على ضفاف الإلحاد
ترجمات المادة
التصنيفات
الوصف المفصل
على ضفاف الإلحاد
مشعل بن عبد الله الحويكان
2013 - 1434
الحمد لله الذي أبدع صنع الإنسان فجعله مجالاً للتفكر والاعتبار (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) وصلى الله وسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبعد:
فما زالت كلمات العلامة الفقية محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - ترن في أذني منذ سنوات وقد كنت أستمع لأشرطة شرح العقيدة الواسطية , حينما أورد قصة بشر بن غياث المريسي وقد بلغ به الضلال أنه كان يقول في سجوده (سبحان ربي الأسفل) والعياذ بالله, فقد كان العلامة العثيمين يقول (لا تظنوا أن بشر المريسي غبي حينما يقول هذا, بل هو من أذكياء العالم لكنه أدخل عقله فيما لا يطيقه فأصبح يخرج منه كلام لا يقوله إلا الأغبياء) بتصرف.
وكذلك نقل لي بعض الأحبة عن سماحة العلامة عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - أنه وأثناء تعليقه على أحداث غزوة بدر قال مامعناه (لا تعتقدوا أن أبا جهل كان غبياً حينما رد الإسلام وجاء لمحاربته بل هو رجل شديد الذكاء استطاع بذكاءه إقناع رجال لم يكونوا ينوون الخروج للقتال إلى أن يكونوا هم الثلاثة الذين بدؤوا المعركة).
فالذكاء وحده فضلاً على وجود العقل لا يكفي صاحبه لأن يدخل فيما لا يطيق الدخول فيه كالغيبيات والمعجزات وغيرها كما سيأتي.
هناك قاعدة أيها السادة بديهية لكن كثير من الإشكالات في مسائل المنطق والعقل تبدأ منها وهي:
أن العقل البشري له حدود في التصور فلا يتصور إلا ما رآه صراحة أو رآى شبيهاً له.
إذا اتفقنا على هذه القاعدة نعلم أن النتائج لن تكون صحيحة إلا بأن تكون المقدمات صحيحة.
للإمام الطحاوي -رحمه الله تعالى- كلام جميل يصف حال الكثير ممن سلك إثبات الغيب بالعقل دون النقل فيقول (فمن رام علم ما حظر عنه علمه, ولم يقنع بالتسليم فهمه, حجبه مرامه عن خالص التوحيد, وصافي المعرفة, وصحيح الإيمان, فيتذبذب بين الكفر والإيمان, والتصديق والتكذيب, والإقرار والإنكار, موسوساً تائهاً, شاكاً زائغاً,لامؤمناً مصدقاً ولا جاحداً مكذباً). (شرح العقيدة الطحاوية 1/307, 1/315).
دعونا ننظر من بعيد إلى من دخلوا في علم الكلام والعقل فيما لا يدركه العقل لقصوره عن فهمه, لنعلم إلى أي حالٍ وصلوا فيختصروا لنا الطريق.
يقول الإمام أبو المعالي الجويني - رحمه الله- عند موته بعدما قضى عمراً مع علم الكلام (لقد خضت البحر الخضم, وخليت أهل الإسلام وعلومهم, ودخلت في الذي نهوني عنه, والآن فإن لم يتداركني الله برحمته, فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي, أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور) (شرح العقيدة الطحاوية 1/317).
وكذلك قال الإمام أبو عبدالله محمد بن عمر الرازي - رحمه الله - في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات (لقد تأملت الطرق الكلامية, والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً, ولا تروي غليلاً, ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ... ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي) (انظر: تاريخ الإسلام للذهبي الطبقة الحادية والستين ص205).
ونقل عن الإمام محمد بن سالم الحموي - رحمه الله - أنه قال: (اضطجع على فراشي وأضع ملحفتي على وجهي, وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر، ولم يترجح عندي منها شيء) (انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/165و 3/263).
وكذا الإمام الغزالي - رحمه الله تعالى- انتهى آخر أمره إلى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية, ثم أعرض عن تلك الطرق, وأقبل على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, فمات والبخاري على صدره. (شرح العقيدة الطحاوية 1/316).
بل وألف كتابه المشهور بعنوان (تهافت الفلاسفة).
ماتقدم جانبٌ ممن تداركهم الله برحمته وإلا فبعض منهم ضل وألحد وكفر بالله العظيم.
لذلك كانت مدافعة العلماء لمثل هذه العلوم التي تقدم الرأي على الوحي, والعقل على النقل مشهورة قوية, فمنه ما قاله الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- فيهم (حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال,ويطاف بهم في القبائل والعشائر, ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة,وأقبل على الكلام) (مناقب الشافعي 1/354).
وقال الإمام ابن أبي العز - رحمه الله - في دواء هذا الداء (والدواء النافع لمثل هذا المرض ما كان طبيب القلوب صلوات الله وسلامه عليه يقوله إذا قام من الليل يفتتح صلاته: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل, فاطر السماوات الأرض, عالم الغيب والشهادة, أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك, إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم) أخرجه مسلم حديث رقم 770).
وفي الختام لا يعني ماتقدم نبذ استخدام العقل والدعوة إلى تعطيله عموماً فالله عز وجل فضلنا على سائل المخلوقات بالعقل, ولكن المقصود أن يستخدم العقل في حدود قدراته التي مكنه الله منها, ولنتدبر قول الله عز وجل في آية الكرسي (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء).
أسأل الله أن يثبتنا على دينه القويم, وصراطه المستقيم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم.