شرح القواعد الأربع
ترجمات المادة
التصنيفات
الوصف المفصل
شرح القواعد الأربع
لشيخ الإسلام الإمام المجدد
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
- رحمه الله -
بقلم الشيخ
صالح بن عبد العزيز آل شيخ
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
قال المؤلِّف رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم
أسأل الله الكريم ربّ العرش العظيم أن يتولاّك في الدنيا والآخرة، وأن يجعلك مبارَكـًا أينما كنت، وأن يجعلك ممّن إذا أُعطيَ شكر، وإذا ابتُلي صبر، وإذا أذنب استغفر، فإنّ هؤلاء الثلاث عنوان السعادة.
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن هذه النبذة المختصرة -القواعد الأربع- من النّبذ المهمة, من مقال إمام هذه الدّعوة رحمه الله تعالى, وأهميتها تأتي بمعرفة مضادات تلك القواعد الأربع, وأنّ الإخلال بهذه القواعد الأربع, أو عدم ضبط تلك القواعد يقع معه لَبس عظيم في معرفة حال المشركين, وحال الموحّدين، والابتلاء وقع بحال أهل التوحيد، وبحال أهل الشرك، والله جل وعلا في القرآن بَيَّن ما يجب من حقه في توحيده, وبين الشرك به, بيانا عظيما.
وهذه القواعد الأربع مأخوذة من نصوص الكتاب والسنة ومن معرفة حال العرب كما سيأتي، فهي قواعد عظيمة تعصم من حفظها وعلم معناها ممن يكون عنده تردد في مسألة الحكم على أهل الإشراك وعلى وجوب إخلاص الدين لله جل وعلا وكيف يكون ذلك.
إمام الدعوة رحمه الله كعادته في كثير من رسائله؛ يبتدئها بدعاء لمن يقرأ تلك الرسالة أو لمن وُجِّهت إليه, وهذا كما هو معلوم فيه التنبيه على أنَّ مبنى العلم ومبنى الدعوة الرحمة، الرحمة والتراحم بين المعلم والمتعلم، والرحمة والتراحم بين الداعية والمدعو؛ لأنّ الرحمة في ذلك هي سبب التواصل، قال جل وعلا﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِن اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾[آل عمران:159], يعني فبِرحمة من الله لنت لهم، فبرحمة من الله لنت لهم, و(ما) في هذه الآية قيل لتأكيد الجملة, وهي التي تسمى الزائدة؛ لزيادة التأكيد، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِن اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) يعني فبرحمة من الله لنت لهم، فبرحمة من الله لنت لهم، فالدعاء هذا ناتج عن الرحمة، وهكذا ينبغي على المعلم, وعلى الداعية, وعلى الآمر بالمعروف, وعلى الناهي عن المنكر أن يكون راحما بالخلق, أن يكون رحيما بهم, كما وصف الله جل وعلا نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء:107] وقال﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[التوبة:128], وقال ابن القيم رحمه الله في وصف حال الدَّاعي إلى الله مع أهل المعصية وأهل النفور عن الحق قال في ذلك:
واجعل لقلبك مقلتين كلاهـما من خشية الرحمان باكيتان
لو شاء ربُّك كنت أيضا مثلهم فالقلب بين أصابع الرحمان
حتى حين توقع الحدود وتُطبّق؛ فهي تطبّق على وجه الرحمة لا على وجه الانتقام، رحمة بهذا الذي استحق تلك العقوبة أن تَسلَّط عليه إبليسُ والشيطان فجعله مستحقا لذلك, كالأسير من أحبابك إذا وقع أسيرا في أيدي العدو.
فهذا التقديم بالدعاء من الإمام رحمه الله فيه التنبيه على ذلك, ودعا، وكان فيما دعا؛ أنّه سأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن إذا أُعطي شكر, وإذا أُبتلي صبر, وإذا أَذنب استغفر, وهؤلاء الثلاث عنوان السعادة. إذا أعطي شكر؛ لأن العطاء من الله جل وعلا نعمة, الله جل وعلا يحب الشاكرين من عباده, والشكر يكون بلسان المقال, ويكون بالعمل, ﴿أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾[لقمان:114]، بالمقال وبالعمل, ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾[سبإ:13], هذا من جهة العمل, ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِِِِِ﴾[البقرة:152] هذا من جهة القول والعمل، ولهذا اختلف الشكرُ عن الحمد؛ فالشكر يكون عن نعمة, وأما الحمدُ فقد يكون لنعمة أو في مقابل نعمة وقد لا يكون؛ يكون ثناء مبتدءا, والشكر يكون باللسان وبالعمل، وأما الحمدُ فيكون باللسان دون العمل؛ فيه فروق كثيرة معروفة عند أهل العلم، هذا مما ينبغي تدبّره، وهو أن العبد إذا أعطي عطاءً شكر عطاءَ الله جل وعلا، وشكرُ العطاء كما ذكرنا بالقول وبالعمل:
• أمّا بالقول بأن ينسب ذلك العطاء إلى من أعطاه، وأن يثنى عليه به, وأن لا يُلتفت فيه إلى غيره، ﴿وَمَا بكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ﴾[النحل:53]، ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا﴾[النحل:83].
• ومن جهة أخرى؛ جهةُ العمل، يكون الشكر باستعمال النِّعم فيما يحب من أنعم بها وأسداها.
وهذا مما يحبه الله جل وعلا بل من عظيم ما يحب الله من العبادات أن يكون العبد شاكرا ولهذا قال﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ﴾[سبإ:13], وقال سبحانه ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾[الإسراء:3]؛ يعني يا ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا كان كثير الشكر لله جل وعلا، قال أهل التفسير: كان إذا أكل الأكلة شكر اللهَ عليها، وإذا شرب الشربة شكر الله عليها, وإذا اكتسى شكر الله على ذلك. يعني أن نتبرأ من كل حول وقوة في ما جاءه من النعم أو ما يسره وأن يعترف بأنها من الله جل وعلا.
