مُرَاقَبَةُ اللهِ: حَقِيقَتُها، دَرَجَاتُها، علاقَتُها بالإيمانِ، طُرُق تَقْويةِ ترْسِيخِها
التصنيفات
الوصف المفصل
مُرَاقَبَةُ اللهِ: حَقِيقَتُها، دَرَجَاتُها، علاقَتُها بالإيمانِ، طُرُق تَقْويةِ ترْسِيخِها 23-1-1442
الحمدُ للهِ الرَّقيب الْمُطَّلعِ علينا، الْمُحْصِي علينا أعمالَنا، فلا تفوتُه لَفْتَةُ ناظِرٍ، ولا فَلْتةُ خاطِرٍ، أَحاطَ سَمْعُهُ بالْمَسْمُوعاتِ، وبَصَرُهُ بالْمُبْصَرَاتِ، وعِلْمُهُ بجميعِ الْمعلوماتِ الْجَلِيَّةِ والْخَفِيَّةِ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ الرَّقيبُ على ما دارَ في الْخَوَاطرِ، وما تحرَّكتْ بهِ اللَّواحِظُ، الْمُطَّلِعُ على ما أَكنَّتهُ الصُّدُورُ، القائمُ على كُلِّ نفْسٍ بما كَسَبَتْ، حَفِظَ الْمُخلوقاتِ وأَجْرَاهَا على أحْسِنِ نظامٍ وأكْمَلِ تدبيرٍ، الْحافظُ الذي لا يَغيبُ عنهُُ شيءٌ، فهوَ رَقِيبٌ عَلَينا، ناظِرٌ إلينا، سامعٌ لأقوالنا، مُطَّلِعٌ على أعَمَالِنا كُلَّ وقْتٍ وكُلَّ لَحْظَةٍ، وكُلَّ نَفَسٍ، وكُلَّ طَرْفَةِ عَيْنٍ، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُه أكْمَلُ العبادِ إسلاماً وإيماناً وإِحساناً، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وأصحابهِ وسلَّمَ تسليماً.
أما بعد: فيا أيها الناسُ اتقوا الله ( إن الله كان عليكم رقيبًا)
أيها المسلمون: إنَّ مُراقبةَ اللهِ مِن أَعْلَى أعمالِ القُلُوبِ، فما حقيقَتُها، وما دَرَجَاتُها، وما علاقَتُها بالإيمانِ، وما هيَ طُرُقُ تقويةِ ترسيخِها لديكَ أخي المسلم.
قال ابنُ القيِّم: (الْمُراقبَةُ تعريفُها: دَوَامُ عِلْمِ العبدِ وتَيَقُّنِهِ باطِّلاعِ الحقِّ سُبحانهُ وتعالى على ظاهِرِهِ وباطِنِهِ، فاستدامَتُهُ لهذا العِلْمِ واليقِينِ هيَ الْمُراقبَةُ، وهيَ ثَمَرَةُ عِلْمِهِ بأنَّ اللهَ سُبحانهُ رَقِيبٌ عليهِ، ناظِرٌ إليهِ، سامعٌ لقولِهِ، وهُوَ مُطَّلِعٌ على عَمَلِهِ كُلَّ وَقْتٍ وكُلَّ لَحْظَةٍ وكُلَّ نَفَسٍ وكُلَّ طَرْفَةِ عَيْنٍ) انتهى.
ومَعْنى الإحسان إذا اقترنَ بالإسلامِ والإيمانِ فإنه يُشيرُ إلى المراقبةِ وحُسنِ الطاعةِ، فإنَّ مَن راقَبَ اللهَ أحسَنَ عَمَلَه.
وأمَّا حقيقةُ المراقبةِ: قال الغزاليُّ: (هيَ ملاحظةُ الرَّقيبِ وانصرافُ الْهَمِّ إليهِ، فمَنِ احتَرَزَ مِن أمرٍ مِن الأُمورِ بسببِ غيرِه، يُقالُ إنه يُراقبُ فُلاناً، ويُراعي جانبَهُ، ويَعني بهذهِ المراقبةِ حالَةٌ للقلبِ يُثْمِرُها نوْعٌ مِن المعرفةِ، وتُثْمِرُ تِلكَ الحالَةُ أعمالاً في الجَوَارِحِ وفي القَلْبِ) انتهى.
