نبذة يسيرة من سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
نبذة يسيرة من سيرة عمر بن الخطاب t
ههه
الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فهذه نبذة يسيرة جداً من سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t([1])؛ خليفة رسول اللَّه ﷺ الثاني، بإجماع المسلمين، وأفضل البشر بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وبعد أبي بكر t، فهو ثاني الخلفاء الراشدين، وقد قال النبي ﷺ في حقهم: «فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ»([2])، وهو الذي أثنى عليه النبي ﷺ بقوله: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ»([3])، وبشره النبي ﷺ بقصر في الجنة بقوله ﷺ: «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ فِيهَا دَارًا ، أَوْ قَصْرًا ، فَقُلْتُ : لِمَنْ هَذَا ؟ فَقَالُوا : لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ فَبَكَى عُمَرُ، وَقَالَ : أَيْ رَسُولَ اللهِ أَوَ عَلَيْكَ يُغَارُ؟»، وفي لفظ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا ؟ فَقَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَذَكَرْتُ غَيْرَةَ عُمَرَ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَبَكَى عُمَرُ»([4])، وهو الذي قال فيه النبي ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ»([5])،وهو الفاروق فرق الله به بين الحق والباطل»([6])، وهو من المحدَّثين؛ لقول النبي ﷺ: «قَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنْ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ» زَادَ زَكَرِيَّاءُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ سَعْدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ «لَقَدْ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رِجَالٌ يُكَلَّمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ فَإِنْ يَكُنْ مِنْ أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَعُمَرُ»([7])، ولفظ مسلم: «أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «قَدْ كَانَ يَكُونُ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهُمْ» قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: تَفْسِيرُ مُحَدَّثُونَ: مُلْهَمُونَ»([8]).ومن سبَّه، أو انتقص من حقه،فهو أضل من حمار أهله؛ لقول النبي ﷺ:«لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلَا نَصِيفَهُ»([9]).
ومن سيرته الجميلة الكريمة النماذج الآتية:
أولاً: ولادته، وأعماله، ووفاته:
ولد عمر بن الخطاب t بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة([10])، وأسلم بعد رجال سبقوه في السنة السادسة من النبوة، وله سبع وعشرون سنة، وقيل: ست وعشرون سنة، أسلم t بعد أربعين رجلاً وإحدى عشرة امرأة([11]).
فهو أحد السابقين الأولين، وكان إسلامه عزاً ظهر به الإسلام، ، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وثاني الخلفاء الراشدين، وأحد أصهار رسول اللَّه ﷺ، حيث زوّج رسول اللَّه ﷺ ابنته حفصة بنت عمر، وهو أحد كبار علماء الصحابة، وزهادهم([12]).
