×
كتاب الصلاة : كتاب للإمام ابن القيم - رحمه الله - اشتمل على كثير من المسائل الخلافية في مسائل الصلاة، والاستدلال للأقوال فيها، والموازنة بينها.

 كتاب الصلاة

آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (19) كتاب الصلاة تأليف الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية (691 - 751) تحقيق عدنان بن صفاخان البخاري وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله تعالى دار عطاءات العلم - دار ابن حزم

(المقدمة/1)


 مقدمة التحقيق

إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران/102]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء/1]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب/70 - 71]. أمَّا بعد، فقد اهتمَّ أهل العلم ـ قديمًا وحديثًا ـ بالتَّصنيف في شأن الصلاة، وذلك لعظم أمرها وعلوِّ مكانتها في الإسلام، وكبير خطرها فيه، وتنوِّع أحكامها، وسننها، وأحوالها. فصنفوا في حكم تاركها، وشروطها، وأوقاتها، وفرائضها، وسُننها، وأذكارها، وأسرارها، وحِكَمها، وفوائدها، وغير ذلك من المباحث المتعلِّقة بها. ولا غرابة

(المقدمة/5)


في ذلك؛ إذ بقدر ما كان النَّاسُ إلى العِلم أحوج كان الاهتمام به أولى وأوجب. وممن صنف فيها مصنفًا مفردًا: الإمام، أبوعبدالله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزُّرعي، الدِّمشقي، المعروف بـ «ابن قيِّم الجوزيَّة» رحمه الله تعالى. فكان كتابه هذا كثير الفائدة، لا يستغني عنه باحث في مسائله، إذ بسط في جواب أسئلة سائله، وحقَّق فيه ما قصر التَّحقيق في سواه. * الكتب المفردة في الصَّلاة (1): وسأذكر قبل الكلام عن الكتاب ومنهج المؤلِّف فيه أهم المصنَّفات المفردة في موضوع الصَّلاة (2)، مرتَّبةً حسب وفاة مؤلِّفيها: _________ (1) الكتب المذكورة في هذا الفصل على نوعين: 1 - كتبٌ بعنوان الصلاة، ولا يُدرَى ما احتوته من مباحث الصلاة لتعذُّر الوقوف عليها. 2 - كتبٌ في بعض مباحث الصَّلاة، ككتب أسرار الصَّلاة ومقاصدها و «روحها»، أو كتب حُكْم ترك الصلاة، أو كتب في الأحاديث المسندة في الصَّلاة .. ونحو ذلك. (2) لم أقصد استيعاب جميع ما ألِّف في هذا الباب مفردًا؛ إذ الأمر يطول بهذا، ويمكن الرجوع في مجرَّد الإحصاء إلى معجم الموضوعات المطروقة لعبدالله الحبشي (1/ 745 - 750) للوقوف عليها.

(المقدمة/6)


1 - كتاب الصَّلاة، للقاضي أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري البغدادي، صاحب الإمام أبي حنيفة، المتوفَّى سنة 182 هـ (1). 2 - كتاب الصَّلاة، لابن عُليَّة، إسماعيل بن إبراهيم الأسدي، المحدِّث المشهور، المتوفَّى سنة 193 هـ (2). 3 - كتاب الصَّلاة، للجوزجاني، أبي سليمان موسى بن سليمان الحنفي، المتوفَّى حدود سنة 200 هـ (3). 4 - كتاب الصَّلاة، للحافظ أبي نعيم، الفضل بن دُكين، المتوفَّى سنة 219 هـ (4). 5 - كتاب الصَّلاة، للإمام أحمد بن حنبل، المتوفَّى سنة 241 هـ (5). _________ (1) الجواهر المضيَّة للقرشي (1/ 258). (2) الفهرست لابن النَّديم (ص/317). (3) الجواهر المضيَّة للقرشي (2/ 186 - 187)، ومعجم المؤلفين لكحالة (3/ 932). (4) وقد طُبِع جزءٌ منه -وهو الذي وُجِد-، بتحقيق صلاح بن عايض الشَّلاحي، الأولى في مكتبة الغرباء الأثرية بالمدينة النبويَّة، عام 1417 هـ، يقع في 228 صفحة، وطبع ثانية في دار ابن حزم، 1425 هـ، في 156 صفحة. (5) في نسبة هذا الكتاب للإمام أحمد نظرٌ؛ فإنَّ الإمام الذَّهبي رحمه الله يبطل نسبته إليه، قال في سير أعلام النُّبلاء (11/ 287): «رسالة المسيء في الصَّلاة باطلةٌ»، وقال فيه أيضًا (11/ 330): «قلتُ: هو موضوعٌ على الإمام». وقد طُبِعَ الكِتَاب مفردًا مرَّات عديدة، من أقدمها طبعة محمد رشيد رضا، وقصي محب الدِّين الخطيب في المطبعة السَّلفية (1398 هـ)، ومحمد حامد الفقي.

(المقدمة/7)


6، 7، 8 - كتاب الصَّلاة، وكتاب افتتاح الصَّلاة، وكتاب الحكم على تارك الصَّلاة= ثلاثتها لداود بن علي بن داود بن خلف الأصفهاني الظَّاهري، المتوفَّى سنة 270 هـ (1). 9 - كتاب الصَّلاة ومقاصدها، للحكيم الترمذي، أبي عبدالله محمد بن علي بن الحسن بن بشر، المتوفَّى سنة 285 هـ (2). 10 - تعظيم قدر الصَّلاة، لمحمد بن نصر المروزي، المتوفَّى سنة 294 هـ (3). 11 - كتاب صفة الصَّلاة، لأبي حاتم محمَّد بن حبَّان البُسْتي، صاحب المسند الصَّحيح: «التَّقاسيم والأنواع»، المتوفَّى سنة 354 هـ (4). _________ (1) الفهرست لابن النَّديم (ص/303). (2) طُبِع بتحقيق حسني نصر زيدان، في مطابع دار الكتاب العربي بمصر، 1965 م، في مجلد متوسط، في 174 صفحة. (3) طُبِع بتحقيق عبدالرحمن بن عبدالجبَّار الفريوائي في مجلَّدين، ط 1، 1406 هـ، بمكتبة الدار في المدينة النبويَّة. وطبع طبعة أخرى مصرية في مجلدٍ واحدٍ. (4) ذكره ابن حبَّان نفسه في كتابه، فقال: «في أربع ركعات يصليها الإنسان ستمائة سُنَّةٍ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أخرجناها بفصولها في كتاب «صفة الصَّلاة»، فأغنى ذلك عن نظمها في هذا النَّوع من هذا الكتاب». يُنْظَر: الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان لابن بلبان (5/ 184). ... = = ... وقد نقل منه المصنِّف رحمه الله في كتابه «رفع اليدين في الصَّلاة» (ص 57 - تحقيق علي العمران).

(المقدمة/8)


12 - كتاب الصَّلاة والتَّهجُّد، لعبدالحق الإشبيلي، المعروف بابن الخرَّاط، المتوفَّى سنة 581 هـ (1). 13 - أخبار الصَّلاة، للحافظ عبدالغني بن عبدالواحد المقدسي، المتوفَّى سنة 600 هـ (2). 14 - كتاب مقاصد الصَّلاة، لعزالدِّين، عبدالعزيز بن عبدالسَّلام السلمي الدمشقي، الملقَّب بـ «سلطان العلماء»، المتوفَّى سنة 660 هـ (3). _________ (1) طُبِع بتحقيق عادل أبوالمعاطي، في دار الوفاء بمصر، ط 1، 1413 هـ. وقد ذكر المحقِّق أنَّ اسم الكتاب في النُّسختين اللَّتين اعتمد عليهما في إخراجه: «التهجُّد»، وأنَّه غيَّره لأنَّه وجده في بعض مراجع من ترجم للمؤلف بالاسم الذي أثبته ولشمول الاسم لمباحث الكتاب؛ حيث إنَّه ليس في مسائل التهجُّد حسبُ. وقد نقل المصنِّف منه في كتابه هذا. (2) نشره مجدي عطيَّة حمُّودة، في مكتبة ابن عباسٍ بمصر، يقع في 142 صفحة، ط 1، 1424 هـ. وهو كتابٌ حديثيٌّ مسندٌ في أحاديث الصَّلاة وفضلها وبعض أحكامها. (3) نشر بتحقيق إياد الطَّبَّاع، بدار الفكر بدمشق، ط 2، 1995 م، يقع في 38 صفحة.

(المقدمة/9)


15 - كتاب مراصد الصِّلات في مقاصد الصَّلاة، لابن القسطلاني، محمد بن أحمد بن علي القيسي، الشافعي التَّوْزَري المصري، المتوفَّى سنة 686 هـ (1). 16 - أسرار الصَّلاة، المنسوب للإمام ابن القيِّم رحمه الله (2). _________ (1) والكتاب عن أسرار الصَّلاة وثمراتها وحِكَمها، وأذكارها، وحركاتها. طبع الكتاب سنة 1349 هـ في المطبعة المصرية بالأزهر، بإشراف الأستاذ رضوان محمد رضوان، ثم طبع مرَّةً أخرى طبعة منسوخة من هذه، بتعليق محمد صديق المنشاوي السوهاجي، في دار الفضيلة في القاهرة بمصر. (2) طُبِع بتحقيق مجدي فتحي السيد، بدار الصحابة بطنطا. ثم أعيد طبعه مرَّة أخرى بعنوان: «أسرار الصلاة، والفرق والموازنة بين ذوق الصلاة والسّماع»، بتحقيق: إياد القيسي، سنة 2003 م، في دار ابن حزم بلبنان، في نحو 180 صفحة. والكتاب لا يعدو عن كونه مستلًّا من كتاب السَّماع لابن القيِّم، فأفرد وظُنَّ أنَّه كتابٌ مستقل، وقد وقع بينه وبين كتاب السماع اختلاف يسير، وليس ذلك مسوّغًا لطبع الكتاب تحت اسم مفرد إيهامًا بأنَّ ذلك من فعل المصنِّف نفسه. ثم طُبِع بتحقيق الوليد بن محمد بن سلامة بمصر، مع رسالة «الذل والانكسار» للحافظ ابن رجب.

(المقدمة/10)


17 - كتاب الصَّلاة، لقطب الدِّين الأزنيقي الحنفي، المتصوِّف، المتوفَّى سنة 821 هـ (1). 18 - كتاب الأربعون حديثًا في تارك الصَّلاة ومانع الزَّكاة والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر والوصية بالجار، لنجم الدين الغيطي، محمد بن أحمد بن علي الشَّافعي، المصري، المتوفَّى سنة 984 هـ (2). 19 - حكم تارك الصَّلاة، للشَّيخ محمد ناصرالدِّين الألباني، المتوفَّى سنة 1420 هـ (3). 20 - حكم تارك الصَّلاة، للشَّيخ محمد بن صالح العثيمين، المتوفَّى سنة 1420 هـ (4). _________ (1) قال طاش كبرى زاده في الشَّقائق النعمانية (ص/24): «صنَّف في كتاب الصَّلاة مصنَّفًا جامعًا لمسائلها». (2) طُبِعَ بمركز الكتاب للنَّشر، بتحقيق علاء عبدالوهاب محمد، في 84 صفحة. (3) طُبِع مرَّاتٍ عديدةٍ، بتعليق علي حسن عبدالحميد الحلبي. (4) طُبِع مرَّاتٍ عديدةٍ.

(المقدمة/11)


* التحقيق في اسم الكتاب: لم ينصَّ المؤلِّف رحمه الله في هذا الكتاب ولا في غيره من كتبه على عنوان هذا الكتاب، وقد وقفت على ثلاثة أسماء لكتابه: 1 - الأوَّل: «الصَّلاة». وممَّن نصَّ على هذا الاسم ابن رجب الحنبلي (1)، وصدِّيق حسن خان (2). وهو الاسم المنصوص عليه في النُّسخ المخطوطة التي اعتمدتُ عليها في تحقيق الكتاب، وهي النسخة الأولى المرموز لها بـ «ض»، والنسخة الثَّانية المرموز لها بـ «س»، والنسخة الهنديَّة المرموز لها بـ «هـ»: «كتاب الصَّلاة». وفي خاتمة النسخة الثانية: «تمَّ الكتاب المبارك: كتاب الصَّلاة». وكذا في صدر المطبوعة الهنديَّة المرموز لها بـ «ط»: «كتاب الصَّلاة»، وفي خاتمتها: «الحمدلله الذي وفَّق لإتمام كتاب الصَّلاة». _________ (1) المنتقى من مشيخة أبيه شهاب الدِّين ابن رجب (136). (2) التاج المكلَّل (419).

(المقدمة/12)


2 - الاسم الثاني: «حكم تارك الصَّلاة»، وهو الذي ذكره أكثر من عدَّ الكتاب في جملة مؤلَّفات الشيخ. حيث نصَّ على هذا الاسم ابن رجب الحنبلي (1)، وتبعه عليه: العُلَيْمي (2)، والدَّاودي (3)، وابن العماد الحنبلي (4)، وعبدالقادر بن بدران (5). 3 - الاسم الثَّالث: «تارك الصَّلاة». وقد ذكره الشيخ صالح بن عبدالعزيز العثيمين، ت 1410 هـ (6). ويظهر لي أنَّ الاسم الأوَّل للكتاب، وهو «كتاب الصلاة» هو الأقرب والأصحُّ، وذلك لأمورٍ: - الأول: أنَّ هذا الاسم هو الذي نصَّ عليه الإمام ابن رجبٍ، وهو تلميذ ابن القيِّم وأعرف باسم كتاب شيخه. _________ (1) الذَّيل على طبقات الحنابلة (5/ 175 - 176). (2) المنهج الأحمد (5/ 95)، والدر المنضَّد (2/ 522). (3) طبقات المفسِّرين (2/ 93). (4) شذرات الذَّهب (6/ 170). (5) منادمة الأطلال (242). (6) في كتابه تسهيل السَّابلة (2/ 1105).

(المقدمة/13)


- الثَّاني: أنَّ هذا الاسم هو المنصوص عليه في النُّسخ الموجودة بين أيدينا، والأصل أنَّ النَّاسخ يكتب عنوان الكتاب كما رآه عند نسخه، فلا يظنُّ حصول التغيير من النسَّاخ جميعًا في آن واحدٍ. - الثَّالث: أنَّ هذا الاسم أقرب إلى مدلول الكتاب ومحتواه؛ إذ سؤال السَّائل الذي كان سببًا في تأليف الإمام هذا الكتاب لم يقتصر على مسألة حكم ترك الصلاة، بل اشتمل عليها وعلى مسألة القضاء وصفة صلاة النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرها من المسائل، وكان جواب الشَّيخ مستوعبًا تلك المسائل وغيرها من المسائل التي عرَّج عليها ضمنًا. وأمَّا ما قد يُشكل من ردِّ الاسم الثاني وهو «حكم تارك الصلاة»، مع اتفاق تسميته عند من تقدَّم ذكر أسمائهم، وهم أكثر= فالجواب أنَّها أكثريَّةٌ غير حقيقيَّةٍ؛ إذ الذي ذكر اسم الكتاب أولًا هو ابن رجبٍ، ثم تناقل المتأخرون عنه هذا الاسم، فالمصدر واحدٌ كما يظهر. وابن رجبٍ هو نفسه الذي ذكر اسم الكتاب الأول، فيكون كلامه مقابل كلامه. ولا بد من ترجيح أحد الاسمين في كلاميه حينئذٍ، ومع القرائن المتقدِّم ذكرها آنفًا يترجَّح لديَّ الاسم الأول، ويحمل الاسم الثاني على أنَّه اختصار لاسم الكتاب بذكر مسألةٍ ذكرت فيه.

(المقدمة/14)


وقد عُهِد من المصنِّفين في السِّيَر والتواريخ والطَّبقات التصرف في تسمية كتب المترجَمين، ولعلَّ تسميتهم له بـ «حكم تارك الصَّلاة»، هو من هذا الباب. وإذا كانت القضيَّة في ترجيح أحد هذين الاسمين مبنيًّا على الظَّنِّ والنَّظر في القرائن، فإنَّ القرائن التي ذكرتها تميل بالكفَّة إلى الأخذ بالاسم الأول للكتاب، وهو «كتاب الصَّلاة». * سبب تصنيف الكتاب: ظاهرٌ بجلاء من مطلع الكتاب أنَّ باعث تأليف المصنِّف رحمه الله له كان جوابًا عن سؤالٍ رُفِع إليه، نصُّه: «ما يقول السَّادة العلماء، أئمَّة الدِّين، وفَّقهم الله وأرشدهم، وهداهم وسدَّدهم، في تارك الصَّلاة عامدًا؛ هل يجب قتله أم لا؟ وإذا قُتِلَ فهل يُقْتَل كما يُقْتَل المرتدُّ والكافر ... -إلى أن قال:- فأرشد الله مَن دَلَّ على سواء السَّبيل، وجمع بين بيان الحُكم والدَّليل. وما أخذ الله الميثاق على أهل الجهل أنْ يتعلَّمُوا حتى أخذ الميثاق أهل العلم أنْ يُعلِّمُوا ويبيِّنُوا .. الخ». وأمَّا ما يتعلَّق بتاريخ تصنيف الإمام لهذا الكتاب فلم أقف على نصٍّ ولا قرينة تعين على ذلك.

(المقدمة/15)


* إثبات صِحَّة نسبة الكتاب إلى المؤلِّف: ثبتت نسبة هذا الكتاب إلى الإمام ابن القيِّم رحمه الله بعدَّة أدلَّةٍ، منها: 1 - نصُّ غير واحدٍ من أهل العلم على أنَّ هذا الكتاب من جملة مؤلَّفات الإمام. وقد تقدَّم ذكرهم في تحقيق اسم الكتاب. 2 - ومن الأدَّلة على ذلك أيضًا: أسلوب الإمام ابن القيِّم المتميِّز، وهذا ظاهرٌ من قراءة هذا الكتاب، ومقارنته مع أسلوبه في كتبه الأخرى؛ في بسط الكلام على المسألة، وطريقة عرضه لها، وذكر الخلاف فيها، وإيراد الأدلَّة والحجاج فيها ونقضها، إلى غير ذلك. 3 - ومن الأدلَّة على ذلك أيضًا: نقله عن شيخه، شيخ الإسلام ابن تيمية، في موضعٍ واحدٍ من الكتاب، وذلك في قوله: «قال شيخنا: فهذا يدلُّ على أنَّ العيد آكد من الجمعة» (1). 4 - ومن الأدَّلة على ذلك أيضًا: توافق كلام الإمام واختياراته في المسائل التي بحثها في هذا الكتاب مع ما قرَّره في كتبٍ أخرى. _________ (1) يُنْظَر (ص/33).

(المقدمة/16)


فثمَّة مناقشات وإيرادات وكلام له في هذا الكتاب يتَّفق مع ما قرَّره في زاد المعاد، أوحاشيته على سنن أبي داود، وغيرها من المؤلَّفات التي طرق فيها تلك المسائل.

  * التعريف بالكتاب:

يشتمل هذا الكتاب على كثيرٍ من المسائل الخلافيَّة في مسائل الصَّلاة، مجملةً أومفصَّلة، والاستدلال للأقوال فيها، والاستنباطات الدقيقة، والتعليلات اللَّطيفة فيها، ووجوهها، والجواب عنها ونقضها. حتَّى قال الشيخ المحدِّث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله ضمن تخريجه وكلامه على حديثٍ، فعرض ذكر رسالة الصلاة لابن القيِّم، فقال عنها: «فإنَّ فيها علمًا غزيرًا، وتحقيقًا بالغًا، لا تجده في موضعٍ آخر» (1). * ويمكن تلخيص المسائل التي عرض المصنِّف رحمه الله الخلاف فيها في هذا الكتاب على نوعين: 1 - مسائل أطال النَّفَس فيها، وعرض الخلاف وأدلَّة الأقوال ومناقشتها ونقضها. _________ (1) السَّلسلة الضَّعيفة (1257).

(المقدمة/17)


2 - مسائل أشار إليها وأجمل القول فيها، وهذا الإجمال إمَّا نسبيٌّ، وذلك بعرض شيءٍ من التفصيل الذي لا يصل إلى الإسهاب كما في النوع الأول، وإمَّا مطلقٌ بأن يلمح إلى الخلاف فيها ويكتفى بذكر عدد الأقوال فيها، دون خوضٍ في تفاصيل ذلك. * أمَّا المسائل الخلافيَّة - الفقهية أو الحديثية - التي أطال النَّفس فيها، بذكر الأقوال والقائلين وحجج كل طائفة، ثم مناقشتها، وقد يرجِّح أحد هذه الأقوال= فمثالها: مسألة قتل تارك الصلاة، ومسألة كيفيَّة قتله، ومسألة كفره، وهل يُسْتَتاب أم لا؟ وبماذا يُقْتل؟ هل بترك صلاةٍ، أو صلاتين، أو ثلاث صلوات؟، ومسألة هل يقتل حدًّا ... أم يُقتل كما يُقتَل المرتدُّ؟، ومسألة هل تجب المبادرة إلى فعلها على الفور حين يستيقظ ويذكر، أم يجوز له التَّأخير، ومسألة هل ينفعه قضاء الصلاة إذا تركها عمدًا حتى خرج وقتها؟ والكلام عن حكم صلاة الجماعة من حيث إنَّها شرط لصحة الصلاة أم لا، وهل له أن يؤدِّيها في بيته أو يلزمه أداؤها في المسجد، وبطلان صلاة من ترك الطمأنينة في الصلاة، وغيرها من المسائل. * وأمَّا المسائل التي أشار إلى الخلاف فيها= فمثالها: مسألة استتابة المرتدِّ، وحكم منْ تَرَك ركنًا أو شرطًا مختلفًا فيه وهو يعتقد وجوبه، واختلافهم في معنى السَّهْو، ومسألة حكم الفِطر في السَّفر،

(المقدمة/18)


ومسألة مَنْ أدركته الصلاة وهو مشغولٌ بقتال العدو، وغيرها من المسائل. * ومن أهمِّ المسائل التي عرض لها المصنِّف وأطال الكلام فيها تحريره لمسألة الإيمان، وعلاقة ذلك بحكم تارك الصلاة بالكليَّة، حيث بيَّن المؤلِّف رحمه الله: «أنَّ معرفة الصَّواب في هذه المسألة مبنيٌّ على معرفة حقيقة الإيمان والكفر». * ويمكن إيجاز كلامه في هذه القضيَّة في الآتي: 1 - نقل إجماع أهل السُّنَّة على زوال الإيمان بزوال عمل القلب مع اعتقاد الصِّدق، وبيَّن أنَّ من أمحل المحال أنْ يقوم بقلب العبد إيمانٌ جازمٌ لا يتقاضاه فعل طاعةٍ ولا ترك معصيةٍ. وأنَّ لازم عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب؛ ولازم انقياد القلب انقياد الجوارح. وأنَّ الإيمان ليس هو التَّصديق المجرَّد باعتقاد صِدْق المخبر، بل التَّصديق إنَّما يتمُّ بأمرين: اعتقاد الصِّدق، ومحبَّة القلب وانقياده، فعلى هذا يمتنع مع التَّصديق الجازم بوجوب الصَّلاة، والوعد على فعلها، والوعيد على تركها= المحافظة على تركها.

