×
يا أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة، أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع، وإنا بكم عما قليل لاحقون، وهذه المقالة تبين القبر ماذا أعددت له، فظاعة المثوى، تذكر بيت الوحدة، بيت الظلمة، ضمته، القبر حاجز بينك وبين الصالحات .

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله تعالى بصر بالحق فهدى.,. وأعطى فأغنى, والصلاة والسلام على النبي الداعي إلى الهدى. وعلى آله وأصحابه أعلام التقى.

    وبعد: لا يزال الخلائق غادين ورائحين إلى ذلك المصير المكتوب.. وذلك المنزل المورود! القبر! دار البلى.. ومستقر الورى!

    إن القبور سجون

    ما مثلهن سجون

    كم في القبور قرون

    ممن مضى وقرون

    ما في المقابر وجه

    عن التراب مصون

    قال أبو عبيدةَ الخواص عند قبر: «حتى متى تشيع غاديًا أو رائحًا إلى ربه؟! تجعله في لحد، وتحثي عليه التراب، أم والله لتكوننه عن قريب»!

    القبر! يا له من منزل, ما أوعظه لأولي الألباب! ويا له من حفرة ما أزجرها لأهل الصواب!

    وها هي رسومه بادية للعالمين.. وأطلاله ظاهرة للخلائق أجمعين!

    * فماذا أعددت له أيها المذنب؟!

    يا من استأنست بشهوات النفس.. وأخلدت إلى رغائبها! أعلمت أن المصير إلى حفرة يا لبؤس ساكنها إن لم يمهدها بالصالحات؟!

    تابعت النفس اللجوج.. وعما قليل ليأتينك الخبر اليقين!

    أيها المسكين! ماذا أعددت لبيت الوحشة.. ومثوى الدود؟!

    قال عمر بن عبد العزيز لبعض جلسائه: «يا فلان، لقد أرقت الليلة، أتفكر في القبر وساكنه، وإنك لو رأيت الميت بعد ثلاثة في قبره؛ لاستوحشت من قربه بعد طول الأنس منك به! ولرأيت بيتًا تجول فيه الهوام! ويجري فيه الصديد! وتخترقه الديدان! مع تغير الريح! وبلى الأكفان! بعد حسن الهيئة، وطيب الريح، ونقاء الثوب»! قال: ثم شهق شهقة خر مغشيًا عليه!

    * أيها المذنب! احذر فظاعة المثوى!

    غدًا يثوى الجميع إلى حفرة يبين فيها السعيد من الشقي.. منزل يسعد فيه السعداء.. ويشقى في غمراته التعساء!

    القبر! ما أفظع كرباته! وما أشد محنه!

    كم من مجندل تحته! وكم من مكروب بين أركانه!

    فهل تذكرت – أيها المذنب – فظاعة المثوى.. ووحشة الفراش؟!

    قال رسول الله ﷺ‬: «ما رأيت منظرًا قط إلاَّ والقبر أفظع منه»! [رواه الترمذي وابن ماجه/ صحيح ابن ماجه للألباني: 4343].

    أيها المذنب! هل تذكرت المبيت بين أطباق لحدك؟! كيف سيكون المنزل يومها؟! يا لله! ما أوحش المبيت! وما أخشن المنزل!

    قال أنس بن مالك t: «يومان وليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهما: يوم تأتيك البشرى من الله تبارك وتعالى؛ إما بعذابه، وإما برحمته! ويوم تُعطى كتابك؛ إما بيمينك، أو بشمالك! وليلة تبيت في القبر وحدك، ليلة لم تبت مثلها ليلة! وليلة صبحتها يوم القيامة، ليس بعدها ليل».

    وكان الحسن بن صالح إذا أشرف على المقابر؛ يقول: «ما أحسن ظواهرك، إنما الدواهي في بواطنك».

    فتذكر – أيها المذنب – تلك الدواهي.. وهل تطيق صبرًا أيها المسكين على فظائه اللحود.. أو هل ستجد يومها خلاصًا من مواكب الدود؟!

    ضعوا خدي على لحدي ضعوه

    ومنه عفر التراب فوسدوه

    وشقوا عنه أكفانا رقاقًا

    وفي الرمس البعيد فغيبوه

    فلو أبصرتموه إذ تقضت

    صبيحة ثالث أنكرتموه

    وقد سالت نواظر مقلتيه

    على وجناته وانفض فوه

    وناداه البلى هذا فلان

    هلموا فانظروا هل تعرفوه

    حبيبكم وجاركم المفدى

    تقادم عهده فنسيتموه

    * أيها المذنب! تذكر بيت الوحدة!

