×
خطبة لفضيلة الشيخ عبد الرحمن الشثري - أثابه الله - ، تتحدث عن علامة من علامات الساعة الكبرى وهي خروج الدابة، حيث يوضح فيها ما هي الدَّابَّةُ؟ وما الأدلةُ على خُروجها؟ وما أسبابُ خُروجها وظُهُورِها؟ وما وَقْتُ ومكانُ خرُوجِها؟ وماذا ستعملُ بعدَ خُروجها؟ وما آثارُ الإيمانِ بخروجها؟.

    خُروجُ الدَّابة

    أدلتها، صفتها، وقت ومكان خروجها، أعمالها، آثار الإيمان بها

    للشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري

    الحمدُ للهِ العالِمِ بما كانَ وما يكون، الْمُخَلِّصِ الْمُخْلِصَ لَهُ من الْمُوحِّدينَ من الْمِحَنِ وسائرِ الفِتَنِ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ، نتَوَجَّهُ إليهِ وَحْدَهُ ألاَّ يَهْتِكَ مِنَّا الأستارَ، وأشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُهُ ورسولُهُ، الْمُستعيذُ باللهِ من شَرِّ الفِتَنِ مَعَ تناهِيهِ وعُلُوِّ رُتْبَتِهِ، القائل: (وإذا أرَدْتَ فِتْنَةً في قومٍ فتَوَفَّني غيرَ مَفْتُونٍ) رواه الترمذي وقال: (حسَنٌ صحيحٌ)، والقائل: (تعوَّذوا باللهِ منَ الفِتَنِ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ) رواه مسلم، اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّم عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وتابعيهِم إلى يومِ الْمَآلِ.

    أمَّا بعدُ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ الحشر: 18.

    عبادَ اللهِ: إنَّ الإيمانَ بالسَّاعةِ وأشراطِها، ومعرفةِ علاماتِها، ينطوي تحتَ رُكْنٍ في الدِّينِ عظيم، وهو الإيمانُ باليومِ الآخرِ، الذي قَرَنَهُ الله عزَّ وجلَّ في غيرِ مَوْضِعٍ في كتابهِ الحكيمِ بتوحيدهِ والإيمانِ بهِ، ولَمَّا كانَ أمرُ الساعةِ شديداً، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾]الحج: 1، 2[، لذا كان الاهتمامُ بالساعةِ وأشراطِها كبيراً، فلقد تحدَّثَ اللهُ تباركَ وتعالى ورسولُه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عن الساعةِ وأشراطِها، صغيرِها وكبيرِها، وعمَّا سيقعُ بينَ يديها من الفتنِ، وسارَ على ذلكَ الصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم وتدارسُوا أمرها وأشراطِها في مجالسهِم ونواديهم، لعِلْمِهم بأنَّ ذلكَ من الإيمانِ ومن أسباب البُعدِ عن المعاصي، قال البرزنجيُّ رحمه الله: (لذا كان حقَّاً على كُلِّ عالِمٍ أنْ يُشِيعَ أشراطَهَا، ويَبُثَّ الأحاديثَ والأخبار الواردةِ فيها بينَ الأنامِ، ويَسْرُدَهَا مرَّةً بعدَ أُخرى على العَوَامِّ، فعَسَى أنْ يَنْتَهُوا عنْ بعضِ الذُّنوبِ، ويَلِينَ منهم بعضُ القُلُوبِ، ويَنتبهُوا مِنْ سِنَةِ الغَفْلَةِ، ويَغْتَنِمُوا الْمُهْلةَ قبلَ الوَهْلَة) انتهى.

    أيها المسلمون: ألاَ وإنَّ من علاماتِ الساعةِ الكُبرَى (خروج الدابَّة) الْمُقارنة في عِظَمِها لطلُوع الشمسِ من مغربها، فما هي الدَّابَّةُ؟ وما الأدلةُ على خُروجها؟ وما أسبابُ خُروجها وظُهُورِها؟ وما وَقْتُ ومكانُ خرُوجِها؟ وماذا ستعملُ بعدَ خُروجها؟ وما آثارُ الإيمانِ بخروجها؟.

    أيها المسلمون: الدَّابَّةُ هيَ مِنْ جنسِ الْحَيَوانِ، تَخرجُ من الأرضِ لا من السماءِ، خلْقُها وخُرُوجُها يكونُ أمراً مُعجِزاً عجيباً مَهُولاً، تقومُ بأعمالٍ سيأتي ذكرُها إن شاء الله.