وباب الشكر له صلة بالتوحيد, وكأنّ الإمام رحمه الله حين ذكر الشكر على العطاء, والصبر على البلاء, والاستغفار من الذنب, كأنه نظر إلى حال الموحِّد, خاطبه بما يجب عليه أن يكون معه دائما, فإنّ الموحِّد أنعم عليه بنعمة لا تعدلها نعمة؛ ألا وهي أنْ كان على الإسلام الصحيح، أنْ كان على التوحيد الخالص الذي وعد الله أهله بالسعادة في الدنيا والآخرة, ولابدّ للموحِّد من الابتلاء, فسأل اللهَ له أن إذا أبتلي صبر؛ والابتلاء قد يكون من جهة الأقوال التي توجَّه إليه، وقد يكون الابتلاء من جهة البدن، وقد يكون من جهة المال أو غير ذلك، قال (وإذا أذنب استغفر)؛ لأن الموحّد لابد أن يكون معه شيء من الإعراض، و لابد أن يقع الذنب؛ إما من الصغائر، وإما من الكبائر، والله جل وعلا من أسمائه الغفور، ولا بد أن يظهر أثر ذلك الاسم في بريئته وملكوته، لهذا يحب اللهُ من عبده الموحّد المخلص أن يكون دائم الاستغفار، ولا بد للموحّد من ذلك, والعبد إذا ترك عظيم الاستغفار جاءه بالكِبر، والكبر يحبط كثيرا من العمل، لهذا قال هنا (وإذا أذنب استغفر وهؤلاء الثلاث عنوان السعادة)، فإذن هذه متلازمة في حال كل موحّدٍ؛ وهي الشكر على العطاء، والصبر على البلاء، والاستغفار من الذنب والعصيان، وكلّما عَظُم العبد معرفةًٍ بربه كلما عظَّم هذه الثلاث، وكلما عظم التوحيد في القلب عظمت هذه الثلاث، حتى يصير العبدُ لا يرى سوى الله جل وعلا في استحقاق شيء من أعماله وتصرفاته، فإن غفل في ذلك كان استغفاره ليس استغفار الذي لا يفقه، لهذا كان عليه الصلاة والسلام يستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من مائة مرة، وفي رواية في الصحيح «أنه كان يستغفر الله في المجلس الواحد سبعين مرة»، والموحد عليه خطر؛ خطر الغرور، الغرور لأنه من أهل التوحيد، أو من المحققين لاتباع السلف، أو ممن علم هذا العلم، ثم لا يكون في قلبه من الخضوع والذل الذي يعلمه الله منه، ما يكون ذلك سببا لقَبول هذه الوسيلة، وهي وسيلة التوحيد إلى الله جل جلاله، وشأن الله أعظم، وطلبَ من عباده شيئا قليلا، ولهذا عظم أمر التوحيد، وَقَبُحَ جدا الشرك وما جر إليه.
اعلم أرشدك الله لطاعته: أن الحنيفيّة ملّة إبراهيم: أن تعبد الله مخلصـًا له الدين كما قال تعالى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِِ﴾[الذاريات:56]. فإذا عرفت أنّ الله خلقك لعبادته فاعلم: أنّ العبادة لا تسمّى عبادة إلا مع التوحيد، كما أنّ الصلاة لا تسمّى صلاة إلى مع الطهارة، فإذا دخل الشرك في العبادة فسدتْ كالحدَث إذا دخل في الطهارة. فإذا عرفتَ أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها وأحبط العمل وصار صاحبه من الخالدين في النار عرفتَ أنّ أهمّ ما عليك: معرفة ذلك، لعلّ الله أن يخلّصك من هذه الشَّبَكة، وهي الشرك بالله الذي قال الله فيه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾[النساء:116], وذلك بمعرفة أربع قواعد ذكرها الله تعالى في كتابه.
هذه المقدمة مدخل لهذه القواعد، وأول ذلك (أن الحنيفية -هي- ملة إبراهيم عليه السلام)، وجعل الله جل وعلا إبراهيم حنيفا؛ يعني مائلا عن طريق الشرك إلى التوحيد الخالص، والحنيفية هي الملة التي مالت عن كل باطل إلى الحق، وابتعدت عن كل باطل إلى الحق، وهي ملة أبينا إبراهيم عليه السلام كما قال جل وعلا﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾[آل عمران:67], وقال جل وعلا ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(120)شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[النحل:120-121], حقيقة ملة إبراهيم هي تحقيق معنى لا إله إلا الله كما قال جل وعلا في سورة الزخرف ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27)وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[الزخرف:26-28], وهذه الكلمة هي كلمة لا إله إلا الله قال﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾[الزخرف:26-27], هذه هي كلمة التوحيد؛ (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) هذا هو النصف الذي هو النفي في كلمة التوحيد؛ يعني قول (لا إله) معناه (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ), إلا الله يعني (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي)، (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ)، وأعظم تفسير لكلمة التوحيد هو هذه الآية حيث قال (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي)، ولهذا