن يُرَدَّ تأويلُه إلى ما ذكرناه؛ لأنه عزَّ وجلَّ قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهمْ} (6) [الأعراف: 172]. ولم يذكر آدمَ في القصة، إنما هو هاهنا مضاف إليه لتعريف ذريته أنهم منه وأولادُه. وفي الحديث: أنه مسح ظهرَ آدم، فلا يمكن ردُّ ما جاء في القرآن وما جاء في الحديث إلى الاتِّفاق إلا بالتأويل _________ (1) صاحب «نظم القرآن»، وقد سبقت ترجمته. (2) سبق في (ص 486). (3) «ثم يردهم في ظهره» ساقط من (أ، ط، غ). (4) (ب، ج): «ظهر آدم». (5) ساقط من (ب، ج). (6) انظر التعليق في الصفحة السابقة.

(2/494)


الذي ذكرناه. قال الجرجاني: وأنا أقول: ونحن إلى ما رُوي في الآية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما ذهب إليه أهلُ العلم من السلف الصالح أمْيَل، وله أقْبَل، وبه آنَس، والله وليُّ التوفيق لما هو أَولى وأهدى (1). على أنَّ بعضَ أصحابنا من أهل السُّنَّة قد ذكَر في الردِّ على هذا القائل معنًى يُحتمَل ويسوغ في النَّظم الجاري ومجازِ العربية بسهولة (2) وإمكان، من غير تعسُّف ولا استكراه. وهو أن يكون قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 172] مبتدأ خبره (3) من الله عزَّ وجلَّ عما كان منه في أخذ العهد عليهم، وإذ يقتضي جوابًا يُجعَل جوابه قوله تعالى: {قَالُوا بَلَى}، وانقطع هذا الخبر بتمام قصته. ثم ابتدأ عزَّ وجلَّ خبرًا آخرَ بذكر ما يقوله المشركون يوم القيامة [110 ب]، فقال (4): {شَهِدْنَا} يعني: نشهد، كما قال الحُطيئة (5): شهدَ الحطيئةُ حينَ يلقَى ربَّه ... أنَّ الوليدَ أحقُّ بالعُذْرِ (6) _________ (1) هذه الفقرة نقلها الواحدي في البسيط (9/ 458). (2) (ن): «يشهد له»، تحريف. (3) كذا في جميع النسخ ما عدا (ج) التي فيها: «مبتدأَ خبرٍ». والضبط منِّي، ولعل هذا أصح. (4) ما عدا (ب، ج، ن): «قالوا». (5) زاد بعده في (ط): «في هذا المعنى». (6) ديوانه (258). والوليد هو ابن عُقبة. وفي (ن): «يوم يلقى». وهي رواية في البيت.

(2/495)


بمعنى: يشهَدُ الحطيئة. يقول تعالى: نشهد أنكم ستقولون يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} أي: عمَّا هم فيه من الحساب والمناقشة والمؤاخذة بالكفر. ثم أضاف إليه خبرًا آخرَ، فقال: {أَوْ تَقُولُوا} (1) بمعنى: وأن تقولوا؛ لأن {أَوْ} بمعنى واو النسق، مثل قوله: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} (2) [الإنسان: 24]. فتأويله: ونشهد أن تقولوا يوم القيامة: {إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف: 173] أي: إنهم أشركوا، وحملونا على مذهبهم في الشرك في صِبانا (3)، فجرينا على مذاهبهم، واقتدينا بهم؛ فلا ذنب لنا إذ كنا مقتدين بهم، والذنبُ في ذلك لهم. كما قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (4) [الزخرف: 23]. يدل على ذلك قولهم: {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} أي: حَملِهم (5) إيانا على الشرك. فتكون القصة الأولى خبرًا عن جميع المخلوقين بأخذ الميثاق _________ (1) اضطربت النسخ في ضبط حرف المضارعة هنا وفيما يأتي، فأكثرها ضبطت بالتاء أو مرة بالياء وأخرى بالتاء. والصواب بالتاء؛ لأن الكلام للجرجاني، وقد فسَّر من قبل بقوله: «نشهد أنكم ستقولون ... » فهذا نصٌّ على أن قراءته ليست بقراءة أبي عمرو. (2) قال مكي في المشكل (788): «وقيل: أو بمعنى الواو، وفيه بعد». وانظر التبيان للعكبري (1261). (3) (ب، ج، ن): «حياتنا». (4) «بهم والذين ... مقتدون» ساقط من (ن). (5) (غ): «بحملهم».

(2/496)


عليهم (1)، والقصة الثانية خبرًا عما يقول المشركون يوم القيامة من الاعتذار (2). وقال فيما ادعاه المخالفُ أنه تفاوتٌ فيما بين الكتاب والخبر لاختلاف ألفاظهما فيهما قولًا يجب قَبولُه بالنظائر والعِبَر التي تأيَّد بها (3) لمخالفته، فقال: إن الخبر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الله مسح ظهر آدم أفاد زيادةَ خبرٍ كان في القصة التي ذكَرَ الله في الكتاب بعضَها، ولم يذكر كلَّها. ولو أخبر - صلى الله عليه وسلم - بسوى هذه الزيادة التي أخبر بها ــ مما عسى أن (4) يكون قد كان في ذلك الوقت الذي أُخِذَ فيه العهدُ، مما لم يضمِّنه الله كتابَه ــ لمَا كان في ذلك (5) خلاف ولا تفاوت، بل كان (6) زيادة في الفائدة. وكذلك الألفاظ إذا اختلفتْ [111 أ] في ذاتها وكان مَرجعُها إلى أمر واحد لم يوجِب ذلك تناقضًا، كما قال عزَّ وجلَّ في كتابه في خَلْق آدم، فذكَر مرةً أنه خُلِق من تراب، ومرةً أنه خُلِق من حمأ مسنون، ومرةً من طين لازب، ومرةً من صَلصال كالفخَّار (7)؛ فهذه الألفاظ مختلفة، ومعانيها أيضًا في _________ (1) «عليهم» ساقط من (ب، ج). (2) «من الاعتذار» ساقط من (ن). (3) رسمها في الأصل يشبه «الذي يؤيدها» كما في (غ). (4) لم ترد «أن» في الأصل. (5) (ب، ج): «في اللفظ». (6) (ط): «كانت». (7) انظر الآيات الكريمة في آل عمران (59) والحجر (28، 33) والصافات (11) والرحمن (14).

(2/497)


الأحوال مختلفة؛ لأن (1) الصَّلصال غيرُ الحمأة، والحمأة غيرُ التراب، إلا أنَّ مرجعَها كلِّها في الأصل (2) إلى جوهر واحد، وهو التراب، ومن التراب تدرَّجت هذه الأحوال. فقوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهمْ} [الأعراف: 172] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله مسح ظهرَ آدم، فاستخرج منه ذريته» معنًى واحدٌ (3) في الأصل، إلا أنَّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مسح ظهرَ آدم» زيادةٌ في الخبر عن الله عزَّ وجلَّ. ومَسْحُه (4) عزَّ وجلَّ ظهرَ آدم واستخراجُ ذريته منه (5) مسحٌ لظهور ذريته واستخراجُ ذرياتهم من ظهورهم، كما ذكر تعالى؛ لأنَّا قد علمنا أنَّ جميع ذرية آدم لم يكونوا من صلبه، لكن لما كان الطبَق الأول من صُلْبه، ثم الثاني من صلب الأول، ثم الثالث من صلب الثاني، جاز أن يُنسَب ذلك كلُّه إلى ظهر آدم، لأنهم فرعُه، وهو أصلُهم. وكما جاز أن يكون ما ذكر الله عزَّ وجلَّ أنه استخرجه من ظهور ذرية آدم من ظهر آدم، جاز أن يكون ما ذكر - صلى الله عليه وسلم - أنه استخرجه من ظهر آدم من ظهور ذريته؛ إذ الأصلُ والفرع شيءٌ واحد. وفيه أيضًا أنه عزَّ وجلَّ لما أضاف الذريةَ إلى آدم في الخبر احتمل أن يكون الخبر عن الذرية، وعن آدم؛ كما قال عزَّ وجلَّ: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]. فالخبر في الظاهر عن الأعناق، والنعتُ للأسماء _________ (1) (أ، ق، غ): «أن». (2) «في الأصل» ساقط من (ن). (3) في الأصل: «واحدًا»، وكذا في (ق، ن)! (4) (ط): «ومسح الله». (5) لم يرد «منه» في الأصل.

(2/498)


المَكنِيَّة فيها، وهو (1) مضاف إليها، كما كان آدم مضافًا إليه هناك، وليسا جميعًا بالمقصودين ــ في الظاهر ــ بالخبر. ولا يُحتَمَل أن يكون قوله: {خَاضِعِينَ} للأعناق، لأنَّ وجه جمعها: خاضعات. ومنه قول الشاعر (2): وتَشْرَقَ بالقول الذي قد أذعتَه ... كما شرِقتْ صدرُ القَناةِ من الدم فالصدر مذكر، وقوله: «شرقت» أُنِّث لإضافة الصدر إلى القناة. فصل فهذا بعضُ كلام السلف والخلف في هذه الآية. وعلى كلِّ تقدير، فلا تدلُّ على خلق الأرواح قبل الأجساد خلقًا مستقرًّا، وإنما غايتُها أن تدلَّ على إخراج صورهم وأمثالهم في صور الذرِّ، واستنطاقهم، ثم ردِّهم إلى أصلهم، إن صحَّ الخبر بذلك. والذي صحَّ إنما هو إثباتُ القدر السابق، وتقسيمُهم إلى شقي وسعيد. وأما استدلالُ أبي محمد بن حزم بقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف: 11]، فما أليَقَ هذا الاستدلالَ بظاهريَّته، لترتيب الأمر بالسجود لآدم على خَلْقنا وتصويرنا؛ والخطابُ للجملة المركّبة من البدن والروح، وذلك متأخِّر عن خلق آدم. _________ (1) كذا في جميع النسخ. ولعل الصواب: «هي»، لأن المقصود: الأسماء المكنية. (2) هو الأعشى. انظر ديوانه (1/ 318) وصلة البيت قبله: لئن كنتَ في جُبٍّ ثمانين قامةً ... ورُقِّيتَ أسبابَ السماء بسُلَّمِ ليَستدرِجَنْكَ القولُ حتى تهِرَّه ... وتعلمَ أنِّي عنك لستُ بمُلْجَم والمخاطَب: عمير بن عبد الله بن المنذر بن عبدان، هجاه الأعشى في هذه القصيدة.

(2/499)


ولهذا قال ابن عباس (1): {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} آدم {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} لذريته (2). وبيان (3) هذا ما قاله مجاهد {خَلَقْنَاكُمْ} يعني آدم، و {صَوَّرْنَاكُمْ} في ظهر آدم (4). وإنما قال: {خلقناكم} بلفظ الجمع، وهو يريد آدم؛ كما تقول: ضربناكم، وإنما ضربتَ سيدَهم (5). واختار أبو عُبيد في هذه الآية قول مجاهد؛ لقوله بعدُ: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا} وكان قوله تعالى للملائكة: {اسْجُدُوا} قبل خلق ذرية آدم وتصويرِهم في الأرحام، و (ثم) توجب التراخي والترتيب. فمَن جَعَل الخلق والتصوير في هذه الآية (6) لأولاد آدم في الأرحام يكون قد راعى حكمَ (ثم) في الترتيب (7)، إلا أن يأخذ بقول الأخفش، فإنه يقول: (ثم) هاهنا في معنى _________ (1) من هنا إلى آخر قول أبي عبيد منقول من البسيط للواحدي (9/ 38 ــ 39). (2) أخرجه الطبري في التفسير (12/ 318). (3) (ق): «مثال». ويشجعه رسمه في الأصل أيضًا. وكذا في النسخ المطبوعة. والصواب ما أثبتنا من غيرهما، وهو مطابق لما في البسيط. (4) أخرجه الطبري في التفسير (12/ 320). (5) هذا التمثيل جزء من كلام يونس الذي جوَّز أن يكون الخلق والتصوير كلاهما لآدم. ولعل نسخة البسيط التي اعتمد عليها ابن القيم كانت شبيهة بنسخة (ب) التي فيها سقط. انظر: البسيط (9/ 38) وتفسير الثعلبي (4/ 218). (6) كلمة «الآية» ساقطة من (ط). (7) كذا في جميع النسخ الخطية والمطبوعة. والصواب عكسه، كما في البسيط: «لم يكن قد راعى ... ». وقال الواحدي في الوسيط (2/ 352): «ولا يجوز أن يكون المراد بقوله: {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} تصوير ذريته في الأرحام؛ لقوله: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ}، لأن هذا كان قبل تصوير ذرية آدم في الأرحام.

(2/500)


الواو (1). قال الزجَّاج: وهذا خطأ لا يجيزه [112 أ] الخليل وسيبويه (2) وجميع من يوثق بعلمه (3). قال أبو عبيد: وقد بيَّنه مجاهدٌ حين قال: إن الله خلق آدم (4)، وصوَّرهم في ظهره، ثم أمر بعد ذلك بالسجود. قال: وهذا بيِّنٌ في الحديث وهو: «أنه أخرجهم من ظهر آدم في صُوَر الذرِّ» (5). قلت: والقرآن يفسِّر بعضُه بعضًا. ونظيرُ هذه الآية قوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [الحج: 5]. فأوقع الخلقَ من ترابٍ عليهم، وهو لأبيهم آدم، إذ هو أصلهم. والله سبحانه يخاطب الموجودين، والمرادُ آباؤهم، كقوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 55]. وقوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} الآية [البقرة: 61]. وقوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة: 72]. وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} [البقرة: 63]. وهو (6) كثير في القرآن: _________ (1) معاني القرآن للأخفش (294)، ولكنه مثل يونس جوَّز أيضًا أن يكون الخلق والتصوير لآدم، وذكر مثاله أيضًا. (2) الأصل: «ولا سيبويه». (3) معاني القرآن للزجاج (2/ 321). وانظر: كتاب سيبويه (3/ 89). (4) ما عدا (ن): «ولد آدم»، والمثبت موافق للبسيط، وهو الذي ذهب إليه مجاهد. (5) سبق تخريج الحديث (ص 455). (6) (ب، ج): «هذا».

(2/501)


يخاطبهم، والمراد (1) آباؤهم. فهكذا قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11]. وقد يستطرد (2) سبحانه من ذكر الشَّخص إلى ذكر النوعِ كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 12 ــ 13]. فالمخلوقُ من سلالة من طين: آدمُ. والمجعول (3) نطفةً في قرار مكين: ذريتُه. وأما حديثُ خلقِ الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، فلا يصحُّ إسناده. ففيه عتبة بن السَّكَن، قال الدارقطني: متروك (4). وأرطاة بن المنذر. قال ابن عدي: بعضُ أحاديثه غلطٌ (5). فصل وأمَّا الدليل على أنَّ خلقَ الأرواح متأخرٌ عن خلق أبدانها، فمن وجوه: أحدها: أنَّ خلقَ أبي البشر وأصلِهم كان هكذا. فإنَّ الله سبحانه أرسل جبريل، فقبضَ قبضةً من الأرض، ثم خمَّرها حتى صارت طينًا، ثم صوَّره، ثم نفخ فيه الروح بعد أن صوَّره. فلما دخلت الروح فيه [112 ب] صار لحمًا _________ (1) في (ق، ط) زيادة: «به». (2) (ط): «استطرد». (3) (ب، ق، غ): «المحصول»، تصحيف. (4) انظر: الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (2255) والمغني في الضعفاء للذهبي (3995). (5) انظر: الكامل لابن عدي (1/ 432) والمغني للذهبي (508).

(2/502)


ودمًا، حيًّا ناطقًا. ففي تفسير (1) أبي مالك وأبي صالح، عن ابن عباس؛ وعن مُرَّة، عن ابن مسعود؛ وعن ناسٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لما فرَغ الله من خلق ما أحبَّ استوى على العرش، فجعل إبليسَ (2) على مُلك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم: «الجن»، وإنما سُمُّوا «الجنَّ»؛ لأنهم خُزَّانُ الجنَّة. وكان إبليسُ مع ملكه خازنًا، فوقع في صدره، وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزيد لي (3) ــ وفي لفظ: لمزيةٍ لي ــ على الملائكة. فلما وقع ذلك الكبرُ في نفسه اطَّلع الله على ذلك منه، فقال الله للملائكة (4): {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]. قالوا: ربَّنا، وما يكون حال الخليفة؟ قال: تكون له ذريةٌ يُفسدون في الأرض، ويتحاسدون، ويقتل (5) بعضُهم بعضًا. قالوا: ربنا _________ (1) زاد بعده بعض القراء في (ط) فوق السطر: «السدِّي عن». وكأنه قد سقط من النسخ. فقد سبق (440) أن نقل المصنف أثرًا من تفسير السدِّي بهذا السند، من كتاب محمد بن نصر المروزي. وقد أورد ابن كثير في تفسيره (1/ 73 ــ 74) الأثر الآتي، وعقب عليه بقوله: «فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السدِّي. ويقع فيه إسرائيليات كثيرة، فلعل بعضها مدرج ليس من كلام الصحابة، أو أنهم أخذوه من بعض الكتب المتقدمة، والله أعلم. والحاكم يروي في مستدركه بهذا الإسناد بعينه أشياء، ويقول: على شرط البخاري!». (2) زاد في (ب، ن): «لعنه الله». (3) كذا في (أ، ق، ط، غ). وكذا في تفسير الطبري (شاكر 1/ 458) والدر المنثور (1/ 245). وفي (ن): «لمزيَّتي»، ولعله إصلاح من ناسخها. (4) «فلما وقع ... للملائكة» ساقط من الأصل. (5) في الأصل: «يقتلون» دون واو العطف.

(2/503)


{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] يعني: من شأن إبليس. فبعث جبريلَ إلى الأرض ليأتيه بطينٍ منها، فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تقبض (1) مني، فرجَعَ، ولم يأخذ، وقال: ربِّ إنها عاذت بك، فأعذتُها. فبعث ميكائيل، فعاذت منه، فأعاذها. فبعث ملَكَ الموت، فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع، ولم أنفِّذ أمره. فأخذ من وجه الأرض، وخَلَط. فلم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين. فصعِد به، فبلَّ الترابَ (2) حتى عاد طينًا لازبًا. واللازب: هو الذي يلزَقُ (3) بعضُه ببعض. ثم قال للملائكة: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 71 - 72]. فخلقه الله بيده لكيلا يتكبَّر إبليسُ عنه، ليقول له: تتكبَّرُ عما عملتُ بيدي، ولم أتكبَّر أنا عنه. فخلَقه بشرًا، فكان جسدًا من طين أربعين سنة، فمرَّت به الملائكة، ففزعوا منه لما رأوه. وكان أشدَّهم منه فزَعًا إبليسُ، فكان يمرُّ به، فيضربه، فيصوِّتُ [113 أ] الجسدُ كما يصوِّت الفَخَّارُ، تكون له صلصلة، فذلك حين يقول: {مِنْ صَلْصَالٍ _________ (1) (ب، ج): «تنقص». وكذا في تفسير الطبري (1/ 459) وتاريخه (1/ 90). (2) ما عدا (ب، ج): «قِبَلَ الربّ» كذا مضبوطًا في (ط، ق، ن، غ). وفي النسخ المطبوعة زيد: «عزَّ وجلَّ»! والمثبت موافق لما في تفسير الطبري وتاريخه، وهو مقتضى السياق. (3) (ب، ج): «يلتزق»، وكذا عند الطبري.

(2/504)


كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14]، ويقول: لأمرٍ ما خُلِقتَ! ودخل مِن فيه، فخرج من دُبره، فقال للملائكة: لا تَرهَبوا من هذا فإن ربَّكم صَمَدٌ، وهذا أجوف. لئن سُلِّطتُ عليه لأهلكنَّه. فلما بلغ الحينَ الذين يريد الله جل ثناؤه أن ينفخ فيه الروحَ قال للملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له. فلما نفخ فيه الروحَ فدخل الروحُ في رأسه عَطَس، فقالت الملائكة: قل: الحمد لله، فقال: الحمد لله، فقال له الله: يرحمك ربُّك. فلما دخل الروحُ في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام (1) قبل أن يبلغ الروح رجليه، فنهض عَجلانَ (2) إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37]. وذكر باقي الحديث (3). وقال يونس بن عبد الأعلى: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا ابن زيد، قال: لمَّا خلق الله النار ذُعِرتْ منها الملائكة ذُعرًا شديدًا، وقالوا: ربَّنا لمَ خلقتَ هذه النار؟ ولأي شيء خلقتَها؟ قال: لمن عصاني من خَلْقي. ولم يكن لله خَلْقٌ يومئذ (4) إلا الملائكة، والأرضُ ليس فيها خَلْقٌ، إنما خُلِق آدمُ بعد ذلك. وقرأ (5) قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا _________ (1) بعده في تفسير الطبري: «فوثب». وكذا نقله المصنف في المسألة القادمة، فلعل هنا سقطًا. (2) (ط): «عجلًا». (3) أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 458 ــ 460) وتاريخه (1/ 90، 93، 94). (4) (ن): «يومئذ خلق». (5) رسمها في (أ، ق): «قراه». والمثبت من غيرهما.

(2/505)


مَذْكُورًا} [الإنسان: 1]. قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، ليت (1) ذلك الحين (2)! ثم قال: وقالت الملائكة: ويأتي علينا دهرٌ نعصيك فيه؟ ــ لا يرون له خلقًا غيرهم ــ قال: لا، إني أريد أن أخلق في الأرض خلقًا، وأجعلَ فيها خليفةً. وذكر الحديث (3). قال ابن إسحاق: فيقال ــ والله أعلم ــ: خلَقَ اللهُ آدمَ، ثم وضعه ينظرُ إليه أربعين عامًا قبل أن ينفُخَ فيه الروحَ، حتى عاد صلصالاً كالفخَّار، ولم تمسَسْه نار. فيقال ــ والله أعلم ــ: لما انتهى الروح إلى رأسه عطَسَ، فقال: الحمد لله. وذكر الحديث (4). فالقرآن والحديث [113 ب] والآثار تدلُّ على أنَّ الله سبحانه نفخ فيه من روحه بعد خَلْقِ جسده، فمِن تلك النفخةِ حدثت فيه الروح. ولو كانت روحه مخلوقةً قبل بدنه مع جملة أرواح ذريته لَمَا عَجِبت الملائكة من خلقه، ولَمَا تعجَّبت من خلق النار، وقالت: لأي شيء خلَقْتَها؟ وهي ترى أرواحَ بني آدم فيهم المؤمن والكافر، والطيب والخبيث، ولَمَا كانت (5) أرواح الكفار كلُّها تبعًا لإبليس، بل كانت الأرواح الكافرةُ مخلوقةً قبل كفره؛ فإن _________ (1) (ط): «كيف»، تحريف أو إصلاح! (2) يعني: ليت ذلك الحين دام إلى الأبد، وبقي الإنسان شيئًا غير مذكور! قالها خوفًا من القيامة. انظر تفسير الطبري (1/ 466) حاشية الأستاذ محمود شاكر. (3) أخرجه ابن جرير في تفسيره (1/ 466). (4) أخرجه ابن جرير في تفسيره (1/ 468). (5) «كانت» ساقط من الأصل. وفي (ط، ن): «وأما أرواح»، كأنّ «لما» غيِّرت إلى «أما» بسبب سقوط «كانت» من الأصول.

(2/506)


الله (1) سبحانه إنما حكَمَ عليه بالكفر بعد خَلقِ بدنِ آدم وروحِه، ولم يكن قبل ذلك كافرًا (2). فكيف تكون الأرواح قبله كافرة ومؤمنة، وهو لم يكن كافرًا إذ ذاك؟ وهل حصل الكفر للأرواح إلا بتزيينه وإغوائه؟ فالأرواح الكافرة إنما حدثت بعد كفره، إلا أن يقال: كانت كلُّها مؤمنةً ثم ارتدَّت بسببه. والذي احتجُّوا به على تقدُّم (3) خلق الأرواح يخالف ذلك. وفي حديث أبي هريرة في تخليق العالم: الإخبار عن خَلْقِ أجناس العالم، وتأخُّر خلق آدم إلى يوم الجمعة، ولو كانت الأرواح مخلوقةً قبل الأجساد لكانت من جملة العالم المخلوق في ستة أيام. فلمَّا لم يخبر عن خلقها في هذه الأيام عُلِم أنَّ خلقها تابعٌ لخلق الذرية، وأنَّ خلق آدم وحده هو الذي وقع في تلك الأيام الستة. وأما خلق ذريته، فعلى الوجه المشاهَد المعايَن. ولو كان للروح وجودٌ قبل البدن، وهي حية عالمة ناطقة، لكانت ذاكرةً لذلك في هذا العالم شاعرةً به، ولو بوجه ما. ومن الممتنِع أن تكونَ حيةً عالمةً ناطقةً عارفةً بربِّها، وهي بين ملأ من الأرواح، ثم تنتقلَ إلى هذا البدن ولا تشعرَ بحالها قبل ذلك بوجه ما. وإذا كانت بعد المفارقة تشعر بحالها وهي في البدن على التفصيل، وتعلم ما كانت (4) عليه هاهنا ــ مع أنها اكتسبت بالبدن أمورًا عاقتها عن كثير من كمالها (5) ــ فلَأن تشعرَ بحالها _________ (1) (ن): «فالله». (2) (أ، ق): «كافر». (3) (أ، ق): «تقديم». (4) «بعد ... كانت» ساقط من الأصل لانتقال النظر. (5) (ب، ج): «حالها».

(2/507)


[114 أ] الأول، وهي غير مَعُوقة هناك (1)، بطريق الأولى. إلا أن يقال: تعلُّقُها بالبدن واشتغالُها بتدبيره مَنَعها من شعورها بحالها الأول، فنقول: هَبْ أنه منعها من شعورها به على التفصيل والكمال، فهل يمنعُها عن أدنى شعورٍ بوجهٍ ما مما (2) كانت عليه قبل تعلُّقها بالبدن؟ ومعلوم أنَّ تعلقَها بالبدن لم يمنعها عن الشعور بأول أحوالها وهي في البدن، فكيف يمنعها من الشعور بما كان قبل ذلك! وأيضًا فإنها لو كانت موجودةً قبل البدن لكانت عالمة حية (3) ناطقة عاقلة، فلمَّا تعلَّقتْ بالبدن سُلِبتْ ذلك كلَّه، ثم حدث لها الشعور والعلم والعقل شيئًا فشيئًا. وهذا لو كان لكان من أعجَب الأمور أن تكون الروحُ كاملةً عاقلةً ثم تعود ناقصةً ضعيفةً جاهلةً، ثم تعود بعد ذلك إلى عقلها وقوتها. فأين في العقل والنقل والفطرة ما يدلُّ على هذا؟ وقد قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]. فهذه الحال التي أُخْرِجنا عليها هي حالنا الأصلية، والعلم والعقل والمعرفة والقوة طارئ (4) علينا حادث فينا بعد أن لم يكنْ. ولم نكن نعلمُ قبل ذلك شيئًا البتَّة، إذ لم يكن لنا وجودٌ نعلم ونعقل به. _________ (1) في الأصل بعده: «ولا»، وكذا في (ق). وفي (ن، غ): «أولا» وضبط في (ن) بتنوين اللام. (2) (ب، ج): «بما». (3) (ب، ج): «حية عالمة». (4) رسمها في الأصل وغيره: «طارٍ».

(2/508)


وأيضًا فلو كانت مخلوقةً قبل الأجساد، وهي على ما هي (1) عليه الآن من طيبٍ وخبث، وكفر وإيمان، وخير وشر لكان ذلك ثابتًا لها قبل الأعمال. وهي إنما اكتسبت هذه الصفات والهيئات من أعمالها التي سَعَتْ في طلبها واستعانت عليها بالبدن، فلم تكن تَتَّصِف (2) بتلك الهيئات والصفات قبل قيامها بالأبدان التي بها عَمِلت تلك الأعمالَ. وإن كان قُدِّر لها قبل إيجادها ذلك، ثم [114 ب] خرجت إلى هذه الدار على ما قدر لها، فنحن لا ننكر الكتاب والقَدَر السابقَ لها من الله. ولو دلَّ دليلٌ على أنها خُلِقت جملةً، ثم أودعت في مكان حيةً عالمةً ناطقةً، ثم كلَّ وقت (3) تبرزُ إلى أبدانها شيئًا فشيئًا، لكُنَّا أولَ قائل به؛ فالله سبحانه على كل شيء قدير، ولكن لا نخبرُ عنه خلقًا وأمرًا إلا بما أخبر به عن نفسه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ومعلوم أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يخبر عنه بذلك، وإنما أخبر بما في الحديث الصحيح: «إنَّ خلقَ ابن آدم يُجمَع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقةً مثلَ ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يُرسَل إليه الملكُ، فينفخُ فيه الروح» (4). فالملَكُ وحده يُرسَل إليه، فينفُخ فيه، فإذا نفَخَ فيه كان ذلك سببَ حدوث الروح فيه. ولم يقل: يرسَل الملكُ إليه (5) بالروح، فيُدْخِلُها في _________ (1) لم ترد في الأصل. (2) (ق، ن): «لتتصف». (3) (ق): «في كل وقت». (4) أخرجه البخاري (3208) ومسلم (2643) من حديث ابن مسعود. (5) (ب، ج، ن): «إليه الملك».

(2/509)


بدنه. وإنما أُرسل إليه الملكُ وحده، فأحدثَ فيه الروح بنفخته فيه، لا أنَّ الله سبحانه أرسل إليه الروح التي كانت موجودة قبل ذلك بالزمن الطويل مع الملَك. ففرقٌ بين أن يُرسَل إليه ملكٌ ينفخ فيه الروحَ، وبين أن يُرسَل إليه روحٌ مخلوقةٌ قائمة بنفسها مع الملَك. وتأمَّلْ ما دلَّ عليه النصُّ من هذين المعنيين. وبالله التوفيق.

(2/510)


فصل

 وأما المسألة التاسعة عشرة (1) وهي: ما حقيقة النفس؟ هل هي جزء من أجزاء البدن، أو عرض من أعراضه، أو جسمٌ مساكِن له مودَع فيه، أو جوهر مجرد؟ وهل هي الروح أو غيرها؟ وهل الأمَّارةُ واللوَّامة والمطمئِنَّة نفسٌ واحدة لها هذه الصفات، أم هي ثلاثة أنفس (2)؟

فالجواب: أنَّ هذه مسائل قد تكلَّم الناس فيها (3) من سائر الطوائف، واضطربت فيها أقوالهم، وكثر فيها خطؤهم. وهدى الله أتباعَ الرسول [115 أ] وأهلَ سنته لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. فنذكر أقوال الناس وما لهم وعليهم (4) في تلك الأقوال، ونذكر الصوابَ بحمد الله وعونه. _________ (1) ما عدا (أ، ط): «عشر» بالتذكير. وفي (ن): «المسألة العشرون» ولم يرد فيها: «فصل وأما». (2) كذا في جميع النسخ بتأنيث العدد. وكذا جمع المؤلف ثلاث مسائل في عنوان هذه المسألة. وكأنه أراد أن يتكلم عليها جميعًا في هذا الفصل، ولكنه لما استطال الكلام على حقيقة النفس أفرد كلًّا من المسألتين الأخريين بفصل مستقل، ورقَّمهما بالعشرين والحادية والعشرين كما سيأتي. ثم فاته أن يحذف المسألتين من عنوان هذا الفصل. (3) «فيها» لم يرد في الأصل. وفي (غ): «فيها الناس». (4) (ب، ط، غ): «وما لهم عليه» ولعله إصلاح للنص لسقوط الواو قبل «عليهم» من الأصل.

(2/511)


قال أبو الحسن الأشعريُّ في مقالاته (1): اختلف الناس في الروح والنفس والحياة، وهل الروح هي الحياة أو غيرها، وهل الروح جسم أم لا؟ فقال النظَّام: الروح جسم، وهي النفس (2). وزعم أن الروح حيٌّ بنفسه، وأنكر أن تكون الحياة والقوة معنًى غير الحيِّ والقوي (3). وقال آخرون: الروح عَرَض. وقال قائلون منهم جعفر بن حرب (4): لا ندري: الروح جوهر أو عرض (5)؟ واعتلُّوا في ذلك بقول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]. ولم يخبر عنها ما هي، لا أنها (6) جوهر، ولا أنها عرض. قال: وأظن جعفرًا (7) أثبت الحياةَ غير الروح، وأثبت الحياةَ عرضًا. _________ (1) مقالات الإسلاميين (333 ــ 337). (2) أقحم في (ط) هنا: «وزعم أن الروح لا يجوز عليها الأعراض»، وهي ستأتي. (3) ما عدا الأصل: «الحي القوي»، وكذا في مطبوعة المقالات. (4) معتزلي بغدادي صاحب تصانيف (ت 230) انظر: تاريخ بغداد (7/ 162) وطبقات المعتزلة (73) والفهرست (213). (5) في الأصل: «جوهرًا أو عرض»، وكتب فوق «عرض»: «كذا» يعني كذا ورد «عرض» في أصله غير منصوب مع عطفه على «جوهرا». وناسخ (ق) أثبت النص على الصواب، ولكن أقحم «كذا» في المتن! وفي النسخ المطبوعة: «كذا قال». ولعل هذه الزيادة الأخرى زادها بعض الناشرين. ثم جاء المحققون، فنصُّوا على أن ذلك من كلام ابن القيم! (6) لم ترد «أنها» في الأصل. (7) في الأصل: «ابن جعفر»، خطأ. وفي (ط، ن): «أن جعفرًا».

(2/512)


وكان الجُبَّائي يذهب إلى أنَّ الروح جسم، وأنها غير الحياة، والحياة عرض. ويعتلُّ بقول أهل اللغة: خرجت روحُ الإنسان. وزعم أنَّ الروح لا تجوز عليها الأعراض. وقال قائلون: ليس الروحُ شيئًا أكثرَ من اعتدال الطبائع الأربعة (1)، ولم يرجعوا من قولهم [اعتدال] (2) إلا إلى المعتدل، ولم يثبتوا في الدنيا (3) شيئًا إلا الطبائع الأربعة التي هي: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة. وقال قائلون (4): إن الروح معنًى خامسٌ غيرُ الطبائع الأربعة، وأنه ليس في الدنيا إلا الطبائع الأربعة والروح. واختلفوا في أعمال الروح، فثبَّتها (5) بعضهم طباعًا، وثبَّتها بعضهم اختيارًا. وقال قائلون: الروح: الدم الصافي والخالصُ من الكدر والعفونات. وكذلك قالوا في القوة. وقال [115 ب] قائلون: الحياة هي الحرارة الغريزية. وكلُّ هؤلاء الذي حكَينا قولهم في الروح من أصحاب الطبائع يثبتون أن الحياة هي الروح. _________ (1) كذا بتأنيث العدد في جميع النسخ هنا وفيما بعد، وهو جائز في الوصف، غير أنّ في مقالات الأشعري: «الأربع» في كل هذه المواضع. (2) زيادة من المقالات. (3) «في الدنيا» ساقط من (ط). (4) «قائلون» ساقط من الأصل. (5) (ب، ط): «فيثبتها».

(2/513)


وكان الأصَمُّ (1) لا يثبتُ الحياة والروح شيئًا غيرَ الجسد، ويقول: ليس أعقِلُ إلا الجسدَ الطويل العريض العميق الذي أراه وأشاهده. وكان يقول: النفسُ هي هذا البدن بعينه لا غير، وإنما جرى عليها هذا الذكر (2) على جهة البيان والتأكيد لحقيقة الشيء، لا على أنها معنًى غيرُ البدن. وذكر عن أرِسْطاليس (3): أن النفس معنًى مرتفعٌ (4) عن الوقوع تحت النشوء والكون (5)، وأنها جوهر منبسط (6) مُنبَثٌّ في العالم كلِّه من الحيوان على جهة الإعمال له والتدبير، وأنه لا تجوز عليه صفة قلَّةٍ ولا كثرة. قال: وهي على ما وصفت من انبساطها في هذا العالم غيرُ منقسمةِ الذاتِ والبِنْية، فإنها (7) في كل حيوان العالم بمعنًى واحدٍ لا غير. وقال آخرون: بل النفس معنًى موجودٌ ذاتُ حدود (8) وأركان، وطول _________ (1) أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان. في طبقات المعتزلة (56) أنه كان من أفصح الناس وأفقههم وأورعهم، وله تفسير عجيب. وفي الفهرست (214) أنه توفي سنة 200، وقيل: 201. (2) «الذكر» ساقط من (أ، غ). (3) هذا في الأصل، وفي (ق، ن، غ): «أرسطاطاليس». وهما وجهان معروفان، ولكن في (ب، ط): «أرطاطاليس»! (4) «مرتفع» ساقط من الأصل. (5) «الكون» من (ن)، و «النشوء» من الأصل. وتصحفتا في غيرهما والنسخ المطبوعة إلى «النسق واللون». وفي المقالات: «تحت التدبير والنشوء والبلى، غير داثرة». (6) هذه قراءة الأصل و (غ)، ويؤيدها قوله: «انبساطها». وفي النسخ الأخرى والمقالات: «بسيط». (7) ما عدا الأصل: «وإنها». (8) «حدود» ساقط من الأصل.

(2/514)


وعرض وعمق، وأنها غير مفارقة في هذا العالم لغيرها مما يجري عليه حكم الطول والعرض والعمق. وكلُّ واحد (1) منهما يجمعهما صفة الحدِّ والنهاية (2). وقالت طائفة (3): إن النفس موصوفةٌ بما وصفها هؤلاء الذين قدَّمنا ذكرَهم من معنى الحدود والنهايات، إلا أنها غيرُ مفارقة لغيرها مما لا يجوز (4) أن يكون موصوفًا بصفة الحيوان. وحكى الحريري (5) عن جعفر بن مُبَشِّر (6): أن النفس جوهر، ليس هو هذا الجسمَ وليس بجسم، ولكنه معنى بايَنَ الجوهر والجسم. وقال آخرون: النفسُ معنًى غيرُ الروح (7)، والروحُ غير الحياة، والحياة عنده عرضٌ. وهو أبو الهذيل، يزعم (8) أنه قد يجوز أن يكون الإنسان في حال نومه مسلوبَ النفس والروحِ دون الحياة [116 أ]. واستَشْهد على ذلك بقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} _________ (1) (ب، ط): «فكل واحد». وكذا في المقالات. (2) في المقالات: «وهذا قول طائفة من الثنوية يقال لهم المنانية». (3) قال الأشعري: وهؤلاء الدِّيصانية. (4) (ب، ط، ج): «مقارنة لغيرها لا يجوز». (5) (ن): «الجُريري» بالجيم المضمومة. ولم أقف على ترجمته. (6) الثقفي (ت 234) هو مثل جعفر بن حرب من معتزلة بغداد، وكلاهما مشهور عندهم بالعلم والورع. طبقات المعتزلة (76) وتاريخ بغداد (7/ 162). (7) (ط): «غير معنى الروح». (8) كذا في الأصل. وفي غيره والمقالات: «وزعم».

(2/515)


[الزمر: 42]. وقال جعفر بن حرب: النفس عَرَضٌ من الأعراض يوجَد في هذا الجسم، وهو أحد الآلات التي يستعين بها الإنسان على الفعل كالصحة والسلامة وما أشبهها، وأنها غير موصوفة بشيء من صفات الجواهر والأجسام (1). هذا ما حكاه الأشعري. وقال طائفة: النفس هي النسيم الداخل والخارج بالتنفُّس. قالوا: والروح عرَضٌ، وهي (2) الحياة فقط، وهو غيرُ النَّفْس، وهذا قول القاضي أبي بكر بن الباقلاني ومن اتَّبعه من الأشعرية (3). وقالت طائفة: ليست النفس جسمًا ولا عرضًا وليست في مكان، ولا لها طول ولا عرض ولا عمق ولا لون ولا بعض (4). ولا هي في العالم ولا خارجَه، ولا محايثة (5) له ولا مباينة. وهذا قول المشَّائين، وهو الذي حكاه الأشعري عن أرسطاطاليس (6). وزعموا أن تعلُّقها بالبدن لا بالحلول فيه _________ (1) كذا نقل الأشعري قول جعفر بن حرب هذا دون تعقيب، مع أنه قبل قليل ذكر قوله بأنه لا يدري عن الروح أجوهر هو أم عرض! (2) ما عدا الأصل: «وهو». (3) هذه الفقرة وجزء من الفقرة الآتية منقولة من كتاب الفصل لابن حزم (3/ 214). (4) بعده في الفصل: «وأنها هي الفعالة المدبرة، وهي الإنسان. وهو قول بعض الأوائل، وبه يقول معمَّر بن عمرو العطار أحد شيوخ المعتزلة. (5) هذه قراءة (غ)، والأصل غير منقوط. وفي غيرهما: «مجانبة». (6) (ب، ط): «أرطاطاليس».

(2/516)


ولا بالمجاورة ولا بالمساكنة ولا بالاتصال بالمقابلة؛ وإنما هي بالتدبير له فقط. واختار هذا المذهب البُوشَنْجي (1)، ومحمد بن النعمان الملقب بالمفيد (2)، ومُعمَّر بن عبَّاد (3)، والغزالي. وهو قول ابن سينا وأتباعه. وهو أردأ المذاهب وأبطلُها، وأبعدُها من الصواب (4). قال أبو محمد بن حزم (5): وذهب سائر أهل الإسلام والملل المقِرَّة بالمعاد (6) إلى أن النفس جسمٌ طويل عريض عميق، ذات مكان، حيَّة (7) مميِّزة مصرِّفة للجسد. قال: وبهذا نقول. قال: والنفس والروح اسمان _________ (1) (ب، ط، ج): «أبو يحيى»، والظاهر أنه تحريف. ولعل المقصود بالمذكور هنا أبو الحسن علي بن أحمد البوشنجي الصوفي (ت 348) من مشايخ خراسان. ترجمته في طبقات السلمي (458). (2) البغدادي (ت 413). ويُعرف أيضًا بابن المعلم. من كبار علماء الشيعة. سير أعلام النبلاء (33/ 333). (3) السُّلَمي البصري (ت 215) من رؤوس المعتزلة. الفهرست (207)، طبقات المعتزلة (54). (4) قال الآلوسي: «وهو قول أكثر الإلهيين من الفلاسفة، وذهب إليه جماعة عظيمة من المسلمين». وذكر منهم الراغب والغزالي ومحمد بن عباد والمفيد، ثم قال: «ومن الكرامية جماعة، ومن أهل المكاشفة والرياضة أكثرهم». روح المعاني (8/ 148). وهو صادر في ذلك عن تفسير الرازي (21/ 46). وانظر نحوه في المواقف (2/ 670) وكشاف التهانوي (3/ 1401). (5) في الفصَل (3/ 214). (6) (ن): «بالبعث». (7) في الأصل: «جثة». وفي كتاب الفصل مكانه: «عاقلة».

(2/517)


مترادفان بمعنى واحد، ومعناهما واحد. وقد ضبط أبو عبد الله بن الخطيب (1) مذاهب الناس في النفس، فقال (2): «ما يشير إليه كلُّ إنسان بقوله: (أنا) إما أن يكون جسمًا، أو عرَضًا ساريًا في الجسم، أو لا جسمًا ولا عرَضًا ساريًا فيه. أما [116 ب] القسم الأول، وهو أنه جسم، فذلك الجسم إما أن يكون هو هذا البدنَ، وإما أن يكون جسمًا مشاركًا لهذا (3) البدن، وإما أن يكون خارجًا عنه. وأما القسم الثالث (4)، وهو أن نفس الإنسان عبارة عن جسم خارجَ هذا (5) البدن، فهذا لم يقُلْه أحد. وأما القسم الأول، وهو أن الإنسان عبارةٌ عن هذا البدنِ والهيكلِ المخصوص، فهو قول جمهور الخلق، وهو المختار عند أكثر المتكلمين» (6). _________ (1) زاد في (ن): «الفخر الرازي». (2) لم يصرّح المصنف بمصدره، ولم يرجع إلى تفسير الرازي ولا إلى كتابه في الروح والنفس. وانظر تقسيمًا شبيهًا بهذا في التفسير (21/ 40) تحت قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ}. (3) الأصل: «هذا». (4) (ق): «الثاني». (ن): «الأول». (5) (ط): «عن هذا». (6) وقال في التفسير (21/ 41): «أما القائلون بأن الإنسان عبارة عن هذه البنية المحسوسة وعن هذا الجسم المحسوس فهم جمهور المتكلمين ... واعلم أن هذا القول عندنا باطل» وقد أبطله بسبع عشرة حجة نقلية وعقلية. وفي التفسير (17/ 202) أيضًا قال: «إن هذا القول أبعد الأقاويل». وكذلك قال في كتابه «النفس والروح» (27): «اعلم أن الذي يشير إليه كل أحد بقوله: أنا جئت ... شيء غير هذه البنية الظاهرة المحسوسة، ويدل عليه المعقول والمنقول». ثم ساق ست عشرة حجة عقلية ونقلية.

(2/518)


قلت: هو قول جمهور الخلق الذين عرفَ الرازي أقوالَهم من أهل البدع وغيرهم من المضلِّين (1)، وأما أقوال الصحابة والتابعين وأهلِ الحديث فلم يكن له بها شعورٌ البتَّةَ، ولا اعتقد أن لهم في ذلك قولاً، على عادته في حكاية المذاهب الباطلة في المسألة. والمذهبُ الحقُّ الذي دلَّ عليه القرآن والسنة وأقوال الصحابة لم يعرفه ولم يذكره (2). وهذا الذي نسبه إلى جمهور الخلق، من أن الإنسان هو هذا البدنُ المخصوص فقط وليس وراءه شيء، هو من أبطل الأقوال في المسألة، بل هو أبطَلُ من قول ابن سينا وأتباعه. بل الذي عليه جمهور العقلاء أن الإنسان هو البدن والروح معًا. وقد يُطلق اسمه على أحدهما دون الآخر بقرينة (3). _________ (1) (ب، ط، ج): «المتكلمين». (2) سيورد المصنف بعد تعقيبه هذا بقية كلام الرازي. وقد ذكر فيه أقوال القائلين بأن الإنسان عبارة عن جسم مخصوص موجود في داخل هذا البدن. والقول السادس منها أنه جسم نوراني علوي إلخ. وقال المصنف عنه: إنه هو الصواب في المسألة، وعليه دلَّ الكتاب والسُّنَّة وإجماعة الصحابة إلخ. فكيف يصحّ قوله هنا: إنّ الرازي لم يعرف المذهب الحق ولم يذكره؟ (3) يقول الرازي في كتاب النفس والروح (50): «النفس قد يراد بها المعنى المشار إليه بقوله (أنا)، وقد يراد بها الجثة المحسوسة والهيكل المشاهد».

(2/519)


فالناس (1) لهم أربعة أقوال في مسمى الإنسان: هل هو الروح فقط، أو البدن فقط، أو مجموعهما، أو كل واحد منهما؟ وهذه الأقوال الأربعة لهم في كلامه: هل هو اللفظ فقط، أو المعنى فقط، أو مجموعهما، أو كل واحد منهما (2)؟ فالخلاف بينهم في الناطق ونطقه. قال الرازي: «وأما القسم الثاني وهو أن الإنسان عبارةٌ عن جسم مخصوص موجود في داخل هذا البدن، فالقائلون بهذا القول اختلفوا في تعيين ذلك الجسم على وجوه: الأول: أنه عبارة عن الأخلاط [117 أ] الأربعة التي منها يتولد (3) هذا البدن. والثاني: أنه الدم. والثالث: أنه الروح اللطيفُ الذي يتولَّد في الجانب الأيسر من القلب، وينفذ في الشَّرْيانات إلى سائر الأعضاء. والقول الرابع: أنه الروح الذي يصعد في القلب (4) إلى الدماغ ويتكيف بالكيفية الصالحة لقبول قوة الحفظ والفكر والذكر. والخامس: أنه جزء لا يتجزأ في القلب. والسادس: أنه جسم مخالف (5) بالماهية لهذا الجسم المحسوس، _________ (1) (ب، ط): «والناس». (2) ما عدا (أ، ق، غ): «كل منهما». (3) ما عدا (أ، ق): «يتولد منها». وقد سقط «منها» من (غ). (4) (ن): «من القلب». (5) (ب، ط، ج): «يخالف».

(2/520)


وهو جسم نُوراني عُلْوِيٌّ خفيف حيٌّ متحرك (1) ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سَرَيان الماء في الورد، وسريان الدُّهْن في الزيتون، والنارِ في الفحم. فما دامت هذه الأعضاء صالحةً لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف، بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكًا (2) لهذه الأعضاء، وأفادَها هذه الآثارَ من الحسِّ والحركة الإرادية (3). وإذا فسدتْ هذه الأعضاء (4) بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن قبول تلك الآثار، فارق الروحُ البدنَ، وانفصل إلى عالم الأرواح». وهذا القول هو الصواب في المسألة، وهو الذي لا يصحُّ غيره، وكلُّ الأقوال سواه باطلةٌ، وعليه دلَّ الكتاب والسُّنَّة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة. ونحن نسوق الأدلة عليه على نسَق واحد: الدليل الأول: قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]. ففي الآية ثلاثة أدلة: الإخبارُ بتوفِّيها، وإمساكها، وإرسالها. الرابع: قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ _________ (1) الأصل: «متحول». (2) (غ): «متشابكًا، ورسمها في الأصل محتمل لهذه القراءة. وفي (ب، ط، ج): «تشابها»، تصحيف. (3) (غ): «الحركة والإرادة». (4) «وأفادها ... الأعضاء» ساقط من الأصل.

(2/521)


بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} إلى قوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 93 ــ 94]. وفيها أربعة (1) أدلَّة: أحدها (2): بسطُ الملائكة أيديَهم لتناولها. الثاني: وصفُها بالإخراج والخروج. الثالث: الإخبار عن عذابها ذلك اليوم. الرابع: الإخبار عن مجيئها إلى ربها. فهذه سبعة أدلة. الثامن: قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} إلى قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 60 ــ 61]. وفيها ثلاثة أدلة: أحدها: الإخبار بتوفِّي الأنفس بالليل. الثاني: بعثها إلى أجسادها بالنهار. الثالث: تَوفِّي الملائكة له عند الموت. _________ (1) «أربعة» ساقط من الأصل. (2) (ن): «الأول» هنا وفي معظم الأدلة الآتية مكان «أحدها». وفيما بعده كتب رقم (2) مكان «الثاني» إلى آخره. وكذا فعل في الدليل الثامن. واختصر الآيات كعادته.

(2/522)


فهذه عشرة أدلَّة. الحادي عشر: قوله تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30]. وفيها ثلاثة أدلة: أحدها: وصفها بالرجوع. والثاني: وصفها بالدخول. والثالث: وصفها بالرِّضا. واختلف السلف: هل يقال لها ذلك عند الموت، أو عند البعث، أو في الموضعين؟ على ثلاثة أقوال (1). وقد روي في حديث مرفوع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر الصديق: «أمَا، إنَّ الملَكَ سيقولها لك (2) عند الموت» (3). وقال زيد بن أسلم: بُشِّرت بالجنة عند الموت، ويوم الجمع، وعند _________ (1) انظر ما سبق من الكلام على الآية في المسائل الثانية والخامسة والثامنة والرابعة عشرة. (2) (ق): «ذلك»، خطأ. (3) أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (24/ 396)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 283 ــ 284) من طريق يحيى بن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير قال: قُرئت: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27 ــ 28] عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو بكر: إن هذا لحسن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فذكره). وفيه انقطاع، فإن سعيد بن جبير لم يدرك أبا بكر، وأشعث هو ابن إسحاق القمِّي، وشيخه جعفر هو ابن أبي المغيرة الخزاعي القمِّي. وجاء موصولاً من وجه آخر، أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (74). وفي إسناده سويد بن عبد العزيد الدمشقي وهو ضعيف. (قالمي).

(2/523)


البعث (1). وقال أبو صالح: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)} هذا عند الموت. {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} قال: هذا يومَ القيامة (2). فهذه أربعة عشر دليلًا (3). الخامس عشر: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الروح إذا قُبِضَ تبعه البصَرُ» (4). ففيه دليلان: أحدهما: وصفه بأنه يُقبض. الثاني: أن البصر يراه. والسابع عشر (5): ما رواه النسائي (6): حدثنا أبو داود، عن عفان، عن حماد عن أبي جعفر، عن عُمارة بن خزيمة، أن أباه قال: رأيت في المنام كأني [118 أ] أسجد على جبهة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره (7) بذلك، فقال: «إن الروح _________ (1) أخرجه الطبري في التفسير (24/ 396). (2) المصدر السابق. (3) كذا في جميع النسخ. وهو غير صحيح، فإنها ثلاثة عشر دليلاً. وقد عدّ من قبل عشرة، وهذه ثلاثة، وستأتي أخطاء أخرى في العدّ ننبِّه عليها دون تغيير الترقيم. (4) أخرجه مسلم (920) من حديث أم سلمة. (5) لم ترد الواو فيما عدا (أ، ق، غ). (6) في الكبرى (7631). وإسناده صحيح؛ رجاله كلهم ثقات، أبو داود هو سليمان بن سيف الحرّاني، وعفّان هو ابن مسلم الصفّار، وحماد هو ابن سلمة، وأبو جعفر هو عُمير بن يزيد الخطميّ، وأبو عُمارة هو الصحابي الجليل خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين. ومن طريق حماد أخرجه الإمام أحمد (21864، 21878)، وابن سعد في الطبقات الكبرى (4/ 380)، وابن أبي شيبة (30515)، والطبراني (3717). وانظر: السلسلة الصحيحة (3262). (قالمي). (7) (ق، غ): «فأخبر». (ب، ط، ج، ن): «فأخبرته». والمثبت من الأصل موافق لما في السنن.

(2/524)


ليلقَى الروح»، فأقنَعَ (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هكذا ــ قال عفان برأسه إلى خلفه ــ فوضع جبهته على جبهة النبي - صلى الله عليه وسلم -. فأخبرَ أن الأرواح تتلاقى في المنام. وقد تقدَّم قول ابن عباس (2): تلتقي أرواح الأحياء والأموات (3) في المنام، فيتساءلون بينهم، فيمسك الله أرواح الموتى. الثامن عشر: قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث بلال: «إنَّ الله قبض أرواحكم وردَّها إليكم حين شاء» (4). ففيه دليلان: وصفُها بالقبض، والرَّدِّ. العشرون: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «نَسَمة المؤمن طائرٌ يعلقُ في شجر الجنة» (5). وفيه دليلان: أحدهما: كونُه (6) طائرًا. الثاني: تعلُّقها في شجر الجنة (7)، وأكلُها، على اختلاف التفسيرين (8). _________ (1) أقنع رأسه: رفعه. (2) في (ن): «حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -»، وهو خطأ. وقد تقدم في أول المسألة الثالثة. (3) (ن): «وأرواح الموتى». (4) تقدم في المسألة السابعة عشرة (ص 433). (5) تقدَّم تخريجه (ص 111). (6) (ب، ط، ج): «كونها». (7) «كونه ... الجنة» ساقط من الأصل. (8) لم يذكر المصنف فيما سبق إلا معنى الأكل. وقد فرَّق ابن عبد البر في الاستذكار (3/ 90) بين الروايتين في المعنى. ففسّر «يعلَق» بفتح اللام بمعنى يسرَح، و «يعلُق» بضم اللام بمعنى تأكل وترعى. أما معنى التعلق بالشجر فذكره صاحب مرقاة المفاتيح (4/ 99) عن الطيبي.

(2/525)


الثاني والعشرون: قوله: «أرواحُ الشهداء في حواصل طير خُضْرٍ تسرَح في الجنة حيث شاءت، وتأوي إلى قناديلَ معلَّقةٍ بالعرش، فاطَّلع إليهم ربُّك اطِّلاعةً فقال: أيَّ شيء تريدون؟ .. » الحديث، وقد تقدم (1). وفيه ستة أدلة: أحدها: كونُها مودَعةً في جوف طير. الثاني: أنها تسرح في الجنة. الثالث: أنها تأكل من ثمارها، وتشرب من أنهارها. الرابع: أنها تأوي إلى تلك القناديل أي: تسكن إليها. الخامس: أنَّ الربَّ تعالى خاطبها واستنطقها، فأجابته وخاطبته. السادس: أنها طلبت الرجوعَ إلى الدنيا. فعُلِم أنها مما يقبلُ الرجوع. فإن قيل: هذا كلُّه صفة الطير لا صفةُ الروح. قيل: بل الروحُ (2) المودَعةُ في جوف الطير قصدًا (3). وعلى الرواية التي رجَّحها أبو عمر (4)، وهي قوله: «أرواح الشهداء كطير» ينتفي السؤال بالكلية. التاسع والعشرون (5): قوله في حديث طلحة بن عبيد الله (6): أردتُ _________ (1) في المسألة الخامسة (ص 112) ثم الرابعة عشرة (ص 292). (2) (ب، ط، ج): «بل هو الروح». (ن): «بل هو للروح». ولعل الصواب: «بل للروح». (3) كذا في جميع النسخ. (4) في الاستذكار (3/ 76) وقد تقدم نقل كلامه في المسألة الخامسة عشرة. (5) كذا في جميع النسخ. وصوابه: «الثامن والعشرون» ولكن قد سبق أن زاد في العدّ، فالعدد الحقيقي: السابع والعشرون. (6) سبق تخريجه في المسألة الخامسة عشرة (ص 307).

(2/526)


مالي بالغابة، فأدركني الليل، فأويت إلى قبر عبد الله بن عمرو بن حرام [118 ب]، فسمعت قراءةً من القبر ما سمعتُ أحسنَ منها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ذاك عبد الله، ألم تعلم أنَّ الله قبض أرواحهم، فجعلها في قناديلَ من زَبَرْجَد وياقوت، ثم علَّقها وسط الجنة، فإذا كان الليل رُدَّت إليهم أرواحهم، فلا تزال كذلك حتى إذا طلع الفجر رُدَّت أرواحهم إلى مكانها الذي (1) كانت فيه». ففيه (2) أربعة أدلة سوى ما تقدم: أحدها: جعلُها في القناديل. الثاني: انتقالها من حيِّز إلى حيِّز (3). الثالث: تكلُّمها وقراءتها في القبر (4). الرابع: وصفها بأنها في مكان. الثالث والثلاثون: حديث البراء بن عازب، وقد تقدَّم سياقُه (5). وفيه عشرون دليلاً: أحدها: قول ملَك الموت لنفسه: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27]. وهذا خطاب لمن يعقل ويفهم (6). _________ (1) في جميع النسخ: «التي». (2) كذا في (ط، ن). وفي الأصل: «كانت فيه». وفي (ق): «كانت وفيه». وفي غيرها: «كانت ففيه». (3) كلمة «حيِّز» تصحف في (ق) إلى «حين» وفي (ب) إلى «خير». (4) (ن): «القبور». (5) في أول المسألة السادسة. (6) هكذا في جميع النسخ الخطية، ولكن في النسخ المطبوعة: «الخطاب لمن يفهم ويعقل».

(2/527)


الثاني: قوله: «اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان». الثالث: قوله: «فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فِي السِّقاء». الرابع: قوله: «فلا يدَعونها في يده طَرْفَة عين حتى يأخذوها منه». الخامس: قوله: «حتى يكفنوها في ذلك الكفن ويحنطوها (1) بذلك الحنوط». فأخبر أنَّها تُكفَّن وتحنَّط. السادس: قوله: «ثم يُصعَد بروحه إلى السماء». السابع: قوله: «ويوجد منها كأطيب نفحةِ مسكٍ وجدت». الثامن: قوله: «فتُفتَح له أبوابُ السماء». التاسع: قوله: «ويشيِّعه من كلِّ سماء مقرَّبوها حتى ينتهي إلى الرب تعالى». العاشر: قوله: «فيقول تعالى: رُدُّوا عبدي إلى الأرض». الحادي عشر: قوله: «فتُرَدُّ روحُه في جسده». الثاني عشر: قوله في روح الكافر: «فتَفرَّقُ (2) في جسده، فيجذِبها، فتنقطع منها العروق والعصب». الثالث عشر: قوله (3): «ويوجد لروحه كأنتنِ ريحٍ وُجدت على وجه الأرض». _________ (1) ما عدا (أ، ق): «يكفنونها ... ويحنطونها». (2) السياق في (ط، ب، ج): «قوله: روح الكافر تتفرق». (3) «في روح ... قوله» ساقط من الأصل.

(2/528)


الرابع عشر: قوله: «فيُقذَف بروحه من السماء، وتُطْرَح طرحًا فتهوي إلى الأرض» (1). الخامس عشر: قوله: «فلا يمرُّون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا [119 أ]: ما هذا الروح الطيب؟ وما هذا الروح الخبيث؟». السادس عشر: قوله: «فيُجلِسانه ويقولان له (2): ما كنتَ تقول في هذا الرجل؟» فإن كان هذا للروح فظاهرٌ (3)، وإن كان للبدن فهو بعد رجوع الروح إليه من السماء. السابع عشر: قوله: «فإذا صعد بروحه، قيل: أَيْ ربِّ، عبدُك فلان». الثامن عشر: قوله: «أرجِعوه، فأرُوه ماذا أعددتُ له من الكرامة، فيرى مقعده من الجنة أو النار». التاسع عشر: قوله في الحديث: «إذا خرجت روح المؤمن صلَّى عليها كلُّ ملَكٍ لله بين السماء والأرض». فالملائكةُ تصلِّي على روحه، وبنو آدم يصلُّون على جسده. العشرون: قوله: «فينظرُ إلى مقعده من النار حتى تقومَ الساعة». والبدنُ قد تمزَّق وتلاشى، وإنما الذي يرى المقعدَين الروحُ. _________ (1) (ب، ط، ج): «في الأرض». (2) «له» ساقط من (ب، ط). (3) «فظاهر» ساقط من الأصل.

(2/529)


فصل الرابع والخمسون (1): حديث أبي موسى (2): «تخرج نفسُ المؤمن أطيبَ من ريح المسك، فتنطلق بها الملائكة الذين يتوفَّونه، فتلقاهم (3) ملائكةٌ من دون السماء، فيقولون: هذا فلان بن فلان، كان يعمل كيتَ وكيتَ ــ لمحاسن (4) عمله ــ فيقولون: مرحبًا بكم وبه، فيقبضونها منهم، فيُصعَد به من الباب الذي كان يَصعدُ منه عملُه، فيشرق (5) في السموات وهو (6) برهان كبرهان الشمس، حتى ينتهى بها إلى العرش. وأما الكافر فإذا قُبِض انطُلِق بروحه، فيقولون: من هذا؟ فيقولون: فلان بن فلان، كان يعمل كيتَ وكيت ــ لمساوي عمله ــ فيقولون: لا مرحبًا لا مرحبًا، رُدُّوه. فيُرَدُّ إلى أسفلِ الأرض إلى الثرى». ففيه عشرة أدلة: أحدها: خروجُ نفسه. الثاني: طيب ريحها. الثالث: انطلاقُ الملائكة بها. الرابع: تحيةُ الملائكة لها. _________ (1) كذا في جميع النسخ، وصوابه: الثالث والخمسون، والعدد الحقيقي: الحادي والخمسون، فإنه سها، فزاد من قبل مرتين. (2) سبق تخريجه في المسألة الخامسة عشرة (ص 317). (3) (غ): «فتتلقاهم». (4) في جميع النسخ: «بمحاسن» بالباء. وفيما بعد «لمساوي» باللام في معظم النسخ! (5) (ق): «فتشرق». وفي (ط): «فيسير»، تحريف. (6) (غ): «ولها». وفي (ط) حاشية: «لعله: وله». وقد سقط «برهان» بعده من (ق).

(2/530)


الخامس: قبضُهم لها. السادس: صعودُهم بها. السابع: إشراقُ السماوات لضوئها. الثامن (1): انتهاؤها إلى العرش. التاسع: قول الملائكة: من [119 ب] هذا؟ وهذا سؤال عن عينٍ وذاتٍ (2) قائمةٍ بنفسها. العاشر: قوله: رُدُّوه، فيُرَدُّ إلى أسفل الأرضين. فصل الرابع والستون: حديث أبي هريرة (3): «إذا خرجت روحُ المؤمن تلقَّاه ملكان، فيُصعِدانه إلى السماء، فيقول أهل السماء: روحٌ طيبة جاءت من قِبَل الأرض. صلى الله عليكِ وعلى جسدٍ كنت تعمُرينه ــ وذكر المسكَ ــ ثم يصعَدُ به إلى ربِّه عزَّ وجلَّ، فيقول: رُدُّوه إلى آخر الأجلين». ففيه ستة أدلة: أحدها: قوله: تلقَّاه ملكان. الثاني: قوله: «فيُصعدانه إلى السماء». الثالث: قول الملائكة: «روح طيبة جاءت من قِبَل الأرض». _________ (1) في الأصل: «السابع»، وهو سهو. (2) (ج): «عن ذات». (ب، ط): «عن ذوات». (3) أخرجه مسلم (2872).

(2/531)


الرابع: صلاتهم عليها. الخامس: طيبُ ريحها. السادس: الصعودُ بها إلى الله عزَّ وجلَّ. فصل الحادي والسبعون: حديث أبي هريرة (1): «إن المؤمن تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدةً، وأبشري برَوح وريحان وربٍّ غيرِ غضبان. فما يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، فيُعرَج بها حتى يُنتهَى بها (2) إلى السماء، فيُستفتح لها. فيقال: مَن هذا؟ فيقال: فلان بن فلان. فيقال: مرحبًا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب! ادخلي حميدةً، وأبشري برَوح وريحان وربٍّ غيرِ غضبان. فلا يزال يقال لها ذلك حتى يُنتهَى بها إلى السماء التي فيها الله عزَّ وجلَّ. وإذا كان الرجل السوء قالوا (3): اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغسَّاق وآخرَ من شكله أزواج! فلا يزال يقالُ لها ذلك حتى تخرج، فيُنتهَى بها إلى السماء، فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان بن فلان. فيقال: لا مرحبًا بالنفس الخبيثة كانت في _________ (1) سبق تخريجه في المسألة السادسة (ص 139)، ولفظه هنا منقول من كتاب عذاب القبر للبيهقي (23). (2) «حتى ينتهى بها» ساقط من (ب). (3) (ب، ط، ج): «قال».

