الصوفية والوجه الآخر
التصنيفات
الوصف المفصل
- الصوفية
والوجه الآخر
- الخطر الدائم على المسلمين
- كيف .. ولماذا ..تجتذب الصوفية الجماهير ؟!
- الجولة الأولى الصوفية يستبدلون التوحيد بوحدة الوجود !!
- الجولة الثانية ماذا يقول ابن عربي في فتوحاته
- الجولة الثالثة ابن عربي يقول: إنه يتلقى علومه رأساً من الله ..!
- عن أفكار الصوفية في موضوع العشق الإلهي:
- الجولة الرابعة رابعة العدوية الشخصية والأسطورة
- الفرق بين الحب والعشق:
- الجولة الخامسة " الشعراني " صاحب الطبقات
- الجولة السادسة الشيوعية أقدم من ماركس
- الجولة السابعة لقاء في سلطنة عُمان
- ما هي العقبات التي تقوم في طريق المسيرة الإسلامية.. وكيف يمكننا التغلب عليها؟
- الجولة الثامنة عقبات على الطريق
- الإدعاء بأن الرسول عليه الصلاة والسلام دفن في مسجده:
- حقيقة الخلاف بين الشيعة وأهل السنة:
- الجولة التاسعة التصوف من اختراع المستعمرين
- على هامش الجولات كنت قبورياً
الصوفية والوجه الآخر
د. محمّد جَميل غَازي
إعداد
عبد المنعم الجدَّاوي
الخطر الدائم على المسلمين
قال لي أحد الأطباء:
إن الجسم دولة حديثة.. عصرية.. كأحدث ما تكون الدول المعاصرة.. فحينما تدخل الجراثيم متسللة أو مقتحمة أي جسد لأي إنسان.. ماذا يحدث..؟ هناك أجهزة إنذار منتشرة في الخلايا بطول الجسم وعرضه.. هذه "الرادارات" مهمتها أن ترسل إلى أجهزة مقاومة الجراثيم والمتسللين.. معلنة عن مكان الاختراق.. ليس ذلك فحسب، وإنما لأجناس المخربين وأسلحتهم.. وتتحرك الكرات البيضاء نحو المنطقة المخترقة حاملة الأسلحة المضادة المناسبة. ولا تبدأ القتال قبل محاصرة المخربين وتطويقهم.. لتطمئن إلى عدم تسرب العدو المهاجم إلى داخل الجسد فيحدث ارتباكاً أو يتحول إلى طابور خامس.. يمزق الجبهة الداخلية التي يجب أن تظل صامدة.. ويبدأ الحصار ثم القتال، ولا تنتهي مهمة المقاومة عند قتل المخربين والقضاء عليهم.. بل لابد من طردهم من الجسد موتى أو مهزومين في شكل "تقيحات" يقذف بها الجسد خارجه!!
والدعاة في الإسلام.. هم الذين يتصدون لجراثيم الخرافة، والخزعبلات التي تقتحم جسم المسلمين بين الحين والحين، وعلى امتداد القرون.. لكن الجرثومة الكبرى التي نفثت سمومها في المسلمين ولم تفلح المقاومة في حصارها هي جراثيم التصوف، والصوفية.. فقد تفشت في أجساد المسلمين، وأرواحهم، وراحت تعيث فساداً، وهم في نشوة بها.. يترنحون ويرقصون ويتلوون على نغمات دفوفها ومزاميرها، ويحاول الدعاة أن يحاصروها أو يوقفوا عدوانها على بقية أعضاء الجسد لكن الحقيقة تقول إن الدعاة إذا ما حاصروها في عضو تسللت إلى بقية الأعضاء.. وتحصنت فيها وحشدت هي المناطق التي تصيبها لمقاومة الدعاة.. تماماً كالجراثيم التي تنتظر الدواء.. لتتربص به وتقضي عليه حتى تظل وحدها منفردة بالجسم الذي ابتلى بها!!
والمكروبات الصوفية تمكنت من جسد المسلمين.. وزيفت عليهم الإسلام، وهي ميكروبات لا تؤثر على منطقة دون منطقة.. فأخطر ما فيها أنها تفتك أول ما تفتك بالقلب.. ثم البصر.. ثم السمع.. ثم تطرد العقل نهائياً وتبقى هي مسيطرة تصنع للقلب ما يخفق به، وللبصر ما يراه، وللسمع ما يسمعه.. في سلسلة من الأوهام لا تنتهي.. حلقات متصلة.. الأصل فيها التخلي عن العقل.. والرضوخ الكامل المصحوب بنشوة اختراق الحدود والسدود الموهومة فيرقص المريض ما شاء له الرقص.. أو يترنح ما حلا له الترنح متصلاً بالكون أو منفصلاً عنه.. ظاناً أنه أوتي ما لم يحظ به الأنبياء والرسل، واقترب وهو على الأرض من ملكوت السماء!
مخالفاً بذلك لب "أصدق الحديث" متباعداً عن "هدى السنة" مدعياً أن المسلمين وقفوا عند حدود العبارات الجامدة.. أما الصوفي فقد اجتاز هذه الحدود على أجنحة الحب أو الانفتاح الكوني الإلهي الذي خصه به الله، وقد يتمادى بعضهم ويزدهيه انبهار الناس به فيمضي في الضلال يرفض أن يصلي كما يصلي الناس.. أو يتوضأ كما يتوضأ الناس، وذلك لنه عرف ما لا يعرفه الناس، والذي لا شك فيه أنه كلما استبدت به "فيروسات" الصوفية كلما أمعن في هذه المخالفات التي لابد أن تنتهي بصاحبها إلى الضلال البعيد!!
ويحاول الدعاة في كل عصر، وفي كل مصر التصدي لهذا المد الهمجي لكن محاولاتهم الشريفة.. كثيراً ما تستشهد على عتبات هؤلاء العتاة الجبابرة الطواغيت.. فهم يسيطرون على مريديهم، وأتباعهم بأساليب رهيبة لم تصل إليها أساليب أكبر الدول الحديثة في تجنيد العملاء، والجواسيس في مخابراتها!!
والدكتور محمد جميل غازي فيلق وحده من فيالق مقاومة الصوفية، ورائد من دعاة التوحيد.. وهو لا يقف بجهوده عند الدعوة في مسجد العزيز بالله "المركز الإسلامي لدعاة التوحيد والسنة" ولا في الجماعات الأخرى التي يرأسها أو التي تدعوه لإلقاء محاضراته.. لكنه وهذا ما يتميز به – يتخذ من هذه الدعوة، وتلك المقاومة أسلوب حياة، ونمط معايشة يعيشها لرسالة التي وهب نفسه لها!!
فهو إذا دعي إلى حديث في الإذاعة ظل يدفع الحديث في حلاوة وطلاوة ويسر وسهولة إلى أن ينشب أظافره في الصوفية، والصوفيين حتى يجردهم من زيفهم، وإذا تحدث إلى صحيفة من الصحف أراد محررها أو لم يرد أخذ الحديث صوب موضوع عمره، وهدف حياته.. محاربة البدع، والضلالات، وتحدث عن الصوفية وعن تخريبهم لعقليات المسلمين.. وهو يقول ذلك في ذكاء يحمل الصحفي على النشر، ويربط الجريدة بقرائها ويرغم المذيع أو صاحب البرنامج على مواصلة الحديث معه.. لأن المستمعين يمطرونه برسائلهم التي يطالبون فيها باستضافة ذلك المتحدث مراراً وتكراراً.
وبعضهم قد يأخذ على الدكتور محمد جميل غازي إسرافه في هذه الناحية، وتجاوزه كل حد في حماسه، وتكريسه جهده لمقاومة الصوفية والصوفيين.. كأنما الدنيا خلت من كل المشكلات إلا هذه المشكلة!!
والحقيقة أنني كمسلم أرى أن هذا الرجل هو النموذج الحي للداعية.. ذلك الذي تحولت كل قطرة دم فيه إلى رسالته التي وهب نفسه لها.. فهي ليست عنده وظيفة ينتهي الحماس لها بانتهاء ساعات العمل أو هواية يمارسها في أوقات فراغه إنها عنده فوق كل ذلك.. فهي الهواء الذي يتنفسه، وهي الحياة التي يحياها، وهي الأمل الذي يعيش من أجله، وهي نهاره وليله، وشغله الشاغل.. ومن أجل ذلك كان الدكتور محمد جميل غازي يتميز عن بقية الدعاة ويختلف عنهم.. لا أقول خيرهم.. أستغفر الله.. ولكني أقول غيرهم، وله مذاق خاص ولعباراته طعم قد لا تجده عند غيره إذا قالها غيره!
ولهذا كله مجتمعاً ومنفرداً.. كان في استطاعة هذا الرجل اجتذاب مئات وآلاف القلوب إلى رسالة التوحيد، ونبذ الخرافات، والخزعبلات، وفي مقدمتها الصوفية، وهي ليست بالمهمة السهلة، لا سيما اجتذاب الغلاة في "القبورية"، والصوفية.. وكاتب هذه السطور كان واحداً منهم.
إن اجتذاب كافر أو صاحب دين كتابي غير الإسلام.. إلى الإسلام أيسر بكثير من تصحيح عقيدة مسلم قبوري أو صوفي.. ذلك لأن القبوري أو الصوفي يتحصن، ويعتصم بالجهل الذي يعيش فيه، وهو يظن أنه وحده الذي يخوض بحار الأنوار التي كشفت له دون سائر البشر.. أما دعوة التوحيد فهم قساة غلاظ.. لم يصلوا بعد إلى شفافية الصوفية "وهلاوسهم".
ختاماً أريد أن أقول: إنه لزاماً عليّ وَرَداً لما أسداه إلي الدكتور محمد جميل غازي من جميل.. ويكفي أنه كان سبباً مباشراً في تصحيح عقيدتي.. وحرصاً مني على أن يستفيد غيري من بقية المسلمين، وأن يعودوا إلى تصحيح عقيدتهم بالتوحيد.. ومساهمة مني في جمع جهوده المبعثرة أشتاتاً، والتي نختصم مراراً من أجلهم، وأني أشهدكم أيها القراء عليها.. أقحم نفسي عليه وأجمع هذه الأحاديث الصحفية التي أدلي بها في مناسبات مختلفة في "القاهرة" وفي دولة "عمان"، وفي "السعودية".. وكلها تدور حول الصوفية، والصوفيين.. وأحاول بجهد متواضع أرجو أن يوفقني الله فيه.. تبويبها، وإعدادها حتى تعم فائدتها، ويسهل تداولها راجياً من الله القبول والثواب.
الصحفي
عبد المنعم الجداوي
المستشار الثقافي للمركز الإسلامي
لدعاة التوحيد والسنة
القاهرة في غرة رمضان 1400ه
كيف .. ولماذا ..تجتذب الصوفية الجماهير ؟!
إن شغف الناس بالأساطير، وولع الجماهير بالأمور الغيبية التي يسمعون أن بعض الآدميين سيطروا عليها، وأخضعوها لرغباتهم.. هذه الأخبار تستولي على وجدانهم وتترسب في أعماق النفسية الجماعية لهم، وتكمن داخل كل فرد.. لا إيماناً فقط بالمكشوف عنهم الحجاب، ولا حباً لهم.. ذلك الحب الذي يفوق كل تعصب.. لكن لرغبات تنطوي عليها جوانحهم.. فلا يستطيعون الكشف عنها!!
تلك هي آمالهم في أنهم قد يملكون يوماً ما هذه القدرة! مادامت قد منحت لبشر مثلهم لا يزيدون عنهم باصطفاء، ولا باجتباء فهم من آباء مثل آبائهم، وأمهات مثل أمهاتهم، ويركز هذا الأمل في أعماقهم، ويدعمه أنهم يسمعون من شيوخهم.. أن ذلك ليس ببعيد أن يصيبهم.. بشرط واحد هو أن ينصاعوا، وأن يذعنوا، وأن يقدموا مزيداً من الطاعة لشيوخهم، وكثيراً من الهبات الدسمة، وأن لا يتوانوا عن ترديد هذه الخزعبلات.. فكل هؤلاء الأقطاب.. كانوا مثلهم مريدين صغاراً.. ثم تدرجوا!!
النفسية الجماعية المريضة هي الأصل !!
إن واقع النفسية الجماعية.. عند هؤلاء الذين يسقطن صرعى في أيدي المتصوفة يقرر أنهم نفوس عاجزة متهورة.. ضلت الطريق إلى السند الأول والأخير.. وهو التوحيد، والإيمان العميق بالله وحده، وبرسوله ﷺ، وحينما التمسوا غير الله سنداً ازداد عجزهم، وسألوا غيره أمناً فازدادوا خوفاً، ولجئوا إلى سواه هرباً من القلق فازدادوا جنوناً!
هؤلاء يتحولون إلى مجانين اكتمل جنونهم بكل المقاييس.. مطحونين بين آمال دفينة في كياناتهم لا تتحقق.. ليس هذا فقط، وإنما يحذرون أن يكشفوا عنها.. فلابد أن يظهروا الزهد.. ورغبات ظنوا أنها باتت على أطراف أناملهم، فإذا بالأيام تمضي دون أن ينتهي بهم الطريق إلى شيء!
ويزداد تعلقهم بشيوخهم.. موتاهم وأحيائهم.. يقطعون الليل في تلاوة الأوراد، ويلهثون نهاراً جرياً خلف مسيرة الأقطاب! تمزقهم اللهفة، وتسحقهم الحيرة.. يسألون هل أصبحوا من الواصلين؟ ومتى يضعون قبضتهم على أسرار الكون؟ فيحولون التراب إلى ذهب؟ ويأكلون الأطعمة اللذيذة، ويتزوجون الجميلات؟
وسياط الأمل في الوصول تطاردهم، وإغراءات المشايخ تدفعهم.. وهم يتساقطون من الداخل يوماً بعد يوم.. حسرة على أحلام بدا واضحاً أنها لن تتحقق، وأوهام أصبحوا أسرى قيودها.. تزداد حلقاتها ضغطاً كل لحظة.. وقنوط امتزج بجثة رجاء مشلول.. يموت قطعة بعد قطعة!
فيتحولون إلى المرحلة الثانية.. محاولة إدراك الآخرة مادامت الدنيا قد أفلتت منهم، وحتى هذه ليست عن إيمان خالص، ولكنها محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.. ثمناً للعمر الذي ضاع في أوهام، وضح بعد فوات الأوان أنها كاذبة.
بعضهم تتخلخل صلته بمشايخه في هذه المرحلة، ويفلت إلى كل موبقات الدنيا.. يعب منها قبل أن يفقد القدرة حتى على ارتكاب المعاصي.
وبعضهم يزداد التصاقاً بالشيوخ، والتمرغ تحت أقدام الأقطاب.. أملاً في الآخرة، فهو لا يريد أن يخسر الدارين، ويزداد جنوناً ويستغرق في أحلام اليقظة، ويقبل على التلفيق، وفي زحمة عشرات النوازع التي تنتابه يهرف أو يخرف.. فينسب لنفسه كرامات يلفقها أو يتخيلها.. صيانة لنفسه من الضياع.
تلك هي مرحلة الانسحاق الكامل لهذا الإنسان المحبط.. الذي أعطى حياته للأوهام.. فليس أماه إلا أن يغرق فيها ليستريح.. فيهيم ضالاً ومضللاً.. ينسج الخرافات، ويستمع إليها ويفلسفها ويبررها ويطرب لها.
ذلك لأن الالتواءات النفسية التي انتابته قوضت الكثير من أركان سلامته النفسية.. فلم يعد سليماً ولا سوياً.. وإلا فكيف يقبل مثل هذه النصوص التي لا يقرها غير مجنون محترف مكانه مصحات الأمراض العقلية.. هل يمكن أن يستمع عاقل إلى أن الرفاعي التقى "بالسيد البدوي" فقال له: أريد المفتاح؟ فرد عليه بأن بين يديه مفاتيح الشام، والعراق، ومصر، والهند، والسند فليأخذ ما يريد.. لكن "الرفاعي" قال: لا آخذ المفتاح إلا من يد الفتاح.. (وهذا سجع ممجوج من سجع أيام انحطاط لغة الكتابة في العصر المملوكي) فقال له: اذهب إلى مكان كذا سوف تجد يداً هابطة من السماء تحمل المفتاح فخذه.. وذهب "الرفاعي" فوجد اليد فقبلها وأخذ المفتاح.. ثم عاد إلى "السيد البدوي" فقال له "البدوي": هل تعرف اليد التي قبلتها؟ قال: نعم.. فمد له يده فوجدها هي.
هذه القصة الساذجة المتناهية في السذاجة، وهي تهدهد الوجدان المعطوب لا يمكن أن يطرب لها سوى الإنسان المريض وجدانياً وعقلياً، ومن المستحيل أن يقتنع بها أي إنسان – إذا إذا كان مبيتاً النية – على أن ينتهي إلى هذه القدرة الخارقة يوماً ما.. حتى ولو لم يعلن عن ذلك.. وقد تمتلئ أعطافه بهذه الرغبة من وراء ظهر عقله الواعي.
ولما لم يكن من حقه أن يحسد الذي نالها أو يحقد عليه فهو يندفع عاطفياً نحوه.. يتوله في حبه، ويتفانى في الالتصاق به عساه أن يكشف له ذلك القطب يوماً ما عن الأسرار!
وهكذا تدور طاحونة الصوفية.. تطحن الشيوخ والمريدين.. يطحن بعضهم البعض، ويفسدون المسلمين السذج جيلاً بعد جيل، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً!!
الجولة الأولى الصوفية يستبدلون التوحيد بوحدة الوجود !!
ماذا في هذا العالم الغامض.. الصوفية ؟!
كيف يمشون على الماء ويطيرون في الهواء ؟!
هل هي بقايا مجوسية؟ وبوذية؟ ويهودية !!
الشيخ والصحيفة.. أما الشيخ فهو الدكتور محمد جميل غازي، وأما الصحيفة فهي "تعاون الفلاحين" التي تصدرها دار التعاون للطبع والنشر بالقاهرة.
وهي الجريدة التي توشك أن تكون شبه رسمية لاشتراك أربعة آلاف جمعية تعاونية من جمعيات الفلاحين فيها وهم الذين يكونون ثلاثة أرباع الشعب المصري، وهم الأوتاد التي تجتاحها الصوفية والقبورية وتعتبرهم الطرق الصوفية المحطات التي تعمل ليل نهار.. بلا توقف وبلا انقطاع.. في تضليل الناشئين، والبالغين.. أما الكبار فقد تم منذ سنين إفساد عقائدهم وانتهى الأمر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
والتاريخ هو على وجه التحديد أواخر شهر يوليه من عام 1975م، وهبطت الفكرة على رأسي.. الزميلين كمال فرغلي المحرر بدار التعاون وعبد الحميد الخواجة.. لقد بدا لهما، وهما يعملان في مجلة للفلاحين.. تدافع عن مصالحهم، وتهتم بالأرض، والصحة الزراعية، والجسدية.. أن يهتما أيضاً بالصحة الدينية، وتصحيح عقيدة هذه الملايين.. من قراء الجريدة.. وبعد أن وافق مجلس التحرير على اقتراحهما بشأن عمل سلسلة من الأحاديث حول الصوفية مع "الدكتور محمد جميل غازي" حاولا الاتصال به لإغرائه على الكلام، وهو واحد من الذين يهربون من التحدث إلى الصحفيين.. هروب الإنسان من الوحش المفترس.
ذلك لأنه هو ذاته كان يوماً ما ممارساً للصحافة.. ويدرك أنه مهما كانت درجة أمانة المحرر فهو لابد وبحكم الصنعة أن يضيف أو يحذف من حديث المتحدث.. وهو يتكلم في مسائل شائكة، والحذف أو الزيادة فيها.. قد يؤدي إلى جهنم.. وأخيراً وبعد أن اقتنع بأن إحجامه سوف يحرم الملايين من الفلاحين، وأن إقدامه سوف يتيح له أن يتحدث إلى أخوة له في صميم الريف لن يتيسر له أن يلقاهم أو يلقونه إلا بشق الأنفس.. امتثل من أجل محاولة شرف الوصول إلى الناس في دورهم، وجمعياتهم، وجلساتهم الخاصة.
ولقد أسعده أن يكتب إليه الكثيرون منهم، وزاد في سعادته أن يجيب على بعضهم في خطابات خاصة، واضطرت إدارة الصحيفة أمام سيل البرقيات، والتليفونات، والخطابات.. أن تمتد بالحوار إلى ثلاثة أعداد متوالية، وذلك قلما يحدث في أي صحيفة.. ثم اضطرت وتحت ضغوط الفلاحين والذين أبرقوا من كل مكان في أنحاء البلاد.. أن تواصل الحديث في أعداد أخرى تضمنت الردود والاستفسارات والتأييدات.. وكان ذلك بالنسبة للزميلين الصحفيين يعتبر عملاً صحفياً ناجحاً.. لا يتكرر في حياة أي صحفي.
ونحن إذ ننقل الأحاديث الثلاثة برمتها.. نتوخى الفائدة التي نرجوها من إعادة النشر، وتركيز جهود "الدكتور" المبعثرة.. أو بعضها.. وإليك التحقيقات الصحفية في الصفحات التالية.
الطرق الصوفية.. هذا العالم الغامض الذي تحيطه الأسرار وتتناقض من حوله الأحكام. ما هي رسالتها وكيف نشأت؟ ماذا يقول فيها المؤيدون والمعارضون؟.. هل هي بدعة افتريت على الإسلام لا تجد لها سنداً في كتاب الله وسنة رسوله كما يقول المعارضون؟.. أم هي الإسلام في شفافيته ونقائه كما يقول المؤيدون؟.. هل هي منهج وأسلوب في العبادة حافظ على الدعوة الإسلامية وساهم في نشرها كما يذهب المؤيدون؟ أم هي مجموعة من الأوهام والخرافات تعطي انطباعات خاطئة عن الإسلام والمسلمين وتتحمل المسؤولية التاريخية والحضارية في تخلف المنطقة الإسلامية كما يتهمها المعارضون؟.. هل هي ضرورة دينية لتقويم السلوك وإحياء الروح وهداية القلوب؟ أم هي دعوة للتواكل وتجميد ملكات الفكر والإبداع ساعدت على انحراف الشباب وهروبه من المجتمع ومن الدين ؟
ثم لماذا تتعدد هذه الطرق الصوفية بحيث بلغ عدد الطرق ذات الطابع الرسمي 66 طريقة بالإضافة إلى عشرات أخرى غير رسمية؟ وما هي أوجه الاختلاف فيما بينها وما هي نقاط الالتقاء؟
وهؤلاء الأجلاء مشايخ الطرق الصوفية مع ما نكنه لهم من احترام.. ما حجم سلطانهم الروحي على المريدين؟ ومن أين يستمدون هذا السلطان؟ وما مدى الحقيقة فيما يقول به بعض مشايخ الصوفية من أن البركة لا تأتي إلا بواسطة شيخ ينقل البركات إلى المريدين، وأن من لا شيخ له فشيخه الشيطان؟
قضايا قديمة اختلفت حولها الاجتهادات، وتصارعت حولها الآراء، تعبر عن نفسها بالحدة تارة وباللين تارة أخرى.. يصمت الجدل حولها فترة لينبعث من جديد.
إن "التعاون" تفتح باب المناقشة في هذه القضايا وتدعو لإجراء حوار صريح مفتوح وبلا حساسيات، يشارك فيه علماء الدين، ورجال الفكر لحسم هذه القضايا وبيان مدى ما فيها من حق وصدق تدعيماً للعقيدة الإسلامية.
وحول هذه القضايا كان "للتعاون" لقاء مع فضيلة الدكتور محمد جميل غازي إمام مسجد العزيز بالله بالزيتون ورئيس جماعة التوحيد، وكان لفضيلته آراء جريئة فيما طرحناه من تساؤلات، نستأذن قبل أن نعرضها في كلمة لابد منها عن رسالة مسجد العزيز بالله.
تقوم رسالة هذا المسجد أساساً على تعميق عقيدة التوحيد وتنقيتها مما علق بها من شوائب، والحرص على إقامة الشعائر التعبدية على أساس من السنة المحمدية الشريفة.. وينهج فضيلة إمام المسجد في خطبة الجمعة ودرس ما بعد الصلاة منهجاً فريداً يرتكز على تفسير وشرح آيات القرآن الكريم بالتتابع والتسلسل طبقاً لترتيب المصحف الشريف، ويتخذ منها منطلقاً لدعوته إلى التفهم الصحيح للإسلام، وترسيخ عقيدة التوحيد.. وهو منهج يلقى – للحق والأمانة – استجابة واسعة لدى جمهور المصلين، ومعظمهم من الشباب المثقف الذي يتزاحم داخل المسجد وخارجه، حاملاً معه أجهزة التسجيل.
كما يخصص المسجد درس الثلاثاء من كل أسبوع لشرح الأحاديث والسنة النبوية، وبيان ما بها من معان وأحكام.
كما ينظم المسجد مؤتمراً إسلامياً يشارك فيه الكثير من العلماء، ورجال الفكر الديني لمناقشة قضايا الإسلام وإبراز الحضارة الإسلامية.
ولندع الآن الحديث عن رسالة المسجد التي يلخصها فضيلة الدكتور محمد جميل غازي في عبارة واحدة يرددها دائماً وهي "أن يسلم المسلمون".. ولنستمع إليه يتحدث عن قضايا الصوفية.
يقول: إن الصوفية شيء والإسلام شيء آخر! ولا يقول باجتماعهما إلا من يقول باجتماع الظلمة والنور، والأسود والأبيض، والحق والباطل، والهدى والضلال!!
ثم يتساءل: هل وردت كلمة "صوفية" في كتاب الله؟ أو هل جاءت على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام، رغم أنه صلوات الله عليه وسلامه لم يترك كبيرة أو صغيرة من أمر ديننا أو دنيانا إلا وتعرض لها؟! هل عرفها الصحابة رضوان الله عليهم؟ ولماذا نرفض تسمية الله، وهو تعالى يقول: { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ } [الحج: 78] الآية، ولماذا نسلك منهجاً لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله، والله جل شأنه يأمرنا بقوله تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } [الحشر: 7].
الوحدة ضد التوحيد:
ونستوقف فضيلته لنسأل: وهي خرج الصوفية عن الالتزام بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام؟ أليس العكس هو الصحيح؟
إن الصوفية فيما نرى، ويرى معنا الكثيرون دعوة للتفاني في محبة الرسول الكريم والاقتداء به.. صحيح أن لهم بعض الشعائر الخاصة، ولكنهم يمارسونها تحقيقاً للسعادة، وابتغاء السمو بالروح ولمزيد من التقرب إلى الله جل في علاه.
ويجيب فضيلته في حدة: ليست هناك أرستقراطية في الإسلام، وليست هناك خصوصيات في دين الله.. وإذا كان الصوفية يقتدون حقاً برسول الله، فلماذا يدخلون على الإسلام ما ليس فيه، والرسول العظيم يقول: ”تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك“ وأمامنا قول الإمام مالك رحمه الله: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً ﷺ خان الرسالة، لأن الله جل شأنه يقول: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } [المائدة: 3]).
ويستطرد د. جميل غازي قائلاً: إن الصوفية لم يكتفوا بالخروج على سنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، بل إن عقائدهم تتصادم أساساً مع جوهر الإسلام.. فالصوفية يقولون بوحدة الوجود، ويرون أن الوجود حقيقة واحدة لا فرق في نظرهم بين الحق والخلق، وهو قول مضاد للإسلام وعقائده.
ولعل فضيلته قد لمح في نظرتنا غير قليل من الشك والدهشة.. فيقوم إلى مكتبته الحافلة ويعود منها بمجموعة مجلدات ويقول: هذه مجموعة من كتب أئمة الصوفية وشيوخها، تعالوا بنا لنتعرف على ما احتوته من أفكار حتى لا يقال أنني أشوه الحقائق، أو أحرف الكلم عن مواضعه، وتعالوا نقرأ ما يقوله (ابن عربي) شيخ الصوفية الأكبر في كتاب "الفتوحات المكية).. هاهو يعبر عن اعتقاده بوحدة الوجود بقوله: "سبحان من خلق الأشياء وهو عينها".
وأضاف قائلاً: ولما كان الله في نظر (ابن عربي) هو المخلوقات والمخلوقات هي الله فحينئذ تكون العبادة عنده متبادلة.. ويعبر عن ذلك بقوله:
" فيحمدني وأحمده .... | ويعبدني وأعبده " ... |
ثم يذهب شيخ الصوفية الأكبر بعد هذا إلى القول بوحدة الأديان، لا فرق لديه بين سماويها، وغير سماويها فيقول في ذلك:
وقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي | إذا لم يكن ديني إلى دينه داني | |
فأصبح قلبي قابلاً كل حالة | فمرعى لغزلان ودير لرهبان | |
وبيت لأوثان وكعبة طائف | وألواح توراة ومصحف قرآن |
ويعلق فضيلته على ذلك بقوله: هكذا حارب شيخ الصوفية الأكبر عقيدة التوحيد الإسلامية بنظرية الوحدة التي قال بها واعتنقها وفتن معه بها أناس كثيرون.
ثم يواصل فضيلته عرض نماذج أخرى من أفكار أئمة الصوفية فيقول: إن "الجيلي" وهو من كبار مشايخ الصوفية – يعلن في صراحة أو وقاحة – أنه إله الكون الأعظم فيقول في كتاب "الإنسان الكامل 1/22":
لي الملك في الدارين لم أر فيهما | سواي فأرجو فضله أو فأخشاه | |
وقد حزت أنواع الكمال، وأنني | جمال جلال الكل، ما أنا إلا هو |
إلى أن يقول:
وإني رب للأنام وسيد | جميع الورى اسم، وذاتي مسماه |
أما "الحلاج" – وهو إمام من أئمة الصوفية – فإنه يقول في كتاب (الطواسين/34) :
أنا من أهوى ومن أهوى أنا | نحن روحان حللنا بدنا | |
فإذا أبصرتني أبصرته | وإذا أبصرته أبصرتنا |
طبقات الشعراني والشذوذ بأنواعه !!
ثم هذا هو "النابلسي" يقول معقباً على قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10]: أخبر تعالى أن نبيه محمداً ﷺ هو الله تعالى وتقدس، وبيعته هي بيعة الله، ويده التي مدت للبيعة هي يد الله.. كما يقول في تفسير قول الله تعالى لموسى { } [طه: 13] بأن تكون أنت أنا وأكون أنا أنت !!
وقبل أن يمضي الدكتور جميل غازي في عرض نماذج أخرى لأفكار الصوفية ومعتقداتهم في وحدة الوجود نستوقفه لنسأل: ما لنا ولهذا الهراء الذي مضى وانقضى ؟ ولماذا نضيفه على حساب الصوفية ونبني عليه اتهامنا لهم بالتناقض مع الإسلام ؟
فيجيب: لأن الصوفية ما زالوا يتعبدون بهذا الكلام في مساجدنا ومازالت هذه الأفكار هي التي تسود حلقاتهم وأذكارهم، ويستشهد بأحد الأوراد الذي ينشده دائماً المنتسبون إلى الشاذلية والذي يعبر عن وحدة الوجود.
"اللهم انشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة حتى لا أرى ولا أجد ولا أحس إلا بها".
ثم يضيف فضيلته بصوت تمتزج فيه السخرية بالمرارة بأن ما كتبه هؤلاء المشايخ بما فيه من خبل وهوس مازال حتى يومنا هذا هو الدستور السائد بين الصوفية الذي تستند إليه معتقداتهم، ويصوغ مناهجهم في العبادة، ويضرب على ذلك مثلاً بكتاب الطبقات الكبرى للشعراني.. ويقول: إنه كتاب متداول بين الصوفية يأخذون منه ثقافتهم ومعرفتهم بالله فماذا يحتويه هذا الكتاب ؟ دجل وخرافة ومجون وجنون.. وماذا عرض الشعراني في كتابه هذا عن أولياء الصوفية وكراماتهم؟.. لا شيء سوى الخرافة والشذوذ الجنسي والقذارة ثم يدعونا إلى جولة في هذا الكتاب لنرى الشعراني يصف أحد أوليائه فيقول:
وكان رضي الله عنه يلبس الشاش المخطط كعمامة النصارى وكان دكانه منتناً قذراً لأن كل كلب وجده ميتاً أو خروفاً يأتي به فيضعه داخل الدكان، فكان لا يستطيع أحد أن يجلس عنده.
ثم يعقب فضيلته: بأن الشعراني لا يكتفي بهذا من كرامات سيده الشيخ فيضيف: إنه توجه إلى المسجد فوجد في الطريق مسقاة كلاب فتطهر فيها، ثم وقع في مشخة حمير.
ثم يواصل قراءة ما جاء بكتاب الطبقات عما يقوله الشعراني عن "أبي خوزة".. وكان رضي الله عنه إذا رأى امرأة أو أمرداً (شاب بلا لحية) راوده عن نفسه وحسس على مقعدته سواء كان ابن أمير أو ابن وزير ولو كان بحضرة والده أو غيره ولا يلتفت إلى الناس.
ويقرأ عما يتحدث به الشعراني عن سيده (علي وحيش) فيقول: "وكان إذا رأى شيخ بلد أو غيره ينزله من على الحمارة ويقول له أمسك رأسها حتى أفعل فيها فإن أبى شيخ البلد تسمر في الأرض لا يستطيع أن يمشي خطوة".
ويعقب فضيلته على ذلك بقوله.. هذه بعض كرامات الصوفية المخففة التي تسمح الآداب العامة بذكرها دون أن نتعرض لنماذج أخرى فاضحة امتلأ بها كتاب الطبقات الكبرى للشعراني، وهو كتاب أطالب بإعدامه لما اشتمل عليه من خزي وتشويه للعقيدة.
زوجات الصوفيين أرامل !!
وكان لابد لنا من لحظة صمت لنسترد فيها أنفاسنا اللاهثة ونجمع فيها شتات أفكارنا التي تبعثرت أمم هذا السيل من الخرافة والخبل لكي نعود فنسأل: إذا ما تجاوزنا عن هذه الخرافات والأفكار المشبوهة التي جاءت يقيناً نتيجة لدسائس التيارات والفلسفات المعادية للإسلام، ألم تؤد الصوفية دورها – كما يرى الكثيرون – في خدمة الإسلام وحمايته في مواجهة الفكر الوثني المادي.
ويجيب فضيلته متسائلاً: كيف يمكن للصوفية أن تخدم الإسلام وهي تتعارض معه أساساً، ثم كيف لها أن تحميه وهي دعوة صريحة للتواكل والانعزالية بينما الإسلام دعوة للعمل والجهاد؟.. ثم يضيف أن الله جل شأنه قد استخلفنا في الأرض لنعمرها بإذنه ومشيئته والقرآن العظيم حافل بالآيات الكريمة التي تدعو للجهاد والتعمير بالحق والعدل والخير، والرسول الكريم صلوات الله عليه يدعونا للجهاد ويقود رايته، ويأمرنا بالعمل ويسبقنا إليه، ويقول صلوات الله وسلامه عليه في حديث شريف:
”إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة (النخلة الصغيرة) فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها“.
ويضيف.. هذا ما يأمر به الإسلام ويدعو إليه، فبماذا تدعو الصوفية!؟ وماذا تطلب من المريد ليكون من الأولياء؟ لنقرأ مما يقوله الشعراني في كتابه (الطبقات) :
"لا يبلغ الرجل إلى منازل الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة، وأولاده كأنهم أيتام، ويأوي إلى منازل الكلاب".
ثم يعقب فضيلته متسائلاً: أليست هذه دعوة خطيرة لا تخدم إلا أعداء الإسلام؟ ألا نجد في هذه الدعوة تفسيراً واضحاً لما لاقته الصوفية من ترحيب وتشجيع من جميع الأنظمة الاستعمارية التي تعاقبت على المنطقة الإسلامية ؟
ثم ما الذي يتحقق إذا حصل المريد على واحدة من منازل الصديقين التي أطلق عليها الشعراني منازل الكلاب.. يقول الصوفية: تطوى له الآفاق ويصبح البعيد قريباً، أو بعبارة أخرى يصبح من أهل الخطوة أولئك الذين يطيرون في الهواء ويمشون على الماء..
ويعلق فضيلة الدكتور غازي بقوله: هذا هو أفك الصوفية.. إن العالم حولنا قد قطع أشواطاً بعيدة المدى في طريق التقدم العلمي والحضاري، وحقق انتصارات مذهلة.. وهذه هي آثار أقدامه فوق القمر وفي أعماق المحيط وفي كل مكان في أرض الله.. ونحن.. أين نحن ؟ تائهون غارقون نقنع بأن نقبع في زوايا ضريح، نردد التوسلات، وندعو أصحاب القبور لحل مشاكلنا، ونجتر ذكرياتهم في المشي على الماء أو الطيران في الهواء.. ويضيف: إن أي صوفي تلقاه مهما علا مركزه، وعلت درجته العلمية تجده إنساناً يعادي العقل والنقل والعلم والحضارة، ويردد شعار "مجانين ولكن على أعتابنا سجد العقل".
