×
إن حياة خاتمتها الموت زهيدة، وإن صحًفا عاقبتها النشر حَرية بالاهتمام والحرص على أن لا يكتب فيها إلا خيرًا، وإن أياما تطوى من الحياة ثمينة يجب أن تغتنم قبل أن يقول صاحبها «يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين».

  ثم ردوا إلى الله

محمد بن سرار اليامي


 إهداء

أخي الغريب ... يا من تربع حبه على عرش قلبي ... وتملك ذكره مشاعري وأحاسيسي إليك أنت ... نعم أنت ،  أهدي هذه الباقة العطرة ... أهدي إليك هذه الكلمات علَّ الله جل وعز أن ينفعني وإياك بها ... إنها نفاث صدر مكمَّد ... إنها تطلب قلبًا أنت حامله. ترى لماذا تطلبه؟!

تطلبه لكي تلامس شغافه ... فلا يكون وقعها عليك كوقع أي كلام أبدا وإنما يكون وقعها، وتأثيرها ... طيبًا ... لأنها محمولة على بريد الحب ... تحدوها الشفقة ... انبعثت تطلب قلبًا واعيًا ... هو قلبك أنت.

حديث الروح للأرواح يسري

وتدركه القلوب بلا عناء

بعثتها ... ودبجتها ... خوفا على وجهك الجميل الوضيء ... من أن تلفحه النار وحرصا على أن نسلك أنا وأنت ... طريق الخير ... نعم إلى الجنة بإذن الله ... إلى مقعد صدق عند عزيز مقتدر ...

آمل أن تكون لك نورًا ومشعلًا يضيء لك طريقك ويؤنس غربتك ... وكما قال الأول:

وتناقل الركبان كل غريبة

عني فكانت أنس كل غريب

الكاتب


 تقديم

الحمد لله الذي هدانا للإسلام ، وأخرجنا به من الظلمات ، واختارنا على الأنام، وتفضل علينا بالإنعام ، وعافانا من الأسقام ، وحفظنا من الآثام،  وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له على الدوام ، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله القدوة الإمام، الذي أزال الله به الظلام ، ونشر به العدل والإسلام، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد:

فإن حياة خاتمتها الموت زهيدة، وإن صحفًا عاقبتها النشر حرية بالاهتمام، والحرص على أن لا يكتب فيها إلا خيرًا، وإن أياما تطوى من الحياة ثمينة يجب أن تغتنم قبل أن يقول صاحبها: ﴿يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾.

ولقد غفل الناس عن الآخرة، وأقبلوا على الدنيا، وأصابهم الغرور، وصور لهم الشيطان البقاء، وما علموا أنهم كل يوم يرحلون إلى الآخرة، ويقتربون من القبر، ويفرون إلى الموت، ويودعون الدنيا، ويتركون الأهل والأصحاب.

 وإن من نعم الله على العبد أن يتذكر ويذكر غيره ليعيش سليم القلب، دائم العمل الصالح محبا للخير، كارها للشر، فيعيش في عمل مثمر، ويوقض غفلة الغافلين، ويرد إعراض المعرضين، ويصلح خطأ المخطئين.

وقد هدى الله أناسا للقيام بواجب النصح إما بالقول، وإما بالقلم، وممن بذل جهده في البيان والتذكير الأخ الفاضل/ محمد بن سرار بن علي اليامي، الذي كتب هذه النصيحة لترق القلوب وتذرف العيون وهي بعنوان: (ثم ردوا إلى الله) وقد قرأتها فألفيتها نافعة.

أسأل الله أن ينفعه بها وينفع بها الآخرين، وأسأل الله أن يرزقنا وإياه وجميع المسلمين الإخلاص في القول والصدق في العمل وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

قاله بلسانه وكتبه بقلمه الفقير إلى ربه

سعد بن سعيد الحجري


 ألم بعد أمل

قال الشاعر:

بينا الفتى مرح الخطا فرح بما

يسعى له، إذ قيل: قد مرض الفتى

إذ قيل: بات بليلة ما نامها

إذ قيل: أصبح مثخنا ما يرتجى

إذ قيل: أصبح شاخصا وموجها

ومعللا إذ قيل: أصبح قد قضى

وقال آخر:

إن الطبيب بطبه ودوائه

لا يستطيع دفاع نحب قد أتى

ما للطبيب يموت بالداء الذي

قد كان أبرأ مثله فيما مضى

مات المداوي، والمداوى، والذي

جلب الدواء وباعه، ومن اشترى


 ثم ردوا إلى الله

([1])

الحمد لله الذي هدانا خير منهاج ... وسلك بنا سبيل الحق ليس به اعوجاج وأنعم علينا بنعمائه ... وخلع عنا ثوب الضلالة ... وحمانا من البدع ... وألبسنا لباس السنة ... خير لباس ... فكان على القياس ... وتوجنا بأعظم وأفضل تاج ... فلا يستوي البحران ... هذا عذب فرات وهذا ـ طريق الضلال ـ ملح أجاج ...