(2/532)


الجسد [120 أ] الخبيث! ارجعي (1) ذميمةً، فإنه لا تُفتَح لك أبواب السماء. فتُرسَل إلى الأرض، ثم تصير إلى القبر». وهو حديث صحيح، وفيه عشرة أدلة: الأول: قوله: «كانت في الجسد الطيب» و «كانت في الجسد الخبيث». فهاهنا حالٌّ، ومحلٌّ. الثاني: قوله (2): «اخرجي حميدة». الثالث: قوله: «وأبشري بروح وريحان» (3) فهذا بشارة (4) بما تصير إليه بعد خروجها. الرابع: قوله: «فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتَهى بها إلى السماء» (5). الخامس: قوله: «فيستفتَح لها». السادس: قوله: «ادخلي حميدة». السابع: قوله: «حتى ينتهَى بها إلى السماء التي فيها الله». الثامن: قوله لنفس الفاجر (6): «ارجعي ذميمة». _________ (1) في الأصل: «اخرجي»، وهو سهو. وسيأتي في تفصيل الأدلَّة على الصواب. (2) حذف ناسخ (ن) «قوله» هنا وفيما يأتي من الأدلة. (3) في (ط، ب) نقل قوله إلى «فيعرج بها إلى السماء» وهو من تصرّف النسَّاخ، فإن هذه العبارة جاءت في «الرابع». (4) في الأصل: «إشارة»، سهو. وفي (ن): «فهذه بشارة». (5) (ط): «السماء الدنيا». وفي (ب، ج): «حتى تنتهي إلى سماء الدنيا». (6) (ب، ط): «للنفس الفاجرة».

(2/533)


التاسع: قوله: «فإنه لا تُفتَح لكِ أبواب السماء». العاشر: قوله: «فتُرسَل إلى الأرض ثم تصير إلى القبر». فصل الحادي والثمانون: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الأرواح جنود مجنَّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» (1). فوصَفَها بأنها جنود مجنَّدة (2)، والجنود ذواتٌ قائمة بنفسها (3). ووصَفَها بالتعارف والتناكر، ومُحالٌ أن تكون هذه الجنود أعراضًا، أو تكون لا داخل العالم ولا خارجه، ولا بعضَ لها ولا كلَّ. الثاني والثمانون: قوله في حديث ابن مسعود وعلي (4): «الأرواح تتلاقى وتتشامُّ كما تَشَامُّ الخيلُ». وقد تقدَّم (5). الثالث والثمانون: قوله في حديث عبد الله بن عمرو: «إنَّ أرواح المؤمنين لتتلاقى على مسيرة يومين، وما رأى أحدهما صاحبه» (6). _________ (1) سبق تخريجه (ص 277). (2) «مجندة» ساقط من (ب، ط، ج). (3) (ب، ط، ج): «بأنفسها». (4) في النسخ المطبوعة التي بين يدي: «ابن مسعود رضي الله عنه: على الأرواح .... ». مع أن في جميع النسخ الخطية: «وعلي» بالواو. ولكن ظنُّوها حرف جرٍّ ــ وخاصة لأن بعض النسَّاخ زاد كلمة الترضي بعد ابن مسعود وحده، مثل ناسخ (ط) ــ فحذفوا الواو لإصلاح النص، دون تنبيه على ما في النسخ الخطية. (5) انظر حديث علي وحديث ابن مسعود ــ وهو موقوف ــ كليهما في المسألة الثالثة. (6) سبق في (ص 312) موقوفًا، وقد أشار هناك إلى أنه يروى مرفوعًا أيضًا.

(2/534)


الرابع والثمانون: الآثار التي ذكرناها في خلق آدم (1)، وأنَّ الروح لما دخل في رأسه عَطَس (2) فقال: الحمد لله، فلما وصل (3) إلى عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما وصل إلى جَوفه اشتهى الطعام، فوثب [120 ب] قبل أن يبلغ الروح رجليه، وأنها دخلت كارهةً وتخرج كارهة. الخامس والثمانون: الآثار التي فيها إخراج الرب تعالى النَّسَم، وتمييزُ شقيِّهم من سعيدهم، وتفاوتُهم حينئذ في الإشراق والظلمة، وأرواحُ الأنبياء فيهم مثل السُّرُج. وقد تقدمت (4). السادس والثمانون: حديث تميم الدَّاريِّ أن روح المؤمن إذا صُعد بها إلى الله تعالى خرَّ ساجدًا بين يديه، وأن الملائكة تتلقَّى الروح بالبشرى، وأن الله تعالى يقول لملك الموت: انطلِقْ بروح عبدي، فضعه في مكان كذا وكذا (5). وقد تقدَّم (6). السابع والثمانون: الآثار التي ذكرناها في مستقَرِّ الأرواح بعد الموت، واختلاف الناس في ذلك. وفي ضمن ذلك الاختلاف إجماعُ السلف على أنَّ للروح مستقرًّا (7) بعد الموت، وإن اختُلِف في تعيينه (8). _________ (1) انظر: المسألة السابقة. (2) في (ن) بعده: «إلى آخره»، فحذف بقية النص. (3) (ب، ط، ج): «دخل». وأشار في حاشية (ط) إلى ما في غيرها. (4) انظر: المسألة السابقة. (5) «وأن الملائكة ... كذا» حذفه ناسخ (ن). (6) انظر: المسألة الخامسة عشرة (ص 302). (7) (ن): «الروح تستقرّ». (8) انظر: المسألة الخامسة عشرة.

(2/535)


الثامن والثمانون: ما قد عُلِم بالضرورة أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء به وأخبر به الأمة: أنه تنبت أجسادُهم في القبور، فإذا نُفِخ في الصور رجعت كلُّ روح إلى جسدها، فدخلت فيه، فانشقَّت الأرض عنه، فقام من قبره. وفي حديث الصور (1): أن إسرافيل يدعو الأرواح، فتأتيه جميعًا _________ (1) أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده (10 ــ مسند أبي هريرة)، وابن جرير الطبري في تفسيره (16/ 447)، والبيهقي في البعث والنشور (609) من طريق إسماعيل بن رافع المدني، عن محمد بن يزيد بن أبي زياد، عن رجل من الأنصار، عن محمد بن كعب القرظي، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة قال: حدّثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في طائفة من أصحابه، قال: «إن الله لما خلق السماوات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل ... » الحديث بطوله. إلا أن ابن جرير اختصره ووقع عنده «عن يزيد بن أبي زياد». وفي إسناده اضطراب شديد واختلاف كثير على إسماعيل بن رافع، فروي عنه كما سبق. وروي عنه، عن محمد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة. أخرجه الطبراني في الأحاديث الطوال (36). وروي عنه، عن محمد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة. أخرجه أبو الشيخ في العظمة (387). وروي عنه، عن محمد بن يزيد، عن محمد بن كعب، عن أبي هريرة. أخرجه أبو الشيخ في العظمة (386). وروي عنه، عن محمد بن يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن كعب القرظي، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة. أخرجه الطبري في تفسيره (18/ 132)، والبيهقي في البعث والنشور (609). غير أن ابن جرير قال: «عن يزيد بن زياد» قال: «والصواب: يزيد بن أبي زياد». وروي عنه، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة. أخرجه الطبري (18/ 134) مختصرًا. ومداره على إسماعيل بن رافع المدني القاصّ. وساق الحافظ ابن كثير في تفسيره (3/ 282 ــ 287) حديث الصور بطوله عن الطبراني في كتابه «الطوالات» ثم قال عقبه: «هذا حديث مشهور، وهو غريب جدًا، ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرقة وفي بعض ألفاظه نكارة. تفرد به إسماعيل بن رافع قاص أهل المدينة، وقد اختلف فيه، فمنهم من وثقَّه، ومنهم من ضعَّفه، ونص على نكارة حديثه غير واحد من الأئمة، كأحمد بن حنبل، وأبي حاتم الرازي، وعمرو بن علي الفَلاس، ومنهم من قال فيه: هو متروك. وقال ابن عدي: أحاديثه كلها فيها نظر إلا أنه يكتب حديثه في جملة الضعفاء. قلت: وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث على وجوه كثيرة، قد أفردتها في جزء على حدة. وأما سياقه، فغريب جدًا، ويقال: إنه جمعه من أحاديث كثيرة، وجعله سياقًا واحدًا، فأنكر عليه بسبب ذلك. وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول: إنه رأى للوليد بن مسلم مصنفًا قد جمع فيه كل الشواهد لبعض مفردات هذا الحديث» اهـ. (قالمي).

(2/536)


ــ أرواحُ المسلمين نورٌ، والأخرى مظلمةٌ ــ فيجمعها جميعًا، فيعلِّقها في الصور، ثم ينفخ فيه، فيقول الربُّ جلَّ جلالُه: وعزَّتي، لَيرجِعَنَّ كلُّ روح إلى جسده. فتخرج الأرواح من الصُّور مثلَ النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض. فيأتي كلُّ روح إلى جسده، فيدخلُ. ويأمر الله الأرضَ، فتنشقُّ عنهم، فيخرجون سراعًا إلى ربهم يَنْسِلون، مُهطِعين (1) إلى الداعي، يسمعون المنادي من مكان (2) قريب، فإذا هم قيام ينظرون. وهذا معلوم بالضرورة أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر به، وأنَّ الله سبحانه لا ينشئُ لهم أرواحًا غيرَ أرواحهم التي كانت في الدنيا، بل هي الأرواح التي اكتسبت _________ (1) (ب، ط، ج): «فيهطعون». (2) (ب، ط): «من كل مكان».

(2/537)


الخيرَ والشرَّ، أنشأ أبدانَها نشأةً أخرى، ثم ردَّها إليها. التاسع والثمانون: أن الروح والجسد يختصمان بين يدي الربِّ تعالى يوم القيامة. قال علي بن عبد العزيز: حدثنا أحمد بن يونس، ثنا أبو بكر بن عيَّاش، عن أبي سعد (1) البقَّال، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتى يخاصم الروح الجسد، فيقول الروح: يا ربِّ إنما كنتُ روحًا منك، جعلْتَني في هذا الجسد، فلا ذنب لي. ويقول الجسد: يا ربِّ كنت جسدًا خلقتَني، ودخل فيَّ هذا الروحُ مثلَ النار، فبه كنتُ أقوم، وبه كنت أقعد، وبه أذهب، وبه أحيا (2)؛ لا ذنب لي. قال: فيقال: أنا أقضي بينكما. أخبراني عن أعمى ومُقْعَدٍ دخلا حائطًا، فقال المقعد للأعمى: إني أرى ثمرًا، فلو كانت لي رجلان لتناولْتُ. فقال الأعمى: أنا أحملك على رقبتي. فحمله، فتناول من الثمر، فأكلا جميعًا، فعلى مَن الذنب؟ قالا: عليهما جميعًا، فقال: قضيتُما على أنفُسِكما (3). التسعون: الأحاديث والآثار الدالَّة على عذاب القبر ونعيمِه إلى يوم _________ (1) (ب، ط، ق، ن): «أبي سعيد»، تحريف. وهو سعيد بن المرزبان العبسي أبو سعد البقال الكوفي. انظر: تهذيب التهذيب (4/ 79). (2) كذا في جميع النسخ ما عدا (ن)، ولكن في النسخ المطبوعة «أجيء» مكان «أحيا». أما ناسخ (ن) فحذف «وبه أحيا» وكتب «أذنب» مكان «أذهب». (3) عزاه السيوطي في شرح الصدور (423) إلى ابن منده، ولفظه مختلف. ثم قال: «وأخرج الدارقطني في الأفراد من حديث أنس مرفوعًا نحوه ... وله شاهد عن سلمان موقوفًا أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد». ذكر ابن الجوزي حديث أنس في الموضوعات (3/ 249) وقال: هذا حديث موضوع على رسول الله.

(2/538)


البعث. فمعلوم (1) أنَّ الجسد تلاشى واضمحلَّ، وأنَّ العذاب والنعيم المستمرَّيْن إلى يوم القيامة إنما هو على الروح. الحادي والتسعون: إخبار الصادق المصدوق في الحديث الصحيح عن الشهداء أنهم لما سئلوا: ما تريدون؟ قالوا: نريد أن تُردَّ أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتل فيك مرَّةً أخرى (2). فهذا سؤال وجواب من ذاتٍ حيَّةٍ عالمةٍ ناطقةٍ تقبل الردَّ إلى الدنيا والدخول في أجساد خرجت منها. وهذه الأرواحُ سئلت وهي تسرح في الجنة، والأجسادُ قد مزَّقها البلى. الثاني والتسعون: [121 ب] ما ثبت عن سلمان الفارسي وغيره من الصحابة: أن أرواح المؤمنين في برزخ تذهب حيث شاءت، وأرواحُ الكفار في سجِّين. وقد تقدَّم (3). الثالث والتسعون: رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأرواح الناس عن يمين آدم ويسارِه ليلةَ الإسراء (4). فرآها متحيِّزةً بمكان معين. الرابع والتسعون: رؤيته (5) أرواحَ الأنبياء في السماوات، وسلامهم عليه، وترحيبهم به؛ كما أخبر به (6). وأما أبدانهم، ففي الأرض. _________ (1) (ب، ط، ج): «ومعلوم». (2) تقدَّم في المسألة الخامسة (ص 112). (3) انظر: المسألة الخامسة عشرة (ص 276). (4) سبق في المسألة السادسة (ص 121). (5) (أ، ق، غ): «رؤية». (6) في حديث الإسراء السابق.

(2/539)


الخامس والتسعون: رؤيته (1) أرواحَ الأطفال حول إبراهيم الخليل (2). السادس والتسعون: رؤيتُه أرواحَ المعذَّبين في البرزخ بأنواع العذاب في حديث سمرة الذي رواه البخاري في صحيحه. وقد تلاشَتْ أجسادهم واضمحلَّت، وإنما كان الذي رآه أرواحَهم ونَسمَهم يُفعَل بها ذلك. السابع والتسعون: إخباره سبحانه عن الذين قُتلوا في سبيله أنهم أحياءٌ عنده يرزقون، وأنهم فرحون مستبشرون بإخوانهم. وهذا للأرواح قطعًا، إذ الأبدانُ في التراب تنظر عَوْدَ أرواحها إليها يوم البعث. الثامن والتسعون: ما تقدَّم من حديث ابن عباس. ونحن نسوقه ليتبيَّن كم فيه من دليل على بطلان قول الملاحدة وأهل البدع في الروح. وقد ذكرنا إسناده فيما تقدَّم (3). قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يوم قاعدٌ تلا هذه الآية: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} الآية [الأنعام: 93]، ثم قال: «والذي نفسُ محمد بيده، ما مِن نفسٍ تُفارق الدنيا حتى ترى مقعدَها من الجنة والنار. فإذا كان عند ذلك صُفَّ له سِماطان من الملائكة ينتظمان ما بين الخافقَين، كأنَّ وجوهَهم الشمسُ، فينظر (4) إليهم ما يرى غيرَهم (5)، مع كلِّ ملَكٍ منهم _________ (1) ما عدا (ب، ط): «رؤية». (2) انظر: حديث سمرة في المسألة الملحقة بالسادسة (ص 169 ــ 171). وهذا الدليل الخامس والتسعون ساقط من (ب، ج). (3) في المسألة السادسة (ص 142 ــ 144). (4) في جميع النسخ: «فيرى». وأشير في حاشية (ط) إلى أن في نسخة ما أثبتنا. وهو الذي ورد من قبل في المسألة السادسة. (5) في النسخ المطبوعة زيادة: «وإن كنتم ترون أنه ينظر إليكم». وهي جزء من الحديث، وقد وردت في المسألة السادسة، ولكن لم ترد هنا في شيء من النسخ الخطية التي بين أيدينا.

(2/540)


أكفان وحَنوط. فإن كان مؤمنًا بشَّروه بالجنة، وقالوا: اخرجي أيتها النفس المطمئنَّة إلى رضوان الله وجنته، فقد أعدَّ الله لكِ من الكرامة ما هو خيرٌ لك (1) من الدنيا [122 أ] وما فيها. فلا يزالون يبشرونه، فلَهُمْ ألطفُ به وأرأَفُ من الوالدة بولدها. ثم يَسُلُّون روحه من تحت كل ظُفر ومَفصِل، ويموتُ الأول فالأول، ويبُور (2) كلُّ عضو الأولَ فالأول. ويهون عليه ما كنتم ترونه شديدًا، حتى تبلغَ ذقَنَه، فلهي أشدُّ كراهيةً للخروج من الجسد من الولد حين يخرج من الرحم. فيبتدرونها كلُّ ملك منهم أيُّهم يقبضها، فيتولَّى قبضَها ملَكُ الموت. ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11]. فيتلقَّاها بأكفان بِيضٍ، ثم يحتضنُها إليه، فلهو أشدُّ لزومًا لها من المرأة لولدها. ثم يفوحُ منها ريحٌ أطيب من المسك، فينشَقون ريحًا طيِّبًا، ويتباشرون بها، ويقولون: مرحبًا بالريح الطيِّبة والروح الطيِّب! اللهم صلِّ عليه روحًا، وصلِّ على جسد خرجت منه. قال: فيصعدون بها فتفوح لهم منها ريح أطيب من المسك، فيصلُّون عليها، ويتباشرون بها. وتُفتح لهم أبواب _________ (1) «لك» ساقط من (ب، ط، ج). (2) أي يهلك، وفي (ب): «ينور»، تصحيف. وفي (ط): «يبرُد»، وكذا في النسخ المطبوعة.

(2/541)


السماء، ويصلِّي عليها كلُّ ملك في كلِّ سماء تمرُّ بهم، حتى يُنتهَى بها (1) بين يدي الجبَّار جلَّ جلالُه، فيقول الجبَّار: مرحبًا بالنفس الطيبة! أدخِلوها الجنة، وأرُوها مقعدَها من الجنة، واعرضوا عليها ما أعددتُ لها من الكرامة والنعيم. ثم اذهبوا بها إلى الأرض، فإني قضيتُ أني منها خلقتُهم، وفيها أعيدهم، ومنها أُخرجهم تارةً أخرى. فوالذي نفسُ محمد بيده، لهي أشدُّ كراهيةً للخروج، منها حين كانت تخرج من الجسد (2)، وتقول: أين تذهبون (3) بي؟ إلى ذلك الجسد الذي كنتُ فيه؟ فيقولون: إنَّا مأمورون بهذا، فلا بدَّ لك منه. فيهبطون به على قدر فراغِهم من غَسْله وأكفانه، فيُدخِلون ذلك الروح بين الجسد وأكفانه». فتأمَّلْ [122 ب] كم في الحديث من موضع يَشهد ببطلان قول المبطلين في الروح! التاسع والتسعون: ما ذكره عبد الرزاق (4)، عن معمر، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن ابن البَيْلَماني (5)، عن عبد الله بن عمرو قال: إذا تُوفِّي المؤمن بُعِث إليه ملَكان برَيْحان من الجنة وخرقة تُقبَضُ فيها روحُه، _________ (1) «بها» ساقط من (ق). (2) في الأصل: «الجنة». وكذا في (غ). وهو تصحيف. (3) في الأصل: «أين تذهبوا». (4) في المصنف (6702). وعزاه السيوطي في الدرّ المنثور (4/ 132) إلى هناد وعبد بن حميد والطبراني. (5) هذا في (غ)، وهو الصواب. وفي غيرها: «عبد الرحمن البيلماني». وقد تصحف في (ب، ط، ن) إلى «السلماني».

(2/542)


فتخرج كأطيب رائحةٍ وجَدَها أحدٌ قطُّ بأنفه، حتى يؤتى به (1) إلى الرحمنُ جلَّ جلاله، فتسجد الملائكة قبله، ويسجد بعدهم. ثم يُدعى ميكائيلُ، فيقال: اذهب بهذه النفس، فاجعلها مع أنفُسِ المؤمنين حتى أسألك عنهم (2) يوم القيامة. وقد تظاهرت الآثار عن الصحابة أن روحَ المؤمن تسجدُ بين يدي العرش في وفاة النوم ووفاة الموت (3). وأما حين قدومِها على الله، فأحسنُ تحيتها أن تقول: اللهم أنت السلامُ، ومنك السلامُ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام (4). وحدَّثني القاضي نور الدين بن الصائغ (5) قال: كانت لي خالة، وكانت من الصالحات العابدات (6). قال: عُدْتُها في مرض موتها، فقالت لي: _________ (1) (ب، ط، ن): «بها». (2) كذا في جميع النسخ والمصنَّف والدرّ المنثور. والضمير عائد إلى المؤمنين. وفي النسخ المطبوعة: «عنها» ولعله من تصرّف الناشرين. (3) في الأصل: «دون وفاة الموت»! وقد تقدَّم أثر أبي الدرداء في المسألة الثالثة. (4) لعل المصنف يشير إلى حديث شجرة طوبى الذي أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة (53) عن محمد بن علي بن الحسين مرفوعًا. وقد أورده المصنف في حادي الأرواح (2/ 581) وقال: لا يصح رفعه، وحسبه أن يكون من كلام محمد بن علي، فغلط فيه بعض هؤلاء الضعفاء، فجعله من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. (5) زاد في (ب، ط): «رحمه الله». وهو محمد بن محمد بن محمد بن عبد القادر (676 ــ 749) تولى قضاء القضاة بحلب سنة 744، وتوفي في طاعونها. أعيان العصر للصفدي (5/ 199)، والدرر الكامنة (4/ 226). (6) هي أسماء بنت الفخر إبراهيم (646 ــ 708) ترجم لها ابن حجر في الدرر (1/ 360).

(2/543)


الروحُ إذا قدِمت على الله ووقفتْ بين يديه، ما تكون تحيتُها وقولُها له؟ قال: فعظُمَتْ عليَّ مسألتُها، وفكرتُ فيها، ثم قلت: تقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام. قال: فلما تُوفِّيتْ رأيتُها في المنام، فقالت لي: جزاك الله خيرًا، لقد دَهِشتُ، فما أدري ما أقوله (1)، ثم ذكرتُ تلك الكلمة التي قلتَ (2) لي، فقلتُها. فصل المائة: ما قد اشترك في العلم به عامَّةُ أهل الأرض من لقاء أرواح الموتى، وسؤالهم لهم، وإخبارهم إياهم بأمور خفِيتْ عليهم، فرأوها عيانًا. وهذا أكثرُ من أن يُتَكلَّف إيراده. وأعجب من هذا: الوجه الحادي والمائة: أنَّ روح النائم يحصل لها في المنام آثار، فيصبحُ يراها (3) على البدن عيانًا [123 أ] وهي من تأثير الروح في الروح (4)، كما ذكر القَيروانيُّ (5) في كتاب «البستان» عن بعض السلف. قال: كان لي جار يشتُم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان ذات يوم أكثَرَ من شتمهما، _________ (1) (ب، ط، ج): «أقول». (2) (ن): «قلتها». (3) الأصل غير منقوط، والنسخ الأخرى مضطربة، ففي (ب، ط، ق): «فتصبح تراها». وفي (ج): «فيصبح تراها». وفي (ن): «فيصبح أثرها». وبعدها في (ب، ط): «في البدن». (4) (ن): «في البدن». (5) انظر ما كتبنا عنه في المسألة الثالثة (ص 94).

(2/544)


فتناولتُه وتناولني. وانصرفت إلى منزلي، وأنا مغموم حزين، فنمتُ وتركتُ العَشاء. فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقلت: يا رسولَ الله، فلان يسُبُّ أصحابك. قال: مَن أصحابي (1)؟ قلت: أبو بكر وعمر، فقال: خذ هذه المُدية فاذبحه بها. فأخذتُها، فأضجعتُه، وذبحتُه (2). ورأيتُ (3) كأنَّ يدي أصابها من دمه، فألقيتُ (4) المدية، وأهوَيْتُ بيدي إلى الأرض لأمسحها. فانتبهت، وأنا أسمع الصراخَ من نحو داره. فقلت: ما (5) هذا الصراخ (6)؟ قالوا: فلان مات فجأة. فلما أصبحنا (7) جئتُ، فنظرت إليه، فإذا خطٌّ موضعَ الذبح! (8). _________ (1) (ب، ط): «مَن مِن أصحابنا». وكذا في المنامات، والمثبت موافق لما في فضائل الصحابة. (2) «وذبحته» ساقط من (ب، ط). (3) ما عدا (أ، ق، غ): «فرأيت». (4) (ب، ط، ج): «وألقيت». (5) (أ، غ): «وما». (6) «من نحو ... الصراخ» ساقط من (ب، ج)، و «فقلت ... الصراخ» ساقط من (ن). (7) (ب، ط، ج): «أصبحت». (8) أخرجه ابن أبي الدنيا في المنامات (219) مسندًا، وسمّى صاحب الحكاية، وهو رضوان السمَّان. وقد ورد هذا الخبر فيه ــ بلا فصل ــ قبل الخبر الآتي الذي نقله المصنف من المنامات .. فلا أدري لماذا أعرض عن هذا المصدر المسند المتقدم، ورجع إلى كتاب القيرواني العابر! وقد أخرجه أيضًا الإمام أحمد بسنده في فضائل الصحابة (394). ولم أجد ترجمة لرضوان السمَّان، ولا الراوي عنه محمد بن علي السمَّان.

(2/545)


وفي كتاب المنامات لابن أبي الدنيا (1) عن شيخ من قريش قال: رأيت رجلاً بالشام قد اسودَّ نصف وجهه، وهو يغطيه. فسألته عن ذلك؟ فقال: قد جعلتُ لله عليَّ أن لا يسألني أحد عن ذلك إلا أخبرتُه به. كنت شديد الوقيعة في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فبينا أنا ذات ليلة نائمٌ إذ أتاني آتٍ في منامي، فقال لي: أنت صاحب الوقيعة فيَّ؟ وضَرب شِقَّ وجهي، فأصبحتُ، وشِقُّ وجهي (2) أسود، كما ترى. وذكر مَسْعَدة (3)، عن هشام بن حسَّان، عن واصل مولى أبي عيينة (4)، عن موسى بن عبيدة، عن صفية بنت شَيْبة قالت: كنت عند عائشة رضي الله عنها، فأتتها امرأة متشمِّلة (5) على يدها، فجعلن (6) النساءُ يُولَعن بها، فقالت: ما أتيتُكِ (7) إلا من أجل يدي. إنَّ أبي كان رجلاً سمحًا، وإني رأيت في المنام حياضًا، عليها رجال معهم آنيةٌ، يسقُون مَن أتاهم؛ فرأيت أبي فقلت: أين أمي؟ فقال: انظري، [123 ب] فنظرتُ، فإذا أمي ليس عليها إلا قطعةُ خِرقة. فقال: إنها لم تتصدق قطُّ إلا بتلك الخرقة، وشحمةٍ من بقرة ذبحوها. فتلك الشحمة تُذابُ، وتضرب (8) بها، وهي تقول: واعطشاه! قالت: _________ (1) برقم (220). (2) (ن): «موضع الضربة». (3) في كتاب الرؤيا له، كما يظهر من إحالة المصنف عليه في خبر آخر سيأتي. (4) ما عدا (غ): «ابن عيينة»، تحريف. (5) كذا في الأصل. وفي غيره: «مشتملة» وكلاهما بمعنى. وبعده في (ن، غ): «يديها». (6) (ب، ج، ن): «فجعل». (7) (ن): «ما يُولعن بي». (8) هذا في الأصل، وفي (ق): «تطرف»، وكتب فوقها: «كذا». وفي (ب، ط، ج، ن): «تطوف». وفي الجامع لمعمر: «وتلك الشحمة في يدها، وهي تضرب بها في يدها الأخرى».

(2/546)


فأخذتُ إناءً من تلك الآنية، فسقيتها. فجاء جاءٍ، فقال (1): مَن سقاها أيْبَسَ الله يده! فأصبحتْ يدي كما ترَين (2). وذكر الحارث بن أسد المحاسبي، وأصبَغ، وخلف بن القاسم، وجماعة؛ عن سعيد بن مَسْلَمة قال: بينما امرأة عند عائشة، إذ قالت: بايعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا أشرك بالله شيئًا، ولا أسرِقَ، ولا أزني، ولا أقتل ولدي، ولا آتي ببهتان أفتريه بين يديَّ ورجليَّ، ولا أعصي في معروف. فوفَيْتُ لربِّي، ووفَى لي ربِّي. فوالله، لا يعذِّبُني الله. فأتاها في المنام ملَك، فقال لها: كلَّا، إنك تتبرَّجين (3)، وزينتَك تُبدِين، وخيرَك تَكنُدين (4)، وجارَك تؤذين، وزوجَك تعصين. ثم وضع أصابعه الخمس على وجهها، وقال: خمس بخمس، ولو زدتِ زدناك! فأصبحَتْ، وأثرُ الأصابع في وجهها (5). _________ (1) كذا في (ب، ط، ج). وفي الأصل بعد «فجاء» بياض بقدر كلمتين. وفي (غ): «فجاء ملك فقال». وفي (ن): «وإذا بقائل يقول». ولم يترك ناسخ (ق) بياضًا ولكن كتب فوق «سقاها»: «كذا». وفي النسخ المطبوعة: «فنوديتُ من فوقي»! (2) رواه معمر في الجامع قال: حدثني شيخ لنا أن امرأة جاءت إلى بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، الحديث. مصنف عبد الرزاق (20768). وأخرجه من طريقه الحاكم في المستدرك (8455) والبيهقي في شعب الإيمان (3226)، وسياق معمر مختلف. (3) (ب، ط): «تَبَرَّجين». (4) من كنَد النعمة: كفرها. وفي (ب، ج): «تكدِّرين». (5) لم أقف على هذا الخبر. وقد أخرج الحاكم في المستدرك (8191) عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب وابن أبي شيبة في المصنف (36662) عن أبي ثامر قصة لمتألِّية على الله، تشبه هذه القصة.

(2/547)


وقال عبد الرحمن (1) بن القاسم صاحب مالك: سمعت مالكًا يقول: إنَّ يعقوب بن عبد الله بن الأشجِّ كان من خيار هذه الأمة. نام في اليوم الذي استُشهد فيه، فقال لأصحابه: إني قد رأيت أمرًا، ولأُخبرنَّه. إنِّي رأيت كأني أُدخِلتُ الجنةَ، فسُقيتُ لبنًا. فاستقاءَ (2) فقاءَ اللبن. واستُشهِد بعد ذلك. قال ابن القاسم: كان (3) في غزوة في البحر بموضع لا لبن فيه. وقد سمعتُ غيرَ مالك يذكره، ويذكر أنه معروف، فقال: إني رأيتُ كأني أُدخِلتُ الجنةَ، فسُقيتُ فيها لبنًا. فقال له (4) بعض القوم: أقسمتُ عليك لَمَا تقيَّأْتَ! فقاء لبنًا يَصْلِد، وما في السفينة لبنٌ ولا شاة (5). قال ابن قتيبة: قوله: يَصلِد أي يبرق. يقال: صلَد اللبنُ يَصلِد. ومنه حديث عمر: أنَّ [124 أ] الطبيب سقاه لبنًا، فخرج من الطعنة أبيضَ يَصلِد (6). وكان نافعٌ القارئ إذا تكلَّم يُشَمُّ من فيه رائحةُ المسك، فقيل له: كلما قعدتَ تتطيب؟ فقال: ما أمسُّ طيبًا، ولا أقرَبه، ولكن رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في _________ (1) (ب، ط): «عبد الرحيم»، وهو خطأ. (2) في الأصل زاد بعضهم مكان الهمزة قافًا، يعني: «فاستفاق»، وكذا في (غ). (3) ما عدا (أ، غ): «وكان». (4) في الأصل: «لي». وكذا في (ب، ط، غ). وهو سهو. (5) الخبر أخرجه الفسوي في المعرفة والتاريخ (1/ 662)، ومن طريقه أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (8973) وابن عساكر في تاريخ دمشق (47/ 329). واللفظ الأخير الذي نقله ابن القاسم عن غير مالك ذكره ابن قتيبة في غريب الحديث (1/ 623) من رواية عطاء بن يسار. (6) غريب الحديث (1/ 623).

(2/548)


المنام، وهو يقرأ (1) في فمي، فمن ذلك الوقت يُشمُّ من فِيَّ هذه الرائحة (2). وذكر مَسْعَدة في كتابه في «الرؤيا» (3) عن ربيع بن يزيد الرَّقَاشي (4) قال: أتاني رجلان، فقعدا إليَّ، فاغتابا رجلاً، فنهيتُهما. فأتاني أحدهما بعدُ (5)، فقال: إني رأيت في المنام كأن زنجيًّا أتاني بطبق عليه جَنبُ خنزير لم أرَ لحمًا قطُّ أسمنَ (6) منه، فقال لي: كل، فقلت: آكل لحم خنزير؟ فتهدَّدَني (7)، فأكلتُ، فأصبحت، وقد تغيَّر فمي، فلم يزل يجدُ الريح في فمه شهرين (8). وكان العلاء بن زياد (9) له وقتٌ يقوم فيه، فقال لأهله تلك الليلة: إني _________ (1) (غ): «يتفل». ونحوه في سير أعلام النبلاء. (2) انظر: طبقات القراء للذهبي (1/ 130) وسير أعلام النبلاء (7/ 337). وقال في الطبقات: «لا تثبت هذه الحكاية من جهة جهالة رواتها». (3) لم أقف على خبر لهذا الكتاب ومؤلفه. وقد يكون مسعدة بن اليسع بن قيس الباهلي البصري. (4) يزيد بن أبان الرّقاشي البصري معروف. كان واعظًا بكّاءً صاحب عبادة. ولكن لم أجد ذكرًا لابنه ربيع. وأخشى أن يكون الصواب: «ربيع عن يزيد»، فإن ربيع بن صَبيح ممن يروي عن الرقاشي. انظر: تهذيب التهذيب (3/ 246). (5) (ب، ط، ج): «بعد ذلك». (6) (ط، ن): «قط لحمًا». وبعده في (ط): «أحسن». (7) في الأصل: «فتهداني». وفي (ب، ط، ج): «فهدَّدني». (8) أخرجه ابن ابي الدنيا في الصمت (182) والغيبة والنميمة (43) عن خالد الربعي، بسياق مختلف. (9) من زهاد التابعين. ذكره ابن كثير في وفيات سنة (78). وانظر: سير أعلام النبلاء (4/ 202).

(2/549)


أجد فَتْرةً، فإذا كان وقت كذا فأيقِظوني. فلم يفعلوا قال: فأتاني آتٍ في منامي فقال: قم يا علاءَ بن زياد، اللهُ يذكرُك (1)! وأخذ بشَعَرات في مقدَّم رأسي (2). فقامت تلك الشعراتُ في مقدَّم رأسه، فلم تزل قائمةً حتى مات. قال يحيى بن بسطام: فلقد غسلناه يوم مات، وإنَّهنَّ لَقِيامٌ في رأسه (3). وذكر ابن أبي الدنيا (4)، عن أبي حاتم الرازي، عن محمد بن علي (5) قال: كنا بمكة في المسجد الحرام قعودًا، فقام رجلٌ نصفُ وجهه أسودُ ونصفُه أبيضُ، فقال: يا أيها الناس اعتبِروا بي، فإني كنت أتناول الشيخين وأشتمُهما، فبينا أنا ذاتَ ليلة نائم، إذ أتاني آتٍ، فرفع يده، فلطم وجهي، وقال لي: يا عدوَّ الله، يا فاسقُ، ألستَ تسُبُّ أبا بكر وعمر؟ فأصبحت، وأنا على هذه الحالة. وقال محمد بن عبَّاد المُهَلَّبي (6): رأيت في المنام كأني في رَحْبةِ بني _________ (1) كذا في جميع النسخ. وفي الحلية: «اذكر الله يذكرك» وكذا في النسخ المطبوعة. (2) (ب، ط): «من مقدم رأسي». (3) أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 244) عن هشام بن زياد أخي العلاء. وليس فيه قول يحيى بن بسطام. (4) في كتاب المنامات (292) والعقوبات (312). (5) كذا في جميع النسخ الخطية والمطبوعة. وفي المنامات: «أحمد بن علي»، وفي العقوبات: «أحمد بن عبد الأعلى». ثم سقط من نُسخ الروح اسم الراوي الأخير الذي شهد القصة، وهو: أبو رَوح رجل من الشيعة. وعنه حكى القصة ابن الجوزي في مناقب عمر (244). (6) أحد الأمراء الأجواد، حدَّث عن أبيه وغيره. قال الحربي: ولم يكن بصيرًا بالحديث، مات بالبصرة سنة 214. تاريخ بغداد (2/ 37).

(2/550)


فلان، وإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - جالس على أكَمة، ومعه أبو بكر، وعمرُ واقف قدَّامَه [124 ب]. فقال له عمر: يا رسول الله، إنَّ هذا يشتمني ويشتم أبا بكر. فقال: جِئْ به يا أبا حفص. فأتَى برجل، فإذا هو العُمانيُّ، وكان مشهورًا بسبِّهما، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أضْجِعْه، فأضجَعَه. ثم قال: اذبحه، فذبحه. قال: فما نبَّهني إلا صياحُه (1). فقلت: ما لي لا أخبره، عسى أن يتوب! فلما تقرَّبتُ من منزله سمعتُ بكاءً شديدًا، فقلتُ: ما هذا البكاء؟ فقالوا: العمانيُّ ذُبِح البارحةَ على سريره. قال: فدنوتُ من عنقه، فإذا من أذنه إلى أذنه طريقةٌ حمراءُ كالدم (2) المحصور. وقال القيرواني (3): أخبرني شيخ لنا من أهل الفضل قال: أخبرني أبو الحسن المطلبي إمام مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: رأيت بالمدينة عجبًا. كان رجل يسُبُّ أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فبينا نحن يومًا من الأيام بعد صلاة الصبح، إذ أقبل رجل (4)، وقد خرجت عيناه، وسالتا على خديه. فسألناه: ما قصَّتك؟ فقال: رأيت البارحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعليٌّ بين يديه، ومعه أبو بكر وعمر؛ فقالا: يا رسول الله، هذا الذي يؤذينا ويسُبُّنا. فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن أمرك بهذا يا أبا قيس؟ فقلت له: عليٌّ، وأشرتُ إليه. فأقبل عليٌّ عليَّ بوجهه ويده، وقد ضمَّ أصابعَه، وبسَطَ السبَّابةَ والوسطى، وقصد بهما إلى عينيَّ، فقال لي: إن كنتَ كذبتَ، _________ (1) (ب، ج): «صاحبه»، تحريف. (2) في الأصل: «كالدوا»، ولعله تحريف. (3) العابر صاحب كتاب البستان. ولم أجد الخبر في موضع آخر. (4) ما عدا (أ، ق، غ): «الرجل».

(2/551)


ففقأ الله عينيك! وأدخل إصبعيه في عينيَّ (1). فانتبهتُ (2) من نومي وأنا على هذه الحال. فكان يبكي. وأخبرَ (3) الناسَ، وأعلن بالتوبة. قال القيرواني: وأخبرني شيخ من أهل الفضل قال: أخبرني فقيه قال: كان عندنا رجل يُكثِر الصومَ، ويسرُده، ولكنه كان يؤخِّر الفطر. فرأى في المنام كأنَّ أسودَينِ أخذا بضَبْعَيه وأتَيا به (4) إلى تنور مُحْمًى لِيُلقياه فيه. قال: فقلت لهما [125 أ]: على ماذا؟ فقالا: على خلافك لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه أمر بتعجيل الفِطر، وأنت تؤخِّره! قال: فأصبح وجهه قد اسودَّ من وَهَج النار، فكان (5) يمشي متبرقعًا في الناس (6). وأعجبُ من هذا: الرجلُ يَرى في المنام ــ وهو شديدُ العطش والجوع والألم ــ أنَّ غيرَه قد سقاه، أو أطعمه، أو داواه بدواء؛ فيستيقظُ وقد زال عنه ذلك كلُّه. وقد رأى الناس من هذا عجائب. وقد ذكر مالك (7)، عن أبي الرِّجال، عن عَمْرة، عن عائشة أنَّ جارية لها _________ (1) «فقال لي ... عينيَّ» ساقط من (ب، ج). (2) ما عدا (أ، ق، غ): «فهببت». (3) (ق، ن، غ): «ويخبر». (4) في النسخ المطبوعة: «آخذين بضبعيه وثيابه»، وفيه تحريفان. (5) (ب، ط، ج): «وكان». (6) لم أجد الخبر في كتاب آخر. (7) في الموطأ ــ رواية أبي مصعب (2782). وانظر: مسند أحمد (40/ 154) والمستدرك (7516) والسنن الكبرى للبيهقي (16948).

(2/552)


سَحَرتها، وأنَّ سِنديًّا (1) دخل عليها، وهي مريضة، فقال: إنكِ (2) سُحِرت. قالت: ومَنْ سحرني؟ قال: جاريةٌ في حِجْرها صبيٌّ، قد بال عليها. فدعتْ (3) جاريتَها، فقالت: حتى أغسل بولًا في ثوبي. فقالت لها: أسَحَرتِني؟ قالت: نعم. قالت: وما دعاكِ إلى ذلك؟ قالت: أردتُ تعجيلَ العِتْق. فأمرَتْ أخاها أن يبيعها من الأعراب ممن يُسيء مَلَكتَها فباعها. ثم إنَّ عائشة رأت في منامها أن اغتسلي من ثلاثة آبار يَمُدُّ بعضُها بعضًا. فاستُقِي (4) لها، فاغتسلت، فبرأت. وكان سِمَاك بن حرب قد ذهب بصرُه، فرأى إبراهيمَ الخليلَ في المنام، فمسح على عينيه، وقال: اذهب إلى الفرات، فانغمِسْ فيها ثلاثًا. ففعل، فأبصر (5). وكان إسماعيلُ بن بلال الحضرميُّ (6) قد عَمِي، فأُتي في المنام، فقيل _________ (1) في جميع النسخ الخطية: «سيِّدها»، وهو تحريف ما أثبتنا من الموطأ. وفي المستدرك والسنن: «ذكروا شكواها لرجل من الزُّطِّ يتطبب». (2) (ب، ط، ج): «فقال لها إنك قد». (3) (ن): «دُعيت». (4) (أ، غ): «فاستسقي». (5) أخرجه ابن أبي الدنيا في مجابي الدعوة (111) عن سماك نفسه. وهو من كبار تابعي أهل الكوفة، مات سنة 123. تهذيب التهذيب (4/ 233). (6) لم أجد ترجمته. ولعله أخو عبد الله بن بلال الحضرمي الذي ذكره لهيعة بن عيسى (ت 204 هـ) ممن ولي القضاء بمصر من حضرموت. (رفع الإصر: 187). والظاهر أن المصنف نقل القصة من كتاب البستان للقيرواني العابر، وهو قد حكاها عن الليث (ت 175). وقد أخرجها الخرائطي في مكارم الأخلاق (1076) عن الليث أيضًا، ولكن صاحب القصة فيها: إسماعيل بن أمية (ت 144). وفي الرسالة القشيرية (2/ 425) عن الليث أيضًا أنه قال: رأيت عقبة بن نافع ضريرًا، ثم رأيته بصيرًا .. إلخ. ولعل المقصود: عقبة بن نافع المعافري (ت 196)، فإن الليث لم يدرك الفهري.

(2/553)


له: قل: يا قريبُ، يا مجيبُ، يا سميعَ الدعاء، يا لطيفُ (1) لما يشاء، رُدَّ عليَّ بصري. فقاله، فأبصر. قال الليث بن سعد: أنا رأيته قد عَمِيَ، ثم أبصر. وقال عبيد الله بن أبي جعفر (2): اشتكيتُ شكوى، فجُهِدتُ منها (3)، فكنت أقرأ آية الكرسي. فنمت، فإذا رجلان قائمان بين يدي، فقال أحدهما لصاحبه: إنه لَيقرأ آيةً فيها ثلاثمائة وستون رحمةً (4)، أفلا يصيب هذا المسكينَ منها (5) رحمةٌ واحدة؟ فاستيقظتُ فوجدت خِفَّةً (6). قال ابن أبي الدنيا: اعتلَّت امرأة من أهل الخير والصلاح بوجع المِعدة، فرأت في المنام قائلاً يقول لها: لا إله إلا الله، المُغلَى (7) وشراب الورد. فشرِبتْه، فأذهب الله عنها ما كانت تَجِد (8). _________ (1) (ب، ط، ج): «لطيفًا». (2) «أبي» ساقط من (ط). وفي (ن): «عبد الله». وهو خطأ. وعبيد الله بن أبي جعفر (60 ــ 136) أبو بكر الحافظ فقيه مصر، من العلماء الزهاد. انظر: سير أعلام النبلاء (6/ 8). (3) (ب، ط، ج): «فيها». (4) كذا هنا. وفي عمدة القاري (18/ 107) أن في سورة البقرة كلها ثلاثمائة وستين رحمة! (5) في الأصل: «فيها». (6) لعل المصنف نقل الخبر من كتاب البستان للقيرواني ولم أجده في مصدر آخر. (7) (ق): «العلى». وحذف ناسخ (ن): «لا إلاه إلا الله». (8) لم أجده ولا الذي بعده في كتب ابن أبي الدنيا المطبوعة.

(2/554)


قال: وقالت أيضًا: رأيت في المنام (1) كأني أقول: السَّنَا والعسلُ وماءُ الحِمَّص الأسود شفاءٌ لوجع الأوراك. فلما استيقظتُ أتتني امرأةٌ تشكو وجعًا بوَرِكها، فوصفتُ لها ذلك، فانتفعَتْ به. وقال جالينوس: السبب الذي دعاني إلى فَصْدِ (2) العروق الضَّوارب أني أُمِرتُ به في منامي مرتين. قال: وكنتُ إذ ذاك غلامًا. قال: وأعرف إنسانًا شفاه الله من وجعٍ، كان به في جنبه، بفصد العرق الضارب، لرؤيا رآها في منامه. وقال ابن الجزَّار (3): كنت أعالج رجلاً ممعودًا (4)، فغاب عني ثم لقيته، فسألته عن حاله، فقال: رأيت في المنام إنسانًا في زِيِّ ناسكٍ متوكئًا على عصا، وقف عليَّ، وقال: أنت رجل ممعود؟ فقلت: نعم. فقال: عليك بالكَيَا والجُلَنْجَبين، فأصبحت، فسألت عنهما، فقيل لي: الكَيَا (5): المُصْطَكَى، _________ (1) ما عدا (أ، ق، غ): «منامي». (2) (ب، ط، ج): «لفصد». (3) في الأصل لم ينقط الجيم والزاي، ولكن وضع علامة الإهمال على الراء. وقد تصحف في غيره إلى الخزاز والخراز والجرار. وهو أبو جعفر أحمد بن إبراهيم القيرواني الطبيب الشهير (ت 369). عيون الأنباء (3/ 59)، الزركلي (1/ 85). (4) وهو من فسدت معدته. وفي (ط): «مفؤودًا» هنا وفيما يأتي، وهو المصاب في فؤاده. والمقصود هنا الأول. (5) في (ن) بالباء، وفي (ط) بالنون. وكلاهما تصحيف. والكيا والكِيَّة بالمعنى المذكور دخيلان في العربية من السريانية. وفي كتاب الصيدنة المطبوع (348): «بالسندية». ولعله تحريف السريانية. انظر: تكملة دوزي (9/ 176) ومفردات ابن البيطار (2/ 90). وقد أثبت ناشر طبعة دار ابن كثير: «الكباث»، وفسّره، فتصرّف في النص دون تنبيه على ما في نُسَخه الخطية.

(2/555)


والجُلَنْجَبِين (1): الورد المربَّى بالعسل. فاستعملتُهما أيامًا، فبرِئتُ. فقلت له: ذلك جالينوس (2). والوقائع في هذا الباب أكثرُ من أن تُذكر حتى قال بعض الناس: إن أصل الطب من المنامات، ولا ريب أن كثيرًا من أصوله مستنِدٌ إلى الرؤيا، كما أن بعضها عن التجارب، وبعضَها عن القياس، وبعضها عن إلهام. ومَن أراد الوقوف على ذلك، فلينظر في تاريخ الأطباء، وفي كتاب «البستان» للقيرواني، وغير ذلك. فصل الوجه الثاني بعد المائة: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف: 40]. وهذا دليل على أن المؤمنين تُفتَّح لهم أبواب السماء. وهذا التفتيح هو تفتيحها لأرواحهم عند الموت، كما تقدَّم في الأحاديث المستفيضة أنَّ السماء تُفتَح لروح المؤمن حتى يُنتهَى بها إلى بين يدي الرب تعالى. وأما الكافر، فلا تفتح (3) لروحه أبوابُ السماء، ولا تفتح لجسده أبواب الجنة. _________ (1) «فأصبحت ... » إلى هنا ساقط من (ن). والجلنجبين كلمة دخيلة من الفارسية. وهي مركبة من «كُلْ» بالكاف الفارسية بمعنى الورد، و «أنكَبِين» بالكاف الفارسية أيضًا بمعنى العسل. انظر: تذكرة داود (1/ 110). ومفردات ابن البيطار (1/ 166). (2) كلام ابن الجزار هذا، وما سبقه من قول جالينوس منقولان في الظاهر من كتاب البستان للقيرواني. (3) «لروح المؤمن ... تفتح» ساقط من (ب).

(2/556)


فصل الوجه الثالث بعد المائة: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا بلال، ما دخلتُ الجنة [126 أ] إلا سمعتُ خَشخَشتَك (1) بين يديَّ، فبم ذاك؟» قال: ما أحدثتُ في ليل أو نهار إلا توضأتُ وصلَّيتُ ركعتين. قال: «بهما» (2). ومعلوم أنَّ الذي سَمِع خشخشتَه بين يديه هو روحُ بلال، وإلا فجسده لم يُنقَل إلى الجنة. الوجه الرابع بعد المائة (3): الأحاديث والآثار التي في زيارة القبور والسلامِ على أهلها ومخاطبتِهم، والإخبارِ عن معرفتهم بزُوَّارهم وردِّهم عليهم السلام. وقد تقدمت الإشارة إليها (4). الوجه الخامس بعد المائة: شكايةُ كثير من أرواح الموتى (5) إلى أقاربهم وغيرهم أمورًا مؤذيةً، فيجدونها كما شكوه فيزيلونها (6). الوجه السادس بعد المائة (7): لو كانت الروح عبارةً عن عَرَض من _________ (1) الخشخشة: حركة فيها صوت. غريب الحديث للخطابي (1/ 582). (2) أخرجه الترمذي (3689)، والإمام أحمد (22996)، وابن خزيمة (1209)، وابن حبان (7086)، والحاكم (1/ 313) من طريق الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه بريدة بن الحصيب رضي الله عنه. وصحَّحه الترمذي والحاكم. (قالمي). (3) كلمة «الوجه» لم ترد في الأصل. (4) في المسألة الأولى. (5) (ب، ط، ج): «المؤمنين». (ن): «الأرواح». (6) انظر بعض الأخبار في المسألة الأولى. (7) هنا في (ب، ط، ج): «أنواع الرؤيا الصادقة على اختلافها». والعبارة مقحمة.

(2/557)


أعراض البدن، أو جوهرٍ مجرد ليس بجسم ولا حالٍّ فيه، لكان قول القائل: خرجتُ، وذهبتُ، وقمت، وجئت (1)، وقعدت، وتحرَّكت، ودخلت، ورجعت (2)، ونحو ذلك كلُّه= أقوالاً باطلة؛ لأن هذه الصفات ممتنعة الثبوت في حق الأعراض والمجرَّدات. وكلُّ عاقل يعلم صدقَ قوله وقول غيره ذلك. فالقدْحُ في ذلك قدحٌ في أظهر المعلومات، فهو من باب السَّفسَطة. ولا يقال: حاصلُ هذا الدليل التمسكُ بألفاظ الناس وإطلاقاتهم، وهي تحتمل الحقيقة والمجاز، فلعل مرادَهم: دخَلَ جسمي وخرَجَ؛ لأنا إنما استدللنا بشهادة العقل والفِطَر بمعاني هذه الألفاظ، فكلُّ أحد يشهد عقلُه وحسُّه بأنه هو الذي دخَلَ وخرَجَ وانتقَلَ، لا مجرد بدنه، فشهادةُ الحسِّ والعقل بمعاني هذه الألفاظ وإضافتُها إلى الروح أصلاً وإلى البدن تَبَعًا من أصدق الشهادات. [126 ب] والاعتمادُ على ذلك، لا على مجرَّدِ الإطلاق اللفظي. الوجه السابع بعد المائة: أن البدن مَرْكَبٌ ومحلٌّ (3) لتصرف النفس، فكان دخولُ البدن وخروجُه وانتقالُه جاريًا مجرَى دخولِ مركَبِه من فرسه ودابته. فلو كانت النفس (4) غيرَ قابلةٍ للدخول والخروج والانتقال والحركة _________ (1) (ب، ط، ج): «قمت وجئت». (2) (ب، ط، ج): «رفعت». (3) في جمع النسخ ما عدا (ن): «مركبًا ومحلَّا». ولعل ناسخ (ن) أصلح ما وقع في أصله من السهو. وقد أصلح ناسخ (ج) أيضًا ولكن بتغيير «البدن» إلى «للبدن»، فأحال المعنى. (4) «فكان ... النفس» ساقط من (ب). وكلمة «غير» بعده ساقطة من (ق).

(2/558)


والسكون، لكان ذلك بمنزلة دخولِ مركب الإنسان إلى الدار وخروجه منها دون دخوله هو. وهذا معلومُ البُطلانِ بالضرورة. وكلُّ أحدٍ (1) يعلم أن نفسه وروحَه هي التي دخلت، وخرجت، وانتقلت؛ وصَرَّفت البدن، وجعلته تَبَعًا لها في الدخول والخروج. فهو لها بالأصل، وللبدن (2) بالتَّبع؛ لكنه للبدن بالمشاهدة، وللروح (3) بالعلم والعقل. الوجه الثامن بعد المائة: أن النفس لو كانت كما يقوله من يقول: إنها عَرَض، لكان الإنسان كلَّ وقت قد تبدَّل (4) مائة ألف نفسٍ أو أكثر ــ والإنسان إنما هو إنسان بروحه ونفسه، لا ببدنه ــ وكان الإنسان الذي هو الآن غيرَ الذي هو قبله بلحظة، وبعده بلحظة، وهذا من نوع الهوَس. ولو كانت الروح مجرَّدةً، تعلُّقُها (5) بالبدن بالتدبير فقط، لا بالمساكنة والمداخلة، لم يمتنع أن ينقطع تعلُّقُها بهذا البدن، وتتعلقَ بغيره، كما يجوز انقطاع تدبير المدبِّر لبيت أو مدينة عنها ويتعلقُ بتدبير غيرها. وعلى هذا التقدير (6) فنصير شاكِّين في أن هذه النفس التي لزيد هي النفس الأولى أو غيرها؟ وهل زيدٌ هو ذلك الرجل أم غيره؟ وعاقلٌ لا يجوِّز ذلك! فلو كانت _________ (1) (ب، ط): «فكل أحد». (2) (ب، ط، ج): «والبدن». (3) (ب، ط، ج): «والروح». (4) الأصل غير منقوط، وفي غيره ما أثبتنا. وفي النسخ المطبوعة: يبدل. (5) (ن): «مجرَّدُ تعلُقِها»، والصواب ما أثبتنا من غيرها. وسيأتي مثله في الوجه العاشر بعد المائة. وفي النسخ المطبوعة في الموضعين: «وتعلُّقُها» بزيادة الواو، ولعله من تصرف الناشرين. (6) (ن): «القول».

(2/559)


الروح عَرَضًا أو أمرًا مجرَّدًا لحصل الشكّ المذكور. الوجه التاسع بعد المائة: أنَّ كل أحد يقطع أن نفسه موصوفة بالعلم والفكر والحب والبغض والرضا والسخط وغيرها من الأحوال النفسانية، ويعلم أن الموصوف بذلك ليس عَرَضًا [127 أ] من أعراض بدنه، ولا جوهرًا مجرَّدًا منفصلًا عن بدنه غيرَ محايثٍ (1) له، ويقطع ضرورةً بأن هذه الإدراكات لأمرٍ داخلٍ في بدنه، كما يَقْطع بأنه إذا سمع، وأبصر، وشمَّ، وذاق، ولمس، وتحرَّك، وسكن= فتلك أمورٌ قائمة به، مضافةٌ إلى نفسه؛ وأن جوهر النفس هو الذي قام به ذلك كلُّه، لم يقم بمجرَّده (2)، ولا بعرَضٍ، بل قام بمتحيِّزٍ داخلَ العالم، منتقلٍ من مكان إلى مكان، يتحرَّك ويسكن، ويخرج ويدخل. وليس إلا هذا البدنَ، والجسمَ الساريَ فيه المشابكَ له الذي لولاه لكان بمنزلة الجماد. الوجه العاشر بعد المائة: أنَّ النفس لو كانت مجرَّدةً، وتعلُّقُها بالبدن تعلُّقُ التدبير فقط، كتعلق الملَّاحِ بالسفينة، والجمَّالِ بجمله= لأَمكَنها تركُ تدبير هذا البدن، واشتغالُها بتدبيرِ بدنٍ آخرَ، كما يمكن الملَّاحَ والجمَّالَ ذلك. وفي ذلك (3) تجويزُ تنقُّلِ النفوس من أبدان إلى أبدان. ولا يقال: إنَّ النفسَ اتَّحدت ببدنها، فامتنع عليها الانتقالُ؛ أو أنها لها عِشقٌ طبيعي وشوقٌ ذاتي إلى تدبير هذا البدن، فلهذا السبب امتنع انتقالُها. _________ (1) في (ن): «مجاذب»، وفي غيرها: «محارب». وفي حاشية (غ): «لعله محايث». وهو الذي رجَّحته. وفي النسخ المطبوعة: «مجاور». (2) (ب، ط، ج): «بمجرَّد». (3) «وفي ذلك» ساقط من (أ، ط). و «في» ساقطة من (ب، ج).

(2/560)


لأنا نقول: اتحاد ما لا يتحيَّز بالمتحيِّز مُحالٌ، ولأنها لو (1) اتحدت به لبطلتْ ببطلانه، ولأنها بعد الاتحاد (2) إن بقيا فهما اثنان لا واحد، وإن عَدِما معًا وحدث ثالث فليس من الاتحاد في شيء، وإن بقي أحدهما وعُدم الآخر (3) فليس باتحاد أيضًا. وأما عشقُ النفس الطبيعي للبدن، فالنفسُ إنما تعشقه لأنها تنال اللذاتِ بواسطته. وإذا كانت الأبدان متساويةً في حصول مطلوبها كانت نسبتها إليها على السواء. فقولكم: إنَّ النفس المعيَّنة عاشقةٌ للبدن المعيَّن، باطل. ومثال ذلك: العطشان إذا صادف آنيَةً متساويةً كلٌّ منها يُحصِّل غرضَه، امتنع عليه أن يعشق واحدًا منها بعينه دون سائرها. الوجه الحادي عشر بعد المائة: أنَّ نفسَ الإنسان [127 ب] لو كانت جوهرًا مجرَّدًا، لا داخلَ العالم ولا خارجَه، ولا متصلةً بالعالم ولا منفصلةً عنه، ولا مُبايِنةً له ولا مُحايثةً (4)، لكان يَعلمُ بالضرورة أنه موجود بهذه الصفة، لأن (5) _________ (1) (ب، ج): «ولو أنها». (2) في الأصل بعده زيادة: «في شيء»، والسياق غير محتاج إليه. ولعل بصر الناسخ انتقل إلى ما جاء بعد سطر. (3) «فليس ... الآخر» ساقط من (ب). (4) (ق): «مجانبة»، وكذا في النسخ المطبوعة، وغيَّر بعضهم في (ط) إلى «محاذية»، وكلاهما تصحيف. (5) ما عدا (غ): «أن»، فإن رسم «لأن» في خط المصنف يشبه «أن». انظر مثلاً مسودة طريق الهجرتين ق (4/أ).

(2/561)


علم الإنسان بنفسه وصفاتها أظهرُ من كل معلوم؛ لأن (1) علمَه بما عداه تابعٌ لعلمه بنفسه. ومعلوم قطعًا أن ذلك باطل، فإن جماهير أهل الأرض يعلمون أن إثبات هذا الموجود مُحالٌ في العقول شاهدًا وغائبًا، فمن قال ذلك في نفسه وربِّه فلا نفسَه عَرَف، ولا ربَّه عَرَف. الوجه الثاني عشر بعد المائة: أن هذا البدن المشاهَد محلٌّ لجميع صفات النفس وإدراكاتها الكلِّية والجزئية، ومحلٌّ للقدرة (2) على الحركات الإرادية، فوجب أن يكون الحاملُ لتلك الإدراكات والصفات هو البدن وما سكن فيه. فأما أن يكون محَلُّها جوهرًا مجرَّدًا لا داخل العالم ولا خارجه فباطل بالضرورة. الوجه الثالث عشر بعد المائة: أن النفس لو كانت مجردةً عن الحجميَّة والتحيُّز لامَتنعَ أن يتوقف فعلُها على مماسَّة محلِّ الفعل، لأنَّ ما لا يكون متحيِّزًا يمتنع أن يصير مماسًّا للمتحيز. ولو كان الأمر كذلك لكان فعلها على سبيل الاختراع، من غير حاجة إلى حصول مماسَّةٍ وملاقاة بين الفاعل وبين محلِّ الفعل؛ فكان الواحد منَّا يقدر على تحريك الأجسام من غير أن يُماسَّها أو يماسَّ شيئًا يماسُّها. فإن النفس عندكم كما كانت قادرةً على تحريك البدن من غير أن يكون بينها وبينه مماسَّة، كذلك لا تمتنع (3) قدرتها على تحريك جسم غيره من غير (4) مماسَّةٍ له ولا لما يماسُّه، وذلك باطل بالضرورة. فعُلِم _________ (1) كذا في (ج). وفي (غ): «فإن». ولما كان في الأصل وغيره: «أن» رجحنا قراءة (ج). انظر الحاشية السابقة. وفي النسخ المطبوعة: «وأن». (2) (ب، ط، ج، ن): «القدرة». (3) (ق): «لا تمنع». (4) «أن يكون بينها ... غير» ساقط من الأصل لانتقال النظر. وجزء من هذه العبارة ساقط من (غ).

(2/562)


أنَّ النفس لا تقوى على التحريك إلا بشرطِ أن تماسَّ محلَّ الحركة أو تماسَّ ما يماسُّه، وكلُّ ما كان مماسًّا للجسم أو لما يماسُّه فهو جسم. فإن قيل يجوز أن يكون تأثيرُ النفس في تحريك بدنها الخاصِّ غيرَ مشروط بالمماسَّة، وتأثيرُها في تحريك غيره موقوفٌ على حصول المماسَّة بين بدنها وبين ذلك الجسم. فالجواب: أنه لمَّا كان [128 أ] قبولُ البدن لتصرفات النفس لا يتوقفُ على حصول المماسَّة بين النفس وبين البدن، وجبَ أن تكون الحالُ كذلك في غيره من الأجسام، لأن (1) الأجسام متساوية في قَبول الحركة. ونسبةُ النفس إلى جميعها سواءٌ، لأنها إذا كانت مجرَّدةً عن الحجمية وعلائقِ الحجمية كانت نسبةُ ذاتها إلى الكل بالسَّويَّة. ومتى كانت ذاتُ الفاعل نسبتُها إلى الكل بالسوية (2)، والقوابلُ نسبتُها إلى ذلك الفاعل بالسوية= كان التأثير بالنسبة إلى الكلِّ على السواء. فإذا استغنى الفاعلُ عن مماسَّة محلِّ الفعل في حقِّ البعض وجبَ أن يستغني في حق الجميع، وإن افتقر إلى المماسَّة في البعض وجب افتقارُه في الجميع. فإن قيل (3): النفس عاشقةٌ لهذا البدن دون غيره، فكان تأثيرها فيه أقوى _________ (1) هنا أيضًا في الأصل: «أن». وكذا في (ق، غ). وفي (ط): «إذ». والمثبت من (ج). وهي ساقطة من (ب، ن). (2) «ومتى ... بالسوية» ساقط من الأصل. وجزء من هذه العبارة ساقط من (ن). وما بعدها «والقوابل ... الفاعل» ساقط من (غ). وقد وقع فيها تحريف في (ق، ط). وإنما ورد النص كاملاً وسليمًا في (ج). (3) (ق): «وإن».

(2/563)


من تأثيرها في غيره. قيل: هذا العشقُ الشديد يقتضي أن يكون تعلُّقُها بالبدن أكثر، وتصرفُها فيه أقوى (1)، فأما أن يتغير مقتضَى ذاتِها بالنسبة إلى هذه الأجسام فذلك مُحالٌ. وهذا دليل في غاية القوة. الوجه الرابع عشر بعد المائة: أن العقلاءَ كلَّهم متفقون على أن الإنسان هو هذا الحيُّ الناطق المتغذِّي (2) النامي الحساس المتحرك بالإرادة. وهذه الصفاتُ نوعان: صفاتٌ لِبدنه، وصفاتٌ لِروحه ونفسه الناطقة، فلو كانت الروح جوهرًا مجردًا، لا داخلَ العالم ولا خارجَه، ولا متصلةً به ولا منفصلة عنه= لكان الإنسان لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متَّصلًا به ولا منفصلًا عنه (3)، أو كان بعضُه في العالم، وبعضُه لا خارج العالم ولا داخله. وكلُّ عاقلٍ يعلم بالضرورة بُطلان ذلك، وأن الإنسان بجملته داخل العالم، بدنَه وروحَه. وهذا في البطلان يضاهي قول من قال: إن نفسه قديمةٌ غيرُ مخلوقة، فجعلوا نصفَ الإنسان مخلوقًا، ونصفَه غيرَ مخلوق. فإن قيل: نحن نسلِّم أن الإنسان كما ذكرتم إلا أنَّا نثبتُ جوهرًا يدبِّر (4) الإنسانَ الموصوف بهذه الصفات. _________ (1) «من تأثيرها ... أقوى» ساقط من الأصل. (2) (ب، ط، ج): «المغتذي». (3) «لكان الإنسان ... عنه» ساقط من الأصل. (4) هذا في (ق) والنسخ المطبوعة. وفي (أ، غ): «ببدن». وفي (ب، ط): «بدن». ولعله تصحيف. وفي (ج): «في بدن». وفي (ن): «مجرّدًا للإنسان» فحذف الكلمة!