ثم يتساءل فضيلته: أليس في هذا كله تخريب لملكات التفكير التي فضل الله بها الإنسان على كثير من مخلوقاته؟ ثم ألا يعد ذلك مسؤولاً عن تأخر الأمة الإسلامية وإفساد عقول شبابها.
في الإسلام وحده السمو النفسي !
وهنا نقاطعه.. فقد كان لنا تحفظ هام.. أن الصوفية في رأينا لا تعادي العقل أو العلم بل إن كثيراً من أئمتها يحملون أرقى المؤهلات العلمية، وهذا وحده دليل على إيمانهم بالعلم ومعاناتهم في سبيله.. إنما هم فقط يؤمنون بأن العلوم التحصيلية أمور نسبية متغيرة، بينما الحقائق المطلقة تتجاوز طاقة العقل البشري، ولا تتاح إلا لمن صفت نفسه، وأشرقت روحه، وتلقى مدداً إلهياً يعبرون عنه بأنه نور يقذفه الله في القلب، وهو أمر لا ينكره المؤمنون الذين يوقنون بالغيب.
ومن ناحية أخرى قد يكون هناك ما يبرر وجهة النظر التي تتهم الصوفية بالتواكل والسلبية، فمما لا شك فيه أن الصوفية قد علقت بها كثير من السلبيات والشوائب سواء عن جهل أو عن سوء قصد.
ومما لا شك فيه أيضاً أن بعض الفرق قد تجاوزت الحق والصواب في ممارستها للتجربة الصوفية.. ولكن يبقى السؤال الهام: إن التصوف في جوهره دعوة لإحياء الروح، ومنهج لمجاهدة النفس والسمو بها.. أفلا يعتبر ذلك عاملاً إيجابياً يستحق التزكية والإنماء.
وكان للدكتور غازي رأي آخر:
يقول: "إن إحياء الروح، ومجاهدة النفس، والارتقاء بها، هي أمور من صميم ما يستهدف الإسلام ويدعو إليه، كما أن التخلق بأخلاق القرآن الكريم وسنة الرسول هو الطريق الوحيد لتحقيق ذلك، فكيف نلتمسه عند الصوفية وهم يتجاوزون أصلاً ما جاء بكتاب الله وسنة رسوله، ويؤمنون بعقائد تتصادم مع ما يدعو إليه الإسلام".
ومضت أكثر من ثلاث ساعات والحوار يستمر وتتصاعد درجة حرارته والأستاذ غازي يمضي في إطلاق قذائفه الثقيلة على أفكار الصوفية ومعتقداتها.. ولكن يلح علينا سؤال هام: إذا كانت الصوفية كما يتهمها فضيلته تتناقض مع الإسلام وتتجاوز عن السنة الشريفة.. فكيف يمكن تفسير ما نسمعه وما يؤمن به الكثيرون من كرامات أولياء الصوفية وشفافيتهم؟
ويجيب: أية كرامات، وأية شفافية.. إن ما يتحدثون به من كرامات ما هي إلا أوهام يخدعون بها البسطاء لكي تمتلئ صناديق النذور بأموال الضعفاء المخدوعين، ويضيف: تعالوا بنا نستعرض كراماتهم المزعومة كما يتحدثون عنها بأنفسهم ويفتح كتاب "الطبقات الكبرى" يقرأ لنا ما يرويه الشعراني بلسان أحد أوليائه: "أشهدني الله ما في العلا وأنا ابن ست سنين، ونظرت في اللوح المحفوظ وأنا ابن ثمان سنين، وفككت طلسم السماء وأنا ابن تسع سنين، ورأيت في السبع المثاني حرفاً معجماً حار فيه الجن والإنس ففهمته وحمدت الله تعالى على معرفته، وحركت ما سكن، وسكنت ما تحرك بإذن الله تعالى: وأنا ابن أربع عشرة سنة".
ثم يقرأ ما يقوله الشعراني عن الشويمي: "ومرض سيده مدين (رضي الله عنه) مرة أشرف فيها على الموت فوهبه من عمره عشر سنين ثم مات في غيبة الشويمي فجاء وهو على المغسل، فقال: كيف مت؟ وعزة ربي لو كنت حاضرك ما خليتك تموت، ثم شرب ماء غسله كله".
وفي كتاب "الكواكب الدرية" يقرأ لنا الدكتور جميل غازي ما يؤكده (المناوي) من أن للصوفيين أنواعاً من الكرامات:
النوع الأول منها: إحياء الموتى وهو أعلاها، فمن ذلك أن (عبيد اليسرى) غزا ومعه دابة فماتت فسأل الله أن يحييها فقامت تنفض أذنيها. وأن (مفرجا الدماميني) أحضر له فراخ مشوية فقال: طيري بإذن الله تعالى فطارت. ووضع (الكيلاني) يده على عظم دجاجة أكلها، وقال لها: قومي بإذن الله فقامت، ومات لتلميذ (أبي يوسف الدهماني) ولد فجزع عليه فقال له الشيخ: قم بإذن الله فقام وعاش طويلاً، وسقط من سطح (الفارقي) طفل فمات فدعا الله فأحياه".
ثم ينتقل الدكتور غازي إلى كتاب الأبريز ويقرأ: "وأهل الديوان إذا اجتمعوا فيه اتفقوا على ما يكون من ذلك الوقت إلى مثله من الغد، فهم يتكلمون في قضاء الله تعالى في اليوم المستقبل والليلة التي تليه، ولهم التصرف في العوالم كلها السفلية والعلوية، وحتى في الحجب السبعين فهم الذين يتصرفون فيه وفي أهله وفي خواطرهم وما تهجس به ضمائرهم فلا يهجس في خاطر واحد منهم شيء إلا بإذن أهل التصرف" ويعقب فضيلته على ذلك متسائلاً: "أليس هذا هو قمة الشرك بالله جل وعلا؟".
ويعقب د. جميل غازي على ما تراه لنا من كرامات فيقول: أليست هذه خرافات وضلالاً واستخفافاً بالعقول.. بل وافتراء على الله جل شأنه ؟!
ثم يضيف: إن الصوفية يعتبرون أولياءهم أعلى درجة من الأنبياء، ويتجرءون أشنع الجرأة على رسل الله.. فيقول "البسطامي" في "الكواكب الدرية": "أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت" ويقول في جواهر المعاني: "خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله".
وعند هذا الحد كان لابد للحوار من أن ينتهي رغم أن د. جميل غازي يقول: مازال هناك الكثير مما ينبغي أن يقال للتعرف على أهل التصوف.
ذكرهم.. موالدهم.. نذورهم.. قبورهم.. عباداتهم.. شيوخهم.. مريديهم..
وتبقى لنا كلمة.. إن البعض قد يغضبه، ما جاء في هذا الحوار من آراء.. وقد يكتفي بأن يصدر ضدنا ما يتراءى له من الأحكام.. ولكننا نرى أن الحوار الجاد المثمر هو وحده القادر على إجلاء الحقيقة وتوضيح الصورة.. إن في بلدنا مؤسسات دينية كثيرة تحتشد بقمم شامخة من أصحاب الفكر الإسلامي.. وأولئك جميعاً مطالبون بأن يقولوا رأيهم بصراحة ووضوح في هذه القضايا.
إن (التعاون) تفسح صفحاتها لكل صاحب فكر، وتدعوه لكي يسهم برأيه ويعطي ما عنده من أجل التفهم الصحيح للإسلام، وترسيخ عقيدة التوحيد حماية لشبابنا من المزالق والانحرافات.
الجولة الثانية ماذا يقول ابن عربي في فتوحاته
إذا كانت الخرافة مدسوسة عليهم فلماذا يبقون عليها ؟!
ليس في الكتاب ولا في السنة شيء اسمه التصوف !!
متى قال الرسول.. إن للقرآن ظاهراً.. وباطناً ؟!
هناك أكثر من سبب يدعونا إلى أن نلتقي مرة أخرى بالرجل الذي شن هجوماً عنيفاً على التصوف والصوفية.. كان منه على سبيل المثال ذلك السيل المنهمر من رسائل القراء الذين تجاوبوا معه فيما ذهب إليه من اتهام للصوفية بالتناقض مع الإسلام، وطالبوا بأن تفسح له الجريدة صفحاتها لكي يعطي ما عنده، ويجيب على ما أرسلوه من أسئلة واستفسارات.. ثم كان هناك سبب يتمثل في سؤال هام: ترى ماذا يكون رأيه في التصوف بعد الحوار الذي أجريناه مع الدكتور "أبو الوفا التفتازاني" أستاذ التصوف الإسلامي بجامعة القاهرة، والذي أوضحت فيه كثيراً من اللبس الذي اكتنف قضايا الصوفية واستنكر فيه كثيراً من الشوائب التي تخرج عن آداب التصوف الصحيح.
تأليه "إبليس" في طبقات الشعراني:
وعلى غير موعد كان هذا اللقاء مع الأستاذ محمد جميل غازي إمام مسجد العزيز بالله في مكتبته الحافلة بالمؤلفات العديدة في الفقه والحديث والتفسير واللغة، والأدب، والتاريخ.
قلنا له في محاولة للاعتذار عن هذه الزيارة المفاجئة: ربما اخترنا موعداً غير مناسب ولكن قد يكون ما جئنا من أجله يستحق أن تضحي معه بالقراءة.
فيجيب مبتسماً: لم أن أقرأ بالمعنى المفهوم، ولكني كنت أسلي نفسي باستعراض بعض كرامات الصوفية وهي في الواقع مجموعة من الطرائف والأساطير تستحق أن أعرض عليكم بعضاً منها.. اسمعوا معي ماذا يقول الشعراني في كتابه (الطبقات الكبرى) وهو يتحدث عن سيده محمد الخضري ثم يقرأ: "أخبرني الشيخ أبو الفضل السرسي أنه جاءهم يوم الجمعة فسألوه الخطبة، فطلع المنبر فحمد الله وأثنى عليه ومجده ثم قال: "وأشهد أن لا إله لكم إلا إبليس عليه الصلاة والسلام" فقال الناس: كفر!! فسل السيف ونزل فهرب الناس كلهم من الجامع فجلس على المنبر إلى أذان العصر، وما تجرأ أحد أن يدخل الجامع ثم جاء بعض أهالي البلاد المجاورة، فأخبر أهل كل بلدة أنه خطب عندهم وصلى بهم، فعددنا له ذلك اليوم ثلاثين خطبة، هذا ونحن نراه جالساً عندنا في البلدة"!!
وقبل أن يمضي الأستاذ جميل غازي في عرض نماذج أخرى من هذه الشعوذة نستوقفه لنقول: ليكن ما قرأته علينا هو منطلقنا لبداية حوارنا معك اليوم.. إن بعض أقطاب الصوفية يعتبرون أن أمثال هذه الخرافات أمور مدسوسة على التصوف، وأن القول بما قد شاع في عصور التدهور الفكري والحضاري، ولقد سبق أن أوضح الدكتور "التفتازاني" أن العشراني نفسه قد ذكر أن خصومه دسوا عليه آراء لم يقل بها للنيل من مكانته.. لذلك فقد لا يكون من العدل اتهام التصوف ومحاولة إدانته من خلال كتابات يتبرأ منها مشايخ الصوفية أنفسهم.
ويجيب سيادته قائلاً: إن ادعاء الدس ليس جديداً على الصوفية، فهم دائماً يلجئون إلى هذه الحجة لإغلاق باب المناقشة حول أي موضوع يرون أن الحق قد جانبهم فيه، ومن ناحية أخرى.. إذا كانت هذه الخرافات التي حفل بها كتاب الطبقات الكبرى للشعراني قد دست عليه كما يقولون، فلماذا نراها في جميع طبعات هذا الكتاب القديم منها والحديث؟ ولماذا يترك مشايخ الصوفية هذا الكتاب في متناول أيدي أتباعهم يستقون منه معرفتهم بالدين؟ ألم يكن من المنطق – إن صح ادعائهم – أن يبادروا إلى جميع هذه الكتب ومنع تداولها أو على الأقل إعادة تحقيقها بحيث تستبعد منها هذه الأمور المدسوسة؟ ولكن الحاصل هو عكس ذلك تماماً، إنهم يحيطون الشعراني وطبقاته بحصانة وقداسة لا حد لها، بل إنهم يقيمون منزلة الصوفي بقدر إيمانه بما جاء بهذا الكتاب.
ثم يستطرد د. جميل غازي متسائلاً: ثم لماذا هذا الادعاء بالدس على كتاب (الطبقات) وهناك عشرات من كتب الصوفية تمتلئ بمثل ما امتلأ به كتاب الطبقات من خرافات وخبل وضلال؟.. خذ مثلاً كتاب (الإنسان الكامل) وفيه يشرح "أبو يزيد البسطامي" من أئمة الصوفية كيفية حلول الله فيه فيقول: "دفع بي مرة حتى قمت بين يديه فقال لي: يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك، قلت: يا عزيزي وأنا أحب أن يروني. فقال: يا أبا يزيد إني أريد أن أريكهم. فقلت: يا عزيزي إن كانوا يحبون أن يروني وأنت تريد ذلك وأنا لا أقدر على مخالفتك، فزيني بوحدانيتك وألبسني ربانيتك، وارفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا رأيناك فيكون أنت ذاك ولا أكون أنا هناك. ففعل بي ذلك".. ثم اسمعوا ماذا يقول الحلاج وهو يشرح لنا عقيدة الحلول: "من هذب نفسه في الطاعة لا يزال يصفو ويرتقي في درجات المصفاة حتى يصفو عن البشرية فإذا لم يبق فيه من البشرية حظ حل فيه روح الإله الذي حل في عيسى ابن مريم وكان جميع فعله فعل الله تعالى"، وفي كتاب (النفحات القدسية) يقول محمد بهاء الدين البيطار أحد مشايخ الصوفية:
وما الكلب والخنـزير إلا إلهنا | وما الله إلا راهب في كنيسة |
ثم يعقب د. جميل غازي متسائلاً: هل هذه الآراء والمعتقدات في الحلول والاتحاد ووحدة الوجود التي امتلأت بها كتب مشايخ الصوفية هي أيضاً أمور مدسوسة عليها !!
احذفوا البدع تسقط الصوفية !!
قلنا.. دعنا من مناقشة هذه العقائد التي نتفق معك في أنها تتصادم بالفعل مع عقيدة التوحيد الإسلامية فإن أقطاب الصوفية المعاصرين يرون أن من قال بهذه الأفكار هم قلة من أصحاب التصوف الفلسفي من أمثال البسطامي والحلاج وابن عربي، ويقولون أنه تصوف يكتنفه كثير من الغموض ويحتمل تأويلات شتى.. إنما الذي يعنينا الآن هو التصوف السني الذي يدعو إليه الصوفية المحققون، والذين يؤكدون أن مقياسه الصحيح هو الكتاب والسنة، ومادام الأمر كذلك فلماذا يرفض التصوف بل ويتهم بأنه بدعة تتناقض مع الإسلام؟
ويجيب د. جميل غازي بنبرة حادة: اسمع..أليس هناك ما يسمى "تصوفاً سنياً".. إنني أحذر بشدة من هذه المحاولة للتضليل والخداع والبحث عن مسميات يحاول بها الصوفية إضفاء الشرعية على مذهب يتناقض في أساسه مع الكتاب والسنة.. إن هذه المحاولة من جانبهم لربط التصوف بالسنة تذكرني بتلك المحاولة الفاشلة التي يلجأ إليها الشيوعيون في الوقت الحالي للإيهام بأن الشيوعية تتمشى مع مبادئ الإسلام.
ويضيف متسائلاً: ثم هذه العبارة (تصوف سني) ألا تحتوي على مغالطة فاضحة؟. إن كلمة (تصوف) لم ينطق بها الرسول ﷺ، ولم يقلها، ولم يدع إليها فكيف يزعم زاعم أنها (سنة!!) ثم يذهب بعد ذلك إلى القول بأن هناك تصوفاً سنياً؟ ومن جهة أخرى فإن هذه العبارة توحي – بمفهوم المخالفة – أن هناك تصوفاً بدعياً.. فما هو هذا التصوف البدعي حتى نميزه عن التصوف الذي يريدون منه أن يكون سنياً؟ إنني أدعوهم أن يقدموا لنا كشفاً دقيقاً بأنواع البدع التي يريدون حذفها من التصوف ثم يقولوا لنا ماذا يتبقى منه!! ثم يبتسم د. جميل غازي ساخراً ويقول: إنهم لو فعلوا ذلك فسيكون على رأس قائمة البدع اسم التصوف نفسه، لأنه بدعة لم ينطق بها الرسول ﷺ.
قلنا: ولكننا نرى أن مجرد عدم استعمال الرسول ﷺ لكلمة تصوف لا ينبغي أن يكون مبرراً لتجرد التصوف من شرعيته.. فإن هناك أيضاً كثيراً من العلوم الإسلامية لم تكن معروف أيام الرسول ﷺ، من بينها على سبيل المثال علوم الفقه والحديث والكلام والتفسير، ومع ذلك فهي علوم معترف بها وتؤدي دورها في خدمة الدعوة الإسلامية.. وبالنسبة للتصوف فلا مجال في رأينا للاعتراض عليه كعلم إسلامي ومنهج يستهدف دراسة الأخلاق وتقويم السلوك وتربية النفوس، طالما كان يستند إلى الكتاب والسنة وهذا ما يقصدونه بتعبير التصوف السني!
ويجيب فضيلته قائلاً: أحب أولاً أن أعترض على اعتبار التصوف علماً إسلامياً، فالتصوف في حقيقته مزيج من أفكار ومعتقدات مجوسية وبوذية ومسيحية ويهودية ويونانية.. وهذه حقيقة يعترف بها المستشرقون الذين درسوا هذا النوع من التصوف المسمى بالتصوف الإسلامي.. فهذا هو "فون كريمر" يقول في كتابه (تاريخ الأفكار البارزة في الإسلام): "إن في التصوف عنصرين مختلفين أولهما مسيحي رهباني، والثاني هندي بوذي" ويذهب المستشرق "ثولك" إلى أن التصوف مأخوذ من أصل مجوسي، كما أن مؤسسي فرق الصوفية الأوائل كانوا من نفس ذلك الأصل المجوسي، وكذلك يقول المستشرق الهولندي "دوزي" في كتابه (تاريخ الإسلام): "إن التصوف جاء إلى الصوفية من فارس حيث كان موجوداً قبل البعثة المحمدية" أما المستشرق "جولدزيهر" فقد فرق بين تيارين مختلفين في التصوف أولهما الزهد وهذا في نظره قريب من روح الإسلام وإن كان متأثراً إلى حد كبير بالرهبانية المسيحية، والثاني التصوف بمعناه الدقيق وما يتصل به من كلام في المعرفة والأحوال والأذواق وهو متأثر من ناحية بالأفلاطونية الحديثة، ومن ناحية أخرى بالبوذية الهندية.
التلقي عن رسول الله عندهم..!
قلنا.. ربما كانت آراء هؤلاء المستشرقين جاءت نتيجة ما يوجد من تشابه بين التصوف الإسلامي وغيره من أنواع التصوف الأجنبية، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن التصوف الإسلامي قد صدر عن هذه الفلسفات الأجنبية أو أخذ عنها.. فالتصوف كما هو معروف يتعلق بالشعور والوجدان، وطالما أن النفس الإنسانية واحدة على الرغم من اختلاف الشعوب والأجناس، فإن التجربة الصوفية يمكن أن تكون واحدة في جوهرها، كما يمكن أن يمثل التصوف خطاً مشتركاً بين الديانات والفلسفات المختلفة.. وعلى أي حال مهما كان من أمر مصدر التصوف الإسلامي وأصله فإن الذي يعنينا بحثه الآن هو ما يقول به الصوفية من أن التصوف الإسلامي يستند إلى الكتاب والسنة ويتقيد بهما.. فإلى أي حد ترون فضيلتكم صدق هذه النظرة؟
ويجيب د. جميل غازي قائلاً: مرة أخرى أعود فأذكركم بما يحاوله الشيوعيون الآن للزعم بأن الشيوعية تتمشى مع مبادئ الإسلام.. فهل هي حقاً كذلك؟ الجواب معروف فهي ضد الإسلام شكلاً وموضوعاً.. إذن لماذا يلجأ الشيوعيون إلى هذه المحاولة؟ إنهم ببساطة يهدفون إلى تضليل المسلمين وخداعهم، وتغطية عقائدهم الفاسدة التي ينفر منها المسلمون.. كذلك هو الحال بالنسبة للصوفية فهم أول من يعلم أن مذهبهم يتناقض مع الإسلام ولكنهم يحاولون التمسح بالكتاب والسنة من باب التضليل والخداع أيضاً.. ولو أن التصوف كما يزعمون يستند إلى الكتاب والسنة لكان هو الإسلام، ولما كان هناك ما يدعو إلى ذلك الجدل والانقسام الذي استمر أكثر من عشرة قرون.
قلنا.. إن القضية في رأينا تستحق مناقشة أكثر موضوعية وتحتاج إجابة أكثر تحديداً.. كيف ترون أن التصوف لا يستند إلى كتاب الله أو سنة رسول الله ﷺ ؟
ويجيب فضيلته بقوله: لأن علم الصوفية يعتمد أصلاً على الادعاء بالكشف بدلاً من الدليل الشرعي الذي يستند إلى الكتاب والسنة.. وعن طريق هذا الادعاء بالكشف فإنهم يشككون في مصادر الشرع بل وينكرون بعض أحاديث الرسول ﷺ الثابتة في دواوين السنة، ويؤولون البعض الآخر وفقاً لأهوائهم، وحجتهم في ذلك غاية في الافتراء على الله ورسوله.. إنهم يدعون أنهم يرون رسول الله ﷺ جهاراً، ويتلقون منه ما يعينهم على تأويل الأحاديث أو التمييز بين الصحيح منها والضعيف واسمعوا ماذا يقول ابن عربي شيخ الصوفية الأكبر في كتاب الفتوحات المكية.. "ورب حديث يكون صحيحاً عن طريق رواته حصل لهذا الكاشف الذي عاين هذا المظهر فسأل النبي ﷺ عن هذا الحديث فأنكره وقال له: لم أقله ولا حكمت به فيعلم ضعفه فيترك العمل به على بينة من ربه، وإن كان قد عمل به أهل النقل لصحة طريقه وهو في نفس الأمر ليس كذلك".. بل إن ابن عربي هذا يذهب في افترائه على الله ورسوله إلى أبعد من ذلك فينسب كلامه إلى أنه وحي من رسول الله ﷺ فيقول في أول كتابه (فصوص الحكم): "أما بعد فإني رأيت رسول الله في مبشرة (رؤيا صادقة) وبيده كتاب فقال لي: هذا كتاب فصوص الحكم خذه واخرج به إلى ناس ينتفعون به، فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله وأولي الأمر منا كما أمرنا، فحققت الأمنية، وأخلصت النية إلى إبراز هذا الكتاب كما حدده لي رسول الله ﷺ من غير زيادة ولا نقصان.. فمن الله فاسمعوا وإلى الله فارجعوا...".
ثم يعقب د. جميل غازي على ذلك بقوله: هذا باب فتحه الصوفية للتشكيك في العلوم الإسلامية جميعها ولإتاحة الفرصة لكي يضع الصوفية ما يشاءون وينسبونه إلى الرسول ﷺ بحجة الكشف !
ويستطرد قائلاً: إن هذا الادعاء بالكشف دفع هؤلاء الصوفية إلى أن يقسموا الدين إلى شريعة وحقيقة، وإلى ظاهر وباطن، فأما أهل الظاهر عندهم فهم أهل الشريعة ومن بينهم علماء المذاهب الأربعة وفقهاء الشرع وعلماء الحديث وهؤلاء يعتبرهم الصوفية طبقة العوام من الناس. لماذا؟ لأنهم يؤمنون بالنصوص الشرعية دون اللجوء إلى التأويل. أما أهل الباطن أو أهل الحقيقة والطريقة فيعتبرهم الصوفية الخاصة من الناس الذين يعتمدون على تأويل النصوص الشرعية عن طريق ما يسمونه بالكشف والخواطر والأحلام.. وعن طريق هذا الكشف يزعمون أنهم يستطيعون تأويل الأحاديث والتمييز بين الصحيح منها والضعيف دون ما حاجة إلى الرجوع إلى دواوين السنة ورواتها.
قلنا.. ربما كان هذا الاتهام الموجه للصوفية بالفصل بين الحقيقة والشريعة يجافي الحقيقة، فإن بعض أقطاب الصوفية لا يفرقون بينهما بل ويؤكدون أنه لا تصوف إلا مع العلم بالعقائد والأحكام.
الزندقة شهادة التصوف:
ويجيب د. جميل غازي مقاطعاً: هذا كلام يقولونه بأفواههم فقط هروباً من اتهام صادق موجه ضدهم بالتناقض مع الإسلام.. ولكن يتضح لنا فساد زعمهم تعالوا بنا نستعرض ماذا يقول مشايخ الصوفية الكبار.. هذا هو الجنيد رئيس الطائفة الصوفية يقول: "لا يبلغ الرجل عندنا مبلغ الرجال حتى يشهد فيه ألف صديق من علماء الرسوم (الشريعة) بأنه زنديق، لأن أحوالهم وراء النقل والعقل" ويقول أيضاً: "أحب للمبتدئ ألا يشغل قبله بهذه الثلاث وإلا تغير حاله: التكسب وطلب الحديث (حديث رسول الله) والتزوج وأحب للصوفي ألا يقرأ ولا يكتب لأنه أجمع لهمه" وهذا هو أبو يزيد البسطامي من أئمة التصوف يسخر من علماء الشريعة ويتعالى عليهم فيقول: "أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت" وهو يقصد بهذا أن علماء الشريعة يأخذون علمهم عن الرسل بينما الصوفية باعتبارهم أهل الحقيقة يتجاوزون هذا المستوى ويتلقون عن الله مباشرة.
ويضيف فضيلته قائلاً: إن الصوفية يؤمنون بأن كل آية وكل كلمة بل وكل حرف في القرآن الكريم يخفي وراءه معنى باطناً لا يكشفه الله إلا للخاصة من عباده، وهم أهل الحقيقة الذين تشرق هذه المعاني في قلوبهم في أوقات وجدهم.. وذهبوا بعد ذلك إلى تأويل آيات القرآن الكريم عن طريق ما يدعونه بالكشف، فجاءوا بالخرافات والكفر والضلال الذي حشوا به كتبهم واعتمدوا في ذلك على حديث افتعلوه لخدمة غرضهم يرويه ابن عربي في الفتوحات المكية فيقول: "قال الرسول ﷺ ما من آية في القرآن إلا ولها ظاهر وباطن وحد ومطلع ولكل مرتبة من هذه المراتب رجال ولكل طائفة قطب وعلى ذلك القطب يدور فلك ذلك الكشف" وعلى الرغم من أن هذا الحديث المزعوم لا وجود له في دواوين السنة فإن ابن عربي يقول عنه: "وقد أجمع أصحابنا أهل الكشف على صحته".
ويستطرد د. جميل غازي قائلاً: ربما لا يتسع المجال هنا لعرض نماذج من تأويلاتهم الغريبة لآيات القرآن الكريم والتي سمحوا لأنفسهم بها تحت ادعاء الكشف والأحلام ذلك الأمر الذي لم يدعه أحد حتى من أصحاب رسول الله ﷺ، فهذا هو أبو بكر الصديق وهو سيد أولياء الله من هذه الأمة بعد رسول الله ﷺ يقول حينما سئل عن معنى آية في القرآن الكريم: (أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي).
ثم يعقب بقوله:.. هذا هو حال الصوفية أو أهل الحقيقة والباطن باسم الكشف وعلم الباطن يعطن لأنفسهم الحق في الحكم على أحاديث الرسول وتأويلها وتمييز الصحيح منها والضعيف.. وباسم الكشف يعطون لأنفسهم الحق في تأويل آيات الله وفقاً لأهوائهم.. وباسم الكشف يريدون من أناس أن يقبلوا كلامهم دون بحث أو مناقشة، وكيف ذلك وهم أهل الحقيقة والباطن الذين يقول أحدهم: "رأيت رسول الله وحدثني" أو يقول الآخر: "حدثني قلبي عن ربي" ثم بعد ذلك يفرضون على الناس إرهاباً فكرياً ويقولون: "أحسن الظن ولا تنتقد، بل أعتقد" أو يقولون: "من اعترض انطرد".
قلنا.. مازال الاتهام الموجه للتصوف بالخروج على الكتاب والسنة في حاجة إلى مراجعة.. فإن الصوفية يؤكدون التزامهم الكامل بما جاء بكتاب الله وسنة رسوله ويستدلون على ذلك بأن جميع مقاماتهم كالتوبة والصبر والخوف وغيرها تستند جميعها إلى شواهد من القرآن الكريم وأحاديث الرسول ﷺ وأفعاله.
ويجيب د. جميل غازي قائلاً: إن هذا الادعاء من جانب الصوفية يمثل مغالطة تثير الدهشة والعجب.. فإن هذه المعاني والقيم التي يسمونها مقامات الصوفية ما هي إلا أخلاقيات الإسلام التي ينبغي أن تتوافر في المسلمين كافة.. فكيف يجعلها الصوفية وقفاً عليهم وحدهم؟.. ومن جهة أخرى إذا صح ادعاؤهم بأنهم يحرصون فعلاً على ممارسة هذه الأخلاقيات فلماذا يستبعدون اسمها الطبيعي وهو الإسلام ثم يفتعلون لها اسماً مبتدعاً وهو الصوفية.
قلنا.. ننتقل الآن إلى الطرق الصوفية.. يقولون إنها مداس تستهدف التربية الإسلامية وتقويم السلوك.
ويجيب فضيلته قائلاً: بل هي مدارس لتخريج عناصر بلهاء تائهة غارقة في الأوهام والخرافات بعد أن ضلت طريقها إلى الله، واستغنت عنه بعبادة الأدعياء وأصحاب القبور..
ثم يضيف متسائلاً: كيف يمكن للطرق الصوفية أن تكون مجالاً للتربية الإسلامية وهي دعوة إلى الفقر والجهل والاستسلام بينما الإسلام دعوة للعلم والعمل والجهاد؟ ثم ما هي وسيلتهم للتربية الإسلامية؟ وما هي الشعائر التييمارسونها؟ حاول أن تقترب من حلقات ذكرهم.. هل تجهم يتدارسون القرآن أو أحاديث الرسول ﷺ ؟ لن تجد أثراً لذلك.. ولن تجد من بينهم من يحفظ القرآن أو يهتم بأحاديث الرسول ﷺ.. فلقد انصرفوا تماماً عن كتاب الله واكتفوا بترديد الأذكار والأوراد الغامضة التي يرتلونها دون وعي وبأصوات صاخبة تتم معظم الأحيان على دقات الطبول والدفوف.. فهل هذا أسلوب في العبادة يقره الإسلام أو يوصي به الرسول ﷺ ؟ بل أنهم فوق ذلك قد أغفلوا عقيدة التوحيد واستغنوا عن الاستعانة بالله إلى طلب المدد والعون من الأولياء وأصحاب القبور، وانشغلوا بإقامة الموالد التي أصبحت مجالاً لكل مظاهر الفسق والفجور ومرتعاً للنصابين والأدعياء والدجالين وكل من يبتغي المكسب الحرام.
ويستطرد فضيلته قائلاً: وكيف يمكن للصوفية أن تكون منهجاً لتقويم السلوك وهي التي أضعفت معنويات أتباعها، وخربت نفسياتهم وأصبح الإنسان المسلم الذي يدعوه دينه إلى أن يفكر ويتأمل أصبح على يد الصوفية عنصراً سلبياً لا إرادة له ولا حياة يسلم زمام نفسه كاملاً لشيخه بحيث يقول عنه الشاذلي: "على المريد أن يعتصم بالشيخ ويتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ البحر بقائده بحيث يفوض أمره إليه بالكلية فلا ينازعه في الأمر ولا يخالفه".
الشيخ القائد إلى الضلال:
بمناسبة الكلام عن الشيخ.. ما هي الحقيقة فيما يقول به الصوفية من أن البركة لا تأتي إلا بواسطة شيخ ينقل البركات إلى المريدين وأن من لا شيخ له فشيخه الشيطان ؟
يقول الصوفية أن الشيخ واسطة بين الله والمريدين، وأنه أمين الإلهام كما أن جبريل عليه السلام كان أميناً للوحي، ويقول السهروردي كما جاء في كتاب (عوارف المعارف): "كلام الشيخ بالحق من الحق، فالشيخ للمريدين أمين الإلهام كما أن جبريل أمين الوحي فكما لا يخون جبريل في الوحي لا يخون الشيخ في الإلهام، وكما أن رسول الله ﷺ لا ينطق عن الهوى فالشيخ لا يتكلم عن الهوى".
ثم يعقب سيادته على ذلك بقوله: إن مشايخ الصوفية يرددون هذا الإفك ليقنعوا الناس بالالتجاء إليهم والتسليم لهم تسليماً كاملاً.. ويضيف أنه من خلال ذلك الافتراء والزور وفي غياب التوجيه الديني والتربية الإسلامية السليمة نجح مشايخ الصوفية في تحقيق سيطرتهم على الأتباع والمريدين الذين التزموا بمجموعة من القواعد يعرفها كل من شاء له سوء حظه أن يقع في براثن هذه الطرق.. منها على سبيل المثال: أن يكون المريد مستسلماً منقاداً راضياً بتصرفات الشيخ يخدمه بالمال والدين.. ومنها: ألا يعترض عليه فيما يفعله ولو كان ظاهره حراماً ولا يسأله لما فعلت ذلك لأن من قال لشيخه لم؟ لا يفلح أبداً.. ومنها: أن يسلب اختيار نفسه باختيار شيخه في جميع الأمور كلية كانت أو جزئية عبادة كانت أم عادة.. وعن هذا المعنى يعبر أحد شعراء الصوفية فيقول:
كن عنده كالميت عند مغسل | يقلبه ما شاء وهو مطاوع | |
وسلم له فيما تراه ولم يكن | على غير مشروع فثم مخادع |
بل إن ذا النون المصري أحد مشايخ الصوفية يذهب إلى أبعد من ذلك فيقول: "طاعة المريد لشيخه فوق طاعته لربه".
وتمضي فترة من الصمت يقطعها الدكتور جميل غازي قائلاً: لعل فيما أوضحناه ما يكفي للتدليل على أن الصوفية جناية على الدين والدنيا، وربما يتأكد من ذلك بشكل أكثر وضوحاً لو تعرفنا على أفكارهم في "الحقيقة المحمدية" والديوان الباطني، والعلم اللدني، وصناديق النذور. وحول هذه المعتقدات لسيادته وقفة طويلة وآراء جريئة نلتقي بها في الجولة القادمة.
الجولة الثالثة ابن عربي يقول: إنه يتلقى علومه رأساً من الله ..!
كيف تفشت وهي حركة مشبوهة ولماذا اختارت أتباعها من العامة ؟!
مبالغتهم في تصوير "النبي" منحرفة وأصولها بعيدة عن الإسلام ؟
قلدوا النصارى وغالوا في "الحقيقة المحمدية" حتى ضلوا..!
يواصل الدكتور محمد جميل غازي إمام مسجد العزيز بالله بالزيتون.. ورئيس جمعية التوحيد حملته العنيفة على التصوف والصوفية، حيث انتهى بنا في الأسبوع الماضي إلى أن التصوف علم يستمد معتقداته وأفكاره من أصول وفلسفات غير إسلامية.. أنكر ما يقول به أقطاب الصوفية عن التصوف السني، وأوضح أنه بدعة لم يقل بها رسول الله ﷺ، ولا يوجد لها سند في أقواله أو أعماله.. وختم تصريحاته بأن التصوف جناية على الدين والدنيا.
ونحن اليوم على موعد معه ليحدثنا عن عقائد الصوفية وأفكارهم.. عن معتقدات الصوفية في العلم اللدني، وحياة الخضر عليه السلام.. يقول فضيلته.
أهل الظاهر، وأهل الباطن:
إن للصوفية في الخضر عليه السلام اعتقاداً شاذاً وغريباً.. فهم يقولون أنه ولي لا نبي.. كما يزعمون أنه مازال حياً يرزق!! وعلى هذه العقيدة الفاسدة أقاموا مزاعمهم التي تؤكد أن الولي أعلم من النبي.