نعم ... لك الحمد يا ربنا بمحامدك العظيمة ... ولك الشكر على آلائك الجسيمة ... لك الحمد حين اجتبيتنا وآنست غربتنا ... لك الحمد حين هديتنا للمسجد حينما ضل غيرنا إلى الكأس والشهوة ... ولك الحمد حين وفقتنا للسنة حين ضل غيرنا ...

حمدا لك اللهم والشكر الأجلّ

ما غرد القمري ودمع الصب هلّ

والصلاة والسلام على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم ... أما بعد:

فقبل الشروع في هذه الرسالة الصغيرة أقف معك أخي وقفة قصيرة.

وقفة ... أسأل فيها قلبك قبل جسمك ... وقفة ودع ... وقفة مشفق إنها وقفة فيها حديث عجيب ... حديث منبعه الروح ومجراه لسان الصدق ... ودافعه المحبة والحرس ... وقد تقول: إن فيه قسوة.

فأقول لك:

قسا ليزدجروا ومن يك حازما

فليقس أحيانا على من يرحم

أخي الكريم ... أختي الكريمة ...

أنا لا أشك أبدا في مدى محبتكما للخير فأنا أخاطب أهل توحيد ... ولكن الله يقول: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.

أتريد أيها المسلم أن تطرد ... وغيرك يقرب ... أتريد أن تحرم ... وغيرك يعطى ... أتريد أن يقال لك ...:

إليك عنا فما تحظى بنجوانا

يا غادرًا قد لها عنا وقد خانا

أعرضت عنا ولم تعمل بطاعتنا

وجئت تبغي الرضا والوصل قد بانا

بأي وجه نراك اليوم تقصدنا

وطال ما كنت في الأيام تنسانا

يا ناقض العهد ما في وصلنا طمع

إلا لمجتهد بالجد قد دانا

 نعم ... أنا أجلُّك أن يقال لك ما سبق ... ومن هذا المنطلق أطلقها مدوية ... بلساني ولسان كل مؤمن ومؤمنة ...:

دعوني على نفسي أنوح وأندب

بدمع غزير واكف يتصبب

دعوني على نفسي أنوح لأنني

أخاف على نفسي الضعيفة تعطب

أخي الحبيب ...

هذه كلمات أرسلها حارة ... تبحث عن قلب صادق ... قلب سليم ... قلب لا ككل القلوب، إنه قلب يريد ما عند الله ... قلب يطمع في الحسنى وزيادة ... قلب غايته رضا ربه جل وعز ... أرسلتها على بريد الشوق ... يحملها أثير الحب ... تغمرها الشفقة والمحبة ... وأعلم ـ بإذن الله ـ أن قلبك أهل لذلك ... نعم ... وإلا لما أرسلتها ...

 همسة في أذنك

أخي ... أختي ... هذه الدنيا ـ كما لا يخفى على شريف علمكم ـ لا يبقى لها حال، ودوام حالها من المحال ...

فهي ما بين قرب ... وبعد ... وهجر ... وصد ورفع وخفض ... وعز وذل ...

دنيا وباعوا دونها العليا فيا

بؤسا لبيع المشتري والشاري

وقول الله أعلى وأجل: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾، وقوله: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾.

نعم ... هي المضمار ... والسباق غدًا ... ونعم فهي مؤذنة بوداع، مشرفة على اطلاع ...، ومن يبقى؟ ولا يبقى إلا وجه ربك الأعلى.

أخي الحبيب ... إنما نحن في هذه الدنيا ... نهب للمنايا وعرضة للمصائب ... ولا ننال فيها نعمة إلا بفراق أخرى ... ولا نحصل فيها على لذة إلا بدفع نصيب، والله يقول: ﴿إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا﴾.

فما قضى أحد منها لبانته

وما انتهى أرب إلا إلى أرب

فيا من شغف بالسراب ... إن السراب بقيعة ... ويا من غرته الأماني تنبه ...

تنبه قبل الموت إن كنت تعقل

فعمَّا قريب للمقابر تنقل

هذه الدنيا غرت الصغير فقالت: حتى تكبر، وغرت الكبير، فقالت: لم تكبر، وأغرته بزخارفها.