قال أهل العلم: إن كلمة التوحيد لا إله إلا الله فيها نفي، وفيها إثبات، والنفي للبراءة من كل معبود سوى الله جل وعلا، ومن عبادة كل ما سوى الله جل وعلا؛ لأن عبادة ما سوى الله جل وعلا باطلة, وإثبات العبادة لله جل وعلا وحده سبحانه, يعني إنزال العبودية الحقّة المستحقة في واحد وهو الله جل جلاله, هذه هي ملة إبراهيم، وهذه هي الحنيفية التي أمر الله جل وعلا نبيه بالاستمساك بها؛ ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾[النحل:123], فملة إبراهيم هي التوحيد، وإذا عرفتَ هذا، فإنَّ العبادةَ لا تُقبل إلا بالتوحيد، وذلك ممثل الطهارة للصلاة، فإن التوحيد شرط قَبول العبادة؛ يعني الإخلاص، والطهارة شرط صحة الصلاة، فكما أنه لا تصح الصلاة إلا بالطهارة، فكذلك لا تصحّ عبادة أحد إلا إذا كان موحِّدا، ولو كان في جبهته أثر السجود، وكان صائما في النهار قائما في الليل فإن شرط قبول ذلك أن يكون موحّدا مخلصا، قال جل وعلا ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ(65)بَل اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ﴾[الزمر:65-66]، وقال جل وعلا في الكفار﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾[الفرقان:23], فعظيم العبادة وكثرة العبادة إذا لم تكن مع الإخلاص فإنها غير مقبولة؛ كما أن الرّجل يصلي صلاة عظيمة يطيل فيها القيام، ويطيل فيها الركوع، ويطيل فيها السجود، ويحسِّنها جدًّا، وقد دخل فيها على غير طهارة هذه صلاة غير مقبولة بالإجماع؛ لأنّ الطهارة شرط صحة الصلاة؛ كما ثبت في الصحيح أن النبي قال: »لا يقبَل اللهُ صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ«، »لا صلاة إلا بطُهور« وهذا شرط متفق عليه، وهذا تقريبٌ لهذه المسألة العظيمة، وإلا فإنّ شرط الإخلاص والتوحيد لقَبول العبادة أعظم من شرط الطهارة لقَبول الصلاة؛ لأنه إذا صلى محدِثا متعمدا فإن في تكفيره خلاف بين أهل العلم، وأما إذا عبد اللهَ مشركا؛ فإنه بالإجماع ليس مقبول العبادة، وبالإجماع هو كافر لأنه أشرك بالله جل وعلا الشرك الأكبر الذي لا يقبل معه عمل.
إذا تقرر ذلك فإن هذا الأصل يجعل المرء يخاف، ويفرح؛ يخاف من الشرك وأن يكون من أهله، ويفرح أن جعله الله جل وعلا من أهل التوحيد، فَرَحُه من أن جعله الله جل وعلا من أهل التوحيد يوجب شكر ذلك والمحافظة عليه، وخوفه وهربه من أن يكون من أهل الشرك أو أن يأتيه بعض الشرك يجعله دائما حذرا؛ أن يعْتَرِيَ عبادته, أو عقيدته, أو أقواله شيء من الشركيات؛ لأن الشركيات إذا كانت من الشرك الأكبر فإنها محبطة للعمل، وإذا كانت من الشرك الأصغر فإنها أعظم من البدع، والمعاصي المختلفة، يعني من حيث الجنس، وهذا لا شك يجعل المرء الخائف الرّاجي يعني الخائف الفرح -الفرِح بالتوحيد، الخائف من الشرك- يجعله يطلب هذه القواعد التي تجعله في يقين من أمره.
والتوحيد والشرك في دعوة الإمام المصلح رحمه الله، لمن تأمله قد يكون معه شيء من التردد أو الشك في صحة ما جاء به الشيخ من جهة تقرير المسائل، ومن جهة الحكم على أهل الشرك والإشراك؛ لأنّ المسألة عظيمة أن يكون أحد ممن يقول لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ويصلي، ويزكي، ويصوم، ويحج، ويتعبد، ويكون من أهل العبادات العظيمة، ومن أهل الصلاح كما يقول الناس، ثم يقال إن عمله الذي عمله من الشركيات، أو لما لم يكفر بالطاغوت، يجعل عمله هذا كَلاَ شيء, هذه عظيمة، وكيف تستقر في النفوس، فربما حدث من جهة النظر في الناس الذين يتعبدون بالعبادات العظيمة وهم واقعون في الشرك، ربما تعاظم بعض الناس أن يكونوا من المشركين، يعني أن يكون أولئك من المشركين، وهذه القواعد لتأصيل هذه المسألة العظيمة، وهي أن الأمر ينظر فيه إلى حق الله، وإنما أتى الخلل من جهة نظر الناس إلى حق المخلوق؛ إلى واقع المخلوق، لكن لو نظروا إلى حق الله جل وعلا؛ الذي خلق الإنسان فسواه، وعدله، والذي خلق السماوات على هذا النحو العجيب، وهذه الأرض وأقام الدلائل على وحدانيته بربوبيته، وجعل ذلك في النفس، وفي الآفاق، وفيما حوله، يجعل أنه لا حجة لمشرك على الله جل وعلا، ولكن الله سبحانه وتعالى بعث الرسلَ رحمة؛ لإقامة الحجة ولإعلان[النذير]( )
القاعدة الأولى: أن تعلم أنّ الكفّار الذين قاتلهم رسول الله يُقِرُّون بأنّ الله تعالى هو الخالِق المدبِّر، وأنّ ذلك لم يُدْخِلْهم في الإسلام، والدليل: قوله تعالى﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾[يونس:31].
