الفرق الضالة وانحرافاتها
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
الفرق الضالة وانحرافاتها
تأليف
فضيلة الشيخ
زيد بن عبدالعزيز الفياض
رحمه الله
(1350 - 1416هـ)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعدُ:
قال رسول الله ﷺ: ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده، لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار))، قيل: يا رسول الله، مَنْ هم؟ قال: ((الجماعة))([1]).
وصدق رسول الله ﷺ حيث أصبحنا نرى من الفرق ما لا يُعَدُّ ولا يُحصى، كلها قد رفعتْ رأسها، وحملت معول الهدم؛ لكي تهدم صرْح ديننا الحنيف، الذي تكفَّل الله - عزَّ وجل - بحِفْظِه.
وفي هذا الكتاب نعرض لذكْر بعض تلك الفرق المذمومة؛ لكي نكشف زيفها، ونفضح باطلها لكل ذي عيان.
نسأل الله - تعالى - أن يعصمَنا من الزلَل، وأن يجعلنا من أهل الفرقة الناجية، مع أهل السنة والجماعة، إنه سميعٌ مجيب.
والحمد لله رب العالمين
الباطنية
قال شيخ الإسلام أحمد ابن تيميَّة - رحمه الله - في رسالته في الرد على النصيرية:
"هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية، هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية - أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من كثير من المشركين، وضررهم على أمة محمد ﷺ أعظم من ضرر الكفار المحاربين؛ مثل: كفار التتار والفرنج وغيرهم، فإن هؤلاء يتظاهَرون عند جُهَّال المسلمين بالتشيع، وموالاة أهل البيت، وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا بكتابه، ولا بأمر ولا نهي، ولا ثواب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار، ولا بأحد من المرسلين قبل محمد ﷺ ولا بملة من الملل، ولا بدينٍ من الأديان السالفة.
فإنه ليس لهم حدٌّ محدود فيما يدَّعونه من الإلحاد في أسماء الله - تعالى - وآياته وتحريف كلام الله - تعالى - ورسوله عن مواضعه؛ إذ مقصودهم إنكار الإيمان وشرائع الإسلام بكلِّ طريق، مع التظاهر بأن لهذه الأمور حقائقَ يعرفونها".
ولهم في مُعاداة الإسلام وأهله وقائع مشهورة، وكُتُب مصنَّفة، فإذا كانتْ لهم مُكْنة سفكوا دماء المسلمين، كما قتلوا مرة الحجاج، وألقوهم في بئر زمزم، وأخذوا مرة الحجر الأسود وبقي عندهم مدة، وقتلوا من علماء المسلمين ومشايخهم وأمرائهم وجندهم ما لا يُحصِي عدده إلا اللهُ - تعالى.
وصنَّف علماء المسلمين كتبًا في كشْف أسرارهم، وهتك أستارهم، وبينوا ما هم عليه من الكفر والزندقة والإلحاد، الذي هم به أكفر من اليهود والنصارى، ومن براهمة الهند الذين يعبدون الأصنام.
ومن المعلوم عندنا أن السواحل الشامية إنما استولى عليها النصارى من جهتهم، وهم دائمًا مع كل عدوٍّ للمسلمين، فهم مع النصارى على المسلمين، ومن أعظم المصائب عندهم انتصار المسلمين على التتار.
ومن أعظم أعيادهم إذا استولى - والعياذ بالله تعالى - النصارى على ثغور المسلمين.
فهؤلاء المحادون لله ورسوله كثروا بالسواحل وغيرها، فاستولى النصارى على الساحل، ثم بسببهم استولوا على القدس الشريف وغيره، فإن أحوالهم كانتْ من أعظم الأسباب في ذلك.
ثم إن التتار ما دخلوا بلاد الإسلام وقتلوا خليفة بغداد وغيره من ملوك المسلمين إلا بمعاونتهم ومُؤازرتهم، فإنَّ مرجع هؤلاء الذي كان وزيرهم وهو النصير الطوسي الذي كان وزيرًا لهم، وهو الذي أمر بقتل الخليفة وبولاية هولاكو، وهم كما قال العلماء فيهم: ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكُفر المحض.
ولهم إشارات ومخاطبات يعرف بها بعضهم بعضًا، وهم إذا كانوا في بلاد المسلمين التي يكثر فيها أهل الإيمان، فقد يخفون على من لا يعرفهم، وأما إذا كثروا فإنه يعرفهم عامة الناس، فضلاً عن خاصتهم.
وقد اتَّفق علماء المسلمين على أن هؤلاء لا تجوز مناكحتهم، ولا يجوز أن ينكح الرجل مولاته منهم، ولا يتزوج منهم، ولا تباح ذبائحهم، ولا يجوز دفنُهم في مقابر المسلمين، ولا يُصلَّى على مَن مات منهم.
وأما استخدام مثل هؤلاءِ في ثغور المسلمين، أو حقولهم، أو جندهم، فإنه من الكبائر، وهم بمنزلة مَن يستخدم الذئاب لرعْي الغنم، فإنهم مِن أغش الناس للمسلمين، ولولاة أمورهم، وهم أحرصُ الناس على فساد المملكة والدولة، وهم شر من المُخَامِر الذي يكون في العسكر؛ فإن المخامِر قد يكون له غرض، إما مع أمير العسكر، وإما مع العدو، وهؤلاء مع الملة ونبيها ودينها، وملوكها وعلمائها، وعامتها وخاصتها، وهم أحرص الناس على تسليم الحصون إلى عدو المسلمين، وعلى إفساد الجند على من ولي الأمر، وإخراجهم عن طاعته، ويحل لولاة الأمور قطعهم من دواوين المقاتلة، فلا يتركون في ثغر، ولا في غير ثغر، فإن ضررهم في الثغر أشد، وأن يستخدم بدلهم من يحتاج إلى استخدامه من الرجال المأمونين على دين الإسلام، وعلى النُّصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، بل إذا كان ولي الأمر لا يستخدم مَن يغشه وإن كان مسلمًا، فكيف بمَن يغش المسلمين كلهم؟!
ولا يجوز له تأخير هذا الواجب مع القدرة عليه، ودماؤهم وأموالهم مباحة، وإذا أظهروا التوبة ففي قبولها منهم نزاع من العلماء.
فلا يتركون مجتمعين، ولا يُمَكَّنُون من حمل السلاح وأن يكونوا من المقاتلة، ويلزموا شرائع الإسلام من الصلوات الخمس، وقراءة القران، ويُتْرك مَن يُعلمهم دين الإسلام، ويُحال بينهم وبين مُعلِّمهم.
ولا ريب أن جهاد هؤلاء وإقامة الحدود عليهم من أعظم الطاعات، وأكبر الواجبات، وهو أفضل من جهاد مَن لا يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب؛ فإن جهاد هؤلاء من جنس جهاد المرتدين.
والصديق وسائر الصحابة بدؤوا بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب؛ فإن جهاد هؤلاء حِفْظ لما فُتح من بلاد المسلمين، وأن يدخل فيه من أراد الخروج عنه، وجهاد مَن لَمْ يقاتلنا من المشركين وأهل الكتاب من زيادة إظهار الدين، وحِفْظ رأس المال مُقدَّم على الرِّبْح.
وأيضًا فضررُ هؤلاء على المسلمين أعظم من ضرر أولئك، بل ضرر هؤلاء من جنس ضرر مَن يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب، وضررهم في الدين على كثير من الناس أشد من ضرر المحاربين المشركين وأهل الكتاب.
ويجب على كل مسلم أن يقومَ بذلك بحسب ما يقدر عليه من الواجب، فلا يحل لأحدٍ أن يكتمَ ما يعرفه من أخبارهم، بل يفشيها ويظهرها؛ ليعرف المسلمون حقيقة حالِهم، ولا يحل لأحدٍ أن ينهى عن القيام بما أمر الله به ورسوله، فإن هذا من أعظم أبواب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله - تعالى - وقد قال الله - تعالى - لنبيِّه ﷺ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ [التوبة: 73]، والمتعاون على كف شرهم وهدايتهم بحسب الإمكان، له منَ الأجر والثواب ما لا يعلمه إلا الله - تعالى.
فإنَّ المقصود بالقصْد الأول هو هدايتهم، كما قال الله - تعالى -: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110]، قال أبو هريرة: تأتون بهم في القيود والسلاسل حتى تدخلونهم الإسلام، فالمقصود بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هداية العباد لصالح المعاش والمعاد بحسب الإمكان، فمَن هداه الله منهم سعد في الدنيا والآخرة، ومَن لَم يهتد كفَّ الله ضرره عن غيره". (انتهى باختصار).
قال الشيخُ العلامة عبدالقاهر بن طاهر البغدادي التميمي، المتوفَّى سنة 429 هـ في كتابه: "الفرق بين الفرق" ص169 الفصل السابع عشر من فصول هذا الكتاب في ذكر الباطنية وبيان ضررهم على جميع فرق الإسلام:
"اعلموا - أسعدكم الله - أن ضرر الباطنية على فرَق المسلمين، أعظم من ضرر اليهود والنصارى والمجوس عليهم، بل أعظم من مضرة الدهرية، وسائر أصناف الكفرة عليهم، بل أعظم من ضرر الدجال الذي يظهر في آخر الزمان؛ لأنَّ الذين ضلوا عن الدِّين بدعوة الباطنية من وقت ظهور دعوتهم إلى يومِنا، أكثر من الذين يضلون بالدَّجَّال في وقت ظهروه؛ لأن فتنة الدجال لا تزيد مدتها على أربعين يومًا، وفضائح الباطنية أكثر من عدد الرمل والقطر.
وقد حكى أصحاب المقالات أن الذين أسسوا دعوة الباطنية جماعة منهم ميمون بن ديصان، المعروف بالقداح، وكان مولى لجعفر بن محمد الصادق، وكان من الأهواز، ومنهم محمد بن الحسين الملقَّب بدندان، اجتمعوا كلهم مع ميمون بن ديصان في سجن والي العراق، فأسَّسوا في ذلك السجن مذاهب الباطنية، ثم ظهرتْ دعوتُهم بعد خلاصهم من السجن من جهة المعروف بدندان، وابتدأ بالدعوة في ناحية توز، فدخل في دينه جماعة من أكراد الجبل، مع أهل الجبل المعروف بالبدين، ثم رحل ميمون بن ديصان إلى ناحية المغرب، وانتسب في تلك الناحية إلى عقيل بن أبي طالب، وزعم أنه من نسله؛ لذلك دخل في دعوتِه قومٌ مِن غلاة الرافضة والحلولية منهم ادعى أنه من ولد إسماعيل بن جعفر الصادق، فقبل الأغبياء ذلك منه على جهل، والمعروف أن إسماعيل بن جعفر مات ولم يعقب عند علماء الأنساب، ومؤسس دين الباطنية رجل يقال له: حمدان قرمط، لُقِّب بهذا لقرمطة في خطه أو في خطوة، وكان في ابتداء أمره أكارًا من أكرة سواد الكوفة، وإليه تنسب القرامطة، ثم ظهر بعده في الدعوة إلى البدعة أبو سعيد الجنابي، وكان من مُستجيبة حمدان، وتغلب على ناحية البحرين، ودخل في دعوته ابن سنير ثم لَمَّا تمادت الأيام بهم ظهر المعروف منهم بسعيد بن الحسين بن أحمد بن عبدالله بن ميمون بن ديصان القداح، فغَيَّر اسم نفسه ونسبه، وقال لأتباعه: أنا عبيدالله بن الحسين بن إسماعيل بن جعفر الصادق، ثم ظهرتْ فتنته بالمغرب، وأولاده اليوم مستولون على أعمال مصر، وظهر منهم المعروف بابن زكرويه بن مهرويه الدنداني، وكان من تلامذة حمدان قرمط، وظهر مأمون أخو حمدان قرمط بأرض فارس، وقرامطة فارس يقال لهم: المأمونية لأجل ذلك.
ووصل أرض الدَّيْلم رجلٌ منَ الباطنية يُعرف بأبي حاتم، فاستجاب له جماعة من الديلم، منهم أسفار بن شرويه، وظهر بنيسابور داعية لهم يُعرف بالشعراني، فقتل بها في ولاية أبي بكر ابن حجاج عليها، وكان الشعراني قد دعا الحسين بن علي المروزي، وقام بدعوته محمد بن أحمد النسفي داعية أهل ما وراء النهر، وأبو يعقوب السجزي المعروف ببندادنة، وصنف النسفي لهم كتاب "المحصول"، وصنَّف لهم أبو يعقوب كتاب "أساس الدعوة"، وكتاب "تأويل الشرائع"، وكتاب "كشف الأسرار"، وقُتِل النسفي والمعروف ببندانة على ضلالتهما.
وذكر أصحاب التواريخ أنَّ دعوة الباطنية ظهرتْ أولاً في زمان المأمون، وانتشرتْ في زمان المعتصم، وذكروا أنه دخل في دعوتهم الأفشين صاحب جيش المعتصم، وكان مراهنًا لبابك الخرمي، وكان الخرمي مستعصيًا بناحية البدين، وكان أهل جبلة الخرمية على طريق المزدقية، فصارت الخرمية مع الباطنية يدًا واحدة، واجتمع مع بابك من أهل البدين، وممن انضم إليهم من الديلم مقدار ثلاثمائة ألف رجل، وأخرج الخليفة لقتالهم الأفشين، فظنه ناصحًا للمسلمين، وكان في سره مع بابك، وتوانى في القتال معه، ودلَّه على عورات عساكر المسلمين، وقتل الكثير منهم، ثم لحقت الأمداد بالأفشين، ولحق به محمد بن يوسف الشفري، وأبو دلف القاسم بن عيسى العجلي، ولحق به بعد ذلك قواد عبدالله بن طاهر، واشتدتْ شوكة البابكية والقرامطة على عسكر المسلمين، حتى بنوا لأنفسهم البلدة المعروفة ببرزند خوفًا من بيان البابكيين، دامت الحرب بين الفريقين سنين كثيرة إلى أن أظفر الله المسلمين بالبابكية، فأسر بابك وصلب بسر مَن رأى سنة ثلاث وعشرين ومائتين، ثم أُخذ أخوه إسحاق، وصُلب ببغداد مع مازيار صاحب المحمرة بطبرستان وجرجان، ولما قتل بابك ظهر للخليفة غدر الأفشين وخيانته للمسلمين وحروبه مع بابك فأمر بقتله وصلبه، فصلب لذلك.
وذكر أصحاب التواريخ أنَّ الذين وضعوا أساس دين الباطنية كانوا من أولاد المجوس، وكانوا مائلين إلى دين أسلافهم، ولم يجسروا على إظهاره خوفًا من سيوف المسلمين، فوضع الأغمار منهم أُسسًا مَن قَبِلها منهم، صار في الباطن إلى تفضيل أديان المجوس، وتأَوَّلُوا آيات القرآن، وسنن النبي - عليه السلام - على مُوافقة أُسسهم.
وبيان ذلك أن الثنَويَّة زعمَتْ أن النور والظلمة صانعان قديمان، والنور منهما فاعل الخيرات والمنافع، والظلام فاعل الشرور والمضار، وأن الأجسام ممتزجة من النور والظلمة، وكل واحد منهما مشتمل على أربع طبائع، وهي: الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، والأصلان الأولان مع الطبائع الأربع مدبِّراتُ هذا العالم، وشارَكَهُم المَجُوس في اعتقاد صانعين، غير أنهم زعموا أن أحد الصانعين قديم، وهو الإله الفاعل للخيرات، والآخر شيطان محدث فاعل للشرور.
وذكر زعماء الباطنية في كُتُبهم أنَّ الإله خلق النفس، فالإله هو الأول، والنفس هو الثاني، وهما مدبرا هذا العالم، وسموهما: الأول والثاني، وربما سموهما: العقل والنفس، ثم قالوا: إنهما يدبِّران هذا العالم بتدابير الكواكب السبعة والطبائع الأول، وقولهم: إن الأول والثاني يدبران العالم هو بغية قول المجوس بإضافة الحوادث لصانعين؛ أحدهما: قديم، والآخر: محدث، إلا أن الباطنية عبَّرَتْ عن الصانعين بالأول والثاني، وعبَّر المجوس عنهما ببزدان وَأَهْرَمَن، فهذا هو الذي يدور في قلوب الباطنية، ووضعوا أساسًا يؤدي إليه.
ولم يُمْكِنْهم إظهار عبادة النيران، فاحتالوا بأن قالوا للمسلمين: ينبغي أن تجمر المساجد كلها، وأن تكون في كل مسجد مجمرة يُوضَع عليها الند والعود في كل حال، وكانت البرامكة قد زيَّنوا للرشيد أن يتخذ في جوف الكعبة مجمرة يتبخر عليها العود أبدًا، فعلم الرشيد أنهم أرادوا من ذلك عبادة النار في الكعبة، وأن تصيرَ الكعبةُ بيت نار، فكان ذلك أحد أسباب قبض الرشيد على البرامكة.
ثم إنَّ الباطنية لما تأوَّلَتْ أصول الدين على الشرك، احتالت أيضًا لتأويل أحكام الشريعة على وجوه تؤدِّي إلى رفع الشريعة، أو إلى مثل أحكام المجوس، والذي يدل على أن هذا مرادهم بتأويل الشريعة، أنهم قد أباحوا لأتباعهم نكاح البنات، والأخوات، وأباحوا شرب الخمر، وجميع اللذات.
ويؤكد ذلك أنَّ الغلام الذي ظهر منهم بالبحرين والأحساء بعد سليمان بن الحسن القرمطي سنَّ لأتباعه اللواط، وأوجب قتل الغلام الذي يمتنع على مَن أراد الفجور به، وأمر بقطع يد من أطفأ نارًا بيده، وبقطع لسان من أطفأها بنفخه، وهذا الغلام هو المعروف بابن أبي زكريا الطامي، وكان ظهوره في سنة تسع عشرة وثلاثمائة، وطالتْ فتنتُه إلى أن سلَّط الله - تعالى - عليه من ذبحه على فراشه.
ويؤُكِّد ما قلْناه من ميل الباطنية إلى دين المجوس: أننا لا نجد على ظهر الأرض مجوسيًّا إلا وهو موادّ لهم، مُنتظر لظهورهم على الديار، يظنُّون أن المُلْك يعود إليهم بذلك، وربما استدل أغمارهم على ذلك بما يرْويه المجوس عن زرادشت أنه قال لكشتاسف: إن المُلْك يزول عن الفرس إلى الروم واليونانية، ثم يعود إلى الفرس، ثم يزول عن الفرس إلى العرب، ثم يعود إلى الفرس، وساعده "جاماسب" المنجِّم على ذلك، وزعم أن المُلْك يعود إلى العجم لتمام ألف وخمسمائة سنة، وقت ظهور زرادشت.
وكان في الباطنية رجل يعرف بأبي عبدالله العردي، يدَّعي علم النجوم، ويَتَعَصَّب للمجوس، وصنف كتابًا وذكر فيه أن القرن الثامن عشر من مولد محمد ﷺ يوافق الألف العاشر، وهو نوبة المشتري والقوس، وقال عند ذلك يخرج إنسان يُعيد الدولة المجوسية، ويستولي على الأرض كلها، وزعم أنه يملك مدة سبع قرانات، وقالوا قد تحقق حُلم زرادشت وجاماسب في زوال ملك العجم إلى الروم واليونانية في أيام الإسكندر، ثم عاد إلى العجم بعد ثلاثمائة سنة، ثم زال بعد ذلك مُلْك العجم إلى العرب، وسيعود إلى العجم لتمام المدة التي ذكرها جاماسب، وقد وافق الوقت الذي ذكره أيام المكتفي والمقتدر، وأخْلَف الله موعودهم وما رجع المُلْك فيه إلى المجوس، وكانت القرامطة قبل هذا الميقات يتواعَدُون فيما بينهم ظهور المنتظر في القرن السابع في المثلثة النارية.
وخرج منهم سليمان بن الحسن من الأحساء على هذه الدعوى، وتعرَّض للحجيج، وأسرف في القتل منهم، ثم دخل مكة، وقتل من كان في الطواف، وأغار على أستار الكعبة، وطرح القتلى في بئر زمزم، وكسر عساكر كثيرة من عساكر المسلمين، وانهزم في بعض حروبه إلى هجر، فكتب للمسلمين قصيدة يقول فيها:
أَغَرَّكُمُ مِنِّي رُجُوعِي إِلَى هَجَرْ | وَعَمَّا قَلِيلٍ سَوْفَ يَأْتِيكُمُ الخَبَرْ | |
إِذَا طَلَعَ المَرِّيخُ فِي أَرْضِ بَابِلِ | وَقَارَنَهُ النَّجْمَانِ فَالحَذَرَ الحَذَرْ | |
أَلَسْتُ أَنَا المَذْكُورَ فِي الكُتْبِ كُلِّهَا | أَلَسْتُ أَنَا المَبْعُوثَ فِي سُورَةِ الزُّمَرْ | |
سَأَمْلِكُ أَهْلَ الأَرْضِ شَرْقًا وَمَغْرِبًا | إِلَى قَيْرَوَانِ الرُّومِ وَالتُّرْكِ وَالخَزَرْ |
وأراد بالنجمين زُحل والمشتري، وقد وجد هذا القران في سني ظهوره، ولم يملك من الأرض شيئًا غير بلدته التي خرج منها، وطمع في أن يملك سبع قرانات، وما ملك سبع سنين، بل قتل "بهيت"، رمته امرأة من سَطْحها بلبنة على رأسه فدمغته، وقتيل النساء أخس قتيل، وأهْون فقيد.
وفي آخر سنة ألف ومائتين وأربعين للإسكندر، تمَّ من تاريخ زرادشت ألفٌ وخمسمائة سنة، وما عاد فيها ملك الأرض إلى المجوس، بل اتَّسَع بعدها نطاق الإسلام في الأرض، وفتح الله - تعالى - للمسلمين بعدها بلاد بلاساغون، وأرض التبت، وأكثر نواحي الصين، ثم فتح لهم بعدها جميع أرض الهند من لمفات إلى قنوج، وصارتْ أرض الهند إلى سيترسيقا، بحرها من رقعة الإسلام في أيام أمين الدولة أمين الملة محمود بن سبكتكين - رحمه الله - وفي هذا رغمُ أنوف الباطنية والمجوس الجاماسبية الذين حكموا بعَوْد الملك إليهم، فذاقوا وبال أمرهم، وكان عاقبة أمانيهم بُورًا - بحمْد الله ومنِّه.
ثم إن الباطنية خرج منهم عُبَيْدالله بن الحسين بناحية القيروان، وخدع قومًا من كتامة، وقومًا من المصامدة، وشِرْذمة من أغنام بربر بحيل ونيرنجات، أظهرها لهم كرؤية الخيالات بالليل من خلف الرداء والإزار، وظن الأغمار أنها مُعجزة له، فتبعوه لأجلها على بدْعته، فاستولى بعضُهم على بلاد المغرب، ثم خرج المعروف منهم بأبي سعيد الحسن بن بهرام على أهل الأحساء، والقطيف، والبحرين، فأتى بأتباعه على أعدائه، وسبى نساءهم وذراريهم، وأحرق المصاحف والمساجد، ثم استولى على هجَر، وقتل رجالها، واستعبد ذراريهم ونساءهم، ثم ظهر المعروف منهم بالصناديقي باليمن، وقتل الكثير من أهلها، حتى قتل الأطفال والنساء، وانضم إليه المعروف منهم بابن الفضل في أتباعه، ثم إن الله - تعالى - سلَّط عليهما وعلى أتباعهما الأكلة والطاعون فماتوا بهما.
ثم خرج بالشام حفيد لميمون بن ديصان، يقال له: أبو القاسم بن مهرويه، وقال لمن تبعهما: هذا وقت ملكنا، وكان ذلك سنة تسع وثمانين ومائتين، فقصدهم سبك صاحب المعتضد، فقتلوا سبكًا في الحرب، ودخلوا مدينة الرصافة، وأحرقوا مسجدها الجامع، وقصدوا بعد ذلك دمشق، فاستقبلهم الحمامي غلام بن طيلون، وهزمهم إلى الرقة، فخرج إليهم محمد بن سليمان كاتب المكتفي في جند من أجناد المكتفي، فهزمهم وقتل منهم الألوف، فانهزم الحسن بن زكريا بن مهرويه إلى الرملة، فقبض عليه والي الرملة، فبعث به وبجماعة من أتباعه إلى المكتفي، فقتلهم ببغداد في الشارع بأشد العذاب.