لماذا؟.. لأن موسى عليه السلام ذهب إلى الخضر ليتعلم منه، وأنه قد تعلم منه فعلاً أموراً قد فصلتها سورة الكهف.. ويشرح أحد شعراء الصوفية – وكل الصوفية شعراء – هذه العقيدة فيقول:
مقام النبوة في برزخ | فويق الرسول ودون الولي |
بمعنى أن مقام النبوة أكبر درجة من مقام الرسول وفي نفس الوقت فهي أقل درجة من مقام الولي.
ويضيف فضيلته: إن هذه العقيدة الزائفة هي التي جرأت أبا يزيد البسطامي وهو أحد كبار مشايخ الصوفية – فقال كلمته المشهورة: "لقد خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله.." بل هي التي دفعت الصوفية إلى القول بالعلم اللدني الذي يتنـزل عليهم، وعلى شيوخهم من لدن الله مباشرة.. وبلا واسطة؟
ويستطرد قائلاً: وقبل أن نتكلم عن هذا العلم اللدني، نود أولاً في وقفة قصيرة نرد بها على تلك الأوهام التي يقول بها الصوفية عن حقيقة الخضر عليه السلام.. إنهم يعتبرونه ولياً لا نبياً.. وهو زعم باطل بصريح القرآن الكريم، حيث يقول تعالى، وهو يتحدث عن الخضر عليه السلام: { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا } [الكهف: 65] وفي تفسير هذه الآية يقول ابن كثير: أن فيها دلالة على نبوة الخضر.. ويقول تعالى: { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا } [الكهف: 65].. وقد قال: "مقاتل" وهو أحد مفسري السلف – في شرح هذا النص – أنها النبوة.. كما يقول عز وجل: { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } [الكهف: 82].
ويفسر الطبري هذه الآية بقوله: "وما فعلت يا موسى جميع ما فعلته عن رأيي ومن تلقاء نفسي، وإنما فعلته عن أمر الله إياي به" ثم إن هذه النصوص تفيد أن الله تعالى أطلع الخضر على شيء من الغيب... وما كان تعالى ليطلع على هذا الغيب إلا الرسل... وفي هذا يقول جل شأنه { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ } [آل عمران: 179]... كما يقول تعالى: { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ } [الجن: 26، 27].
ثم يعقب د. جميل غازي على دعوى الصوفية بأن الخضر عليه السلام مازال حياً بقوله: سئل الإمام البخاري عنه وعن إلياس عليهما السلام هل هما حيان؟ فأجاب: كيف هذا وقد قال النبي ﷺ قبل وفاته بقليل: ”لا يبقى على رأس المائة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد“.
كما سئل عن ذلك بعض أئمة السلف فقرأ قوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ } [الأنبياء: 34].. ويقول الإمام ابن تيمية: "لو كان الخضر حياً لوجب عليه أن يأتي إلى النبي ﷺ ويجاهد بين يديه، ويتعلم منه".
كما يقول الشيخ على محفوظ في كتابه "الإبداع في مضار الابتداع" لو صح بقاء بشر من لدن آدم إلى قرب خراب الدنيا لحسن ذكر هذا الأمر العظيم في القرآن الكريم مرة على الأقل.
ويستطرد فضيلته قائلاً: أما ما يزعمه الصوفية عن العلم اللدني، وإمكان الاستغناء به عن الوحي، فهذا زعم فيه ما فيه من الكفر والزندقة.
وعن نظرة الصوفية في الشريعة والحقيقة:
يقول الدكتور جميل غازي: لقد ادعى الصوفية استناداً إلى أوهامهم في حقيقة الخضر عليه السلام بأن للشريعة ظاهراً وباطناً، وأن باطنها يخالف ظاهرها، وأن موسى عليه السلام كان من أهل الظاهر، وأن الخضر من أهل الباطن، ثم ذهبوا بعد ذلك إلى القول بأنه ليس من حق أهل الظاهر أن يعترضوا على أهل الباطن تماماً كما حدث بالنسبة لموسى إذ لم يكن من حقه أن يعترض على الخضر، وفي ذلك يقول المستشرق نيكلسون – على لسان الصوفية – أن أهل الحق الذين تولى الله بواطنهم لا يحكم عليهم بظواهرهم فإن علمهم الغيب قد يحملهم على فعل ما يخالف ظاهر الشرع أو الأدب لما ورد في قصة موسى والخضر.
لماذا التمسح في "علي" رضي الله عنه ؟
ويضيف فضيلته متسائلاً: ولكن ما هي الحقيقة في نظر الصوفية؟ يقول عنها "ابن عجيبة" وهو من كبار مشايخ الصوفية: أما واضع هذا العلم – يعني التصوف – فهو النبي ﷺ! علمه الله بالوحي والإلهام، فنزل جبريل عليه السلام أولاً بالشريعة فلما تقررت نزل ثانياً بالحقيقة، فخص بها بعضاً دون بعض، وأول من تكلم فيه وأظهره سيدنا علي كرم الله وجهه، وأخذه عنه الحسين البصري!!
ويعقب على ذلك بقوله: إن تقسيم الإسلام إلى شريعة وحقيقة إنما هي نظرة مشبوهة المراد منها القضاء على الإسلام وتدمير بنيانه.. ويضيف: إن الصوفية لم يكتفوا بهذا التقسيم العجيب والمريب الذي ابتدعوه بل دفعهم إيمانهم بهذا الوهم والضلال إلى السخرية من علماء الشريعة جميعاً، والاستعلاء عليهم قائلين: "أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت".
كما يقول ابن عربي شيخ الصوفية الأكبر: علماء الرسوم (علماء الشريعة) يأخذون خلفاً عن سلف إلى يوم القيامة، فيبعد النسب.. أما الأولياء فيأخذون عن الله.
وعن المعتقدات الصوفية في الديوان الباطني:
يقول د. جميل غازي: استنتج الصوفية من قصة الخضر أسطورة الديوان الباطني الذي يحكم فيه القطب الأكبر – أي الخضر – بما يشاء!.. ويصرف هو ومن معه من أقطاب صغار أقدار الوجود وأمر الكون! والديوان – عند الصوفية – محكمة عليا لا معقب على حكمها.. يقول عنها الدباغ أحد مشايخ الصوفية في كتاب (الأبريز) الديوان يكون بغار حراء فيجلس الغوث خارج الغار ومكة خلف كتفه الأيمن، والمدينة أمام ركبته اليسرى وأربعة أقطاب عن يمينه وهم مالكيه – على مذهب مالك – وثلاثة أقطاب عن يساره واحد من كل مذهب من المذاهب الثلاثة، والوكيل أمامه ويسمى قاضي الديوان، ومع الوكيل يتكلم الغوث والتصرف للأقطاب السبعة على أمر الغوث، وكل واحد من الأقطاب السبعة تحته عدد مخصوص يتصرفون تحته، ولغة أهل الديوان السريانية.
ويعقب فضيلته متسائلاً: ألا يعتبر القول بهذه الخرافات قمة الشرك بالله الواحد الأحد؟.. ويضيف: إن الصوفية يذهبون في إيمانهم بالولاية والأولياء مذهباً جاوز كل حدود العقل والنقل معاً.. إن الأولياء عندهم يعلمون الغيوب، ولهم حق القبض والبسط، والخفض والرفع، والإحياء، والإماتة، وحق التصرف في العباد.
ويكفي أن نستعرض بعض أقوالهم لنتبين مدى ما فيها من كفر وانحراف وشعوذة ودجل.
يقول أبو يزيد البسطامي: وددت أن قد قامت القيامة حتى أنصب خيمتي على جهنم.. فسأله رجل: ولم ذاك يا أبا يزيد؟ فقال: إني أعلم أن جهنم إذا رأتني تخمد وأكون رحمة للخلق.
والولي عند الجيلي: يسمع نطق الجمادات، والنباتات، والحيوانات، وكلام الملائكة، واختلاف اللغات، وكان البعيد عنه كالقريب.. ثم يقول عن نفسه: وفي هذا التجلي سمعت علم الرحمانية.
ويستطرد فضيلته قائلاً: ثم ماذا يقول الدراويش عن السيد البدوي؟ يقولون: إنه سيد الأولياء، وأن الله أعطاه حق القبض والبسط، وحق التصرف في العباد، وأجمع الدراويش على تقبيل أعتابه، والتمرغ في ترابه قائلين: من قبل الأعتاب ما خاب.. بل وصل بهم الضلال والكفر إلى حد الافتراء على الله جل شأنه.
ويعقب الدكتور جميل غازي قائلاً: على هذا النحو كان إيمان الصوفية بالولاية والأولياء.. وبينما ولاية الله سبحانه كما تقول به آيات القرآن الكريم: عبادة، وقيادة، وحب، وفداء، ونضال، وطهارة، وسمو، وأمانة، وخلق كريم، فهي عند الصوفية كفر، وفسوق، وعصيان، واحتراف، وانحراف، وشعوذة، وفوضى،.. ومن هنا اتهمناهم – وما زلنا نتهمهم – بأنهم أعداء العقل والعلم والحضارة والدين.
ولن يعفى شيوخهم المعاصرين – على جلالة قدرهم – أن يتنصلوا من هذا الاتهام قائلين هذا مدسوس على شيوخنا الأقدمين! فإن مراجع التصوف القديم والمعاصرة اتفقت – على غير حياء – في عرض هذا الرجس الخبيث على أنه دين، وتقوى، وولاية، وقربى إلى الله!
لماذا يتهجمون على الله سبحانه وتعالى ؟
أما عن ولع الصوفية بالاحتفاء بقبور الأولياء واهتمامهم بصناديق النذور.. فيقول فضيلته: شغل الصوفية أنفسهم، وشغلوا الناس بقبور الموتى التي أقاموها وشيدوها، وبنوا فوقها المقاصير، والقباب ووضعوا إلى جوارها صناديق النذور التي تبتلع عرق الأجير والفقير والمريض والمحتاج، وفرخوا حولها الكرامات، وأطلقوا الخرافات بحيث أصبحت هذه القبور أعياداً جاهلية، يدعى فيها غير الله ويطلب المدد والعون من سواه!.. والكلمات التي لقنها الصوفية للناس يقولونها ويدعون بها، كلمات مشهورة، منها على سبيل المثال:
فرج بفضلك ما أروم فإنني | قد ضقت ذرعاً يا أبا فراج |
ومنها: العارف لا يعرف.. والشكوى لأهل البصيرة عيب..
وهكذا كبرت الخرافة في نفوس الجماهير، وأصبحت تشكل عقيدة دينية لا تقبل المناقشة.
وهكذا سادت "الأمية الدينية" التي هي في تصوري أخطر الأميات التي تعاني منها المنطقة الإسلامية.
وهكذا امتلأت صناديق النذور الجاثمة حول القبور، بأوراق النقد، وعقود التمليك، ورسائل برقيات تأتي من كل مكان تحمل شكاوى ونجاوى إلى أصحاب القبور، وتطلب منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات.
عن أفكار الصوفية في موضوع العشق الإلهي:
يقول فضيلته: في القرآن الكريم والحديث النبوي نصوص صريحة الدلالة تعلن محبة الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين، ومحبتهم له كقوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ } [البقرة: 165] وكذلك قوله جل شأنه: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54].. وقد بين القرآن الكريم أن مظهر حب الله هو اتباع رسول الله ﷺ.. يقول تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } [آل عمران: 31].
ثم يضيف فضيلته متسائلاً: ولكن ما هو رأي الصوفية في "الحب" أو على حد تعبيرهم "العشق"؟.. ثم يجيب بقوله: إن ابن عربي شيخ الصوفية يرى أن المحبوب على الحقيقة في كل ما يحب إنما هو ( الحق ) الذي يتجلى فيما لا يتناهى من صور الجمال، سواء أكانت حسية أم معنوية أم روحية، وهو إذا تغنى بحب ليلى، وسعدى، وهند وغيرهن فإنما يرمز بالاسم إلى حقيقة المسمى، وبالصورة إلى صاحب الصورة، ولا يعنيه الرمز قدر ما يعنيه المرموز إليه.
وقد كتب ابن عربي ديواناً بأكمله هو "ترجمان الأشواق" يتغزل فيه بابنة الشيخ "مكين الدين بن شجاع" وتدعى "النظام"، ويصف محاسن تلك الفتاة الجميلة.. ولما سئل عن هذا العشق الفاضح قال: إنما أقصد الذات الإلهية!!
ويستطرد د. جميل غازي قائلاً: استمعوا إلى الشاعر الصوفي جلال الدين الرومي يعبر في ديوانه عن حبه الإلهي بتعبيرات وثنية وشركية رهيبة فيقول: "نفسي أيها النور المشرق لا تنأ عني.. لا تنأ عني.. حبي أيها المشهد المتألق لا تنأ عني.. انظر إلى العمامة أحكمتها فوق رأسي.. بل انظر إلى زنار زرادشت حول خصري.. أحمل الزنار.. وأحمد المخلاة.. لا بل أحمد النور.. فلا تنأ عني.. مسلم أنا ولكني نصراني وبراهمي وزرادشتي.. توكلت عليك أيها الحق الأعلى فلا تنأ عني.. لا تنأ عني.. ليس لي سوى معبد واحد.. مسجد أو كنيسة.. أو بيت أصنام.. ووجهك الكريم فيه غاية نعمتي فلا تنأى عني.. فلا تنأ عني...".
ويضيف فضيلته قائلاً: ولم يكتف كثير من الصوفية بادعاء الحب الإلهي على طريقتهم الوثنية – بل راحوا يرددون عبارة (العشق الإلهي) مع أن عبارة العشق عند أهل اللغة كما يقول "ابن الجوزي" لا تكون إلا لما ينكح، وأيضاً فإن صفات الله عز وجل منقولة فهو – سبحانه – يحب، ولا يقال يعشق. كما يقال يعلم ولا يقال يعرف.
ثم يعقب فضيلته بقوله: ولكن ماذا نقول والصوفية أصروا من أول يوم على مخالفة العقل والنقل واللغة أيضاً!!
توهمهم على النبي ﷺ :
وعن أفكار الصوفية عن "الحقيقة المحمدية" قال: للصوفية أوهام غريبة تدور حول شخصية الرسول ﷺ وبرأه الله مما يقولون ومما يتوهمون..
يقول ابن عربي شيخ الصوفية كما جاء في كتاب الفتوحات: "بدأ الخلق الهباء، وأول موجود فيه الحقيقة المحمدية الرحمانية الموصوفة بالاستواء على العرش الرحماني وهو العرش الإلهي، ولا أين يحصرها لعدم التميز (بمعنى ليس له مكان) وممن وجد؟.. وجد من الحقيقة المعلومة التي لا تتصف بالوجود ولا بالعدم، وفيما وجد ؟ في الباء، وعلى أي مثال وجد؟ على المثال القائم بنفس الحق المعبر عنه بالعلم به، ولما وجد؟ لإظهار الحقائق الإلهية".
أما (الجيلي) فإنه يعتبر الحقيقة المحمدية أصلاً للكون والملائكة والبشرية فيقول: "إن العقل الأول المنسوب إلى محمد ﷺ خلق الله جبريل عليه السلام منه في الأزل، فكان محمد ﷺ أبا لجبريل وأصلاً لجميع العالم"!
ثم يقول: "لما خلق الله سبحانه وتعالى العالم جميعه من نور محمد ﷺ، كان المحل المخلوق منه إسرافيل قلب محمد ﷺ".
ويستطرد د. جميل غازي قائلاً: إن الدكتور زكي مبارك يعلق على معتقدات الصوفية في الحقيقة المحمدية بقوله: "وعلى ذلك تكون نظرية الحقيقة المحمدية عند غلاة الصوفية مأخوذة من أصول نصرانية...".
كما يقول المستشرق نيكلسن: "إذا بحثنا في شخصية محمد ﷺ في ضوء ما ورد عنه في القرآن من آيات، وما أثر عنه من الحديث في الصدر الأول لوجدنا الفرق شاسعاً بين الصورة التي صور بها في ذلك العهد، وبين الصورة التي صور بها الصوفية أولياءهم".
ويقول جولد زيهر: "إن صورة النبي ﷺ كما صورتها السنة قد أصابها التعديل والتحوير".
ويعقب الأستاذ جميل غازي على أفكار الصوفية في الحقيقة المحمدية بقوله:
إن هذا ولا شك متناقض مع صريح القرآن وصحيح السنة.. فإن الله تعالى يقول: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } [آل عمران: 144].
كما يقول جل شأنه: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } [الكهف: 110] ويصف الله جل في علاه نبيه بصفة العبودية فيقول: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } [الإسراء: 1] وقد قال أبو بكر رضي الله عنه – عقب وفاة الرسول ﷺ -: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت".
الجولة الرابعة رابعة العدوية الشخصية والأسطورة
غضب الله لإطلاق لفظ الأنثى على ملائكته !
ابن عربي يتغزل في بنت الشيخ مكيز..!
الزهد لا يكون في الحلال، وإنما في الحرام!
مجلة التوعية الإسلامية لموسم الحج.. لما لها من مكانة عند الدكتور محمد جميل غازي.. نأمل أن يتحدث على صفحاتها.. إلى "ضيوف الرحمن" على بعض الشخصيات التي تدعى الصوفية أنهم من كبار قادتها.. ولتكن البداية "برابعة العدوية" ولعل هذا الاختيار قام على اتساع شهرتها بين المتصوفة، وما ذاع وشاع حولها من أساطير.. وقد امتلأت كتبهم بآلاف الصفحات التي كتبت عنها.. وبعضهم يصفها بأنها خير نساء الأرض.. مع مجافاة ذلك للواقع.. فهلا تفضلتم مشكورين.. بتسليط الأضواء على هذه الشخصية الغريبة؟
رابعة العدوية واحدة من المتصوفين الذين اتخذوا لهم منهجاً في العقيدة، ومنهجاً في العبادة، أما منهجهم في العقيدة فهو مجموعة أفكار غريبة عن الإسلام مأخوذة من الديانات القديمة كالهندوكية، والزرادشتية، والفارسية، والإغريقية، والمسيحية، وغيرها من الأديان الأخرى ومجموعة هذه الأفكار أدت بهم إلى عقيدة معينة توهموها واعتنقوها فقالوا بالحلو، وقالوا بوحدة الوجود، وقالوا بالإشراق أو ما شاكل ذلك، ولن نناقش ما يعتقدونه الآن. فنحن نركز على أربعة بالذات وما قالته، وما نسبه إليها، وما نسج حول شخصيتها من خرافات وأوهام.
لماذا نعبد الله ؟
والصوفية كما نعلم اسم يوناني قديم مأخوذ من الحكمة "صوفيا" وليس كما يقولون أنه مأخوذ من الصوف لأنه كان لباس المسيح عليه السلام، فلقد رد عليهم "ابن تيمية" في رسالته عن "الصوفية والفقراء" فقال: نحن أولى بهدي محمد ﷺ من هدي عيسى بن مريم ولقد كان رسول الله ﷺ يلبس الصوف يلبس القطن ويلبس الكتان، هذا إذا سلمنا جدلاً أن عيسى عليه السلام كان ينفرد بلبس الصوف، أو كان لا يلبس شيئاً غير الصوف.. "ورابعة العدوية" كما قلت هي واحدة من هذه المدرسة.
وحينما تقول إنها لا تعبد الله خوفاً من ناره، ولا طمعاً في جنته تخالف نص القرآن الكريم، وإن كانت هي بهذا تنتمي إلى مدرستها تماماً.. فالمدرسة الصوفية هي التي تعتبر أن الذين يعبدون الله من أجل جنة أو خوفاً من نار إنما يتعاملون مع الله، أو يعبدون الله، عبادة التجار كما أطلقوا عليها.
مع أن هذه العبادة التي يسمونها عبادة التجار هي عبادة رسل الله عليهم صلوات الله وسلامه كما قال الله عنهم في سورة الأنبياء بعد أن عدد أسماءهم نبياً نبياً، ورسولاً رسولاً: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] فالله يقول عن أنبيائه: إنهم كانوا يدعونه سبحانه وتعالى راغبين في ثوابه خائفين من عقابه، والرسول ﷺ قال هذا للأعرابي الذي جاءه وقال له: يا رسول الله إني أسال الله الجنة وأعوذ به من النار ولا أحسن دندنتك ولا دندنة "معاذ بن جبل" فقال النبي ﷺ: ”حولهما ندندن“ (يعني حول الجنة والنار) فإذا كان الرسول ﷺ يدندن حول الجنة والنار فكيف يتأتى لواحدة "كرابعة العدوية" قالوا عنها أنها كانت مغنية، وقالوا عنها أنها كانت راقصة، وقالوا عنها كلاماً كثيراً، كيف تأتى لهذه التي عاشت عمراً في الغناء وفي الرقص.. كيف يتأتى لها أن تسبق رسول الله ﷺ، وأن تسبق رسل الله جميعاً في المعرفة بالله والعلم به سبحانه وتعالى؟ ثم ما هذا الذي تقوله؟ إنها تعبده لذاته ما معنى هذا؟ وما معنى قولها في ربها في الشعر الذي نسب إليها:
أحبك حبين حب الهوى | وحباً لأنك أهل لذاكا | |
فأما الذي هو حب الهوى | فشغلي بذاتك عمن سواكا | |
وأما الذي أنت أهل له | فكشفك لي الحجب حتى أراكا |
ما هي هذه الحجب التي تنتظر "رابعة" أن تنكشف لها حتى ترى الله، مع أن الله سبحانه وتعالى قال "لموسى" عليه السلام حينما قال له: { رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } [الأعراف: 143].
ولقد اتفقت الأمة المسلمة الواعية على أنه لا يمكن للبشر أن يروا الله سبحانه وتعالى في الدنيا لأن الإنسان بحالته هذه، وهو في الدنيا لا يستطيع أن يواجه تجلي الله سبحانه وتعالى كما حدث بالنسبة "لموسى" { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا } [الأعراف: 143] فالرسول ﷺ، وهو أعظم مكاناً، وأعظم مكانة قال حينما سئل: هل رأيت ربك؟ قال: "نور أنى أراه".
ولا نلتفت لرواية الصوفية لهذا الحديث حيث رووه هكذا، قالوا "نور أنى أراه" بكسر همزة إني، وهذا مخالف لِمَا صح عن رسول الله ﷺ "نور أنى أراه" فالرسول ﷺ لم ير ربه، وموسى عليه السلام حينما طلب الرؤية قال الله له: {انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143].. والصوفية لم يقفوا عند حد الأدب مع الله سبحانه وتعالى، ولم يتعلموا من موسى، وما جرى معه بل قال واحد منهم:
وإذا سألتك أن أراك حقيقة فاسمح ولا تجعل جوابي لن ترى فهو يأمر الله سبحانه وتعالى أن يسمح، ثم ينهاه سبحانه وتعالى أن يجعل جوابه لن ترى كما أجاب موسى بذلك وكذلك "رابعة العدوية" تعتقد أن الحجب ستكشف لها حتى ترى الله، ويا ليت الصوفية يتوقفون عند هذه المسألة أن يروا الله وإنما الرؤية عندهم هو أن يحس أنه هو الله وأن الله حال فيه، هذا هو كشف الحجب.. حجب الذات.. حجب النفس بحيث يصل الإنسان منهم إلى أن يرى أنه هو الله، ولذلك كان فهمهم لكلمة التوحيد "لا إله إلا الله" كان الواحد منهم يقول: "لا إله إلا أنا" "أنا الله" فهو يعتقد أنه هو المقصود بكلمة "لا إله إلا الله".
ونعود مرة ثانية إلى "رابعة" وإلى ما كتب عنها الذي يقول إن رابعة هي أول من تحدث عن حب الله، هذا الإنسان يبدو أنه لم يقرأ القرآن الكريم، ولم يقرأ السنة المطهرة، ففي القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى تحدث عن الحب فقال: { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54] وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165].
الفرق بين الحب والعشق:
حب الله وحب رسوله موجود في القرآن الكريم، وفي أحاديث الرسول ﷺ، ولكن يبدو أن كاتب هذه السطور يقصد حباً آخر وهو "العشق" وليس الحب، فعلا "رابعة العدوية" ومن على شاكلتها هم أول من أطلق على محبة الله عشقاً، والعشق ما هو؟ إن العشق في أصل وضعه في اللغة العربية لما ينكح، والصوفية وضعوا هذا اللفظ لما بينهم وبين الله سبحانه وتعالى، اعتبروه عشيقاً كالذي يكون بين الرجل والمرأة، قد يذهل الإنسان حينما يسمع هذا الكلام، وربما اعتبر البعض أن هذا تجنياً على الصوفية، ولكنه حينما يتابع كلام القوم وما كتبوه في باب العشق يجد أنهم ينهجون ذلك المنهج، ويقصدون هذا المنحى، ويعترفون أن علاقتهم بالله تكون على هذا المستوى مستوى الناكح والمنكوح، ولقد جاء ذلك صراحة في فصوص الحكم "لابن عربي" إذ قال: "إن الرجل حينما يضاجع زوجته إنما يضاجع الحق" وكان من الممكن أن نقول إن هذه غلطة من محيي الدين ابن عربي أو أن لها تأويلاً آخر ولكن جاء "النابلسي" فشرح الفصوص.
ووقف عند هذا التعبير وهو قوله "إنما ينكح الحق" وذكر الله بدلاً من كلمة الحق، وهم يرون أن العلاقة تكون بين الرجل والمرأة قوية إذا كانت في حرام، فهم يعتبرون أن الاتصال بالله يكون كما بين الزوج وزوجته فإذا كان في حرام غير زوجته كان الاتصال أقوى. ثم نرجع "لابن الفارض" مثلاً فنجد أن "ابن الفارض" تحدث عن الله بضمير المؤنثة المخاطبة فهو يقول له: "أنتِ كذا أنتِ كذا أنتِ كذا" ولو رحت تسأل الصوفية لماذا تتحدثون عن الله بضمير المؤنثة المخاطبة؟ فإنهم يقولون لك: إننا لا نقصد الله، وإنما نقصد الذات الإلهية فنحن نوجه ضمير المؤنثة المخاطبة للذات وليس لله فنوجهها الذات الإلهية، "ابن الفارض" يقول إن الله تجلى لقيس بصورة ليلى. وتجلى لكثير بصورة عزة، وتجلى لجميل في صورة بثينة في قصيدته التائية المعروفة فهو يعترف أن هذا من تجليات الحق.
الأدب اللفظي!!
نعود إلى الصوفية ونقول لهم: طيف تطلقون على الله لفظ المؤنثة أيا كان تأويلكم، وأيا كان تحليلكم، وأيا كان تعليلكم مع أن الله سبحانه وتعالى غضب أن يطلق لفظ الأنثى على الملائكة وقال: { وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } [الزخرف: 19] فالله سبحانه وتعالى غضب وأعلن ذلك الغضب في أكثر من آية من آيات كتابه، على العرب المشركين الذين جعلوا الجن ذكوراً والملائكة إناثاً وزعموا أن هناك مزاوجة بين الجن والملائكة، إلى آخر ما قاله الوثنيون القدامى، فالله سبحانه وتعالى نفى هذا وغضب من أجل هذا – فكيف يرضى سبحانه وتعالى أن يطلق لفظ المخاطبة بضمير المؤنث مهما كان الاحتمال العقلي عند هذا المتحدث؟
ثم إن القرآن الكريم له أسلوب عجيب أن يستبعد في باب العقيدة أي لفظ محتمل، ونحن حينما نقرأ سورة البقرة ونجد في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا } [البقرة: 104] لو تأملنا الفرق في كلمة راعنا وانظرنا في اللغة العربية نجده قريباً من قريب، فرعنا تساوي انظرنا، وأصحاب رسول الله ﷺ كانوا يجلسون في الشمال: راعنا، يعني انظر إلينا، فإذا نظر إليهم قال الذين هم على اليمين: راعنا انظر إلينا، اليهود حفظوا هذه الكلمة راعنا فكانوا يقولونها سخرية واستهزاء، يقولون: راعنا إما من الرعونة أو لاعنا من اللعن، أو راعينا أي أنه من رعاتنا أو أي شيء من هذا القبيل يقولونها من سخرية ليا بألسنتهم وطعناً في الدين فنهى الله أصحاب رسوله عن هذه الكلمة أن يقولوها فقال لهم: {قُولُواْ انظُرْنَا} فإنها لفظ غير محتمل.. إذا كان ذلك في لفظ يطلق بالنسبة لرسول الله ﷺ، أيمكن أن يطلق العنان في ألفاظ تستعمل بالنسبة له سبحانه؟
ثم نترك "رابعة العدوية" قليلاً ونلتقي "بمحيي الدين ابن عربي" الذي دخل بيت "الشيخ مكين الدين" وعاش عنده فترة ثم أحب ابنته، وقال فيها شعراً في عينيها، وتغزل في شفتيها، وفي وصف القبلات التي كان يرسمها على خديها وشفتيها. تحدث عن أثدائها، تحت أردافها، تحدث عن قدها، تحدث عن جمالها، عن كل شيء ما ظهر منها وما بطن، ولما خرج بأشعاره على الناس قالوا له: أليس عيباً أن تقول هذا الكلام في بنت الشيخ الذي استضافك وأعزك وأكرمك؟ فخرج بكتاب على الناس اسمه "ترجمان الأشواق" هذا الكتاب الذي ذهب فيه إلى أن كل ما قيل عن بنت الشيخ "مكين الدين" ليس غزلاً فيها وإنما هو عن الذات الإلهية، وأنه إنما يقصد الذات الإلهية وهو يتغزل في بنت الشيخ "مكين الدين" فهو إذا وصف القد أو إذا وصف الخد أو إذا وصف الوصال أو العناق أو الصد أو البعد أو القرب أو ما شاكل ذلك فإنما كل ذلك منسحب على الذات الإلهية!
جعلناكم أمة وسطا:
ثم ما هو هذا العشق الإلهي الذي لجأت إليه "رابعة العدوية" ونسيت الدنيا، وما فيها وكرهت العالم جميعاً، وهل الله سبحانه أمرنا بهذا؟ هل الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نصد عن خلقه، وأن نصد عن الناس، وأن نصد عن الزواج، وأن نصد عن المتع، وأن نصد عن المال، وأن نصد عن هذا كله بحجة أننا تركنا هذا كله له، مع أنه هو الذي قال في كتابه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] ثم كيف تمتنع "رابعة" عن الزواج كما يقولون مع أن رسول الله ﷺ قال للثلاثة الذين حاولوا أن يتزيدوا في العبادة، والذين ذهبوا إلى بيوته، وسألوا عن عبادته فقالوا: وأين نحن من النبي؟ ثم حاول كل واحد منهم أن يزيد في عبادته فقال واحد: "أما أنا فأصلي ولا أرقد" وقال الثاني: "وأنا أصوم ولا أفطر" وقال الثالث: "فأما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج أبداً" فقال النبي ﷺ: ”ما هذا الذي بلغني عنكم؟ أما وإني رسول الله فإني أصلي وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني“.. أتزعم "رابعة العدوية" أنها متفوقة على رسول الله الذي تزوج النساء وأكل وطعم وشرب، وهل نتصور أن رابعة أفضل من الرسول ﷺ، وأفضل من صحابته، هؤلاء الذين رباهم الله، وأنها أوتيت من العلم ما لم يؤته رسول الله، وأكثر مما نزل في القرآن، وأنها تتخلق بأخلاق أكبر من أخلاق القرآن؟.. وهذا وحده مخرج من الملة والعياذ بالله سبحانه وتعالى.
الزاهدون في الحلال:
وذلك هو باب من الشر قع فيه هؤلاء الناس، وهم الصوفية إذ عزموا لأنفسهم أنهم الزهاد، وأنهم العباد، ثم أطلقوا على أنفسهم هذا اللفظ "صوفي" وقالوا لنا أن صوفي تعادل كلمة "تقي" أو تعادل كلمة "نحسن" أو تعادل كلمة "صديق" كما روى ذلك "ابن تيمية" عنهم في رسالته الغيرة "الصوفية والفقراء" زعموا أنهم صديقوا الأمة، ولقد تساءلت في مقدمتي لهذا الكتاب قلت: كيف يمكن لهؤلاء الناس أن يطلقوا على أنفسهم هذه الألقاب؟ مثلاً: رجل يقول أنا صوفي معنى هذا أنه يقول أنا تقي، معنى هذا أنه يقول أنا محسن، معنى هذا أنه يقول أنا صديق.. كيف يمكن للإنسان أن يزكي نفسه ؟ كيف يمكن للإنسان أن يحكم على نفسه بالتقوى أو بالإحسان أو بالصديقية؟ مع أن الله سبحانه وتعالى قال: { فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُم هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [النجم: 32].. ومع أن الله سبحانه وتعالى قال: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [النساء: 49].
إن الزهد لم يرد في القرآن إلا مرة واحدة.. ووروده في القرآن الكريم في هذه المرة الواحدة جاء في شأن يوسف عليه السلام: { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } [يوسف: 20] هذا الزهد الذي لجأت إليه الصوفية هو الزهد في الحلال، وهو خطأ لأن الزهد لا يكون في الحلال، وإنما الزهد يكون في الحرام، فالإنسان الذي يريد أن يزهد يزهد في الحرام، أما أن يزهد في الحلال لهذا خطأ مخالف لطبيعة الإسلام.
سخافات لا كرامات!!
يقولون: إن "رابعة" لما حضرتها الوفاة قالت لمن حولها: انهضوا واخرجوا ودعوا الطريق مفتوحاً لرسول الله فنهضوا جميعاً وخرجوا، ولما أغلقوا عليها الباب سمعوا صوتها وهي تتشهد، وسمعوا الملائكة وهي ترتل: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي } [الفجر: 27-30] فماذا ترون في ذلك؟؟
جنون أم كرامات:
قبل أن نتحدث عن هذه الكرامة بالذات نعود إلى "رابعة" من الأول ونتحدث عن حب "رابعة" وما في هذا الحب من خطأ بشع لقد رووا عن "رابعة" نفسها: إن سفيان الثوري – على حد ما زعموا – سألها "يا رابعة هل تكرهين الشيطان؟ فقالت له: إن حبي لله لم يترك في قلبي كراهية لأحد" "فرابعة" بلغ بها الأمر أنها لا تكره الشيطان لأنها تحب الله، وهذا من الأمور العكسية، وهذه نتيجة للخطأ الذي وقع فيه هؤلاء الناس في الحب أو في العشق، أو في الذي يسمونه الفناء، أو في الذي يسمونه مقام الشهود أو مقام الحلول.
ونعود إلى كرامات الصوفية وليست هذه بأبشع كراماتهم فكرامات الصوفية لها سجلات مليئة بالبشاعات، وأعظم سجل لبشاعات الصوفية أو لكرامات الصوفية هو كتاب "الطبقات الكبرى لعبد الوهاب الشعراني" وهذا كتاب مليء بالكرامات أو السخافات التي يروونها عن أوليائهم، وهذا الذي كتب في هذا الكتاب فيه إسفاف، ومجون، وفيه فسوق، وفيه مروق بل إن الفسوق الذي ذكر في هذا الكتاب ينأى عن أي كتاب من كتب الجنس التي تصادر والتي يحظر تداولها أو قراءتها أو دخولها لبعض البلاد.
فهم يعتبرون أن إتيان الحيوان كرامة من الكرامات، وأن رجلاً اسمه "وحيش" كان يدعو كل رجل يركب حماره إلى أن يمسكها له ليفعل بها فإن رفض تسمر في الأرض وإن قبل أصابه خجل عظيم.
وهذه واحدة من آلاف الكرامات وليس بأعظمها، وكنت أظن أن كتاب الطبقات لا يعادله كتاب فيما ذهب إليه ولكني لما ذهبت إلى السودان وجدت هناك كتاب طبقات آخر "طبقات ود ضيف الله" وكتاب "طبقات ود ضيف الله" في السودان كتاب محقق حققته الجامعة وخرجته الجامعة وهو مليء كطبقات الشعراني بهذا الهوس وبهذا الخبل وبهذا المجون والفسوق والمروق.
معركة مع الموت:
أكثر كرامات الصوفية تدور حول الموت فهم يزعمون أنهم يطيرون بنعوشهم بعد الموت وما أكثر النعوش التي تطير أو يطيرها أتباعهم، يزعمون أن فلاناً أمسك ملك الموت وأخذ منه زنبيل الأرواح ورماه فعادت الأرواح إلى أصحابها، ويزعمون في طبقات "ود ضيف الله" أن ملك الموت أراد أن يقبض روح واحدة "فاطمة بنت عبيد على ما أذكر" وأنها استغاثت بأحد الأولياء فذهب إلى السماء الرابعة وأمسك ملك الموت ودخل معه في صراع إلى أن أسترد منه روح فاطمة بنت عبيد ثم عاد إلى الأرض وهو يتصبب عرقاً فسألوه فقال: لأنني كنت أجاهد ملك الموت حتى استخلصت الروح منه.