وأمَّا دَرَجاتُها: فهي تنقسمُ إلى خمْسِ دَرَجاتٍ:
الأُولى: دَرَجَةُ الْحَيَاءِ مِن اللهِ تعالى التي تُوجب صيانةَ الظاهرِ والباطنِ: أشارَ الزجَّاجُ رحمه الله عند بيانِ معنى اسمِ اللهِ الرَّقيبِ: إلى أنَّ المراقبةَ هيَ الاستحياءُ، وأنَّ الحياءَ نوعٌ مِن التحفُّظِ، (قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «اسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ»، قالَ: قُلْنَا: يا رسولَ اللهِ إنا نَسْتَحْيي والحمدُ للهِ، قالَ: «لَيْسَ ذاكَ، ولَكِنَّ الاسْتِحْياءَ منَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ: أنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وما وَعَى، والبَطْنَ وما حَوَى، ولْتَذْكُرِ الْمَوْتَ والبِلَى، ومَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينةَ الدُّنيا، فَمَنْ فَعَلَ ذلكَ فقَدْ اسْتَحْيا منَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ») رواه الترمذيُّ وحسَّنه الفاكهانيُّ، وصحَّحه الحاكمُ ووافقهُ الذهبيُّ.
وإذا تَرَكْتَ عَمَلَ السيِّئةِ مِن أجلِ مُراقبتكَ للهِ، فإنَّ اللهَ يَكْتُبُها لَكَ حَسَنةً، قالَ اللهُ لملائكتهِ: (ارْقُبُوهُ فإنْ عَمِلَهَا فاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِها، وإنْ تَرَكَهَا فاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، إنما تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ) رواهُ مُسلمٌ.
الدَّرجةُ الثانيةُ: التعظيمُ والإجلال، فكُلَّما ازدادَ العبدُ قُرْباً مِن اللهِ ازدادَ تعظيماً له، فلا يبتغي سِوى مَرْضاتهِ، فيمتلأُ القلبُ مِن عَظَمةِ اللهِ وإجلالهِ، ويدلُّ عليهِ حديثُ الثلاثةِ الذينَ أخذهم الْمَطَرُ، (فَأَوَوْا إلى غارٍ في جَبَلٍ، فانْحَطَّتْ على فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فانْطَبَقَتْ عليهِم، فقالَ بعضُهُمْ لبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالاً عَمِلْتُمُوها صالحةً للهِ، فادْعُوا اللهَ تعالى بها، لَعَلَّ اللهَ يَفْرُجُها عنكُمْ)، فذَكَرَ الأوَّلُ مِنهُم: بِرَّهُ بوالديهِ، (وقالَ الآخَرُ: اللهُمَّ إنهُ كانتْ ليَ ابْنَةُ عَمٍّ أَحْبَبْتُها كأَشَدِّ ما يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، وطَلَبْتُ إليها نَفْسَها، فأَبَتْ حتَّى آتِيَهَا بمائةِ دِينَارٍ، فَتَعِبْتُ حتى جَمَعْتُ مِائةَ دِينَارٍ، فَجِئْتُها بها، فلَمَّا وَقَعْتُ بينَ رِجْلَيْها، قالتْ: يا عبْدَ اللهِ اتَّقِ اللهَ ولا تَفْتَحِ الخَاتَمَ إلاَّ بحَقِّهِ، فَقُمْتُ عنها، فإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أني فَعَلْتُ ذلكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فافْرُجْ لَنا مِنها فُرْجَةً فَفَرَجَ لَهُمْ)، وذكَرَ الثالثُ: مَوْقِفَهُ مِن الأجيرِ، ففَرَّجَ اللهُ عنهم، والحديثُ رَوَاهُ مُسلمٌ.
الدَّرَجةُ الثالثةُ: مَحَبَّةُ اللهِ، فهيَ تُنمِّي في النفسِ مُراقبةَ اللهِ، فيجدُ بها حلاوةَ الإيمانِ، وأمَّا مَن لم يَجد حلاوةَ الإيمانِ فليَتَّهِم نفْسَهُ، قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فيهِ وَجَدَ بهِنَّ حَلاوَةَ الإيمانِ: مَنْ كانَ اللهُ ورسُولُهُ أَحَبَّ إليهِ مما سِوَاهُما...) الحديثُ رواهُ مُسلمٌ.
قال ابنُ القيِّم: (وسَمعتُ شيخَ الإسلامِ ابنَ تيميةَ قدَّسَ اللهُ روحَهُ يقولُ: إذا لم تَجِدْ للعَمَلِ حلاوَةً في قَلْبكَ وانْشِراحاً، فاتَّهِمُهُ، فإنَّ الرَّبَّ تعالى شَكُورٌ، يَعني أنهُ لا بُدَّ أنْ يُثِيبَ العَامِلَ على عَمَلِهِ في الدُّنيا مِنْ حلاوَةٍ يَجِدُها في قَلْبهِ، وقُوَّةِ انْشِرَاحٍ وقُرَّةِ عَيْنٍ، فحيثُ لم يَجِدْ ذلكَ فَعَمَلُهُ مَدْخُولٌ) انتهى.
