توجيهات إسلامية
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
توجيهات إسلامية
لسماحة الشيخ: عبد الله بن محمد بن حميد
الدعوة إلى الله طريقة الرسل
}ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ{ هذا أمر من الله جل شأنه لنبيه محمد ﷺ بالدعوة، وهو أمر للأمة، وقد أمر الله رسوله بأن يدعو الناس كافة إلى سبيله، وبأن تكون الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، فرتب الدعوة على حسب مراتب الخلق.
والدعوة إلى سبيله مستلزمة لبيان السبيل للمدعو إليه، وقد بان هذا السبيل بالوحي الإلهي مما وضح قواعد الدين الاعتقادية والعملية، فما قام دين من الأديان ولا مذهب من المذاهب، ولا ثبت مبدأ من المبادئ - إلا بالدعوة إليه، ولا تداعت أركان ملة بعد قيامها، ولا انتكست كل شريعة بعد إحكامها، ولا درست رسوم طريقة بعد ارتفاع أعلامها - إلا وسببه ترك الدعوة.
فيا أيها العلماء وحماة الدين ما لنا نرى الحق بدت معالمه تتضاءل، وآثاره تعفو وتندرس، ومذاهب الباطل تموه بالدعوة ويعم انتشارها.
إن الإسلام بدأ يضعف منذ اقتنع أهله بالترف والنعيم، وأهملوا العناية بالدعوة إليه، فوالله لو بقى للعلماء سؤر من الغيرة على دينهم لنفروا خفافًا وثقالاً للإرشاد والدعوة، فإن الأمة الإسلامية في مبدأ نشأتها قامت بالدعوة إلى دينها مبينة للأمم سماحته، شارحة حكمه، موضحة محاسنه، فقد أُعطيت أمثل التعاليم، وهديت إلى صراط مستقيم، وبذلك امتد سلطانها، واتسعت ممالكها، وأخضعت من سواها لأوامر القرآن ونواهيه، ثم ما لبثت أن حرفت فانحرفت، وتمزقت بعد ما اجتمعت، حرفت التعاليم الحقة، واشتبه عليها الحق بالباطل، وتبعت السبل فتفرقت بها عن سبيل الحق، فأصبحت اليوم شيعًا متفرقة، لما أضاعت الحق والدعوة إليه ضاعت وهانت، وصارت غثاء كغثاء السيل.
فلو أن الأمة الإسلامية تمسكت بدينها وعملت بكتاب ربها واتبعت سنة نبيها لكانت أرقى الأمم، وأسعد الناس، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
* * *
وظيفة العلماء
لا شك أن العلماء هم ورثة الأنبياء، وواجب عليهم من الدعوة والإرشاد وتبصير الأمة ما لا يجب على غيرهم؛ لأنهم خلف لهم في وظيفتهم كما قال تعالى: }وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ{ فما كان من سنن العلماء أن ينزلوا في بيوتهم، ويقتصروا على مساجدهم، وتعليم العدد اليسير من تلاميذهم، بل يلزمهم أن يتعرضوا للناس، ويسعوا ورائهم لتذكيرهم ووعظهم وغرس العقيدة الحقة في نفوسهم، كما فعل موسى u حيث ذهب إلى فرعون يدعوه إلى الله، وكما كان رسول الله ﷺ يأتي القبائل في منازلهم، وقريشًا في أنديتها فيدعوهم إلى التوحيد الذي هو مدلول كلمة الإخلاص( لا إله إلا الله ) وينهاهم عن عبادة ما سواه، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، فعلى هذا جرت سنة الأنبياء والمرسلين، والسلف الصالح رضوان الله عليهم بدعوة الناس إلى الخير، وإرشادهم إلى طريق الهدى بالجد والاجتهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان محوطا بالأشواك والمكاره، غير هيابين ولا وجلين، متذرعين بالصبر، واثقين من الله بالأجر.
فإن الإمام مالك لما قيل له: أتدخل على السلطان وهو يظلم ويجور؟ فقال يرحمك الله، فأين يكون الكلام في الحق؟
وكان أبو الحسن الأشعري يذهب إلى مجالس المعتزلة، ويقول إنهم الرياسة فمنهم الوالي والقاضي، ولرياستهم لا ينزلون إليّ، فإذا لم أسر إليهم فكيف يظهر الحق ويعلمون أن لأهل السنة ناصرًا للحجة؟
فحق من قال للعلماء: قوموا بواجبكم نحو أمتكم، دلوهم إلى الخير ومكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، أدوا الأمانة العلمية التي في أعناقكم، والتي أخذ الله عليكم الميثاق في بيانها، وإرشاد الناس إليها، فإن «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا»
قال علي بن أبي طالب t «ما أتى الله عالمًا علمًا إلا أخذ عليه الميثاق لا يكتمه» وقال أيضًا t« ما أخذ الله على الجهال أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء أن يعلموا»
محق من يوجه سهام اللوم نحو العلماء في تخليهم عن تذكير الأمة ودعوتهم إلى الحق حتى قام بها الجهلة، وتقدم إليها الأدعياء ممن لا يحسنون هداية الناس وإرشادهم وتهذيب أخلاقهم وتثقيف عقولهم، بل هؤلاء في حاجة ماسة إلى إصلاح أنفسهم وإحكام دينهم على وفق الكتاب والسنة، وتصحيح عقائدهم بالهداة والمرشدين.
محق من قال للعلماء أنتم رعاة الأمة والمسئولون عنها في إصلاح أوضاع دينها وتقويم أخلاقها وتهذيب نفوسها وتبصيرها بطريق الرشاد فكل راع مسؤول عن رعيته.
