حكم سب الصحابة [ من أقوال الأئمة ]
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
حكم سب الصحابة [ من أقوال الأئمة ]
مجموعة من المؤلفين
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
إن ظاهرة سب الصحابة رضوان الله عليهم لم تكن وليدة اليوم ولا الأمس القريب وإنما تفشت وظهرت على حيز الوجود منذ مؤازرة ومناصرة أولئك الأخيار الأطهار للمصطفى ﷺ.
وإن الطعن في الصحابة طعن في النبي ﷺ حيث إنهم لم يستطيعوا الطعن في النبي ﷺ صراحة لئلا ينكشف أمرهم فعمدوا إلى تشويه سيرة أصحابة وتسويد صحائفهم البيضاء النقية ووضع المثالب فيهم ليقال أن النبي ﷺ رجل سوء ومن أجل ذلك صاحب أولئك الأشرار على حد زعمهم. وإن الذين يقودون حملة سب الصحابة قديماً وحديثاً ما هم إلا أراذل الناس عقلاً وديناً.
ومن المكابرة أن يزعم أولئك الطاعنون في الصحابة رضوان الله عليهم أنهم مسلمون مع أنهم يرمون زوجات النبي ﷺ بكبيرة الزنا وبعض أصحابه المقربين إليه بالشذوذ الجنسي والجشع المادي الدنيوي وإن صحبة الصحابة للنبي ﷺ ما هي إلا ستار لتحقيق مآربهم المادية والكيد به وبدعوته ﷺ.
عدالة الصحابة من القرآن الكريم:
كفى فخراً للصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أن الله سبحانه وتعالى اصطفاهم لصحبة نبيه عليه الصلاة والسلام وأن ذكرهم في القرآن الكريم باقٍ إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.
يقول الحق تبارك وتعالى واصفاً نبيه ﷺ وصحابته الأبرار:
)مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا(. [الفتح:29].
وقال جل جلاله مخبراً برضاه عن أولئك السابقين إلى الإسلام من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وإعداده لهم جنات فيها ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر عليه قلب بشر: )وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ([التوبة:100].
وقال تبارك وتعالى: ) الْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ( [الحشر:8، 9، 10].
وقال جل شأنه:
)وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ( [الأنفال:74].
وقال تعالى: )لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا( [الفتح:18].
وقوله تعالى: )لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ( [التوبة:117].
وقوله تعالى: ) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ( [آل عمران:110].
وقوله تعالى: )وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ( [البقرة:143].
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: « يأت على الناس زمان فيغزو فئام([1]) من الناس، فيقولون: فيكم من صاحب رسول الله ﷺ؟ فيقولون لهم: نعم، فيفتح لهم. ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: فيكم من صاحب أصحاب رسول الله ﷺ؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم. ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله ﷺ؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم»([2]).
وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه اثنين أو ثلاثاً. «ثم أن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن»([3]).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته»([4]).
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار».
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:«لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه»([5]).
وعن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله ﷺ:«اللهَ الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً من بعدي من أحبهم فقد أحبني، ومن أبغضهم فقد أبغضني ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذي الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه»([6]).
وقال ﷺ:«ما من أحد من أصحابي يموت بأرض إلا بعث قائداً من نور لهم يوم القيامة»([7]).
وعنه ﷺ: «إذا رأيتم الذين يسبون أصحابي, فقولوا لعنة الله على شركم»([8]).
وقال ﷺ: «النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتي السماء ما يوعد، وأنا أمنة أصحابي فإذا ذهبت أنا، أتي أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون»([9]).
وعن البراء بن عازب قال: قال رسول الله ﷺ: « من أحب الأنصار أحبه الله، ومن أبغض الأنصار أبغضه الله»([10]).
* * *
قول أئمة الإسلام في من سب الصحابة
أجمع علماء الإسلام على أن الصحابة عدول لا يجوز للمسلم أن ينتقضهم بل ذكر محاسنهم والإعراض عما شجر بينهم.
وقال الإمام أحمد: إذا رأيت أحداً يذكر أصحاب رسول الله ﷺ بسوء فاتهمه على الإسلام.
وقال إسحاق بن راهويه: من شتم أصحاب النبي ﷺ يعاقب ويحبس.
وقال الإمام مالك: من شتم النبي ﷺ قتل ومن سب أصحابه أدب.
وقال القاضي أبو يعلى: الذي عليه الفقهاء في سب الصحابة إن كان مستحلاً لذلك كفر وإن لم يكن مستحلاً فسق.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: من زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر نفساً أو أنهم فسقوا عامتهم فهذا لا ريب في كفره.
وقال أبو زرعة الرازي: إذا رأيت الرجل ينتقض أحدًا من أصحاب النبي ﷺ فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول ﷺ حق والقرآن الكريم حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة،وهؤلاء الزنادقة يريدون أن يجرحوا شهودنا؛ ليبطلوا الكتاب والسنة فالجرح بهم أولى.
* * *
ثناء أكابر أهل البيت على الشيخين
قال الإمام علي رضي الله عنه: لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلا جلدته حد المفتري.
وسأل رجل علياً رضي الله عنه:
نسمعك تقول في الخطبة: اللهم أصلحنا بما أصلحت به الخلفاء الراشدين المهديين، فمن هم:؟ فاغرورقت عيناه، فقال: هم حبيباي أبو بكر وعمر، إماما الهدى، وشيخا الإسلام، ورجلا قريش، والمقتدى بهما بعد رسول الله ﷺ، ومن اقتدى بهما عُصم ومن اتبع آثارهما هُدى الصراط المستقيم، ومن تمسك بهما فهو من حزب الله تعالى.
وسئل عبد الله الملقب بالنفس الزكية:
أتمسح على الخفين، فقال: أمسح فقد مسح عمر. فقال له السائل: إنما أسألك أنت تمسح. قال: ذلك أعجز لك, أخبرك عن عمر وتسألني عن رأيي, فعمر خير مني وملء الأرض مثلي.فقيل له: هذا تقية؟ فقال: نحن بين القبر والمنبر اللهم هذا قولي في السر والعلانية, فلا تسمع قول أحد بعدي ثم قال: من هذا الذي يزعم أن علياً كان مقهوراً وأن النبي ﷺ أمره بأمر فلم ينفذه فكفى بهذا إزراء ومنقصة له.
وجاء رجل إلى زين العابدين وقال له:
أخبرني عن أبي بكر، فقال: عن الصديق، فقال: وتسميه الصديق؟ فقال: ثكلتك أمك.. قد سماه«صديقاً»رسول الله ﷺ والمهاجرون والأنصار ومن لم يسميه «صديقاً»فلا صدق الله عز وجل قوله في الدنيا والآخرة، اذهب فأحب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما.
وقال لجعفر بن محمد: اللهم إني أتولى أبا بكر وعمر وأحبهما، اللهم إن كان في نفسي غير هذا, فلا نالتني شفاعة محمد يوم القيامة.
وجعفر الصادق أنه قال:
ما أرجو من شفاعة «علي»شيئاً إلا وأنا أرجو من شفاعة أبي بكر مثله.
وأتى محمد بن عبد الله الحسن قوم من أهل الكوفة والجزيرة فسألوه عن أبي بكر وعمر، فقال: إنهما عندي أفضل من علي.