ثم انقطعت بقتلهم شوكة القرامطة إلى سنة عشر وثلاثمائة، وظهر بعدها فتنة سليمان بن الحسن في سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، فإنه كبس البصرة، وقتل أميرها سبكًا المفلحي، ونقل أموال البصرة إلى البحرين.
وفي سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة، وقع الحجيج في نهب لعشر بقين من المحرم، وقتل أكثر الحجيج، وسبى الحرم والذراري، ثم دخل الكوفة في سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، فقتل الناس وانتهب الأموال.
وفي سنة خمس عشرة وثلاثمائة، حارب ابن أبي الساج وأسره، وهزم أصحابه.
وفي سنة سبع عشرة وثلاثمائة، دخل مكة، وقتل من وجده في الطواف، وقيل: إنه قتل بها ثلاثة آلاف وأخرج منها سبعمائة بكر، واقتلع الحجر الأسود، وحمله إلى البحرين، ثم رد منها إلى الكوفة، ورد بعد ذلك من الكوفة إلى مكة على يد أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي النيسابوري، في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، وقصد سليمان بن الحسن بغداد في سنة ثماني عشرة وثلاثمائة.
فلما ورد هيت رَمَته امرأة من سطحها بلبنة فقتلته، وانقطعت بعد ذلك شوكة القرامطة، وصاروا بعد قتل سليمان بن الحسن متصدِّين للحجيج من الكوفة والبصرة إلى مكة حُفاة؛ ليضمن لهم مال إلى أن غلبهم الأصفر العقيلي على بعض ديارهم.
وكانتْ ولاية مصر وأعمالها للإخشيدية، وانْضَمَّ بعضهم إلى ابن عبيدالله الباطني، الذي كان قد استولى على قيروان، ودخلوا مصر في سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، وابتنوا بها مدينة سَمَّوْها القاهرة، يسكنها أهل بدعته، وأهل مصر ثابتون على السُّنة إلى يومنا، وإن أطاعوا صاحب القاهرة في أداء خراجهم إليه.
وكان أبو شجاع فنا خسرو بن بويه قد تأهب لقَصْد مصر، وانتزاعها من أيدي الباطنية، وكتب على أعلامه بالسواد: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين، والطائع لله أمير المؤمنين، ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين، وقال قصيدة أولها:
أَمَا تَرَى الأَقْدَارَ لِي طَوَائِعَا | قَوَاضِبًا بِالعِيَانِ كَالخَبَرْ | |
وَيَشْهَدُ الأَنَامُ لِي بِأَنَّنِي | ذَاكَ الَّذِي يُرْجَى وَذَاكَ المُنْتَظَرْ | |
لنُصْرَةِ الإِسْلاَمِ وَالدَّاعِي إِلَى | خَلِيفَةِ اللهِ الإِمَامِ المُفْتَخَرْ |
فلما خرج إلى مضاربه للخروج إلى مصر، غافصه وفاجأه الأجلُ، فمضى لسبيله، فلما قضى فنا خسرو نَحْبه، طمع زعيمُ مصر في ملوك نواحي الشرق، فكاتبهم يدعوهم إلى البيعة له، فأجاب قابوس بن وشمكير عن كتابه بقوله: إني لا أذكرك إلا على المستراح، وأجابه ناصر الدولة أبو الحسن محمد بن إبراهيم بن سيمجور بأن كتب على ظهر كتابه إليه: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾... إلى آخر السورة، وأجابه نوح بن منصور والي خُراسان بقتل دعاته إلى بدْعته، ودخل في دعوته بعضُ ولاة الجرجانية من أرض خوارزم، فكان دخوله في دينه شُؤمًا عليه في ذهاب ملكه، وقتل أصحابه، ثم استولى يمين الدولة وأمير الملة محمود بن سُبُكتكين على أرضهم، وقتل من كان بها من دعاة الباطنية، وكان أبو علي بن سيمجور قد وافقهم في السر فذاق وبال أمره بعد ذلك، وقبض عليه والي خراسان نوح بن منصور، وبعث به إلى سبكتكين، فقتل بناحية غَزْنة.
وكان أبو القاسم الحسن بن علي الملقَّب بدانشمند داعية أبي علي سيمجور إلى مذهب الباطنية، وظفر به بكتوزون صاحب جيش السامانية بنيسابور فقتله، ودفن في مكان لا يُعْرف.
وكان (أميرك) الطوسي والي ناحية التاروذية قد دخل في دعوة الباطنية، فأُسر وحُمل إلى غَزْنة وقتل بها في الليلة التي قتل فيها أبو علي بن سيمجور، وكان أهل مولتان من أرض الهند داخلين في دعوة الباطنية، فقصدهم محمود - رحمه الله - في عسكره، وقتل منهم الألوف، وقطع أيدي ألف منهم، وباد بذلك نُصرَاء الباطنية من تلك الناحية، ومن هذا بان شؤم الباطنية على منتحليها، فليعتبر بذلك المعتبرون.
وقد اختلف المتكلمون في بيان أغراض الباطنية في دعوتها إلى بدعتها، فذهب أكثرهم إلى أن غرض الباطنية الدعوة إلى دين المجوس بالتأويلات التي يتأولون عليها القرآن والسنة، واستدلوا على ذلك بأن زعيمهم الأول ميمون بن ديصان كان مجوسيًّا من سبي الأهواز، ودعا ابنه عُبيدالله بن ميمون الناسَ إلى دين أبيه، واستدلوا أيضًا بأن داعيهم المعروف بالبزدوي قال في كتابه المعروف بـ"المحصول": إن المُبْدِع الأول أبدع النفس، ثم إن الأول والثاني مدبران للعالم بتدبير الكواكب السبعة والطبائع الأربع، وهذا في التحقيق معنى قول المجوس: إن يَزْدَان خلق أهرمن، وإنه مع أهرمن مدبِّران للعالم، غير أن يزدان فاعل الخيرات، وأهرمن فاعل الشرور.
ومنهم من نسب الباطنية إلى الصابئين الذين هم بحرَّان، واستدل على ذلك بأن حمدان قرمط داعية الباطنية بعد ميمون بن ديصان كان من الصابئة الحرانية، واستدل أيضًا بأن صابئة حران يكتمون أديانهم ولا يظهرونها إلا لمن كان معهم، والباطنية أيضًا لا يظهرون دينهم إلا لمن كان منهم بعد إحلافهم إياه على ألا يذكر أسرارهم لغيرهم.
قال عبدالقاهر: الذي يصح عندي من دين الباطنية أنهم دهرية زنادقة، يقولون بقِدَم العالم، ويُنكرون الرسل والشرائع كلها لميلها إلى استباحة كل ما يميل إليه الطبع.
والدليل على أنهم كما ذكرناه ما قرأته في كتابهم المترجم: "السياسة والبلاغ الأكيد والناموس الأعظم"، وهي رسالة عبيدالله بن الحسن القيرواني إلى سليمان بن الحسن بن سعيد الجنابي، أوصاه فيها بأن قال له: ادع الناس بأن تتقرَّب إليهم بما يميلون إليه، وأوهم كل واحد منهم بأنك منهم، فمن آنست منه رشدًا فاكشف له الغطاء، وإذا ظفرت بالفلسفي، فاحتفظ به، فعلى الفلاسفة معولنا، وإنا وإياهم مجمعون على ردِّ نواميس الأنبياء، وعلى القول بقدَم العالم لولا ما يخالفنا فيه بعضهم من أن للعالم مدبرًا لا نعرفه.
وذكر في هذا الكتاب إبطال القول بالمعاد والعقاب، وذكر فيها أن الجنة نعيم الدنيا، وأن العذاب إنما هو اشتغال أصحاب الشرائع بالصلاة والصيام والحج والجهاد.
وقال أيضًا في هذه الرسالة: إن أهل الشرائع يعبدون إلهًا لا يعرفونه، ولا يحصلون منه إلا على اسم بلا جسم.
وقال فيها أيضًا: أَكْرِمِ الدهرية فإنهم منَّا ونحن منهم، وفي هذا تحقيق نسبة الباطنية إلى الدهرية، والذي يؤكد هذا أن المجوس يدَّعون نبوة زرادشت ونزول الوحي عليه من الله - تعالى - وأن الصابئين يدعون نبوة هرمس، وواليس، وذروثيوس، وأفلاطن، وجماعة من الفلاسفة، وسائر أصحاب الشرائع، كل صنف منهم مُقرُّون بنزول الوحي من السماء على الذين أقروا بنبوتهم، ويقولون: إنَّ ذلك الوحي شامل للأمر والنهي والخبر عن عاقبة بعد الموت، وعن ثواب وعقاب، وجنة ونار، يكون فيها الجزاء عن الأعمال السالفة.
والباطنية يرفضون المعجزات، وينكرون نزول الملائكة من السماء بالوحي والأمر والنهي، بل ينكرون أن يكون في السماء ملَك، وإنما يتأولون الملائكة على دعاتهم إلى بدعتهم، ويتأولون الشياطين على مخالفيهم، والأبالسة على مخالفيهم.
ويزعمون أن الأنبياء قوم أحبوا الزعامة، فساسوا العامة بالنواميس والحيل؛ طلبًا للزعامة بدعوى النبوة والإمامة، وكل واحد منهم صاحب دور مسبع، إذا انقضى دور سبعه تبعهم في دور آخر، وإذا ذكروا النبي والوحي قالوا: إن النبي هو الناطق، والوحي أساسه الفاتق، وإلى الفاتق تأويل نطق الناطق على ما تراه يميل إليه هواه، فمن صار إلى تأويله الباطن فهو من الملائكة البررة، ومن عمل بالظاهر فهو من الشياطين الكفرة.
ثم تأولوا لكل ركن من أركان الشريعة تأويلاً يورث تضليلاً، فزعموا أن معنى الصلاة موالاة إمامهم، والحج زيارته وإدمان خدمته، والمراد بالصوم الإمساك عن إفشاء سر الإمام دون الإمساك عن الطعام، والزنَى عندهم إفشاء سرهم بغير عهد وميثاق.
وزعموا أن من عرف معنى العبادة سقط عنه فرضها، وتأولوا في ذلك قوله: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 99]، وحملوا اليقين على معرفة التأويل.
وقد قال القيرواني في رسالته إلى سليمان بن الحسن: إني أوصيك بتشكيك الناس في القرآن والتوراة والزبور والإنجيل، وبدعواتهم إلى إبطال الشرائع، وإلى إبطال المعاد والنشور من القبور، وإبطال الملائكة في السماء، وإبطال الجن في الأرض، وأوصيك بأن تدعوهم إلى القول بأنه كان قبل آدم بشَر كثير، فإن ذلك عَوْن لك على القول بقِدَم العالم.
وفي هذا تحقيق دعوانا على الباطنية أنهم دهرية، يقولون بقدَم العالم، ويجحدون الصانع، ويدل على دعوانا عليهم القول بإبطال الشرائع: أن القيرواني قال أيضًا في رسالته إلى سليمان بن الحسن: وينبغي أن تحيط علمًا بمخاريق الأنبياء، ومناقضاتهم في أقوالهم، كعيسى بن مريم قال لليهود: لا أرفع شريعة موسى، ثم رفعها بتحريم الأحد بدلاً من السبت، وأباح العمل في السبت، وأبدل قبلة موسى بخلاف جهتها، ولهذا قتلَتْه اليهود لما اختلفت كلمته.
ثم قال له: ولا تكنْ كصاحب الأمة المنكوسة حين سألوه عن الروح، قال: الرُّوح من أمر ربي، لما لم يعلم الجواب، ولم يحضره جواب المسألة، ولا تكن كموسى في دعواه التي لم يكن له عليها برهان سوى المخرقة بحسن الحيلة والشعبذة، ولما لم يجد المحقق في زمانه عنده برهانًا؛ قال: ﴿لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي﴾ [الشعراء: 29]، وقال لقومه: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ [النازعات: 24]؛ لأنه كان صاحب الزمان في وقته.
ثم قال في آخر رسالته: وما العجب من شيء كالعجب من رجل يدَّعي العقل، ثم يكون له أخت أو بنت حسناء، وليست له زوجة في حسنها، فيحرمها على نفسه، وينكحها من أجنبي، ولو عقل الجاهل لعلم أنه أحق بأخته وبنته من الأجنبي، وما وجه ذلك إلا أن صاحبهم حرَّم عليهم الطيبات، وخوفهم بغائب لا يعقل، وهو الإله الذي يزعمونه، وأخبرهم بكون ما لا يرونه أبدًا؛ من البعث من القبور والحساب، والجنة والنار، حتى استعبدهم بذلك عاجلاً، وجعلهم له في حياته ولذريته بعد وفاته خولاً، واستباح بذلك أموالهم بقوله: ﴿لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [الشورى: 23]، فكان أمره معهم نقدًا، وأمرهم معه نسيئة، وقد استعجل منهم بذل أرواحهم وأموالهم على انتظار موعود لا يكون، وهل الجنة إلا هذه الدنيا ونعيمها؟ وهل النار وعذابها إلا ما فيه أصحاب الشرائع من التعب والنصب في الصلاة والصيام والجهاد والحج؟
ثم قال لسليمان بن الحسن في هذه الرسالة: وأنت وإخوانك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس، وفي هذه الدنيا ورثتم نعيمها ولذاتها المحرَّمة على الجاهلين المتمسكين بشرائع أصحاب النواميس، فهنيئًا لكم ما نِلْتم من الراحة عن أمرهم، وفي هذا الذي ذكرناه دلالة على أن غرَض الباطنية القول بمذاهب الدهرية، واستباحة المحرمات، وترك العبادات.
ثم إن الباطنية لهم في اصطياد الأغتام، ودعوتهم إلى بدعتهم حيل على مراتب؛ سموها: التفرس، والتأنيس، والتشكيك، والتعليق، والربط، والتدليس، والتأسيس، والمواثيق بالأَيْمان والعهود، وآخرها الخلع والسلخ.
فأما التفرُّس فإنهم قالوا: إن من شَرْط الداعي إلى بدعتهم أن يكون قويًّا على التلبيس، وعارفًا بوجوه تأويل الظواهر ليردها إلى الباطن، ويكون مع ذلك مميزًا بين من يطمع فيه وفي إغوائه، وبين من لا مطمع فيه.
ولهذا قالوا في وصاياهم للدعاة إلى بدعتهم: لا تتكلموا في بيت فيه سراج، يعنون بالسراج من يعرف علم الكلام، ووجوه النظر والمقاييس، وقالوا أيضًا لدعاتهم: لا تطرحوا بذركم في أرض سبخة، وأرادوا بذلك منع دعاتهم عن إظهار بدعتهم عند من لا تؤثر فيهم بدعتهم، كما لا يؤثر البذر في الأرض السبخة شيئًا، وسموا قلوب أتباعهم الأغتام أرضًا زاكية؛ لأنها تقبل بدعتهم، وهذا المثل بالعكس أولى، وذلك أن القلوب الزاكية هي القابلة للدين القويم، والصراط المستقيم، وهي التي لا تصدأ بِشُبَه أهل الضلال، كالذهب الإبريز الذي لا يصدأ في الماء، ولا يبلى في التراب، ولا ينقص في النار، والأرض السبخة كقلوب الباطنية، وسائر الزنادقة، الذين لا يزجرهم عقل، ولا يردهم شرع، فهم أرجاس أنجاس، أموات غير أحياء: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: 44]، قد قسم لهم الحظ في الرزق من قسم رزق الخنازير في مراعيها، وأباح طعمة العنب في براريها؛ ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23].
وقالوا أيضًا: إن من شرط الداعي إلى مذهبهم أن يكون عارفًا بالوجوه التي تُدْعَى بها الأصناف، فليستْ دعوة الأصناف من وجه واحد، بل لكل صنف من الناس وجه يدعى منه إلى مذهب الباطن.
فمن راه الداعي مائلاً إلى العبادات حمله على الزهد والعبادة، ثم سأله عن معاني العبادات، وعِلل الفرائض، وشَكَّكه فيها.
ومن رآه ذا مجون وخلاعة قال له: العبادة بلهٌ وحماقة، وإنما الفطنة في نيل اللذات، وتمثل له بقول الشاعر:
مَنْ رَاقَبَ النَّاسَ مَاتَ هَمًّا | ق وَفَازَ بِاللَّذَّةِ الجَسُورِ |
ومَن رآه شاكًّا في دينه أو في المعاد والثواب والعقاب، صرَح له بنفي ذلك، وحمله على استباحة المحرَّمات، واستروح معه إلى قول الشاعر الماجن:
أَأَتْرُكُ لَذَّةَ الصَّهْبَاءِ صِرْفًا | لِمَا وَعَدُوهُ مِنْ لَحْمٍ وَخَمْرٍ | |
حَيَاةٌ ثُمَّ مَوْتٌ ثُمَّ نَشْرٌ | حَدِيثُ خُرَافَةٍ يَا أُمَّ عَمْرِو |
ومن رآه مِن غلاة الرافضة - كالسبئية، والبيانية، والمغيرية، والمنصورية، والخطابية - لم يحتج معه إلى تأويل الآيات والأخبار؛ لأنهم يتأولونها معهم على وفق ضلالتهم.
ومن رآه من الرافضة زيديًّا أو إماميًّا، أو مائلاً إلى الطعْن في أخبار الصحابة، دخل عليه من جهة شتم الصحابة، وزين له بُغْض بني تَيْم؛ لأن أبا بكر منهم، وبُعض بني عدي؛ لأن عمر بن الخطاب كان منهم، وحثه على بُغض بني أمية؛ لأنه كان منهم عثمان ومعاوية، وربما استروح الباطني في عصرنا هذا إلى قول إسماعيل بن عباد:
دُخُولُ النَّارِ فِي حُبِّ الوَصِيِّ | وَفِي تَفْضِيلِ أَوْلاَدِ النَّبِيِّ | |
أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ جَنَّاتِ عَدْنٍ | أُخَلِّدُهَا بِتَيْمٍ أَوْ عَدِيِّ |
قال عبدالقاهر: قد أجبنا هذا القائل بقولنا فيه:
أَتَطْمَعُ أَنْتَ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ | وَأَنْتَ عَدُوُّ تَيْمٍ أَوْ عَدِيِّ | |
وَهُمْ تَرَكُوكَ أَشْقَى مِنْ ثَمُودٍ | وَهُمْ تَرَكُوكَ أَفْضَحَ مِنْ دَعِيِّ | |
وَفِي نَارِ الجَحِيمِ غَدًا سَتَصْلَى | إِذَا عَادَاكَ صِدِّيقُ النَّبِيِّ |
ومَن رآه الداعي مائلاً إلى أبي بكر وعمر مَدَحهما عنده، وقال: لهما حظ في تأويل الشريعة، ولهذا استصحب النبيُّ أبا بكر إلى الغار، ثم إلى المدينة، وأفضى إليه في الغار تأويل شريعته، فإذا سأله الموالي لأبي بكر وعمر عن التأويل المذكور لأبي بكر وعمر، أخذ عليه العهود والمواثيق في كتمان ما يظهره له، ثم ذكر له على التدْريج بعضَ التأويلات، فإن قبلها منه أظهر الباقي، وإن لم يقبل منه التأويل الأول ربطه في الباقي وكتمه عنه، وشك الغرُّ من أجل ذلك في أركان الشريعة.
والذين يروج عليهم مذهبُ الباطنية أصناف:
أحدها: العامة الذين قلَّتْ بصائرهم بأصول العلم والنظر؛ كالنبط، والأكراد، وأولاد المجوس.
والصنف الثاني: الشعوبية، الذين يرَوْن تفضيل العجم على العرب، ويتمنون عَوْد الملك إلى العجم.
والصنف الثالث: أغنام بني ربيعة، من أجل غيظهم على مُضَر لخروج النبي ﷺ منهم، ولهذا قال عبدالله بن حازم السلمي في خطبته بخراسان: إن ربيعة لم تزل غضابًا على الله مُذ بعث نبيه من مُضر، ومن أجل حسَد ربيعة لمضر بايعت بنو حنيفة مسيلمة الكذاب؛ طمَعًا في أن يكون في بني ربيعة نبي، كما كان في مضر نبي، فإذا استأنس الأعجميُّ الغر، أو الربعي الحاسد المبغض يقول الباطني له: قومك أحقُّ بالملك من مضر، فيسأله عن السبب في عَوْد الملك إلى قومه، فإذا سأله عن ذلك قال له: إن الشريعة المضرية لها نهاية، وقد دنا انقضاؤها، وبعد انقضائها يعود الملك إليكم، ثم ذكر له تأويل إنكار شريعة الإسلام على التدريج، فإذا قَبِل ذلك منه صار ملحدًا صريحًا، واستثقل العبادات، واستطاب استحلال المحرمات، فهذا بيان درجه التفرُّس منهم.
ودرجة التأنيس قريبة من درجة التفرس عندهم، وهي: تزيين ما عليه الإنسان من مذهبه في عينه، ثم سؤاله بعد ذلك عن تأويل ما هو عليه، وتشكيكه إياه في أصول دينه، فإذا سأله المدعوُّ عن ذلك، قال: عِلْم ذلك عند الإمام، ووصل بذلك منه إلى درجة التشكيك، حتى صار المدعو إلى اعتقاد أن المراد بالظواهر والسنن غير مقتضاها في اللغة، وهان عليه بذلك ارتكاب المحظورات، وترْك العبادات.
والرَّبْط عندهم: تعليق نفس المدعو بطلَب تأويل أركان الشريعة، فإما أن يقبل منهم تأويلها على وجه يؤول إلى رفعها، وإما أن يبقى على الشك والحيرة فيها.
ودرجة التدليس منهم قولهم للغر الجاهل بأصول النظر والاستدلال: إن الظواهر عذاب، وباطنها فيه الرحمة، وذكر له قوله في القرآن: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ [الحديد: 13]، فإذا سألهم الغرُّ عن تأويل باطن الباب قالوا: جرتْ سنة الله - تعالى - في أخذ العهد والميثاق على رسله، ولذلك قال: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [الأحزاب: 7]، وذكروا له قوله: ﴿وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [النحل: 91]، فإذا حلف الغر لهم بالأَيْمان المغلَّظة وبالطلاق والعتق وتسبيل الأموال، فقد رَبَطُوه بها، وذكروا له من تأويل الظواهر ما يؤدِّي إلى رفعها بزعمهم، فإن قَبِل الأحمقُ ذلك منهم دخل في دين الزنادقة باطنًا، واستتر بالإسلام ظاهرًا.
وإن نفر الحالف عن اعتقاد تأويلات الباطنية الزنادقة، كتَمَها عليهم؛ لأنه حلف لهم على كتمان ما أظهروه له من أسرارهم، وإذا قبلها منهم فقد حلفوه وسلخوه عن دين الإسلام، وقالوا حينئذٍ: إن الظاهر كالقشر، والباطن كاللب، واللب خير من القشْر.
قال عبدالقاهر: حكى لي بعضُ مَن كان دخل في دعوة الباطنية، ثم وفَّقه الله - تعالى - لرُشْده، وهداه إلى حل أيمانهم، أنهم لما وثِقُوا منه بأيمانه، قالوا له: إن المسلمين بالأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، وكل من ادعى النبوة كانوا أصحاب نواميس ومخاريق أحبوا الزعامة على العامة، فخدعوهم بنيرنجات، واستعبدوهم بشرائعهم.
قال هذا الحاكي لي: ثم ناقض الذي كشف لي هذا السر، بأن قال له: ينبغي أن تعلم أن محمد بن إسماعيل بن جعفر هو الذي نادى موسى بن عمران من الشجرة، فقال له: ﴿إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾ [طه: 12]، قال فقلت: سخنت عينك تدعوني إلى الكفر بالرب القديم الخالق للعالم، ثم تدعوني مع ذلك إلى الإقرار بربوبية إنسان مخلوق، وتزعم أنه كان قبل ولادته إلهًا مرسلاً لموسى؟ فإن كان موسى عندك ممخرقًا، فالذي زعمتَ أنه أرسله أكذب، فقال لي: إنك لا تفلح أبدًا، وندم على إفشاء أسراره إليَّ، وتبْتُ مِن بدعتهم؛ فهذا بيانُ وجه حيلهم على أتباعهم.