كراماتهم تدور حول هذا المعنى وهم ينددون بمن يقول لهم مثلاً: إن فلاناً مات ويغضبون لهذا التعبير جداً ويقولون: انتقل ولم يمت، ويجهلون أن الله سبحانه وتعالى قال عن نهبي ﷺ وعن أشرف خلقه: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } [آل عمران: 144].. وأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال حول هذه الآية: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" وأن الله سبحانه وتعالى قال: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ } [الزمر: 30]. وقال: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ } [الأنبياء: 34] وقال في ثلاث قضايا سورت بالسور الكلي قال أولاً: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [الرحمن: 26]، وقال: { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ } [آل عمران: 185] وقال سبحانه وتعالى: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ } [القصص: 88] فالموت مكتوب على كل إنسان، وجعلها كلمة باقية في عقب آدم إلى يوم يرجعون، فالله سبحانه وتعالى يقرر في القرآن أن الكل يموت ولكن الصوفية ينفون أن يكون واحد منهم قد مات. هذه عقيدتهم..
ثم نعود إلى كرامة "رابعة العدوية" التي استقبلتها الملائكة وملأت بيتها، وزحمته وجعلتها تقول للناس اخرجوا حتى يدخل رسل ربي، ثم لماذا يخرجون ليدخل رسل الله مع أن الله سبحانه وتعالى بيّن لنا أن رسله يدخلون علىالميت وقت احتضاره والناس من حوله { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاّ تُبْصِرُونَ } [الواقعة: 85] فهم أقرب إليه ولكن الناس لا يبصرون فهل طالب الله سبحانه وتعالى بإفراغ المكان حتى يدخل رسل الله سبحانه وتعالى، ثم من هم هؤلاء رسل الله الذين يسمعون وهم يرددون الآيات ويرددون البشارات حتى يعرف الناس.
الذين يخلعون الولاية على الناس:
يقول الصوفية:
"إن رابعة من أهل الجنة وأنها رجعت إلى ربها راضية مرضية، مع أن حديث أبي السائب معروف لنا وهو أن زوجه قالت: رحمك الله يا أبا السائب لقد أكرمك الله، فقال لها النبي ﷺ: "ومن أدراك أن الله قد أكرمه؟" فأخذت تصفه بمكارم الأخلاق فقال لها النبي: "لا تقولي ذلك ولكن استغفري له فوالله وأنا رسول الله لا أدري ما يفعل بي". ذلك هو رسول الله ﷺ وهذا هو كلامه بالنسبة للحكم على الناس بتقوى أو بصلاح أو بعاقبة طيبة، ولكن الصوفية دائماً يسرفون في الحكم على الناس ويسرفون في الحكم على أنفسهم فيزعمون أنهم أهل الله، وأنهم أصحاب جنته، وأنهم يرون الله وأنهم يجتمعون في الدنيا برسول الله جهاراً نهاراً وأنهم يتلقون الحديث من رسول الله، وأن لهم رواية وسنداً في الحديث عن رسول الله مباشرة، وأن محيي الدين بن عربي قال: إن هذا السند أقوى سند كتب الحديث، لأن الولي منهم يلتقي برسول الله ﷺ فيقول له: هل قلت كذا يا رسول الله فيقول: لا لم أقله.. ثم يجيب الرسول ﷺ بأحاديث جديدة بل إن الصوفية يذهبون إلى أبعد من هذا فهم يرفضون سند رجال الحديث مطلقاً ويقولون بمباهاة وفخر: "أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت" ويقولون أيضاً كلمتهم المعروفة أو سندهم المعروف في الرواية "حدثني قلبي عن ربي" فقلوبهم تحدثهم عن ربهم بدون واسطة الموتى في أخذ العلم وفي تلقي العلم، لكنهم يقبلون واسطة الموتى في العمل وفي الجنة وفي الحصول على رضا الله سبحانه وتعالى.
الجولة الخامسة " الشعراني " صاحب الطبقات
أهل الحركة، والبركة، والغيب، والفورة الجنسية ..!
برهان الله في السودان يتأبط الدسوقي نهاراً ...!
.. أحمد الرفاعي.. السيد البدوي.. الشعراني ...!
بعد أن استغرقت رابعة العدوية الحلقة الأولى من الحديث.. يدفع المتحدث إليه بالحديث إلى أحمد الرفاعي.. ويتناول الدكتور منه الخيط ليطوف به حول بقية الشخصيات الصوفية، وعمدتهم السيد البدوي، ومؤرخهم عبد الوهاب الشعراني صاحب الطبقات الكبرى:
ويسأل السائل ويجيب المجيب.. ثم تكون حكاية "الرفاعي" والسؤال هو: يزعم أصحاب "الرفاعي" أن والده توفي وهو جنين في بطن أمه وكان لمولده فرحة كبيرة بسبب الرؤيا التي سبقت هذا المولد وتحدث بها أصحابها من كبار الصالحين. فإن خالد القطب الرباني الشيخ منصور رأى في منامه رسول الله ﷺ يقول له: "يا منصور أبشرك أن الله تعالى يعطي أختك ولداً يكون اسمه أحمد الرفاعي وحينما يكبر اذهب به إلى الشيخ علي القارئ الواسطي ليربيه ولا تغفل عنه"، ويقولون أيضاً: إن من بعض كراماته أنه لما كثر الجدل والنقاش بين الأتباع وأراد الشيخ منصور أن يحسم الموقف دعا الطامعين في الخلافة، ودعا ولده أحمد، وابن أخته أحمد الرفاعي وأعطى كلاً منهم سكيناً ودجاج وطلب من كل واحد منهم أن يذبح دجاجته في مكان لا يراه فيه أحد، فعاد الجميع وفي أيديهم ذبائحهم إلا أحمد الرفاعي فقد عاد ومعه الدجاجة حية والسكين في يده فسأله الشيخ لماذا عدت بالدجاجة من غير ذبح؟ فقال الرفاعي: شرطت علي يا سيدي خلو المكان وأينما ذهبت وجدت الله حاضراً وناظراً.
وهكذا صار الرفاعي خليفة للطريقة فنظمها وقسمها إلى مجموعات ومراحل ودرجات وقد بلغ الرفاعي الغاية من الزهد والتصوف وأجرى الله على يديه بعض الكرامات فما هي الحقيقة في هذا كله؟
وهنا نسمع رأي الدكتور محمد جميل غازي حول هذه الشخصية الصوفية.
رابعة العدوية والرفاعي والبدوي والدسوقي والجيلاني أسماء كثيرة لا تنتهي عدا، ولو أننا وقفنا عند كل شخصية من هذه الشخصيات نناقش ما يروى عنها لوجدنا الكثير، ولوجدنا كلاماً كثيراً يمكن أن يقال في الرد عليهم ثم إن ما ذكرته عن الرفاعي قليل من كثير.
هذا الذي ذكروه عن الرفاعي قليل لكن انظر ما الذي يرويه الشعراني أنه يقول: إن السيد البدوي التقى به الرفاعي في طنطدا – وطنطدا هو الاسم القديم لطنطا – وأن الرفاعي قال له: أريد المفتاح. فقال له السيد البدوي: مفاتيح الشام والعراق ومصر والهند والسند بيدي فخذ أيها شئت، فقال له: لا آخذ المفتاح إلا من يد الفتاح. فقال له: اذهب إلى مكان كذا وستجد المفتاح متدلياً من السماء، فذهب الرفاعي ووجد يداً ممتدة من السماء فأخذ يقبل اليد التي أعطته المفتاح ثم عاد للسيد البدوي وقال له: لقد أخذت المفتاح، قال له: أتعرف اليد التي أعطتك المفتاح؟ قال له: نعم.. فمد السيد البدوي يده وقال له: أليست هذه؟.. فنظر الرفاعي في يد السيد البدوي وقال: إنها هي!
العالمون بالغيب:
شيء آخر يروى عن الرفاعي أيضاً، يقولون أنه لما ذهب ليحج قال لرسول الله ﷺ وقد وقف أمام القبر:
في حالة البعد روحي كنت أرسلها | تقبل الأرض عني وهي نائبتي | |
وهذه دولة الأشباح قد حضرت | فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي |
ثم مد الرسول يده فقبلها الرفاعي، وما يروى من هذا كثير. الموتى يلتقون بالأحياء، والشعراني يروي عن نفسه أيضاً فيما يرويه، قال: وتأخرت سنة عن حضور المولد، وقال الذين حضروا المولد أن سيدي أحمد كان يخرج رأسه من الضريح ويقول: أبطأ عبد الوهاب الشعراني ما جاء وقال! تأخرت سنة عن حضور المولد فقابلني سيدي أحمد في القاهرة ومعه كثير من الموتى وألزمني والأسرى يزحفون على ركبهم ويحملون أكفانهم معهم ويحضرون المولد، فقال لي سيدي أحمد: لماذا لم تحضر المولد؟ فقلت له: بي وجع. قال: الوجع لا يمنع المحب، قلت له: إن شاء الله نحضر. فقال: لابد من الترسيم عليك، فرسم على سبعين عظيمين.. أسودين كالأفيال وقال: الزماه حتى تأتيا به.
هذه هي طريقة الصوفية في الفهم والاعتقاد فهم يخطئون أشنع الخطأ وأبشعه في مسألتين هما أساس توحيد الألوهية.. المسألة الأولى علم الغيب، والمسألة الثانية التصرف في الكون.
أما علمهم للغيب فيأتي وهم صغار، فمثلاً الدسوقي يقول: إنه أوتي سبعين علماً إحاطياً أقلها علم اللوح والقلم.
هذا هو علم الدسوقي وهو في السبع سنوات. كذلك نجد البوصيري يتحدث في قصيدته الميمية – أو البردة- يقول للرسول ﷺ :
فإن من جودك الدنيا وضرتها | ومن علومك علم اللوح والقلم |
فالصوفية ليس عندهم غيب لأن كل شيء مكشوف لهم وبالنسبة للتصرف في الكون هم المتصرفون في الكون فيسمون السيدة زينب مثلاً رئيسة الديوان، إذ يجتمع الأقطاب والأنجاب والأوتاد مرة كل عام في غار حراء برئاسة رئيسة الديوان للتصرف في أمور المخلوقات.
ويزعمون أيضاً أن السيد البدوي متصرف في الكون ويقولون أيضاً أن الله قال في حديث قدسي: "الملك ملكي وصرفت فيه البدوي".
ويسمون أنفسهم: أهل التصريف، ويعتبرون أن لكل عام أو كل فترة زمنية قطباً يسمونه "قطب الوقت" يعني المسؤول عن التصرف في الكون في ذلك الوقت.
هذه مفتريات الصوفية ولو أننا رحلنا نتتبعها واحدة واحدة لضاع وقتنا هباء، ولكننا دائماً نشرح الحق وبضدها تتميز الأشياء، والحق موجود في كتاب الله سبحانه وتعالى، ومشروح شرحاً كاملاً، ولقد فصل الله سبحانه وتعالى الحق في كتابه الكريم، وبين مظاهر الباطل ومداخل الباطل ومخارج الباطل، في كتابه الكريم ورسولنا ﷺ لم يخرج من هذه الحياة، أو لم يخرجه الله سبحانه وتعالى من هذه الحياة الدنيا إلا بعد أن أبان الشريعة، وبين كل الطرق المؤدية إلى الله سبحانه وتعالى حتى قال رسول الله ﷺ كلمته المشهورة المعروفة:
”تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك“ وقال: ”تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي“.
النون أم الميم !!:
ثم ننتقل مرة أخرى مع الدكتور محمد جميل غازي إلى قطب آخر من أقطاب الصوفية وهو "إبراهيم الدسوقي" – إنه درس الفقه ثم اقتفى آثار الصوفية – واعتكف عشر سنوات في دسوق وكان صاحب كرامات ظاهرة، ومقامات فاخرة، وسرائر قاهرة، وبصائر باهرة ويقولون أيضاً: لقد كان إبراهيم الدسوقي زعيماً روحياً، وقطباً صوفياً، ومصلحاً اجتماعياً وطريقة البرهامية نسبة إلى "إبراهيم" أو "الدسوقية" نسبة إلى لقبه انتشرت في أقطار الشرق.. وامتدت فروعها في مصر والسودان فخلق رجالاً عاملين ومواطنين صالحين يراقبون الله في السر والعلن ومازال خلفاؤه ناهجين نهجه هكذا يقولون عن الدسوقي وطريقته.
أولاً كلمة "خلق" التي ذكرت في كلام هذا الكاتب، كلمة عجيبة أيضاً فهو شيء جديد يضاف إلى مناقب الصوفية وأنهم يخلقون، وهو يخطئ أيضاً حينما يقول: إن الطريقة المنسوبة إلى إبراهيم الدسوقي اسمها الطريقة البرهامية، بالميم أو البرهانية بالنون؟ الميم والنون أقامتا معركة بين السودان ومصر.. أما مصر فإنها أقامت الطريقة البرهامية بالميم، وأما السودان فأقامت الطريقة البرهانية بالنون وسبب المعركة بسيط أنه بعث في زمان الناص هذا ولي جديد هذا الولي الجديد اسمه محمد عثمان عبده البرهاني بالنون وأنه التقى بإبراهيم الدسوقي في جلسة علنية وأنه سأله هل طريقتك البرهامية بالميم أو البرهانية بالنون ؟ فقال إبراهيم الدسوقي: طريقتي البرهانية بالنون لأنني برهان الله في الأرض، وعلى هذا الأساس خرج محمد عثمان عبده بطريقة البرهانية بالنون، واجتمعت مشيخة الطرق الصوفية وخرجت على الناس ببيان رفضت فيه اعتبار الطريقة البرهانية بالنون إحدى الطرق الصوفية المعتمدة. لكنها موجودة ولها مقر بجوار مشيخة الطرق الصوفية وتقوم بنشاطها الملموس، ويحضرها كثير من طلبة الجامعات.
زرت محمد عثمان البرهاني في منزله بالخرطوم، في ميدان عبد المنعم وسألته: كانت أيامها حرب 73 وكانت المعركة قائمة في مصر، كنا في رمضان بعد عشرة رمضان – هل يقود المعركة الآن – إبراهيم الدسوقي قال: نعم والذي دعاني إلى هذا السؤال أن بعض المجلات نشرت مقالات بعنوان "دولة أبي العينين" بينت أن قطب الوقت هو أبو العينين، وأن الذي سيقود المعركة ضد اليهود هو أبو العينين، وأنه سيطرد اليهود من مصر ومن سيناء إلى آخره، فسألت محمد عثمان البرهاني: هل الذي يقود المعركة الآن في مصر هو إبراهيم الدسوقي؟ قال: نعم، قلت: له بلحمه ودمه. قال: نعم بلحمه ودمه.
نحب أن نوضح بعض الأشياء عن عثمان البرهاني ليكون معروفاً أكثر هو مؤلف كتاب "انتصار أولياء الرحمن على أولياء الشيطان" ويقصد بأولياء الشيطان من سماهم في صدر كتابه "الوهابيون والإخوان المسلمون" فهوي قول أن هؤلاء هم أنصار الشيطان وأنه ألف هذا الكتاب للنيل من هؤلاء.
وفي كتابه "تبرئة الذمة في نصح الأمة" بين أن الله هو محمد، وأنه لا فارق على الإطلاق وقال: إن قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } [الفتح: 10] معناه أن محمداً هو الله.
وقال أيضاً: إن من أسماء الله الحسنى محمد.
كذلك فإن "محمد عثمان عبده البرهاني" كان يذكر في كتابه هذا من مناقب الدسوقي أنه سأل الله أن يعطيه جسماً كبيراً كبيراً، ولما سئل إبراهيم الدسوقي لماذا؟ قال: لأزحم به النار فلا يدخلها أحد ونفس الكلام محاولة زحم النار أو زحمة النار ذكرها السيد البدوي أيضاً قال: إنه دعا الله بثلاث دعوات فأجاب الله دعوتين وأبطل الثلاثة، دعا الله أن يشفعه في كل من زار قبره فأجاب الله ذلك، فدعا الله أن يكتب حجة وعمرة لكل من زار قبره فأجاب الله ذلك، فدعا الله أن يدخله النار فرفض الله ذلك. فسألوا السيد البدوي لماذا رفض الله أن يدخلك النار؟ قال: لأني لو دخلتها فتمرغت فيها تصير حشيشاً أخضر وحق على الله أن يعذب بها الكافرين، ويقول أحد الصوفية: لولا الحياء من الله لبصقت على ناره، فانقلبت جنة، وأبو يزيد البسطامي هو الذي يسخر من الجنة والنار، فيقول: سبحاني ما أعظم شأني الجنة لعبة صبيان.
هذا هو منطق هؤلاء بالنسبة لجنة الله وبالنسبة للنار، وبالنسبة لوعد الله وبالنسبة لوعيده، فهم يعتبرون الجنة لعبة صبيان، بل بالعكس أبو يزيد البسطامي حينما يسمع القارئ يقرأ قوله تعالى: { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } [البروج: 12] يقول: وعزتي وجلالي إن بطشي لأشد من بطشه.
وننتقل أيضاً مع الدكتور محمد جميل غازي إلى قطب آخر وهو الشيخ الشعراني فقد قيل عن الشيخ الشعراني كما يرويه أصحابه أن المستشرق "ماكدونالد" قال: إن الشعراني كان رجلاً ذواقاً نقاداً مخلصاً واسع العقل وكان عقله من العقول النادرة الخلاقة في الفقه بعد القرون الثلاثة الأولى في الإسلام، ولقد كانوا يقولون أن الشعراني كان عالماً فقيهاً وصوفياً مشهوراً وكان ينتمي إلى الطريقة الشاذلية التي أسسها الشيخ أبو الحسن الشاذلي، ثم يقولون أيضاً عن هذا الشيخ قد حكى عنه المستشرق "كولدس" أن الشعراني كان من الناحية العلمية والنظرية صوفياً من الطراز الأول وكان في الوقت نفسه كاتباً بارزاً أصيلاً في ميدان الفقه وأصوله وكان مصلحاً لا يكاد الإسلام يعرف له نظيراً، وإن في كتبه ما يعد ابتكاراً محضاً لم يسبق إليها ولم يعالج فكرتها أحد قبله. ثم يقولون أيضاً: أن هذا القطب أو هذا الشعراني قد أثمرت قراءته ودراسته ثمراتها الطيبة وبدأ أثرها في إنتاجه الغزير في مؤلفاته التي تتحدث في التفسير والحديث والفقه ولغة التصوف، وبعض هذه المؤلفات تقع في خمسة مجلدات.
الأعداء لماذا يؤيدون التصوف ؟
أن يقول هذا الكلام مستشرق مثل "ماكدونالد" أو غيره يجعلنا نعرف من هم الصوفية تماماً، فالصوفية هم جماعة ماكدونالد وغيره، نصبوا أنفسهم لهدم الإسلام. ذلك أن أوروبا الصليبية لا تسمح لنفسها أن تعطي دكتوراه في العلم الإسلامية إلا في التصوف.
المستشرقون والمبشرون يؤيدون التصوف لعلمهم أن ذلك معول يقضي على الثقافة الإسلامية، ويقضي على العقيدة الإسلامية، ويقضي على العبادات الإسلامية والسلوك النظيف.
ما هذا الذي يقوله هؤلاء المستشرقون عن عبد الوهاب الشعراني، وأنه أتى بكتب لا نظير لها، وأنها في غاية الابتكار ألا يرجع هؤلاء إلى أنفسهم فيعلمون أن أوروبا حظرت تدريس المزامير في مدارسها لما فيها من خدش للحياء والعفة وخاصة نشيد الإنشاد في "المزامير" كيف يقولون هذا مع أن في طبقات الشعراني ما هو أحق بالمنع من نشيد الإنشاد، مثلاً عبد الوهاب الشعراني يقول بالحرف الواحد "ودخلت على زوجتي أم عبد الرحمن ولم أفعل شيئاً، يقول: إنه دخل على زوجته أم عبد الرحمن ولم يستطع أن يفعل معها ما يكون بين الرجل وزوجته فاستغاث بسيده أحمد البدوي، وأن أحمد البدوي قال له: يأتي بفاطمة أم عبد الرحمن عنده في القبر ثم يدخل بها، وأنه أخذها وذهب إليه في القبر ودخل بها وصنع له السيد البدوي حلوى، قال عبد الوهاب الشعراني: فكان الأمر في تلك الليلة.
كيف يمكن لمفكر كهذا أن يقال أنه مفكر لا نظير له.. بعد صدر الإسلام.
كيف يمكن أن يكون هذا؟ وكيف يقال إن مؤلفاته لا نظير لها مع أنها كلها عبث كهذا العبث.
أليس عبد الوهاب الشعراني هو الذي قال إن للولي حق القبض والبسط والخفض والرفع والإحياء والإماتة وحق التصرف في العباد.
كل هذا يقوله عبد الوهاب الشعراني، ويقال لنا: أن كتب عبد الوهاب الشعراني لا نظير لها، لماذا ؟ لأنهم يريدون لهذا الرجل ولأمثاله أن يعيشوا بين الناس.
ويمضي الدكتور محمد جميل غازي في حديثه يكافح الخرافة، ويتتبعها في أوكارها !
ونتوقف نحن إلى هذا الحد.. لنقول:
إن هذا "الداعية" الفاهم الواعي، قد وسعت دائرة معارفه "أنماطاً" من البدع والخرافات.. عرفها، وعرف بها، وتتبعها بالبحث والدراسة، وحذر الأمة منها ومن شرها !
ولقد أوتي القدرة على مقاومة هذه البدع والخرافات.. مهما كان أنصارها أشداء أقوياء!!
فليبارك الله خطوه.. وليكلل بالنجاح مسعاه.. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الجولة السادسة الشيوعية أقدم من ماركس
حتى كتابة هذه السطور.. التوحيد عندهم جريمة..!
الصوفية.. لا إحسان.. ولا تقوى.. وإنما شعوذة..!
الشيوعية دعوة قديمة.. قبل ماركس..!
بين الحديث السابق، وهذا الحديث عام عامل! في موسم الحج الذي أعقب آخر حديث – جاء رئيس التحرير الجديد، وجاء بأسئلة جديدة، وحاصر الدكتور محمد جميل غازي، وكان هذا الحوار المفتوح الذي حذفنا منه بالقدر الذي تبيحه مقتضيات العرض.. غير أن الكلام عن الصوفية وهو الهدف من هذا الكتاب كله.. تركناه كما هو.
ليس فقط تعميقاً وتأصيلاً للفكرة.. فكرة كشف الأستار عن هذه الفرقة التي فعلت بالإسلام وبعقائده ما فعلت.. وما زالوا وسوف يظلون المنطقة المتأنية التي تجذب المسلمين.. وكأنها الرمال الناعمة تبتلع الناس وتدفنهم دون أن يشعروا.. بل إنهم أشد خطراً وأبعد أثراً.. وهيا معاً إلى الحوار المفتوح:
بنفس طريقة الإجابة السريعة: ما هي كتبكم ومؤلفاتكم ؟
وضعت كتباً في التفسير، والفقه، والحديث، والدب، والاجتماع.. ليس هنا مكان تحديدها أو عناوينها.. ومع ذلك فليست الكتب هي كل سبيلي إلى الدعوة.. إنما اعتزازي الكامل بالمحاضرات التي ألقيها أسبوعياً في "مسجد العزيز بالله" يوم الجمعة، وبالمركز الرئيسي "لجماعة أنصار السنة" والمركز الرئيس لجمعية "مجد الإسلام" وأماكن أخرى أدعى إليها دائماً في داخل القاهرة وخارجها.
متى عرفتم دعوة التوحيد ؟ وعرفتكم الدعوة ؟
كنت في المرحلة الابتدائية في الأزهر.. ووقع في يدي كتاب "زعماء الإصلاح في العصر الحديث" للأستاذ أحمد أمين، وقد كتب عن الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في أول الكتاب ترجمة طيبة.. شدتني لا سيما وإنني لم أكن قد عرفت عن الإمام إلا ما يشوه سيرته، ويسيء إليه من أعدائه والحاقدين عليه.. بعد هذه الترجمة.. صححت كثيراً من الأفكار المغلوطة عن هذا الرجل الإمام.. والحق أني حاولت بعد ذلك الحصول على كتب في هذا المضمار.. لكن كانت هذه الكتب الخاصة بالتوحيد، والإمام.. نادرة الوجود إن لم تكن منعدمة لأكثر من سبب.
إلى أن حدث الذي ما زلت أذكره.. وكأن عهدي به أمس إذا سمعت ضجة، ومعركة بين زملائي الطلاب، وأحدهم كان يمسك بمجموعة من الكتب.. الطلبة يريدون الاعتداء عليه وهو متلبس بجريمة حيازة كتب لمحمد بن عبد الوهاب.. احتكموا إلى قضية بينهم حسما للنزاع أن أشتري الكتب.. وقبلوا الحل، وكانت فرصتي لقراءة الشيخ من خلال ما كتبه هو.. لا ما كتب عنه.
ماذا رأيتم في جولاتكم في البلاد الإسلامية من أمر الدعوة ؟
وجدت أن دعوة التوحيد مقبولة لدى العقلاء.. مرفوضة لدى بعض الجماهير.. لأن الماهير تصدر أحكامها من منطلق العواطف الفجة غير المدروسة، والمتأثرة بنفوذ أصحاب المصالح، والتقاليد المتوارثة، وتحكمات الهوى، والبيئة.
وكيف كنتم تواجهون فضيلتكم هذا الجمود ؟
علمنا القرآن الكريم.. أسلوب الدعوة فلابد من مواجهة العقل بالعقل، والعاطفة بالعاطفة.. فمن "سيكولوجية" الدعوة أن تتوافق مع مستويات الجماهير حتى تكون نافعة ومؤثرة، ويصلح الأسلوب الأول – العقلي – في المناقشات الهادئة التي تدور في ندوات مغلقة.. محدودة العدد.. أما الأسلوب الثاني فهو للجماهير الواسعة في المحاضرات ونحوها.
ما هي أنماط المضايقات التي تلقونها ولقيتموها ؟
إنه نمط واحد.. لا يتغير في كل مكان.. إنهم أصحاب المصلحة في أن تعيش الجماهير في الضلالة، وهم يشرون يدافعون عن بقائهم وبقاء مصالحهم بضراوة.. أحدهم يعمل قيماً على صندوق نذور جده، وهو في نفس الوقت يشغل وظيفة هامة في المجتمع.. وتعلم في أرقى الجامعات.. ولما كانت كل أسرته تتكسب من "المولد" الذي يقام لجده، ومن صندوق النذور فقد أرسل يهددني بالقتل.. إذا واصلت هجومي على الضلالة، والخرافة.. ولكنه لم ينفذ تهديده.. لأنني مازلت حياً كما ترى.
هل تتفضل فضيلتكم بذكر أنماط أخرى ؟
الأنماط كثيرة ووقتي ووقتك ضيق.. وهي معروفة لدى الدعاة جميعاً، ولا نريد أن نمن على الله بعمل.. فإن الله له المنة والنعمة، والطول، والإحسان، ويكفي أننا أصحاء مرزوقون سعداء، ولم يجر علينا ما جرى على الدعاة السابقين، الذين قال فيهم الرسول ﷺ : ”إن الرجل فيهم كان يوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق إلى نصفين.. فما يرده ذلك عن دينه“ أين نحن من هؤلاء ؟
ما هو العدو الحقيقي في نظرك لدعوة التوحيد ؟
مرة أخرى أقول إن الأعداء كثيرون في الخارج والداخل أي من داخل حدود العمل الإسلامي، ومن خارج حدوده.. وفي رأي أن العدو الداخلي أخطر من العدو الخارجي.. ذلك لأن العدو الداخلي يحارب الإسلام وهو يقول صدق.. أما العدو الخارجي فهو يحاربه وهو يقول كذب.. فالأول منافق، والثاني كافر.. والنفاق شر من الكفر ولذلك كانت عقوبة الله للمنافقين الدرك الأسفل من النار.
تفضلوا فضيلتكم بإيضاح الإجابة السابقة وتفسيرها للقراء ؟
يكاد العدو الخارجي يكون محدداً في الثالوث الحقير المعروف الشيوعية العالمية، والصهيونية العالمية، والصليبية العالمية، أما الداخلي فهم أدعياء التصوف ودعاته، وشيوخ الفرق الإسلامية المتنابذة والمتخاصمة، والتي ما قامت إلا لأهداف مادية، ومناصب دنيوية.
ما قولكم في أن هذه الفرق، وعلى رأسها الفرق والطوائف الصوفية تدعي أنها تدعو إلى الله والإسلام ؟
ألست معي أن كل دعوى في حاجة إلى دليل.. فما هو الدليل الذي تقدمه كل هذه الطوائف ؟ لتثبت أن ما هي عليه هو الحق الذي لا شك فيه.. وإذا سلمنا جدلاً أن كل طائفة أثبتت أنها على الحق.. حينئذ يكون للحق ألف طريق مع أن الله سبحانه وتعالى يبين أن طريق الحق واحد في قوله: { وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [الأنعام: 153]. وكلهم يقولون أنهم ملتمسون من رسول الله، وأن كل الطرق تؤدي إلى الله.. فكيف يدخل عقل عاقل أن رسول الله وضع المناهج لطرائق الرفاعية، والأحمدية، والبيومية، والسماكية، والنقشبندية، والسيوفية والبرهانية بالنون، والبرهامية بالميم..؟ وكيف يمكن أن تكون هذه الطرق مؤدية إلى الله ؟ وأين هي إذاً الطرق التي لا تؤدي إلى الله، والتي قال عنها سبحانه وتعالى: { وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ }؟
فضيلة الدكتور.. ألا يمكن أن يكون اختلافهم عن نيات حسنة.. وزيادة في اجتهاداتهم من أجل الدين ؟
ما أضر المسيرة الدينية في ماضيها وحاضرها.. إلا أصحاب النوايا الطيبة الذين بعدوا بنواياهم عن العمل الطيب.. والله يقول: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [الكهف: 103، 104] إننا نريد نوايا طيبة، ومعها أعمال طيبة كذلك، ولكي يكون العمل طيباً صواباً لابد أن يكون صاحبه ملتزماً بما صح عن رسول الله ﷺ. ثم ما هذا الاجتهاد الذي تتحدث عنه، وقد اتفق جماهير السلف رضوان الله عليهم على أنه لا اجتهاد مع النص.. وإبليس ما كفر إلا لأنه اجتهد مع النص حيث قال الله له وللملائكة: { اسْجُدُوا لآدَمَ } [البقرة: 34] وهذا نص.. فقال إبليس عليه لعنة الله: { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [الأعراف: 12] وهذا اجتهاد واجتهاد باطل.
إن كل الطرق التي عددتها فضيلتكم.. هي الطرق الصوفية ؟ وتلك كما يقول أصحابها قمة الإسلام أو الإحسان أو التقوى.. فما قولكم ؟
أما أن كل هذه الطرق شيء واحد.. فهذا أمر لا يقره الصوفية أنفسهم بدليل أنهم هم الذين سموها طرقاً – والطرق: جمع طريق – كما هو معروف.. ثم ما هي هذه الصوفية التي تتحدث عنها وتقول إنها قمة الإسلام أو التقوى أو الإحسان؟ وهل تتصور أن يسكت القرآن وأن يسكت رسول الله عن قمة الإسلام هذه فلا يتحدث عنها ولو مرة واحدة؟.. فهل ورد في القرآن الكريم كله لفظ صوفية؟ أوفي الحديث النبوية ما يفيد ذلك؟ أو هل جرى هذا اللفظ على لسان أحد من الصحابة أو التابعين رضوان الله عليهم؟
إذاً لماذا يشيعون أن لفظ الصوفية مرادف للفظ التقوى أو الإحسان ؟
سبحان الله.. ما قرأنا في قواميس اللغة على كثرتها وضخامتها أن من مرادفات تقوى صوفية.. وهب أن الأمر كذلك.. فهل يصح لإنسان أن يقول أنا صوفي بمعنى: أنا تقي؟.. وهل يصح لمجموعة من البشر أن يقولوا نحن صوفية.. بمعنى نحن أتقياء.. مع أن الله تعالى يقول: { فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُم هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [النجم: 32]، وعلى ذكر القواميس اللغوية.. فإنني أقول لك: إن لفظ صوفية كمصدر صناعي لم يرد إطلاقاً لأي معنى من المعاني التي يريدها الصوفية.. وإنما هو لفظ وثاني وثني قديم معناه الحكمة.
لكن إذا سمحتم لنا فنحن نقول إن هذه شكليات لا ينبغي أن تكون أساساً للفصل في قضية موضوعية هامة كهذه ؟
الذي أريد أن أحدده هو أن الصوفية ليس لها سوى احتمالات عقلية أربعة: إما أن تكون هي الإسلام أو غيره، أو زيادة عليه أو نقصاً منه.. فإذا كانت الأولى فالله سمانا المسلمين، وليس المتصوفين، وإذا كانت الثانية.. فنكون قد رفضنا الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده، وإذا كانت الثالثة والرابعة.. فليس من حق أي إنسان كائناُ من كان أن يتصرف في الإسلام وشرائعه زيادة أو نقصاً أو إضافة أو حذفاً.
الشيوعية أقدم من ماركس:
بلا أسئلة وبلا أجوبة.. راح الدكتور يتحدث فيما أحاول أن ألخصه حرصاً على وقت القارئ.. قال: إن هجوم الثالوث الحقير المكون من الصليبية، والصهيونية والشيوعية أيضاً لم يبدأ من هذا العصر وإنما بدأ ورسول الله ﷺ حي يرزق، وإذا قلت إن الشيوعية عصرية.. أقول لك إن التسمية فقط هي العصرية، أما أهدافها فقد كانت في جماعات "المانوية"، "المزدكية"، وتلك جماعات معروفة في التاريخ.
حرب الشيوعية، والتبشير الصليبي، والتضليل الصهيوني، لا يمكن أن يكون بالخطب بل ينبغي أن ندرس مساربها إلى صفوف المسلمين، وأن نسد الثغرات التي تنفذ منها هذه الأوبئة.
وذلك لا يكون إلا بالعودة إلى الإسلام الصحيح والعدالة الاجتماعية المنبثقة منه وحده!
الجولة السابعة لقاء في سلطنة عُمان
القرآن نزل لحل مشاكل الإنسان ..!
مخاطبة العقول والقلوب بالقرآن ..!
كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة ..!
انتهزت مجلة "العقيدة" العمانية.. فرصة لقاء الدكتور محمد جميل غازي.. في "عمان" لإلقاء بعض المحاضرات في التوعية الإسلامية، فكلفت محررها الزميل "إسماعيل السالمي" بإجراء لقاء معه.. ورغم أن الحوار كان بمناسبة بداية القرن الهجري الجديد.. إلا أن الدكتور كعادته طارد الصوفية والصوفيين، وقال ما تمكنت المجلة من نشره..
وإليك نص الحديث:
الهجرة.. هي البداية:
الأمة الإسلامية تمر الآن بذكرى مرور أربع عشر قرناً على الهجرة النبوية.. فكيف نجسد هذه الذكرى لإحياء مجد الأمة الإسلامية ؟
التاريخ الهجري تاريخ أجمع عليها الصحابة.. حينما جمعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لاختيار تاريخ يسجلون به أحداثهم ووقائعهم.. ولقد فكروا أي تاريخ يختارون، واتفقوا فيما بينهم على أن أعظم حدث فعلاً هو حدث الهجرة.. واتفقوا على اختيار الهجرة لتكون تاريخاً للمسلمين يرجعون إليه.. يسجلون به أحداثهم.. فالهجرة النبوية وهي الموعد الذي اختاره الصحابة بالإجماع لتكون تاريخاً لحياتهم.. والهجرة النبوية كانت انتقالاً من الفترة المكية إلى الفترة المدنية، والفترة المدنية هي الفترة التوطينية للإسلام، ولانطلاق الإسلام.. ففي المدينة قام الرسول ﷺ بوضع النظم الكفيلة بضمان مسيرة الإسلام.. ولم يضعها الرسول ﷺ من عند نفسه.. وإنما وضعها بتشريع من عند الله سبحانه وتعالى، وبوحي من الله.. لأن الرسول ﷺ لا ينطق عن الهوى.. هذه الشرائع التي وضعت في المدينة هي الشرائع الكفيلة والقادرة على هداية الأمة الإسلامية أو على هداية الإنسانية جمعاء.. وبدونها لن تسعد الأمة الإسلامية ولن تسعد البشرية.. كذلك فإن الفترة المدنية هي الفترة التي قامت فيها حروب الإسلام.. والتي أذن للرسول ﷺ فيها أن يقاتل الذين يقاتلونه، والذين يقفون في سبيل الدعوة الإسلامية.. كما قال الله تعالى: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } [الحج: 39].