ومن رعى غنما في أرض مسبعة | ||||
ونام عنها تولى رعيها الأسد | ||||
وحين قصر رجال العلم عن واجبهم، وتخلوا عن وظيفتهم، ورضوا بالانزواء في بيوتهم - تصدى لإرشاد الأمة وتعليم الشبيبة غير الأكفاء من الجهلة، وأولي الأهواء ممن فسدت عقيدتهم، فكانت النتيجة ما ترى مما يحتاج إلى جهود جبارة في أزمنة طويلة، يتصدى لها جمع كثير من أولى الدين والرأي والغيرة والشجاعة لإعزاز دين الله وإعلاء كلمته وغرس العقيدة الصحيحة في قلوب النشء بالوسائل المؤثرة والأساليب المقنعة، بعد إعداد كامل العدة والحصول على الذخيرة التامة، مع مراعاة الرفق واللين وسعة في الصدر، ومع صدق في النية، وإخلاص في العمل، والله الموفق والهادي إلى السبيل.
* * *
دعوة المرسلين
يقول الله تعالى: }وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{ فقد بين سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة الحكمة في خلق الجن والإنس، وهي أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، ومن المعلوم أن من عبد الله ولكن عبد معه غيره أنه لم يعبد الله وحده، بل أشرك معه في عبادته، فالإشراك في عبادة الله مفسدة لها كما يفسد الحدث الطهارة، فإن الله سبحانه وتعالى أمر بعبادته وحده، ولذلك يقول ابن عباس: « كل ما ورد في القرآن" اعبدون" فالمراد: وحدون»
والتوحيد هو إفراد الله بالعبادة وهو معنى كلمة الإخلاص (لا إله إلا الله )فإن لا نافية للجنس فقد نفت جنس الإله أن يكون أحد منهم يستحق التأله بحق أو يصرف شيء من العبادة له، ثم أثبت بقوله إلا الله العبادة لله وحده لا شريك له في ألوهيته، كما أنه ليس له شريك في ربوبيته، وهذا معنى قول الخليل u }إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ{ فاستثنى من المعبودين ربه، وتبرأ مما سواه }فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{
وهذا المعنى في القرآن والسنة كثير جدًا، وهو حقيقة ما دعت الرسل إليه أممهم قال تعالى: }وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ{ }وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ{ إذا عرفت هذا علمت أن من صرف شيئًا من أنواع العبادة لغير الله فقد أشرك بالله، والشرك مبطل للعمل.
فمن أنواع العبادة التي أمر الله بها ولا يجوز صرفها لغيره: الدعاء والاستغاثة والاستعانة والذبح والنذر والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والمحبة والخشية والرغبة والرهبة والتأله والخشوع.
فمن دعا أحدًا غير الله من الرسل أو الأنبياء أو الأولياء أو الصالحين أو غيرهم من سائر المخلوقات- فقد أشرك بالله، ودخل في وعيد الله بقوله تعالى: }لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ{ قال الله تعالى: }ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ... { الآية. فقد سمى الله الدعاء عبادة، بل هو مخ العبادة كما في الحديث الصحيح، ونهى سبحانه أن يدعى معه أحد كائنا من كان، قال تعالى: }وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا{.
وكذلك من ذبح لغير الله فقد أشرك في عبادة الله غيره قال تعالى: }قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ{ وقد فسر العلماء النسك بالذبح.
وكذلك النذر لا يجوز أن ينذر لغير الله، ومن نذر لغير الله حرم عليه الوفاء به، وإنما الذي يجب الوفاء به هو إذا كان لله كما قال تعالى: }يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا{ ويقول تعالى: }وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا{ }إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ{ }فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ{ }فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا{ }وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ{ }وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ{ }وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ{ }فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ{ }وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ{ }وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ{.
إذا عرفت حقيقة التوحيد، وحقيقة ما دعت إليه الرسل أممهم - علمت أن من فعل ما نهى الله عنه ورسوله أو ترك شيئًا مما أمر الله به ورسوله فقد حصل عليه من الخلل والنقص في دينه بحسب ما فعل من المنهي عنه، أو بحسب ما ترك من المأمور به، فقد يخرج من الإسلام وهو لا يشعر وقد ينقص توحيده وهو لا يعلم.
فمن ذلك ما يفعله بعض المنتسبين للإسلام من دعاء الأموات والغائبين ممن لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا فضلاً عن أن يملك ذلك لغيره، وسواء كان المدعو رسولاً أو نبيًا أو ملكًا أو وليًا أو شمسًا أو قمرًا أو غير ذلك من سائر المخلوقات.
وإن كان الداعي يعلم أن الله هو الخالق الرازق، وأن بيده الأمر كله، ولكنه يطلب ممن يدعو أن يشفع له عند الله فإن ذلك مناف للتوحيد كما قال تعالى: }وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى{.
ولذلك حذر النبي ﷺ أمته غاية التحذير من البناء على القبور وتجصيصها واتخاذ السرج عليها، كل ذلك خوفًا من أن يكون وسيلة إلى الصلاة عندها، ودعاء الميت والاستعانة به، فمما ورد عنه ﷺ في ذلك ما ثبت في الصحيحين والسنن عن رسول الله ﷺ أنه نهى عن البناء على القبور وأمر بهدمها كما قال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى حدثنا وكيع عن سفيان بن حبيب بن ثابت عن أبي وائل عن أبي الهياج الأسدي قال: « قال لي علي ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته »
وساق بسنده عن جابر قال: « نهى رسول الله ﷺ أن يجصص القبر وأن يبنى عليه وأن يكتب عليه» وساق عن ثمامة قال: «كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم فتوفى صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوى، ثم قال سمعت رسول الله ﷺ يأمر بتسويتها».
وقال الترمذي: باب ما جاء في تسوية القبور: حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن حبيب ابن أبي ثابت عن وائل« أن عليا t قال لأبي الهياج الأسدي ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ لا تدع قبرًا مشرفًا إلا سويته ولا تمثالاً إلا طمسته» قال وفي الباب عن جابر t
وقال ابن ماجة في باب ما جاء في النهي عن البناء على القبور وتجصيصها والكتابة عليها: حدثنا زهير بن مروان حدثنا عبد الرازق عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال «نهى رسول الله ﷺ عن تجصيص القبور ».
حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا حفص بن عثمان عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن جابر قال: « نهى رسول الله ﷺ أن يكتب على القبور شيء».
حدثنا محمد بن يحيى حدثنا محمد بن عبد الله الرقاشي حدثنا وهب حدثنا عبد الرحمن بن زيد عن القاسم بن مخيمرة عن أبي سعيد أن النبي ﷺ نهي أن يبنى على القبور.
وقال النووي رحمه الله في شرح مسلم: قال الشافعي في الأم: (رأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى). ويؤيد الهدم قوله: (ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته)، وقال الأذرعي رحمه الله في قوت المحتاج: ثبت في صحيح مسلم النهي عن التجصيص والبناء. وفي الترمذي وغيره النهي عن الكتابة. وقال القاضي ابن كج: ولا يجوز أن يبنى عليها قباب ولا غيرها.
والوصية باطلة: قال الأذرعي: والوجه في تحريم البناء على القبور المباهاة والمضاهاة بالجبابرة والكفار، والتحريم يثبت بدون ذلك، وأما بطلان الوصية ببناء القبور وغيرها من الأبنية العظيمة في إنفاق الأموال الكثيرة عليه فلا ريب في تحريمه، والعجب كل العجب ممن يلزم ذلك الورثة من حكام العصر، ويعمل بالوصية. بذلك انتهى كلام الأذرعي رحمه الله.
وقد روى أبو داود من حديث جابر t أن رسول الله ﷺ نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه، أو يزاد عليه، ونهى رسول الله ﷺ عن الكتابة عليها كما تقدم في صحيح مسلم.
وقال أبو عيسى الترمذي رحمه الله: (باب ما جاء في تجصيص القبور والكتابة عليها ) حدثنا عبد الرحمن بن الأسود حدثنا محمد بن ربيعة عن ابن جريج عن أبي الزبير قال: « نهى رسول الله ﷺ أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها، وأن توطأ». هذا حديث حسن صحيح.
وقال أبو داود: (باب البناء على القبور) حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق قال أخبرني ابن جريج قال حدثنا أبو الزبير أنه سمع جابرًا يقول: سمعت رسول الله ﷺ: «نهى أن يقعد على القبر وأن يجصص وأن يبنى عليه». اهـ.
إذا تبين ذلك فهذه أحاديث رسول الله ﷺ الصحيحة الصريحة التي لا مطعن فيها ولا مغمز - شاهدة في أن وضع القباب والبناء على القبور والكتابة عليها وتجصيصها واتخاذها مساجد وإسراجها، أمر تقرر في الشرع منعه، تحذيرًا لنا أن نسلك سنن من قبلنا.
وإذا تأمل الناظر أعيان ما صح فيه النهي من الشارع في هذا الباب- عرف حقيقة ما نهى عنه ﷺ، قال النووي: وأما الذبح لغير الله فالمراد به أن يذبح باسم غير الله كمن ذبح للصنم أو للصليب أو لموسى أو لعيسى أو للكعبة ونحو ذلك، وكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلمًا أو نصرانيًا أو يهوديًا. نص عليه الشافعي، واتفق عليه أصحابنا، فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله والعبادة له - كان ذلك كفرًا، فإن كان الذابح قبل ذلك مسلمًا، صار بالذبح مرتدًا، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله ﷺ كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، فقال: « أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله» قال القرطبي رحمه الله: وإنما صوروا تلك الصور ليتأسوا بهم، ويعملوا أعمالهم الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم، ويعبدون الله عند قبورهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها، فحذر النبي ﷺ عن مثل ذلك سدًا للذريعة المؤدية إلى ذلك.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - لما ذكر ما يفعله المشركون عند القبور: " فلأجل هذه المفسدة حسم النبي ﷺ مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقًا، وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بركة المساجد، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها؛ لأنها أوقات يقصد فيها المشركون الصلاة للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ، وإن لم يقصد ما قصده المشركون سدًا للذريعة. وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركًا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ورسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين الرسول ﷺ. إن الصلاة عند القبور منهي عنها وإنه ﷺ لعن من اتخذها مساجد فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد وبناء المساجد عليها وقد تواترت النصوص عن النبي ﷺ بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة للسنة الصحيحة الصريحة وصرح أصحاب أحمد وغيرهم منت أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك. اهـ.
وروى مسلم عن جندب بن عبد الله قال سمعت النبي ﷺ قبل أن يموت بخمس وهو يقول: « أني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك».
قال ابن القيم رحمه الله: وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه وفهم عن رسول الله ﷺ مقاصده جزم جزمًا لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغة لا تفعلوا وصيغة إني أنهاكم عن ذلك ليس لأجل النجاسة بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة لمن عصاه وارتكب ما عنه نهاه ولم يخش ربه ومولاه. وقل نصيبه أو عدم من لا إله إلا الله وقال رحمه الله يجب عدم القباب التي بنيت على القبور لأنها أسست على معصية الرسول ﷺ.
وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما في القرافة من الأبنية منهم ابن الجميزي والظهير الترمذي وغيرهما.
قال الإمام الصنعاني رحمه الله في (تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد) بعد أن ذكر فصولاً نافعة بيّن منها أقسام التوحيد وأنواع العبادات: " (فصل) الاعتقاد في غير الله شرك: قد عرفت من هذا كله أن من اعتقد في شجر أو حجر أو قبر أو ملك أو جني أو حي أو ميت - أنه ينفع أو يضر، أو أنه يقرب إلى الله، أو يشفع عنده في حاجة من حوائج الدنيا بمجرد التشفع به ".