وقال جعفر الصادق: من تبرأ من أبي بكر وعمر فأنا بريء منه.
وهذا قليل من كثير وغيض من فيض ولو أردنا استقصاء ما ورد من أكابر أهل البيت في الثناء على الشيخين رضي الله عنهما لطال بنا المقام.
وإنني أرجو من الله سبحانه وتعالى أن يهدي قوماً دان على قلوبهم التعصب الطائفي البغيض.
والله من وراء القصد وهو يهدي إلى سواء السبيل.
* * *
حكم سب الصحابة لابن حجر الهيثمي
أعلم أن الذي أجمع عليه أهل السنة والجماعة أنه يجب على كل مسلم تزكية جميع الصحابة بإثبات العدالة لهم، والكف عن الطعن فيهم والثناء عليهم، فقد أثنى الله سبحانه وتعالى عليهم في آيات من كتابه منها قوله تعالى: )كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ([آل عمران:110]. فأثبت الله تعالى لهم الخيرية على سائر الأمم، ولا شيء يعادل شهادة الله تعالى لهم بذلك؛ لأنه تعالى أعلم بعباده وما انطووا عليه من الخيرات وغيرها، بل لا يعلم ذلك غيره تعالى، فإذا شهد تعالى فيهم بأنهم خير الأمم وجب على كل أحد اعتقاد ذلك والإيمان به وإلا كان مكذباً لله تعالى في أخباره ولا شك أن من ارتاب في حقيقة شيء مما أخبر به الله تعالى أو رسول ﷺ كان كافراً بإجماع المسلمين، ومنها قوله تعالى: ) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ( [البقرة:143] والصحابة- رضوان الله عليهم أجمعين – في هذه الآية والتي قبلها هم المشافهون بهذه الخطاب على لسان رسول الله ﷺ حقيقة، فانظر إلى كونه تعالى خلقهم عدولاً وخياراً؛ ليكونا شهداء على بقية الأمم يوم القيامة، وحينئذ فكيف يستشهد الله تعالى بغير عدول أو بمن ارتدوا بعد وفاة نبيهم ﷺ إلا نحو ستة أنفس منهم كما زعمته الرافضة قبحهم الله ولعنهم وخذلهم، ما أحمقهم وأجهلهم وأشهدهم بالزور والافتراء والبهتان!!
ومنها قوله تعالى: ) يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( [التحريم:8].
فأمنهم الله تعالى من خزيه ولا يأمن خزيه في ذلك اليوم إلا الذين ماتوا والله سبحانه وتعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام عنهم راض. فآمنهم من الخزي الصريح لهم من أعظم الأدلة على كمال وحقائق الإحسان وأن الله تعالى لم يزل راضياً عنهم حيث يقول الحق تبارك وتعالى: ) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا( [الفتح:18].
فصرح الله تعالى برضاه على أولئك الأصحاب رضوان الله عليهم أجمعين، وهم ألف ونحو أربعمائة، ومن رضي عنه تعالى لا يمكن أن يموت على الكفر؛ لأن العبرة بالوفاء على الإسلام، وإن الرضا من الله تعالى لا يقع إلا على من علم موته على الإسلام، وأما من علم موته على الكفر فلا يمكن أن يخبر الله تعالى بأنه راض عنهم، فعلم أن كلا من هذه الآية وما قبلها رد صريح فيما زعمه وافتراه أولئك الملحدون الجاحدون حتى للقرآن العزيز؛ إذ يلزم من الإيمان به الإيمان بما فيه، وقد علمت أن الذي فيه أنهم خير الأمم وأنهم عدول خيار وأن الله تعالى لا يخزيهم وأنه رضي عنهم فمن لم يصدق بذلك فيهم فهو مكذب لما في القرآن ومن كذب بما فيه مما لا يحتمل التأويل كان كافراً جاحداً ملحداً مارقاً. ومنها قوله تعالى: ) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( [التوبة:100].
وقوله تعالى: )لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ( [الحشر:8-10].
فتأمل ما وصفهم الله تعالى في هذه الآيات تعلم به ضلال من طعن فيهم من شذوذ المبتدعة ورميهم بما هم بريئون منه. ومنها قوله تعالى: ) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا( [الفتح:29].
فانظر إلى عظيم ما اشتملت عليه هذه الآية، فإن قوله تعالى )مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ( جملة مبينة للمشهود به في قوله تعالى: ) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ( [التوبة:33] ففيها ثناء عظيم على رسوله ثم ثنى بالثناء على أصحابه-رضوان الله عليهم- بقوله: )وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ( وقوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ( [المائدة:54].
فوصفهم الله تعالى بالشدة والغلظة على الكفار، وبالرحمة والبر والعطف على المؤمنين والذلة والخضوع لهم، ثم أثنى عليهم بكثرة الأعمال مع الإخلاص وسعة الرجاء في فضل الله تعالى ورحمته بابتغائهم فضله ورضوانه، وبأن آثار ذلك الإخلال وغيره من أعمالهم الصالحة ظهرت في وجوههم حتى إن من نظر إليهم بهره حسن سمتهم وهديهم، ومن ثم قال الإمام مالك رضي الله عنه: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة- رضوان الله عليهم- الذين فتحوا الشام، قالوا: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا.
وقد صدقوا في ذلك فإن هذه الأمة المحمدية خصوصاً الصحابة –رضوان الله عليهم- لم يزل ذكرهم معظماً في الكتب. كما قال تعالى: )ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا( [الفتح:29].
فكذلك أصحاب محمد ﷺ آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطء مع الزرع؛ ليغيظ بهم الكفار. ومن هذه الآية أخذ الإمام مالك في رواية عنه بكفر الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم أجمعين حيث يقول: لأن الصحابة يغيظونهم ومن غاظه الصحابة فهو كافر.
وهو مأخذ حسن يشهد له ظاهر الآية ومن ثم وافقه الشافعي رضي الله تعالى عنهما في قوله بكفرهم، ووافقه أيضاً جماعة من الأئمة أمثال الإمام أحمد بن حنبل والقاضي أبو يعلى وشيخ الإسلام ابن تيمية.
ويكفيهم شرفاً أي شرف ثناء الحق تبارك وتعالى عليهم في الآيات السابقة حيث ذكر تعالى رضاه عنهم ووعده إياهم جميعاً بالمغفرة والأجر العظيم ووعد الله صدق وحق لا يتخلف ولا يخلف لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم.
ولو لم يرد من الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فيهم شيء مما سبق لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد ونصرة الإسلام وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين القطع بتعديلهم والاعتقاد بنزاهتهم وأنهم أفضل من جميع الجائين بعدهم، والمعدلين الذين يجيئون من بعدهم، هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتمد قوله، ولم يخالف فيه إلا شذوذ من المبتدعة الذين ضلوا وأضلوا, فلا يلتفت إليهم ولا يعول عليهم.
وقد قال إمام عصره أبو زرعة الرازي من أجل شيوخ البخاري: إذا رأيت الرجل ينتقض أحدًا من أصحاب رسول الله ﷺ فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول ﷺ حق والقرآن الكريم حق وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة، فمن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب والسنة، فيكون الجرح بهم ألصق، والحكم عليهم بالزندقة والضلالة والكذب والفساد هو الأقوم الأحق.