القاعدة الأولى أن توحيد الربوبية لا يُدخل أحدا في الإسلام، توحيد الربوبية ليس هو المطلوب، فإن معرفة العرب بأن الله جل وعلا هو الخالق، وهو الرزاق وحده، وهو المحيي وحده، وهو المميت وحده، وهو الذي يجير ولا يجار عليه، وهو الذي إليه الأمر، وهو الذي يُنزل المطر، وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات، هذا كله يُقِرُّون بأن الذي سخّر ذلك وخلقه هو الله جل وعلا، ومع ذلك ما نفعهم، ولم يجعلهم الله جل وعلا بذلك من أهل الإسلام، قال جل وعلا ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾[يوسف:106], (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ) يعني الإيمان بربوبيته، إلا وهم مشركون في عبادته فانظروا إلى حال كفار العرب مقرون بأفراد الربوبية؛ بأكثر أفراد الربوبية، كما قال جل وعلا ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾[يونس:31]، (فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ) يعني الذي يفعل هذه الأشياء هو الله وحده، (فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) يعني أتقولون ذلك وتقرون بوحدانيته في الربوبية، فلا تتقونه في عبادته وحده، وترك الإشراك به، فأقام عليهم الحجة بما أقروا به على ما أنكروه، وهذه هي طريقة القرآن في إقامة الحجة على المشركين، فإن من براهين التوحيد، توحيد العبادة أن تقام الحجة بتوحيد الربوبية؛ لأن من كان هو الفاعل وحده؛ يعني هو الخالق وحده، والرزاق وحده، إلى آخر أفراد الربوبية؛ فإنه هو الذي يستحق العبادة دونما سواه، ولهذا قال سبحانه منكرا على المشركين ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾[الأعراف:91]، وقال سبحانه ﴿قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾[النمل:59]، ووصف الذين جعلهم المشركون آلهة، بأنهم عاجزون، وليس لهم قدرة، وليس لهم خلق، وليس لهم صفات تجعل أولئك يتوجهون إليه ﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾[الحج:73], هذا مثل الذين توجهوا إليهم بالعبادة، وإقرار المشركين بالربوبية لم يدخلهم في الإسلام، نستنتج من ذلك أنّ إقرار من بعدهم بالربوبية لا يعني أنهم مؤمنون، فإذا أتى آتٍ وقال: أنا مؤمن بأنّ الله هو الرب، هو الخالق، وهو ربي، وهو الذي يرزقني، وهو الذي أحياني، وهو الذي يميتني. هذا لا يعد مؤمنا الإيمان الشرعي؛ يعني لا يعد مسلما حتى يأتي بالتوحيد، ولهذا غلط المتكلمون حينما عرفوا الإله بأنّه القادر على الاختراع؛ قالوا: الإله هو القادر على الاختراع. فعندهم معنى لا إله إلا الله راجع إلى الربوبية, وهذا أعظم غلط على دين الإسلام؛ الذي غلط به المتكلمون على الدين، وعلى الملة، حيث جعلوا الابتلاء واقع في الربوبية، فإذا أيقن أن الموجب للأشياء والخالق لها هو الله، فإنه يكون عندهم مؤمنا مسلما، وهذا غير معنى الألوهية؛ لأن لا إله إلا الله معناها لا معبود حق إلا الله جل وعلا، فمعناها راجع إلى العبودية لا إلى الربوبية، إذن مراد الشيخ من هذه القاعدة المهمة اليقينية -بأن هذه القاعدة يقينية من حال الكفار والمشركين- بأنهم مقرون بتوحيد الربوبية، ولم ينفعهم، ولم يدخلهم في الإسلام، ولم يجعل لهم حقا؛ لأنهم أشركوا مع الله جل وعلا آلهة أخرى، وعبدوا آلهتهم الباطلة، وقالوا﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾[ص:5]، فإذا نظرنا في هذا الزمن، وفي زمن الشيخ، وما قبله، وما بعده، في أنّ هناك من يوقن بالربوبية، ولكنه يشرك بالعبادة، فإنّ ذلك لا ينفعه، كحال الأولين، أن القاعدة: أن مشركي العرب كانوا يوقنون بالربوبية.
واليوم قد يأتي على بعض النفوس، بعض إذا سمع من يقول: إن شاء الله، أو سمع من يذكر الله جل وعلا, أو يقول عن الله هو ربه, وهو مولاه, أو نحو ذلك, ظنَّه مسلما, وقنِع منه بذلك، وهذا لم يقع به الابتلاء أصلا، بل لابد أن يكون موحدا في عبادته, يعني نعبد الله بما جاء به المصطفى , ويكون متبرِّئا خالصا من الشرك وأهله.
القاعدة الثانية: أنّهم يقولون: ما دعوناهم وتوجّهنا إليهم إلا لطلب القُرْبة والشفاعة، فدليل القُربة قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾[الزمر:3].
ودليل الشفاعة قوله تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾[يونس:18]، والشفاعة شفاعتان: شفاعة منفيّة وشفاعة مثبَتة:
فالشفاعة المنفيّة ما كانت تٌطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلاّ الله، والدليل: قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ﴾[البقرة:254].
والشفاعة المثبَتة هي: التي تُطلب من الله، والشّافع مُكْرَمٌ بالشفاعة، والمشفوع له: من رضيَ اللهُ قوله وعملَه بعد الإذن كما قال تعالى ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾[البقرة:255].
هذه القاعدة الثانية في بيان حال المشركين في عبادتهم؛ عبدوا آلهة مع الله جل وعلا ومن دونه، ماذا يقصدون بهذه العبادة؟ هل يقولون هي آلهة استقلالية؟ أم أنها وسائط؟ هذه القاعدة أفادت: بأنهم إنما كانوا يعبدون غير الله جل وعلا على جهة الوساطة، على جهة القربة، أو على جهة الشفاعة، يعني يقولون إنّ آلهتهم الباطلة تقربهم إلى الله، أو ترفع حوائجهم إلى الله، أو يقولون إنها تشفع لهم عند الله جل وعلا، يعني أن مشركي العرب لم يكونوا يطلبون من الآلهة استقلالا، وإنما كانوا يطلبون من الآلهة على وجه الوساطة، وهذه الوساطة من جهة القربة، ومن جهة الزلفى، والجهة الثانية جهة الشفاعة كما ذكر رحمه الله قال (فدليل القُربة قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾[الزمر:3]) قال (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) يعني آلهة, ما نعبدهم, يعني يقولون (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا)، وهذا حصر، ويسمى عند علماء البلاغة حصر القلب إضافي، (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) يعني ما نعبدهم لعلة من العلل إلا لأجل التقريب، فهم حصروا ما أرادوا في القربى من الله جل وعلا، فهم أرادوا ما عند الله جل وعلا، فإذن حين توجهوا إلى هذه الآلهة الباطلة، أرادوا ما عند الله، ولم يطلبوا منها استقلالا، وإنما أرادوها؛ زلفى وقربى إلى الله جل وعلا قال ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾[الزمر:3] فأرادوا بذلك القربة.