إلى أن قال: " واعتقد ما لا يحل اعتقاده، كما اعتقد المشركون في الأوثان فضلاً عمن ينذر بماله وولده لميت أو حي، أو يطلب من ذلك الميت ما لا يطلب إلا من الله تعالى من الحاجات، من عافية مريضه، أو قدوم غائبه، أو نيله لأي مطلب من المطالب، فإن هذا هو الشرك بعينه الذي كانت تفعله الجاهلية، وإنما كانوا يفعلونه لما يسمونه وثنا وصنما، وفعله القبوريون لما يسمونه وليًا وقبرًا ومشهدًا، فالأسماء لا أثر لها، ولا تغير المعنى ضرورة لغوية وعقلية وشرعية. فإن من شرب الخمر وسماها ماء ما شرب إلا خمرًا وعقابه عقاب شارب الخمر ولعله يزيد عقابه للتدليس والكذب في التسمية".
إلى أن قال: " وكذلك تسمية القبر مشهدًا، ومن يعتقدون فيه وليًا لا يخرجه عن اسم الصنم والوثن، إذ هم معاملون لها معاملة المشركين للأصنام، ويطوفون بها طواف الحجاج ببيت الله الحرام، ويستلمونها استلام أركان البيت، ويخاطبون الميت بالكلمات الكفرية من قولهم على الله، ويهتفون بأسمائهم عند الشدائد ونحوها".
قال العلامة الشوكاني رحمه الله في شرح الصدور بتحريم رفع القبور: " اعلم أنه قد اتفق سابقهم ولاحقهم وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة y إلى هذا الوقت- أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها، واشتد وعيد رسول الله ﷺ لفاعلها كما يأتي بيانه، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين ". اهـ.
قال الإمام النووي رحمه الله في شرح مسلم على حديث جندب t: "قال العلماء: إنما نهى النبي ﷺ عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدًا خوفًا من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، وربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية".
وقال الشيخ محمد صديق حسن القنوجي البخاري في كتابه (الدين الخالص): "وأما فتنة القبور فقد أدت إلى الشرك بالله في صفاته الخاصة به عز وجل، وطال ذيولها وسالت سيولها، وأولدت فتنًا كثيرة لا يحصيها إلا الله تعالى، إلى أن هجرت عبادة الرب، وجعلوه معطلاً، وصارت العبادة كلها للأموات، واعتقدوا فيهم ما لا يجوز اعتقاده إلا في خالق الكائنات، وابتدعوا لهم أنواع التصرفات في العالم، وابتلى بذلك كل جاهل في الدنيا والعالم، وصارت القبور قبلة الحاجات وكعبة المرادات، واستراحوا في الاستغاثة لغير رب الأرباب، وجعلوا للموتى المشاهد، وبنوا لهم ألوانًا من القباب، ولم يعلموا أن هذه الافتعالات مضادة للشريعة الحقة ماحية للسنن الصادقة فإنا لله وإنا إليه راجعون. ولا شك أن أصل شرك العالم طلب الحوائج من الموتى والاستعانة بهم، والتوجه إليهم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، فضلاً عمن استغاث به أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، يقول تعالى: }مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ{ والله لم يجعل سؤال غيره سببًا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد".
ولذلك لما قال أبو هريرة t: « من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه » وجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن وهو جعله وساطة بينه وبين الله من لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، والميت محتاج إلى من يدعو له، كما أوصانا النبي ﷺ إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم، ونسأل لهم العافية والمغفرة.
فعكس المشركون هذا، وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثانًا تعبد فجمعوا بين الشرك بالمعبود، وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى التنقص للأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين بذمهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص، بأنهم ظنوا أو يعتقدون إنهم راضون عنهم بهذا، وإنهم أمروهم به، وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستعجبين لهم؟
ومن جمع بين معرفة سنة رسول الله ﷺ في القبور، وعرف ما أمر به ﷺ، ونهى عنه، وعلم ما عليه أصحابه والسلف الصالح، ورأى ما عليه أكثر الناس اليوم رأى بينهما فرقًا عظيمًا، ومخالفة صريحة لسننه ﷺ، فالنبي ﷺ نهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ونهى عن تسريجها وهؤلاء يوقفون الأوقاف على إضاءتها، ونهى أن تتخذ أعيادًا، وهؤلاء يتخذونها أعيادًا، وأمر بتسويتها كما في صحيح مسلم عن جابر، ونهى عن الكتابة عليها كما رواه الترمذي عن جابر، ونهى أن لا يزاد عليها غير ترابها كما رواه أبو داود عن جابر، وهؤلاء يتخذون عليها القباب، ويكتبون عليها القرآن، ويزيدون على ترابها بالجص والآجر والأحجار، وقد آل الأمر بهؤلاء الضُّلَّال إلى أن شرعوا للقبور حجا. وانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه الرسول ﷺ لأمته وما شرعه هؤلاء ونحن لا ننكر ما لأولياء الله من الفضل العظيم عند الله: قال تعالى: }أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ{، ولكن لا يلزم من هذا دعاؤهم، والاستعانة بهم، والتوجه إليهم في طلب الحوائج وكشف الشدائد، بل هذا لله وحده، وإنما ينبغي الاقتداء بأفعالهم، والاهتداء بأقوالهم ما داموا متبعين للكتاب والسنة، لا يأمرون ولا ينهون إلى على وفق ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
والله الموفق الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلّم.
* * *
من محاسن الإسلام
لا شك أن الدين الإسلامي دين سماوي لم يكن لأمة من الأمم مثله، ولا نزل على نبي من الأنبياء نظيره، إذ هو دين عام مبين لأحوال المجتمع الإسلامي بل البشرية عامة، وبه كمل نظام العالم، فهو جامع شامل للمصالح الاجتماعية والأخلاقية.
فإنه بيَّن الأحوال الشخصية التي بين العبد وبين ربه من صلاة وزكاة وصوم وحج، وشرع نظافة البدن فأمر بغسل الجنابة والجمعة والعيدين. أو بعضه كالوضوء عند كل فريضة من الفرائض الخمس، وشرع أمور الفطرة من ختان وقص شارب وتقليم أظفار ونتف إبط والسواك وحلق العانة.