وقد اتفق العلماء على أن عمر شهد بدراً، وأحداً، وبيعة الرضوان، وكل مشهد شهده رسول اللَّه ﷺ، ولم يغب عن غزوة غزاها رسول اللَّه ﷺ، وتوفي رسول اللَّه ﷺ، وهو عنه راضٍ، وولي الخلافة بِعَهْدٍ من أبي بكر، وبويع له بها يوم مات أبو بكر t باستخلافه له في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة، وقد كثرت الفتوحات الإسلامية في خلافته، فقد فتح اللَّه له الفتوح بالشام، والعراق، ومصر([13])، ففي سنة أربع عشرة للهجرة فتحت: دمشق، وحمص، وبعلبك، والبصرة([14])، وهو الذي دوّن الدواوين فى العطاء، ورتب الناس فيه على سوابقهم، وكان لا يخاف فى اللَّه لومة لائم، وهو الذى نوَّر شهر الصوم بصلاة الإشفاع فيه [التراويح، فجمع الناس على إمام واحد]، وأرخ التاريخ من الهجرة الذى بأيدى الناس إلى اليوم بقصة مشهورة، وهو أوَّل من سُمِّي بأمير المؤمنين، فسار بأحسن سيرة وأنزل نفسه من مال اللَّه بمنزلة رجل من الناس([15])، وهو أول من اتخذ بيت المال، وأوّل من عسَّ بالليل، فطاف يتفقد أحوال الناس، وأول من عاقب على الهجاء، وأول من ضرب في الخمر ثمانين، وأول من نهى عن بيع أمهات الأولاد، وأول من جمع الناس في صلاة الجنائز على أربع تكبيرات، وأول من اتخذ الديوان، وأول من فتح الفتوح، ومسح السواد، وأول من حمل الطعام من مصر في بحر أيلة إلى المدينة، وأول من احتبس صدقة في الإسلام، وأول من أعال الفرائض، وأول من أخذ زكاة الخيل، وأول من قال: أطال اللَّه بقاءك، قاله لعليٍّ، وأول من قال: أيّدك اللَّه، قاله لعليٍّ، وهو أول من اتخذ الدرة، وقد قيل بعده: لَدرّة عمر أهيب من سيفكم، وهو أول من استقضى القضاء في الأمصار، وأول من مصر الأمصار: الكوفة، والبصرة، و الجزيرة، والشام، ومصر، والموصل، ومرّ علي بن أبي طالب على المساجد في رمضان، وفيها القناديل، فقال: نوّر اللَّه على عمر في قبره، كما نوّر علينا في مساجدنا، واتخذ دار الدقيق، فجعل فيها الدقيق، والسويق، والتمر، والزبيب، وما يحتاج إليه: يعين به المنقطع، ووضع فيما بين مكة والمدينة بالطريق ما يصلح من ينقطع به، وهدم المسجد النبوي، وزاد فيه، ووسعه، وفرشه بالحصباء، وهو الذي أخرج اليهود من الحجاز إلى الشام، وأخرج أهل نجران إلى الكوفة، وهو الذي أخر مقام إبراهيم إلى موضعه اليوم، وكان ملصقاً بالبيت([16])، وفي سنة خمس عشرة للهجرة فتحت الأردن كلها، وفيها كانت وقعة اليرموك لمشهورة، والقادسية، وفي سنة ست عشرة فتحت الأهواز، والمدائن، وفيها كانت وقعة جلولاء، وفيها أقيمت أول جمعة في العراق، وفيها فتحت تكريت، وفيها سار عمر وفتح بيت المقدس، وفيها فتحت حلب، وأنطاكية، وغيرها، وفي سنة سبع عشرة زاد عمر في المسجد النبوي، وفي سنة ثمان عشرة فتحت جنديسابور، وحلوان، وفيها فتحت الرها، وسميساط، وحران، ونصيبين، وطائفة من الجزيرة، والموصل ونواحيها، وفي سنة تسع عشرة فتحت قيسارية، وفي سنة عشرين فتحت مصر، وفيها فتحت تستر، وفيها هلك قيصر عظيم الروم، وفيها أجلى عمر اليهود عن خيبر، وعن نجران، وفي سنة إحدى وعشرين فتحت الإسكندرية، ونهاوند، وبرقة، وغيرها، وفي سنة اثنتين وعشرين فتحت أذربيجان، والدِّينَوَرُ، وماسبذان، وهمذان، وطرابلس المغرب، والري، وعسكر، وقومس، وفي سنة ثلاث وعشرين كان فتح كرمان، وسجستان، ومكران من بلاد الجبل، وأصبهان ونواحيها، وغيرها([17])، وفي آخر هذه السنة توفي عمر t شهيداً بعد رجوعه من الحج([18])، قتله أبو لؤلؤة المجوسي، وهويصلي بالناس في مسجد رسول اللَّه ﷺ صلاة الفجر t، فطعن لثلاث بقين من ذي الحجة، فعاش ثلاثة أيام، ويقال سبعة أيام، وعن معدان بن طلحة قال: قتل عمر يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وكانت ولايته عشر سنين وستة أشهر وخمسة أيام أو تسعة([19]).