وأما أيمانهم، فإن داعيَهُم يقول للحالف: جعلتَ على نفسك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله، وما أخذ الله - تعالى - على النبيين من عهدٍ وميثاقٍ أنك تستر ما تسمعه مني، وما تعلمه مِن أمري، ومن أمر الإمام الذي هو صاحبُ زمانك، وأمر أشياعه وأتباعه في هذا البلد وفي سائر البلدان، وأمر المطيعين له من الذكور والإناث، فلا تظهر من ذلك قليلاً ولا كثيرًا، ولا تظهر شيئًا يدلُّ عليه من كتابة أو إشارة، إلا ما أذنَ لك فيه الإمامُ صاحب الزمان، أو أذن لك في إظهار المأذونُ له في دعوته، فتعمل في ذلك حينئذٍ بمقدار ما يؤذن لك فيه، وقد جعلت على نفسك الوفاء بذلك، وألزمته نفسك في حالتي الرضا والغضب، والرغبة والرهبة، قال: نعم، فإذا قال: نعم، قال له: وجعلت على نفسك أن تمنعني وجميعَ من أسميه لك مما تمنع منه نفسك بعهد الله وميثاقه عليك وذمته وذمة رُسُله، وتَنْصحهم نُصحًا ظاهرًا وباطنًا، وألاَّ تخون الإمام وأولياءه، وأهل دعوته في أنفسهم ولا في أموالهم، وأنك لا تتأوَّل في هذه الأيمان تأويلاً لا تعتقد ما يحلها، وأنك إن فعلتَ شيئًا من ذلك فأنت بريءٌ من الله ورسله وملائكته، ومِن جميع ما أنزل الله - تعالى - من كتبه، وأنك إن خالفت في شيء مما ذكرناه لك، فلله عليك أن تحج إلى بيته مائة حجة ماشيًا نذرًا واجبًا، وكل ما تملكه في الوقت الذي أنت فيه صدقة على الفقراء والمساكين، وكل مملوك يكون في ملكك يوم تخالف فيه أو بعده يكون حرًّا، وكل امرأة لك الآن أو يوم مخالفتك أو تتزوجها بعد ذلك، تكون طالقًا منك ثلاث طلقات، والله - تعالى - الشاهدُ على نيتك، وعقد ضميرك فيما حلفت فيه، فإذا قال: نعم، قال له: كفى بالله شهيدًا بيننا وبينك، فإذا حلف لغِرُّ بهذه الأيمان ظنَّ أنه لا يمكن حلها، ولم يعلم الغِرُّ أنه ليس لأيمانه عندهم مقدار ولا حُرمة، وأنهم لا يرون فيها ولا في حلها إثمًا ولا كفارة، ولا عارًا ولا عقابًا في الآخرة.
وكيف يكون لليمين بالله وبكتبه ورسله عندهم حرمة، وهم لا يقرُّون بإله قديم، بل لا يُقِرُّون بحدُوث العالم، ولا يُثبتون كتابًا منَزَّلاً من السماء، ولا رسولاً ينزل عليه الوحْيُ من السماء؟! وكيف يكون لأيمان المسلمين عندهم حرمة، ومن دينهم أن الله الرحمن الرحيم إنما هو زعيمهم الذي يدعون إليه؟! ومَن مال منهم إلى دين المجوس زعم أن الإله نور بإزائه شيطان قد غلبه ونازعه في ملكه، وكيف يكون لنذر الحج والعمرة عندهم مقدار، وهم لا يَرَوْن للكعبة مقدارًا، ويسخرون بمن يحج ويعتمر؟! وكيف يكون للطائف عندهم حرمة، وهم يستحلون كل امرأة تَتَزَوَّج من غير عقد؟! فهذا بيان حكم الأيمان عندهم.
فأما حكم الأَيْمان عند المسلمين، فإنا نقول: كل يمين يحلف بها الحالفُ ابتداء بطَوْع نفسه فهو على نِيَّته، وكل يمين يحلف بها عند قاضٍ أو سلطان يحلِّفه؛ لينظر فيها، فإن كانتْ يمينًا في دعوى لمدع شيئًا على الحالف المنكر، وكان المدعي ظالمًا للمدعى عليه، فيمين الحالف على نيته، وإنْ كان المدعي محقًّا، والمنكر ظالمًا للمدعي، فيمين المنكر على نية القاضي أو السلطان الذي أحلفه، ويكون الحالفُ حانثًا في يمينه.
وإذا صحَّتْ هذه المقدمة، فالباحث عن دين الباطنية إذا قصَد إظهار بدعتهم للناس، أو أراد النَّقْض عليهم، فهو معْذُور في يمينه، وتكون يمينه على نيته، فإذا استثنى بقلبه مشيئة الله - تعالى - فيها لم ينعقد عليه أَيْمَانه، ولم يحنث فيها بإظهاره أسرارَ الباطنية للناس، ولم تطلق نساؤُه، ولا تعتق مماليكه، ولا تلزمه صدقة بذلك، وليس زعيم الباطنية عند المسلمين إمامًا، ومن أظهر سره لم يظهر سر إمام، وإنما أظهر سر كافر زنديق، وقد جاء في ذكر الحديث المأثور: ((اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس))، فهذا بيان حيلتهم على الأغمار بالأيمان.
فأما احتيالهم على الأغمار بالتشكيك، فمِن جهة أنهم يسألونهم عن مسائل من أحكام الشريعة، يوهمونهم فيها خلاف معانيها الظاهرة، وربما سألوهم عن مسائل في المحسوسات يوهمون أن فيها علومًا لا يُحيط بها إلا زعيمهم، فمِن مسائلهم قول الداعي منهم للغِر: لم صار للإنسان إذنان ولسان واحد؟ ولِمَ صار للرجل ذَكَر واحد وخصيتان؟ ولم صارت الأعصاب متَّصلة بالدماغ، والأوردة متصلة بالكبِد، والشرايين متصلة بالقلب؟ ولِمَ صار الإنسانُ مخصوصًا بنبات الشعر على جفنيه الأعلى والأسفل، وسائر الحيوانات ينبت الشعر على جفنه الأعلى دون الأسفل؟ ولِمَ صَارَ ثدي الإنسان على صدره، وثدي البهائم على بطونها؟ ولماذا لم يكن للفرس غدد ولا كرش ولا كعب؟ وما الفرق بين الحيوان الذي يبيض ولا يلد، والذي يلد ولا يبيض؟ وبماذا يميز بين السمكة النهرية والسمكة البحرية؟ ونحو هذا كثير يوهمون أن العلم بذلك عند زعيمهم.
ومن مسائلهم في القرآن سؤالهم عن معاني حروف الهجاء في أوائل السور؛ كقوله: (الم)، و(حم)، و(طس)، و(يس)، و(طه)، و(كهيعص)، وربما قالوا: ما معنى كلِّ حرف من حروف الهجاء؟ ولِمَ صارت حروف الهجاء تسعة وعشرين حرفًا؟ ولم أعجم بعضها بالنقط وخلا بعضها من النقط؟ ولِمَ جازَ وصل بعضها بما بعدها بحرف؟ وربما قالوا للغر: ما معنى قوله: ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ [الحاقة: 17]، ولم جعل الله - تعالى - أبواب الجنة ثمانية، وأبواب النار سبعة؟ وما معنى قوله: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ [المدثر: 30]؟ وما فائدة هذا العدد؟ وربما سألوا عن آيات أوهموا فيها التناقُض، وزعموا أنه لا يعرف تأويلها إلا زعيمهم؛ كقوله: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ﴾ [الرحمن: 39]، مع قوله في موضع آخر: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِين﴾ [الحجر: 92].
ومنها مسائلهم في أحكام الفقه؛ كقولهم: لم صارت صلاة الصبح ركعتين، والظهر أربعًا، والمغرب ثلاثًا؟ ولم صار في كل ركعة ركوع واحد وسجدتان؟ ولم كان الوضوء على أربعة، والتيمم على عضوين؟ ولم وجب الغُسْل منَ المنيِّ؟ وهو عند أكثر المسلمين طاهر، ولم يجب الغسل من البَوْل مع نجاسته عند الجميع؟ ولم أعادت الحائض ما تركت من الصيام، ولَمْ تعد ما تركت من الصلاة؟ ولم كانت العقوبة في السرقة بقطع اليد، وفي الزنى بالجلد؟ وهلا قُطِع الفرج الذي به زنى في الزنى، كما قطعت اليدُ التي بها سرق في السرقة؟ فإذا سمع الغر منهم هذه الأشياء، ورجع إليهم في تأويلها، قالوا له: علمها عند إمامنا، وعند المأذون له في كشْف أسرارنا، فإذا تقرر عند الغر أن إمامهم أو ما دونه هو العالم بتأويله، اعتقد أن المراد بظواهر القرآن والسنة غير ظاهرها، فأخرجوه بهذه الحيلة عن العمل بأحكام الشريعة، فإذا اعتاد ترك العبادة، واستحل المحرمات، كشفوا له القناع، وقالوا له: لو كان لنا إله قديم غني عن كل شيء، لم يكن له فائدة في ركوع العباد وسجودهم، ولا في طوافهم حول بيت من حجر، ولا في سعي بين جبلَيْن، فإذا قبل منهم ذلك، فقد انسلخ عن توحيد ربه، وصار جاحدًا له زنديقًا.
قال عبدالقاهر: والكلامُ عليهم في مسائلهم التي يسألون عنها عند قصدهم إلى تشكيك الأغمار في أصول الدين من وجهين:
أحدهما: أن يقال لهم: إنكم لا تخلون من أحد أمرين: إما أن تقرُّوا بحدوث العالم، وتثبتوا له صانعًا قديمًا، عالمًا حكيمًا، يكون له تكليف عباده ما شاء، كيف شاء، وإما أن تنكروا ذلك، وتقولوا بقِدَمِ العالم، ونفْي الصانع، فإن اعتقدتم قدمَ العالم، ونفْي الصانع، فلا معنى لقولكم: لِمَ فرض الله كذا؟ ولم حرم كذا؟ ولم خلق كذا؟ ولم جعل كذا على مقدار كذا؟ وإذا لم تقروا بأنه فرض شيئًا أو حرمه، أو خلق شيئًا أو قدره، ويصير الكلام بيننا وبينكم كالكلام بيننا وبين الدهرية في حدوث العالم، وإن أقررتم بحدوث العالم وتوحيد صانعه، وأجزتم له تكليف عباده ما شاء من الأعمال، كان جواز ذلك جوابًا لكم عن قولكم: لِمَ فرض، ولم حرم كذا، لإقراركم بجواز ذلك منه إن أقررتم به، وبجواز تكليفه، وكذلك سؤالهم عن خاصية المحسوسات يبطل إن أقروا بصانع أحدثها، وإن أنكروا الصانع فلا معنى لقولهم: لِمَ خلق الله ذلك؟ مع إنكارهم أن يكون لذلك صانع قديم.
والوجه الثاني من الكلام عليهم فيما سألوا عنه من عجائب خلْق الحيوان، أن يقال لهم: كيف يكون زعماء الباطنية مخصوصين بمعرفة علل ذلك، وقد ذكرته الأطباء والفلاسفة في كتبهم، وصنَّفَ أرسطاطاليس في طبائع الحيوان كتابًا؟ وما ذكرت الفلاسفة من هذا النوع شيئًا إلا مسروقًا من حكماء العرب الذين كانوا قبل زمان الفلاسفة من العرب القحطانية، والجرهمية، والطسمية، وسائر الأصناف الحميرية، وقد ذكر العرب في أشعارها وأمثالها جميع طبائع الحيوان، ولم يكن في زمانها باطني ولا زعيم للباطنية.
وقال أبو محمد بن حزم في كتابه: "الفِصَل في المِلَل والأهواء والنِّحَل" ج2 ص114 -115:
وقد تسمَّى باسم الإسلام من أجمع جميع فرق الإسلام على أنه ليس مسلمًا؛ مثل: طوائف من الخوارج غلوا، فقالوا: إن الصلاة ركعة بالغداة، وركعة بالعشي فقط، وآخرون استحلوا نكاح بنات البنين، وبنات البنات، وبنات بني الإخوة، وبنات بني الأخوات، وقالوا: إن سورة يوسف ليستْ من القرآن، وآخرون منهم قالوا: يُحَد الزاني والسارق، ثم يستتابون من الكفر، فإن تابوا وإلا قتلوا، وطوائف كانوا من المعتزلة ثم غلوا، فقالوا بتناسخ الأرواح، وآخرون منهم قالوا: إن شحم الخنزير ودماغه حلال، وطوائف من المرجئة قالوا: إن إبليس لم يسأل الله قط النظرة، ولا أقر بأن خلقه من نار، وخلق آدم من تراب، وآخرون قالوا: إن النبوة تكتسب بالعمل الأصلح، وآخرون كانوا من أهل السنة، فغلوا فقالوا: قد يكون في الصالحين من هو أفضل من الأنبياء ومن الملائكة - عليهم السلام - وإن مَن عرف الله حق معرفته، فقد سقطت عنهم الأعمال والشرائع، وقال بعضهم بحلول الباري - تعالى - في أجسام خلقه؛ كالحلاج وغيره.
وطوائف كانوا منَ الشيعة، ثم غلوا فقال بعضهم بإلهية علي بن أبي طالب - عليه السلام - والأئمة بعده، ومنهم مَن قال بنبوته وبتناسخ الأرواح، كالسيد الحميري الشاعر وغيره.
وقالت طائفة منهم بإلهية أبي الخطاب محمد بن أبي زينب مولى بني أسد، وقالتْ طائفة بنبوة المغيرة بن أبي سعيد مولى بني بجلة، وبنبوة أبي منصور العجلي، وبزيع الحايك.
وبيان بن سمعان التميمي وغيرهم، وقال آخرون منهم برجعة علي إلى الدنيا، وامتنعوا من القول بظاهر القرآن، وقالوا: إن لظاهره تأويلات؛ فمنها أن قالوا: السماء محمد، والأرض أصحابه، وإن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة؛ إنها هي فلانة - يعني أم المؤمنين - رضي الله عنها - وقالوا: العدل والإحسان هو علي، والجبت والطاغوت فلان وفلان - يعنون أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما.
وقالوا: الصلاة هي دعاء الإمام، والزكاة هي ما يعطي الإمام، والحج القصد إلى الإمام، وفيهم خناقون ورضاخون، وكل هذه الفرق لا تتعلق بحجة أصلاً، وليس بأيديهم إلا دعوى الإلهام والقحة والمُجاهرة بالكذب، ولا يلتفتون إلى مناظرة، ويكفي من الرد عليهم أن يقال لهم: ما الفرق بينكم وبين مَن ادعى أنه ألهم بطلان قولكم؟ ولا سبيل إلى الانفكاك من هذا، وأيضًا فإن جميع فرق الإسلام متبرئة منهم، مكفرة لهم، مجمعون على أنهم على غير الإسلام - نعوذ بالله من الخذلان".
قال أبو محمد بن حزم:
والأصل في أكثر خروج هذه الطوائف عن ديانة الإسلام: أن الفرس كانوا من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم، وجلالة الخطر في أنفسهم؛ حتى إنهم كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأبناء، وكانوا يعدون سائر الناس عبيدًا لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكانت العرب أقل الأمم عند الفرس خطرًا تعاظمهم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى؛ ففي كل ذلك يظهر الله - سبحانه وتعالى - الحق، وكان من قائمتهم ستقادة وأستاسيس والمقنع وبابك وغيرهم، وقبل هؤلاء رام ذلك عمار الملقب بخداش وأبو مسلم السراج، فرأوا أن كيده على الحيلة أنجع، فأظهر قوم منهم الإسلام، واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة أهل بيت رسول الله ﷺ واستشناع ظلْم علي t ثم سلكوا بهم مسالك شتى، حتى أخرجوهم عن الإسلام، فقوم منهم أدخلوهم إلى القول بأن رجلاً ينتظر يدعى "المهدي" عنده حقيقة الدين؛ إذ لا يجوز أن يؤخذ الدين من هؤلاء الكفار، إذ نسبوا أصحاب رسول الله ﷺ إلى الكفر.
وقوم خرجوا إلى نبوة من ادعوا له النبوة، وقوم سلكوا بهم المسلك الذي ذكرنا من القول بالحلول وسقوط الشرائع.
وآخرون تلاعبوا فأوجبوا عليهم خمسين صلاة في كل يوم وليلة، وآخرون قالوا: بل هي سبع عشرة صلاة في كل صلاة خمس عشرة ركعة، وهذا قول عبدالله بن عمرو بن الحارث الكندي قبل أن يصير خارجيًّا صفريًّا.
وقد سلك هذا المسلك أيضًا عبدالله بن سبأ الحميري اليهودي؛ فإنه - لعنه الله - أظهر الإسلام لكيد أهله، فهو كان أصل إثارة الناس على عثمان t وأحرق علي بن أبي طالب t منهم طوائف أعلنوا له بالألوهية.
ومن هذه الأصول الملعونة حدثت الإسماعيلية والقرامطة، وهما طائفتان مجاهرتان بترك الإسلام جملة، قائلتان بالمجوسية المحضة، ثم مذهب مزدك الموبذ الذي كان على عهد أنوشروان بن قيماز ملك الفرس، وكان يقول بوجوب تساوي الناس في النساء والأموال.
وقال الشيخ عبدالقاهر البغدادي([2]):
"والصحيح عندنا أن اسم ملة الإسلام واقع على كل مَن أقر بحدوث العالم، وتوحيد صانعه وقدمه، وأنه عادل حكيم، مع نفي التشبيه والتعطيل عنه، وأقر - مع ذلك - بنبوة جميع أنبيائه، وبصحة نبوة محمد ﷺ ورسالته إلى الكافة، وبتأييد شريعته، وبأن كل ما جاء به حق، وبأن القرآن منبع أحكام شريعته، وبوُجُوب الصلوات الخمس إلى الكعبة، وبوجوب الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت على الجملة.
فكل مَن أقَرَّ بذلك فهو داخل في أهل ملة الإسلام، وينظر فيه بعد ذلك: فإن لم يخلط إيمانه ببدعة شنعاء تؤدي إلى الكفر، فهو الموحد السني، وإن ضم إلى ذلك بدعة شنعاء نُظر: فإن كان على بدعة الباطنية، أو البيانية، أو المغيرية، أو المنصورية، أو الجناحية، أو السبئية، أو الخطابية من الرافضة، أو كان على دين الحلولية، أو على دين أصحاب التناسخ، أو على دين الميمونية، أو اليزيدية من الخوارج، أو على دين الخابطية، أو الحمارية من القدرية، أو كان ممن يحرم شيئًا مما نص القرآن على إباحته باسمه، أو أباح ما حرَّم القرآن باسمه، فليس هو من جملة أمة الإسلام.
وإن كانتْ بدعتُه من جنس بدع الرافضة والزيدية، أو الرافضة الإمامية، أو من بدع أكثر الخوارج، أو من جنس بدع المعتزلة، أو من جنس بدع النجارية، أو الجهمية، أو الضرَّاريّة، أو المجسمة من الأمة، كان من جملة أمة الإسلام في بعض الأحكام، وهو أن يدفن في مقابر المسلمين، ويدفع إليه سهمه من الغنيمة إنْ غزا مع المسلمين، ولا يمنع من دخول مساجد المسلمين، ومن الصلاة فيها، ويخرج في بعض الأحكام عن حكم أمة الإسلام، وذلك أنه لا تجوز الصلاة عليه، ولا الصلاة خلفه، ولا تحل ذبيحته، ولا تحل المرأة منهم للسني، ولا يصح نكاح السنية من أحدٍ منهم.
والفرق المنتسبة إلى الإسلام في الظاهر مع خروجها عن جملة الأمة عشرون فرقة هذه ترجمتها:
"سبئية، وبيانية، وحربية، ومغيرية، ومنصورية، وجناحية، وخطابية، وغرابية، ومفوضية، وحلولية، وأصحاب التناسخ، وخابطية، وحمارية، ومُقَنعية، ورزامية، ويزيدية، وميمونية، وباطنية، وحلاجية، وعذافرية، وأصحاب إباحة، وربما انشعبت الفرقة الواحدة من هذه الفرق أصنافًا كثيرة".
القرامطة
قال ابن الجوزي في كتابه: "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم"([3]) في حوادث سنة ثلاثمائة وسبع عشرة:
وفيها بذرق الحاج([4]) منصور الديلمي وسلموا في طريقهم، فلما وصلوا إلى مكة وافاهم أبو طاهر الهجري إلى مكة يوم التروية، فقتل الحجاج في المسجد الحرام، وفي فجاج مكة، وقتلهم في البيت قتلاً ذريعًا، وكان الناس في الطواف وهم يقتلون، وكان في الجماعة علي بن بابويه يطوف، فلما قطع الطواف ضربوه بالسيوف، فلما وقع أنشد:
تَرَى المُحِبِّينَ صَرْعَى فِي دِيَارِهِمُ | كَفِتْيَةِ الكَهْفِ لاَ يَدْرُونَ كَمْ لَبِثُوا |
واقتلع الهجري الحجر الأسود، وقلع قبة بئر زمزم، وعرى الكعبة، وقلع باب البيت، وأصعد رجلاً من أصحابه؛ ليقلع الميزاب، فتردى الرجل على رأسه ومات، وقتل أمير مكة، وأخذ أموال الناس، وطرح القتلى في بئر زمزم، ودفن باقيهم في مصارعهم وفي المسجد الحرام من غير أن يصلى عليهم، وانصرف إلى بلده، وحمل معه الحجر الأسود، فبقي عندهم أكثر من عشرين سنة إلى أن ردوه،
ثم روى ابن الجوزي بسنده إلى أبي الحسين عبدالله بن أحمد بن عياش القاضي، قال: أخبرني بعض أصحابنا: أنه كان بمكة في الوقت الذي دخلها أبو طاهر القرمطي ونهبها وسلب البيت وقلع الحجر الأسود والباب، وقتل المسلمين في الطواف، وفي المسجد، وعمل تلك الأعمال العظيمة، قال: فرأيت رجلاً قد صعد البيت؛ ليقلع الميزاب، فلما صار عليه سقط، فاندقت عنقه، فقال القرمطي: لا يصعد إليه أحد ودعوه، فترك الميزاب، ولم يقلع، ثم سكنت الثائرة بعد يوم أو يومين، قال: فكنت أطوف بالبيت فإذا بقرمطي سكران، وقد دخل المسجد بفرسه، فصفر له حتى بال في الطواف، وجرد سيفه ليضرب به من لحق وكنتُ قريبًا منه، فعدوت، فلحق رجلاً كان إلى جنبي فضربه فقتله، ثم وقف وصاح: يا حمير، أليس قلتم في هذا البيت من دخله كان آمنًا، وقد قتلته الساعة بحضرتكم؟
قال: فخشيت من الرد عليه أن يقتلني، ثم طلبت الشهادة، فجئت حتى لصقت به، وقبضت على لجامه، وجعلت ظهري مع ركبتيه؛ لئلا يتمكَّن من ضربي بالسيف، ثم قلت: اسمع، قال: قل، قلتُ: إنَّ الله - عز وجل - لم يردْ أن من دخله كان آمنًا، إنما أراد مَن دخله فأمنوه، وتوقعت أن يقتلني، فلوى رأس فرسه، وخرج من المسجد، وما كلمني.
ثم قال ابن الجوزي: قال المحسن: وحدثني أبو أحمد الحارثي، قال: أخبرني رجل من أصحاب الحديث أسرته القرامطة سنة الهبير، واستعبدته سنين، ثم هرب منها لما أمكنه، قال: كان يملكني رجل منهم يسومني سوء العذاب، ويستخدمني أعظم خدمة، ويعربد علي إذا سكر، فسكر ليلة وأقامني حياله، وقال: ما تقول في محمد هذا صاحبكم؟ قلت: لا أدري، ولكن ما تعلمني أيها المؤمن أقوله، قال: كان رجلاً سائسًا، فما تقول في أبي بكر؟ قلت: لا أدري، قال: كان رجلاً ضعيفًا مهينًا، فما تقول في عمر؟ قلت: لا أدري، قال: كان والله فظًّا غليظًا، فما تقول في عثمان؟ قلت: لا أدري، قال: كان جاهلاً أحمق، فما تقول في علي؟ قلت: لا أدري، قال: كان ممخرقًا، أليس يقول: إن هذا علمًا لو أصبت له حملة، أما كان في ذلك الخلق العظيم بحضرته من يودع كل واحد منهم كلمة حتى يفرغ ما عنده، هل هذه إلا مخرقة؟ ونام، فلما كان من غد دعاني، فقال: ما قلت لك البارحة؟ فأريته أني لم أفهمه، فحذَّرَني من إعادته والإخبار عنه بذلك، فإذا القوم زنادقة لا يؤمنون بالله، ولا يُفَكِّرُون في أحد من الصحابة.
قال المحسن: ويدل على هذا أن أبا طاهر القرمطي دخل الكوفة دفعات، فما دخل إلى قبر علي - عليه السلام - واجتاز بالحائر فما زار الحسين، وقد كانوا يمخرقون بالمهدي، ويوهمون أنه صاحب المغرب، ويراسلون إسماعيل بن محمد صاحب المهدية المقيم بالقيروان.