    عبادَ اللهِ: إنَّ خُرُوج الدَّابةِ في آخرِ الزمانِ ثابتٌ بالكتابِ والسُّنَّةِ والإجماع، قال تبارك وتعالى: ﴿ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ﴾ ]النمل: 82[، وقالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (بَادِرُوا بالأَعْمَالِ سِتَّاً: الدَّجَّالَ، والدُّخَانَ، ودَابَّةَ الأَرْضِ، وطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبها، وأَمْرَ العامَّةِ، وخُوَيْصَّةَ أَحَدِكُمْ) رواه مسلم.

    ومعنى قولهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: )وخُوَيْصَّةَ أَحَدِكُمْ): قال ابنُ الأثير: (يُريدُ حادثةَ الموتِ التي تَخُصُّ كُلَّ إنسانٍ، وهيَ تَصْغيرُ خاصَّة، وصُغِّرَتْ لاحتقارِها في جَنْبِ ما بعْدَها من البَعْثِ والعَرْضِ والحِسَابِ وغيرِ ذلكَ) انتهى.

    و(عن حُذيفةَ بنِ أَسِيدٍ الغِفارِيِّ قالَ: اطَّلَعَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ علينا ونَحْنُ نَتَذاكَرُ، فقالَ: ما تَذَاكَرُونَ؟ قالُوا: نَذْكُرُ الساعةَ، قالَ: إنها لَنْ تَقُومَ حتى تَرَوْنَ قَبْلَها عَشْرَ آياتٍ - فَذكَرَ - الدُّخَانَ، والدَّجَّالَ، والدَّابَّةَ، وطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبها، ونُزُولَ عيسَى ابنِ مَرْيَمَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، ويَأَجُوجَ ومَأْجُوجَ، وثلاثةَ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بالْمَشْرِقِ، وخَسْفٌ بالْمَغْرِبِ، وخَسْفٌ بجزيرةِ الْعَرَبِ، وآخِرُ ذلكَ نارٌ تَخْرُجُ مِنَ اليَمَنِ، تَطْرُدُ الناسَ إلى مَحْشَرِهِمْ) رواه مسلم.

    و(عن أبي هُريرةَ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ثلاثٌ إذا خَرَجْنَ لا يَنْفَعُ نَفْسَاً إيمانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أوْ كَسَبَتْ في إيمانِها خَيْراً: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبهَا، والدَّجَّالُ، ودَابَّةُ الأَرْضِ) رواه مسلم.

    وأجْمَعَ أهلُ السنةِ والجماعةِ على وُجوبِ الإيمانِ والتصديقِ بخروجِ الدَّابةِ وظُهُورِها في أواخرِ الزمانِ، وقد نَقَلَ الإجماعَ الأشعريّ وابن أبي زيد القيرواني وغيرهما.

    عباد الله: وأمَّا عَنْ سَبَبِ خُروجها، فهو كَمَا قالَ اللهُ: ﴿ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ﴾ ]النمل: 82[، فسَبَبُ خُروجِها يكونُ عندَ وُقوعِ القَوْلِ، وهو: وقوع ووجوب الغضب والعذاب من الله على خلقه، وسَبَبُ ذلكَ: كما قال تعالى في نفس الآية: ﴿ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ﴾ ]النمل: 82[، فحينما لا يُؤمنُ الناسُ بآياتِ اللهِ، ويَظْهَرَ الفَسَادُ، ويُبدَّلُ دينُ اللهِ، وتُضيَّعُ الحُقوقُ، وتُعطَّلُ الحُدودُ، ويَكْثُرَ الْخَبَثُ، ويَقِلَّ العِلْمُ، (عنِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما في قولهِ: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ)، قالَ: حينَ لا يَأْمُرُونَ بمعرُوفٍ ولا يَنْهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ) رواه ابنُ أبي شيبة، فعندها يَقَعُ القولُ من الله تباركَ وتعالى، فتَخْرُجُ الدَّابةُ من مَكْمَنِها، وتُبرِزُ مُؤمِنَ الناسِ من كافِرِهِم بوسْمِها وخَطْمِها لهم.