(2/564)


قلنا: فذلك الجوهرُ الذي أثبتُّموه مغايرٌ للإنسان (1)، أم هو حقيقةُ الإنسان؟ ولابد لكم من أحد الأمرين. فإن قلتم: هو حقيقة الإنسان، تناقضتم تناقضًا بيِّنًا. وإن (2) قلتم: هو غيرُ الإنسان، رجعَ كلامكم إلى أنكم أثبتُّم للإنسان [128 ب] مدبِّرًا غيرَه سميتموه نفسًا. وكلامنا الآن إنما هو في (3) حقيقة الإنسان، لا في مدبِّره؛ فإنَّ مدبِّرَ الإنسان وجميع العالم العلويِّ والسفلي هو الله الواحد القهار. الوجه الخامس عشر بعد المائة: أن كلَّ عاقل إذا قيل له: ما الإنسان؟ فإنه يشير إلى هذه البِنيَة وما قام بها، لا يخطرُ بباله أمرًا مغايرًا لها مجرَّدًا (4) ليس في العالم ولا خارجه، والعلم بذلك ضروريٌّ لا يقبل شكًّا ولا تشكيكًا. الوجه السادس عشر بعد المائة: أنَّ عقول العالمين قاضيةٌ بأن الخطاب متوجِّه إلى هذه البنية وما قام بها وساكَنَها، وكذلك المدح والذم، والثواب والعقاب، والترغيب والترهيب. ولو أن رجلاً قال: المأمورُ المنهيُّ (5)، والممدوح والمذموم، والمخاطَب العاقل= جوهرٌ مجرَّدٌ، ليس في العالم _________ (1) (أ، ق): «يغاير للإنسان». (ب، ط): «مغاير الإنسان». والمثبت من (ج). (2) «قلتم ... وإن» ساقط من (أ، غ). وهنا انتهى الخرم الذي وقع في (ز). (3) «في» ساقط من (أ، ب، ق، ز). (4) كذا في جميع النسخ. وفي النسخ المطبوعة: «أمر مغاير لها مجرد»، ولعله من تصرف الناشرين. ونصب «أمرًا» على أنه حال من الضمير في «يخطر» العائد على الإنسان. (5) (ط): «والمنهي».

(2/565)


ولا خارجه، ولا متصل به ولا منفصل (1) عنه= لأضحكَ العقلاء على عقله، ولأطبقوا على تكذيبه. وكلُّ ما شهدت بدائهُ العقولِ وصرائحُها ببطلانه، كان الاستدلالُ على ثبوته استدلالاً على صحة وجود المحال. وبالله التوفيق. فصل [أدلَّة المنازعين] فإن قيل: قد ذكرتم الأدلَّة الدالَّة على جسميَّتها وتحيُّزها، فما جوابكم على أدلَّة المنازعين لكم في ذلك؟ فإنهم استدلُّوا بوجوه (2): أحدها: اتفاقُ العقلاء على قولهم: الروح والجسم، والنفس والجسم، فيجعلونها شيئًا غير الجسم. فلو كانت جسمًا لم يكن لهذا القول معنى. الثاني ــ وهو أقوى ما يحتجُّون به ــ: أنه من المعلوم أن في الموجودات ما هو غيرُ قابلٍ للقسمة، كالنقطة، والجوهر الفرد، بل ذاتُ واجبِ الوجود؛ فوجب أن يكون العلم بذلك غيرَ قابل للقسمة (3)، فوجب أن يكون الموصوفُ بذلك العلم ــ وهو محله ــ غيرَ قابلٍ للقسمة، وهو النفس. فلو كانت جسمًا لكانت قابلةً للقسمة. ويُقرَّرُ (4) هذا الدليل على وجه آخر: وهو أنَّ محل العلوم الكلِّية لو كان جسمًا أو جسمانيًّا لانقسمت تلك (5) العلوم؛ لأن الحالَّ في المنقسم _________ (1) (ق): «متصلًا ... منفصلًا». (2) انظر جملة منها في رسالة ابن سينا في السعادة والحجج العشرة على أن النفس الإنسانية جوهر (5 ــ 12) وكتاب المعتبر لأبي البركات البغدادي (2/ 357 ــ 359). (3) «فوجب ... القسمة» ساقط من الأصل. و «كالنقطة ... القسمة» ساقط من (ط). (4) هذا في الأصل. وفي (غ): «ونقرر». وفي غيرها: «وتقرَّر». (5) (ب، ط، ج): «بذلك».

(2/566)


منقسمٌ، وانقسامُ تلك العلوم مستحيل. الثالث: أنَّ الصور [129 أ] العقلية الكلِّية مجرَّدة بلا شكّ، وتجرُّدُها إما أن يكون بسبب المأخوذ عنه، أو بسبب الآخذ. والأول باطل، لأن هذه الصورَ إنما أُخذت عن الأشخاص الموصوفة بالمقادير المختلفة والأوضاع المعيَّنة، فثبتَ أنَّ تجرُّدَها إنما هو بسبب الآخذ لها، وهو القوة العقلية المسمَّاة بالنفس. الرابع: أنَّ القوة العاقلة تقوَى على أفعال غير متناهية، فإنها تقوى على إدراكات لا تتناهى. والقوةُ الجسمانيةُ لا تقوى على أفعال غير متناهية؛ لأن القوة الجسمانية تنقسم بانقسام محلِّها. فالذي يقوَى عليه بعضُها يجب أن يكون أقلَّ من الذي يقوى عليه كلُّها، فالذي يقوى عليه الكلُّ يزيد على الذي يقوى عليه البعضُ أضعافًا (1) متناهية، والزائدُ على المتناهي بمتناهٍ متناهٍ. الخامس: أنَّ القوة العاقلة لو كانت حالَّةً في آلة جسمانية لوجب أن تكون القوةُ العاقلةُ دائمةَ الإدراك لتلك الآلة، أو ممتنعةَ الإدراك لها بالكلِّية. وكلاهما باطل، لأن إدراك (2) القوة العاقلة لتلك الآلةِ إن كان عينَ وجودها فهو محال. وإن كان صورةً مساويةً (3) لوجودها، وهي حالَّةٌ في القوة العقليةِ الحالّةِ في تلك الآلة، لزم اجتماعُ صورتين متماثلتين، وهو محال. _________ (1) في الأصل: «اصعا». وكذا في (ق، ب، ط) بالفاء، مع علامة «ظ» أو «كذا» فوقها. وكأن المصنف كتب في مسوَّدته نصف الكلمة سهوًا. وكتب ناسخ (ن) في موضعها: «فتكون». ووردت في (ز، ج) على الصواب. (2) في (ن، ز): «باطل وإدراك». (3) (ب، ط، ج): «متساوية».

(2/567)


وإذا بطل هذا ثبتَ (1) أن القوة العاقلة لو أدركت آلتَها لكان إدراكُها عبارةً عن نفس حصول تلك الآلة عند القوة العاقلة. فيجب حصولُ الإدراك دائمًا، إن كفى هذا القدْرُ ضمن (2) حصول الإدراك. وإن لم يكفِ امتنع حصولُ الإدراك في وقت من الأوقات، إذ لو حصل في وقتٍ دون وقت لكان بسببِ أمرٍ زائدٍ على مجرد حضور صورة الآلة (3). السادس: أن كل أحد يدرك (4) نفسه، وإدراكُ الشيء عبارةٌ عن حضور ماهية المعلوم عند العالِم. فإذا علمنا [129 ب] أنفسَنا، فهو إما أن يكون لأجْلِ حضور ذواتنا لذواتنا، أو لأجل حضور صورةٍ مساويةٍ (5) لذواتنا في ذواتها. والقسم الثاني باطلٌ، وإلا لزم اجتماع المثلَين. فثبت أنه لا معنى لعلمنا بذاتنا إلا حضورُ ذاتنا عند ذاتنا، وهذا إنما يكون إذا كانت ذاتًا (6) قائمةً بالنفس غنيَّة عن المحلِّ؛ لأنها لو كانت حالّةً في محلٍّ كانت حاضرةً عند ذلك المحلِّ. فثبت أنَّ هذا المعنى إنما يحصل إذا كانت النفس قائمةً بنفسها، غنيَّةً عن محلٍّ تحُلُّ فيه. السابع: ما احتجَّ به أبو البركات البغداديُّ (7)، وأبطل ما سواه، فقال: لا _________ (1) في الأصل: «ثبت هذا بطل». ولعله سهو. (2) في (ج) والنسخ المطبوعة: «في». وفي النسخ الخطية الأخرى كلها: «فمن»، فقرأتها كما أثبت. (3) في (أ، ق): «الأدلة»، تحريف. وكلمة «صورة» قبلها ساقطة من (ق، ن). (4) (ب، ج): «مدرك». (5) (ب، ط، ج): «متساوية». (6) ما عدا (أ، ق): «ذاتنا». (7) لم أجده في كتابه «المعتبر». ولعل النقل من رسالته في النفس وقطعته التي وصلت إلينا ليس فيها هذا البحث.

(2/568)


نشكُّ (1) أن الواحد منَّا يمكنه أن يتخيَّل بحرًا من زئبق، وجبلًا من ياقوت، وشموسًا وأقمارًا. فهذه الصور الخيالية لا تكون معدومةً؛ لأن قوة المتخيِّل تشير إلى تلك الصور، وتميِّز بين كلِّ صورة وغيرِها. وقد يقوى ذلك المتخيَّل إلى أن يصير كالمشاهَد المحسوس. ومعلومٌ أن العدم المحض، والنفي الصِّرف لا يَثْبُت فيه ذلك. ونحن نعلم بالضرورة أنَّ هذه الصور ليست موجودة في الأعيان، فثبت أنها موجودة في الأذهان. فنقول: مَحلُّ هذه الصورة إما أن يكون جسمًا أو حالًّا في الجسم، أو لا جسمًا ولا حالًّا في الجسم. والقسمان الأولان باطلان. لأن صورة البحر والجبل صورة عظيمة، والدماغ والقلب جسم صغير، وانطباعُ العظيم في الصغير محال. فثبت أن محلَّ هذه الصورة الخيالية ليس بجسم ولا جسماني. الثامن: لو كانت القوة العقلية جسمانيَّة (2) لضعفتْ في زمان الشيخوخة دائمًا، وليس كذلك. التاسع: أنَّ القوة العقلية غنيَّة في أفعالها عن الجسم، وما كان غنيًّا في فعله عن الجسم وجَبَ أن يكون غنيًّا في ذاته عن الجسم. بيان الأول: أن القوة العقلية تدرك نفسَها، ومن المحال أن يحصل بينها وبين نفسها آلة متوسطة. وأيضًا تدرك (3) إدراكها لنفسها، وليس هذا الإدراك بآلة. وأيضًا فإنها تدرك الجسم الذي هو آلتُها، وليس بينها وبين آلتها آلةٌ أخرى. _________ (1) (ب، ط، ج، غ): «لا شك». (2) ما عدا الأصل و (غ): «جسدانية». (3) ما عدا (ب، ط، ج): «متوسطة أيضًا. وتدرك».

(2/569)


وبيان الثاني من وجهين: أحدهما [130 أ]: أنَّ القوى الجسمانية كالناظرة (1) والسامعة والخيال والوهم (2)، لما كانت جسمانيةً تعذَّر عليها إدراكُ ذواتها، وإدراكُها لكونها مدركةً لذواتها، وإدراكُها لتلك الأجسام الحاملة لها. فلو كانت القوة العقلية جسمانيةً لتعذَّر عليها هذه الأمور الثلاثة. الثاني: أنَّ مصدر الفعل هو النفس. فلو كانت النفس متعلِّقةً في قوامها ووجودها بالجسم لم تحصل تلك الأفعالُ إلا بشركة من الجسم. ولمَّا ثبت أنَّه ليس كذلك ثبت أنَّ القوة العقلية غنيَّة عن الجسم (3). العاشر: أنَّ القوة الجسمانية تكِلُّ بكثرة الأفعال، ولا تقوى على القوي بعد الضَّعيف. وسببه ظاهر، فإن القُوَى الجسمانية بسبب مزاولة الأفعال تتعرَّض موادُّها للتحلُّل والذبول، وهو يوجب الضعف. وأما القوة العقلية فإنها لا تضعف بسبب كثرة الأفعال، وتقوى على القوي بعد الضعيف، فوجب أن لا تكون جسمانية. الحادي عشر: أنَّا إذا حكمنا بأنَّ السواد مضادٌّ للبياض وجبَ أن يحصل في الذهن ماهيةُ السواد والبياض، والبديهةٌ حاكمةٌ بأنَّ اجتماعَ السواد والبياض والحرارة والبرودة في الأجسام محالٌ، فلما حصل هذا الاجتماع في القوة العقلية وجب أن لا تكون قوة جسمانية. _________ (1) (ب، ط، ج): «الباصرة». (2) تحرف في (ب، ط، ج) إلى «وجوه». (3) «ولما ثبت ... الجسم» ساقط من (ب، ط).

(2/570)


الثاني عشر: أنه لو كان محلُّ الإدراكات جسمًا، وكلُّ جسم ينقسمُ (1) لا محالةَ، لم يمنع (2) أن يقوم ببعض أجزاء الجسم عِلْمٌ بالشيء، وبالبعض الآخر منه جهلٌ، وحينئذٍ فيكون الإنسان في الحال الواحد عالمًا بالشيء، وجاهلاً به. الثالث عشر: أن المادة الجسمانية إذا حصلت فيها نفوس مخصوصة، فإنَّ وجود تلك النفوس فيها يمنع من حصول نفوسٍ غيرها. وأما النفوسُ العقلية فبالضدِّ من ذلك [130/ب]؛ لأنَّ النفس (3) إذا كانت خاليةً من جميع العلوم والإدراكات فإنه يصعب عليها التعلُّمُ. فإذا تعلمت شيئًا صار حصولُ تلك العلوم مُعينًا على سهولة غيرها. فالنفوسُ (4) الجسمانيةُ متغايرة متنافية، والنفوسُ العقليةُ متعاونة متعاضدة. الرابع عشر: أن النفس لو كانت جسمًا لكان بين إرادةِ العبد تحريكَ رجله وبين تحريكِها زمانٌ على قدْرِ حركة الجسم وثِقَله (5). فإن النفس هي المحركةُ للجسم والمريدةُ لحركته، فلو كان المحرِّك للرجل جسمًا، فإما أن يكون حاصلاً في هذه الأعضاء، أو جائيًا إليها. فإن كان جائيًا إليها احتاج إلى مدَّة، ولابدَّ. وإن كان حاصلاً فيها، فنحن إذا قطعنا تلك العضَلَة (6) التي _________ (1) كذا في الأصل و (غ). وفي غيرهما: «منقسم». (2) ما عدا الأصل و (غ، ق): «لم يمتنع». (3) (أ، ق، غ): «الأنفس». وقد سقط بعده «إذا كانت» من (ب، ط، ج). (4) في الأصل: «فالنفس»، وهو سهو. وكذا في (ق، غ). (5) الأصل غير منقوط. وفي (ج) والنسخ المطبوعة كما أثبتنا. وفي غيرها: «نقله». (6) (ب، ط، ج): «الأعضاء».

(2/571)


تكون بها الحركةُ لم يبق منها في العضو المتحرك شيء. فلو كان ذلك المتحركُ حاصلاً فيه لَبقي منه شيء في ذلك العضو. الخامس عشر: لو كانت النفس جسمًا لكانت منقسمةً ولصحَّ (1) عليها أن يُعلَم بعضُها كما يُعلَم كلُّها، فيكون الإنسان عالمًا ببعض نفسه، جاهلاً بالبعض الآخر، وذلك محال. السادس عشر: لو كانت النفس جسمًا لوجب أن يَثْقُل البدن بدخولها فيه؛ لأن شأن الجسم الفارغ إذا ملأَه غيرُه أن يثقل به، كالزِّقِّ الفارغ، والأمرُ بالعكس فأخفُّ ما يكون البدن إذا كانت فيه النفس، وأثقل ما يكون إذا فارقته. السابع عشر: لو كانت النفس جسمًا لكانت على صفات سائر الأجسام التي لا يخلو منها (2) من الخفة والثقل، أو الحرارة والبرودة، أو النعومة والخشونة، أو السواد والبياض (3)، وغيرِ ذلك من صفات الأجسام وكيفياتها. ومعلوم أن الكيفيات النفسانية إنما هي الفضائلُ والرذائل لا تلك الكيفيات الجسمانية، فالنفسُ ليست جسمًا. الثامن عشر: أنها لو كانت [131 أ] جسمًا لوجب أن تقع تحت جميع الحواسِّ، أو تحت حاسَّةٍ منها أو حاسَّتين أو أكثر، فإنا نرى الأجسام كذلك _________ (1) (ب، ط، ج، ن): «يصح»، تصحيف. (2) كذا في جميع النسخ. وفي النسخ المطبوعة زيادة دون تنبيه: «شيء منها» وهو المقصود. (3) هذا في الأصل و (ز). والنسخ الأخرى اضطربت، فأثبتت (ق، ن، غ) «أو» مكان الواو قبل «النعومة» و «السواد». و (ب، ط، ج) قبل «السواد» فقط.

(2/572)


منها ما يُدرَك بجميع الحواس، ومنها ما يُدرَك بأكثرها، ومنها ما يُدرَك بحاستين منها أو بواحدة. والنفسُ بريئة من ذلك كله. وهذه الحجَّةُ التي احتجَّ بها جَهْم على طائفة من الملاحدة حين (1) أنكروا الخالق سبحانه، وقالوا: لو كان موجودًا لوجب أن يُدرَك بحاسَّة من الحواس؛ فعارضهم بالنفس. وإنَّما تتمُّ المعارضة إذا لم تكن جسمًا (2)، وإلا فلو كانت جسمًا لجاز إدراكُها ببعض الحواس. التاسع عشر: لو كانت جسمًا لكانت ذاتَ طول وعرض وعمق وسطح وشكل، وهذه المقادير والأبعاد لا تقوم إلا بمادَّةٍ ومحلٍّ. فإن كانت مادَّتُها ومحَلُّها نفسًا لزم اجتماع نفسَين. وإن كانت (3) غيرَ نفس كانت النفس مركَّبةً من بدن وصورة، وهي في جسدٍ مركَّبٍ من بدن وصورة، فيكون الإنسان إنسانين. العشرون: أنَّ من خاصة الجسم أن يقبل التجزِّي (4)، والجزء الصغير منه ليس كالكبير، ولو قبلت التجزِّي فكلُّ جزء منها إن كان نفسًا لزِم أن يكون للإنسان نفوس كثيرة، لا نفس واحدة. وإن لم يكن نفسًا لم يكن _________ (1) ما عدا (غ، ز): «حتى»، تصحيف. وقد حذفها ناسخ (ن). (2) في النسخ المطبوعة: «وأنَّى تتمُّ المعارضة إذا كانت جسمًا» خلافًا لجميع النسخ الخطية التي بين أيدينا. وقد تحرّف «وإنما تتم» في الأصل إلى «واناهم» دون نقط النون، وفي (ب) إلى «واراهم». فلعل بعضهم قرأها: «وأنى تتم»، ولكن ليس في شيء من النسخ: «إذا كانت جسمًا». (3) (أ، ز، ن، غ): «كان». (4) كذا في جميع النسخ موضع التجزُّؤ.

(2/573)


المجموع نفسًا، كما أنَّ جزءَ الماء إن لم يكن ماءً لم يكن مجموعُه ماء. الحادي والعشرون: أنَّ الجسم محتاجٌ (1) في قوامه وحفظه وبقائه إلى النفس، ولهذا يضمحلُّ ويتلاشى لمَّا تفارقُه (2). فلو كانت جسمًا لكانت محتاجةً إلى نفس أخرى، وهلمَّ جَرًّا، ويتسلسل الأمر. وهذا المحالُ إنما لزم من كون النفس جسمًا. الثاني والعشرون: لو كانت جسمًا لكان اتصالُها بالجسم إن كان على سبيل المداخلة لزمَ تداخلُ الأجسام. وإن كان على سبيل الملاصقة والمجاورة كان الإنسان الواحد جسمين متلاصِقَين: أحدهما يُرى، والآخر لا يُرى. فهذا كلُّ ما مَوَّهْت به هذه [131 ب] الطائفة المبطِلة من منخنقة وموقوذة ومتردِّية! ونحن نجيبهم عن ذلك (3) كلِّه فصلاً بفصل (4)، بحول الله وقوته ومعونته (5). _________ (1) (ب، ط، ج): «يحتاج». (2) كذا في جميع النسخ. وقد أدخل المصنف لمَّا الحينيَّة الخاصَّة بالماضي على المضارع في مواضع أخرى أيضًا من كتبه. انظر مثلاً: النونية (442، 1201، 3081). (3) (أ، ق، غ): «على ذلك». (4) (ن): «فصلًا فصلًا». (5) «ومعونته» ساقط من (ن، ز).

(2/574)


فصل [الجواب عن أدلَّة المنازعين] فأما قولهم: إنَّ العقلاءَ متفقون على قولهم: الروح والجسم، والنفس والجسم؛ وهذا يدلُّ على تغايرهما. فالجواب: أن يقال: إن مسمَّى الجسم في اصطلاح المتفلسفةِ والمتكلِّمين أعمُّ من مسمَّاه في لغة العرب وعُرْف أهل العرف. فإن الفلاسفة يطلقون الجسمَ على قابلِ الأبعاد الثلاثة، خفيفًا كان أو ثقيلًا، مرئيًا كان أو غير مرئي؛ فيسمُّون الهواءَ جسمًا، والنار جسمًا، والماء جسمًا (1). وكذلك الدخان، والبخار، والكواكب. ولا يُعرف في لغة العرب تسميةُ شيء من ذلك جسمًا البتَّة. فهذه لغتهم وأشعارهم، وهذه النقول عنهم في كتب اللغة. قال الجوهري (2): «قال أبو زيد: الجسم: الجسد. وكذلك الجُسْمان، والجُثْمان. قال الأصمعي: الجسم والجُسمان: الجسد. والجُثْمان: الشخص. وقد جَسُم الشيءُ أي: عظُمَ، فهو عظيم جَسيم (3)، وجُسام بالضم». ونحن إذا سمَّينا النفس جسمًا، فإنما هو باصطلاحهم وعُرْفِ خطابهم، _________ (1) «والماء جسمًا» ساقط من (ب، ج). (2) في الصحاح (5/ 1887). (3) كذا في جميع النسخ الخطية والمطبوعة ما عدا (غ، ز)، وكلمة «عظيم» لا وجود لها في الصحاح، والظاهر أنها مقحمة. وفي (ز): «فهو جسيم أي عظيم». ولعل ذلك إصلاح لما ورد في غيرها. أما (غ) فقد سقطت منها «جسيم».

(2/575)


وإلا فليست جسمًا (1) باعتبار وَضْع اللغة. ومقصودُنا بكونها جسمًا: إثباتُ الصفات والأفعال والأحكام التي دلَّ عليها الشرع والعقل والحسُّ، من الحركة والانتقال، والصعود والنزول؛ ومباشرةِ النعيم والعذاب، واللذة والألم؛ وكونِها تُحبَس وتُرسَل (2) وتُقبَض، وتَدخُل وتَخرُج. فلذلك أطلقنا عليها اسم الجسم تحقيقًا لهذه المعاني، وإن لم يطلق عليها أهلُ اللغة اسمَ الجسم؛ فالكلام مع هذه الفرقة المبطِلة في المعنى لا في اللفظ. فقولُ أهل التخاطب: الروح والجسم، هو بهذا المعنى. فصل وأما الشبهة الثانية، فهي أقوى شُبَهِهم التي بها يصولون، وعليها يُعوِّلون. وهي مبنيَّة على أربع مقدمات [132 أ]: إحداها (3): أنَّ في الوجود ما لا يقبل القسمةَ بوجه من الوجوه. الثانية: أنَّه يمكن العلم به. الثالثة: أنَّ العلمَ به غيرُ منقسم. الرابعة: أنَّه يجب أن يكون محلُّ العلمِ به كذلك، إذ لو كان جسمًا لكان منقسمًا. وقد نازعهم في ذلك جمهورُ العقلاء، وقالوا: لم تُقيموا دليلاً على أنَّ _________ (1) «جسمًا» ساقط من (ب، ج). (2) ما عدا الأصل و (ط): «أو ترسل». وقد سقط بعده: «وتقبض» من (ن). (3) هذا في (ب، ج). وفي غيرهما: «أحدها». ولا يبعد أن يكون كذا وقع في أصل المؤلف. انظر: طريق الهجرتين (1/ 79)، التعليق (6).

(2/576)


في الوجود ما لا يقبلُ القسمة الحسية ولا الوهمية وإنما بأيديكم دعاوٍ لا حقيقةَ لها. وإنما أثبتُّموه من واجب الوجود، وهو (1) بناء على أصلكم الباطل عند جميع العقلاء من أهل الملل وغيرهم من إنكار ماهيةِ الربِّ تعالى وصفاتِه (2)، وأنه وجودٌ مجرَّد لا صفةَ له ولا ماهية. وهذا قولٌ باينتم به العقولَ، وجميعَ الكتب المنزلة من السماء، وإجماعَ الرسل؛ ونفيتم به علمَ الله، وقدرته، ومشيئته، وسمعه وبصره، وعلوَّه على خلقه، ونفيتم به خلقَ السماوات والأرض في ستة أيام. وسمَّيتموه توحيدًا، وهو أصل كلِّ تعطيل. قالوا: والنقطة التي استدللتم بها هي من أظهرِ ما يُبطِل دليلَكم، فإنها غيرُ منقسمةٍ، وهي حالَّةٌ في الجسم المنقسم، فقد حلَّ في المنقسم ما ليس بمنقسم. ثم إن مثبتي الجوهر الفَرْد ــ وهم جمهور المتكلمين ــ ينازعونكم في هذا الأصل ويقولون: الجوهر (3) حالٌّ في الجسم، بل هو مركَّب منه، فقد حلَّ في المنقسم ما ليس بمنقسم. ولا يمكن تتميمُ (4) دليلِكم إلا بنفي الجوهر الفرد. فإن قلتم: النقطةُ عبارة عن نهاية الخط وفنائه وعدمه، فهي أمر عدمي؛ بطَلَ استدلالُكم بها. وإن كانت أمرًا وجوديًّا، فقد حلَّت في المنقسم. فبطل الدليل على التقديرين. _________ (1) (ب، ط، ج): «وما أثبتموه ... فهو». (ن): «وإن ما». (2) (ط): «صفات ذاته». (3) «الفرد ... الجوهر» ساقط من (ط). (4) (ب، ط): «تعليل»، ولعله تحريف «تكميل».

(2/577)


قالوا: وأيضًا فلم لا يكون العلم حالًّا في محلِّه، لا على وجه الشيوع (1) والسرَيان؛ فإن حلولَ كلِّ شيء في محلِّه بحسبه. فحلولُ الحيوان في الدار نوع، وحلولُ الخطِّ في الكتاب نوع، وحلولُ الدُّهن في السِّمسِم نوع، وحلولُ العَرَض في الجسم نوع، وحلولُ الروح في البدن نوع، وحلولُ العلوم والمعارف [132 ب] في النفس نوع. قالوا: وأيضًا فالوحدةُ حاصلة. فإن كانت جوهرًا، فقد ثبتَ الجوهر الفرد، وبطلَ دليلكم، فإنه لا يتم إلا بنفيه. وإن كانت (2) عرضًا وجب أن يكون لها محلٌّ، فمحلُّها إن كان منقسمًا فقد جاز قيامُ غير المنقسم بالمنقسم. وإن كان غيرَ منقسم (3) فهو الجوهر، وبطل الدليل. فإن قلتم: الوحدة أمر عَدَميُّ لا وجود له في الخارج، فكذلك ما أثبتُّم به وجود ما لا ينقسم، كلُّها أمور عدمية لا وجودَ لها في الخارج (4)، فإنَّ واجبَ الوجود الذي أثبتُّموه أمرٌ عدميٌّ، بل مستحيل الوجود. قالوا: وأيضًا فالإضافات عارضة للأجسام (5)، مثل الفوقية والتحتية، _________ (1) هذا في (ج). وهو مطموس في (ز) وساقط من (ن). وفي غيرها: «النوع»، وكذا في النسخ المطبوعة، وهو تحريف. (2) (أ، ق، غ): «كان». (3) زاد بعده في (ن): «وجد». (4) «فكذلك ... الخارج» ساقط من (ز). وبعد ذلك: «كان واجب ... أمرًا عدميًّا». أراد إصلاح الخلل الناتج من السقط. (5) في (أ، غ، ق): «الأقسام». وفي (ز، ن): «للأقسام»، ولعل الصواب ما أثبت من (ب، ط، ج).

(2/578)


والمالكية والمملوكية، فلو انقسم الحالُّ بانقسام محلِّه لزم انقسام هذه الإضافات وكان (1) يكون لحقيقة الفوقية والتحتية ربعٌ وثُمْنٌ، وهذا لا يقبله العقل. قالوا: وإنَّ القوة الوهمية والمفكرة (2) جسمانية عند زعيمكم ابن سينا (3)، فيلزم أن يحصل لها أجزاءٌ وأبعاضٌ. وذلك محالٌ؛ لأنها لو انقسمت لكان كل واحد من أبعاضها إن كان مثلَها كان الجزء مساويًا للكل، وإن لم يكن مثلَها لم تكن تلك الأجزاء كذلك. وأيضًا فإن الوهم لا معنَى له إلا كونُ هذا صديقًا وهذا عدوًّا، وذلك لا يقبل القسمة. قالوا: وإن (4) الوجود أمر زائد على الماهيات عندكم، فلو لزم انقسام الحالِّ لانقسام محلِّه لزم انقسامُ ذلك الوجود بانقسام محله. وهذا الوجه لا يلزم من جعل وجود الشيء عين ماهيته (5). قالوا: وأيضًا فطبائع الأعداد ماهياتٌ مختلفة، فالمفهوم من كون العشرة عشرةً مفهوم واحد وماهية واحدة. فتلك الماهية إما أن تكون عارضةً لكل واحد من تلك الآحاد، وهو محال. وإما أن تنقسم بانقسام تلك الآحاد، وهو مُحال أيضًا؛ لأن المفهوم من كون العشرة عشرةً لا يقبل القسمة. نعم _________ (1) (ز، غ): «فكان». ورسم الكلمة في الأصل يحتمل القراءتين. (2) في (أ، غ، ن): «والفكرة». وفي (ب، ط، ج): «الوهمية المفكرة». (3) في (ج) زيادة: «عليه لعائن الله تترى»! (4) (ب، ط، ج): «ولأن». (5) (ق، غ): «غير ماهيته». وكذا في النسخ المطبوعة.

(2/579)


العشرةُ تقبل القسمةَ، لا عَشَرِيَّتُها. قالوا: فقد قام ما لا ينقسم بالمنقسم. قالوا: وأيضًا فالكيفياتُ المختصَّاتُ بالكمِّيات (1) كالاستدارة [133 أ] والتقوُّس (2) ونحوهما عند الفلاسفة أعراضٌ موجودة في شبه الاستدارة (3). إن كانت عرضًا، فإما أن يكون بتمامه قائمًا بكل واحد من الأجزاء، وهو محال. وإما أن ينقسم ذلك العرضُ بانقسام الأجزاء، ويقومَ بكل جزء من أجزاء الخطِّ جزءٌ من أجزاء ذلك العَرض، وهو محال؛ لأن جُزأه إن كان استدارة لزم أن يكون جزء الدائرة دائرة. وإن لم يكن استدارة، فعند اجتماع الأجزاء إن لم يحدث أمر زائد وجب أن لا تحصل الاستدارة (4). وإن حدث أمر زائد (5)، فإن كان منقسمًا عاد التقسيم، وإن لم ينقسم كان الحالُّ غيرَ منقسم ومحلُّه منقسمًا. قلت: وهذا لا يلزمهم، فإنَّ لهم أن يقولوا: ينقسم بانقسام محله تبعًا له كسائر الأعراض القائمة بمحالِّها من البياض والسواد. وأما ما لا ينقسمُ كالطول، فشرطُ حصوله (6) اجتماعُ الأجزاء، والمعلَّق على الشرط منتفٍ بانتفائه. _________ (1) (ز): «بالممكنات». (2) (ن): «النقوش». وكذا في معظم النسخ المطبوعة. وفي بعضها: «النفوس»، كما في (ب، ط، ج، غ)، والصواب ما أثبتنا من (ق، ز). (3) (ن): «في نسبة الاستدارة»، وهو تصحيف. وفي (ب، ج): «فهيئة الاستدارة». ولعل في النص سقطًا. (4) في (ز): «استدارة». وفي (ب، ط، غ): «للاستدارة»، تحريف. (5) «وجب ... زائد» ساقط من الأصل. (6) (ب، ط، ج): «بشرط حصوله»، تصحيف.

(2/580)


قالوا: وإنَّ هذه الأجسامَ (1) ممكنةٌ بذواتها، وذلك صفة عَرَضية لها خارجة عن ماهيتها، فإن لم تنقسم بانقسام محلِّها بطل الدليل. وإن انقسمت عاد المحذور المذكور من مساواة الجزء للكل أو التسلسل (2). قلت: وهذا أيضًا لا يلزم (3)، لأن الإمكان ليس أمرًا يدلُّ (4) على قبول الممكن للوجود والعدم. وذلك القبولُ من لوازم ذاته، ليس صفةً عارضة له؛ ولكن الذهنَ يجرِّد هذا القبولَ عن القابل، فيكون عُروضُه للماهية بتجريد الذهن. وأما قضية مساواة (5) الجزء للكل، فلا امتناعَ في ذلك، كسائر الماهيات البسيطة، فإنَّ جزأها مساوٍ لكلِّها في الحدِّ والحقيقة، كالماء والتراب والهواء. وإنما الممتنعُ أن يتساوى الجزءُ والكلُّ في الكمِّ، لا في نفس الحقيقة. والمعوَّل في إبطال هذه الشبهة على أن العلم ليس بصورة حالَّة في النفس، وإنما هو نسبة [133 ب] وإضافة بين العالم والمعلوم، كما نقول في الإبصار: إنه ليس بانطباعِ صورةٍ مساويةٍ (6) للمبصَر في القوة الباصرة، وإنما هو نسبةٌ وإضافة بين القوة الباصرة والمبصَر. وعامَّة شبههم التي أوردوها في هذا الفصل مبنية على انطباع صورة _________ (1) (ب، ط، ج): ولأن هذه الأقسام. (2) (ق، ب، ط، غ): «والتسلسل». (3) ما عدا الأصل و (غ): «لا يلزمهم». (4) (ب، ج): «زائدًا». (5) في الأصل: «مشاركة». وكذا في (ق، غ). وهو تحريف. (6) ما عدا (ب، ن، ج): متساوية.

(2/581)


المعلوم في القوة العالمة، ثم بنوا على ذلك أن انقسام ما لا ينقسم في المنقسم محال. وقولهم: محل العلوم الكلِّية لو كان جسمًا أو جسمانيًا لانقسمت (1) تلك العلوم؛ لأن الحالَّ في المنقسم منقسم. ولم يذكروا على صحة هذه المقدمة دليلاً ولا شبهة وإنما بأيديهم مجرَّدُ الدَّعوى، وليست بديهيةً حتى تستغني (2) عن الدليل. وهي مبنية على أنَّ العلم بالشيء عبارة عن حصول صورةٍ مساوية لماهية المعلوم في نفس العالِم، وهذا من أبطل الباطل للوجوه التي تُذكر هناك. وأيضًا فلو سلَّمنا لكم ذلك كان من أظهر الأدلَّة على بطلان قولكم، فإنَّ هذه الصورة إذا كانت حالَّةً في جوهر النفس الناطقة (3) فهي صورة جزئية حالّة في نفس جزئيةٍ يقارنُها (4) سائرُ الأعراض الحالَّة في تلك النفس الجزئية، فإذا اعتبرنا تلك الصورة مع جملة هذه اللواحق لم تكن صورة مجرَّدة، بل مقرونة بلواحق وعوارض، وذلك يمنع كلِّيتها. فإن قلتم: المراد بكونها كليةً أنَّا إذا حذفنا عنها تلك اللواحقَ واعتبرناها من حيث هي هي كانت كليةً. قلنا لكم: فإذا جاز هذا، فلِمَ لا يجوز أن يقال: هذه الصورة حالّةٌ في مادة جسمانية (5) مخصوصة، بمقدار معيَّن، وبكُلٍّ _________ (1) في الأصل: «لانقسم»، سهوًا. (2) (ن): «يُستغنى». (3) (ق، ز، غ): «الباطنة». ورسمها في الأصل محتمل. (4) (ب، ق، ن): «يقاربها»، تصحيف. (5) (ب، ط، ج): «جثمانية».

(2/582)


معيَّن؛ إلا أنَّا إذا حذفنا عنها ذلك، واعتبرناها من حيث هي هي، كانت بمنزلة تلك الصورة التي فعلنا بها ذلك؟ فالمعيَّن في مقابلة المعيَّن، والمطلَقُ المأخوذ من حيث هو هو [134 أ] في مقابلة محلِّه المطلَق. وهذا هو المعقول الذي شهدت به العقول الصحيحة والميزان الصحيح. فظهر أنَّ هذه الشبهةَ مِن أفسَدِ الشُّبَه وأبطَلِها، وإنما أُتِيَ القوم من الكلِّيات، فإنها هي التي خَرَّبتْ دُورَهم، وأفسدت نظرهم (1) ومناظرتهم (2)، فإنهم جرَّدوا أمورًا كليةً لا وجود لها في الخارج، ثم حكموا عليها بأحكامِ الموجودات، وجعلوها ميزانًا وأصلاً للموجودات. فإذا جرَّدوا صورَ المعلومات وجعلوها كليةً، جرَّدنا نحن محلَّها، وجعلناه كليًّا، وإن أخذت جزئيَّة معينة، فمحلُّها كذلك. فالكلِّيُّ في مقابلة الكلِّي، والجزئي في مقابلة الجزئي. على أنَّا نقول: ليس في الذهن (3) كليٌّ، وإنما في الذهن صورة معينة مشخَّصَة منطبقة على سائر أفرادها، فإن سُمِّيت كليةً بهذا الاعتبار، فلا مُشاحَّة في الألفاظ، وهي كلية وجزئية باعتبارين. فصل قولكم في الوجه الثالث: إنَّ الصور العقلية مجرَّدة، وتجرُّدُها إنما هو بسبب الآخذِ لها، وهو القوة العقلية. _________ (1) (غ): «فطرهم». وكذا في بعض النسخ المطبوعة. (2) ما عدا (ب، ط، ج): «مناظرهم». وكذا في معظم النسخ المطبوعة. (3) (ن، ز): «خارج الذهن». وفي (ب، ط، ج): «في الخارج ولا في الذهن».

(2/583)


جوابه: أن يقال: ما الذي تريدون بهذه الصورة العقلية الكلية؟ أتريدون به أن المعلومَ حصل في ذات العالِم، أو أنَّ العلمَ به حصل (1) في ذات العالم؟ فالأول ظاهر الإحالة، والثاني حقٌّ إلا أنه لا يفيدكم شيئًا؛ لأن الأمر الكلي المشترَك بين الأشخاص الإنسانية هو الإنسانية، لا العلمُ بها. والإنسانية لا وجودَ لها في الخارج كليةً. والموجود (2) في الخارج المعيَّنات فقط، والعلمُ تابع للمعلوم، فكما أنَّ المعلوم معيَّن، فالعلم به معيَّن، لكنه صورة منطبقة على أفراد كثيرة، فليس في الذهن ولا في الخارج (3) صورة غير منقسمة البتة. وكم قد غلط في هذا الموضع طوائفُ من العقلاء لا يحصيهم إلا الله تعالى. فالصورة الكلِّية التي يثبتونها ويزعمون أنها حالَّة في النفس، فهي صورة شخصية موصوفة بعوارض شخصية. فهَبْ أنَّ هذه الصورة العقلية حالَّة في جوهر ليس بجسم ولا جسماني، فإنها غير مجرَّدة عن العوارض. فإن قلتم: مرادنا بكونها مجردة: النظر إليها من حيث هي هي، مع قطع النظر [134 أ] عن تلك العوارض. قيل لكم: فلمَ لا يجوز أن تكون الصورة الحالَّة في المحلِّ الجسماني منقسمةً؟ وإنما تكون مجرَّدةً إذا نظرنا إليها من حيث هي هي، بقطع النظر عن عوارضها. _________ (1) في الأصل: «العلم حصل به»، وكذا في (غ). وهو سهو. (2) ما عدا (ب، ط، ج): «الوجود»، ولكن اتفقت النسخ فيما بعد على «المعينات». وفي النسخ المطبوعة: «والوجود ... للمعينات». (3) «كلية ... الخارج» ساقط من الأصل لانتقال النظر.

(2/584)


فصل قولكم في الرابع: إنَّ القوة العقلية تقوى على أفعال غير متناهية، ولا شيء من القوى الجسمانية كذلك. فجوابه: أنَّا لا نسلِّم أنها تقوى على أفعال غير متناهية. قولكم (1): إنها تقوى على إدراكات لا تتناهى، والإدراكاتُ أفعال= مقدمتان كاذبتان. فإن إدراكاتها ولو بلغت ما بلغت فهي متناهية، فلو (2) كان لها بكل نفس ألفُ ألفِ إدراك لتناهت إدراكاتها. فهي قطعًا تنتهي في الإدراكات والمعارف إلى حدًّ لا يمكنها أن تزيد عليه شيئًا، كما قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]. إلى أن ينتهي العلم إلى من هو بكل شيء عليم، فهو الله الذي لا إلاه إلا هو وحده. وذلك من خصائصه التي لا يشرَكه فيها سواه (3). فإن قلتم: لو انتهى إدراكها إلى حدٍّ (4) لا يمكنها المزيدُ عليه لزمَ انقلابُ الشيء من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي (5). قلنا: فهذا بعينه لو صحَّ دلَّ على أنَّ القوة الجسمانية تقوى على أفعالٍ غيرِ متناهية، وذلك يوجب سقوط الشبهة وبطلانها. _________ (1) كذا في جميع النسخ الخطية. وفي النسخ المطبوعة «وقولكم». (2) (ب، ط، ج): «ولو». (3) (ط، ج، ن، ز): «أحد سواه». (4) «من خصائصه ... حدّ» ساقط من (ب). (5) «إلى الامتناع الذاتي» من (ب، ط، ج).

(2/585)


وأيضًا: فإنَّ قوةَ التخيُّل والتفكُّر والتذكُّر تقوى على استحضار المتخيَّلات والمتذكَّرات إلى غير نهايةٍ مع أنها عندكم قوة جسمانية. فإن قلتم: لا نسلِّم أنها تقوى على ما لا يتناهى. قيل لكم: وهذا (1) يقول خصومُكم في القوة العاقلة سواء. وأما كذبُ المقدمة الثانية: فإن الإدراك ليس بفعلٍ، فلا يلزم من تناهي فعلِها تناهي إدراكها. وقد صرَّحتم بأن الجوهر العقلي قابلٌ لصورة المعلوم، لا أنه فاعل لها، والشيء الواحدُ لا يكون فاعلًا وقابلًا عندكم. وقد صرَّحتم بأن الأجسام يمتنع عليها أفعالٌ لا نهاية لها، ولا يمتنع عليها قبولات (2) وانفعالاتٌ لا تتناهى. وقد أورد ابن سينا على هذه الشبهة سؤالًا، فقال: أليس النفسُ الفلكيةُ المباشِرةُ لتحريك الفلك قوة جسمانية، مع أن الحركات الفلكية غيرُ متناهية؟ وأجاب عنه بأنها وإن كانت قوةً جسمانيةً إلا أنها تستمدُّ الكمال من العقل المفارق (3). فلهذا السبب قدرَتْ على أفعال غير متناهية. فنقول (4): فإذا كان الأمر عندك كذلك، فلمَ لا يجوز أن يقال: النفس (5) الناطقة تستمدُّ الكمال والقوة من فاطرها ومنشئها الذي له القوة جميعًا؟ فلا جَرَمَ تقوى مع كونها جسمانيةً على ما لا يتناهى. فإذا قلت بذلك وافقت _________ (1) في النسخ المطبوعة: «هكذا». (2) هذا في (ب، ج). وفي غيرهما: «جهولات». وفي النسخ المطبوعة: «مجهولات». (3) «المفارق» ساقط من (ز، ن). (4) ما عدا الأصل، (ق، غ): «فنقول له». (5) (ط، ج): «إن النفس».

(2/586)


الرسلَ والعقلَ، ودخلتَ في زمرة المسلمين (1)، وفارقتَ العُصْبة المبطِلين. فصل قولكم في الخامس: لو كانت القوة العاقلة حالّةً في آلة جسمانية لوجب أن تكون دائمةَ الإدراك لتلك الآلة، أو ممتنعةَ الإدراك لها (2) فهو مبنيٌّ على أصلكم الفاسد أنَّ الإدراكَ عبارة عن حصول صورةٍ مساويةٍ للمدرَك في القوة المدرِكة. ثم لو سلَّمنا لكم ذلك الأصل لم يُفِدكم شيئًا فإنَّ حصول تلك الصورة (3) يكون شرطًا لحصول الإدراك. فأما أن يقال: إن الإدراك عين (4) حصول تلك الصورة، فهذا لا يقوله عاقل. فلِمَ لا يجوز أن يقال: القوةُ العقليةُ حالَّةٌ في جسم مخصوص؟ ثم إن القوة الناطقة قد تحصل لها حالة إضافية تسمَّى بالشعور والإدراك، فحينئذ تصير القوة العاقلة مدرِكةً لتلك الآلة، وقد لا توجد تلك الحالة الإضافية فتصير غافلةً عنها. وإذا كان هذا ممكنًا سقطت تلك الشبهة رأسًا. _________ (1) (ج): «المحقِّين»، كأن ناسخها أو ناسخ أصلها أراد مقابلة «المبطلين»، وقد يكون أنكر أيضًا إخراج المصنف ابن سينا من زمرة المسلمين. وفي (ب): «المنكرين»، وهو تحريف غريب. (2) في الأصل: «كلها»، وكذا في (ق، ط، غ، ز). ولعل سبب التحريف أن كاف «الإدراك» اشتبكت في خط المؤلف بما بعدها. وسيأتي تحريف آخر مثله. (3) (أ، ق، غ): «الصور». (4) (ب، ط، ن، ز): «غير»، تصحيف.

(2/587)


ثم نقول: أتدَّعون (1) أنَّا إذا عقلنا شيئًا فإنَّ الصورة الحاضرة في العقل مساويةٌ لذلك المعقول من جميع الوجوه والاعتبارات، أو لا يجب حصولُ هذه المساواة من جميع الوجوه؟ فالأول لا يقوله عاقل، وهو أظهرُ من أن يحتجَّ لفساده. وإذا عُلِم (2) أنه لا تجب المساواة من جميع الوجوه لم يلزم من حدوث صورة أخرى في القلب والدماغ اجتماعُ [135 ب] المثلين. وأيضًا فالقوةُ العاقلُة حالّةٌ في جوهر القلب أو الدماغ، والصورةُ الحادثةُ حالّةٌ في القوة العاقلة. فإحدى الصورتين محلٌّ للقوة العاقلة، والثانية حالّةٌ فيها؛ فلمَ لا يكفي هذا القدر (3) من المغايرة؟ وأيضًا: فنحن إذا رأينا المسافة الطويلة والبُعدَ الممتدَّ، فهل يتوقف هذا الإبصار على ارتسام صورة المرئيِّ في عين الرائي، أو لا يتوقف؟ فإن توقَّف لزم اجتماعُ المثلين؛ لأن القوة الباصرة عندكم جسمانية، فهي في محلٍّ له حجم ومقدار، فإذا حصل فيه حجمُ المرئي ومقدارُه لزم اجتماعُ المثلين، وإذا جاز هناك فلمَ لا يجوز مثلُه في مسألتنا؟ _________ (1) اضطربت النسخ في هذا الموضع اضطرابًا شديدًا، ولعل السبب أن لام «نقول» كانت مشبوكة في أصل المؤلف بهمزة الاستفهام، فقرؤوها: «لا تدعون»، كما في الأصل و (ق، ز، ن). وبعض النساخ اجتهد في إصلاح العبارة فلم يفلح. ففي (ب، ط): «لا يدعون إلا إذا». وفي (ج): «ألا تدعون»، وكذا في الطبعة الهندية. وفي (غ): «لا تدعون إذًا إذا». والصواب ما أثبتنا. وكذا في نشرتي العموش وبديوي، ولكن لم يُشر أحد منهما إلى ما وقع في النسخ التي اعتمدا عليها. (2) (ب، ط): «واعلم»، وهو تحريف. (3) (ب، ط): «فلا تكفي هذه الصور»، تحريف.

(2/588)


وإن كان إدراك الشيء لا يتوقف على حصول صورةِ المرئيِّ في الرائي بَطَل قولُكم: إنَّ إدراك القلب والدماغ يتوقَّف على حصول صورة القلب والدماغ في القوة العاقلة. وأيضًا: فقولكم: لو كانت القوة العقلية حالَّةً في جسم لوجب أن تكون دائمةَ الإدراك لذلك الجسم. لكنَّ إدراكَنا لقلبنا ودماغنا غيرُ دائم، فهذا إنما يلزم من يقول: إنها حالَّة في القلب أو الدماغ (1). وأما من يقول: إنها حالَّة في جسم مخصوص، وهو النَّفس، وهي مشابكة للبدن؛ فهذا الإلزام غيرُ وارد عليه، فإنه يقول: النفس جسم مخصوص، والإنسان أبدًا (2) عالمٌ بأنه جسم مخصوص، ولا يزول ذلك من عقله إلا إذا عرضتْ له الغفلة. فسقطت الشبهة التي عوَّلتم عليها على كل تقدير. فصل قولكم في السادس: إن كلَّ أحد يدرك نفسه، والإدراك عبارةٌ عن حصول ماهيةِ المعلوم عند العالِم، وهذا إنما يصح إذا كانت النفس غنيَّةً عن المحلِّ، إلى آخره. جوابه: أن ذلك مبني على الأصل المتقدِّم، وهو أنَّ العلم عبارة عن حصول صورة مساوية للمعلوم في نفس العالِم. وهذا باطل من وجوه كثيرة مذكورة في مسألة العلم. حتى لو سَلِم ذلك، فالصورةُ المذكورةُ شرطٌ في _________ (1) ما عدا الأصل، (ق): «والدماغ». (2) «أبدا» ساقط من (ن، ز).

(2/589)


حصول العلم، لا أنها نفسُ العلم (1). وأيضًا فهذه الشبهة مع ركاكة ألفاظها وفسادِ مقدِّماتها منقوضة. فإنا إذا أخذنا حجرًا أو خشبة (2) قلنا: هذا جوهر قائم بنفسه. فذاتُه حاضرةٌ عند ذاته، فيجب في هذه الجمادات أن تكون عالمة بذواتها. وأيضًا فجميع الحيوانات مدركةٌ لذواتها، فلو كان كونُ الشيء مدرِكًا لذاته يقتضي كونَ ذاتِه (3) جوهرًا مجردًا، لزمَ كونُ نفوس الحيوانات بأسرها جواهرَ مجرَّدةً. وأنتم لا تقولون بذلك. فصل قولكم في السابع: إنَّ الواحدَ منَّا يتخيَّل بحرًا من زئبق، وجبلًا من ياقوت، إلى آخره؛ وهو شبهة أبي البركات البغداديِّ، فشبهةٌ داحضةٌ جدًّا، فإنها مبنية على أن تلك المتخيَّلات أمور موجودة، وأنها منطبعة في النفس الناطقة انطباعَ النقش (4) في محلِّه. ومعلوم قطعًا أن هذه المتخيَّلات لا حقيقةَ لها في ذاتها، وإنما الذهنُ يفرضُها تقديرًا، وليست منطبعةً في النفس، فإنَّ العلوم الخارجية لا تنطبع صورُها في النفس، فكيف بالخيالات المعدومة؟ فهذه عدميَّة محضة (5). _________ (1) «وهذا باطل ... العلم» ساقط من (ب). (2) (ب، ط): «خشبة أو حجرا». (3) (ن): «كونه». (4) كذا في الأصل، وهو الصواب. وفي غيره من النسخ الخطية والمطبوعة: «النفس». (5) رسمها في الأصل: «منه محصه» وكذا في (ق). فقرأها ناسخ (غ): «شبهة محضة»، وكتب فوق الكلمة الأولى حرف الظاء. وفي (ن، ز): «منه» وحذفت الكلمة الثانية. والمثبت من (ب، ط، ج)، وهو أقرب.

(2/590)


ولا نمنعُ (1) من وقوع التمييز بين الأعدام المضافة، فإن العقل يميِّز بين عدم السمعِ وعدم البصر وعدم الشم وغيرِ ذلك. ولا يلزم من هذا التمييز كونُ هذه الأعدام موجودةً، بل يميز بين أنواع المستحيلات (2) التي لا يمكن وجودها البتة. ثم نقول: إذا عُقِلَ حلولُ الأشكال والمقادير فيما كان مجرَّدًا عن الحجمية والمقدارِ (3) من كلِّ الوجوه، فلَأنْ يُعقلَ حلولُ (4) العلمِ بالشكل العظيم والمقدار العظيم في الجسد (5) الصغير أولى (6). وأيضًا: فإذا كان عدمُ الانطباق من جميع الوجوه لا يمنع من حلول الصورة والشكل في الجوهر المجرد، فعدمُ انطباق العظيم على الصغير أولى أن لا يَمنعَ من حلول الصورة العظيمة في المحل الصغير. _________ (1) الأصل غير منقوط. وقراءة (ق، غ، ن): «يمنع». وفي (ب، ط، ج): «يمتنع وقوعُ»، بحذف «من». (2) (ج): «المتخيلات»، تصحيف. (3) في الأصل: «العذاب». وكذا في (ق)، وهو تحريف. (4) في الأصل: «حلولها». وكذا في (ق، غ، ز). ولعله سهو. وفي (ب، ج): «حلول الشكل». (5) (ب، ط، ج): «الجنس». (ق، غ): «الحس». ورسم الكلمة في الأصل يحتمل القراءتين. ولعل الصواب ما أثبتنا. وفي (ن): «الجسم». (6) كلمة «أولى» انفردت بها (ج)، وتمت الجملة التي كانت بحاجة إلى خبر المبتدأ. وقد أصلحها بعض الناشرين بتغيير «فلأن» إلى «أفلا». وفي الطبعة الهندية: «فلا»، وهو خطأ.

(2/591)


وأيضًا فإنَّ سلفكم من الأوائل أقاموا الدليل على أن انطباع الصورة الخيالية (1) في الجوهر المجرَّد مُحالٌ، وذكروا له وجوهًا. [136 ب] فصل قولكم في الثامن: لو كانت القوة العقلية جَسَدانيةً لضعفت في زمن الشيخوخة (2)، وليس كذلك. جوابه من وجوه: أحدها: لمَ لا يجوز أن يقال: القَدرُ المحتاجُ إليه من صحة البدن في كمال القوة العقلية مقدارٌ معين؟ وأما كمالُ حال البدن في الصحة، فإنه غير معتبر في كمال حال القوة العقلية. وإذا احتمل ذلك لم يبعد أن يقال: ذلك القدرُ المحتاجُ إليه باقٍ إلى آخر الشيخوخة، فبقي العقل إلى آخرها. الوجه الثاني: أن الشيخ لعله إنما يمكنه أن يستمرَّ في الإدراكات العقلية على الصحة، أنَّ (3) عقله يبقى ببعض الأعضاء التي يتأخر الفاسد والاستحالة إليها، فإذا انتهى إليها الفساد والاستحالة فَسَد عقلُه وإدراكه. الوجه الثالث: أنه لا يمتنع أن يكون بعضُ الأمزجة أوفقَ لبعض القوى، فلعل مزاجَ الشيخ أوفقُ للقوة العقلية، فلهذا السبب تقوى فيه القوة العاقلة. الوجه الرابع: أن المزاج (4) إذا كان في غاية القوة والشدة كانت سائر القوى قوية، فتكون القوة الشَّهوانية والغضبية قويةً جدًّا. وقوة هذه القوى _________ (1) (أ، ق، غ): «الحالية». وفي النسخ المطبوعة: «الحالَّة». (2) زاد في (ب، ط، ج): «دائمًا» كما سبق في ذكر أدلتهم. (3) (ب، ط، ج): «لأن». (4) «أوفق ... المزاج» ساقط من (ن، ز).

(2/592)


تمنع العقل من الاستكمال، فإذا حصلت الشيخوخة وحصل الضعف، حصل بسبب الضعف ضعفٌ في هذه القوى المانعة للعقل من الاستكمال، وحصل في العقل أيضًا ضعفٌ، ولكن بقدر (1) ما حصَلَ في العقل من الضَّعف حصل ذلك في أضداده، فينجبر (2) النقصانُ من أحد الجانبين بالنقصان من الجانب الآخر، فيقع الاعتدال. الوجه الخامس: أنَّ الشيخ حفِظ العلومَ والتجاربَ الكثيرة، ومارَس الأمور ودَرِبَها وكثرت تجاربه، وهذه الأحوال تعينه (3) على وجوه الفكرِ وقوةِ النظر، فيقاوم النقصان الحاصل بسبب ضعف البدن والقُوى. الوجه السادس: أن كثرةَ الأفعال سبب (4) لحصول المَلَكات الراسخة [137 أ]، فصارت الزيادة الحاصلة بهذا الطريق جابرةً للنقصان الحاصل بسبب اختلال البدن. الوجه السابع: أنه قد ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يهرمُ ابن آدم وتشِبُّ فيه (5) خصلتان: الحرص، وطول الأمل» (6). والواقع شاهد لهذا _________ (1) ما عدا (ب، ط، ج): «بعد». (2) (ب، ط، ج): «فيتميز»، تصحيف. (3) ما عدا الأصل و (ق، غ): «معينة». (4) «سبب» ساقط من الأصل و (غ). (5) (ب، ط): «معه». ولعل ما ورد في النسخ مصحف عن «منه». (6) أخرجه البخاري (6421) ومسلم (1047) من حديث أنس. ولفظ مسلم: «وتشبُّ منه اثنتان: الحرص على المال، والحرص على العمر». ولفظ البخاري: «يكبر ابن آدم، ويكبر معه اثنتان: حبّ المال، وطول العمر». والقريب من لفظ المؤلف ورد في السنن الكبرى للبيهقي (6298): « ... ويبقى منه اثنتان».

(2/593)


الحديث. مع أنَّ الحرص والأمل من القوى الجسمانية والصفات الخيالية، ثم إن ضعف البدن لم يُوجِب ضعفَ هاتين الصفتين، فعُلِم أنه لا يلزم من اختلالِ البدن وضعفِه ضعفُ الصفات البدنية. الوجه الثامن: أنا نرى كثيرًا من الشيوخ يصيرون إلى الخَرَف وضعف العقل، بل هذا هو الأغلب. ويدل عليه قوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [النحل: 70]. فالشيخ في أرذل عمره يصير كالطفل، أو أسوأ حالًا منه. وأما من لم يحصل له ذلك، فإنه لا يُرَدُّ إلى أرذل العمر. الوجه التاسع: أنه لا تلازمَ (1) بين قوة البدن وقوةِ النفس، ولا بين ضعفه وضعفها. فقد يكون الرجل قويَّ البدنِ ضعيفَ النفسِ جبانًا خوَّارًا، وقد يكون ضعيفَ البدن قويَّ النفس، فيكون شجاعًا مِقدامًا على ضعف بدنه. الوجه العاشر: أنه لو سَلِم لكم ما ذكرتم لم يدلَّ على كون النفس جوهرًا مجرَّدًا لا داخلَ العالم ولا خارجه، ولا هي في البدن (2) ولا خارجةٌ عنه؛ لأنها إذا كانت جسمًا مشرقًا صافيًا (3) سماويًّا مخالفًا للأجسام الأرضية لم تَقبل الانحلالَ والذبولَ والتبدُّلَ، كما تقبله الأجسام المتحلِّلة الأرضية (4). فلا يلزم _________ (1) في (ق، ب): «يلزم». وفي الأصل دون نقط الياء، فلعله سهو، والمقصود ما أثبتنا من غيرها. وفي (غ): «لا يلزم من قوة البدن قوة النفس ولا من ضعفه ضعفها». ولعله تصرف من ناسخها. (2) «ضعيف النفس ... في البدن» ساقط من الأصل. (3) (ق): «صافيًا مشرقًا». (4) «لم تقبل ... الأرضية» ساقط من (ن، ز).

(2/594)


من حصول الانحلال والذبول في هذا البدن حصولُهما في جوهر النفس. فصل قولكم في التاسع: إنَّ القوة العقلية غنيَّة في أفعالها عن الجسم، وما كان غنيًّا عن الجسم في أفعاله كان غنيًّا عنه في ذاته، إلى آخره. جوابه أن يقال: لا يلزم من ثبوت حكمٍ في قوةٍ جسمانيَّةٍ ثبوتُ مثلِ ذلك الحكم في جميع القوى الجسمانية. وليس معكم غيرُ الدعوى المجرَّدة، والقياس الفاسد. وأيضًا: فالصور والأعراض محتاجةٌ إلى محلِّها، وليس احتياجُها إلى تلك المحالِّ إلا لمجرَّد ذواتها. ثم لا يلزم من استقلالها بهذا الحكم استغناؤها في ذواتها عن تلك المحالِّ. فلا يلزم [137 ب] من كونِ الشيء مستقلًّا باقتضاء حكمٍ من الأحكام أن يكون مستغنيًا في ذاته عن المحلِّ، والله أعلم. قولكم في العاشر: إن القوة الجسمانية تكِلُّ بكثرة الأفعال، ولا تقوى على القوي بعد الضعيف، إلى آخره. جوابه: أنَّ القوة الخيالية جسمانيةٌ، ثم إنها تقوى على تخيُّل الأشياءِ العظيمة مع تخيُّلها الأشياءَ (1) الحقيرة، فإنها يمكنها (2) أن تتخيل الشعلةَ الصغيرةَ حال ما تَخَيَّلُ الشمسَ والقمر. _________ (1) (ب، ط، ج): «للأشياء». (2) (ب، ط): «عليها»، تصحيف.

(2/595)


وأيضًا: فإنَّ إبصارَ الأشياء القوية القاهرة يمنعُ إبصارَ الأشياء الضعيفة، فكذلك نقول: المعقولاتُ العظيمة العالية تمنع تعقُّل المعقولات الضعيفة، فإنَّ المستغرِقَ في معرفة جلال ربِّ الأرض والسماوات وأسمائه وصفاته يمتنع عليه في تلك الحال الفكرُ في ثبوت الجوهر الفرد وحقيقته. فصل قولكم في الحادي عشر: إنَّا إذا حكمنا بأنَّ السواد يضادُّ (1) البياض، وجب أن يحصل في الذهن ماهيةُ السواد والبياض معًا، والبديهة حاكمةٌ بأن اجتماعَهما في الجسم محال. جوابه: أنَّ هذا مبني على أن من أدرك شيئًا فقد حصل في ذات المدرَك صورةٌ مساويةٌ للمدرِك، وهذا باطل. واستدلالكم على صحته بانطباع الصورة في المرآة باطل، فإنَّ المرآة لم ينطبع فيها شيءٌ البتة، كما يقوله جمهور العقلاء من الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم. والقول بالانطباع باطلٌ من وجوه كثيرة. ثم نقول: إذا كنتم قد قلتم: إنَّ المنطبع في النفس عند إدراك السواد والبياض رسومُهما ومثالُهما، لا حقيقتُهما؛ فلِمَ لا يجوز حصول رسوم هذه الأشياء في المادة الجسمانية؟ فصل قولكم في الثاني عشر: إنه لو كان محلُّ الإدراكات جسمًا ــ وكلُّ _________ (1) يشبه رسمها في الأصل: «مساو». وكذا في (ق). وفي (غ): «مساوي للبياض». وهو تحريف.

(2/596)


جسمٍ (1) منقسمٌ ــ لم يمنع أن يقوم ببعض أجزاء الجسم علمٌ بالشيء، وبالجزء الآخر منه جهلٌ به، فيكون الإنسان عالمًا بالشيء جاهلًا به في وقت واحد. جوابه: أن هذه الشبهة منتقضة على أصولكم، فإن الشهوة والغضب والتخيُّل من الأحوال [138 أ] الجسمانية عندكم، ومحلُّها منقسم، فلزمكم (2) أن تجوِّزوا قيام الشهوة والغضب بأحد الجزأين وضدَّهما بالجزء الآخر، فيكون مشتهيًا للشيء نافرًا عنه، غضبان عليه (3) غير غضبان، في وقت واحد. فصل قولكم في الثالث عشر: إن المادة الجسمانية إذا حصلت فيها نفوس مخصوصة امتنع فيها حصول مثلها، والنفوس العقلية (4) بضد ذلك (5) إلى آخره. جوابه: أن غاية هذا أن يكون قياسًا تمثيليًّا (6) بغير جامع، وذلك لا يفيد _________ (1) في جميع النسخ: «فكل جسم»، والصواب بالواو كما سبق. (2) (ب، ط): «فيلزمكم». (3) «عليه» ساقط من (ب، ط). (4) في جميع النسخ الخطية والمطبوعة: «البشرية». والصواب ما أثبتنا وفاقًا لما سبق عند سرد هذه الأدلَّة. (5) الأصل: «فضدّ ذلك». والذي سبق: «فبضد ذلك». (6) (ب، ط، ج): «تمثيلًا». وفي غيرها من النسخ الخطية والمطبوعة: «ممتازًا». وهو تحريف طريف.