وقال ابن حزم: الصحابة كلهم من أهل الجنة قطعاً، قال تعالى: )لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى( [الحديد:10] وقال تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ( [الأنبياء:101] فثبت أن جميعهم من أهل الجنة وأنه لا يدخل أحد منهم النار؛ لأنهم المخاطبون بالآية الأولى التي أثبتت لكل منهم الحسنى وهي الجنة، ولا يتوهم أن التقييد بالإنفاق أو القتال فيها وبالإحسان في الذين اتبعوهم بإحسان يخرج من لم يتصف بذلك منهم لأن تلك القيود خرجت مخرج الغالب فلا مفهوم لها على أن المراد من اتصف بذلك ولو بالقوة أو العزم.
ثم الصحابة أصناف فمنهم المهاجرين والأنصار، ومن أسلم يوم الفتح أو بعده، فأفضلهم إجمالاً المهاجرون فمن بعدهم على الترتيب المذكور، وأما تفضيلاً فسباق الأنصار أفضل من جماعة مستأخري المهاجرين وسباق المهاجرين أفضل من سباق الأنصار ثم هم بعد ذلك يتفاوتون، قرب متأخر إسلاماً أفضل من متقدم كبلال.
وقال أبو منصور البغدادي: أجمع أهل السنة أن أفضل الصحابة أبو بكر فعمر فعثمان فعلي فبقية العشرة المبشرين بالجنة فأهل بدر فباقي أهل أحد فباقي أهل بيعة الرضوان بالحديبية فباقي الصحابة.
ويجب الإمساك عما وقع بينهم من الاختلاف صفحاً عن أخبار المؤرخين لا سيما جهلة الروافض، وضلال الشيعة والمبتدعين القادحين في أحد منهم.
* * *
حكم سب الصحابة لشيخ الإسلام ابن تيمية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين.
أما بعد...
من سب أحداً من أصحاب رسول الله ﷺ من أهل بيته وغيرهم, فقد أطلق الإمام أحمد أنه يضرب ضرباً نكالاً وتوقف عن قتله وكفره.
قول أبو طالب: سألت أحمد عمن شتم أصحاب النبي ﷺ قال: القتل أجبن عنه ولكن أضربه ضرباً نكالاً. وقال عبد الله: سألت أبي عمن شتم أصحاب النبي ﷺ قال: أرى أن يضرب قلت له حد ؟ فلم يقف على الحد إلا أنه قال: يضرب. وقال: ما أراه على الإسلام. وقال سالت أبي: من الرافضة ؟ فقال: الذي يشتمون أو يسبون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال في الرسالة التي رواها أبو العباس أحمد بن يعقوب الاصطخري وغيره: وخير الأمة بعد النبي ﷺ أبو بكر وعمر بعد أبي بكر، وعثمان بعد عمر، وعلي بعد عثمان، ووقف قوم وهم خلفاء راشدون مهديون ثم أصحاب رسول الله ﷺ بعد هؤلاء الأربعة خير الناس لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساوئهم ولا يطعن أحدًا منهم بعيب ولا نقص فمن فعل ذلك فقد وجب تأديبه وعقوبته ليس له أن يعفو عنه بل يعاقبه ويستتبه فإن تاب قُبل منه، وإن ثبت أعاد عليه العقوبة وخلده في الحبس حتى يموت أو يراجع.
وحكى الإمام أحمد هذا عمن أدركه من أهل العلم وحكاه الكرماني عنه وعن إسحاق والحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم. وقال الميموني: سمعت أحمد يقول ما لهم وما لمعاوية نسال الله العافية، وقال لي يا أبا الحسن إذا رأيت أحداً يذكر أصحاب رسول الله ﷺ بسوء فاتهمه على الإسلام, فقد نص رضي الله عنه على وجوب تعزيزه واستتابته حتى يرجع بالحد وإن لم ينتبه حبس حتى يموت أو يرجع، وقال: ما أراه على الإسلام، وقال: واتهمه على الإسلام، وقال: أجبن عن قتله.
وقال إسحاق بن راهوية: من شتم أصحاب النبي ﷺ يعاقب ويحبس وهذا قول كثير من أصحابنا؛ منهم ابن أبي موسى قال: ومن سب السلف من الروافض فليس بكفُؤ ولا يزوج، ومن رمى عائشة رضي الله عنها بما برَّأها الله منه فقد مرق من الدين، ولم ينعقد له نكاح مسلمة إلا أن يتوب ويظهر توبته، وهذا في الجملة قول عمر بن عبد العزيز وعاصم الأحول وغيرهما من التابعين.
قال الحارث بن عتبة: إن عمر بن عبد العزيز أتى برجل سب عثمان فقال: ما حملك على أن تسبه؟ قال: أبغضه. قال: وإن أبغضت رجلاً سببته قال: فأمر به فجلد ثلاثين سوطاً. قال إبراهيم بن ميسرة: ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنساناً قط إلا رجل شتم معاوية فضربه أسواطاً (رواهما اللالكائي). وقد تقدم عنه أنه كتب في رجل سبه لا يقتل إلا من سب النبي ﷺ، ولكن أجلده فوق رأسه أسواطاً لولا أني رجوت أن ذلك خيراً له لم أفعل.
وروى الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا عاصم الأحول قال: أتيت برجل قد سب عثمان قال فضربته عشرة أسواط, قال: ثم عاد لما قال, فضربته عشرة أخرى, قال: فلم يزل يسبه حتى ضربته سبعين سوطاً. وهو المشهور من مذهب مالك، قال مالك: من شتم النبي ﷺ قُتل ومن سب أصحابه أُدب. وقال عبد الملك بن حبيب: من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان والبراءة من أدب أدباً شديداً أو من زاد على بغض أبي بكر وعمر فالعقوبة عليه أشد ويكرر ضربه ويطال سجنه حتى يموت، ولا يبلغ القتل إلا في سب من بعد النبي ﷺ.
وقال القاضي أبو يعلى الذي عليه الفقهاء في سب الصحابة: إن كان مستحلاً لذلك كفر وإن لم يكن مستحلا فسق ولم يكفر سواء كفرهم أو طعن في دينهم مع إسلامهم وقد قطع طائفة من الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم بقتل من سب الصحابة وكفر الرافضة.
قال محمد بن يوسف الفريابي: وسئل عمن شتم أبا بكر قال: كافر, قيل: فيصلي عليه قال: لا. وسأله كيف يصنع به وهو يقول "لا إله إلا الله" قال: لا تمسوه بأيديكم ادفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته.
وقال أحمد بن يونس: لو أن يهودياً ذبح شاه وذبح رافضي شاه لأكلت ذبيحة اليهودي ولم آكل ذبيحة الرافضي؛ لأنه مرتد عن الإسلام. وكذلك قال أبو بكر بن هانئ: لا تؤكل ذبيحة الروافض والقدرية كما لا تؤكل ذبيحة المرتد مع أنه تؤكل ذبيحة الكتابي؛ لأن هؤلاء يقامون مقام المرتد، وأهل الذمة يقرون على دينهم ويؤخذ منهم الجزية. وكذلك قال عبد الله بن إدريس من أعيان أئمة الكوفة: ليس لرافضي شفعة إلا لمسلم.