ثانياً: موقفه في إظهار الإسلام وهجرته:
عندما أسلم عمر t على يد النبي × أراد أن يَعلم قريش بإسلامه، فسأل عن أنقلهم للحديث، لينقل خبر إسلامه إلى قريش، فقيل له: جميل بن معمر الجمحي، فذهب عمر t إلى جميل، وقال له: أعلمت يا جميل أنّي قد أسلمت، ودخلت في دين محمد؟ فقام جميل بن معمر يجر رداءه مُسرعاً حتى قام على باب المسجد، ثم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، ألا إن عمر بن الخطاب قد صبأ، فقال عمر وهو واقف خلفه: كذب، ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمداً عبده ورسوله ×، فثار عليه قريش من أنديتهم حول الكعبة، وقاتلهم وقاتلوه، واستمر القتال بينهم وبينه في هذا الموقف حتى قامت الشمس على رؤوسهم، وقد تعب عمر t فقعد وقاموا على رأسه، وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف باللَّه أن لو قد كنا ثلاثمائة رجل لتركناها لكم، أو لتركتموها لنا، وبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلّة حبرة، وقميص مُوشّح، حتى وقف عليهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: صبأ عمر، فقال: فمه، رجل اختار لنفسه أمراً فماذا تريدون؟ أترون بني عديّ بن كعب يسلمون لكم صاحبهم هكذا؟ خلُّوا عن الرجل! قال عبد اللَّه بن عمر: فواللَّه لكأنما كانوا ثوباً كشط عنه، قال: فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبت من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك، -جزاه اللَّه خيرا؟ - قال: يا بُنيَّ ذلك العاص بن وائل – لا جزاه اللَّه خيراً –([20]).
وبإسلام عمر وإظهاره إسلامه t أعز اللَّه به الإسلام، وفرّق به بين الحق والباطل، فسُمِّي الفاروق t وأظهر الصحابة صلاتهم حول الكعبة، وقريش ينظرون إليهم([21]).
قال عبد اللَّه بن مسعود t: «مازلنا أعزّة منذ أسلم عمر»([22]).
وقال t أيضاً: «كان إسلام عمر فتحاً، وهجرته نصراً، وإمارته رحمةً، واللَّه ما استطعنا أن نُصلّي حول البيت ظاهرين حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا نصلي»([23]).
وقد كان عمر t يتعرّض لرؤوس الكفر، ويعلن أمامهم إسلامه، بل يذهب إلى بيوتهم، ويطرق أبوابهم، ليخبرهم بأنه قد أسلم، لعلّهم يقومون بشيء ضدّه فيُصيبه ما يُصيب إخوانه من المسلمين، ويستطيع في الوقت نفسه أن ينتقم من تلك الرؤوس، ولم يُرد عمر أن يكون هو في نعمة وعافية وراحة، والمسلمون في إيذاء وتعذيب، فعندما أعلن إسلامه، وبدأت قريش تقاتله وثب على عتبة بن ربيعة فبرك عليه، وأدخل إصبعه في عينه، فجعل عتبة يصيح، فتنحى الناس عن عمر، وقام عمر، فجعل أحد لا يدنو منه إلا أخذ شريف من دنا منه، حتى تراجع الناس عنه([24]).
وعندما اشتد أذى المشركين على المسلمين، وأذن لهم رسول اللَّه × بالهجرة من مكة إلى المدينة، وابتدأت وفود المسلمين متجهة إلى المدينة وكلها مختفية في هجرتها وانتقالها، إلا هجرة عمر بن الخطاب t فقد رُوي عن علي بن أبي طالب t أنه قال: ما علمت أن أحداً من المهاجرين هاجر إلا مختفياً، إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه، وتنكب قوسه، وانتضى في يده أسهماً وأتى الكعبة، وأشراف قريش بفنائها، فطاف سبعاً متمكناً، ثم أتى المقام فصلى ركعتين، ثم أتى حلقهم، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة، فقال: شاهت الوجوه، من أراد أن تَثْكَله أمه وييتم ولده، وترمل زوجته، فليلقني خلف هذا الوادي، فما تبعه منهم من أحد([25]).
ثالثاً: موقفه الحكيم في تثبيته الناس على بيعة أبي بكر t
عقب وفاة النبي × «اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، فذهب عمر يتكلم، فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: واللَّه ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت كلاماً قد أعجبني، خشيت أن لا يبلغه أبو بكر، ثم تكلم أبو بكر، فتكلم أبلغ الناس، فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فقال حباب بن المنذر: لا واللَّه لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: لا، ولكنا الأمراء، وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب داراً، وأعربهم أحساباً، فبايعوا عمر، أو أبا عبيدة، فقال عمر: بل نبايعك أنت، فأنت سيدنا وخيرنا، وأحبنا إلى رسول اللَّه ×، فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس»([26]).