(2/597)


الظنَّ فضلًا عن اليقين، فإن النفوس العقلية هي العلوم والإدراكات، والنفوسَ الجسمانية هي الأشكال والصور، ولا ريب أن العلوم مخالفةٌ بحقائقها للصور والأشكال. ولا يلزم من ثبوت حكمٍ في نوع من أنواع الماهيات ثبوته فيما (1) يخالف ذلك النوع. فصل وقولكم في الرابع عشر: لو كانت النفس جسمًا لكان بين تحريك المحرِّك رجلَه وبين إرادته للحركة زمان، إلى آخره. جوابه: أن النفس مع الجسد لا تخلو من ثلاثة أحوال: إما أن تكون لابسةً لجميعه من خارج كالثوب، أو تكون في موضع واحد كالقلب والدماغ، أو تكون ساريةً في جميع أجزاء الجسد. وعلى كل تقدير من هذه التقادير، فتحريكُها لِما تريد تحريكَه يكون مع إرادتها لذلك بلا زمان، كإدراك البصر لما يلاقيه، وإدراك السمع والشمّ والذوق (2). وإذا قطعتَ العضو لم ينقطع ما كان من جسم الإنسان متخلِّلًا لذلك العضو، سواءٌ كانت لابسة له من داخل أو خارج، بل تفارقُ العضوَ الذي بطل حسُّه في الوقت، وتتقلص عنه بلا زمان. وتكون مفارقتها لذلك العضو كمفارقة الهواء للإناء إذا مُلِئ ماء. وأما إن (3) كانت النفس ساكنةً في موضع واحد من البدن، لم يلزم أن _________ (1) هذا في الأصل و (غ، ج). وفي (ن، ز): «لما». وفي (ب، ط، ق): «كما»، تصحيف. (2) في الأصل: «العروق». وكذا في (ز، ق، غ). والصواب ما أثبتنا من (ب، ج). وفي (ط): «الذوق والعروق»، جمع بين الصحيح والمحرّف. وفي (ن) حذف الكلمة. (3) (ب، ط، ج): «إذا».

(2/598)


تبِينَ (1) مع العضو المقطوع (2). وأما إن كانت لابسةً للبدن من خارج، لم يلزم أن يكون بين إرادتها لتحريكه ونفسِ التحريك [138 ب] زمانٌ، بل يكون فعلها حينئذ في تحريك الأعضاء كفعل المغناطيس في الحديد وإن لم يلاصقه. ثم نقول: هذا الهذَيان الذي شغلتم به الزمانَ وارد عليكم بعينه، فإنها عندكم غير متصلة بالبدن ولا منفصلة عنه، ولا داخلة فيه ولا خارجة عنه؛ فيلزمكم مثل ذلك سواء (3). فصل قولكم في الخامس عشر: لو كانت جسمًا لكانت منقسمةً، ولصحَّ عليها أن تعلمَ بعضها وتجهلَ بعضها، فيكون الإنسان عالمًا ببعض نفسه جاهلًا بالبعض الآخر. جوابه: أن هذه الشبهة مركبة من مقدِّمتين: تلازمية واستثنائية، والمنعُ واقعٌ في كلا المقدمتين (4) أو إحداهما. فلا نسلِّم أنها لو كانت جسمًا لصحَّ أن تعلم بعضها وتجهل بعضها، فإن النفس بسيطة، غير مركبة من هذه العناصر ولا من الأجزاء المختلفة، فمتى (5) شعرت بذاتها شعرت _________ (1) رسمها في (ب، ط، ج) يشبه «تنبتر». وفي (ن): «ينقطع منها موضع العضو». (2) في (ب، ط، ج) زيادة: «به». (3) «سواء» ساقط من (ق). (4) كذا في جميع النسخ بتذكير «كلا»، وله نظائر في كتب المؤلف. انظر ما علّقت على «كلا الطائفتين» في طريق الهجرتين (505). (5) (أ، ق، غ): «فمن»، تحريف.

(2/599)


بجملتها (1). فهذا منعُ (2) المقدمة التلازمية. وأما الاستثنائية، فلا نسلِّم أنها لا يصحُّ أن تعلمَ بعضَها حال غفلتها (3) عن البعض الآخر، ولم تذكروا (4) على بطلانِ ذلك شبهةً فضلًا عن دليل. ومن المعلوم أن الإنسان قد يشعر بنفسه من بعض الوجوه دون كلِّها. ويتفاوتُ الناس في ذلك، فمنهم من يكون شعوره بنفسه أتمَّ من غيره بدرجات كثيرة. وقد قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]. فهؤلاء نسُوا نفوسهم لا من جميع الوجوه، بل من الوجه الذي به مصالحُها وكمالُها وسعادتُها، وإن لم ينسَوها من الوجه الذي منه شهوتُها وحظُّها (5) وإرادتُها. فأنساهم مصالحَ نفوسهم أن يفعلوها ويطلبوها، وعيوبَها ونقائصَها (6) أن يُزيلوها (7) ويجتنبوها، وكمالَها الذي خُلقت له أن يعرفوه ويطلبوه. فهم جاهلون بحقائق أنفسهم من هذه الوجوه، وإن كانوا عالمين بها من وجوه أُخَر. _________ (1) هذا في (ب، ط، ج). وفي غيرها: «بجهلها»، تحريف. والجملة «فمتى شعرت .. » إلى هنا ساقطة من (ن). (2) (ب، ط، ج): «يمنع». (3) ما عدا (ج، ن، ز): «عقلها»، تصحيف. (4) كذا في (غ). والأصل غير منقوط. وفي غيرهما: يذكروا. (5) رسمها في (أ، ق، ط) بالضاد، فتحرف في (ب، ج، ن، ز) إلى «غضبها». (6) بعدها في الأصل زيادة: «أوشي» وكذا في (ق، ب، غ). ولم أدر ما هو. (7) (ط، ز): «يتركوها».

(2/600)


فصل [139 أ] قولكم في السادس عشر: لو كانت النفس جسمًا لوجب ثقلُ البدن بدخولها فيه؛ لأن من شأن الجسم إذا زدتَ عليه جسمًا آخر أن يثقل به. فهذه شبهة في غاية الثقالة، والمحتجُّ بها أثقَل وأثقَل! وليس كلُّ جسمٍ زِيدَ عليه جسمٌ آخر ثقَّله، فهذه الخشبة تكون ثقيلة، فإذا زِيد عليها جسمُ النار خفَّت جدًّا. وهذا الظرف يكون ثقيلًا، فإذا دخله جسم الهواء خفَّ. وهذا إنما يكون في الأجسام الثِّقال التي تطلب المركزَ والوسطَ بطبعها، وهي تتحرك بالطبع إليه. وأما الأجسام التي تتحرك بطبعها إلى العلوِّ، فلا يعرضُ لها ذلك، بل الأمر فيها بالضدِّ من تلك الأجسام الثقال. بل إذا أضيفت إلى جسم ثقيل أكسبته الخفَّة. وقد أخذ هذا المعنى بعضُهم، فقال (1): ثقُلتْ زجاجاتٌ أتَتْنا فُرَّغًا ... حتى إذا مُلِئَتْ بصِرْف الرَّاح خَفَّتْ فكادت أن تطير بما حوَتْ ... وكذا الجُسومُ تخِفُّ بالأروَاح _________ (1) البيتان لإدريس بن اليمان العبدري الأندلسي (ت 450) من قصيدة طويلة في علي بن مجاهد العامري كما في جذوة المقتبس (170) والمطرب لابن دحية (130) ونفح الطيب (4/ 75) وغيرها من المصادر الأندلسية. ونسبا في معجم الأدباء (1084) وعيون الأنباء (2/ 255) إلى ابن شبل البغدادي الطبيب الفيلسوف (ت 474)، وفي البديع لأسامة (227) إلى ابن هانئ.

(2/601)


فصل قولكم في السابع عشر: لو كانت النفس جسمًا لكانت على صفات سائر الأجسام التي لا تخلو منها، من الخفة والثقل، والحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، والنعومةِ والخشونة، إلى آخره (1) = شبهةٌ فاسدة، وحجة داحضة، فإنه لا يجب اشتراك الأجسام في جميع الكيفيات والصفات. وقد فاوت اللّهُ سبحانه بين صفاتها وكيفياتها وطبائعها (2)، فمنها ما يُرى بالبصر ويُلمَس باليد، ومنها ما لا يُرى ولا يُلمَس. ومنها ما له لون، ومنها ما لا لون له. ومنها ما يقبل الحرارة والبرودة، ومنها ما لا يقبله. على أن للنفس (3) من الكيفيات المختصَّة بها ما لا يشاركُها فيها البدن، ولها خفة وثقل، وحرارة وبرودة، ويبس (4) ولِين بحسبها. وأنت تجد الإنسان في غاية الثقالة، وبدنُه نحيل (5) جدًّا. وتجده في غاية الخفَّة، وبدنُه ثقيل. وتجد نفسًا لينة وادعة، ونفسًا يابسة [139 ب] قاسية. ومن له حسٌّ (6) سليمٌ يشمُّ رائحةَ بعض النفوس كالجيفة المنتنة، ورائحةَ بعضِها أطيبَ من ريح المسك. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مرَّ في طريق بقيَ أثر رائحته في الطريق، _________ (1) «آخره» ساقط من (ب، ط، ز). (2) (ز، ن): «طباعها». (3) في الأصل: «النفس». وكذا في (ب، ط، ق، ن). والمثبت من غيرها. (4) (ن): «يبوسة». (5) تحرّف في (ب، ط) إلى «ثقيل»، فلما فسد المعنى أثبت ناسخا (ج، ن): «خفيف». (6) (ن): «شمّ».

(2/602)


ويُعرف (1) أنه مرَّ بها (2). وتلك رائحة نفسه وقلبه (3). وكانت رائحة عَرَقه من أطيب شيء (4)، وذلك تابعٌ لطيبِ نفسه وبدنه. وأخبر ــ وهو أصدق البشر ــ أنَّ الروحَ عند المفارقة يوجد لها كأطيب نفحةِ مسكٍ وُجِدت على وجه الأرض، أو كأنتن ريحِ جيفةٍ وُجِدت على وجه الأرض (5). ولولا الزكامُ الغالب لشمَّ الحاضرون ذلك. على أنَّ كثيرًا من الناس (6) يجد ذلك، وقد أخبر به غيرُ واحد، ويكفي فيه خبر الصادق المصدوق. وكذلك أخبر بأن أرواح المؤمنين مشرقةٌ، وأرواحَ الكفار سُودٌ (7). وبالجملة فكيفياتُ النفوس أظهرُ من أن ينكرها إلا مَن هو مِن أجهلِ الناس بها (8). فصل قولكم في الثامن عشر: لو كانت (9) جسمًا لوجب أن تقع تحت جميع _________ (1) (ب، ط، ج): «فيعرف». (2) أخرجه البخاري في تاريخه الكبير (1273) عن جابر. (3) (ب، ط، ج): «قلبه ونفسه». (4) انظر حديث أنس في صحيح مسلم (2331). (5) سبق تخريجه. (6) (ن): «أكثر الناس». (7) سبق تخريجه. (8) ساقط من (ط، ج، ز). وفي (ط): «من هو أجهل الناس»، فأسقط «مِن» أيضًا. (9) في النسخ المطبوعة زادوا بعدها: «النفس».

(2/603)


الحواسِّ أو تحت حاسة منها، إلى آخره. فجوابه بمنع (1) اللزوم، فإنكم لم تذكروا عليه شبهةً فضلًا عن دليل. ومَع (2) انتفاءِ اللازم، فإن الروح تُدرَك بالحواسِّ، فتُلمَس، وتُرى، وتُشَمُّ لها الرائحة الطيبة والخبيثة، كما تقدم في النصوص المستفيضة، ولكن لا نشاهد نحن ذلك. وهذا الدليل لا يمكن مَن يصدِّقُ الرسلَ أن يحتجَّ به، فإن الملَك جسم ولا يقع تحت حاسَّة من حواسنا، وكذلك الجنُّ والشياطين أجسام لِطاف لا تقع تحت حواسنا (3). والأجسام متفاوتة في ذلك تفاوتًا كثيرًا، فمنها ما يدرَك بأكثر الحواس، ومنها ما لا يدرَك (4) بأكثرها، ومنها ما يدرَك بحاسَّة واحدة. ومنها ما لا ندرِكه نحن (5) في الغالب، وإن أُدرِك في بعض الأحوال؛ لكونه لم يُخلَق (6) _________ (1) الأصل غير منقوط. وفي (ق، ز، غ): «يمنع». وكذا في بعض النسخ المطبوعة وفي بعضها: «منع». وفي (ط): «يمتنع». والمثبت من (ج، ن). ويحتمل: «نمنع» وقبلها في (ب، ط، ج، ز): «جوابه» دون الفاء. (2) هذا في (ن، ز). وفي غيرهما: «منع». (3) (ن): «حاسة من حواسنا». (4) كذا في (ج) وحدها والنسخ المطبوعة. وفي الأصل وغيره: «ما يدرك». فإن صح فالجملة مكررة، ومن ثم حذفت في (ن). وفي (ق): «بأكبر الحواس» في الجملة السابقة، و «بأكثرها» في هذه الجملة. وفي (غ) على العكس. (5) «نحن» ساقط من (ب، ط، ج، ز). وفي (ط): «يُدرك». (6) في الأصل: «يخلو». وكذا في (غ). وفي (ق): «يخلونا». وفي (ن): «يثبت»، ولعله تصرف من ناسخها.

(2/604)


لنا إدراكه، أو لمانعٍ يمنع من إدراكه، أو للطفِه عن إدراك حواسِّنا. فما عَدِمَ اللون من الأجسام لم يُدرَك بالبصر كالهواء والنار في عنصرها، وما عَدِم الرائحةَ لم يُدرَك بالشمِّ كالنار والحصا والزجاج، وما عَدِمَ المجَسَّةَ لم يُدرَك باللمس كالهواء الساكن (1). وأيضًا فالروح هي المدرِكةُ لمدارك (2) هذه الحواسِّ بواسطة آلاتها (3)، فالنفسُ هي الحاسة المدركة (4)، وإن لم تكن محسوسة. فالأجسام والأعراض محسوسة، والنفس مُحِسَّة بها. وهي القابلة لأعراضها المتعاقبةِ عليها من الفضائل والرذائل، كقبول الأجرام لأعراضها المتعاقبة عليها. وهي المتحركة باختيارها، المحرِّكة للبدن قسرًا (5) وقهرًا. وهي مؤثرة في البدن، متأثرةٌ به، تألمُ وتلَذُّ، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وتنعَم وتبأس، وتحب وتكره، وتَذكرُ وتنسى، وتصعد وتنزل، وتعرِفُ وتُنكر. فآثارها (6) من أدلِّ الدلائل على وجودها، كما أن آثار الخالق سبحانه دالةٌ على وجوده وعلى كماله؛ فإن دلالة الأثر على مؤثره ضرورية. وتأثيراتُ النفوس بعضِها في بعض أمرٌ لا ينكره ذو حسٍّ سليم ولا عقل _________ (1) في الأصل: «الساكنة». وكذا في (غ) مع (ظ) فوقها». (2) (ز): «لنحو ما تدرك». (3) (أ، غ): «آلتها». (4) (أ، غ): «المذكورة»، تحريف. (5) (ط): «صبرًا»، تحريف. (6) (أ، غ): «فأثرها».

(2/605)


مستقيم، ولا سيَّما عند تجرُّدها نوعَ تجرُّدٍ عن العلائق والعوائق البدنية (1)؛ فإنَّ قواها تتضاعفُ وتتزايد بحسب ذلك، ولاسيما عند مخالفةِ هواها وحملِها على الأخلاق العالية من العفة والشجاعة والعدل والسخاء، وتجنُّبِها سفسافَ (2) الأخلاق ورذائلَها وسافلَها؛ فإنَّ تأثيرها في العالم يقوى جدًّا، تأثيرًا يعجز عنه البدنُ وأعراضُه (3): أن تنظرَ إلى حجرٍ عظيم فتشُقَّه، أو إلى حيوان كبير فتُتلِفَه، أو إلى نعمةٍ فتزيلَها. وهذا أمر قد شاهده الأمم على اختلاف أجناسها وأديانها وهو الذي يُسمَّى (4) إصابة العين، فيضيفون الأثر إلى العين، وليس لها في الحقيقة، وإنما هو للنفس (5) المتكيِّفة بكيفية ردِيَّة سُمِّيَّة. وقد يكون بواسطة نظر العين، وقد لا يكون، بل يوصفُ له الشيء من بعيد، فتتكيف عليه نفسُه بتلك الكيفية (6)، فتُفسِده. وأنت ترى تأثير النفس في الأجسام صفرةً وحمرةً وارتعاشًا بمجرد مقابلتها لها وقوتها (7). وهذه وأضعافُها آثارٌ خارجةٌ عن تأثير البدن وأعراضِه، فإن البدن [140 ب] لا يؤثِّر إلا فيما لاقاه وماسَّه تأثيرًا مخصوصًا. ولم تزل الأمم تشهد تأثيرَ الهِمَم الفعَّالة (8) في العالم، وتستعين بها، وتحذَر أثرها. _________ (1) «البدنية» ساقط من (ب، ط، ج). (2) «سفساف» ساقط من (ب، ط). وفي (ج): «ذمائم»، ولعله اجتهاد من ناسخها. (3) في (ب، ط، ج) هنا زيادة: «فليس في قوة البدن وأعراضه». والنص لا يستلزمها. (4) (أ، غ، ق): «سمي». (5) في (ب، ط، ج) زيادة: الغضبية». (6) «بكيفية رديّة ... الكيفية» ساقط من (ب، ط). (7) وانظر: زاد المعاد (4/ 165 ــ 166)، ومدارج السالكين (1/ 56). (8) (غ، ز): «الفاعلة». وفي (ن، ز) قبلها زيادة «العالية».

(2/606)


وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يغسل العائِنُ مغابنَهُ ومواضعَ القذر منه، ثم يُصَبَّ ذلك الماءُ على المَعِين، فإنه يزيلُ عنه تأثير نفسه فيه (1). وذلك بسبب (2) أمرٍ طبيعي اقتضته حكمة الله سبحانه، فإن النفس الأمارة لها بهذه المواضع تعلُّقٌ وإلْفٌ، والأرواحُ الخبيثة الخارجية تساعدها، وتألف هذه المواضع غالبًا للمناسبة بينها وبينها. فإذا غُسِلتْ بالماء طَفِئَتْ تلك الناريَّةُ منها كانطفاءِ (3) الحديدِ المُحْمَى بالماء، فإذا صُبَّ ذلك الماءُ على المصاب طفئ (4) عنه تلك النارية التي وصلت إليه من العائن. وقد وصفَ الأطباء الماءَ الذي يُطفأ فيه الحديدُ لآلامٍ وأوجاع معروفة. وقد جرَّب (5) الناس من تأثير الأرواح بعضها في بعض عند تجرُّدها في المنام عجائبَ تفوت الحصر، وقد نبَّهنا على بعضها فيما مضى. فعالَمُ الأرواحِ عالَمٌ آخَر أعظَم من عالَم الأبدان، وأحكامُه وآثارُه أعجبُ من آثار الأبدان. بل كلُّ ما في العالم من الآثار الإنسانية فإنما هي من تأثير النفوس بواسطة البدن. فالنفوسُ والأبدانُ يتعاونان (6) على التأثير تعاونَ المشتركين في الفعل. وتنفردُ النفس بآثار لا يشاركها فيها البدن، ولا يكون للبدن تأثيرٌ _________ (1) يشير إلى قصة سهل بن حنيف الذي عانه عامر بن ربيعة. أخرجها مالك في الموطأ (1679) عن أبي أمامة بن سهل. (2) كذا في (أ، ن). وفي غيرهما: «سببُ». (3) هكذا في الأصل. وفي غيره: «كما يطفى». (4) رسمها في جميع النسخ: «طفا»، فتحتمل قراءة «طفَّى» بمعنى أطفأ، وهي عامية. (5) في الأصل: «درب»، ولعله تحريف. وكذا في (ق، ز، ن). (6) كذا بالياء في النسخ ما عدا الأصل الذي لم يعجم فيه أوله. وفي (ن، ز): «متعاونَين»، تحريف.

(2/607)


لا تشارِكه فيها النفس. فصل قولكم في التاسع عشر: لو كانت (1) جسمًا لكانت ذاتَ طول وعَرْض وعمق وشكل وسطح، وهذه المقادير لا تقوم إلا بمادة (2)، إلى آخره. جوابه: أنَّا نقول: قولُكم: هذه المقاديرُ لا تقوم إلا بمادة. قلنا: وكان ماذا؟ والنفس لها مادة (3) خُلِقتْ منها، وجُعِلت على شكل معيَّن وصورة معيَّنة. قولكم: مادتها إن كانت نفسًا لزم اجتماع نفسَين، وإن كانت غيرَ نفس كانت مركَّبةً من بدن وصورة. قلنا: مادتها ليست [141 أ] نفسًا، كما أنَّ مادة الإنسان ليست إنسانًا، ومادةَ الجنِّ ليست جِنًّا، ومادةَ الحيوان ليست حيوانًا. قولكم: «يلزم كونُ النفسِ مركبةً من بدن وصورة» مقدِّمة كاذبة، وإنما يلزم كونُ النفسِ مخلوقةً من مادة، ولها صورة معينة. وهكذا نقول سواءً، ولم تذكروا على بطلان هذا شبهةً، فضلًا عن حجَّة (4) ظنية أو قطعية. فصل قولكم في الوجه العشرين: إنَّ خاصَّة الجسم أن يقبلَ التجزِّي (5)، وأن _________ (1) (ط): «كانت النفس». (2) في الأصل هنا وفيما يأتي: «بأمارة»، وكذا في (غ)، وهو تحريف. (3) (ب، ط): «وكان بإرادة النفس الأمارة»، تحريف طريف. (4) في الأصل: «شبهة»، وهو سهو. وكذا في (غ). (5) مصدر تجزَّى بتسهيل الهمزة. والأصل: التجزُّؤ.

(2/608)


الجزء الصغير منه (1) ليس كالكبير. فلو قبلت التجزِّي، فكل جزء منها إن كان نفسًا لزم أن يكون للإنسان نفوس كثيرة، وإن لم يكن نفسًا لم يكن المجموع نفسًا. جوابه: إن أردتم أنَّ كلَّ جسم يقبل التجزِّي في الخارج، فكذبٌ ظاهر؛ فإن الشمس والقمر والكواكب لا تقبل ذلك. ولا يلزم أنَّ كلَّ جسم يصحُّ عليه التجزِّي والتبعيض في الخارج، أما على قولِ نُفاةِ الجوهر الفرد فظاهر، وأما على قول مثبتيه فإنه عندهم جوهر متحيِّز لا يصح عليه قبول الانقسام. سَلَّمنا (2) أنها تقبل الانقسام (3)، فأيُّ شيء يلزم من ذلك؟ قولكم: إن كان كلُّ جزء من تلك الأجزاء أنفسًا لزم اجتماعُ نفوس كثيرة في الإنسان. قلنا: إنما يلزم ذلك لو (4) انقسمت النفسُ بالفعل إلى نفوسٍ كثيرة، وهذا محال (5). قولكم: «وإن لم يكن كلُّ جزء نفسًا لم يكن المجموع نفسًا» مقدمة كاذبة منتقِضة. فكلُّ ماهية ثبتَ لها حكمٌ عند اجتماع أجزائها، فإنَّ ذلك الحكم لا يثبت لكل جزء من تلك الأجزاء، كماهية البيت والإنسان والعشَرة وغيرها. _________ (1) ساقط من الأصل. (2) (ب، ط): «فسلَّمنا». (3) «سلمنا ... الانقسام» ساقط من (ن، ز). (4) في جميع النسخ: «ان لو»، ولعله سهو كان في الأصل. وقد حذفت «أن» في النسخ المطبوعة. (5) هذه الفقرة ساقطة من (ج).

(2/609)


فصل قولكم في الوجه الحادي والعشرين: إن الجسم يحتاج في قوامه وبقائه وحفظه إلى النفس، فلو كانت النفس جسمًا لكانت محتاجة في قوامها وبقائها إلى نفس أخرى، ويلزمُ التسلسل. جوابه: أنه لا يلزم من افتقار البدن إلى نفس تحفظُه افتقارُ النفس إلى نفسٍ تحفظها، وهل ذلك إلا مجرَّدُ دعوى كاذبةٍ تستند (1) إلى قياسٍ [141 ب] قد تبيَّن بطلانُه، فإن كلَّ جسم لا يفتقر إلى نفس تحفظه كأجسام المعادن وجسم الهواء والماء والنار والتراب وأجسام سائر الجمادات. فإن قلتم: إن هذه ليست أحياءً ناطقةً بخلاف النفس فإنها حية ناطقة. قلنا: فحيئذٍ يبقى الدليل هكذا: إنَّ كلَّ جسمٍ حيٍّ ناطقٍ يحتاج في حفظه وقيامه إلى نفسٍ تقوم به. وهذه دعوى مجرَّدة، وهي كاذبة، فإنَّ الجن والملائكة أحياء ناطقون، وليسوا مفتقرين في قيامهم إلى أرواح أُخَر تقوم بهم. فإن قلتم: وكلامنا معكم في الجن والملائكة فإنهم ليسوا بأجسامٍ متحيزة (2). _________ (1) في (ن): «مستندة». وفي غيرها جميعًا: «مستند»، فأقرب قراءة لهذا الرسم ما أثبتنا، إلا أن يكون سهو قد وقع في أصل المصنف فيكون الصواب ما ورد في (ن). وكذا في النسخ المطبوعة. (2) كذا في جميع النسخ الخطية والمطبوعة ما عدا (غ)، ولعل في النص سقطًا أو تصحيفًا. وفي (غ): «فكلامنا معكم ... أنهم ليسوا». وهو أشبه.

(2/610)


قلنا: الكلام مع من يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله. وأما مَن كَفَر بذلك فالكلام (1) معه في النفس ضائع، وقد كفر بفاطر النفوس ومُبدِعها وملائكتِه وما جاءت به رسلُه وبسائر ما دلَّ (2) عليه العيانُ مع دليل الإيمان (3)، فإن الآثار المشهودة في العالم من تأثيرات الملائكة والجن بإذن ربهم لا يمكن إنكارُها، ولا هي موجودة بنفسها، ولا تقدرُ عليها القوى البشرية. فصل قولكم في الثاني والعشرين: لو كانت جسمًا لكان اتصالُها بالبدن إن كان على سبيل المداخلة لزمَ تداخلُ الأجسام، وإن كان على سبيل الملاصقة والمجاورة كان الإنسان الواحد جسمين متلاصقين: أحدُهما يُرى، والآخر لا يُرى. جوابه من وجوه: أحدها: أنَّ تداخل الأجسام المحالَ أن يتداخل جسمان كثيفان أحدُهما في الآخر، بحيث يكون حيِّزُهما واحدًا. وأما أن يدخل جسمٌ لطيف في كثيف يسري فيه، فهذا ليس بمحال. _________ (1) في الأصل: «فلا كلام». وكذا في (ق). وهو سهو. (2) «وكاين بارك» كذا في الأصل دون نقط. وفي (ن): «رسله ويكفي العيان». وفي (ز): «رسله وما شهد عليه العيان». وفي النسخ المطبوعة: «رسله وكان تاركًا ما دلَّ ... ». وكل أولئك إصلاحات بالحذف والزيادة. وفي (ب، ط، ج): «وكسائر ما دلَّ». ولعل الصواب ما أثبتنا. (3) (ب، ط، ج): «الآثار»، تحريف.

(2/611)


الثاني: أن هذا باطل (1) بصور كثيرة، منها: دخول الماء في العودِ والسحاب (2)، ودخول النار في الحديد، ودخول الغذاء في [142 أ] جميع أجزاء البدن، ودخول الجن في المصروع. فالروح لِلَطافتها لا يمتنع عليها مشابكةُ البدن (3)، والدخولُ في جميع أجزائه. الثالث: أن حيِّزَ النفس البدنُ، وحيزُه مكانُه المنفصل عنه، وهذا (4) ليس بتداخلٍ ممتنع، فإذا فارقَتْه صار لها حيِّز (5) آخر غير حيزِه، وحينئذٍ فلا يتداخلان بل يصيرُ (6) لكلٍّ منهما حيزٌ يخصه. وبالجملة: فدخول الروح في البدن ألطفُ من دخول الماء في الثرى، والدهن في البدن. فهذه الشُّبَه (7) الفاسدة لا يعارَض بها ما دلَّ عليه نصوصُ الوحي والأدلةُ العقلية. وبالله التوفيق. _________ (1) (ب، ط، ج): «يبطل». (2) ساقط من (ن، ز). (3) (أ، غ، ق): «مشاركة البدن». (4) في الأصل: «فهذا». (5) ما عدا (ز): «حيِّزًا، وهو خطأ. (6) (ز): «يصفو». (7) في (غ) والنسخ المطبوعة: «الشبهة». والصواب ما أثبتنا من الأصل وغيره، فإن المقصود: الشبه المردود عليها كلها لا الشبهة الأخيرة فحسب.

(2/612)


فصل

 وأمَّا المسألة العشرون (1) وهي: هل النفس والروح شيءٌ واحد أو شيئان متغايران؟

فاختلف الناس في ذلك، فمن قائل: إن مسمَّاهما واحدٌ، وهم الجمهور. ومن قائل: إنهما متغايران. ونحن نكشف سرَّ المسألة بحول الله وقوته، فنقول: النفس تطلَق على أمور: أحدها: الروحُ. قال الجوهري (2): «النفس: الروح. يقال: خرجت نفسه. قال أبو خِرَاش (3): نجا سالمٌ والنفسُ منه بشِدْقِه ... ولم ينجُ إلا جَفْنَ سيفٍ ومئزرا (4) أي: بجَفنِ سيفٍ ومئزرٍ. والنفس: الدم. يقال: سالت نفسه. وفي الحديث (5): «ما لا نفس له _________ (1) في (ن): «الحادية والعشرون»، ونحوه في (ز). وفي (ب): «التاسعة عشر». ولم يرد في (ن) «فصل وأما». (2) في الصحاح (984). (3) كذا في الصحاح، والصاحبي لابن فارس (135). ونبَّه ابن بَرِّي في حواشيه على الصحاح (2/ 307) على أن البيت لحذيفة بن أنس الهذلي. وانظر: شرح أشعار الهذليين (558). (4) ما عدا (ب، ج): «سالمًا»، ظنُّوه حالًا من الناجي، وهو خطأ. وسالم: ابن عامر بن عَريب الكناني. (5) يعني حديث النخعي كما في النهاية لابن الأثير (5/ 96) وهو من كلامه. انظر: غريب الحديث لابن قتيبة (1/ 355) والزاهر لابن الأنباري (2/ 233) وتهذيب اللغة (13/ 12) وزاد المعاد (4/ 112).

(2/613)


سائلةً لا ينجِّس الماءَ إذا مات فيه». والنفسُ: الجسد. قال الشاعر (1): نُبِّئتُ أنَّ بني سُحَيمٍ أدخَلوا (2) ... أبياتَهم تامُورَ نَفْسِ المنذر والتامور: الدم. والنفس: العين. يقال: أصابت فلانًا نفسٌ، أي: عين». قلت: ليس كما قال، بل النفس هاهنا: الروح، ونسبةُ الإصابة (3) [142 ب] إلى العين توسُّعٌ؛ لأنها تكون بواسطة النظر المصيب. والذي أصابه إنما هو نفس العائن، كما تقدم (4). قلت: والنفس في القرآن تطلَق على الذات بجملتها، كقوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61]، وقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]، وقوله: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111] (5)، وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]. _________ (1) هو أوس بن حجر، من أبيات يحرِّض بها عمرو بن هند على قَتَلة أبيه المنذر بن ماء السماء. انظر: ديوان أوس (47). (2) في جميع النسخ: «بني تميم». وتصحيحه من الصحاح والديوان. (3) هذا في (ب، ج، ز). وفي غيرها: «الإضافة»، وكذا في النسخ المطبوعة، وهو تصحيف. (4) في (ص 606). (5) زاد بعدها في (ط): «وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}».

(2/614)


وتطلق على الروح وحدها، كقوله تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27]، وقوله: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام: 93]، وقوله: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40]، وقوله: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]. وأما الروح فلا تطلق على البدن، لا بانفراده، ولا مع النفس. وتطلق الروح على القرآن الذي أوحاه الله تعالى إلى رسوله. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]. وعلى الوحي الذي يوحيه إلى أنبيائه ورسله. قال تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} [غافر: 15]. وقال: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل: 2]. وسمَّى ذلك (1) روحًا لما يحصل به من الحياة النافعة، فإن الحياة بدونه لا تنفع صاحبَها البتة، بل حياةُ الحيوان البهيم خيرٌ منها وأسلَمُ عاقبة. وسُمِّيت الروح روحًا لأنَّ بها حياة البدن. وكذلك سُمِّيت الريح لِما يحصل بها من الحياة. وهي من ذوات الواو، ولهذا تُجمَع على أرواح. قال الشاعر (2): _________ (1) «ذلك» ساقط من الأصل. (2) لم أجد البيت على الوجه المذكور هنا. والبيت الذي استشهدوا به على جمع الريح على «أرواح» قول ذي الرمة من قصيدة في ديوانه (694): إذا هبَّت الأرواحُ مِن نحوِ جانبٍ ... به أهلُ مَيٍّ هاجَ شوقي هبوبُها = انظر: النكت والعيون (1/ 217)، ودرّة الغواص (190). وقد ورد في الأشباه والنظائر للخالديين (1/ 82) قبل بيت ذي الرمة قول بعضهم: إذا الريحُ من أرض الحجاز تنسَّمتْ ... وجدتُ لِمَسْراها على كبدي بَرْدا وهو يُنسب إلى علي بن علقمة وغيره. انظر تخريجه في الأشباه والحماسة البصرية (1179). ولعل البيت الذي أورده المصنف ملفق من عجز هذا البيت وصدر بيت ذي الرمة.

(2/615)


إذا هبَّت الأرواحُ من نحوِ أرضِكم ... وجدتُ لمَسْراها على كبِدي بَرْدا ومنها الرَّوح، والرياح، والاستراحة. فسمِّيت النفْسُ رُوحًا لحصول الحياة بها. وسُمِّيت نفْسًا إما من الشيء النفيس لنفاستها وشرفها، وإما مِن تنفَّسَ الشيءُ إذا خرج (1). فلكثرة خروجها ودخولها في البدن سمِّيتْ نفْسًا. ومنه النَّفَس ــ بالتحريك ــ فإنَّ العبد كلَّما نام خرجَتْ منه، فإذا استيقظ رجعت إليه، فإذا مات خرجت خروجًا كلِّيًا، فإذا دُفنَ عادت إليه، فإذا سُئل خرجتْ، فإذا بُعِث رجعت إليه. فالفرق بين النفس والروح فرقٌ بالصفات، لا فرق بالذات. وإنما سُمِّي الدم نفسًا لأن خروجَه الذي يكون معه الموتُ يلازم (2) _________ (1) ذكر ابن فارس في المقاييس (5/ 460) أن المادة تدل على خروج النسيم كيف كان، من ريح أو غيرها، وإليه يرجع فروعها. وقال المصنف في مدارج السالكين (3/ 186) إن النون والفاء وما يثلثهما تدل حيث وجدت على الخروج والانفصال. وهو قول الزمخشري في الكشاف (1/ 41). (2) ما عدا (ب، ج، غ): «بلادم»، تصحيف.

(2/616)


خروجَ النفس، وأن الحياة لا تتم إلا به، كما لا تتم إلا بالنفس. فلهذا قال (1): تَسِيلُ على حدِّ الظُّبات نفوسُنا ... وليست على غيرِ الظُّباتِ تَسِيلُ (2) ويقال: فاضت نفسه، وخرجت نفسه؛ كما يقال: خرجت روحه، وفارقت. ولكن الفَيض: الاندفاع وَهْلةً واحدةً. ومنه الإفاضة، وهي: الاندفاع بكثرة وسرعة. لكن أفاض: إذا دفع باختياره وإرادته، وفاض: إذا اندفع قسرًا وقهرًا. فالله سبحانه هو الذي يُفيضها (3) عند الموت، فتَفِيض هي. فصل وقالت فرقة (4) أخرى من أهل الحديث والفقه والتصوُّف: الروح غيرُ النفس. قال مقاتل بن سليمان (5): للإنسان حياة، وروح، ونفس. فإذا نام _________ (1) زاد في (ن): «الشاعر». وهو السموأل بن عادياء. انظر تخريجه والاختلاف في نسبة الأبيات التي منها هذا البيت في الحماسة (1/ 79). (2) كلمة «الظبات» رسمت في جميع النسخ بالتاء المربوطة. (3) (ط، ن): «يقبضها»، تصحيف. (4) (ط): «طائفة». (5) لم أجد قول مقاتل، ولعل المؤلف نقله من كتاب النفس والروح لابن منده. ولكنه يشبه ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: في جوف الإنسان نفس وروح، بينهما مثل شعاع الشمس، فيتوفى الله النفسَ في منامه، ويدع الروح في جوفه تنقلب وتعيش. فإن أراد الله أن يقبضه قبض الروح فمات. وإن أخَّر أجله ردَّ النفس إلى مكانها من جوفه. وقد نقل السيوطي في شرح الصدور (416) قول مقاتل من كتابنا هذا.

(2/617)


خرجت نفسه التي يعقِل بها الأشياء، ولم تفارق الجسد، بل تخرج كحبلٍ ممتدٍّ له شعاع، فيرى الرؤيا بالنفس التي خرجت منه. وتبقى الحياة والروح في الجسد، فبه (1) يتقلب ويتنفَّس. فإذا حُرِّك رجعَتْ إليه أسرعَ من طرفة عين، فإذا أراد الله عزَّ وجلَّ أن يميته في المنام أمسك تلك النفس التي خرجَتْ. وقال أيضًا: إذا نام خرجت نفسه، فصعدت إلى فوق، فإذا رأت الرؤيا رجعَتْ، فأخبرت الروح، ويخبرُ الروح القلب، فيصبح يعلمُ أنه قد رأى كيتَ وكيتَ. قال أبو عبد الله بن منده (2): ثم اختلفوا في معرفة الروح والنفس. فقال بعضهم: النفس طينية ناريَّة، والروح نوريَّة روحانية. وقال بعضهم: الروح لاهوتية، والنفس [143 ب] ناسوتية، وإنَّ الخلق بها ابتُلي. وقالت طائفة، وهم أهل الأثر: إنَّ الروحَ غيرُ النفس، والنفسَ غيرُ الروح، وقوامُ النفس بالروح. والنفسُ صورةُ العبد، والهوى والشهوةُ والبلاءُ معجونٌ (3) فيها. ولا عدوَّ أعدى لابن آدم من نفسه، فالنفس لا تريد إلا الدنيا، ولا تحب إلا إياها. والروح تدعو إلى الآخرة، وتؤثِرُها. وجُعِل الهوى تَبَعًا للنفس، والشيطانُ مع (4) النفس والهوى، والملك مع العقل _________ (1) يعني ببقاء الحياة والروح. والأصل غير منقوط، والمثبت من (ب). وفي غيرهما: فيه. وفي شرح الصدور (416): «فيهما». وصوابه: «فبهما»، أي بالحياة والروح. (2) في كتاب النفس والروح كما سبق. (3) (ب): «يعجنون». وفي غيرها: «يعجون». ولعل الصواب ما أثبتنا من النسخ المطبوعة. (4) (أ، غ، ق): «تبع».

(2/618)


والروح، واللّهُ تعالى يُمِدُّهما (1) بإلهامه وتوفيقه. وقال بعضهم: الأرواح من أمر الله أخفَى حقيقتها وعِلمها عن الخلق. وقال بعضهم: الأرواح نور من نور الله، وحياةٌ من حياة الله. ثم اختلفوا في الأرواح: هل تموت بموت الأبدان والأنفس أو لا تموت؟ فقالت طائفة: الأرواح لا تموت ولا تَبلى. وقالت جماعة: الأرواح على صور الخلق، لها أيدٍ وأرجل وأعين وسمع وبصر ولسان. وقالت طائفة: للمؤمن ثلاثة أرواح، وللمنافق والكافر روح واحدة (2). وقال بعضهم: للأنبياء والصدِّيقين خمسُ أرواح (3). وقال بعضهم: الأرواح روحانيةٌ خُلِقت من الملَكوت، فإذا صَفَتْ رجعت إلى الملكوت. قلت: أما الروح التي تُتَوفَّى وتُقبض، فهي روح واحدة (4)، وهي النفس. وأما ما يؤيد اللهُ به أولياءه من الروح فهي روح أخرى غير هذه الروح، كما قال تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} _________ (1) (أ، غ، ط): «يمدها». (2) (ط): «واحد» نظرًا لقوله: «ثلاثة أرواح». (3) (ن، ز): «خمسة أرواح». (4) «واحدة» من (أ، غ، ق).

(2/619)


[المجادلة: 22]، وكذلك الروح الذي أيد بها روحَه المسيحَ ابن مريم كما قال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [المائدة: 110]، وكذلك الروحُ التي يلقيها على من يشاء من عباده هي (1) غيرُ الروح التي في البدن. وأما القوى (2) التي في البدن فإنها أيضًا تسمَّى (3) أرواحًا فيقال: الروح الباصر، والروح السامع، والروح الشامُّ. فهذه الأرواح قُوىً مودَعةٌ في الأبدان تموت [144 أ] بموت الأبدان. وهي غيرُ الروح التي لا تموت بموت البدن، ولا تبلى كما يبلى. وتُطلَق الروح على أخصَّ من هذا كلّه، وهو قوة المعرفة بالله، والإنابِة إليه، ومحبتِه، وانبعاثِ الهمة إلى طلبه وإرادته. ونسبةُ هذه الروح إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن. فإذا فقدَتْها الروح كانت بمنزلة البدن إذا فقد روحَه. وهي الروح التي يؤيِّد بها أهلَ ولايته وطاعته. ولهذا يقول الناس: فلان فيه روح، وفلان ما فيه روح، وهو بَوٌّ (4)، وهو قصَبة فارغة، ونحو ذلك. فللعلم (5) روحٌ، وللإحسان (6) روح، وللإخلاص روح، وللمحبة _________ (1) ساقط من (ن، ز). (2) هذه الفقرة إلى آخر المسألة نقلها شارح الطحاوية (389) حسب طريقته في عدم الإحالة. (3) (ط، ق): «تسمى أيضًا». (4) البّوُّ: جلد الحُوار يُحشى تبنًا ويقرَّب إلى أم الفصيل، فتعطف عليه، وتدرُّ. (5) (ط): «فالعلم». وكذا «فالإحسان» إلى آخره. (6) ما عدا (ب، ج): «للأجساد». وفي (ز): «للأجسام»، وكلاهما تحريف.

(2/620)


والإنابة روح، وللتوكل والصدق روح. والناس متفاوتون في هذه الأرواح أعظم تفاوتٍ، فمنهم مَن تغلبُ عليه هذه الأرواح، فيصير روحانيًّا. ومنهم من يفقدها أو أكثرَها، فيصير أرضيًّا بهيميًّا. والله المستعان.

(2/621)


فصل

 وأما المسألة الحادية والعشرون (1) وهي: هل النفس واحدة أم ثلاثة؟

فقد وقع في كلام كثير من الناس أن لابن آدم ثلاثة أنفس (2)؛ نفس مطمئنة، ونفس لوَّامة، ونفس أمارة، وأن منهم من تغلب عليه هذه، ومنهم من تغلب عليه الأخرى. ويحتجُّون على ذلك بقوله تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27]، وبقوله: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 1، 2]، وبقوله: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]. والتحقيق: أنها نفس واحدة، ولكن لها صفات (3)، فتسمَّى باعتبار كل صفة باسم. فتسمى «مطمئنة» باعتبار طمأنينتها إلى ربها بعبوديته، ومحبته، والإنابة إليه، والتوكُّل عليه، والرضا به، والسكون إليه. وإن سمةَ محبته وخوفه ورجائه فناؤها [عن] محبةِ غيره وخوفه _________ (1) (ن): «الثانية والعشرون». وفي (ب): «التاسعة عشر»، ثم ضرب عليها وكتب: «العشرون». ولم يَرد «فصل وأما» في (ن). (2) «النفس» بمعنى الروح مؤنثة، وقد وصفها المصنف بالواحدة والمطمئنة وغيرها، ولكن أنث العدد فقال: «ثلاثة» هنا وفي السطر السابق. وفي النسخ المطبوعة: «ثلاث». (3) من أول المسألة إلى هنا نقله شارح الطحاوية (389 ــ 390). وقارن بكلام المصنف في إغاثة اللهفان (1/ 75 وما بعدها).

(2/622)


ورجائه (1). فتفنى (2) بمحبته عن حبِّ ما سواه، وبذكره عن ذكر ما سواه، وبالشوق إليه وإلى لقائه عن الشوق إلى ما سواه. فالطمأنينةُ إلى الله سبحانه كيفيَّة (3) تَرِدُ منه سبحانه [144 ب] على قلب عبده، تجمعُه عليه، وترُدُّ قلبَه الشاردَ إليه، حتى كأنه جالسٌ بين يديه، يسمع به، ويبصر به، ويتحرك به، ويبطش به. فتسري تلك الطمأنينةُ في نفسه وقلبه ومفاصله وقواه الظاهرة والباطنة، فتنجذب روحُه إلى الله، ويلين جلدُه وقلبُه ومفاصلُه إلى خدمته والتقرُّب إليه. ولا يمكن حصول الطمأنينة الحقيقية إلا بالله وبذكره، وهو كلامُه الذي أنزله على رسوله، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]. فإنَّ طمأنينةَ القلب سكونُه (4) _________ (1) في (أ، ب، ط، غ): «وإن سميت محبته وخوفه ورجاه منها محبة غيره ... ». وفي (ن) بياض في موضعها مع حرف الظاء فوق السطر. وفي (ز): «سمت» مكان «سميت». و «منها» ساقطة من (ب). وفي (ج) تخليط شديد. والظاهر أن في العبارة سقطًا وتحريفًا، وقد أصلحته كما ترى. وفي الطبعة الهندية: «فإنَّ سِمَةَ محبته ... منها قطعُ النظر عن محبة غيره ... ». وكذا في نشرة الأستاذ العموش أيضًا دون الإشارة إلى ما في نُسَخه الخطية. ونبَّه الأستاذ بديوي على أن «قطع النظر عن» ساقط من (ب). كأنَّ الزيادة المذكورة واردة في الأصل و (ر). والنسخة الأخيرة بين يديّ، وهي الأصل، وقد خلت كغيرها من هذه الزيادة! والظاهر أن مصحح الطبعة الهندية هو الذي أصلح العبارة على هذا الوجه. (2) في النسخ المطبوعة: «فيستغني»، تحريف. (3) في (ق، غ، ط، ز): «خفية». وكذا في الأصل غير منقوط. وفي (ن): «منحة»، ولعله إصلاح. وفي (ب، ج): «جميعه». وفي النسخ المطبوعة: «حقيقة». ولعلَّ ما أثبتُّه أقرب. (4) (ب): «بسكونه». (ز): «وسكونه».

(2/623)


واستقرارُه بزوال (1) القلق والانزعاج والاضطراب عنه، وهذا لا يتأتَّى بشيء سوى الله وذكرِه البتَّة. وأما ما عداه، فالطمأنينةُ إليه وبه غرورٌ، والثقةُ به عَجْزٌ. قضى الله سبحانه وتعالى قضاءً لا مردَّ له: أنَّ من اطمأن إلى شيءٍ (2) سواه أتاه القلق والانزعاج والاضطراب من جهته، كائنًا ما كان؛ بل لو اطمأنَّ العبد إلى علمه وحاله وعمله (3) سُلِبَه وزايَلَه. وقد جعل الله سبحانه نفوسَ المطمئنين إلى سواه أغراضًا لسهام البلاء، ليعلّم عباده وأولياءه أنَّ المتعلِّق بغيره مقطوعٌ، والمطمئنَّ إلى سواه عن مصالحه ومقاصده مصدودٌ وممنوع. وحقيقة الطمأنينة التي تصير بها النفس مطمئنةً: أن تطمئن (4) في باب معرفة أسمائه وصفاته ونعوت كماله إلى خبره الذي أخبر به عن نفسه، وأخبرَتْ به عنه رسلُه؛ فتتلقاه بالقبول والتسليم والإذعان، وانشراح الصدر له، وفرحِ القلب به؛ فإنه تعرُّفٌ (5) من تعرُّفات الربِّ سبحانه إلى عبده على لسان رسوله. فلا يزال القلب في أعظم القلق والاضطراب في هذا الباب حتى يخالطَ الإيمانُ بأسماء الربِّ تعالى وصفاتِه وتوحيدِه وعلُوِّه على عرشه وتكلُّمِه بالوحي بشاشةَ قلبه. فينزلُ ذلك عليه نزولَ الماء الزُّلالِ على القلب _________ (1) (ب): «ويزول به». (2) ساقط من (ق). (3) ساقط من (ط). (4) (ب، ق): «تظهر»، تصحيف. (5) ما عدا (ب، ج): «معرفة». وكذلك «تعرّفات» تصحف في غيرهما إلى «تقربات»، والأصل غير منقوط.

(2/624)


الملتهِب بالعطش، فيطمئنُّ إليه، ويسكن إليه، ويفرح [145 ب] به، ويلين إليه (1) قلبه ومفاصله، حتى كأنه شاهدَ الأمر كما أخبرت به الرسلُ. بل يصير ذلك لقلبه بمنزلةِ رؤية الشمس في الظهيرة لعينه (2)، فلو خالفه في ذلك مَن بين شرقِ الأرض وغربِها لم يلتفت إلى خلافهم، وقال إذا استوحش من الغربة: قد كان الصدِّيق الأكبر مطمئنًّا بالإيمان وحده، وجميعُ أهل الأرض يخالفُه، وما نقَصَ ذلك من طمأنينته شيئًا. فهذا أول (3) درجات الطمأنينة، ثم لا يزال يقوَى كلما سمع بآية متضمنة (4) لصفة من صفات ربه. وهذا أمر لا نهاية له. فهذه الطمأنينةُ أصلُ أصولِ الإيمان التي عليها قام بناؤه. ثم يطمئنُّ إلى خبره عما بعدَ الموتِ من أمور البرزخ وما بعدها من أحوال القيامة، حتى كأنه يشاهدُ ذلك كلَّه عِيانًا. وهذا حقيقةُ اليقين الذي وصف به سبحانه أهلَ الإيمان حيث قال: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4]. فلا يحصل الإيمان بالآخرة حتى يطمئنَّ القلبُ إلى ما أخبرَ الله سبحانه به (5) عنها طمأنينتَه إلى الأمور التي لا يشكُّ فيها ولا يرتاب. فهذا هو _________ (1) ما عدا (أ، غ): «له». (2) (ن، ز): «بعينه»، تصحيف. (3) في (أ، ق): «أولى». (4) في الأصل: «متضمن». وكذا في (ب، ج، ق). ومن ثم قراءة (ب، ج): «بأثر» مكان «بآية»؛ لأن الآية مؤنثة. وفي (ق، ز): «بأنه»، خطأ. وفي (ط، غ): «تتضمن»، وفي (ن): «تتضمن صفة». (5) ساقط من (ب، ط).

(2/625)


المؤمن حقًّا باليوم الآخر، كما في حديث حارثة: أصبحتُ مؤمنًا حقًّا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن لكل حقٍّ حقيقةً فما حقيقةُ إيمانك؟» قال: عَزَفتْ نفسي عن الدنيا وأهلها، وكأني أنظر إلى عرش ربِّي بارزًا، وإلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يعذَّبون فيها. فقال: «عبدٌ نوَّر الله قلبَه» (1). _________ (1) أخرجه البزار في مسنده (6948)، والبيهقي في شعب الإيمان (10589) من طريق يوسف بن عطية، عن ثابت، عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي رجلًا يقال له حارثة في بعض سكك المدينة، فقال: «كيف أصبحت يا حارثة؟» قال: أصبحتُ مؤمنًا حقًّا، قال (فذكره بنحوه). وهو عند البيهقي في سياق أطول وسماه: حارثة بن النعمان. قال الحافظ في «الإصابة» ترجمة (الحارث بن مالك الأنصاري) (2/ 394): «وهو ضعيف جدًّا» ونقل عن البيهقي قوله: «هذا منكر، وقد خبط فيه يوسف، فقال مرة: الحارث، وقال مرة: حارثة». ومن هذا الوجه أخرجه العقيلي في «الضعفاء» (4/ 455) في ترجمة (يوسف بن عطية) ونقل عن البخاري قوله فيه: «منكر الحديث» وعن ابن معين قوله: «ليس بشيء». وقال عقب الحديث: «ليس لهذا الحديث إسناد يثبت» اهـ. وروي بأسانيد مرسلة ومعضلة أورد بعضها الحافظ في الإصابة، وجاء موصولًا من طريق آخر أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (3367)، والبيهقي في شعب الإيمان (10592) من طريق ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد السكسكي، عن سعيد بن أبي هلال، عن محمد ابن أبي الجهم، عن الحارث بن مالك الأنصاري، أنه مرَّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: «كيف أصبحت يا حارث؟» الحديث. قال الهيثمي في المجمع (1/ 57): «وفيه ابن لهيعة، وفيه من يحتاج إلى الكشف عنه». لعله يعني محمد ابن أبي الجهم وقد ذُكر في الصحابة على سبيل الخطأ؛ كما نبّه على ذلك الحافظ ابن حجر حيث ترجمه في القسم الرابع من الإصابة (8546) فقال: «محمد بن أبي الجهم، ذكره محمد بن عثمان بن أبي شيبة في المقلين من الصحابة، وأورده أبو نعيم وقال: لا أُراه صحيحًا. قلت: بل هو من أتباع التابعين روى حديثًا فأرسله فغلِط بعضُ رواته في لفظ منه». ثم فرَّق بينه وبين محمد ابن أبي الجهم بن حذيفة العدوي المترجم في الجرح والتعديل (7/ 224) وغيره. وعليه فيكون مجهولًا. وقد ضعَّف الحديثين الحافظ العراقي في المغني عن حمل الأسفار (3991). (قالمي).

(2/626)


فصل والطمأنينةُ إلى أسماء الربِّ تعالى وصفاته نوعان: طمأنينةٌ إلى الإيمانِ بها وإثباتِها واعتقادِها، وطمأنينةٌ إلى ما تقتضيه وتُوجِبه من آثار العبودية. مثاله: الطمأنينةُ إلى القَدَر. فإثباتُه (1) والإيمانُ به يقتضي الطمأنينةَ إلى مواضع الأقدار التي لم يؤمر العبد بدفعها، ولا قدرَة له على دفعها. فيسلِّم لها، ويرضَى بها، ولا يتسخَّط ولا يشكو، ولا يضطرب إيمانه. فلا يأسَى (2) على ما فاته، ولا يفرح بما أتاه؛ لأنَّ المصيبة [145 ب] فيه مقدَّرة قبل أن تصل إليه، وقبل أن يُخلَق، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 22، 23]. وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]. قال غير واحد من السلف: هو العبد تصيبه المصيبة، فيعلمُ أنها من عند الله، فيرضى، ويسلِّم (3). _________ (1) رسمها في الأصل يحتمل الفاء والواو. وفي غيره: «والإثبات». وضبط في بعض النسخ بكسر التاء. والتصحيف بين الواو والفاء في هذه النسخ كثير جدًّا. (2) (ط): «ولا يأسى». (3) أخرجه الطبري في تفسيره (23/ 12) عن علقمة بن قيس. وانظر: الدر المنثور (14/ 514).

(2/627)


فهذه طمأنينة إلى أحكام الصفات وموجباتها وآثارها في العالَم، وهي قَدرٌ زائد على الطمأنينة بمجرَّد العلم بها واعتقادها. وكذلك سائر الصفات وآثارها ومتعلقاتها، كالسمع والبصر والعلم والرضا والغضب والمحبة. فهذه طمأنينة الإيمان. وأما طمأنينة الإحسان فهي: الطمأنينة إلى أمره امتثالًا وإخلاصًا ونصحًا. فلا يُقَدِّم على أمره إرادةً ولا هوًى ولا تقليدًا، فلا يساكن شبهةً تعارض خبرَه، ولا شهوةً تعارض أمرَه، بل إذا مرَّت به أنزلها منزلةَ الوساوس التي لَأنْ يَخِرَّ من السماء إلى الأرض أحبُّ إليه من أن يجدها، فهذا ــ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ــ «صريحُ الإيمان» (1). وعلامةُ هذه الطمأنينة أن يطمئن من قلق المعصية وانزعاجها إلى سكون التوبة وحلاوتها وفرحتها. ويسهِّل عليه ذلك أن يعلم (2) أنَّ اللذة والحلاوة والفرحة التي في الظفر بالتوبة أضعافُ أضعافِ اللذة والحلاوة والفرحة التي في الظفر (3) بالمعصية. وهذا أمر لا يعرفه إلا من ذاق الأمرَيْن وباشر قلبُه آثارهما. فللتوبة (4) طمأنينةٌ تقابل ما في المعصية من الانزعاج والقلق، ولو فتَّش العاصي عن قلبه لوجَد حشوَه المخاوفَ والانزعاج والقلق والاضطراب. _________ (1) يشير إلى ما أخرجه مسلم (132) من حديث أبي هريرة. (2) في النسخ المطبوعة: «بأن يعلم» لما قرؤوا: «يسهُل». (3) «بالتوبة ... الظفر» ساقط من الأصل، وكذا من (ب، ج، ق) وجميع النسخ المطبوعة، إلا أن ناشر الطبعة الهندية ــ وتابعه الآخرون ــ أثبت «بالتوبة» مكان «بالمعصية» وحذف «التي»، ليصح المعنى. (4) (ب، ج): «وللتوبة».

(2/628)


وإنما يواري عنه شهودَ ذلك سُكْرُ الغفلة والشهوة، فإن للشهوة (1) سُكرًا يزيد على سكر الخمر، وكذلك الغضبُ له سكر أعظم من سكر الشراب. ولهذا ترى العاشقَ (2) والغضبان يفعل ما لا يفعله شارب الخمر. وكذلك يطمئن (3) من قلق الغفلة والإعراض إلى سكون الإقبال على الله وحلاوة ذكره وتعلُّق الروح [146 أ] بحبه ومعرفته، فلا طمأنينة للروح بدون هذا أبدًا. ولو أنصفَت نفسَها لرأتها (4) إذا فقدت ذلك في غاية الانزعاج والقلق والاضطراب، ولكن تُواريها السَّكرة، فإذا كُشِفَ الغطاء تبيَّن له حقيقة ما كان فيه. فصل وهاهنا سرٌّ لطيف يجب التنبيه عليه والتنبُّه له (5)، والتوفيقُ له بيد مَن أزِمَّةُ التوفيق بيديه (6)، وهو أنَّ الله سبحانه جعل لكل عضوٍ من أعضاء الإنسان كمالًا إن لم يحصل له وإلا (7) فهو في قلق واضطراب وانزعاج، _________ (1) (أ، ق، غ): «لكل شهوة». (2) ما عدا (ب، ج، غ): «الفاسق». (3) ما عدا (ط، ج، ز): «يظهر»، تصحيف. (4) ما عدا (ب، ج، غ): «لذاتها»، تصحيف. (5) (ط): «يجب تبيينه والتنبيه عليه». (6) ما عدا (أ، ق، غ): «بيده». وفي (ط): «بين يديه وبيديه». (7) كذا في جميع النسخ، ولا يستقيم المعنى إلا بحذف «وإلا». وهو من الأخطاء الشائعة في عهد المؤلف. انظر ما علقت في طريق الهجرتين (45) وقد تعوَّد الناشرون حذفها دون الإشارة إلى ما في أصولهم.

(2/629)


بسبب فقدِ كماله الذي جُعِل له. مثاله: كمال العين بالإبصار، وكمال الأذن بالسمع، وكمال اللسان بالنطق. فإذا عَدِمتْ هذه الأعضاء القوى التي بها كمالُها حصَل الألم والنقص بحسب فوات ذلك. وجَعَل كمال القلب ونعيمَه وسروره ولذته وابتهاجه في معرفته سبحانه، وإرادته، ومحبته، والإنابة إليه، والإقبال عليه، والشوق إليه، والأنس به. فإذا عَدِمَ القلبُ ذلك كان أشدَّ عذابًا واضطرابًا من العين التي فقدت النور الباصر، ومن اللسان الذي فقدَ قوة الكلام والذوق. ولا سبيلَ له إلى الطمأنينة بوجه من الوجوه، ولو نال من الدنيا وأسبابها ومن العلوم ما نال، إلا بأن يكون الله وحده هو محبوبَه وإلاهه ومعبودَه وغايةَ مطلوبه، ويكون هو وحده مستعانَه على تحصيل ذلك. فحقيقة الأمر أنه لا طمأنينة له بدون التحقُّق (1) بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]. وأقوالُ المفسرين في «المطمئنة» ترجع إلى ذلك (2). قال ابن عباس: المطمئنة: المصدِّقة. وقال قتادة: هو المؤمن اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله. وقال الحسن: المصدِّقة (3) بما قال الله تعالى. _________ (1) ما عدا (ج، ز): «التحقيق». (2) انظر الأقوال الآتية بترتيبها في تفسير الطبري (24/ 393 ــ 394). وقد ذكرها المصنف على هذا الترتيب أيضًا في إغاثة اللهفان (1/ 76) إلا قول مجاهد فإنه لم يُفصِّل رواياته فيه كتفصيلها هنا. (3) «وقال قتادة ... المصدقة» ساقط من الأصل.

(2/630)


وقال مجاهد: هي النفس التي أيقنَتْ بأن الله ربُّها، المسلِّمةُ لأمره فيما هو فاعل بها (1). وروى منصور عنه (2) قال: النفس التي أيقنت أن الله ربُّها، وضربت جأشًا لأمره وطاعته. وقال ابن أبي نَجيح عنه: النفس المطمئنة المخبِتة إلى الله. وقال أيضًا: هي التي أيقنت بلقاء الله (3). فكلام السلف (4) في «المطمئنة» يدور [146 ب] على هذين الأصلين: طمأنينة العلم والإيمان، وطمأنينة الإرادة والعمل. فصل فإذا اطمأنت من الشكِّ إلى اليقين، ومن الجهل إلى العلم، ومن الغفلة إلى الذكر، ومن الخيانة إلى التوبة، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الكذب إلى الصدق، ومن العجز إلى الكَيْس، ومن صَولة العُجب إلى ذلَّة الإخبات، ومن التِّيه إلى التواضع، ومن الفتور إلى العمل= فقد باشرتْ روحَ الطمأنينة. وأصل ذلك كلِّه ومنشؤه من اليقظة، فهي أولُ مفاتيح الخير، فإن الغافل عن الاستعداد للقاء ربه والتزود لمعاده بمنزلة النائم، بل أسوأُ حالًا منه؟ فإن _________ (1) قال الطبري: «وقال آخرون: بل معنى ذلك: الموقنة بأن الله ربُّها ... بها». فهذه ترجمة الطبري لقول الآخرين لا نص قول مجاهد الذي أورده بالألفاظ الآتية. (2) بعده في (ب، ج): «يعني مجاهدًا». (3) هذا القول أيضًا رواه منصور عن مجاهد. (4) (ب، ج، ق): «وكلام السلف».

(2/631)


الغافل (1) يعلمُ وعد الله ووعيدَه وما تتقاضاه أوامر الرب تعالى ونواهيه وأحكامُه من الحقوق، لكن يحجبُه عن حقيقة الإدراك ويُقعده عن الاستدراك سِنةُ القلب، وهي غفلته التي رقد فيها فطال رقوده، وركد وأخلد (2) إلى نوازع الشهوات، فاشتدَّ إخلاده وركوده. وانغمس في غمار الشهوات، واستولت عليه العادات ومخالطةُ أهل البطالات، ورضي بالتشبُّه بأهل إضاعة الأوقات. فهو في رقاده مع النائمين، وفي سَكْرته مع المخمورين. فمتى انكشفت عن قلبه سِنَةُ هذه الغفلة بزجرةٍ من زواجر الحق في قلبه، استجاب فيها لواعظِ الله في قلب عبده المؤمن، أو هِمَّة عليَّةٍ (3) أثارها مِعولُ الفكر في المحلِّ القابل، فضرب بمعول فكره، وكبَّر تكبيرةً أضاءت له منها قصورُ الجنة، فقال (4): ألا يا نفسُ ويحكِ ساعديني ... بسعيٍ منكِ في ظُلَم الليالي لعلَّكِ في القيامة أن تفوزي ... بطِيبِ العيشِ في تلك العلالي فأنارت (5) له تلك الفكرةُ نورًا رأى في ضوئه ما خُلِق له وما سيلقاه بين _________ (1) في الأصل: «العاقل». وكذا في (ق، غ، ج). وفي (ب): «العالم». (2) رسمها في الأصل: «ركد خلده». ونحوه في (ق، غ، ط). وفي (ز): «ركد مخلدًا». وفي (ب، ج) حذف «وركد». والمثبت من (ن). وكذا في النسخ المطبوعة. (3) قرأها الناسخون والناشرون «عليه». فحذف ناسخ (ط): «همة»، وناسخ (ن) الكلمتين. (4) البيتان لرجل من بني سعد كما في التهجد وقيام الليل لابن أبي الدنيا (141). وانظر: صفة الصفوة (4/ 59) وتذكرة القرطبي (967). (5) ما عدا (ز): «فأثارت». وكذا في النسخ المطبوعة. والأصل غير منقوط.

(2/632)


يديه من حين الموتِ إلى دخول دار القرار. ورأى سرعةَ انقضاء الدنيا، وعَدَم وفائها لبنيها، وقتلَها لعُشَّاقها وفعلَها بهم أنواع المَثُلات. فنهض في ذلك الضوء على ساقِ [147 أ] عزمه قائلًا: {يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56]. فاستقبل بقيةَ عُمره التي لا قيمة لها مستدركًا بها ما فات، محييًا بها ما أمات، مستقيلًا (1) بها ما تقدَّم له من العثَرات، منتهزًا فرصةَ الإمكان التي إن فاتت فاته جميعُ الخيرات. ثم يلحظ في نور تلك اليقظة وفود (2) نعمة ربِّه عليه من حين استقرَّ في الرحِم إلى وقته، وهو يتقلب فيها ظاهرًا وباطنًا ليلًا ونهارًا، يقظةً ومنامًا، سرًّا وعلانيةً. فلو اجتهد على إحصاء أنواعها لما قَدَر، ويكفي أنَّ أدناها نعمةُ النفَس، ولله عليه في كلِّ يوم أربعة وعشرون ألفَ نعمة، فما ظنُّك بغيرها؟ (3). ثم يرى في ضوء ذلك النورِ أنه آيسٌ من حصرها وإحصائها، عاجزٌ عن أداء حقِّها، وأنَّ المنعِم بها إن طالبه بحقوقها استوعب جميعَ أعماله حقُّ نعمةٍ واحدة منها، فيتيقَّن (4) حينئذ أنه لا مطمعَ له في النجاة إلا بعفو الله ورحمته وفضله (5). _________ (1) في النسخ المطبوعة ما عدا الطبعة الهندية: «مستقبلًا»، تصحيف. (2) في (ن): «وقوَّة»، تحريف. وفي غيرهما جميعًا ما أثبتنا، يعني الورود والقدوم. وفي نشرتي العموش وبديوي: «وفور»، تحريف. (3) انظر: التبيان في أيمان القرآن (464، 621)، وطريق الهجرتين (114)، ومفتاح دار السعادة (2/ 54). (4) (ب، ط، ق، غ): «فتيقَّن». (5) «منها ... فضله» ساقط من (ن، ز).