وقال فضيل بن مرزوق: سمعت الحسن بن الحسن يقول لرجل من الرافضة: والله إن قتلك لقربة إلى الله، وما أمتنع عن ذلك إلا بالجواز، وفي رواية قال: رحمك الله قذفت إنما تقول هذا تمزح، قال لا والله ما هو بالمزاح ولكنه الجد، قال وسمعته يقول: لئن أمكننا الله منكم لنقطعن أيديكم وأرجلكم.
وصرح جماعات من أصحابنا بكفر الخوارج المعتقدين البراءة من علي وعثمان وبكفر الرافضة المعتقدين لسب جميع الصحابة الذين كفروا الصحابة وفسقوهم وسبوهم.
وقال أبو بكر عبد العزيز في المقنع: فأما الرافضي, فإن كان يسب فقد كفر فلا يزوج. ولفظ بعضهم وهو الذي نصره القاضي أبو يعلى: إنه إن سبهم سباً يقدح في دينهم وعدالتهم كفر بذلك، وإن سبهم سباً لا يقدح مثل أن يسب أبا أحدهم أو يسبه سباً يقصد به غيظه ونحو ذلك لم يكفر.
قال أحمد في رواية أبي طالب في الرجل يشتم عثمان هذا زندقة.
وقال في رواية المروزي من شتم أبا بكر وعمر وعائشة ما أراه على الإسلام وقال القاضي أبو يعلى: فقد أطلق القول فيه أنه يكفر بسبه لأحد من الصحابة وتوقف في رواية عبد الله وأبي طالب عن قتله وكمال الحد وإيجاب التعزيز يقتضي أنه لم يحكم بكفره. قال فيحتمل أنه يحمل قوله ما أراه على الإسلام إذا استحل سبهم بأنه يكفر بلا خلاف، ويحمل إسقاط القتل على من لم يستحل ذلك فعله مع اعتقاده لتحريمه كمن يأتي المعاصي، قال ويحتمل قوله ما أراه على الإسلام سب يطعن في عدالتهم نحو قوله ظلموا وفسقوا بعد النبي ﷺ، وأخذوا الأمر بغير حق، ويحمل قوله في إسقاط القتل على سب لا يطعن في دينهم نحو قوله كان فيهم قلة علم وقلة معرفة بالسياسة والشجاعة، وكان فيهم شح ومحبة للدنيا ونحو ذلك، قال: ويحتمل أن يحمل كلامه على ظاهرة فتكون في سابهم روايتان: أحداهما يكفر، والثانية يفسق. وعلى هذا استقر قول القاضي وغيره حكماً في تكفيرهم روايتين. قال القاضي ومن قذف عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه كفر بلا خلاف، ونحن نرتب الكلام في فصلين:
أحدهما في سبهم مطلقاً، والثاني في تفصيل أحكام الساب.
أما الأول: فسب أصحاب رسول الله ﷺ حرام بالكتاب والسنة. أما الأول: فلأن الله سبحانه يقول: )وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا( وأدنى أحوال الساب لهم أن يكون مغتاباً. وقال تعالى: )وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا(. وهم صدور المؤمنين فإنهم هم المواجهون بالخطاب في قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا( حيث ذكرت ولم يكتسبوا ما يوجب آذاهم، لأن الله سبحانه وتعالى رضي عنهم رضي مطلقاً بقوله: )وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ( فرضي الله عن السابقين من غير اشتراط إحسان ولم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان. قال تعالى: )لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ( والرضا من الله صفة قديمة فلا يرضى إلا عن علم أنه يوافيه على موجبات الرضا ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبداً وقوله تعالى: )إِذْ يُبَايِعُونَكَ(، سواء كانت ظرفاً محضاً أو كانت ظرفاً فيها معنى التعليل فإن ذلك لتعلق الرضا بهم فإنه يسمى رضا أيضاً كما في تعلق العلم والمشيئة والقدرة وغير ذلك من صفات الله سبحانه، وقيل بل الظرف يتعلق بجنس الرضا وإنه يرضى عن المؤمن بعد أن يطيعه ويسخط عن الكافر بعد أن يعصيه، ويحب من ابتع الرسول بعد أتباعه له وكذلك أمثال هذا، وهذا قول جمهور السلف وأهل الحديث، وكثير من أهل الكلام وهو الأظهر، وعلى هذا فقد بين في موضع آخر أن هؤلاء الذين رضي الله عنهم هم من أهل الثواب في الآخرة يموتون على الإيمان الذين به يستحقون ذلك كما في قوله تعالى: )وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ( [التوبة:100]. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة». وأيضاً فكل من أخبر الله عنه أنه رضي عنه فإنه من أهل الجنة، وإن كان رضاه بعد إيمانه وعمله الصالح فإنه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه والمدح له فلو علم أنه يتعقب ذلك بما يسخط الرب لم يكن من أهل ذلك وهذا كما في قوله تعالى: )يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي( [الفجر: 27-30] ولأنه سبحانه وتعالى قال: )لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ( [التوبة: 117]. وقال سبحانه وتعالى: )وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ( [الكهف:28] وقال: )مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ(، وقال تعالى: )وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا(. وهم أول من وجه بهذا الخطاب فهم مرادون بلا ريب. وقال سبحانه وتعالى: )وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ( [الحشر:10]. فجعل سبحانه ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى للمهاجرين والأنصار والذين جاؤوا من بعدهم مستغفرين للسابقين وداعين الله أن لا يجعل في قلوبهم غلاً لهم فعلم أن الاستغفار لهم وطهارة القلب من الغل لهم أمر يحبه الله ويرضاه ويثنى على فاعله كما أنه قد أمر بذلك رسوله في قوله تعالى: ) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ( [محمد:19]. وقال تعالى: )فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ( [آل عمران:159].
ومحبة الشيء وكراهته لضده فيكون الله سبحانه يكره السب لهم الذي هو ضد الاستغفار، والبغض لهم الذي هم ضد الطهارة، وهذا معنى قول عائشة رضي الله عنها أمروا بالاستغفار لأصحاب محمد فسبوه (رواه مسلم).
وعن مجاهد عن ابن عباس قال: لا تسبوا أصحاب محمد ﷺ فإن الله قد أمر بالاستغفار لهم. وقد علم أنهم سيقتتلون (رواه الإمام أحمد).
وعن سعد بن أبي وقاص قال: الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان وبقيت واحدة فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت قال ثم قرأ )لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ( فهؤلاء المهاجرون وهذه منزلة قد مضت.
)وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ( إلى قوله: )وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ( قال هؤلاء الأنصار وهذه منزلة قد مضت. ثم قرأ )وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ( إلى قوله )رَحِيمٌ(. قد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت يقول: )إن تستغفروا لهم( ولأن من جاز سبه بعينه أو بغيره لم يجز الاستغفار له كما لا يجوز الاستغفار للمشركين لقوله تعالى: )مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ( [التوبة:113]، وكما لا يجوز أن يستغفر لجنس العاصين مسمين باسم المعصية؛ لأن ذلك لا سبيل إليه, ولأنه شرع لنا أن نسأل الله أن لا نجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا والسب باللسان أعظم من الغل الذي لا سب معه ولو كان الغل عليهم والسب لهم جائزاً ألم يشرع لنا أن نسأله ترك ما لا يضر فعله، ولا وصف مستحق الفيء بهذه الصفة كما وصف السابقين بالهجرة والنصر فعلم أن ذلك صفة لمؤثر فهم، ولو كان السب جائزاً لم يشترط في استحقاق الفيء ترك أمر جائز كما لا يشترط ترك سائر المباحات بل ولم يكن الاستغفار لهم واجباً لم يكن شرطاً في استحقاق الفيء لا يشترط فيه ما ليس بواجب بل هذا دليل على أن الاستغفار لهم داخل في عقد الدين وأصله.
وأما السنة ففي الصحيحين عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:«لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه». وفي رواية لمسلم واستشهد بها البخاري قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد. فقال رسول الله ﷺ «لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه». وفي رواية للبرقاني في صحيحه: «لا تسبوا أصحابي، دعوا لي أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه»والأصحاب جمع صاحب، والصاحب اسم فاعل من صحبه يصحبه وذلك يقع على قليل الصحابة وكثيرها؛ لأنه يقال صحبته ساعة وصحبته شهراً وصحبته سنة، قال الله تعالى: )وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ( [النساء:36]. وقد قيل هو الرفيق في السفر وقيل هو الزوجة، ومعلوم أن صحبة الرفيق وصحبة الزوجة قد تكون ساعة فما فوقها وقد أوصى الله به إحساناً مادام صاحباً، وفي الحديث عن النبي ﷺ «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره».
وقد دخل في ذلك قليل الصحبة وكثيرها وقليل الجوار وكثيره، وكذلك قال الإمام أحمد وغيره: كل من صحب النبي ﷺ سنة أو شهر أو يوماً أو رآه مؤمناً به فهو من أصحابه له من الصحبة بقدر ذلك. فإن قيل: فلم نهى خالداً عن أن يسب أصحابه إذا كان من أصحابه أيضاً وقال: «لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدكم ولا نصيفه». قلنا: لأن عبد الرحمن بن عوف ونظراءه هم من السابقين الأولين الذين صحبوه في وقت كان خالد أو أمثاله يعادونه فيه وأنفقوا أموالهم قبل الفتح وقاتلوا وهم أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى فقد انفردوا من الصحابة بما لم يشركهم فيه خالد ونظراؤه ممن أسلم بعد الفتح الذي هو صلح الحديبية وقاتل، فنهى أن يسب أولئك الذين صحبوه قبله، ومن لم يصحبه قط نسبته إلى من صحبه كسبة خالد إلى السابقين وأبعد.
وقوله «لا تسبوا أصحابي» خطاب لكل أحد أن يسب من انفرد عنه بصحبته ﷺ وهذا كقوله ﷺ في حديث آخر: «أيها الناس إني قد أتيتكم فقلت إني رسول الله إليكم, فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت فهل أنت تاركو لي صاحبي فهل أنتم تاركو لي صاحبي»كما قال بأبي هو أمي ﷺ قال ذلك لمن عاير بعض الصحابة أبا بكر وذاك الرجل من فضلاء أصحابه، ولكن امتاز أبو بكر عنه بصحبته وانفرد بها عنه.
وعن محمد بن طلحة المدني عن عبد الرحمن بن سالم بن عتبة بن عويم بن ساعايدة عن أبيه عن جده. قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله اختارني واختار لي أصحاباً جعل لي منهم وزراء وأنصارا وأصهارا فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً» وهذا محفوظ بهذا الإسناد. وقد روى ابن ماجه بهذا الإسناد حديثاً، وقال أبو حاتم في تحديثه هذا محله الصدق يكتب حديثه ولا يحتج به على انفراده. ومعنى هذا الكلام أنه يصلح للاعتبار تحديثه والاستشهاد به فإذا عضده آخر مثله جاز أن يحتج به ولا يحتج به على انفراده. وعن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله ﷺ:«اللهَ الله في أصحابي تتخذوهم غرضاً من بعدي، من أحبهم فقد أحبني، ومن أبغضهم فقد أبغضني، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه».رواه الترمذي وغيره من حديث عبيدة بن أبي رائطة عن عبد الرحمن بن زياد عنه. وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وروى هذا المعنى من حديث أنس أيضاً ولفظه «من سب أصحابي فقد سبني ومن سبني فقد سب الله»(رواه ابن البناء) وعن عطاء بن أبي رباح عن النبي ﷺ: «لعن الله من سب أصحابي». رواه أبو أحمد الزبيري حدثنا محمد بن خالد عنه، وقد روى عنه ابن عمر مرفوعاً من وجه آخر، رواهما اللالكائي.
وقال علي بن عاصم: أنبأنا أبو قحذم.. حدثني أبو قلابة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا ذكر القدر فامسكوا وإذا ذكر أصحابي فامسكوا»، رواه اللالكائي، ولما جاء فيه من الوعيد قال إبراهيم النخعي: كان يقال شتم أبي بكر وعمر من الكبائر التي قال الله تعالى: ) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ( [النساء:31] وإذا كان شتمهم بهذه المشابة فأقل ما فيه التعزيز؛ لأنه مشروع في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة. وقد قال ﷺ: «أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً». وهذا مما لا نعلم فيه خلافاً بين أهل الفقه والعلم من أصحاب رسول الله ﷺ والتابعين لهم بإحسان وسائر أهل السنة والجماعة فإنهم مجمعون على أن الواجب الثناء عليهم والاستغفار لهم والترحم عليهم والترضي عنهم، واعتقاد محبتهم وموالاتهم وعقوبة من أساء فيهم القول ثم من قال: لا أقتل بشتم غير النبي ﷺ فإنه يستدل بقصة أبي بكر المتقدمة وهو أن رجلاً أغلظ له, وفي رواية شتمه فقال له أبو برزة: اقتله فانتهره وقال: ليس هذا لا حد بعد النبي ﷺ، وبأنه كتب على المهاجر بن أبي أمية أن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود كما تقدم، ولأن الله تعالى ميز بين مؤذي الله ورسوله ومؤذي المؤمنين فجعل الأول ملعوناً في الدنيا والآخرة، وقال في الثاني فقد احتمل بهتاناً وإثما مبيناً. ومطلق البهتان والإثم ليس بموجب للقتل، وإنما هو موجب للعقوبة في الجملة فتكون عليه عقوبة مطلقة ولا يلزم العقوبة جواز القتل ولأن النبي ﷺ قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان، أو رجل قتل نفساً فيقتل بها». ومطلق السب لغير الأنبياء لا يستلزم الكفر, لأن بعض من كان على عهد النبي ﷺكان ربما سب بعضهم بعضا ولم يكفر أحد بذلك ولأن أشخاص الصحابة لا يجب الإيمان بهم بأعيانهم فسب الواحد لا يقدح في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وأما من قال: يقتل الساب أو قال يكفر فلهم دلالات احتجوا بها، منها قوله تعالى: ) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ( إلى قوله ) لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ( فلابد أن يغيظ الكفار وإذا كان الكفار يغاظون بهم فمن غيظ بهم فقد شارك الكفار فيما أذلهم الله بهم وأخزاهم وكبتهم على كفرهم، ولا يشارك الكفار في غيظهم الذي كبتوا به جزاء لكفرهم إلا كافر؛ لأن المؤمن لا يكبت جزاء للكفر.