كما أرشدنا الإسلام إلى تجميل الثياب، وأن تكون على أحسن هيئة وأكملها، كما سن ذلك في الجمعة والعيدين، وهذَّب الأخلاق فأمر بالصدق في المعاملات والوفاء بالعقود والعهود والمواعيد، وأوجب ترك الذنوب من زنى وخمر وغيبة وقذف وسعاية وشهادة زور وانحراف في الأحكام وتحريف لما أباح الله وحرَّم، وتغير الأحكام عن وجهها وما أريد بها إلى غير ذلك.
وبالجملة فإن الدين الإسلامي جامع لروابط الأمة الإسلامية بل هو حياتها تدوم بدوامه، وتنعدم إذا انعدم وهو مفخرة من مفاخرها العظيمة، ومن خصائصها.
حيث لم يكن لأمة من الأمم قبلنا مثله، فلو أن المسلمين تمسكوا بأحكام الإسلام وتعاليم دينهم كما كان آباؤهم الأماجد لكانوا أرقى الأمم وأسعد الناس ولكن لما انحرفوا وحرفوا تعاليم دينهم - تنكبوا عن الصراط السوي.
وقد جعل الإسلام للفقراء حظا في مال الأغنياء بالزكوات والكفارات، لطفا بهم، وإحسانا إليهم، ورحمة بالأغنياء، وتكرمة لهم وتحصينا لأموالهم وشرع الإسلام الحج ليشهدوا منافع لهم فتتوافد إليه سائر الأمم الإسلامية ليحصل اجتماع عام لسائر الأمم التي تدين به لينتفع بعضهم من بعض من علومهم وأحوالهم ويحصل بذلك التعارف والتعاون والتآخي، ولما في ذلك من إعانة أهل الحرمين الشريفين ليكونا مركزين عظيمين للإسلام، وهذا بعض من مقاصد الحج.
كما قد شرع الإسلام اجتماعات أخرى أصغر وأيسر في الجمع والأعياد، وبين أحكام المعاملات من بيع وربا ورهن وقرض وإجارة وشركات ووكالات وحوالة ورعاية، وغيرها من المعاملات المالية التي تقتضيها القاعدة التي عليها مبنى علم الاجتماع البشري.
وبين الإسلام كيف تقام البيوتات، وتؤسس العائلات، فندب إلى الزواج وحث عليه ورغب فيه، وبين العقود التي تعتبر زواجًا ووضح شروطها من رضا وولي وشهود وغيرها، وما خالف ذلك فهو سفاح أو قريب منه، وأمر بسدل الحجاب للنساء صيانة للنسل وإبعادًا للمظنة، وراحة لكل ضمير.
وبين أحكام الجنايات كالقصاص في النفس والطرف، وما يشترط لذلك، كما بين ما يلزم لحفظ المجتمع العام من نصب إمام، وشروط استحقاقه للإمامة، وما يجب له من طاعة، وما يجب عليه من المشورة، والعمل بالشريعة، وإقامة العدل بين أصناف الرعية.
ثم إن الإسلام قسم السلطة فجعلها خططا، منها القضاء فحدد للقاضي خطته من فصل الخصومات والنظر في أموال غير المرشد، والحجر على من يستوجب إلى غير ذلك، وبين خطة الشاهد كيف تحمُّل الشهادة وأداؤها ؟ وممن تقبل ؟ وعلى من ترد؟ وأمر بإثباتها وعدم كتمانها.
كما بين خطة المحتسب ثم بقية الخطط، وبين حكم من خرج عن طاعة الإمام بأن يقاتل حتى يفيء إلى أمر الله.
وبين كيف نعامل الأمم الأجنبية فيما إذا وقع الحرب معها، وفي حالة مسالمتها، وأمر بحسن الجوار، وإقامة الحدود على من أخاف السبيل، وخالف ما أمرت به الشريعة.
وبالجملة فقد استقصى هذا الدين الإسلامي العظيم جميع الشؤون الاجتماعية، وبينها أحسن بيان مما يعجز عن مثله عقلاء البشر حتى دخل مع الرجل في بيته، وحكم بينه وبين امرأته، وبين ما له عليها من الحقوق، وما لها عليه من مثل ذلك، وبين ما عسى أن يقع بينهما من خلاف في المستقبل.
كما حكم الإسلام بين الرجل وبين ولده، وبينه وبين نفسه في حياته وبعد وفاته كأوقافه ووصاياه وما يصح منها وما لا يصح، وقسم مواريثه، وبين أحكام تغسيله وتكفينه ودفنه، كل هذا لأجل أن تنتظم الحياة انتظامًا كاملاً، ويعيش المسلم عيشة هنيئة منتظمة، ليتمكن معها من إعداد الزاد ليوم المعاد، والتأهب لما بعد الموت.
فالدين الإسلامي نظام عادل للمجتمع البشري الإسلامي، فإنه تام الأحكام ثابت المباني، دين سماوي لم يدع شاذة ولا فاذة إلا بينها أحسن بيان، ووضحها أتم إيضاح، وما دخلت الأمم الكثيرة في الإسلام أفواجًا أفواجًا، واتسعت دائرة الإسلام فانتشرت الأمة الإسلامية مادة جناحها من نهر الفاتح في الهند شرقًا إلى أفريقيا ثم إلى أواسط أوربا في زمن قليل - إلا باحترام الحقوق، والعمل بقواعد الإسلام، والتسوية بين طبقات المسلمين ملكهم وصعلوكهم وصغيرهم وكبيرهم فيه على السواء، فالأمة الإسلامية لا حياة لها ولا استقامة بدون التمسك بدينها، والعمل بأوامره ونواهيه، فهي دائمة بدوام دينها، مضمحلة باضمحلاله، ساقطة إذا أهملت تعاليم دينها القويم، كما قال بعض أعداء المسلمين.