ومضت منهم سرية مع الحسن بن أبي منصور بن أبي سعيد في شوال سنة ستين وثلاثمائة، فدخلوا دمشق في ذي القعدة من هذه السنة، فقتلوا خلقًا، ثم خرجوا إلى مكة فقتلوا واستباحوا".
وقال ابن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ"([5]) في حوادث سنة سبع عشرة وثلاثمائة:
ذكر مسير القرامطة إلى مكة، وما فعلوه بأهلها وبالحجاج، وأخذهم الحجر الأسود:
حج بالناس في هذه السنة منصور الديلمي، وسار بهم من بغداد إلى مكة، فسلموا في الطريق، فوافاهم أبو طاهر القرمطي بمكة يوم التروية، فنهب هو وأصحابه أموال الحجاج وقتلوهم حتى في المسجد الحرام وفي البيت نفسه، وقلع الحجر الأسود، ونفذه إلى هجر، فخرج إليه ابن محلب أمير مكة في جماعة من الأشراف، فسألوه في أموالهم، فلم يشفعهم فقاتلوه فقتلهم أجمعين، وقلع باب البيت، وأصعد رجلاً ليقلع الميزاب، فسقط فمات، وطرح القتلى في بئر زمزم، ودفن الباقين في المسجد الحرام، حيث قتلوا بغير كفن ولا غُسل، ولا صلى على أحد منهم، وأخذ كسوة البيت فقسمها بين أصحابه، ونهب دور أهل مكة، فلما بلغ ذلك المهدي أبا محمد عبيدالله العلوي بإفريقية، كتب إليه ينكر عليه ذلك، ويلومه ويلعنه ويقيم عليه القيامة، ويقول: قد حققت على شيعتنا ودعاة دولتنا اسم الكفر والإلحاد بما فعلته، وإن لم ترد على أهل مكة وعلى الحجاج ما أخذتَ منهم وترد الحجر الأسود إلى مكة، فأنا بريء منك في الدنيا والآخرة، فلما وصله هذا الكتاب أعاد الحجر الأسود - على ما سنذكره - واستعاد ما أمكنه من الأموال من أهل مكة فرده، وقال: إن الناس اقتسموا كسوة الكعبة وأموال الحجاج ولا أقدر على منعهم".
قال ابن جرير في كتابه: "تاريخ الأمم والملوك" في حوادث سنة 312هـ:
"وفي ذي القعدة من هذه السنة، قدم خلق كثير من الخراسانية إلى مدينة السلام للحج، واستعدوا بالخيل والسلاح، فأخرج السلطان القافلة الأولى مع جعفر بن ورقاء، وكان أمير الكوفة يومئذ، فوقع إليه خبر القرمطي وتحركه مرتصدًا للقوافل، فأمر جعفر الناس بالتوقف والمقام حتى يتعرف حقائق الأخبار.
وتقدم جعفر في أصحابه، ومن خف وتسرع من الحاج، فلما قرب من زبالة اتبعه الناس، وخالفوا أمره، فوجدوا أصحاب الجنابي مقيمين، ينتظرون موافاة القوافل، وقد منعوا أن يجوزهم أحد يخبر بخبرهم، فلما رأوه ناوشوه القتال، ثم حال بينهم الليل، وخلص ابن ورقاء بنفسه، وقُتل خلقٌ كثير ممن كان معه، وترك الحاج المتسرعة جمالهم ومحاملهم، وفروا راجعين إلى الكوفة، واتبعهم القرمطي.
وكان بالكوفة جني الصفواني، وثمل الطرسوسي وطريف السبكري، فاجتمعوا واجتمع إليهم بنو شيبان، فحاربوا القرمطي عشية، فقاموا له، وانتصفوا منه، ثم باكرهم بالغدو، فهزمهم وأسر جنيًّا الصفواني، وقتل خلقًا من الجند، وانهزم الباقون إلى بغداد، وأقام القرامطة بالكوفة، وأخذوا أكثر ما كان في الأسواق، وقلعوا أبواب حديد كانت بالكوفة، ثم رحل إلى البحرين، وبطل الحج من العراق في هذه السنة، وصح حج أهل مصر والشام".
وقال ابن جرير في كتابه: "تاريخ الأمم والملوك"([6]) في حوادث سنة 316هـ: "ذكر الحوادث التي أحدثها القرامطة بمكة وغيرها":
وفي هذه السنة سار الجنابي القرمطي - لعنه الله - إلى مكة، فدخلها وأوقع بأهلها عند اجتماع الموسم وإهلال الناس بالحج، فقتل المسلمين بالمسجد الحرام، وهم متعلقون بأستار الكعبة، واقتلع الحجر وذهب به، واقتلع أبواب الكعبة وجرَّدها من كسوتها، وأخذ جميع ما كان فيها من آثار الخلفاء التي زينوا بها الكعبة، وذهبوا بدرة اليتيم، وكانت تزن - فيما ذكر أهل مكة - أربعة عشر مثقالاً، وبقرطي مارية، وقرن كبش إبراهيم، وعصا موسى، ملبسين بالذهب، مرصعين بالجوهر، وطبق ومكبة من ذهب، وسبعة عشر قنديلاً كانت بها من فضة، وثلاثة محاريب فضة، كانت دون القامة منصوبة في صدر البيت، ثم رد الحجر بعد أعوام، ولم يرد من سائر ذلك شيء.
وقيل: إن الجنابي - لعنه الله - صعد إلى سطح الكعبة؛ ليقلع الميزاب، وهو من خشب ملبس بذهب، فرماه بنو هذيل الأعراب من جبل أبي قبيس بالسهام، حتى أزالوهم عنه، ولم يصلوا إلى قلعه".
وقال ابن الجوزي في كتابه: "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم"([7]) في حوادث سنة 312هـ:
"وفيها: ضعف أمر أبي الحسن ابن الفرات، وكان السبب أنه ورد الخبر في محرم هذه السنة بأن أبا طاهر بن أبي سعيد الجنابي ورد إلى الهبير لتلقي الحاج سنة إحدى عشرة وثلاثمائة في رجوعهم، وأوقع ببعض الحاج، ومضى بعضهم على غير الطريق، فعارضهم أبو طاهر وقاتلهم يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة اثنتي عشرة، فقتل منهم قتلاً مسرفًا، وأسر أبا الهيجاء عبدالله بن حمدان، وكان إليه الكوفة وطريق مكة وبذرقة الحاج([8])، وأسر معه جماعة من خدم السلطان وأسبابه، وأخذ جمال الحاج، وسبى من اختار من النساء والرجال والصبيان، وسار بهم إلى هجر، وترك باقي الحاج في مواضعهم بلا جمال ولا زاد، وكانت سن أبي طاهر في ذلك الوقت سبع عشرة سنة، فمات أكثر الحاج بالعطش والحفاء، وحصل له ما حرز من الأموال ألف ألف دينار، ومن الأمتعة والطيب وغير ذلك بنحو ألف ألف، وكان جميع عسكره نحوًا من ثمانمائة فارس، ومثلهم رجالة، فانقلبت بغداد، وخرجت النساء منشورات الشعور، مسودات الوجوه، يلطمن ويصرخن في الشوارع، وانضاف إليهن حرم المنكوبين الذين نكبهم ابن الفرات، وكانت صورة شنيعة، فركب ابن الفرات إلى المقتدر وحدثه الحال، فقال له نصر الحاجب: الساعة تقول: أي شيء الرأي؟ بعد أن زعزعت أركان الدولة، وعرضتها للزوال بإبعادك مؤنس المظفر الذي يناضل الأعداء، ومن الذي أسلم رجال السلطان وأصحابه إلى القرمطي سواك؟ وأشار نصر على المقتدر بمكاتبة مؤنس بالتعجيل إلى الحضرة، فأمر أن يكتب إليه بذلك، ووثب العامة على ابن الفرات فرجمت طيارته بالآجر، ورجمت داره، وصاحوا: يا ابن الفرات القرمطي الكبير، وامتنع الناس من الصلاة في الجوامع، ثم قبض على ابن الفرات وابنيه وأسبابه، وحمل إلى دار نازوك والعامة يضربونه بالآجر، ويقولون: قد قبض على القرمطي الكبير، وأخذ خطه بألفي ألف دينار، وكان ابنه المحسن يخرج في زي النساء، فغمز عليه فأخذ وكتب خطه بثلاثة آلاف ألف دينار، وقتل ابن الفرات وولده المحسن ووزر أبو القاسم عبدالله بن محمد الخاقاني.
وورد كتاب من محمد بن عبدالله الفارقي من البصرة؛ يذكر أن كتاب أبي الهيجاء عبدالله بن حمدان ورد عليه من هجر، وأنه كلم أبا طاهر في أمر مَن كان استأسر من الحاج، وسأل إطلاقهم، وأنه أحصى من قتله منهم، فكانوا من الرجال ألفين ومائتين وعشرين، ومن النساء نحو خمسمائة امرأة، ووعد بإطلاقهم.
ثم وردت الأخبار بورود طائفة إلى البصرة إلى أن كان آخر من أطلق منهم أبو الهيجاء في جماعة من أصحاب السلطان، وقدم معهم رسول من أبي طاهر؛ يسأل الإفراج له عن البصرة والأهواز، فأنزل وأكرم وأقيمت له الأنزال الواسعة، ولم يجب إلى ما التمس، وأنفق السلطان في خروج مؤنس إلى الكوفة ثم إلى واسط ألف ألف دينار".
وقال ابن كثير في "البداية والنهاية"([9]) في حوادث سنة 317هـ، ذِكْر أخْذ القرامطة الحجر الأسود إلى بلادهم:
فيها خرج ركب العراق، وأميرهم منصور الديلمي، فوَصَلُوا إلى مكة سالمين، وتوالت الركوب هناك من كل مكان وجانب، فما شعروا إلا بالقرمطي قد خرج عليهم في جماعته يوم التروية، فانتهب أموالهم، واستباح قتالهم، فقَتَلَ في رحاب مكة وشعابها، وفي المسجد الحرام، وفي جوف الكعبة من الحجاج - خلقًا كثيرًا، وجلس أميرهم أبو طاهر - لعنه الله - على باب الكعبة، والرجال تُصْرَع حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام في يوم التروية، الذي هو من أشرف الأيام، وهو يقول:
أَنَا اللهُ وَبِاللهِ أَنَا | يَخْلُقُ الخَلْقَ وَأُفْنِيهِمْ أَنَا |
فكان الناس يفرون منه، فيتعلقون بأستار الكعبة، فلا يجدي ذلك عنهم شيئًا، بل يقتلون وهم كذلك، ويطوفون فيُقتلون في الطواف، وقد كان بعض أهل الحديث يومئذ يطوف، فلما قضى طوافه أخذته السيوف، فلما وجب أنشد وهو كذلك:
تَرَى المُحِبِّينَ صَرْعَى فِي دِيَارِهِمُ | كَفِتْيَةِ الكَهْفِ لاَ يَدْرُونَ كَمْ لَبِثُوا |
فلما قضى القرمطي - لعنه الله - أمره، وفعل ما فعل بالحجيج من الأفاعيل القبيحة، أمر أن تدفن القتلى في بئر زمزم، ودَفَنَ كثيرًا منهم في أماكنهم من الحرم، وفي المسجد الحرام، ويا حبذا تلك القتلة وتلك الضجعة، وذلك المدفن والمكان، ومع هذا لم يُغَسَّلُوا، ولم يكفنوا، لأنهم محرمون شُهداء في نفْس الأمر.
وهدم قبة زمزم، وأمر بقلع باب الكعبة، ونزع كسوتها منها، وشققها بين أصحابه، وأمر رجلاً أن يصعد إلى ميزاب الكعبة، فيقتلعه فسقط على أم رأسه فمات إلى النار، فعند ذلك انكف الخبيث عن الميزاب، ثم أمر بأن يقلع الحجر الأسود، فجاءه رجل فضربه بمثقل في يده، وقال: أين الطير الأبابيل ترميهم بالحجارة من سجيل؟ ثم قلع الحجر الأسود، وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم اثنتين وعشرين سنة، حتى ردوه كما سنذكره في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، فإنا لله، وإنا إليه راجعون!
ولما رجع القرمطي إلى بلاده ومعه الحجر الأسود، وتبعه أمير مكة هو وأهل بيته وجنده، وسأله وتشفع إليه أن يرد الحجر الأسود؛ ليوضع في مكانه، وبذل له جميع ما عنده من الأموال، فلم يلتفت إليه، فقاتله أمير مكة فقتله القرمطي، وقتل أكثر أهل بيته وأهل مكة وجنده، واستمر ذاهبًا إلى بلاده ومعه الحجر وأموال الحجيج.
وقد ألحد هذا اللعين في المسجد الحرام إلحادًا لم يسبقْه إليه أحد، ولا يلحقه فيه، وسيجازيه على ذلك الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد.
وإنما حمل هؤلاء على هذا الصنيع أنهم كفار زنادقة، وقد كانوا ممالئين للفاطميين الذين نبغوا في هذه السنين ببلاد إفريقيَّة من أرض المغرب، ويلقب أميرهم بالمهدي، وهو أبو محمد عبيدالله بن ميمون القداح، وقد كان صباغًا بسلمية، وكان يهوديًّا، فادعى أنه أسلم، ثم سافر من سلمية، فدخل بلاد إفريقية، فادعى أنه شريف فاطمي، فصدقه على ذلك طائفة كثيرة من البربر وغيرهم من الجهلة، وصارت له دولة، فملك مدينة سِجِلْماسَة، ثم ابتنى مدينة وسماها المهدية، وكان قرار ملكه بها، وكان هؤلاء القرامطة يراسلونه، ويدعون إليه ويترامون عليه، ويقال: إنهم إنما كانوا يفعلون ذلك سياسة ودولة لا حقيقة له. وذكر ابن الأثير أن المهدي هذا كتب إلى أبي طاهر يلومه على ما فعل بمكة؛ حيث سلط الناس على الكلام فيهم، وانكشفتْ أسرارهم التي كانوا يبطنونها بما ظهر من صنيعهم هذا القبيح، وأمره بردِّ ما أخذه منها، وعوده إليها، فكتب إليه بالسمع والطاعة، وأنه قد قبل ما أشار إليه مِن ذلك.
وقد أُسر بعض أهل الحديث في أيدي القرامطة، فمكث في أيديهم مدة، ثم فرج الله عنه، وكان يحكي عنهم عجائب من قلة عقولهم، وعدم دينهم، وأن الذي أسره كان يستخدمه في أشق الخدمات وأشدها، وكان يعربد عليه إذا سكر، فقال لي ذات ليلة وهو سكران: ما تقوله في محمدكم؟ فقلت: لا أدري، فقال: كان سائسًا، ثم قال: ما تقول في أبي بكر؟ قلت: لا أدري، فقال: كان ضعيفًا مهينًا، وكان عمر فظًّا غليظًا، وكان عثمان جاهلاً أحمق، وكان علي ممخرقًا، أليس كان عنده أحد يعلمه ما ادعى أنه في صدره من العلم؟ أما كان يمكنه أن يُعَلِّم هذا كلمة وهذا كلمة؟ ثم قال: هذا كله مخرقة، فلما كان من الغد قال: لا تخبرْ بهذا الذي قلته لك أحدًا؛ ذكره ابن الجوزي في "منتظمه".
ورَوَى عن بعضهم أنه قال: كنتُ في المسجد الحرام يوم التروية في مكان للطواف، فحمل على رجل كان إلى جانبي فقتله القرمطي، ثم قال: يا حمير - ورفع صوته بذلك - أليس قلتم في بيتكم هذا: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾؟ فأين الأمنُ؟ قال: فقلتُ: أسمع جوابك، قال: نعم، قلت: إنما أراد الله فأمنوه، قال: فثنى رأس فرسه، وانصرف.
وقد سأل بعضهم ها هنا سؤالاً، فقال: قد أحل الله - سبحانه - بأصحاب الفيل - وكانوا نصارى - ما ذكره في كتابه ولم يفعلوا بمكة شيئًا مما فعله هؤلاء، ومعلوم أن القرامطة شر من اليهود والنصارى والمجوس، بل ومن عبَدة الأصنام، وأنهم فعلوا بمكة ما لم يفعله أحدٌ، فهلا عُوجلوا بالعذاب والعقوبة، كما عوجل أصحاب الفيل؟
وقد أجيب عن ذلك: بأن أصحاب الفيل إنما عوقبوا إظهارًا لشرف البيت، ولما يُراد به من التشريف العظيم بإرسال النبي الكريم من البلد الذي فيه البيت الحرام، فلما أرادوا إهانة هذه البقعة التي يُراد تشريفها وإرسال الرسول فيها، أَهْلَكَهُم الله سريعًا عاجلاً، ولم تكن شرائع مُقررة تدل على فضله، فلو دخلوه وأخربوه لأنكرت القلوب فضله، وأما هؤلاء القرامطة فإنما فعلوا ما فعلوا بعد تقرير الشرائع، وتمهيد القواعد، والعلم بالضرورة من دين الله بشرف مكة والكعبة، وكل مؤمن يعلم أن هؤلاء قد ألحدوا في الحرم إلحادًا بالغًا عظيمًا، وأنهم من أخبث الملحدين الكافرين بما يتَبَيَّن من كتاب الله وسنة رسوله، فلهذا لم يحتج الحال إلى معاجلتهم بالعقوبة، بل أخرهم الرب تعالى ليوم تشخص فيه الأبصار، والله تعالى يمهل ويملي ويستدرج، ثم يأخذ أخْذ عزيز مقتدر، وقال النبي ﷺ: ((إنَّ الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلتْه))، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ [إبراهيم: 42]، وقال تعالى: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [آل عمران: 196، 197]، وقال - تبارك وتعالى -: ﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ [لقمان: 24]، وقال تعالى: ﴿مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾ [يونس: 70].
وذكر ابن الجوزي في "المنتظم"([10]) في حوادث سنة إحدى عشرة وثلاثمائة:
"أن المقتدر أخرج علي بن محمد بن الفرات، فقلده الوزارة يوم الخميس لتسع بقين من ربيع الآخر، وخلع عليه وعلى ابنيه المحسن والحسين، وقطع وأقطع الدار بالمخرم، وجلسوا للهناء، وأخذ ابن الفرات حامد بن العباس فصادره، وأخذ خطه بألف ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار، وصادر مؤنسًا خادم حامد على ثلاثين ألف دينار، ورُوسل علي بن عيسى أن يقرر بأمواله، فكتب أنه لا يقدر على أكثر من ثلاثة آلاف دينار، فأخذه المحسن ولد ابن الفرات، وألبسه جبة صوف وأهانه، وناله بالأذى الفاحش حتى استخرج منه اليسير.
وورد الخبر في ربيع الآخر بدخول أبي طاهر سليمان بن الحسن الجنابي إلى البصرة سحر يوم الاثنين، لخمس بقين من ربيع الآخر في ألف وسبعمائة رجل، وأنه نصب سلاليم بالليل على سورها، وصعد على أعلى السور، ثم نزل إلى البلد، وقتل البوابين الذين على الأبواب، وفتح الأبواب وطرح بين كل مصراعين حصباء ورملاً كان معه على الجمال؛ لئلا يمكن غلق الأبواب عليه، ووضع السيف في أهل البصرة، وأحرق المربد، ونقض الجامع ومسجد قبر طلحة، وهرب الناس فطرحوا أنفسهم في الماء، فغرق أكثرهم، وأقام أبو طاهر بالبصرة سبعة عشر يومًا يحمل على جماله كل ما يقدر عليه من الأمتعة والنساء والصبيان، وخرج منها بما معه يوم الخميس لاثني عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة، وولى منصرفًا إلى بلده".
قال ابن كثير في البداية والنهاية في حوادث سنة 339هـ:
"في هذه السنة المباركة في ذي القعدة منها رُد الحجر الأسود إلى مكانه في البيت، وقد كانت القرامطة أخذوه في سنة سبع عشرة وثلاثمائة - كما تقدم - وكان ملكهم إذ ذاك أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي، ولما وقع هذا أعظم المسلمون ذلك جدًّا، وقد بذل لهم الأمير بَجْكَم التركي خمسين ألف دينار على أن يردوه إلى موضعه، فلم يقبلوا، وقالوا: نحن أخذناه بأمر، فلا نرده إلا بأمر من أخذناه بأمره.
فلما كان في هذا العام حملوه إلى الكوفة، وعلقوه على الأُسْطوانة السابعة من جامعها؛ ليراه الناس، وكتب أخو أبي طاهر كتابًا فيه: إنا أخذنا هذا الحجر بأمر، وقد رددناه بأمر من أمرنا بأخذه؛ ليتم حج الناس ومناسكهم، ثم أرسله إلى مكة بغير شيء على قعود، فوصل في ذي القعدة من هذه السنة، ولله الحمد والمنة، وكان مدة مقامه عنده اثنتين وعشرين سنة، ففرح المسلمون لذلك فرحًا شديدًا.
وقد ذكر غير واحد أن القرامطة لما أخذوه حملوه على عدة جمال، فعطبت تحته، واعترى أسنمتها القرح، ولما ردوه حمله قعود واحد ولم يصبه أذى".
قال ابن كثير في حوادث سنة 332هـ([11]):
"وفي رمضان من هذه السنة، كانت وفاة أبي طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن الجنابي الهجَري القرمطي، رئيس القرامطة - قبحه الله - وهذا هو الذي قتل الحجيج حول الكعبة وفي جوفها، وسلبها كسوتها، وأخذ بابها وحليتها، واقتلع الحجر الأسود من موضعه وأخذه معه إلى بلده هجر، فمكث عنده من سنة سبع عشرة وثلاثمائة ثم مات - قبحه الله - وهو عندهم، لَم يردوه إلى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة - كما سيأتي.
ولما مات هذا القرمطي، قام بالأمر من بعده إخوته الثلاثة، وهم: أبو العباس الفضل، وأبو القاسم سعيد، وأبو يعقوب يوسف، بنو أبي سعيد الجنابي.
وكان أبو العباس ضعيف البدن، مقبلاً على قراءة الكتب، وكان أبو يعقوب مقبلاً على اللهو واللعب، ومع هذا كانت كلمة الثلاثة واحدة، لا يختلفون في شيء، وكان لهم سبعة من الوزراء متفقون أيضًا".
وقال ابن الأثير في الكامل ج6 صفحة 335 في حوادث سنة 339هـ، ذكر إعادة القرامطة الحجر الأسود:
"في هذه السنة أعاد القرامطة الحجر الأسود إلى مكة، وقالوا: أخذناه بأمر، وأعدناه بأمر، وكان بجكم قد بذل لهم في رده خمسين ألف دينار، فلم يجيبوه، وردوه الآن بغير شيء في ذي القعدة، فلما أرادوا رده حملوه إلى الكوفة، وعلقوه بجامعها حتى رآه الناس، ثم حملوه إلى مكة، وكانوا أخذوه من ركن البيت الحرام سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وكان مكثه عندهم اثنتين وعشرين سنة".
"وكانت إقامة القرامطة بمكة أحد عشر يومًا، فلما عاد القرمطي إلى بلاده رماه الله تعالى في جسده حتى طال عذابه، وتقطعتْ أوصاله وأطرافه، وهو ينظر إليها، وتناثر الدود من لحمه"([12]).
وقال ابن خلدون في كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر([13]):
"وفي سنة سبع عشرة هجم على مكة([14])، وقتل كثيرًا من الحجاج ومن أهلها، ونهب أموالهم جميعًا، وقلع باب البيت والميزاب، وقسم كسوة البيت في أصحابه، واقتلع الحجر الأسود وانصرف به، وأراد أن يجعل الحج عنده، وكتب إليه عبيدالله المهدي من القيروان يوبخه على ذلك ويتهدده، فكتب إليه بالعجز عن رده من الناس، ووعد برد الحجر، فرده سنة تسع وثلاثين، بعد أن خاطبه منصور بن إسماعيل من القيروان في رده فردوه، وقد كان بجكم المتغلب على الدولة ببغداد أيام المستكفي بذل لهم خمسين ألفًا من الذهب على أن يردوه، فأبوا وزعموا أنهم إنما حملوه بأمر إمامهم عبيدالله، وإنما يردونه بأمره، وأمر خليفته وأقام أبو طاهر بالبحرين، وهو يتعاهد العراق والشام بالغزو، حتى ضربت له الإتاوة ببغداد وبدمشق على بني طنج، ثم هلك أبو طاهر سنة اثنتين وثلاثين لإحدى وثلاثين سنة من ملكه، ومات عن عشرة من الولد، كبيرهم سابور، وولي أخوه الأكبر أحمد بن الحسن، واختلف بعض العقدانية عليه، ومالوا إلى ولاية سابور بن أبي طاهر، وكاتبوا القائم في ذلك، فجاء جوابه بولاية الأخ أحمد، وأن يكون الولد سابور ولي عهده، فاستقى أحمد في الولاية عليهم، وكنوه أبا منصور، وهو الذي رد الحجر الأسود إلى مكانه كما قلناه.