(المقدمة/19)


2 - وأنَّ الكفر والإيمان متقابلان، إذا زال أحدهما خَلَفَه الآخر. وأنَّ الإيمان العملي يضادُّه الكفر العملي، والإيمان الاعتقادي يضادُّه الكفر الاعتقادي، والعملي لا يخرجه من الدَّائرة الإسْلامية، والمِلَّة بالكُلِّيَّة، كما أنَّ النِّفاق نِفاقان؛ نِفاق اعْتِقادٍ، ونِفاق عَمَلٍ. وأنَّ الرجل قد يجتمع فيه كفرٌ وإيمانٌ، وشركٌ وتوحيدٌ، وتقوى وفجورٌ، ونفاقٌ وإيمانٌ. 3 - ثم بيَّن أنَّ من أتى بعض شعب الإيمان وترك بعضها فقد ينفعه ما أتاه في عدم الخلود في النَّار إنْ لم يكن المتروك شرطًا في صحَّة الباقي، وإنْ كان المتروك شرطًا في اعتباره لم ينفعه. وأنَّ شعب الإيمان قد يتعلَّق بعضها ببعضٍ؛ تعلُّق المشروط بشَرْطِه، وقد لا يكون كذلك. والأدلَّة التي ذكرها وغيرها تدلُّ على أنَّه لا يقبل من العبد شيءٌ من أعماله إلَّا بفعل الصلاة. وأنَّ الرَّاجح هو كفر تارك الصلاة متهاونًا وهو مصرٌّ على تركها، وتعجَّب من الشَّاكِّين في كفره، مع كونه دُعِي إلى فعلها على رؤوس الملأ، والسَّيف على رأسه للقتل، وقيل له: تصلِّي وإلَّا قتلناك وهو يقول: اقتلوني ولا أصلِّي أبدًا! وقد ناقش المؤلِّف رحمه الله أكثر أدلَّة القائلين بعدم كفر تارك الصلاة، وما لم يناقشه رحمه الله فإنَّه يُرَدُّ عليه بالقواعد التي ذكرها ممّا تقدَّم إيجازه آنفًا.

(المقدمة/20)


* وممَّا ترك المؤلِّف رحمه الله الجواب عليه ما قد يحتجُّ به بعض القائلين بعدم كفر تارك الصلاة، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لم يعملوا خيرًا قط»، وهو الوارد في شفاعة المؤمنين وخروجهم من النَّار يوم القيامة. وفي لفظٍ من ألفاظ هذا الحديث: «وإذا رأوا أنَّهم قد نجوا في إخوانهم يقولون: ربَّنا، إخواننا كانوا يصلُّون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا ـ وفي روايةٍ: ويحجُّون معنا ـ فيقول الله تعالى: اذهبوا فمَنْ وجدتم في قلبه مثقال دينارٍ من إيمانٍ، فأخرجوه، ويحرِّم الله صُوَرَهم على النَّار، فيأتونهم، وبعضهم قد غاب في النَّار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه فيخرجون من عَرَفوا، ثُمَّ يعودون، فيقول: اذهبوا فمَن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينارٍ فأخرجوه، فيخرجون مَن عرفوا، ثُمَّ يعودون، فيقول: اذهبوا فمَنْ وجدتم في قلبه مثقال ذرَّةٍ من إيمانٍ فأخرجوه، فيخرجون مَن عَرَفوا». إلى أن قال: «فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبَّار: بقِيَت شفاعتي، فيقبض قبضةً من النَّار فيخرج أقوامًا قد امتَحَشُوا (1)، فيُلْقَون في نهرٍ بأفواه الجنَّة، يُقَال له «ماء الحياة»، فينبتون في حافتَيْه كما تنبت الحِبَّة في حميل السَّيل .. ». إلى أن قال: «فيدخلون الجنة، فيقول أهل الجنَّة: هؤلاء عتقاء الرَّحمن، _________ (1) أي: احترقوا، والمَحْشُ: احتراق الجِلد وظُهور العَظم، كما في النهاية لابن الأثير (4/ 302) وغيره.

(المقدمة/21)


أدخلهم الجنَّةَ بغير عملٍ عملوه ولا خيرٍ قَدَّموه، فيُقَال لهم: لكم ما رأيتم ومثله معه» (1). فقوله في هذه الجملة: «أدخلهم الجنَّةَ بغير عملٍ عملوه ولا خيرٍ قَدَّموه» قد ورَد في سياق شفاعة المؤمنين لإخوانهم، وقدجاءت في رواياتٍ وألفاظٍ مختلفة في الصَّحيحين، ولو تأمَّلْنا كلَّ هذه الرِّوايات وألفاظها المختلفة تبيَّنَ لنا المعنى الصَّحيح لها، والفهم الصائب الموافق لما ذهب إليه أهل السُّنَّة من أنَّ الإيمان لا ينفع صاحبه دون عملٍ، وأنَّ الرِّوايات يفسِّر بعضها بعضًا، ويدلُّ على أنَّ المُخْرَجين من النَّار بشفاعة الشَّافعين إنَّما كانوا من أهل الصَّلاة، كما سيأتي بيانه. فإنْ احتجَّ محتجٌّ بمفهوم ما تقدَّم في لفظ الحديث، من أنَّ هؤلاء الذين شَفَع فيهم إخوانُهُم لم يكن لهم من الإيمان إلَّا شيءٌ ضئيلٌ، مثقال دينار أوأقل، وهذا يدلُّ على قِلَّة أعمالهم أوندرتها في الدنيا، وأنَّهم قد فرَّطوا في كثيرٍ من الواجبات، ومن جملتها الصلاة؛ فتبيَّن من هذا أنَّ تارك الصلاة سيكون من هؤلاء الخارجين بالشفاعة ولا ريب. _________ (1) أخرجه البخاري (7439) ومسلم (183). وهذا لفظ البخاري. ولفظ مسلم: «فيقول الله عزَّوجل شفَعَت الملائكةُ وشفَعَ النبيُّون وشفَعَ المؤمنون، ولم يبق إلَّا أرحم الرَّاحمين، فيقبض قبضةً من النَّار، فيُخْرِج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط، قد عادوا حممًا .. ».

(المقدمة/22)


وأنه يمتنع أن يكون لهؤلاء هذا القدر اليسير من الإيمان ثم يظنُّ أنَّهم من أهل الصلاة؛ إذ يُقال: أين ذهب ثواب الصَّلاة الكثير لو كانوا من المصلِّين؟ = فالجواب عن هذا من وجوهٍ: الأول: أنَّ المفهوم يفسد بمعارضة منطوق الحديث له؛ فقد دلَّ منطوق الحديث صراحةً على أنَّ هؤلاء المشفوعين كانوا من المصلِّين؛ حيث إنَّه ذكر كلام الشُّفعاء وأنَّهم قالوا لربِّهم للشفاعة في إخوانهم: «ربَّنا إخواننا، كانوا يصلُّون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا .. ». ففي هذا النصِّ ما يصرِّح أنَّ هؤلاء الموصوفين بهذا القدر الضَّئيل من الإيمان كانوا يصلُّون مع إخوانهم، ويعملون معهم في الدنيا، فلم يبق لذاك المفهوم قوَّة يحتجُّ بها. الوجه الثاني: يُجاب عمَّا ذُكِر من أنَّ وصف أهل الصلاة والصيام ــ وثوابهما عظيمٌ عند الله ـ بهذا القدر اليسير من الإيمان في قلوبهم ممتنعٌ، وأنَّه لا يمكن دفع هذا إلا بافتراض كونهم تاركين للأعمال في الدنيا =بأنَّه غير مسلَّمٍ؛ إذ لا يمتنع أنَّ يكون ثواب تلك الأعمال قد ذهب بالمقاصَّة والحساب، أوبالحبوط في الدنيا؛ فصار فاعلوها شبْهَ من لم يعمل خيرًا قط، لا صلاةً ولا صيامًا، ولا غير ذلك. ويدلُّ على هذا المعنى دلائل كثيرة من الكتاب والسُّنَّة، ومنها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتدرون ما المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ المفلس من

(المقدمة/23)


أُمَّتي يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا، وقَذَف هذا، وأكل مال هذا، وسَفَك دم هذا، وضَرَب هذا، فيُعْطَى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإنْ فَنِيَت حسناته قبل أنْ يقضى ما عليه أُخِذَ من خطاياهم فطُرِحَت عليه، ثُمَّ طُرِح في النَّار». فسُمِّي هذا الرجل عياذًا بالله «مفلسًا» باعتبار مآله، مع إثبات العمل له، من صلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ؛ لكن لمَّا ذهب ثوابها صحَّ أن يوصف بالإفلاس. فإذَنْ .. لا يصحُّ فهم لفظ الحديث الماضي بأنَّهم لم يكونوا يصلُّون ابتداءًا، بل كانوا يصلُّون، لكنَّ الله قضى عليهم دخول النَّار بأعمالهم التي أَبْطَلت أو أَذْهَبَت ثواب صلاتهم. الوجه الثالث: أنَّ ممَّا يؤكِّد على هذا المعنى أيضًا وصف هؤلاء بالسُّجود، وذلك في قوله: «حتى إذا فَرَغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئًا، ممَّن أراد الله تعالى أن يرحمه، ممَّن يقول: «لا إله إلا الله»، فيعرفونهم في النَّار، يعرفونهم بأثر السُّجود؛ تأكل النَّار من ابن آدم إلا أثر السُّجُود، حرَّم الله على النَّار أن تأكل أثر السُّجود .. ». فتبيَّن من هذا أنَّ هؤلاء المُخْرَجِين كانوا يصلُّون، وأنَّ النَّار أكلت صورهم ولكن بقيت آثار السجود، الدَّالة على أنَّهم كانوا من المصلِّين

(المقدمة/24)


في الدنيا؛ إذْ يقال: لو لم يكونوا من أهل الصلاة كيف تكون لهم آثار سجود؟ وأيُّ سجود فعلوه حتَّى تبقى آثاره على صورهم؟! الوجه الرابع: أمَّا استدلالهم بقوله في آخر الحديث: «فيقول الجبَّار: بقِيَت شفاعتي، فيقبض قبضةً من النَّار فيخرج أقوامًا قد امتَحَشُوا، فيُلْقَون في نهرٍ بأفواه الجنَّة، يُقَال له «ماء الحياة»، فينبتون في حافتَيْه كما تنبت الحِبَّة في حميل السَّيل .. ». إلى أن قال: «فيدخلون الجنة، فيقول أهل الجنَّة: هؤلاء عتقاء الرَّحمن، أدخلهم الجنَّةَ بغير عملٍ عملوه ولا خيرٍ قَدَّموه، فيُقَال لهم: لكم ما رأيتم ومثله معه» =وأنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وصفهم بأنَّهم يدخلون الجنَّة بغير عملٍ عملوه ولا خيرٍ قَدَّموه، وأنَّه يدلُّ على أنَّ تارك الصلاة داخلٌ في مثل هذا الوعد بالخروج من النَّار مآلًا. فالجواب: أنَّه لا يفهم من قوله: «بغير عملٍ عملوه ولا خيرٍ قَدَّموه»، وفي رواية مسلم: «لم يعملوا خيرًا قط» = نفي حصول العمل منهم مطلقًا؛ بل نفي تمامه أوحصول ثوابه أوبقائه لهم. ومثل هذا الاستعمال سائغٌ في لغة العرب، وبه جاءت بعض النصوص. وممَّا يؤكِّد هذا الاستعمال عندهم، وأنَّه ليس المراد به ظاهره من نفي الخيريَّة والعمل مطلقًا حديث أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يؤتى بأنعم أهل الدُّنيا من أهل النَّار يوم القيامة فيُصبغ في النَّار صبغة، ثُمَّ

(المقدمة/25)


يُقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قط؟ هل مرَّ بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا ربِّ .. » الحديث (1). فهذا الرَّجُل مع كونه من أنعم أهل الدُّنيا أجاب عن قوله: «هل رأيت خيرًا، هل مرَّ بك نعيمٌ قط» فقال: لا. قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله: «هذه اللفظة: «لم يعملوا خيرًا قط» من الجنس الذي تقوله العرب بنفي الاسم عن الشيء لنقصه عن الكمال والتَّمام، فمعنى هذه اللَّفظة على هذا الأصل: لم يعملوا خيرًا قط على التَّمام والكمال، لا على ما أُوجب عليه، و أُمِر به» (2). الوجه الخامس: أنَّ البيِّن عند النَّظر في جميع الرِّوايات عمَّن يصبُّ الله عليهم ماء الحياة من هؤلاء المُخْرَجين، وأنَّهم ينبتون نبات الحِبَّة في حميل السَّيل، وهم من آخر من يخرج من النَّار، وهم الذين يخرجهم الله بشفاعته هو - سبحانه وتعالى - =أنَّ هؤلاء قد ورَد النَّصُّ على أنَّهم إنَّما يُخرجُون بأمر الله للملائكة، وأنَّهم يُعرفون بآثار السُّجود. وقد تقدَّم بيان موضع الشاهد من هذه اللَّفظة، وأنَّهم إنَّما وُصِفُوا بذلك لأنَّهم كانوا يُصلُّون؛ إذ لو لم يكونوا قد صلَّوا لله لم يصحَّ أن تكون لهم آثار للسُّجود. _________ (1) أخرجه مسلم (2807). (2) كتاب التوحيد (2/ 732)، وينظر مثله في كلام أبي عبيد القاسم بن سلَّام في الإيمان (ص/41).

(المقدمة/26)


الوجه السادس: إنْ قيل: فليس في هذه المرَّة أنَّهم يُعرفون بآثار السُجُود، وأنَّ الله قد قبضهم من النَّار قبضةً أوقبضتين، فالجواب: أنَّ هذا يُردُّ على ما تقدَّم بيانه في إخراج الملائكة؛ إذ يُقال إنَّ الملائكة إنَّما يخرجون مَنْ يُعرفون بآثار السُّجود ممَّن يقبضهم الله من النَّار قبضةً. وبهذا يتلاءم سياق كلِّ هذه الرِّوايات. الوجه السابع: أنَّه من المعلوم أنَّ العقائد والقواعد لا تُبْنَى على أفراد النُّصوص أومجملها أومطلقها بالإعراض عن مجموعها أو مبيِّنها أومقيِّدها. ولا نصَّ صريح على أنَّ شفاعة المؤمنين أوالنَّبيين أوالملائكة أوربِّ العالمين كانت لغير المصلِّين، غير التعلُّق بجملة: «بغير عمل عملوه» و «لم يعملوا خيرًا قط»، وقد تقدَّم المعنى الصَّحيح لهاتين الجملتين. ولو أنَّنا حملنا ما أُجمل على ما بُيِّن، والمتشابه إلى المحكم، ونظرنا إلى مجموع النصوص، مع ملاحظة أنَّ ذلك هو مذهب أهل السُّنَّة والجماعة في الإيمان لزال الإشكال. والجمع إذا أمكن واحتمل أن يكون على وجهين أوأكثر يكون الرَّاجح منه ما كان موافقًا لمذهب أهل السُّنَّة والجماعة، الذين بنَوا مذهبهم على مجموع النُّصوص وليس على أفرادها ممَّا قد يكون فيها شيءٌ من المتشابه.

(المقدمة/27)


* وعودًا على بدءٍ، فإنَّ ممَّا بحثه المؤلِّف رحمه الله في كتابه ممَّا يأتي بعد هذه المسألة في الأهميَّة والطُّول والإسهاب مسائل أخرى، منها: المسألة الحادية عشرة، وهي مقدار صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسياق صفتها من حين استقباله القبلة إلى حين سلامه، حيث أطال الكلام فيها جدًّا، حتَّى أخذت ما يقارب ثلث الكتاب، وهو ثلثه الأخير، والثلث كثير! وقد قال المصنِّف رحمه الله مؤكِّدًا على أهميَّة هذا المسألة وسياقه الحُجَّة لنفسه في الإطالة فيها أكثر بالنِّسبة إلى غيرها: «فهي من أجلِّ المسائل وأهمِّها، وحاجة النَّاس إلى معرفتها أعظم من حاجتهم إلى الطَّعام والشَّراب» (1). * وقد أدرج رحمه الله تحت هذه المسألة مسائل وفوائد كثيرة، يمكن إجمالها في الآتي: 1 - كلامه عن سُنيَّة الاعتدال في أفعال الصَّلاة وأقوالها، في القيام والركوع والسجود والاعتدال والقيام منهما. 2 - تفصيله الكلام في قدر قراءته - صلى الله عليه وسلم - في كلِّ صلاة من الصلوات الخمس واعتداله في هيئات الصلاة، والردِّ ضمنًا على من أسماهم _________ (1) ينظر (ص/289).

(المقدمة/28)


بالمخفِّفين والنقَّارين من الأئمَّة والمأمومين، ثم سرده لحججهم، وعقد مناقشة بينهم وبين من أسماهم بالمطوِّلين، وهم المقتدون بسنَّة خير المرسلين - صلى الله عليه وسلم -. 3 - كلامه الماتع عن بعض أسرار الصلاة، أقوالها وأفعالها، والمعينة على الخشوع فيها، بتأمُّل الحكمة منها؛ حيث ذكر معاني أسرار الأذكار المشروعة فيها، كالتكبير، والاستفتاح، والفاتحة، وأذكار الركوع والسجود والتشهد والسلام. 4 - كلامه عن بعض معاني التَّوحيد المضمَّنة تحت معاني تلك الأذكار الآنف ذكرها. 5 - بيان معنى التنطُّع والتعمُّق المنهي عنه، والتَّفريق والفصل بينه وبين التَّطويل المرغوب فيه في الصلاة، اقتداءً بسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 6 - ذكره جملةً كبيرةً من سُنن الصَّلاة ـ القوليَّة والفعليَّة ـ، وقد تطرَّق فيها ضمنًا إلى بعض المسائل الخلافيَّة، كمسألة الخرور إلى السُّجود باليدين أوالرُّكبتين، والكلام عن القُنُوت في الصَّلاة، من جهة مشروعيَّته في الصلوات كلها أوبعضها، وموضعه بعد الركوع أوقبله. 7 - توسَّطَ رحمه الله في كلامه عن الأذكار المشروعة بعد الصَّلاة. 8 - كلامه عن السُّنن الرَّواتب المشروعة في الصَّلوات الخمس، والسُّنة في قيام اللَّيل.

(المقدمة/29)


* ومجمل المسائل التي ذكرها وفصَّل القول فيها إحدى عشرة مسألة، وهي مدار كتابه كلِّه، وموضع السؤال الذي لأجله تصدَّى للجواب عنها، وما عداها فمضمَّن تحت إحداها: الأولى: حكم قتل تارك الصَّلاة؟ الثانية: أنَّه لا يقتل حتى يُدْعَى إلى فعلها. الثالثة: بماذا يُقْتل؟ هل بترك صلاةٍ، أو صلاتين، أو ثلاث صلوات؟ الرَّابعة: هل يقتل حدًّا؟ أم يُقتل كما يُقتَل المرتدُّ والزِّنْديق؟ الخامسة: هل تحبط الأعمال بترك الصَّلاة أم لا؟ السَّادسة: هل تُقْبَل صلاة اللَّيل بالنَّهار، وصلاة النَّهار باللَّيل؟ السَّابعة: هل تصحُّ صلاة من صلَّى وحده وهو يقدر على الصَّلاة جماعةً، أم لا؟ الثَّامنة: هل الجماعة شرْطٌ في صِحَّة الصَّلاة، أم لا؟ التَّاسعة: هل له فعلها في بيته، أم يتعيَّن المسجد؟ العاشرة: حكم من نَقَر الصَّلاة، ولم يتمَّ ركوعها ولا سجودها؟

(المقدمة/30)


الحادية عشرة: مقدار صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وبعد إنعام نظرٍ وإجالة فكرٍ في طريقة المؤلِّف رحمه الله ومنهجه في تناول تلك المسائل تتبيَّن سمات ذلك فيما يلي: * اعتناؤه بسرْد الأدلَّة في المسائل الخلافيَّة. كما في مسألة كفر تارك الصَّلاة، حيث أوصل أدلَّة القائلين بكفره إلى عشرة أدلَّة من كتاب الله، واثني عشر دليلًا من سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم حكى إجماع الصَّحابة على كفر تارك الصَّلاة، وقد أعاد المصنِّف ففصَّل سياق أقوال العلماء من التَّابعين ومَنْ بعدهم في كفر تارك الصَّلاة، ومَنْ حكى الإجماع على ذلك. * اعتناؤه بنقل الروايات والأقوال في المذاهب ودقَّته في ذلك. مثل قوله: وعن أحمد روايةٌ أخرى، فيه ثلاث رواياتٍ عن الإمام أحمد، والإمام أحمد في المشهور عنه من مذهبه، والإمام أحمد في ظاهر مذهبه، قول أكثر المتأخرين من أصحاب أحمد، هذا اختيار الاصْطَخْرِي من الشَّافعية، وظاهَرُ مذهب الشَّافعي، وهو أحد الوجهين للشَّافعية. * ترجيحاته واختياراته الفقهية. مثل قوله: أقوى وأفْقَهُ، أقرب إلى مأخذ الفقه، هو الصَّحيح في الدَّليل، قولٌ قويٌّ جدًّا، وهذا أصحُّ الأقوال.