ودليل الشفاعة قوله جل وعلا ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ﴾[يونس:18]الآية, والشفاعة أن يطلبوا من الله جل وعلا لهم الحوائج؛ لأنّ معنى الشفاعة أن يضم المطلوب منه طلبه إلى الطالب فيرفعه إلى من عنده الأمر، هذا معنى الشفاعة، فـ(يَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، فيعني يكونون طالبين لنا ما نريد, والله جل وعلا لا يردُّ شفاعتهم؛ لأنهم مقربون عنده، وأصل شرك العالَم كان في جميع الفئات والطوائف كان على أحد جهتين:
أما الجهة الأولى، الشرك بالاعتقاد بروحانيات الكواكب، كما كان شرك قوم إبراهيم عليه السلام؛ فإن إبراهيم أتى إلى قومه يعبدون الأصنام التي هي مصوّرة على صور روحانية الكواكب؛ الكواكب الخاصة التي يعتقدون أن لها تأثيرا في الملكوت، عبدوا الأصنام أو الأوثان؛ لأنّ أرواح تلك الكواكب تحِلّ فيها؛ الشياطين تحل في تلك الأصنام والأوثان وتخاطبهم، وربما حصلت لهم بعض ما يريدون، فوقع الأمر بأن أشركوا، وزادوا من الشرك على اعتقاد أن الكواكب هي التي تفعل، وروحانية الكوكب هي التي تخاطب؛ قال جل وعلا ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ(75)فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي﴾[الأنعام:75-76], والعلماء اختلفوا هل كان ناظرا أو مناظرا؟ والصحيح الذي يضعف غيرُه؛ أن إبراهيم عليه السلام كان في قوله (هَذَا رَبِّي) كان مناظرا لا ناظرا.
والنوع الثاني من أنواع الشرك؛ شرك قوم نوح عليه السلام، وهو الشرك من جهة الاعتقاد بروحانية وأرواح الصالحين؛ قال تعالى ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾[نوح:23] فثبت في صحيح البخاري؛ من حديث عطاء عن ابن عباس أنَّه قال هذه أسماء رجال صالحين كانت في قوم نوح، ووقع الشرك بهؤلاء الرِّجال لأنهم صالحون، العرب ورثوا الشرك بالصالحين؛ فعبدوا أصناما متعددة، وأوثانا؛ عبدوا اللاّت؛ واللاّت كان مكانا, كان قبرا تحل فيه روحانية ذاك كما يعتقدون، ومثّلوا عليه صنما فصاروا يعبدونه، وهي شياطين تتلاعب بهم، وكذلك العُزّى؛ والعزّى شجرة، ومَناة صخرة، وكان عند الشجرة رجل صالح يتعبد، وكان عند مَناة صالح يتعبد، وجعلوا الصالحين وأرواح الصالحين، والاعتقاد فيهم، وجَعل أولئك أولياء، جعلوا ذلك سببا لكي يرفع أولئك الحوائج لهم إلى الله جل وعلا.
إذا تأملتَ حال العرب، وجدت أن الشرك حصل من العرب، كما أراد الشيخ رحمه تقريره في هذه القاعدة الثانية؛ أنّ الشرك حصل من العرب-كما سيأتي- في أناس صالحين، أو أن الشرك وقع بالآلهة لأجل طلب القربة والشفاعة، لا لأجل أنّ هذه مستقلة لها شيء من الربوبية، أو لها شيء من الألوهية الاستقلالية، لا، ولكن لها ألوهية على جهة [السبب]، تُعبد لكن لأنها واسطة وليست آلهة مستقلة، ولهذا قال جل وعلا ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾[ص:5], فإنهم يعتقدون أن هذه الآلهة وسائط على جهة القربة والشفاعة.
الشفاعة في الكتاب والسنة (النصوص) نوعان شفاعة منفية وشفاعة مثبتة:
• والشفاعة المنفية -كما ذكر الإمام رحمه الله- هي الشفاعة فيما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا؛ شفاعة في مغفرة الذنب ممن لا يملك ذلك, الشفاعة بمعنى طلب الدعاء؛ شفع يعني طلب، والشفاعة هي الطلب، والمطلوب منه إما أن يكون حيا حاضرا، وإما أن يكون ميتا؛ والحي الحاضر في الدنيا أو في عرصات القيامة جاءت الأدلة بجواز طلب الشفاعة منه، كما جاءت بذلك النصوص الكثيرة، أما الميّت فإنه ليس في دار عمل، وليس في دار طلب، وليس عند الله جل وعلا بالمكان الذي يطلب فيعطى ما طَلَبَهُ، ولكن تطلب الشفاعة من الله جل وعلا، فالشفاعة المنفية هي التي نفاها الله جل وعلا في الكتاب كما في قوله جل وعلا ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾[غافر:18], وكما قال ﴿وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[البقرة:254], وكما قال جل وعلا ﴿لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ﴾[الأنعام:51], ونحو ذلك من الآيات التي فيها نفي الشفاعة، هذه الشفاعة المنفية هي الشفاعة التي تكون من غير إذن الله، ولا رضاه، وتكون بطلبها ممن لم يُمكَّن من ذلك، طلب ذلك من ميت مهما كانت درجته، فإنه لم يُمكَّن من ذلك، لم يُمكَّن أن يطلب الشفاعة.
• ولهذا يكون طلب الشفاعة من الله جل وعلا، وهذه هي الشفاعة النافعة، الشفاعة المثبتة، وهذا استطراد من الشيخ رحمه الله، في بيان معنى الشفاعة الحقة، والرد على الذين تعلقوا بالشفاعة الباطلة، وتفصيلها معروف في موضعه من كتاب التوحيد، ومن كتب أهل السنة في الشفاعة.