ثم قبض سابور على عمه أبي منصور، فاعتقله بموافقة إخوته على ذلك، وذلك سنة ثمان وخمسين، ثم ثار بهم أخوه فأخرجه من الاعتقال، وقتل سابور، ونفى إخوته وأشياعهم إلى جزيرة أوال، ثم هلك أبو منصور سنة تسع وخمسين، يقال: مسمومًا على يد شيعة سابور، وولي ابنه أبو علي الحسن بن أحمد، ويلقب الأعصم، وقيل: الأغنم، فطالت مدته، وعظمت وقائعه، ونفى جمعًا كثيرًا من ولد أبي طاهر؛ يقال: اجتمع منهم بجزيرة أوال نحو من ثلاثمائة، وحج هذا الأعصم بنفسه، ولم يتعرض للحاج، ولا أنكر الخطبة للمطيع".
ولما اقتلع أبو طاهر القرمطي الحجر الأسود، قال شعرًا يدل على عظيم زندقته، وهو:
فَلَوْ كَانَ هَذَا البَيْتُ للهِ رَبِّنَا | لَصَبَّ عَلَيْنَا النَّارَ مِنْ فَوْقِنَا صَبَّا | |
لِأَنَّا حَجَجْنَا حَجَّةً جَاهِلِيَّةً | مُحَلَّلَةً لَمْ تَبْقَ شَرْقًا وَلاَ غَرْبَا | |
وَإِنَّا تَرَكْنَا بَيْنَ زَمْزَمَ وَالصَّفَا | جَبَابِرَ لاَ تَبْغِي سِوَى رَبِّهَا رَبَّا |
قال الأستاذ عبدالوهاب النجار في تعليقاته على كتاب "الكامل"؛ لابن الأثير([15]): وشِعْر هذا الزنديق مشْهور في التواريخ.
* * * * * * *
الحلولية
قال الشيخ عبدالقاهر البغدادي([16]): "في ذكر أصناف الحلولية، وبيان خروجها عن فرق الإسلام:
الحلولية في الجملة عشر فرق، كلها كانت في دولة الإسلام، وغرض جميعها القصد إلى إفساد القول بتوحيد الصانع، وتفصيل فرقها في الأكثر يرجع إلى غلاة الروافض؛ وذلك أن السبئية والبيانية والجناحية والخطابية والنميرية منهم بأجمعها حلولية.
وظهر بعدهم المقنعية بما وراء نهر جَيْحون، وظهر قوم بِمَرو يقال لهم: رزامية، وقوم يقال لهم: بركوكية، وظهر بعدهم قوم من الحلولية يقال لهم: حلمانية، وقوم يقال لهم: حلاجية، ينسبون إلى الحسين بن منصور المعروف بالحلاج، وقوم يقال لهم: العذافرة، ويتبع هؤلاء الحلولية قوم من الخرمية شاركوهم في استباحة المحرمات، وإسقاط المفروضات، ونحن نذكر نحلتهم على الاختصار.
أما السبئية فإنما دخلت في جملة الحلولية؛ لقولها بأن عليًّا صار إلهًا بحلول روح الإله فيه، وكذلك البيانية زعمتْ أن روح الإله دارت في الأنبياء والأئمة، حتى انتهت إلى علي، ثم دارتْ إلى محمد بن الحنفية، ثم صارت إلى ابنه هاشم، ثم حلت بعده في بيان بن سمعان.
وكذلك الجناحية منهم حلولية؛ لدعواها أن روح الإله دارت في علي وأولاده، ثم صارت إلى عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر، فكفرت بدعواها حلول روح الإله في زعيمها، وكفرت مع ذلك بالقيامة والجنة والنار.
والخطابية كلها حلولية؛ لدعواها حلول روح الإله في جعفر الصادق، وبعده في أبي الخطاب الأسدي، فهذه الطائفة كافرة من هذه الجهة، ومن جهة دعواها أن الحسن والحسين وأولادهما أبناء الله وأحباؤه، ومن ادعى منهم في نفسه أنه من أبناء الله فهو أكفر من سائر الخطابية.
والشريعية والنميرية منهم حلولية؛ لدعواها أن روح الإله حلتْ في خمسة أشخاص: النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين؛ ولدعواها أن هؤلاء الأشخاص آلهة.
وأما الرزامية: فقوم بمرو، أفرطوا في موالاة أبي مسلم صاحب دولة بني العباس، وساقوا الإمامة من أبي هاشم إليه، ثم ساقوها من محمد بن علي إلى أخيه عبدالله بن علي السفاح، ثم زعموا أن الإمامة بعد السفاح صارتْ إلى أبي مسلم، وأقروا - مع ذلك - بقتل أبي مسلم وموته، إلا فرقة منهم يقال لهم: "أبو مسلمية"، أفرطوا في أبي مسلم غاية الإفراط، وزعموا أنه صار إلهًا بحلول روح الإله فيه، وزعموا أن أبا مسلم خيرٌ من جبريل وميكائيل وسائر الملائكة، وزعموا أيضًا أن أبا مسلم حي لم يمت، وهم على انتظاره، وهؤلاء بمرو وهراة يعرفون بالبركوكية، فإذا سئل هؤلاء عن الذي قتله المنصور، قالوا: كان شيطانًا تصوَّر للناس في صورة أبي مسلم.
وأما المقنّعية فهم المبيِّضة بما وراء نهر جيحون، وكان زعيمهم المعروف بالمقنع رجلاً أعور، قصارًا بمرو من أهل قرية يقال لها: "كازه كيمن دات".
وكان قد عرف شيئًا من الهندسة والحيل والنيرنجات، وكان على دين الرزامية بمرو، ثم ادعى لنفسه الإلهية، واحتجب عن الناس ببرقع من حرير([17])، واغتر به أهل جبل إبلاق، وقوم من الصغد، ودامت فتنته على المسلمين مقدار أربع عشرة سنة، وعاونه كفرة الأتراك الخلجية على المسلمين للغارة عليهم، وهزموا عساكر كثيرة من عساكر المسلمين في أيام المهدي بن المنصور، وكان المقنع قد أباح لأتباعه المحرمات، وحرم عليهم القول بالتحريم، وأسقط عنهم الصلاة والصيام وسائر العبادات، وزعم لأتباعه أنه هو الإله وأنه كان قد تصور مرة في صورة آدم، ثم تصور في وقت آخر بصورة نوح، وفي وقت آخر بصورة إبراهيم، ثم تردد في صور الأنبياء إلى محمد، ثم تصور بعده في صورة علي، وانتقل بعد ذلك في صور أولاده، ثم تصور بعد ذلك في صورة أبي مسلم، ثم إنه زعم أنه في زمانه الذي كان قد تصور بصورة هشام بن حكيم، وكان اسمه: هشام بن حكيم، وقال: إني إنما أتنقل في الصور؛ لأن عبادي لا يطيقون رؤيتي في صورتي التي أنا عليها، ومَن رآني احترق بنوري، وكان له حصن عظيم وثيق بناحية كش ونخشب يقال له: سيام، وكان عرض جدار سورها أكثر من مائة آجُرَّة، ودونها خندق كبير، وكان معه أهل الصغد والأتراك الخلجية.
وجهز المهدي إليهم صاحب جيشه معاذ بن مسلم في سبعين ألفًا من المقاتلة، وأتبعهم بسعيد بن عمرو الجرشي، ثم أفرد سعيدًا بالقتال وبتدبير الحرب فقاتله سنين، واتخذ سعيد من الحديد والخشب مائتي سلم؛ ليضعها على عرض حائط المقنع؛ ليعبر عليها رجاله، واستدعى من مولتان الهند عشرة آلاف جلد جاموس، وحشاها رملاً، وكبس بها خندق المقنع، وقاتل جند المقنع من وراء خندقه، فاستأمن منهم إليه ثلاثون ألفًا، وقتل الباقون منهم، وأحرق المقنع نفسه في تنور في حصنه قد أذاب فيه النحاس مع القطران حتى ذاب فيه، وافتتن به أصحابه بعد ذلك لما لم يجدوا له جثة ولا رمادًا، وزعموا أنه صعد إلى السماء، وأتباعه اليوم في جبال إبلاق أكره أهلها، ولهم في كل قرية من قراهم مسجد لا يصلون فيه، ولكن يكترون مؤذنًا يؤذن فيه، وهم يستحلون الميتة والخنزير، وكل واحد منهم يستمتع بامرأة غيره، وإن ظفروا بمسلم لم يره المؤذن الذي في مسجدهم قتلوه وأخفوه، غير أنهم مقهورون بعامة المسلمين في ناحيتهم، والحمد لله على ذلك.
وأما الحلمانية من الحلولية: فهم المنسوبون إلى أبي حلمان الدمشقي، وكان أصله من فارس، ومنشؤه حلب، وأظهر بدعته بدمشق، فنسب إليها، وكان كفره من وجهين:
أحدهما: أنه كان يقول بحلول الإله في الأشخاص الحسنة، وكان مع أصحابه إذا رأوا صورة حسنة سجدوا لها يوهمون أن الإله قد حلَّ فيها.
والوجه الثاني من كفره: قوله بالإباحة، ودعواه أن من عرف الإله على الوصف الذي يعتقده هو زال عنه الخطر والتحريم، واستباح كل ما يستلذه ويشتهيه.
قال عبدالقاهر: رأيت بعض هؤلاء الحلمانية يستدل على جواز حلول الإله في الأجساد بقول الله تعالى للملائكة في آدم: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: 29]، وكان يزعم أن الإله إنما أمر الملائكة بالسجود لآدم؛ لأنه كان قد حلَّ في آدم، وإنما حله لأنه خلقه في أحسن تقويم، ولهذا قال: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: 4].
فقلتُ له: أخبرني عن الآية التي استدللت بها في أمر الله الملائكة بالسجود لآدم - عليه السلام - والآية الناطقة بأن الإنسان مخلوق في أحسن تقويم، هل أريد بهما جميع الناس على العموم، أو أريد بهما إنسان بعينه؟
فقال: ما الذي يلزمني على كل واحد من القولين إن قلت به؟
فقلتُ: إن قلت: إن المراد بهما كل الناس على العموم، لزمك أن تسجدَ لكل إنسان، وإن كان قبيح الصورة؛ لدعواك أن الإله حلَّ في جميع الناس.
وإن قلت: إن المراد به إنسان بعينه، وهو آدم - عليه السلام - دون غيره، فلِمَ تَسْجُد لغيره من أصحاب الصور الحسنة؟ ولِمَ تسجد للفرس الرائع، والشجرة المثمرة، وذوات الصور الحسنة من الطيور والبهائم؟ وربما كان لهب النار في صورة رائعة، فإن استجزت السجود له، فقد جمعت بين ضلالة الحلولية وضلالة عابدي النار، وإذا لم تسجد للنار ولا للماء ولا للهواء ولا للسماء مع حسن صور هذه الأشياء في بعض الأحوال، فلا تسجد للأشخاص الحسنة الصور.
وقلتُ له أيضًا: إن الصور الحسنة في العالم كثيرة، وليس بعضها بحلول الإله فيها أولى من بعض، وإن زعمت أن الإله حالٌّ في جميع الصور الحسنة، فهل ذلك الحلول على طريق قيام العَرَض بالجسم، أو على طريق كون الجسم في مكانه؟
ويستحيل حلول عرض واحد في محال كثيرة، ويستحيل كون شيء واحد في أمكنة كثيرة، وإذا استحال هذا، استحال ما يؤدي إليه.
وأما الحلاجية: فمنسوبون إلى أبي المغيث الحسين بن منصور، المعروف بالحلاج، وكان من أرض فارس من مدينة يقال لها: البيضاء، وكان في بدء أمره مشغولاً بكلام الصوفية، وكانت عباراته حينئذ من الجنس الذي تسمية الصوفية الشَّطْح، وهو الذي يحتمل معنيين؛ أحدهما: حسن محمود، والآخر: قبيح مذموم، وكان يدعي أنواع العلوم على الخصوص والعموم، وأفتن به قوم من أهل بغداد، وقوم من أهل طالقان خراسان.
وقد اختلف فيه المتكلمون والفقهاء والصوفية، فأما المتكلمون فأكثرهم على تكفيره، وعلى أنه كان على مذهب الحُلولية، وقَبِلَهُ قوم من متكلِّمي السالمية بالبصرة.
وكان القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الأشعري - رحمه الله - نسبه إلى معاطاة الحيل والمخاريق، وذكر في كتابه الذي أبان فيه عجز المعتزلة عن تصحيح دلائل النبوة على أصولهم مخاريق الحلاج ووجوه حيله.
واختلف الفقهاء أيضًا في شأن الحلاج، فتوقف فيه أبو العباس بن سريج لما استفتي في دمه، وأفتى أبو بكر محمد بن داود بجواز قتله.
واختلف فيه مشايخ الصوفية، فبرئ منه عمرو بن عثمان المكي، وأبو يعقوب الأقطع وجماعة منهم، وقال عمرو بن عثمان: كنت أماشيه يومًا، فقرأت شيئًا من القرآن، فقال: يمكنني أن أقول مثل هذا!
وروي أن الحلاج مرَّ يومًا على الجنيد، فقال له: أنا الحق، فقال الجنيد: أنت بالحق أية خشبة تفسد، فتحقق فيه ما قال الجنيد؛ لأنه صلب بعد ذلك.
وقَبِلَهُ جماعة من الصوفية؛ منهم: أبو العباس بن عطاء ببغداد، وأبو عبدالله بن خفيف بفارس، وأبو القاسم النَّصر آبادي بنيسابور، وفارس الدينوري بناحيته.
والذين نسبوه إلى الكفر وإلى دين الحلولية حكوا عليه أنه قال: مَن هذَّب نفسه في الطاعة، وصبر على اللذات والشهوات، ارتقى إلى مقام المقربين، ثم لا يزال يصفو ويرتقي في درجات المصافاة، حتى يصفو عن البشرية، فإذا لم يبق فيه من البشرية حظ، حلَّ فيه روح الإله الذي حل في عيسى ابن مريم، ولم يُرِد حينئذٍ شيئًا إلا كان كما أراد، وكان جميع فعله فعل الله تعالى.
وزعموا أنَّ الحلاج ادَّعى لنفسه هذه الرتبة.
وذكر أنهم ظفروا بكتب إلى أتباعه عنوانها: "من الهو الذي هو رب الأرباب المتصور في كل صورة إلى عبده فلان"، فظفروا بكتب أتباعه إليه، وفيها: "يا ذات الذات، ومنتهى غاية الشهوات، نشهد أنك المتصور في كل زمان بصورة، وفي زماننا هذا بصورة الحسين بن منصور، ونحن نستجيرك ونرجو رحمتك يا علام الغيوب".
وذكروا أنه استمال ببغداد جماعة من حاشية الخليفة، ومن حرمه حتى خاف الخليفة، وهو جعفر المقتدر بالله، معرة فتنته، فحبسه، واستفتى الفقهاء في دمه، واستروح إلى فتوى أبي بكر بن داود في إباحة دمه، فقدم إلى حامد بن العباس بضربه ألف سوط، وبقطع يديه ورجليه وصلبه بعد ذلك عند جسر بغداد، ففعل به ذلك يوم الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة، سنة تسع وثلاثمائة، ثم أنزل من جذعه الذي صلب عليه بعد ثلاث، وأحرق وطرح رماده في الدجلة.
وزعم بعض المنسوبين إليه أنه حي لم يقتل، وإنما قتل من ألقي عليه شبهه.
والذي تولوه من الصوفية زعموا أنه كُشف له أحوال من الكرامة، فأظهرها للناس، فعوقب بتسليط منكري الكرامات عليه؛ لتبقى حاله على التلبيس.
وزعم هؤلاء أن حقيقة التصوُّف حال ظاهرها تلبيس، وباطنها تقديس، واستدلوا على تقديس باطن الحلاج بما روي أنه قال عند قطع يديه ورجليه: حسْب الواحد إفراد الواحد، وبأنه سئل يومًا عن ذنبه، فأنشأ يقول:
ثَلاَثَةُ أَحْرُفٍ لاَ عَجْمَ فِيهَا | وَمَعْجُومَانِ وَانْقَطَعَ الكَلاَمُ |
وأشار بذلك إلى التوحيد.
أما العذافرة فقوم ببغداد أتباع رجل ظهر ببغداد في أيام الراضي بن المقتدر، في سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وكان معروفًا بابن أبي العذافر، واسمه محمد بن علي الشَّلْمَغَاني، وادعى حلول روح الإله فيه، وسمى نفسه روح القدس، ووضع لأتباعه كتابًا سماه بـ"الحاسة السادسة"، وصرح فيه برفع الشريعة، وأباح اللواط، وزعم أنه إيلاج الفاضل نوره في المفضول، وأباح أتباعه له حرمهم طمعًا في إيلاجه نوره فيهن، وظفر الراضي به وبجماعة من أتباعه؛ منهم: الحسين بن القاسم بن عبيدالله بن سليمان بن وهب، وأبو عمران إبراهيم بن محمد بن أحمد بن المنجِّم، ووجد كتبهما إليه يخاطبانه فيها بالرب والمولى، وبصفاته بالقدرة على ما يشاء، وأقروا بذلك بحضرة الفقهاء، ومنهم: أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج، وأبو الفرج المالكي، وجماعة من الأئمة، فاعترفوا بذلك، وأمر المعروف منهم بالحسين بن القاسم بن عبيدالله بالبراءة من ابن أبي العذافر بأن يصفعه، ففعل ذلك، وأظهر التوبة، وأفتى ابن سريج بجواز قبول توبته على مذهب الشافعي - رحمه الله.
وأفتى المالكيون برد توبة الزنديق بعد العثور عليه، فأمر الراضي بحبسه إلى أن ينظر في أمره، وأمر بقتل ابن أبي العذافر وصاحبه ابن أبي عون، فقال له ابن أبي العذافر: أمْهِلني ثلاثة أيام لتنزل فيها براءتي من السماء، ونقمة على أعدائي.
وقال الشاعر الشيعي كثيرّ عزّة:
أَلاَ إِنَّ الأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيشٍ | وُلاَةُ الْحَقِّ أَرْبَعَةٌ سَوَاءُ | |
عَلِيٌّ وَالثَّلاثَةُ مِنْ بَنِيهِ | هُمُ الأسْبَاطُ لَيْسَ بِهِمْ خَفَاءُ | |
فَسِبْطٌ سِبْطُ إِيمَانٍ وبِرٍّ | وَسِبْطٌ غَيَّبَتْهُ كَرْبِلاَءُ | |
وَسِبْطٌ لاَ يَذُوقُ المَوْتَ حَتَّى | يَقُودَ الخَيْلَ يَقْدُمُهَا اللِّوَاءُ | |
تَغَيَّبَ لاَ يُرَى فِيهِمْ زَمَانًا | بِرَضْوَى عِنْدَهُ عَسَلٌ وَمَاءُ |
وقال أحد الكسائيين:
أَلاَ حَيِّ المُقِيمَ مُقِيمَ رَضْوَى | وَأَهْدِ لَهُ بِمَنْزِلِهِ السَّلاَمَا | |
أَضَرَّ بِمَعْشَرٍ وَالوك مَنَّا | وَسَمَّوْكَ الخَلِيفَةَ وَالإِمَامَا | |
وَعَادُوا فِيكَ أَهْلَ الأَرْضِ طُرًّا | مُقَامُكَ عَنْهُمُ سَبْعِينَ عَامَا | |
لَقَدْ أَمْسَى بِجَانِبِ شَعْبِ رَضْوَى | تُرَاجِعُهُ المَلاَئِكَةُ الكَلاَمَا | |
وَمَا ذَاقَ ابْنُ خَوْلَةَ طَعْمَ مَوْتٍ | وَلاَ وَارَتْ لَهُ أَرْضٌ عِظَامَا | |
وَإِنَّ لَهُ بِهِ قبّيلَ صِدْقٍ | وَأَنْدِيةٌ تُحَدِّثُهُ كِرَامَا |
وقد أجابه الشيخ عبدالقاهر ابن طاهر البغدادي بقوله:
لَقَدْ أَفْنَيْتَ عُمرَكَ بِانْتِظَارٍ | لِمَنْ وَارَى التُّرَابُ لَهُ عِظَامَا | |
فَلَيْسَ بِشَعْبِ رَضْوَى مِنْ إِمَامٍ | تُرَاجِعُهُ المَلاَئِكَةُ الكَلاَمَا | |
وَقَدْ ذَاقَ ابْنُ خَوْلَةَ طَعْمَ مَوْتٍ | كَمَا قَدْ ذَاقَ وَالِدُهُ الحِمَامَا | |
وَلَوْ خَلَدَ امْرُؤٌ لِعُلُوِّ مَجْدٍ | لَعَاشَ المُصْطَفَى أَبَدًا وَدَامَا |
وقال أبو الحسن الأشعري([18]):
"فالشيعة ثلاثة أصناف: وإنما قيل لهم الشيعة؛ لأنهم شايعوا عليًّا t ويقدمونه على سائر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
1 - فمنهم الغالية، وإنما سموا الغالية؛ لأنهمْ غلوا في علي، وقالوا فيه قولاً عظيمًا، وهم خمس عشرة فرقة:
فالفرقة الأولى منهم: البيانية، أصحاب بيان بن سمعان التميمي، يقولون: إن الله - عز وجل - على صورة الإنسان، وأنه يهلك كله إلا وجهه.
وادَّعى بيان أنه يدعو الزهرة فتجيبه، وأنه يفعل ذلك بالاسم الأعظم، فقتله خالد بن عبدالله القسري، وحكي عنهم أن كثيرًا منهم يثبت لبيان بن سمعان النبوة، ويزعم كثير من البيانية أن أبا هاشم عبدالله بن محمد بن الحنفية نصَّ على إمامة بيان.
2 - والفرقة الثانية منهم: أصحاب عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر ذي الجناحين.
يزعمون أن عبدالله بن معاوية، كان يدعي أن العلم ينبت في قلبه، كما تنبت الكمأة والعشب، وأن الأرواح تناسخت، وأن روح الله - جل اسمه - كانت في آدم، ثم تناسختْ، حتى صارتْ فيه.
قال: وزعم أنه رب، وأنه نبي، فعبده شيعته، وهم يكفرون بالقيامة، ويدعون أن الدنيا لا تفنى، ويستحلون الميتة والخمر وغيرهما من المحارم، ويتأولون قول الله - عز وجل -: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا﴾ [المائدة: 93].
3- والفرقة الثالثة منهم: أصحاب عبدالله بن عمرو بن حرب، وهم يسمون الحربية.
يزعمون أن روح أبي هاشم عبدالله بن محمد بن الحنفية تحولت فيه، وأن أبا هاشم نص على إمامته.
4- والفرقة الرابعة منهم: المغيرية، أصحاب المغيرة بن سعيد، يزعمون أنه كان يقول: إنه نبي، وإنه يعلم اسم الله الأكبر، وإن معبودهم رجل من نور على رأسه تاج، وله من الأعضاء والخلق مثل ما للرجل، وله جوف، وقلبه ينبع منه الحكمة، وإن حروف "أبي جاد" على عدد أعضائه.
قالوا: والألف موضع قدمه لاعوجاجها، وذكر الهاء فقال: لو رأيتهم موضعها منه، لرأيتم أمرًا ًعظيمًا، يُعَرِّض لهم بالعورة، وبأنه قد رآه - لعنه الله.
