ألا إن سلعة الله غالية .. الجنة
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
ألا إن سلعة الله غالية .. الجنة
القسم العلمي بدار ابن خزيمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنعم وهدى والصلاة والسلام على نبي الهدى وآله وصحبه ومن اهتدى. وبعد:
أخي المسلم: هل تعلم الغاية التي من أجلها خلقك الله تعالى؟! إنها العبادة بمفهومها الواسع من تذلل وخضوع وإنابة ورجاء وخوف وتوكل.
أخي الحبيب: لقد وعدك الله تعالى على ذلك خير موعود: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ... ﴾ [التوبة: 111].
أفهمت الآية خطر النفس الإنسانية وشرفها وعظيم مقدارها، فإن السلعة إذا خفي عليك قدرها فانظر إلى المشتري لها من هو وانظر إلى الثمن المبذول فيها ما هو؟ وانظر إلى منْ جرى على يده عقد التبايع فالسلعة النفس والله سبحانه المشتري لها والثمن لها جنات النعيم والسفير في هذا العقد خير خلقه من الملائكة وأكرمهم عليه وخيرهم من البشر وأكرمهم عليه.
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له | ||||
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل | ||||
(حادي الأرواح/ ابن القيم)
أخي الحبيب: إذا كان يوم القيامة كان الناس فريقين:﴿الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾[فاطر: 7].
وصف الله عذابه بأنه شديد. أخي: وقاني الله وإياك شدة عذابه. أخي هل فكرت في هذه الكلمة ما أشدها على النفوس الرقيقة، فتعمل الصالحات لتتقي شدة عذابه فتنال ما وعدها ربها من المغفرة والأجر الكبير، فياله من أجر لا يعلم عظمه ومقدراه إلا الله تعالى: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر». قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اقرؤوا إن شئتم: «فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين..» [رواه البخاري].
أخي الحبيب رزقني الله وإياك حسن الخاتمة: إنها سلعة الله الغالية!! إنها الجنة؟
"ولما علم الموفقون ما خُلقوا له وما أريد بإيجادهم رفعوا رؤوسهم فإذا علم الجنة قد رفع لهم فشمّروا إليه وإذا صراطها المستقيم قد وضح لهم فاستقاموا عليه ورأوا من أعظم الغبن بيع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في أبد لا يزول ولا ينفد بصبابة؛ إنما هو كأضغاث أحلام أو كطيف زار في المنام مشوب بالنغص ممزوج بالغصص إن أضحك قليلا أبكى كثيرا، وإن سر يوما أحزن شهورا آلامه تزيد على لذاته وأحزانه أضعاف أضعاف مسراته أوله مخاوف وآخره متالف..".
[حادي الأرواح ابن القيم]
أخي الحبيب: إنها جنة تزخرفت لخطابها وطالبيها فاحرص أن تكون من أهلها. "فواعجبا لها كيف نام طالبها وكيف لم يسمح بمهرها خاطبها وكيف طاب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها، وكيف قرّ للمشتاق القرار دون معانقة أبكارها، وكيف قرت دونها أعين المشتاقين، وكيف صبرت عنها أنفس الموقنين، وكيف صدفت عنها قلوب أكثر العالمين وبأي شيء تعوضت عنها نفوس المعرضين..". [حادي الأرواح/ ابن القيم]
* * * * *
وصف الجنة
أخي: وفقني الله وإياك: إن قيمة الشيء تعرف بمعرفته ووصف الجنة مما لا تحيط به البصائر.
عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، قال: "شهدت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسا وصف فيه الجنة حتى انتهى ثم قال في آخر حديثه: «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» ثم قرأ هذه الآية: «﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾» [رواه مسلم].
وسأل الصحابة رضي الله عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صفة الجنة فقال: «لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها (الملاط: ما يوضع بين اللبنتين) المسك الأذفر وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وتربتها الزعفران من يدخلها ينعم ولا يبأس ويخلد ولا يموت ولا يبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم» [رواه أحمد والترمذي والدرامي].