مُلخّص ذلك أن الشفاعة المثبتة هي التي توفرت فيها الشروط الشرعية، وأعظم هذه الشروط شرطا الإذن والرضا؛ الإذن للشافع أن يشفع، والرضا عن المشفوع له، قال جل وعلا ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾[النجم:26], وقال سبحانه ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾[البقرة:255], وقال جل وعلا ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى﴾[الأنبياء:28], وقال ﴿إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾[الزخرف:76], فإذن الشفاعة المثبتة هي النافعة، لكن تنفع بشرطي الإذن والرضا، فالرضا عن الشافع، وأن يكون ممن شهد بالحق وهو يعلم، والرضا عن المشفوع له أن يكون من أهل التوحيد، ولهذا ثبت في الصحيح أن أبا هريرة رضي الله عنه سأل النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله من أحق الناس بشفاعتك، أو قال من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة، قال: «لقد علمتُ أنه لن يسألني أحد قبلك، لما أعلم من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه» قال العلماء: معنى قوله (أسعد الناس) يعني سعيد الناس. فأفعل التفضيل هنا ليست على بابها في المفاضلة، وإنما هي بمعنى فعل كقوله جل وعلا ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً﴾[الفرقان:24]، والنار ليس فيها مقيل حسن.
فإذن الشفاعة إنما هي لأهل الإخلاص، شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام، وشفاعة الملائكة، وشفاعة الصالحين، وشفاعة العلماء يوم القيامة، إنما هي لأهل الإخلاص، وأهلُ الإخلاص يطلبونها من الله؛ فيقول المخلص: اللهم شفع فيّ رسولك صلي الله عليه وسلم يوم القيامة، اللهم شفع فيّ ملائكتَك، اللهم شفع فيّ العلماءَ الصالحين، اللهم شفع فيّ عبادَك الذين تحبهم ويحبونك، ونحو ذلك من الألفاظ، فتطلب الشفاعة من الله جل وعلا، ولا تطلب الشفاعة من المخلوق، لم؟ لأن الشفاعة طلب؛ الشفاعة طلب الدعاء؛ إذا قال أستشفع، يعني أطلب منك الدعاء، أطلب منك رفع حاجتي، وإذا رجع أمر الشفاعة إلى الطلب صارت الشفاعة من أنواع الدعاء، فصارت دعوة غير الله شركا أكبر، لهذا نقول طلب الشفاعة من غير الله شرك أكبر، مما لا يقدر عليه إلا الله، يعني من الأموات ونحو ذلك فإن هذا شرك أكبر؛ لأنه دعاء والدعاء يجب أن يكون مخلصا فيه لله جل وعلا.
القاعدة الثالثة: أنّ النبي صلي الله عليه وسلم ظهر على أُناسٍ متفرّقين في عباداتهم منهم مَن يعبُد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين، ومنهم من يعبد الأحجار والأشجار، ومنهم مَن يعبد الشمس والقمر، وقاتلهم رسول الله ولم يفرِّق بينهم، والدليل قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾[الأنفال:39].
ودليل الشمس والقمر قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ﴾[فصلت:37].
ودليل الملائكة قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾[آل عمران:80].
ودليل الأنبياء قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾[المائدة:116].
ودليل الصالحين قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ... ﴾الآية[الإسراء:57].
ودليل الأحجار والأشجار قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾[النجم:19-20].
وحديث أبي واقدٍ الليثي قال: خرجنا مع النبي صلي الله عليه وسلم إلى حُنين ونحنُ حدثاء عهدٍ بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله إجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط... الحديث.
هذه القاعدة فيها مقدمة ونتيجة؛ أما المقدمة فهي راجعة إلى معرفة حال العرب بما أخبر الله جل وعلا عنهم في عباداتهم، وآلهة العرب الباطلة التي كانوا يعبدونها، كانت متنوعة، فمنهم من كان يعبد الشمس والقمر، وذكر دليل ذلك، وهو قوله تعالى: ﴿لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾[فصلت:37], وهذا النوع من العرب؛ طائفة كانت تعبد الشمس والقمر، ومن غير العرب أيضا، ومنهم من كان يعبد الشجر والحجر، ومنهم من كان يعبد الملائكة، كما قال جل وعلا ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ﴾[سبإ:40-41], وكان من الناس؛ من العرب وغيرهم يشرك بالملائكة ومنهم من كان يشرك بالأنبياء، عيسى عليه السلام، قال جل وعلا في حقِّه ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾[المائدة:116], فأُشرِكَ بعيسى عليه السلام، وأُشرك بالصالحين قال جل وعلا ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ(101)لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا﴾[الأنبياء:101-102], وقد جاء في سبب نزولها، أنه لما نزل قول الله جل وعلا ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ(98)لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا﴾[الأنبياء:98], فرح العرب بذلك، وقالوا سنكون مع عيسى، وسنكون مع العزير، وسنكون مع... مع، ثم نزل قول الله جل وعلا ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ(101)لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا﴾[الأنبياء:101-102]. فتوجهوا للصالحين بالعبادات المختلفة للرجال من الأنبياء والرسل والصالحين، وتوجهوا أيضا للأشجار والأحجار ﴿أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾[النجم:19-20], توجهوا إلى الشياطين والجن؛ ﴿بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾[سبإ:41]، ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾[الجن:6] هذه الأصناف عبادات العرب جاءت في القرآن، وحال العرب ظاهرة فيها، هل فرَّق الله جل وعلا في أمره لنبيه بين فئة وأخرى؛ فقال لهم: من عبد الأشجار والأحجار والأصنام والشمس والقمر قاتلوهم، وأما من جعل الصالحين والأنبياء شُفعاء، وجعل الصالحين والأنبياء قربة وزلفى إلى الله جل وعلا هؤلاء لا تقاتلونهم؟ لم يأتِ هذا التفريق؛ بل جاء الأمر واحدا وحكم على الجميع بأنهم كفار ومشركون، وقوتلوا، وأمر الله جل وعلا بقتال جميع تلك الفئات، وجميع أولئك المشركين؛ جاء الأمر بقتالهم بدون تفريق ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾[التوبة:36], وهذا عامٌّ في الجميع، وهذه هي النتيجة، وما قبلها مقدمة، وإذا كان كذلك, كان لا فرق أن يعبد نبيا، أو يعبد حجرا، أو شجرا، أو أن يعبد جنيا، أو أن يعبد ملَكا، فالحال واحدة.