يوضح ذلك أن قوله تعالى: ) لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ (تعليق للحكم بوصف مشتق مناسب؛ لأن الكفر مناسب؛ لأن يغاظ صاحب فإذا كان هو الموجب؛ لأن يغيظ الله صاحبه بأصحاب محمد فمن غاظه الله بأصحاب محمد فقد وجد في حقه موجب ذاك وهو الكفر.
قال عبد الله بن إدريس الأودي الإمام: ما آمن أن يكونوا قد ضارعوا الكفار- يعني الرافضة- لأن الله تعالى يقول: ) لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ( وهذا معنى قول الإمام أحمد ما أراه على الإسلام. ومن ذلك ما روي عن النبي ﷺ: «من أبغضهم فقد أبغضني، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله»وقال: «فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً».
وأذى الله ورسوله كفر موجب للقتل كما تقدم، وبهذا يظهر الفرق بين أذاهم قبل استقرار الصحبة وأذى سائر المسلمين، وبين أذاهم بعد صحبتهم له فإنه على عهد قد كان الرجل ممن يظهر الإسلام يمكن أن يكون منافقاً ويمكن أن يكون مرتداً، فأما إذا مات مقيماً على صحبة النبي ﷺ وهو غير مزنون بنفاق فأذاه أذى مصحوبة. قال عبد الله بن مسعود: اعتبروا الناس بأقرانهم. وقالوا:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه | ||
فكل قرين بالمقارن يقتدي | ||
وقال مالك رضي الله عنه: إنما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي ﷺ فلم يمكنهم ذلك فقدحوا في أصحابه، حتى يقال رجل سوء ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين، أو كان قال وذلك أنه ما منهم رجلاً إلا كان ينصر الله ورسوله ويذب عن رسول الله ﷺ بنفسه وماله ويعينه على إظهار دين الله، وإعلاء كلمة الله، وتبليغ رسالات الله وقت الحاجة، وهو حينئذ لم يستقر أمره ولم تنتشر دعوته ولم تطمئن قلوب أكثر الناس بدينه ومعلوم أن رجلاً لو عمل به بعض الناس نحو هذا ثم أذاه أحد لغضب له صاحبه وعد ذلك أذى له.
وإلى هذا أشار ابن عمر قال نسير بن ذعلوق: سمعت ابن عمر رضي الله عنه يقول: (لا تسبوا أصحاب محمد فإن مقام أحدهم خير من عملكم كله)، رواه اللالكائي، وكأنه أخذه من قول النبي ﷺ «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهب ما بلغ مد أحدهم أو نصيفه». وهذا تفاوت عظيم ومن ذلك ما روى عن علي رضي الله عنه قال: (والذي فلق الحبة وبرا النسمة إنه لعهد النبي الأمي إلا أنه لا يحبك إلا مؤمنا ولا يبغضك إلا منافقا).رواه مسلم.
ومن ذلك ما خرجا في الصحيحين عن أنس أن النبي ﷺ قال: «آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار». وفي لفظه قال في الأنصار: «لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق».
وفي الصحيحين أيضاً عن البراء بن عازب عن النبي ﷺ: «لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق ومن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله».ولمسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «لا يبغض الأنصار رجل آمن بالله واليوم الآخر».وروى مسلم في صحيحه أيضاً عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر، فمن سبهم فقد زاد على بغضهم فيجب أن يكون منافقاً لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر».
وإنما خص الأنصار، والله أعلم؛ لأنهم هم الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين، وأووا رسول الله ﷺ، ونصروه، ومنعوه، وبذلوا في إقامة الدين النفوس والأموال، وعادوا الأحمر والأسود من أجله، وأووا المهاجرين وواسوهم في الأموال وكان المهاجرين إذ ذاك قيلا غرباء فقراء مستضعفين. ومن عرف السيرة أيام رسول الله ﷺ وما قاموا به من الأمر ثم كان مؤمناً يحب الله ورسوله لم يملك أن لا يحبهم كما أن المنافق لا يملك أن لا يبغضهم وأراد بذلك، والله أعلم، أن يعرف الناس قدر الأنصار لعلمه بأن الناس يكثرون والأنصار يقلون وأن الأمر سيكون من المهاجرين فمن شارك الأنصار في نصر الله ورسوله بما أمكنه فهو شريكهم في الحقيقة كما قال تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ( [الصف:14] فبغض من نصر الله ورسوله من أصحابه نفاق.
ومن هذا رواه طلحة بن مصرف قال: كان يقال بغض بني هاشم نفاق، وبغض أبي بكر وعمر نفاق، والشاك في أبي بكر كالشاك في السنة. ومن ذلك ما رواه كثير النواء عن إبراهيم بن الحسن بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ: «يظهر في أمتي في آخر الزمان قوم يسمون الرافضة يرفضون الإسلام هكذا»، رواه عبد الرحمن بن أحمد في مسند أبيه، وفي السنة من وجوه صحيحه عن يحيى بن عقيل حدثنا كثير ورواه أيضاً من حديث أبي شهاب عبد ربه بن نافع الخياط عن كثير النواء عن إبراهيم بن الحسن عن أبيه عن جده يرفعه قال: «يجيء قوم قبل الساعة يسمون الرافضة براء من الإسلام» وكثير النواء يضعفه.
وروى أبو يحيى الحماني عن أبي جناب الكلبي عن أبي سليمان الهمداني أو النخعي عن عمه عن علي قال: قال رسول الله ﷺ:«يا علي أنت وشيعتك في الجنة وإن قوماً لهم نبز يقال لهم الرافضة إن أدركتهم فاقتلهم فإنهم مشركون». قال على: ينتحلون حبنا أهل البيت وليسوا كذلك وآية ذلك أنهم يشتمون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، رواه عبد الله بن أحمد، حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا أبو يحيى ورواه أبو بكر الأثرم في سننه حدثنا معاوية بن عمر وحدثنا فضيل بن مرزوق عن أبي جناب عن أبي سليمان الهمداني عن رجل من قومه قال: قال علي رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «ألا أدلك على عمل إن عملته كنت من أهل الجنة وإنك من أهل الجنة إنه سيكون بعدنا قوم لهم نبز يقال لهم الرافضة فإن أدركتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون». قال :وقال علي رضي الله عنه: سيكون بعدنا قوم ينتحلون مدوتنا يكذبون علينا مارقة, آية ذلك أنهم يسبون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما.
ورواه أبو القاسم البغوى، حدثنا سويد بن سعيد حدثنا محمد بن حازم عن أبي جناب الكلبي عن أبي سليمان الهمداني عن علي رضي الله عنه قال: (يخرج في آخر الزمان قوم لهم نبز يقال لهم الرافضة يعرفون به وينتحلون شيعتنا وليسوا من شيعتنا, وآية ذلك أنهم يشتمون أبا بكر وعمر أينما أدركتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون).