هي جنة طابت وطاب نعيمها | ||||
فنعيمها باق وليس بفان | ||||
دار السلام وجنة المأوى | ||||
ومنزل عسكر الإيمان والقرآن | ||||
فالدار دار سلامة وخطابهم | ||||
فيا سلام اسم ذي الغفران | ||||
[النونية/ ابن القيم]
فيا لسعادة من دخلها وبالهناء من فاز بنعيمها ويا لحظوة من تقلب في أرجائها.
بشرى خير أو شر
أخي الحبيب: لطف الله بي وبك: إن العبد إذا فارق الدنيا علم مقعده من الجنة إن كان من أهلها أو مقعده من النار إن كان من أهلها، فيا لتعاسة من رأى مقعده من النار إن كان من أهلها، ويا لسعادة من رأى منزله من الجنة ويا لهنائه.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة» [رواه مسلم].
أخي: عندها يحمد أهل العافية ما كانوا عليه في الدنيا من العمل الصالح ويتحسر ويندم أهل الشقاء.
أخي الحبيب جعلني الله وإياك من أهل السعادة.
ما أعظمه من فوز
أخي: أعرني سمعك قليلا: أرأيت وأنت في دار الدنيا إذا أتاك الخبر الذي تحبه فرحت وانبسطت أسارير وجهك، وإذا كانت الفرحة عارمة كدت أن تخرج من جلدك، فكيف أخي: بمن جاءته البشرى من ملائكة الرحمن أنه من أهل الجنة؟! ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: 30]. فما أحلاها من فرحة وما أسعدها من لحظات للمؤمنين: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 72]. ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185]، ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.
الخلود في الجنة
أخي الحبيب ثبتني الله وإياك على دينه: إن من منن الله تعالى العظيمة على أهل الجنة أن كتب لهم الخلود في جنانه، فإن الإنسان بطبعه لا يحب زوال النعمة؟ وكانت دار الدنيا دنيئة رخيصة لأن نعيمها زائل ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه: 131].
لذلك إذا كان يوم القيامة نادى منادي الرب سبحانه وتعالى: «إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً وإن لكم أن تنعموا فلا تبتئسوا أبداً فذلك قوله عز وجل: ﴿وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾» [رواه مسلم].
فما أسعدها من لحظات للمتقين ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [الدخان: 56]. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا*خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾ [الكهف: 107 - 108].
أخي الحبيب: عندما يدخل أهل الجنة الجنة ويشاهدوا ما فيها من النعم التي لا توصف؛ يتذكرون الموت هادم اللذات فتنقبض نفوسهم لذلك، فينادي منادي الله تعالى لأهل الجنة ولأهل النار فيشرفون للمنادي فإذا بكبش يقدم بين الجنة والنار فيقال لهم: هذا الموت ثم يقدم فيذبح ثم يقال: "يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت".
فيرجع أهل الجنة فرحين مستبشرين إذ زال ما ينغص عيشهم ويؤرقهم ويرجع أهل النار بشر حال في العذاب الشديد وقاني الله وإياكم أحبتي شر ناره. فوا لهفي أخوتي: من نار تأججت ومن جنة للمؤمنين تزخرفت.
صفة الجنة
أخي الحبيب رزقني الله وإياك الزهادة في الدنيا: إن الجنة دار لا ككل دار وقرار لا ككل قرار ومسكن ما أطيبه من مسكن متعني الله وإياك بالقرار فيها، فهي غاية الغايات وأكمل الأمنيات من دخلها نسي كل نعيم ومن لم يدخلها فقد كل نعيم.
وإليك أخي الحبيب عيون من وصف بعض ما فيها من تربة وأنهار وعيون ومساكن وأبواب ونور وريح وثمار وطعام وخمور ولباس وفرش ولذات فاقت كل لذة. فهنيئا لمن استقر بتلك المعالم ونزل تلك الربوع.