فمن أتى في هذا الزمان، وفرّق، وقال الصالحون إنما هم أولياء، ولهم مقام عند الله، والأنبياء لهم مقام وجاه، فإذا استشفعنا بهم فإن لهم جاه عند الله جل وعلا.
فنقول: وأي فرق بين عبادة هؤلاء الصالحين، والتوجه إليهم، وبين عبادة من عبد عيسى، أو عَبَدَ العُزير، أو عبد الصالحين الذين كانوا يُعبدون؟ أي فرق بين هذا وهذا؟ لاشك أن الحُكم على الجميع واحد، وهذه قاعدة يقينية من أنه لا فرق بين هذا وهذا؛ لأن المدار على عبودية القلب، فإذا قام في القلب التنديد والإشراك بالله جل وعلا، فسواء أكان المشرك به صالحا أو طالحا، كان نبيا أم لم يكن نبيا، كان شجرا أو كان ملكا، الأمر واحد؛ لأن القلب يجب أن تكون عبوديته لله وحده، وأن يكون دينه لله وحده ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾[الزمر:3], ﴿قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي﴾[الزمر:14], وهذه العبودية من جهة العابد، لا ينظر فيها إلى من توجه إليه، فإن توجه لله الواحد الأحد فهو مخلص موحد، وإن توجه إلى غيره فإنه مشرك مهما كان ذلك الغير، ولهذا قال جل وعلا ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾[الجن:18] وقوله (أَحَدًا) يعمّ الجميع كما ذكرنا ذلك مرارا، وكقوله جل وعلا ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾[المؤمنون:117], قال جل وعلا هنا ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ (لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ)، هذه صفة من عبد غير الله جل وعلا؛ في أنه لا برهان له بما عبد، وليس لها مفهوم لأن هناك ما يُعبد وثَمَّ برهان عليه، بل كلّ من عبد غير الله، ودعا غير الله فإنه لا برهان له على أحقِّية ذلك الغير بالعبادة أو بالتوجه.
فإذا نظرنا في هذا الزمن، الذين يعبدون الأولياء، ويعبدون القبور، والمشاهد، ويتوجهون إليها، والأنبياء، والرسل ويقولون مقامات ونحو ذلك للصحابة، أو في كل بلد ثَمَّ ضريح ويتوجه الناس إليه، ويشركون به، يقولون هذه ليست عبادة المشركين الأولين، لِمَ؟ قالوا: لأن هذه عبادة الصالحين، وأولئك إنما عبدوا الأصنام، عبدوا أحجار، كيف يكون ذلك، وقد قال جل وعلا في وصف أولئك المعبودين؛ ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾[النحل:21], قال طائفة من المفسِّرين؛ كأبي الحيّان في تفسيره البحر المحيط، وقال غيره، إن هذه الآية فيمن يُبعث لأن الله قال (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ) والذي يوصف بأنه ميت من كان حيا قبل ذلك، والأصنام التي هي من الأحجار والأشجار ونحو ذلك، لا توصف بأنها أموات غير أحياء، وإنما الذي يوصف بذلك من كان تحله الحياة ثم صار ميتا، فإنه يقال أموات غير أحياء، وبيّن ذلك أكثر حين قال (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) فإنها بحق من يبعث يوم القيامة للقاء الله جل وعلا.
فإذن هذا الذي يحتجُّ به مشركوا هذا الزمان، ومشركوا زمان الشيخ رحمه الله، وهذا في كلِّ مكان، يقولون إنما توجهنا إلى صالحين، وأولئك الأولون إنما توجهوا أيضا إلى صالحين، قالوا نطلب الوساطة ما طلبنا منهم استقلالا، نقول والأولون أيضا طلبوا الواسطة والقربة والشفاعة، ولم يطلبوا الاستقلال، فالحال هي الحال، وإن تغيرت الأسماء، وتغيرت الدعاوي، فالحال هي الحال، وما أشبه الليلة بالبارحة.
القاعدة الرابعة: أنّ مشركي زماننا أغلظ شركـًا من الأوّلين، لأنّ الأوّلين يُشركون في الرخاء ويُخلصون في الشدّة، ومشركوا زماننا شركهم دائم؛ في الرخاء والشدّة. والدليل قوله تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾[العنكبوت:65].