فرضي اللَّه عن عمر وأرضاه، فإنه عندما ارتفعت الأصوات في السقيفة وكثر اللَّغَطُ، وخشي عمر الاختلاف، ومن أخطر الأمور التي خشيها عمر أن يُبْدأ بالبيعة لأحد الأنصار، فتحدث الفتنة العظيمة؛ لأنه ليس من اليسير أن يبايع أحد بعد البدء بالبيعة لأحد الأنصار، فأسرع عمر t إخماداً للفتنة، فقال لأبي بكر: ابسط يدك، فبسط يده فبايعه، وبايعه المهاجرون، ثم الأنصار([27]).
وعندما كان يوم الثلاثاء جلس أبو بكر على المنبر، فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر، فحمد اللَّه وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس، إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت، وما وجدتها في كتاب اللَّه، ولا كانت عهداً عهده إليّ رسول اللَّه ×، ولكني قد كنت أرى أن رسول اللَّه × سيدبر أمرنا، يقول: يكون آخرنا، وإن اللَّه قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى اللَّه رسوله ×، فإن اعتصمتم به هداكم اللَّه لما كان هداه له، وإن اللَّه قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول اللَّه ×، ثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه، فبايع الناس أبا بكر بيعته العامة بعد بيعة السقيفة([28]).
فكان عمر t يذود ويقوي، ويشجع الناس على بيعة أبي بكر حتى جمعهم اللَّه عليه، وأنقذهم من الاختلاف والفرقة والفتنة.
فهذا الموقف الذي وقفه عمر مع الناس من أجل جمعهم على إمامة أبي بكر، موقف عظيم من أعظم مواقف الحكمة، التي ينبغي أن تسجل بماء الذهب من مواقف عمر الحكيمة.
رابعاً: موقفه الحكيم في إصلاح الأهل قبل الناس
كان عمر t مع أهله قوياً، فكان إذا أراد أن يأمر المسلمين بشيء أو ينهاهم عن شيء مما فيه صلاحهم ونجاحهم وفلاحهم، بدأ بأهله، وتقدم إليهم بالوعظ لهم، والوعيد على خلافهم أمره، فعن سالم بن عبد اللَّه بن عمر قال: «كان عمر إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شيء جمع أهله، فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأقسم باللَّه لا أجد أحداً منكم فعله إلا أضعفت عليه العقوبة»([29]).
وهذا من أعظم مواقف الحكمة؛ لأن الناس ينظرون إلى الداعية ومدى تطبيقه العملي والقولي لما يدعو إليه، كما ينظرون إلى تطبيقه ذلك على أهله ومن تحت يده.
خامساً: موقفه الحكيم في دعوته بتواضعه للَّه تعالى
كان عمر – رضي اللَّه عنه وأرضاه – مع قوته في دين اللَّه، وشجاعته، وشدته على أعداء اللَّه، وهيبة الناس له، وفرار الشيطان منه، كان مع ذلك كله متواضعاً، وقَّافاً عند حدود اللَّه، وقد كان يقول: أحبّ الناس إليّ من أهدى إليّ عيوبي([30]). ومن ذلك ما يلي:
1- عندما مر بالجابية على طريق إيلياء وجلس عندهم، قيل له: أنت ملك العرب، وهذه بلاد لا تصلح بها الإبل، فلو لبست شيئاً غير هذا – يعنون قميصه المرقع – وركبت برذوناً([31])، لكان ذلك أعظم في أعين الروم، فقال: نحن قوم أعزنا اللَّه بالإسلام، فلا نطلب غير اللَّه بديلاً.