وزعم أنه يحيي الموتى بالاسم الأعظم، وأراهم أشياء من النيرنجات والمخاريق، وذكر لهم كيف ابتدأ الله الخلق، فزعم أن الله - جل اسمه - كان وحده لا شيء معه، فلما أراد أن يخلق الأشياء تكلم باسمه الأعظم، فطار فوقع فوق رأسه التاج، قال: وذلك قوله: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى﴾، قال: ثم كتب بأصبعه على كفه أعمال العباد من المعاصي والطاعات، فغضب من المعاصي، فعرق، فاجتمع من عرقه بحران؛ أحدهما: مالح مظلم، والآخر: نيرّ عذب، ثم اطلع في البحر فأبصر ظله، فذهب ليأخذه فطار، فانتزع عين ظله، فخلق منها شمسًا، ومحق ذلك الظل، وقال: لا ينبغي أن يكون معي إله غيري، ثم خلق الخلق كله من البحرين، فخلق الكفار من البحر المالح المظلم، وخلق المؤمنين من النير العذب، وخلق ظلال الناس، فكان أول من خلق منها محمدًا ﷺ قال: وذلك قوله: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ [الزخرف: 81]، ثم أرسل محمدًا إلى الناس كافة، وهو ظل، ثم عرض على السموات أن يمنعن علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه - فأبين، ثم على الأرض والجبال فأبين، ثم على الناس كلهم، فقام عمر بن الخطاب إلى أبي بكر فأمره أن يتحمل منعه، وأن يعذر به، ففعل ذلك أبو بكر، وذلك قوله: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ﴾ [الأحزاب: 72]، قال: وقال عمر: أنا أعينك على علي لتجعل لي الخلافة بعدك، وذلك قوله: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ﴾ [الحشر: 16]، والشيطان عنده عمر!
وزعم أن الأرض تنشق عن الموتى، فيرجعون إلى الدنيا، فبلغ خبره خالد بن عبدالله فقتله.
قال: وكان جابر الجعفي من أصحابه، وأنزله أصحاب المغيرة بمنزلة المغيرة، ومات جابر، وادعى وصيته بكرٌ الأعور الهجري القتات، فصيروه إمامًا، وقالوا: إنه لا يموت، فأكل أموالهم.
وكان المغيرة يأمرهم بانتظار محمد بن عبدالله بن الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وذكر لهم أن جبريل وميكائيل - عليهما السلام - يبايعانه بين الركن والمقام، ويُحْيَى له سبعة عشر رجلاً، يُعطَى كل رجل منهم كذا وكذا حرفًا من الاسم الأعظم، فيهزمون الجيوش، ويملكون الأرض، فلما خرج محمد وقتل، قال بعض أصحاب المغيرة: لم يكن الخارج محمد بن عبدالله، وإنما كان شيطانًا تمثَّل في صورته، وإن محمدًا سيخرج ويملك على ما قال المغيرة، وبرئ بعضُهم من المغيرة.
5- والفرقة الخامسة منهم: المنصورية، أصحاب أبي منصور، يزعمون أن الإمام بعد أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي أبو منصور، وأن المنصور قال: آل محمد هم السماء، والشيعة هم الأرض، وأنه هو الكسْف الساقط من بني هاشم، وأبو منصور هذا رجل من بني عجل، وزعم أبو منصور أنه عرج به إلى السماء، فمسح معبوده رأسه بيده، ثم قال له: أي بني، اذهب فبلغ عني، ثم نزل به إلى الأرض، ويمين أصحابه إذا حلفوا أن يقولوا: لا والكلمة، وزعم أن عيسى أول من خلق الله من خلقه، ثم علي، وأن رسل الله - سبحانه - لا تنقطع أبدًا، وكفر بالجنة والنار، وزعم أن الجنة رجل، وأن النار رجل، واستحل النساء والمحارم، وأحل ذلك لأصحابه، وزعم أن الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر والميسر وغير ذلك من المحارم حلال، وقال: لم يحرم الله ذلك علينا، ولا حرم شيئًا تقوى به أنفسنا، وإنما هذه الأشياء أسماء رجال حرم الله سبحانه ولا يتهم، وتأول في ذلك قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا﴾ [المائدة: 93]، وأسقط الفرائض وقال: هي أسماء رجال أوجب الله ولا يتهم، واستحل خَنْق المنافقين، وأخذ أموالهم، فأخذه يوسف بن عمر الثقفي والي العراق في أيام بني أمية فقتله.
6- والفرقة السادسة منهم: الخطابية، أصحاب أبي الخطاب بن زينب، وهم خمس فرَق، كلهم يزعمون أن الأئمة أنبياء محدثون، ورسل الله وحججه على خلقه لا يزال منهم رسولان: واحد ناطق، والآخر: صامت، فالناطق محمد ﷺ والصامت علي بن أبي طالب، فهم في الأرض اليوم طاعتهم مفترضة على جميع الخلق، يعلمون ما كان وما هو كائن.
وزعموا أن أبا الخطاب نبي، وأن أولئك الرسل فرضوا عليهم طاعة أبي الخطاب، وقالوا: الأئمة آلهة، وقالوا في أنفسهم مثل ذلك وقالوا: وَلَدُ الحسين أبناء الله وأحباؤه، ثم قالوا ذلك في أنفسهم، وتأوَّلُوا قوله تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [ص: 72]، قالوا: فهو آدم ونحن ولده، وعبدوا أبا الخطاب، وزعموا أنه إله.
وزعموا أن جعفر بن محمد إلههم أيضًا، إلا أن أبا الخطاب أعظم منه، وأعظم من علي، وخرج أبو الخطاب على أبي جعفر، فقتله عيسى بن موسى في سَبْخة الكوفة، وهم يتدينون بشهادة الزور لموافقيهم.
7- والفرقة الثانية من الخطابية، وهي الفرقة السابعة من الغالية، يزعمون أن الإمام بعد أبي الخطاب رجل يقال له: معمر، وعبدوه كما عبدوا أبا الخطاب، وزعموا أن الدنيا لا تفنى، وأنَّ الجنة ما يُصيب الناس من الخير والنعمة والعافية، وأن النار ما يصيب الناس من خلاف ذلك، وقالوا بالتناسخ، وأنهم لا يموتون، ولكن يرفعون بأبدانهم إلى الملكوت، وتوضع للناس أجساد شبه أجسادهم، واستحلوا الخمر والزنا، واستحلوا سائر المحرمات، ودانوا بترك الصلاة، وهم يسمون المعمرية، ويقال: إنهم يسمون اليعمرية.
8- والفرقة الثالثة من الخطابية، وهي الثامنة من الغالية، يقال لهم: البزيغية أصحاب بزيغ بن موسى، يزعمون أن جعفر بن محمد هو الله، وأنه ليس بالذي يرون، وأنه تشبَّه للناس بهذه الصورة، ويزعمون أن كل ما يحدث في قلوبهم وحي، وأن كل مؤمن يوحى إليه، وتأوَّلُوا في ذلك قول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 145]؛ أي: بوَحْي من الله، وقوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ [النحل: 68]، ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ﴾ [المائدة: 111]، وزعموا أن منهم من هو خير من جبريل وميكائيل ومحمد، وزعموا أنه لا يموت منهم أحد، وأن أحدهم إذا بلغت عبادته رفع إلى الملكوت، وادعوا معاينة أمواتهم، وزعموا أنهم يرونهم بكرة وعشيًّا.
9- والفرقة الرابعة من الخطابية، وهي التاسعة من الغالية، يقال لهم: العميرية، أصحاب عمير بن بيان العجلي، وهذه الفرقة منهم تكذِّب من قال منهم: إنهم لا يموتون، ويزعمون أنهم يموتون، ولا يزال خلق منهم في الأرض أئمة أنبياء، وعبدوا جعفرًا كما عبده اليعمريون، وزعموا أنه ربهم، وقد كانوا ضربوا خيمة في كُناسة الكوفة([19])، ثم اجتمعوا إلى عبادة جعفر، فأخذ يزيد بن عمر بن هبيرة، عمير بن بَيَان، فقتله في الكناسة، وحبس بعضهم.
10- والفرقة الخامسة من الخطابية، وهي العاشرة من الغالية، يقال لهم: المفضلية؛ لأن رئيسهم كان صوفيًّا؛ يُقال له: المفضل، يقولون بربوبية جعفر، كما قال غيرهم من أصناف الخطابية، وانتحلوا النبوة والرسالة، وإنما خالفوا في البراءة من أبي الخطاب؛ لأن جعفرًا أظهر البراءة منه، فجميع من أخرج الأمر من بني هاشم من الإمامية الذين يقولون بالنص على علي، وادَّعى الأمر لنفسه ستة: عبدالله بن عمرو بن حرب الكندي، وبيان بن سمعان التميمي، والمغيرة بن سعيد، وأبو منصور، والحسن بن أبي منصور، وأبو الخطاب الأسدي، وزعم أبو الخطاب أنه أفضل من بني هاشم.
وقد قال في عصرنا هذا قائلون بألوهية سلمان الفارسي، وفي النسَّاك من الصوفية مَن يقول بالحلول، وأن الباري يحل في الأشخاص، وأنه جائز أن يحل في إنسان وسبع وغير ذلك من الأشخاص.
وأصحاب هذه المقالة إذا رأوا شيئًا يستحسنونه قالوا: لا ندري، لعل الله حالٌّ فيه، ومالوا إلى اطِّراح الشرائع، وزعموا أن الإنسان ليس عليه فرض، ولا يلزمه عبادة إذا وصل إلى معبوده.
11- والصنف الحادي عشر من أصناف الغالية يزعمون أن روح القدس هو الله - عز وجل - كانت في النبي ﷺ ثم في علي، ثم في الحسن، ثم في الحسين، ثم في علي بن الحسين، ثم في محمد بن علي، ثم في جعفر بن محمد بن علي، ثم في موسى بن جعفر، ثم في علي بن موسى بن جعفر، ثم في محمد بن علي بن موسى، ثم في علي بن محمد بن علي بن موسى، ثم في الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى، ثم في محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي.
وهؤلاء آلهة عندهم، كل واحد منهم إله على التناسخ، والإله عندهم يدخل في الهياكل.
12- والصنف الثاني عشر من أصناف الغالية: يزعمون أن علياً هو الله ويكذبون النبي ويشتمونه ويقولون إن علياً وجه به ليبين أمره فادعى الأمر لنفسه
13- والصنف الثالث عشر من أصناف الغالية هم أصحاب الشريعي، يزعمون أن الله حلَّ في خمسة أشخاص: في النبي، وفي علي، وفي الحسن، وفي الحسين، وفي فاطمة، فهؤلاء آلهة عندهم.
وليس يطعن أصحاب الشريعي على النبي ﷺ ولا يقولون عنه ما حكيناه عن الصنف الذي ذكرناه قبلهم.
وقالوا: لِهذه الأشخاص الخمسة التي حلَّ فيها الإله خمسة أضداد؛ فالأضداد: أبو بكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية، وعمرو بن العاص، وافترقوا في الأضداد على مقالتين؛ فزعم بعضهم أن الأضداد محمودة؛ لأنه لا يعرف فضل الأشخاص الخمسة إلا بأضدادها، فهي محمودة من هذا الوجْه، وزعم بعضهم أن الأضداد مذمومة، وأنها لا تُحمد بحال من الأحوال.
وحُكي أن الشريعي كان يزعم أن البارئ - جل جلاله - يحلُّ فيه.
وحكي أن فرقة من الرافضة يقال لهم: النميرية، أصحاب النميري، يقولون: إن البارئ كان حالاًّ في النميري.
14- والصنف الرابع عشر من أصناف الغالية، وهم السبئية، أصحاب عبدالله بن سبأ، يزعمون أن عليًّا لم يمت، وأنه يرجع إلى الدنيا قبل يوم القيامة، فيملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جورًا، وذكروا عنه أنه قال لعلي - عليه السلام -: أنت أنت.
والسبئية يقولون بالرجعة، وأن الأموات يرجعون إلى الدنيا، وكان السيد الحميري يقول برجعة الأموات، وفي ذلك يقول:
إِلَى يَوْمٍ يَؤُوبُ النَّاسُ فِيهِ | إِلَى دُنْيَاهُمُ قَبْلَ الحِسَابِ |
15- والصنف الخامس عشر من أصناف الغالية، يزعمون أن الله - عز وجل - وكل الأمور وفَوَّضَها إلى محمد ﷺ وأنه أقدره على خلق الدنيا، فخلقها ودبّرها، وأن الله - سبحانه - لَم يخلق من ذلك شيئًا، ويقول ذلك كثير منهم في علي، ويزعمون أن الأئمة ينسخون الشرائع، ويهبط عليهم الملائكة، وتظهر عليهم الأعلام والمعجزات، ويوحَى إليهم.
ومنهم من يسلم على السحاب، ويقول: إذا مرت سحابة به: إن عليًّا - رضوان الله عليه - فيها.
وفيهم يقول بعض الشعراء:
بَرِئْتُ مِنَ الخَوَارِجِ لَسْتُ مِنْهُمْ | مِنَ الغَزَّالِ مِنْهُمْ وَابنِ بَابِ | |
وَمِنْ قَوْمٍ إِذَا ذَكَرُوا عَلِيًّا | يَرُدُّونَ السَّلامَ عَلَى السَّحَابِ([20]) |
قال ابن حزم([21]): "وأما الغالية من الشيعة فهم قسمان: قسم أوجبت النبوة بعد النبي ﷺ لغيره، والقسم الثاني أوجبوا الإلهية لغير الله - عز وجل - فلحقوا بالنصارى واليهود، وكفروا أشنع الكفر.
فالطائفة التي أوجبت النبوة بعد النبي ﷺ فرَق؛ فمنهم الغرابية وقولهم: إن محمدًا ﷺ كان أشبه بعلي من الغراب بالغراب، وإن الله - عز وجل - بعث جبريل - عليه السلام - بالوَحْي إلى علي، فغلط جبريل بمحمد، ولا لوم على جبريل في ذلك؛ لأنه غلط، وقالت طائفة منهم: بل تعمد ذلك جبريل وكفروه ولعنوه - لعنهم الله.
قال ابن حزم([22]): فهل سمع أضعف عقولاً وأتم رقاعة من قوم يقولون: إن محمدًا ﷺ كان يشبه علي بن أبي طالب؟! فياللناس، أين يقع شبه ابن أربعين سنة من صبي ابن إحدى عشرة سنة حتى يغلط به جبريل - عليه السلام - ثم محمد - عليه السلام - فوق الربعة إلى الطويل، قويم القناة، كث اللحية، أدلج العينين، ممتلئ الساقين ﷺ قليل شعر الجسد أفرع، وعلي دون الربعة إلى القصر، منكب شديد الانكباب، كأنه كسر ثم جبر، عظيم اللحية، قد ملئت صدره من منكب إلى منكب إذا التحى، دقيق الساقين، أصلع عظيم الصلع، ليس في رأسه شعر إلا في مؤخره، كثير شعر اللحية، فاعجبوا لحمق لهذه الطبقة!
ثم لو جاز أن يغلط جبريل - وحاشا للروح القدس الأمين - كيف غفل الله - عز وجل - عن تقويمه وتنبيهه وتركه على غلطه ثلاثًا وعشرين سنة.
ثم أظرف من هذا كله: من أخبرهم بهذا الخبر؟ ومن خرفهم بهذه الخرافة؟ وهذا لا يعرفه إلا من شاهد أمر الله تعالى لجبريل - عليه السلام - ثم شاهد خلافه، فعلى هؤلاء لعنة الله ولعنة اللاعنين ولعنة الناس أجمعين ما دام لله في عالمه خلق.
وفرقة قالت بنبوة علي، وفرقة قالت بأن علي بن أبي طالب والحسن والحسين - رضي الله عنهم - وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، والحسن بن محمد، والمنتظر بن الحسن - أنبياء كلهم.
وفرقة قالت بنبوة محمد بن إسماعيل بن جعفر فقط، وهم طائفة من القرامطة.
وفرقة قالتْ بنبوة علي وبنيه الثلاثة: الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية فقط، وهم طائفة من الكيسانية، وقد حام المختار حول أن يدعى النبوة لنفسه، وسجع أسجاعًا، وأنذر بالغيوب عن الله، واتَّبَعه على ذلك طائفة من الشيعة الملعونة، وقال بإمامة محمد بن الحنفية.
وفرقة قالت بنبوة المغيرة بن سعيد مولى بجيلة بالكوفة، وهو الذي أحرقه خالد بن عبدالله القسري بالنار، وكان - لعنه الله - يقول: إن معبوده صورة رجل على رأسه تاج، وإن أعضاءه على عدد حروف الهجاء الألف للساقين، ونحو ذلك مما لا ينطلق لسان ذي شعبة من دين به، تعالى الله عما يقول الكافرون علوًّا كبيرًا.
وكان - لعنه الله - يقول: إن معبوده لما أراد أن يخلق الخلق تكلَّم باسمه الأكبر، فوقع على تاجه، ثم كتب بأصبعه أعمال العباد من المعاصي والطاعات، فلما رأى المعاصي ارفض به عرقًا، فاجتمع من عرقه بحران: أحدهما ملح مظلم، والثاني نير عذب، ثم اطلع في البحر فرأى ظلمة، فذهب ليأخذه، فطار فأخذه فقطع عيني ذلك الظل ومحقه، فخلق من عينيه الشمس، وشمسًا أخرى، وخلق الكفار من البحر المالح، وخلق المؤمنين من البحر العذب في تخليط لهم كثير، وكان مما يقول: إن الأنبياء لم يختلفوا قط في شيء من الشرائع، وقد قيل: إن جابر بن يزيد الجعفي الذي يروي عن الشعبي كان خليفة المغيرة بن سعيد إذ حرقه خالد بن عبدالله القسري، فلما مات جابر خلفه بكر الأعور الهجري، فلما مات فوضوا أمرهم إلى عبدالله بن المغيرة، رئيسهم المذكور، وكان لهم عدد ضخم بالكوفة، وآخر ما وقف عليه المغيرة بن سعيد القول بإمامة محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسين، وتحريم ماء الفرات، وكل ماء نهر أو عين أو بئر وقعت فيه نجاسة، فبرئت منه عند ذلك القائلون بالإِمامة في ولد الحسين.
وفرقة قالت بنبوة بيان بن سمعان التميمي الذي صلبه وأحرقه خالد بن عبدالله القسري مع المغيرة بن سعيد في يوم واحد، وجبن المغيرة بن سعيد عن اعتناق حزمة الحطب جبنًا شديدًا، حتى ضم إليها قهرًا، وبادر بيان بن سمعان إلى الحزمة، فاعتنقها من غير إكراه، ولم يظهر منه جزع؛ فقال خالد لأصحابهما: في كل شيء أنتم مجانين، هذا كان ينبغي أن يكون رئيسكم لا هذا الفسل.
وكان بيان - لعنه الله - يقول: إن الله تعالى يفنى كله، حاشا وجهه فقط، وظن المجنون أنه تعلق في كفره هذا بقول الله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ [الرحمن: 26، 27]، ولو كان له أدنى عقل أو فَهْم لَعَلِم أن الله تعالى إنما أخبر بالفناء عما على الأرض فقط بنص قول الصادق: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾، ولم يصف - عز وجل - بالفناء غير ما على الأرض، ووجه الله تعالى هو الله، وليس هو شيئًا غيره، وحاشا لله من أن يوصف بالتبعيض والتَّجْزِيء، هذه صفة المخلوقين المحدودين، لا صفة من لا يحدد ولا له مثل، وكان - لعنهُ الله - يقول: إنه المعني بقول الله تعالى: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ﴾، وكان يذهب إلى أن الإمام هو هاشم بن عبدالله بن محمد بن الحنفية، ثم هي في سائر ولد علي كلهم.
وقالتْ فرقة منهم بنبوة منصور المستير العجلي، وهو الملقب بالكسف، وكان يقال: إنه المراد بقول الله عز وجل: ﴿وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا﴾ [الطور: 44].
وصلبه يوسف بن عمر بالكوفة، وكان - لعنه الله - يقول: إنه عرج به إلى السماء، وإن الله تعالى مسح رأسه بيده، وقال له: ابني اذهب فبلغ عني، وكان يمين أصحابه: لا والكلة.
وكان - لعنه الله - يقول بأن أول من خلق الله تعالى عيسى ابن مريم، ثم علي بن أبي طالب، وكان يقول بتواتر الرسل، وأباح المحرمات من الزنا، والخمر والميتة والخنزير والدم. وقال: إنما هم أسماء رجال.
وجمهور الرافضة اليوم على هذا، وأسقط الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وأصحابه كلهم خناقون رضاخون، وكذلك أصحاب المغيرة بن سعيد.
ومعناهم في ذلك أنهم لا يستحلون حمل السلاح، حتى يخرج الذي ينتظرونه، فهم يقتلون الناس بالخنق وبالحجارة، والخشبية بالخشب فقط.
وذكر هشام بن الحكم الرافضي في كتابه المعروف بالميزان، وهو أعلم الناس بهم؛ لأنه جارهم بالكوفة، وجارهم في المذهب: أن الكسفية خاصة يقتلون من كان منهم ومن خالفهم، ويقولون نعجل المؤمن إلى الجنة، والكافر إلى النار.
وكانوا بعد موت أبي منصور يؤدون الخمس مما يأخذون ممن خنقوه إلى الحسن بن أبي المنصور، وأصحابه فرقتان: فرقة قالت: إن الإمامة بعد محمد بن علي بن الحسن صارتْ إلى محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسين.
وفرقة قالت: بل إلى أبي المنصور، ولا تعود في ولد علي أبدًا.
وفرقة قالت: بنبوة بزيغ الحائك بالكوفة، وإنّ وقع هذه الدعوة لهم في حائك لظريفة.
وفرقة قالتْ بنبوة معمر بايع الحنطة بالكوفة، وقالتْ فرقة بنبوة عمير التبان بالكوفة.
وكان - لعنه الله - يقول لأصحابه: لو شئت أن أعيد هذا التبن تبرًا لفعلت، وقدم إلى خالد بن عبدالله القسري بالكوفة فتجلد وسب خالدًا، فأمر خالد بضرب عنقه فقتل إلى لعنة الله.
وهذه الفرق الخمس كلها من فرق الخطابية.
وقالت فرقة من أولئك شيعة بني العباس بنبوة عمار الملقب بخداش، فظفر به أسد بن عبدالله القسري، فقتله إلى لعنة الله.
والقسم الثاني من فرَق الغالية الذين يقولون بالإلهية لغير الله - عز وجل - فأولهم قوم من أصحاب عبدالله بن سبأ الحميري - لعنه الله - أتوا إلى علي بن أبي طالب، فقالوا مشافهة: أنت هو فقال لهم: ومَن هو؟ قالوا: أنت الله، فاستعظم الأمر، وأمر بنار فأججت وأحرقهم بالنار، فجعلوا يقولون وهم يرمون في النار: الآن صح عندنا أنه الله؛ لأنه لا يعذب بالنار إلا الله، وفي ذلك يقول t: لما رأيت الأمر أمرًا منكرًا أججت ناري ودعوت قنبرًا - يريد قنبرًا مولاه - وهو الذي تولَّى طرحهم في النار، نعوذ بالله من أن نفتتن بمخلوق أو يفتتن بنا مخلوق فيما جل أو دق، فإن محنة أبي الحسن t من بين أصحابه t كمحنة عيسى ﷺ بين أصحابه من الرسل - عليه السلام.
وهذه الفرقة باقية إلى اليوم فاشية عظيمة العدد، يسمون العليانية، كان منهم إسحاق بن محمد النخعي الأحمر الكوفي، وكان مِن متكلميهم، وله في ذلك كتاب سماه "الصراط"، نقض عليه البهنكي والفياض لما ذكرنا، ويقولون: إن محمدًا رسول علي.
وقالتْ طائفة مِن الشيعة يُعرفون بالمحمدية: إن محمدًا - عليه السلام - هو الله - تعالى الله عن كفرهم - ومن هؤلاء كان البهنكي، والفياض بن علي، وله في هذا المعنى كتاب سماه "القسطاس"، وأبوه الكاتب المشهور الذي كتب لإسحاق بن كنداج أيام ولايته ثم لأمير المؤمنين المعتضد، وفيه يقول البحتري القصيدة المشهورة التي أولها:
شَطَّ مِنْ سَاكِنِ الغُزَيْرِ مَرَارَهْ | وَطَوَتْهُ البِلاَدُ وَالله حَارَهْ |
والفياض هذا - لعنه الله - قَتَلَهُ القاسم بن عبدالله بن سليمان بن وهب؛ لكونه من جُمْلة مَن سعى به أيام المعتضد، والقصَّةُ مشْهُورة.
وفرقة قالت بإلهية آدم - عليه السلام - والنبيين بعده نبيًّا نبيًّا إلى محمد - عليه السلام - ثم بإلهية علي، ثم بإلهية الحسن، ثم الحسين، ثم محمد بن علي، ثم جعفر بن محمد، ووقفوا ها هنا، وأعلنت الخطابية بذلك نهارًا بالكوفة في ولاية عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس، فخرجوا صدر النهار في جموع عظيمة في أزر وأردية محرمين، ينادون بأعلى صوتهم: لبيك جعفر، لبيك جعفر، قال ابن عياش وغيره: كأني أنظر إليهم يومئذ، فخرج إليهم عيسى بن موسى فقاتلوه، فقتلهم واصطلمهم.