فقد كانت الأمم تقتبس من قواعده وأصوله، وتختاره على كثير من قوانينها الوضعية، فأنصف الإسلامَ كثيرٌ من عقلائهم، واعترفوا بأن مدنية أوربا الحديثة لم تكن إلا بتعاليم الإسلام، والأخذ بقواعده ومبانيه، قال بعض حكماء أوربا ممن أنصف: إن نشأة مدنيتها الحديثة إنما كانت رشاشًا من نور الإسلام فاض عليها من الأندلس، ومن صفحات الكتب التي أخذوها في حروبهم مع المسلمين في الغرب والشرق.
وفق الله المسلمين للتمسك بدينهم، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم.
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا
أيها المسلم الكريم: قف معي قليلاً لنفكر سويًا في ماضي أمتنا المسلمة وما كانوا عليه من عزة وهناء، وما كان لهم من ملك واسع وعدل شامل ومنعة ونفوذ ومهابة لا مثيل لها في جميع أنحاء المعمورة، دون أن تكون لهم جيوش مؤلفة، أو أساطيل قوية تمخر البحار، أو دبابات تجوب البراري والقفار، أو طيارات سابحة في الفضاء، أو صواريخ تقذف بعيدة المدى - وما نحن فيه اليوم ويا للأسف من ذل وفرقة ومهانة وعزلة، رغم كثرة عددنا وعظم قوتنا، وكل ذلك نتيجة لما حصل بين المسلمين من تنافر وتطاحن وتهاجر وتشاحن وإعراض عن كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ، فإن الأمة الإسلامية لو رجعت إلى قول الله تعالى: }وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ{
فالإسلام حين سطع نوره في مكة المكرمة، وارتفع صوته من المدينة المنورة بعد أن هاجر إليها رسول الله ﷺ - وجد القبيلتين العظيمتين اللتين رفعتا لواء الإسلام، ونصرتا رسول الله ﷺ متفرقين، فجمعهم الله بهداه بعد فرقتهم، وبين لهم الرسول ﷺ أن الإسلام لا يقوم على العنصرية أو الشعوبية، ولا على القومية والجنسية، ولا يقوم على تفرق في العقيدة أو الرأي أو الوجهة، فإن الدعوة المشوبة بذلك يكون مآلها الفشل، ومصيرها الفناء.
وبين النبي ﷺ الطريق السوي لسعادة الدارين، وعرفهم أن دين الإسلام بني على التعاون على الحق، ومحو فرقة الجنسية، وتلا عليهم قول الله تعالى: }يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ{ وجاء (في الحديث): »كلكم لآدم وآدم من تراب لا فضل لعربي على عجمي إلا بتقوى الله«
وبين لهم أن الله واحد لا يجوز العمل بغير هداه، فعلى هذا يجب أن تكون كلمة المسلمين واحدة، فجمع الله شملهم، ووحد كلمتهم، وقضى على الفرقة التي كانت بينهم وأصبحوا إخوة متحابين، ورجالاً مؤمنين، كلمتهم واحدة، ووجهتهم واحدة، تحت راية الإسلام القوية التي لا تفضل أحدًا على أحد إلا بتقوى الله عز وجل، فقد رفع الإسلام أقوامًا كانوا في ذلة ومهانة، ووضع أقوامًا كانوا في أعلى قمة المجد ومنتهى السؤدد، فلمَّا لم يؤمنوا بالإسلام وضعهم الله، فكانوا في أسفل سافلين، ورحم الله القائل:
لقد رفع الإسلام سلمان فارس | ||||
كما وضع الشرك الشقى أبا لهب | ||||
أخي المسلم: إذا اتحدت قلوب الأمة على الحق، وتألفت نفوسها على الخير، وطهرت مجتمعها من الرذيلة، وتعاون أفرادها وجماعاتها على البر والتقوى، نالوا الخير العظيم والسعادة الأبدية، وفازوا بالرقي المحمود، وشيدوا بناء مستقبلهم على أساس من الدين، ونور من رب العالمين.
أما إذا سادت دعوة القومية والعصبية والشعوبية والعنصرية، وحصل الشقاق ووجد التفرقة والتناحر، كانت المصيبة العظمى والطامة الكبرى التي تهدم بنيان الأمم المشيد، وتقضي على حضارتها، وتحكم على مستقبلها بالذل والتقهقر، وتنذرها بوخامة العاقبة وسوء المصير.
فمن أجل ذلك نهى الله الأمة الإسلامية عن التناحر والاختلاف، وحذرها من التفرقة والإنحراف، وتوعدها بالفشل والإتلاف فقال تعالى: }وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ{
هكذا أيها المسلم الكريم يرشدك ربك إلى ما هو في صالحك دينًا ودنيا، فقف معي قليلاً لنرجع إلى سيرة أسلافنا الكرام، وما كانوا عليه من شرف رفيع وعز منيع وقوة قاهرة، قهرت كل جبابرة العالم، والتي سقط أمامها عروش الظلم والطغيان وأوكار الاستبداد والعصيان، ومعاقل الكبرياء الجوفاء والعز الموهوم، فقد تمكن أولئك الأسلاف الأمجاد من نشر لواء الإسلام في جميع أصقاع المعمورة، وبسطوا لواء العدل والمساواة بين أفراد الأمة، ولم يكن ذلك كما قدمنا بكثرة العدد ولا بقوة العدة، ولكنه- والله يعلم- إنما كان بسبب اتصافهم بالإيمان، وتمسكهم بدينهم القويم وتحاكمهم إلى القرآن، مع صدق في الأقوال والفعال، ووفاء بالوعود والعهود، وحب بعضهم لبعض، وإخاء في الله، واتحاد كامل في جميع ميادين الحياة.
يا أهل القرآن: لستم على شيء حتى تقيموا القرآن.