(المقدمة/31)


* سياقه كلام بعض الأئمَّة بطوله مع التصرُّف فيه بالاختصار. مثل قوله: قال الذين يعتدُّون بها بعد الوقت، ويُبْرِئُون بها الذِّمَّة، واللَّفظ لأبي عمر ابن عبدالبَر ... ونحن نذكر كلامه بعينه. * تنبيهه على بعض الأوهام المتداولة. مثل قوله: وأخطأ على الشَّافعي من نسب إليه القول بأنَّ صلاة الجمعة فرضٌ، هذه الزِّيادة لم أجدها في شيءٍ من كتب الحديث، ولا أعلم لها إسنادًا. * التقسيمات والأنواع والصُّوَر والاحتمالات للمسائل. مثل قوله: الحبوط نوعان، الترك نوعان، هذه المسألة لها صورتان، وهذا يحتمل معنيين. * وجوه الاستدلال أوالنقض للأدلَّة المستُدَلَّ بها: مثل قوله: جوابه من وجهين، ولا يصحُّ تأويلكم ذلك على أنَّه: لا صلاة كاملة؛ لوجوهٍ، باطلٌ لأربعة أوجهٍ.

  * موارده:

موارد الإمام ابن القيِّم رحمه الله في كتابه هذا على نوعين: - النَّوع الأول: الكتب التي نقل منها، ونصَّ على أسمائها: وهي على قسمين، كتبٌ مشهورة أكثر من النَّقل منها، كالصَّحيحين والسُّنن، وستأتي الإحالة إلى مواضعها في فهرس الكتب.

(المقدمة/32)


وكتب نقل منها في مواضع معدودة، وهي التي أشير إلى مواضع ذكرها في كتابه. - النَّوع الثَّاني: الكتب التي نقل منها، ولم ينصَّ على أسمائها: وهي على قسمين، كتبٌ نقل منها، مباشرة، وكتب نقل منها بواسطة. * أمَّا النوع الأول، وهي الكتب التي نقل منها ونصَّ على أسمائها فهي: 1 - الاستذكار لابن عبدالبَر (ص/146، 156). 2 - الإقناع لابن الزَّاغوني (ص/247). 3 - الأوسط لابن المنذر (ص/208، 215، 241). 4 - تعظيم قدر الصَّلاة لمحمد بن نصر المروزي (ص/53، 56، 57، 105، 107، 174، 196). 5 - التَّعليق للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين بن الفرَّاء الحنبلي (ص/235). 6 - تعليقة الخلاف للطُّرْطُوْشي (ص/18). 7 - الرِّسالة «الجديدة» للإمام الشَّافعي (ص/174). 8 - سنن ابن ماجه. 9 - سنن أبي داود.

(المقدمة/33)


10 - سنن أبي داود، رواية أبي داسة (ص 318). 11 - سنن الترمذي. 12 - سنن الدَّارقطني. 13 - السُّنن الكبرى للبيهقي. 14 - سنن النَّسائي. 15 - سنن سعيد بن منصور (ص/238، 244). 16 - صحيح ابن حبَّان (ص/384). 17 - صحيح ابن خزيمة (ص/12، 285). 18 - صحيح البخاري. 19 - الصَّحيح أو «السُّنن» لابن أبي حاتم (ص/23، 70، 72). 20 - صحيح مسلم. 21 - الصَّلاة لعبدالحق الإشبيلي (ص/79). 22 - مختصر المزني (ص/207). 23 - مسائل الإمام أحمد بن حنبل، رواية إبراهيم بن الحارث (ص/238). 24 - مسائل الإمام أحمد بن حنبل، رواية ابنه عبدالله (ص/171، 440).

(المقدمة/34)


25 - مسائل الإمام أحمد بن حنبل، رواية أبي الحارث (ص/172). 26 - مسائل الإمام أحمد بن حنبل، رواية أبي طالب (ص/171). 27 - مسائل الإمام أحمد بن حنبل، رواية المرُّوْذِي (ص/171). 28 - مسائل الإمام أحمد بن حنبل، رواية حنبل (ص/247). 29 - مسائل الإمام أحمد بن حنبل، رواية محمد بن الحكم (ص/238). 30 - مسائل الإمام أحمد بن حنبل، رواية مهنَّا بن يحيى الشَّامي (ص/288، 342). 31 - مستدرك الحاكم (ص/82، 102). 32 - مسند الإمام أحمد. 33 - مسند الشافعي (ص/10). 34 - مصنف قاسم بن أصبغ (ص/227).

(المقدمة/35)


* وأمَّا النَّوع الثَّاني، وهي الكتب التي نقل منها ولم ينصَّ على أسمائها فهي: 1 - الإبانة لابن بطة العكبري (ص/41). 2 - أحوال الرجال للجوزجاني (ص/202). 3 - الأم للشافعي (ص/32، 119، 204). 4 - تاريخ ابن معين، رواية الدُّوري (ص/202، 421). 5 - التَّاريخ الكبير للبخاري (ص/192، 202، 204، 421). 6 - تفسير عبدالرزاق (ص/93). 7 - جماع العلم للشافعي (ص/172، 173). 8 - الزهد لعبدالله بن المبارك (ص/139). 9 - الزهد لهناد بن السري (ص/139). 10 - سؤالات البرذعي لأبي زرعة الرازي (ص/202). 11 - سنن الدَّارمي (ص/75). 12 - السُّنن والأحكام لمحمد بن عبدالواحد المقدسي (ص/193). 13 - شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة للالكائي (ص/69).

(المقدمة/36)


14 - شرح مشكل الآثار للطَّحاوي (ص/41). 15 - شرح الهداية لمجدالدَّين عبدالسَّلام بن تيمية (/265). 16 - الضُّعفاء للعقيلي (ص/287). 17 - الضُّعفاء والمتروكون للنَّسائي (ص/202، 421). 18 - العلل الكبير للترمذي (ص/205). 19 - الكامل لابن عديٍّ (ص/202، 421) 20 - المجروحين لابن حبَّان (ص/204). 21 - المحلَّى لابن حزم (ص/41، 49، 248). 22 - مسائل الإمام أحمد بن حنبل، رواية ابنه صالح (ص/243، 244، 245). 23 - مسائل الإمام أحمد بن حنبل، رواية إسحاق الحربيّ (ص/440). 24 - مسائل الإمام أحمد بن حنبل، رواية الأثرم (ص/439، 441). 25 - مسائل الإمام أحمد بن حنبل، رواية الشَّالنجي (ص/98). 26 - مسائل الإمام أحمد بن حنبل، رواية الفضل بن زياد القطَّان (ص/110، 111).

(المقدمة/37)


27 - مسائل الإمام أحمد بن حنبل، رواية عبدوس بن مالك العطَّار (ص/442). 28 - مسند أبي داود الطَّيالسي (ص/437). 29 - مصنَّف عبدالرزَّاق (ص/145، 244، 246). 30 - معالم السُّنن للخطَّابي (ص/423). 31 - موطأ الإمام مالك، رواية أبي مصعب الزُّهري والقَعْنبي وسويد بن سعيد (ص/437). 32 - الهداية لأبي الخطَّاب الكلوذاني (ص/26، 27). * وصف النسخ الخطِّيَّة: اعتمدت في تحقيق هذا الكتاب على ثلاث نسخٍ خطِّيَّةٍ، ومطبوعةٍ قديمةٍ، وبيانها كما يلي: 1 - نسخة نجدية، في إحدى المكتبات الخاصة، وهي بخطٍّ نسخيٍّ واضحٍ، في 152 ورقة، وناسخها كما جاء في آخر النُّسخة:

(المقدمة/38)


عثمان بن عبدالله بن بشر (1)، وقد فرغ من نسخها يوم الأربعاء، الثَّالث عشر من جمادى الأولى، سنة ألفٍ ومائتين وإحدى وسبعين 1271 هـ. وقد أذِن بتصوير نسخة منها الشيخ الدكتور الوليد بن عبدالرحمن الفريان، فجزاه الله خيرًا، وبارك في جهوده. وقد رمزتُ لها اختصارًا بـ «ض». 2 - نسخةٌ محفوظة بمكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض وكانت من ضمن محفوظات مكتبة الرياض العامة السعودية برقم 400/ 86، وقد وردت إليها من مكتبة الشيخ محمد بن عبداللطيف وأرخت بتاريخ 26/ 6/1392 هـ، وقد كتبت بخطٍّ نسخيٍّ جميلٍ واضحٍ، وتقع في 159 ورقة، ولم يذكر فيها اسم ناسخها وقد كتب في أولها: وقف من الإمام محمد الفيصل حرسه الله وحماه. _________ (1) هو عثمان بن عبد الله بن عثمان بن حمد بن بشر النَّجدي الحنبلي، مؤرخ نجدي، كان من رؤساء بني زيد في بلدة شقراء، مؤلِّف كتاب عنوان المجد في تاريخ نجد، وغيرها من الكتب، ت 1290 هـ، ببلدة جلاجل، عن نحو ثمانين عامًا. تنظر ترجمته في المصادر التي أحال عليها مؤلّف معجم مصنِّفي الحنابلة عند ترجمته (6/ 152).

(المقدمة/39)


وتمتاز هذه النُّسخة بكونها مصحَّحةً مقابلةً، حيث أثبت ناسخها هذه التَّصحيحات والمقابلات على هامش الصَّفحة، بقوله: «بلغ»، أو «بلغ مقابلةً». وفي آخرها بخطِّ الناسخ ذكرُ تملُّكها: «هذا الكتاب ممَّا يسَّره الله ومنَّ به على عبده الفقير إليه، محمَّد بن فيصل بن تركي بن عبدالله بن محمَّد آل سعود، رحمهم الله تعالى وعفى عنهم». ولم يذكر ناسخها أو مُتَمَلِّكُها سنة كتابتها، ولكن بمعرفة تاريخ وفاة متملِّكها وهو الأمير محمد بن فيصل بن تركي = يظهر أنَّها كتبت بين أواخر القرن الثالث عشر وأوائل الرابع عشر الهجريين، فقد توفِّي هذا الأمير سنة 1311 هـ (1). _________ (1) قال عثمان بن بشر في عنوان المجد (2/ 128) في الثناء على هذا الأمير وذلك في سياق كلامه عن والده الأمير فيصل بن تركي: «وكان ابنه محمد في الغاية من الديانة والعفاف، والصيانة والأمانة والكفاف، على صغر سنِّه، لا يحاذيه من مثله في فنِّه ... ». وقال قبل ذلك عنه وعن إخوته: «حفظوا القرآن على صدورهم، دأبوا في تحصيل التعلّم في آصالهم وبكورهم، ولهم معرفة في العلوم الشرعية، والآثار السلفية، وجمعوا كتبًا كثيرةً، بالشراء والاستكتاب، من كتب الحديث والتفسير وكتب الأصحاب».

(المقدمة/40)


وقد حصلنا على صورة منها على ( CD) من مكتبة الملك فهد الوطنيَّة، فجزاهم الله خيرًا وسددَّهم لعمل الخير دومًا. وقد رمزتُ لهذه النسخة بـ «س». 3 - النُّسخة الهنديَّة ــ ديوبند [فقه 70]، وهي بخطٍّ فارسيٍّ جميلٍ واضحٍ، وتقع في 151 ورقة. وتمتاز هذه النُّسخة بكونها مصحَّحةً مقروءة على بعض أهل العلم، حيث أُثْبِتَت هذه التَّصحيحات والشروحات على هامش الصَّفحة، ونقل الناسخ في موضعٍ منها كلام الشيخ عبدالقادر بن أحمد (1)، وقال داعيًا له: «حفظه الله». وأما تاريخ نسخها فلم يذكره ناسخها، ولكن بمعرفة تاريخ وفاة الشيخ عبدالقادر بن أحمد، وقد توفِّي سنة 1207 هـ فيكون تاريخها في القرن الثالث عشر الهجري، في حياة الشيخ المذكور حيث دعا ناسخها للشيخ له بما يدل على أنها نسخت في حياته. وقد رمزتُ لهذه النسخة بـ «هـ». _________ (1) تنظر (ص 58) من هذا الكتاب، وستأتي ترجمته هناك.

(المقدمة/41)


4 - المطبوعة الهنديَّة، وهي مطبوعة سنة 1296 هـ، بدهلي، وكتب في أسفل واجهتها: باهتمام الحافظ عزالدين، في المطبع المرتضوي، الواقع في الدهلي، وهي نحو 76 صفحة. وفي آخرها: «الحمدلله الذي وفَّق لإتمام كتاب الصَّلاة، للشَّيخ محمَّد بن أبي بكر، المعروف بابن القيِّم [كذا!] الجوزيَّة، رضي الله عنَّا وعنه، على ما نسَخَه عبدالرحمن بن عمر بن سعيد بن السَّعد الحضرمي، واهتمَّ بطبعه راغب الخير ومشيعه، الوكيل إلهي بخش، أقامه الله على الحقِّ بأمر إمام الهُدى أبي محمَّد الشَّيخ السَّلفي عبدالله الغزنوي، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنَّة الفردوس منزله ومأواه، وتولَّى طبعه ابنه محمَّد، جعله الله راضيًا مرضيًّا، وأدخله في عباده وجنَّته، وصلَّى الله على محمَّد وآله، فأجاب داعي الله قبيل إتمامه، ويسَّر الله إتمامه بفضله ومنِّه، يوم العشرين من ذي الحِجَّة، سنة ست وتسعين بعد الألف ومائتين، ربَّنا اجعلنا مقيمين [كذا] الصَّلاة، ومن ذُرِّيَّتنا، ربَّنا وتقبَّل دعاء، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين». وقد رمزتُ لهذه المطبوعة بـ «ط». * طبعات الكتاب: طُبِع الكتاب طبعات عديدة، منها: - طبعة هندية، وسبق الحديث عنها قريبًا.

(المقدمة/42)


- وطبعة هندية أخرى ضمن «مجموعة مباركة» في دهلي 1895 م. - وطبعة قديمة في مصر سنة 1323 هـ، في 224 صفحة، على نفقة شرف موسى، وأحمد ناجي جمالي، ومحمد أمين الخانجي، باسم «الصلاة وأحكام تاركها، صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حين التكبير الى التَّسليم»، وقد طبعت مضمومة مع كتاب الصَّلاة للإمام أحمد. - وطبع ضمن «مجموعة الحديث النجدية»، بالقاهرة، 1322 هـ. - وطُبِع في مكتبة محمد علي صبيح وأولاده بالقاهرة، عام 1347. - وطُبِع أيضًا باسم «الصَّلاة وأحكام تاركها»، بتعليق وتخريج عبدالله المنشاوي، في مكتبة الإيمان في المنصورة بمصر، في (144) صفحة. - وطُبِع بتحقيق تيسير زعيتر، بالمكتب الإسلامي ببيروت، عام 1985 م. - وطُبِع أيضًا باسم «الصلاة وحكم تاركها»، بعناية بسام عبدالوهاب الجابي، بدار الجفَّان والجابي، ط 2، 1419 هـ، في 251 صفحة، وذكر أنَّه لم يعتمد على نسخة مخطوطة بل على المطبوعات السابق ذكرها. - وطبعات أخرى غيرها.

(المقدمة/43)


* منهجي في تحقيق الكتاب: 1 - قمتُ بمقابلة النُّسخ، واخترت منها الأنسب للمعنى والسِّياق، وأثبتُّ ما خالفها في الهامش، وأهملت ما لا داعي لإثباته، ممَّا قد يكون تصرُّفًا من النُّسَّاخ، كترك الصَّلاة أوالترضِّي أوالتَّسبيح أوإثباتهما، وصوَّبت بعض الأخطاء الناشئة عن التحريف. 2 - قمتُ بخدمة نصوص الكتاب علميًّا؛ فخرَّجت آياته، وأحاديثه، وآثاره، ووثَّقتُ نصوصه. 3 - علَّقتُ على ما رأيت ضرورة التَّعليق عليه من ترجمةٍ موجزةٍ لعلم من الأعلام، أو توضيح كلمةٍ غريبةٍ، أوتنبيهٍ إلى أمر ذي بال. 4 - قدَّمتُ بمقدِّمة تمهيديَّة للتَّعريف بالكتاب، ومنهج المصنِّف فيه، وموارده، وصنعتُ فهارس متنوعِّة للكتاب، وفصَّلتها بما يقرِّب وصول القارئ لمحتوى الكتاب. وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين وكتب: عدنان بن صفاخان البُخاري الجمعة 13 من شهر جمادى الآخرة عام 1430 هـ

(المقدمة/44)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ربِّ يسِّر، وعليك التَّيسير، وسهِّل كلَّ عسيرٍ، آمين (1). الحمد لله ربِّ العالمين، ما يقول السَّادة (2) العلماء، أئمَّة الدِّين، وفَّقهم (3) الله وأرشدهم، وهداهم وسدَّدهم، في تارك الصَّلاة عامدًا؛ هل يجب قتله أم لا؟ وإذا قُتِلَ فهل يُقْتَل كما يُقْتَل المرتدُّ والكافر؛ فلا يغسَّل، ولا يصلَّى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين أم يُقتل حدًّا مع الحكم بإسلامه؟ وهل تحبط الأعمال وتبطُل بترك الصَّلاة، أم لا؟ وهل تُقْبَل صلاة النَّهار باللَّيل، وصلاة اللَّيل بالنَّهار، أم لا؟ وهل تصحُّ صلاة من صلَّى وحده، وهو يقدر على الصَّلاة جماعةً، أم لا؟ وإذا صحَّت فهل يأثم بترك الجماعة، أم لا؟ وهل يُشترط حضور المسجد، أم يجوز فعلها في البيت؟ وما حكم من نَقَر الصَّلاة، ولم يُتمَّ ركوعها وسجودها؟ وما كان مقدار صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وما حقيقة التَّخفيف _________ (1) جملة: "ربِّ .. آمين" من ض. وفي س: "يسِّر وأعِنْ يا كريم". (2) هـ وط: " .. السَّادات". والحمْدَلَة ليست في ض وس. (3) ط: "العلماء الذين وفَّقهم .. ".

(1/3)


الذي نَبَّه عليه (1) بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلِّ بِهِم صلاة أَخَفِّهِم"؟ (2) (3) وما معنى قوله لمعاذ: "أفتَّان أنت؟ " (4). والمسؤولُ سِياق صلاته - صلى الله عليه وسلم - من حين كان يكبِّر (5)، إلى أنْ يفرغ منها، سياقًا مختصرًا (6)، كأنَّ السَّائل يشاهدُه (7). _________ (1) ض وس: " .. الذي أمر به"، س: " .. التحقيق الذي .. ". (2) لم أرَه بهذا اللَّفظ، وأخشى أن يكون تحريفًا من: "أضعفهم"، مع كونه لم يثبت إلَّا في هـ وط. وقد أخرجه أحمد (4/ 21)، وأبوداود (531)، والنسائي (673)، وابن ماجه (987)، وابن خزيمة (3/ 50)، والحاكم (1/ 314)، من طرقٍ عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "اقدر النَّاس بأضعفهم"، أو"اقتد بأضعفهم". صحَّحه ابن خزيمة، والحاكم على شرط مسلمٍ. وأخرجه ابن منيع كما في المطالب لابن حجر (422) وإتحاف الخيرة للبوصيري (1086) بسنده من حديث علي رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: "صلِّ بهم صلاة أضْعَفِهِم". وفي إسناده ابن أبي ليلى والحجَّاج ابن أرطاة، وقد ضُعِّفا، ولأجلهما ضعَّفه البُوصيري. (3) "بقوله .. أخفِّهم" ليست في ض وس. (4) أخرجه البخاري (705)، ومسلم (465)، من حديث جابر رضي الله عنه، وفيه قِصَّةٌ. (5) ض: "كبَّر". (6) ض: "شيئًا فشيئًا مختصرًا". (7) هـ وط: "يشهده".

(1/4)


فأرشد الله مَن دَلَّ على سواء السَّبيل، وجمع بين بيان (1) الحُكم والدَّليل. وما أخذ الله الميثاق على أهل الجهل أنْ يتعلَّمُوا حتى أخذ الميثاق على أهل العلم أنْ يُعلِّمُوا ويبيِّنُوا. أجاب الشيخ الإمام العلَّامة، بقيَّة السَّلف، ناصر السُّنَّة، وقامع البدعة، الشيخ شمس الدِّين، محمد بن أبي بكر الحنبلي، المعروف بابن قيم الجوزية، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل جنَّة الخلد متقلَّبَه ومثواه (2) (3): الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أنْ لا إله إلَّا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا. لا يختلف المسلمون أنَّ ترك الصَّلاة المفروضة عمدًا من أعظم الذُّنُوب، وأكبر الكبائر. وأنَّ إثمه (4) عند الله أعظم من إثم قتل النَّفس، وأخذ الأموال، ومن إثم الزِّنا، والسَّرقة، وشرب الخمر. وأنَّه متعرِّضٌ لعقوبة الله وسخطه وخِزْيه في الدُّنيا والآخرة. _________ (1) "بيان" ليست في ض. (2) ض: "جنَّات الفردوس منقلبه .. ". (3) "أجاب الشيخ .. ومثواه" ليست في س، وبدله: "الجواب: الحمدلله .. " الخ. (4) س: "إثم تارك الصَّلاة".

(1/5)


ثم اختلفوا في قتله، وفي كيفيَّة قتله، وفي كُفْره. فأفتى سفيان بن سعيد الثوري، وأبوعمرو الأوزاعي، وعبدالله بن المبارك، وحمَّاد بن زيد، ووكيع بن الجرَّاح، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس الشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأصحابهم =بأنَّه يُقْتل (1). ثم اختلفوا في كيفيَّة قتله. فقال جمهورهم: يُقتل بالسَّيف ضربًا في عنقه (2). وقال بعض الشَّافعية (3): يُضْرب بالخَشَب إلى أنْ يصلِّي أو يموت. وقال ابن سُرَيْج (4): يُنْخَس بالسَّيف حتى يموت؛ لأنَّه أبلغ في زجره، وأرجى لرجوعه (5). _________ (1) يُنظَر: الاستذكار لابن عبدالبر (5/ 343 - 346)، والتمهيد له (4/ 236 - 240)، والمغني لابن قدامة (3/ 351)، والمجموع للنووي (3/ 17). (2) وهو قول جمهور الشَّافعية كما في الحاوي للماوردي (2/ 528). (3) حكاه غير واحدٍ عن ابن سُرَيج، وأنَّه يضرب بخشبةٍ أوينخس بالسَّيف، حكاه عنه أيضًا الماوردي في الحاوي (2/ 528)، وقال: إنَّه اختيار أبي حامدٍ، وجعله النَّووي في المجموع (3/ 17) وجهًا عندهم. (4) تصحَّفت في هـ وط وس: "ابن سريح"، بالحاء المهملة. وهو: أبوالعبَّاس أحمد ابن عمر بن سُرَيْج البغدادي القاضي، أحد كبار الشَّافعيَّة في زمانه، توفي سنة 306 هـ، ترجمته في: طبقات الشافعية للسُّبكي (3/ 21) وسير أعلام النبلاء للذهبي (14/ 201). (5) يُنظَر: المهذَّب للشَّيرازي (1/ 51). وهو قول بعض المالكيَّة أيضًا، كما في: الذَّخيرة للقرافي (2/ 483).

(1/6)


والجمهور يحتجُّون بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله كَتَب الإحسان على كُلِّ شيءٍ، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة" (1). وضَرْب العُنُق بالسَّيْف أحسن القتلات، وأسرعها إزهاقًا للنَّفس. وقد سنَّ الله سبحانه في قتل الكفَّار المرتدِّين ضَرْب الأعناق، دون النَّخْس بالسَّيف. وإنَّما شُرِع في حقِّ الزَّاني المُحْصَن القتل بالحجارة؛ ليصل الألم إلى جميع بَدَنه، حيث وصلت إليه اللَّذَّة بالحرام. ولأنَّ تلك القتلة أشنع القتلات، والدَّاعي إلى الزِّنا داعٍ قويٌّ في الطِّباع؛ فجُعِلَت غلظة هذه العقوبة في مقابلة قوَّة الدَّاعي. ولأنَّ في هذه العقوبة تذكيرًا بعقوبة الله لقوم لوْطٍ (2)، بالرَّجم بالحجارة على ارتكاب الفاحشة. فصْلٌ وقال ابن شهاب الزُّهري (3)، وسعيد بن المسيّب، وعمر بن عبدالعزيز (4)، وأبوحنيفة، وداود بن علي، والمزني: يُحْبَس حتى _________ (1) أخرجه مسلم (1955) بنحوه، من حديث شدَّاد بن أوس رضي الله عنه. (2) هـ وط: "لعقوبة الله .. "، ض: "تذكير لقوم لوطٍ". (3) س: "محمد بن شهاب" وليس فيه: "الزهري". (4) ض وس: "الزهري، وسعيد بن عبدالعزيز".

(1/7)


يموت، أو يتوب، ولا يُقتل (1). واحْتُجَّ لهذا المذهب بما رواه أبو هريرة عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أُمِرتُ أنْ أقاتل النَّاس حتى يقولوا: لا إله إلَّا الله، فإذا قالوها عصموا منِّي دماءهم وأموالهم، إلَّا بحقها" رواه البخاري ومسلم (2). وعن ابن مسعود قال: قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحلُّ دمُ امريءٍ مسلمٍ، يشهد أنْ لا إله إلَّا الله، وأنِّي رسول الله إلَّا بإحدى ثلاثٍ؛ الثيِّب الزَّاني، والنَّفس بالنَّفس، والتَّارك لدِينه، المفارق للجماعة" أخرجاه في "الصَّحيحين" (3). قالوا: ولأنَّها من الشَّرائع العمليَّة؛ فلا يقتل بتركها، كالصِّيام، والزَّكاة، والحجِّ. قال الموجبون لقتله: قد قال الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة/5]. فأَمَرَ بقتلهم _________ (1) في المغني لابن قدامة (3/ 351): "يُضْرَب ويُسْجَن"، وينظر أيضًا: المحلَّى لابن حزم (11/ 376)، والتَّمهيد لابن عبدالبر (4/ 245)، والمجموع للنووي (3/ 19) وفتح القدير لابن الهمام (1/ 355). (2) البخاري (1399)، ومسلم (20) بنحوه. (3) البخاري (6878)، ومسلم (1676) واللَّفظ له.

(1/8)


حتى يتوبوا من شِرْكهم، ويقيموا الصَّلاة، ويؤتوا الزَّكاة. ومن قال: لا يقتل تارك الصلاة، يقول: متى تاب من شِرْكِه سقط عنه القتل، وإنْ لم يُقِم الصلاة ولا آتى الزكاة. وهذا خلاف ظاهر القرآن. وفي "الصَّحيحين" (1)، من حديث أبي سعيدٍ الخدري قال: بعث عليُّ بن أبي طالب ـ وهو باليمن ـ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بذُهَيْبَةٍ (2)، فقسمها بين أربعةٍ، فقال رجل: يا رسول الله، اتق الله! فقال: "ويلك! ألستُ أحق أهل الأرض أنْ يتَّقي الله؟ ". ثم ولَّى الرجل. فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألَا أضربُ عنقه؟ فقال: "لا، لعلَّه أن يكون يصلِّي". فقال خالدٌ: فكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي لم أؤمر أنْ أنقِّب عن قلوب النَّاس، ولا أشقَّ بطونهم". فجعل النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - المانع من قتله كونه يصلِّي؛ فدلَّ على أنَّ مَن لم يصلِّ يُقتل. ولهذا قال في الحديث الآخر: "نُهِيتُ عن _________ (1) البخاري (4351)، ومسلم (1564). (2) تصغير ذهب، والذهب يؤنَّث، ولمَّا صُغِّرت أُلْحِق في آخرها هاء. وقيل: تصغير ذَهَبة، القطعة منها، صُغِّرت على لفظها. كما في النهاية لابن الأثير (2/ 173).

(1/9)


قتل المصلِّين" (1). ويدلُّ على أنَّ غير المصلِّين لم ينْهَه الله عن قتلهم. وروى الإمام أحمد والشافعي في "مسندَيْهِما" (2)، من حديث _________ (1) أخرجه أبو داود (4928) والبيهقي (8/ 224) والدَّارقطني (2/ 54)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي إسناده: أبويسار القرشي وأبوهاشم، قال الدَّارقطني في العِلل (11/ 231): "مجهولان. ولا يثبت الحديث". وأخرجه الطَّبراني (18/ 26) وابن عدي في الكامل (5/ 85)، من حديث أنس، وفي إسناده: عامر بن يسافٍ اليمامي، منكر الحديث. وتُنظَر ترجمته في: الكامل لابن عديٍّ (5/ 85)، وميزان الاعتدال للذَّهبي (2/ 361)، وقد أوردا له هذا الحديث ممَّا أُنكِر عليه. وأخرجه الطَّبراني في الأوسط (5/ 194) بإسناده من حديث أبي سعيد، وفي إسناده: الخصيب بن جحدر البصري، كذَّبه شعبة والقطَّان وابن معين والبخاري. يُنظَر: الكامل لابن عدي (3/ 68)، والميزان للذَّهبي (1/ 653). ويُنْظَر في تفصيل القول في بعض مرويَّات الحديث: أحاديث ومرويَّات في الميزان للشيخ محمد عمرو عبداللَّطيف رحمه الله (ص/77) وما بعدها. (2) مسند أحمد (5/ 432)، ومسند الشافعي (8). وأخرجه مالك (413)، وعبدالرزاق (18688)، وابن حبان (5971)، وغيرهم، من طريق ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن عبيدالله بن عدي به. والحديث صحَّحه ابن حبَّان، وقال الهيثمي في المجمع (1/ 24) والبوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (1/ 125): "رجاله رجال الصَّحيح".

(1/10)


عبيدالله بن عديِّ (1) بن الخِيار، أنَّ رجلًا من الأنصار حدَّثه: أنَّه أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو في مجلس فسارَّه؛ يستأذنه في قتل رجلٍ من المنافقين، فجَهَر رسول الله، فقال: "ألَيس يشهد أنْ لا إله إلَّا الله؟ " قال الأنصاريُّ: بلى يا رسول الله، ولا شهادة له! قال (2): "ألَيس يشهد أنَّ محمَّدًا رسول الله؟ " قال: بلى ولا شهادة له. قال: "ألَيس يصلِّي الصَّلاة (3)؟ " قال: بلَى، ولا صلاة له. قال: "أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم". فدلَّ على أنَّه لم ينْهَ عن قتل مَن لم يُصَلِّ. وفي "صحيح مسلمٍ" (4)، عن أمِّ سلمة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُستعمَل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون؛ فمَن أنكر فقد بَرِيء، ومن كَرِه فقد سَلِم، ولكن من رَضِي وتابع". فقالوا: يا رسول الله، أَلَا نقاتلهم (5)؟ فقال: "لا، ما صلَّوا". _________ (1) جميع النُّسخ: "عبدالله بن عدي" مكبَّرًا. ض: "عون" بدل "عدي"، تحريفٌ! والتَّصويب من مصادر الحديث وغيرها. ويُنْظَر: تهذيب الكمال للمزِّي (19/ 112). (2) "أليس يشهد أنْ لا إله .. قال:" ليست في هـ. (3) "الصَّلاة" ليست في س. (4) حديث (1854). (5) س: "ننابذهم".

(1/11)


وفي "الصَّحيحين" (1)، من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أُمِرْتُ أنْ أقاتل النَّاس حتى يشهدوا أنْ لا إله إلَّا الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله، ويقيموا الصَّلاة، ويؤتُوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عَصَموا منِّي دماءَهم وأموالَهم، إلَّا بحقِّ الإسلام، وحسابهم على الله". فوجْهُ الاستدلال به من وجهين: أحدهما: أنَّه أمر بقتالهم إلى أنْ يقيموا الصَّلاة (2). الثَّاني: قوله: "إلَّا بحقِّها" (3)، والصَّلاة من أعظم حقِّها. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْت أنْ أقاتل النَّاس حتى يشهدوا أنْ لا إله إلَّا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، ويقيموا الصَّلاة، ويؤتوا الزكاة، ثم قد حرمت عليَّ دماؤهم وأموالهم، وحسابهم على الله". رواه الإمام أحمد (4)، وابن خزيمة في "صحيحه" (5). _________ (1) البخاري (25)، مسلم (22). وهذا لفظ البخاري. (2) س زيادة: "ويؤتوا الزَّكاة". (3) "الثاني .. بحقِّها" ليست في ض. وفي س: "الثَّاني: أنَّه علَّق عِصْمة الدَّم بالقيام بحقِّ الشهادة .. ". وقول المصنِّف: "قوله: إلَّا بحقها" هي رواية مسلم. (4) المسند (2/ 345). (5) حديث (2248).

(1/12)


فأخبر - صلى الله عليه وسلم - (1) أنَّه أُمِر بقتالهم إلى أنْ يقيموا الصَّلاة، وأنَّ دماءهم وأموالهم إنَّما تحرم بعد الشَّهادتين، وإقام الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة؛ فدماؤُهم وأموالُهم قبل ذلك غير محرَّمة؛ بل هي مباحة. وعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: لمَّا توفِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارتدَّت (2) العرب، فقال عمرُ: يا أبا بكر، كيف تقاتل العرب؟ فقال أبو بكرٍ (3): إنَّما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ أنْ أقاتل النَّاس حتى يشهدوا أنْ لا إله إلَّا الله، وأنِّي رسول الله، ويقيموا الصَّلاة، ويؤتوا الزكاة". رواه النسائي (4)، وهو حديثٌ صحيحٌ. وتقييد هذه الأحاديث يبيِّن مقتضى الحديث المطلق الذي احتجُّوا به على ترك القتل، مع أنَّه حجَّةٌ عليهم؛ فإنَّه لم يُثْبِت العِصْمة للدَّم والمال إلَّا بحقِّ الإسلام، والصلاة آكد حقوقه على الإطلاق. وأمَّا حديث ابن مسعود، وهو: "لا يحلُّ دم امريءٍ مسلمٍ إلَّا _________ (1) ض: "فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، س: "فأخبر أنَّه". (2) ط: "ارتدَّ". (3) "أبوبكر" ليست في س. (4) حديث (3094). وأخرجه ابن خزيمة (2247)، والحاكم (1/ 544)، وغيرهم، من طريق معمر عن الزهري عن أنس رضي الله عنه به. وقد صحَّحه ابن خزيمة والحاكم.

(1/13)


بإحدى ثلاثٍ" (1) فهو حُجَّة لنا في المسألة؛ فإنَّه جعل منهم التَّارك لِدِينه، والصلاة ركن الدِّين الأعظم، ولا سيِّما إنْ قلنا بأنَّه كافر، فقد تَرَك الدِّينَ بالكليَّة، وإنْ لم نكفِّره (2) فقد تَرَك عمود الدِّين. قال الإمام أحمد: وقد جاء في الحديث (3): "لا حَظَّ في الإسلام لمن ترك الصَّلاة". وقد كان عمر بن الخطاب يكتب إلى الآفاق: "إنَّ مِنْ أهمِّ أموركم عندي الصَّلاة؛ فمَنْ حفظها حفظ ديْنَه، ومن ضيَّعَها فهو لِما سواها أضْيع، ولاحظَّ في الإسلام لمن تَرَك الصَّلاة" (4). قال أحمد: فكُلُّ (5) مستخِفٍّ بالصَّلاة مستهينٍ بها (6)؛ فهو مستخفٌّ _________ (1) تقدَّم تخريجه (ص/8). (2) هـ وط: "يُكَفَّر". (3) ض: "جاء الحديث". (4) أخرجه مالك في الموطأ (6) وعبدالرزَّاق (2038) والبيهقي (1/ 445)، من طريق نافع عن عمر رضي الله عنه به. وليس فيه: "ولاحظَّ في الإسلام .. ". وأخرجه مالك (82)، وعبدالرزاق (579) وابن أبي شيبة (30998) والبيهقي (1/ 357) وغيرهم، من حديث المسور بن مخرمة عن عمر في قِصَّة طعنه، وفيه قال: "لا حظَّ .. ". وسيأتي (ص/79). (5) "أحمد" ليست في هـ وط. (6) س: "مستهزءٌ بها".

(1/14)


بالإسلام، مستهينٌ به (1). وإنَّما حظُّهم من الإسلام على قدر حظِّهم من الصَّلاة، ورغبتهم في الإسلام على قدر رغبتهم في الصَّلاة. فاعْرف نفسك يا عبدالله، واحْذر أنْ تَلْقَى الله ولا قدر (2) للإسلام عندك؛ فإنَّ قَدْر الإسلام في قلبك كقَدْر الصَّلاة في قلبك. وقد جاء الحديث عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "الصَّلاة عمود الإسلام" (3) (4). أَلَسْتَ تعلمُ أنَّ الفُسْطاط (5) إذا سقط عموده سقط الفُسْطاط، _________ (1) س: "مستهزءٌ به". (2) س: "ولا حظَّ". (3) ط: "عمود الدِّين". (4) أخرجه أبونعيم الفضل بن دكين في الصَّلاة كما في التَّلخيص الحبير (1/ 173)، عن بلال بن يحيى قال: جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فسَأَله فقال: "الصَّلاة عمود الدِّين". ثم نقل ابن حجر استنكار النَّووي وإبطاله له، ثم قال: "وهو مرسلٌ، رجالُه ثقاتٌ". ويغني عنه حديث معاذ رضي الله عنه أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أمَّا رأس الأمر فالإسلام، وأمَّا عموده فالصَّلاة .. " الحديث. كما سيأتي (ص/72). (5) بضم أوَّله أوكسره، لغتان: بيت شَعَرٍ. كما في المصباح (2/ 472).

(1/15)


ولم يُنْتَفع بالطُّنُب (1) ولا بالأوتاد، وإذا قام عمود الفُسْطاط انْتُفِع (2) بالطُّنُب والأوتاد، وكذلك الصلاة من الإسلام. وجاء الحديث: "إنَّ أوَّل ما يُسْأل عنه العبدُ يوم القيامة مِن عمله صلاته؛ فإنْ تُقبِّلَت منه صلاتُه تُقُبِّل منه سائرُ عمله، وإنْ رُدَّت عليه صلاته رُدَّ عليه سائرُ عمله" (3). فصلاتُنا آخر دينِنا، وهي أول ما نُسْأل عنه غدًا من أعمالنا يوم القيامة. فليس بعد ذهاب الصلاة إسلامٌ ولا دينٌ، إذا صارت الصلاة آخر ما يذهب من الإسلام. هذا كلُّه كلام أحمد (4). والصَّلاة أول فُروض الإسلام، وهي آخر ما يُفْقَد من الدِّين، فهي _________ (1) بضمَّتين، أوبسكون الثاني، واستُعْمِل هذا البناء للمفرد والجمع، وهو الحبل الذي تُشدُّ به الخيمة، كما في المصباح (2/ 378)، واللِّسان (1/ 560). (2) ض وهـ وط: "انتفعت". (3) أخرجه الضِّياء في المختارة (7/ 145)، والطَّبراني في الأوسط (2/ 240)، من طريق إسحاق بن يوسف الأزرق عن القاسم بن عثمان البصري عن أنس رضي الله عنه بلفظ: "أوَّل ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصَّلاة؛ فإنْ صلحت صلح له سائر عمله، وإنْ فسدت فسد سائر عمله". والقاسم قال فيه البخاري: له أحاديث لا يتابع عليها، كما في الميزان للذهبي (3/ 375). (4) س: "الإمام أحمد". وتُنْظَر رسالة الصلاة لأحمد في: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (2/ 445).

(1/16)


أول الإسلام وآخره (1)، وكُلُّ شيءٍ ذهب أوله وآخره فقد ذهب جميعه. قال الإمام أحمد: كُلُّ شيءٍ يذهب آخره فقد ذهب جميعُه. فإذا ذهبت صلاة المرء ذهب دينُه (2). والمقصودُ أنَّ حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "لا يحلُّ دمُ امرءٍ مسلمٍ إلَّا بإحدى ثلاثٍ؛ الثَّيِّب الزَّاني، والنَّفس بالنَّفس، والتَّارك لدِيْنه" (3) = من أقوى الحجج في قتل تارك الصلاة. فصْلٌ واختلف القائلون بقتله في مسائل: أحدها: أنَّه هل يُسْتَتاب أم لا؟ فالمشهور أنَّه يُسْتَتاب، فإنْ تاب تُرِك، وإلَّا قُتِل. هذا قول الشَّافعي (4)، وأحمد (5)، وأحد القولين في مذهب مالك (6). _________ (1) بعده زيادة في هـ وط: "فإذا ذهب أوَّله وآخره فقد ذهب جميعُهُ". (2) بنحوه في: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (2/ 352). (3) تقدَّم (ص/8). (3) يُنْظَر: الأم (2/ 564)، والمجموع للنَّووي (3/ 17). (4) يُنْظَر: الكافي لابن قدامة (1/ 200)، والإنصاف للمرداوي (3/ 28). (5) يُنْظَر: الذَّخيرة للقرافي (2/ 484)، والتَّمهيد لابن عبدالبر (4/ 240).

(1/17)


وقال أبو بكر الطُّرْطُوشي (1) في "تعليقِهِ" (2): مذهب مالكٍ: أنَّه يُقَال له: صلِّ ما دام الوقت باقيًا، فإنْ فعل تُرِك، وإنْ امتنع حتى خرج الوقت قُتِل (3). وهل يُسْتتاب أم لا؟ قال بعض أصحابنا: يُسْتَتاب؛ فإنْ تاب وإلَّا قُتِل. وقال بعضهم (4): لا يُسْتَتاب؛ لأنَّ هذا حدٌّ من الحُدُود يُقام عليه، فلا تُسْقِطه التَّوبة (5)، كالزَّاني والسَّارق. _________ (1) هـ وط: "الطرطوسي"، بالسِّين المهملة، وكذا هو فيهما في الموضعين الآتيين، والصَّواب بالشين المعجمة، نِسبة إلى "طُرْطُوْشَة"، بضمِّ طائَيْهِ ــ وقد تفتح الأولى ــ وسكون الرَّاء وبالشين المعجمة: مدينةٌ بالأندلس. وهو: أبوبكر محمد بن الوليد بن خلَف القُرشي الفِهْري الأندلسي المالكي، نزيل الإسكندريَّة ومحدِّثها والمقبور بها، المعروف بـ"ابن أبي رُنْدَقَة"، توفي سنة 520 هـ، تُنْظَر: ترجمته في: وفيات الأعيان (4/ 265)، والسِّير للذَّهبي (19/ 194) وغيرهما. (2) ض: "نقله". والكتاب المشار إليه هو: "التَّعليقة"، أو"تعليقة الخلاف"، وهو في مسائل الخلاف، كما في الدِّيباج المذهب (276)، والأعلام للزِّركلي (7/ 134). (4) "قتل" ليست في س. (5) هو قول ابن حبيبٍ، كما في النَّوادر والزِّيادات (1/ 150). (6) ض: "يسقط بالتَّوبة".

(1/18)


وهذا القول يلزم من قال إنَّه يُقْتل حدًّا؛ فإنَّه إذا كان حدُّه على ترك الصلاة القتل، كان كمَنْ حَدُّهُ القتل (1) على الزِّنا والمحاربة، والحدود تجب (2) بأسبابها المتقدِّمة، ولا تُسقطها التَّوبة بعد الرَّفع إلى الإمام. وأمَّا مَن قال: يُقْتل لكفره فلا يلزمه هذا؛ لأنَّه جعله كالمرتدِّ؛ فإذا أسْلم سقط عنه القتل. قال الطُّرْطُوْشي: وهكذا حكم الطَّهارة، والغُسل من الجنابة، والصيام عندنا؛ فإذا قال: لا أتوضَّأُ، أو: لا أغتسل من الجنابة، أو: لا أصوم= قُتِل، ولم يُسْتَتب؛ سواء قال: هي فرضٌ عليَّ، أو جحد فرضها. قلتُ: هذا الذي حكاه الطُّرْطُوْشي عن بعض أصحابهم (3): أنَّه يُقْتَل من غير استتابة هو روايةٌ عن مالك (4). وفي استتابة المرتدِّ روايتان عن أحمد (5)، وقولان للشافعيِّ (6). _________ (1) س: "حدُّه حد القتل". (2) س: " .. وتجب". (3) ط: "أصحابه". (4) وحكاه عنه ابن عبدالبر في التَّمهيد (4/ 240). (5) يُنْظَر: الهداية لأبي الخطاب (2/ 109)، والإنصاف للمرداوي (27/ 114 - 118). (6) يُنْظَر: الأم للشَّافعي (2/ 571)، وروضة الطَّالبين (10/ 76).

(1/19)


ومن فرَّق بين المرتدِّ وبين تارك الصَّلاة في الاستتابة؛ فاستتاب المرتدَّ دون تارك الصلاة، كإحْدى الرِّوايتين عن مالك يقول (1): الظَّاهر أنَّ المسلم لا يترك دينه إلَّا لشُبْهةٍ عَرَضَت له، تمنعه البقاء عليه؛ فيُسْتَتاب رجاء زوالها. والتَّارك للصَّلاة مع إقراره بوجوبها عليه لا مانع له، فلا يُمهل (2). قال المستتيبون له: هذا قُتِل لترك واجبٍ شُرِعت له الاستتابة، فكانت واجبةً، كقتل الرِّدَّة. قالوا: بل الاستتابة ههنا (3) أولى؛ لأنَّ احتمال رجوعه أقرب؛ لأنَّ التزامه للإسلام يحمله على التوبة، ممَّا يخلِّصه من العقوبة في الدنيا والآخرة (4). وهذا القول هو الصَّحيح؛ لأنَّ أسوأ أحواله أن يكون كالمرتدِّ. وقد اتَّفق الصَّحابة على قبول توبة المرتدِّين ومانعي الزَّكاة، وقد قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال/38]. وهذا يعمُّ المرتدَّ وغيره. _________ (1) بنحوه في الإشراف لعبدالوهاب البغدادي (2/ 848). (2) س: "فهل يمهل". (3) ض وس: "بل ههنا". هـ: "استتابته .. ". (4) س: "عقوبة الدنيا والآخرة".

(1/20)


والفرق بين قتل هذا حَدًّا (1) وقتل الزَّاني والمحارب: أنَّ قتل تارك الصلاة إنَّما هو على إصْرَاره (2) على التَّرْك في المستقبل، وعلى التَّرْك في (3) الماضي. بخلاف المقتول في الحدِّ؛ فإنَّ سبب قتله الجناية المتقدِّمة على الحدِّ؛ لأنَّه لم يبق له سبيل إلى تداركها (4)، وهذا له سبيل إلى الاستدراك بفعلها بعد خروج وقتها عند الأئمة الأربعة وغيرهم. ومن يقول من أصحاب أحمد: لا سبيل له إلى الاستدراك ـ كما هو قول طائفةٍ من السَّلف ـ يقول: القتل ههنا على تركٍ، فيزول التَّرك بالفعل، وأمَّا الزِّنا والمحاربة (5) فالقتل فيهما على فِعلٍ، والفعل الذي مضى لا يزول بالتَّرك. فصْلٌ المسْألة الثَّانية: أنَّه لا يقتل حتى يُدْعَى إلى فعلها، فيمتنع. فالدُّعاء إليها شرطٌ في قتله؛ فإنَّه قد يتركها لعذرٍ، أو ما ظنَّه عذرًا، _________ (1) "حدًّا" ليس في ض. (2) ض: "إقراره". (3) "في" سقطت من هـ وط. (4) هـ: "تركها". (5) ض وس: "والحراب"، وفي هـ بياض.

(1/21)


والكسل (1) لا يستمرُّ؛ ولذلك أذن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة نافلةً خلف الأمراء الذين يؤخِّرُون الصلاة حتى يخرج الوقت، ولم يأمر بقتالهم، ولم يأذن في قتلهم؛ لأنَّهم لم يصرُّوا على التَّرك. فإذا دُعِي فامتنع ـ لا من عذرٍ ـ حتى يخرج الوقت تحقَّق تركه وإصراره. فصْلٌ المسْألة الثَّالثة: بماذا يُقْتل؟ هل بترك صلاةٍ، أو صلاتين، أو ثلاث صلوات؟ هذا فيه خلافٌ بين الناس. فقال سفيان الثوري، ومالك (2)، وأحمد ـ في إحدى الرِّوايات (3) ـ: يقتل بترك صلاةٍ واحدةٍ. وهو ظاهر مذهب الشَّافعي (4)، وأحمد (5). وحُجَّة هذا القول: ما تقدَّم من الأحاديث الدَّالة على قتل تارك الصَّلاة. وقد روى معاذ بن جبل رضي الله عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ تَرَك صلاةً مكتوبةً متعمِّدًا فقد بَرِئت منه ذِمَّةُ الله". رواه الإمام أحمد _________ (1) "شرطٌ في .. والكسل" ليس في هـ وط. (2) يُنْظَر: النَّوادر والزيادات لابن أبي زيد القيراوني (1/ 150). (3) هي رواية أبي طالبٍ، كما في المسائل الفقهيَّة من كتاب الروايتين (1/ 195). (4) كما في: الأم (2/ 563 - 564)، وهو قول جمهور أصحابه كما في الحاوي للماوردي (2/ 527)، وينظر: المجموع للنووي (3/ 17). (5) وهو المذهب عند الحنابلة، وعليه جمهورهم، كما في الإنصاف للمرداوي (3/ 28).

(1/22)


في "مسنده" (1). وعن أبي الدَّرداء رضي الله عنه قال: "أوصاني أبوالقاسم - صلى الله عليه وسلم - أنْ لا أترك الصَّلاة (2) متعمِّدًا، فمَنْ تركها (3) متعمِّدًا فقد بَرِئَت منه الذِّمَّة" (4). رواه عبدالرحمن بن أبي حاتم في "سننه" (5). _________ (1) (5/ 238)، وسيأتي تخريجه (ص/71). (2) ض وس: "صلاة". (3) س: "ترك صلاة". (4) سيأتي تخريجه (ص/72). (5) لم أقف على شيءٍ في شأن هذا الكتاب غير نفي ابن الملقن لوقوفه عليه حيث قال في البدر المنير (3/ 56): "لم نقف عليها، بل ولا سمعنا بها"، وكذا نفي الحافظ ابن حجر لوجود كتابٍ له بهذا الاسم، قال في التلخيص الحبير (1/ 162): "وأغرب الفخر [كذا! ولعل الصواب: المجد] ابن تيمية في شرح الهداية لأبي الخطاب، فنقل عن القاضي أبي يعلى أنَّه قال: ذكر هذا الحديث عبد الرحمن بن أبي حاتم البستي في كتاب السنن له، كذا قال! وابن أبي حاتم ليس هو بستيًّا، إنَّما هو رازيٌّ، وليس له كتابٌ يُقال له السُّنن". وقد عزا ابن تيميَّة في شرح العمدة (4/ 74) نحو هذا الحديث إلى ابن أبي حاتم في سننه، وعزا المصنِّف إلى كتابه هذا في غير موضعٍ من كتابه هذا، انظر (ص/70، 72)، وسمَّاه بالسُّنن أحيانًا، وبـ"الصَّحيح" أخرى، كما سيأتي، وهذا يدلُّ على أنَّ للكتاب وجودًا. إلَّا باحتمال أن يكون المصنِّف ناقلًا عن غيره. ولم أقف على من ذكر لابن أبي حاتم كتابًا بهذا الاسم أونحوه، ولكنَّهم عدُّوا في مصنَّفاته: "المسند". فالله أعلم!

(1/23)


ولأنَّه إذا دُعِي إلى فعلها في وقتها فقال: لا أصلِّي، ولا عذر له فقد ظهر إصْراره؛ فتعيَّن إيجاب قتله وإهْدار دمه. واعتبار التِّكرار ثلاثًا ليس عليه دليلٌ؛ من نصٍّ، ولا إجماعٍ، ولا قول صاحب، وليس أولى من اثنتين! وقال أبوإسحاق (1) ـ من أصحاب أحمد ـ: إنْ كانت الصلاة المتروكة تُجْمَع إلى ما بعدها كالظهر والعصر، والمغرب والعشاء (2) لم يُقْتَل حتى يخرج وقت الثانية؛ لأنَّ وقتَها وقت الأولى (3) في حال الجمع، فأوْرَث شبهةً ههنا. وإن كانت لا تُجْمع إلى ما بَعدها كالفجر (4)، والعصر، وعشاء الآخرة قُتِل بتركها وحدها؛ إذ لا شُبْهة ههنا في التَّأخير (5). وهذا القول حكاه إسحاق (6) عن عبدالله بن المبارك، أو عن وكيع _________ (1) هو ابن شَاقِلا، إبراهيم بن أحمد بن عمر بن حمدان، البزَّار البغدادي، شيخ الحنابلة في زمانه، كان رأسًا في الأصول والفروع، توفي سنة 369 هـ. ترجمته في: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (2/ 128)، والسِّير للذَّهبي (16/ 292). (2) س: "كالظهر والمغرب". (3) هـ وط: "وقتها الأولى"، س: "وقتٌ للأولى". (4) س: "كالصبح". (5) يُنْظَر: المغني لابن قدامة (3/ 354)، والإنصاف للمرداوي (3/ 29). (6) لعلَّه: ابن راهويه، وقد حكى المؤلِّف هذا القول عنه، كما سيأتي (ص/79).

(1/24)


ابن الجراح. الشَّكُّ من إسحاق في تعيينه (1). قال أبو البركات ابن تيمية: والتَّسوية أصحُّ، وإلحاق التارك ههنا بأهل الأعذار في الوقت لا يصحُّ، كما لم يصحَّ إلحاقه بهم في أصل التَّرك. قلتُ: وقول أبي إسحاق أقوى وأفْقَهُ؛ لأنَّه قد ثبت أنَّ هذا الوقت للصَّلاتين في الجملة؛ فأورث ذلك شبهةً في إسقاط القتل (2). ولأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - منع مِنْ (3) قتال الأمراء المؤخِّرين الصَّلاةَ عن وقتها. وإنَّما كانوا يؤخِّرون الظهر إلى وقت العصر، وقد يؤخِّرون العصر إلى آخر وقتها. ولمَّا قيل له: ألَا نقاتلهم؟ قال: "لا، ما صلوا" (4). فدلَّ على أنَّ ما فعلوه صلاة يعصِمون بها دماءَهم. _________ (1) وقد أسند ابن نصر في تعظيم قدر الصلاة (2/ 928) عن وكيع بن الجرَّاح نحو ما حكاه عنه إسحاق. وفيه أيضًا (2/ 928): عن وكيع في الرجل يحضُرُه وقت صلاةٍ فيُقَال له: صلِّ فلا يصلِّي؟ قال: "يُؤْمَر بالصَّلاة، ويستتاب ثلاث صلواتٍ، فإنْ صلَّى وإلَّا قُتِل". وأمَّا ابن المبارك فأسند عنه (2/ 926) قوله: "من ترك الصلاة متعمِّدًا، لغير علَّةٍ حتى أدخل وقتًا في وقت فهو كافر". (2) واستحسنه ابن قدامة في المغني (3/ 543). (3) ض و هـ وط: "قتل". (4) تقدَّم تخريجه (ص/11).

(1/25)


فصْلٌ وعلى هذا فمتى دُعِي إلى الصَّلاة في وقتها، فقال: لا أُصَلِّي، وامتنع حتى فاتت وجب قتله، وإنْ لم يتضيَّق وقت الثَّانية. نصَّ عليه الإمام أحمد (1). وقال القاضي وأصحابه، كأبي الخطَّاب وابن عقيل: لا يُقْتَل حتى يتضايق وقت التي بعدها (2). قال الشيخ أبو البركات: من دُعِي إلى صلاةٍ في وقتها، فقال: لا أصلِّي، وامتنع حتى فاتت وجب قتلُه، وإنْ لم يتضيَّق وقت الثَّانية، نصَّ عليه. قال: وإنَّما اعتبرنا تضايق وقت الثانية في المثال الذي ذكره ـ يعني: أبا الخطَّاب ـ لأنَّ القتل بتركها دون الأولى؛ لأنَّه لمَّا دُعِي إليها كانت فائتةً، والفوائت لا يقتل تاركها. ولفظ أبي الخطَّاب الذي أشار إليه: فإن أخَّر (3) الصَّلاة حتى خرج وقتها جاحدًا لوجوبها كَفَر، ووجب قتله. فإنْ أخَّرها (4) تهاونًا ـ لا جُحودًا لوجوبها ـ دُعِيَ إلى فِعلها، فإنْ لم _________ (1) الإنصاف للمرداوي (3/ 29). (2) الهداية لأبي الخطَّاب (1/ 24). (3) الهداية: "تَرَك". (4) الهداية: "تركها".

(1/26)


يفعلها حتى تضايق وقت التي بعدها وجب قتلُه (1). فالتي أخَّرها تهاونًا هي التي أخَّرها حتى خرج وقتها، فدُعِي إليها بعد خروج وقتها؛ فإذا امتنع من فعلها حتى تضايق وقت الآخرة التي بعدها (2) كان قتله بتأخير الصلاة التي دُعِي إليها حتى تضايق وقتها. هذا تقرير ما ذكره الشيخ. قال: وقال بعض أصحابنا: يُقْتل لترك الأولى، ولترك قضاء كُلِّ فائتةٍ إذا أمكنه من غير عذرٍ؛ لأنَّ القضاء عندنا على الفور (3). فعلى هذا لا يعتبر تضايق وقت الثَّانية. قال: والأوَّل أصحُّ؛ لأنَّ قضاء الفوائت موسَّعٌ على التَّراخي عند الشافعي وجماعة من العلماء، والقتل لا يجب لمختلفٍ (4) في إباحته وحظره. وعن أحمد روايةٌ أخرى (5)، أنَّه إنَّما يجب قتله إذا ترك ثلاث صلواتٍ، _________ (1) الهداية لأبي الخطَّاب (1/ 25). (2) س: "وقت التي بعدها". (3) يُنْظر: الإنصاف للمرداوي (3/ 30). (4) س: "بمختلفٍ"، ط: "في مختلفٍ". (5) هي رواية يعقوب بن بختان، كما في المسائل الفقهيَّة من كتاب الرِّوايتين لأبي يعلى (1/ 195)، ويُنْظَر أيضًا: الإنصاف للمرداوي (3/ 29).

(1/27)


وتضايق وقت الرَّابعة. وهذا اختيار الإصْطَخْرِي (1) من الشَّافعية (2). ووجه هذا القول: أنَّ الموجب للقتل هو الإصرار على ترك الصلاة، والإنسان قد يترك الصلاة والصَّلاتين لكسلٍ، أوضجَرٍ، أوشغلٍ يزول قريبًا ولا يدوم؛ فلا يُسَمَّى بذلك تاركًا للصلاة. فإذا تكرَّر (3) التَّرك مع الدُّعاء إلى الفعل عُلِم أنَّه إصرارٌ. وعن أحمد روايةٌ ثالثةٌ: أنَّه يجب قتله بترك صلاتين (4). ولهذه الرِّواية مأخذان: أحدهما: أنَّ التَّرك الموجب للقتل هو التَّرك المتكرِّر، لا مطلق التَّرك، حتى يطلق عليه أنَّه تارك الصلاة، وأقل ما يثبت به الترك المتكرِّر مرَّتان (5). المأخذ الثَّاني: أنَّ من الصَّلاة ما تُجْمَع إحداهنَّ إلى الأخرى، فلا _________ (1) هو الحسن بن أحمد بن يزيد الشَّافعي، أبوسعيد القاضي، فقيههم بالعراق، وأحد أئمَّتهم وأصحاب الوجوه فيهم، توفي سنة 328 هـ، ترجمته في: طبقات الشَّافعية الكبرى لابن السُّبكي (3/ 230)، والسِّير للذَّهبي (15/ 250). (2) يُنْظَر: المهذَّب للشيرازي (1/ 51)، والحاوي للماوردي (2/ 527). (3) ط: "كرَّر". (4) يُنْظَر: الإنصاف للمرداوي (3/ 29). (5) هـ وط: "مرتين".

(1/28)


يتحقَّق تركها إلَّا بخروج وقت الثانية، فجعل ترك الصَّلاتين موجبًا للقتل. وأبوإسحاق وافق هذه الرِّواية في المجموعتين، ووافق رواية القتل بالواحدة في غير المجموعتين (1). فصْلٌ وحُكْم ترك الوضوء، والغسل من الجنابة، واستقبال القبلة (2)، وستر العورة حُكْم تارك الصَّلاة. وكذلك حكم ترك القيام للقادر عليه هو كترك الصَّلاة، وكذلك ترك الركوع والسجود. وإنْ تَرَك ركنًا أو شرطًا مختلفًا فيه وهو يعتقد وجوبه، فقال ابن عقيل (3): حكمُه حكمُ تارك الصلاة، ولا بأس أنْ نقول بوجوب قتله (4). وقال الشيخ أبو البركات: عليه الإعادة، ولا يقتل من أجل ذلك بحالٍ (5). فوجه قول ابن عقيل: أنَّه تاركٌ للصلاة عند نفسه وفي عقيدته، فصار _________ (1) "ووافق .. غير المجموعتين" تفرَّدت بها س. (2) "استقبال" ليست في ض. (3) "ابن عقيل" ليست في ض. (4) الإنصاف للمرداوي (3/ 35)، وقال عنه: "على الصَّحيح من المذهب". (5) الإنصاف للمرداوي (3/ 35). وهو اختيار ابن قدامة في المغني (3/ 359).

(1/29)


كتارك الركن (1) والشَّرط المجمع عليه. ووجه قول أبي البركات: أنَّه لا يُبَاح الدَّم بترك المختلف في وجوبه، وهذا أقرب إلى مأخذ الفقه. وقول ابن عقيل أقرب إلى الأصول؛ فإنَّ تارك ذلك عازمٌ وجازمٌ على الإتيان بصلاةٍ باطلةٍ، فهو كما (2) لو ترك مُجْمَعًا عليه. وللمسألة غورٌ بعيدٌ يتعلَّق بأصول الإيمان، وأنَّه من أعمال القلوب واعتقادها.

  فصْلٌ في حكم تارك الجمعة

روى مسلمٌ في "صحيحه" (3) من حديث ابن مسعود: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لقومٍ يتخلَّفُون عن الجمعة: "لقد همَمْت أنْ آمر رجلًا يصلِّي بالنَّاس، ثم أحرِّق على رجالٍ يتخلَّفون عن الجمعة بيوتهم". وعن أبي هريرة (4) وابن عمر أنَّهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على أعواد مِنبره: "لينتهينَّ أقوامٌ عن وَدْعهم الجمعات، أوليختمنَّ الله على قلوبهم، ثم ليكونُنَّ من الغافلين"، رواه مسلم في "صحيحه" (5). _________ (1) ض وهـ وط: "كتارك الزَّكاة". (2) س: "فهو فيها كما". (3) حديث (652). (4) هـ: "أبي برزة". وليس في مسلم غير حديث أبي هريرة وابن عمر. (5) حديث (865).

(1/30)


وفي "السُّنن" كلِّها (1)، من حديث أبي الجَعْد الضَّمْري (2) ـ وله صحبةٌ ـ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ ترك ثلاث جُمَعٍ تهاونًا طبع الله على قلبه". ورواه الإمام أحمد من حديث جابرٍ (3). وأخطأ على الشَّافعي من نسب إليه القول بأنَّ صلاة الجمعة فرضٌ على الكفاية، إذا قام بها قومٌ سقطت عن الباقين؛ فلم يقل الشَّافعي هذا قطُّ، وإنَّما غلط عليه من نسب ذلك إليه بسبب قوله في صلاة العيد: إنَّها تجب على من تجب عليه صلاة الجمعة (4). بل هذا نصٌّ من الشَّافعي أنَّ صلاة العيد واجبةٌ على الأعيان. _________ (1) أبو داود (1052)، والنَّسائي (1370)، والترمذي (500)، وابن ماجه (1125)، من طريق محمد بن عَمْرو عن عبيدة بن سفيان الحضرمي عن أبي الجعد الضمري به. حسَّنه الترمذي وقال: "لا نعرف هذا الحديث إلَّا من حديث محمد ابن عَمْرو"، ثم نقل قول البخاري: "لا أعرف له عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا هذا الحديث". وصحَّحه ابن حبان (2786) والحاكم (1/ 415) وابن السَّكن كما في التلخيص الحبير (2/ 52). (2) ض وس: "ابن الجعد"، ط: "الضميري". وأبوالجعد صحابيٌّ اسمه: أدْرع، وقيل: عَمْرو بن بكر، وقيل: جنادة، وسأل الترمذيُّ البخاريَّ عن اسمه فلم يعرفه. تُنْظَر ترجمته في: تهذيب الكمال (33/ 188)، والإصابة لابن حجر (7/ 65). (3) المسند (3/ 332). (4) بنحوه في الأم (2/ 518) قال: "ولا أرخِّص لأحدٍ في ترك حضور العيدين ممَّن تلزمه الجمعة".