(2/633)


ثم يرى في ضوء تلك اليقظةِ أنه لو عمل أعمال الثَّقَلَين من البرِّ لاحتقرَها إلى جنب (1) عظمةِ الربِّ تعالى وما يستحقُّه بجلال وجهه وعظيم سلطانه. هذا لو كانت أعمالُه منه، فكيف وهي مجرَّدُ فضلِ الله ومنَّتِه (2) وإحسانِه؛ حيث يسَّرها له، وأعانه عليها، وهيَّأه لها، وشاءها منه، وكوَّنها. ولو لم يفعل ذلك لم يكن له سبيل إليها، فحينئذٍ لا يرى أعمالَه منه. وإن الله سبحانه لن يقبل عملًا يراه صاحبُه من نفسه حتى يراه عينَ توفيقِ الله له، وفضلِه عليه، ومنَّتِه عليه، وأنه من الله لا من نفسه، وأنه ليس له من نفسه إلا الشرُّ وأسبابُه. وما به من نعمة، فمن الله وحده، صدقةٌ تصدَّق بها عليه، وفضلٌ (3) منه ساقه إليه، من غير أن يستحقَّه بسبب، أو يستأهِلَه بوسيلة. فيرى ربَّه ووليَّه ومعبودَه أهلًا لكلِّ خير، ويرى نفسه أهلًا لكل شر. وهذا أساس جميع الأعمال الصالحة، الظاهرة والباطنة. وهو الذي يرفعها، ويجعلها في ديوان أصحاب [147 ب] اليمين. ثم تبرقُ له في نور تلك اليقظة بارقةٌ أخرى، يرى في ضوئها عيوبَ نفسه وآفاتِ عمله، وما تقدَّم له من الجنايات والإساءات وهتكِ الحرمات، والتقاعدِ عن كثير من الحقوق والواجبات. فإذا انضم ذلك إلى شهودِ نِعَم الله عليه وأياديه لديه رأى أنَّ حقَّ المنعِم عليه في نعمِه وأوامره لم يُبقِ له حسنةً واحدةً يرفع بها رأسه. فتطامَنَ (4) قلبه، وانكسرت نفسه، وخشعت _________ (1) في الأصل: «بالنسبة إلى جنب». وكذا في (ق، غ، ط). والظاهر أنه سهو. فحذف «جنب» في (ب، ج، ز، ن) وكذا في النسخ المطبوعة. وفضَّلتُ حذف «بالنسبة». (2) زاد في (ن): «وهدايته». (3) في النسخ المطبوعة: «فضلًا» خلافًا لما في النسخ الخطية. (4) في (ط، غ): «فيطمئن». وكذا في النسخ المطبوعة، وهو تصحيف.

(2/634)


جوارحه، وسار إلى الله ناكسَ الرأس بين مشاهدةِ نعمه، ومطالعة جناياته وعيوب نفسه وآفات عمله، قائلًا: «أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» (1). فلا يرى لنفسه حسنةً، ولا يراها أهلًا لخير، فيُوجب له أمرين عظيمين: أحدهما: استكثارُ ما منَّ الله عليه (2). والثاني: استقلالُ ما مِنه من الطاعة، كائنةً ما كانت. ثم تبرُق له بارقة أخرى، يرى في ضوئها عزَّةَ وقته (3) وخطرَه وشرفَه، وأنه رأسُ مال سعادته، فيبخل به أن يضيِّعه فيما لا يقرِّبُه إلى ربِّه، فإنَّ في إضاعته الخسرانَ والحسرةَ والندامة، وفي حفظه وعِمارته الربح والسعادة، فيشحُّ بأنفاسه أن يضيِّعها فيما لا ينفعه يوم معاده. فصل (4) ثم يلحظ في ضوء تلك البارقةِ ما تقتضيه يقظته من سِنةِ غفلته: من التوبة والمحاسبة والمراقبة، والغَيرة لربه أن يؤثر عليه غيرَه، وعلى حظِّه من رضاه وقربه وكرامته أن يبيعه بثمن بخس في دارٍ سريعةِ الزوال، وعلى نفسه أن يُملِّك رِقَّها لمعشوق لو فكَّر في منتهى حسنه ورأى آخره بعين بصيرته لأنِفَ لها من محبته. _________ (1) جزء من سيد الاستغفار. أخرجه البخاري (6306) من حديث شداد بن أوس. وانظر شرحه في طريق الهجرتين (203 ــ 205)، (357 ــ 359). (2) (ن، ز): «مِن الله إليه». (3) (ب، ج): «عزّه ورفعه»، تحريف. (4) لم ترد كلمة «فصل» في (ن، ز).

(2/635)


فهذا كله من آثار اليقظة وموجَباتها. وهي أول منازل النفس المطمئنة التي نشأ منها سفرُها إلى الله والدار الآخرة. فصل وأما اللوَّامة، وهي التي أقسم بها سبحانه في قوله: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2]، فاختُلف فيها. فقالت طائفة: هي التي لا تثبتُ على حال واحدة (1). أخذوا اللفظةَ [148 أ] من التلوُّم، وهو التردُّد، فهي كثيرة التقلُّب _________ (1) لم أجد في كتب التفسير ولا في كتب اللغة أن النفس اللوَّامة هي التي لا تثبت على حال واحدة، وأن اللفظ مأخوذ من التلوُّم، وأن التلوُّم بمعنى التقلب والتلون. وقد تكلَّم المؤلف رحمه الله على معنى اللوامة في مدارج السالكين، والتبيان في أيمان القرآن، وإغاثة اللهفان أيضًا. أما المدارج (2/ 6 ــ 7) فاقتصر فيه على إيراد أقوال سعيد بن جبير وعكرمة وقتادة ومجاهد والفراء والحسن ومقاتل، ولم يشر البتة إلى معنى التلون والتردد. وأما في التبيان (22 - 25) فذكر ثلاثة أقوال للسلف في المراد بالنفس اللوَّامة، ليس منها معنى التلون، غير أنه قال في آخر كلامه: «ولأنها متلومة مترددة لا تثبت على حال واحدة، فهي محتاجة إلى من يعرِّفها الخير والشرّ .. ». وأما إغاثة اللهفان فنصَّ فيه على الخلاف في اشتقاق اللوَّامة «هل هي من التلوُّم، وهو: التلون والتردد، أو من اللَّوم». وذكر أن «عبارات السلف تدور على هذين المعنيين» ثم ساق أقوال سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وعكرمة وابن عباس والحسن وقال: «فهذه عبارات من ذهب إلى أنها من اللَّوم. وأما من جعلها من التلوُّم فلكثرة ترددها وتلوُّمها وأنها لا تستقر على حال واحدة». وسكت، فلم يسمِّ أحدًا ممن جعلها من التلوُّم، ولا أورد قولًا يدل على معنى التلون أو يدور عليه. وهكذا هنا أيضًا نسب هذا القول إلى طائفة دون أن يشير إلى أحد منهم. وقد رجَّح في الإغاثة القولَ بأنها مأخوذة من اللوم لا من التلوُّم «فإن هذا المعنى لو أريد لقيل: المتلوِّمة، كما يقال: المتلونة والمترددة؛ ولكن هو من لوازم القول الأول». وقد ذهب عليه ــ رحمه الله ــ أن التلوُّم في اللغة لم يرد بمعنى التلون والتقلب من حال إلى حال، وإنما هو: التلبُّث والتمكُّث والتثبت والانتظار. في حديث علي رضي الله عنه: «إذا أجنَبَ في السفر تلوَّمَ ما بينه وبين آخر الوقت، فإن لم يجد الماء تيمَّم وصلَّى». تلوَّم، أي انتظَر. وكذلك في حديث عمرو بن سلمة الجرَمي: «وكانت العرب تلوَّمُ بإسلامهم الفتحَ» أي تنتظر. الحديثان أخرجهما البيهقي في السنن الكبرى (4364، 5341) وغيره. وانظر شرحهما في النهاية لابن الأثير (4/ 278). ومنه قول عمر بن عبد العزيز: «إنما التلوُّم قبل الغشيان» يعني التثبت والنظر. قاله الحربي في غريبه (1/ 328). والقصة في كتاب القضاء لسريج بن يونس (86). ومنه قول عنترة في معلقته: فوقفتُ فيها ناقتي وكأنها ... فدَنٌ لأقضيَ حاجةَ المتلوِّم قال ابن الأنباري: «يقول: لأقضي حاجتي التي تلوَّمت لها، أي تمكثتُ. يقول الرجل لصاحبه: تلوَّم عليَّ، أي تحبَّسْ وتمكَّث». شرح القصائد السبع (297). ثم قرأت كلام شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (9/ 294): «النفس اللوَّامة، وهي التي تذنب وتتوب، فعنها خير وشر، لكن إذا فعلت الشر تابت وأنابت، فتسمَّى لوامة، لأنها تلوم صاحبها على الذنوب، ولأنها تتلوَّم، أي تتردد بين الخير والشر». وقال أيضًا: «28/ 148): «التي تفعل الذنب ثم تلوم عليه، وتتلون تارة كذا، وتارة كذا، وتخلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا». وانظر أيضًا (10/ 632). ولعل المصنف رحمه الله بنى كلامه في ذكر الخلاف في التفسير والاشتقاق على نحو هذا الكلام من كلام شيخه، وسمَّاه «طائفة»، ولا غرو، فإنه رحمه الله كان أمَّةً وحده. والله أعلم.

(2/636)


والتلوُّن. وهي من أعظم آيات الله، فإنها مخلوق من مخلوقاته تتقلَّب وتتلوَّن في الساعة الواحدة ــ فضلًا عن اليوم والشهر والعامِ والعمر ــ ألوانًا متلوِّنةً. فتذكُر وتغفُل، وتُقبِل وتُعرِض، وتلطُف وتكثُف، وتنيب وتجفو، وتحبُّ

(2/637)


وتبغض، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وتطيع وتعصي، وتتَّقي (1) وتفجر، إلى أضعاف أضعاف ذلك من حالاتها وتلوُّنها، فهي تتلون كلَّ وقت ألوانًا كثيرة. فهذا قول. وقالت طائفة: اللفظة مأخوذة من اللوم. ثم اختلفوا، فقالت فرقة: هي نفس المؤمن، وهذا من صفاتها المحمودة (2). قال الحسن البصري: إن (3) المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسَه دائمًا. يقول: ما أردتُ بهذا؟ لمَ فعلتُ هذا؟ كان غيرُ هذا أولى، ونحوَ هذا من الكلام (4). وقال غيره: هي نفس المؤمن توقِعُه في الذنب، ثم تلومه عليه، فهذا اللوم من الإيمان، بخلاف الشقيِّ فإنه لا يلوم نفسَه على ذنب، بل يلومها، وتلومه على فواته. وقالت طائفة: بل هذا اللوم للنوعين، فإن كلَّ أحد يلوم نفسه، برًّا كان أو فاجرًا. فالسعيد يلومها على ارتكاب معصية الله وتركِ طاعته، والشقيُّ لا يلومها إلا على فوات حظِّها وهواها. وقالت فرقة أخرى: هذا اللومُ يومَ القيامة، فإنَّ كلَّ أحد يلوم نفسه: إن كان مسيئًا، على إساءته، وإن كان محسنًا على تقصيره (5). _________ (1) (ب، ج، ن): «تبغي»، تصحيف. (2) في الأصل: «المجردة». وكذا في (ق، غ)، وهو تحريف. (3) (ز): «إنه». (4) عزاه السيوطي في الدر المنثور (15/ 97) إلى عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (4) وقد حكاه المصنف هنا بالمعنى. (5) ما عدا (أ، ق، غ): «فعلى تقصيره».

(2/638)


وهذه الأقوال كلها حقٌّ، ولا تنافي بينها، فإن النفس موصوفة بهذا كلِّه، وباعتباره سميت لوَّامةً، ولكن اللوَّامة نوعان: لوَّامةٌ مَلُومة: وهي النفس الجاهلة الظالمة التي يلومها الله وملائكته. ولوَّامة غيرُ ملومة: وهي التي لا تزال تلومُ صاحبَها على تقصيره في طاعة الله مع بذله جهده، فهذه غيرُ ملومة. وأشرف النفوس مَن لامت نفسَها في طاعة الله، واحتملت ملامَ اللائمين في مرضاته، فلا تأخذها فيه لومة لائم، فهذه قد تخلَّصت من لَومِ الله لها. وأما من رضيت بأعمالها، ولم [148 ب] تلم نفسها عليها (1)، ولم تحتمِل في الله ملام اللُّوَّام، فهي التي يلومها الله عزَّ وجلَّ. فصل وأما النفس الأمارة، فهي (2) المذمومة، فإنها التي تأمر بكلِّ سوء. وهذا من طبيعتها إلا ما وفَّقها الله، وثبَّتها، وأعانها. فما تخلَّص أحد من شرِّ نفسه إلا بتوفيق الله له (3)، كما قال تعالى حاكيًا عن امرأة العزيز (4): {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 53]. وقال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:21]. _________ (1) «عليها» لم ترد في (أ، ق، غ). (2) (ب، ج): «وهي». (3) «له» لم ترد في (أ، غ). (4) حكاه الماوردي في النكت والعيون (3/ 48) ونصره شيخ الإسلام. انظر: مجموع الفتاوى (15/ 138)، (10/ 298).

(2/639)


وقال تعالى لأكرم خلقه عليه وأحبِّهم إليه: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74]. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلِّمهم خطبة الحاجة: «إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له» (1). فالشرُّ كامنٌ في النفس، _________ (1) أخرجه النسائي (1404)، وأبو داود الطيالسي (336)، والإمام أحمد (3720)، وأبو يعلى (5257)، والطبراني في الكبير (10080)، وفي الدعاء (931)، والحاكم (2/ 182 ــ 183) من طرق عن شعبة، قال: «سمعت أبا إسحاق، يحدِّث عن أبيه عبيدة يحدِّث عن أبيه عبد الله بن مسعود، قال: علّمنا رسول الله خطبة الحاجة ... » قال النسائي عقبه: «أبو عبيدة لم يسمع من أبيه شيئًا». لكنه تُوبع، تابعه أبو الأحوص عوف بن مالك بن نضلة الجشمي. فأخرجه أبو داود (2118)، والإمام أحمد (4116)، وأبو يعلى (5234) من طريق وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة وأبي الأحوص، عن ابن مسعود، به. وأخرجه الترمذي (1105)، والنسائي (3277)، وابن الجارود في المنتقى (679)، والطبراني في الكبير (10079)، وفي الدعاء (932) من طريق عبثر بن القاسم، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، مرفوعًا. وأخرجه ابن ماجه (1892) من طريق يونس بن أبي إسحاق عن أبيه، به. قال الترمذي عقبه: «حديث عبد الله حديث حسن، رواه الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص، عن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورواه شعبة عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكلا الحديثين صحيح؛ لأن إسرائيل جمعهما فقال: عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص وأبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -» اهـ. وكذا ذكر الإمام الدارقطني هذا الاختلاف على أبي إسحاق، ثم قال: «وكل الأقاويل صحاح عن أبي إسحاق» العلل (5/ 311 ــ 313). وهذه الخطبة المباركة أفردها العلامة الألباني رحمه الله في رسالة وخلص إلى تصحيح الحديث. (قالمي).

(2/640)


وهو موجِب سيئات الأعمال (1). فإن خلَّى الله بين العبد وبين نفسه هلك بين شرِّها وما تقتضيه من سيئات الأعمال، وإن وفَّقه وأعانه نجَّاه من ذلك كلِّه. فنسأل الله العظيم أن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. وقد امتحن الله سبحانه الإنسان بهاتين النفسين: الأمارة، واللوَّامة؛ كما أكرمه بالمطمئنة. فهي نفسٌ واحدة تكون أمَّارة، ثم لوامة، ثم مطمئنة. وهي غاية كمالها وصلاحها. وأيَّد المطمئنة بجنود عديدة. فجعل الملَكَ قرينَها وصاحبَها الذي يليها ويسدِّدها، ويقذف فيها الحقَّ، ويُرغِّبها فيه، ويُريها حسن صورته، ويزجرها عن الباطل، ويُزهِّدها فيه، ويُريها قُبحَ صورته. وأمدَّها بما علَّمها من القرآن والأذكار وأعمال البر، وجعل وُفودَ الخيرات وأمدادَ التوفيق تنتابها (2) وتصلُ إليها من كل ناحية. وكلَّما تلقَّتها بالقبول، والشكرِ، والحمدِ لله، ورؤيةِ أوَّلِيَّته في ذلك كله، ازدادَ مَدَدُها، فتقوى على محاربة الأمَّارة. فمِن جندها ــ وهو سلطانُ عساكرها ومَلِكُها ــ الإيمان واليقين. فالجيوش الإسلامية كلُّها [149 أ] تحت لوائه ناظرةٌ إليه. إن ثبت ثبتَتْ، وإن انهزم ولَّت على أدبارها. _________ (1) انظر شرح الحديث في: طريق الهجرتين (200 ــ 201). (2) الأصل غير منقوط، وقد تصحفت في النسخ إلى «بثباتها»، و «يثبتانها»، و «بنياتها». وقد أسقطها ناسخ (ن).

(2/641)


ثم أمراءُ هذا الجيش ومقدَّمو عساكره: شُعَبُ الإيمانِ المتعلِّقةُ بالجوارح على اختلاف أنواعها، كالصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصيحةِ الخلق، والإحسان إليهم بأنواع الإحسان؛ وشُعَبُه الباطنةُ المتعلِّقةُ بالقلب، كالإخلاص والتوكلُّ والإنابة والتوبة والمراقبة والصبر والحِلم والتواضع والمسكنة، وامتلاءِ القلب من محبة الله ورسوله، وتعظيمِ أوامر الله وحقوقه، والغيرةِ لله وفي الله، والشجاعة والعفَّة والصدق والشفقة والرحمة. ومِلاكُ ذلك كلِّه الإخلاص والصدق. فلا يتعنَّى (1) الصادق المخلص، فقد أقيم على الصراط المستقيم، فيُسَارُ به وهو راقد. ولا يتهَنَّى (2) من حُرِم الصدق والإخلاص، فقد قُطِعت عليه الطريقُ، واستهوته الشياطين في الأرض حيرانَ، فإن شاء فليعمل، وإن شاء فليترك، فلا يزيده عمله من الله إلا بعدًا. وبالجملة فما كان لله وبالله، فهو من جند النفس المطمئنة. وأما النفسُ الأمَّارة فجعل الشيطان قرينَها وصاحبَها الذي يليها، فهو يعِدُها ويمنِّيها، ويقذف فيها الباطل، ويأمرها بالسوء ويزيِّنه لها، ويطيل لها (3) في الأمل، ويُريها الباطلَ في صورة تقبلها وتستحسنها، ويُمِدُّها بأنواع _________ (1) من (ب، ج، غ). وفي غيرها: «يتعين»، تصحيف. وفي النسخ المطبوعة: «يتعب»، ولعله تصرف من بعض الناشرين. (2) (ط): «يتعين». وفي غيرها جميعًا: «يتعنَّى»، وكلاهما تصحيف. وفي النسخ المطبوعة هنا أيضًا: «يتعب»، والسياق يقتضي ضده. ويتهنَّى أصله بالهمز. (3) «ويطيل لها» ساقط من (ق).

(2/642)


الإمداد الباطل من الأماني الكاذبة والشهوات المهلكة. ويستعينُ عليها بهواها وإرادتها (1)، فمنه يَدخُل عليها، ويُدخِل عليها كلَّ مكروه. فما استعان على النفوس بشيء هو أبلغُ من هواها وإرادتها البتة (2). وقد علَّم ذلك إخوانَه (3) من شياطين الإنس، فلا يستعينون على الصُّوَر (4) الممنوعة منهم بشيء أبلغَ من هواهم وإرادتهم، فإذا أعيتهم صورة طلبوا بجهدهم ما تحبُّه وتهواه، ثم طلبوا بجدهم تحصيله، فاصطادوا به تلك الصور. فإذا فَتَحت لهم النفسُ باب الهوى دخلوا منه، فجاسُوا خلال الديار، فعاثوا وأفسدوا، وفَتَكوا وسَبَوا، وفعلوا ما يفعله العدو ببلاد عدوه إذا تحكَّم فيها. فهدَموا معالمَ الإيمان والقرآن والذكر والصلاة، وخرَّبوا المساجد، وعمروا البِيَع والكنائس والحانات والمواخير. وقصدوا إلى المَلِك، فأسروه، وسلبوه ملكه، ونقلوه من عبادة الرحمن إلى عبادة البغايا والأوثان، ومن عزِّ الطاعة إلى ذلِّ المعصية، ومن السماع الرَّحماني إلى السماع الشيطاني، ومن الاستعداد للقاء ربِّ العالمين إلى الاستعداد للقاء إخوان الشياطين. فبينا هو يراعى حقوقَ الله وما أمَرَه به، إذ صار يرعى الخنازير! وبينا هو منتصب لخدمة العزيز الرحيم، إذ صار منتصبًا لخدمة كلِّ شيطان رجيم! والمقصود أن الملَك قرينُ النفس المطمئنة، والشيطان قرين الأمَّارة. وقد روى أبو الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن مُرَّة، عن عبد الله قال: _________ (1) في الأصل: «إراداتها»، ولعله سهو. (2) ما عدا (ب، ج، غ): «إليه». وكذا في النسخ المطبوعة. وهو ساقط من (ز). (3) الضبط من (ط، ن). (4) ما عدا (أ، ق، غ): «الصورة».

(2/643)


قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ للشيطان لَمَّةً من ابن آدم (1)، وللِملَك لَمَّة. فأمَّا لَمَّةُ الشيطان، فإيعادٌ بالشر، وتكذيبٌ بالحق. وأما لَمَّةُ الملَك، فإيعاد بالخير، وتصديقٌ بالحق (2). فمن وجد ذلك فلْيَعلم أنه من الله، ولْيحمد الله. ومن وجد الآخر فليتعوَّذ بالله من الشيطان الرجيم». ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268] (3). _________ (1) كذا في جميع النسخ. وفي المصادر: «بابن آدم» ونحوه بالباء. (2) في جميع النسخ الخطية: «بالحق وتصديق بالخير» ولعله سهو. وقد ورد في الداء والدواء (251) وزاد المعاد (2/ 421) وغيره على الصواب. (3) أخرجه الترمذي (2988)، والنسائي في الكبرى (11051)، وابن جرير الطبري في تفسيره (5/ 6)، وأبو يعلى (4999)، وابن حبان (997)، كلهم من طريق هناد بن السري، ثنا أبو الأحوص بإسناده. وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب، وهو حديث أبي الأحوص لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث أبي الأحوص». قلت: وفي تحسينه نظر؛ لأنه من رواية عطاء بن السائب وكان قد اختلط ولا يدرى سماع أبي الأحوص ــ واسمه سلام بن سُليم ــ منه أكان قبل الاختلاط أو بعده؟ ثم قد خولف أبو الأحوص في إسناده، فرواه حماد بن سلمة، وإسماعيل بن علية، وعمرو بن قيس الملائي، وجرير بن عبد الحميد الضبي، عن عطاء به، موقوفًا. ورواية هؤلاء جميعًا عند ابن جرير الطبري في تفسيره (5/ 6 ــ 8). وسُئل أبو زرعة وأبو حاتم الرّازيان عن رواية أبي الأحوص عن عطاء المرفوعة. فقال أبو زرعة: «الناس يوقفونه عن عبد الله وهو الصحيح» وكذا مال أبو حاتم إلى ترجيح الوقف. فقال: «هذا من عطاء بن السائب كان يرفع الحديث مرة ويوقفه أخرى، والناس يحدِّثون من وجوه عن عبد الله موقوف. ورواه الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن مسعود موقوف» (علل ابن أبي حاتم (2224). ورواية الزهري المذكورة أخرجها عبد الرزاق الصنعاني في تفسيره (348)، وأبو داود في الزهد (164). كلاهما من طريق معمر، عنه، به. وأخرجه ابن المبارك في الزهد (1435) من وجه آخر عن ابن مسعود موقوفًا وإسناده صحيح. (قالمي).

(2/644)


وقد رواه عمرو عن عطاء بن السائب، وزاد فيه عمرو، قال: سمعنا في هذا الحديث أنه كان يقال: «إذا أحسَّ أحدكم من لَمَّةِ الملَك شيئًا فليحمد الله، وليسأله من فضله. وإذا أحسَّ من لَمَّة الشيطان شيئًا فليستغفر الله، وليتعوذ من الشيطان» (1). فصل فالملَكُ وجندُه (2) من الإيمان يقتضيان من النفس المطمئنة التوحيدَ، والإحسانَ والبرَّ، والتقوى والصبر والتوكل، والتوبة والإنابة والإقبال على الله، وقصر الأمل والاستعداد للموت وما بعده. والشيطانُ وجندُه من الكفر يقتضيان من النفس الأمَّارة ضدَّ ذلك. وقد سلَّط الله سبحانه الشيطانَ على كلِّ ما ليس له (3)، ولم يُرَدْ به وجهُه، ولا هو طاعةٌ له. [150 أ] وجَعَل ذلك إقطاعَه، فهو يستنيب النفسَ الأمَّارةَ على هذا العمل والإقطاع، ويتقاضاها أن تأخذَ الأعمال من النفس المطمئنة، فتجعلَها قوةً لها. فهي أحرَصُ شيءٍ على تخليص الأعمال كلِّها لها، وأن تصير من حظوظها، فأصعَبُ شيءٍ على النفس المطمئنة تخليصُ الأعمال من _________ (1) رواية عمرو وهو ابن قيس الملائي مع الزيادة هذه أخرجها ابن جرير ــ كما سبق ــ موقوفة على ابن مسعود. (قالمي). (2) في الأصل وغيره: «فالنفس والملك وجنده»، والصواب ما أثبتناه من (ب، ج). ويقابله «الشيطان وجنده». (3) (ز): «ليس لله تعالى».

(2/645)


الشيطان ومن الأمَّارة لله. فلو وصل منها عملٌ واحدٌ كما ينبغي لنجا به العبد، ولكن أبت الأمَّارةُ والشيطانُ أن يدَعا لها عملًا واحدًا (1) يصل إلى الله. كما قال بعض العارفين بالله وبنفسه: والله لو أعلم أنَّ لي عملًا واحدًا (2) وصلَ إلى الله لكنتُ أفرحَ بالموت من الغائبِ يقدَمُ على أهله (3). وقال عبد الله بن عمر: لو أعلم أن الله تقبَّلَ مني سجدة واحدة لم يكن غائبٌ أحبَّ إليَّ من الموت، {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] (4). فصل وقد انتصبت الأمَّارة في مقابلة المطمئنة، فكلُّ ما جاءت به تلك من خيرٍ ضاهتها هذه وجاءت من الشرِّ بما يقابله حتى تفسدَه عليها. فإذا جاءت بالإيمان والتوحيد جاءت هذه بما يقدحُ في الإيمان من الشك والنفاق، وما يقدح في التوحيد من الشرك ومحبةِ غير الله وخوفهِ ورجائه. ولا ترضى حتى تقدِّم محبةَ غيره وخوفَه ورجاءَه على محبته سبحانه وخوفه ورجائه، فيكون ما له (5) عندها هو المؤخَّر، وما للخلق هو المقدَّم، وهذا حال أكثرِ هذا الخلق. وإذا جاءت تلك بتجريد المتابعة للرسول، جاءت هذه بتحكيم آراء الرجال وأقوالهم على الوحي، وأتت من الشُّبهِ المضِلَّة بما يمنعها من كمال _________ (1) (ن، ز): «صالحًا». (2) «واحدًا» لم يرد في الأصل. وفي (ن): «صالحًا واحدًا». (3) لم أجده. (4) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (31/ 146). (5) (ب، ج): «ما لله».

(2/646)


المتابعة وتحكيم السُّنَّة وعدم الالتفات إلى آراء الرجال، فتقوم الحربُ بين هاتين النفسين، والمنصورُ مَن نصره الله. وإذا جاءت تلك بالإخلاص والصدق والتوكل والإنابة والمراقبة، جاءت هذه بأضدادها، وأخرجتها في عدة قوالب، وتُقسِم بالله ما مرادُها إلا الإحسان والتوفيق. والله يعلم أنها كاذبة، وما مرادُها إلا مجردُ حظِّها واتباع هواها، والتفلُّت (1) من سجن المتابعةِ [150 ب] والتحكيمِ المحضِ للسنَّة إلى فضاء إرادتها وشهوتها وحظوظها. ولَعمرُ الله ما تخلَّصتْ إلا من فضاءِ المتابعة والتسليم إلى سجن الهوى والإرادة وضيقه (2) وظلمته ووحشته. فهي (3) مسجونة فيه في هذا العالم، وفي البرزخ في أضيقَ منه، ويومَ المعاد الثاني في أضيقَ منهما. ومن أعجبِ أمرها أن تسحر العقلَ والقلبَ، فتأتي إلى أشرف الأشياء وأفضلها وأجلِّها، فتخرجُه في صورة مذمومة ــ وأكثرُ الخلق صبيانُ العقول، أطفال الأحلام، لم يصلوا إلى حدِّ الفطام الأولِ عن (4) العوائد والمألوفات، فضلًا عن البلوغ الذي يُميِّز به العاقلُ البالغُ بين خير الخيرَين فيؤثِرُه، وشرِّ الشرين فيجتنبُه ــ فتُريه صورةَ تجريد التوحيد، التي هي أبهى من صورة الشمس والقمر، في صورة التنقُّص المذموم، وهَضْم العظماء منازلَهم، وحطِّهم منها إلى مرتبة العبودية المحضة والمسكنة والذلِّ والفقر المحض _________ (1) (ب، ن، ز): «التقلب». (ط): «النقلة» وكلاهما تصحيف. (2) الأصل وحده: «ضيقته». (3) في الأصل: «وهي». (4) في الأصل: «عند»، تحريف.

(2/647)


الذي لا ملكة لهم معه ولا إرادة ولا شفاعة إلا من بعد إذن الله. فتُريهم (1) النفسُ السحَّارةُ هذا القَدْرَ غايةَ تنقُّصهم وهضمهم ونزولِ أقدارهم (2)، وعدمِ تميُّزهم عن المساكين الفقراء. فتنفِرُ نفوسُهم من تجريد التوحيد أشدَّ النِّفار ويقولون: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]. وتُريهم تجريدَ المتابعة للرسول وما جاء به وتقديمَه على آراء الرجال في صورة تنقُّصِ العلماء والرغبةِ عن أقوالهم وما فهموه عن الله ورسوله، وأنَّ هذا إساءةُ أدب عليهم وتقدُّمٌ بين أيديهم، وهو مفضٍ إلى إساءة الظن بهم وأنَّهم قد فاتهم الصواب، وكيف لنا قوة أن نردَّ عليهم ونفوز ونحظى بالصواب دونهم؟ فتنفِرُ من ذلك أشد النِّفار، وتجعلُ كلامَهم هو المحكَّم الواجبَ الاتباع، وكلامَ الرسول هو المتشابه الذي يُعرَض على أقوالهم، فما وافقها قبلناه، وما خالفها ردَدْناه أو أوَّلناه أو فوَّضناه. وتُقاسِم (3) النفسُ السحَّارةُ بالله إن أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا! أولئك الذين يعلم [151 أ] الله ما في قلوبهم. فصل وتُريه صورةَ الإخلاص في صورةٍ ينفرُ منها، وهي الخروجُ عن حكمِ العقلِ المعيشي والمداراةِ والمداهنةِ التي بها اندراجُ حال صاحبها ومشيُه بين _________ (1) زاد في (ط): «هذه». (2) (ط): «درجتهم وأقدارهم». (3) كذا في جميع النسخ. ومنه قوله تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 20] وغُيِّر في النسخ المطبوعة إلى «تقسم».

(2/648)


الناس. فمَنْ (1) أخلصَ أعماله ولم يعمل لأحد شيئًا تجنبهم وتجنَّبوه، وأبغضَهم وأبغضوه، وعاداهم وعادوه، وسار على جادَّةٍ وهم على جادَّة؛ فينفِر من ذلك أشدَّ النِّفار. وغايته أن يُخلِصَ في القدر اليسير من أعماله التي لا تتعلَّق بهم، وسائرُ أعماله لغير الله. فصل وتُريه صورةَ الصدقِ مع الله وجهادِ مَن خرج عن دينِه وأمرِه في قالَب الانتصاب لعداوة الخلق وأذاهم وحربهم، وأنه يُعرِّض نفسَه من البلاء لما لا يطيق، وأنه يصير غرضًا لسهام الطاعنين، وأمثال ذلك من الشُّبَه التي تُقيمها (2) النفس السحَّارة والخيالات التي تُخيِّلها. وتُريه حقيقةَ الجهاد في صورةٍ تُقتَل فيها النفسُ وتُنكَح المرأة، ويصير الأولادُ يتامى، ويُقسَم المال. وتُريه حقيقةَ الزكاة والصدقة في صورةِ مُفارقة المال ونقصه وخُلوِّ اليد منه، واحتياجه إلى الناس، ومساواته للفقير وعَودِه بمنزلته. وتُريه حقيقةَ إثباتِ صفاتِ الكمال لله في صورة التشبيه والتمثيل، فينفِرُ من التصديق بها ويُنفِّرُ غيرَه. وتُريه حقيقةَ التعطيل والإلحاد فيها في صورة التنزيه والتعظيم. وأعجبُ من ذلك أنها تُضاهي ما يحبِّه الله ورسوله من الصفات والأخلاق والأفعال بما يبغضه منها، وتَلبِسُ على العبد أحدَ الأمرين بالآخر. ولا يُخَلِّص هذا (3) من هذا إلا أربابُ البصائر، فإنَّ الأفعال تصدر عن _________ (1) ما عدا (أ، ن، ز): «فمتى». (2) في الأصل: «لا تقيمها»، سهو. (3) حذفوا «هذا» في النسخ المطبوعة.

(2/649)


الإرادات وتظهر على الأركان من النَّفسين: الأمَّارة والمطمئنة، فيتباين الفعلان في الباطن، ويشتبهان في الظاهر. ولذلك أمثلة كثيرة. منها: المداراة والمداهنة. فالأول من المطمئنة، والثاني من الأمَّارة. وخشوعُ الإيمان وخشوع النِّفاق، وشرف النفس والتِّيه، والحميَّة والجفاء، والتواضع [151 ب] والمهانة، والقوة في أمر الله والعلو في الأرض، والحميَّة لله والغضب له والحميَّة للنفس والغضب لها، والجودُ والسَّرَف، والمهابة والكبر، والصيانةُ والتكبر، والشجاعة والجراءة، والحزمُ والجبن، والاقتصادُ والشُّح، والاحتراز وسوءُ الظنِّ، والفِراسة والظن، والنصيحة والغيبة، والهدية والرِّشوة، والصبرُ والقسوة، والعفو والذُّل، وسلامة القلب والبَلَه والغفلة، والثقة والغِرَّة، والرجاءُ والتمني، والتحدُّث بنعم الله والفخر بها، وفرحُ القلب وفرحُ النفس، ورِقَّة القلب والجزع، والمَوْجِدةُ والحقد، والمنافسةُ والحسد، وحبُّ الرِّياسة وحب الإمامة والدعوة إلى الله، والحبُّ لله والحب مع الله، والتوكلُ والعجز، والاحتياط والوَسْوسة، وإلهامُ الملك وإلهام الشيطان، والأَناةُ والتسويف، والاقتصاد والتقصيرُ، والاجتهاد والغُلوُّ، والنصيحة والتأنيب، والمبادرة والعَجَلة، والإخبار بالحال عند الحاجةِ والشكوى (1). فالشيء الواحد تكون صورته واحدةً، وهو منقسم إلى محمود ومذموم، كالفرح والحزن والأسف والغضب والغيرة والخُيَلاء والطمع والتجمُّل _________ (1) سيأتي الكلام على هذه الأمثلة مفصَّلًا إلا «الأناة والتسويف». وهذا باب الفروق قد لخَّصه الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله، وعلَّق على بعضها. انظر مقدمة التحقيق.

(2/650)


والخشوع والحسد والغِبطة والجَراءة والتجسسُّ (1) والحرص والتنافس وإظهار النعمة والحَلِف (2) والمسكنة والصَّمت والزهد والورع والتخلِّي والعُزلة والأنفة والحميَّة والغيبة. وفي الحديث: «إن من الغَيرة ما يحبُّها الله، ومنها ما يكرهه. فالغيرةُ التي يحبها: الغيرةُ في ريبة. والتي يكرهها: الغيرةُ في غير ريبة. وإن من الخُيَلاء ما يحبُّه الله، ومنها ما يكرهه. فالتي يحبُّ: الخيلاء في الحرب» (3). وفي الصحيح أيضًا: «لا حسَدَ إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله مالًا فسلَّطه على هَلَكته في الحقِّ، ورجلٌ آتاه الحكمةَ، فهو يقضي بها ويعلِّمها» (4). وفي الصحيح أيضًا: «إن الله رفيقٌ [152 أ] يحبُّ الرِّفقَ، ويُعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف» (5). وفيه أيضًا: «من أُعطي حظَّه من الرفق فقد أُعطِيَ حظَّه من الخير» (6). _________ (1) (ن): «الجبن»، تصحيف. وفي النسخ المطبوعة: «التحسر». (2) (ب، ج): «الصلف». (3) أخرجه أبو داود (2659)، والنسائي (2558)، والإمام أحمد (23747)، والدارمي (2226)، وابن حبان (295)، والبيهقي (7/ 308) كلهم من طرق عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن ابن جابر بن عتيك الأنصاري، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فذكره). وفيه ابن جابر بن عتيك، وهو مجهول. والحديث حسَّنه الألباني في الشواهد. انظر: إرواء الغليل (1199). (قالمي). (4) أخرجه البخاري (73) ومسلم (816) من حديث عبد الله بن مسعود وغيره. (5) أخرجه مسلم (2593) من حديث عائشة. (6) قول المصنف رحمه الله: «وفيه أيضًا» يعني في الصحيح، ولكن ليس في الصحيحين ولا أحدهما حديث بهذا اللفظ، وقريب منه حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه في صحيح مسلم (2592) بلفظ: «من يُحرم الرِّفق يُحرم الخير». وأما اللفظ الذي ساقه المصنف فهو ما أخرجه الترمذي (2013)، والإمام أحمد (27553)، والحميدي (393)، والبخاري في الأدب المفرد (464) وغيرهم من حديث أبي الدرداء. وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح». كذا قال! وفي سنده يعلى بن مملك تفرد عنه عبد الله بن أبي مُليكة وقال فيه النسائي: «ليس بذاك المشهور». السنن الكبرى (1/ 432). لكن له شاهد صحيح من حديث عائشة رضي الله عنها، بلفظ: «إنه من أُعطي حظّه من الرّفق، فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة ... » أخرجه الإمام أحمد (25259) وأبو يعلى (4530). (قالمي).

(2/651)


فالرفقُ شيء، والتواني والكسلُ شيء. فإن المتوانيَ يتثاقل عن مصلحته بعد إمكانها، فيتقاعد عنها؛ والرفيقُ يتلطَّف في تحصيلها بحسب الإمكان مع المطاولة. وكذلك المداراة صفة مدح، والمداهنة صفة ذمٍّ. والفرقُ بينهما: أنَّ المداريِ يتلطَّف بصاحبه حتى يستخرج منه الحقَّ أو يردَّه عن الباطل، والمداهن يتلطَّف به لِيُقِرَّه على باطله ويتركَه على هواه. فالمداراة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النِّفاق. وقد ضُرِب لذلك مثل مطابق، وهو حالُ رجل به قرحةٌ قد آلمته، فجاءه الطبيبُ المداري الرفيق، فتعرَّف حالَها، ثم أخذ في تليينها حتى إذا نضجتْ أخذ في بَطِّها (1) برفق وسهولة حتى أخرج ما فيها. ثم وضع على مكانها من الدواء والمرهم ما يمنع فسادَها (2) ويقطع مادَّتها، ثم تابع عليها بالمراهم _________ (1) بطَّ الدمَّلَ ونحوه: شقَّه. (2) ما عدا (ط): «فساده».

(2/652)


التي تُنبِتُ اللحم، ثم يذُرُّ عليها بعد نبات اللحم ما ينشف رطوبتها، ثم يشدُّ عليها الرِّباط، ولم يزل يتابع ذلك حتى صلحتْ. والمداهن قال لصاحبها: لا بأس عليك منها، وهذه لا شيء، فاسُتْرها عن العيون بخِرقة، ثم الهُ عنها. فلم تزل مادَّتُها تقوَى وتستحكم حتى عَظُم فسادها. وهذا المثل أيضًا مطابق كلَّ المطابقة لحال النفس الأمَّارة مع المطمئنة فتأمله. فإذا كانت هذه حالَ قرحةٍ بقدر الحِمَّصة، فكيف بسُقْمٍ هاج من نفس أمَّارة بالسوء، هي معدنُ الشهوات ومأوى كلِّ فسق (1) وقد قارنها شيطانٌ في غاية المكر والخِداع، يَعِدها ويُمنِّيها، ويسحرها بجميع أنواع السِّحر حتى يُخيِّل إليها النافعَ ضارًّا، والضارَّ نافعًا، والحسنَ قبيحًا، والقبيحَ جميلًا؟ وهذا لعمرو الله من أعظمِ أنواعِ السحر! ولهذا يقول سبحانه: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 89]. والذي (2) نسبوا إليه الرسلَ من كونهم مسحورين هو الذي أصابهم بعينه، وهم أهلُه، لا رسل [152 ب] الله صلوات الله وسلامه عليهم، كما أنهم نسبوهم إلى الضَّلال والفساد في الأرض والجنون والسَّفَه. وما استعاذت الأنبياءُ والرسل وأمروا الأممَ بالاستعاذة من شرِّ النفس الأمَّارة وصاحبها وقرينها الشيطان إلا لأنها أصلُ كل شرٍّ وقاعدتُه ومنبعه، وهما متساعدان عليه متعاونان. رضيعَي لِبانٍ ثديَ أمٍّ تقاسما ... بأسحمَ داجٍ عوضُ لا نتفرَّقُ (3) _________ (1) ما عدا (أ، ق، غ): «سوء». (2) ما عدا (ط): «والذين»، تحريف. (3) للأعشى في ديوانه (2/ 75).

(2/653)


قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]. وقال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200]. وقال: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97 - 98]. وقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} فهذه استعاذة من شرِّ النَّفس. وقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}. فهذا استعاذة من شرِّ قرينها وصاحبها، وبئسَ القرين والصاحب. فأمرَ سبحانه نبيَّه وأتباعَه بالاستعاذة بربوبيته التامَّة الكاملة من هذين (1) الخَلقين العظيم شأنُهما في الشرِّ والفساد. والقلبُ بين هذين العدوين، لا يزال شرُّهما يطرقه وينتابه. وأول ما يدِبُّ فيه السُّقم من النفس الأمارة من الشهوة وما يتبعها من الحُبِّ والحِرص والطلب والغضب، وما يتبعُه من الكِبر والحسد والظلم والتسلط. فيعلم الطبيبُ الغاشُّ الخائنُ بمرضه، فيعوده، ويصِفُ له أنواعَ السموم والمُؤذيات، ويُخَيِّل إليه بسحره (2) أنَّ شفاءَه فيها. ويتفق ضعفُ القلب _________ (1) ما عدا (أ، ق، غ): «من شرِّ هذين». (2) (أ، ق، غ، ن): «سحره».

(2/654)


بالمرض، وقوةُ النفس الأمارة والشيطان وتتابعُ أمدادهما، وأنه نقدٌ حاضر ولذَّة عاجلة، والداعي إليه يدعو من كلِّ ناحيةٍ، والهوى ينفذ (1)، والشبهة تُهوِّن، والتأسِّي (2) بالأكثر، والتشبُّه بهم، والرضا بأن يصيبه ما أصابهم. فكيف يستجيب مع هذه القواطع وأضعافها لداعي الإيمان ومُنادي الجنة إلا من أمدَّه الله بأمداد التوفيق، وأيَّده برحمته، وتولَّى حفظه وحمايته، [153 أ] وفتح بصيرةَ قلبه، فرأى سرعةَ انقطاع الدنيا وزوالها وتقلُّبها بأهلها، وفعلها بهم، وأنها في الحياة الدائمة الأبدية كغَمْسِ إصبعٍ في البحر بالنسبة إليه. فصل والفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النِّفاق أنَّ خشوع الإيمان هو خشوعُ القلب لله بالتعظيم والإجلال والوقار والمهابة والحياء، فينكسر القلبُ لله كَسْرةً ملتئمةً من الوجل والخجل والحبِّ والحياء، وشهود نِعَم الله، وجناياته هو، فيخشع القلب لا محالة، فيتبعه خشوعُ الجوارح. وأما خشوعُ النِّفاق، فيبدو على الجوارح تصنُّعًا وتكلُّفًا، والقلب غير خاشع. وكان بعض الصحابة يقول: أعوذ بالله من خشوع النِّفاق. قيل له: وما خشوع النِّفاق؟ قال: أن يُرى الجسد خاشعًا، والقلب غير خاشع (3). _________ (1) (ط): «يتقد». (2) ما عدا (ب، ج): «والناس». (3) أخرجه الإمام أحمد في الزهد (757) وابن أبي شيبة في المصنف (36861) عن أبي الدرداء. وفي الزهد لابن المبارك (143) عن أبي يحيى أنه بلغه أن أبا الدرداء أو أبا هريرة قال.

(2/655)


فالخاشعُ لله عبد قد خمدَتْ نيرانُ شهوته، وسكَنَ دخانُها عن صدره، فانجلى الصدر، وأشرق فيه نورُ العظمة. فماتتْ شهواتُ النفس، للخوف والوقار الذي حُشي به، وخمدت الجوارحُ، وتوقَّر القلب، واطمأنَّ إلى الله وذكره، بالسكينة التي تنزَّلتْ (1) عليه من ربِّه، فصار مخبتًا له. والمخبِتُ: المطمئنُّ، فإنَّ الخَبْت من الأرض: ما تطامَن فاستنقع فيه الماء. فكذلك القلبُ المخبِتُ قد خشع وتطامَنَ، كالبقعة المطمئنة من الأرض التي يجري إليها الماءُ، فيستقرُّ فيها. وعلامته أن يسجدَ بين يدي ربه إجلالًا له وذلًّا وانكسارًا بين يديه سجدةً لا يرفع رأسَه منها حتى يلقاه. وأمَّا القلبُ المتكبِّرُ، فإنه قد اهتزَّ بتكبُّره ورَبا، فهو كبقعةٍ رابية من الأرض لا يستقرُّ عليها الماء. فهذا خشوع الإيمان. وأما التماوت وخشوع النِّفاق، فهو حال عبد تكلَّف إسكانَ الجوارح تصنُّعًا ومراياةً (2)، ونفسُه في الباطن شابّةٌ طريَّةٌ ذاتُ شهوات وإرادات. فهو يتخشّع في الظاهر، وحَيَّةُ الوادي وأسدُ الغابة رابضٌ بين جنبيه ينتظر الفريسة. فصل وأما شرفُ النفس، فهو [153 ب] صيانتها عن الدَّنايا والرذائل والمطامع التي تقطِّعُ أعناق الرجال، فربأ (3) بنفسه عن أن يُلقيها في ذلك، بخلاف التِّيه، _________ (1) (ب، ج): «نزلت». (2) كذا في جميع النسخ بالياء على القلب. (3) (ج): «فيربأ». وكذا في النسخ المطبوعة.

(2/656)


فإنه خلُق متولِّد بين أمرين: إعجابهِ بنفسه وإزرائه بغيره، فيتولَّد من بين هذين التِّيهُ. والأول يتولَّد من بين خلقين كريمين: إعزازِ النفس وإكرامِها وتعظيم مالكها وسيِّدها أن يكون عبدُه دنيًّا وضيعًا خسيسًا، فيتولَّدُ من بين هذين الخلقين شرفُ النفس وصِيانتُها. وأصلُ هذا كله استعدادُ النفس وتهيؤُها، وإمدادُ وليِّها ومولاها لها. فإذا فُقِد الاستعدادُ والإمدادُ فُقِد الخير كلُّه. فصل وكذلك الفرقُ بين الحميَّة والجفاء، فإنَّ الحميَّةَ فِطامُ النفس عن رضاع اللؤم من ثديٍ هو مَصَبُّ الخبائث والرذائل والدَّنايا، ولو غزُرَ لبنه وتهالك الناسُ عليه، فإنَّ لهم فِطامًا تتقطَّع (1) معه الأكبادُ حسراتٍ! ولا بدَّ (2) من الفِطام، فإن شئت عجَّلتَ (3) وأنت محمودٌ مشكور، وإن شئتَ أخَّرْتَ وأنت غير مأجور. بخلاف الجفاء فإنه غِلظةٌ في النفس، وقَساوة في القلب، وكثافة في الطبع، يتولَّد عنها خلُقٌ يُسمَّى الجفاء. فصل والفرقُ بين التواضعِ والمَهانة أن التواضعَ يتولَّد من بين العلمِ بالله سبحانه، ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله، وتعظيمه ومحبَّته وإجلاله؛ _________ (1) الأصل غير منقوط. وفي غيره: «تنقطع». (2) ما عدا (ط): «فلا بدَّ». (3) في الأصل: «عجل ... أخرت». وكذا في (غ، ق). وفي غيرهما: «عجل .. أخر».

(2/657)


ومن معرفته بنفسهِ ونقائصها وعيوبِ عمله وآفاتها (1). فيتولَّد من بين ذلك كلِّه خُلقٌ هو التواضع، وهو انكسارُ القلب لله، وخفضُ جناح الذلِّ والرحمة لعباده. فلا يرى له على أحد فضلًا، ولا يرى له عند أحد حقًّا، بل يرى الفضلَ للناس عليه والحقوقَ لهم قِبله. وهذا خُلقٌ إنما يُعطيه الله عزَّ وجلَّ مَن يُحبه ويُكرمه ويُقرِّبه. وأما المهانة، فهي الدَّناءة والخِسَّة، وبذل النفس وابتذالها في نيل حظوظها وشهواتها، كتواضعِ السُفَّل في نيل شهواتهم، وتواضعِ المفعول به للفاعل، وتواضعِ طالب كلِّ حظٍّ لمن يرجو نيلَ حظِّه منه. فهذا كلُّه ضَعةٌ، لا تواضع، [154 أ] والله سبحانه يحبُّ التواضع، ويبغضُ الضَّعة والمهانة. وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم -: «وأوحي إليَّ أن تَواضَعوا حتى لا يفخرَ أحدٌ على أحد، ولا يَبغيَ أحدٌ على أحد» (2). والتواضع المحمود على نوعين: أحدهما: تواضعُ العبد عند أمر الله امتثالًا، وعند نَهْيه اجتنابًا، فإن النفسَ لطلب (3) الراحة تتلكأ في أمره، فيبدو منها نوعُ إباء وشِراد هربًا من العبودية، وتثِبُ (4) عند نَهْيه طلبًا للظَّفر بما منع منه، فإذا وضَع العبدُ نفسَه لأمر الله _________ (1) كذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: «وآفاته» يعني آفات العمل. (2) أخرجه مسلم (2865) من حديث عياض بن حمار المجاشعي. (3) (ب): «في طلب». (ج): «تطلب». (4) الأصل غير منقوط. والمثبت قراءة (غ). وكتب ناسخها فوقها «ظ». وفي (ز) والنسخ المطبوعة: «تثبت». وفي غيرها: «ثبت» أو «يثبت».

(2/658)


ونهيه، فقد تواضع للعبودية. والنوع الثاني: تواضعُه لعظمة الربِّ وجلاله، وخضوعُه لعزته وكبريائه. فكلما شمختْ نفسه ذكَر عظمةَ الربِّ تعالى وتفردَه بذلك، وغضبه الشديد على من نازعه ذلك، فتواضعتْ إليه نفسه، وانكسر لعظمة الله قلبُه، وتطامَن لهيبته، وأخبتَ لسلطانه. فهذا غايةُ التواضع، وهو يستلزم الأول من غير عكس. والمتواضعُ حقيقةً مَن رُزِق الأمرين، والله المستعان. فصل وكذلك القوة (1) في أمر الله هي من تعظيمه وتعظيم أوامره وحقوقه حتى يقيمها لله. والعلوُّ في الأرض هو من تعظيمِ نفسه وطلبِ تفرُّدها بالرِّياسة ونَفاذِ الكلمة سواءً عزَّ أمر الله أو هان. بل إذا عارضه أمرُ الله وحقوقُه ومرضاتُه في طلب عُلوه لم يلتفت إلى ذلك، وأهدره، وأماتَه في تحصيل علوِّه. وكذلك الحميَّة لله، والحميَّة للنفس. فالأولى يثيرها تعظيمُ الأمر والآمرِ، والثانية يُثيرها تعظيمُ النفس، والغضبُ لفوات حظوظها. فالحميَّة لله أن يحمَى قلبه له من تعظيم حقوقه، وهي حالُ عبد قد أشرق على قلبه نورُ سلطان الله، فامتلأ قلبه (2) بذلك النور. فإذا غضب فإنما يغضب من أجل نورِ ذلك السلطان الذي أُلقي على قلبه. وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غضبَ احمرَّتْ وجنتاه، وبدا بين عينيه عِرْقٌ _________ (1) (ق): «الفرق»، سهو. (2) «حال عبد ... قلبه» ساقط من (ق).

(2/659)


يُدِرُّه الغضبُ (1)، ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتقمَ لله (2). وروى [154 ب] زيد بن أسلم عن أبيه أن موسى بن عمران - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غضِب اشتعلَتْ قَلَنْسوتُه نارًا (3). وهذا بخلاف الحميَّة للنفس، فإنها حرارة تهيج من نفسه لفَواتِ حظها أو طلبه، فإن الفتنةَ في النفس، والفتنة هي: الحريق، والنفس متلظِّية بنار _________ (1) أخرجه الترمذي في الشمائل (7)، وابن سعد في الطبقات الكبرى (1/ 422)، وابن حبان في الثقات (2/ 146)، والطبراني في الكبير (414) ج 22، والحاكم (3/ 640) ــ ولم يسق لفظه ــ والبيهقي في شعب الإيمان (1362)، وفي دلائل النبوة (1/ 214، 286) كلهم من طريق جميع بن عمير، عن رجل من بني تميم من ولد أبي هالة يكنى أبا عبد الله، عن ابن لأبي هالة، عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: سألت خالي هند بن أبي هالة ــ وكان وصَّافًا ــ عن حلية النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أشتهي أن يصف لي شيئًا منها أتعلق به، فقال (فذكر حديثًا طويلًا) وفيه: «أزجّ الحواجب، سوابغَ في غير قَرن، بينهما عِرْق يدرُّه الغضب». وإسناده ضعيف مسلسل بالعلل: جُميع بن عمير ــ ويقال: ابن عمر ــ ابن عبد الرحمن العجلي، ضعيف رافضي كما في التقريب، وشيخه مجهول، كما في التقريب أيضًا، وابن لأبي هالة مبهم لا يعرف. (قالمي). وقد فسَّر أبو عبيد الحديث، فقال: «إذا غضب درَّ العِرق الذي بين الحاجبين. دُرورُه: غِلَظه ونتوؤه وامتلاؤه». المعجم الكبير للطبراني (17868). وانظر: النهاية (2/ 112). (الإصلاحي). (2) ذكره بالمعنى وهو في الصحيحين، البخاري (3560)، ومسلم (2327) من حديث عائشة رضي الله عنها، ولفظه: «وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه إلا أن تُنتهك حُرمة الله، فينتقم لله بها». (قالمي). (3) في الدر المنثور (6/ 594) أن أبا الشيخ أخرجه عن زيد بن أسلم. وذكره البيهقي في الأسماء والصفات (974) والبغوي في شرح السنة (1491).

(2/660)


الشهوة والغضب. فإنما هما حرارتان تظهران على الأركان: حرارةٌ من قِبل النفس المطمئنة أثارَها تعظيمُ حقِّ الله، وحرارةٌ من قِبل النفس الأمَّارة أثارَها استشعارُها فوتَ الحظ (1). والفرقُ بين الجُود والسَّرَف: أنَّ الجوادَ حكيمٌ يضع العطاءَ مواضعَه، والمسرفُ مبذِّر، قد يُصادف عطاؤه موضعَه، وكثيرًا لا يصادفه. وإيضاحُ ذلك أن الله سبحانه بحكمته جعل في المال حقوقًا، وهي نوعان: حقوق موظفة وحقوق ثابتة (2). فالحقوق الموظفة كالزكاة والنفقات الواجبة على من تلزمه نفقتُه. والثابتة: كحقِّ الضَّيف، ومكافأة المُهدي، وما وقى به عِرْضَه ونحو ذلك. فالجوادُ يتوخَّى بماله أداء هذه الحقوق على وجه الكمال، طَيِّبةً بذلك نفسُه، راضيةً مؤمِّلةً للخُلف في الدنيا والثواب في العُقبى. فهو يُخرِج ذلك بسماحة قلب، وسخاوة نفس، وانشراح صدرٍ، بخلاف المبذِّر، فإنه يبسط يده في ماله بحكم هواه وشهوته جزافًا، لا على تقدير ولا مراعاة مصلحة، وإن اتَّفقتْ له. فالأول بمنزلة من بذَرَ حبَّةً في أرضٍ تُنبِتُ، وتوخَّى ببذره مواضع المُغَلِّ (3) والإنبات. فهذا لا يُعَدُّ مبذِّرًا ولا سفيهًا. والثاني بمنزلة من بذَرَ حبةً في سِباخ وعَزاز (4) من الأرض، وإن اتفق بذرُه في محلِّ النبات بذَره _________ (1) ما عدا الأصل: «استشعار فوت الحظ». (2) في النسخ المطبوعة: «ثانية»، تصحيف. (3) من أغلَّت الضيعةُ: أعطت الغَلَّة. (4) السِّباخ جمع السبْخة، وهي أرض ذات ملح ونَزٍّ لا تنبت شيئًا. والعَزاز: المكان الصلب السريع السيل.

(2/661)


بذرًا متراكمًا بعضُه على بعض. فذلك المكانُ البذرُ فيه ضائعٌ معطَّل، وهذا المكان بذرُه متراكم بعضُه على بعض، يحتاج أن يُقلعَ بعضُ زرعه ليصلُح الباقي، ولئلا تضعفَ الأرضُ عن تربيته. والله سبحانه هو الجواد على الإطلاق، بل كلُّ جودٍ في العالم العلويِّ والسُّفلي بالنسبة إلى [155 أ] جوده أقلُّ من قطرة في بحار الدنيا، وهي من جُوده، ومع هذا فإنما ينزِلُ بقدر ما يشاء. وجُوده لا يُناقِض حكمَته، ويضع عطاءه مواضعَه، وإن خَفِي على أكثر الناس أن تلك مواضعه. فالله أعلم حيث يضع فضلَه وأيُّ المحالِّ أولى به، والله أعلم. فصل والفرقُ بين المهابةِ والكِبْر: أن المهابة أثرٌ من آثار امتلاء القلب بعظمة الله ومحبته وإجلالهِ، فإذا امتلأ القلبُ بذلك حلَّ فيه النورُ، ونزلت عليه السكينة، وأُلبِسَ رداءَ الهيبة، فاكتسى وجهُه الحلاوة والمهابة، فأخذ بمجامع القلوب محبةً ومهابةً، فحنَّت إليه الأفئدة، وقرَّت به العيون، وأنِست به القلوب. فكلامه نورٌ، ومدخله نورٌ، ومخرجَه نورٌ، وعمله نورٌ. إن سكَت علاه الوقار، وإن تكلَّم أخذ بالقلوب والأسماع. وأما الكبر، فأثرٌ من آثار العُجب والبغي من قلبٍ قد امتلأ بالجهل والظلم، ترحَّلت منه العبودية، ونزل عليه المقتُ؛ فنظرُه إلى الناس شَزْر، ومشيُه بينهم تبختُر، ومعاملتُه لهم معاملةُ الاستئثار، لا الإيثار ولا الإنصاف. ذاهبٌ بنفسه تِيهًا، لا يبدأ من لَقِيه بالسلام، وإن ردَّ عليه (1) رأى أنه قد بالغَ _________ (1) (ن): «على أحد».

(2/662)


في الإنعام عليه. لا ينطلق لهم وجهُه، ولا يسعهم خلقُه. لا يرى لأحدٍ عليه حقًّا، ويرى حقوقَه على الناس، ولا يرى فضلَهم عليه، ويرى فضلَه عليهم. لا يزداد من الله إلَّا بُعدًا، ولا من الناس إلا صَغارًا وبغضًا. فصل والفرقُ بين الصِّيانة والتكبر: أن الصائنَ لنفسه بمنزلة رجل قد لبس ثوبًا جديدًا نقيَّ البياض ذا ثمن، فهو يدخل به على الملوك فمن دونَهم، فهو يصونه عن الوسَخ والغبار والطبوع (1) وأنواع الآثار إبقاءً على بياضه ونقائه. فتراه صاحب تقزُّز (2) وهروب من المواضع التي يخشى منها عليه التلوث، فلا يسمح بأثر ولا طبع ولا لُواث (3) يعلو ثوبَه (4)، وإن أصابه شيء من ذلك على غِرَّة بادر إلى قلعه [155 ب] وإزالته ومحو أثره. وهكذا الصائن لقلبه ودينه تراه يجتنب طبوعَ الذنوب وآثارها، فإنَّ لها في القلب طبوعًا وآثارًا أعظمَ من الطبوع (5) الفاحشة في الثوب النقي _________ (1) جمع طبع، وهو اللطخة من المداد والوسخ ونحوه. انظر: تكملة المعاجم العربية (7/ 17). (2) في جميع النسخ الخطية: «تعزز». وكذا في النسخ المطبوعة. وأراه تصحيفًا لما أثبت. ويحتمل «تحرز» ولكن رسمها في الأصل وغيره أقرب إلى الأول. (3) كذا في الأصل وغيره. وفي (ن، ز): «لَوث»، وكذا في النسخ المطبوعة. والذي في كتب اللغة بهذا المعنى: اللُّواثة. أما اللُّواث فهو دقيقٌ يذَرُّ على الخوان تحت العجين لئلا يلزَق به العجين. انظر: اللسان (لوث 2/ 187). (4) (ب، ج): «يعلق به». (5) «الذنوب ... الطبوع» ساقط من الأصل.

(2/663)


البياض، ولكن على العيون غِشاوة أن تدركَ تلك الطبوع. فتراه يهرب من مظانِّ التلوث، ويحترسُ من الخلق، ويتباعد من مخالطتهم، مخافةَ أن يحصلَ لقلبه ما يحصل لثوب (1) الذي يخالط الدبَّاغين والذبَّاحين والطبَّاخين ونحوهم، بخلاف صاحب العُلوِّ، فإنه وإن شابَهَ هذا في تحرُّزه وتجنُّبه، فهو يقصِد أن يعلو رقابَهم، ويجعلهم تحت قدمه. فهذا لون، وذاك لون. فصل والفرق بين الشجاعة والجَراءة: أنَّ الشجاعةَ من القلب، وهي ثباتُه واستقرارُه عند المخاوف. وهو خُلقٌ يتولَّد من الصبر وحُسن الظن، فإنه متى ظنَّ الظَّفَر، وساعده الصبر، ثبَتَ؛ كما أنَّ الجبن يتولَّد من سوء الظن وعدمِ الصبر، فلا يظن الظَّفَر، ولا يساعده الصبر. وأصلُ الجبن من سوء الظن ووسوسة النفس بالسوء، وهو ينشأ من الرئة، فإذا ساء الظن، ووسوست النفس بالسوء، انتفخت الرئة، فزاحمت القلبَ في مكانه، وضيَّقت عليه حتى أزعجته عن مستقره، فأصابه الزلازل (2) والاضطراب لإزعاج الرئة له وتضييقها عليه. ولهذا (3) في حديث عمرو بن العاص الذي رواه أحمد وغيره عن النبي _________ (1) (ب، غ): «للثوب»، وكذا في النسخ المطبوعة. (2) (ب، ج، ز، ن): «الزلزال». (3) بعدها في النسخ المطبوعة زيادة: «جاء».

(2/664)


- صلى الله عليه وسلم -: «شَرُّ ما في المرء جبنٌ خالعٌ وشحٌّ هالعٌ» (1). فسمَّى الجبنَ خالعًا لأنه يخلع القلبَ عن مكانه لانتفاخ السَّحْر، وهو: الرئة، كما قال أبو جهل لعُتبة بن ربيعة يومَ بدر: انتفخ سَحْرُك (2). فإذا زال القلبُ عن مكانه ضاع تدبيرُ العقل، فظهر الفساد على الجوارح، فوضعت الأمورَ على غير مواضعها. فالشجاعة حرارةُ القلب، وغضبه، وقيامه، وانتصابه، وثباته (3). فإذا رأته الأعضاء كذلك أعانته، فإنها خدمٌ له وجنود، كما أنه إذا ولَّى ولَّتْ سائرُ جنوده. وأما الجراءة، فهي إقدامٌ سببه قلةُ المبالاة وعدم النظر في العاقبة، بل تقدُّم النفس في غير موضع الإقدام (4) مُعرِضةً عن ملاحظة المعارض (5) فإما عليها وإما لها. والله أعلم. _________ (1) أخرجه الإمام أحمد (8010)، وأبو داود (2511)، وابن المبارك في الجهاد (111)، وابن أبي شيبة (26609)، وابن حبان (3250) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وعزاه الحافظ العراقي في المغني (3324) لأبي داود وقال: «سنده جيد». وانظر: السلسلة الصحيحة (560). وأما قول المصنف رحمه الله: «في حديث عمرو بن العاص» فلعله سبق قلم. والله أعلم. (قالمي). (2) دلائل النبوة للبيهقي (3/ 112). (3) «وثباته» ساقط من (ن، ز). (4) «سببه ... الإقدام» ساقط من الأصل. (5) ما عدا (ب، ج، ز): «العارض».