ثم زادتْ فرقة على ما ذكرنا، فقالتْ بإلهية محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد، وهم القرامطة، ومنهم مَن قال بإلهية أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنابي وأبنائه بعده.
ومنهم من قال بإلهية أبي القاسم النجار القائم باليمن في بلاد همدان المسمى بالمنصور، وقالت طائفة منهم بإلهية عُبيدالله، ثم الولاة من ولده إلى يومنا هذا.
وقالتْ طائفة بإلهية أبي الخطاب محمد بن أبي زينب، مولى بني أسد بالكوفة، وكثر عددهم بها حتى تجاوزوا الألوف، وقالوا: هو إله، وجعفر بن محمد إله، إلا أن أبا الخطاب أكبر منه، وكانوا يقولون: جميع أولاد الحسن أبناء الله وأحباؤه، وكانوا يقولون: إنهم لا يموتون، ولكنهم يرفعون إلى السماء، وأشبه على الناس بهذا الشيخ الذي ترون.
ثم قالت طائفة منهم بإلاهية معمر بائع الحنطة بالكوفة وعبدوه، وكان من أصحاب أبي الخطاب - لعنهم الله أجمعين.
وقالتْ طائفة بإلهية الحسن بن منصور حلاج القطن المصلوب ببغداد، بسعي الوزير ابن حامد بن العباس - رحمه الله - أيام المقتدر.
وقالت طائفة بإلهية محمد بن علي بن السلمان الكاتب، المقتول ببغداد أيام الراضي، وكان أمر أصحابه أن يفسق الأرفع قدرًا منهم به ليولج فيه النور.
وكل هذه الفرق ترى الاشتراك في النساء.
وقالت طائفة منهم بإلهية شباش المقيم في وقتنا هذا حيًّا في البصرة، وقالت طائفة منهم بإلهية أبي مسلم السراج.
وقالت طائفة من هؤلاء بإلهية المقنع الأعور القصار القائم بثأر أبي مسلم، واسم هذا القصار هاشم، وقتل - لعنه الله - أيام المنصور، وأعْلَنُوا بذلك، فخرج المنصور فقتلهم وأفناهم إلى لعنة الله.
وقالت الرنودية بإلهية أبي جعفر المنصور، وقالتْ طائفة منهم بإلهية عبدالله بن حرب الكندي الكوفي وعبدوه، وكان يقول بتناسخ الأرواح، وفرض عليهم تسع عشرة صلاة في اليوم والليلة، في كل صلاة خمس عشرة ركعة، إلى أن ناظره رجل من متكلمي الصفرية، وأوضح له براهين الدين، فأسلم وصحَّ إسلامُه، وتبرأ من كل ما كان عليه، وأعلم أصحابه بذلك، وأظهر التوبة فتبرأ منه جميع أصحابه الذين كانوا يعبدونه، ويقولون بالإلهية، ولعنوه وفارقوه، ورجعوا كلهم إلى القول بإمامة عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، وبقي عبدالله بن الخرب على الإسلام، وعلى مذهب الصفرية، إلى أن مات.
وطائفة إلى اليوم تعرف بالحربية، وهي من السبئية القائلين بإلهية علي.
وطائفة تدعي النصرية، وقد غلبوا في وقتنا هذا على جند الأردن بالشام، وعلى مدينة طبَرية خاصة، ومن قولهم لعن فاطمة بنت رسول الله ﷺ ولعن الحسن والحسين ابني علي - رضي الله عنهم - وسبهم بأقذع السب، وقذفهم بكل بلية، والقطع بأنها وابناها - رضي الله عنهم، ولَعَن مُبْغِضيهم - شياطين، تصَوَّرُوا في صورة الإنسان، وقولهم في عبدالرحمن بن ملجم المرادي قاتل علي - رضي الله عن علي، ولعنة الله على ابن ملجم - فيقول هؤلاء: إن عبدالرحمن بن ملجم المرادي أفضل أهل الأرض، وأكرمهم في الآخرة؛ لأنه خلص روح اللاهوت مما كان يتشبث فيه من ظلمة الجسد وكدره، فاعجبوا لهذا الجنون! واسألوا الله العافية من بلاء الدنيا والآخرة، فهي بيده لا بيد أحد سواه، جعل الله حظنا منها الأولى.
واعلموا أن كل مَن كفر هذه الكفرات الفاحشة ممن ينتمي إلى الإسلام، فإنما عنصرهم الشيعة والصوفية، فإن من الصوفية مَن يقول: إن مَن عرف الله سقطتْ عنه الشرائع، وزاد بعضهم: واتصل بالله تعالى.
وبلغنا أن بنيسابور اليوم في عصرنا هذا رجلاً يُكنى أبا سعيد أبا الخير هكذا معًا، من الصوفية، مرة يلبس الصوف، ومرة يلبس الحرير المحرم على الرجال، ومرة يصلي في اليوم ألف ركعة، ومرة لا يصلي لا فريضة ولا نافلة، وهذا كُفْر مَحْض - ونعوذ بالله من الضلال.
قال الشهرستاني([23]):
"الغالية هم الذين غلوا في حق أئمتهم حتى أخرجوهم من حدود الخلقية، وحكموا فيهم بأحكام الإلهية، فربما شبهوا واحدًا من الأئمة بالإله، وربما شبهوا الإله بالخلق، وهم على طرفي الغلو والتقصير، وإنما نشأت شُبهاتهم من مذاهب الحلولية ومذاهب التناسخية ومذاهب اليهود والنصارى؛ إذ اليهود شبهت الخالق بالخلق، والنصارى شبهت الخلق بالخالق، فسرت هذه الشبهات في أذهان الشيعة الغلاة حتى حكمت بأحكام الإلهية في حق بعض الأئمة.
وكان التشبيه بالأصل والوضع في الشيعة، وإنما عادت إلى بعض أهل السنة بعد ذلك وتمكَّن الاعتزال فيهم لما رأوا أن ذلك أقرب إلى المعقول، وأبعد من التَّشْبيه والحلول.
وبدع الغلاة محصورة في أربع: التشبيه، والبداء، والرجعة، والتناسُخ.
ولهم ألقاب وبكل بلد لقب، يقال لهم بأصبهان: الخرمية، والكوذية، وبالري: المزدكية والسنباذية، وبأذربيجان: الدقولية، وبموضع المحمرة وبما وراء النهر المبيضة.
وهم أحد عشر صنفًا:
1- السبئية: أصحاب عبدالله بن سبأ، الذي قال لعلي - عليه السلام -: أنت أنت؛ يعني: أنت الإله، فنفاه إلى المدائن، وزعموا أنه كان يهوديًّا، فأسلم.
وكان في اليهودية يقول في يوشع بن نون وصي موسى مثل ما قال في علي t وهو أول من أظهر القول بالنص بإمامة علي، ومنه انشعبت أصناف الغلاة.
وزعموا أن عليًّا حي لم يقتل، ففيه الجزء الإلهي، ولا يجوز أن يستولي عليه، وهو الذي يجيء في السحاب، والرعد صوته، والبرق تبسمه، وأنه سينزل بعد ذلك إلى الأرض، فيملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جورًا.
وإنما أظهر ابن سبأ هذه المقالة بعد انتقال علي t واجتمعت عليه جماعة، وهم أول فرقة قالت بالتوقف، والغيبة، والرجعة، وقالتْ بتناسخ الجزء الإلهي في الأئمة بعد علي، وهذا المعنى مما كان يعرفه الصحابة، وإن كانوا على خلاف مراده.
هذا عمر t كان يقول حين فقأ عين واحد بالحد في الحرم، ورفعت القصة إليه: ماذا أقول في يد الله فقأتْ عينًا في حرم الله؟
فأطلق عمر اسم الإلهية عليه لما عرف منه ذلك.
2- الكاملية: أصحاب أبي كامل، كفر جميع الصحابة بتركهم بيعة علي t وطعن في علي أيضًا بتَرْكه طلب حقه، ولم يعذره في القعود، وقال: وكان عليه أن يخرج، ويظهر الحق، على أنه غلا في حقه، وكان يقول: الإمامة نور يتناسَخ مِن شخْص إلى شخص، وذلك النور في شخص يكون نبوة، وفي شخص يكون إمامة، وربما تتناسَخ الإمامة فتصير نبوة، وقال بتناسُخ الأرواح وقت الموت.
والغلاة على أصنافها كلهم متفقون على التناسخ والحلول، ولقد كان التناسُخ مقالة لفرقة في كل أمة تلقوها من المجوس المزدكية، والهند البرهمية، ومن الفلاسفة والصابئة، ومذهبهم أن الله تعالى قائم بكل مكان، ناطق بكل لسان، ظاهِر في كل شخص من أشخاص البشر، وذلك معنى الحلول.
وقد يكون الحلول بجزء هو كإشراق الشمس في كوة، أو كإشراقها على البلور.
وأما الحلول بالكل، فهو كظهور ملك بشخص، أو كشيطان بحيوان.
ومراتب التناسُخ أربع: النسخ، والمسخ، والفسخ، والرسخ.
وسيأتي شرح ذلك عند فرقهم من المجوس على التفصيل.
وأعلى المراتب: مرتبة الملكية أو النبوة، وأسفل المراتب الشيطانية أو الجنية.
وهذا أبو كامل كان يقول بالتناسخ ظاهرًا من غير تفصيل لمذهبه.
3- العلبائية: أصحاب العلباء بن ذراع الدوسي، وقال قوم: هو الأسدي، وكان يفضل عليًّا على النبي ﷺ وزعم أنه الذي بعث محمدًا، وسماه إلهًا، وكان يقول بذم محمد، وزعم أنه بعث ليدعو إلى علي، فدعا إلى نفسه، ويسمون هذه الفرقة الذميمة، ومنهم مَن قال بإلهيتهما جميعًا، ويُقَدِّمُون عليًّا في أحكام الإلهية، ويسمونهم العينية، ومنهم مَن قال بإلهيتهما جميعًا، ويُقَدِّمُون محمدًا في الإلهية، ويسمونهم الميمية، ومنهم مَن قال بإلهية خمسة أشخاص من أصحاب الكساء: محمد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، وقالوا: خمستهم شيء واحد، والروح حالة فيهم بالسوية، لا فضل لواحد على الآخر، وكرهوا أن يقولوا فاطمة بالتأنيث، بل قالوا: فاطم (بلا هاء)، وفي ذلك يقول بعض شعرائهم:
تَوَلَّيْتُ بَعْدَ اللهِ فِي الدِّينِ خَمْسَةً | نَبِينَا وَسِبْطَيْهِ وَشَيْخًا وَفَاطِمَا |
4- المغيرية: أصحاب المغيرة بن سعيد العجلي، ادَّعى أن الإمام بعد محمد بن علي بن الحسين محمد بن عبدالله بن الحسن الخارج بالمدينة، وزعم أنه حي لم يمت، وكان المغيرة مولى لخالد بن عبدالله القسري، وادَّعى الإمامة لنفسه بعد الإمام محمد، وبعد ذلك ادعى النبوة لنفسه، وغلا في حق علي t غلوًّا لا يعتقده عاقل، وزاد على ذلك قوله بالتشبيه، فقال: إن الله تعالى صورة وجسم ذو أعضاء على مثال حروف الهجاء، وصورته صورة رجل من نور على رأسه تاج من نور، وله قلب تنبع منه الحكمة، وزعم أن الله تعالى لما أراد خلق العالم تكلم بالاسم الأعظم، فطار فوق رأسه التاج، قال: وذلك قوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾ [الأعلى: 1، 2]، ثم اطلع على أعمال العباد، وقد كتبها على كفه، فغضب من المعاصي فعرق، فاجتمع من عرقه بحران: أحدهما مالح، والآخر عذب، والمالح مظلم، والعذب نير، ثم اطلع في البحر النير، فأبصر ظله، فانتزع عين ظله فخلق منها الشمس والقمر، وأفنى باقي ظله، وقال: لا ينبغي أن يكون معي إله غيري، قال: ثم خلق الخلق كله من البحرين، فخلق المؤمنين من البحر النير، والكفار من البحر المظلم، وخلق ظلال الناس أول ما خلق، وأول ما خلق هو ظل محمد وعلي، قبل خلق ظلال الكل، ثم عرض على السموات والأرض والجبال أن يحملن الأمانة، وهي أن يمنعن علي بن أبي طالب من الإمامة، فأبين ذلك، ثم عرض على الناس، فأمر عمر بن الخطاب أبا بكر أن يتحمل منعه من ذلك، وضمن أن يعينه على الغدر به، على شرط أن يجعل الخلافة له من بعده، فقبل منه وأقاما على المنع متظاهرين؛ فذلك قوله: ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72]، وزعم أنه نزل في عمر قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ﴾ [الحشر: 16]، ولما أن قتل المغيرة اختلف أصحابه، فمنهم من قال بانتظاره ورجعته، ومنهم من قال بانتظار إمامة محمد، كما كان يقول هو بانتظاره، وقد قال المغيرة بإمامة أبي جعفر محمد بن علي - رضي الله عنهما - ثم غلا فيه، وقال بإلهيته، فتبرأ منه الباقر ولعنه، وقد قال المغيرة لأصحابه: انتظروه، فإنه يرجع، وجبريل وميكائيل يبايعانه بين الركن والمقام.
5- المنصورية: أصحاب أبي منصور العجلي، وهو الذي عزا نفسه إلى أبي جعفر محمد بن علي الباقر في الأول، فلما تبرأ منه الباقر وطرده زعم أنه هو الإمام، ودعا الناس إلى نفسه، ولما توفي الباقر قال: انتقلت الإمامة إلي، وتظاهر بذلك وخرجت جماعة منهم بالكوفة في بني كندة، حتى وقف يوسف بن عمر الثقفي والي العراق في أيام هشام بن عبدالملك على قصته وخبث دعوته، فأخذه وصلبه.
زعم العجلي أن عليًّا t هو الكسف الساقط من السماء، وربما قال: الكسف الساقط من السماء هو الله - عز وجل.
وزعم حين ادعى الإمامة لنفسه أنه عرج به إلى السماء، ورأى معبوده فمسح بيده رأسه، وقال له: يا بني، انزل فبلغ عني، ثم أهبطه إلى الأرض، فهو الكسف الساقط من السماء.
وزعم أيضًا: أن الرسل لا تنقطع أبدًا، والرسالة لا تنقطع، وزعم أن الجنة رجل أمرنا بموالاته، وهو إمام الوقت، وأن النار رجل أمرنا بمعاداته، وهو خصم الإمام، وتأول المحرمات كلها على أسماء رجال، أمرنا الله تعالى بمعاداتهم، واستحل أصحابه قتل مخالفيهم، وأخذ أموالهم، واستحلال نسائهم.
وهم صنف من الخرمية، وإنما مقصودهم من حمل الفرائض والمحرمات على أسماء رجال، هو أن من ظفر بذلك الرجل وعرفه، فقد سقط عنه التكليف، وارتفع عنه الخطاب إذ وصل إلى الجنة، وبلغ إلى الكمال.
ومما أبدعه العجلي أنه قال: أول ما خلق الله هو عيسى ابن مريم، ثم علي بن أبي طالب.
6- الخطابية: أصحاب أبي الخطّاب محمد بن أبي زينب الأسدي الأجدع، وهو الذي عزا نفسه إلى أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق، فلما وقف الصادق على غلوه الباطل في حقه تبرأ منه ولعنه، وأخبر أصحابه بالبراءة منه، وشدد القول في ذلك، وبالغ في التبري منه واللعن عليه، فلما اعتزل عنه ادعى الإمامة لنفسه.
زعم أبو الخطاب أن الأئمة أنبياء ثم آلهة، وقال بإلهية جعفر بن محمد، وإلهية آبائه، وهم أبناء الله وأحباؤه، والإلهية نور في النبوة، والنبوة نور في الإمامة، ولا يخلو العالم من هذه الآثار والأنوار.
وزعم أن جعفرًا هو الإله في زمانه، وليس هو المحسوس الذي يرونه، ولكن لما نزل إلى هذا العالم لبس تلك الصورة، فراه الناس فيها.
ولما وقف عيسى بن موسى صاحب المنصور على خبث دعوته قتله بسبخة الكوفة، وافترقت الخطابية بعده فرقًا، فزعمت فرقة أن الإمام بعد أبي الخطاب رجل يقال له: معمر، ودانوا به كما دانوا بأبي الخطاب، وزعموا أن الدنيا لا تفنى، وأن الجنة هي ما تصيب الناس من خير وعافية، وأن النار هي التي تصيب الناس من شر ومشقة وبلية، واستحلوا الخمر والزنا، وسائر المحرمات، ودانوا بترك الصلاة والفرائض، وتسمى هذه الفرقة المعمرية.
وزعمت طائفة أن الإمام بعد أبي الخطاب بزيغ، وكان يزعم أن جعفرًا هو الإله؛ أي: ظهر الإله بصورته للخلق، وزعم أن كل مؤمن يوحى إليه، وتأول قول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 145]؛ أي: بوحي من الله إليه، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ [النحل: 68].
وزعم أن في أصحابه من هو أفضل من جبريل وميكائيل، وزعم أن الإنسان إذا بلغ الكمال لا يقال: إنه مات، ولكن الواحد منهم إذا بلغ النهاية قيل: رفع إلى الملكوت، وادعوا كلهم معاينة أمواتهم، وزعموا أنهم يرونهم بكرة وعشيًّا، وتسمى هذه الطائف البزيغية.
وزعمتْ طائفة أن الإمام بعد أبي الخطاب: عمير بن بيان العجلي، وقالوا كما قالت الطائفة الأولى، إلا أنهم اعترفوا بأنهم يموتون، وكانوا قد نصبوا خيمة بكناسة الكوفة، يجتمعون فيها على عبادة الصادق، فرفع خبرهم إلى يزيد بن هبيرة، فأخذ عميرًا فصلبه في كناسة بالكوفة، وتسمى هذه الطائفة العجلية والعميرية أيضًا.
وزعمت طائفة أن الإمام بعد أبي الخطاب مفضل الصيرفي، وكان يقول بربوبية جعفر دون نبوته ورسالته، وتسمى هذه الفرقة المفضلية، وتبرأ من هؤلاء كلهم جعفر بن محمد الصادق وطردهم ولعنهم، فإنَّ القوم كلهم حيارى ضالون جاهلون بحال الأئمة تائهون".
بعض مشاهير الزنادقة
في تعليقات الأستاذ محمد محيي الدين عبدالحميد على كتاب "مقالات الإسلاميين"([24]):
"أكثر العلماء على أن أبا مغيث الحسين بن منصور، المعروف بالحلاج، الزاهد الصوفي المشهور، المتوفى قتيلاً سنة تسع وثلاثمائة من الهجرة - كان يقول بالحلول، وكفروه بذلك، وحكم علماء عصره بكفره، وبأنه حلال الدم، وقتل بفتواهم.
ومن الألفاظ التي اشتهرت عنه قوله: "أنا الحق"، وقوله: "ما في الجبة إلا الله".
ويرى إمام الحرمين أبو المعالي عبدالملك بن محمد الجويني: أن أبا المغيث الحلاج، وأبا طاهر سليمان بن سعيد الحسن بن بهرام القرمطي، كانا من قوم اتفقوا على قلب نظام الدولة، وتواصوا بالدأب ومواصلة السعي لذلك، وذهب القرمطي إلى أكناف الأحساء لذلك، قال: وارتاد الحلاج قطر بغداد، فحكم عليه صاحبها بالهلكة، والقصور عن درك الأمنية لبعد أهل العراق عن الانخداع.
أما حجة الإسلام الغزالي - وهو من تلاميذ إمام الحرمين الجويني -: فقد عقد في كتابه "مشكاة الأنوار" فصلاً طويلاً بَيَّن فيه حال الحلاج، واعتذر عن الألفاظ التي كانت تصدر عنه، وحملها كلها على محامل حسنة وتأولها، وقال: هذا من فرط المحبة، وشدة الوجد، وجعل هذا الكلام مثل قول القائل:
أَنَا مَنْ أَهْوَى وَمَنْ أَهْوَى أَنَا | نَحْنُ رُوحَان حَلَلْنَا بَدَنَا | |
فَإِذَا أَبْصَرْتَنِي أَبْصَرْتَهُ | وَإِذَا أَبْصَرْتَهُ أَبْصَرْتَنَا |
والحلاج هو صاحب البيت المشهور، الذي يجري على قول المجبرة، وهو قوله:
أَلْقَاهُ فِي اليَمِّ مَكْتُوفًا وَقَالَ لَهُ | إِيَّاكَ إِيَّاكَ أَنْ تَبْتَلَّ بِالمَاءِ | |
فَإِذَا أَبْصَرْتَنِي أَبْصَرْتَهُ | وَإِذَا أَبْصَرْتَهُ أَبْصَرْتَنَا |
(وانظر الترجمة رقم 181 من كتاب "وفيات الأعيان"، و"أنباء أبناء الزمان"؛ لقاضي القضاة ابن خلكان ج1 صفحة 405 بتحقيقنا)".
قال الزركلي في الأعلام([25]): "الحلاج توفِّي سنة 309هـ، الحسين بن منصور الحلاج أبو مغيث، فيلسوف، يعد تارة في كبار المتعبدين والزهاد، وتارة في زمرة الملحدين، أصله من بيضاء فارس، ونشأ بواسط العراق أو بتستر، وانتقل إلى البصرة وحج، ودخل بغداد، وعاد إلى تستر، وظهر أمره سنة 299 هـ، فاتبع بعض الناس طريقته في التوحيد والإيمان، ثم كان يتنقل في البلدان، وينشر طريقته سرًّا.
وقالوا: إنه كان يأكل يسيرًا، ويصلي كثيرًا، ويصوم الدهر، وأنه كان يظهر مذهب الشيعة لملوك (العباسيين)، ومذهب الصوفية للعامة، وهو في تضاعيف ذلك يدعي حلول الإلهية فيه.
وكثرت الوشايات به إلى المقتدر العباسي، فأمر بالقبض عليه، فسجن وعذب وضرب، وهو صابر لا يتأوه ولا يستغيث.
قال ابن خلكان: وقطعت أطرافه الأربعة، ثم جُزَّ رأسه، وأحرقت جثته، ولما صارت رمادًا ألقيت في دجلة، ونصب الرأس على جسر بغداد، وادَّعى أصحابه أنه لم يقتل، وإنما ألقي شبهه على عدو له.
وقال ابن النديم في وصفه: كان مُحتالاً يتعاطَى مذاهب الصوفية، ويدعي كل علم، جسورًا على السلاطين، مرتكبًا للعظائم، يروم إقلاب الدول، ويقول بالحلول، وأورد أسماء ستة وأربعين كتابًا له في غريب الأسماء والأوضاع؛ منها: "طاسين الأزل"، و"الجوهر الأكبر"، و"الشجرة النورية"، و"الظل الممدود"، و"الماء المسكوب"، و"الحياة الباقية"، و"قرآن القرآن"، و"الفرقان"، و"السياسة والخلفاء والأمراء"، و"علم البقاء والفناء"، و"مدح النبي"، و"المثل الأعلى"، و"القيامة والقيامات"، و"هو هو"، و"كيف كان وكيف يكون"، و"الكبريت الأحمر" والوجود الأول"، و"الوجود الثاني"، و"اليقين"، و"التوحيد".
ووضع المستشرق غولدتسهير رسالة في الحلاج وأخباره وتعاليمه.
وكذلك صنف المستشرق لويس مسينيون كتابًا في الحلاج وطريقته ومذهبه، وأقوال الباحثين فيه كثيرة([26]).
ابن الراوندي
في التعليقات على "مقالات الإسلاميين" للأستاذ محيي الدين عبدالحميد([27]):
«ابن الراوندي: أبو الحسين أحمد بن يحيى بن إسحاق، له مقالة في علم الكلام، وله الكتب المصنفة نحو مائة وأربعة عشر كتابًا، منها كتاب: "فضيحة المعتزلة"، ونسبته إلى راوند، بفتح الراء والواو، وبينهما ألف، وسكون النون، وبعدها دال مهملة، وهي قرية من قرى قاسان بنواحي أصبهان، وتوفي سنة خمس وأربعين ومائتين برحبة مالك بن طوق، وقيل: توفي ببغداد، وتقدير عمره أربعون سنة؛ (انظر الترجمة رقم 34 في "وفيات الأعيان"؛ لابن خلكان ج1 ص 78 بتحقيقنا).