تربتها
أخي الحبيب: إن أهل الجنة يطأون تربة ترابها المسك الأذفر وحجارتها وحصباؤها اللؤلؤ، ففي حديث المعراج عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أدخلت الجنة فإذا فيها جنادل اللؤلؤ وإذا ترابها المسك» [رواه البخاري ومسلم]. فيا سعادة قدم وطئت تربتها.
أنهارها
أخي رحمني الله وإياك: إن الأنهار في الدنيا حياة للناس يحيون بها من الظمأ وزينة وراحة، يرعون بمائها أنواع الزروع ثم ثمار وأشجار فيها غذاؤهم وظلهم من الحر.
ولكن أنهار الجنة فوق ذلك: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى...﴾ [محمد: 15].
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «إن في الجنة بحر العسل وبحر الخمر وبحر اللبن وبحر الماء ثم تنشق الأنهار بعد» [رواه الترمذي والدارمي].
وقال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [البقرة: 25] وقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ﴾ [الكهف: 31].
أخي الحبيب: لطف الله بي وإياك: هل تعلم أن من أنهار الجنة نهرا أعطاه الله لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ترده أمته يوم القيامة فمن كان من أهل الصلاح والإتباع شرب منه شربة لا يظمأ بعدها ومن كان من أهل الشقاوة ذادته الملائكة عنه فلا يشرب منه شيئاً. قال - صلى الله عليه وسلم - : «أعطيت الكوثر فإذا نهر يجري على ظهر الأرض حافتاه قباب اللؤلؤ» [رواه أحمد]. وفي رواية: «هو نهر أعطانيه الله في الجنة ترابه مسك ماؤه أبيض من اللبن وأحلى من العسل ترده طيور أعناقها مثل أعناق الجزور» [رواه أحمد].
فوا لهفي على شربة منه يوم الفزع الأكبر تروي في عرصات القيامة وتقي الظمأ إلى الأبد، وأعاذني الله وإياك أخي الحبيب أن نكون ممن يذادون عن حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم - فيا لشقاء من كان هذا حاله ومن تبرأ منه النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: «سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي».
أنهارها من غير أخدود جرت | ||||
سبحان ممسكها عن الفيضان | ||||
من تحتهم تجري كما شاؤوا | ||||
مفجرة وما للنهر من نقصان | ||||
[النونية، ابن القيم]
كيف بك أخي الحبيب بأقوام يتمتعون بأنهار الجنة قبل يوم القيامة؟!! وهم الشهداء!! قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم بكرة وعشيا» [رواه أحمد والطبراني والحاكم]. جعلنا الله وإياكم أحبتنا ممن يردون هذه الأنهار ويتقلبون في نعيمها.
عيـونها
أخي الحبيب: إن من كمال النعم التي أعطاها الله لعباده في الجنة تلكم العيون التي يفجرها لهم زيادة في المتعة واللذة ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾ [الإنسان: 5 - 6]. ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ [المطففين: 22 - 28]. ﴿وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا﴾ [الإنسان: 17 - 18]، فيا لها من لذة ويا لها من نعم متتالية: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ [الحجر: 45]، ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ﴾ [المرسلات: 41].
مساكنها
أخي الحبيب وفقني الله وإياك: إن مقيل الجنة ليس مثله مقيل ومساكنها ما أبهاها وأطيبها من مساكن ﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ [التوبة: 72]، ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا﴾ [الفرقان: 75]، ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ﴾ [الزمر: 20].
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام وألان الكلام وتابع الصيام وصلى بالليل والناس نيام» [صحيح الجامع الصغير/ الألباني]. وقال - صلى الله عليه وسلم - : «إن للمؤمنين في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا» [رواه مسلم].
فانظر أخي هداني الله وإياك إلى هذا النعيم وما لا يدرك كنهه إلا الله تعالى.