    عباد الله: وأمَّا عن أعمالِ الدَّابةِ إذا خَرَجَت، فَهُوَ أولاً: ما ذكَرَهُ اللهُ في قولهِ: (تُكَلِّمُهُمْ)، فهي تُكَلِّمُهُم وتَكْلِمُهُم، فهي تُكَلِّم المؤمنينَ والكافرينَ بلَفْظٍ وحَرْفٍ وصَوْتٍ، وتَسِمُ وتَجْرَحُ الكافرينَ، قالَ نُفَيْعُ الأَعْمَى: (سَأَلْتُ ابنَ عباسٍ عنْ قولِهِ: (أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ)، أوْ تَكْلِمُهُمْ؟ قالَ: كُلُّ ذلكَ واللهِ تَفْعَلُ، تُكَلِّمُ الْمُؤْمِنَ، وتُكَلِّمُ الكافرَ أوْ تَجْرَحُهُ) رواه ابنُ أبي حاتم، قال ابنُ كثيرٍ: (وهو قولٌ حَسَنٌ) انتهى.

    ومن أعمالها: ثانياً: وَسْمُ الناسِ مُؤْمنهم وكافرهم، فعن (أبي أُمَامَةَ يَرْفَعُهُ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: تَخْرُجُ الدَّابَّةُ فَتَسِمُ الناسَ على خَرَاطِيمِهِمْ – أي على أُنُوفِهِم-، ثمَّ يَغْمُرُونَ فيكُمْ – أي يَكْثُرون فيكم-، حتى يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ البعيرَ فيقُولُ: مِمَّنْ اشْتَرَيْتَهُ؟ فيقُولُ: اشْتَرَيْتُهُ مِنْ أَحَدِ الْمُخَطَّمِينَ – أي الْمَوْسُومينَ على أُنُوفِهِم كما يُوسَمُ البعير-) رواهُ أحمدُ وصحَّحه الألبانيُّ.

    فتكليمُها ووسْمُها للناسِ أَمْرٌ خارِقٌ للعادةِ كَطُلُوعِ الشمسِ مِنْ مَغْرِبها، لِتُحْدِثَ بذلكَ انقلاباً كونياً يُنبئُ عن نهايةِ العالَمِ ودُنُوِّ أجلِ يومِ القيامةِ.

    عباد الله: وأما عن وَقْتِ خُروجها، فعن (عبدِ اللهِ بنِ عَمْروٍ قالَ: حَفِظْتُ مِنْ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حَدِيثاً لَمْ أَنْسَهُ بَعْدُ، سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ: «إنَّ أَوَّلَ الآياتِ خُرُوجاً: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبهَا، وخُرُوجُ الدَّابَّةِ علَى الناسِ ضُحَىً، وأَيُّهُمَا ما كانتْ قَبْلَ صَاحِبَتِها، فالأُخْرَى على إِثْرِها قَرِيبَاً») رواه مسلم.

    قال ابنُ حجر: (قالَ الحاكمُ أبو عبدِ اللهِ: «الذي يَظْهَرُ أنَّ طُلُوعَ الشمسِ يَسْبقُ خُرُوجَ الدَّابَّةِ، ثمَّ تَخْرُجُ الدَّابَّةُ في ذلكَ اليومِ أوِ الذي يَقْرُبُ مِنْهُ»، قُلْتُ: والحكمةُ في ذلكَ أنَّ عندَ طُلُوعِ الشمسِ من الْمَغرِبِ يُغْلَقُ بابُ التوبةِ، فتَخْرُجُ الدَّابةُ تُمَيِّزُ المؤمنَ من الكافرِ تَكْمِيلاً للمَقْصُودِ مِن إغلاقِ بابِ التَّوبةِ) انتهى.