الدَّرَجةُ الرابعةُ: الخوفُ مِن اللهِ تعالى: فالخوفُ مِن اللهِ يُقوِّي مُراقَبَتَه، فيبتعدُ بذلكَ عن المعاصي، ويُقبلُ على الطاعاتِ، قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ، يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ...)، وذكَرَ مِنهُم: (ورَجُلٌ دَعَتْهُ امرأَةٌ ذاتُ مَنْصِبٍ وجَمَالٍ، فقالَ: إني أَخَافُ اللهَ) متفقٌ عليهِ.
الدَّرَجةُ الخامسةُ: رَجاءُ اللهِ تعالى: وهو طَمَعُكَ في حُصولِ ما تُحبُّ مِن اللهِ، وحُسْنُ ظَنِّكَ بهِ سُبحانَهُ، (قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: يقولُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي) الحديثُ رَوَاهُ مُسلمٌ.
إنَّ الحمدَ للهِ، نَحمَدُه ونستعينُه، مَن يَهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأنَّ مُحمَّداً صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عبدُه ورسولُه.
أمَّا بعدُ: فإنَّ ثَمَّةَ علاقة بينَ إيمانكَ باللهِ ومُراقبتهِ، علاقة تلازُمٍ، بحيثُ يكونُ تحقُّق الملزوم وهو الإيمان مُفضياً إلى تحقُّقِ اللازمِ وهو المراقبةُ، فإذا كان الإيمانُ ضعيفاً فإنَّ المراقبةَ ستكونُ ضعيفةً، فحينئذٍ يَقَعُ العبدُ في المخالفاتِ الشرعيَّةِ، قال اللهُ في سياقِ آياتِ الطلاقِ: ﱡﭐ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉﲊ ﲋﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﱠ ، فمراقبتُك للهِ وعِلْمُكَ بأنهُ يَعْلَمُ ما في نفْسِكَ يدعوكَ إلى أنْ تتَّقي اللهَ في طلاقكَ لزوْجِكَ، وقال تعالى: ﱡﭐ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴﱵ ﱶﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱠ ، وقال تعالى: ﱡﭐ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱠ ، فاستحضارُكَ لهذهِ الآياتِ يدعوكَ إلى مُراقبةِ الله تعالى في أعمالِكَ وأقوالِكَ ونيَّاتِكَ.
وأمَّا مجالاتُ تقويةِ وترسيخِ مُراقَبَتِكَ للهِ تعالى: فأَوَّلُها وأساسُها مَعْرِفَتُكَ للهِ، فكُلَّمَا زادت مَعْرِفَتُكَ للهِ زادت مُراقبَتُكَ لَهُ، قال تعالى: ﱡﭐ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲﲳﱠ ، ومنها: نظَرُكَ في الكَوْنِ بالتفكُّرِ في مخلوقاتهِ والتدبُّرِ في بديعِ صُنْعِهِ، ﱡﭐ ﲒ ﲓﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﱠ، ﱡﭐ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄﳅ ﳆ ﱠ ، ومنها: تأمُّلُكَ في أسماءِ اللهِ تعالى: ﱡﭐ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬﱭﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱠ ، قال ابنُ القيِّم: (الْمُراقَبَةُ هيَ التَّعَبُّدُ باسْمِهِ الرَّقِيبِ، الحَفِيظِ، العليمِ، السميعِ، البصيرِ، فَمَنْ عَقَلَ هذهِ الأسماءَ، وتَعَبَّدَ بمُقْتَضاها: حَصَلَتْ لهُ المُراقَبَةُ) انتهى.
ومِنَ الضَّرُوري: التعرُّف على أسماءِ الله الْحُسْنى المرتبطة بالمراقبةِ مُباشرةً، وهيَ: الرَّقيبُ والحفيظُ والعليمُ والسميعُ والبصيرُ واللَّطيفُ والْمُحيطُ والكبيرُ، بالوقوفِ على معانيها وآثارِها في المراقبة، ومنها: تدبُّر القُرآنِ الكريمِ، قال تعالى: ﱡﭐ ﲀ ﲁ ﲂﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﱠ.
رزقني الله وإياكم ووالدينا وأهلينا عِبادَتَهُ كَأَننا نَرَاهُ، فإنْ لم نكُنْ نرَاهُ فإنه سُبحانه يَرَانا.