أبوابها
أخي الحبيب أخذ الله بقلبي وقلبك أخي الحبيب أخذ الله بقلبي وقلبك إلى سبل الهداية: إن للجنة ثمانية أبواب أعدها الله لأوليائه كما أخبر النبي الصادق - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ﴾ [ص: 50]، ﴿يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: 23 - 24].
أخي الحبيب: كيف بك لو دعيت من أبوابها!! بل من باب واحد، ولكن أولياء الله تسمو نفوسهم إلى الاستزادة من نعم الله وفضله، فهذا الصديق أبو بكر رضي الله عنه عندما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبواب الجنة قال: بأبي وأمي أنت يا رسول الله ، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة ، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها ؟: قال : «نعم وأرجو أن تكون منهم» [متفق عليه]، لله درك يا أبا بكر ورضي الله عنك هكذا أحبتي همم الصالحين، بينما يفكر غيرهم في نيل لذات الدنيا وحطامها الفاني يفكرون في النعيم الباقي والدرجات العالية فما أشرفها من همة.
أخي الحبيب: هل فكرت يوما في سعة هذه الأبواب وكثرة من يردها من الناس جعلني الله وإياك في ذلك الجمع.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «والذي نفس محمد بيده إنَّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنة أو ما بين عضادتي الباب كما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى» [متفق عليه].
وعن عتبة بن غزوان رضي الله عنه قال: لقد ذكر لنا أنَّ ما بين المصارعين من الجنة مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليه يوم وأنه لكظيظ من الزحام. مشكاة المصابيح.
نور الجنة
أخي الحبيب: إن نور الجنة ليس كالنور والضياء الذي نعرفه بل هو فوق ذلك كله وأعلى من أن نتخيله قال القرطبي: "قال العلماء وليس في الجنة ليل ونهار وإنما هم في نور دائم أبدا وإنما يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجاب وإغلاق الأبواب ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب. ذكره أبو الفرج ابن الجوزي" [التذكرة].
وقال ابن تيمية: "والجنة ليس فيها شمس ولا قمر ولا ليل ولا نهار لكن تعرف البكرة والعشية بنور يظهر من قبل العرش" [مجموع الفتاوى].
فهنيئا لمن أبصر بذلك النور وتأمل بذلك الضياء، جعلنا الله وإياكم أحبتنا منهم.
ريحها
أخي الحبيب: ريح الجنة يجدها المتقون منذ أن فارقوا هذه الدنيا فيأتيهم من روحها وريحانها في قبورهم ما ينسيهم كدر الدنيا ونعيمها الزائل.
قال - صلى الله عليه وسلم - : «من قتل رجلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاماً» [رواه أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم].
فيا لشقاء من حرم ريحها وريحانها ويا لهناء من استنشق روحها وريحانها. بل إن أولياء الله الصادقين يحسون بريحها في الدنيا كأنهم يستنشقونه حقيقة أما رأيت أنس بن النضر بن مالك رضي الله عنه قال يوم أحد لسعد بن معاذ رضي الله عنه: "يا سعد إني لأجد ريح الجنة دون أحد" فقاتل رضي الله عنه حتى قتل. فهنيئا لأصحاب هذه البصائر، أبصروا إذ عمى الناس واهتدوا إذ ضل الناس، فرضي الله عن أنس وإخوانه الذين تزخرفت الجنة للقياهم وتزينت للقائهم جمعنا الله وإياكم أحبتنا بهم في دار كرامته.
أشجارها
أخي، رزقني الله وإياك الزهادة في الدنيا.. ما أحلى وأشهى ثمار الجنة، وما أورق ظلالها وما أجمل حدائقها ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا﴾ [النبأ: 31 - 32]. ﴿فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ﴾ [الرحمن: 52]. ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ [المرسلات: 41 - 42]، ﴿وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ﴾ [الواقعة: 20]، ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ [الرحمن: 68]، ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ﴾ [ص: 51].
أخي الحبيب: إنَّ ثمر الجنة لا مشقة في التقاطه، فمتى ما اشتهيته دنا منك حتى يصبح في متناول يدك، لا شوك يؤذيك إذا التقطته ولا يتأبى عليك ﴿وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا﴾ [الإنسان: 14]، ﴿ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ﴾ [الرحمن: 54].