ثم سار عمر من الجابية إلى بيت المقدس، وقد تعبت دابته، فأتوه ببرذون فجعل يهملج به، فقال: لمن معه: احبسوا، احبسوا، فنزل عنه، وضرب وجهه، وقال: لا علّم اللَّه من علّمك، هذا من الخيلاء، ما كنت أظن الناس يركبون الشياطين، هاتوا جملي، ثم نزل وركب الجمل، ثم لم يركب برذوناً قبله ولا بعده([32]).
2- ولما قدم عمر بن الخطاب t الشام عرضت له مخاضة، فنزل عن بعيره، ونزع خُفَّيه، وأمسكهما بيده، وخاض الماء ومعه بعيره، فقال له أبو عبيدة: قد صنعت اليوم صنعاً عظيماً عند أهل الأرض، صنعت كذا وكذا، فصك عمر في صدره، وقال: أوَّه، لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذَّل الناس، وأحقر الناس، وأقلّ الناس، فأعزكم اللَّه بالإسلام، فمهما تطلبوا العزة بغيره يُذلكم اللَّه([33]).
وله مواقف حكيمة في دعوته إلى اللَّه إلى اللَّه – تعالى – لا يتسع المقام لذكرها([34]).
وهذه المواقف العظيمة يبين فيها للناس بقوله وفعله أن العزة والرفعة والتمكين لا تأتي عن طريق الكبر، والغطرسة، والإعجاب بالنفس أو الجاه أو السلطان، وإنما يأتي ذلك كله لمن تمسك بالإسلام، ولهذا قال لأبي عبيدة في الخبر السابق: «إنكم كنتم أذلّ الناس، وأحقرَ الناس، وأقلّ الناس، فأعزكم اللَّه بالإسلام، فمهما تطلبوا العزة من غير اللَّه يذلّكم اللَّه».
رضي اللَّه عن الفاروق وأرضاه، وجزاه عن أمة محمد خير الجزاء، فقد قام بالأعمال العظيمة، وسلك مسلك الحكمة التي من أُوتيها فقد أُوتي خيراً كثيراً، ونفَّذ وصية رسول اللَّه × في المشركين، من: يهود، ونصارى، ومجوس، وغيرهم من المشركين، حيث قال × قُبيل موته: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب»([35]).
فطهَّر t جزيرة العرب من المشركين، ولم يترك أحداً منهم فيها، طبقاً لأمر رسول اللَّه ×.
فرضي اللَّه عنه وأرضا، وهذا غيض من فيض، وإلا فهو أفضل السابقين الأولين بعد أبي بكر t، وصلى اللَّه وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه أجمعين.
كتبه
سعيد بن علي بن وهف القحطاني
حرر في 7/11/ 1433هـ
([1]) انظر سيرته بالتفصيل في: سير أعلام النبلاء، للإمام الذهبي، مجلد سير الخلفاء الراشدين، ص 69- 145 (مؤسسة الرسالة).
([2]) أخرجه الإمام أحمد، برقم 17144، وأبو داود، برقم 4607، والترمذي، برقم 2676.
([3]) رواه البخاري، برقم 3294، ومسلم، برقم 2396.
([4]) رواه البخاري، برقم 5226، ورقم 3242، ومسلم، برقم 2394ـ 2395.
([5]) مسند الإمام أحمد، برقم 5145، وأبي داود، برقم 2964، والترمذي، برقم 3682، وصححها الألباني في صحيح الترمذي، برقم 2908.
([6]) طبقات ابن سعد، 3/ 270،
([7]) البخاري، برقم 3689.
([8]) مسلم، برقم 3298.
([9]) رواه البخاري، برقم 3673، ومسلم، برقم 2540.
([10]) تاريخ خليفة، ص 153، والاستيعاب لابن عبد البر، 3/ 1145.
([11]) الاستيعاب ، 3/ 1145.
([12]) مناقب عمر لابن الجوزي، ص 9، وص 89- 92، وتاريخ الخلفاء للسيوطي، ص 131- 133.
([13]) الاستيعاب ، 3/ 1145.
([14]) مناقب عمر لابن الجوزي، ص 9، وص 89- 92.
([15]) الاستيعاب ، 3/ 1145.
([16]) تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص 137.
([17]) انظر: تاريخ خليفة، ص 124- 151، و
([18]) تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص 137.