    عباد الله: وأما عن مكانِ خُروجها، فلم يثبت عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم في مكان خُروجِ الدَّابةِ حديثٌ مرفوعٌ، وأشهر ما جاء في التحديد وتكاد كثيرٌ من الأقوال تجتمعُ عليه، وجَزَمَ بهِ غيرُ واحدٍ من العلماءِ والمفسِّرين: أنَّ خُروجَها سيكونُ من مكَّةَ المعظَّمة، وأن ذلك يكونُ من المسجد الحرامِ من جَبَلِ الصَّفا جهةَ الْمَسْعَى، وهو مَرويٌّ عن العبادلةِ الأربعةِ: ابنِ مسعودٍ وابنِ عُمُرَ وابنِ عبَّاسٍ وابنِ عمرِوٍ، أو من شِعْبِ أجياد، فـ (عن أبي الطُّفَيْلِ، عنْ حُذيفةَ بنِ أَسِيدٍ، أُرَاهُ رَفَعَهُ قالَ: «تَخْرُجُ الدَّابَّةُ مِنْ أعظَمِ المساجدِ حُرْمَةً، فَبَيْنَا هُمْ قُعُودٌ، إذْ رَنَّتِ الأرْضُ، فبَيْنَا هُمْ كذلكَ، إذْ تَصَدَّعَتْ»، قالَ ابنُ عُيَيْنَةَ: «تَخْرُجُ حينَ يَسْرِي الإمامُ مِنْ جَمْعٍ، وإنما جَعَلَ سَابقُ الحَاجِّ ليُخْبرَ الناسَ أنَّ الدَّابَّةَ لَمْ تَخْرُجْ») رواه الطبرانيُّ في الأوسط، وقال الهيثميُّ: (رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.(

    وفي روايةٍ: قالَ حُذيفةُ رضيَ اللهُ عنهُ: (إنها تَخْرُجُ ثلاثَ خَرْجَاتٍ في بَعْضِ الْبَوَادِي، ثُمَّ تَكْمُنُ، ثُمَّ تَخْرُجُ في بعضِ الْقُرَى حتى يُذْعَرُوا، وحتى تُهَرِيقَ فيها الأُمَرَاءُ الدِّمَاءَ، ثمَّ تَكْمُنُ، قالَ: فَبَيْنَما الناسُ عندَ أَعْظَمِ الْمَساجدِ وأَفْضَلِها وأَشْرَفِهَا - حتى قُلْنَا المسجدَ الحرامَ وما سَمَّاهُ - إذِ ارْتَفَعَتِ الأرضُ ويَهْرُبُ الناسُ، ويَبْقَى عامَّةٌ من المسلمينَ يقولُونَ: إنهُ لَنْ يُنْجِيَنا مِنْ أَمْرِ اللهِ شَيْءٌ، فتَخْرُجُ فتَجْلُو وُجُوهَهُمْ حتى تَجْعَلَها كالكَوَاكبِ الدُّرِّيَّةِ، وتَتْبَعُ الناسَ، جِيرَانٌ في الرِّبَاعِ، شُرَكَاءُ في الأموالِ، وأَصْحَابٌ في الإسلامِ) رواه الحاكم وصحَّحه ووافقه الذهبيُّ.

    اللهم أعذنا مِنَ الفِتَنِ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ.

    إنَّ الحمدَ للهِ، نَحمَدُه ونستعينُه، مَن يَهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأنَّ محمداً صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عبدُهُ ورسولُهُ.

    أمَّا بعدُ: (فإنَّ خَيْرَ الحديثِ كِتابُ اللهِ، وخيرُ الْهُدَى هُدَى مُحمَّدٍ، وشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثاتُها، وكُلُّ بدعَةٍ ضَلالَةٌ)، و(لا إيمانَ لِمَن لا أَمانةَ لَهُ، ولا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ.

    أيها المسلمون: من أعظم الآثارِ للإيمانِ بخروج الدابَّةِ قبل يوم القيامة، وأنها من أشراط الساعةِ الكُبرى: الإيمان باليوم الآخر، فالدَّابَّةُ وغيرُها من أشراطِ الساعةِ الكُبرى مُقدِّمة من مُقدِّماتِ هذا الرُّكنِ العظيم، وهو حافِزٌ لامتثالِ أوامرِ الله واجتنابِ معاصيهِ.

    ومنها: الإيمانُ بالغيبِ، فالدَّابةُ غَيْبٌ، فتُؤمنُ بخروجها كما أخبرَ اللهُ بها في كتابهِ، وأخبرَ بها رسولُه صلَّى الله عليه وسلَّم في سُنَّتهِ، وقد أثنى اللهُ على المؤمنين بالغيبِ في كثيرٍ من الآيات، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ * وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴾ ]الأنبياء: 48 [ 50.