فيا لها من لذَّة ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 25]. أما الظل فما أورفه من ظلٍّ ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ [النساء: 57]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة واقرءوا إن شئتم» ﴿وَظِلٍّ مَمْدُود﴾ [رواه البخاري].
طعامها
أحبتي: يكفيكم في وصف طعامها وما أعدَّه الله لأوليائه من المطاعم الفاخرة أن الله تعالى قال عن ذلك: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ [الحاقة: 24]، ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [الزخرف: 71]، ﴿وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ﴾ [الواقعة: 21 - 22]، وفي وصف الكوثر قال - صلى الله عليه وسلم - : «فيه طير أعناقها كأعناق الجزر» (الإبل) قال عمر: "إنَّ هذه لناعمة" قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أكلتها أنعم منها» [رواه الترمذي].
فيا لها من لذَّة فاقت كل لذَّة! ويا له من شبع للجائعين في الله وللزاهدين في ملذات الدنيا الفانية! يأكلون أشهى المطاعم ويشربون أحسن المشارب، وأهل النار يأكلون الزقوم ويشربون من الحميم، أعاذني الله وإياكم من هذه الحال.
أعزائي: تفنى الدنيا وتفنى لذاتها من طعام وشراب، بل إن لذة الطعام والشراب في الدنيا لتزول قبل بلعه ثم تخرج قذرا!.. أين هذا من لذة طعام الجنة وشرابها؟ فهي لذَّة لا تزول وترشح أجسامهم من فضلاتها طيبًا ومسكًا، فوا لتعاسة المحرومين! ويا لشقاء المجرمين!
خمورها
إخوتي أحبائي: إن من فضائل الله المتتابعة على أوليائه أن جعلهم ينتشون من خمور الجنة جزاء لهم وفاقا على طاعتهم لربهم في تحريمه لخمر الدنيا، وشتان ما بين الخمرين! فخمر الدنيا كريهة مرَّة مسقمة للأبدان سالبة للعقل، لذتها ناقصة وشرها كثير أما خمر الجنة فطيبة جميلة لذيذة لا يصيب شاربها ألم ولا مرض لذتها كاملة. ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ﴾ [الصافات: 45 - 47].
فيا لذة الشاربين لها المنتشين لكؤوسها، ويا لسعادة الذين صرفوا أنفسهم عن خمور الدنيا ورشفوا من كؤوس دار البقاء.
لباسها
أخي في الله: يكفيك في فضل لباس أهل الجنة أنه لا يُبلى ولا يُصيبه ما يصيب ثياب أهل الدنيا من بلى وتمزق قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه» [رواه مسلم].
فهي أجمل الثياب وأغلاها لا يحيط بوصفها بصر: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ [فاطر: 33]. ﴿وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا﴾ [الكهف: 31].
ويحلون فيها بأنواع الذهب والفضة واللؤلؤ فيزيدهم ذلك جمالاً وبهاءً ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ [الحج: 23]، ﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ [الإنسان: 21].
فيا لها من زينة! ويا له من هندام ما أحلاه!
فراشها
أخي الحبيب متعني الله وإياك بالجنة:
يتقلب أهل الجنة ويتكئون على أوثر اللحف والوسائد والسرر لا يشكون تعبًا ولا نصبًا وهم يقولون: ﴿الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ [فاطر: 35]، ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ...﴾ [الرحمن: 54]، ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ﴾ [الرحمن: 76].
والرفرف: رياض الجنة وقيل: نوع من الثياب، والعبقري: البسط الجياد، فيا لها من لذات تتابعت ومن نعم تكاملت.