(2/665)


[156 أ] فصل وأما الفرقُ بين الحزم والجبن: فالحازم هو الذي قد جمع عليه همَّه وإرادته وعقله، ووزن الأمورَ بعضها ببعض، فأعدَّ لكلٍّ منها قِرْنه (1). ولفظةُ الحزم تدل على القوة والإجماع (2)، ومنه: حُزمة الحطب، فحازمُ الرأي هو الذي اجتمعت له شؤون رأيه، وعرَف منها خيرَ الخيرين وشرَّ الشرين، فأحجمَ في موضع الإحجام رأيًا وعقلًا، لا جُبنًا ولا ضَعفًا (3). كعاجزِ الرأيِ مِضياعٌ لِفرصتِه ... حتى إذا فات أمرٌ عاتَبَ القدَرا (4) والفرق بين الاقتصاد والشُّحِّ: أنَّ الاقتصاد خُلقٌ محمود يتولَّد من خلقين: عدل وحكمة. فبالعدل يعتدل في المنع والبذل، وبالحكمة يضعُ كل واحد منهما موضعَه الذي يليق به، فيتولَّد من بينهما الاقتصاد، وهو وسطٌ بين طرفين مذمومين كما قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29]، وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، وقال: {وَكُلُوا _________ (1) (ز، ن): «قرينه». (2) (ز، ن، غ): «الاجتماع». وأصل المعنى عند ابن فارس: شدّ الشيء وجمعه. مقاييس اللغة (2/ 53). (3) بعده في (ب، ج) زيادة: «كما قال». (4) رواية البيت: «وعاجزُ الرأي»، ولكن المؤلف ضمَّنه كلامه، فغيَّر. وقد تمثَّل به في طريق الهجرتين (135) والفوائد (264). والبيت ليحيى بن زياد في معجم الشعراء للمرزباني (486)، وللخليل بن أحمد في المنتخل (1/ 463)، ولم ينسبه الجاحظ في البيان (2/ 350).

(2/666)


وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]. وأما الشحُّ، فهو خُلقٌ ذميم يتولَّد من سوء الظن وضعف النفس، ويُمِدُّه وعدُ الشيطان حتى يصير هالعًا. والهلَعُ: شدَّة الحرص على الشيء والشَّره به (1)، فيتولَّد عنه المنعُ لبذله، والجزَعُ لفقده، كما قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 19 ــ 21]. فصل والفرق بين الاحتراز وسوء الظنِّ: أنَّ المحترز بمنزلة رجل قد خرج بماله ومركوبه مسافرًا، فهو يحترز بجهده من كل قاطعٍ للطريق، وكلِّ مكانٍ يتوقع منه الشر. وكذلك يكون مع التأهُّب والاستعداد وأخذِ الأسباب التي بها ينجو من المكروه. فالمحترِزُ كالمتسلِّح المتدرِّع الذي قد تأهَّب للقاء عدوه، وأعدَّ له عُدَّته، فهمَّتُه (2) في تهيئة أسباب النجاة ومحاربة عدوِّه قد أشغلته عن [156 ب] سوء الظن به، وكلما أساء به الظنَّ أخذَ في أنواع (3) العدَّة والتأهب. وأما سوء الظن فهو امتلاء قلبه بالظُّنون السيئة بالناس حتى يطفحَ على لسانه وجوارحه، فهم معه أبدًا في الهمز واللَّمز والطعن والعيب (4) _________ (1) كذا في جميع النسخ ما عدا (ب، ج)، فقد حذفت فيها «به». وقد نصَّت كتب اللغة على تعدية الشَّره بإلى (اللسان) وعلى (أساس البلاغة) لا غير. (2) في النسخ المطبوعة: «فهمُّه». وكذا في (غ). (3) (ب، ج): «بأنواع». (4) (ط، ن، ز): «العتب».

(2/667)


والبُغض. يبغضهم ويبغضونه، ويَلعنهم ويلعنونه، ويَحْذَرهم ويَحذَرون منه. فالأول يُخالطهم ويحترز منهم، والثاني يتجنَّبهم ويَلحقه أذاهم. الأول داخلٌ فيهم بالنصيحة والإحسان مع الاحتراز، والثاني خارجٌ منهم مع الغِشِّ والدَّغَل والبغض. فصل والفرق بين الفراسة والظنِّ: أن الظن يخطئ ويصيب، وهو يكون مع ظلمة القلب ونوره وطهارته ونجاسته. ولهذا أمرَ تعالى باجتناب كثيرٍ منه (1)، وأخبر أن بعضه إثمٌ. وأما الفراسة فأثنى على أهلها ومدَحهم في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] قال ابن عباس وغيره: أي: المتفرِّسين (2). وقال تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273]، وقال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]. فالفراسةُ الصادقةُ لقلبٍ قد تطهَّر وتصفَّى، وتنزَّه من الأدناس، وقرُب _________ (1) (ط): «من الظن». (2) ما عدا (أ، ق، غ): «للمتفرسين». وهذا تفسير مجاهد. انظر: تفسير الطبري (14/ 94)، (17/ 120). أما ابن عباس فقال: «للناظرين» كما أخرجه ابن أبي حاتم (13280)، والطبري (14/ 95)، (17/ 121).

(2/668)


من الله، فهو ينظر بنور الله الذي جعله في قلبه. وفي الترمذي وغيره من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اتقُوا فِراسةَ المؤمن، فإنه ينظرُ بنور الله» (1). وهذه الفِراسةُ نشأتْ له من قُربه من الله، فإن القلب إذا قَرُبَ من الله انقطعت عنه معارضاتُ السوء المانعةُ من معرفة الحقِّ وإدراكِه، وكان تَلقِّيه من مشكاةٍ قريبةٍ من الله بحسب قُربه منه، وأضاء له النور بقدر قُربه منه، فرأى في [157 أ] ذلك النور ما لم يَره البعيد المحجوب، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربِّه عزَّ وجلَّ أنه قال: «ما تقرَّب إليَّ عبدي بمثل (2) ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحبَّه، فإذا أحببتُه كنت سمعَه الذي يسمعه به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطِش بها، ورجلَه التي يمشي بها. فبي يسمع، وبي يُبصر، وبي يبطِش، وبي يمشي» (3). _________ (1) أخرجه الترمذي (3127) من طريق عمرو بن قيس، عن عطية، عن أبي سعيد، وزاد في آخره: «ثم قرأ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} وضعَّفه بقوله: «هذا حديث غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه». وسبب ضعفه هو عطية بن سعد العوفي. ومن هذا الوجه أخرجه العقيلي في الضعفاء (4/ 129)، ثم أخرجه من وجه آخر عن عمرو بن قيس الملائي قال: كان يقال: «اتقوا فراسة المؤمن ... »، ثم قال: «وهذا أولى» أي أنه حكمة وليس بحديث. ويروى عن صحابة آخرين ولم يصح منها شيء. راجع السلسلة الضعيفة (1821). (قالمي). (2) ما عدا (أ، ق، غ): «بمثل أداء». (3) أخرجه البخاري (6502) إلا قوله: «فبي يسمع» إلى آخره. وقد عزاه المؤلف إلى البخاري مع هذه الزيادة في الداء والدواء (430) وروضة المحبين (554)، والمدارج (2/ 413) وقبله شيخ الإسلام في مواضع كثيرة من كتبه. انظر مثلًا: الجواب الصحيح (5/ 109) وجامع الرسائل (2/ 95، 237) وجامع المسائل (1/ 68، 86، 98)، (2/ 61) ومجموع الفتاوى (2/ 340، 371، 463) وغيرها؛ غير أنه صرّح في بعض المواضع بأن هذه الرواية وردت في غير الصحيح. انظر: مجموع الفتاوى (2/ 390) والجواب الصحيح (3/ 334). وقد ذكر هذه الرواية الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (1/ 212) دون إسناد. وانظر: فتح الباري (11/ 344).

(2/669)


فأخبر سبحانه أنَّ تقرُّبَ عبِده منه يفيدهُ محبته له، فإذا أحبَّه قرُب من سمعه وبصره ويده ورجله، فسمع به، وأبصر به، وبطَش به، ومشى به. فصار قلبُه كالمرآة الصافية تتبدَّى (1) فيها صوَرُ الحقائق على ما هي عليه، فلا تكاد تُخطئ له فراسة. فإن العبد إذا أبصر بالله أبصرَ الأمرَ على ما هو عليه، وإذا (2) سمع بالله سمعه على ما هو عليه. وليس هذا من علمِ الغيب، بل علَّامُ الغيوب قذَفَ الحقَّ في قلبٍ قريبٍ منه، مُستنيرٍ (3) بنوره، غيرِ مشغولٍ بنفوس (4) الأباطيل والخيالات والوساوس التي تمنعه من حصولِ صور (5) الحقائق فيه. وإذا (6) غلب على القلب النورُ فاضَ على الأركان، وبادرَ من القلب إلى العين، فيكشف بعين بصره بحسب ذلك النور. _________ (1) هذا في الأصل. وفي غيره: «تبدو». (2) (ق، غ): «فإذا». ورسمها في الأصل محتمل. (3) في النسخ المطبوعة: «مستبشر»، تصحيف. (4) (ب، ج): «بنقوش». (5) (أ، غ): «صورة». (6) (ب، ط، ج): «فإذا».

(2/670)


وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرى أصحابَه في الصلاة وهم خلفه كما يراهم أمامه (1). ورأى بيتَ المقدس عِيانًا وهو بمكة (2). ورأى قصورَ الشام، وأبوابَ صنعاء، ومدائنَ كسرى؛ وهو بالمدينة يحفِرُ الخندق (3). ورأى أمراءه بمؤتة وقد أُصيبوا وهو بالمدينة (4). ورأى النجاشيَّ بالحبشة لما مات، وهو بالمدينة، فخرج إلى المصلَّى، فصلَّى عليه (5). _________ (1) أخرجه البخاري (418، 419)، ومسلم (423 ــ 425) من حديث أبي هريرة وأنس بن مالك. (2) أخرجه البخاري (3886) ومسلم (170) من حديث جابر بن عبد الله. (3) أخرجه الإمام أحمد (18694)، والنسائي في الكبرى (8807)، وابن أبي شيبة (36820)، وأبو يعلى (1685)، وأبو نعيم في دلائل النبوة (430)، والبيهقي في دلائل النبوة (3/ 421) من طرق عن عوف (هو ابن أبي جميلة الأعرابي)، عن ميمون أبي عبد الله، عن البراء بن عازب. وميمون ضعيف كما في التقريب فقول الحافظ في الفتح (7/ 397): «إسناده حسن» فيه نظر، ولكن له شواهد لعله يتحسَّن بها انظرها في دلائل البيهقي، ومجمع الزوائد (6/ 130) وما بعدها. (قالمي). (4) أخرج البخاري (3757) عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعَى زيدًا وجعفرًا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرُهم، فقال: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب، وعيناه تذرفان، حتى أخذها سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم». (5) أخرج البخاري (1245) ومسلم (951) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعَى النجاشيَّ في اليوم الذي مات فيه، الحديث.

(2/671)


ورأى عمرُ ساريةَ بنهاوند [157 ب] من أرض فارس هو وعساكر المسلمين، وهم يقاتلون عدوَّهم، فناداه: يا ساريةُ، الجبل (1). ودخل عليه نفرٌ من مَذحِج فيهم الأشتَر النخعي، فصعَّد فيه البصرَ وصوَّبه، وقال: «أيهم هذا؟» قالوا: مالك بن الحارث. فقال: «ما له، قاتلَه الله! إني لأرى للمسلمين منه يومًا عصيبًا» (2). ودخل عمرو بن عبيد على الحسن فقال: هذا سيدُ الفتيان إن لم يُحدِث (3). وقيل: إن الشافعيَّ ومحمد بن الحسن جلسا في المسجد الحرام، فدخل رجلٌ، فقال محمد: أتفرَّس أنه نجار، وقال (4) الشافعي: أتفرَّس أنه حداد. فسألاه، فقال: كنتُ حدَّادًا، وأنا اليوم أنجُر (5). ودخل أبو الحسن البُوشَنْجي والحسن الحدَّاد على أبي القاسم المنادي يعودانه، فاشتريا في طريقهما بنصفِ درهم تفاحًا نسيئةً، فلما دخلا عليه قال: ما هذه الظُّلمة؟ فخرجا، وقالا: ما عملنا (6)؟ لعل هذا من قِبَل ثمن _________ (1) الرياض النضرة (2/ 11 ــ 12). وانظر: مناقب عمر لابن الجوزي (163 ــ 164) والإصابة (3/ 8 ــ 9). (2) الرياض النضرة (2/ 10) عن عبد الله بن مسلمة. (3) تاريخ بغداد (12/ 168) ولفظه: هذا سيد شباب أهل البصرة إن لم يحدث. (4) (ق، ط، ز): «فقال». (5) (ط، ج): «نجار». والخبر في الرسالة القشيرية (3/ 387). وهي مصدر المصنف في الأخبار التالية أيضًا. (6) هذا في (ق). وكذا كان في الأصل فغيَّره بعضهم إلى «علمنا» كما في النسخ الأخرى الخطية والمطبوعة. وفي الرسالة القشيرية: «ماذا فعلنا؟».

(2/672)


التفاح، فأعطيا الثمنَ، ثم عادا (1) إليه. ووقع بصرُه عليهما فقال: يمكن الإنسان أن يخرجَ من الظُّلمة (2) بهذه السرعة؟ أخبراني عن شأنكما، فأخبراه بالقصة، فقال: نعم، كان كل واحدٍ منكما يعتمد على صاحبه في إعطاء الثمن (3)، والرجل مُستحٍ منكما في التقاضي (4). وكان بين أبي زكريا النَّخْشَبي وبين امرأةٍ سببٌ قبل توبته، فكان يومًا واقفًا على رأس أبي عثمان الحِيري، فتفكَّر في شأنها. فرفع أبو عثمان إليه رأسه، وقال: ألا تستحي (5). وكان شاه الكِرماني جيِّدَ الفِراسة لا تُخطئ فراسته. وكان يقول: من غضَّ بصره عن المحارم، وأمسكَ نفسَه عن الشهوات، وعمَرَ باطنَه بدوام المراقبة، وظاهِرَه باتباع السنة، وتعوَّد أكل الحلال= لم تُخطئ فراسته (6). وكان شابٌّ يصحب الجنيدَ، يتكلَّم على الخواطر. [158 أ] فذُكر للجنيد، فقال له: أيشٍ هذا الذي ذُكِر لي عنك؟ فقال له: اعتقِدْ شيئًا، فقال له الجنيد: اعتقدتُ. فقال الشابُّ: اعتقدتَ كذا وكذا. فقال الجنيدُ: لا. فقال: اعتقِد _________ (1) كأن في الأصل و (ق): «عمدا». والمثبت موافق لمصدر الخبر. (2) في الأصل: «هذه الظلمة». ولعله سهو. وكذا في (غ). (3) (ط): «إعطاء الرجل ثمنه». (4) الرسالة القشيرية (2/ 387 ــ 388). (5) المصدر السابق (2/ 388). (6) المصدر السابق (2/ 388 ــ 389). وانظر: إغاثة اللهفان (1/ 48) ومدارج السالكين (2/ 484).

(2/673)


ثانيًا. قال: اعتقدتُ (1). فقال الشابُّ: اعتقدتَ كذا وكذا، فقال الجنيد: لا، قال: فاعتقِد ثالثًا. قال: اعتقدتُ. قال الشابُّ: هو كذا وكذا. قال: لا. فقال الشابُّ: هذا عجَب، أنت صدوقٌ وأنا أعرف قلبي! فقال الجنيد: صدقت في الأولى والثانية والثالثة، لكن أردتُ أن أمتحنك، هل يتغير قلبُك؟ (2). وقال أبو سعيد الخرَّاز: دخلتُ المسجدَ الحرام، فدخل فقيرٌ عليه خِرقتان يسأل شيئًا. فقلت في نفسي: مثلُ هذا كَلٌّ على الناس. فنظر إليَّ، وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235]. قال: فاستغفرتُ في سِرِّي، فناداني وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25] (3). وقال إبراهيمُ الخوَّاص: كنت في الجامع (4) فأقبل شابٌّ طيب الرائحة، حسن الوجه، حسن الحرمة. فقلت لأصحابنا: يقع لي أنه يهوديٌّ! فكلُّهم كَرِه ذلك. فخرجت، وخرج الشابُّ، ثم رجَع إليهم، فقال: أيشٍ قال الشيخ فيَّ؟ فاحتشموه، فألحَّ عليهم، فقالوا: قال: إنك يهودي. فجاء، فأكبَّ على يدي، فأسلم. فقلت: ما السبب؟ فقال: نجد في كتبنا (5) أنَّ الصدِّيق لا تُخطئ فراسته، فقلتُ: أمتحِنُ المسلمين! فتأملتُهم، فقلت: إن كان فيهم صدِّيقٌ ففي هذه الطائفة. فلبَّستُ عليكم. فلما اطلع هذا الشيخ عليَّ _________ (1) «قال: اعتقدت» ساقط من الأصل، وكذا من (ق، غ). (2) الرسالة القشيرية (2/ 392). (3) المصدر السابق (2/ 393). (4) يعني في بغداد. (5) (ج، ن، ز): «كتابنا». والمثبت من غيرها موافق لمصدر الخبر.

(2/674)


وتفرَّسَني علمتُ أنه صِدِّيق (1). وهذا عثمانُ بن عفان، دخل عليه رجل من الصحابة، وقد رأى امرأةً في الطريق، فتأمَّل محاسنها، فقال له عثمان: يدخل عليَّ أحدُكم، وأثر الزنا ظاهر على عينيه! فقلت [158 ب]: أوحيٌ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: لا، ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة (2). فهذا شأن الفراسة. وهي نور يقذفه الله في القلب، فيخطر له الشيء، فيكون كما خطَر له؛ وينفُذ إلى العين، فترى ما لا يراه غيرها. فصل والفرق بين النصيحة والغيبة: أنَّ النصيحة يكون القصدُ فيها تحذيرَ المسلم من مبتدع أو فتَّان أو غاشٍّ أو مفسد، فتذكُر ما فيه إذا استشارك في صحبته ومعاملته والتعلُّق به. كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس، وقد استشارته في نِكاح معاوية وأبي جَهْم، فقال: «أما معاوية فصُعلوك، وأما أبو جَهم فلا يضع عصاه عن عاتقه» (3). وقال عن بعض أصحابه لمن سافر معه: «إذا هبطتَ بلادَ قومه فاحذَرْه (4)» (5). _________ (1) الرسالة القشيرية (2/ 393 ــ 394). (2) المصدر السابق (2/ 393). وانظر: مدارج السالكين (2/ 486). (3) أخرجه مسلم (1480). (4) في الأصل: «فاحذروه». وكذا في (غ). والمثبت من غيرهما، وهو موافق لمصادر التخريج. (5) أخرجه أحمد (22492)، وأبو داود (4861)، والبيهقي في الكبرى (10/ 129) وغيرهم من طريق إبراهيم بن سعد، حدثنيه ابن إسحاق، عن عيسى بن معمر، عن عبد الله بن عمرو بن الفغواء الخزاعي عن أبيه ... في قصة. وفي سنده عبد الله بن عمرو بن الفغواء، قال الذهبي: «لا يعرف»، وقال الحافظ: «مستور». وذكره ابن حبان في «الثقات». وفيه عيسى بن معمر، ذكره ابن حبان في الثقات وليّنه الحافظ. (العمران).

(2/675)


فإذا وقعت الغيبة على وجه النصيحة لله ورسوله وعباده المسلمين، فهي قُربة إلى الله، من جملة الحسنات. وإذا وقعت على وجه ذمِّ أخيك، وتمزيق عِرضه، والتفكُّهِ بلحمه، والغضِّ منه (1)؛ لتضع منزلته من قلوب الناس= فهي الداءُ العُضال، ونارُ الحسنات التي تأكلها كما تأكل النارُ الحطب. فصل والفرق بين الهدية والرِّشوة وإن اشتبها في الصورة: القصد، فإنَّ الراشي قصدُه بالرشوة التوصُّلُ إلى إبطال حقٍّ أو تحقيق باطل، فهذا الراشي الملعونُ على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2). فإن رشا لدفعِ الظلم عن نفسه اختصَّ المرتشي وحدَه باللعنة. وأما المُهدي، فقصدُه استجلابُ المودَّة والمعرفة والإحسان. فإن قصَد المكافأة فهو مُعاوِض، وإن قصد الربحَ فهو مُستكثِر. فصل والفرق بين الصبر والقسوة: أنَّ الصبرَ خلقٌ كَسبي يتخلَّق به العبد، وهو _________ (1) ساقط من (أ، غ). (2) انظر حديث عبد الله بن عمرو في السنن. أخرجه أبو داود (3580)، والترمذي (1337) وابن ماجه (2313). وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

(2/676)


حبسُ النفس عن الجزَع والهلَع [159 أ] والتشكِّي، فيحبس النفسَ عن التسخُّط، واللسانَ عن الشكوى، والجوارحَ عما لا ينبغي له (1) فعله. وهو ثبات القلب على الأحكام القدرية والشرعية. وأما القسوةُ، فيُبْسٌ في القلب يمنعه من الانفعال، وغِلظةٌ تمنعه من التأثر بالنوازل. فلا يتأثَّر بها (2) لغلظته وقساوته لا لصبره واحتماله. وتحقيقُ هذا أن القلوب ثلاثة (3): قلب قاسٍ غليظ بمنزلة اليد اليابسة، وقلب مائع رقيق جدًّا. فالأول لا ينفعل لخيرٍ بمنزلة الحجر، والثاني بمنزلة الماء، وكلاهما ناقصٌ. وأصحُّ القلوب: القلبُ الرقيق الصافي الصلب. فهو يرى الحقَّ من الباطل بصفائه، ويقبله ويؤثره برِقَّته، ويحفظه ويحارب عدوَّه بصلابته. وفي أثرٍ: القلوبُ آنيةُ الله في أرضه، فأحبُّها إليه أرقُّها وأصلَبها وأصفاها (4). وهذا القلبُ الزجاجي، فإن الزجاجة جمعت الأوصافَ الثلاثة. وأبغضُ القلوب إلى الله: القلب القاسي. قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22]. وقال: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74]. _________ (1) «له» من الأصل وحده. (2) في الأصل: «به». وكذا في (غ). والمثبت من (ب، ط، ج). وهو ساقط من غيرها. (3) قارن بشفاء العليل (105، 192)، والوابل الصيب (121 ــ 122). (4) أخرجه الإمام أحمد في الزهد (2101) عن خالد بن معدان، والخرائطي في اعتلال القلوب (9) عن ثور بن يزيد. وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (840) من حديث أبي عنبة الخولاني مرفوعًا.

(2/677)


وقال: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 53] فذكر القلبين المنحرفين عن الاعتدال. هذا بمرضه، وهذا بقسوته. وجعل إلقاءَ الشيطان فتنةً لأصحاب هذين القلبين، ورحمةً لأصحاب القلب الثالث. وهو القلبُ الصافي الذي ميَّز بين إلقاء الشيطان (1) وإلقاء الملك بصفائه، وقبِلَ الحقَّ بإخباته ورقَّته، وحارب النفوسَ المبطلةَ بصلابته وقوته. فقال تعالى عقبَ ذلك: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 54]. فصل والفرق بين العفو والذلِّ: أنَّ العفوَ إسقاطُ حقِّك جُودًا وكرمًا وإحسانًا، مع قُدرتك على الانتقام، فتؤثر التركَ رغبةً في الإحسان ومكارم الأخلاق. بخلاف الذُّلِّ، فإن صاحبَه يترك الانتقامَ عجزًا وخوفًا ومهانةَ نفس، فهذا مذموم غير محمود. ولعل المنتقمَ بالحق أحسنُ حالًا منه. قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39]، فمدَحهم بقوتهم على الانتصار لنفوسهم وتقاضيهم منها ذلك، حتى إذا قدروا على من بَغَى عليهم، وتمكَّنوا من استيفاء ما لهم عليه، ندَبهم إلى الخلُق الشريف من العفو والصَّفح، فقال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40]. فذكر المقامات الثلاثة: العدل _________ (1) في الأصل زيادة «فيه». وكذا في (غ).

(2/678)


وأباحه (1)، والفضل وندبَ إليه، والظلمَ وحرَّمه. فإن قيل: فكيف مدَحهم على الانتصار والعفو، وهما متنافيان؟ قيل: لم يمدَحْهم على الاستيفاء والانتقام، وإنما مدحهم على الانتصار، وهو القدرة والقوة على استيفاء حقهم، فهذا هو الانتصار، فلما قدروا ندَبهم إلى العفو. قال بعض السلف في هذه الآية: كانوا يكرهون أن يُستذَلُّوا، فإذا قدروا عفوا (2). فمدَحهم على عفو بعد قدرة، لا على عفو ذلٍّ وعجز ومهانة. وهذا هو الكمالُ الذي مدَح سبحانه به نفسَه في قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149]، وقوله: {وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) [الممتحنة: 7]. وفي أثر معروف: «حملة العرش أربعة: اثنان يقولان: سبحانك اللهمَّ ربَّنا وبحمدك، لك الحمدُ على حِلْمك بعد علمك. واثنان يقولان: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، لك الحمد (4) على عفوك بعد قدرتك» (5). ولهذا قال المسيح صلوات الله وسلامه عليه: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ _________ (1) في الأصل: «إباحته». وكذا في (ق)، وهو تحريف. (2) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (18486) عن إبراهيم النخعي. (3) قوله: «والله قدير» ساقط من الأصل وكذا من (ق، غ). (4) «على حلمك ... الحمد» ساقط من الأصل، وكذا من (ط). (5) ذكره المؤلف في مدارج السالكين (1/ 36)، (2/ 379)، وبدائع الفوائد (140) وعدة الصابرين (533) أيضًا، وكذا قال: «حملة العرش أربعة ... » والرواية: «حملة العرش ثمانية. أربعة يقولون ... وأربعة يقولون ... ». وروي الأثر عن شهر بن حوشب وغيره. انظر تخريجه في كتاب العرش لابن أبي شيبة (368).

(2/679)


وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]. أي: إن غفرتَ لهم غفرتَ عن عزَّةٍ [160 أ] وهي كمالُ القدرة، وحكمةٍ وهي كمالُ العلم. فغفرتَ بعد أن علمتَ ما عملوا وأحاطت بهم قدرتك، إذ المخلوق قد يغفر (1) لعجزِه عن الانتقام، وجهلهِ بحقيقة ما صدَر من المسيء، والعفوُ من المخلوق ظاهرُه ضيمٌ وذلٌّ، وباطنه عزٌّ ومهابة. والانتقامُ ظاهرُه عزٌّ، وباطنُه ذلٌّ، فما زاد الله عبدًا (2) بعفوٍ إلا عزًّا، ولا انتقم أحد لنفسه إلا ذلَّ، ولو لم يكن إلا بفوات عزِّ العفو. ولهذا ما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه قط (3). وتأمل قوله سبحانه: {هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] كيف يُفهم منه أنَّ فيهم من القوة ما يكونون هم بها المنتصرين لأنفسهم، لا أن غيرهم هو الذي ينصرهم؟ ولما كان الانتصار لا تقف النفوس فيه على حدِّ العدل غالبًا بل لابد من المجاوزة، شرَع فيه سبحانه المماثلة والمساواة، وحرَّم الزيادة، وندَب إلى العفو. والمقصودُ أن العفو من أخلاق النفس المطمئنة، والذلَّ من أخلاق الأمَّارة. ونكتة المسألة (4) أن الانتقامَ شيء، والانتصارَ شيء. فالانتصار أن ينتصر لحقِّ الله ومن أجله. ولا يقوَى على ذلك إلا مَن تخلَّص من ذلِّ حظّه ورِقِّ هواه، فإنه حينئذٍ ينال حظًّا من العزِّ الذي قَسَم الله للمؤمنين، فإذا بُغيَ عليه _________ (1) (ب، ط، ج): «يعفو». (2) لم يرد «عبدًا» في (أ، ق، غ). (3) أخرجه البخاري (6786) ومسلم (2327) من حديث عائشة. وانظر كلام المؤلف على الآية الكريمة في مدارج السالكين (1/ 36)، (2/ 379). (4) (ج): «وسرّ المسألة».

(2/680)


انتصر من الباغي، من أجل عزِّ الله الذي أعزَّه به، غيرةً على ذلك العزِّ أن يُستضامَ ويُقهَر، وحميَّةً للعبد المنسوب إلى العزيز الحميد أن يُستذَلَّ، فهو يقول للباغي عليه: أنا مملوكُ مَن لا يُذِلُّ مملوكَه، ولا يحبُّ أن يُذِلَّه أحد. وإن كانت نفسُه الأمَّارةُ قائمةً على أصولها، لم تُجْتَثَّ بعدُ، طلبتْ الانتقامَ (1) والانتصارَ لحظّها وظَفَرها بالباغي، تشفِّيًا فيه وإذلالًا له. وأمَّا النفس المطمئنة التي خرجت من ذُلِّ حظِّها ورِقِّ هواها إلى عزِّ توحيدها وإنابتها إلى ربها، فإذا نالَها البغيُ قامت بالانتصار حميّةً ونصرةً للعزِّ الذي [160 ب] أعزَّها الله به ونالته منه، وهو في الحقيقة حميَّةٌ لربِّها ومولاها. وقد ضُربَ لذلك مثلٌ بعبدَين من عبيد الغَلَّة حرَّاثَين، ضرب أحدُهما صاحبَه، فعفا المضروب عن الضَّارب، نُصحًا منه لسيِّده، وشفقةً على الضَّارب أن يعاقبه السيِّد، فلم يجشِّم سيّدَه كُلفةَ (2) عقوبتِه وإفسادِه بالضرب، فشكرَ العافي على عفوه، ووقع منه بموقع. وعبدٌ آخرُ قد أقامه بين يديه، وجمَّلَه، وألبسه ثيابًا يقف بها بين يديه. فعمَد بعضُ سُوَّاس الدوابِّ وأضرابهم، ولطَّخ تلك الثيابَ بالعَذِرة، أو مزَّقها، فلو عفا عمَّن فعل به ذلك لم يوافق عفوُه رأيَ سيده ولا محبتَه، وكان _________ (1) انفردت (ج) بهذا الصواب. وقد وردت «طلبت» في غيرها جميعًا بالتاء المربوطة. و «تجتث» غير منقوطة في الأصل، فرسمها النسَّاخ كما وجدوها. وحذفها بعضهم كما في (ن)، ولم تقرأ صحيحةً إلا في (ج، غ). وفي النسخ المطبوعة: «لم تحب بعد طلبه إلا الانتقام» فزيدت كلمة «إلا» مع التصحيف. (2) في النسخ المطبوعة: «خلقه». وكذا في (غ، ق). والأصل غير منقوط. وفي غيرها بالفاء أو بالحاء والفاء. والصواب ما أثبت من (ب، ج).

(2/681)


الانتصارُ أحبَّ إليه وأوفق لمرضاته؛ كأنه يقول: إنما فُعِل هذا بك جراءةً عليَّ واستخفافًا بسلطاني. فإذا مكَّنه من عقوبته، فأذلَّه وقهَره، ولم يبق إلا أن يبطش به، فذلَّ وانكسر قلبه؛ فإنَّ سيِّده يحبُّ منه أن لا يعاقبه لحظِّه، وأن يأخذ منه حقَّ السيِّد، فيكون انتصارُه حينئذٍ لمحضِ حق سيِّدِه لا لنفسه. كما رويَ عن علي رضي الله عنه أنه مرَّ برجل، فاستغاث به، وقال: هذا منعني حقِّي، ولم يعطني إياه. فقال: أعطِه حقَّه. فلما جاوزهما لجَّ الظالم، ولطم صاحب الحقِّ، فاستغاث بعليٍّ، فرجع، وقال: أتاك الغوث. فقال له: استعِدْ لطمتَك (1)، فقال: قد عفوتُ يا أمير المؤمنين. فضربَه عليٌّ تسع دُرَر، وقال: قد عفا عنك مَن لطمتَه، وهذا حقُّ السلطان. فعاقبه عليٌّ لما اجترأ على سلطان الله، ولم يدعه (2). ويشبه هذا قصة الرجل الذي جاء إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقال: احمِلْني، فوالله لأنا أفرَسُ منك ومن أبيك! وعنده المغيرة بن شعبة، فحسَر عن ذراعه، وصكَّ بها أنفَ الرجل، فسال الدم. فجاء قومه إلى أبي بكر فقالوا: أقِدْنا من المغيرة. فقال: أنا أقيدكم من وَزَعة الله (3)؟ لا أقيدكم منه (4). فرأى أبو بكر أن ذلك انتصارٌ [161 أ] من المغيرة وحميةٌ لله وللعزِّ الذي أعَزَّ به خليفةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ليتمكن بذلك العزِّ من حسن خلافته _________ (1) (ب): «استقد ... » وفي بعض النسخ المطبوعة: «استقد منه»، غيّر في المتن. (2) القصة أخرجها الطبري في تاريخه (5/ 156). (3) وزَعة جمع وازِع. أراد الذين يكفُّون الناس عن الإقدام على الشر. النهاية لابن الأثير (5/ 180). (4) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (17340) عن المغيرة بن شعبة.

(2/682)


وإقامة دينه، فترك قودَه لاجترائه على عزِّ الله وسلطانه الذي أعزَّ به رسولَه ودينَه وخليفتَه. فهذا لون، والضربُ حميَّةً للنفس الأمَّارة لون. فصل والفرق بين سلامة القلب والبلَه والتغفُّل: أن سلامةَ القلب تكون من إرادة الشرِّ (1) بعد معرفتِه، فيسلَم قلبُه من إرادته وقصدِه، لا من معرفته والعلمِ به. وهذا بخلاف البلَه والغفلة، فإنها جهلٌ وقلّة معرفة. وهذا لا يُحمَد إذ هو نقص، وإنما يحمد الناسُ من هو كذلك لسلامتهم منه. والكمالُ أن يكون القلب عارفًا بتفاصيل الشرِّ، سليمًا من إرادته. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لستُ بخَبٍّ ولا يخدعني الخَبُّ» (2)، وكان عمر أعقلَ من أن يُخدَع، وأورعَ من أن يَخدع (3). وقال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} _________ (1) يعني كون القلب سليمًا من إرادة الشر. وكذا في جميع النسخ. وفي النسخ المطبوعة: «من عدم إرادة الشر». زادوا كلمة «عدم» دون تنبيه. (2) انظر: العقد (2/ 241) وأدب الدنيا والدين (14). وقد نسب في البيان للجاحظ (1/ 101) والحيوان (2/ 279)، والعقد (3/ 11) إلى إياس بن معاوية. وتكملة قوله: «ولا يخدع ابن سيرين، وهو يخدع أبي ويخدع الحسن». وفي تهذيب اللغة (8/ 17) نسب إلى ابن سيرين. (3) هذا قول المغيرة عن عمر. انظر: العقد (2/ 241)، (3/ 11) وأدب الدنيا والدين (14). وفيهما «أفضل» مكان «أورع».

(2/683)


[الشعراء: 88 ــ 89]. فهذا هو السليم (1) من الآفات التي تعتري القلوب المريضة، من مرضِ الشبهة التي تُوجب اتباعَ الظن، ومرضِ الشهوة التي توجب اتباعَ ما تهوى الأنفس. فالقلب السليم: الذي سَلِم من هذا وهذا. فصل والفرق بين الثقة والغِرَّة: أنَّ الثقة سكونٌ يستند إلى أدلَّة وأمارات يسكنُ القلب إليها، فكلما قويَت تلك الأمارات قويت الثقة واستحكمت، ولا سيَّما على كثرة التجارب وصدقِ الفراسة. واللفظة كأنها ــ والله أعلم ــ من الوَثاق، وهو الرِّباط. فالقلب قد ارتبط بمَن وثق به توكُّلًا عليه وحسنَ ظنٍّ به، فصار في وثاق محبته ومعاملته والاستناد إليه والاعتماد عليه، فهو في وثاقه بقلبه وروحه وبدنه. فإذا سار القلبُ إلى الله وانقطع إليه تقيَّد بحبه وصار في وثاق العبودية، فلم يبقَ له مَفزعٌ في النوائب ولا ملجأ غيره. ويصير عدَّته في شدَّته، وذخيرتَه في نوائبه، وملجأه في نوازله، ومستعانَه في حوائجه وضروراته. وأما الغِرَّة، فهي حال المغترِّ الذي غرَّتْه نفسُه وشيطانُه وهواه وأملُه الخائب الكاذب بربِّه، حتى أتبعَ نفسه هواها، وتمنَّى على الله الأماني. والغرورُ ثقتُك بمَن لا يوثق به، وسكونُك إلى مَن لا يُسكَن إليه، ورجاؤك النفعَ من المحلِّ الذي لا يأتي بخير كحالِ المغترِّ بالسراب. قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39]. _________ (1) (ب، ج): «القلب السليم».

(2/684)


وقال تعالى في وصف المغترِّين: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104]. فهؤلاء إذا انكشف الغطاء وثبتتْ حقائقُ الأمور علموا أنهم لم يكونوا على شيء، {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]. وفي أثر معروف: «إذا رأيتَ الله سبحانه يزيدُك من نِعَمه، وأنت مقيمٌ على معصيته، فاحذره؛ فإنما هو استدراج يستدرجك به» (1). وشاهد هذا في القرآن في قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]. فهذا من أعظم الغِرَّة أن تراه يتابع عليك نعمَه، وأنت مقيم على ما يكره. فالشيطان موكَّل بالغرور، وطبعُ الأنفس الأمَّارة: الاغترارُ. فإذا اجتمع الزاني والبغيُّ، والمرابي والمحتاجُ (2)، والشيطانُ الغَرورُ والنفسُ المغتَّرة= لم يقع هناك خلاف! فالشياطين غرُّوا المغترِّين بالله، وأطمعوهم ــ مع إقامتهم على ما يُسخِطُ الله ويُغضِبه ــ في عفوه وتجاوزه، وحدَّثوهم بالتوبة لتسكن قلوبهم، ثم دافعوهم بالتسويف حتى هجم الأجلُ، فأُخِذوا على أسوأ أحوالهم. _________ (1) أخرجه الإمام أحمد في المسند (28/ 547) والزهد (12) عن عقبة بن عامر الجهني مرفوعًا، وحسَّنه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء. وقد أورده المصنف من المسند في عدة الصابرين (386) والداء والدواء (77)، وهنا سمَّاه أثرًا. والآية التي استشهد بها جزء من متن الحديث. (2) الأصل غير منقوط. وهذه القراءة الصحيحة من (ب، ط، ن). وفي غيرها: «الرأي» موضع «الزاني» و «المرابي» كليهما، وهو تصحيف. وفي النسخ المطبوعة: «الرأي والبغي والرأي المحتاج».

(2/685)


قال (1) تعالى: {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد: 14]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (2) [فاطر: 5]. وأعظمُ الناسِ [162 أ] غرورًا بربِّه مَن إذا مسَّه الله برحمة منه وفضل قال: «هذا لي». أي: أنا أهله، وجدير به، ومستحق له. ثم قال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف: 36] فظنَّ أنه أهلٌ لما أُولِيَه (3) من النعم مع كفره بالله. ثم زاد في غروره، فقال: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت: 50] يعني: الجنة والكرامة. فهكذا تكون الغِرَّة بالله، فالمغترُّ بالشيطان مغترٌّ بوعوده وأمانيه، وقد ساعده اغترارُه بدنياه ونفسِه، فلا يزال كذلك حتى يتردَّى في آبار الهلاك. فصل والفرق بين الرجاء والتمني: أنَّ الرجاء يكون مع بذلِ الجهد واستفراغِ الطاقة في الإتيان بأسباب الظَّفر والفوز. والتمني: حديثُ النفس بحصول ذلك مع تعطيل الأسباب الموصلة إليه. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة: 218] فطوى سبحانه بساطَ الرجاء إلا عن هؤلاء. _________ (1) (أ، ق، غ): «وقال». (2) «وقال ... الغرور» ساقط من الأصل. (3) (ب): «أوتيه». وفي النسخ المطبوعة: أولاه.

(2/686)


وقال المغترُّون: إنَّ الذين ضيَّعوا أوامره، وارتكبوا نواهيَه، فاتبعوا (1) ما أسخطه، وتجنَّبوا ما يرضيه= أولئك يرجون رحمته؛ وليس هذا ببِدع من غرور النفس والشيطان لهم. فالرجاءُ لعبدٍ قد امتلأ قلبه من الإيمان بالله واليوم الآخر، فمَثَّل (2) بين عينيه ما وعَده الله من كرامته وجنته، فامتدَّ القلبُ مائلًا إلى ذلك شوقًا إليه وحِرصًا عليه. فهو شبيهٌ بالمادِّ عنقَه إلى مطلوبٍ قد صار نُصْبَ عينيه. وعلامة الرجاء الصحيح أنَّ الراجي ــ لخوفِ (3) فَوتِ الجنة وذهابِ حظِّه منها ــ يترك (4) ما يخاف أن يحول بينه وبين دخولها. فمَثَلُه مَثلُ رجلٍ خطَب امرأةً كريمةً في منصبٍ وشرفٍ إلى أهلها، فلما آن وقتُ العقد واجتماعِ الأشراف والأكابر وإتيانِ (5) الرجل إلى الحضور= أُعلِمَ عَشيَّةَ ذلك اليوم ليتأهبَ للحضور، فيراه أهل (6) المرأة وأكابرُ الناس، فأخذ في _________ (1) ما عدا الأصل: «واتبعوا». (2) الضبط من (غ، ن). (3) صحَّفه بعض النسَّاخ إلى «نخوف» (ن، غ) و «بخوف» (ق). وكتب بعض من قرأ «ن» على طرتها: «بيان: يخاف»، وكذا «يخاف» في النسخ المطبوعة. (4) (ن، غ): «بترك». وكذا في النسخ المطبوعة نتيجة لإثبات «يخاف» في السطر السابق. (5) في الأصل: «وأتى» دون نقط. وفي (ن، ز) كذا بالتاء. وقراءة (غ، ق): «وافى». وفي (ب): «وأذعن»، و (ج): «ودُعِي»، و (ط): «وأبى الرجال إلا الحضور». وهذه القراءات الثلاث حاولت إصلاح النص. وفي (ن، ز): «فلما أن وقع العقد، واجتمع ... وأتى» أخطأ في قراءة «آن» فغيَّر في المتن. وكلمة «أتى» قلقة، ولعل المصنف كتب الفعل سهوًا وأراد المصدر كما أثبتنا من النسخ المطبوعة. (6) لم ترد كلمة «أهل» في الأصل، ولا في (ق، غ).

(2/687)


التأهُّب والتزيين والتجمُّل، فأخذ من فضولِ شعره، وتنظَّف وتطيَّب، ولبس أجمل ثيابه، وأتى إلى تلك الدار متَّقِيًا في طريقه كلَّ وسخ ودنس وأثر يصيبه أشدَّ تقوى، حتى الغبار والدخان وما هو دون ذلك. فلما وصل إلى الباب رحَّب به ربُّها، ومَكَّن له في صدر الدار على الفرُش والوسائد، ورمقته العيون، وقُصِد بالكرامة من كل ناحية. فلو أنه ذهب بعد أخذ هذه الزينة، فجلس في المزابل، وتمرَّغ عليها، وتمعَّك بها، وتلطَّخ في بدنه وثيابه بما عليها من عَذِرة وقذَر، ودخل ذلك في شَعْره وبَشَره وثيابه، فجاء على تلك الحال إلى تلك الدار، وقصدَ دخولَها للوعد الذي سبق له= لقامَ (1) إليه البوَّابُ بالضرب والطرد، والصياح عليه، والإبعاد له من بابها وطريقها، فرجع متحيِّرًا خاسئًا (2). فالأول حالُ الرَّاجي، وهذا حال المتمنِّي. وإن شئت مثَّلتَ حالَ الرجلين بملِكٍ هو من أغنى (3) الناس وأعظمهم أمانةً، وأحسنهم معاملة، لا يضيع لديه حقُّ أحد، وهو يعامل الناس من وراء سِترٍ لا يراه أحد، وبضائعُه وأمواله وتجاراته وعبيده وإماؤه ظاهرٌ بارز في داره للمعاملين. فدخل عليه رجلان، فكان أحدهما يعامله بالصدق والأمانة والنصيحة، لم يجرِّب عليه غِشًّا ولا خيانة ولا مَكرًا، فباعه بضائعه كلَّها، واعتمد مع مماليكه وجواريه ما يحب أن يعتمد معهم. فكان إذا دخل إليه ببضاعة تخيَّر له أحسنَ البضائع وأحبَّها إليه، وإن صنعها بيده بذل جهدَه في _________ (1) في الأصل: «فقام»، وهو سهو. وكذا في (ق، غ). (2) (ن، ز): «خاسرا». (3) في (ق، غ، ط): «أغير». ورسمها في الأصل يشبه هذا. وهو تصحيف.

(2/688)


تحسينها وتنميقها، وجعل ما خفِي منها أحسنَ مما ظهر، وتسلَّم المؤنةَ ممن أمره أن يتسلَّمها (1) منه، وامتثل ما أمره به السفير بينه وبينه في مقدار ما يعمله وصفته وهيئته وشكله ووقته (2) وسائر شؤونه. وكان الآخرُ إذا دخل دخل (3) بأخسِّ بضاعة يجدُها، لم يخلِّصْها من الغش ولا نصحَ فيها، ولا اعتمد في أمرها ما قاله المترجِمُ عن الملك والسفيرُ بينه وبين الصناع والتجار، بل كان يعملها على ما يهواه هو. ومع ذلك فكان [163 أ] يخون الملك في داره إذ (4) هو غائب عن عينه، فلا يلوح له طمعٌ إلا خانه، ولا حرمةٌ للملك إلا مدَّ بصره إليها وحرَص على إفسادها، ولا شيء (5) يُسخِط الملك إلا ارتكبه إذا قدَر عليه. فمضَيا على ذلك مدَّةً، ثم قيل: إنَّ الملك يبرُز اليوم لمعامليه، حتى يحاسبهم، ويعطيهم حقوقَهم. فوقف الرجلان بين يديه، فعاملَ كلَّ واحد منهما بما يستحقُّه. فتأمل هذين المثلين، فإنَّ الواقع مطابق لهما. فالرَّاجي على الحقيقة لمَّا صارت الجنةُ نُصْبَ عينيه ورجاءَه وأملَه امتدَّ إليها قلبه، وسعى لها سعيَها ــ فإنَّ الرجاءَ هو: امتدادُ القلب وميلُه ــ وحقَّق رجاءَه كمالُ التأهُّب، وخوفُ _________ (1) في النسخ المطبوعة: «ويستلم المؤنة ... يستلمها» صحفوها على لغتهم الدارجة. (2) في النسخ المطبوعة: «ورقّته»، تصحيف. (3) ساقط من الأصل. (4) في (أ، ق): «أو»، صوابه ما أثبتنا من (ب). وفي (ج): «إذا هو غاب». (5) من (غ، ج) وحاشية (ن)، وفي غيرهما: «شيئًا».

(2/689)


الفوت، والأخذُ بالحذر. وأصلُه من التنحِّي (1). ورَجَا البئرِ: ناحيتُه. وأرجاءُ السماء: نواحيها. وامتدادُ القلب إلى المحبوب منقطعًا عما يقطعه عنه هو: تنحٍّ عن النفس الأمَّارة وأسبابها وما تدعو إليه. وهذا الامتداد والميل والخوف من شأن النفس المطمئنة، فإنَّ القلب إذا انفسحت بصيرتُه (2)، فرأى الآخرة وما أعدَّ اللهُ فيها لأهل طاعته وأهل معصيته؛ خافَ وخفَّ مرتحلًا إلى الله والدارِ الآخرة. وكان قبل ذلك مطمئنًّا إلى النفس، والنفسُ إلى الشهوات والدنيا. فلما انكشفَ عنه غطاءُ النفس خفَّ وارتحل عن جوارها طالبًا جوارَ العزيز الرحيم في جنَّات النعيم. ومن هاهنا صار كلُّ خائف راجيًا، وكلُّ راجٍ خائفًا، فأُطلق اسم أحدهما على الآخر؛ فإنَّ الراجي قلبُه قريبُ الصفةِ من قلب الخائف: هذا الراجي قد نحَّى قلبَه عن مجاورة النفس والشيطان مرتحلًا إلى الله، قد رُفِع له من الجنة علَمٌ فشمَّر إليه وأمَّه (3) مادًّا إليه قلبَه كلَّه. وهذا الخائف فارٌّ من جوارهما، ملتجئٌ إلى الله من حبسهما له (4) في سجنهما في الدنيا، فيُحبسَ معهما بعد الموت ويوم القيامة؛ فإنَّ المرءَ مع قرينه في الدنيا والآخرة. فلما سمع الوعيد ارتحل من مجاورة السوء في الدارين، فأُعطِيَ اسم الخائف، ولما _________ (1) الراء والجيم والحرف المعتل عند ابن فارس أصلان متباينان، يدل أحدهما على الأمل والآخر على ناحية الشيء. مقاييس اللغة (2/ 494). (2) كذا في الأصل و (ق، ز). أي: امتَدت وتوسَّعت. من انفسح الطرف: امتدَّ دون عائق (المعجم الوسيط) وانظر اللسان (فسح). وفي غيرها: «انفتحت». (3) أي قصده. وفي النسخ المطبوعة: «وله»! (4) «له» ساقط من (أ، ق، غ).

(2/690)


سمع الوعدَ امتدَّ واستطال (1) شوقًا إليه وفرحًا بالظفر به، فأُعطيَ اسم الراجي. وحالاه متلازمان لا ينفكُّ عنهما، فكلُّ راجٍ خائفٌ من فوات ما يرجوه، كما أنَّ كلَّ خائفٍ راجٍ أمنه مما يخاف. فلذلك تداول الاسمان عليه. قال تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]. قالوا في تفسيرها: لا تخافون لله عظَمة (2). وقد تقدَّم أنه سبحانه طوى الرجاءَ إلا عن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا. وقد فسَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بأنه ذو شُعَب وأعمال ظاهرة وباطنة (3)، وفسَّر الهجرة بأنها هجرةُ ما نهى الله عنه، والجهادَ بأنه جهادُ النفس في ذات الله، فقال: «المهاجرُ من هَجَر ما نهى الله عنه، والمجاهدُ من جاهد نفسه في ذات الله» (4). والمقصودُ أن الله سبحانه جعل أهل الرجاء مَنْ _________ (1) في النسخ المطبوعة: «استطار» خلافًا لما في جميع النسخ دون تنبيه. (2) رواه أبو صالح عن ابن عباس. زاد المسير (2/ 96). وانظر: الدر المنثور (14/ 705). ولكن لم يوجد الرجاء بمعنى الخوف إلا مع النفي. انظر: تفسير الطبري (7/ 456). (3) يشير إلى نحو قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان». أخرجه البخاري (9) وهذا لفظه، ومسلم (35) عن أبي هريرة. (4) أخرجه الإمام أحمد (23958)، وابن حبان (4862)، والحاكم (1/ 10) من حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه في حجة الوداع، وفيه: «والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب». وأخرج الترمذي (1621) الشطر الثاني منه، وابن ماجه (3934) الشطر الأول. وإسناده جيد وصحّحه الترمذي والحاكم. وقوله: «المهاجر من هجر ما الله عنه» ورد في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عند البخاري (10، 6484) وغيره. (قالمي).

(2/691)


آمنَ وهاجر وجاهد، وأخرجَ مَنْ سواهم من هذه الأمم. وأما الأماني، فإنها «رؤوس أموال المفاليس» (1)، أخرجوها في قالب الرجاء، و {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة: 111]. وهي تصدر من قلبٍ تزاحمت (2) عليه وساوِسُ النفس، فأظلم من دخانها، فهو يستعمل قلبَه في شهواتها. وكلَّما فعَل ذلك منَّتْه حسنَ العاقبة والنجاةَ، وأحالته على العفو والمغفرة والفضل، وأنَّ الكريمَ لا يستوفي حقَّه، ولا تضرُّه الذنوب، ولا تنقصُه المغفرة. ويسمِّي ذلك رجاءً، وإنما هو وسواسٌ (3) وأمانيُّ باطلةٌ تَقذِف بها النفس إلى القلب الجاهل، فيستَرْوِح (4) إليها. قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 123]. فإذا ترك العبدُ ولايةَ الحق ونصرتَه ترك اللهُ ولايتَه ونصرتَه، ولم يجد له من دون الله وليًّا ولا نصيرًا. وإذا ترك ولايته ونصرته (5) تولَّتْه نفسُه والشيطان _________ (1) اقتبسه من قول أبي بكر الخالدي: لا تكن عبد المنى، فالمنى ... رؤوسُ أموالِ المفاليس التمثيل والمحاضرة (113). وأنشد ابن قتيبة في عيون الأخبار (1/ 261) لشاعر: إذا تمنَّيتُ بتُّ الليلَ مغتبطًا ... إن المنى رأس أموال المفاليس وانظر: الحيوان (5/ 191). (2) (ب، ج): «تراكمت»، تصحيف. (3) (ب، ط، ج): «وساوس». (4) غيره الناشرون إلى «فيستريح». (5) «ولم يجد له ... نصرته» ساقط من (ب، ط، ج).

(2/692)


فصارا وليَّين له، ووُكِل إلى نفسه فصار انتصاره لها بدلًا من نصرة الله ورسوله، فاستَبدلَ بولاية الله ولايةَ نفسه وشيطانه، وبنصرته نصرةَ نفسه وهواه، فلم يدَعْ للرجاء موضعًا. فإذا قالت لك النفس: أنا في [164 أ] مقام الرجاء، فطالِبْها بالبرهان، وقل: هذه أمنيةٌ، فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. فالكيِّسُ يعمل أعمال البرِّ على الطمع والرجاء، والأحمقُ العاجزُ (1) يعطِّل أعمال البرِّ، ويتَّكل على الأماني التي يسمِّيها رجاءً. والله الموفِّق للصواب. فصل والفرقُ بين التحدُّث بنعم الله، والفخر بها: أن المتحدث بالنعمة مخبِرٌ عن صفات وليِّها (2) ومحضِ جودهِ وإحسانه، فهو مُثْنٍ عليه بإظهارها والتحدُّث بها، شاكر له، ناشر لجميع (3) ما أوْلاه. مقصودُه بذلك إظهارُ صفاتِ الله ومدحُه والثناءُ عليه، وبعثُ النفوسِ على الطلب منه دون غيره، وعلى محبته ورجائه، فيكون داعيًا (4) إلى الله بإظهار نعمِه ونشرِها والتحدُّثِ بها. _________ (1) (ب، ج): «الفاجر»، تصحيف. وهو ساقط من (ز). وزاد فيها بعد «أعمال البر»: بل ويعمل أعمال الفجرة. (2) (ن، ز): «مُوليها». (3) (ب، ج، ز، ن): «لجميل». (4) (ق): «راغبًا»، تصحيف.

(2/693)


وأما الفخر بالنعم، فهو أن يستطيل بها على الناس، ويُريهم أنه أعزُّ منهم وأكبر، فيركبُ أعناقهم، ويستعبدُ قلوبهم ويستميلُها إليه بالتعظيم والخدمة. قال النعمان بن بشير: إنَّ للشيطان مصاليَ (1) وفخوخًا. وإنَّ من مصاليه وفخوخهِ البطشَ بنعم الله، والكبرَ على عباد الله، والفخرَ بعطيَّةِ الله، والهونَ (2) في غير ذات الله (3). فصل والفرق بين فرح القلب وفرح النفس ظاهر، فإنَّ الفرح بالله ومعرفته ومحبته وكلامه من القلب. قال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [الرعد: 36]. فإذا كان أهل الكتاب يفرحون بالوحي، فأولياء الله وأتباعُ رسوله أحقُّ بالفرح به. وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124]. وقال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]. _________ (1) جمع مِصْلاة. قال أبو عبيد في غريب الحديث (3/ 396): هي شبيه بالشرَك ينصب للطير وغيرها. (2) كذا في جميع النسخ. وفي مصادر التخريج: «واتباع الهوى». (3) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (553)، والخرائطي في اعتلال القلوب (69). وانظر: السلسلة الضعيفة (2463).

(2/694)


قال أبو سعيد الخُدريُّ: فضلُ الله: القرآن. ورحمتُه: أن جعلكم من أهله (1). وقال هلال بن يَسَاف: فضلُ الله ورحمته: الإسلامُ الذي هداكم إليه، والقرآنُ الذي علَّمكم، وهو خيرٌ من الذهب والفضة الذي تجمعون (2). وقال ابن عباس والحسن وقتادة [164 ب] وجمهور المفسرين: فضل الله الإسلام. ورحمته القرآن (3). فهذا فرحُ القلب، وهو من الإيمان ويثابُ عليه العبد، فإن فرحَه به يدل على رضاه به، بل هو فوق الرِّضا. فالفرحُ بذلك على قدر محبته، فإنَّ الفرح إنما يكون بالظفر بالمحبوب، وعلى قدر محبته يفرح بحصوله له. فالفرحُ بالله وأسمائه وصفاته ورسوله وسنَّته وكلامه: محضُ الإيمان وصَفوُه ولبُّه، وله عبودية عجيبة وأثر في القلب لا يعبَّر عنه. فابتهاجُ القلب وسرورُه وفرحُه بالله وأسمائه وصفاته وكلامه ورسوله ولقائه أفضلُ ما يُعطاه، بل هو أجلُّ عطاياه. والفرحُ في الآخرة بالله ولقائه بحسَب الفرح به ومحبته في الدنيا. فالفرحُ بالوصول إلى المحبوب يكون على حَسَب قوة المحبة وضعفها. فهذا شأن فرح القلب. وله فرحٌ آخر، وهو فرحُه بما منَّ الله به عليه من معاملته والإخلاص له والتوكُّل عليه والثقة به وخوفه ورجائه. وكلما تمكَّن في ذلك قوِيَ فرحُه وابتهاجُه. _________ (1) أخرجه الطبري في تفسيره (15/ 106). (2) أخرجه الطبري (15/ 106). (3) المصدر السابق (15/ 107).

(2/695)


وله فرحةٌ أخرى عظيمةُ الوقع عجيبةُ الشأن. وهي الفرحة التي تحصل له بالتوبة، فإنَّ لها فرحةً عجيبة لا نسبةَ لفرحةِ المعصية إليها البتة. فلو علم العاصي أنَّ لذةَ التوبة وفرحتَها تزيد على لذةِ المعصية وفرحتِها أضعافًا مضاعفةً لَبادرَ إليها أعظم من مبادرته إلى لذة المعصية. وسرُّ هذا الفرح إنما يعلَمُه مَن عَلِمَ سرَّ فرح الربِّ تعالى بتوبة عبده أشدَّ فرح يقدَّر. ولقد ضرَب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلًا ليس في أنواع الفرح في الدنيا أعظم منه، وهو فرحُ رجلٍ قد خرج براحلته التي عليها طعامه وشرابه في سفر، ففقدها في أرض دَوِّيَّة (1) مَهْلَكة، فاجتهد في طلبها فلم يجدها، فيئس منها، فجلس ينتظر الموت، حتى إذا طَلَع البدرُ رأى في ضوئه راحلَته وقد تعلَّق زمامُها بشجرة، فقال من شدة فرحه: اللهم أنت عبدي وأنا ربُّك. أخطأ من شدَّة الفرح، فالله أفرَحُ بتوبة عبده [165 أ] من هذا براحلته (2). فلا ينكَر أن يحصل للتائب نصيب وافرٌ من الفرح بالتوبة، ولكن هاهنا أمرٌ يجب التنبيه عليه، وهو أنه لا يصل إلى ذلك إلا بعد تَرحاتٍ ومضَضٍ ومِحَن لا تثبتُ لها الجبال، فإن صبَر لها ظفِر بلذة الفرح، وإن ضعُف عن حملها ولم يصبر لها لم يظفر بشيء. وآخرُ أمره فواتُ ما آثره من فرحة المعصية ولذتها، فيفوته الأمران، ويحصلُ على ضدِّ اللذة من الألم المركَّب من وجود المؤذي وفوت المحبوب، فالحكم لله العلي الكبير. _________ (1) (ن): «داوية»، وكلاهما بمعنى الفلاة. (2) أخرجه البخاري عن ابن مسعود (6308) وعن أنس (6309)، ومسلم عن ابن مسعود (2744) والبراء (2746) وأنس (2747) وغيرهم.

(2/696)


فصل وهاهنا فرحةٌ أعظمُ من هذا كلِّه. وهي فرحته عند مفارقته الدنيا إلى الله، إذا أرسَلَ إليه الملائكةَ، فبشَّروه بلقائه، وقال له ملك الموت: اخرجي أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب، أبشِري برَوح وريحان وربٍّ غير غضبان، اخرجي راضية مرضيًّا عنك {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 ــ 30]. فلو لم يكن بين يدي التائب إلا هذه الفرحة وحدها لكان العقل يأمره بإيثارها، فكيف ومِن بعدها أنواعٌ من الفرح! منها صلاةُ الملائكة الذين بين السماء والأرض على روحِه. ومنها فتحُ أبواب السماء لها، وصلاةُ ملائكة السماء عليها، وتشييعُ مقرَّبيها لها إلى السماء الثانية فتُفتَح لها، ويصلِّي عليها أهلُها، ويشيِّعُها مقرَّبوها هكذا إلى السماء السابعة. فكيف يقدَّر فرحُها وقد استؤذن لها على ربِّها ووليِّها وحبيبها، فوقفتْ بين يديه، وأذِنَ لها بالسجود فسجدَتْ، ثم سمعَتْه سبحانه يقول: اكتبوا كتابه في علِّيين. ثم يُذهب به، فيرى الجنةَ ومقعدَه فيها وما أعدَّ الله له، ويلقَى أصحابه وأهله فيستبشرون به ويفرحون به، ويفرح بهم فرحَ الغائب يقدَم على أهله، فيجدهم على أحسن حال، ويقدَم عليهم بخيرِ ما قدم به مسافر. هذا كلُّه قبل الفرح الأكبر يومَ حشرِ الأجساد، بجلوسه في ظل العرش، وشُربِه من الحوض، وأخذِه كتابَه بيمينه، وثقَلِ ميزانه، وبياضِ وجهه، وإعطائه النورَ التامَّ، والناسُ في الظلمة؛ وقطعِه جسرَ جهنم بلا تعويق، وانتهائه إلى باب الجنَّة وقد أُزلفت له في الموقف، وتلقِّي خَزَنتها له بالترحيب والسلام والبشارة، وقدومه على منازله وقصوره وأزواجه وسراريِّه.

(2/697)


وبعد ذلك فرحٌ آخر لا يُقدَّر ولا يُعبَّر عنه، تتلاشى هذه الأفراح كلُّها عنده، وإنما يكون لأهل السنَّة المصَدِّقين برؤية وجه ربهم تبارك وتعالى من فوقهم، وسلامه عليهم، وتكليمه إياهم ومحاضرته لهم (1): وليست هذه الفرَحاتُ إلَّا ... لذي التَّرَحاتِ في دار الرزايا فشمِّر ما استطعت الساقَ واجهَدْ ... لعلَّكَ أن تفوزَ بذي العطايا وصُمْ عن لذَّة حُشِيَتْ بلاءً ... لِلذَّاتٍ خلَصْن من البلايا ودَعْ أمنيَّةً إن لم تَنَلْها ... تعذَّبْ أو تُنَلْ كانت منايا (2) ولا تَستَبْطِ وعدًا من رسولٍ ... أتى بالحقِّ من ربِّ البرايا فهذا الوعدُ أدنى من نعيمٍ ... مضى بالأمس لو وُفِّقْتَ رَايا فصل والفرق بين رِقَّة القلب والجزَع: أنَّ الجزَع ضعفٌ في النفس وخوفٌ (3) _________ (1) في (ز، ن): «محاضرتهم له»، وهو غلط. والمصنف يشير إلى الحديث الذي أخرجه الترمذي (2549) وابن ماجه (4336) عن أبي هريرة. وفيه: «ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الله محاضرةً حتى يقول: يا فلان بن فلان، أتذكر يوم فعلت كذا وكذا؟». انظر الحديث وكلام المصنف عليه في حادي الأرواح (571 ــ 573) وتخريج محققه له (177). وانظر: الكافية الشافية (1021). وفي (غ) زيادة بعده: «وبهذا قال الشاعر». وفي (ب) مكانه: «كما قال». ولم أقف على الأبيات، ولعلها للمصنف رحمه الله. (2) في الأصل: «تعدت» مكان «تعذَّب». وكذا في (غ). وفي (ق) لم ينقط. والمثبت من غيرها. (3) (ب، ج): «خور».

(2/698)


في القلب، يمدُّه شدة الطمع والحرص، ويتولَّد من ضعف الإيمان بالقدر؛ وإلا فمتى عُلِم أن المقدَّر (1) كائنٌ ولابدَّ كان الجزع عناءً محضًا ومصيبة ثانية. قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 22، 23]. فمتى آمن العبدُ بالقدر، وعلم أنَّ المصيبة مقدَّرةٌ في الحاصل والغائب؛ لم يجزع، ولم يفرح. ولا ينافي هذا رقَّةَ القلب، فإنها ناشئةٌ من صفة الرحمة التي هي كمال. والله إنما يرحم من عباده الرحماءَ (2). وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرقَّ الناس قلبًا، وأبعدَهم من [166 أ] الجزع. فرقَّةُ القلب رحمة ورأفة، وجزَعُه مرض وضعف. فالجزع حال قلبٍ مريضٍ بالدنيا، قد غشِيَه دخانُ النفس الأمَّارة، فأخذ بأنفاسه، وضيَّق عليه مسالكَ الآخرة، وصار في سجن الهوى والنفس، وهو سجنٌ ضيِّق الأرجاء مظلمُ المسالك؛ فلانحصار القلب وضيقه يجزع من أدنى ما يصيبه ولا يحتمله. فإذا أشرق فيه نور الإيمان واليقين بالوعد، وامتلأ من محبة الله وإجلالِه= رَقَّ، وصارت فيه الرأفةُ والرحمة. فتراه رحيمًا رقيق القلب بكلِّ ذي قُربى ومسلمٍ، يرحم النملةَ في جُحرها، والطيرَ في وكرها، فضلًا عن بني جنسه. فهذا أقربُ القلوب من الله تعالى. _________ (1) (ز، ن): «المقدور». (ب، ج، ط): «القدر». (2) أخرجه البخاري (1284) من حديث أسامة بن زيد.