(1/31)


وهذا هو الصَّحيح في الدَّليل؛ فإنَّ صلاة العيد من أعظم (1) شعائر الإسلام الظَّاهرة، ولم يكن يتخلَّف عنها أحدٌ من أصحاب (2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا تركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّةً واحدةً. ولو كانت سُنَّةً لتَرَكها ولو مرَّةً واحدةً (3)، كما تَرَك قيام رمضان؛ بيانًا لعدم وجوبه، وترك الوضوء لكلِّ صلاةٍ؛ بيانًا لعدم وجوبه، وغير ذلك. وأيضًا فإنَّه سبحانه وتعالى أمر بالعيد كما أمر بالجمعة، فقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر/2] (4). وأَمَر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّحابة أنْ يغدوا إلى مصلَّاهم لصلاة العيد بعد أنْ فات وقتها (5)، وثَبَت الشَّهر بعد الزَّوال (6). _________ (1) س: "العيدين من .. "، ط: "أعاظم". (2) س: "الصحابة". (3) "ولو مرة واحدة" ليست في ض. (4) وجه الدلالة ههنا أنَّ جمعًا من المفسِّرين ذهبوا إلى أنَّ المراد بقوله: {فَصَلِّ}: صلاة العيد، ومن هؤلاء: سعيد بن جبير، وقتادة، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة. يُنْظَر في ذلك: تفسير ابن جرير (24/ 693 - 695)، والدُّر المنثور للسيوطي (15/ 705 - 706). (5) س: "أن يعودوا .. ". وكلمة: "وقتها" ليست في س. (6) يشير إلى ما أخرجه أحمد (5/ 57)، وأبو داود (1157)، والنسائي (1558)، وابن ماجه (1653)، وغيرهم، من حديث أبي عمير بن أنسٍ عن عمومةٍ له من أصحابه - صلى الله عليه وسلم -: "أنَّ قومًا رأوا الهلال فأتوا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأمرهم أن يفطروا بعدما ارتفع النهار .. الحديث". وقد صحَّحه إسحاق، وابن المنذر، وابن السَّكن، والخطَّابي، وغيرهم. ... = = وقد أعلَّه ابن القطَّان في بيان الوهم (2/ 597) بجهالة أبي عميرٍ. وأجيب عن هذه العِلَّة بمعرفة الرَّاوي عند من صحَّح له، وتوثيق ابن سعد وابن حبَّان. ويُنْظَر: فتح الباري لابن رجب (8/ 462)، والمحرَّر لابن عبدالهادي (176)، والبدر المنير لابن الملقِّن (5/ 95)، والتلخيص الحبير (2/ 87)، وإرواء الغليل (634). وأخرجه ابن حبَّان (3456)، والضِّياء في المختارة (7/ 104)، وغيرهما، من حديث سعيد بن عامر عن شعبة عن قتادة عن أنسٍ رضي الله عنه نحوه. وقد أعلَّه البخاري بما قبله ووهَّم سعيدًا فيه، كما في علل الترمذي (1/ 334)، وأبوحاتمٍ في علل ابنه (402)، والبزَّار (كشف/872)، والدَّارقطني في علله (2523)، وابن حجر في إتحاف المهَرة (16/ 760).

(1/32)


وأمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - العواتق وذوات الخدور والحُيَّض (1) أنْ يخرجْن إلى العيد، وتعتزل الحُيَّض المصلَّى (2) (3)، ولم يأمر بذلك في الجمعة. قال شيخنا: "فهذا يدلُّ على أنَّ العيد آكد من الجمعة" (4). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خمسُ صلواتٍ كتبهُنَّ الله على العبد في اليوم واللَّيلة" (5) _________ (1) هـ: "وذوات الحيض". (2) س: "ويعتزل .. "، هـ: "ويعتزلن المصلى"، ط: "ويعتزلن الحيض المصلى". (3) يشير إلى ما أخرجه البخاري (974)، ومسلم (890) من حديث أمِّ عطيَّة رضي الله عنها. (4) يعني: ابن تيمية. ويُنْظَر: مجموع الفتاوى (24/ 181، 183). (5) سيأتي تخريجه قريبًا.

(1/33)


لا ينفي صلاة العيد؛ فإنَّ الصَّلوات الخمس وظيفة اليوم واللَّيلة، وأمَّا العيد فوظيفة العام. ولذلك لم يمنع ذلك من وجوب ركعتي الطَّواف عند كثير من الفقهاء أنَّها (1) ليست من وظائف اليوم والليلة المتكرِّرة. ولم يمنع وجوب صلاة الجنازة. ولم يمنع من وجوب سجود التِّلاوة عند من أوجبه وجعله صلاةً. ولم يمنع من وجوب صلاة الكسوف عند من أوجبها من السَّلف. وهو قولٌ قويٌّ جدًّا. والمقصود: أنَّ الشَّافعي رحمه الله تعالى نصَّ على أنَّ من وَجَبَت (2) عليه الجمعة وجب عليه العيد. ولكن قد يُقال: إنَّ هذا لا يُستفاد منه وجوبه على الأعيان؛ فإنَّ فرض الكفاية يجب على الجميع، ويسقط بفعل البعض. وفائدة ذلك تظهر في مسألتين (3): إحداهما (4): أنَّه لو اشترك الجميع في فعله أُثِيبوا ثواب من أدَّى الواجب؛ لتعلُّق الوجوب بهم. الثَّانية: لو اشتركوا في تركه استحقَّ الجميع الذَّم والعقاب. فلا يلزم من قوله: "تجب صلاة العيد على مَنْ تجب عليه صلاة _________ (1) ض وس: "لأنَّها". (2) س: "وجب". (3) ط: "المسألتين". (4) ط وس: "أحدهما".

(1/34)


الجمعة" أنْ تكون واجبةً على الأعيان ـ كالجمعة ـ، فهذا يمكن أنْ يُقال؛ ولكن ظاهر تشبيهه العيد بالجمعة، والتَّسوية بين مَن تجب عليه الجمعة ومن يجب عليه العيد يدلُّ على استوائهما في الوجوب، ولا يختلف قوله إنَّ الجمعة واجبة على الأعيان، فكذا العيد. والمقصود بيان حكم تارك الجمعة. قال أبوعبدالله ابن حامد: ومَنْ جحد وجوب الجمعة كفر. فإنْ صلَّاها ظهرًا أربعًا (1) مع اعتقاد وجوبها ـ قال: ـ فإنْ قلنا: هي ظهرٌ مقصورةٌ لم يكفر، وإلَّا كفر (2). وهل يلحق تارك الصَّوم والحج والزَّكاة بتارك الصلاة في وجوب قتله؟ فيه ثلاث رواياتٍ عن الإمام أحمد (3). إحداها: يُقْتَل بترك ذلك كلِّه، كما يُقْتَل بترك الصلاة. وحُجَّة هذه الرِّواية: أنَّ الزَّكاة والصِّيام والحج من مباني الإسلام، فيقتل بتركها جميعًا كالصلاة؛ ولهذا قاتل الصِّدِّيق مانعي الزكاة، وقال: "والله لأقاتِلَنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة، إنَّها لقرينتها في كتاب الله" (4). _________ (1) هـ وط: "صلَّاها أربعًا". (2) المبدع لابن مفلح (1/ 308). (3) الإنصاف للمرداوي (3/ 34). (4) أخرجه البخاري (1399)، ومسلم (20)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(1/35)


وأيضًا: فإنَّ هذه المباني من حقوق الإسلام، والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُؤْمَر برفع القِتَال إلَّا عمَّن التزم كلمة الشهادة وحقَّها، وأخبر أنَّ عِصمة الدَّم لا تثبت إلَّا بحقِّ الإسلام؛ فهذا القتال للفئة الممتنعة. والقتل للواحد المقدور عليه إنَّما هو لترك (1) حقوق الكلمة وشرائع الإسلام، وهذا أصحُّ الأقوال. والرِّواية الثَّانية: لا يُقتل بترك غير الصَّلاة؛ لأنَّ الصَّلاة عبادة بدنيَّة لا تدخلها (2) النِّيابة بحال، والصَّوم والحج والزَّكاة (3) تدخلها النِّيابة، ولقول عبدالله بن شقيق: "كان أصحاب محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - لا يَرَوْن شيئًا من الأعمال تركه كفرٌ إلَّا الصَّلاة" (4). ولأنَّ الصَّلاة قد اختصَّت من سائر (5) الأعمال بخصائص ليست _________ (1) س: "كترك". (2) ض: "يدخلها"، وكذا في الموضع التالي. (3) ط: "والحج والصوم والزكاة". (4) أخرجه الترمذي (2622)، وابن نصر في تعظيم قدر الصلاة (948) من طريق بشر بن المفضل عن الجريري عن عبدالله بن شقيق به. وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 22) من طريق بشرٍ عن الجريري لكنه جعله عن عبدالله بن شقيق عن أبي هريرة، وصحَّحه، وقال الذهبي: "إسناده صالحٌ"، وصحَّحه الألباني في الصَّحيحة ضمن الحديث (87). (5) س: "من بين سائر".

(1/36)


لغيرها؛ فهي أول ما فرض الله من الإسلام؛ ولهذا أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - نوَّابَه ورسلَه (1) أنْ يبدؤوا بالدَّعوة إليها بعد الشَّهادتين (2)؛ فقال لمعاذٍ: "إنَّك ستأتي قومًا أهلَ كتابٍ، فلْيكن أوَّلَ ما تدعوهم إليه شهادة أنْ لا إله إلَّا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، فإنْ هم أطاعوك بذلك فأعلمهم (3) أنَّ الله تعالى فَرَض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة" (4) الحديث (5). ولأنَّها أول ما يحاسب عليها العبد من عمله. ولأنَّ الله فرضها في السماء ليلة المعراج. ولأنَّها أكثر الفروض ذكرًا في القرآن، ولأنَّ أهل النَّار لمَّا سُئِلُوا (6): {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر/42] لم يبدؤوا بشيءٍ غير ترك الصلاة. ولأنَّ فرضَها (7) لا يسقط عن العبد بحال دون حال (8) ما دام عقله معه، بخلاف سائر الفروض، فإنَّها تجب (9) في حال دون حالٍ. _________ (1) ض وس: "رسله ونوَّابه". (2) ض وس: "الشهادة". (3) "فإنْ .. فأعلمهم" ليست في هـ وط. وفي س: "أطاعوا لك بذلك .. ". (4) أخرجه البخاري (4347)، ومسلم (19). (5) "الحديث" ليست في هـ وط. (6) ط: "يسألوا". (7) ض: "ولأنَّ الله فرضها". (8) "دون حال" ليست في س. (9) "فإنَّها تجب" ليست في ط، وفي هـ: "فتجب".

(1/37)


ولأنَّها عمودُ فُسْطاط الإسلام، وإذا سقط عمود الفُسْطاط وقع (1) الفُسْطاط. ولأنَّها آخر ما يُفْقد من الدِّين. ولأنَّها فرضٌ على الحُرِّ والعبد، والذَّكر والأنثى، والحاضر والمسافر، والصَّحيح والمريض، والغني والفقير. ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل من أجابه إلى الإسلام إلَّا بالتزام الصلاة، كما قال قتادة عن أنس: "لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل من أجابه إلى الإسلام إلَّا بإقام الصلاة (2) وإيتاء الزكاة" (3). ولأنَّ قبول سائر الأعمال موقوفٌ على فعلها، فلا يقبل الله من تاركها صومًا، ولا حجًّا، ولا صَدقةً، ولا جهادًا، ولا شيئًا من الأعمال؛ كما قال عون بن عبدالله: "إنَّ العبد إذا دخل قبره سُئِل عن صلاته أول _________ (1) هـ وط: "فوقع". (2) س: " .. من يجيب إلى الإسلام إلَّا بالتزام إقام الصلاة ... ". (3) أخرجه ابن نصر في تعظيم قدر الصَّلاة (12) من طريق عروة بن مروان الخزاز [كذا! والصَّواب: الجرَّار] العِرْقي ثنا عمير [كذا! ولعلَّ الصَّواب: عمر] بن المغيرة عن أبي العوَّام عن قتادة عن أنسٍ رضي الله عنه به. وفي إسناده أبوالعوَّام، فإن كان عمران بن دَاوَر القطَّان فقد ضعَّفه ابن معين وأبوداود والنَّسائي، وقال ابن عديٍّ: يُكْتَب حديثه. يُنْظَر: تهذيب الكمال للمزِّي (22/ 328)، والميزان للذَّهبي (3/ 236). وفيه أيضًا: عروة بن مروان، قال الدَّارقطني: ليس بقويٍّ في الحديث، يُنْظَر: الميزان للذَّهبي (3/ 64).

(1/38)


شيء يُسْأَل عنه؛ فإنْ جازت له نُظِر فيما سوى ذلك من عمله، وإنْ لم تجز له (1) لم ينظر في شيءٍ من عمله بعد" (2). ويدلُّ على هذا: الحديثُ الذي في "المسند" (3)، و"السُّنن" (4)، من رواية أبي هريرة عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أول ما يُحَاسب به العبد من عمله يُحَاسب بصلاته، فإنْ صلحت فقد أفْلَح وأنْجَح، وإنْ فسدت فقد خاب وخسر". ولو قُبِل منه شيءٌ من أعمال البِرِّ لم يكن من الخائبين الخاسرين. والرواية الثَّالثة: يُقْتَل بترك الزَّكاة والصِّيام (5)، ولا يُقْتَل بترك الحج؛ لأنَّه مختلفٌ فيه، هل هو على الفور، أوعلى التَّراخي. فمَن قال: "هو على التراخي" قال: كيف يُقتَل بتأخير شيءٍ موسَّعٍ له (6) في تأخيره؟ وهذا المأخذ ضعيفٌ جدًّا؛ لأنَّ من يقتله بتركه لا يقتله (7) بمجرَّد _________ (1) "وإن لم تجز له" ليست في هـ، وفي س: "يجز". (2) أخرجه ابن نصر في تعظيم قدر الصلاة (194) من طريق أحمد بن منصور عن سعيد ابن أبي مريم عن يحيى بن أيوب عن ابن عجلان عن عون بن عبدالملك (كذا!) به. والإسناد حسن. (3) (2/ 425) من طريق أنس بن حكيم عن أبي هريرة بنحو لفظه، وسيأتي تخريجه والكلام عليه قريبًا. (4) الترمذي (413)، والنسائي (466). وسيأتي تخريجه قريبًا. (5) س: "الصلاة والصيام". (6) ط: "بأمرٍ موسعٍ له". (7) ض: "فإنَّ من تقتله بتركٍ لا تقتله".

(1/39)


التأخير اتِّفاقًا، وإنَّما صورة المسألة: أنْ يعزم على تركه جملةً (1)، ويقول: هو واجبٌ عليَّ ولا أحجُّ أبدًا= فهذا موضع النِّزاع. والصَّواب: القول بقتله؛ لأنَّ الحجَّ (2) من حقوق الإسلام، والعصمة لم تثبت (3) لمن تكلَّم بالإسلام، إلَّا بحقِّه، والحج من أعظم حقوقه (4). فصْلٌ وأمَّا المسألة الرَّابعة (5): وهي أنَّه هل يقتل حدًّا، كما يقتل المحارب والزَّاني، أم يُقتل كما يُقتَل المرتدُّ والزِّنْديق؟ هذا فيه قولان للعلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد (6). إحداهما: يُقتَل كما يُقتَل المرتد. وهذا قول سعيد بن جبير، وعامر الشعبي، وإبراهيم النخعي، وأبي عمرو الأوزاعي، وأيوب السختياني، وعبدالله بن المبارك، وإسحاق بن راهويه (7). _________ (1) ط: "ترك الحجِّ". (2) س: "لأنَّه من". (3) ط: "والعصمة تثبت". (4) ض: "والحج أعظم". (5) ط: "الثالثة"، س: "الثانية"، والصَّحيح: "الرابعة"، إذ تقدَّمت الثَّانية (ص/21) والثَّالثة (ص/22). (6) يُنْظَر: الإنصاف للمرداوي (3/ 35 - 40) والمبدع (1/ 307). (7) يُنْظَر في نسبة هذا القول لهم ولغيرهم: المغني لابن قدامة (3/ 354).

(1/40)


وعبدالملك بن حبيب من المالكيَّة (1)، وأحد الوجهين في مذهب الشافعي (2). وحكاه الطَّحاوي (3) عن الشَّافعي نفسه. وحكاه أبومحمد ابن حزمٍ (4) عن عمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل، وعبدالرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وغيرهم من الصَّحابة. والثَّانية: يُقْتَل حدًّا، لا كفرًا. وهو قول مالكٍ (5)، والشَّافعي (6)، واختار أبوعبدالله ابن بطَّة (7) هذه الرِّواية (8). _________ (1) النَّوادر والزِّيادات لابن أبي زيد القيرواني (1/ 150 - 151). (2) يُنْظَر: المجموع للنَّووي (3/ 17)، وروضة الطَّالبين له (6/ 146)، وحكاه عن منصور الفقيه وأبي الطَّيِّب ابن سلمة من أصحابهم، وجعله قولًا شاذًّا عندهم. (3) شرح مشكل الآثار (8/ 205). (4) المحلَّى (2/ 242). (5) النَّوادر والزِّيادات (1/ 150 - 151)، والشَّرح الكبير للدَّردير (1/ 190). (6) يُنْظَر: المجموع للنَّووي (3/ 18)، وقال: إنَّه المذهب عندهم. (7) هو عبيد الله بن محمد العكبري الحنبلي المحدِّث، توفي سنة 387 هـ، ترجمته في: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (2/ 144) والسِّير للذهبي (16/ 529). (8) يعني: من الحنابلة. وكلامه في الإبانة الصغرى (183) وأطلق التكفير في الكبرى (2/ 669، 683) أفاده الدكتور سليمان العمير. وهو أيضًا اختيار المجد ابن تيميَّة وابن عبدوس وابن تميم وموفَّق الدِّين ابن قدامة. يُنْظَر: المغني (3/ 355 - 359)، والمبدع لابن مفلح (1/ 307)، والإنصاف للمرداوي (3/ 38 - 40).

(1/41)


ونحن نذكر حُجَج الفريقين. قال الذين لا يكفِّرونه (1) بتركها: قد ثَبَت له حكم الإسلام بالدُّخول فيه، فلا نخرجه منه إلَّا بيقين. قالوا: وقد روى عبادة بن الصامت عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "مَنْ شهد أنْ لا إله إلَّا الله وحده لاشريك له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأنَّ عيسى عبدالله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حقٌّ، والنار حقٌّ= أدخله الله الجنَّة على ما كان من العمل". أخرجاه في "الصَّحيحين" (2). وعن أنسٍ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال ـ ومعاذٌ رديفه على الرَّحل ـ: "يا معاذ"، قال: لبَّيك يا رسول الله وسَعْديك ـ ثلاثًا ـ، قال: "ما مِنْ عبدٍ يشهد أنْ لا إله إلَّا الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله إلَّا حرَّمه الله على النَّار". قال: يا رسول الله، أفلا أخبر بها الناس، فيستبشروا؟ (3) قال: "إذًا يتَّكِلُوا (4) ". فأخبر بها معاذ عند موته تأثُّمًا. متَّفقٌ على صِحَّته (5). وعن أبي هريرة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أسعد النَّاس بشفاعتي من قال: _________ (1) س: "لم يكفِّروه". (2) البخاري (3435)، ومسلم (28). (3) هـ وط: "فيستبشرون". (4) هـ: "يتكلون". (5) البخاري (128)، ومسلم (230).

(1/42)


لا إله إلَّا الله، خالصًا (1) من قلبه". رواه البخاري (2). وعن أبي ذرٍّ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قام بآيةٍ من القرآن يردِّدُها حتى صلَّى (3) الغداة، قال: "ودَعَوْتُ لأُمَّتي وأُجِبْتُ بالذي لو اطَّلَعَ عليه كثيرٌ منهم تركوا الصَّلاة". فقال أبوذرٍّ: أفلا أبشِّر النَّاس؟ قال: "بلى". فانطلق، فقال عمر: إنَّك إنْ تبعث إلى الناس بهذا يتَّكلوا (4) عن العبادة، فناداه: أنْ ارجع، فرجع. والآية: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة/118]. رواه الإمام أحمد في "مسنده" (5). _________ (1) س: "خالصًا مخلصًا". (2) حديث (99). (3) ط: "صلاة". (4) كذا في النسخ كلها، وكذا في مسند البزار. وفي مسند أحمد: "ينكلوا" بالنون. (5) (5/ 170). وأخرجه البزار (9/ 449)، وغيرهما، من طريق قدامة بن عبدالله قال: حدثتني جسرة بنت دِجاجة عن أبي ذرٍّ به. وأخرجه مختصرًا مقتصرًا على ذكر قيامه - صلى الله عليه وسلم - بالآية وترديده لها، دون باقي الحديث من طريق قدامة عن جسرة به: النَّسائي (1010)، وابن ماجه (1350)، والحاكم (1/ 367)، وقال: "صحيحٌ"، وابن خزيمة تعليقًا (1/ 271)، وقال: "إنْ صحَّ الخبر! ". وفي إسناده: جسرة بنت دِجاجة، قال البخاري في التاريخ (2/ 67): "عند جسرة عجائب". قال ابن القطَّان الفاسي في بيان الوهم (5/ 331): "قول البخاري إنَّ عندها عجائب لا يكفي لمن يسقط ما روت"، ووافقه ابن الملقِّن في البدر المنير (2/ 561). لذا فقد حسَّن الحديث بلفظه المختصر ابنُ القطَّان في بيان الوهم (5/ 323، 701) ردًّا على تضعيف عبدالحقِّ له، وحسَّنه النَّووي في الخلاصة (1/ 595)، وصحَّح إسناده العراقي في تخريجه للإحياء (1/ 231)، والبوصيري في مصباح الزُّجاجة (1/ 159).