أخي المسلم: إذا نظرنا إلى الفجوة السحيقة التي تردى فيها بعض أبناء المجتمع الإسلامي اليوم، لاتضح مدى ما وصلوا إليه من المخالفة الصريحة لأوامر الله ورسوله، ﷺ والدلائل على ذلك بارزة يلمسها كل من رزق أدنى مقدار من الإيمان، وأكبر دليل على ما تقدم هو وجود هذه التناحرات التي مني بها العالم الإسلامي من الدعوة إلى القومية والوقوف إلى جانبها، ونبذ الدعوة الإسلامية، ومعاداة من دعا إليها، وهي الأساس لهذا الدين الحنيف، والرمز لمحاسن الشرع الشريف، والعنوان لمجد الإسلام المنيف.
إن المجتمع الإسلامي قد أصيب بتشعب الآراء، وتباين مذاهب الناس، وتغيرت وجهات الأمة، وأصبح العالم الإسلامي يتأرجح ذات اليمين وذات الشمال لا يدري ما الله صانع فيه، وإن الذي يضمن السعادة والنجاح ويحقق الفوز والفلاح هو الرجوع إلى الله، والسير على هدى كتاب الله الذي أنزله نورًا وبرهانًا، والتمسك بسنة رسول الله ﷺ، والعمل بقوله تعالى: }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ{ وقوله تعالى: }إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ{ والتزام تحكيم كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ، والرجوع إليهما فيما شجر بين الأمة من اختلاف في الرأي أو الوجهة، عملاً بقوله تعالى: }فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا{.
ولا يتحقق ذلك إلا برفض القوانين الوضعية المستوردة من الخارج، والدخيلة على ديننا وأمتنا وبلادنا، والتي مصدرها آراء الملاحدة ومفكرو أعداء الإسلام؛ ذلك لأن شريعتنا الغراء كاملة لا تحتاج إلى سواها، وفيها ما يغنينا عن غيرها، إن نحن رجعنا إليها وحكمناها في جميع شؤوننا، فإن الله تعالى يقول: }الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا{.
هذا ونسأل الله أن يوفق قادة الأمة وزعماءها إلى الاحتكام إليها في جميع ميادين الحياة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
* * *
من أحكام الحج
وبعد: فلما كان في السنة العاشرة من الهجرة النبوية نادى منادي رسول الله ﷺ المسلمين بعزمه على الحج، وأعلم الناس بذلك؛ كي يتأهبوا للحج معه ﷺ، ويتعلموا المناسك والأحكام، ويشاهدوا أحواله وأفعاله، ويستمعوا إلى أقواله، وتشيع دعوة الإسلام، وتبلغ الرسالة القريب والبعيد، ويبلغ الشاهد والغائب ما رأى وما سمع من أفعال وأقوال المصطفى ﷺ، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس الاقتداء والاهتداء برسول الله ﷺ، ويعمل بمثل عمله.
فخرج رسول الله ﷺ من المدينة لخمس بقين من ذي القعدة، وخرج معه أصحابه الكرام وعددهم ينوف على المائة ألف، حتى إذا كان بالبيداء استوت به ناقته والناس عن يمينه وشماله، ومن خلفه وأمامه، وهو يتوسطهم أهلَّ رسول الله ﷺ بالتوحيد، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وأهل الناس بإهلاله، قال جابر: « أهللنا مع رسول الله ﷺ بالحج» وأصح ما ورد أنه عليه الصلاة والسلام أهلَّ بالحج والعمرة بدليل قوله ﷺ: «أتاني آت من ربي في هذا الوادي المبارك وقال قل عمرة في حجة» وهذا من أدلة جواز إدخال الحج على العمرة ولا عكس.
ثم سار رسول الله ﷺ حتى أتى مكة، وبات بذي طوى، واغتسل فيها، ثم سار ودخل البيت من ثنية كداء من أعلى مكة، وهي الثنية العليا بالحجون، حتى أتى البيت واستلم الركن، فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا، والرمل مشروع للرجال، وهو المشي السريع مع تقارب الخطى، ويقال له الخبب، ويكون في الجهات الثلاث من البيت الشرقية والشمالية والغربية، وشرع لإغاظة الكفار حيث قالوا: يقدم عليكم غدًا قوم قد وهنتهم الحمى، فأطلع الله نبيه بما قاله المشركون، فأمر أصحابه بالرمل، وصعد المشركون على جبل قعيقعان، ولما نظروا إليهم قالوا: والله ما بهم من بأس وإن هم إلا كالغزلان، ويضطبع الطائف في طواف القدوم وهو أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر، ومنكبه الأيمن مكشوف.
ثم نفذ رسول الله ﷺ إلى مقام إبراهيم u فقرأ }وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى{ فجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين قرأ بعد الفاتحة في الأولى بقل يا أيها الكافرون، وفي الثانية بعد الفاتحة بقل هو الله أحد، ويجوز للطائف أن يصلي ركعتي الطواف في أي جزء من أجزاء الحرم.
ثم رجع رسول الله ﷺ إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من باب الصفا فلما دنا منه قرأ }إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ{ أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره، وقال « لا إلا إله الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ثم دعا ثلاث مرات ثم نزل إلى المروة، ولما أنصبت قدماه في بطن الوادي سعى شديدًا، حتى صعدتا فمشى، ولا يشرع السعي للنساء.
حتى أتى المروة ففعل عليها كما فعل على الصفا، وكان آخر طوافه على المروة وقال عليه الصلاة والسلام: « أيها الناس إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدى ولجعلتها عمرة، فمن لم يكن معه هدى فليحلل وليجعلها عمرة » فحل الناس، ولم يبق على إحرامه إلا النبي ﷺ ومن كان معه هدى، وقال لهم: « دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».
ثم مكث رسول الله ﷺ ومن معه بمكة حتى اليوم السابع، فخطب الناس بعد صلاة الظهر بها، وأخبرهم بمناسكهم وأمور حجهم، وأمر الناس بالغدو من الغد إلى منى.
ولما كان اليوم الثامن وهو يوم التروية، توجه النبي ﷺ هو وأصحابه إلى منى، وصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، وأداء هذه الصلوات الخمس والبيتوتة في هذه الليلة في منى سنة بالاتفاق، وليس على من ترك ذلك شيء.