(2/699)


قال أنس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرحمَ الناسِ بالعيال (1). والله سبحانه إذا أراد أن يرحم عبدًا أسكن في قلبه الرأفة والرحمة، وإذا أراد أن يعذِّبه نزع من قلبه الرحمة والرأفة، وأبدله بهما الغلظة والقسوة. وفي الحديث الثابت: «لا تُنزَع الرحمة إلا من شقي» (2). وفيه: «من لا يرحم لا يُرحم» (3). وفيه: «ارحموا مَن في الأرض يرحمْكم مَن في السماء» (4). _________ (1) أخرجه مسلم (2316). (2) أخرجه أبو داود (4942)، والترمذي (1924)، والإمام أحمد (8001، 9702، 10951)، والبخاري في الأدب المفرد (374)، وأبو يعلى (6141)، وابن حبان (462، 466)، والحاكم (4/ 248) من طريق منصور بن المعتمر، عن أبي عثمان مولى المغيرة بن شعبة، عن أبي هريرة. وحسَّنه الترمذي، وصحَّحه الحاكم. (قالمي) (3) أخرجه البخاري (5997، 6013) ومسلم (2318، 2319) عن أبي هريرة، وعن جابر بن عبد الله. (4) أخرجه أبو داود (4941)، والترمذي (1924)، والإمام أحمد (6494)، وابن المبارك في المسند (270)، وابن أبي شيبة (25355)، والحميدي (591)، والحاكم (4/ 159) من طرق عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس، عن عبد الله بن عمرو. وصحَّحه الترمذي والحاكم، وحسَّنه الحافظ ابن حجر في الإمتاع بالأربعين المتباينة السماع (ص 16). وفيه أبو قابوس مولى عبد الله بن عمرو، قال الذهبي في الميزان (4/ 563): «لا يعرف، تفرد عنه عمرو بن دينار». وقال الحافظ السخاوي في المقاصد الحسنة (88) بعد نقل تصحيح الترمذي والحاكم له: «وكان ذلك باعتبار ما له من المتابعات والشواهد وإلا فأبو قابوس لم يرو عنه سوى ابن دينار، ولم يوثقه سوى ابن حبان ــ يعني في ثقاته (5/ 588) ــ على قاعدته في توثيق من لم يجرح» اهـ. (قالمي)

(2/700)


وفيه: «أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مُقِسط متصدِّق، ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفِّف ذو عيال» (1). والصدِّيقُ إنما فَضَلَ الأمَّةَ (2) بما كان في قلبه من الرحمة العامة زيادةً على الصدِّيقيَّة، ولهذا ظهر (3) أثرُها في جميع مقاماته، حتى في الأسارى يوم بدر، واستقرَّ الأمر على ما أشار به (4). وضرَب له النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلًا بعيسى وإبراهيم (5). _________ (1) جزء من حديث طويل أخرجه مسلم (2865) عن عياض بن حمار المجاشعي. (2) (ط): «هذه الأمة». (3) في الأصل: «اظهر»، ولعله سهو. وكذا في (ق). (4) انظر حديث عمر في صحيح مسلم (1763). (5) أخرجه الإمام أحمد (3632)، وابن أبي شيبة (37845)، وابن جرير الطبري في تفسيره (11/ 273 ــ 274) من طريق أبي معاوية محمد بن خازم، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما تقولون في هؤلاء الأسرى» الحديث. وفيه: «إنَّ مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام، قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى، قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]». وأخرجه أبو يعلى (5187)، والطبراني في الكبير (10258، 10259)، والحاكم (3/ 21 - 22) من طرق أخرى عن الأعمش به، بنحوه. وقال الحاكم: «صحيح الإسناد». كذا قال! وفيه نظر؛ لأن رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه مرسلة على الصحيح. ولما أخرج الترمذي (1714) الحديث من طريق أبي معاوية به، مقتصرًا على طرفه الأول، قال: «وهذا حديث حسن وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه». وإنما حسَّنه لما له من الشواهد التي أشار إليها بقوله: «وفي الباب عن عمر، وأبي أيوب، وأنس، وأبي هريرة». ثم وجدت لبعضه شاهدًا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (1424)، وابن عدي في الكامل (3/ 171)، وأبو الشيخ في الأمثال (310)، واللالكائي في أصول الاعتقاد (2513)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 304). وفيه سعيد بن عجلان ذكره ابن حبان في الثقات (6/ 360) وقال: «يخطئ ويخالف». ورباح بن أبي معروف مختلف فيه وهو إلى الضعف أقرب. (انظر: تهذيب التهذيب 3/ 204) على أن ابن عدي أورد له جملة أحاديث منها حديثه هذا ثم ختم ترجمته بقوله: «ولرباح أحاديث غير ما ذكرت وما أرى برواياته بأسًا ولم أجد له حديثًا منكرًا». وله شاهد آخر عن أمّ سلمة رضي الله عنها، أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (715) ج (23) وفي سنده ضعف. وبالجملة فالحديث بهذه الشواهد يرتقي إلى الحسن والله أعلم. (قالمي).

(2/701)


والربُّ سبحانه هو الرؤوف الرحيم، وأقربُ الخلق إليه أعظمُهم رأفة ورحمة، كما أن أبعدهم منه من اتَّصف بضدِّ صفاته. وهذا باب لا يلِجُه إلا أفرادٌ في العالم. فصل والفرق بين الموجِدة والحقد: أنَّ الوَجْد الإحساسُ بالمؤلم، والعلمُ به، وتحرُّك النفس في دفعه؛ فهو كمال. وأما الحقد فهو إضمارُ الشرِّ، وتوقُّعه كلَّ وقت فيمن وجَدْتَ عليه، فلا يزايلُ القلبَ أثرُه. وفرق آخر، وهو أنَّ الموجدةَ لما ينالك منه، [166 ب] والحقدَ لما يناله

(2/702)


منك. فالموجدةُ وجودُ ما نالك من أذاه، والحقدُ توقُّعُ وجودِ ما يناله من المقابلة. فالموجدة سريعة الزوال، والحقد بطيء الزوال. والحقد يجيء مع ضيقِ القلب واستيلاءِ ظلمةِ النفس ودخانِها عليه، بخلاف الموجدة فإنها تكون مع قوته وصلابته وقوة نوره وإحساسه. فصل والفرق بين المنافسة والحسد: أنَّ المنافسةَ المبادرةُ إلى الكمال الذي تشاهدُه من غيرك، فتنافسُه فيه، حتى تلحقَه أو تجاوزَه. فهي من شرف النفس وعلوِّ الهمة وكبر القَدْر. قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]. وأصلها من الشيء النفيس الذي تتعلَّقُ به النفوس طلبًا ورغبةً، فتنافسُ فيه كلٌّ من النَفْسين الأخرى، وربما فرحت إذا شاركتها فيه، كما كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتنافسون في الخير، ويفرحُ بعضُهم ببعض باشتراكهم فيه، بل يحضُّ بعضُهم بعضًا عليه مع تنافسهم فيه. وهي نوع من المسابقة، وقد قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد: 21]. وكان عمر بن الخطاب يُسابق أبا بكر فلم يظفَرْ بسَبْقهِ أبدًا. فلما علم أنه قد استولى على الأمَد (1) قال: والله لا أسابقُك إلى شيء أبدًا (2)! وقال: والله _________ (1) في الأصل: «الأمة»، وكذا في (ق، ط). والصواب ما أثبتنا من غيرها. وفي النسخ المطبوعة: «الإمامة»، أرادوا الإصلاح فأفسدوا. (2) أخرجه أبو داود (1680) من حديث عمر.

(2/703)


ما سابقتُه إلى خيرٍ إلا وجدتُه قد سبقني إليه (1). والمتنافسان كعبدين بين يدي سيِّدهما يتباريان ويتنافسان في مَرْضاته، ويتسابقان إلى محابِّه، فسيِّدُهما يُعجبه ذلك منهما ويُحثُّهما عليه، وكلٌّ منهما يحبُّ الآخر ويحرِّضُه على مرضاة سيده. والحسدُ خلُقُ نفسٍ ذميمةٍ وضيعةٍ ساقطةٍ، ليس فيها حرصٌ على الخير. فلعجزها ومهانتها تحسد من يكسب الخيرَ والمحامدَ ويفوز بها دونها، وتتمنى أن لو فاته كسبُها حتى يساويها في العُدْم، كما قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89]. وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]. فالحَسودُ عدوُّ النعمة، متمَنٍّ (2) زوالَها عن المحسود كما زالت عنه هو. والمنافسُ سابقُ (3) النعمة، متمنٍّ تمامَها عليه وعلى من ينافسه. فهو ينافس غيرَه أن يعلو (4) عليه، ويحبُّ لحاقَه به أو مجاوزته له في الفضل. والحسود يحبُّ انحطاطَ غيره حتى يساويَه في النقصان. وأكثرُ النفوس الفاضلة الخيِّرة تنتفع بالمنافسة، فمَن جعل نُصْبَ عينيه شخصًا من أهل الفضل والسبق فنافسه انتفع به كثيرًا، فإنه يتشبَّه به، ويطلب اللحاق به والتقدُّمَ عليه. وهذا لا _________ (1) أخرجه أحمد في المسند (175) عن عمر. (2) في (ب، ج، غ): «يتمنى» هنا وفيما يأتي. (3) كذا في الأصل وغيره. وفي (ن): «سائق». وفي النسخ المطبوعة: «مسابق». (4) (ط): «ليعلو». وفي (ب، ج): «ويعلو».

(2/704)


نذمُّه (1). وقد يطلق اسم الحسد على المنافسة المحمودة، كما في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا حسدَ إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناءَ الليل وأطرافَ النهار. ورجل آتاه الله مالًا، فسلَّطه على هَلَكتِه في الحقِّ» (2). فهذا حسدُ منافسة وغبطة يدل على علوِّ همة صاحبه، وكبرِ نفسِه، وطلِبها للتشبُّه بأهل الفضل. فصل والفرق بين حبِّ الرياسة، وحبِّ الإمامة (3) للدعوة إلى الله، هو الفرق بين تعظيم أمرِ الله والنصحِ له، وتعظيم النفس والسعي في حظها. فإنَّ الناصحَ لله المعظِّمَ له المحبَّ له يحِبُّ أن يطاع ربُّه فلا يُعصَى، وأن تكون كلمتُه (4) العليا، وأن يكونَ الدين كلُّه لله، وأن يكون العبادُ ممتثلين أوامرَه مجتنبين نواهيَه. فقد (5) ناصحَ اللهَ في عبوديته، وناصحَ خلقَه في الدعوة إلى الله، فهو يحبُّ الإمامة في الدِّين (6)، بل يسأل ربه أن يجعله للمتقين إمامًا يقتدي به المتقون، كما اقتدى هو بالمتقين. فإذا أحبَّ هذا _________ (1) ما عدا (أ، ق، غ): «لا يذم». (2) سبق تخريجه. (3) في (ق، ن): «الأمانة». وفي النسخ المطبوعة: «الإمارة». وكلاهما تحريف. (4) زاد الناشرون بعدها: «هي». (5) كذا في جميع النسخ. ولا يبعد أن يكون صوابه: «فهو»، ويكون «ناصح» اسمًا مرفوعًا مضافًا إلى لفظ الجلالة. (6) في (ق، ن): «الأمانة» كالسابق. وفي (ب، ج): «الإمامة في الهدى».

(2/705)


العبدُ الداعي إلى الله أن يكون في أعين الناس جليلًا، وفي قلوبهم مَهيبًا، وإليهم حبيبًا؛ وأن يكون فيهم مطاعًا، لكي يأتمُّوا به، ويقتفوا أثر الرسول على يده= لم يضرَّه ذلك، بل يُحمَد عليه؛ لأنه داعٍ إلى الله يُحِبُّ أن يطاع (1) ويعبَد ويوحَّد؛ فهو يحب ما يكون عونًا على ذلك موصلًا [167 ب] إليه. ولهذا ذكر سبحانه عبادَه الذين اختصَّهم لنفسه، وأثنى عليهم في تنزيله، وأحسن جزاءهم يوم لقائه= فذكرهم بأحسنِ أعمالهم وأوصافهم، ثم قال: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]. فسألوه أن يُقِرَّ أعينَهم بطاعة أزواجهم وذرِّياتهم له سبحانه، وأن يَسُرَّ قلوبَهم باتباع المتقين له على طاعته وعبوديته. فإنَّ الإمامَ والمؤتمَّ متعاونان على الطاعة، فإنما سألوه ما يعاونون به المتقين على مرضاته وطاعته، وهو دعوتهم إلى الله بالإمامة في الدين التي أساسُها الصبر واليقين، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]. فسؤالهم أن يجعلهم أئمةً للمتقين هو سؤالُ أن يهديَهم ويوفِّقهم، ويمنَّ عليهم بالعلوم النافعة، والأعمالِ الصالحة ظاهرًا وباطنًا التي لا تتم الإمامة إلا بها. وتأمَّلْ كيف نسبهم في هذه الآيات إلى اسمه الرحمن جلَّ جلالُه (2)، ليعلم خلقه أن هذا إنما نالوه بفضلِ رحمته ومحضِ جُوده ومنَّته! وتأمَّلْ _________ (1) زاد في (ط) بعده: «ويحمد». (2) يعني قوله تعالى في سورة الفرقان: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ}.

(2/706)


كيف جعل جزاءهم في هذه السورة الغُرَف، وهي المنازلُ العالية في الجنة! لمَّا كانت الإمامة في الدين من الرُّتَب العالية، بل من أعلى مرتبة يعطاها العبدُ في الدنيا، كان جزاؤه عليها الغرفة العالية في الجنة. وهذا بخلاف طلب الرياسة، فإنَّ طلَّابها يسعَون في تحصيلها لينالوا بها أغراضهم من العلوِّ في الأرض، وتعبُّدِ القلوب لهم، وميلِها إليهم، ومساعدتِهم لهم على جميع أغراضهم؛ مع كونهم عالين عليهم قاهرين لهم. فترتَّب على هذا الطلب من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله، من البغي والحسد والطغيان والحقد والظلم والفتنة، والحميَّةِ للنفس [168 أ] دون حقِّ الله، وتعظيمِ مَن حقّره الله، واحتقارِ مَن أكرمه الله. ولا تتمُّ الرياسة الدنيوية إلا بذلك، ولا تُنال إلا به وبأضعافه من المفاسد. والرؤساءُ في عمًى عن هذا، فإذا كُشِف الغطاء تبيَّن لهم فسادُ ما كانوا عليه، ولاسيَّما إذا حُشروا في صور الذرِّ يطؤهم أهلُ الموقف (1) بأرجلهم إهانةً لهم وتحقيرًا وتصغيرًا، كما صغَّروا أمر الله وحقَّروا عباده. فصل والفرقُ بين الحبِّ في الله والحبِّ مع الله. وهذا من أهمِّ الفروق، وكلُّ أحد محتاج بل مضطرٌّ إلى الفرق بين هذا وهذا. فالحبُّ في الله هو من كمالِ _________ (1) يشير إلى ما رواه البزَّار (كشف الأستار ــ 4/ 155) عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يبعث الله يوم القيامة ناسًا في صور الذر، يطؤهم الناس بأقدامهم، فيقال: ما هؤلاء في صور الذر؟ فيقال: هؤلاء المتكبرون في الدنيا». قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 604): وفيه القاسم بن عبد الله العمري، وهو متروك.

(2/707)


الإيمان، والحبُّ مع الله هو عين الشرك (1). والفرقُ بينهما: أن الحبَّ في الله تابع لمحبة الله، فإذا تمكنت محبتُه من قلب العبد أوجبَت تلك المحبةُ أن يحبَّ ما يحبُّه الله، فإذا أحبَّ ما أحبَّه ربُّه ووليُّه كان ذلك الحبُّ له وفيه، كما يحبُّ رسلَه وأنبياءه وملائكته وأولياءه لكونه تعالى يحبهم، ويُبغض من يُبغضه لكونه تعالى يبغضه. وعلامة هذا الحبِّ والبغض في الله: أنه لا ينقلب بغضُه لبغيضِ الله حبًّا لإحسانه إليه، وخدمته له، وقضاءِ حوائجه. ولا ينقلب حبُّه لحبيب الله بغضًا إذا وصل إليه من جهته ما يكرههُ ويُؤلمه، إما خطَأً وإما عمدًا، مطيعًا لله فيه، أو متأوِّلًا ومجتهدًا (2)، أو باغيًا نازعًا تائبًا. والدين كلُّه يدور على أربع قواعد: حبٌّ وبغضٌ، ويترتب عليهما فعلٌ وتركٌ. فمن كان حبُّه وبغضُه، وفعلُه وتركُه لله فقد استكمل الإيمان، بحيث إذا أحبَّ أحبَّ لله، وإذا أبغضَ أبغضَ لله، وإذا فعَل فعَل لله، وإذا ترَك ترَك لله. وما نقَص من إضافة هذه الأربعة إلى الله نقَص من إيمانه ودينه بحسَبه (3). وهذا بخلاف الحبِّ مع الله، فهو نوعان: نوع يقدح في أصل التوحيد، وهو شرك. ونوع يقدح في كمال الإخلاص [168 ب] ومحبة الله، ولا يُخرِج _________ (1) وانظر: الداء والدواء (443). (2) ما عدا (أ، ق، غ): «متأولًا مجتهدًا»، بحذف الواو. وفي النسخ المطبوعة: «أو» موضع الواو. (3) وانظر: إغاثة اللهفان (2/ 124)، وشفاء العليل (169). ومبنى كلامه على ما رواه أبو داود (4683) وغيره عن أبي أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل الإيمان». وتخريجه في الداء والدواء (442).

(2/708)


من الإسلام. فالأول كمحبة المشركين لأوثانهم وأندادهم. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165]. فهؤلاء المشركون يحبون أوثانَهم وأصنامَهم وآلهتهم مع الله كما يحبون الله تعالى، فهذه محبةُ تألُّهٍ وموالاةٍ، يتبعها الخوف والرجاء والعبادة والدعاء. وهذه المحبة هي محضُ الشرك الذي لا يغفره الله، ولا يتمُّ الإيمانُ إلا بمعاداة هذه الأنداد وشِدَّة بغضِها وبغضِ أهلها ومعاداتِهم ومحاربتهم. وبذلك أرسَلَ الله جميعَ رسله، وأنزل جميع كتبه، وخلق النارَ لأهل هذه المحبة الشِّركية، وخلق الجنةَ لمن حارب أهلَها وعاداهم فيه وفي مرضاته. فكلُّ مَن عبد شيئًا من لدن عرشه إلى قرار أرضه، فقد اتخذ من دونه (1) إلاهًا ووليًّا، وأشرك به ــ كائنًا ذلك المعبود ما كان ــ ولا بدَّ أن يتبرَّأ منه أحوجَ ما كان إليه. والنوع الثاني: محبةُ ما زيَّنه الله سبحانه للنفوس من النساء والبنين والذهب والفضة والخيل المسوَّمة والأنعام والحرث، فيحبها محبةَ شهوة كمحبة الجائع للطعام والظمآن للماء. فهذه (2) المحبة ثلاثة أنواع: فإن أحبَّها لله توصُّلًا بها إليه، واستعانةً على مرضاته وطاعته؛ أُثيب عليها وكانت من قِسْم الحبِّ لله، فيثاب عليها، ويلتذُّ بالتمتع بها. وهذا حال _________ (1) في النسخ المطبوعة: «من دون الله». (2) كذا بالفاء في جميع النسخ. ومقتضى السياق: «وهذه».

(2/709)


أكمل الخلق الذي حُبِّب إليه من الدنيا: النساءُ والطيب (1)، وكانت محبتُه لهما عونًا له على محبة الله وتبليغِ رسالاته والقيام بأمره. وإن أحبَّها لموافقة طبعه وهواه وإرادته، ولم يؤثِرها على ما يحبه الله ويرضاه، بل نالها بحكم الميل الطبيعي، كانت من قسم المباحات، ولم يعاقَبْ على ذلك، ولكن ينقصُ من كمال محبته لله والمحبة فيه. وإن كانت هي مقصودَه ومرادَه، وسعيُه في تحصيلها والظفر بها، وقدَّمها على ما يحبُّه الله ويرضاه منه= كان ظالمًا لنفسه، [169 أ] متَّبعًا لهواه. فالأولى: محبة السابقين. والثانية: محبة المقتصدين. والثالثة: محبة الظالمين. فتأمَّلْ هذا الموضع وما فيه من الجمع والفرق، فإنه معترَك النفس الأمَّارة والمطمئنة، والمهديُّ من هداه الله. فصل والفرق بين التوكُّل والعجز: أن التوكل عملُ القلب وعبوديتُه اعتمادًا على الله، وثقةً به، والتجاءً إليه، وتفويضًا إليه، ورضًا بما يقضيه له؛ لعلمه _________ (1) أخرجه النسائي (3949، 3950)، والإمام أحمد (12293، 12294)، وأبو عوانة (4020، 4021)، وأبو يعلى (3530)، وابن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة (322)، والحاكم (2/ 160) من حديث أنس رضي الله عنه، وزاد: «وجُعل قرة عيني في الصلاة». وصححه الحاكم على شرط مسلم، وقال العراقي في المغني: «إسناده جيد». وقال الحافظ في التلخيص (3/ 116): «إسناده حسن». (قالمي).

(2/710)


بكفايته سبحانه وحسنِ اختياره لعبده إذا فوَّض إليه مع قيامه بالأسباب المأمورِ بها واجتهادِه في تحصيلها. فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظمَ المتوكلين على الله، وكان يلبس لأمتَه ودرعَه، بل ظاهَرَ يوم أحُد بين درعين (1). واختفى في الغار ثلاثًا (2). فكان متوكلًا في السبب، لا على السبب. وأما العجز، فهو تعطيل الأمرين أو أحدِهما. فإما أن يعطِّل السبب عجزًا عنه، ويزعمَ أن ذلك توكلٌّ. ولعمرُ الله، إنه لَعجز وتفريط. وإما أن يقوم بالسبب ناظرًا إليه معتمِدًا عليه، غافلًا عن المسبِّب معرِضًا عنه. وإن خطر بباله لم يثبُت معه ذلك الخاطر، ولم يعلَقْ (3) قلبُه به تعلُّقًا تامًّا بحيث يكون قلبه مع الله، وبدنُه مع السبب. فهذا توكُّلُه عجز، وعجزُه توكُّل. وهذا موضع انقسم الناس فيه طرفَين ووسَطًا: فأحدُ الطرفين عطَّل الأسباب محافظةً على التوكل، والثاني عطل التوكُّل محافظةً على السبب، والوسطُ عَلِم أن حقيقة التوكُّل لا تتم إلا بالقيام بالسبب، فتوكَّلَ على الله في نفس السبب. وأما من عطَّل السبب وزعم أنه متوكلٌ، فهو مغرور مخدوع مُتمَنٍّ، كمن عطَّل النكاحَ والتسرِّي وتوكَّل في حصول الولد، وعطَّل الحرثَ والبَذْر وتوكَّل في حصول الزرع، وعطَّل الأكلَ والشربَ وتوكَّل في حصول الشِّبَع _________ (1) أخرجه الإمام أحمد (15722)، وابن ماجه (2806)، والترمذي في الشمائل (104)، والنسائي في الكبرى (8583) من حديث السائب بن يزيد. وإسناده صحيح. (قالمي). (2) انظر حديث الهجرة الذي أخرجه البخاري (3905) عن عائشة رضي الله عنها. (3) كذا في جميع النسخ، وهو جائز، ولكني أخشى أن يكون الأصل: «ولم يتعلَّقْ».

(2/711)


والري. فالتوكلُ نظير الرجاء، والعجزُ نظير التمنِّي. فحقيقة [169 ب] التوكل أن يتخذ العبد ربَّه وكيلًا له، قد فوَّض إليه كما يفوِّضُ الموكِّلُ (1) إلى وكيله العالمِ بكفايته ونهضته، ونصحه وأمانته، وخِبرته وحسن اختياره. والربُّ سبحانه قد أمَر عبدَه بالاحتيال، وتوكَّلَ له بأن يستخرجَ له من حيلته ما يُصلِحه، فأمَره أن يحرث ويبذُر ويسعى، ويطلب رزقَه في ضمن ذلك، كما قدَّره سبحانه ودبَّره واقتضته حكمته. وأمَره أن لا يُعلِّق قلبه بغيره، بل يجعلَ رجاءه له، وخوفه منه، وثقته به، وتوكُّله عليه. وأخبره سبحانه أنه الملِيُّ (2) بالوكالة، الوفيِّ بالكفالة. فالعاجزُ من رمى هذا كلَّه وراء ظهره، وقعد كسلانَ طالبًا للراحة مُؤثرًا للدَّعة. يقول: الرزقُ يطلب صاحبَه كما يطلبه أجلُه، وسيأتيني ما قُدِّر لي على ضعفي، ولن أنال ما لم يقدَّر لي مع قوتي. ولو أني هربت من رزقي كما أهربُ من الموت للحقني. فيقال له: نعم، هذا كلُّه حقٌّ. وقد علمتَ أن الرزقَ مقدَّر، فما يدريك كيف قدِّر لك: بسعيك أم بسعي غيرك؟ وإذا كان بسعيك؟ فبأيِّ سبب، ومن أي جهة؟ وإذا خفيَ عليك هذا كلُّه، فمِن أين علمتَ أنه يقدَّر لك إتيانه عفوًا بلا سعي ولا كدٍّ؟ فكم من شيء سعيتَ فيه، فقُدِّر لغيرك رزقًا! وكم من شيء سعَى فيه غيرُك، فقُدِّر لك رزقًا، فإذا رأيت هذا عيانًا، فكيف علمت أنَّ رزقك كلَّه بسعي غيرك؟ وأيضًا فهذا الذي أوردَتْه عليك النفسُ يُوجِب عليك طردَه في جميع الأسباب مع مسبباتها، حتى في أسباب دخول الجنة والنجاة من النار. فهل _________ (1) (أ، ق، غ): «الوكيل». (2) (ب، ج): «المانّ»، تحريف.

(2/712)


تُعطِّلها اعتمادًا على التوكُّل، أم تقوم بها مع التوكل؟ بلى (1)! لن تخلوَ الأرضُ من متوكِّل صَبَر نفسَه لله، وملأ قلبَه من الثقة به ورجائه وحسن الظن به، فضاق قلبُه مع ذلك عن مباشرة بعض الأسباب، فسكَنَ قلبه إلى الله، واطمأنَّ إليه، ووثِق به؛ فكان هذا من أقوى أسباب حصول رزقه. فلم يعطِّل السبب، وإنما رغِبَ عن سبب إلى سبب أقوى منه، فكان توكُّله [170 أ] أوثقَ الأسباب عنده، فكان اشتغالُ قلبه بالله وسكونُه إليه وتضرُّعُه إليه أحبَّ إليه من اشتغاله (2) بسبب يمنعه من ذلك أو من كماله. فلم يتَّسع قلبه للأمرين، فأعرضَ عن أحدهما إلى الآخر. ولا ريب أنَّ هذا أكملُ حالًا ممن امتلأ قلبه بالسبب واشتغل به عن ربه (3). وأكملُ منهما من جمع الأمرين، وهي حالُ الرسل والصحابة. فقد كان زكريَّا نجارًا، وقد أمر الله نوحًا أن يصنع السفينة، ولم يكن في الصحابة من يعطِّل السبب اعتمادًا على التوكل، بل كانوا أقومَ الناس بالأمرين. ألا ترى أنهم بذلوا جهدَهَم في محاربة أعداء الدين بأيديهم وألسنتهم، وقاموا في ذلك بحقيقةِ التوكل، وعمروا أموالهم وأصلحوها، وأعدُّوا لأهلهم كفايتَهم من القوت اقتداءً بسيد المتوكلين صلوات الله وسلامه عليه. _________ (1) (أ، غ): «بل». (2) ما عدا (ب، ج): «اشتغال». (3) ولكن هل هذا هو التوكل المشروع؟ وانظر كلام المصنف على التوكل في: مدارج السالكين (2/ 112)، ونقده لكلام ابن العريف في طريق الهجرتين (572).

(2/713)


فصل والفرق بين الاحتياط والوسوسة: أن الاحتياطَ الاستقصاءُ والمبالغةُ في اتباع السنة وما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، من غير غلوٍّ ومجاوزة، ولا تقصير ولا تفريط. فهذا هو الاحتياط الذي يرضاه الله ورسوله. وأما الوسوسة، فهي ابتداعُ ما لم تأتِ به السنة ولم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحدٌ من أصحابه، زاعمًا أنه يصلُ بذلك إلى تحصيل المشروعِ وضبطه، كمن يحتاطُ ــ بزعمه ــ ويغسل أعضاءه في الوضوء فوق ثلاث، فيُسْرِف في صبِّ الماء في وضوئه وغَسْله؛ ويصرِّح بالتلفظ بنية الصلاة مرارًا أو مرة واحدة، ويغسل ثيابه مما لا يتيقَّن نجاسته احتياطًا، ويرغبُ عن الصلاة في نعله احتياطًا، إلى أضعاف أضعاف هذا [170 ب] مما اتخذه الموسوِسون دينًا، وزعموا أنه احتياط. وقد كان اتباع (1) هديِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كان عليه أولى بهم، فإنه الاحتياطُ الذي مَن خرج عنه فقد فارق الاحتياط، وعدل عن سواء الصراط. فالاحتياطُ كلُّ الاحتياط: الخروجُ عن خلاف السنة، ولو خالفت أكثرَ أهل الأرض بل كلَّهم. فصل والفرق بين إلهام الملَك وإلقاء الشيطان من وجوه: منها: أن ما كان لله موافقًا لمرضاته وما جاء به رسولُه، فهو من الملَك. وما كان لغيره غيرَ موافق لمرضاته، فهو من إلقاء الشيطان. _________ (1) في الأصل: «الاحتياط اتباع». وكذا في (غ). وفي غيرهما: «الاحتياط في اتباع». وفي النسخ المطبوعة: «الاحتياط باتباع». ويظهر لي أن كلمة الاحتياط وقعت سهوًا.

(2/714)


ومنها: أنَّ ما أثمرَ إقبالًا على الله، وإنابةً إليه، وذكرًا له، وهمَّة صاعدةً إليه= فهو من إلقاء الملك. وما أثمر ضدَّ ذلك فهو من الشيطان. ومنها: أنَّ ما أورث أنسًا ونورًا في القلب وانشراحًا في الصدر فهو من الملك. وما أورَث ضدَّ ذلك فهو من الشيطان. ومنها: أنَّ ما أورث سكينةً وطمأنينةً فهو من الملك. وما أورث قلقًا وانزعاجًا واضطرابًا فهو من الشيطان. فالإلهام الملَكيُّ يكثُر في القلوب الطاهرة النقيَّة التي قد استنارت بنور الله، فللملَك بها اتصال، وبينه وبينها مناسبة، فإنه طيِّب طاهر لا يجاور إلا قلبًا يناسبُه، فتكون لمَّة الملك بهذا القلب أكثر من لمة الشيطان. وأما القلب المظلم الذي قد اسودَّ بدخان الشهوات والشبهات فإلقاءُ الشيطان ولمتُه به أكثرُ من لمة الملَك. فصل والفرق بين الاقتصاد والتقصير: أن الاقتصاد هو التوسُّط بين طرفي الإفراط والتفريط، وله طرفان هما ضِدَّان له: تقصير، ومجاوزة. فالمقتصد قد أخذ بالوسط، وعدَلَ عن الطرفين. قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29]، وقال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]. والدين كله بين هذين الطرفين، بل الإسلام قَصْدٌ بين المِلَل، والسُّنَّة قصدٌ بين البدع، ودينُ الله بين الغالي فيه والجافي عنه.

(2/715)


وكذلك الاجتهادُ هو بذلُ الجهد في موافقة الأمر، والغلوُّ مجاوزته وتعدِّيه (1). وما أمَرَ الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: فإما إلى غلوٍّ ومجاوزةٍ، وإما إلى تفريطِ وتقصير. وهما آفتان لا يخلص منهما في الاعتقاد والقصد والعمل إلا من مشى خلفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وترك أقوال الناس وآراءَهم لِما جاء به، لا مَن ترَك ما جاء به لأقوالهم وآرائهم. وهذان المرضان المُخْطِران (2) قد استوليا على أكثر بني آدم. ولهذا حذَّر السلفُ منهما أشدَّ التحذير، وخوَّفوا من بُلي بأحدهما بالهلاك. وقد يجتمعان في الشخص الواحد، كما هو حالُ أكثرِ الخلق: يكون مقصِّرًا مفرِّطًا في بعض دينه، غاليًا متجاوزًا في بعضه. والمهديُّ من هداه الله. فصل والفرق بين النَّصيحة والتأنيب: أنَّ النصيحة إحسانٌ إلى من تنصحه بصورة الرحمةِ له، والشفقةِ عليه، والغَيْرةِ له. وعليه فهو إحسانٌ محضٌ يصدر عن رحمةٍ ورقِّةٍ ومُرادُ الناصحِ بها وجهُ الله ورضاه، والإحسانُ إلى خلقه، فيتلطَّفُ في بذلها غايةَ التلطُّف، ويحتمل أذى المنصوح ولائمته، ويعامله معاملةَ الطبيبِ العالمِ المشفقِ للمريض (3) المُشبَعِ مرضًا، فهو _________ (1) في الأصل: «بمجاوزه وتعديه». وكذا في (ق، غ، ط). وفي (ب، ج، ز): «مجاوزة وتعدية». والمثبت من (ن). وكذا في النسخ المطبوعة. (2) في (ط، ز) والنسخ المطبوعة: «الخطِران». وما ورد في الأصل وغيره صواب محض، وكذا في الطبعة الهندية. وهو من أخطَر المرضُ فلانًا: جعله بين السلامة والتلف (المعجم الوسيط). (3) (أ، غ): «المريض». (ق): «بالمريض».

(2/716)


يحتمل سوء خلُقه وشراسته ونفرته، ويتلطَّف في وصول الدواء إليه بكلِّ ممكنٍ. فهذا شأن الناصح. وأما المؤنِّبُ، فهو رجلٌ قصدُه التعييرُ والإهانةُ، وذمُّ مَن يؤنِّبه، وشتمُه في صورة النُّصح. فهو يقول له: يا فاعل كذا وكذا، يا مستحقًّا للذمِّ والإهانة، في صورة ناصحٍ مُشفقٍ. وعلامة هذا أنه لو رأى مَن يحبُّه ويحسن إليه على مثل عمل هذا أو شرٍّ منه لم يعرض له، ولم يقل له شيئًا. ويطلبُ له وجوهَ المعاذير، فإن غُلِبَ قال: وأيُّنا (1) ضُمِنتْ له العصمة؟ والإنسان عُرضة [171 ب] للخطأ، ومحاسنه أكثر من مساويه، والله غفورٌ رحيم، ونحو ذلك. فيا عجبًا كيف كان هذا لمن يحبُّه دون من يبغضه؟ وكيف كان حظُّ ذلك منك التأنيبَ في صورة النُّصح، وحظُّ هذا منك رجاءَ العفو والمغفرة، وطلبَ وجوه المعاذير؟ ومن الفروق بين الناصح والمؤنِّب: أنَّ الناصح لا يُعاديك إذا لم تقبل نصيحتَه، وقال: قد وقع أجري على الله، قبلتَ أو لم تقبل. ويدعو لكَ بظهر الغيب، ولا يذكر عيوبَكَ ويبثُّها في الناس. والمؤنِّبُ بضدِّ ذلك. فصل والفرق بين المبادرة والعجلة: أنَّ المبادرةَ انتهازُ الفرصة في وقتها، ولا يتركها حتى إذا فاتت طلَبَها. فهو لا يطلب الأمورَ في أدبارها ولا قبل وقتها، بل إذا حضر وقتُها بادر إليها، ووثب عليها وثوبَ الأسد على فريسته. فهو بمنزلة مَن يبادر إلى أخذ الثمرة وقتَ كمال نُضجها وإدراكها. والعجلة: _________ (1) في النسخ المطبوعة: «وأنَّى» خلافًا لما في النسخ الخطية.

(2/717)


طلب أخذ الشيء قبل وقته، فهو لشدَّة حرصه عليه بمنزلة مَن أخَذَ (1) الثمرة قبل أوان إدراكها. فالمبادرةُ وسطٌ بين خلُقين مذمومين: أحدهما التفريط والإضاعة، والثاني الاستعجال قبل الوقت. ولهذا كانت العجلة من الشيطان، فإنها خِفَّة وطيش وحدَّة في العبد تمنعه من التثبُّت والوقار والحلم، وتوجب له وضعَ الأشياء في غير مواضعها، وتجلب عليه أنواعًا من الشرور، وتمنعه أنواعًا من الخير. وهي قرينُ الندامة، فقلَّ مَن استعجل إلا ندم، كما أنَّ الكسل قرينُ الفوت والإضاعة. فصل والفرق بين الإخبار بالحال وبين الشكوى وإن اشتبهت صورتُهما: أنَّ الإخبار بالحال يقصد المخبِر به قصدًا صحيحًا من علمِ سببِ إزالته، أو الاعتذار لأخيه من أمرٍ طلبه منه، أو يحذِّره من الوقوع في مثل ما وقع فيه، فيكون ناصحًا بإخباره له، أو حمله على الصبر بالتأسِّي به. كما يُذكَر عن الأحنف أنه شكا إليه رجلٌ شكوى، فقال: يا ابن أخي، لقد ذهب ضوء عيني من كذا وكذا سنة، فما أعلمتُ به أحدًا (2). ففي ضمن هذا الإخبار مِن حمل الشاكي على التأسِّي والصبر ما يُثاب عليه المخبِرُ. وصورتُه صورةُ الشكوى. ولكنَّ القصد ميَّز بينهما. _________ (1) ما عدا (أ، غ): «يأخذ». (2) أخرجه عبد الله بن أحمد في كتاب الزهد لأبيه (1291). وانظر: صفة الصفوة (3/ 199). وفي عدة الصابرين (529): «شكا الأحنف إلى عمه ... ». وكذا في إحياء العلوم (4/ 133). والظاهر أنه مقلوب.

(2/718)


ولعلَّ من هذا قولَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا قالت عائشةُ: وارأساه! فقال: «بل أنا وارأساه!» (1). أي: الوجعُ القويُّ بي أنا دونكِ، فتأسَّي بي، ولا تشتكي. ويلوح لي فيه معنًى آخر، وهو أنها كانت حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل كانت أحبَّ النساء إليه على الإطلاق، فلما شكت إليه رأسَها أخبرها أنَّ بمُحِبِّها من الألم مثلَ الذي بها. وهذا غاية الموافقة بين (2) المُحِبِّ ومحبوبِه. يتألَّم بتألُّمه، ويُسَرُّ بسروره، حتى إذا آلمه عضوٌ من أعضائه آلم المُحِبَّ ذلك العضوُ بعينه. وهذا من صدق المحبة وصفاء المودة. فالمعنى الأول يُفهِم أنكِ لا تشتكي واصبري، فبي من الوجع مثلُ ما بكِ، فتأسَّي بي في الصبر وعدم الشكوى. والمعنى الثاني يُفهِم إعلامَها بصدق محبته لها، أي: انظري قوة محبتي لكِ، كيف واسيتُكِ في ألمكِ ووجعِ رأسكِ، فلم تكوني متوجعةً وأنا سليمٌ من الوجع، بل يؤلمني ما يؤلمكِ، كما يسرُّني ما يسرُّكِ؟ كما قيل: وإنَّ أولَى البرايا أن تواسيَه ... عند السرور الذي واساك في الحزَنِ (3) وأما الشكوى، فالإخبار العاري عن القصد الصحيح، بل يكون مصدره _________ (1) أخرجه البخاري (5666) عن عائشة. (2) هذا في (ج، ن، ز). وفي غيرها: «من»، وهي تقتضي أن يكون السياق: من المحب لمحبوبه. (3) البيت لإبراهيم بن العباس الصولي في ديوانه ضمن الطرائف الأدبية (177). وينسب إلى دعبل وأبي تمام. انظر تخريجه في ديوان دعبل (461 ــ 461)، والحماسة البصرية (789).

(2/719)


السخط، وشِكايةُ المُبتلي إلى غيره. فإن شكا إليه (1) لم يكن ذلك شكوى، بل استعطاف وتملُّق واسترحام له، كقول أيوب: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 82]، وقول يعقوب: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]. وقول موسى: «اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعانُ، وبكَ المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك» (2). وقول سيد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إليك أشكو ضعفَ قوتي وقلةَ حيلتي وهَواني على الناس. أنت ربُّ المستضعفين، وأنت ربِّي. إلى من تكِلُني؟ إلى بعيدٍ يتجهَّمني، أو إلى عدوٍّ ملَّكتَه أمري؟ إن لم يكن بكَ غضبٌ عليَّ فلا أبالي، غيرَ أن عافيتك [172 أ] أوسَعُ لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له _________ (1) زاد الناشرون بعده: «سبحانه وتعالى». (2) أخرجه البيهقي في الدعوات الكبير (264) من طريق عبد الله بن نافع بن يزيد بن أبي نافع، عن عيسى بن يونس السبيعي، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أعلمك الكلمات التي قالهن موسى عليه السلام حين انفلق البحر؟». قلت: بلى، قال: «قل .. » (فذكره). ثم قال: «تفرد به عبد الله بن نافع هذا وليس بالقوي». قلت: ولكن توبع عليه، فأخرجه الطبراني في الأوسط (3418)، والصغير (339) من طريق زكريا بن فروخ، عن وكيع، عن الأعمش، به. وزكريا بن فروخ التمار الواسطي لم أجد له ذكرًا في كتب الرجال المتوفرة وبقية رجاله ثقات. ولعلَّ الحافظ المنذري عرفه حينما عزاه للطبراني في الصغير وقال: «إسناده جيِّد». الترغيب والترهيب (2748). (قالمي).

(2/720)


الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحِلَّ عليَّ غضبُك، أو ينزل بي سخطُك. لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك» (1). فالشكوى إلى الله سبحانه لا تنافي الصبر بوجه (2)، فإن الله تعالى قال عن أيوب: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44] مع إخباره عنه بالشكوى إليه في قوله: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ}. وأخبر عن نبيه يعقوب أنه وعد من نفسه بالصبر الجميل ــ والنبيُّ إذا قال وفَى ــ مع قوله: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] ولم يجعل ذلك نقصًا لصبره. _________ (1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (14764)، وفي الدعاء (1036) ومن طريقه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (9/ 180 ــ 181) من حديث عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 35): «رواه الطبراني وفيه محمد بن إسحاق وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات». وابن إسحاق لم يصرح بالتحديث. ورواه عنه زياد البكائي. كما في سيرة ابن هشام (1/ 420) ــ قال: «فلمَّا اطمأن رسول الله قال فيما ذُكر لي: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ... » الحديث. وروي عنه من وجه آخر، ذكره ابن كثير في تفسيره (7/ 290) قال: «وذكر محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان، عن محمد بن كعب القرظي قصه خروج رسول الله إلى الطائف ودعائه إياهم إلى الله عز وجل وإبائهم عليه، فذكر القصة بطولها، وأورد ذلك الدعاء الحسن ... » فذكر طرفًا منه. ورجاله ثقات لكنه مرسل، محمد بن كعب القرظي من ثقات تابعي أهل المدينة وفقهائهم. فتعدد مخارجه يدل على أن له أصلًا، والله أعلم. (قالمي). (2) انظر: عدة الصابرين (24، 63)، ومدارج السالكين (2/ 161)، وجامع المسائل (4/ 73).

(2/721)


ولا يُلتفَت إلى غير هذا من تُرَّهات القوم (1)، كما قال بعضهم: لمَّا قال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} قال تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا}، ولم يقل: صبورًا؛ حيث قال: مسَّني الضر (2). وقال بعضهم: لم يقل: ارحمني، وإنما قال: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فلم يزِدْ على الإخبار بحاله ووصْفِ ربِّه (3). وقال بعضهم: إنما شكا مسَّ الضُّرِّ حين ضعُفَ لسانُه عن الذكر، فشكا مسَّ ضُرِّ (4) ضعفِ الذِّكر، لا ضُرِّ المرض والألم. وقال بعضهم: استخرج منه هذا القول، ليكون قدوةً للضعفاء من هذه _________ (1) يعني الصوفية. (2) الرسالة القشيرية (1/ 328). ونص قوله: « ... ولم يقل: صبورًا؛ لأنه لم يكن جميع أحواله الصبر، بل كان في بعض أحواله يستلذُّ البلاء ويستعذبه، فلم يكن في حال الاستلذاذ صابرًا، فلذلك لم يقل: صبورًا». (3) رواه القشيري في موضعين من رسالته (1/ 328)، (2/ 449) عن الأستاذ أبي علي الدقاق. ولفظه في الموضع الأول: «حقيقة الصبر: الخروج من البلاء على حسب الدخول فيه، مثل أيوب عليه السلام فإنه قال في آخر بلائه: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، فحفظ أدب الخطاب؛ حيث عرَّض بقوله: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ولم يصرح بقوله: «ارحمني». وأما الموضع الثاني فلم يذكر فيه أول المقولة «حقيقة الصبر ... »، وإنما استدلّ به على حفظ آداب الخطاب. والمصنف نفسه أورد قول أيوب عليه السلام هذا ضمن الشواهد على الأدب مع الله في مدارج السالكين (2/ 380). واستحسنه شيخ الإسلام فقال في مجموع الفتاوى (22/ 382): «فقوله هذا أحسن من قوله: ارحمني». وانظر أيضًا: مجموع الفتاوى (10/ 245). (4) (ط): «من).

(2/722)


الأمة (1). وكأنَّ هذا القائل رأى أن الشكوى إلى الله تنافي الصبر، وغلِط أقبحَ الغلط، فالمنافي للصبر شكواه، لا الشكوى إليه. فالله يبتلي عبدَه ليسمع تضرُّعه ودعاءه والشكوى إليه، ولا يحبُّ التجلُّدَ عليه. وأحَبُّ ما إليه انكسارُ قلبِ عبده بين يديه، وتذلُّلُه له، وإظهارُ ضعفِه وفاقتِه وعجزهِ وقلةِ صبره. فاحذر كلَّ الحذر من إظهار التجلُّدِ عليه، وعليك بالتضرُّعِ والتمسكن، وإبداء العجز والفاقة والذُّلِّ والضعف؛ فرحمتُه أقرب إلى هذا القلب من اليد للفم. فصل وهذا بابٌ من الفروق يطول (2)، ولعلَّ إن ساعد القدَرُ أن نُفرِد (3) فيه كتابًا كبيرًا، وإنما نبَّهنا بما ذكرنا على أصوله، واللبيبُ يكتفي ببعض ذلك. والدِّينُ كله فَرقٌ، وكتابُ الله فُرقانٌ، «ومحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - فَرقٌ بين الناس» (4). ومن اتقى اللهَ جعل له فرقانًا {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]. وسمَّى يومَ بدرٍ يومَ الفرقان (5) لأنه فرَق بين أولياء _________ (1) حكاه القشيري في الرسالة (1/ 328) عن الأستاذ أبي علي الدقاق. (2) هذا في (غ، ن، ز). وفي غيرها: «مطوَّل». (3) (ط): «أجمع». (4) من حديث جابر بن عبد الله، أخرجه البخاري (7281). في نسخة أبي ذر: «فرَّق». وفي غيرها كما أثبتنا من (ن). ولم تضبط في النسخ الأخرى. والفرق هنا بمعنى الفارق، وصف بالمصدر. يعني: يفرق بين المؤمنين والكافرين بتصديقه وتكذيبه. انظر: النهاية لابن الأثير (3/ 439)، وفتح الباري (13/ 256). (5) في قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41].

(2/723)


الله وأعدائه. فالهدى كله فرقان (1). والضلال أصله الجمع، كما جمع المشركون بين عبادة الله وعبادة الأوثان، ومحبته ومحبة الأوثان، وبين ما يحبه ويرضاه وبين ما قدَّره وقضاه، فجعلوا الأمر واحدًا، واستدلوا بقضائه وقدره على محبته ورضاه. وجمعوا بين الربا والبيع، فقالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275]. وجمعوا بين المُذكَّى والميتة فقالوا: كيف نأكل ما قَتَلْنا (2) ولا نأكل ما قتَلَ اللهُ. وجمع المنسلخون عن الشرائع بين الحلال والحرام فقالوا: هذه المرأةُ خلقَها الله، وهذه خلَقَها؛ وهذا الحيوان خلقه وهذا خلقه، فكيف يُحَلُّ هذا ويُحرَّم هذا؟ وجمعوا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (3)! وجاءت طائفة الاتحادية، فطَمُّوا الواديَ على القَري (4)، وجمعوا الكلَّ _________ (1) وانظر: مدارج السالكين (1/ 162) وطريق الهجرتين (2/ 710). (2) (ق): «قتلناه». (3) «وجمعوا ... الشيطان» ساقط من (ب، ج). (4) المثل: «جرى الوادي فطمَّ على القَريِّ». قال الميداني: «أي جرى سيل الوادي، فطمَّ، أي دفَن. يقال: طمَّ السيلُ الركيَّة، أي دفنها. والقريُّ: مجرى الماء في الروضة. و «على» من صلة المعنى. أي أتى على القريِّ، يعني أهلكه بأن دفنه. يضرب عند تجاوز الشرِّ حدَّه». مجمع الأمثال (1/ 282). وقال أبو هلال العسكري في جمهرة الأمثال (1/ 322): «يضرب مثلًا للأمر العظيم يجيء فيعم الصغير والكبير». فيقال: طمَّ السيل كلَّ شيء، أي علاه، وطمَّ عليه، أي أتى عليه. ولا يقال: طممتُه على الشيء. ولكن كذا ورد المثل هنا: «فطَمُّوا الوادي على القري». ونحوه في إعلام الموقعين (4/ 250): «طردَتْ الباب، وطمَّتْ الواديَ على القريِّ». ويبدو لي ــ والله أعلم ــ أن المصنف رحمه الله قرأ المثل في كلام شيخه في درء التعارض (6/ 222): «ثم جاء أبو حامد، فطمَّ الوادي على القريِّ» ــ وقد نقله في الصواعق المرسلة (2/ 417) ــ فتوهم أن «الوادي» مفعول به، وفاعل «طمَّ» هو الضمير العائد على أبي حامد!

(2/724)


في ذاتٍ واحدةٍ، وقالوا: هي الله الذي لا إله إلا هو. وقال صاحب فصوصهم وواضع نصوصهم: «واعلم أنَّ الأمر قرآن، لا فرقان» (1). ما الأمرُ إلا نسقٌ واحد ... ما فيه من مدحٍ ولا ذمِّ وإنَّما العادةُ قد خصَّصتْ ... والطبعُ والشارعُ بالحكمِ (2) والمقصود أن أرباب البصائر هم أصحاب الفرقان، فأعظم الناس فرقانًا بين المشتبهات أعظم الناس بصيرةً. والتشابه يقع في الأقوال والأعمال والأحوال والأموال والرجال، وإنما أُتي أكثرُ أهل العلم من المتشابهات في ذلك كلِّه. ولا يحصل الفرقان إلا بنورٍ يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده، يرى في ضوئه حقائق الأمور، ويمِّيز بين حقها وباطلها، وصحيحها وسقيمها {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]. ولا تستطِلْ هذا الفصل، فلعلَّه من أنفع فصول الكتاب، والحاجةُ إليه شديدةٌ، فإن رزقك الله فيه بصيرةً خرجتَ منه إلى فرقانٍ أعظم منه. وهو: الفرق بين توحيد المرسلين وتوحيد [173 ب] المعطِّلين، والفرق بين تنزيه الرسل وتنزيه أهل التعطيل، والفرق بين إثبات الصفات والعلوِّ والتكلم _________ (1) فصوص الحكم (1/ 70). [يكنون بالقرآن عن رؤية التفرقة بعين الجمع، وهي أكمل مقامات العارفين عندهم. انظر: «لطائف الإعلام» للقاشاني (2/ 561، 581)]. قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين من التعليق ليس في المطبوع، وهو ثابت في الأصل الوارد من «عطاءات العلم»، جزاهم الله خيرا. (2) أنشدهما المصنف في طريق الهجرتين (566) أيضًا. وقد نسبهما شيخ الإسلام في الفتاوى (2/ 99) إلى القاضي تلميذ صاحب الفصوص.

(2/725)


والتكليم حقيقةً وبين التشبيه والتمثيل، والفرق بين تجريد التوحيد العملي الإرادي وبين هضم أربابِ المراتب مراتبَهم التي أنزلهم الله إياها، والفرق بين تجريد متابعة المعصوم وبين إهدار أقوال العلماء وإلغائها وعدم الالتفات إليها، والفرق بين تقليد العالم وبين الاستضاءة بنور علمه والاستعانة بفهمه، والفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، والفرق بين الحال الإيماني الرحماني والحال الشيطاني الكفري والحال النفساني، والفرق بين الحكم المنزَّل الواجب الاتباع على كلِّ أحدٍ (1) والحكم المؤوَّل الذي نهايته أن يكون جائز الاتباع عند الضرورة ولا دَرْكَ على مخالفه. فصل ونحن نختم الكتاب بإشارةٍ لطيفةٍ إلى الفروق بين هذه الأمور، إذ كلُّ فرقٍ منها يستدعي بسطُه كتابًا كبيرًا. فالفرق بين توحيد المرسلين وتوحيد المعطلين: أنَّ توحيدَ الرسل إثباتُ صفات الكمال لله على وجه التفصيل، وعبادتُه وحده لا شريك له، فلا يُجعل له ندٌّ (2) في قصدٍ ولا حبٍّ، ولا خوفٍ ولا رجاءٍ، ولا لفظٍ ولا حَلِفٍ ولا نذرٍ، بل يرفع العبدُ الأندادَ له من قلبه وقصده ولسانه وعبادته، كما أنها معدومةٌ في نفس الأمر، لا وجود لها البتة؛ فلا يجعل لها وجودًا في قلبه ولا لسانه. _________ (1) في (ز، غ): «على كل حال». وقد سقط «على كل ... جائز الاتباع» من الأصل. (2) (ط، ز، ن): «ندًّا».

(2/726)


وأما توحيد المعطلين، فنفيُ حقائق أسمائه وصفاته وتعطيلُها. ومن أمكنه منهم تعطيلُها من لسانه عطَّلها فلا يذكرها، ولا يذكر آيةً تتضمنها، ولا حديثًا يصرِّح بشيءٍ منها. ومن لم يُمكنه تعطيلُ ذكرِها سطا عليها بالتحريف، ونفى حقيقتها، وجعلها اسمًا فارغًا لا معنى له، أو معناه من جنس الألغاز والأحاجي. على أنَّ مَن طرَدَ تعطيلَه منهم علِمَ أنه يلزمه (1) في ما حرَّفَ إليه النصَّ من المعنى نظيرُ ما فرَّ منه سواء، فإن لزم تمثيلٌ أو تشبيهٌ أو حدوثٌ في الحقيقة لزم في المعنى الذي حمل عليه النص، وإن لم يلزم في هذا فهو أولى أن لا يلزم في الحقيقة. [174 أ] فلمَّا علِمَ هذا لم يمكنه إلا تعطيلُ الجميع، فهذا طردٌ لأصل التعطيل. والفرقُ أقربُ منه، ولكنه متناقضٌ يتحكَّم (2) بالباطل حيث أثبت لله بعضَ ما أثبتَه لنفسه، ونفى عنه البعض الآخر. واللازم الباطل فيهما واحدٌ، واللازم الحقُّ لا يفرِّق بينهما. والمقصود أنهم سمَّوا هذا التعطيل توحيدًا، وإنما هو إلحادٌ في أسماء الربِّ وصفاته، وتعطيلٌ لحقائقها. فصل والفرق بين تنزيه الرسل وتنزيه المُعطِّلة: أنَّ الرسلَ نزَّهوه سبحانه عن النقائص والعيوب التي نزَّه نفسَه عنها، وهي المنافيةُ لكماله وكمال ربوبيته وعظمته، كالسِّنة والنوم والغفلة والموت واللُّغوب، والظلم وإرادته والتسمِّي به، والشريك والصاحبة والظهير والولد والشفيع بدون إذنه، وأن _________ (1) (أ، ط، ق): «يلتزمه». (2) (ز): «متحكم». وفي (ب، ج، ط): «فيحكم».

(2/727)


يترك عباده سدًى هملًا، وأن يكون خلقهم عبثًا، وأن يكون خلقُ السماوات والأرض وما بينهما باطلًا، لا لثوابٍ ولا عقاب، ولا أمرٍ ولا نهي؛ وأن يُسوِّي بين أوليائه وأعدائه، وبين الأبرار والفجار، وبين الكفار والمؤمنين، وأن يكون في ملكه ما لا يشاء، وأن يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، وأن يكون لغيره معه من الأمر شيء، وأن يعرض له غفلة أو سهو أو نسيان، وأن يُخلِفَ وعدَه، أو تُبدَّلَ كلماتُه، أو يُضافَ الشر إليه اسمًا أو وصفًا أو فعلًا، بل أسماؤه كلُّها حسنى، وصفاتُه كلُّها كمال، وأفعالُه كلُّها خير وحكمة ومصلحة. فهذا تنزيه الرسل لربِّهم. وأما المعطِّلون (1)، فنزَّهوه عما وصف به نفسَه من الكمال. فنزَّهوه عن أن يتكلَّم أو يُكلِّم أحدًا. ونزَّهوه عن استوائه على عرشه، وأن تُرفع إليه الأيدي، وأن يصعد إليه الكلمُ الطيِّبُ، وأن ينزل من عنده شيءٌ، أو تعرج إليه الملائكة والرُّوح، وأن يكون فوق عباده وفوق جميع مخلوقاته عاليًا عليها. ونزَّهوه أن يقبض السماوات بيده، والأرض باليد الأخرى، وأن يُمسك السماوات على إصبَعٍ، والأرض على إصبع، والجبال على إصبَع، والشجر على [174 ب] إصبَع. ونزَّهوه أن يكون له وجهٌ، وأن يراه المؤمنون بأبصارهم في الجنة، وأن يكلِّمَهم ويسلِّمَ عليهم، ويتجلى لهم ضاحكًا، وأن ينزل كلَّ ليلةٍ إلى السماء الدنيا فيقول: من يستغفرني فأغفِرَ له؟ من يسألني فأعطيَه (2)؟ فلا نزول _________ (1) (ب، ج): «المعطلة». (2) كما جاء في حديث أبي هريرة في صحيح البخاري (1145)، وصحيح مسلم (758).

(2/728)


عندهم ولا قول. ونزَّهوه أن يفعل شيئًا لشيءٍ، بل أفعالهُ لا لحكمةٍ ولا لغرضٍ مقصود. ونزَّهوه أن يكون تامَّ المشيئة، نافذَ الإرادة، بل يشاء الشيءَ ويشاء عبادُه خلافَه، فيكون ما شاء العبدُ دون ما شاء (1) الربُّ، ولا يشاء الشيءَ فيكون ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون، وسمَّوا هذا عدلًا كما سمَّوا ذلك التنزيه توحيدًا. ونزَّهوه عن أن يُحِبَّ أو يُحَبَّ. ونزَّهوه عن الرأفة والرحمة والغضب والرضا. ونزَّهه آخرون عن السمع والبصر، وآخرون عن العلم. ونزَّهه آخرون عن الوجود فقالوا: الذي فرَّ إليه هؤلاء المنزِّهون من التشبيه والتمثيل يلزمنا في الوجود، فيجب علينا أن ننزِّهه عنه. فهذا تنزيه الملحدين. والأول تنزيه المرسلين. فصل والفرق بين إثبات حقائق الأسماء والصفات وبين التشبيه والتمثيل ما قاله الإمام أحمد ومن وافقه من أئمة الهدى: أنَّ التشبيه والتمثيل أن تقول: يدٌ كيدي، أو سمعٌ كسمعي، أو بصرٌ كبصري، ونحو ذلك (2). وأما إذا قلتَ: سمعٌ وبصرٌ ويدٌ ووجهٌ واستواءٌ لا يماثل شيئًا من صفات المخلوقين، بل بين _________ (1) (ب، ج، غ، ط): «شاء العبد دون ما يشاء». وفي (ن): «يشاء» في الموضعين. (2) ذكره المصنف في اجتماع الجيوش الإسلامية (243) عن إسحاق بن راهويه. وحكى نحوه عن الإمام أحمد في مدارج السالكين (3/ 359). وانظر قوله في إبطال التأويلات للقاضي أبي يعلى (1/ 43، 45).

(2/729)


الصفة والصفة من الفرق كما بين الموصوف والموصوف (1) = فأيُّ تمثيلٍ هاهنا وأيُّ تشبيهٍ، لولا تلبيسُ الملحدين؟ فمدارُ الحقِّ الذي اتفقت عليه الرسل على أن يوصفَ اللهُ بما وصَف به نفسَه، وبما وصفه به رسلُه، من غير تحريفٍ ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل: إثباتُ الصفات ونفيُ مشابهة المخلوقات. فمن شبَّهَ اللهَ بخلقه فقد كفر، ومن جحد حقائق ما وصف الله به نفسَه فقد كفر. ومن أثبتَ له حقائق الأسماء والصفات ونفَى عنه مشابهةَ المخلوقات، فقد هُدِيَ [175 أ] إلى صراطٍ مستقيم. فصل والفرق بين تجريد التوحيد وبين هضم أرباب المراتب: أنَّ تجريد التوحيد أن لا يُعطى المخلوقُ شيئًا من حقِّ الخالق وخصائصه، فلا يُعبد، ولا يُصلَّى له ويُسجَد، ولا يُحلَف باسمه، ولا يُنذَر له، ولا يُتوكل عليه، ولا يُؤلَّه، ولا يُقسَم به على الله، ولا يُعبَد ليقرِّب إلى الله زلفى. ولا يُساوَى بربِّ العالمين في قول القائل: ما شاء الله وشئت، وهذا منك ومن الله، وأنا بالله وبك، وأنا متوكِّل على الله وعليك، واللهُ لي في السماء وأنت في الأرض، وهذا من صدقاتك وصدقات الله، وأنا تائب إلى الله وإليك، وأنا في حسبِ الله وحسبِك؛ فيسجدَ للمخلوق كما يسجد المشركون لشيوخهم، يحلقَ رأسه له، ويحلفَ باسمه، وينذَر له، ويسجدَ لقبره بعد موته، ويستغيثَ به في حوائجه ومهمَّاته، ويُرضيَه بسخط الله، ولا يُسخطَه في رضا الله، ويتقرَّبَ إليه أعظم مما يتقرَّب إلى الله، ويحبَّه ويخافَه ويرجوه أكثرَ مما يُحبُّ اللهَ _________ (1) (ق): «والواصف»، وهو خطأ.

(2/730)


ويخافه ويرجوه، أو يساويه به (1). فإذا هُضِم المخلوقُ خصائصَ الربوبية وأُنزِلَ (2) منزلةَ العبد المحض الذي لا يملك لنفسه ــ فضلًا عن غيره ــ ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا لم يكن هذا تنقُّصًا له، ولا حطًّا من مرتبته، ولو زعم المشركون. وقد صحَّ عن سيِّد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: «لا تُطروني كما أطرتِ النصارى ابنَ مريم، فإنما أنا عبد الله (3)، فقولوا: عبد الله ورسوله» (4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أيها الناس، ما أُحِبُّ أن ترفعوني فوق منزلتي» (5). وقال: «لا تتَّخِذوا قبري عيدًا» (6). وقال: «اللهمَّ لا تجعل قبري وثنًا يُعبد» (7). _________ (1) ساقط من (ط)، وكذا من أكثر النسخ المطبوعة. (2) في (ن) غيَّره بعضهم إلى «وأنزله». وكذا في النسخ المطبوعة. (3) (ب، ج، غ): «عبد». (4) أخرجه البخاري (3445) من حديث عمر. (5) أخرجه الإمام أحمد (12551). ومن طريقه الضياء في المختارة (1627)، والنسائي في الكبرى (10077، 10078) من حديث أنس رضي الله عنه. وإسناده صحيح. (قالمي). (6) أخرجه أبو داود (2042)، والإمام أحمد (8804) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وحسَّنه الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار. كما في الفتوحات الربانية (3/ 313). (قالمي). (7) أخرجه الإمام مالك في الموطأ (1/ 172) ــ ومن طريقه ابن سعد في الطبقات (2/ 240 ــ 241) ــ عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار مرسلًا، وزاد: «اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ورجاله ثقات .. وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه الإمام أحمد (7358)، والحميدي (1025)، والبزار (9087)، وأبو يعلى (6681) بمثله دون قوله: «يعبد» وإسناده حسن. وأمَّا الشطر الثاني من الحديث فهو ثابت في الصحيحين وغيرهما. (قالمي).