    ومنها: أنَّ الإيمانَ بقُرْبِ خُروجِ الدَّابَّةِ يُؤدِّي إلى الْمُسارعةِ للتوبةِ قبلَ أن يُغْلَقَ بابُها، قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (إنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ جَعَلَ بالمغْرِبِ باباً عَرْضُهُ مَسِيرَةُ سَبْعِينَ عاماً للتَّوْبَةِ، لا يُغْلَقُ حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ قِبَلِهِ، وذلكَ قولُ اللهِ عزَّ وجَلَّ: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا) ) رواه الترمذيُّ وقال: (حَسَنٌ صحيحٌ)، وقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: (ثلاثٌ إذا خَرَجْنَ لا يَنْفَعُ نَفْسَاً إيمانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أوْ كَسَبَتْ في إيمانِها خَيْراً: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبهَا، والدَّجَّالُ، ودَابَّةُ الأَرْضِ) رواه مسلم.

    ومنها: أنَّ الإيمان بقُربِ خُروج الدابَّةِ يُؤدِّي إلى الْمُبادَرةِ إلى الأعمالِ الصالحةِ، قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: (بَادِرُوا بالأَعْمَالِ سِتَّاً: الدَّجَّالَ، والدُّخَانَ، ودَابَّةَ الأَرْضِ، وطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبها، وأَمْرَ العامَّةِ، وخُوَيْصَّةَ أَحَدِكُمْ) رواه مسلم، قال ابنُ الأثير: (ومَعْنَى مُبادَرتِها بالأعمالِ: الانْكِمَاشُ – أي الإسراعُ- في الأعمالِ الصالحةِ، والاهتمامُ بها قبلَ وُقُوعِها، وفي تَأْنيثِ السِّتِّ إشارةٌ إلى أنها مَصائِبُ ودَوَاهٍ) انتهى.

    ومنها: أنَّ الإيمان بما ستقومُ بهِ الدَّابَّةُ من كلامِ الناسِ ووَسْمِها لَهُم، وشهادتِها عليهم أنهم كانوا بآياتِ اللهِ لا يُوقنون، تذكيرٌ لِما سيكونُ في عَرَصاتِ يومِ القيامةِ مِن شهادَةِ كُلِّ شيءٍ عليكَ بذنوبكَ ومعاصيك، فلسانُكَ سَيَشْهَد، وبَصَرُكَ سَيَشْهَد، وسَمْعُكَ سَيَشْهَد، وجِلْدُكَ سَيَشْهَد، ويَدُكَ سَتَشْهَد، وقَدَمُكَ سَيَشْهَد، والأرضُ سَيَشْهَد، والصُّحُفُ التي كُتِبَت فيها أعمالُكَ وأقوالُكَ سَيَشْهَد، ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ﴾ ]النور: 24، 25[، ﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ ]المجادلة: 6[، و(عنْ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها قالتْ: إذا خَرَجَ أَوَّلُ الآياتِ طُرِحَتِ الأقلامُ، وحُبِسَتِ الحَفَظَةُ، وشَهِدَتِ الأجْسَادُ على الأعمالِ) رواه الطَّبَريُّ وصحَّحَ إسنادَهُ ابنُ حَجَرٍ وقال: (وهوَ وإنْ كانَ مَوْقُوفاً فَحُكْمُهُ الرَّفْع(ُ.

    رَضينا باللهِ رَبَّاً، وبالإسلامِ دِيناً، وبمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم رَسُولاً، اللهُمَّ أعذنا مِنْ سُوءِ الفِتَنِ، اللهُمَّ أعذنا مِنْ زَيْغِ القُلُوبِ، ومِنْ تَبعَاتِ الذُّنُوبِ، ومِنْ مُرْدِياتِ الأعمالِ، ومُضِلاَّتِ الفِتَنِ، اللهمَّ أعذنا من شَهَواتِ الغَيِّ في بُطُونِنا وفُرُوجنا ومُضِلاَّتِ الْهَوَى، نسأَلُكَ اللهُمَّ التوبةَ النصوحَ وقبولَها يا تَوَّابُ يا رحيمُ، ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ ]البقرة: 127[، ﴿ وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ ]البقرة: 128]، رَبَّنا اغفرْ لنا وتُبْ علينا، إنكَ أنتَ التَّوَّابُ الغَفُورُ، اللهُمَّ اغفرْ لنا وارحمنا وتُبْ علينا، إنكَ أنتَ التوَّابُ الرَّحيمُ.