(1/43)


وفي "المسند" (1) ـ أيضًاـ من حديث عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدَّواوين عند الله عز وجل ثلاثة (2)؛ دِيوانٌ لا يعبأ الله به شيئًا، ودِيوان لا يترك الله منه شيئًا، ودِيوان لا يغفره الله. فأمَّا الدِّيوان الذي لا يغفره الله (3): فالشِّرك (4)، قال الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ (5) بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة/72]. وأمَّا الدِّيوان الذي لا يعبأ الله به شيئًا: فظلم العبد نفسَه فيما بينه وبين ربِّه؛ من صومٍ تركه أوصلاةٍ تركها؛ فإنَّ الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز عنه إنْ شاء. وأمَّا الدِّيوان الذي لا يترك الله منه شيئًا: فظلم العباد بعضهم بعضًا؛ القِصاص لا محالة". وفي "المسند" (6) ـ أيضًاـ عن عبادة بن الصَّامت قال: سمعت رسول الله _________ (1) (6/ 240) من طريق صدقة بن موسى عن أبي عمران الجوني عن يزيد بن بابنوس عن عائشة به. وفي إسناده: صدقة بن موسى، وهو الدَّقيقي. ضعَّفه ابن معين والنَّسائي وغيرهما، كما في: ميزان الاعتدال للذَّهبي (2/ 312). (2) ط: "ثلاث". (3) "منه شيئًا .. لا يغفره الله" ليست في هـ. (4) ض: "فالشرك بالله تعالى". (5) ض: {وَمَنْ يُشْرِكْ}. (6) (5/ 315). وأخرجه مالك (1/ 123)، وأبوداود (1420)، والنسائي (462)، وابن ماجه (1401)، والضياء في المختارة (8/ 365)، وغيرهم، من طريق محمد بن يحيى ابن حِبَّان عن عبدالله بن محيريز أنَّ رجلًا من بني كنانة يُدْعَى المخدجي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه به. والمخدجي اسمه: أبورفيع، أو رفيع. ذكره ابن حبَّان في ثقاته (5/ 571). ترجمته في: تهذيب الكمال للمزي (33/ 315). ... = = ... وأخرجه أحمد (5/ 317)، وأبوداود (425)، والضياء (8/ 320)، وغيرهم، من طريق عطاء بن يسار عن عبدالله بن الصنابحي عن عبادة نحوه. ورُوِيَ من طرقٍ أخرى. وقد صحَّح الحديث: ابن عبدالبر في التمهيد (4/ 184)، وابن الملقن في البدر المنير (5/ 389)، والألباني في الصحيحة (842)، وغيرهم.

(1/44)


- صلى الله عليه وسلم - يقول: "خمس صلواتٍ كتبهُنَّ الله على العِباد، من أتى بهِنَّ كان له عند الله عهدٌ أنْ يدخله الجنَّة، ومن لم يأت بهِنَّ فليس له عند الله (1) عهدٌ، إنْ شاء عذَّبه، وإنْ شاء غفر له". وفي "المسند" (2) ـ أيضًا ـ من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أوَّل ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصَّلاة المكتوبة، فإنْ أتمَّها وإلَّا قيل: انظُرُوا هل له من تطوُّعٍ، فإنْ كان له تطوُّعٌ أُكْمِلَت الفريضة من (3) تطوُّعِه، ثم يُفْعَل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك". رواه أهل "السُّنن" (4). وقال _________ (1) "عهدٌ أنْ .. عند الله" سقطت من هـ. (2) (2/ 425). (3) س: "له من". (4) أبو داود (864)، والترمذي (413) والنسائي (467) وابن ماجه (1425)، وغيرهم، من طرقٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه به. وذكره ابن أبي حاتم في عِلَله (426) من طريق قتادة عن الحسن عن حريث بن قبيصة عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا نحوه، ثم ذكر اختلافًا فيه على الحسن. وينظر أيضًا: علل الدارقطني (8/ 245). وصحَّح الألباني الحديث مرفوعًا ـ بمجموع طرقه ـ في الصَّحيحة (1358).

(1/45)


الترمذيُّ: "هذا حديثٌ حسنٌ" (1). قالوا: وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "مَن كان آخر كلامه لا إله إلَّا الله دَخَل الجنَّة" (2). وفي لفظٍ آخر: "مَنْ مات وهو يعلم أنْ لا إله إلَّا الله دخل الجنة" (3) (4). وفي "الصَّحيح" (5) قصَّة عتبان (6) بن مالك، وفيها: "إنَّ الله قد حرَّم _________ (1) في المطبوع من سنن الترمذي (ط أحمد شاكر 2/ 271)، و (ط بشار 1/ 438)، وفي تحفة الأشراف (9/ 314): "حسنٌ غريبٌ". وقد صحَّح الحديث الحاكم عقب إخراجه له (1/ 394)، وابن القطَّان الفاسي في بيان الوهم (5/ 229)، وأحمد شاكر في حاشيته على سنن الترمذي (2/ 272)، والألباني في الصحيحة (1358) بمجموعِهِ، وغيرهم. (2) أخرجه أحمد (5/ 233)، وأبو داود (3116)، والحاكم (1/ 503)، وغيرهم، من طريق صالح بن أبي عريبٍ عن كثير بن مرة عن معاذ بن جبل مرفوعًا. وقد صحَّحه الحاكم عقبه، وابن الملقن في البدر (5/ 189) وحسَّنه الألباني بطرقه في الإرواء (687). وأعلَّه ابن القطَّان الفاسي في بيان الوهم (4/ 206) بجهالة ابن أبي عريبٍ. قال الحافظ في التلخيص الحبير (2/ 103): "تُعقِّب بأنَّه روى عنه جماعةٌ، وذكره ابن حبان في الثقات". (3) أخرجه مسلم (26)، وغيره، من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه. (4) "وفي لفظ ... الجنة" ليست في ض. (5) البخاري (425)، وأخرجه مسلم (33) بنحو لفظه. (6) ض وهـ وط: "عتاب"، وصُحَّح في هامش هـ بما أثبتُّه.

(1/46)


على النَّار مَن قال: لا إله إلَّا الله؛ يبتغي بذلك وجه الله". وفي حديث الشَّفاعة: يقول الله عز وجل: "وعزَّتي وجلالي لأخرجَنَّ من النَّار مَن قال: لا إله إلَّا الله". وفيه: "فيخرج من النَّار (1) مَنْ لم يعمل خيرًا قطُّ" (2). وفي "السُّنن" (3) و"المسانيد" (4) قِصَّة صاحب البطاقة، الذي تُنْشَر (5) له تسعة وتسعون سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ منها مدَّ البصر، ثم _________ (1) "من النَّار" ليست في س. (2) حديث الشَّفاعة سيق بألفاظٍ مختلفةٍ، وقد أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عدَّةٍ من الصَّحابة، كأبي سعيد، وأبي هريرة، وأنسٍ، وغيرهم رضي الله عنهم. فأمَّا جملة: "وعزَّتي وجلالي" فهي في حديث أنسٍ رضي الله عنه عند البخاري (7510) بلفظ: "وعزَّتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها .. " وعند مسلم (193) نحوه. وأمَّا جملة: "لم يعملوا خيرًا قط" فهي في حديث أبي سعيد رضي الله عنه، عند البخاري (7439) ومسلم (183). وهذا لفظ مسلمٍ. ولفظ البخاري: "فيقول أهل الجنَّة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عملٍ عملوه ولا خيرٍ قدَّموه". (3) الترمذي (2641)، وقال: "حسنٌ غريبٌ"، وابن ماجه (4300). وأخرجه الحاكم (1/ 529) وابن حبان (225) وغيرهم، من طريق أبي عبدالرحمن الحبلي عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه به. وقد صحَّحه ابن حبَّان والحاكم، والألباني في الصَّحيحة (135). (4) مسند أحمد (2/ 213)، مسند عبد بن حميد (339)، وغيرهما. (5) س: "ينشر".

(1/47)


تخرج له بطاقةٌ، فيها (1) شهادة أنْ لا إله إلَّا الله، فترجح سيِّئاته (2). ولم يذكر في البطاقة غير الشَّهادة، ولو كان فيها غيرها لقال: "ثم تخرج (3) له صحائف حسناته فتوزن سيِّئاته (4) ". ويكفينا في هذا قوله: "فيخرج من النَّار من لم يعمل خيرًا قط"، ولو كان كافرًا لكان مخلَّدًا في النار غير خارجٍ منها. فهذه الأحاديث وغيرها تمنع من التَّكفير، والتَّخليد، وتوجب من الرجاء (5) له ما يُرْجى لسائر أهل الكبائر. قالوا: ولأنَّ الكفر جُحُود التوحيد، وإنكار الرسالة والمعاد، وجَحْد ما جاء به الرسول، وهذا يقرُّ (6) بالوحدانية، شاهدًا أنَّ محمدًا رسول الله، مؤمن بأنْ الله يبعث مَن في القبور= فكيف يُحْكَم بكفره والإيمان هو التَّصديق، وضدُّه (7) التَّكذيب، لا ترك العمل؟ فكيف يُحْكَم للمصدِّق بحكم المكذِّب الجاحد؟ _________ (1) س وط: "يخرج له". س: " .. بطاقةٌ فيه". (2) ض: "بسيِّئاته". (3) ليس في هـ: "لقال". س: "يخرج". (4) س وض: "بسيِّئاته". (5) هـ وط: موجب، ض: "ويوجب الرجاء". (6) س: "مقر". (7) ض: "وضد".

(1/48)


قال المكفِّرون: الذين رُوِيَت عنهم هذه الأحاديث التي استدللتم بها على عدم تكفير تارك الصلاة هم الذين حُفِظَ عنهم من الصَّحابة تكفير تارك الصَّلاة بأعيانهم. قال أبومحمد ابن حزم (1): "وقد جاء عن عمر، وعبدالرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي هريرة، وغيرهم من الصَّحابة رضي الله عنهم: أنَّ مَن تَرَك صلاة فرضٍ واحدةٍ (2) متعمِّدًا حتى يخرج وقتها فهو كافرٌ مرتدٌّ". قالوا: ولا يُعْلَم لهؤلاء مخالفٌ (3) من الصَّحابة. وقد دلَّ على كفر تارك الصَّلاة الكتاب، والسُّنة، وإجماع الصَّحابة. أمَّا الكتاب: قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (4)} إلى قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم/35 - 43]. _________ (1) المحلَّى (2/ 242). (2) هـ وس: "واحدٍ". (3) ط: "ولا نعلم لهؤلاء مخالفًا"، ومثله في هـ ولكن في آخره: "مخالف". (4) ض تتمَّة الآية: {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ}.

(1/49)


فوجه الدلالة من الآية: أنَّه سبحانه أخبر أنَّه لا يجعل المسلمين كالمجرمين، وأنَّ هذا الأمر لا يليق بحكمته ولا بحكمه، ثم ذكر أحوال المجرمين، الذين هم ضد المسلمين، فقال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم/42]، وأنَّهم يدعون إلى السُّجود لربِّهم تبارك وتعالى؛ فيُحال بينهم وبينه، فلا يستطيعون السُّجود مع المسلمين في دار الآخرة (1)؛ عقوبةً لهم على ترك السُّجود له مع المصلِّين في دار الدنيا. وهذا يدلُّ على أنَّهم مع الكفار والمنافقين، الذين تبقى ظهورهم إذا سجد المسلمون كصياصي (2) البقر، ولو كانوا (3) من المسلمين لأُذِنَ لهم بالسُّجُود كما أُذِنَ للمسلمين. الدَّليل الثَّاني: قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر/38 - 47]. فلا يخلو؛ إمَّا أنْ يكون كُلُّ واحدٍ من هذه الخصال هو الذي _________ (1) "في دار الآخرة" هـ فقط. (2) ط: "كميامني" تحريف! والصَّياصي: القرون، مفردها صِيْصَية بالتخفيف. كما في النهاية لابن الأثير (3/ 67). (3) ط: "كان".

(1/50)


سلكهم في سَقَر، وجعلهم من المجرمين، أو مجموعها. فإنْ كان كُلُّ واحدٍ منها مستقلًّا (1) بذلك فالدلالة ظاهرةٌ، وإنْ كان مجموع الأمور الأربعة، فهذا إنَّما هو لتغليظ كفرهم وعقوبتهم، وإلَّا فكُلُّ واحدٍ منها مقتضٍ للعقوبة؛ إذْ لا يجوز أنْ يُضَمَّ ما لا تأثير له في العقوبة إلى ما هو مستقلٌّ بها. ومن المعلوم أنَّ تَرْك الصَّلاة وما ذُكِرَ معه ليس شرطًا في العقوبة على التَّكذيب بيوم الدِّين، بل هو وحده كافٍ في العقوبة؛ فدلَّ على أنَّ كُلَّ وصفٍ (2) ذكر معه كذلك؛ إذْ لا يمكن لقائلٍ (3) أنْ يقول: لا يعذب إلَّا مَنْ جَمَع (4) هذه الأوصاف الأربعة! فإذا كان كُلُّ واحدٍ منها موجِبًا (5) للإجرام، وقد جعل الله سبحانه المجرمين ضد المسلمين، كان تارك الصلاة من المجرمين السَّالكين في سَقَر، وقد قال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر/47 - 48]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ _________ (1) هـ: "فإن كل .. ". س: " .. مستقل". (2) ض: "صنف". (3) س وهـ وط: "قائلا". (4) س وط: "من جميع". (5) س وض: "كل منها موجب".

(1/51)


أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين/29]؛ فجعل المجرمين ضد المؤمنين المسلمين (1). الدَّليل الثَّالث: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور/56]. فوجه الدلالة: أنَّه سبحانه علَّق حصول الرَّحمة لهم بفعل هذه الأمور؛ فلو كان ترك الصلاة لا يوجب تكفيرهم وخلودهم في النار لكانوا مرحومين (2) بدون فعل الصَّلاة، والرَّبُّ تعالى إنَّما جعلهم على رجاء (3) الرَّحمة إذا فعلوها. الدَّليل الرَّابع: قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون/4 - 5]. وقد اختلف السَّلف في معنى السَّهْو عنها؛ فقال سعد بن أبي وقَّاص، ومسروق بن الأجدع، وغيرهما: "هو تركها حتى يخرج وقتها" (4). _________ (1) "المسلمين" هـ وط فقط. (2) ض: "مجرمين". (3) هـ: "إرجاء". (4) أسنده ابن جرير في تفسيره (24/ 659 - 661) عنهما، وعن ابن عباس، وأبي الضُّحى مسلم بن صبيح، وعبدالرحمن بن أبزى، وسيأتي إسناد بعضه عند المصنِّف، ويُنْظر أيضًا في نسبة هذه الأقوال: الدُّرُّ المنثور للسُّيوطي (15/ 687 - 688).

(1/52)


ورُوِيَ في ذلك حديثٌ مرفوعٌ. قال محمد بن نصر المروزي (1): حدثنا شيبان (2) بن أبي شيبة حدثنا عكرمة بن إبراهيم حدثنا عبدالملك ابن عمير عن مصعب بن سعد بن أبي وقَّاص (3) عن أبيه: أنَّه سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون/5] قال: "هم الذين يؤخِّرُون الصَّلاة عن وقتها". وقال حماد بن زيد: حدثنا عاصم عن مصعب بن سعد قال: قلتُ لأبي: يا أبتاه، أرأيت قول الله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون/5] أيُّنا لا يسهو؟ أيُّنا لا يحدِّث نفسَه؟ قال: "إنَّه ليس ذاك (4)، ولكنَّه إضاعة الوقت" (5). _________ (1) في تعظيم قدر الصلاة (42 - 45). وأخرجه ابن جرير (24/ 663)، والبيهقي (2/ 214)، والبزَّار (3/ 346)، والطبراني في الأوسط (2/ 377)، وغيرهم، من طريق عكرمة به. قال أبوزرعة كما في علل ابن أبي حاتم (536): "هذا خطأٌ، والصَّحيح موقوف". وقال البزَّار: "لا نعلم أسنده إلَّا عكرمة بن إبراهيم عن عبد الملك بن عمير، وعكرمة ليِّن الحديث". وبنحوه قال البيهقي (2/ 214)، والهيثمي في المجمع (1/ 325)، (7/ 143). (2) هـ وط: "سفيان". تحريفٌ. (3) "بن أبي وقَّاص" ليست في هـ وط. (4) س: "ذلك". (5) أخرجه ابن جرير في تفسيره (24/ 660)، والبيهقي في الكبرى (2/ 214)، وأبويعلى (704)، وغيرهم، من طريق عاصم بن أبي النجود به. وقد حسَّن إسناده المنذري في التَّرغيب (1/ 218)، والهيثمي في المجمع (1/ 325).

(1/53)


وقال حيوة (1) بن شريح: أخبرني أبوصخر أنَّه سأل محمد بن كعب القرظي عن قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون/5] قال: "هو تاركها"، ثمَّ سأله عن الماعون، قال: "منع المال مِن (2) حقِّه" (3). إذا عُرِفَ هذا فالوعيد بالويل اطَّرد في القرآن للكُفَّار؛ كقوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصِّلت/6 - 7]، وقوله: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} إلى قوله: {لَهُمْ (4) عَذَابٌ مُهِينٌ} [الجاثية/7 - 9]، وقوله: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [إبراهيم/2]. إلَّا في موضعين، وهما: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين/1]، و {وَيْلٌ _________ (1) ض: "حياة". (2) ط: "عن". (3) أخرجه ابن نصرٍ في تعظيم قدر الصَّلاة (45) من طريق إسحاق عن عبدالله بن يزيد المقرئ عن حيوة به. وأخرجه ابن جرير في تفسيره (15/ 569) من طريق ابن وهب عن أبي صخرٍ حميد بن زياد الخرَّاط عن القرظي بنحوه. والإسناد حسنٌّ، رجالهما ثقاتٌ، غير أبي صخرٍ فإنَّه لا بأس به. تُنْظَر ترجمته في: تهذيب الكمال للمِزِّي (7/ 366). (4) في جميع النسخ: (ولهم)، وهو خطأ.

(1/54)


لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة/1]؛ فعلَّق الويل بالتَّطفيف، وبالهَمْز واللَّمز، وهذا لا يكفر به بمجرده (1). فويل تارك الصلاة إمَّا أنْ يكون ملحقًا بويل الكفار، أو بويل الفسَّاق، فإلحاقه بويل الكفار أولى؛ لوجهين: أحدهما: أنَّه قد صحَّ عن سعد بن أبي وقاص في هذه الآية أنَّه قال: "لو تركوها لكانوا كفَّارًا، ولكن ضيَّعوا وقتها" (2). الثَّاني: ما سنذكره من الأدلَّة (3) على كفره. يوضِّحه: الدَّليل الخامس: وهو قوله (4) سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم/59]. قال شعبة بن الحجاج: حدثنا أبوإسحاق عن أبي عبيدة عن _________ (1) ض: "لمجرَّده"، و"به" ليست في هـ. (2) تقدَّم تخريج ما رُوِي عن سعدٍ فيه. ولم أقف عليه بهذا اللفظ عنه، ولكن أخرج ابن جرير في تفسيره (15/ 567) وأبونعيم في الحلية (6/ 80) وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدُّرِّ المنثور (10/ 97) من طريق الأوزاعي عن موسى بن سليمان عن القاسم بن مخيمرة قال: "أضاعوا المواقيت، ولو تركوها لصاروا كفَّارًا، ولكن أضاعوا المواقيت، وصلَّوا الصَّلوات لغير وقتها". وسيأتي ـ أيضًا ـ موقوفًا على ابن مسعود رضي الله عنه. (3) في س هنا زيادة: "الدَّالة". (4) هـ: "وقوله".

(1/55)


عبدالله (1) ـ هو ابن مسعود ـ في هذه الآية قال: "هو نهرٌ في جهنَّم، خبيث الطَّعم، بعيد القعر" (2). وقال محمد بن نصْر (3): حدثنا عبيدالله بن سعد (4) بن إبراهيم حدثنا محمد بن زياد بن زبَّار (5) حدَّثني شرقي بن القطامي قال: حدثني _________ (1) ليس في س: "عن عبدالله". (2) أخرجه ابن نصر في تعظيم قدر الصَّلاة (35)، وابن جرير في تفسيره (15/ 572)، والطبراني (9/ 227)، والحاكم (2/ 406)، وأبونعيم في الحلية (4/ 206)، كلُّهم من طريق شعبة به، وقد صحَّحه الحاكم. إسناده منقطعٌ؛ أبوعبيدة ـ واسمه عامر ـ لم يسمع من أبيه. يُنْظَر: المراسيل لابن أبي حاتم (ص/256)، وجامع التَّحصيل (ص/204)، وتحفة التَّحصيل (ص/156). (3) في تعظيم قدر الصَّلاة (36). وأخرجه ابن جرير في تفسيره (15/ 571) و (17/ 514)، والطبراني في الكبير (8/ 175)، وغيرهما، من طريق محمد بن زياد بن زبَّار به. فيه ابن زبَّار وشيخه شرقي، وقد ضُعِّفا. تُنْظَر ترجمتهما في: ميزان الاعتدال (2/ 268) و (3/ 552). قال ابن كثير في تفسيره (3/ 129): "غريبٌ، ورفعه منكرٌ"، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 389): "فيه ضعفاء قد وثَّقهم ابن حبان وقال: يخطئون". (4) ض: "عبدالله .. "، ض وهـ: " .. سعيد". (5) جميع النُّسخ: "يزيد" بدل: "زياد"، وليس في ض: "زبَّار"، هـ وط: "بن زبَّان" بالنون، س: "بن ريَّان" بالراء، وكلُّها تصحيفٌ. يُنْظر ضبط اسمه وترجمته في: الإكمال لابن ماكولا (4/ 173) وميزان الاعتدال (3/ 552).