هذه نتيجة، قاعدة، هي نتيجة لما سبق، يعني مرتبة على ما سبق، إذا تقرَّر أن المشركين في هذا الزمان من جنس المشركين في كل زمان، من جنس مشركي الجاهلية، وإن كانوا ينتسبون إلى الملة، والإسلام، ولهم صلوات، ولهم تعبدات، إذا كانوا من جِنسهم، والشرك الذي فعلوه هو الذي فعله الأولون، فربما [زادت الحال]، وهو الذي بيّنه الشيخ في هذه القاعدة؛ بأن مشركي هذا الزمان أغلظ شركا من مشركي أهل الجاهلية، لِمَ؟ لأنّ الله جل وعلا وصف أهل الجاهلية بأنهم يُشركون في الرخاء، وأما في الشدة فإنهم يوحدون، قال جل وعلا ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾[النحل:53]، إليه، يعني دون ما سواه ﴿فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ(53)ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ(54)لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ﴾ قال جل وعلا -في بيان حالهم في البحر-﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ(22)فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾[يونس:22-23], وقال جل وعلا ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾[العنكبوت:65], وفي الآية الأخرى ﴿[وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] ( ) فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾[لقمان.32], إذا تأملت الحال والحال، فأولئك يشركون في حال الرخاء، وأما إذا مستهم البأساء ومستهم الضراء؛ فإنهم يخلصون ويوحدون؛ دعوا الله مخلصين له الدين، أما مشركوا هذه الأزمنة؛ فإنهم إذا مسهم الضر فزعوا إلى العيدروس أو الحسين، أو البدوي، أو إلى المرغناني، أو إلى...أو إلى.....إلى آخر أنواع الناس، أو الموتى الذين يتوجهون إليهم، إذا مستهم الضراء فزَعوا إلى الأشجار وإلى أحجار ونحو ذلك، وهذا لا شك أنه أعظم من شرك الأولين؛ لأنهم يشركون في الحالين، والمشركون الأولون يشركون في حالٍ واحدة، ويتذكرون في الحال الثانية، ولكن من يفقه هذا؟ ومن يفهم هذا؟ ومن يشِفُّ عليه هذا الأمر حتى يكون يقينيا عنده, لا مراء فيه، ولا لبس؟ لأن بعض الناس قد يقول هؤلاء يصلون، و يزكون، ويصومون، فكيف يكونون أغلظَ شركا من الأولين، نقول العمدة على أصل الدين؛ لأن هذه العبادات بلا توحيد لا تنفع، كما ذكرنا في أول الكلام، كما لا تنفع الصلاة بلا طهارة، فإذا كان هناك عبادات عظيمة ومع الشرك فإنها لا تنفع ولا تُقبل، فكيف إذا كان يُشرك في حال الرّخاء وفي حال الشِّدة؟ وقد ذكر بعض العلماء، أنه لقِي رجلا من أهل الطائف، قبل انتشار الدعوة هناك ومعرفة الناس بالدعوة والتوحيد، فقال له هذا: هؤلاء أهل الطائف إذا جاءتهم شدة فزعوا إلى ابن عباس، ولا يعرفون الله. فقال الآخر له: معرفة ابن عباس تكفي. وهذا نوع من أنواع الشركيات التي تغلغلت في النفوس، نَسُوا معها الله جل وعلا في الرخاء، وفي الشدة، إلا ما نذر، وهذا كثير, كثير اليوم، فحرِّك ترى، والناس في عجب في هذا الأمر، فالله جل وعلا أنعم علينا في هذه البلاد، أننا لا نرى ولا نسمع ما يقلقنا من هذه الأمور الشِّركية، والكفر الأكبر، والشرك الأكبر، بالله جل وعلا، ومن ذهب إلى البلاد التي تكثر فيها الشركيات؛ كبعض جهات مِصر، وبعض جهات السُّودان، وأفريقيا، وبعض جهات الباكستان، والهند، ونحو ذلك، والعراق، وسوريا، ونحو ذلك، رأى عجبا، والناس يتوجهون إلى هذه الأضرحة، وإلى مدافن الأولياء، بل وغير الأولياء، ويعتقدون فيهم الاعتقادات، جعلوا لهم نصيبا من الإلهية، والله جل وعلا له الحق الأعظم في إخلاص الدين له، وأعظم ما يستحقه جل وعلا أن يُعبّد القلب له، وأن لا تكون ثَمّ عبادة إلا له سبحانه دونما سواه، كما قال جل وعلا ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[الكهف:110]، وقال جل وعلا في الحديث القدْسي «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركَه»، فإذا كان هذا في الرياء، يقصد المرء بالعمل غير الله جل وعلا؛ يقصد رؤية فلان، فكيف بالتوجه بالعبادة لغير الله جل وعلا، كأنْ يدعو غير الله، وأن يستغيث بغير الله، أو أن ينذر لغير الله، أو أن يذبح لغير الله، أو أن يستعيذ بغير الله بما لا يقدر عليه إلا الله، أو أن يستغيث بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، التوجه إلى الموتى والاعتقاد فيهم، ويسمّون ذلك بالسر؛ يُقال روح هذا السيد فيها سر، لهذا يجعلون مكان الروح كلمة سر؛ فيقولون هذا له سر، وقدّس الله سرّه؛ لأنهم يجعلون لأرواح أولئك أسرارا، وروحه ليس فيها سر، إلا سِرُّ صنعها وخلقها من الله جل وعلا، أما أنها تغيث من استغاث بها، أو تُعطي من طلب منها، فهذا كله ليس إلا إلى الله جل وعلا، ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ﴾[البقرة:166], وقال جل وعلا -مخبرا على حال الكفار في النار- ﴿تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(97)إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الشعراء:97-98], قال العلماء ما سوَّوهم بربِّ العالمين في أنهم يخلقون، ويرزقون، ويُحيون، ويُميتون، وإنما سوَّوهم برب العالمين في العبادة، في أنْ توجهوا لهم ببعض العبادة، فصاروا مسوِّين لهذه الآلهة الباطلة بالله جل وعلا في استحقاق العبادة، لأنهم عبدوا الله، وعبدوا غيره، فساوَوْا الخلق بالخالق جل وعلا، وهذا أبشع ما يكون من الظلم، وأقبح ما يكون من الاعتداء على حق الله جل وعلا، إذ حقه سبحانه وتعالى إجلاله، وتعظيمه، وتوحيده، والإخلاص له، والاعتراف له بكل كمال، ووصفه جل وعلا بنعوت الجمال والجلال والكمال، وسَل رؤية النفس, وأنه ليس ثَم خير إلا منه سبحانه، وليس ثَم اندفاع شر إلا منه سبحانه، فنحن إنما نتقلب بفضل الله وبنعمته.
فهذا الأمر إنما يعود إلى أصل تلك الدعوات الثلاث.
نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن إذا أعطي شكر، وإذا أبتلي صبر، وإذا أذنب استغفر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.