غرارة لم تدم يوما على أحد

ولا استقرت على حال لياليها

ألا وإن ابن آدم في فرار مما هو له قرار، فهو يجري والقلم عليه يجري، أعماله مرصودة، وأخطاؤه في الدنيا معدودة ...، وطرائقه عنها مسدودة، ولا طريق له إلا طريق سابقيه، ولا مصير له إلا مصير لاحقيه ...


 الحقيقة الكاسحة

نعم إنه المصير المحتوم ... إنه من لا يستأذن على الملوك ... ولا ينتظر شيئا إلا أمر الله جل وعز ... نعم ... إنه قصم الله به رقاب القياصرة وكسر به ظهور الأكاسرة ... إنه الحقيقة الكاسحة ... إنه الموت ...

نعم ... ولات حينئذ مندم ولا فوت إذًا: ﴿فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ﴾ إنها لحظات ... نعم ... لحظات وما هي إلا وأنت في عداد الأموات ... بعد الضياء والمهود تنقل إلى ظلمة اللحود، ومن التمتع والتلذذ بالطعام والشراب، إلى التمرغ في التراب.

آه لها دار البلى

وموطن قفر خلا

بيت يرى من أودعه

كأنه مستودعه

بعد الفضاء الموسع

أصبح قيد أذرع

فلم يدع الموت لذي لب فرحا ... لماذا؟ لأنه فضح الدنيا ... فـ ﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا﴾. ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ﴾ من عند الحق سبحانه ... لتقول لكل من تركت ... هذا الذي جئته هو عبرة لكم ... فاعتبروا ... قبل أن يعتبر بكم ... جاءت لتقول ... لمثل هذا فأعدوا ...

جاءت لتقول: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾.

جاءت لتقول: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾.

جاءت لتقول: ﴿إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ ثم ماذا ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.

جاءت لتقول: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾.

فسبحان من استأثر باستحقاق البقاء ووعظنا بما كتب علينا من الفناء، ثم جعل الموت مخلصا للأتقياء موبقا للأشقياء.

فمحب للقاء ربه ... وكاره ... «فمن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.

ومن للقاء الله قد أحبا

كان له الله أشد حبا

وعكسه الكاره فالله اسأل

رحمته فضلا ولا تتكل

قال تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.

فتخيل أخي أنك منهم ... قل لي بربك؟

نعم ... أنا أعلم أن لك قلبا طيبا ... يحب الخير وأهله، وأنك سليل بيت جود ومجد وسؤدد ... وأحسبني أسمع إجابتك: بنعم ... نعم ... أنا ممن استعد وأعد وممن عمل ليوم معاده ... وممن أحسن ظنه بربه سبحانه ... وأكبرك وأجلك عن أن تكون ممن قال الحق تبارك وتعالى فيهم: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ أو من الذين قال فيهم: ﴿وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

نعم أخي ... سننتهي من هذه الدنيا، وتنتهي هي من بعدنا ... ثم ماذا؟! ﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ﴾.


 كلمة السر

نعم ... الله جل وعز ... الذي خلق هذا الكون ... والسر هو ﴿لِيَعْبُدُونِ﴾ ووعد من عبده بالفوز والفلاح، وتوعد من أعرض بالوعيد والإبعاد، وعد الله عباده المتقين الجنة، وتوعد العصاة بالنار ... نعم هم ومن شاكلهم وماثلهم من أهل الكفر والفساد. أتدري يا أخي لمن تتسع هذه الجنة؟

تتسع لمن آمن بالله وعبده حق عبادته، فوحد وصلى وصام وتصدق وقام وحج واعتمر ، وقام بكل ما افترضه عليه رب الأنام.

تتسع أخي للذين ﴿تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ﴾.

تتسع للذين ﴿آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾.

تتسع للذين ﴿قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾.

تتسع للذين يدعون للحق وبه يعملون ...

تتسع لمن:

هم الرجال ([2]) المصابيح الذين هم

كأنهم من نجوم حية صنعوا

أخلاقهم نورهم من أي ناحية

أقبلت تنظر في أخلاقهم سطعوا

ولا تتسع أبدا يا أخي الكريم لمن ﴿جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ﴾.

ولا تتسع لمن ﴿لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾.

ولا تتسع للذين ﴿كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا﴾ لأنهم ﴿لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ﴾.


 ساعة الصفر

أخي ... بعد ما تقدم ... اعلم وفقك الله وحماك وعصمك ... أن العبد مجزي بما عمل ... مسؤول عما أنفق ... محاسب على عمره.