وقال سويد حدثنا مروان بن معاوية عن حماد بن كيسان عن أبيه وكانت أخته سرية لعلي رضي الله عنه قال: سمعت علياً يقول: (يكون في آخر الزمان قوم لهم نبز يسمون الرافضة يرفضون الإسلام فاقتلوهم فإنهم مشركون). فهذا الموقف على علي رضي الله عنه شاهد في المعنى لذلك المرفوع.
وروى ابن بطة بإسناده عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: «اختارني واختار لي أصحابي فجعلهم أنصاري وجعلهم أصهاري وأنه سيجيء في آخر الزمان قوم يبغضونهم, ألا فلا تؤاكلوهم ولا تشاربوهم ألا فلا تناكحوهم ألا فلا تصلوا معهم ولا تصلوا عليهم, عليهم حلت اللعنة».
وفي هذا الحديث نظر، وأرى ما هو أغرب من هذا وأضعف، رواه ابن البناء عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تسبوا أصحابي فإن كفارتهم القتل». وأيضاً فإن هذا مأثور عن أصحاب النبي ﷺ فروى أبو الأحوص عن مغيرة عن شباك عن إبراهيم قال: بلغ علي بن أبي طالب أن عبد الله بن السوداء يبغض أبا بكر وعمر، فهمَّ بقتله فقيل له: تقتل رجلاً يدعو إلى حبكم أهل البيت فقال: لا يساكنني في دار أبداً. وفي رواية عن شباك قال: بلغ علياً أن ابن السوداء يبغض أبا بكر وعمر قال: فدعاه ودعا بالسيف أو قال فهمَّ بقتله، فكُلم فيه فقال: لا يساكنني ببلد أنا فيه فنفاه إلى المدائن. وهذا محفوظ عن أبي الأحوص وقد رواه النجاد وابن بطة واللالكائي وغيرهم ومراسيل إبراهيم جياد ولا يظهر عن علي رضي الله عنه أنه يريد قتل رجلاً إلا وقتله حلال عنده ويشبه، والله أعلم. أن يكون إنما تركه خوف الفتنة بقتله كما كان النبي ﷺ يمسك عن قتل بعض المنافقين، فإن الناس تشتتت قلوبهم عقب فتنة عثمان رضي الله عنه وصار في عسكره من أهل الفتنة أقوام لهم عشائر لو أراد الانتصار منهم لغضبت لهم عشائرهم وبسبب هذا وشبهه كانت فتنة الجمل.
وعن سلمة بن كهيل عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: قلت لأبي يا أبت لو كنت سمعت رجلاً يسب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالكفر أكنت تضرب عنقه، قال: نعم، رواهما الإمام أحمد وغيره، ورواه ابن عيينة عن خلف بن حوشب عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: قلت لأبي لو أتيت برجل يسب أبا بكر ما كنت صانعاً، قال: أضرب عنقه، قلت فعمر قال أضرب عنقه.
وعبد الرحمن بن أبزى من أصحاب النبي ﷺ أدركه وصلى خلفه وأقره عمر رضي الله عنه عاملاً على مكة وقال: هو ممن رفعه الله بالقرآن بعد أن قيل له أنه عالم بالفرائض قارئ لكتاب الله، واستعمله علي رضي الله عنه على خراسان. وروى قيس بن ربيع عن وائل بن البهي قال: وقع بين عبيد الله بن عمر وبين المقداد كلام فشتم عبيد الله المقداد فقال عمر: على بالحداد أقطع لسانه لا يجترئ أحد بعده بشتم أحد من أصحاب النبي ﷺ، وفي رواية فهمَّ عمر بقطع لسانه، فكلمه فيه أصحاب محمد ﷺفقال : ذروني أقطع لسان ابني لا يجترئ أحد بعده يسب أحداً من أصحاب محمد ﷺ، رواه حنبل وابن بطة واللالكائي وغيرهم.
ولعل عمر إنما كف عنه لما شفع فيه أصحاب الحق وهم أصحاب النبي ﷺ ولعل المقداد كان فيهم. وعن عمر بن الخطاب أنه أتى بأعرابي يهجو الأنصار فقال: لولا أن له صحبة لكفيتكموه. رواه أبو ذر الهروى، ويؤيد ذلك ما روى الحكم بن حجل قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلا جلدته حد المفتري.
وعن علقمة بن قيس قال: خطبنا علي رضي الله عنه فقال: إنه بلغني أن قوماً يفضلوني على أبي بكر وعمر ولو كنت تقدمت في هذا لعاقبت فيه ولكني أكره العقوبة قبل التقدم ومن قال شيئاً من ذلك فهو مفترٍ عليه ما على المفتري خير الناس كان بعد رسول الله ﷺ أبو بكر وعمر. رواهما عبد الله بن أحمد وروى ذلك بن بطة واللالكائي من حديث سويد بن غفلة عن علي في خطبة طويلة خطبها.
روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن ابن أبي ليلى قال: تداروا في أبي بكر وعمر فقال رجل من عطارد: عمر أفضل من أبي بكر، فقال الجارود بل أبو بكر أفضل منه. قال: فبلغ ذلك عمر فجعل يضربه ضرباً حتى شغر برجله ثم أقبل إلى الجارود : فقال إليك عني ثم قال عمر: أبو بكر كان خير الناس بعد رسول الله ﷺ في كذا وكذا، ثم قال عمر: من قال غير هذا أقمنا عليه ما نقيم على المفتري.
فإذا كان الخليفتان الرائدان عمر وعلي رضي الله عنهما يجلدان حد المفتري من يفضل علياً على أبي بكر وعمر، أو من يفضل عمر على أبي بكر مع أن مجرد التفضيل ليس فيه سب ولا عيب علم أن عقوبة السب عندهما فوق هذا بكثير.
* * *
(فصل)
في تفصيل القول فيهم أما من اقترن بسبه دعوى أن علياً أله أو أنه كان هو النبي وإنما غلط جبريل في الرسالة، فهذا لا شك في كفره، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره. وكذلك من زعم منهم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت أو زعم أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة، ونحو ذلك وهؤلاء يسمون القرامطة والباطنية، ومنهم التناسخية، وهؤلاء لا خلاف في كفرهم، وأما من سبهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن، أو قلة العلم أو عدم الزهد ونحو ذلك فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزيز ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من العالم، وأما من لعن وقبح مطلقاً فهذا محل الخلاف فيهم لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد، وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله ﷺ إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر نفساً أو أنهم فسقوا عامتهم فهذا لا ريب أيضاً في كفره؛ لأنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع من الرضا عنهم والثناء عليهم، بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين، فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار وفساق وأن هذه الآية هي ) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ(، وخيرها هو القرن الأول كان عامتهم كفاراً أو فساقاً ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم وأن سابقي هذه الأمة هم شرارها، وكفر هذا مما يعلم بالإضرار من دين الإسلام، ولهذا تجد عامة من ظهر عليه شيء من هذه الأقوال فإنه يتبين أنه زنديق وعامة الزنادقة إنما يستترون بمذهبهم، وقد ظهرت لله فيهم مثلات وتواتر النقل بأن وجوههم تمسخ خنازير في المحيا والممات وجمع العلماء ما بلغهم في ذلك.