أسواقها
أخي عزيزي: يتسوَّق أهل الجنة، ويتحدَّثون في كلِّ جمعة، ويلقى الأحبة بعضهم بعضًا فتكتمل الفرحة بجمع الشمل، ثم يرجعون إلى أهليهم فرحين مسرورين، وفي الحديث: فيستقبلهم أهلوهم ويقولون لهم: «والله لقد ازددتم بعدنا حُسنًا وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حُسنًا وجمالاً».
فيا لها من فرحة! ويا لها من ساعات يشمر المشمرون من أجل نيلها!
أزواج أهل الجنة
أخي الحبيب: هنا تكتمل الفرحة، ويلتقي أهل الجنة بأزواجهم من الحور العين ﴿كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾ [الدخان: 54]. ﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: 56 - 58]. ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 25]. مُطهَّرات: من الحيض والنفاس والبصاق والمخاط والبول والغائط.
عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط إن ما يغنين: نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام، وينظرن بقُرَّة أعيان وإن مما يغنين به: نحن الخالدات فلا يمتنه، نحن الآمنات فلا يخفنه نحن المقيمات فلا يظعنه» [صحيح الجامع الصغير/ الألباني].
أما المؤمنات الصالحات فإنهن لآخر أزواجهنَّ في الدنيا، وفي الأثر عن حذيفة رضي الله عنه، قال لزوجته: "إن شئت أن تكوني زوجتي في الجنة فلا تزوجي بعدي؛ فإن المرأة في الجنة لآخر أزواجها في الدنيا" [سلسلة الأحاديث الصحيحة/ الألباني].
وفي الحديث "لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين لا تؤذيه، قاتلك الله، فإنما هو دخيل عندك يوشك أن يفارقك إلينا" [صحيح الجامع/ الألباني].
يا خاطب الحور الحسان وطالبا | ||||
لوصالهنَّ بجنة الحيوانِ | ||||
لو كنتَ تدري من خطبتَ | ||||
ومن طلبتَ بذلت ما تحوى من الأثمان | ||||
أو كنت تدري أين مسكنها جعلت | ||||
السعي منك لها على الأجفان | ||||
[النونية/ ابن القيم]
الجنة درجات
أخي الحبيب وفقني الله وإياك لطاعته، إن الله تعالى عندما خلق الجنة جعلها درجات كما أنَّ النار دركات، فأهل الجنة يتفاضلون في الدرجات بتفاضُلهم في الأعمال ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 21]، "إنَّ أهل الجنة يتفاضلون بها أكثر مما يتفاضل الناس في الدنيا، وإن درجات الآخرة أكبر من درجات الدنيا" [ابن تيمية: مجموع الفتاوى].
﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى ﴾ [سورة طه: 75]
وأهل الدرجات العاليات يكونون في نعيم أرقى من الذين دونهم، فقد ذكر الله أنه أعد للذين يخافونه جنتين ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ ووصفهما ثم قال: ﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ أي دون تلك الجنتين في المقام والمرتبة [القرطبي/ التذكرة].
أخي الحبيب: احرص أن تكون من أهل الدرجات العلى، فإنَّ الناس في أمور الدنيا دائمًا يسعون للكمال، فكيف بالدار الباقية حيث النعيم الذي لا يزول؟!
ويرى الذين بذيلها من فوقهم | ||||
مثل الكواكب رؤية ببيان | ||||
ما ذاك مُختصًّا برُسل الله بل | ||||
لهم وللصديق ذي الإيمان | ||||
[النونية/ ابن القيم]
قال - صلى الله عليه وسلم - : «إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟! قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» [رواه البخاري ومسلم].
لذلك أحبتي، علَّمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سألنا الله تعالى الجنة أن نسأله أعلاها «فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة» [رواه البخاري].
أخي الحبيب: ما أحلى دخول الجنة ولا أسعد ممن نال فردوسها الأعلى بلغنا الله وإياكم أحبتنا ذلك برحمته وكرمه.