ثم مكث حتى طلعت الشمس، ثم ركب راحلته، وأمر بقبة له من شعر تضرب بنمرة لينزل بها، فسار ولم يقف بالمشعر الحرام، ثم واصل سيره قاصدًا عرفة، فوجد القبة قد ضربت بنمرة وهي ليست من عرفة، فنزل بها حتى إذا زالت الشمس أمر براحلته القصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس خطبته المشهورة التي جمع فيها أحكام الحج وبينت المناسك، وما يجب للناس وما عليهم، وبينت ما للمسلمين من حرمة في دمائهم وأعراضهم وأموالهم، ووضع كل أمر كان في الجاهلية، ووضع دماءها، وأنه لا قصاص في قتلها، وأول دم وضعه دم قريب له هو دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد، وأبطل أفعال الجاهلية وبيوعها (التي لم يتصل بها قبض)، وأبطل الربا الذي كان المشركون يتعاملون به، وأول ربا وضعه ربا عمه العباس بن عبد المطلب، وأوصى بالنساء ما لهن وما عليهن، وأوصى أمته بالتزام كتاب الله وسنته، وأن من تمسك بهما هدى إلى صراط مستقيم، ومن اهتدى بهما فلن يضل، ومن احتكم إليهما فاز بالسعادة الأبدية، ومن استضاء بنورهما قادتاه إلى رضوان الله ومن طلب الهدى من غيرهما فقد تنكب عن سواء السبيل.
ثم أذن مؤذنه ﷺ ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر جمعًا وقصرًا، ولم يتنقل بينهما، ثم ركب ناقته حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، واستمر واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة: وقال: « وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرفة».
وصعود الجبل غير مشروع ولا أصل له، ويمتد وقت الوقوف إلى طلوع فجر اليوم العاشر بدليل ما رواه عبد الرحمن الديلي أن النبي ﷺ قال: «من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارًا، فقد تم حجه وقضى تفثه» ولما رواه أبو داود أن النبي ﷺ قال: «الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج».
ولما غاب القرص، وذهبت الصفرة دفع الرسول ﷺ مردفا أسامة خلفه، وتوجه إلى المزدلفة يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص، ويقول للناس« عليكم بالسكينة »حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بآذان واحد وإقامتين جمعًا وقصرًا، ولم يسبح بينهما، ثم نام حتى طلع الفجر، فقام وصلى، ثم سار حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة، ودعا ربه، وقال: «هذا الموقف وكل المزدلفة موقف» وفي أي جزء من أجزاء المزدلفة بات الحاج أجزأه.
ثم دفع طلوع الشمس، وأردف الفضل بن عباس، وسار حتى أتى بطن محسر، فحرك راحلته، وأسرع في المشي فيه، واستمر في السير حتى أتى الجمرة الكبرى عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة.
ثم انصرف إلى المنحر، فنحر بدنه وجميع بدنه مائة ناقة: منها ثلاث وستون بدنة ساقها معه من المدينة ونحرها بيده الشريفة، وسبع وثلاثون بدنة جاء بها عليٌّ من اليمن، ووكَّله النبي ﷺ في نحرها، وأشركه في هديه، وأكلا من لحمها، وشربا من مرقها، وقال «نحرت ها هنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم».
ثم حلق رسول الله ﷺ رأسه ودعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة واحدة وقال: «إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب وكل شيء إلا النساء» ثم وقف عليه الصلاة والسلام، فجعل الناس يسألونه، فقال رجل «لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج» وجاء آخر فقال: «لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح قال اذبح ولا حرج » فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج.
والأمور المتعلقة بيوم النحر أربعة: رمي الجمرة الكبرى، ونحر الهدى للإبل وذبحه لغيرها، والحلق أو التقصير، والطواف.
وترتيب هذه الوظائف على هذا النحو سنة لفعله ﷺ، ومن عكس فقدم أو أخر جاهلاً أو ناسيًا أو عامدًا فلا حرج.
وخطب رسول الله ﷺ يوم النحر خطبة قال فيها «أتدرون أي يوم هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس يوم النحر؟ قلنا بلى. قال: أي شهر هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا إنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا بلى. قال: أي بلد هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم، قال: أليس البلد الحرام؟ قلنا بلى، قال: فإن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم أشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض ».
ثم توجه إلى البيت العتيق، فطاف طواف الإفاضة، وأتى زمزم فشرب ثم عاد إلى منى للمبيت فيها لوجوبه، إلا السقاة والرعاة ومن في حكمهم فقد رخص لهم في البيوتة، وإن يجمعوا الرمي، فيرموا في اليوم الثالث ليومهم، واليوم الذي فاتهم الرمي فيه وهو اليوم الثاني.
ورمى رسول الله ﷺ الجمار بعد زوال الشمس، وعرض عليه بناء بيت يظله في الشمس، فقال: لا، إنما هو مناخ لمن سبق إليه، ولابد من حصول الحجر في المرمى، فلو لم يحصل فيه لم يجزه الرمي.
ولابد من الترتيب في الرمي، حيث يبدأ الرامي في الجمرة الأولى ثم الوسطى ثم الكبرى التي هي في منتهي منى، وخطب رسول الله ﷺ ثاني أيام التشريق خطبة علّم فيها أصحابه حكم التعجيل والتأخير وتوديع البيت.
ونفر رسول الله ﷺ متأخرًا، ونزل في المحصب، وصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ورقد في المحصب، وهو خيف بني كنانة، والمعروف اليوم بالأبطح، ثم ركب حتى أتى البيت الحرام، فطاف به مودعًا، وهو واجب على من أراد السفر والخروج من مكة إلى وطنه عملاً بقوله ﷺ: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت».
وفق الله المسلمين لما يرضيه، وتقبل منا ومنهم بمنه وكرمه آمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.