فالهجرة الإسلامية تعتبر علامة ليست في التاريخ الإسلامي وحده، وإنما في التاريخ الإنساني عامة.. فالمسلمون مطالبون فعلاً، وقد مر أربعة عشر قرناً على الهجرة النبوية أن يحتفوا بهذا الحدث، وأسلوب الاحتفاء بهذا الحدث لا نقول بالمهرجانات الموسيقية والمهرجانات الغنائية أو بالتهريج، وإنما بالمؤتمرات العلمية التي تقدم فيها قضايا الإسلام، والتي يدرس فيها ماضي الإسلام، ونصحح كثيراً من الأخطاء الموجودة في التاريخ الإسلامي.. ثم في الوقت نفسه دراسة حاضر المسلمين ونقط الضعف في هذا الحاضر، والسلبيات الموجودة.. وفي الوقت ذاته وضع الخطط الجادة الغير الهازلة التي لا توضع للاستهلاك فقط، إنما توضع موضع التنفيذ للنهوض بمستقبل المسلمين، وكيف يكون هذا المستقبل أكرم وأشرف مما سبق. وننتظر أن تتحرك البلاد الإسلامية نحو هذه الذكرى وأن يؤمنوا أنهم شهود نهاية القرن الرابع عشر الهجري وهم شهود ميلاد القرن الخامس عشر الهجري.. إننا نعيش هذه الفترة الحاسمة في التاريخ البشري.. فالعالم من حولنا يعيش صراعات رهيبة.. سواء أكانت صراعات فكرية أو صراعات أيديولوجية.. أو صراعات استراتيجية أو صراعات في المذاهب..
هذه الصراعات موجودة في العالم اليوم.. وكل أمة في العالم تحاول أن تتسع أو أن توسع مناطق نفوذها في مقدرات الدول الفكري أو النفوذ العسكري أو النفوذ في الأرض أو النفوذ في مقدرات الدول أو النفوذ في الأسواق، والمسلمون منكمشون لا يستطيعون النفوذ أو متابعة العالم باهتمام، أو أن يشاركوا في الحياة النشيطة التي تدور في الخارج.
مطلوب من المسلمين وهم يحتفلون باستقبال القرن الخامس عشر الهجري أن يتصوروا هذا كله ويتدبروه.. وكل المسلمين ينبغي أن يدرسوا كيف يوصلون كلمة الله إلى الناس جميعاً، لأن حل مشاكل الناس في أيدي المسلمين والعالم يبحث عن أسلوب لحل مشاكله.
المجتمع الرأسمالي يبحث عن أسلوب.. والمجتمع الشيوعي يبحث عن أسلوب.. والمجتمعات التي تسمي نفسها الاشتراكية تبحث عن أسلوب.. وتختلف على نفسها، وكلها اجتهادات بشرية تخطئ أكثر مما تصيب.
القرآن.. والإنسان:
ليس هناك أمة تحمل كلمة الله بصدق إلا الأمة الإسلامية، فليس هناك كتاب يمثل كلمة الله إلا القرآن الكريم، لأن الكتب كلها ضاعت.. التوراة ضاعت، والإنجيل والزبور كلها ضاعت، ولم يبق كتاب سوى القرآن الكريم هو الذي يمثل كلمة الله حتى وإن كانت هذه الكتب باقية فإنها بنزول القرآن انتهت رسالتها وانتهت أهدافها.. والقرآن الكريم أصبح مهيمناً على هذه الكتب.. وأصبح مسؤولاً عن كلمة الله الصحيحة.. القرآن حل مشاكل الإنسان.. وعلى المسلمين أن يبلغوا هذا الحل للناس جميعاً، إن لم يقم المسلمون بتبليغ كلمة الله يكونوا قد قصروا في حق البشرية كلها ويكونوا قد قصروا في حق أنفسهم أيضاً.
وألاحظ على المسلمين ملاحظة عجيبة، أنهم في وسط هذا المعترك القائم بين الثقافات، وبني الحضارات لا نجد المسلمين يدخلون المعترك بما معهم من ثقافة، وما معهم من حضارة.. ينزوون ويخجلون ويتقوقعون بل يتشبهون بالآخرين.. فنجد في بلاد المسلمين من يعتنق الشيوعية، ونجد من يعتنق الوجودية، ونجد من يمارس التبشير.. هل هناك جدب في الثقافة الإسلامية حتى أخذوا يتسولون من هنا وهناك ويستوردون.. لو أن ثقافة القرآن قليلة أو ضحلة لقلنا أن المسلمين يستوردون ثقافات أخرى لملء الفراغ الذي يعانون منه.. لكن ثقافة القرآن لا نظير لها، وليس هناك في الدنيا على الإطلاق لا في الماضي، ولن يكون في المستقبل أبداً كتاب قامت عليه ثقافة كما قامت ثقافة على القرآن الكريم.. علوم انبثقت من القرآن الكريم.. ملايين الملايين من الكتب خرجت من القرآن الكريم، وهو كتاب يدعو أتباعه إلى الانفتاح العقلي، والانفتاح الفكري.. فهو ليس كتاباً مغلقاً، وليس كتاباً يطلب من أتباعه أن يكونوا مغلقي الذهن.. إنه كتاب ينهى عن الجمود، ينهى عن التقليد.. يدعو إلى العقل والحضارة والتدبر.. كل ذلك موجود فيه.. مطلوب من المسلمين وهم الشاهدون لنهاية القرن الرابع عشر، أن يخرجوا القرآن للناس.. أنا أعلم أن القرآن يطبع عشرات المئات وآلاف الطبعات في كل بلاد المسلمين، وأعلم أن هناك تسجيلات كثيرة للقرآن الكريم.. وأعلم أن هناك محطات لإذاعة القرآن الكريم.. وهناك مجلات دينية تنشر القرآن الكريم.. لكن ليس هذا هو المطلوب فقط، إنما المطلوب هو كيف نغزو المؤتمرات العالمية بالقرآن الكريم.. كيف نغزو بلاد العالم مبشرين بالقرآن الكريم.
القرآن يخاطب القلوب العقول:
وأقولها صريحة بأن بلاد العالم ممهدة جداً لاستقبال القرآن.. هي تبحث عنه.. نحن نعلم أن في أمريكا مسلمين كثيرين، ويسلم الكثير فلو وضعنا مقارنة بسيطة بين ما يبذله التبشير لدخول بلاد المسلمين.. فالتبشير يدخل بالمال والوعظ من أجل أن يجعل مسلماً واحداً يترك دينه فلا يستطيع.. العكس هو الذي يحدث... أمريكا هي التي يدخلها الإسلام هل معنى هذا أن عندنا أموالاً نصرفها على الأمريكيين لكي يسلموا...ومن الذي يستطيع أن يشتري أمريكا وهي تملك كل شيء؟ يدخلون الإسلام بدون تبشير منا وبدون ضغوط، وبدون إغراء، هم يبحثون لأن المدنية الأوروبية تعيش الآن مرحلة تفسخ، تعيش مرحلة النهاية، وهذا كلام علمائهم.. فأكبر فيلسوف غربي، وأكبر مؤرخ غربي ألف كتابه أفول الغرب... الذي ترجم ترجمتين إحداهما بعنوان "أفول الغرب" والأخرى بعنوان "انهيار الحضارة الأوروبية" إذ هذا رأيه، كذلك نجد أن الكتاب من قديم يبشرون بالإسلام "جورج برناردشو" يقول في كتابه "نداء العمل" فإذا كانت لنبوءات كبار الرجال أثر فإني أتنبأ بأن دين محمد قد أصبح مقبولاً لدى أوروبا اليوم، وسيكون مقبولاً لديها أكثر غداً، وسيكون دين الإنسان جميعاً قبل الصيحة الأخيرة. إذ أوروبا مهيأة تبحث عن كتاب عالمي، ودين عالمي.
الآن ومنذ عشرات السنين يبحثون عن دين عالمي، وقد أوجدوا أو ألفوا أو اختاروا ديناً جديداً سموه الديانة الطبيعية.. كذلك يريدون أن يضعوا لساناً عالمياً، فوضعوا ما سموه "الأسبانتو"... فلو نظرنا إلى الديانة الطبيعية التي قالوا بها نجدها قريبة الشبه بالإسلام.. لكنها ليس فيها الدقة ولا الحكمة الموجودة في الإسلام.. فهم يريدون ديانة تتفق مع الطبيعة وما يقولونه عن الطبيعة هو ما قيل عن الإسلام "دين الفطرة" الدين الذي يتفق مع عقل الإنسان وإحساسه، كذلك هم يطالبون بلسان الاسبرانتو أو اللسان العالمي.. والإسلام أيضاً معه اللسان العالمي.. فاللغة العربية – نحن بانزوائنا جعلناها اللغة السادسة بين لغات العالم... هذه كارثة – مع أن اللغة العربية لا أقولها بأنها الأولى فقط... ولكن لا ينبغي أن توضع من اللغات في مقارنة فهي أعلى.. ولا نقول هذا الكلام جزافاً، ولكن نقوله من الواقع الحي.. فإذا جئنا بأكبر قاموس لغة من اللغات ولتكن اللغة الإنجليزية لأنها أوسع اللغات.. ثم حذفنا مفردات الحضارة منه ثم أبقينا الجزء الباقي بعيداً عن ألفاظ الحضارة المستحدثة مثل "راديو.. تلفزيون" وأتينا بلسان العرب بأجزائه العشرين فإننا نجد ما يتبقى من اللغة الإنجليزية لا يعادل نصف مجلد من مجلدات لسان العرب.. إذاً فهي لغة واسعة لها أدبها، ولغة لها كيانها.. ولها مفرداتها الثرية الغنية واشتقاقاتها.
القرآن.. والتطور:
فالمسلمون عندهم الكثير من العلم والكثير من الحضارة.. ولكن كل هذا ضاع.. في الوقت الذي نجد فيه المكتبة الإسلامية مليئة نجد المسلمين يتسولون فتات موائد الآخرين.
كل هذه الأمور لابد أن توضع على الموائد أمام الذين يجتمعون ليدرسوا مرور أربعة عشر قرناً من الزمان على نزول القرآن الكريم.
القرآن هو المعجزة الخالدة.. والأمة الإسلامية تسير في اتجاهات باسم التطور الحديث.. فهل عجز القرآن عن مسايرة الأحداث والقوانين المعاصرة في الوضع الاجتماعي والسياسي والمالي؟
للقرآن الكريم موقفه من التطور، وللتطور موقفه من القرآن.. فالقرآن يرحب بالتطور.. ولكن أن يخضع له.. فلا.. لأن ما نسميه تطوراً قد يكون في بعض الأحيان تهوراً، وليس بتطور.. وما نسميه مدنية قد يكون همجية.. وما نسميه بالتحرر قد يكون تحللاً.. من الذي يحدد الفرق بين ما هو تطور وما هو تهور؟ وما هي تجديد، وهو في الحقيقة تبديد.. وما هو تحرر وما هو تحلل؟ هل الحرية هي أن تفسق.. أن تشرب الخمر؟ أن تجعل من المرأة قطعة ديكور؟ أن تشارك المرأة في تجميل شوارع المدينة؟ إن هذا ليس تحرراً وإنما هو تحلل.. من الذي يسمي الأشياء بأسمائها؟ إنه القرآن الكريم.. فإذا أخضعنا القرآن للتطور فمعناه أن يفرض التطور تهوره على القرآن.. فيقول له: إن خروج المرأة نصف بغي ونصف عارية هذا تحرر.. لو أخضعنا القرآن لهذا فمعناه عكس للأوضاع.. فالقرآن هو المسيطر على الفكر والمسيطر على سلوك الإنسان.. أما أن يكون الإنسان هو المسيطر على كلام الله فقد انعكس الموضوع وعاد القرآن لا شيء.. ويعود الإنسان مرة ثانية ليفكر لنفسه.. والله تعالى قد وفر على الإنسان جهوداً مضنية، ما كان ليستطيع أن يصل إلى القرآن، فالله وفر عليه ليحميه من المتاعب الفكرية.. فالبشرية مثلاً في مجال الشيوعية.. ماركس وضع نظرية.. لا أقل إنه أول من وضعها وإنما هو واحد في حلقة طويلة من الذين وضعوا الشيوعية.. وأن تاريخ الشيوعية أقدم من ماركس بمئات السنين.. فلنقل أن ماركس وضع نظرية.. هل ماركس نفسه مقتنع بالنظرية.. إن النظرية نفسها تحمل عوامل سقوطها.. لأن ماركس الذي يقول بالتطور وبالصراع المستمر سألوه.. وماذا بعد الشيوعية؟ أجاب مزيد من الشيوعية.. معنى هذه الإجابة أنه هو شخصياً غير مقتنع بأن نظريته صالحة للتطور، وإلا لكان المبدأ الذي بنى عليه النظرية وهو الصراع يستمر.. ويكنه يرى أن هذا المبدأ ينتهي.
نجد أن الشيوعية تحمل تناقضات، تقول إنه إذا ظهر طغيان رأس المال قامت حركة البلوريتاريا، وحدث الصراع بين طغيان رأس المال وبينهم.. مع أننا نجد مجتمعات طافحة بالمال، ومع ذلك لم يحدث فيها صدام.. كالمجتمع الأمريكي مثلاً، ثم قامت الاشتراكيات بعضها يعدل البعض.. هذه اشتراكية "فابية" وهذه اشتراكية إصلاحية.. كل هذه النظريات تتصارع.. القرآن الكريم وفر على الإنسان كل هذه المتاعب ووضع حلوله لكل المشكلات.
نعود إلى الجزء الخاص بالتشريع والسياسة والاقتصاد.. نقول إن القرآن الكريم حكم العالم في فترة طويلة وأنه قدر أن يضع للعالم تشريعات منصفة عادلة لم ير العالم مثلها، وأنه ونضع نظماً سياسية وإدارية لم يشهد لها العالم مثيلاً.. كل ذلك معروف لمن يدرس الحضارة الإسلامية.. والقرآن ليس معجزاً في لفظه فقط وإنما هو معجز في تشريعه أيضاً وفي سياسته وفي أسلوبه التنظيمي وأسلوبه الاقتصادي.. فهو معجز في كافة النواحي التي عرضها وتطرق إليها.. فالله عندما أنزل القرآن للإنسان لم ينزله من أجل أن يرضى عقل الإنسان، أو يرضي مشاعره وإحساساته فقط.. أو يرضيه في أسرته أو مجتمعاته فقط.. فهو ليس ديناً فردياً كالوجودية.. وليس ديناً يلغي الفرد كالشيوعية.. إنما راعى الإنسان في نفسه ومشاعره ووجدانه، وراعاه في أسرته ومجتمعه.. وضع نظاماً يكفي لهذا كله.. إننا لو درسنا الخط الحضاري في منطقة الشرق.. ودرسنا الخط الحضاري في منطقة الغرب لوجدنا أن الكل في المنطقتين ترك الأديان ثم أخذ يتصرف عشوائياً.
تركنا القرآن.. فضعنا :
لكننا لو نظرنا إلى الماضي.. حينما كان الشرق متمسكاً بدينه والغرب متمسكاً بدينه، فإننا نجد أن منطقة الشرق الإسلامي حينما كانت متمسكة بدينها كانت هي صاحبة السيادة والتفوق الحضاري والعمراني الذي لا نظير له.. مما جعل ملك إنجلترا "جورج" يرسل خطاباً إلى هشام ملك الأندلس يقول له: "إنني أرسل بعثة من رجال البلاط والأشراف وبينهم ابنة أخي الأميرة "دوبانت" ليتعلموا العلم في مدارسكم ويعودوا إلينا فينشروا النور في بلادنا التي عمها الظلام من كل الجوانب".
ونرجع إلى منطقة الغرب لما كانت متمسكة بدينها كانت متخلفة جداً، وتاريخ أوروبا في القرون الوسطى يندى له الجبين.. محاكم تفتيش.. قتل للمفكرين.. إذاً فالمعادلة متعاكسة.. فلما ارتد الاثنان عن دينهم حدث العكس.. فالمسلمون تخلفوا.. وأوروبا تقدمت معنى هذا أن الدين الإسلامي يعطي حضارة.. والتمسك بغيره والردة عنه يعطي التخلف.. والردة عن غير الإسلام تعطي التقدم.
خاض القرآن الكريم معارك بعضها جدلي وبعضها حربي.. وخرج من هذه المعارك كلها منتصراً مع احتفاظه بنصه وروحه.. فلم تمسه يد التحريف.. فهل تشرح للقارئ جانباً من صمود القرآن ؟
هذه المعجزة أيضاً من معجزات القرآن الكريم، فالمعارك التي دارت حول القرآن الكريم لم تدر حول كتاب على الإطلاق.. في الوقت الذي تنزل فيه كل آية من آياته كان الصراع دائراً ومستمراً.. معارك كلامية وجدلية، ووفود تأتي للنقاش، وأفراد يناقشون النبي، ويناقشون المسلمين.. في الوقت نفسه كانت دور معارك حربية أيضاً مع الأعداء التقليديين.. الصليبية العالمية والصهيونية العالمية والشيوعية العالمية أو الوثنية العالمية بأي صورة من صورها.. تدور مناقشة في شتى المجالات ففي سورة آل عمران مثلاً.. عندما جاء وفد نصارى نجران إلى النبي ﷺ ليناقشه في حقيقة المسيح وحقيقة القرآن الكريم.. واستمر النقاش إلى ذروته.. ونزل قول الله تعالى: { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } [آل عمران: 61].
والمباهلة هي أن يقف الفريقان ثم يبتهلان إلى الله أن يلعن الكاذب منهما إلى آخر ما جرى.. فامتنع النصارى عن المباهلة.. وقالوا: لو كان نبياً فباهلناه لن نفلح ولن يفلح أولادنا من بعدها.. والرسول ﷺ قال: ”والله لو باهلوني لأحجج الله عليهم الوادي ناراً“.
ونفس المواجهة حصلت مع اليهود.. والله سبحانه وتعالى يواجه اليهود بادعائهم المعروف وهو أن لهم الدار الآخرة، وأن الناس لن يدخلوا الجنة.. فالله يقول: { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ } [البقرة: 94].. والرسول ﷺ قال: والله لو تمنوا الموت لماتوا جميعاً، ولكنهم حريصون على الحياة كما قال الله تعالى في بقية الآيات: { وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ، وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ } [البقرة: 95، 96].
القرآن فوق الصراعات :
هذا بالنسبة للجدل الكلامي، أما بالنسبة للمعارك العسكرية فلقد خاض الرسول ﷺ معاركاً كثيرة تحدث القرآن عنها.
فمثلاً سورة الأنفال تعرض غزوة بدر، سورة آل عمران تعرض غزوة أحد، سورة الأحزاب تعرض غزوة الأحزاب "الخندق"، وغزوة بني قريظة.. نجد أن كثيراً من الغزوات مذكورة في القرآن الكريم وهناك الكثير من السرايا.
القرآن الكريم يخوض هذه المعارك سواء أكانت معارك كلامية أو عسكرية وسواء سجلها القرآن أم لم يسجلها.. المهم أنه كان يمر في خضم هائل من المناقشات والمعارك.. ومع ذلك فإن القرآن الكريم ظل منتصراً ولم ينهزم أبداً.. كذلك الجنود الذين يدخلون المعارك في ظلال القرآن ينتصرون، أما إذا ابتعدوا خطوة واحدة فإنهم ينهزمون.
القرآن انتصر في معاركه كلها، وأعظم انتصار حققه القرآن الانتصار في النص، فالنص الذي كان يتلوه الرسول ﷺ هو النص الذي كان يتلوه الصحابة، هو النص الذي نقرأه، لا المعارك أثرت فيه يحذف حرف واحد ولا بزيادة حرف واحد.. وإنما ظل هكذا.. وأيضاً المعارك الداخلية فلقد كان بين المسلمين أنفسهم معارك.. وقامت فرق إسلامية ومذاهب بعضها سياسي وبعضها ديني وبعضها لأغراض شخصية، هذه المذاهب كانت تستبيح لأنفسها أحياناً أن تكذب على رسول الله ﷺ لكن لم يستطع واحد من المتصارعين في هذه الفرق أن يضع آية في القرآن الكريم أو أن يحذف أو يضيف حرفاً.. وهذا علامة على حفظ الله للقرآن كما قال تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9]، { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [القيامة: 16، 19]. فالله سبحانه وتعالى وعد بالنسبة للقرآن بعدة وعود.. وهي جمع القرآن لأنه كان ينزل منجماً.. وقرآنه وهو أسلوب قراءة القرآن.. كذلك بيان القرآن.. ومن قبل ومن بعد حفظ القرآن من التحريف.
ترجموا معاني القرآن:
هناك شبهات يثيرها أعداء الإسلام حول القرآن فما هي هذه الشبهات؟ وكيف ندافع عنها؟
الشبهات أو النحل الفاسدة التي يثيرها أعداء الإسلام، شبهات مضحكة.. فهم مثلاً يشيعون أو يقولون بأن القرآن انتشر بالسيف ويقولون أن القرآن أباح تعدد الزوجات، وأن القرآن أباح الطلاق، وأن الرسول ﷺ عدد زوجاته.. وأن القرآن أباح الرق.. إن هذه القضايا التي أثيرت وتثار هي قضايا لا أساس لها.. وهي معقولة ومفهومة حتى لدى الذين يثيرونها.. فالذين يتكلمون عن تعدد الزوجات هم يعددون الخليلات ويعددون الزوجات ويقولون إن أنبياءهم عددوا الزوجات بمائة وأكثر من مائة.. فعندهم داود تزوج مائة، وسيلمان تزوج مئات.. والذي أريد أن أقوله شيء هام.. هو هل على الدعاة المسلمين أن يفترضوا أن القرآن موضوع في قفص الاتهام وأنهم هم المدافعون عنه؟ لا أبداً.. إن القرآن قادر على الدفاع عن نفسه في كل القضايا التي تثار حوله.
القرآن يدافع عن نفسه، ومهمة الدعاة هي إن يقرأوه على الناس، أن تترجموا معانيه إلى لغات العالم.. وأن يغزوا به العالم، وإن كان هناك ضيق يد في الدول الإسلامية فإن شبابنا المسلم الذي يسافر إلى الخارج يجب أن يحمل معه القرآن وتعاليمه.. وينفذ شعائر الإسلام.. إن مجرد سماع الناس للقرآن فإنه سيؤثر فيهم وسيهز مشاعرهم.. فلقد كان المشركون يوصون أصحابهم فقط بعدم سماع القرآن.
كلمة التوحيد .. وتوحيد الكلمة :
ما هي العقبات التي تقوم في طريق المسيرة الإسلامية.. وكيف يمكننا التغلب عليها؟
هناك عقبات كثيرة.. بعضها خارجية وبعضها داخلية.. والعقبات الداخلية أهم من الخارجية لأن العقبات الخارجية مهما قويت لن تكون أقوى منها في أيام نزول القرآن.. لأن القرآن نزل على رجل يعاديه حتى أقرب أقربائه – عمه – كذلك فهو في بيئة محاطة، ومع ذلك استطاع أن يخرج من هذه العزلة في الأهل والحصار الاقتصادي ومع ذلك خرج منتصراً، ولقد أوتي الرسول ﷺ هذا الفتح.. وفي حياته حقق فتح الجزيرة العربية كلها، وبعد وفاته وفي خلال خمسين عاماً كانت الدنيا قد فتحت على المسلمين شرقاً وغرباً.. المسلمون كانوا يفهمون الإسلام حقاً.. لم يكونوا فرقاً وشيعاً وأحزاباً.. ولم يكونوا مما يعادي بعضها بعضاً، وإنما كانوا أمة واحدة.. ولكن المسلمين أصبحوا اليوم فرقاً وشيعاً.. وينبغي أن نتذكر أن الرسول ﷺ عندما دخل المدينة كان أول شيء فعله بناء المسجد للوحدة ثم قيام الإخوة للوحدة.. فلو تمسك المسلمون بمبدأين هما توحيد الكلمة وكلمة التوحيد لتغير حالهم عما هم عليه.. وأصبحوا بحق خير أمة أخرجت للناس.. وهناك أمر هام هو أن يعود المسلمون بأفكارهم إلى القرآن الكريم وألا يبتعدوا عنه.. فالذي حدث هو أن المسلمين أخذوا يتسولون أفكاراً ونظماً.. فعيب علينا وبيننا القرآن أن نأتي بأفكار مستوردة من عند الوثنيين وعباد البقر والشيوعية الحمراء وغيرها من القوانين الموضوعة.
مطلوب دعاة على مستوى الدعوة :
تصل إلى الآذان كثير من الدعوات نحو تطوير سبل الدعوة والإرشاد.. فما رأيك في أفضل السبل ؟
الإسلام دين عرف كيف يستغل أساليب الإعلام.. وليس هناك على الإطلاق مبدأ أو دين صنع ما صنعه الإسلام.. في وقت لم يكن الإعلام معروفاً ولا العلاقات العامة معروفة، ومع ذلك وجدنا أ، الإسلام دين إعلامي من طراز لا يعرفه البشر.. ويكفي في الصلوات الخمس إذ يقف المؤذن فيبلغ مبادئ الإسلام في جمل مختصرة.. والمسجد مكان للتجمع خمس مرات في اليوم مع إمام واحد وصف واحد.. وخطبة الجمعة وصلاة العيدين.. يخرج الناس إليها صغيرهم وكبيرهم.. نساؤهم ورجالهم.. هذه كلها أساليب إعلامية قوية بدأ بها الإسلام.. فالداعية المسلم علمه الله كيف يستغل الأساليب الإعلامية المتاحة.. واليوم هناك أساليب إعلامية حديثة.. كالجريدة.. والإذاعة والتليفزيون.. يمكن تسخيرها للدعوة إلى الإسلام.. والرحلات والمؤتمرات، والسفر والهجرة، ولقاءات الشباب.. كل هذه الأساليب ينبغي أن تستغل.. يؤسفني جداً أن أقول أن الإعلام الإسلامي متخلف.. فمثلاً حينما تقرأ المقال الإسلامي تجده قد أخرج إخراجاً رديئاً.. وكذلك إخراج الكتاب الإسلامي بطريقة يسأمها الكثير فلماذا لا نستغل أرقى أساليب الطباعة.. وأرقى أساليب العرض.
وعلينا أن ندرك أن الدعوة إلى الإسلام ليست خطباً فقط.. فالخطب والمحاضرات قد تكون أحياناً مملة.. ثم إنها لمن؟ يذهب الخطيب إلى المسجد ليدعو الناس إلى الصلاة.. والذين يذهبون إلى المسجد إنما جاءوا ليصلوا ولكن المشكلة هي أن توجه الدعوة للذين يذهبون إلى المنتزهات والمقاهي والسينمات والملاهي بأن يتوجهوا للصلاة.. ولكن كيف أوصل ندائي إلى هؤلاء الناس.. يجب أن أستغل كل الطاقات من أول الجريدة وحتى الملصقات على الحوائط.. وهذه الملصقات تدعو إلى العبادة.. ولابد أن تصمم بأسلوب مثير.. والداعية حين يوجه نداءه يجب أن يعرف أنه لا ينادي المثقفين فقط.. وإنما الأميين وأنصاف المتعلمين أيضاً.. والخطيب عندما يقف في المسجد عليه أن يدرك أن أمامه مثقفين لابد أن يستفيدوا، وأميين لابد أن يستفيدوا.. وعليه أن يجمع بين الاثنين.
وعلى الداعية أن يختار الموضوع بحيث يكون قادراً على حل المشاكل اليومية للمتسمع.. كذلك المناقشة يجب أن تكون مفتوحة فربما كان المستمع يستمع إلى خطبة ولكنه غير موافق على هذا الكلام.. وليس من الضروري أن تكون على رؤوس الأشهاد فمن الممكن أن تكون مناقشات فردية.. ولتستمر المناقشة أسبوعاً.. شهراً.. تتبادل خلالها الكتب والمعلومات حتى يستطيع أن يقنعه لأنه ربما يكون فكره مشوشاً.
الذين يفترون على الله ورسوله :
أعرف رأيك في الصوفية والصوفيين، لكن ما هو تأثيرهم في الإسلام؟
الصوفيون لا تأثير لهم ولا وزن لهم في الإسلام، أو على الإسلام. لكن خطرهم الداهم.. هو على المسلمين.. أنهم يستغلون جهل البعض وبكل أسف.. وأقولها، وأنا حزين القلب والنفس.. أن أكثرية المسلمين هم الجهلة، مع أن العلم والتعليم جزء من الدين لا يتجزأ.. والرسول عليه الصلاة والسلام ما ترك فرصة إلا حض فيها على التعليم.. وقَبِلَ أن يكون فداء الأسير أن يعلم عشرة من أبناء المسلمين.. في أول غزوة.
ثم أعود فأقول: "هؤلاء الذين يدعون الإسلام، ويحسبهم الناس على المسلمين، ويدعون أنهم من المتصوفين، وتأخذهم العزة بالإثم.. فيفترون على الله. ويقولون: إن الإسلام هو التصوف، وأن التصوف هو الإسلام، وإذا كان الإسلام هو التصوف.. فلماذا سمانا الله بالمسلمين، ولم يقل رسول الله أبداً، ولا روى صحابته أنه قال تصوفوا.. ولم يقلها أحد من صحابته، ولا أحد من التابعين.. إن هي إلا بقايا من الأديان البائدة، والباقية.. بعضها مجوسي، وبعضها بوذي، وبعضها وثني، وبعضها مسيحي أو يهودي.. تسلل بها حاملوها إلى قلوب المسلمين ليضربوا العقيدة في قلبها، وفي أصلها.. في العمود الذي يقوم عليه التوحيد".
فأول خطوات الصوفية.. أن تسلم أمرك إلى غير الله.. أن تعطي كل قلبك للشيخ.. وهذه هي البداية.. فإذا نجحوا في ذلك أسلم المريد إلى بقية الخرافات.. حتى يشرك دون أن يدري.. وأي شرك بعد أن يقول الصوفي: أن كون الله في أيدي بعض الأقطاب.. وهم من البشر الموتى.. كالسيد البدوي، والدسوقي، وغرهما.. يفعلون به ما يريدون، والغريب أنهم يلفقون هذه السماء، ولا يقربون الأنبياء.. مع أن الأنبياء صفوة مختارة كرمهم الله بالاصطفاء.. لأن "الولي" الصوفي عندهم أكبر من أي نبي ويكفي أن تعرف أنهم يزهون بأنهم لا يعملون بما تركه لنا النبي ﷺ ويعملون بما يقول به شيوخهم.. لأنهم يعتقدون أنهم يأخذون علمهم من الله الحي، وإنما بقية المسلمين يأخذون العلم عن أموات..
ألم يخدموا الإسلام في فترات معينة ويدافعوا عنه:
هذه فرية من مفترياتهم، وتلفيقة من تلفيقاتهم.. التي نشروها في الأدب الشعبي.. من أن السيد البدوي جاء بالأسرى وكيف يجيء أو يحارب وهو يسير على خط "ابن عربي" الذي يقول: إن الله إذا سلط ظالماً على قوم فلا يجب أن يقاوموه لأنه عقاب لهم من الله.. ومن قال إن هؤلاء الذين يعيشون بصفة دائمة في شبه غيبوبة عقلية يصلحون للحرب أو التدبير أو القتال؟.. إنهم يعيشون على فلسفة البلادة، وتخلف الفهم، وبطء الحركة.. فكيف يصارعون أو يحاربون؟
إذا كان بعضهم يعتبر السعي على الرزق.. عدم ثقة في أن الله قادر على أن يرزقه، وينام في بيته أو ضريحه إلى أن يأتيه أتباعه بالطعام والشراب، فكيف يصدق أن هؤلاء كانوا رجال حرب وطعان؟
إن مثل هؤلاء المتصوفة كمثل الدبة التي قتلت صاحبها بالحجر لأن الذبابة وقفت على وجهه وهو نائم.. فلكي تطرد الذبابة قذفت وجه صاحبها بحجر كبير فهشمته وقضت عليه.. ومع ذلك فالدبة خير منهم لأنها فعلت ما فعلته بحسن نية، ولأنها حيوان لا عقل له.. أما هؤلاء فيلغون عقولهم وعقول أتباعهم بقصد الانتفاع من غفلة الناس.
لكنهم يدعون أنهم "انجذبوا" في حب الله ورسوله.. فما قولكم؟
الإسلام من شروطه أن يحب المسلم الله ورسوله.. ولكن أي حب؟ الحب الذي يجعل المسلم يخشى عصيان الله ورسوله، فينتهي عما نهاه الله عنه، ويحرص على هذا الحب فينفذ ما أمر الله به أن ينفذ.. أما أن يتنطع فيقول: أنه يعشق الله، ويعشق الرسول، وأنه عبد ذليل أمام أهل البيت، والعبودية لله وحده، ولا ذلة إلا له.. وكلمة "عشق" كلمة فاحشة.. لا يجب أن تكون بين العبد وربه.. ثم من قال: إن حب المسلم لرسول الله تجعله يفتري عليه.. إن أحدهم يقول إنه ذهب يزور قبر رسول الله.. وأمام القبر قال: ها أنذا جئت يا رسول الله لأسلم عليك فمد رسول الله يده من قبره وسلم عليه!!
هل هذا حب؟ وهل هذا أدب؟ هل هذا كلام يستقر في العقل أو القلب.. إنه جنون.. أو أحلام يقظة.. أو كذب، وكل ذلك لا دخل له بالإسلام.. دين السماحة، والبساطة، والاعتداء..
وفي النهاية لا يسع مجلة "العقيدة العمانية" إلا أن تشكر للدكتور استجابته وسعة صدره.
الجولة الثامنة عقبات على الطريق
الأزهر مطالب بإجراء تغيير جذري في أسلوب عمله!!
صناديق النذور.. وتجار الأضرحة.. والشريعة!!
التقريب بين المذاهب.. دعوة مشبوهة!!
هذا الحديث الطويل.. كان قد أدلى به الدكتور محمد جميل غازي لـ"جريدة التعاون" أيضاً، وقد تحدث فيه عن عشرات النواحي التي تتعلق بالإسلام، وتهم المسلمين، ولما كان يحتوي أيضاً على تفنيد، وفحص، وتمحيص لادعاءات الصوفية.. وكشف اللثام عن سر تغلغلها في الريف، وتتضمن إجاباته الرد على كثير من الأسئلة التي تطوف برؤوس المسلمين.. لذلك فإننا نورد منه هنا بعض ما يفيد القراء، وما يتفق والهدف من نشر هذا الكتاب.
وحول ما يسود الريف المصري من خرافات وأساطير يقول فضيلة الدكتور جميل غازي:
"الريف المصري يقع فريسة للمتسولين الدنيئين، الذين يبيعون القرآن على المقابر، وفي البيوت، نظير دراهم معدودة، أو أرغفة غير معدودات.. كما يقع الريف المصري أيضاً فريسة للسحرة والدجالين، الذين يتاجرون بالسحر والجان والأحجية والتمائم، ويخدعون البسطاء بخرافات وأكاذيب، ليست من الإسلام في شيء وليس الإسلام منها في شيء، وإنما هي أوهام أشاعها تجار الخرافة الذي يثرون على حسابها.. وما أكثر تجار الخرافة في قرانا، وما أسوأ استغلالهم لمشاكل الفلاح المصري وأزماته".
وقد كنا نظن أننا نعيش في عصر العلم والتكنولوجيا والأقمار الصناعية.. وكنا نظن أن هذا العصر قادر على مكافحة هذا السيل الجارف من التأخر والانحطاط.. ولكن يبدو أننا نعيش بمنأى عن العصر، وأسلوب العصر، أو يبدو أن العصر نفسه مصاب بالمرض النفسي المعروف (انفصام الشخصية!) ففي الوقت الذي نجد فيه الحضارة المادية تعم وتسود، نجد التخلف الروحي يشتد ويتزايد!! المادة تتقدم، والإنسان يتأخر، وتلك هي قمة المأساة!
مطلوب تطهير القرية المصرية من تجار الخرافة :
ويستطرد فضيلته قائلاً: وإذا كان تجار الخرافة في قرانا يتمسحون في الإسلام، ويتسللون إلى نفسية البسطاء خلف أقنعة التدين الكاذب، فإني أقول لكم: إن الإسلام بريء منهم، ومما يدعون فلا تظلموا الإسلام، ولا تحملوه هذه الأعباء التي تتناقض مع طبيعته لأنه دين الفطرة، والعقل، والعلم، والتقدم، والحضارة.
أما هذه الشعوذات والخرافات فاستمعوا معي إلى حكم الإسلام فيها.. يقول رسول الله ﷺ: ”من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ“.