أخي الحبيب ... دعني أعود بك قليلا ... وانقل خيال عقلك معي قليلا. نعم ... اخرج بالخيال واخرق حجب الآفاق، وتصور ... وكلنا ذلك الإنسان الذي أساء وعصى ... وكلنا ذوو أخطاء ...

... ولنستمع للشاعر وهو يحدثنا عن حالنا في موقف عصيب ...، موقف رهيب ... عن موقف النقلة يتحدث شاعرنا ... فاجعل نفسك على ذلك السرير ... نعم ... إنه سرير أبيض مسجى بعد أن نزع الموت منك كل منزع، وأخذ الكرب منك كل مأخذ، ثم فاضت روحك ... فتصور عندما:

يجتاح أهل الدار حزن بالغ

واجتاح من حضروا من الجيران

فالبنت عبرى للفراق كئيبة

والدمع يملأ ساحة الأجفان

والزوج ثكلى والصغار تجمعوا

يتطلعون تطلع الحيران

والابن يدأب في جهازك كاتما

شيئا من الأحزان والأشجان

وأتى المغسل والمكفن قد أتى

ليجللوك بحلة الأكفان

ويجردوك من الثياب وينزعوا

عنك الحرير وحلة الكتان

لتعود فردا لست حامل حاجة

من هذه الدنيا سوى الأكفان

فلا إله إلا الله يوم أن واروك، وفي حفرة ظلماء تركوك، ذهبوا لفعالهم، وأنت تسمع قرع نعالهم.


 إنها الدنيا

أخي ... أسألك بمن شق فيك سمعك وبصرك ... ألا تستوحش إذا خلوت مع نفسك في ليل مظلم.

فتخيل أنك اليوم بين أطباق الثرى، رهين قبرك وحليف عملك ... تمسى في ظلام دامس ...

فلا مصباح، ولا نور إلا عملك الصالح ... فهل قدمت؟!

هذه الدنيا ... وهذا هو الموت ... وهذا الجزاء بعده، فهل قدمت ليوم معادك من يوم معاشك.

هذه هي الدنيا:

غرارة لم تدم يوما على أحد

ولا استقرت على حال لياليها

هذه هي الدنيا: ظل زائل ... وسراب بقيعة ...

هذه هي الدنيا: أمل وتسويف.

وهذا هو الموت: تجيء به سكرة الحق.

وهذا هو الموت: فهو باب وكل الناس داخله ...

فليت شعري بعد الموت ما الدار.

وهذا هو الموت ... الذي ما منه فوت.

وهذا هو الجزاء فـ ﴿لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾.

وهذا هو الجزاء ﴿لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾.

وهذا هو الجزاء لـ ﴿يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.

وبعد هذا كله ... أخي الحبيب ... اصغ لي سمعك ... فإني ناصح ... وأعطني قلبك قبل أذنك ليلامس كلامي شغافه قبل أن يصل إلى أذنك.

أخي ... إن الفوز والسعادة الحقيقية في رضا رب البرية.

إن الفوز الحقيقي يوم، أن تزحزح عن النار وتقرب من الجنة.

إن الفوز الحقيقي يوم أن تمتثل قول ربك سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.


 أتدري ما التقوى؟

إنها: العمل بالمأمور وترك المحظور.

إنها: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية.

إنها: الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل.

إنها: ترك الذنوب كبيرها وصغيرها.

خل الذنوب كبيرها ذاك التقى

واصنع كَمَاشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى

إنها: أن يكون الله نصب عينيك.

ولن تحصل على التقوى إلا بأمور ... أمور ... يتذكر بها الصالح، ويوعظ بها الغافل ...، ويبصر بها الساهي اللاهي ... إنها:

أولا: مراقبة الله في السر والعلن.

ثانيا: قصر الأمل في هذه الدنيا.

ثالثا: غلبة العقل على الهوى والشهوة.

ثم اعلم رعاك الله أن ربك غفور رحيم، أرحم من الوالدة بولدها، وصفحه عظيم ... سبحانه من كريم.

يقبل العاصي ...، ويتوب على من تاب، يؤمن الخائف، ويستر الفضائح، يجود فما لبحر جوده من ساحل، ولا لرحمته سبحانه من مقدار ... قسم الرحمة مائة قسم فجعل قسما في الأرض ... يتراحم به الناس وترفع الدابة حافرها عن ولدها وتحن الأم على رضيعها وأبقى عنده تسعة وتسعين قسما ... ليوم عصيب.

وكلنا عبيد عند ربنا وسيدنا ...، والعبد إن أمره سيده امتثل، والله يقول ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا﴾ ويقول: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾.