اللذَّة الكبرى
إخوتي أحبائي: بقيت لذَّة من أجلها شمر المشمرون واجتهد المجتهدون، وتسابق لنيلها أصحاب الهمم العالية من أولياء الله، لذَّة أنست أهل الجنة نعيمهم، فما وجدوا بعدها لذَّة أعلى منها قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول تبارك وتعالى: "تريدون شيئًا أزيدكم" فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟! ألم تُدخلنا الجنة وتُنجِّنا من النار؟ قال: فيُكشف الحجاب، فما أُعطوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربِّهم تبارك وتعالى» [رواه مسلم والترمذي].
وفي رواية: ثم تلا هذه الآية: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ...﴾ وقال تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22 - 23].
أخي الحبيب: رؤية الله هي الغاية القصوى في نعيم الآخرة، والدرجة العليا من عطايا الله الفاخرة، بلغنا الله منها ما نرجو" [ابن الأثير/ جامع الأصول].
ولله أفراح المحبين عندما | ||||
يُخاطبهم من فوقهم ويُسلِّمُ | ||||
ولله أبصار ترى الله جهرةً | ||||
فلا الضيم يغشاها ولا هي تسأمُ | ||||
فيا نظرة أهدت إلى الوجه | ||||
نضرة أمن بعدها يسلو المحب المتيَّمُ | ||||
[الميمية/ ابن القيم]
أحبائي: شدوا الإزار لتبلغوا الدار، دار تتمتَّعون فيها برؤية الرب تبارك وتعالى،، وإياك أن تكون من المحجوبين؛ فإنَّ المؤمنين يرَون ربهم بحسب أعمالهم، فأهل الدرجات العليا أكثر رؤية لربهم عزَّ وجل من غيرهم، جعلنا الله وإياكم إخوتي من الفائزين برؤية الله تعالى، في دار القرار ناعمين هانئين بلقياه.
أُعدت للمتقين
أخي الحبيب: تأمَّل معي هؤلاء الآيات: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [آل عمران: 133 - 136].
أحبتي: ما ترك الله تعالى شيئًا من جوامع الأعمال الصالحة إلاَّ وذكره في هؤلاء الآيات، وبقي علينا بعدها الجِدُّ والعمل.. السعيد من وُفِّق إلى هذه الأخلاق، والشقيُّ من حُرمها.
أحبتي: إنَّ جنة الله تعالى لا تُنال بالأماني وفي الحديث: «حُجبت النار بالشهوات وحُجبت الجنة بالمكاره» [متفق عليه].
أحبتي: ألا إنَّ سلعة الله غالية ألاَّ إن سلعة الله الجنة، فمن جدَّ واجتهد لقي الله تعالى غدًا آمناً وسالماً.
متاع الدنيا قليل
أخي الحبيب: رزقني الله وإياك حسن الخاتمة، إنها الجنة، وقد علمت ما فيها من الخير الكثير والنعيم الدائم، فهي عزاء المؤمنين في الدنيا إذا عملوا لها، وبشراهم بعد الممات. ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى﴾ [النساء: 77]، ويكفي ذما للدنيا قوله - صلى الله عليه وسلم - : «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها» [متفق عليه].
يا سلعة الرحمن أين المشتري | ||||
فلقد عرضت بأيسر الأثمان | ||||
يا سلعة الرحمن هل من خاطب | ||||
فالمهر قبل الموت ذو إمكان | ||||
[النونية/ ابن القيم]
أحبائي: لا تغرَّنكم الدنيا، وقد رأيتم فعلها بمن قبلكم، فهل رأيتم نعيمًا دام فيها لأحد؟ وها هو الموت غادٍ ورائح، والسعيد غدًا من بشَّرته ملائكة الرحمن بالجنان والنعيم المقيم، والشقاء كلُّ الشقاء لمن بشَّرته ملائكة الرحمن بالنيران والعذاب المقيم، فهنيئًا لمن ودَّع الشقاء، «وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين»، وجمعنا الله وإياكم إخوتي في جنانه ومنازل كرامته.
والحمد لله أولاً وأخيرًا، والصلاة على نبينا محمد وآله وصحبه وسلامه.