معظم مساجد القرية خلت من الأئمة المؤهلين :
ويعلق الدكتور جميل غازي على هذه الظاهرة الوثنية التي تسود الريف المصري قائلاً:
"لا شك أن انتشار الوهم والخرافة في الريف جاء نتيجة طبيعية لغياب الوعي الديني بين سكانه، واختفاء الدعاة الأكفاء.. إن مساجد القرية خلت في معظمها من الأئمة المؤهلين، وأصبحت حكراً على الجهلة وأنصاف الأميين، وانتشرت فيها ظاهرة الخطب المنبرية المنقولة من الأوراق الصفراء البالية، والتي حولت كثيراً من خطباء القرى إلى ببغاوات يرددون خطباً محفوظة، منحدرة من عصور الجهل والتخلف، وموزعة على أسابيع السنة لكل أسبوع خطبة لا تتغير ولا تتبدل، وفيها ما فيها من خطأ وخلط وسجع مبتذل، وأحاديث مكذوبة، وأفكار ساذجة بلهاء، مما أشاع في أوساط أهل الريف، التواكل والأمية والسلبية.
ولا ترى القرية المصرية النور إلا حينما يزورها واعظ المركز.. وحتى واعظ المركز شعاره حينما يخطب أو يعظ: "ليس في الإمكان أبدع مما كان، ودعوا الناس وما يدينون!!".
الصوفية شوهت جلال الإسلام:
وهكذا خلت ساحة العمل الديني للمرتزقة والدجالين، الذين شغفوا بالخرافة، وشوهوا جلال الإسلام.. وعلى القمة أمسكت الصوفية بزمام الدعوة، وراحت توزع صكوك الغفران، وتتنافس على صناديق النذور، وتقاسم الفلاح المسكين رزقه، وزرعه حتى قبل أن ينضج.
قلت للدكتور جميل غازي.. نحن لا شك نتفق معكم في تشخيص الأزمة الفكرية والدينية التي تعانيها القرية.. ولكن كيف يمكن تحرير الريف المصري من الخرافة؟ وكيف يمكن الارتفاع بمستوى الوعي الديني للفلاح؟
يجيب فضيلته قائلاً: لا سبيل إلى مواجهة هذا التخلف الفكري والديني، إلا بإعداد نوعية جديدة من الدعاة الأكفاء المؤهلين الذين يتفهمون الدعوة كرسالة وجهاد في سبيل الله، لا كمهنة أو مجال للارتزاق.
إن كثيراًَ من الدعاة والوعاظ في هذا الجيل، وبعض أجيال أخرى سبقتهم المسؤولون عن هذه المحنة التي تتعرض لها الدعوة الإسلامية، وعن تلك الأمية الدينية السائدة لا في الريف فقط، ولكن في المدينة أيضاً، وإن اختلفت مظاهرها.
ثم يستطرد فضيلته قائلاً:
إن الدعوة إلى الله تمارس الآن كحرفة أو كوظيفة، كما يستهدف الكثير من الدعاة إرضاء الناس، لا إرضاء الله.. وكان هذا هو السبب المباشر في ترويج الخرافة، وإشاعة الأساطير، بحجة أنهم لا يريدون مهاجمة عقائد العامة.. وتلك هي الكارثة.. فإن الداعية معلم، والمعلم مهمته محو الأمية والجهل، لا مهادنة الأمية والجهل.. وكذلك الداعية عليه أن يحارب الخرافة مهما أخذت زخرفها وازينت، ومهما كانت شرسة ومتحكمة في عقول الجماهير.. تلك هي مهمته.. وهي مهمة شاقة في حاجة إلى رجال قادرين على المواجهة، لا على المداورة.. قادرين على المصارحة لا على هدهدة العواطف.. قادرين على الجهاد لا على المساومة.
وقبل أن يتم إعداد مثل هؤلاء الرجال، فلا مجال للحديث عن أي دعوة للإصلاح الديني أو الفكري، سواء أكان ذلك في الريف أو المدينة وستبقى الخرافة دائماً هي المهيمنة على رؤوس العامة تحدد حركتهم وتشكل سلوكهم.
الأزهر مطالب بإجراء تغيير جذري في أسلوب عمله:
كيف يمكن إعداد هذه النوعيات من الدعاة؟.. وهما هو دور الأزهر وما هي مدى مسؤولياته؟
آسف إذا قلت إن نظم التعليم بالأزهر لا تصلح لإعداد النوعيات المطلوبة من رواد الدعوة.. وآسف أيضاً إذا قلت أن هذه النظم هي المسؤولة عن ضعف مستوى الكثيرين من قيادات الدعوة الإسلامية.. لماذا؟ لأن المنهج والأسلوب الذي يمارسه الأزهر في إعداد الدعاة يبعد إلى حد كبير عن الفكر الإسلامي المستنير، ويتعارض مع بساطة الإسلام ووضوحه!
إنك لو فحصت المناهج والمقررات التي يدرسها طلبة المعاهد والكليات الأزهرية، فلسوف تجد عجباً!! مواد جافة معقدة، تتألف من متون وشروح وحواش وتقريرات وهوامش، كتبت بعبارات شبيهة بالألغاز والطلاسم والأحاجي التي تتنافى مع بلاغة وبساطة القرآن العظيم.. وفق ذلك فإن هناك اهتماماً مثيراً بدراسة الأساطير والخرافات التي يسمونها كرامات الأولياء، والتي ساهمت بنصيب وافر في إشاعة الوهم والاستسلام.
لذلك فإن الأزهر مطالب أولاً بإجراء تغيير جذري في أسلوب عمله، ومطالب أيضاً بإجراء مراجعة شاملة لبرامجه وعلومه وكتبه، بحيث تستبعد منها فوراً تلك الدراسات والمقررات التي تتعارض مع الأفكار الإسلامية، وتتصادم مع العقل والفطرة.
علم الكلام:
ويضرب الدكتور جميل غازي مثلاً بواحد من أهم العلوم، التي يدرسونها بالأزهر، وهو علم الكلام الذي يطلقون عليه علم التوحيد أو علم الإلهيات، والذي قامت على أساسه كليمة جامعية هي كلية أصول الدين، التي تدرس علم الكلام والفلسفة ثم التصوف أخيراً.
ويقول: إن هذا العلم الذي يعطونه مثل هذه الأهمية، قد نهى عن تعليمه وتعلمه جميع علماء السلف، وجمهور أئمة المسلمين.. ويقول فيه الإمام الشافعي رحمه الله: "حكمي في أصحاب الكلام، أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ بعلم الكلام".
ألغاز وطلاسم:
ثم يضيف فضيلته قائلاً: وإذا كان أولئك المفتونون بعلم الكلام، يقولون في الدفاع عن أهميته، أنه ضرورة لابد منها للرد على الشبهات، التي ظهرت في العصر الحديث فإني أقول لهم: إن هذه الشبهات التي يحدثون عنها ظهرت منذ أن نزل القرآن الكريم على الدهريين واليهود والنصارى المتأثرين بالفلسفة اليونانية، وتولى القرآن نفسه الرد على جميع هذه الشبهات، دون ما حاجة إلى اصطناع هذه المجادلات البيزنطية وفضلاً عن ذلك.. فإن هذه الشبهات التي يتطرق إليها علم الكلام قد أكل الدهر عليها وشرب، وليس لها أي أثر مما يجعل تدريس علم الكلام ضرباً من الخبل، وجناية على الدارسين.. فهو – للحق والأمانة – علم يخلو من العاطفة والروح، وهو أقرب إلى المعادلات الجبرية منه إلى التوحيد الذي ينبغي أن يكون مفعماً بالحب، والتأمل، والعبادة الروحية.
ثم يعقب فضيلته متسائلاً: أين مثل ألغاز وطلاسم علم الكلام السخيفة المعقدة، من قول الله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران: 190، 191].
حشو وغموض وسفسطة:
مثل آخر يضربه الدكتور جميل غازي، ويستشهد به على فساد بعض المقررات الأزهرية في التربية أو في بحث عقيدة التوحيد.
يقول: إن قمة الكتب التي تدرس العقائد في الأزهر هو كتاب العقائد النسفية.. وهوكتاب ملئ بألغاز وسفسطة لا تنتهي، ويلف ويدور حول عبارات غير مفهومة.. ولا صالحة على الإطلاق في أن تكون مفهومة.. كقولهم مثلاً: "وحقيقة الشيء ما به الشيء هو هو".
ويتساءل جميل غازي ساخراً: هل مثل هذه الدراسة المليئة بالحشو والغموض والتعقيدات يمكن أن تقود إلى المعرفة بالله؟
هل كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو سيد أولياء هذه الأمة بعد نبيها، هل كان يؤمن بالله على نحو ما جاء في العقائد النسفية؟
حاشا لله.. فإن عقيدة أبي بكر رضي الله عنه كانت عقيدة القرآن، وهي عقيدة فطرية حضارية واضحة.. أما هذه العقائد النسفية وما شاكلها، فاسمح لي أن أحملها مسؤولية سقوط هذه الأمة، وتدهور عقيدتها.
ثم يعقب فضيلته قائلاً: كان هذا نموذجاً مما يدرسه طلبة الأزهر، المرشحون لقيادة الدعوة الإسلامية.. حشو وغموض وسفسطة.. فدلوني بربكم هل تصلح هذه الدراسات في إعداد الرواد القادرين على إقناع المسلمين وغيرهم بحقيقة المنهج الإسلامي ووضوحه؟ ألا يعد نظام التعليم بالأزهر هو نفسه المسؤول عن هذه المحنة التي تضع الدعوة الإسلامية في طريق مسدود؟!
لا طائفية ولا كهنوت في الإسلام:
قلت: لاشك أننا نتفق معكم في أن الأزهر يتحمل قدراً من المسؤولية عن ضعف مستوى بعض الدعاة وعما أصاب الدعوة الإسلامية من ركود وجمود.. ولكننا نرى في نفس الوقت أنه من الظلم أن نحمل الأزهر وحده كل المسؤولية، إذ أن مسؤولية قيام الإسلام وانتشاره لا ينبغي أن تتحملها طائفة معينة أو جامعة بذاتها إنما هي مسؤولية المسلمين جميعاً بلا استثناء.
ويقاطعني الدكتور جميل غازي قائلاً: هذا صحيح تماماً.. فلا طائفية في الإسلام ولا كهنوت.. ولا ينبغي أن يكون التعليم الديني، وإعداد القيادات الإسلامية حكراً على الأزهر وحده.. بل ينبغي أن تشارك فيه جميع المؤسسات التعليمية في الدولة.
لذلك فإني أطالب بضرورة توحيد التعليم الديني والتعليم المدني في جميع المعاهد التعليمية والجامعات.
ثم يضيف قائلاً: إن الفصل بين التعليم الديني والتعليم المدني، كان ومازال هدفاً استعمارياً يستهدف عزل المسلمين عن دينهم.. فلقد أدرك المستعمرون أن قوة المسلمين إنما تقوم على تمسكهم بمبادئ عقائد الإسلام، وأنه لا سبيل إلى إضعاف المسلمين إلا بتجريدهم من دينهم.. لذلك فلقد كان حرصهم شديداً على تأكيد الفصل بين التعليم الديني والتعليم المدني.. وما أن تحقق لهم ذلك حتى بادروا إلى ضرب المنطقة الإسلامية بأخطر أسلحتهم، وهي الغزو الفكري، والعزل الفكري معاً.. وكان سبيلهم إلى ذلك نشر المدنية الزائفة، وتشجيع التدين الأعمى، والنحل الفاسدة.. مع إبعادنا في نفس الوقت عن التقدم العلمي الذي أحرزه الغرب في القرنين الأخيرين.
وكانت النتيجة.. إننا عزلنا عن الدين والدنيا معاً.. فلا الدين تفهمناه.. ولا التقدم العلمي أخذنا بأسبابه !!
سبق أن نادى الدكتور طه حسين بدعوة مماثلة عقب توحيد القضاء، فنادى بتوحيد التعليم الديني والمدني، فيما سماه بالخطوة الثانية فهل أنت معه في هذه الدعوة؟
مع فارق كبير وهام.. فلقد طالب طه حسين بتوحيد التعليم الديني والمدني بحيث يصبح التعليم كله مدنياً!! أما أنا فأطالب بتوحيد التعليم الديني والمدني بحيث يصبح التعليم كله دينياً.
هل يعني اقتراحك هذا إلغاء رسالة الأزهر الشريف؟
بالعكس، فهو يوسع قاعدة نشر هذه الرسالة.. إذ أن توحيد التعليم المدني والديني سيساعد على أن تشارك جميع المعاهد التعليمية والجامعات في نشر الثقافة الإسلامية، بحيث تسهم جميعها في إعداد أجيال تربت على العقيدة الإسلامية، وتفهمت السنة، ودرست القرآن والحديث حفظاً.. وتفسيراً.. ومعايشة.
الدعاة المتحمسون:ويواصل الدكتور جميل غازي عرض اقتراحه فيقول: حتى إذا تخرج الطالب من الجامعة كانت أمامه فرص للدراسات العليا في الدعوة الإسلامية، والإعلام الإسلامي، والشريعة الإسلامية، يلتحق بها من يرى في نفسه القدرة والرغبة في المشاركة في قيادة الدعوة.. وبذلك يمكن إعداد النوعيات المطلوبة من رواد الدعوة الإسلامية، الذين يتحمسون لها عن رغبة وميل شخصي.. لا عن احتراف أو التزام منذ الصغر، كما هو حادث الآن.
ثم يعقب فضيلته قائلاً: هذا هو سبيلنا إلى بناء الإنسان المسلم فكرياً وعقائدياً وعلمياً.. وهذا هو طريقنا لتجاوز أسلوب الاحتراف.. وهذا هو المدخل الصحيح لتخريج الأئمة الصادقين أو الدعاة المتحمسين.. أولئك الذين يتخذون من الدعوة جهاداً في سبيل الله، ويملكون قوة التأثير بالكلمة الصادقة.. والقدوة الطيبة.. ويحققون رسالة المسجد في حيوية وفاعلية.
سيطرة البيروقراطية:
قلت: تضاءل الآن دور المسجد، وانكمشت رسالته حتى كاد أن يصبح مجرد مكان لأداء الشعائر.. فما هي أسباب ذلك؟.. وكيف يمكن في تصوركم العودة بالمسجد إلى دوره الطبيعي كمركز إشعاع في خدمة البيئة دينياً وفكرياً واجتماعياً؟
يجيب فضيلته قائلاً: إن هناك أسباباً عديدة أسهمت في ركود وجمود المساجد وبصفة خاصة، تلك الخاضعة لوزارة الأوقاف من بينها – كما سبق أن أوضحنا – ضعف مستوى بعض الأئمة والخطباء وغياب القدوة الصالحة، وسيطرة البيروقراطية وطبقة الموظفين، حتى أصبحت المساجد الحكومية الآن أشبه بدواوين وزارة الأوقاف، تمارس فيها الشعائر الدينية كمجرد واجب روتيني جاف، خال من الروح والتأمل والعبادة!
أضف إلى ذلك ما تعرضت له المساجد خلال سنوات القهر السياسي من إهمال متعمد، وما لقيه بعض الأئمة من تنكيل وإرهاب، أدى إلى هجرة البعض واضطرار البعض الآخر إلى الاستسلام، ومداهنة الحكام.
وفوق ذلك.. فلقد كانت بعض القيادات الدينية مشغولة عن شؤون الدعوة والمساجد بأمر آخر تعتبره جاداً وخطيراً.. فلقد كانت ومازالت تعتبر أن المشكلة الأساسية للدعوة الإسلامية تنحصر في قلة الأضرحة والمقاصير لذلك فلقد انصرفت تماماً عن الاهتمام برسالة المسجد، إلى السعي الجاد في تشييد المزيد من القباب والمقاصير، وتشجيع إقامة حلقات الذكر بالمساجد.. والإنفاق بسخاء على إقامة الموالد والاحتفالات وكأنما هؤلاء القوم يعتبرون أن الإسلام لا يقوم إلا من خلال الشعوذة وصناديق النذور.
لها حريتها في النقد والتوجيه:
ويستطرد الدكتور جميل غازي قائلاً: وإذا كنا راغبين حقاً في أن نعيد للمسجد الإسلامي مجده.. فلابد أولاً من أن يتحرر الأئمة والخطباء من التوجيهات المكتبية، والقيود البيروقراطية، التي تحاصرهم وتحول بينهم وبين كلمة حق ينبغي أن تقال:
ثم يضيف متسائلاً: إن المسجد قوة إعلامية ضخمة ينبغي أن تستغل أحسن استغلال ولابد من اعتبار المسجد سلطة عليا.. لها كلمتها المسموعة.. ولها حريتها في النقد والتوجيه.
أوقفوا هذا المد الوثني الذي فتن بالأضرحة والقباب:
ويرى الدكتور جميل غازي رئيس جماعة التوحيد أنه لابد أيضاً – حفاظاً على قدسية المسجد وجلاله – من إيقاف هذا المد الوثني الذي فتن بالأضرحة والقباب والمقاصير، وحول كثيراً من المساجد إلى أماكن لعبادة الموتى!!
ويقول: إن معظم مساجدنا الكبيرة في القاهرة وعواصم المحافظات فضلاً عن الغالبية العظمى من مساجد الريف، قد تحولت من بيوت لله إلى مقابر للأولياء والصالحين، تمارس فيها كل مظاهر الشرك بالله من طواف ودعاء واستغاثة وتقبيل للأعتاب!! سبحان الله.. البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه قد تحولت لغير الله، وفقدت الصلاة فيها القدسية والجلال.
ما رأيكم فيما سبق أن أفتى به بعض كبار العلماء من أنه لا حرج في وجود قبور الأولياء والصالحين داخل المساجد ؟
اتخاذ قبور الأولياء مساجد.. بدعة وشرك بالله :
ويقاطعني الدكتور جميل غازي قائلاً بنبرة غاضبة: هذه فتوى مردودة على أصحابها، ولا تستند إلى حجة أو برهان من الكتاب والسنة، بل إن العكس هو الصحيح، فإن النهي عن ذلك صريح في القرآن الكريم: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [الجن: 18]، كما أن الأحاديث في هذا الموضوع كثيرة، نذكر منها قوله عليه الصلاة والسلام: ”أن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد“. كما يقول أيضاً عليه الصلاة والسلام: ”.. وأن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك“.
ويروي البخاري ومسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة وأم حبيبة ذكرتا كنيسة رأتاها في الحبشة وفيها تصاوير، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: ”أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور... أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة“.
ثم يعقب فضيلته قائلاً: هذا هو حكم الإسلام في هذا الموضوع.. وهو حكم صريح لا يحتمل التأويل، ولا لبس فيه ولا غموض.. إن اتخاذ قبور الأولياء والصالحين مساجد، شرك بالله، وبدعة لم يعهدها المسلمون في القرون الأولى، وإنما جاءت إلينا في القرن الرابع الهجري على عهد الفاطميين الذين أدخلوا على الإسلام كثيراً من البدع التي أضرت وأضلت المسلمين.
أما أولئك الذين يصدرون الفتاوى التي تتصادم مع الكتاب والسنة، فإني أحيلهم إلى قول الحق تبارك وتعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: 63].
الإدعاء بأن الرسول عليه الصلاة والسلام دفن في مسجده:
قلت: يستند أصحاب هذه الفتوى إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام مدفون في مسجده وأن الصلاة في مسجده عليه الصلاة والسلام تعادل ألف صلاة، كما أن المسجد النبوي الشريف يضم أيضاً قبري صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، مما يقوم دليلاً على إباحة اتخاذ قبور الصالحين مساجد، لأن الصاحبين ليسا بأنبياء ولا رسل، بل هما رجلان صالحان، يجوز لكل صالح ما يجوز لهما.
وتزداد النبرة الغاضبة في لهجة الدكتور جميل غازي وهو يجيب قائلاً:
إن الادعاء بأن النبي عليه الصلاة والسلام قد دفن في مسجده.. باطل وكاذب، وافتراء على الله وعلى رسوله، كما أن القياس الذي عرضه أصحاب هذه الفتوى، قياس فاسد، لأنه يتعارض مع النصوص الشرعية فضلاً عما يتضمنه قولهم من تزييف لحقائق التاريخ.
ويستطرد جميل غازي في حديثه مفنداً هذه المزاعم فيقول: إن الرسول عليه الصلاة والسلام حينما مات لم يدفن في مسجده، ولا أوصى بذلك، ولا فعل به أصحابه ذلك.. حاشا لله.. وهو القائل عليه الصلاة والسلام: ”اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد“.
إنما الذي حدث أن أصحابه دفنوه في حجرة السيدة عائشة التي كانت تجاور المسجد، وكان حرص أصحابه شديداً على أن يظل قبره عليه الصلاة والسلام خارج المسجد في كل توسعة تمت بمسجده الشريف حدث هذا في عهد عمر رضي الله عنه، فلقد حرص حينما وسع المسجد في عام 17ه على أن تكون توسعة المسجد من جميع الجهات إلا من الجهة الشرقية التي يقع فيها قبر الرسول وبيته، فلم يمسها حتى لا يدخل القبر داخل المسجد الشريف.. ونفس هذا الحرص تم أيضاً في عهد عثمان رضي الله عنه حينما وسع المسجد في عام 24ه.
فظل قبر الرسول ﷺ خارج المسجد، ومنفصلاً عنه حتى كان عهد الوليد بن عبد الملك الذي قرر في عام 88ه أن يوسع المسجد بحيث يدخل قبر الرسول داخله!!
وهذا الوليد بن عبد الملك لم يكن من الخلفاء الراشدين الذين يجب اتباعهم أو الاعتداد بفعلهم. ولم يكن قراره هذا صادراً عن باعث ديني أو إسلامي، أو مستنداً إلى نص شرعي وإنما كان عملاً سياسياً يستهدف هدم بيت الرسول عليه الصلاة والسلام، وتشتيت أهل البيت بحجة توسعة المسجد!!
ثم يصل الدكتور جميل غازي في حديثه عن الصعوبات التي تعترض الدعوة الإسلامية إلى قضية هامة من المؤكد أنها ستثير جدلاً واسع النطاق.
إنه يرى في تعدد المذاهب الإسلامية وتضاربها تعويقاً للمسيرة الإسلامية ويقول: إن الإسلام الجميل الواضح البسيط، قد تعرض للتشويه من جانب أصحاب الدعوات الذين أخضعوا القرآن والسنة لعقولهم وأهوائهم، وساعدوا على انقسام الأمة الإسلامية الواحدة إلى فرق ومذاهب، تقوم على التعصب والتقليد الأعمى على الرغم من أن الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم نهوا نهياً شديداً عن تقليد أو اتباع آرائهم بدون معرفة أدلتهم ومطابقتها على الكتاب والسنة.
ثم يضيف قائلاً: إن دعاة المذهبية يستندون في دعواهم إلى حديث موضوع يقول: (إن اختلاف أمتي رحمة!!) فهل حقاً قال الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك؟.. حاشا لله.. إنه حديث باطل بشهادة جمهور المحدثين.. ولا أدري كيف يكون الاختلاف رحمة، وقد ذمه الله تعالى في آيات كثيرة من القرآن الكريم!
كما أن كهنة المذهبية يقولون أيضاً: "أن الاختلاف بين المسلمين حادث في الفروع دون الأصول، ولا ضرر في ذلك".. وهذا غير صحيح.. فإن كثيراً من أتباع المذاهب مختلفون في كثير من الأصول أيضاً.. فلقد بقي الأحناف على سبيل المثال لا يتزوجون من الشافعية عشرات السنين، لاختلافهم في مسألة أصولية.. هي (الاستثناء في الإيمان) ثم جاء أحد أصحاب الفتوى من الأحناف، ليصلح بينهم فأفتى بجواز زواج الحنفي من شافعية قياساً على الكتابية (أي المسيحية أو اليهودية).. ومعنى ذلك أن الحنفي يجوز له أن يتزوج من شافعية دون أن يصح العكس!
وفضلاً عن ذلك، فإنه حتى في الأمور الفرعية حدثت معارك وقتال بين أتباع المذاهب، مما كان سبباً في إضعاف المسلمين ووقوعهم تحت سيطرة أعدائهم.
المذهبية مهزلة وبدعة:
ويوجه الدكتور جميل غازي نقداً عنيفاً للمذهبية، فيقول:... إن المذهبية مهزلة فهي مليئة بالسخافات والمتناقضات التي لا يقبلها شرع، ولا يصدقها عقل.. كإباحة زواج الشخص من ابنته في الزنى، عند الشافعية.. وكإباحة شرب الخمر المصنوع من غير العنب ولو أسكر، عند الحنفية.. واعتبار الحرمة في السكر لا في الشرب!! وغير ذلك من أمور توقع الناس في الحيرة والشك.. إذ لا يمكن لأحد أن يتصور أن يكون شرع الله متناقضاً، وقد قال جل شأنه: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا } [النساء: 82].. فأين هذا المبدأ السامي الأعلى من المذهبية في تحليل وتحريم الحكم الواحد بين مذهب وآخر!!
ومن الغريب أن دعاة المذهبية في تعارضهم واختلافهم، يقولون جميعاً أنهم يلتمسون عن رسول الله ﷺ.. فدلوني بربكم هل أجاز الرسول عليه الصلاة والسلام الشيء وضده في آن واحد؟
المذهبية عقبة أمام الزحف الإسلامي:
ويستمر الدكتور جميل غازي في نقده للمذهبية: فيتهمها بأنها تقف عقبة أمام الزحف الإسلامي، وتعوق دخول غير المسلمين في الإسلام ويضرب لذلك مثلاً بما ذكره الشيخ محمد سلطان المعصومي عن النزاع الكبير، الذي حدث حينما أراد بعض اليابانيين الدخول في الدين الإسلامي وعرضوا ذلك على جمعية المسلمين في طوكيو، فقال جمع من أهل الهند: ينبغي أن يختاروا مذهب الإمام أبي حنيفة لأنه سراج الأمة.. وقال جمع من أهل إندونيسيا، بل عليهم أن يختاروا مذهب الإمام الشافعي لأنه عالم قريش.. فلما سمع اليابانيون كلامهم أخذتهم الدهشة والحيرة والشك، ووقفت المذهبية سداً في سبيل إسلامهم!!
ثم يتناول الدكتور جميل غازي في نقده للمذهبية، كتب المذاهب الربعة فيصفها بالجفاف والتعقيد والغموض، خلافاً لفقه السنة الذي ينبع أساساً من بلاغة القرآن والحديث الصحيح.
هل أفهم من ذلك أنك ترفض المذاهب الأربعة، رغم أننا توارثناها جيلاً عن جيل، واستقرت عليها عقائد المسلمين إلى حد أن الزواج مثلاً لا يتم عقده إلا على مذهب الإمام أبي حنيفة؟.. و.. ألا يخشى من أن يكون في نقدك للمذاهب شبهة المساس بالأئمة الأربعة الذين نكن لهم جميعاً كل تقدير وإجلال؟
المذهبية بدعة :
أرجو أن تفرقوا بين أمرين: أولهما: الأئمة الأربعة.. وثانيهما: المذاهب الأربعة.. فالأئمة شيء.. والمذهبية شيء آخر.
أما الأئمة فهم علماء أجلاء رضي الله عنهم جميعاً، ما دعوا إلى مذهبية ولا عصبية ولا دعا واحد منهم إلى اتباعه، بل نهوا عن ذلك أشد النهى، كما هو ثابت عند مراجعة تواريخهم وما أثر عنهم.
أما المذهبية: فهي بدعة نشأت بعد عصر الأئمة بفترة طويلة، ويكفيك أن تعلم أن الأئمة الأربعة كانوا متعاصرين ومتحابين، وكل منهم يحترم الآخر أشد الاحترام.. فمالك كان يجل أبا حنيفة، ويضعه في مكانه اللائق به كأستاذ ومعلم، وكذلك الشافعي مع أستاذه مالك، ومثلهما أحمد مع أستاذه الشافعي.. وما كان للعصبية المذهبية في نفوسهم أو في عصرهم أي وجود.. بل نشأت بعدهم ضمن غيرها من البدع، التي جاء بها أصحاب الدعوات وسدنة التعصب والتفريق.
ويستطرد الدكتور جميل غازي قائلاً: أما فيما يتعلق بنقد المذهبية وما قد يحمله ذلك من شبهة المساس بالأئمة الأربعة: فاسمح لي أن أسألك سؤالاً: أينا أكثر احتراماً للأئمة الربعة؟.. الذي يرفض التعصب لواحد منهم ضد الآخرين أم الذي يتمذهب بمذهب واحد ويرفض الآخرين؟
لا شك أن الذي يحترم الأئمة جميعاً، هو الذي يأخذ عنهم جميعاً، ويستفيد من علمهم جميعاً.. أما ذلك الذي يقول: أنا حنفي مثلاً فإنه بمفهوم المخالفة يقول: لست شافعياً ولا مالكياً ولا حنبلياً.. وعكس هذا يمكن أن يقال بالنسبة للشافعي أو غيره.
ثم يبتسم جميل غازي قائلاً: لقد أشرت في سؤالك إلى نقطة هامة، هي عقد الزواج، وما يقال فيه.. فأنت تتزوج امرأتك على مذهب أبي حنيفة الإمام الأعظم كما يقولون – مع ملاحظة أن الإمام الأعظم هو محمد عليه الصلاة والسلام – فاسمح لي أيضاً أن أسألك: أليس في هذا التعبير الذي يستخدمه الأحناف نيل من الأئمة الثلاثة الباقين؟ ثم سؤال آخر: إذا كان عقد الزواج لا يصح إلا على مذهب أبي حنيفة.. فقل لي بربك على مذهب من تم عقد الزواج بين والدي الإمام أبي حنيفة رحمهما الله؟!
لن تصلح هذه الأمة إلا إذا أقرت بتوحيد الألوهية.. وتوحيد الاتباع
ثم يعقب فضيلة الدكتور جميل غازي قائلاً:
إنني أعتقد وأومن أن هذه الأمة لا تصلح إلا إذا أقرت أولاً بتوحيد الألوهية.. فيكون الإله المعبود واحداً لا شريك له.. ثم أقرت ثانياً بتوحيد الاتباع.. فيكون الرسول ﷺ هو وحده المتبع، وهو وحده الإمام المعصوم.
وليس هناك مانع بعد ذلك من أن نستضيء بفهم أئمة المسلمين الأجلاء الأربعة وغيرهم ممن فهموا الشريعة، وأصلوا أصولها، وبوبوا أبوابها، وهم كثيرون والحمد لله.. وصدق الحق تبارك وتعالى إذ يقول: { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [النور: 51].
دعوة التقريب.. مشبوهة ومرفوضة:
قلت: يتصل بحديثنا عن تعدد المذاهب الإسلامية، ذلك الخلاف الحادث بين الشيعة وأهل السنة.. ولقد زار مصر مؤخراً فضيلة الشيخ تقي الدين القمي، الذي يطلقون عليه رائد التقريب بين المذاهب، وعقد أكثر من اجتماع مع بعض كبار العلماء لمحاولة التقريب بين المذاهب.. فإلى أي حد في رأيكم يمكن أن تنجح دعوته؟
ويجيب فضيلته قائلاً: هذه دعوة مشبوهة ومرفوضة، وليس لها من هدف في حقيقة الأمر، إلا التمكين لأفكار المذهب الشيعي من التسلل بين جمهور أهل السنة.
ثم يتساءل في نبرة غاضبة: أي تقريب هذا الذي يدعون إليه؟.. حاشا لدين الله أن يكون (توليفة) من هنا وهنا.. إنما هو دين واضح محدد ليس له إلا مصدران أساسيان.. الكتاب والسنة.. وما يخرج عنهما فهو مرفوض، ولا ينبغي أن يكون موضعاً لجدل أومناقشة.
إن معنى التقريب بين مذهبين أو اتجاهين هو أن يتنازل أصحاب كل مذهب أو اتجاه عن بعض معتقداتهم ليلتقوا بالاتجاه الآخر.. فهل من حق أحد من أهل السنة أن يتجاوز عن بعض ما أنزل الله إرضاء للشيعة ؟
إن الأولى بأصحاب دعوى التقريب المزعوم أن يراجعوا معتقداتهم على الكتاب والسنة، وأن يطرحوا أية معتقدات تتعارض مع هذا الأصل الأصيل لدين الإسلام.
حقيقة الخلاف بين الشيعة وأهل السنة:
ويستطرد جميل غازي قائلاً: ثم إن الخلاف بين أهل السنة والشيعة من الناحية النظرية والعملية، خلاف عميق الجذور.. غير قابل أساساً للتوفيق والتقريب.
ولقد كنت أظن مثل كثيرين غيري أن الخلاف بين أهل السنة والشيعة يكمن أساساً في قضية الخلافة، ومن أحق بها.. أبو بكر أم علي رضي الله عنهما.. وكنت أقول كما يقول غيري: إن هذه قضية ينبغي ألا تثار عملاً بقوله تعالى: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [البقرة: 134].. إلى أن أتيح لي أن أدخل في مناقشة طويلة مع بعض كبار علماء الشيعة، وأكدت المناقشة أن القضية ليست مجرد خلاف على الخلافة، يجب أن يحفظ في ذمة التاريخ.. وإنما اتضح لي أن القضية هي في الأصل والأساس.. قضية (الرواية الدينية)؟
وقضية (الرواية الدينية) كما فهمت منهم هي (رواية القرابة) و(رواية الصحابة).. فهم يرون أن أهل السنة يعتمدون أساساً على (رواية الصحابة) أما هم فيعتمدون أساساً على (رواية القرابة).
وعلى هذا الأساس تكون كل المراجع الدينية عند أهل السنة غير معتبرة ولا معتمدة عند الشيعة مثل كتب الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم وكتب رواة السنة كالبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبي داود وابن ماجه، وكذلك كتب التفسير إلى آخره.. وعلى هذا الأساس تصبح قضية المراجع أو الرواية الدينية حائلاً دون عملية التوفيق المزعومة.. بل إنها تقف حائلاً دون جدية الحوار وجدواه.. إذ كيف يمكن أن يقوم حوار منتج مفيد بين سني وشيعي مع أن المراجع بين الفريقين مختلفة أشد الاختلاف، وكل منهما يعتمد مرجعاً لا يقره الآخر؟
مصحف فاطمة :
ويستطرد الدكتور جميل غازي قائلاً: على أننا إذا تركنا ذلك الأصل الجوهري فإننا نجد قضايا أخرى تزيد من عمق الخلاف.. من بينها:
أولاً: رأى الشيعة في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم الذي يصل بهم إلى حد تفسيق هؤلاء الصحابة الأجلاء، إن لم أقل تفكيرهم، مع أنهم كما يعتقد أهل السنة والجماعة سادة أولياء هذه الأمة بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ثانياً: ما يزعمه الشيعة من أن عندهم مصحف فاطمة، والذي يقولون عنه أنه قدر مصحفنا مرتين، وليس فيه منه ولا حرف واحد؟ وحينما سألت أحد علماء الشيعة عن صحة ذلك. قال: نعم إنه تفسير السيدة فاطمة للقرآن!. سألته: هل كتبته السيدة فاطمة في حياة والدها عليه الصلاة والسلام أم بعد مماته؟ قال: بعد مماته.. مع العلم أن السيدة فاطمة لم تعش بعد وفاة أبيها إلا ستة أشهر فقط!!
ثالثاً: ادعاء الشيعة بأن الإمام معصوم عن الصغائر والكبائر، وأن الأئمة محصورون في اثني عشر إماماً من أهل البيت، آخرهم ذلك الإمام الطفل ذو الخمس سنوات الذي دخل السرداب في سامراء منذ أكثر من ألف عام، ولم يخرج منه حتى اليوم، والذي لا يزالون في انتظاره حتى الآن بحميرهم وبغالهم على باب السرداب!
رابعاً: أن الشيعة يسجدون في الصلاة على حجر معين، سألتهم عنه.. فأخرجه لي أحدهم من جيبه وهو حجر مستطيل صنع بأسلوب متقن.. فسألته عنه فقال: إنه مصنوع من تراب كربلاء.. لماذا؟ قال: لأن أرض كربلاء أقدس من الكعبة!
ثم يعقب فضيلة الدكتور جميل غازي قائلاً: هذه هي بعض أفكار المذهب الشيعي.. وهذه هي المراجع والأصول التي يستمدون منها معتقداتهم.. وهي أفكار ومراجع تحول – بالقطع – بين أية دعوة للتقريب بينهم وبين أهل السنة الذين يتخذون من كتاب الله وسنة رسوله منهجاً وحيداً في أمور الدين والدنيا.
المسيرة الإسلامية عقيدة .. وحياة .. وحضارة :
ثم يختتم فضيلته حديثه بنداء يوجهه إلى قيادات الدعوة الإسلامية بضرورة تفهم طبيعة المعوقات التي تقف في طريق الدعوة الإسلامية، والارتفاع إلى مستوى التحديات التي تواجه المسيرة الإسلامية من جانب كل القوى المعادية للإسلام.
ويقول: إن على الدعاة أن يدركوا جيداً طبيعة وحجم العوائق الضخمة التي تقف في وجه الإسلام، إذ أن الدعوة التي تفقد هذا القدر من الإدراك تسيء أكثر مما تحسن.
وعلى الدعاة أن يعلموا أنهم إنما ينحتون طريقهم في الصخر الأصم.. ولكن معاولهم قوية وقادرة.. وعليهم أن يعلموا جيداً أن قوة الفكرة الإسلامية كافية وحدها لدفع الحياة والتقدم والحضارة بأسلوب صحيح.. المطلوب فقط.. هو غرسها في القلوب وتعميقها في النفوس.. وتجسيدها في حياة المسلمين بحيث تصبح إسلاماً حياً يعمل في الحياة، ويدفع إلى الأمام، ويوجه المسيرة.
الجولة التاسعة التصوف من اختراع المستعمرين
مبدأ صوفي خطير.. حرب المستعمرين حرام !!
التيجانية.. في خدمة فرنسا في الجزائر !!
ماذا قال الدكتور عمر فروخ والدكتور زكي مبارك !!
لا شك أنه كان للأحاديث الصحفية التي نظمتها مجلة "التعاون" مع فضيلة الدكتور محمد جميل غازي أثرها الذي لا ينكر في إثارة حوار فكري هادف بين جماهير المسلمين بحيث يحق لنا أن نسميها "تفجيراً فكرياً" ولا يظهر أثر هذه الأحاديث من خلال مؤيديها فقط.. وإنما يظهر أيضاً من خلال المعارضين.. فالمعارضة لا تعدو أن تكون أثراً من آثار الحركات الفكرية النشيطة.
إن الصراع الفكري أمر ضروري وهام ينير الطريق أمام مسيرة الجماهير، إنه لا خطر ولا خطأ في إثارة أي حوار فكري.. إنما يكمن الخطر والخطأ في الانغلاق الفكري وإغلاق النوافذ الثقافية.
لهذا رأت "صحيفة المسيرة" أن تواصل الكلام مرة أخرى مع فضيلة الدكتور محمد جميل غازي لتبدأ معه حواراً فكرياً "جديداً" حول التصوف والصوفية.
ذهبنا إليه وفي رأسنا مجموعة من علامات الاستفهام.. فقد كان المؤيدون لفضيلة الدكتور غازي يؤكدون أن الصوفية هي السبب الأساسي فيما أصاب المسلمين من نكسات ونكبات وفوضى وتخلف.
وكان المعارضون يطرحون القضية من وجهة نظر مغايرة تماماً فهم يقولون: إن الصوفية هي التي أخذت على عاتقها محاربة أعداء الإسلام من الظلمة والمستعمرين بل هي التي حملت الدعوة الإسلامية عبر الآفاق البعيدة.. وأنه ما دخل الإسلام أدغال أفريقيا إلا على أيديهم وجهودهم.
الحرب حرام :
حملنا علامات الاستفهام والتعجب إليه.. إلى الرجل الذي فجر هذا الحوار.. ووضعنا بين يديه كل علامات الاستفهام والتعجب.. وكنا نظن أننا بهذه الأسئلة قد جئنا بجديد عليه وعلى معلوماته عن التصوف، ولكن سرعان ما أخذ يقدم إلينا من الكتب والوثائق مما نسوق نماذج منه في هذا الحوار.
سـألناه :
نعرف من تاريخ التصوف – وبخاصة الصوفية الأوائل – أنهم كانوا جنوداً أقوياء أدوا أدوارهم ببسالة في محاربة أعداء الملة، أو أعداء القبلة.
فكيف يحق لنا أن نصدر حكماً عاماً على سائر المتصوفة بأنهم كانوا 100 دخلاء على الفكر الإسلامي وعلى الحياة الإسلامية ؟!!
أجاب فضيلته وهو يضغط على مخارج الحروف بأسلوب حازم وحاسم ومؤكد: إنني أتهم الصوفية بضد ما ذكرته تماماً.. ومعي في هذا الاتهام كثير من الوثائق التاريخية التي أثبتها مؤرخو الفكر وراصدوا الحضارة.. الصوفية متهمون بصرف الناس عن الجهاد.. وهم متهمون أيضاً بإدخال تفسيرات غريبة وشاذة على آيات القرآن الكريم.
فمن ذلك ما روي عن "داود بن صالح" أنه قال.. قال لي: "أبو سلمة بن عبد الرحمن": يا ابن أخي هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ } [آل عمران: 200] قلت: لا، قال: يا ابن أخي لم يكن في زمن رسول الله ﷺ غزو يربط له الخيل ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة، فالرباط لجهاد النفس، والمقيم في الرباط مرابط مجاهد لنفسه [عوارف المعارف 2/55].
وقال بعض المتصوفة في قوله تعالى: { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } [الحج: 78] أن معناه مجاهدة النفس والهوى وذلك هو حق الجهاد، وهو الجهاد الأكبر على ما روي في الخبر أن رسول الله ﷺ قال: حين رجع من بعض غزواته: ”رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر“.
وفي الوقت الذي يخطئون فيه في تفسير القرآن الكريم يخطئون أيضاً في الاستشهاد بأحاديث رسول الله ﷺ فهذا الحديث الذي استدلوا به لا أصل له عند الثقات من رواة السنة.. يقول العالم المحدث شيخ الإسلام "ابن تيمية": أما الحديث الذي يرويه بعضهم أنه قال في غزوة تبوك رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر فلا أصل له ولم يروه أحد من أهل المعرفة بأقوال النبي ﷺ وأفعاله، بل الواضح جداً من القرآن والمتواتر من السنة أن جهاد الكفار من أعظم القربات إلى الله تعالى، وأن الصحابة والتابعين في العصور الزاهرة التي شهد لها الرسول الكريم بالخيرية كانوا يتهافتون على القتال في سبيل الله ليحصلوا على إحدى الحسنيين إما الموت فالجنة، وإما النصر فالعزة والرفعة.
قال الله تعالى: { لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء: 95].. وقال تعالى: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [التوبة: 19-22].
الصوفية غيبوبة عقلية:
ويقول الصوفية: إن بعض الصالحين كتب إلى أخ له يستدعيه إلى الغزو فكتب إليه: يا أخي كل الثغور مجتمعة لي في بيت واحد والباب مردود. فكتب إليه أخوه: لو كان الناس كلهم لزموا ما لزمت لاختلت أمور المسلمين وغلب الكفار، فلابد من الغزو والجهاد، فكتب إليه: يا أخي لو لزم الناس ما أنا عليه وقالوا في زواياهم وعلى سجاداتهم: الله أكبر، لانهدم سور القسطنطينية [من عوارف المعارف على هامش الإحياء].
ولقد عاصر أئمة الصوفية الكبار "كالغزالي" و"ابن الفارض" و"ابن عربي" كثيراً من معارك المسلمين فماذا فعلوا؟ وماذا قالوا؟ وماذا كتبوا؟
لم يحرك واحد منهم ساكناً.. يقول الأستاذ "عبد الرحمن الوكيل" في كتابه [هذه هي الصوفية ص170]:
هذا بيت المقدس سقط في يد الصليبيين عام 492 هجرية، والغزالي الزعيم الصوفي الكبير على قيد الحياة، فلم يحرك فيه هذا الحادث الجلل شعرة واحدة.. ولقد عاش "الغزالي" بعد ذلك 13 عاماً إذ أنه مات سنة 505 هجرية فما زرفت عيناه دمعة واحدة ولا استنهض همم المسلمين ليذودوا عن القبلة الأولى، بينما سواه من الشعراء يقول:
أحل الكفر بالإسلام ضيما | يطول عليه للدين النحيب | |
وكم من مسجد جعلوه ديرا | على محرابه نصب الصليب | |
دم الخنـزير فيه لهم خلوف | وتحريق المصاحف فيه طيب |
أهز هذا الصريخ الموجع زعامة الغزالي ؟ كلا، إذ كان عاكفاً على كتبه يقرر فيها أن الجمادات تخاطب الأولياء!! ويتحدث عن مراتب الولاية كالصحو والمحو، دون أن يقاتل أو يدعو غيره إلى قتال، "وابن عربي" و"ابن الفارض" الزعيمان الصوفيان الكبيران عاشا في عهد الحروب الصليبية فلم نسمع أن واحداً منهما شارك في قتال أو دعا إلى قتال أو سجل في شعره أو في نثره آهة حر على الفواجع التي نزلت بالمسلمين، لقد كان يقرران للناس أن الله هو عين كل شيء فليدع المسلمون الصليبيين فما هم إلا الذات الإلهية متجسدة في تلك الصور.
وحين أغار الفرنجة على "المنصورة" قبل منتصف القرن السابع الهجري اجتمع الصوفيون الزعماء، أتدري لماذا؟ لقراءة "رسالة القشيري" والمناقشة في كرامات الأولياء بدلاً من أن يجتمعوا لإعداد العدة وإعلان كلمة الجهاد – قد يقول القارئ: ربما فعلوا إلا أنه لم تصلنا آثارهم؟ فنقول لهم: فلماذا توافرت آثار الصحابة والتابعين وتابعي التابعين.. وليس هذا فحسب بل أن موقف "ابن تيمية" أمام "قازان" إمبراطور التتار "والعز بن عبد السلام" وغيرهما كثير تعج بآثارهم كتب التاريخ "كالبداية والنهاية" لابن كثير و"تاريخ الإسلام" و"سير أعلام النبلاء" و"أعيان المائة الثامنة".
وكي لا نتهم بالتجنى على "الغزالي" و"محيي الدين بن عربي" و"ابن الفارض" نعرض شهادتين: إحداهما: "للدكتور عمر فروخ" والثانية "للدكتور زكي مبارك".
كتب الدكتور عمر فروخ يقول: ألا يعجب القارئ إذا علم أن حجة الإسلام أبا حامد الغزالي شهد القدس تسقط في أيدي الفرنج الصليبيين وعاش اثنتي عشرة سنة بعد ذلك، ولم يشر إلى هذا الحدث العظيم، ولو أنه أهاب بسكان العراق وفارس وبلاد الترك لنصرة إخوانهم في الشام لنفر مئات الألوف منهم للجهاد في سبيل الله، ولوفر إذاً على العرب والمسلمين عصوراً مملوءة بالكفاح، وقروناً ذاخرة بالجهل والدمار.
وما غفلة "الغزالي" عن ذلك إلا أنه كان في ذلك الحين قد انقلب صوفياً أو اقتنع على الأقل بأن الصوفية سبيل من سبل الحياة.
وكذلك عاش "عمر بن الفارض" و"محيي الدين بن عربي" في إبان الحروب الصليبية ولم يرد في كتابات أحدهما ذكر لتلك الحروب.
وبينما كان الأفرنج يغيرون على "المنصورة" في مصر سنة 647 هجرية 1259 ميلادية تنادي الصوفيون لقراءة "رسالة القشيري" وأخذوا يتجادلون في كرامات الأولياء [الشعراني 1/14].
الاستعمار من عند الله :
ويزعم الصوفية أن لهم كرامات ولكنهم لم يظهروا هذه الكرامات للدفاع عن دينهم وأوطانهم إلا أن الصوفية لا يعدمون ادعاء أو يعللون سكوتهم ورضاهم بما ينزل بقومهم من المصائب بأنها عقاب من الله تعالى للمكذبين من خلقه (كذا).
فإذا كان الله تعالى قد سلط على قوم ظالماً فليس لأحد أن يقاوم إرادة الله تعالى أو أن يتأفف منها.
انتهت الشهادة الأولى وقد نقلناها من كتاب "التصوف في الإسلام" للدكتور عمر فروخ.. ونضيف أنه مما يؤسف له أن "الغزالي" ذكر في كتابه "المنفذ من الضلالط عند بحث طريقة التصوف: إنه كان خلال الحروب الصليبية مشغولاً في خلوته تارة في مغارة دمشق وتارة في صخرة بيت المقدس يغلق بابهما عليه في مدة تزيد على السنتين.
ثم ننتقل إلى الشهادة الثانية وهي كما ذكرت من قبل للدكتور زكي مبارك كتب يقول: أتدري لماذا ذكرت لك هذه الكلمة عن الحروب الصليبية؟ لتعرف أنه بينما كان "بطرس الناسك" يقضي ليلة ونهاره في إعداد الخطب وتحبير الرسائل يحث أهل أوروبا على احتلال أقطار المسلمين، كان الغزالي "حجة الإسلام" غارقاً في خلوته، منكباً على أوراده المبتدعة لا يعرف ما يجب عليه من الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله تعالى.
ومضى فضيلة الشيخ يقرأ من مراجعه المختلفة نصوصاً كثيرة طويلة أثبتنا بعضها وضربنا صفحاً عن بعضها الآخر.. لكننا عدنا نسأله قلنا: هل نفهم من هذا أنك تنفي دور الصوفية في مواجهة الظلم ومجابهة الظالمين مع أننا نقرأ في المأثور والمنشور عنهم الكثير من هذه المواقف التي يحق لنا – إن صحت – أن نعتبرها مشرفة.
أجاب فضيلته في حدة قائلاً: يا أخي أنا حريص في هذا الحوار الصحفي وفيما سبقه أن أكثر من "النقول" حتى لا أتهم بالتحيز. كذلك فإني حريص على أن تكون هذه "النقول" من كتب الصوفية بل ومن كتب أئمتهم وأقطابهم الكبار.
الصوفية ركائز الاستعمار :
يقول "الشعراني": وهذا النقل من كتاب "التصوف الإسلامي 2/301 نقلاً عن البحر المرود ص292" – لقد أخذ علينا العهد بأن نأمر إخواننا أن يدوروا مع الزمان وأهله كيفما دار، ولا يزدرون قط من رفعه الله عليهم، ولو كان في أمور الدنيا وولايتها. كل ذلك أدباً مع الله عز وجل الذي رفعهم فإنه لم يرفع أحداً إلا لحكمة هو يعلمها – انتهى – أليس هذا القول من أقوال المجبرة. فأين هم إذن ممن نعى الله عليهم. وقال:
{ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } [الأعراف: 28، 29].
وأين هم من قول رسول الله ﷺ: ”من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان“.
وننقل من نفس الكتاب للدكتور زكي مبارك: هناك كثير من الطرق ثابرت على انحرافها عن الطريق السوي فكانت أروع انقياداً للمستعمرين من الزنوج الوثنيين. قال الرئيس "فيليب قونداس" من المستعمرين الفرنسيين: لقد اضطر حكامنا الإداريون وجنودنا في أفريقيا إلى تنشيط دعوة الطرق الدينية الإسلامية لأنها كانت أطوع للسلطة الفرنسية، وأكثر تفهماً وانتظاماً من الطرق الوثنية التي تعرف باسم (بيليدو، وهاجون) أو من بعض كبار الكهان أو السحرة السود – انتهى كلام "الدكتور زكي مبارك".
وفي كتاب "تاريخ العرب الحديث والمعاصر" تحت عنوان: "المتعاونون مع فرنسا في الجزائر:
"وتتألف هذه الفئة من بعض الشباب الذين تثقفوا في المدارس الفرنسية، وقضى الاستعمار على كل صلة لهم بالعروبة، ويضاف إليهم بعض أصحاب الطرق الصوفية الذين أشاعوا الخرافات والبدع، وبثوا روح الانهزامية والسلبية في النضال فاستخدمهم الاستعمار كجواسيس" [ص373].
يقول الدكتور عمر فروخ: يقول الصوفية: إذا سلط الله على قوم ظالماً فليس لأحد أن يقاوم إرادة الله أو أن يتأفف منها.
لا ريب أن الأوروبيين قد عرفوا في الصوفية هذا المعتقد فاستغلوه في أعمالهم، فقد ذكر الزعيم الوطني مصطفى كامل المصري في كتابه "المسألة الشرقية" قصة غريبة عن سقوط "القيروان" قال:
ومن الأمور المشهورة عن الاحتلال الفرنسي للقيروان في تونس أن رجلاً فرنسياً دخل الإسلام وسمى نفسه "سيد أحمد الهادي"، واجتهد في تحصيل الشريعة حتى وصل إلى درجة عالية، وعين إماماً لمسجد كبير بالقيروان.. فلما اقترب الجنود الفرنسيون من المدينة استعد أهلها للدفاع عنها.. وجاءوا يسألونه أن يستشير الضريح الذي في المسجد، ودخل "سيدي أحمد الهادي" الضريح.. ثم خرج يقول: إن الشيخ ينصحكم بالتسليم لأن وقوع البلاد صار محتماً.. فاتبع القوم كلمته، ودخل الفرنسيون آمنين في 26 أكتوبر سنة 1881.
ثم يعقب الدكتور "عمر فروخ" بقوله: من أجل ذلك يجب ألا نستغرب إذا رأينا المستعمرين لا يبخلون بالمال أو التأييد بالجاه للطرق الصوفية.. وكل مندوب سامي أو نائب الملك.. لابد أنه يقدم شيخ الطرق الصوفية في كل مكان، وقد يشترك المستعمر إمعاناً في المداهنة في حلقات الذكر.
والطريقة التيجانية التي كانت تسيطر على الجزائر أيام الاستعمار معروف أنها كانت تستمد وجودها من فرنسا، وأن إحدى الفرنسيات من عميلات المخابرات تزوجت شيخاً فلما مات تزوجت بشقيقه، وكان الأتباع يطلقون عليها "زوجة السيدين" ويحملون التراب الذي تمشي عليه لكي يتيمموا به، وهي كاثوليكية مازالت على شركها.. وقد أنعمت عليها فرنسا بوسام الشرق، وجاء في أسباب منحها الوسام.. أنها كانت تعمل على تجنيد مريدين يحاربون في سبيل فرنسا كأنهم بنيان مرصوص.
ومن كتاب "في التصوف" لمحمد فهر شقفة السوري – ص217 يقول: "نرى من واجبنا خدمة الحقيقة والتاريخ أن نذكر – أن الحكومة الفرنسية في زمن الانتداب على سوريا حاولت نشر هذه الطريقة، واستأجرت بعض الشيوخ لهذه المهمة.. فقدمت لهم المال والمكان لتنشئة جيل يميل إلى فرنسا.. لكن مجاهدي المغرب لفتوا انتباه المخلصين من أهل البلاد إلى خطر الطريقة التيجانية، وأنها فرنسية استعمارية تتستر بالدين.. فهبت "دمشق" عن بكرة أبيها في مظاهرات صاخبة".
الصوفية وفاروق :
من الأمثلة المضحكة المبكية في مسيرة رجال الصوفية وراء الاستعمار، والحكام الفسقة الظالمين.. أن الصوفية في مصر لاذوا أخيراً بفاروق ملك مصر السابق، يشكرونه على أنه منحهم كسوة، وبين يدي "فاروق" وقف شيخ الصوفية يقول: "إنها يا مولاي رمز لما أعطاك الله من مواهب، وعنوان لفيض من فيوضاته سبحانه على قلب فاروق الطاهر تكشف عن مدى طهر وضعه الله فيك. فصفت روحك الطيبة، وأن هذا التكريم للصوفية إنما هو قبس من قلبك النقي ينير لك الطريق".
وخدمة الصوفية للاستعمار الفرنسي في مصر أيضاً معروفة، وخدمتها للإنجليز.. هل تعرف السبب الحقيقي في هزيمة "عرابي".. لقد شغل أهل الصوفية الجنود في التل الكبير في أذكار.. حتى نصف الليل.. ثم نام الجنود.. فدخل الإنجليز في الفجر!!
ثم ماذا يا دكتور.. لقد طال الموضوع.. نعم إنه هام ولكن القراء يجب أن نقدر وقتهم؟
بقيت كلمة واحدة.. الطرق الصوفية حسب آخر تعداد من رئاسة الجمهورية عددها 64 طريقة لو أنهم على هدى.. لماذا لا يتفقون على طريقة واحدة.. مادام كلهم يدعون للإسلام؟ أؤكد أنهم لا يفعلون ذلك ولن يفعلوا.. لسبب واحد.. هو أن لكل مشيخة دخول، ومنتفعين، ومسائل أخرى كلها تتعلق بالمال والأعمالز. وصناديق النذور!!
على هامش الجولات كنت قبورياً
يوميات متصوف وقبوري سابق ...!
كيف يحال بين القبوري والتوحيد ؟!
تعميق الخوف في القلوب من التوحيد والموحدين !
الاعترافات التي سيطالعها القارئ في الصفحات القادمة.. هي اعترافات ذاتية.. أردت بها تعقب العملية الكيمائية، والسيكولوجية التي يحدثها في النفس الصراع بين "التوحيد"، وبين "الخرافة" في النفس البشرية ذلك لأن الإنسان ليس وحده دائماً، وإنما الإنسان بالوعاء الذي يحتويه، والذي يحيطون بالإنسان هم الوعاء.. وهم الذين ينازعونه، ويقاسمونه، وأحياناً يشاركون المعتقدات سواء كانت صحيحة أم فاسدة.
وحينما نشرتها في مجلة "التوعية الإسلامية" في موسم الحج الماضي.. لم أكن أتصور أبداً أنها سوف تلقى ذلك الترحيب الحار، والعطف الدافئ الذي أحاطني به كبار الدعاة المدعوين من قبل أمانة الدعوة والفكر لموسم الحج.. ومن بينهم دعاة وأساتذة أعتز بشهادتهم ولهم في الدعوة جهود تذكر فتشكر.
وأكدوا لي – مما ملأني اعتزازاً – أن هذه الاعترافات ومعالجتها بهذا الشكل القصصي الصحافي الأسلوب الخالي من نبرة الوعظ، والتهديد والوعيد.. هو الشكل الذي كانت الدعوة في حاجة إليه.. لوصوله بسرعة إلى القلب، ونفاذه في سهولة إلى الوجدان.
وانتشاره بسرعة بين متوسطي الثقافة، والبسطاء من المسلمين، وحملوني مسؤولية إعادة طبعها كلما وجدت إلى ذلك سبيلاً.. ولما كانت هي في الأصل اعترافاً مني بفضل الله علي في تصحيح عقيدتي.. وقد كتبتها محتسباً بها وجه الله.. ومؤكداً جانباً من جهاد الرجل – الذي أضع فيه هذا الكتاب – في سبيل "التوحيد" فقد ظل يحاصر معتقداتي الفاسدة.. حتى أخذ بيدي إلى عقيدة التوحيد.. لهذا كله أضعها في آخر الكتاب لأنها كانت الطلقات الأخيرة في معركتنا ضد الصوفية ولكنها لم تكن المعركة الأخيرة ..
فإليكم .. هذه الحلقات .. وحتى إشعار آخر..
الصحفي
عبد المنعم الجداوي
[ 1 ]
ترددت كثيراً في كتابة هذه الاعترافات – لأكثر من سبب. ثم أقدمت على كتابتها لأكثر من سبب، وأسباب الإحجام والإقدام واحدة.. فقد خشيت أن يقرأ العنوان بعض القراء ثم يقولون – ما لنا ولتخريف أحد معظمي القبور، ثم يطوحون بالمجلة بكل قوتهم.. ولكن قد يكون بعض القراء في المنطقة النفسية التي كنت أعيشها قبل تصحيح عقيدتي.. فيقرأون اعترافاتي. فيفهمون ويعبرون من ظلمة الخرافات إلى نور العقيدة – وفي ذلك وحده ما يقويني على الكشف عن ذاتي أمام الناس – مادام ذلك سوف يكون سبباً في هداية بعضهم إلى حقيقة التوحيد..
ولقد كنت من كبار معظمي القبور فلا أكاد أزور مدينة بها أي قبر أوضريح لشيخ عظيم.. إلا وأهرع فوراً للطواف به.. سواء كنت أعرف كراماته أو لا أعرفها.. أحياناً أخترع لهم الكرامات أو أتصورها أو أتخيلها.. فإذا نجح ابني هذا العام كان ذلك للمبلغ الكبير الذي دفعته في صندوق النذور.. وإذا شفيت زوجتي كان ذلك للسمنة التي كان عليها الخروف الذي ذبحته للشيخ العظيم فلان ولي الله..
وحينما التقيت بالدكتور جميل غازي، وكان اللقاء لعمل مجلة إسلامية تقوم بالإعلام والنشر عن جمعية مسجد العزيز بالله القاهرية، والتي تضم مساجد أخرى، ورسالتها الأولى "التوحيد" وتصحيح العقيدة، وبحكم اللقاءات المتكررة.. كان لابد من صلاة الجمعة في مسجد العزيز بالله.. وهاجم "الدكتور جميل" في بساطة وبعقلانية شديدة.. هذا المنحى المخيف في العقيدة، وسماه شركاً بالله، وذلك لأن العبد – في غفلة من عقله – يطلب المدد والعون من مخلوق ميت.
أفزعني الهجوم، وأفزعتني الحقيقة.. وما أفزع الحقيقة للغافلين.. ولو أن "الدكتور جميل" اكتفى بذلك لهان الأمر.. لكنه في كل مرة يخطب لابد أن يمس الموضوع بإصرار.. فالضريح لا يضم سوى عبد ميت فقط.. بل قد يكون أحياناً خالياً حتى من العظام التي لا تنفع ولا تضر..
في أول الأمر اهتززت.. فقدت توازني.. كنت أعود إلى بيتي بعد صلاة كل جمعة حزيناً.. شيء ما يجثم فوق صدري يقيد أحاسيسي ومشاعري.. أحاول في مشقة أن أخرج عن هذا الخاطر.. هل كنت في ضلالة طوال هذه الأعوام؟ أم أن صديقي الدكتور قد بالغ في الأمر.. فأنا أعتقد أن كل من نطق "بالشهادة" لا يمكن أن يكون كافراً.. لهفوة من الهفوات أو زلة من الزلات.
شيء آخر أشعل في فؤادي لهباً يأكل طمأنينتي في بطء.. إن الدكتور يضعني في مواجهة صريحة ضد أصحاب الأضرحة الأولياء.. والخطباء على المنابر صباحاً مساءً يعلنونها صريحة أن الذي يؤذي ولياً فهو في حرب مع الله سبحانه وتعالى.. وهناك حديث صحيح في هذا المعنى.. وأنا لا أريد أن أدخل في حرب ضد أصحاب القبور والضرحة لأنني أعوذ بالله من أن أدخل في حرب معه جل جلاله.
وقلت: أن أسلم وسيلة للدفاع هي الهجوم.. واستعدت قراءة بعض الصفحات من كتاب "إحياء علوم الدين للغزالي" وصفحات أخرى من كتاب "لطائف المنن لابن عطاء السكندري" وحفظت عن ظهر قلب الكرامات، وأسماء أصحابها، ومناسبات وقوعها، وذهبت الجمعة الثانية، وكظمت غيظي وأنا أستمع إلى الدكتور فلما انتهى من الدرس.. أصر على أن يدعوني لتناول الغداء، وبعد الغداء.. تسلمته هجوماً بلا هوادة.. معتمداً على عاملين: الأول: هو أنني حفظت كمية لا بأس بها من الكرامات، والثانية: أني على ثقة من أنه لن يتهور فيداعبني بكفيه الغليظتين لأنني في بيته، وتناولت طعامه فأمنت غضبته.. وقلت له: والآتي هو المعنى، وليس نص الحوار "إن الأولياء لا يدرك درجاتهم إلا من كان على درجتهم من الصفاء والشفافية، وأنهم رجال أخلصوا لله.. فجعل لهم دون الناس ما خصهم به من آيات.. وأن.. وأن.. وأن.. وانتظر الدكتور حتى انتهيت من هجومي.. وأحسست أنه لن يجد ما يقوله.. وإذا به يقول:
ـ هل تعتقد أن أي شيخ منهم كان أكرم على الله من رسوله ...؟
ـ قلت مذهولاً: لا.
ـ إذاً كيف يمشي بعضهم على الماء أو يطير في الهواء.. أو يقطف ثمار الجنة وهو على الأرض.. ورسول الله ﷺ لم يفعل ذلك ؟
كان يمكن أن يكون ذلك كافياً لإقناعي أو لتراجعي.. لكن التعصب قاتله الله.. كبر على أن أسلم بهذه البساطة – كيف ألغي ثقافة إسلامية عمرها في حياتي أكثر من ثلاثين عاماً.. قد تكون مغلوطة.. غير أني فهمتها على أنها الحقيقة ولا حقيقة سواها.
وعدت أقرأ من جديد في الكتب التي تملأ مكتبتي.. وأعود إلى الدكتور ويستمر الحوار بيننا إلى ساعة متأخرة من الليل – فقد كنت من كبار عشاق الصوفية.. لماذا؟ لأني أحب أشعارهم وأحب موسيقاهم وألحانهم التي هي مزيج من التراث الشعبي، وخليط من ألحان قديمة متنوعة.. شرقية، وفارسية ومملوكية، وطبلة أفريقية أحياناً.. تدق وحدها.. أو ناي مصري حزين ينفرد بالأنين مع بعض أشعارهم التي تتحدث عن لقاء الحبيب بمحبوبه وقت السحر.
لهذا وللأسباب الأخرى أحببت الصوفية.. وكنت أعشقها، وأحفظ عن ظهر قلب الكثير من شعر أقطابها.. لا سيما "ابن الفارض" وكل حجتي التي أبسطها في معارضة الدكتور أنه وأمثاله من الذين يدعون إلى "التوحيد" لا يرون للدين روحاً، وإنما يجردونه من الخيال، وأنهم لابد أن يصلوا إلى ما وصل إليه أصحاب الكرامات.. لكي يدركوا ما هي الكرامات.. فلن يعرف الموج إلا من شاهد البحر، ولا يعرف العشق إلا من كابد الحب – وهذا أسلوب صوفي أيضاً في الاستدلال ولهم بيت شهير في هذا المعنى.
وحتى لا يضطرب وجداني، وتتمزق مشاعري.. حاولت أن أنقطع عن لقاء الدكتور.. ولكنه لم يتركني.. فوجئت به يدق جرس الباب ولم أصدق عيني كان هو.. قد جاء يسأل عني وتكلمنا كالعادة كثيراً وطويلاً.. فلما سألني عن سبب عدم حضوري لصلاة الجمعة معه قلت له بصراحة:
ـ لقد يئست منك..
ـ قال: ولكني لم أيأس منك.. أنت فيك خير كثير للعقيدة.
ـ قلت: إنه يستدرجني على طريقته.. ولمحت معه كتاباً من تأليفه عن سيرة "الإمام محمد بن عبد الوهاب" فقلت له:
ـ أعطني هذه النسخة.. هل يمكن ذلك؟
ـ قال: هذه النسخة بالذات ليست لك، وسوف أعدك بواحدة.
وهذه هي طريقته للإثارة دائماً.. لا يعطيني ما أطلب من أول مرة.. فخطفت النسخة ورفضت إعادتها له.
وبعد منتصف الليل بدأت القراءة.. وشدني الكتاب موضوعاً وأسلوباً فلم أنم حتى الصباح.
[ 2 ]
كان الكتاب على حجمه المتواضع – كالإعصار – كالزلزال.. أخذني من نفسي ليضعني على حافة آفاق جديدة. حكاية الشيخ "محمد بن عبد الوهاب" نفسه.. ثم قصة دعوته وما كابده من معاناة طويلة.. حينما كانت في صدره جنيناً.. وكلما قرأت صفحة وجدت قلبي مع السطور.. فإذا أغلقت الكتاب لأمرٍ من الأمور.. يطلب التفكير أو البحث في كتب أخرى.. استشعرت الذنب لأنني تركت الشيخ في "البصرة" ولم أصبر حتى يعود.. أو تركته في بغداد يستعد للسفر إلى "كردستان".. ولابد أن أصبر معه حتى يعود من غربته إلى بلده.
يقول الدكتور في كتابه "مجدد القرن الثاني عشر الهجري شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب": وبعد هذا الطواف والتجوال هل وجد ضالته المنشودة؟
لا فإن العالم الإسلامي كله كان يعاني نوبات قاسية من الجهل والانحطاط والتأخر.. عاد الرجل إلى بلده يحمل بين جوانحه ألماً شديداً لما أصاب المسلمين من انتكاس وتقهقر في كل مناحي حياتهم.
عاد إلى بلده وفي ذهنه فكرة تساوره بالليل والنهار...
لماذا لا يدعو الناس إلى الله ؟
لماذا لا يذكرهم بهدى رسول الله ؟
لماذا ... لماذا ...؟
إذاً فهذه العقيدة التي يريدها الدكتور لم تأت من فراغ.. فمنذ القرن الثاني عشر الهجري.. والإمام محمد بن عبد الوهاب يفكر، ويقدم لكي يهدم صروح الأضرحة، ويحطم شيخ الخرافات ويطارد المشعوذين الذين لطخوا وجه الشريعة السمحاء.. بخزعبلاتهم التي اكتسبت مع الأيام قداسة.. تخلع قلوب المؤمنين إذا فكروا في إزالتها وفي ذلك يقول الكتاب:
"ماذا كان وقع هذه الأعمال على نفوس القوم؟...".
ويجيب المؤرخون على ما يرويه الأستاذ أحمد حسين في كتابه "مشاهداتي في جزيرة العرب" أن القوم لم يقبلوا مشاركة الرجل فيما قام به من قطع الأشجار، وهدم القباب.. بل تركوا له وحده أن يقوم بهذا العمل حتى إذا ما كان هناك شر أصابه وحده..
هل يكون ما يزلزل كياني الآن هو الخوف الذي ورثته؟ وهو نفس الذي جعل الناس في بلدة "العيينة" موطن الشيخ يتركونه يزيل الأشجار، وقبة قبر "زيد بن الخطاب" بنفسه.. خوفاً من أن تصيبهم اللعنات المتخلفة من كرامات هذه الأماكن وأصحابها؟
ومضيت أقرأ، ومع كل صفحة أشعر أنني أخلع من جدار الوهم في أعماقي حجراً ضخماً.. وحينما بلغت منتصف الكتاب كانت فجوة كبيرة داخلي قد انفتحت، وتسلل منها ومعها نور اليقين.. ولكن في زحمة الظلمة التي كانت تعشش داخلي.. كان الشعاع يومض لحظة ويختفي لحظات..
لقد استطاع الدكتور أن ينتصر.. ترني أحارب نفسي بنفسي.. بل جعلني أتابع مسيرة التوحيد مع شيخها محمد بن عبد الوهّاب، وأشفق عليه من المؤامرات التي تحاك ضده، وحوله.. وكيف أنه حينما أقام الحد على المرأة التي زنت في "العيينة" غضب حاكم "الإحساء" سليمان بن محمد بن عبد العزيز الحميدي، واستشعر الخطر من الدعوة الجديدة وصاحبها.. فكتب إلى حاكم "العيينة" ابن معمر يأمره بكتم أنفاسها، وقتل المنادي بها، والعودة فوراً إلى حظيرة الخرافات والخزعبلات.
ولما كان "ابن معمر" قد ارتبط مع الشيخ في مصاهرة.. فقد زوجه ابنته فإنه تردد في قتله، ولكنه دعاه إلى اجتماع مغلق، وقرأ عليه رسالة حاكم "الإحساء" ثم رسم اليأس كله على ملامحه، وقال له: إنه لا يستطيع أن يعصي أمراً لحاكم "الإحساء" لأنه لا قبل له به.. ولعلها لحظة يأس كشفت للشيخ عن عدم إيمان "ابن معمر".. ولم تزد الشيخ إلا إصراراً على عقيدته، وقوة توحيده.. فالحكام الطغاة لا يحاربون دائماً إلا داعية الحق.. وقبل الشيخ في غير عتاب أن يغادر "العيينة" مهاجراً في سبيل الله بتوحيده باحثاً عن أرض جديدة يزرعه فيها.
في الصباح استيقظت على ضجة في البيت غير عادية.. واعتدلت في فراشي ووصلت إلى أذني أصوات ليست آدمية خالصة، ولا حيوانية خالصة.. ثغاء، وصياح، ولكام.. غير مفهوم العبارات.. وقلت لابد أنني أعاني من بقية حلم ثقيل.. فتأكدت من يقظتي، ولكن "الثغاء" هذه المرة.. اخترق طبلة أذني.. ودخلت علي زوجتي تحمل إلي أنباء سارة جداً وهي تتلخص في أن ابنة خالتي التي تعيش في أقصى الصعيد.. ومعها زوجها وابنها البالغ من العمر ثلاث سنوات قد وصلوا في قطار الصعيد فجراً ومعهم "الخروف"..
وظنت أن زوجتي تداعبني.. أو أن ابنة خالتي، وكنت أعرف أن أولادها يموتون في السنوات الأولى.. قد أطلقت على طفل لها اسم "خروف" لكي يعيش مثلاً.. وهي عادات معروفة في الصعيد.. وقبل أن أتبين المسألة أحسست بمظاهرة من أولادي تقترب من باب حجرة نومي.. وفجأة وبدون استئذان اقتحم الباب "خروف" له فروة، وقرون، وأربعة أقدام.. واندفع في جنون من مطاردة الأولاد له.. فحطم ما اعترض طريقه.. ثم اتجه إلى المرآة، وفي قفزة "هترية" اعتدى على المرآة بنطحة قوية تداعت بعدها، وأحدثت أصواتاً عجيبة وهي تتحطم.