([19]) تاريخ خليفة، ص 152.
([20]) انظر: سيرة ابن هشام، 1/370، والبداية والنهاية لابن كثير، وقال: هذا إسناد جيد قوي، 3/82، وانظر بعض القصة في البخاري مع الفتح، 7/177، وانظر: قصة إسلام عمر في البداية والنهاية 3/79- 81، وسيرة ابن هشام، 1/364-371، وتاريخ الخلفاء للسيوطي، 109-115، وفتح الباري، 7/48، ومناقب عمر لابن الجوزي، ص12-18، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 3/121-125.
([21]) انظر: مناقب عمر بن الخطاب لابن الجوزي، ص18-19، وتاريخ الخلفاء للسيوطي، ص113-115، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 3/124، وفتح الباري شرح صحيح البخاري، 7/44.
([22]) البخاري مع الفتح، في كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر، 7/41، برقم 3684، ومناقب الأنصار، 7/177، برقم 3836.
([23]) ذكره ابن حجر في فتح الباري، 7/48، وعزاه إلى الطبراني وابن أبي شيبة، وذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء، ص115، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: <رجاله رجال الصحيح إلا أن القاسم لم يدرك جده ابن مسعود>، 9/62، وانظر: البداية والنهاية، 3/79.
([24]) انظر: التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 3/125، وأعلام المسلمين لخالد البيطار، 2/22، 23.
([25]) انظر: تاريخ الخلفاء للإمام السيوطي، ص115، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 3/125، وأعلام المسلمين، 2/25.
([26]) البخاري مع الفتح، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي × لو كنت متخذاً خليلاً، 7/20، (رقم 3668).
([27]) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 7/32، وسيرة ابن هشام، 4/339، والبداية والنهاية، 5/246، 6/301، وحياة الصحابة، 2/11، وتاريخ الخلفاء، ص51.
([28]) انظر: سيرة ابن هشام، 4/340، والبداية والنهاية، 5/248، 6/301، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 3/57.
([29]) انظر: تاريخ الأمم والملوك للإمام الطبري، 2/68، والكامل في التاريخ لابن الأثير، 3/31، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 3/404، وأعلام المسلمين للبيطار، 2/54.
([30]) انظر: مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي، ص154، وأعلام المسلمين لخالد البيطار، ص59.
([31]) البرذون: الدابة، ويطلق على غير العربي من الخيل والبغال. انظر: القاموس المحيط، باب النون، فصل الباء، ص1522، والمعجم الوسيط، مادة: برذن، 1/48، ومختار الصحاح، مادة (برذن)، ص18.
([32]) انظر: البداية والنهاية، 7/57، 7/60، 7/135، ومناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي، ص150، 151.
([33]) انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 7/60، وأعلام المسلمين لخالد البيطار، ص59، ومناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي، ص150.
([34]) ومن حصره على التواضع أنه كان يدرب نفسه عليه، ولذلك إذا أنكر نفسه أدبها وجازاها وخاطبها يخوفها بالله، فعن أنس t قال: كنت مع عمر، فدخل حائطاً لحاجته فسمعته يقول: - وبيني وبينه جدار الحائط –: <عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخ بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب، أو ليعذبنك>.
وقيل: إنه حمل قربة على عاتقه فقيل له في ذلك، فقال: إن نفسي أعجبتني فأردت أن أذلها. وكان يسمع الآية من القرآن فيغشى عليه فيحمل صريعاً إلى منزله، فيعاد أياماً ليس به مرض إلا الخوف من الله ﷻ، انظر: البداية والنهاية، 7/135.
وانظر مواقف له أخرى في: تاريخ الطبري، 2/567، 568، والكامل في التاريخ لابن الأثير، 3/30، ومناقب عمر بن الخطاب لابن الجوزي، ص69، والبداية والنهاية، 3/135، وحياة الصحابة للعلامة الكاندهلوي، 2/97.
([35]) البخاري مع الفتح، كتاب الجزية والموادعة، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب، 6/271، (رقم 3168)، ومسلم، كتاب الوصية، باب الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه (رقم 1637).