    يا غافلاً عن ضجعة القبور! ويا لاهيًا عن منازل الثبور!

    تذكر بيت الوحدة.. ودار البلى والوحشة!

    غفلت أيها المسكين عن المثوى بين اللحود.. وشغلتك الشهوات عن مراتع الدود!

    أيها المذنب! ها هم الصالحون يتذكرون ذلك المنزل الفظيع! وتُمتلأ أفئدتهم جزعًا وهم يذكرون ذلك المثوى!

    * عن وهيب بن الورد قال: «نظر ابن مطيع يومًا إلى داره فأعجبه حسنها، فبكى، ثم قال: «والله لولا الموت لكنت بك مسرورًا، ولولا ما نصير إليه من ضيق القبور؛ لقرت بالدنيا أعيننا»! ثم بكى بكاء شديدًا، حتى ارتفع صوته!

    * وكتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض مدائن الشام: «أما بعد: فكم للتراب في جسد ابن آدم من مأكل! وكم للدود فيه من طريق مخترق! وإنِّي أحذركم ونفسي – أيها الناس – العرض على الله عز وجل»!

    * وعن أبي معاوية قال: «ما لقيني مالك بن مغول إلا قال لي: لا تغرنك الحياة، واحذر القبر، إن للقبر شأنًا»!

    * وعن امرأة هشام الدستوائي، قالت: كان هشام إذا طفئ المصباح؛ غشيه من ذلك أمر عظيم، فقلت له: إنه يغشاك أمر عظيم عند المصباح إذا طفئ! قال: إني أذكر ظلمة القبر! ثم قال: «لو كان سبقني إلى هذا أحد من السلف، لأوصيت إذا مت أن أجعل في ناحية من داري»!

    أيها المذنب! إن في خبر هؤلاء القوم؛ عظة لك.. وتنبيهًا من الغفلة.. فما أحراك أن تفيق من سكرة الشهوات.. وأنت تقف على خوف الطائعين! إذ أن أهل الطاعات أقرب إلى السلام من أهل الذنوب.

    * أيها المذنب! إياك والغفلة عن تمهيد قبرك!

    القبر! يا له من مضجع خشن إن لم تمهِّدهُ بالصالحات! ويا له من شرور ونيران إن لم ترحل إليه بالطاعات!

    وكم من غافل ألهته الشهوات عن إعداد دار مقامه! فهو في شغل شاغل عن التهيؤ لبيت الوحشة والدود!

    حقًا! كم هو مغرور.. خاسر من غفل عن إعداد منزل قراره بعد الموت! وبينما الغافلون مشغولون بالدنيا؛ إذ باغتهم هادم اللذات! فرحلوا عن غير زاد.. فنزلوا مساكن يا الله! ما أفظعها!

    قال يحيى بن معاذ: «يا ابن آدم! دعاك ربك إلى دار السلام، فالنظر أين تجيبه؟! إن أجبته من دنياك، واشتغلت بالرحلة إليه؛ دخلتها، وإن أجبته من قبرك؛ منعتها»!

    وعن عبيد بن عمير، قال: «ليس من ميت يموت إلا نادته حفرته التي يدفن فيها: أنا بيت الظلمة، والوحدة والانفراد! فإن كنت في حياتك مطيعًا؛ كنتُ اليومَ عليك رحمةً، وإن كنت لربك عاصيًا؛ فأنا اليوم عليك نقمةٌ! أنا البيت الذي من دخلني مطيعًا؛ خرج مسرورًا، ومن دخلني عاصيًا؛ خرج مني مثبورًا»!

    أيها المذنب! ما بالك مبادرًا إلى شهواتك.. ساعٍ في رغبات النفس.. مشيِّدًا دارك الفانية؟!

    أما ترى داعي المنون يختطف النفوس اختطافًا؟!

    أما ترى الخلائق راحلين إلى الدار الأخرى؟!

    أفق أيها المسكين! قبل أن تنزل دارًا يا ويل الراحلين إليها بغير الصالحات!

    {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 1-4].