(2/731)


وقال: «لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد» (1). وقال له رجلٌ: ما شاء الله وشئتَ، فقال: «أجعلتني لله نِدًّا؟» (2). وقال له رجلٌ قد أذنب: اللهمَّ إني أتوب إليك، ولا أتوب إلى محمد. فقال: «عرف الحقَّ لأهله» (3). _________ (1) طرف من حديث أخرجه الإمام أحمد (20694)، وابن ماجه (2118)، والدارمي (2699)، والطبراني في الكبير (8214، 8215)، وأبو يعلى (4655)، والحاكم (3/ 462، 463) من طرق عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حراش، عن طُفيل بن سخبرة أخي عائشة لأمها. وفيه قصة. قال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/ 152): «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات على شرط مسلم». (قالمي). (2) أخرجه الإمام أحمد (1839)، والنسائي في الكبرى (10825) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. ولفظه عند أحمد: «أجعلتني والله عِدْلًا»، وعند النسائي: «لله عدلًا». وإسناده حسن؛ لأجل الأجلح بن عبد الله الكنديّ وهو صدوق كما في التقريب. (قالمي). (3) أخرجه أحمد (15587)، والطبراني في المعجم الكبير (839)، والحاكم (4/ 255) من طريق محمد بن مصعب القرقساني، حدثنا سلام بن مسكين والمبارك بن فضالة، عن الحسن، عن الأسود بن سريع، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى بأسير، فقال (فذكره). قال الحاكم: «صحيح الإسناد» فتعقبه الذهبي بقوله: «ابن مصعب ضعيف». وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 199) لأحمد والطبراني وقال: «وفيه محمد بن مصعب؛ وثقه أحمد وضعّفه غيره، وبقية رجاله رجال الصحيح». قلت: وثّمة علّة أخرى وهي الانقطاع؛ فإن الحسن وهو البصري لم يسمع من الأسود بن سريع، صرَّح بذلك يحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأبو داود، والبزار وغيرهم. انظر: التابعون الثقات المتكلم في سماعهم من الصحابة للدكتور مبارك الهاجري (1/ 194) وما بعدها. والله تعالى أعلم. (قالمي).

(2/732)


وقد قال الله له: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]. وقال: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154]. وقال: {قُلْ لَا أَمْلِكُ [175 ب] لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [يونس: 49]. وقال: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الجن: 21 - 22] أي: لن أجد من دونه من ألتجئ إليه وأعتمد عليه. وقال لابنته فاطمة وعمِّه العباس وعمَّته صفية: «لا أملك لكم من الله شيئًا» (1). وفي لفظ في الصحيح: «لا أغني عنكم من الله شيئًا» (2). فعظُم ذلك على المشركين بشيوخهم وآلهتهم، وأبوا ذلك كلَّه وادَّعوا لشيوخهم ومعبوديهم (3) خلافَ هذا كلِّه، وزعموا أنَّ من سلبهم ذلك فقد هضَمهم مراتبَهم وتنقَّصَهم. وقد هضموا جانبَ الإلهية غايةَ الهضم، _________ (1) أخرجه مسلم (205) عن عائشة. (2) أخرجه البخاري (2753) ومسلم (206) من حديث أبي هريرة. (3) (أ، غ، ق، ن): «معبودهم».

(2/733)


وتنقَّصوه، فلهم نصيبٌ وافر من قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45]. فصل والفرق بين تجريد متابعة المعصوم وإهدار أقوال العلماء وإلغائها: أنَّ تجريد المتابعة أن لا تُقدِّم على ما جاء به قولَ أحدٍ ولا رأيَه كائنًا من كان، بل تنظر في صحة الحديث أولًا، فإذا صحَّ لك نظرتَ في معناه ثانيًا، فإذا تبيَّن لكَ لم تعدِلْ عنه، ولو خالفك مَن بين المشرق والمغرب. ومعاذَ الله أن تتفق الأمة على مخالفة ما جاء به نبيُّها، بل لابدَّ أن يكون في الأمة من قال به، ولو لم تعلمه. فلا تجعل جهلَك بالقائل به حجةً على الله ورسوله، بل اذهب إلى النصِّ ولا تضعُفْ، واعلم أنه قد قال به قائلٌ قطعًا ولكن لم يصِلْ إليك. هذا مع حفظ مراتب العلماء، وموالاتهم، واعتقاد حرمتهم وأمانتهم (1) واجتهادهم في حفظ الدين وضبطه، فهم دائرون بين الأجر والأجرَين والمغفرة. ولكن لا يُوجب هذا إهدارَ النصوص وتقديمَ قول الواحد منهم عليها لشبهة أنه أعلم بها منكَ. فإن كان كذلك فمَن ذهب إلى النصِّ أعلمُ به منك أيضًا، فهلَّا وافقتَه إن كنت صادقًا! فمن عرض أقوال العلماء على النصوص، ووزنها بها، وخالف منها ما خالف النصَّ= لم يُهدِر أقوالهم، ولم يهضم جانبهم، بل اقتدى بهم، فإنهم كلهم أمَروا بذلك. فمتَّبعُهم حقًّا مَن امتثل ما [176 أ] أوصَوا به، لا مَن _________ (1) (ب، ج، غ): «إمامتهم».

(2/734)


خالفهم. فخلافُهم في القول الذي جاء النص بخلافه أسهلُ من مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أمَروا ودعَوا إليها من تقديم النصِّ على أقوالهم. ومن هنا يتبيَّن الفرق بين تقليد العالم في كلِّ ما قال، وبين الاستعانة بفهمه والاستضاءة بنور علمه. فالأول يأخذ قولَه من غير نظرٍ فيه ولا طلبٍ لدليله من الكتاب والسنة، بل يجعل ذلك كالحبل الذي يلقيه في عنقه يقلِّده به، ولذلك سُمِّي تقليدًا (1)؛ بخلاف مَن استعان بفهمه واستضاء بنور علمه في الوصول إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فإنه يجعلهم بمنزلة الدليل إلى الدليل الأول، فإذا وصل إليه استغنى بدلالته عن الاستدلال بغيره. فمن استدلَّ بالنجم على القبلة، فإنه إذا شاهدها لم يبقَ لاستدلاله بالنجم معنى! قال الشافعي: أجمع الناسُ على أنَّ من استبانت له سنةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدَعَها لقول أحد (2). فصل والفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: أنَّ أولياء الرحمن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، هم الذين آمنوا وكانوا يتقون. وهم المذكورون في _________ (1) «ومن هنا يتبين ... تقليدًا» ساقط من (ط). وفي (ن) بعد «تقليدًا» زيادة: كما قال: وما الفرق في التقليد بين بهيمة ... متى ما تُقَدْ تنقَدْ وبين المقلِّد (2) بهذا اللفظ ذكره المصنف في إعلام الموقعين (2/ 282) ومدارج السالكين (2/ 335) والرسالة التبوكية (40). وكذا نقله الفلاني في إيقاظ الهمم (58) ولعل مصدره كتب ابن القيم. وقال الشافعي في الأم (7/ 259): «ولا يجوز لعالمٍ أن يدع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لقول أحدٍ سواه». ونحوه في (1/ 151). وانظر رسالته (330).

(2/735)


أول سورة البقرة إلى قوله: {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [2 ــ 5]، وفي وسطها في قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [177]، وفي أول الأنفال إلى قوله: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [1 - 4]، وفي أول سورة المؤمنين إلى قوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [1 ــ 11]، وفي آخر سورة الفرقان، وفي قوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} إلى آخر الآية [الأحزاب: 35]، وفي قوله: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62 - 63]، وفي قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52]، وفي قوله: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} إلى قوله: {فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج: 22 ــ 35]، وفي قوله: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ} إلى آخر الآية [التوبة: 112]. فأولياء الرحمن هم: المخلصون لربِّهم، المحكِّمون لرسوله في الدِّقِّ والجِلِّ (1)، الذين يخالفون غيرَه لسنَّته، ولا يخالفون سنَّتَه لغيرها. فلا يبتدعون، ولا يدعون إلى بدعة، ولا يتحيَّزون إلى فئةٍ غير الله ورسوله وأصحابه، ولا يتخذون دينهم لهوًا ولعبًا، ولا يستحبُّون سماع الشيطان على _________ (1) يعني: الدقيق والجليل. وفي الأصل: «الفرق والحل». وكذا في (ق، غ، ط). وفيه تحريف وتصحيف. وحاول النسَّاخ والناشرون تصحيحه، فأثبت ناسخ (ن): «الفرق والدين»، ولا معنى له. وفي (ز): «الحل والعقد». وفي النسخ المطبوعة: «الحرَم والحِلّ». والصواب ما أثبتنا من (ب، ج).

(2/736)


سماع القرآن، ولا يؤثرون صحبة الأنْتَان (1) على مرضاة الرحمن، ولا المعازف والمثاني على السبع المثاني (2). برئنا إلى الله مِن معشَرٍ ... بهم مرَضٌ مُورِدٌ لِلضَّنَى وكم قلتُ يا قومُ أنتم على ... شَفا جُرُفٍ من سماع الغِنا فلما استهانوا بتنبيهنا ... تركنا غويًّا وما قد جَنى وهل يستجيبُ لداعي الهدَى ... غويٌّ أصارَ الغنا دَيدَنا (3) فعِشنا على مِلَّة المصطفَى ... وماتوا على تاننا تنتنا (4) _________ (1) الكلمة مهملة في الأصل وكذا في (ق). وفي (غ، ط، ز): «الإنسان»، وفي (ج): «الاتيان». وفي النسخ المطبوعة: «الأفتان». وفي بعض النسخ الخطية: «الأشرار» كما ذكر الأستاذ العموش وأثبته الأستاذ بديوي. وهو تصحيح بعيد. وفي (ن): «الصبيان»، وهو صحيح في المعنى، ولكن الصواب ما أثبتناه من (ب) وحدها. والمراد: صحبة الأحداث والمردان. قال الذهبي في الكبائر (55): «وأقاويل السلف في التنفير منهم ــ يعني المردان ــ والتحذير من رؤيتهم أكثر من أن تُحصر، وسمَّوهم «الأنتان» لأنهم مستقذَرون شرعًا». ومنه قول أبي بكر الواسطي: «إذا أراد الله هوانَ عبد ألقاه إلى الأنتان والجيَف». قال القشيري: يريد به صحبة الأحداث. الرسالة القشيرية (1/ 108). (2) في (ن): «القرآن والسبع المثاني». وفي (ز) زاد بعد كلمة «المعازف»: «والمثالث». (3) (ط، ج): «أصاب الغنا»، تصحيف. (4) (ط، ج، ز، ن): «سنة المصطفى». وفي الشطر الثاني في (ن): «على تاتنا». وفي (ط): «على تنتنا». وهي ستة أبيات في إغاثة اللهفان (410) نسبها إلى آخر، وأظنه قصد نفسه. وهي أربعة في مسألة السماع له (66)، وهنا خمسة كما ترى، فهي مختلفة في عددها وألفاظها أيضًا. وقد أنشد أبو نصر القشيري أربعة أبيات في ذمِّ الفلسفة هي: برئنا إلى الله من معشر ... بهم مرض من كتاب الشِّفا وكم قلت يا قوم أنتم على ... شَفا جُرُفٍ من كتاب الشِّفا فلما استهانوا بتنبيهنا ... رجعنا إلى الله حتى كفَى فماتوا على دين رسطالسٍ ... وعشنا على ملّة المصطفى انظر: النبوات (392) ومجموع الفتاوى (9/ 253)، والرد على المنطقيين (511) وقائلها فيه: «ابن العربي» وهو تحريف. وقد تصرَّف ابن القيم في هذه الأبيات وصرفها إلى الرد على أصحاب السماع.

(2/737)


ولا يشتبه أولياء الرحمن بأولياء الشيطان إلا على فاقد البصيرة والإيمان. وأنَّى (1) يكون المُعرِضون عن كتابه وهدي رسوله وسُنَّته المخالفون له إلى غيره أولياءَه، وقد ضربوا لمخالفته (2) جأشًا، وعدلوا عن هدي نبيه وطريقته؟ {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34]. فأولياء الرحمن: المتلبِّسون بما يُحبُّه وليُّهم، الداعون إليه، المحاربون لمن خرج عنه. وأولياء الشيطان: المتلبِّسون بما يُحبُّه وليُّهم قولًا وعملًا، يدعون إليه، ويحاربون من نهاهم عنه. فإذا رأيت الرجل يحب السماعَ الشيطاني ومؤذنَ الشيطان وإخوانَ الشياطين، ويدعو إلى ما يحبه الشيطان من الشرك والبدع والفجور= علمتَ أنه من أوليائه. فإن اشتبه عليك، فاكشِفْه في ثلاثة مواطن: في صلاته، _________ (1) في الأصل وغيره: «وأن»، فزاد ناسخ (ز): «وحاشى الله أن». والصواب ما أثبتنا من النسخ المطبوعة. (2) في الأصل: «لمخالفيه».

(2/738)


ومحبته للسنة وأهلها وتقرُّبه منهم (1)، ودعوته إلى الله ورسوله وتجريدِ التوحيد والمتابعة وتحكيمِ السنَّة. فزِنْه بذلك، لا تزِنْه بحالٍ ولا كشفٍ ولا خارقٍ [177 أ]، ولو مشى على الماء وطار في الهواء! فصل وبهذا يُعلَم الفرق بين الحال الإيماني والحال الشيطاني. فإنَّ الحال الإيماني ثمرة المتابعة للرسول، والإخلاص في العمل، وتجريدِ (2) التوحيد. ونتيجتُه (3) منفعةُ المسلمين في دينهم ودنياهم. وهو إنما يصح بالاستقامة على السُّنَّة والوقوف مع الأمر والنهي. والحال الشيطاني يسبِّبه (4) إما شرك أو فجور. وهو ينشأ من قرب الشياطين والاتصال بهم ومشابهتهم. وهذا الحال يكون لِعُبَّاد الأصنام والصُّلبان والنِّيران والشيطان. فإنَّ صاحبه لمَّا عبد الشيطان خلع عليه حالًا يصطاد به ضعفاءَ العقول والإيمان. ولا إله إلا الله، كم هلك بهؤلاء من الخلق {لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 137]! فكلُّ حالٍ خرج صاحبُه عن حكم الكتاب وما جاء به الرسول، فهو _________ (1) في الأصل: «عنهم»، ومن ثم قرأ النسَّاخ والناشرون: «ونفرته عنهم». والصواب ما أثبتنا من (ط) وحدها. (2) (ق): «وتجريده». (3) (أ، ق): «ونتيجة». وفي (ط): «ونتيجة شفقته للمسلمين». (4) الكلمة في الأصل مهملة وأولها حرف اللام. وفي (ق) والنسخ المطبوعة: «نسبته». وفي (غ): «بسببه». وفي (ب): «سنته». وفي حاشية (ج) بخط متأخر: «سببه»، وهي ساقطة منها.

(2/739)


شيطاني، كائنًا ما كان. وقد سمعتُ بأحوال السحرة وعُبَّاد النار وعُبَّاد الصليب وكثيرٍ ممن ينتسب إلى الإسلام ظاهرًا، وهو بريء منه في الباطن، له نصيبٌ من هذا الحال بحسب موالاته للشيطان ومعاداته للرحمن. وقد يكون الرجل صادقًا، ولكن يكون ملبوسًا عليه بجهله (1)، فيكون حاله شيطانيًّا، مع زهدٍ وعبادةٍ وإخلاص، لكن لُبسَ عليه الأمرُ لقلة علمه بأمور الشياطين والملائكة وجهله بحقائق الإيمان. وقد حكى هؤلاء وهؤلاء (2) مَن ليس منهم، بل هو متشبِّهٌ صاحب مِحال (3) ومخاريق. ووقع الناس في البلاء بسبب عدم التمييز بين هؤلاء وهؤلاء، فحسبوا كلَّ سوداء تمرةً، وكل بيضاءَ شحمةً. والفرقان أعزُّ ما في هذا العالَم، وهو نورٌ يقذفه الله في القلب يفرِّق به بين الحق والباطل، ويزِنُ به حقائق الأمور، خيرَها وشرَّها، وصالحَها وفاسدَها، فمَن عدِمَ الفرقانَ وقع ولابدَّ في أشراك الشيطان، فالله المستعان وعليه التكلان. فصل والفرق بين الحكم المنزَّل الواجب الاتباع، والحكم المؤوَّل الذي غايته أن يكون جائز الاتباع: أنَّ الحكم المنزَّل: الذي (4) أنزله الله على رسوله _________ (1) (ب، ط، ز): «لجهله». (2) «وهؤلاء» ساقط من (ب). (3) في النسخ المطبوعة: «مخاييل»، تحريف. والمحال: المكر والحيلة. (4) ما عدا الأصل: «هو الذي».

(2/740)


وحكم به بين عباده، وهو حكمه الذي لا حكم له سواه. وأما الحكم المؤوَّل، فهو أقوال المجتهدين المختلفة التي لا يجب اتباعها ولا يكفر ولا يفسق مَن خالفها، فإنَّ أصحابها لم يقولوا: هذا حكم الله ورسوله، بل قالوا: اجتهدنا برأينا، فمن شاء قَبِله، ومن شاء لم يقبله؛ ولم يُلزِموا به الأمة. بل قال أبو حنيفة: هذا رأيي، فمن جاءنا بخيرٍ منه قَبِلناه (1). ولو كان هو عين حكم الله لما ساغ لأبي يوسف ومحمد وغيرهما مخالفته فيه. وكذلك مالكٌ استشاره الرشيد أن يحمل الناس على ما في الموطأ، فمنعه من ذلك، وقال: قد تفرَّق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البلاد، وصار عند كلِّ قومٍ علمٌ غيرُ ما عند الآخرين (2). وهذا الشافعيُّ ينهى أصحابه عن تقليده، ويوصيهم بترك قوله إذا جاء الحديث بخلافه (3). وهذا الإمام أحمد يُنكر على مَنْ كتب فتاويه ودوَّنها، ويقول: لا تُقلِّدني ولا تُقلِّد فلانًا ولا فلانًا، وخُذْ من حيث أخذوا (4). _________ (1) ذكر المصنف في إعلام الموقعين (1/ 75) أن أبا يوسف والحسن بن زياد كليهما رواه عن أبي حنيفة. وانظر: مجموع الفتاوى (20/ 211). (2) وكذا في إعلام الموقعين (2/ 382) ومجموع الفتاوى (30/ 79). والمشهور أن الذي أراد أن يحمل الناس على الموطأ وقال ذلك لمالك هو أبو جعفر المنصور. انظر: ترتيب المدارك (2/ 71 ــ 73). (3) انظر أول مختصر المزني، وقد نقل منه المصنف في إعلام الموقعين (2/ 200). وانظر: معرفة السنن للبيهقي (2/ 454). (4) إعلام الموقعين (2/ 201). وانظر: مجموع الفتاوى (6/ 215).

(2/741)


ولو علموا رضي الله عنهم أنَّ أقوالهم وحيٌ يجب اتباعه لحرَّموا على أصحابهم مخالفتَهم، ولمَا ساغ لأصحابهم أن يُفتوا بخلافهم في شيء، ولمَا كان أحدُهم يقول القول ثم يفتي بخلافه، فيُروى عنه في المسألة القولان والثلاثة وأكثر من ذلك. فالرأيُ والاجتهادُ أحسنُ أحواله أن يسوغ اتباعُه. والحكم المنزَّل لا يحِلُّ لمسلمٍ أن يُخالفه ولا يخرج عنه. وأما الحكم المبدَّلُ، وهو الحكم بغير ما أنزل الله، فلا يحِلُّ تنفيذُه، ولا العملُ به، ولا يسوغ اتِّباعُه، وصاحبُه بين الكفر والفسوق والظلم. * * * * والمقصود: التنبيه على بعض أحوال النفس المطمئنة واللوَّامة والأمَّارة، وما تشترك فيه النفوس الثلاثة، وما يتميَّز به بعضُها من بعضٍ؛ وأفعالِ كلِّ واحدةٍ منها واختلافها ومقاصدها ونياتها. وفي ذلك تنبيهٌ [178 أ] على ما وراءَه. وهي نفسٌ واحدةٌ تكون أمَّارةً تارةً، ولوَّامةً أخرى، ومطمئنةً أخرى. وأكثر الناس الغالب عليهم الأمَّارة. وأما المطمئنة فهي أقلُّ النفوس البشرية عددًا، وأعظمُها عند الله قدْرًا. وهي التي يقال لها: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 28 ــ 30]. والله سبحانه المسؤول المرجوُّ الإجابة، أن يجعل نفوسَنا مطمئنةً إليه، عاكفةً بهِمَّتها عليه، راهبةً (1) منه، راغبةً فيما لديه، وأن يُعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن لا يجعلنا ممن أغفل قلبه عن ذكره، واتَّبع هواه، _________ (1) (ب، ج): «راضية».

(2/742)


وكان أمره فُرطًا؛ ولا يجعلنا من الأخسرين {أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104]. إنه سميعُ الدعاء، وأهلُ الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(2/743)


 ثبت المصادر والمراجع

- الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة، لعبد الحي اللكنوي، تحقيق محمد السعيد زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405 هـ. - الآحاد والمثاني، لابن أبي عاصم، تحقيق باسم فيصل الجوابرة، دار الراية، الرياض، 1411 هـ. - الآيات البينات في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات، لنعمان الآلوسي، تحقيق الألباني، الطبعة الرابعة، المكتب الإسلامي، بيروت. وطبعة مكتبة المعارف، الرياض، 1425. - الإبانة عن أصول الديانة، للأشعري، تحقيق فوقية حسين محمود، دار الأنصار، القاهرة، 1397. - إبطال التأويلات لأخبار الصفات، لأبي يعلى، تحقيق أبي عبد الله محمد بن حمد النجدي، دار إيلاف الدولية، الكويت. - ابن قيم الجوزية- حياته، آثاره، موارده؛ تأليف بكر بن عبد الله أبو زيد، دار العاصمة، الرياض، 1423. - إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة، لابن حجر العسقلاني، تحقيق جماعة من الباحثين، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، 1415 هـ. - إتحاف الخيرة المهرة، للبوصيري، دار الوطن للنشر، الرياض. - إثبات عذاب القبر، للبيهقي، تحقيق شرف محمود القضاة، دار الفرقان، الأردن، 1403. - اجتماع الجيوش الإسلامية، لابن القيم، تحقيق زائد بن أحمد النشيري، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1431.

(2/837)


- الأحاديث الطوال للطبراني (آخر المعجم الكبير) = المعجم الكبير. - الأحاديث المختارة (المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما)، لضياء الدين المقدسي، تحقيق عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، 1410 هـ. - أحكام الجنائز وبدعها، للألباني، مكتبة المعارف، الرياض، 1412 هـ. - الأحكام الشرعية الصغرى، لعبد الحق الإشبيلي، تحقيق أم محمد بنت أحمد الهليس، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 1413. - الأحكام الشرعية الوسطى، لعبد الحق الإشبيلي، تحقيق حمدي السلفي وصبحي السامرائي، مكتبة الرشد، الرياض، 1416. - إحياء علوم الدين، للغزالي، دار المعرفة، بيروت. - أخبار أصبهان، لأبي نعيم الأصبهاني، دار الكتاب الإسلامي، بيروت. - أخبار مكة، للفاكهي، تحقيق عبد الله بن عبد الملك دهيش، دار خضر، بيروت، 1414. - الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية، لابن قتيبة، تحقيق عمر بن محمود، دار الراية، الرياض، 1412. وطبعة دار الكتب العلمية، بيروت، 1405. - الاختيارات الفقهية، لابن اللحام، دار المعرفة، بيروت، 1397. - الإخلاص والنية= موسوعة ابن أبي الدنيا. - أدب الدنيا والدين، للماوردي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407. - الأدب المفرد، للبخاري، مكتبة المعارف، الرياض، 1419. - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، 1405 هـ. - أساس البلاغة، للزمخشري، دار المعرفة، بيروت.

(2/838)


- الأسامي والكنى، لأبي أحمد الحاكم، تحقيق يوسف بن محمد الدخيل، دار الغرباء الأثرية، المدينة المنورة، 1414. - الاستذكار، لابن عبد البر، تحقيق عبد المعطي أمين قلعجي، القاهرة، 1413. - الاستيعاب، لابن عبد البر، تحقيق علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، 1412. - أُسْد الغابة في معرفة الصّحابة، لابن الأثير الجزري، دار الفكر، بيروت، 1409 هـ. - الأسماء والصفات، للبيهقي، تحقيق عبد الله بن محمد الحاشدي، مكتبة السوادي، جدة، 1412. - الأشباه والنظائر، للخالديين، تحقيق السيد محمد يوسف، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1958 - 1965. - الإصابة، لابن حجر، تحقيق البجاوي، دار الجيل، بيروت، 1412. - إصلاح المنطق، لابن السكيت، تحقيق أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون، دار المعارف، القاهرة، 9187 م. - الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد، للبيهقي، تحقيق أحمد عصام الكاتب، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1401 هـ. - اعتلال القلوب، للخرائطي، تحقيق حمدي الدمرداش، مكتبة نزار مصطفى باز، مكة المكرمة، 1420. - إعلام الموقعين، لابن القيم، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل، بيروت، 1973 م. - الأعلام، للزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة السادسة، 1984 م. - أعيان العصر وأعوان النصر، للصفدي، تحقيق مجموعة باحثين، دار الفكر، دمشق، 1418.

(2/839)


- إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان، لابن القيم، نشرة محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت، 1395. - الأغاني، لأبي الفرج الأصبهاني، دار الثقافة، بيروت، 1401. - اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية، تحقيق ناصر بن عبد الكريم العقل، دار عالم الكتب، الرياض، ط 7، 1419. - الإقناع في القراءات السبع، لابن الباذش، تحقيق عبد المجيد قطامش، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1403. - إكمال المعلم، للقاضي عياض، تحقيق يحيى إسماعيل، دار الوفاء، المنصورة، 1419. - الإكمال، لابن ماكولا، تحقيق عبد الرحمن المعلمي، دائرة المعارف العثمانية، حيدراباد الدكن، تصوير دار الكتاب الإسلامي، القاهرة. - الأم، للإمام الشافعي، دار المعرفة، بيروت، 1393. - أمالي ابن بشران، تحقيق أحمد بن سليمان، دار الوطن، الرياض، 1420. - الإمتاع بالأربعين المتباينة السماع (ويليه أسئلة والجواب عليها)، لابن حجر، دار الكتب العلمية، بيروت، 1418 هـ. - الأمثال في الحديث، لأبي الشيخ الأصبهاني، تحقيق عبد العلي عبد الحميد، الدار السلفية، الهند، 1402 هـ. - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للخلال، دار الكتب العلمية بيروت، 1424. - أنساب الأشراف، للبلاذري، تحقيق سهيل زكار ورياض زركلي، دار الفكر، بيروت، 1417. - الأنساب، للسمعاني، دار الجنان، بيروت، 1408.

(2/840)


- أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور، لابن رجب الحنبلي، دار الكتاب العربي، بيروت،1429. وبتحقيق إياد بن عبد اللطيف القيسي، بيت الأفكار الدولية، لبنان، 2004 م. - إيقاظ همم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار، لصالح الفلاني، دار المعرفة، بيروت، 1398. - الإيماء إلى أطراف أحاديث كتاب الموطأ، لأبي العباس الدّاني، تحقيق رضا بوشامة، وعبد الباري عبد الحميد، مكتبة المعارف، الرياض، 1424 هـ. - الإيمان، لابن منده، تحقيق علي بن ناصر فقيهي، المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة النبوية. - البحور الزاخرة في أحوال الآخرة، لشمس الدين السفاريني، تحقيق محمد إبراهيم شلبي شومان، غراس للنشر والتوزيع، الكويت، 1428. - بدائع الصنائع، للكاساني، دار الكتاب العربي، بيروت،1402. - بدائع الفوائد، لابن القيم، تحقيق علي بن محمد العمران، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، ط 2، 1427. - البداية والنهاية، لابن كثير، نشرة عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر، القاهرة، 1471. - البدر الطالع، للشوكاني، مكتبة ابن تيمية، القاهرة. - البدر المنير، لابن الملقن، تحقيق جماعة من الباحثين، دار الهجرة، الرياض، 1425. - البديع، لأسامة بن منقذ، تحقيق أحمد بدوي وحامد عبد المجيد، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، القاهرة،1960 م. - بشرى الكئيبب بلقاء الحبيب، للأمير الصنعاني، في ذيل جمع الشتيت له، مكتبة دار الإيمان، المدينة المنورة، 1404.

(2/841)


- البعث والنشور، للبيهقي، تحقيق عامر أحمد حيدر، مركز الخدمات والأبحاث الثقافية، بيروت، 1406. - بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث، للهيثمي، تحقيق حسين أحمد صالح الباكري، المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، 1413 هـ. - بغية الوعاة، للسيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، بيروت. - بيان الوهم والإيهام، لابن القطان، تحقيق الحسين آيت سعيد، دار طيبة، الرياض، 1418. - البيان والتبين، للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1405. - التابعون الثقات المتكلم في سماعهم من الصحابة، تأليف مبارك الهاجري، مكتبة ابن القيم، الكويت، 1425 هـ. - تاج العروس، للسيد مرتضى الزبيدي، طبعة حكومة الكويت. - تاريخ ابن أبي خيثمة، تحقيق صلاح بن فتحي هلل، الفاروق الحديثة للطباعة والنشر، القاهرة، 1424. - تاريخ الطبري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، 1979 م. - التاريخ الكبير، للبخاري، تحقيق السيد هاشم الندوي، دائرة المعارف العثمانية، حيدراباد الدكن. - تاريخ بغداد، للخطيب، دار الكتب العلمية، بيروت. - تاريخ جرجان، للسهمي، دائرة المعارف العثمانية، حيدراباد الدكن، 1369. - تاريخ دمشق، لابن عساكر، تحقيق علي شيري، دار الفكر، بيروت. - تاريخ علماء الأندلس، لابن الفرضي، تحقيق بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، تونس، 1429.

(2/842)


- تاريخ مدينة السلام، للخطيب البغدادي، تحقيق بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1422. - تاريخ واسط، لبحشل الواسطي، تحقيق كوركيس عواد، عالم الكتب، بيروت، 1406 هـ. - تاريخ يحيى بن معين برواية الدوري، تحقيق أحمد محمد نور سيف، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، مكة المكرمة، 1399. - تأنيس الغريب، للصنعاني، في ذيل جمع الشتيت له، دار مكتبة الإيمان، المدينة المنورة، 1404. - تبصير المنتبه، لابن حجر، تحقيق علي محمد البجاوي، المكتبة العلمية، بيروت. - التبيان في إعراب القرآن، للعكبري، تحقيق علي محمد البجاوي، عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1396. - التبيان في أيمان القرآن، لابن القيم، تحقيق عبد الله بن سالم البطاطي، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1429. - تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف، للحافظ المزي، وبهامشه: النكت الظراف على الأطراف، للحافظ ابن حجر العسقلاني، تحقيق عبد الصمد شرف الدين، الدار القيمة، الهند، 1402 هـ. - تحفة المودود في أحكام المولود، لابن القيم، تحقيق عبد القادر الأرنؤوط، مكتبة دار البيان، دمشق، 1391. - التذكرة بأحوال الموت والآخرة، لأبي عبد الله القرطبي، تحقيق الصادق بن محمد بن إبراهيم، مكتبة دار المنهاج، الرياض، 1425. - تذكرة الحفاظ، للذهبي، طبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدراباد الدكن، تصوير دار إحياء التراث العربي، بيروت. - تذكرة داود الأنطاكي، مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1952 م.

(2/843)


- ترتيب المدارك، للقاضي عياض، الجزء الثاني، تحقيق عبد القادر الصحراوي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط. - الترغيب في فضائل الأعمال، لابن شاهين، تحقيق صالح الوعيل، دار ابن الجوزي، الدمام، 1410 هـ. - الترغيب والترهيب، لأبي القاسم الأصبهاني قوام السنة، تحقيق أيمن صالح شعبان، دار الحديث، القاهرة، 1414 هـ. - الترغيب والترهيب، للحافظ المنذري، تحقيق أيمن صالح، دار الحديث، القاهرة، 1415 هـ. - تسلية أهل المصائب، لأبي عبد الله المنبجي الحنبلي، مكتبة دار البيان، دمشق، 1415. - تسمية من روي عنه من أولاد العشرة لعلي المديني= الرواة من الإخوة والأخوات. - التعازي والمراثي، للمبرد، تحقيق محمد الديباجي، مجمع اللغة العربية بدمشق، 1396. - تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة، للحافظ ابن حجر، تحقيق إكرام الله إمداد الحق، دار البشائر الإسلامية، بيروت، 1416 هـ. - تعظيم قدر الصلاة، لمحمد بن نصر المروزي، تحقيق عبد الرحمن بن عبد الجبّار الفريوائي، مكتبة الدّار، المدينة المنورة، 1406 هـ. - تفسير ابن أبي حاتم، المكتبة العصرية، صيدا. - تفسير ابن كثير، تحقيق سامي محمد سلامة، دار طيبة، الرياض، 1420. - تفسير ابن المنذر، تحقيق سعد بن محمد السعد، دار المآثر، المدينة المنورة، 1422.

(2/844)


- التفسير البسيط، للواحدي، تحقيق جماعة من الباحثين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1430. - تفسير البغوي، تحقيق جماعة من الباحثين، دار طيبة، الرياض،1427. - تفسير الخازن، دار الفكر، بيروت، 1399. - تفسير الطبري، تحقيق محمود شاكر، دار المعارف، القاهرة. ونشرة عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر، جيزة، 1422. - تفسير الفخر الرازي، دار الفكر، بيروت، 1405. - تفسير المنار، للسيد رشيد رضا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990 م. - تفسير عبد الرزّاق الصنعاني، تحقيق مصطفى مسلم محمد، مكتبة الرشد الرياض، 1410 هـ. - تقريب التهذيب، لابن حجر، تحقيق محمد عوامة، دار الرشيد، حلب، 1412. وبتحقيق أبي الأشبال صغير أحمد، دار العاصمة، الرياض، 1416 هـ. - تكملة المعاجم العربية، لدوزي، ترجمة محمد سليم النعيمي، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1980 م. - التكملة والذيل والصلة، للزبيدي، تحقيق مصطفى حجازي، مجمع اللغة العربية، القاهرة، 1406. - تلخيص كتاب الاستغاثة لابن تيمية، لابن كثير، تحقيق محمد علي عجال، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة المنورة، 1417. - التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، للحافظ ابن حجر العسقلاني، بعناية: السيد عبد الله هاشم اليماني، المدينة النبوية، 1384 هـ. - التلقين، للقاضي عبد الوهاب، دار الكتب العلمية، بيروت،1425.

(2/845)


- التمثيل والمحاضرة، للثعالبي، تحقيق عبد الفتاح الحلو، الدار العربية للكتاب،1983 م. - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لابن عبد البرّ، إعداد سعيد أحمد أعراب، مكتبة ابن تيمية، 1412 هـ. - التنبيه والإيضاح عما وقع في الصحاح، لابن بري، الجزء الثاني، تحقيق عبد العليم الطحاوي، مجمع اللغة العربية، القاهرة، 1981 م. - التهجد= موسوعة ابن أبي الدنيا. - تهذيب الآثار، للطبري، مسند عمر بن الخطاب، تحقيق محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة. - تهذيب التهذيب، لابن حجر، دائرة المعارف العثمانية، حيدراباد الدكن، تصوير دار الكتاب الإسلامي، القاهرة. - التوحيد وإثبات صفات الرّب عزّ وجلّ لابن خزيمة، تحقيق عبد العزيز بن إبراهيم الشهوان، مكتبة الرشد، الرياض، 1414 هـ. - تهذيب السنن، لابن القيم، تحقيق إسماعيل بن غازي مرحبا، مكتبة المعارف، الرياض، 1428. وبتحقيق أحمد محمّد شاكر، ومحمد حامد الفقي، المكتبة الأثرية، باكستان، 1399 هـ، (بذيل مختصر سنن أبي داود للمنذري). - تهذيب الكمال، للمزي، تحقيق بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1400. - تهذيب اللغة، للأزهري، تحقيق جماعة من الباحثين، الدار المصرية، القاهرة،1964 - 1967. - توضيح المشتبه، لابن ناصر الدين، تحقيق محمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت،1414. - التوكل على الله= موسوعة ابن أبي الدنيا.

(2/846)


- الثبات عند الممات، لابن الجوزي، تحقيق عبد الله الليثي الإنصاري، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1406. - الثقات، لابن حبان، تحقيق: عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، مصورة دار الفكر، بيروت عن طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد بالهند، 1399 هـ. - جامع الترمذي، (ج 1،2) بتحقيق أحمد محمد شاكر. و (ج 3) بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، و (ج 4،5) بتحقيق كمال يوسف الحوت، دار الكتب العلمية بيروت، 1408 هـ. - جامع الرسائل، لابن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، دار العطاء، الرياض، 1422. - جامع المسائل لابن تيمية، تحقيق محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة. - الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع محمد عزير شمس وعلي بن محمد العمران، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1422. - الجامع لمفردات الأدوية والأغذية، لابن البيطار، مطبعة بولاق، 1291. - جذوة المقتبس، للحميدي، الدار المصرية، القاهرة، 1966 م. - الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، دائرة المعارف العثمانية، حيدراباد الدكن. - الجعديات (حديث علي بن الجعد الجوهري)، لأبي القاسم البغوي، تحقيق رفعت فوزي عبد المطلب، نشر مكتبة الخانجي، القاهرة، 1415 هـ. - جلاء الأفهام، لابن القيم، تحقيق زائد بن أحمد النشيري، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1425. - جلاء العينين في محاكمة الأحمدين، لنعمان الآلوسي، مطبعة المدني، القاهرة، 1401.

(2/847)


- الجليس الصالح الكافي، للمعافى بن زكريا، تحقيق محمد مرسي الخولي، عالم الكتب، بيروت،1413. - جمع الشتيت في شرح أبيات التثبيت، للأمير الصنعاني، مكتبة دار الإيمان، المدينة المنورة، 1404. - جمهرة الأمثال، لأبي هلال العسكري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، وعبد المجيد قطامش، المؤسسة العربية الحديثة، القاهرة، 1384. - الجواب الصحيح، لابن تيمية، تحقيق جماعة من الباحثين، دار العاصمة، الرياض، 1419. - الجوع= موسوعة ابن أبي الدنيا. - الجهاد، لابن أبي عاصم، تحقيق مساعد الحميد، دار القلم، دمشق، 1409 هـ. - حادي الأرواح، لابن القيم، تحقيق زائد بن أحمد النشيري، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1428. - حاشية ابن عابدين، دار الفكر، بيروت، 1421. - الحاوي للفتاوي، للسيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1402. - الحبائك في أخبار الملائك، للسيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408. - الحجة في بيان المحجة، لأبي القاسم التيمي، تحقيق ربيع بن هادي المدخلي، دار الراية، الرياض، 1419. - حلية الأولياء، لأبي نعيم، دار الكتب العربي، بيروت، 1405. - حماسة أبي تمام، تحقيق عبد الله بن عبد الرحيم عسيلان، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1401. - الحماسة البصرية، تحقيق عادل سليمان جمال، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1420.

(2/848)


- الحيوان، للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، دار إحياء التراث العربي، بيروت. - خزانة الأدب، للبغدادي، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة. - الخصائص، لابن جني، تحقيق محمد علي النجار، عالم الكتب، بيروت، 1403، طبعة مصورة من طبعة دار الكتب. - الداء والدواء، لابن القيم، تحقيق محمد أجمل أيوب الإصلاحي، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة،1429. - درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض،1411. - الدر المصون، للسمين الحلبي، تحقيق أحمد الخراط، دار القلم، دمشق. - الدر المنثور، للسيوطي، نشرة عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر، مصر، 1424. - درة الغواص، للحريري، دار الجيل، بيروت، 1417. - الدرر السنية في الأجوبة النجدية، جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، 1425. - الدرر الكامنة، لابن حجر، دائرة المعارف العثمانية، حيدراباد الدكن. - الدّعاء، للطبراني، تحقيق محمد سعيد بن محمد حسن البخاري، دار البشائر الإسلامية، بيروت، 1407 هـ. - الدعوات الكبير، للبيهقي، تحقيق بدر البدر، غراس، الكويت، 1429 هـ. - دلائل النبوة، للبيهقي، تحقيق عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية ودار الريان للتراث، بيروت، 1408 - ديوان إبراهيم بن العباس الصولي، ضمن الطرائف الأدبية، تحقيق عبد العزيز الميمني، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1937 م.

(2/849)


- ديوان الأعشى الكبير، تحقيق محمود الرضواني، وزارة الثقافة والفنون والتراث، الدوحة، قطر، 2010 م. - ديوان الحطيئة، تحقيق نعمان أمين طه، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1407. - ديوان أوس بن حجر، تحقيق محمد يوسف نجم، دار صادر، بيروت، 1399. - ديوان جران العود النميري، تحقيق نوري حمودي القيسي، دار الرشيد، بغداد،1982. - ديوان دعبل بن علي الخزاعي، جمع وتحقيق محمد يوسف نجم، دار الثقافة، بيروت، 1409. - ديوان ذي الرمة، تحقيق عبد القدوس أبو صالح، مؤسسة الإيمان، بيروت، 1402. - ديوان أبي الفتح البستي، تحقيق درية الخطيب ولطفي الصقال، مجمع اللغة العربية بدمشق،1410. - ديوان المتنبي، بشرح الواحدي، نشرة فريدريخ ديتريصي، تصوير دار الكتاب الإسلامي، القاهرة. - ديوان النابغة الذبياني، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، 1977 م. - ذكر الموت= موسوعة ابن أبي الدنيا. - الذيل على طبقات الحنابلة، لابن رجب، تحقيق عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، مكتبة العبيكان، الرياض، 1425. - الرد على الجهمية، لابن منده، تحقيق علي بن محمد ناصر الفقيهي، 1412. - الرد على المنطقيين، لابن تيمية، دار المعرفة، بيروت. - الرسالة التبوكية، لابن القيم، تحقيق محمد عزير شمس، ضمن مجموع الرسائل، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1425.

(2/850)


- الرسالة القشيرية، تحقيق عبد الحليم محمود، ومحمود بن الشريف، دار المعارف، القاهرة، 1995 م. - رسالة في السعادة والحجج العشرة على أن النفس الإنسانية جوهر، لابن سينا، دائرة المعارف العثمانية، حيدراباد الدكن، 1353. - الرسالة، للإمام الشافعي، تحقيق أحمد محمد شاكر، مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1358. - رفع الإصر عن قضاة مصر، لابن حجر، تحقيق علي محمد عمر، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1418. - الرواة من الإخوة والأخوات، للإمامين علي بن المديني، وأبي داود السجستاني، تحقيق باسم فيصل الجوابرة، دار الراية، الرياض، 1408 هـ. - روضة المحبين، لابن القيم، تحقيق محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة،1431. - الرياض النضرة في مناقب العشرة، للمحب الطبري، تصحيح محمد بدر الدين النعساني، المطبعة الحسينية، القاهرة، 1327. - زاد المسير، لابن الجوزي، المكتب الإسلامي، بيروت، - زاد المعاد، لابن القيم، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت،،1407. - الزاهر في معاني كلمات الناس، لابن الأنباري، تحقيق، حاتم صالح الضامن، دار البشائر، دمشق، 1424. - الزهد، لابن المبارك، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية، بيروت. - الزهد، لأبي داود، تحقيق ياسر بن إبراهيم وغنيم بن عباس، دار المشكاة، حلوان، 1414.

(2/851)


- الزهد، للإمام أحمد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403. - الزهد، لهناد بن السري، تحقيق عبد الرحمن الفريوائي، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت، 1406. - زيادات المسند لعبد الله= مسند الإمام أحمد. - سبل السلام، للصنعاني، مكتبة المعارف، الرياض، 1427. - سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، للصالحي، تحقيق جماعة من الباحثين، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة. - السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة، لابن حميد النجدي، تحقيق بكر أبو زيد وعبد الرحمن العثيمين، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1416. - سر الروح، لبرهان الدين البقاعي، تصحيح محمد بدر الدين النعساني الحلبي، مطبعة السعادة، القاهرة، 1326. - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، للألباني، مكتبة المعارف، الرياض، 1417. - سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، 1405 هـ. - سمط اللآلي للبكري، عبد العزيز الميمني، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1936. - السّنّة، لابن أبي عاصم، تحقيق الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، 1413 هـ. - السّنّة، لعبد الله ابن الإمام أحمد، تحقيق محمد بن سعيد القحطاني، رمادي للنشر، الدّمام، والمؤتمن للتوزيع، الرياض، 1416 هـ. - سنن ابن ماجه، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت. - سنن أبي داود، دار الكتاب العربي، بيروت.

(2/852)


- السنن الكبرى، للبيهقي، دائرة المعارف النظامية، حيدراباد الدكن، 1344. - السنن الكبرى، للنسائي، تحقيق عبد الغفّار البنداري، وسيد كسروي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1411 هـ. - سنن سعيد بن منصور، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، الدار السلفية، الهند، 1403 هـ. - سيرة ابن إسحاق= سيرة ابن هشام - سير أعلام النبلاء، للذهبي، تحقيق جماعة من الباحثين، مؤسسة الرسالة، بيروت،1410. - السيرة النبوية، لابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وزميليه، مؤسسة علوم القرآن، بيروت. - شذرات الذهب، لابن العماد الحنبلي، تحقيق محمود الأرناؤوط، دار ابن كثير، دمشق، 1413. - شرح أشعار الهذليين، للسكري، تحقيق عبد الستار فراج، دار العروبة، القاهرة، 1963 - 1965 م. - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي، تحقيق أحمد بن سعد الغامدي، دار طيبة، الرياض، 1402. - شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد، للسفاريني، تحقيق زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، 1392. - شرح السنة، للبغوي، تحقيق شعيب الأرنؤوط، المكتب الإسلامي، بيروت، 1403. - شرح الصدور بأحوال الموتى والقبور، للسيوطي، تحقيق يوسف علي بديوي، دار ابن كثير، دمشق- بيروت، 1425.

(2/853)


- شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي، تحقيق أحمد شاكر، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلوية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض،1413. - شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات، لابن الأنباري، تحقيق عبد السلام هارون، دار المعارف، القاهرة، 1400. - شرح مشكل الآثار، لأبي جعفر الطحاوي، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1415 هـ. - شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الجيل، بيروت. 1416. - الشريعة، لأبي بكر الآجري، تحقيق عبد الله عمر الدميجي، دار الوطن، ـ الرياض. - شعب الإيمان، للبيهقي، دار الكتب العربية، بيروت، 1410. - شفاء العليل، لابن القيم، دار الفكر، بيروت، 1398. - الشمائل، لأبي عيسى الترمذي، تحقيق عزت الدعاس، دار الحديث، 1408 هـ. - الصاحبي، لابن فارس، تحقيق السيد أحمد صقر، عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1977 م. - الصارم المنكي في الرد على السبكي، لابن عبد الهادي، تحقيق عقيل بن محمد المقطري، مؤسسة الريان، بيروت، 1424. - الصحاح، للجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، 1402. - صحيح ابن حبان، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1424. - صحيح ابن خزيمة، تحقيق محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1412 هـ. - صحيح أبي عوانة، دار المعرفة، بيروت. - صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار، لابن بليهد، الطبعة الثانية، 1392.

(2/854)


- صحيح البخاري، دار السلام، الرياض، 1417. - صحيح مسلم، مع شرح النووي، دار القلم، بيروت، 1407. - صفة الجنة= موسوعة ابن أبي الدنيا. - صفة الجنة، لأبي نعيم الأصبهاني، تحقيق علي رضا، دار المأمون، بيروت، 1406 هـ. - صفة الصفوة، لابن الجوزي، دار المعرفة، بيروت، 1399. - الصمت= موسوعة ابن أبي الدنيا. - الصواعق المرسلة، لابن القيم، تحقيق علي بن محمد الدخيل الله، دار العاصمة، الرياض، 1418. - الصيدنة، للبيروني، تحقيق محمد سعيد ورانا إحسان إلهي، مؤسسة همدرد، كراتشي،1973. - الضعفاء والمتروكين، لابن الجوزي، تحقيق أبو الفداء عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت،1406. - الضعفاء، للعقيلي، تحقيق: عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1404 هـ. - طبقات ابن سعد، دار صادر، بيروت. - طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، تحقيق عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، الأمانة العامة لاحتفال بمرور مائة عام على تأسيس المملكة، الرياض، 1419. - طبقات الصوفية، للسلمي، تحقيق نور الدين شريبة، مكتبة الخانجي، القاهرة،1406. - طبقات القراء، للذهبي، تحقيق أحمد خان، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض، 1427.

(2/855)


- طبقات المعتزلة، لابن المرتضى، تحقيق سوسة، بيروت 1407. - طبقات المفسرين، للداودي، تحقيق علي محمد عمر، مكتبة وهبة، القاهرة، 1392. - الطرق الحكمية، لابن القيم، تحقيق نايف بن أحمد الحمد، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة،1428. - طريق الهجرتين، لابن القيم، تحقيق محمد أجمل أيوب الإصلاحي، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة،1429. - العاقبة في ذكر الموت والآخرة، لعبد الحق الإشبيلي. تحقيق خضر محمد خضر، مكتبة دار الأقصى، 1406. - العجاب في بيان الأسباب، لابن حجر العسقلاني، تحقيق عبد الحكيم الأنيس، دار ابن الجوزي، الدمام، 1997 هـ. - عدة الصابرين، لابن القيم، تحقيق اسماعيل بن غازي مرحبا، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1429. - العرش، لابن أبي شيبة، تحقيق محمد بن خليفة التميمي، مكتبة الرشد، الرياض، 1418. - العزلة= موسوعة ابن أبي الدنيا. - العظمة، لأبي الشيخ الأصبهاني، تحقيق رضا الله محمد إدريس، دار العاصمة، الرياض، 1408 هـ. - العقد، لابن عبد ربه، تحقيق أحمد أمين وزملائه، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة. - العقوبات= موسوعة ابن أبي الدنيا. - العلل المتناهية، لابن الجوزي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403.

(2/856)


- العلل، لابن أبي حاتم، تحقيق فريق من الباحثين بإشراف سعد الجميد وخالد الجريسي، الرياض، 1427 هـ. - العلل الواردة في الأحاديث النّبوية، للدارقطني، تحقيق محفوظ الرحمن زين الله السلفي، دار طيبة، الرياض، 1405 هـ. - العلل ومعرفة الرجال، للإمام أحمد، رواية ابنه عبد الله عنه، تحقيق وصيّ الله عبّاس، المكتب الإسلامي، بيروت، 1408 هـ. - علماء نجد خلال ثمانية قرون، للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن آل بسام، دار العاصمة، الرياض، 1419. - عمدة القاري، للعيني، دار الكتب العلمية، بيروت، 1421. - العين، للخليل بن أحمد، تحقيق مهدي المخزومي، وإبراهيم السامرائي، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد. - عيون الأخبار، لابن قتيبة، دار الكتب المصرية، 1996 م. - عيون الأنباء في طبقات الأطباء، لابن أبي أصيبعة، دار الثقافة، بيروت، 1408. - غذاء الألباب، للسفاريني، دار الكتب العلمية، بيروت، 1423. - غريب الحديث، لأبي عبيد، تحقيق حسين محمد شرف، مجمع اللغة العربية، القاهرة، 1404. - غريب الحديث، للحربي، المجلدة الخامسة، تحقيق سليمان العايد، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1405. - غريب الحديث، للخطابي، تحقيق عبد الكريم إبراهيم العزباوي، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1402. - غوث المكدود بتخريج منتقى ابن الجارود، لأبي إسحاق الحويني، دار الكتاب العربي، بيروت، 1408 هـ.

(2/857)


- الغيبة والنميمة= موسوعة ابن أبي الدنيا. - الفتاوى الهندية، دار الفكر، بيروت، 1411. - فتاوى لابن حجر= الإمتاع بالأربعين المتباينة السماع - فتح الباري، لابن حجر، دار الفكر، بيروت. - الفتوحات الربانية على الأذكار النووية، لابن علان الصديقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. - الفروع، لابن مفلح، نشرة عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1324. - الفروق، للقرافي، تحقيق محمد أحمد سراج وجمعة علي محمد، دار السلام، القاهرة، 2000 م. - الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم، مكتبة الخانجي، القاهرة،1928 م. ونشرة محمد إبراهيم نصر وعبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، 1416. - فصوص الحكم، لابن عربي، دار الكتاب العربي، بيروت. - فضائل الصحابة، للإمام أحمد بن حنبل، تحقيق وصي الله محمد عباس، مؤسسة الرسالة، بيروت،1412. - فضائل القرآن، لابن الضريس، تحقيق عروة بدير، دار الفكر، دمشق، 1408 هـ. - فضائل القرآن، للفريابي، تحقيق يوسف عثمان فضل الله، مكتبة الرشد، الرياض، 1409 هـ. - الفلك المشحون، لابن طولون، مكتبة القدسي وبدير، دمشق، 1348. - فهرس مخطوطات الظاهرية_ التصوف، إعداد محمد رياض المالح، مجمع اللغة العربية، دمشق، 1398.

(2/858)


- فهرست ابن خير الإشبيلي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1399. - الفهرست، للنديم، تحقيق رضا تجدد، طهران، 1971. - الفوائد، لتمام الرازي، تحقيق حمدي عبد المجيد السَّلفي، مكتبة الرشد، الرياض، 1412 هـ. - فيض القدير شرح الجامع الصغير، للمناوي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415. - القبور، لابن أبي الدنيا= موسوعة ابن أبي الدنيا - القدر، لابن وهب، تحقيق عمر بن سليمان الحفيان، دار العطاء، الرياض، 1422. - القدر، للفريابي، تحقيق عبد الله بن حمد المنصور، أضواء السلف، الرياض، 1418 هـ. - القراءة عند القبور، للخلال، دار الكتب العلمية بيروت، 1424. - قصر الأمل= موسوعة ابن أبي الدنيا. - القضاء، لسريج بن يونس، تحقيق عامر حسن صبري، دار البشائر الإسلامية، بيروت، 1421. - القضاء والقدر، للبيهقي، تحقيق صلاح الدين عباس، مكتبة الرشد، الرياض، 1429 هـ. - القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع، للسخاوي، تحقيق بشير محمد عيون، مكتبة المؤيد، الطائف - دار البيان، دمشق. - قيام الليل= موسوعة ابن أبي الدنيا. - الكافية الشافية، لابن القيم، تحقيق مجموعة من الباحثين، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة،1428. - الكامل في الضعفاء، لابن عدي، دار الفكر، بيروت، 1409.

(2/859)


- الكبائر، للذهبي، دار الندوة الجديدة، بيروت. - كتاب المحتضرين= موسوعة ابن أبي الدنيا. - كتاب سيبويه، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1408. - كشاف اصطلاحات الفنون، للتهانوي، طبعة كلكته، تصوير دار صادر، بيروت. - كشاف القناع، للبهوتي، تحقيق محمد أمين الضناوي، عالم الكتب، بيروت، 1417. - الكشاف، للزمخشري، دار الريان التراث، القاهرة، 1407. - كشف الأستار عن زوائد البزار، للهيثمي، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة، بيروت،1405. - الكشف والبيان، للثعلبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1422. - الكلام على مسألة السماع، لابن القيم، تحقيق راشد بن عبد العزيز الحمد، دار العاصمة، الرياض، 1409. - الكنى والأسماء، لمسلم، عبد الرحيم محمد أحمد القشقري، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، 1404. - اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، للسيوطيّ، تحقيق عبد الفتاح أبي غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، 1403 ه. - اللباب في تهذيب الأنساب، لعز الدين ابن الأثير، دار صادر، بيروت،1414. - لسان العرب، لابن منظور، دار صادر، بيروت. - لسان الميزان لابن حجر، دائرة المعرف العثمانية، حيدراباد الدكن. - لوامع الأنوار البهية، لشمس الدين السفاريني، مؤسسة الخافقين، دمشق، 1402. - المبسوط، للسرخسي، دار الفكر، بيروت، 1421.

(2/860)


- مجابو الدعوة= موسوعة ابن أبي الدنيا. - المجالسة، لأبي بكر الدينوري، تحقيق مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن حزم بيروت، 1419. - المجروحين، لابن حبان، تحقيق محمود إبراهيم زائد، دار المعرفة، بيروت، 1412. - مجمع الأمثال، للميداني، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1977 م. - مجمع الزوائد، للهيثمي، دار الفكر، بيروت، 1412. - المجموع شرح المهذب، للنووي، تحقيق محمد نجيب المطيعي، مكتبة الإرشاد، جدة. - مجموع فتاوى شيخ الإسلام، دار عالم الكتب، الرياض،1412. - محاسبة النفس= موسوعة ابن أبي الدنيا. - المحرر الوجيز، لابن عطية، دار الكتب العلمية، بيروت، 1413. - المحرر، لمجد الدين ابن تيمية، مكتبة المعارف، الرياض، 1404. - المحكم، لابن سيده، تحقيق جماعة من الباحثين، معهد المخطوطات العربية، القاهرة. - المحلى، لابن حزم، دار الفكر، بيروت. - مختصر الفتاوى المصرية، لبدر الدين الحنبلي، تحقيق عبد المجيد سليم، دار الجيل، بيروت، 1407. - مدارج السالكين، لابن القيم، تحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1393.

(2/861)


- المراسيل، لابن أبي حاتم الرازي، تحقيق شكر الله بن نعمة الله قوجاني، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1402 هـ. - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، لعبيد الله الرحماني المباركفوري، الجامعة السلفية، بنارس، الهند،1404. - مرقاة المفاتيح، للملا علي القاري، دار الكتب العلمية، بيروت، 1412. - مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه عبد الله، تحقيق زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، 1401. - المستدرك، للحاكم، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1411. - المستقصى في أمثال العرب، للزمخشري، طبعة حيدراباد الدكن، تصوير دار الكتب العلمية، بيروت، 1408 - مسند أبي داود الطيالسي، تحقيق محمد بن عبد المحسن التركي، دار هجر، 1409. - مسند أبي يعلى الموصلي، تحقيق إرشاد الحق الأثري، دار القبلة للثقافة الإسلامية، جدة، مؤسسة علوم القرآن، بيروت، 1408 هـ. - مسند أحمد بن حنبل، تحقيق مجموعة من الباحثين، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1420. - مسند إسحاق بن راهويه، تحقيق عبد الغفور عبد الحق البلوشي، مكتبة الإيمان المدينة المنورة، 1410 هـ. - مسند البزار، تحقيق جماعة من الباحثين، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة. - مسند الحارث= بغية الباحث - مسند الحميدي، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، المكتبة السلفية، المدينة المنورة.

(2/862)


- مسند الدارمي، تحقيق حسين سليم أسد، دار المغني. - مسند الشاميين، للطبراني، تحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1405. - مسند عبد بن حميد= المنتخب - مسند عبد الله المبارك، تحقيق صبحي السّامرائي، مكتبة المعارف، الرياض، 1407 هـ. - مشارق الأنوار، للقاضي عياض، تصوير دار التراث، القاهرة، 1977 م. - مشاهير علماء نجد، لعبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ، دار اليمامة، الرياض، 1392. - المشتبه، للذهبي، تحقيق البجاوي، عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1962 م. - مشكل إعراب القرآن، لمكي القيسي، تحقيق حاتم صالح الضامن، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1405. - المصاحف، لأبي بكر بن أبي داود، تحقيق محب الدين واعظ، وزارة الأوقاف، دولة قطر، 1416 هـ. - مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه ـ للبوصيري ـ تحقيق موسى محمد علي، وعزت علي عطية، دار الكتب الإسلامية، القاهرة. - المصباح المنير، للفيومي، المكتبة العلمية، بيروت. - المصنف، لابن أبي شيبة، تحقيق محمد عوامة، دار القبلة، جدة. - مصنّف عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي بيروت، 1403 هـ. - مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى، للرحيباني، المكتب الإسلامي، دمشق.

(2/863)


- المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، تحقيق جماعة من الباحثين بتنسيق سعد الشثري، دار العاصمة، الرياض، 1418 هـ. - المطرب من أشعار أهل المغرب، لابن دحية، تحقيق إبراهيم الأبياري وزميليه، القاهرة، 1954 م. - معاني القرآن، للأخفش، تحقيق فائز فارس، الكويت، 1401. - معاني القرآن وإعرابه، للزجاج، تحقيق عبد الجليل عبده شلبي، عالم الكتب، بيروت، 1408. - معجم الأدباء، لياقوت الحموي، تحقيق إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1993 م. - معجم الألفاظ التاريخية في العصر المملوكي، للأستاذ محمد أحمد دهمان، دار الفكر، دمشق،1410. - المعجم الأوسط، للطبراني، تحقيق طارق بن عوض الله، دار الحرمين، القاهرة، 1414. - معجم الشعراء، للمرزباني، تحقيق عبد الستار فراج، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2003 م. - معجم الشيوخ، لابن جميع الصيداوي، تحقيق عمر عبد السلام التدمري، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1405 هـ. - معجم الصحابة، لأبي القاسم البغوي، تحقيق محمد الأمين الجكني، مكتبة دار البيان، الكويت. - المعجم الصغير، للطبراني، تحقيق محمد شكور محمود الحاج، المكتب الإسلامي، بيروت. 1405. - المعجم الكبير، للطبراني، تحقيق حمدي السلفي، مكتبة العلوم والحكم، الموصل،1404.

(2/864)


- معجم ما استعجم، للبكري، تحقيق مصطفى السقا، عالم الكتب، بيروت. - معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية، لعاتق بن غيث البلادي، دار مكة، 1402. - المعجم المفهرس، لابن حجر، تحقيق محمد شكور المياديني، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1418. - معرفة الثقات، للعجلي - بترتيب الهيثمي والسبكي مع زيادات ابن حجر- تحقيق عبد العليم عبد العظيم البستوي، مكتبة الدار، المدينة المنورة، 1405 هـ. - معرفة السنن والآثار، للبيهقي، تحقيق عبد المعطي أمين قلعجي، دار قتيبة، دمشق، 1412. - معرفة الصّحابة، لأبي نعيم الأصبهاني، تحقيق عادل بن يوسف العزازي، دار الوطن الرياض، 1419 هـ. - المعرفة والتاريخ، للفسوي، تحقيق أكرم ضياء العمري، مكتبة الدار، المدينة المنورة، 1410. - المعلم على حروف المعجم، لابن غنام المقدسي الحنبلي، تحقيق مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن الجوزي، الدمام، 1428. - المغانم المطابة في معالم طابة، للفيروزابادي، قسم المواضع، تحقيق حمد الجاسر، دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، الرياض، 1389. - المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار، للحافظ العراقي، تحقيق أشرف عبد المقصود، مكتبة دار طبرية، الرياض، 1415 هـ. - المغني في الضعفاء، للذهبي، تحقيق نور الدين عتر، إدارة إحياء التراث الإسلامي، الدوحة. - المغني، لابن قدامة، دار الفكر، بيروت، 1405.

(2/865)


- مفتاح دار السعادة، لابن القيم، تحقيق علي بن حسن الحلبي، دار ابن القيم، الرياض، 1425. - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، لأبي العباس القرطبي، تحقيق محيي الدين مستو وزملائه، دار ابن كثير ودار الكلم الطيب، دمشق، 1417. - المقاصد الحسنة في بيان كثير ما الأحاديث المشتهرة على الألسنة، للسخاوي، تحقيق محمد عثمان الخشت، دار الكتاب العربي، بيروت، 1405 هـ. - مقالات الإسلاميين، للأشعري، تحقيق هلموت ريتر، دار إحياء التراث العربي، بيروت. - مقاييس اللغة، لابن فارس، تحقيق عبد السلام هارون، الطبعة الثانية، مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1389. - المقتنى في سرد الكنى، للذهبي، تحقيق محمد صالح مراد، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، 1408. - مكارم الأخلاق، للخرائطي، تحقيق أيمن عبد الجابر البحيري، دار الآفاق العربية، القاهرة، 1419. - من عاش بعد الموت= موسوعة ابن أبي الدنيا. - مناقب عمر بن الخطاب، لابن الجوزي، دار ابن خلدون، الإسكندرية، 1416. - المنامات = موسوعة ابن أبي الدنيا. - المنتخب، لعبد بن حميد الكشّي، تحقيق مصطفى العدوي، دار الأرقم، الكويت، 1405 هـ. - المنتخل، للميكالي، تحقيق يحيى الجبوري، دار الغرب الإسلامي، بيروت،2000 م. - المنتظم، لابن الجوزي، دار صادر، بيروت، 1358.

(2/866)


- المنتقى لابن الجارود= غوث المكدود - منهاج السنة، لابن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض،1406. - المنهاج في شعب الإيمان، للحليمي، تحقيق حلمي محمد فوده، دار الفكر، بيروت، 1399. - الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري، للآمدي، تحقيق السيد أحمد صقر، دار المعارف، القاهرة، 1982. - المواقف، للإيجي، تحقيق عبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، 1997 م. - مواهب الجليل، للحطاب العريني، دار عالم الكتب، بيروت، 1423. - موسوعة ابن أبي الدنيا، المكتبة العصرية، بيروت،1426. - الموضوعات، لابن الجوزي، المكتبة السلفية، المدينة المنورة، 1386 - 1388. - موطأ الإمام مالك، رواية أبي مصعب الزهري، تحقيق بشار عواد معروف ومحمود محمد خليل، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1418. - وبرواية الليثي، تحقيق بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1417. - وبرواية القعنبي، تحقيق عبد المجيد تركي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1999 م. - وبرواية محمد بن الحسن الشيباني (مع التعليق الممجد)، تحقيق عبد الوهّاب عبد اللّطيف، المكتبة العلمية. - ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للحافظ الذهبي، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت. - الناسخ والمنسوخ، لأبي جعفر النحاس، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1409.

(2/867)


- النبوات، لابن تيمية، المطبعة السلفية، القاهرة، 1386. - نفح الطيب، للمقري، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1408. - النفس والروح، للفخر الرازي، تحقيق صغير حسن معصومي، معهد الأبحاث الإسلامية، إسلام آباد. - النفس، لأبي البركات البغدادي ــ قطعة مخطوطة منه (ق 104 - 109) محفوظة في مكتبة أياصوفيا، برقم 4855. - النكت على كتاب ابن الصّلاح، للحافظ ابن حجر، تحقيق ربيع بن هادي عمير المدخلي، المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، 1404 هـ. - النكت والعيون، للماوردي، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1412. - النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، تحقيق طاهر الزاوي ومحمود الطناحي، المكتبة العلمية، بيروت. - نوادر الأصول، للحكيم الترمذي، تحقيق عبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، 1992 م. - هداية الحيارى، لابن القيم، تحقيق عثمان جمعة ضميرية، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1429. - الوابل الصيب، لابن القيم، تحقيق، عبد الرحمن بن حسن بن قائد، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1425. - الورع= موسوعة ابن أبي الدنيا. - وفيات الأعيان، لابن خلكان، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت.

(2/868)