وهو الذي ينزل كل ليلة في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا ... فيقول سبحانه: هل من سائل فأعطيه؟. هل من مستغفر فأغفر له؟. هل من تائب فأتوب عليه؟.

 عجل ما دام الباب مفتوحا

إذن أخي ... فعجل ... نعم ... عجل مادام في الإمكان ... قبل حلول ساعة لا تستطيع فيها التوبة إلى ربك ... قبل أن يكون حالك كمن إذا جاءه الموت ﴿قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ﴾ لماذا؟ لماذا تريد العودة؟ ألدور تعمرها؟ أم لأولاد تطعمهم؟ أم لمال تتجر فيه؟ أم لجاه تفخر به؟.

لا ... لا والله ﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾.

ثم يعقب سبحانه قائلا: ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.

ولنبكِ على خطايانا بدموع التربة ... عل الله جل وعز أن يغسل بدموعنا ذنوبنا، وأن يقبلنا في عداد التائبين، وأن يسجلنا في سجل الصالحين، فنكون من أهل الصلاح والسعادة، وأهل الحسنى وزيادة.

جمعني الله وإياكم في دار لا ككل الدور في دار نعيمها لا ينفذ وقرة العين فيها لا تنقطع ... «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» ﴿فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾ فيها ﴿حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ﴾ وأيضا ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ﴾ وأيضا ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ﴾.

سامحا بالقليل من غير عذر

ربما أنصف القليل وأجزى

وحمانا الله وإياكم من دار حرها شديد، وقعرها بعيد ... ومقامعها من حديد ... ﴿عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ فيها ﴿نُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾ فيها ﴿لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ﴾ فيها لمن يحملون الأوزار والخطايا: ﴿فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فيها أخذ وغل و ﴿سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا﴾ ﴿وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا﴾.

حمانا الله وإياكم ... وأجارنا بمنه ورحمته ...

أخي ... أختي ... وبعد هذا أقول لكم نعم ... لكل واحد على حدة:

ألا فاسلك إلى المولى سبيلا

ولا تطلب سوى التقوى دليلا

وسر فيها بجد وانتهاض

تجد فيها المنى عرضا وطولا

ولا تركن إلى الدنيا وعول

على مولاك واجعله وكيلا

ولا تفن شبابك واغتنمه

ومثل بين عينيك الرحيلا

ولنحرص جميعا على الإنابة والإخبات لله جل شأنه ... والتوبة والعودة إليه سبحانه، ولا نكون كمن قال فيه الأول:

أشبه من يتوب على حرام

كبيض فاسد تحت الحمام

يطول عناؤه في غير شغل

وآخره يقوم بلا تمام

إذا كان المقام على حرام

فلا معنى لتطويل القيام

جمعني الله وإياكم في جنته في بحبوحة فضله ومنته ... والله تعالى يحفظكم ويرعاكم.


وأخيرا:

فغير تقي يأمر الناس بالتقى

طبيب يداوي الناس وهو سقيم

وإلى لقاء قريب ... والله تعالى أعلى وأعلم ونسبة العلم إليه أسلم ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وكتب

محمد بن سرار اليامي

وكان الفراغ منه في رياض نجد عمرها الله

بالطاعة وحرسها من كل سوء:

 6/10/1417هـ

ص.ب122586 الرياض 11731

نداء آلي: 115439504


 من لا يشكر الناس

أحبتي ... وصلتني رسائل كتبها محبو الخير حفظهم الله ورعاهم ينبهون فيها على ما كان في الرسالة الأولى من رسائل غريب (من وحي الغربة) من ملاحظات ... ووجهات نظر.

ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله ... فشكر الله لهم ... وكتب ما أوصوا به في موازين حسناتهم ... ويعلم الله أنني أرقب المزيد ... لأن المؤمن مرآة أخيه، وقد قال الأول:

ليس عيبا أن نرى أخطاءنا

عيبنا الأكبر أن نبقى نعاب

أخي الناصح: قد تكتب الكلمة لعبد محتاج لها ... ولا تلقي لها بالا ... فينفع الله بها وتكون مشعلا يضيء دربه ... سدد الله خطى الجميع والله خير حافظا، وهو أرحم الراحمين. أ.هـ.



([1]) اختار عنوان هذه الرسالة فضيلة أخي وزميلي الشيخ/ عبد المحسن أبا حسين ـ حفظه الله ورعاه وشفاه ـ وكان مناسبا.

([2]) قد أخصص جنس الرجال بالخطاب أحيانا ... والقصد العموم رجالا ونساء لأن التخصيص قد يمليه علي السياق ... فلا يكن في الصدر حرج.