وكتاب "فضيحة المعتزلة" هو الذي ألف أبو الحسن عبدالرحيم بن محمد بن عثمان الخياط المعتزلي في آخر القرن الثالث كتاب "الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد" في الرد عليه.
قال ابن كثير في حوادث سنة 298 هـ([28]):
"ابن الراوندي: أحد مشاهير الزنادقة، كان أبوه يهوديًّا، فأظهر الإسلام، ويقال: إنه حرف التوراة، كما عادى ابنه القرآن وألحد فيه، وصنف كتابًا في الرد على القرآن سماه: "الدامغ"، وكتابًا في الرد على الشريعة، والاعتراض عليها، سماه: "الزمردة"، وكتابًا يقال له: "التاج" في معنى ذلك، وله كتاب: "الفريد"، وكتاب: "إمامة المفضول الفاضل".
وقد انتصب للرد على كتبه هذه جماعة؛ منهم الشيخ أبو علي محمد بن عبدالوهاب الجبائي، شيخ المعتزلة في زمانه، وقد أجاد في ذلك، وكذلك ولده أبو هاشم عبدالسلام بن أبي علي،
قال الشيخ أبو علي: قرأت كتاب هذا الملحد الجاهل السفيه ابن الراوندي، فلم أجد فيه إلا السفه والكذب والافتراء، قال: وقد وضع كتابًا في قدم العالم، ونفي الصانع، وتصحيح مذهب الدهرية، والرد على أهل التوحيد، ووضع كتابًا في الرد على محمد رسول الله ﷺ في سبعة عشر موضعًا، ونسبه إلى الكذب - يعني النبي ﷺ وطعن على القرآن، ووضع كتابًا لليهود والنصارى، وفضل دينهم على المسلمين والإسلام، يحتج لهم فيها على إبطال نبوة محمد ﷺ إلى غير ذلك من الكتب التي تُبَيِّن خُرُوجه عن الإسلام، نقل ذلك ابن الجوزي عنه.
وقد أورد ابن الجوزي في "منتظمه" طرفًا من كلامه وزندقته وطعنه على الآيات والشريعة، ورد عليه في ذلك، وهو أقل وأخس وأذل من أن يلتفت إليه، وإلى جهله وكلامه وهذيانه وسفهه وتمويهه.
وقد أسند إليه حكايات من المسخرة والاستهزاء، والكفر والزندقة؛ منها ما هو صحيح عنه، ومنها ما هو مفتعل عليه، ممن هو مثله، وعلى طريقه ومسلكه في الكفر، والتستر بالمسخرة، يخرجونها في قوالب مسخرة، وقلوبهم مشحونة بالكفر والزندقة.
وهذا كثيرٌ مَوْجُود فيمَن يدَّعِي الإسلام، وهو منافق يتمسخر بالرسول ودينه وكتابه، وهؤلاء ممن قال الله تعالى فيهم: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة: 65، 66].
قد كان أبو عيسى الوراق مصاحبًا لابن الراوندي - قبحهما الله - فلما علم الناس بأمرهما طلب السلطان أبا عيسى، فأودع السجن حتى مات.
وأما ابن الراوندي فهرب، فلجأ إلى لاوي اليهودي، وصنَّف له في مدَّة مقامه عنده كتابه الذي سماه: "الدامغ للقرآن"، فلم يلبث بعده إلا أيامًا يسيرة حتى مات - لعنه الله - ويقال: إنه أخذ وصلب.
قال أبو الوفاء ابن عقيل: ورأيت في كتاب محقق أنه عاش ستًا وثلاثين سنة، مع ما انتهى إليه من التوغل في المخازي في هذا العمر القصير - لعنه الله وقبحه، ولا رحم عظامه.
وقد ذكره ابن خلكان في "الوفيات" وتلبس عليه ولم يخرجه([29]) بشيء، ولا كأن الكلب أكل له عجينًا، على عادته في العلماء والشعراء، فالشعراء يطيل تراجمهم، والعلماء يذكر لهم ترجمة يسيرة، والزنادقة يترك ذكر زندقتهم.
وأرخ ابن خلكان تاريخ وفاته في سنة خمس وأربعين ومائتين، وقد وهم وهمًا فاحشًا، والصحيح أنه توفِّي في هذه السنة، كما أرخه ابن الجوزي وغيره".
قال ابن كثير في حوادث سنة 245 هـ([30]):
ابن الراوندي الزنديق، وهو أحمد بن يحيى بن إسحاق، أبو الحسين بن الراوندي، نسبة إلى قرية ببلاد قاشان، ثم نشأ ببغداد، كان بها يصنف الكتب في الزندقة، وكانت لديه فضيلة، ولكنه استعملها فيما يضره ولا ينفعه في الدنيا ولا في الآخرة، وقد ذكرنا له ترجمة مطولة حسب ما ذكرها ابن الجوزي في سنة ثمان وتسعين ومائتين، وإنما ذكرناه ها هنا؛ لأن ابن خلكان ذكر أنه توفي في هذه السنة، وقد تلبس عليه، ولم يجرحه، بل مدحه، فقال:
هو أبو الحسين أحمد بن إسحاق الراوندي العالم المشهور، له مقالة في علم الكلام، وكان من الفضلاء في عصره، وله من الكتب المصنفة نحو من مائة وأربعة عشر كتابًا؛ منها: "فضيحة المعتزلة"، وكتاب "التاج"، وكتاب "الزمردة"، وكتاب "القصب"، وغير ذلك، وله محاسن ومحاضرات مع جماعة من علماء الكلام، وقد انفرد بمذاهب نقلها عنه أهل الكلام في كتبهم.
توفي سنة خمس وأربعين ومائتين برحبة مالك بن طوق التغلبي، وقيل: ببغداد، نقلت ذلك عن ابن خلكان بحروفه، وهو غلط.
وإنما أرخ ابن الجوزي وفاته في سنة ثمان وتسعين ومائتين كما سيأتي هناك له ترجمة مطولة،
قال ابن كثير في حوادث سنة 286هـ([31]):
إسحاق بن محمد النخعي: إسحاق بن محمد بن أحمد بن أبان، أبو يعقوب النخعي الأحمر، وإليه تنسب الطائفة الإسحاقية من الشيعة، وقد ذكر ابن النوبختي والخطيب وابن الجوزي: أن هذا الرجل كان يعتقد إلهية علي بن أبي طالب، وأنه انتقل إلى الحسن ثم إلى الحسين، وأنه كان يظهر في كل وقت، وقد اتبعه على هذا الكفر خلق من الحمير - قبحهم الله وقبحه.
وإنما قيل له: الأحمر؛ لأنه كان أبرص، وكان يطلي برصه بما يغير لونه، وقد أورد له النوبختي أقوالاً عظيمة في الكفر - لعنه الله.
وقد روى شيئًا من الحكايات والمُلَح عن المازني وطبقته، ومثل هذا أقل وأذل من أن يروى عنه أو يذكر إلا بذمه.
ابن سبأ:
وفي التعليقات على كتاب "مقالات الإسلاميين" ج1 ص290:
"غلا ابن سبأ في علي، وزعم أنه كان نبيًّا، ثم غلا فيه حتى زعم أنه إله، ودعا إلى ذلك قومًا من غلاة الكوفة، فرفع خبرهم إلى علي، فأمر بإحراق قوم منهم في حفرتين:
لترم بي الحوادث حيث شاءتْ إذا لم ترم بي في الحفرتين، ثم إنه خاف إحراق الباقين، فنفى ابن سبأ إلى ساباط المدائن، فلما قتل علي زعم ابن سبأ أن المقتول شيطان على صورته، وأن عليًّا صعد إلى السماء، كما صعد إليها عيسى، وأنه سينزل إلى الدنيا وينتقم من أعدائه، وزعم بعض السبئية أن عليًّا في السحاب، وأن الرعد صوته، والبرق سوطه، ومن سمع من هؤلاء صوت الرعد، قال: عليك السلام يا أمير المؤمنين.
قال إسحاق بن سويد العدوي:
بَرِئْتُ مِنَ الخَوَارِجِ لَسْتُ مِنْهُمْ | مِنَ الغَزَّالِ مِنْهُمُ وَابنِ بَابِ | |
وَمِنْ قَوْمٍ إِذَا ذَكَرُوا عَلِيًّا | يَرُدُّونَ السَّلامَ عَلَى السَّحَابِ | |
وَلَكِنِّي أُحِبُّ بِكُلِّ قَلْبِي | وَأَعْلَمُ أَنَّ ذَاكَ مِنَ الصَّوَابِ | |
رَسُولُ اللهِ وَالصِّدِّيقُ حُبًّا | بِهِ أَرْجُو غَدًا حُسْنَ الثَّوَابِ |
(الفرق بين الفرق ص223).
ابن الفارض:
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية([32]):
"وابن الفارض من متأخري الاتحادية صاحب القصيدة التائية المعروفة بنظم السلوك، وقد نظم فيها الاتحاد نظمًا رائق اللفظ؛ فهو أخبث من لحم خنزير في صينية من ذهب، وما أحسن تسميتها بنظم الشكوك، الله أعلم بها وبما اشتملت عليه، وقد نفضت كثيرًا، وبالغ أهل العصر في تحسينها والاعتداد بما فيها من الاتحاد، لما حضرته الوفاة أنشد:
إِنْ كَانَ مَنْزِلَتِي فِي الحُبِّ عِنْدَكُمُ | مَا قَدْ لَقِيتُ فَقَدْ ضَيَّعْتُ أَيَّامِي |
ابن الصباح:
قال في "الأعلام"([33]): "ابن الصباح الإسماعيلي، ولد سنة 438، وتوفِّي سنة 517 هـ.
الحسن بن الصباح بن علي الإسماعيلي، داهية شجاع، عالم بالهندسة والحساب والنجوم، قيل: إنه يماني الأصل من حمير، مولده في مرو.
تتلمذ لأحمد بن عطاش من أعيان الباطنية في عهد ملك شاه السلجوقي، ثم كان مقدم الإِسماعيلية بأصبهان، ورحل منها، وطاف البلاد، فدخل مصر وأكرمه المستنصر الفاطمي وأعطاه مالاً، وأمره بأن يدعو الناس إلى إمامته، فعاد إلى الشام والجزيرة وديار بكر والروم، ورجع إلى خراسان، ودخل كاشغر وما وراء النهر، داعيًا إلى المستنصر، ثم استولى على قلعة الألموت من نواحي قزوين، وطرد صاحبها سنة 483هـ، وضم إليها عدة قلاع، واستقر إلى أن توفِّي فيها.
قال الذهبي فيه: صاحب الدعوة النزارية، وجد أصحابه قلعة ألموت، كان من كبار الزنادقة ومن دهاة العالم.
وفي تاريخ العراق: الإسماعيلية أصحاب حسن الصباح تدعى نحلتهم بالنزارية، ومن بقاياهم اليوم في عصرنا الحاضر الأغاخانية في الهند.
ومن كتبهم المعروفة: "روضة التسليم"، و"مطيع المؤمنين"، و"الهداية الآمرية"، و"حقيقة الدين"، و"الفلك الدوار".
أقول: يسمي الأوربيون أصحاب الحسن هذا الساسان، ويذكرون أنهم فرقة من الإسماعيلية برزت في الحروب الصليبية، بقيادة الحسن بن الصباح في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، "أواخر الخامس للهجرة"، وأن كلمة أساسان أصلها حشاشون، وفي كتابهم من يطلق هذا الاسم على الإسماعيليين جميعًا.
وللمستشرق برغشتال كتاب [Histoire des Assassins] في تاريخهم([34]).
محمد بن الحسن النصيري:
المهدي النصيري المتوفى سنة 717هـ، الموافق 1317م:
"محمد بن الحسن النصيري: متألِّه، من زعماء النصيرية في جبال اللاذقية، كان يلقب بالمهدي تارة، وتارة يدعى علي بن أبي طالب فاطر السموات والأرض، وتارة يدعى محمد بن عبدالله صاحب البلاد، وخرجت النصيرية من طاعة السلطان، وعين لكل إنسان من رؤسائهم تقدمة ألف، وبلادًا كثيرة ونيابات، ودخلوا جبلة فقتلوا خلقًا من أهلها، وخرجوا يقولون: لا إله إلا علي، ولا حجاب إلا محمد، ولا باب إلا سلمان، وأمر أصحابه بهدم المساجد، واتخاذها خمارات، وكانوا يقولون لمن يأسرونه من المسلمين: قل لا إله إلا علي، واسجد لإلهك المهدي الذي يحيي ويميت، حتى يحقن دمك، فجرّدت إليهم العساكر، فقتل منهم جمع كبير، ونامت فتنتهم"، (الأعلام للزركلي ج 6 ص318، وأشار الزركلي في الهامش إلى البداية والنهاية ج14 ص83).
بعض الضلال من الفلاسفة:
قال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه: "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان"([35]):
"وصرح أفلاطون بحدوث العالم كما كان عليه الأساطين، وحكى ذلك عنه تلميذه أرسطو، وخالفه فيه، فزعم أنه قديم، وتبعه على ذلك ملاحدة الفلاسفة من المنتسبين إلى الملل وغيرهم، حتى انتهت النوبة إلى أبي علي بن سينا، فرام بجهده تقريب هذا الرأي، من قول أهل الملل وهيهات اتفاق النقيضين، واجتماع الضدين، فرسل الله تعالى وكتبه وأتباع الرسل في طرف، وهؤلاء القوم في طرف.
وكان ابن سينا كما أخبر عن نفسه قال: أنا وأبي من أهل دعوة الحاكم، فكان من القرامطة الباطنية الذين لا يؤمنون بمعيد ولا معاد، ولا رب خالق ولا رسول مبعوث جاء من عند الله تعالى.
وكان هؤلاء زنادقة يتَسَتَّرُون بالرفض، ويبطنون الإلحاد المحض، وينتسبون إلى أهل بيت الرسول - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - وهو وأهل بيته براء منهم نسبًا ودينًا، وكانوا يقتلون أهل العلم والإيمان، ويدعون أهل الإلحاد والشرك والكفران، لا يحرمون حرامًا، ولا يحلون حلالاً، وفي زمنهم ولخواصهم وضعت رسائل إخوان الصفاء".
وقال ابن القيم في "الكافية الشافية"([36]):
أَوْ ذَلِكَ المَخْدُوعَ حَامِلَ رَايَةِ الْـ | ـإِلْحَادِ ذَاكَ خَلِيفَةُ الشَّيْطَانِ | |
أَعْنِي ابْنَ سِينَا ذَلِكَ المَحْلُولُ مِنْ | أَدْيَانِ أَهْلِ الأَرْضِ ذَا الكُفْرَانِ | |
وَكَذَا نَصِيرُ الشِّرْكِ فِي أَتْبَاعِهِ | أَعْدَاءِ رُسْلِ اللهِ وَالإِيمَانِ | |
نَصَرُوا الضَّلاَلَةَ مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِهِمْ | وَغَزَوْا جُيُوشَ الدِّينِ وَالقُرْآنِ | |
فَجَرَى عَلَى الإِسْلاَمِ مِنْهُمْ مِحْنَةٌ | لَمْ تَجْرِ قَطُّ بِسَالِفِ الأَزْمَانِ | |
أَوْ جَعْدٌ اوْ جَهْمٌ وَأَتْبَاعٌ لَهُ | هُمْ أُمَّةُ التَّعْطِيلِ وَالبُهْتَانِ | |
أَوْ حَفْصٌ اوْ بِشْرٌ أَوِ النَّظَّامُ ذَا | كَ مُقَدَّمُ الفُسَّاقِ والمُجَّانِ | |
وَكَذَلِكَ الشَّحَّامُ وَالعَلاَّفُ وَالنْـ | ـنَجَّارُ أَهْلُ الجَهْلِ بِالقُرْآنِ | |
وَاللهِ مَا فِي القَوْمِ شَخْصٌ رَافعٌ | بِالوَحْيِ رَأْسًا بَلْ بِرَأْيِ فُلانِ |
قال العلامة ابن القيم في كتابه: "إغاثة اللهفان"، ج2 صفحة 263:
ولما انتهت النوبة إلى نصير الشرك والكفر المُلْحد وزير الملاحدة: النصير الطوسي، وزير هولاكو، شفا نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه، فعرضهم على السيف، حتى شفا إخوانه من الملاحدة، واشتفى هو، فقتل الخليفة([37]) والقضاة والفقهاء والمحدثين، واستبقى الفلاسفة والمنجمين، والطبائعيين والسحرة، ونقل أوقاف المدارس والمساجد والربط إليهم، وجعلهم خاصته وأولياءه، ونصر في كتابه قدم العالم وبطلان المعاد وإنكار صفات الرب - جل جلاله - من علمه وقدرته، وحياته وسمعه وبصره، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، وليس فوق العرش إله يعبد ألبتة، واتخذ للملاحدة مدارس، ورام جعل إشارات إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن، فلم يقدر على ذلك، فقال: هي قرآن الخواص، وذاك قرآن العوام، ورام تغيير الصلاة، وجعلها صلاتين، فلم يتم له الأمر، وتعلَّم السحر في آخر الأمر، فكان ساحرًا يعبد الأصنام.
وصارع محمد الشهرستاني ابن سينا في كتاب سماه "المصارعة"، أبطل فيه قوله بقدم العالم، وإنكار المعاد، ونفي علم الرب تعالى، وقدرته وخلقه العالم، فقام له نصير الإلحاد وقعد فنقضه بكتاب سماه: "مصارعة المصارعة"، ووقفنا على الكتابين - نصر فيه أن الله تعالى لم يخلق السموات والأرض في ستة أيام، وأنه لا يعلم شيئًا وأنه لا يفعل شيئًا بقدرته واختياره، ولا يبعث من في القبور، وبالجملة فكان هذا الملحد هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
والفلسفة التي يقرؤها أتباع هؤلاء اليوم هي مأخوذة عنه وعن إمامه ابن سينا، وبعضها عن أبي نصر الفارابي، وشيء يسير منها من كلام أرسطو، وهو مع قلته وغثاثته وركاكة ألفاظه - كثير التطويل لا فائدة فيه.
وخيار ما عند هؤلاء فالذي عند مشركي العرب من كفار قريش وغيرهم أهون منه، فإنهم يدأبون حتى يثبتوا واجب الوجود، ومع إثباتهم له فهو عندهم وجود مطلق لا صفة له، ولا نعت ولا فعل يقوم به، لم يخلق السموات والأرض بعد عدمها، ولا له قدرة على فعل ولا يعلم شيئًا، وعباد الأصنام كانوا يثبتون ربًّا خالقًا مبدعًا، عالمًا قادرًا حيًّا، ويشركون به في العبادة، فنهاية أمر هؤلاء الوصول إلى شيء برز عليهم فيه عباد الأصنام.
وهم فرق شتى لا يحصيهم إلا الله - عز وجل.
وأحصى المعتنون بمقالات الناس منهم اثنتي عشرة فرقة، كل فرقة منها مختلفة اختلافًا كثيرًا عن الأخرى، فمنهم أصحاب الرواق، وأصحاب الظلة، والمشاؤون، وهم شيعة أرسطو، وفلسفتهم هي الدائرة اليوم بين الناس، وهي التي يحكيها ابن سينا والفارابي وابن خطيب الري وغيرهم.
ومنهم الفيثغورية، والأفلاطونية، ولا تكاد تجد منهم اثنين متفقين على رأي واحد، بل قد تلاعب بهم الشيطان كتلاعب الصبيان بالكرة، ومقالاتهم أكثر من أن نذكرها على التفصيل.
وبالجملة: فملاحدتهم هم أهل التعطيل المحض، فإنهم عطلوا الشرائع، وعطلوا المصنوع عن الصانع، وعطلوا الصانع عن صفات كماله، وعطلوا العالم عن الحق الذي خلق له وبه، فعطلوه عن مبدئه ومعاده، وعن فاعله وغايته، ثم سرى هذا الداء منهم في الأمم، وفي فرق المعطلة".
نسأل الله سلامة العقيدة والثبات على الإيمان، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
([1]) أخرجه ابن ماجه (3992)، من حديث عوف بن مالك.
([2]) في كتاب "الفرق بين الفرق" ص 221 - 223.
([3]) الطبعة الأولى بمطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن سنة 1357هـ، ج 6 ص 222.
([4]) بذرق الحاج - أي: قاد الحاج.
([5]) ج 6 صفحة 203 نشر إدارة الطباعة المنيرية لصاحبها محمد منير الدمشقي سنة 1358 هـ.
([6]) ج 13 ص 70 طبعة دار القاموس الحديث للطباعة والنشر ببيروت.
([7]) ج 6 صفحة 218.
([8]) قيادة الحاج.
([9]) ج 11 ص 160 - 162.
([10]) ج 6 صفحة 173.
([11]) ج 11 صفحة 208.
([12]) نسب الأستاذ عبدالوهاب النجار في تعليقاته على كتاب "الكامل"؛ لابن الأثير ج6 ص203، ذلك إلى ابن كثير، ولم أجده في تاريخ ابن كثير، بل إن ابن كثير ذكره نقلاً عن ابن الأثير: أن عبيدالله بن ميمون القداح الملقب بالمهدي قد كتب إلى أبي طاهر القرمطي يلومه على ما فعل بمكة، ويأمره برد ما أخذ فأجابه بالسمع والطاعة.
([13]) ج4 ص 191 - 192.
([14]) يقصد أبا طاهر القرمطي.
([15]) ج 6 صفحة 204.
([16]) في كتابه "الفرق بين الفرق" ص 254 - 266.
([17]) قال الذهبي: إنه اتخذ وجهًا من ذهب.
([18]) "مقالات الإسلاميين" صفحة 65.
([19]) محلة بالكوفة.
([20]) انتهى من "مقالات الإسلاميين" من صفحة 65 إلى صفحة 87.
([21]) في الفصل ج4 صفحة 183 - 188.
([22]) في الفصل ج 4 صفحة 183.
([23]) في "الملل والنحل" ج 1 ص 288.
([24]) ج1 صفحة 80 - 81.
([25]) ج2 صفحة 285.
([26]) في الهامش إحالة إلى "الفهرست"؛ لابن النديم ج1 صفحة 190، و"لغة العرب" ج3 ص154، و"المشرق" 12ص191، و"روضات الجنات" 336، و"طبقات الصوفية" 307، و"البداية والنهاية" ج11 ص132، و"لسان الميزان" ج2 ص314، و"تاريخ الخميس" ج2 ص347، وابن الأثير ج8 ص399، و"غريب" 76، و"الوفيات" ج1 ص146، و"ميزان الاعتدال" ج1 ص256، وفيه: كان مقتله سنة 311 هـ وابن الشحنة حوادث سنة 309، وفيه: كان الحلاج يخرج للناس فاكهة الشتاء في الصيف وبالعكس، ويمد يده في الهواء ويعيدها مملوءة دراهم مكتوبًا عليها: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَد﴾، يسميها دراهم القدرة، ويخبر الناس بما صنعوا في بيوتهم، ويتكلم بما في ضمائرهم، والشعراني ج1/ص92، و"تاريخ بغداد" ج8 ص112 - 141، وفيه كثير من أخباره، و"مرآة الجنان" ج2 ص353 - 359.
([27]) ج1 صفحة103.
([28]) "البداية والنهاية" ج11 ص112 - 113.
([29]) كذا، ولعل الصواب: "ولم يجرحه بشيء".
([30]) ج10 ص346 - 347 من "البداية والنهاية".
([31]) "البداية والنهاية" ج11 ص82.
([32]) "نقض المنطق" ص62.
([33]) ج2 صفحة 208 - 209.
([34]) وبالهامش إشارة للمصادر وهي: "الكامل"؛ لابن الأثير حوادث سنة 494 وما بعدها، و"تاريخ العلويين" 273، و"ميزان الاعتدال" ج1 ص332، وابن الوردي ج3 ص113/و312، و"صبح الأعشى" ج1 ص121، و"تاريخ العراق" 3 الملحق الثاني ص6، ولا روس ودائرة المعارف البريطانية.
([35]) ج 2 ص 262 - 264.
([36]) ص 160.
([37]) هو المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين قتله التتر حينما دخلوا بغداد في سنة 656 هـ، بممالأة العلقمي الرافضي الملعون وزير المستعصم، وكان نصير الشرك والإلحاد الطوسي قاضي التتار ومشيرهم.
وقد فعل التتر بمشورته وابن العلقمي في بغداد من سفك الدماء وانتهاك الحرمات والتنكيل بالإسلام والمسلمين ما لم يسمع بمثله في أي عصر هامش "إغاثة اللهفان" ج2 ص263.