    قال عبد الله بن العيزار: «لابن آدم بيتان: بيت على ظهر الأرض، وبيت في بطن الأرض، فعمل للذي على ظهر الأرض، فزخرفه وزينه، وجعل فيه أبوابًا للشمال، وأبوابًا للجنوب، وصنع فيه ما يصلحه لشتائه وصيفه، ثم عمد إلى الذي في بطن الأرض؛ فأخربه، فأتى عليه آت، فقال: أرأيت هذا الذي أراك قد أصلحته، كم تقيم فيه؟! قال: لا أدري! قال: فالذي قد أخربته، كم تقيم فيه؟! قال: فيه مقامي؟! قال: تقر بهذا على نفسك، وأنت رجل يعقل»!

    * أيها المذنب! إنه بيت الظلمة!

    ظلام القبور! يا الله! ما أشده من ظلام!

    فماذا أعددت – أيها الضعيف – لهذا الظلام؟!

    ظلام القبور؛ لا يعرفه إلا من نزل تحت أطباق الثرى.. وذاق كأس الردى!

    ظلام القبور لا تنيره السرج.. ولا يكشف عن جحافل ظلماته أنواع المصابيح!

    إنه ظلام لا يضيئه إلا صالح الأعمال.. ولا يكشف سواده إلا الصالحات!

    عن سليم بن عامر، قال: «خرجنا في جنازة على باب دمشق، ومعنا أبو أمامة الباهلي، فلما صلى على الجنازة، وأخذوا في دفنها، قال أبو أمامة: إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزل تغنمون فيه الحسنات والسيئات، توشكون أن تظعنوا منه إلى منزل آخر وهو هذا – يشير إلى القبر – بيت الوحشة! وبيت الظلمة! وبيت الضيق! إلا ما وسع الله، ثم تنتقلون منه إلى يوم القيامة»!

    أيها المذنب! احذر يوم نزولك في حفرة لا يضيء ظلامها إلا نور الطاعات! حفرة شديدة الأهوال.. فظيعة النكال!

    فاعمل أيها الغافل لنجاتك.. قبل أن لا تنجو!

    قال نصر بن محمد السمرقندي: «من أراد أن ينجو من عذاب القبر؛ فعليه أن يلازم أربعة أشياء، ويجتنب أربعة أشياء، أما الأربعة التي يلازمها: فمحافظة على الصلوات، والصدقة، وقراءة القرآن، وكثرة التسبيح، فإن هذه الأشياء تضيء القبر، وتوسعه، وأما الأربعة التي يجتنبها: فالكذب، والخيانة، والنميمة، والبول».

    * تذكر ضمة القبر!

    ضمة القبر! يا لها من ضمة! أيُّ جسدٍ يطيقها؟!

    غفل الغافلون عن شدة لحظاتها.. وساعة كرباتها!

    ويا للشدة يومها بعد أن قال رسول الله ﷺ‬: «هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبوال السماء، وشهده سبعون ألفًا من الملائكة، لقد ضم ضمة، ثم فرج عنه». [رواه النسائي/ صحيح النسائي لألباني: 2054].

    لقد قال النبي ﷺ‬ ذلك في سعد بن معاذ t صاحب الفضائل المشهورة.. والمناقب الظاهرة.

    عن نافع أنه لما حضرته الوفاة، جعل يبكي، فقيل: ما يبكيك؟! فقال: «ذكرت سعدًا وضغطة القبر»!

    فتذكر – أيها المسكين – ذلك اليوم.. وخذ لتلك اللحظات عدتها.. وفر إلى الله تعالى.. عسى أن تكتب النجاة.

    ولدتك إذ ولدتك أمك باكيًا

    والقوم حولك يضحكون شرورَا

    فاعمل ليوم أن تكون إذا بكوا

    في يوم موتك ضحكًا مسرورَا

    * أيها المذنب! كيف أنت إذا تفرق عنك الأهل والأصحاب؟!

    إنه يوم نهايتك فيه مع أهلك وأحبابك؛ إذ أهالوا عليك التراب! فيسلمونك بعدها إلى ضيق اللحود.

    فيا الله! ما أشدها من لحظات عليك أيها المسكين.

    فبينما أنت مشغول بكربات القبر وشدائده.. إذا بأهلك مشغولون باقتسام ميراثك,

    جفت الدموع بعد البكاء وتقادم العهد بعد التذكر! وسلام الحبيب بعد الجزع!

    قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما يومًا لعبيد بن شرية الجرهمي: أخبرني بأعجب شيء رأيته؟! قال: إني نزلت بحي من قضاعة، فخرجوا بجنازة رجل من بني عذرة، يقال: حريث، وخرجت معهم، حتى واروه في حفرته؛ تنحيت جانبًا عن القوم، وعيناي تذرفان بالبكاء، ثم تمثلت بأبيات من الشعر كنت أرويها قبل ذلك بزمان طويل:

    استقدر الله خيرًا وارضينَّ بِهِ

    فبينما العسر إذ دارت مياسير

    وبينما المرء في دنياه مغتبطًا

    إذا صار في الرمس تَغْفُوه الأعاصير

    يبكي الغريب عليه ليس يعرفه

    وذو قرابته في الحي مسرور

    قال: وإلى جانبي رجل يسمع ما أقول، فقال لي: يا عبد الله، هل لك علم بقائل هذه الأبيات؟! قلت: لا, والله، إلا أني أرويها منذ زمان. فقال: والذي يحلف به، إن قائلها لصاحبنا الذي دفناه آنفًا الساعة! وهذا الذي تراه ذو قرابته، أسر الناس بموته، وأنت الغريب تبكي عليه كما وصفتَ.

    فعجبت لما ذكر في شعره، والذي صار إليه من قوله، كأنه ينظر إلى مكانه من جنازته, فقلت: إن البلاء موكل بالمنطق. فذهبت مثلا!

    * أيها المذنب! القبر حاجز بينك وبين الصالحات!

    يا مغرورًا بأيامه! ومشغولاً بلذاته! هل شعرت أن قبرك صندوق أعمالك؟! وهل شعرت – أيها المسكين – أنك إذا دخلته؛ كأن حاجزًا بينك وبين الرجوع إلى الدنيا؟!

    أيها المذنب! إن التوبة اليوم ممكنة.. وإن الرجوع يسير.. فاحذر العوائق! احذر أن تنزل قبرك بغير زاد!

    فما أكثر الحسرات يومها.. وما أكثر النادمين.. ولكن بعد فوات الأوان!

    عن الفضل الرقاشي أنه كان يقول في كلامه إذ ذكر أهل القبور: «يا لها من وجوه حيل بينها وبين السجود لله عز وجل, لو يجدون إلى العمل مخلصًا بعد المعرفة بحسن الثواب؛ لكانوا إلى ذلك سراعًا! ثم يبكي، ويقول: يا إخوتاه! فأنتم اليوم قد خلي بينكم وبين ما عليه ترجون إليه فكاك رقابكم، ألا فبادروا الموت، وانقطاع أعمالكم، فإن أحدكم لا يدري متى يخترمه ليلاً أو نهارًا»!

    وقال أبو وهب محمد بن مزاحم: «قام رجل إلى ابن المبارك في جنازة، فسأله عن شيء، فقال له: يا هذا, سبِّح، فإن صاحب السرير منع من التسبيح»!

    أيها المذنب! كم من مقبور تحت الثرى تسبيحة واحدة خير له من الدنيا وما فيها!

    وما أسهل ذلك وأنت حي.. وفي فسحة من أمرك.. وما أزهد أهل القبور عن حطام أهل الدنيا الفاني!

    مر بعض السلف بالمقابر، فقال: «أصبح هؤلاء زاهدين فيما نحن فيه راغبون»!

    وتذكر – أيها المذنب – أن الأعمال الصالحة؛ أنيس أهل الطاعات في قبورهم.. فما هو أنيسك يومها؟!

    فما أحوجك يومها إلى أنيس يؤنس وحشتك في بيت الوحشة!

    قال يزيد الرقاشي: «بلغني أن الميت إذا وضع في قبره؛ احتوشته أعماله، فأنطقها الله تعالى، فقالت: أيها العبد المنفرد في حفرته، انقطع عنك الأخلاء والأهلون، فلا أنيس لك اليوم غيرنا»! قال: ثم يبكي، ويقول: «طوبى لمن كان أنيسه صالحًا، طوبى لمن كان أنيسه صالحًا، والويل لمن كان أنيسه وبالاً»!

    أيها المذنب! ما أقرب الرحيل! فإنك لا تدري متى تنزل في حفرتك.. فتهيأ لها.. وبادر إلى التوبة الصادقة.. وسارع إلى الصالحات قبل أن يُحال بينك وبينها! واتعظ بمن مضى قبلك على درب المعاصي.. فإياك أن تهلك كما هلك!

    والحمد لله تعالى.. وصلى الله وسلم على النبي وآله والأصحاب..

    أزهري أحمد محمود

    الرياض 11465 ص ب 20846