تم كل ذلك في لحظة سريعة.. وقبل أن أسترد أنفاسي خيل إلي أن بيتنا انفتح على حديقة الحيوانات.. رغم أنني أسكن في العباسية، والحديقة في الجيزة.. ولكن وجدت نفسي أقفز من على السرير، وخشيت زوجتي ثورة "الخروف" وتضاءلت فانزوت في ركن.. ترمقني بعينيها، وتشجعني لكي أتصدى لهذا الحيوان المجنون.. الذي اقتحم علينا خلوتنا.. ولكن الصوت والزجاج المتناثر زاد من هياج الحيوان.. ولمحت في عينيه وفي قرنيه الموت الزؤام.. واستعدت في ذهني كل حركات مصارعي الثيران، وأمسكت بملاءة السرير وقبل أن أجرب رشاقتي في الصراع مع "الخروف" دخلت ابنة خالتي.. وفي حالة انزعاج كامل.. فقد خيل لها أنني سوف أقتله وصاحت وهي على يقين من أنني سأصرعه:
ـ حاسب هذا خروف "السيد البدوي".
ونادته فتقدم إليها في دلال، وكأنه الطفل المدلل.. فأمسكت به تربت على رأسه وروت لي أنها قدمت من الصعيد، ومعها هذا الخروف البكر الرشيق الذي أنفقت في تربيته ثلاث أعوام.. هي عمر ابنها.. لأنها نذرت للسيد البدوي إذا عاش ابنها أن تذبح على أعتابه "خروفاً" وبعد غد يبدأ العام الثالث موعد النذر.
كانت تقول كل هذه العبارات، وهي سعيدة وخرجت إلى الصالة لأجد زوجها وهو في ابتهاج عظيم.. يطلب مني أن أرافقهم إلى "طنطا".. لكي أرى هذا المهرجان العظيم لأنهم نظراً لبعد المسافة اكتفوا بالخروف.. أما الذين على مقربة من "السيد البدوي" فإنهم يبعثون بجمال.. وأصبح علي أن أجامل ابنة خالتي لكي يعيش ابنها، وإلا اعتبر قاطعاً للرحم.. لا يهمني أن يعيش ابن بنت خالتي أو يموت.. ولابد أن أذهب معهم إلى مهرجان الشرك وفي نفس الوقت كنت أسال نفسي: كيف أقنعها بأنها في طريقها إلى الكفر..؟ وماذا سيحدث حينما أحطم لها الحلم الجميل الذي تعيش فيه منذ ثلاث سنوات؟
وقلت: أبدأ بزوجها أولاً لأن الرجال قوامون على النساء.. وأخذت الزوج إلى ناحية في البيت، وتعمدت أن يرى في يدي كتاب "الإمام محمد بن عبد الوهّاب" ومد يده فجعل الغلاف ناحيته، وما كاد يقرأ العنوان حتى قفز كأنه أمسك بجمرة نار.
[ 3 ]
قرأ زوج ابنة خالتي عنوان الكتاب الذي يقول إن في الصفحات قصة "الشيخ محمد بن عبد الوهاب" ودعوته – وهتف صارخاً: ما هذا الذي أقرؤه؟ وكيف وصلني هذا الكتاب؟.. لابد أن أحدهم دسه علي.. فهو يعرف أنني رجل متزن.. أحرص على ديني وعلى زيارة الأضرحة، وتقديم الشموع، والنذور، وأحياناً القرابين المذبوحة والحية. كما يفعل هو تماماً.. ورأيت في عينيه نظرة رثاء إلى ما رماني به القدر في تلك النسخة.. وكان على أن أقف منه موقف الدكتور محمد جميل غازي مني سابقاً.. وشاء الله أن يكون ذلك بمثابة الامتحان لي.. وهل في استطاعتي أن أطبق ما قرأت أم لا؟ وهل استوعبت عن يقين ما قرأت أم لا؟ والأهم من ذلك هو مدى إصراري على عقيدتي وإقناع الآخرين بها أيضاً.. فالذي لا يؤثر في المحيط الذي يعيش فيه هو صاحب عقيدة سلبية.. غير إيجابية.. فليس من المعقول في شيء أن أطري "توحيدي" على نفسي وأترك الآخرين يعيشون في ضلالة.. لأنهم بعد فترة سوف يغرقونني في خرافاتهم.. وعليه فلابد أن أجادلهم بالتي هي أحسن.. لا أتركهم يشعرون أن الأمر هين.. لابد أن أنفرهم من شركهم وهم لابد أن يتراجعوا.. لأن "الخرافة" نظراً لأنها تقوم على ضلالات هشة.. لا يكاد الشك يدخلها حتى يهدمها، والحق في تعقبها إذا كان لحوحاً قضى عليها أو على أقل تقدير أوقف نموها حتى لا تصيب الآخرين.. ومن أجل ذلك كله قررت أن أتوكل على الله، وأبدأ الشرح للرجل.. ولم تكن المهمة سهلة.. فلابد أولاً أن أطمئنه، وأزيل ما بينه وبين سيرة الشيخ "محمد بن عبد الوهاب".. ثم ما ترسب في ذهنه من زمن عن "الوهابية والوهابيين".. ففي أول الحديث اتهم "الوهابية" بعدد من الاتهامات يعلم الله أن دعوة "التوحيد" بريئة منها براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام..
ورحت أحاول في حماس شديد أن اشرح له سر حملات الكراهية، والبغضاء التي يشنها البعض على دعوة "التوحيد".. وكيف أنها أحيت شعائر الشريعة، وأصول العبادات، وفي ذلك القضاء على محترفي الدجل، وحراس المقابر، وسدنة الأضرحة، والذين يكدسون الأموال عاماً بعد عام.. من بيع البركات، وتوزيع الحسنات على طلاب المقاعد في الجنة.. فالمقاعد محدودة والوقت قد أزف.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولمحت على ملامحه بعض سمات الخير.. نظر إلي في دهشة كأنه يفيق من غيبوبة.. ورغم ذلك فقد راح يتشنج، ويدافع عن أهل الله الذين ينامون في قبورهم.. لكن يتحكمون بأرواحهم في بقية الكون، وأنهم يدعون كل ليلة جمعة للاجتماع عند قطب من الأقطاب.. وحتى النساء من الشهيرات يلتقين أيضاً مع الرجال الأقطاب، وينظرون في شؤون الكون.
ولم أكن أطمع في زحزحته عن معتقدات في ضميره عمرها أكثر من ثلاثين سنة.. فاكتفيت بأن طلبت منه أن ينظر في الأمر هل هؤلاء الموتى من أصحاب الأضرحة أكرم عند الله.. أم محمد رسول الله؟.. ثم يفكر طويلاً ويجيء إلي بالنتيجة.. دون ما تحيز أو تعصب.. ووعدني بأن يفكرن ولكنه فقط يطلب مني أن أرافقهم في رحلتهم الميمونة إلى "طنطا".. فقلت له: إن هذا المستحيل لن يحدث.. وإذا كان مصمماً على الذهاب هو وزوجته إلى "السيد البدوي" حتى يعيش ابنهم.. فالمعنى الوحيد لذلك هو أن الأعمار بيد "السيد البدوي" وحملق في، وصاح:
ـ لا تكفر يا رجل..
فقلت له: أينا يكفر الآخر؟ أنا الذي أطلب منك أن تتوجه إلى الله؟ أم أنت الذي تصر على أن تتوجه إلى "السيد البدوي"؟
وسكت واعتبر هذا مني إهانة لضيافته، وأخذ زوجته، وأخذت زوجته الخروف وابنها، وانصرفوا من العباسية في القاهرة إلى "طنطا"، وحينما وقفت أودعهم.. همست في أذن الزوج أنه إذا تفضل بعدم المرور علينا بعد العودة من مهرجان الشرك.. فإنني أكون شاكراً له ما يفعل، وإلا لقي مني ما يضايقه.. وازداد ذهول الرجل ومضى الركب الغريب يسوق الخروج نحو "طنطا"..
وانثنت زوجتي تلومني لأنني كنت قاسياً معهم، وهم الذين يخافون على طفلهم.. الذي عاش لهم بعد أن تقدمت بهما العمر، ومات لهما من الأطفال الكثير.. وصحت في زوجتي: إن الطفل إذا كان سيعيش فذلك لأن الله يريد له أن يعيش، وإن كان سيموت فذلك لأن الله يريد له ذلك، لا شريك لله في أوامره، ولا شريك له في إرادته.
وذهبت إلى إدارة الجريدة التي أعمل بها.. وإذا بالدكتور يتصل بي تليفونياً ليتحدث معي في شأن له، ولم يخطر بباله أن يسألني: ما فعل بي الكتاب؟ أو ماذا فعلت به.. واضطررت أن أقول له.. أني في حاجة لمناقشة بعض ما جاء في الكتاب معه.. والتقينا في الليل وحدثته عن الكارثة التي جاءتني من الصعيد، ولم يعلق على محاولتي إقناعهم بالعدول عن شركهم.. مع أنني منذ أيام فقط كنت لا أقل شركاً عنهم.. وقلت له: ألا يلفت نظرك أنني أقول لهم ما كنت تقوله لي؟
قال في هدوء يغيظ: إنه كان على يقين من أنني سوف أكون شيئاً مفيداً للدعوة.. وأردت الاحتجاج على أنني من "الأشياء" ولست من الآدميين.. لكن الدكتور لم يتوقف وقال: لقد صدر منك كل هذا بعد قراءة نصف الكتاب.. فكيف بك إذا قرأت الكتب الأخرى.. وأغرق في الضحك.. وعلمت بعد أيام أن قريبتي عادة من "طنطا" إلى الصعيد مباشرة دون المرور علينا في القاهرة، وأنها غاضبة مني، وشكتني لكل شيوخ الأسرة، وفي الأسبوع الثاني فوجئت بجرس الباب يدق.. وذهب ابني الصغير ليستطلع الأمر.. ثم عاد يقول لي:
ـ إبراهيم الحران..
"الحران".. إنه زوج ابنه خالتي ماذا حدث؟ هل جاءوا بخروف جديد، ونذر جديد لضريح جديد.. أم ماذا؟ وقررت أن يخرج غضبي من الصمت إلى العدوان هذه المرة، ولو بالضرب.. ومشيت في ثورة إلى الباب.. وإذا بهذا "الحران" يمد يده ليصافحني، ودعوته إلى الدخول فرفض.. إذاً لماذا جاء؟ وفيما جاء؟ وابتسم ابتسامة مغتضبة وهو يقول: إنه يطلب كتاب "الشيخ محمد بن عبد الوهاب" الذي عندي وحملقت فيه طويلاً، وجلست على أقرب مقعد..
[ 4 ]
سقطت قلعة من قلاع الجاهلية.. لكن لماذا؟ وكيف كان ذاك السقوط؟ جاء صاحبي "إبراهيم" يسعى بقدميه.. يطلب ويلح في أن يبدأ مسيرة التوحيد.. لابد أن وراء عودته أمراً ليس من المعقول أن يحدث ذلك بلا أسباب قوية جعلت أعماقه تتفتح، وتفيق.. على حقائق غفل عنها طويلاً.
ورحمة بي من الذهول والإغماء الذي أوشك أن يصيبني.. بدأ يتكلم، وكانت الجملة التي سقطت من فمه.. ثقيلة كالحجر الذي يهبط من قمة جبل.. صكت سمعي.. ثم ألقت بنفسها تتفجر على الأرض.. تصيب وتدمي شظاياها وقال:
ـ لقد مات ابني عقب عودتنا.. إنا لله وإنا إليه راجعون.
هذا هو الولد الرابع الذي يموت لإبراهيم تباعاً، وكلما بلغ الطفل العام الثالث.. لحق بسابقه.. وبدلاً من أن يذهب إلى الأطباء ليعالج مع زوجته بعض التحليلات اللازمة.. فقد يكون مبعث ذلك مرض في دم الأب أو الأم.. اقتنع، وقنع بأن ينذر مع زجته مرة للشيخ هذا، ومرة للضريح ذاك، وأخرى لمغارة في جبل بني سويف.. إذا عاش طفله، ولكن ذلك كله لم ينفعه.. ورغم الجهل والظلم الذي يظلمه لنفسه.. إلا أنني حزنت من أجله تألمت حقيقة.. أخذته من يده.. أدخلته.. جلست أستمع إلى التفاصيل.
لقد عاد من "طنطا" مع زوجته إلى بلدهما.. وحملا معهما بعض أجزاء من "الخروف" الذي كان قد ذبح على أعتاب ضريح "السيد البدوي".. فقد كانت تعاليم الجهالة تقضي بأن يعودا ببعضه.. التماساً لتوزيع البركة على بقية المحبين، وأيضاً لكي يأكلوا من هذه الأجزاء.. التي لم تتوفر لها إجراءات الحفظ الصالحة ففسدت.. وأصابت كل من أكل منها بنزلة معوية.. وقد تصدى لها الكبار وصمدوا.. أما الطفل.. فمرض، وانتظرت الأم بجهلها أن يتدخل "السيد البدوي" لكن حالة الطفل ساءت.. وفي آخر الأمر ذهبت به للطبيب الذي أهله أن تترك الأم ابنها يتعذب طوال هذه الأيام.. فقد استغرق مرضه أربعة أيام.. وهز الطبيب رأسه، ولكنه لم ييأس.. وكتب العلاج "أدوية، وحقن"، ولكن الطفل اشتد عليه المرض ولم يقو جسمه على المقاومة فمات.
من موت الطفل بدأت المشاكل.. كانت الصدمة على الأم أكبر من أن تتحملها.. ففقدت وعيها.. أصابتها لوثة جعلتها تمسك بأي شيء تلقاه، وتحمله على كتفها وتهدهده وتداعبه على أنه ابنها.. أما الأب فقد انطوى يفكر في جدية بعد أن جعلته الصدمة يبصر أن الأمر كله لله.. لا شريك له.. وأن ذهابه عاماً بعد عام إلى الأضرحة والقبور.. لم يزده إلا خسارة.. واعترف لي بأن الحوار الذي دار بيني وبينه كان يطن في أذنيه.. عقب الكارثة ثم صمت.. فقلت له بعض الكلام الذي يخفف عنه، والذي يجب أن يقال في مثل هذه المناسبات.. ولكن بقي في نفسي من حديثه.. فهو لم يكمل ماذا حدث للسيدة المنكوبة وهل شفيت من لوثتها أم لا؟
فقلت له: لعل الله قد شفى الأم من لوثتها؟.. فأجاب وهو مطأطئ الرأس: إن أهلها يصرون على الطواف بها.. على بعض الأضرحة والكنائس أيضاً.. ويرفضون عرضها على أي طبيب من أطباء الأمراض النفسية والعصبية.. ليس ذلك فحسب.. بل ذهبوا بها إلى "سيدة" لها صحبة مع الجن فكتبت لها على طبق أبيض.. وهكذا تزداد العلة عليها في كل يوم وتتفاقم.. وكل ما يفعله الدجالون يذهب مع النقود المدفوعة إلى الفناء.
وحينما أراد أن يحسم الأمر.. وأصر على أن تعرض على طبيب.. أو يطلقها لهم.. لأنهم سبب إفسادها.. برزت أمها تتحداه وركبت رأسها فاضطر إلى طلاقها وهو كاره.
أثارتني قصته ورغم حرصي على النسخة التي حصلت عليها من الدكتور جميل إلا أنني أتيته بها وناولتها له.. فأمسك بها وقلبها بين يديه.. وعلى غلافها الأخير كان مكتوباً كلاماً راح يقرؤه بصوت عال.. كأنه يسمع نفسه قبل أن يسمعني "نواقض الإسلام" من كلمات شيخ الإسلام "محمد بن عبد الوهّاب": [ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار وما للظالمين من أنصار] ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن أو للقبر.
ورفع رأسه فحملق في وجهي.. ثم أخذ الكتاب، وانصرف واشترط أن يعيده لي بعد أيام، وأن أحضر له من الكتب ما يعينه على المضي في طريق التوحيد.
انصرف إبراهيم، والمأساة التي وقعت له تتسرب إلى كياني قطرة بعد قطرة.. فهي ليست مأساة فرد، ولا جماعة، وإنما هي مأساة بعض المسلمين في كثير من الأمصار.. الخرافة أحب إليهم من الحقيقة، والضلالة أقرب إلى أفئدتهم من الهداية، والابتداع يجتذبهم بعيداً عن السنة..
حاولت الاتصال تليفونياً بالدكتور جميل.. فقد كنت أريد أن أنهي إليه أخبار "إبراهيم" ولكني لم أجده فبدأت العمل في كتابات لمجلة شهرية تصدر في قطر.. اعتادت أن تنشر لي أبحاثاً عن "الجريمة في الأدب العربي" وصففت أمامي المراجع، وبدأت مستعيناً بالله على الكتابة، وإذا بالتليفون يدق.. كان المتكلم مصدراً رسمياً في وزارة الداخلية يدعوني بحكم مهنتي كصحفي متخصص في الجريمة.. لحضور تحقيق في قضية مصرع أحد عملاء البلاط، وكان قد عثر على جثته في جوال من يومين.
تركت كل ما كان يشغلني إلى مكان التحقيق.. والغريب في الأمر أن يكون الأساس الذي قامت عليه هذه الجريمة هو السقوط أيضاً في هاوية الشرك، والدجل والشعوذة.. بشكل يدعو إلى الإشفاق.. فالقتيل كان يدعى صحبة الجن، والقدرة على التوفيق بين الزوجين المتنافرين، وشفاء بعض الأمراض وقضاء الحاجات المستعصية.. إلى جانب عمله في مهنة البلاط.
أما المتهم القاتل.. فكان من أبناء الصعيد تجاوز الخمسين من عمره، وكان متزوجاً من امرأة لم تنجب.. فطلقها، وتزوج بأخرى في السابعة عشرة من عمرها لكنها هي الأخرى لم تنجب.. وبلغه من تحرياته أن مطلقته قامت بعمل سحر له نكاية فيه.. يمنعه من الإنجاب مع زوجته الجديدة.. فاتصل بذلك الرجل الذي كان شاباً لم يتجاوز الأربعين.. واتفق معه على أن يقوم له بعمل مضاد.. وتلقف الدجال فرصة مواتية.. وذهب معه إلى البيت وكتب له الدجال بعد أن تناول العشاء الدسم.. وأمره بإحضار بعض مستلزمات حضور الجن من بخور وشموع وعطور، وذهب الرجل ليشتريها.. وترك "الدجال" وزوجته الحسناء في البيت..
[ 5 ]
خرج الرجل مسرعاً يشتري البخور الذي سيحرق تمهيداً لاستحضار الجن.. وترك الدجال الشاب في البيت مع الزوجة الحسناء وكان لابد أن يحدث ما يقع في مثل هذه المواقف.. فقد حاول المشعوذ أن يعتدي على الزوجة.. إذ راودها في عنف ليفتك بشرفها، وهي العفيفة الشريفة.. فقامت لتغادر البيت إلى جارة لها حتى يصل زوجها.. وإذا بها تجد زوجها على الباب.. فقد نسي أن يأخذ حافظة نقوده.. وروت له في غضب ما وقع من الدجال، وانفعل الزوج الصعيدي وحمل عصا غليطة.. ودخل على الدجال في الغرفة وانهال عليه بالعصا حتى حطم رأسه.. بعدها وجد نفسه أمام جثة لابد أن يتخلص منها.. فجلس يفكر.
خرج ليلاً فاشترى جوالاً وعاد فوضع الجثة فيه.. وانتظر حتى انتصف الليل.. ثم حمل الجثة على كتفه وألقى بها في خلاء على مقربة من الحي الذي يسكنون فيه.. وعاد إلى غرفته يحاول طمس الآثار ومحوها.. وظن أنه تخلص من الدجال الشاب إلى الأبد.
لكن رجال الشرطة.. بعد عثورهم على الجثة بدأوا أبحاثهم عن الجوال الذي كان يحتوي على الجثة.. وما كادوا يعرضونه على البقالين في المنطقة حتى قال لهم أحدهم إن الذي اشتراه منه هو فلانن وكان ذلك بالأمس فقط وألقت الشرطة القبض على الرجل، وفتشت غرفته فوجدت الآثار الدالة على ارتكاب الجريمة.. وضيق عليه الخناق فاعترف بتفاصيل الجريمة.
لم يكن حضوري هذا التحقيق صدفة فكل شيء يجري في ملكوت الله بقدر.. إذ يسوق هذه الجريمة المتعلقة أيضاً بفساد العقيدة لتجعلني أناقش مع الآخرين.. قضية العقيدة والخرافة من بذورها الأولى.. ولماذا تروج الخرافة وتتغلغل في كيانات البشر دون وازع؟ هل لأن الذي يتاجرون بها أوسع ذكاء من الضحايا؟
وماذا يجعل الضحايا وهم ملايين.. يندفعون إلى ممارستها، والإيمان بها، والتعصب لها؟ أم أن "الوثنية" التي هي الإيمان بالمحسوس والملموس.. التي ترسبت في أذهان العالمين سنين طويلة تفرض نفسها على الناس من جديد.. تساندها الظروف النفسية لبعض البشر.. الذين يعجزون عن الوصول إلى تفسير لها ؟
فالقاتل والقتيل في هذه الجريمة.. كلاهما فاسد العقيدة.. لا يعرفان من الإسلام سوى اسمه.. فالقتيل مشعوذ يمشي بين عباد الله بالسوء، ويكذب عليهم، ويدعي أنه على صلة بالجن وأنه يشقى ويسعد، ويشفي ويمرض بمعاونة الجن، وفي ذلك شرك مضاعف مع الإضرار بالناس.. أما القاتل فهو من فرط جهالته يعتقد أن إنساناً مثله في وسعه أن يجعله ينجب ولداً أو بنتاً وقد يكون عذره أنه في لهفته على الإنجاب ألغي عقله.. غير أنه لو كانت له عقيدة سليمة ترسخ في ذهنه أن الله بلا شركاء، وأن النفع والضر بيد الله فقط، وتؤصل هذه المفاهيم في أعماقه.. ما كان يمكنه أن يستسلم لدجال ولاستطاعت عقيدته أن تحميه من السقوط في أيدي مثل هذا المشعوذ.
وفي كثير من الأحيان يصل الأمر ببعض المتعصبين إلى أن يجعل من نفسه داعية للخرافة.. يروج لها، ويدافع عنها، وعلى استعداد للقتال في سبيلها.. فقد نجد من ينبري في المجالس.. فيروي كيف أن الشيخ الفلاني أنقذه هذه الأيام من ورطة كانت تحيق به، وأنه كان لن يحصل على الترقية هذا العام لولا أن الشيخ الفلاني صنع له "تحويطة" وأنه كان على خلاف مع زوجته وضعتهما على حافة الطلاق.. لولا أن الشيخ الفلاني كتب له ورقة وضعها تحت إبطه.. إلخ وتحضرني في هذا المجال.. قصة سيدة تخرجت من جامعة القاهرة، ودرست حتى حصلت على الدكتوراه في علوم الزراعة، وتشغل الآن وظيفة مديرة مكتب وزير زراعة إحدى الدول العربي هذه السيدة حاملة الدكتوراه.. عثر زوجها ذات يوم على حجاب تحت وسادته – فسأل زوجته.. فقالت: إنها دفعت فيه مالاً يقل عن خمسين جنيهاً.. لكي تستميل قلبه لأنها تشعر بجفوته في الأيام الأخيرة.. وكانت النتيجة أن زوجها طلقها طبعاً.. وراوي قصتها هو محاميها نفسه الذي تولى دعواها التي أقامتها ضد زوجها...
وترتفع الخرافة إلى الذروة.. حينما يعمد المتخصصون فيها إلى تقسيم تخصصات المشايخ والأضرحة.. فضريح السيدة فلانة يزار لزواج العوانس، والشيخ فلان يزار ضريحه في مسائل الرزق، والقادرة الشاطرة صاحبة الضريح الفلاني يحج إليها في مشاكل الحب، والهجر، والفراق، والطلاق، وأخرى في أمراض الأطفال، والعيون، وعسر الهضم وهكذا.. مؤامرة محكمة الحلقات.. تلف خيوطها حول السذج والمساكين، وكأنهم لم يقرأوا في القرآن: { وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } [الأنعام: 17]، وكأنهم لم يسمعوا بالحديث الشريف: ”من تعلق تميمة فقد أشرك“.
إن الانصياع للخرافات ليس وقفاً على عامة الناس أو جهلتهم.. بل من المؤسف أنها تتمتع بسلطان كبير بين المتعلمين، والذين درسوا في أرقى الجامعات.. وإذاً فالأصل فيها هو أنها تتسلل إلى ضمائر الناس.. الذين لا تحميهم عقيدة سليمة.. تصد عنهم هذه "الشركيات" الشرسة الضارية.. فالذي لا شك فيه.. هو أن الرجل الذي وثق إيمانه بالله، واقتنع بأن الله هو مالك كل شيء، ورب كل شيء لا شريك ولا وسيط له.. هذا الرجل سوف يعيش في مناعة إيمانه.. متحصناً بعقيدته.. لا تصل إليه المفاسد.. بل وتنكسر على صخرة إيمانه كل هذه الخزعبلات.. لماذا؟ لأنه أنهى أمره إلى الله، ولم تعد المسألة في حسابه قابلة للمناقشة!
فالإيمان بالله، واعتناق العقيدة السليمة شيء ليس بالضرورة في الكتب أو في الجامعات.. إنه أبسط من ذلك.. فالله سبحانه وتعالى جعله في متناول الجميع حتى لا يحرم منه فقير لفقره.. أو يستأثر به غني لغناه..
وبينما أنا منهمك أكتب هذه الحلقة.. إذ بضجيج تصحبه دقات عنيفة لطبل يمزق سكون الليل ويبدده.. وراح هذا الضجيج يعود ويعربد في ليل الحي.. دون أن يتوقف إلا للحظات.. يتغير فيها الإيقاع ثم يعود ضارباً..متوحشاً.. يهز الجدران.. وعرفت بخبرتي من الألحان، والأصوات المنفردة التي تصاحبها.. إن إحدى المترفات من الجيران تقيم حفلة "زار".. وأنها لابد أن تكن قد دعت كل صديقاتها المصابات مثلها بمس من الجن.. لكي يشهدن حفلها.. إذ لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تقيم فيها مثل هذه الحفلة فهي تقوم بعملها هذا مرة كل ستة شهور.. حرصاً على إرضاء الجن الذي يسكن جسدها..
وعبثاً حاولت الوصول إلى وسيلة للهرب من تلك الكارثة التي تقتحم على أذني.. فتركت الكتابة، وحاولت أن أقرأ.. وفي خضم هذه المعاناة.. جاء صديق لي من كبار علماء الأزهر، ومن الذين يعملون في وزارة الأوقاف وشؤون الأزهر ليزورني واستقبلته فرحاً.. لأنني أحب النقاش معه، ولأنه سوف يخلصني من عذاب الاستماع إلى الدفات الهمجية.
وشكوت إليه جارتي، ودخلنا في مناقشة عن "الجن" وشكوى الناس منه، وإدعاء السيدات أنه يركبهن، والجيش الجرار من النساء، والرجال الذين يحترفون عمل حفلات "الزار" وإذا بالرجل الذي حمل شهادة أزهرية عليا.. يؤكد لي أنه كانت له شقيقة.. مسها الجن عقب معركة نشبت بينها وبين زوجها، فعطل "الجن" ذراعها الأيمن عن العمل بضعة أيام.. ولم يتركها الجن إلا بعد أن أقاموا لها حفلة "زار" عقدت الشيخة بينها وبين "الجن" معاهدة تعايش سلمي.. وترك ذراعها على أن تقيم هذا الحفل مرة كل عام.
كان هذا كلام الرجل العالم.. طال صمتي.. فقد كنت أفكر في المسكين "إبراهيم الحران" وزوجته الأمية.. فلا عتاب عليهما ولا لوم.. مادام هذا هو رأي مثل هذا الرجل في "الزار".. وكانت الدقات العنيفة لاتزال تصل إلى آذاننا، والصمت المسكين يتلاشى أمام الأصوات المسعورة التي تصرخ في جنون تستجدي رضا الجن، وتستعطف قلوب العفاريت..
[ 6 ]
انتهت سهرتي مع صديقي العالم الأزهري الخالص.. الذي فجعني فيه إخلاصي له.. إذ وجدته من المؤمنين بالخرافة.. والمؤيدين لحكايات الجن.. وأحسست بأن وقتي ضاع بين هذا المغلوط العقيدة ودقات "الزار" التي كانت تقتحم على نوافذ مكتبي.. دون مجير شهم ينقذني من الاثنين.
وفي الصباح استيقظت على جرس التليفون.. يصيح صيحات طويلة ومعناها أ،ا مكالمة قادمة من خارج القاهرة.. ورفعت السماعة.. لأجد أن المكالمة من الصعيد، والمتكلم هو زوج خالتي، ووالد زوجة "إبراهيم الحران".. يعلنني أنهم سوف يصلون غداً.. وقد اتصل ليتأكد أنني في القاهرة.. خوفاً من أن أكون على سفر.. فهو يريدني لأمر هام.. ورحبت به.. وقلت إنني في انتظارهم.. ولم يكن أمامي سوى أن أفعل هذا.. لألف سبب وسبب.
أولها: أن الرجل الذي اتصل بي أكن له كل الاحترام والحب، وإنني لمست في صوته رقة الرجاء، وأنا ضعيف أمام اليائس الذي يلجأ إلي في حاجة في وسعي أن أقضيها له.. أخشى أن أرده ولو بالحسنى.. وأحاول جاهداً أن أكون من الذين يجري الله الخير على أيديهم للناس.. رغم أن هذا يسبب لي الكثير من المتابع، وضياع الوقت إلا أنني أحتسب كل ذلك عند الله..
وفي الغد ومع الركب الحزين، وكل مؤلفاً من زوج خالتي، وخالتي أم زوجة "إبراهيم الحران" وابنتها التي أصابتها اللوثة بعد وفاة طفلها، وكانت في حالة يرثى لها.. تفاقمت الحالة العقلية عندها.. ودخلت في مرحلة الكآبة العميقة.. رفضت معها الكلام، وفقدت فيها الشعور بما يدور حولها.. لا تستطيع أن تفرق بين النوم واليقظة، ولا تجيب من يحدثها.. انتقلت من دنيا الناس.. إلى دنيا من الوهم، والكآبة.. حتى انزوت. وصارت هيكلاً عظمياً.. ليس فيها من علامات الحياة.. سوى عينين كآلة زجاج.. يرسلان نظرات بلا معنى.. وقال لي الأب وهو حزين.. إنه يريد مني أن أتصل بابني وهو طبيب أمراض عصبية ونفسية، ويعمل في "دار الاستشفاء للأمراض النفسية والعصبية بالعباسية" لكي يجد لها مكاناً في الدرجة الأولى.
كانت الأم تبكي وهي نادمة تعترف بآثامها.. وكيف أنها بإصرارها على علاج ابنتها عند المشايخ، وبالجري والطواف حول الأضرحة، وضياع الوقت جعلت المرض يستفحل، ويهدم كل قدرة لابنتها على مقاومته.. واعترفت بأنها أخطأت في حق زوج ابنتها "إبراهيم الحران" واستفزته بإصرارها على الخطأ، ولكن عذرها أنها كان ضحية لجهلها، ولعشرات السيدات اللاتي كن يؤكدن لها.. أن تجاربهن مع المشايخ، والأضرحة والدجالين.. تجارب ناجحة، والمثل يقول: "اسأل مجرباً ولا تسأل طبيباً".
واستطعنا بفضل الله أن نجد لها مكاناً، وأن نلحقها في نفس اليوم بالدرجة الأولى، وقال لي ابني: إنها في حالة مطمئنة، ولا تدعو إلى اليأس.. كل ما في الأمر.. أن الإهمال جعلها تتفاقم.. وبعد مضي أسبوع واحد من العلاج.. تحسنت السيدة، وقد عولجت بالصدمات الكهربائية.. إلى جانب وسائل علاجية أخرى يعرفها المتخصصون، وخلال ذلك اتصل بي "إبراهيم الحران" فقلت له: إنني أريده في أمر هام، ولابد أن يزورني في البيت.. وحينما جاء شرحت له الأمر.. وقلت له: إن الأطباء يرون في استرداده لزوجته جزءاً من العلاج أيضاً.. ولكن لفت نظري فيه.. أنه بعد قراءته للكتب التي حصلت له عليها من الدكتور جميل غازي في التوحيد.. إنه أصبح إنساناً جديداً.. فالعبارات التي كانت تجري على لسانه من الأقسام تارة بالمصحف وتارة بالأنبياء، وتارة ببعض المشايخ قد اختفت نهائياً.. وعاد يمارس حياته بأسلوب الرجل الذي لا يعبد غير الله، ولا يخشى إلا الله، ولا يرجو سوى الله.. وحتى بعد أن حدثته في أن يعيد زوجته.. أصر على أن يجعل هذه العودة مشروطة.. بأن تقلع أم زوجته عن معتقداتها القديمة، وكذلك والد زوجته.. أما زوجته فقال إنه كفيل بها.. وعقدت بينهم جميعاً مجلساً لم ينقصه إلا الزوجة لأنها كانت بالمستشفى.. وقبلوا شروطه بعد هذا الدرس القاسي.
كان لزيارته لزوجته في المستشفى.. أكبر الأثر في شفائها، وزادت بهجتها حينما عرفت أنه أعادها إلى عصمته.. قال لي ابني الذي كان يشرف على علاجها.. إن عودتها إلى زوجها وزيارته لها كانت العلاج الحقيقي الذي عجل بشفائها.. لأن الفتاة وهي وحيدة أبويها.. حطمتها صدمة وفاة ابنها.. ثم قضت على البقية الباقية من عقلها صدمة طلاقها.. بعد شهر وعشرة أيام تقريباً تقرر خروجها، وكان ينتظرها زوجها ووالدها ووالدتها في سيارة على الباب رحلت بهم إلى الصعيد فوراً.
لم أستطع أن أنزع من نفسي بقايا هذه المأساة، ولم يكن من السهل أن أتغافل عن الخرافة التي تخرب أو تهدم كل يوم بل وكل لحظة عشرات النفوس والبيوت في عشيرتي، وأبناء ديني.. وعلى امتداد الوطن العربي كله.. ووجدتني أسال نفسي لماذا نحن الذين نعيش في الشرق الأوسط.. تمزقنا الخرافة، وتجثم على صدر مجتمعنا الخزعبلات.. فتمسك بنا وتعوقنا عن ممارسة الحضارة..
مع أن الغرب والمجتمع الأوروبي ليس خالياً من الخرافات، وليس خالياً من الخزعبلات، ومع ذلك فهم يعيشون في حضارة، ويمارسونها.. تدفع بهم ويدفعون بها دائماً إلى الأمام؟!
الواقع أن خزعبلاتهم، وخرافاتهم في مجموعها معادية للروح.. تدفع بهم إلى الانزلاق أكثر في الماديات، وهذا هو ما يتفق وحضارتهم.
أما هنا في الشرق.. فإن خرافاتنا معادية للعقل، وللمادة معاً.. ولهذا كانت خرافاتنا هي المسؤولة عن تدمير حياتنا.. في الحاضر والمستقبل وليس هناك من سبيل لخروجنا من هذا المأزق الاجتماعي، والحضاري سوى تنقية العقيدة مما ألصق بها، وعلق بها من الشوائب التي ليست من الدين في شيء.
فحينما يصبح "التوحيد" أسلوب حياة، وثقافة، وعقيدة.. سوف تختفي من أفقنا وإلى الأبد.. هذه الغيوم.. غيوم الخرافات، والدجل، والشعوذة، والكهانة التي لا تقوى على مواجهة الحق والحقيقة.
وتلك مسؤولية ينبغي أن تقوم بها أجهزة التربية المباشرة، وغير المباشرة، فإن ما نعيشه الآن هو صورة أسوأ مما قرأت في هذه الاعترافات، ولو أنك اخترت مائة أسرة كعينة عشوائية، وبحثت فيها لوجدت أن كل ما رويته لك في هذه الاعترافات لا يمثل إلا أقل القليل.
ولا يبقى بعد كل هذا إلا أن أزجي الشكر لصديقي الدكتور محمد جميل غازي.. وللسيد الأستاذ جابر مدخلي الأمين العام للتوعية الإسلامية في موسم الحج، وللسيد رئيس تحرير هذه المجلة، وكل العاملين فيها على ما بذلوه من جهد في إخراج هذه الصفحات إلى حيز الوجود..