وممن صنف فيه الحافظ الصالح أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي (كتابه في النهي عن سب الأصحاب وما جاء فيه من الإثم والعقاب) وبالجملة فمن أصناف السابة من لا ريب في كفره ومنهم من لا يحكم بكفره، ومنهم من تردد فيه، وليس هذا موضع الاستقصاء في ذلك وإنما ذكرنا هذه المسائل؛ لأنها من تمام الكلام في المسألة التي قصدنا لها، فهذا ما تيسر من الكلام في هذا الباب، ذكرنا ما يسر الله واقتضاه الوقت والله سبحانه يجعله لوجهه خالصاً وينفع به ويستعملنا فيما يرضاه من القول والعمل.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
* * *
حكم سب الصحابة لابن عابدين
الكافر بسب نبي من الأنبياء فإنه يقتل حداً ولا تقبل توبته مطلقاً، ولو سب الله تعالى قبلت لأنه حق الله تعالى، والأول حق عبد لا يزول بالتوبة، ومن شك في عذابه وكفره كفر، وتمامه في الدرر في فصل الجزية معزيا للبزازية، وكذا لو أبغضه بالقلب فتح أشباه.
وفي فتاوى المصنف: يجب إلحاق الاستهزاء والاستخفاف به لتعلق حقه أيضا. وفيها سئل عمن قال لشريف: لعن الله والديك ووالدي الذين خلفوك. فأجاب: الجمع المضاف يعم ما لم يتحقق عهد، خلافاً لأبي هاشم وإمام الحرمين كما في جمع الجوامع، وحينئذ فيعم حضرة الرسالة فينبغي القول بكفره، وإذا كفر بسبه لا توبة له على ما ذكره البزازي وتوارده الشارحون، نعم لو لوحظ قول أبي هاشم وإمام الحرمين باحتمال العهد فلا كفر، وهو اللائق بمذهبنا لتصريحهم بالميل إلى ما لا يكفر. وفيها: من نقص مقام الرسالة بقوله بأنه سبه ﷺ أو بفعله بأن بغضه بقلبه قتل حداً كما هو التصريح به، لكن صرح في آخر الشفاء بأن حكمه كالمرتد، ومفاده قبول التوبة كما لا يخفى، زاد المصنف في شرحه: وقد سمعت من مفتي الحنفية بمصر شيخ الإسلام ابن عبد العال أن الكمال وغيره تبعوا البزازي.
والبزازي تبع صاحب (السيف المسلول) عزاه إليه ولم يعزه لأحد من علماء الحنفية وقد صرح في النتف ومعين الحكام وشرح الطحاوي وحاوي الزاهدي وغيرها بأن حكمه كالمرتد ولفظ النتف من سب الرسول ﷺ فإنه مرتد، وحكمه حكم المرتد يفعل به ما يفعل بالمرتد انتهى، وهو ظاهر في قبول توبته كما مر عن الشفاء.اهـ.
قلت: وظاهر الشفاء أن قوله يا ابن ألف خنزير، أو يا ابن مائة كلب، وأن قوله لهاشمي لعن الله بني هاشم كذلك وأن شتم الملائكة كالأنبياء فليحرر.
ومن حوادث الفتوى ما لو حكم حنفي بكفره بسبب نبي هل للشافعي أن يحكم بقبول توبته، والظاهر: نعم؛ لأنها حادثة أخرى وإن حكم بموجبه نهر.
قلت: ثم رأيت في معروضات المفتي أبي السعود سؤالاً ملخصه: أن طالب علم ذكر عنده حديث نبوي فقال أكل أحاديث النبي ﷺ صدق يعمل بها. فأجاب بأنه يكفر أولاً بسبب استفهامه الإنكاري، وثانياً بإلحاقه الشين للنبي ﷺ، ففي كفره الأول من اعتقاده يؤمر بتجديد الإيمان فلا يقتل، والثاني يفيد الزندقة، فبعد أخذه لا تقبل توبته اتفاقاً فيقتل، وقبله اختلف في قبول توبته، فعند أبي حنيفة تقبل فلا يقتل، وعند بقية الأمة لا تقبل ويقتل حداً فلذلك ورد أمر سلطاني في سنة 944 لقضاء الممالك المحمية برعاية رأي الجانبين، بأنه إن ظهر صلاحه وحسن توبته وإسلامه لا يقتل، ويكتفى بتعزيره وحبسه عملاً بقول الإمام الأعظم وإن لم يكن من أناس يفهم خيرهم يقتل عملاً بقول الأئمة، ثم في سنة 995 تقرر هذا الأمر بآخر، فينظر القائل من رأي الفريقين هو فيعمل بمقتضاه.اهـ
وليكن التوفيق (أو) الكافر بسبب (الشيخين أو) بسبب (أحدهما) ([11]) في البحر عن الجوهرة معزياً للشهيد في سب الشيخين أو طعن فيهما كفر، ولا تقبل توبته، وبه أخذ الدبومسي وأبو الليث، وهو المختار الفتوى انتهى، وجزم به في الأشباه وأقره المصنف قائلاً: وهذا يقوي القول بعدم قبول توبته ساب الرسول ﷺ، وهو الذي ينبغي التعويل عليه في الإفتاء والقضاء رعاية لجانب حضرة المصطفى ﷺ أ.هـ، لكن في النهر وهذا لا جود له في أصل الجوهرة، وإنما وجد على هامش بعض النسخ، فألحق بالأصل مع أنه لا ارتباط له بما قبله انتهى.
([1]) أي جماعة.
([2]) رواه البخاري في باب الجهاد ص 76:«فضائل أصحاب النبي»، ومسلم: «فضائل الصحابة»ص208، وأحمد في مسنده: جـ3 ص7.
([3]) رواه البخاري في صحيحه: " فضائل أصحاب النبي" .
([4]) رواه البخاري: " فضائل أصحاب النبي " , ومسلم: فضائل الصحابة.
([5]) رواه البخاري "فضائل أصحاب النبي" ص5 ومسلم "فضائل الصحابة" ص221-22.
([6]) رواه الترمذي في «المناقب»ص58، وأحمد بن حنبل جـ4ص87.
([7]) رواه الترمذي في «المناقب»ص58.
([8]) رواه الترمذي في «المناقب»ص59.
([9])رواه مسلم: «فضائل الصحابة»ص207، ورواه أحمد بن حنبل جـ4 ص299.
([10]) رواه ابن ماجه:«مقدمة»ص11، وأحمد بن حنبل جـ2 ص501.
([11]) أقول: نعم نقل في البزازية عن الخلاصة أن الرافض إذا كان يسب الشيخين ويلعنهما فهو كافر، وإن كان يفضل علياً عليهما فهو مبتدعاً وهذا لا يستلزم عدم قبول التوبة. على أن الحكم عليه بالكفر مشكل، وفي الاختبار اتفق الأئمة على تضليل أهل البدع أجمع وتخطئتهم، وسب أحد من الصحابة وبغضه لا يكون كفراً، لكن يضلل...الخ.
وذكر في فتح القدير أن الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم ويكفرون الصحابة حكمهم عند جمهور الفقهاء وأهل الحديث حكم البغاة. وذهب بعض أهل الحديث إلى أنهم مرتدون.