(1/56)


لقمان بن عامر الخزاعي (1) قال: جِئت أبا أمامة الباهلي فقلت: حدِّثْني حديثًا سمعتَه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: سمعتُ رسول الله (2) - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لو أنَّ صخرةً قُذِفَ بها من شَفِير جهنَّم ما بلغت قعرها (3) سبعين خريفًا، ثم تنتهي إلى (4) غَيٍّ وأَثَام". قلتُ: وما غَيٌّ وأَثَام؟ قال: "بِئْران في أسفل جهنَّم، يسيل فيهما (5) صديد أهل جهنَّم (6) فهذا الذي ذكره الله في كتابه: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم/59]، و {أَثَامًا} [الفرقان/68]. قال محمد بن نصر (7): حدثنا الحسن بن عيسى حدثنا عبدالله بن _________ (1) ض: "الخرعي"، وهو غلطٌ. (2) ط: "من رسول .. ". (3) "قعرها" سقطت من ط. (4) ض: "تنتهي على"، س: "ينتهي". (5) هـ وط: "فيها". (6) "يسيل .. جهنَّم" ليس في ض. (7) في تعظيم قدر الصَّلاة (37). وأخرجه أيضًا ابن جرير في تفسيره (17/ 515) والعقيلي في الضعفاء (2/ 88) من طريق هشيمٍ به. إسناده ضعيفٌ، زكريا بن أبي مريم ذُكِر لشُعبة فصاح صيحةً، قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (3/ 592): "دلَّ صيحة شعبة أنَّه لم يرض زكريا" انتهى، وقال عنه النَّسائي: "ليس بالقويِّ"، وقال ابن عديٍّ: "ليس فيما روى عنه هشيم حديثٌ له رونق وضوء". يُنْظَر: الكامل لابن عدي (/3/ 214)، والميزان للذَّهبي (2/ 74).

(1/57)


المبارك أخبرنا هشيم (1) بن بشير قال: أخبرني زكريا بن أبي مريم الخزاعي قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: "إنَّ ما بين شفير جهنَّم إلى قعرها مسيرة خمسين خريفًا، من حجرٍ يهوي، أو قال: صخرةٍ تهوي، عِظَمُها كعَشر عُشَرَاواتٍ (2)، عِظَامٍ، سِمَانٍ"، فقال له مولى لعبدالرحمن بن خالد بن الوليد: هل تحت ذلك من شيءٍ يا أبا أمامة؟ قال: "نعم، غَيٌّ وأَثَام". وقال أيوب بن بشير عن شُفَيِّ بن ماتِع (3) قال: "إنَّ في جهنَّم واديًا يُسَمَّى غيًّا، يسيل دمًا وقيْحًا (4)، فهو لمن خُلِقَ له، قال تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم/59] " (5). فوجه الدلالة من الآية: أنَّ الله سبحانه جعل هذا المكان من النَّار _________ (1) في جميع النسخ: "إبراهيم"، والتَّصحيح من: تعظيم قدر الصَّلاة. (2) في هامش هـ: "النَّاقة العشر ـ بضمِّ العين وفتح الشين المعجمة ـ هي: التي مضى عليها من حملها عشرة أشهر، وهو المراد ههنا. وقيل: هي: التي في النُّوق كالنُّفساء في النِّساء. اهـ. مولانا العلَّامة عبدالقادر بن أحمد حفظه الله". والعلَّامة عبدالقادر المذكور هو: ابن أحمد بن عبدالقادر، أحد كبار أعلام زمانه في العلم باليمن، وهو شيخ الشوكاني، توفي سنة 1207 هـ، تنظر ترجمته الحافلة في البدر الطالع (399 - 406). (3) ض وس: "مانع". تحريفٌ. (4) س: "يسيل منه دم وقيح". (5) أخرجه ابن نصر في تعظيم قدر الصَّلاة (38) من طريق ثعلبة بن مسلم عن أيوب به.

(1/58)


لمن أضاع الصَّلاة واتَّبَع الشَّهوات، ولو كان مع عُصاة المسلمين لكانوا في الطَّبقة العُلْيا من طبقات النَّار، ولم يكونوا في هذا المكان الذي هو في أسفلها؛ فإنَّ هذا ليس من أمكنة أهل الإسلام، بل من أمكنة الكُفَّار. ومن الآية دليلٌ آخر: وهو قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [مريم/59 - 60]. فلو كان مضيِّع الصَّلاة مؤمنًا لم يشترط في توبته الإيمان؛ فإنَّه يكون تحصيلًا للحاصل. الدَّليل السَّادس: قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة/11]. فعلَّق أخوَّتَهم للمؤمنين بفعل الصَّلاة، فإذا لم يفعلوها لم يكونوا إخوة للمؤمنين، فلا يكونوا (1) مؤمنين؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات/10]. الدَّليل السَّابع: قوله تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة/31 - 32]. فلمَّا كان الإسلام تصْديق الخبر والانقياد للأمر جعل سبحانه له ضِدَّين؛ عدم التَّصْديق، وعدم الصَّلاة. وقابَلَ التَّصْديقَ بالتَّكذيب، والصَّلاة بالتَّوَلِّي، فقال: {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة/32]. فكما أنَّ المكذِّب كافرٌ فالمتولِّي عن الصَّلاة كافرٌ، وكما يزول الإسلام بالتَّكذيب يزول بالتولِّي عن الصَّلاة. _________ (1) هـ: "يكونون".

(1/59)


قال سعيد عن قتادة: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى}: "لا صدَّق بكتاب الله، ولا صلَّى لله، {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}: كذَّب بآيات الله (1)، وتولَّى عن طاعته، {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}: وعيدٌ على إثر وعيدٍ" (2). الدَّليل الثَّامن: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون/9]. قال ابن جريج: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول: "هي الصَّلاة المكتوبة" (3). ووجه الاستدلال بالآية: أنَّ الله حَكَم بالخُسْران المطلق على مَنْ (4) ألْهَاهُ مالُه وولدُه عن الصَّلاة، والخسران المطلق (5) لا يحصل إلَّا للكفَّار؛ فإنَّ المسلم ولو خسر بذنوبه ومعاصيه فآخر أمره إلى الرِّبْح. يوضِّحُهُ: أنَّه سبحانه وتعالى أكَّد خسران تارك الصلاة في هذه الآية بأنواع من التأكيد: _________ (1) الآية ليست في هـ وط، والسياق فيهما: "ولكن كذَّب بآيات الله". (2) أخرجه ابن جرير في تفسيره (23/ 523) من طريق سعيد به. (3) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2919) وابن المنذر كما في الدُّر المنثور (14/ 490). (4) هـ وس وط: "لمن". (5) ض: "للمطلق".

(1/60)


أحدها: إتيانه بلفظ الاسم (1) الدَّال على ثبوت الخسران ولزومه، دون الفعل الدَّال على التجدُّد والحدوث (2). الثَّاني: تصدير الاسم بالألف واللَّام، المؤذنة بحصول (3) كمال المسمَّى لهم؛ فإنَّك إذا قلتَ: زيدٌ العالمُ الصَّالحُ، أفاد ذلك إثبات كمال ذلك له (4)، بخلاف قولك: عالمٌ صالحٌ (5). الثَّالث: إتيانه سبحانه بالمبتدأ والخبر معرفتين، وذلك من علامات انْحصار الخبر في المبتدأ؛ كما في قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة/5]، وقوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة/254]، وقوله: {أُولَئِكَ (6) هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال /4]، ونظائره. الرَّابع: إدخاله ضمير الفصْل بين المبتدأ والخبر، وهو يفيد مع الفصل فائدتين أخريين؛ قوة الإسناد، واختصاص المسنَد إليه بالمسند؛ _________ (1) هـ وط: " .. به بلفظ". و"الاسم" ليست في ض. (2) هـ وط: "الحدث". (3) هـ وط: "المؤدية لحصول". (4) س: "إثبات كلَّما قال له". (5) ض وس: "عالم وصالح". (6) س: (وأولئك).

(1/61)


كقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحج /64]، وقوله: {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة/76]، وقوله: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (1)} [يوسف/98]، ونظائر ذلك. الدَّليل التَّاسع: قوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة /15]. ووجه الاستدلال بالآية: أنَّه سبحانه نفى الإيمان عمَّن إذا ذُكِّر بآيات الله لم يخرَّ ساجدًا (2) مسبِّحًا بحمد ربِّه، ومن أعظم التَّذكير بآياته (3) التَّذكير بآيات الصَّلاة؛ فمن ذُكِّر بها فلم يتذكَّر ولم يصلِّ فلم يؤمن بها؛ لأنَّه (4) سبحانه خصَّ المؤمنين بها بأنَّهم أهل السُّجود، وهذا من أحسن الاستدلال وأقربه. فلم يؤمن بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ (5)} [البقرة/43]، إلَّا من التزم إقامتها. الدَّليل العاشر: قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ _________ (1) في النسخ كلِّها: "إن الله لهو الغفور .. ". وليس في كتاب الله آية بهذا الرسم. (2) ط: "يخروا سجدا". (3) هـ وط: "بآيات الله". (4) ض: "فإنَّه". (5) ليس في س: {الصَّلَاةَ}.

(1/62)


يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات/48 - 49]، ذكر هذا بعد قوله: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات/46]، ثمَّ توعَّدهم على ترك الرُّكوع ــ وهوالصَّلاة ــ إذا دُعُوا إليها. ولا يُقَال: إنِّما (1) توعَّدَهم على التَّكذيب؛ فإنَّه سبحانه إنَّما أخبر (2) عن تركهم لها، وعليه وَقَع الوعيد. على أنَّا نقول: لا يُصِرُّ على ترك الصَّلاة إصْرارًا مستمرًّا مَن يصدِّق بأنَّ الله أمَرَ بها أصْلًا؛ فإنَّه يستحيل في العادة والطَّبيعة أنْ يكون الرجل مصدِّقًا تصديقًا جازمًا أنَّ الله سبحانه فرض عليه كُلَّ (3) يومٍ وليلةٍ خمس صلوات، وأنَّه (4) يعاقبه على تركها أشدَّ العقاب= وهو مع ذلك مصرٌّ على تركها؛ هذا من المستحيل قطعًا. فلا يحافظ على تركها مصدِّقٌ بفرضها أبدًا؛ فإنَّ الإيمان يأمر صاحبه بها، فحيث لم يكن في قلبه ما يأمره بها فليس في قلبه شيء من الإيمان. ولا يُصْغَى إلى كلام مَنْ ليس له (5) خبرةٌ ولا علمٌ بأحكام القلوب _________ (1) ض: "إنَّه". (2) س: "أخبرهم". (3) س: "بأنَّ .. في كلِّ". (4) ط: "فإنَّها". (5) هـ وض: "تصغ .. "، ط: "تصغي .. ". ض: " .. من لا له".

(1/63)


وأعمالها. وتأمَّل هل في الطَّبيعة أنْ (1) يقوم بقلب العبد إيمانٌ بالوعد والوعيد، والجنَّة والنَّار، وأنَّ الله فرض عليه الصَّلاة، وأنَّه معاقبه (2) على تركها= وهو محافظٌ على التَّرك في صحَّتِه وعافيته، وعدم الموانع المانعة له من الفعل. وهذا القَدْر هو الذي خَفِي على من جعل الإيمان مجرَّد التَّصديق وإنْ لم يقارنه فِعْلُ واجبٍ ولا تَرْك محرَّمٍ، وهذا من أمحل المحال؛ أنْ يقوم بقلب العبد إيمانٌ جازمٌ لا يتقاضاه فعل طاعةٍ ولا ترك معصيةٍ (3). ونحن نقول: الإيمان هو التَّصديق، ولكن ليس التَّصديق مجرَّد اعتقاد صِدْق المخبر، دون الانقياد له. ولو كان مجرَّد اعتقاد التَّصديق إيمانًا لكان إبليس، وفرعون وقومه، وقوم صالح، واليهود الذين عرفوا أنَّ محمدًا رسول الله كما يعرفون أبناءهم =مؤمنين مصدِّقين! وقد قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} أي: يعتقدون أنَّك صادق {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام/33]، والجحود لا يكون إلَّا بعد معرفة الحق. وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل/14]. _________ (1) هـ وط: "بأن". (2) "وأنَّه معاقبه"، هـ: "معاقبة يعاقبه"، ط: "يعاقبه معاقبة". والمثبت من ض وس. (3) هـ: "جازمٌ ولا .. ". ض: " .. ولا فعل معصية".

(1/64)


وقال موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء/102]. وقال تعالى عن اليهود: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة/146]. وأبلغ من هذا قول النَّفَرَ من اليهود لمَّا جاؤوا إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وسألوه عمَّا دلَّهم (1) على نبوَّتِه، فقالا: نشهد أنَّك نَبيٌّ، فقال: "ما يمنعكما من اتِّباعي؟ " قالا: إنَّ داود دعا أنْ لا يزال (2) في ذُرِّيَّته نبيٌّ، وإنَّا نخاف إنِ اتَّبعناك أنْ تقتلنا يهود (3) (4). فهؤلاء قد أقرُّوا بألسنتهم إقرارًا مطابقًا لمعتقدهم أنَّه نبيٌّ، ولم يدخلوا بهذا التَّصديق والإقرار في الإيمان؛ لأنَّهم لم يلتزموا طاعته _________ (1) هـ وط: "النفرين اليهوديين لما جاءا .. وسألاه عما دلهما". والنفر في لغة العرب جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة. كما في المصباح (2/ 617) وينظر درة الغواص للحريري (44). (2) ض: "أن يزال". (3) هـ: "يقتلنا .. ". ط: " .. اليهود". (4) أخرجه أحمد (4/ 239)، والنسائي (4078)، والترمذي (2734)، وابن ماجه مختصراً (3705)، والضِّياء في المختارة (8/ 28)، والحاكم (1/ 52)، وغيرهم، من حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه. قال الترمذي: "حسن صحيحٌ"، وقال ابن الملقِّن في البدر (9/ 48): "بأسانيد صحيحة"، وقال الحافظ في التلخيص (4/ 93): "بإسنادٍ قوي".

(1/65)


والانقياد لأمره. ومن هذا كفر أبي طالب؛ فإنَّه عَرَف حقيقة المعرفة أنَّه صادقٌ، وأقرَّ بذلك بلسانه، وصرَّح به في شعره، ولم يدخل بذلك في الإسلام. فالتَّصديق إنَّما يتمُّ بأمرين: أحدهما: اعتقاد الصِّدق. والثَّاني: محبَّة القلب وانقياده (1). ولهذا قال تعالى لإبراهيم: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات/105]. وإبراهيم كان معتقدًا لصِدْق رؤياهُ من حين رآها؛ فإنَّ رؤيا الأنبياء وحيٌ، وإنَّما جعله مصدِّقًا لها بعد أنْ فعل ما أُمِر به. وكذلك قول النَّبيِّ (2) - صلى الله عليه وسلم -: "والفَرْج يصدِّق ذلك أو يكذِّبه" (3). فجَعَل التَّصديق عَمَل الفَرج ما تمنَّى القلب (4)، والتَّكذيب تركه لذلك. وهذا صريحٌ في أنَّ التَّصديق لا يصحُّ إلَّا بالعمل. وقال الحسن: "ليس الإيمان بالتمنِّي، ولا بالتحلِّي، ولكن ما وَقَر _________ (1) س: "والقياد". (2) هـ وط: "قوله - صلى الله عليه وسلم -". (3) أخرجه البخاري (6243)، ومسلم (2657) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (4) س: "ما تمنَّاه"، ط: "ما يتمنَّى".

(1/66)


في القلب، وصدَّقه العمل" (1). وقد رُوِيَ هذا مرفوعًا (2). والمقصود: أنَّه يمتنع مع التَّصديق الجازم بوجوب الصَّلاة، والوعد على فعلها، والوعيد على تركها= المحافظة على تركها (3). وبالله التوفيق. _________ (1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (30988) والإيمان (93) من طريق جعفر بن سليمان عن زكريا بن حكيم الحبطي عن الحسن به. وضعَّفه الألباني في الضَّعيفة (1098)؛ لضعف زكريا. ولكنَّه توبع، فأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا (36359) من طريق جعفر بن سليمان قال: سمعت عبد ربه أبا كعب يقول: سمعت الحسن يقول، فذكره. وعبدربِّه ثقةٌ. (2) أخرجه ابن عدي في الكامل (6/ 2290)، واللَّالكائي في شرح الاعتقاد (4/ 839) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن مجبر حدثني أبي عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكره. قال ابن عديٍّ: "إسنادٌ باطلٌ". وقد أورده في ترجمة محمد بن عبد الرحمن بن مجبر، وقال عنه: "روى عن الثقات بالمناكير، وعن أبيه عن مالكٍ بالبواطيل". وأخرجه ابن النجار في ذيل تاريخ بغداد (17/ 48) من طريق عبد السلام بن صالح عن يوسف بن عطية عن قتادة عن الحسن عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكره. وإسناده ضعيفٌ جدًّا؛ عبدالسَّلام بن صالحٍ كذَّبوه، ويوسف بن عطيَّة مثله. يُنْظَر: الضَّعيفة للألباني (1098). (3) "المحافظة على تركها" ليست في هـ وط.

(1/67)


فصْلٌ وأمَّا الاستدلال بالسُّنَّة على ذلك، فمن وجوه: الدَّليل الأوَّل: ما رواه مسلمٌ في "صحيحه" (1) عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بين الرَّجل وبين الكفر (2) ترك الصَّلاة". ورواه أهل "السُّنن" (3)، وصحَّحه الترمذي (4). الدَّليل الثَّاني: ما رواه بُرَيدة بن الحُصَيب (5) الأسلمي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "العَهْد الذي بيننا وبينهم الصَّلاة، فمَنْ تَرَكها فقد كفر". رواه الإمام أحمد (6)، وأهل "السُّنن" (7). وقال الترمذي: "حديثٌ صحيحٌ" (8). وإسنادُه على شرط مسلم. _________ (1) حديث (82). (2) س: "والكفر". (3) أبو داود (4678)، والنسائي (464)، والترمذي (2620)، وابن ماجه (1078)، من طريق أبي الزبير المكي عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه. (4) حيث قال (5/ 15): "حسنٌ صحيحٌ". (5) ض: " .. حصيب"، ط: "يزيد بن الحبيب". تحريفٌ. (6) المسند (5/ 346). (7) النسائي (463)، والترمذي (2621)، وابن ماجه (1079). (8) في تحفة الأشراف للمزي (2/ 81)، وطبعة أحمد شاكر (5/ 13)، وبشَّار عوَّاد (4/ 366): "حسنٌ صحيحٌ غريبٌ". وصحَّحه ابن حبَّان (1454)، والحاكم (1/ 48).

(1/68)


الدَّليل الثَّالث: ما رواه ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "بين العبد وبين الكفر والإيمان الصَّلاة؛ فإذا تركها فقد أشرك". رواه هبة الله الطَّبري (1)، وقال: "إسنادُه صحيحٌ، على شرط مسلم". الدَّليل الرَّابع: ما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه ذكر الصَّلاة يومًا، فقال: "مَنْ حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاةً، وكان يوم القيامة مع قارون، وفرعون، وهامان، وأُبَيِّ ابن خلف"، رواه الإمام أحمد (2) في "مسنده" (3)، وأبوحاتم ابن حبَّان في "صحيحه" (4). _________ (1) يعني: اللَّالكائي، في شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة (1521) وفي المطبوعة منه: "إسنادٌ صحيح" دون: "على شرط مسلم". وفي الانتصار لأبي الخطاب (2/ 606): "إسناد صحيح على شرط مسلم، يلزمه إخراجه". وصحَّحه المنذري في التَّرغيب (811). (2) "أحمد" ليس في هـ. (3) (2/ 169). (4) حديث (1467)، من طريق كعب بن علقمة عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهم به. قال المنذري في التَّرغيب (832)، وابن عبدالهادي في التَّنقيح (2/ 117): "إسناده جيِّدٌ".

(1/69)


وإنَّما خصَّ هؤلاء الأربعة بالذِّكر لأنَّهم من رؤوس الكفرة. وفيه نكتةٌ بديعة، وهي (1): أنَّ تارك المحافظة على الصَّلاة إمَّا أنْ يشغله (2) ماله، أو ملكه، أو رياسته، أوتجارته؛ فمَنْ شَغَلَه عنها مالُه فهو مع قارون، ومن شَغَلَه عنها ملكُه (3) فهو مع فرعون، ومن شَغَلَه عنها رياستُه ـ من وزارةٍ أوغيرها ـ (4) فهو مع هامان (5)، ومن شَغَلَه عنها تجارتُه فهو مع أُبَيِّ بن خلف. الدَّليل الخامس: ما رواه عُبادة بن الصَّامت قال: أوصانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا تُشْركُوا بالله شيئًا، ولا تتركوا الصَّلاة عمدًا (6)؛ فمن تركها عمدًا متعمِّدًا فقد خَرَج من (7) المِلَّة". رواه عبدالرحمن بن أبي حاتم في "سُنَنه" (8). _________ (1) ض وهـ وط: "وهو". (2) ض: "شغله". س زيادة: "عنها". (3) هـ: "رياسة ملكه". (4) "رياسته" ليس في هـ. وفي ط: "رياسة وزارة". (5) س زيادة: "وزير فرعون". (6) "عمدًا" ليست في ض. (7) "عمدًا" ليست في ض، وليس في س: "متعمِّدًا"، وفيه: "خرج عن .. ". (8) تقدَّم الكلام عن سنن ابن أبي حاتم (ص/23). والحديث قد أخرجه من طريق ابن أبي حاتم اللَّالكائيُّ في شرح الاعتقاد (1522). ... = = ... وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (4/ 75) معلَّقًا، والشَّاشي في مسنده (3/ 211)، والضِّياء في المختارة (8/ 287)، وابن نصر في تعظيم قدر الصَّلاة (920) وغيرهم، كلُّهم من طريق يزيد بن قوذر عن سلمة بن شريح عن عبادة رضي الله عنه به. قال البخاري عقب سياقه: "لا يُعْرَف إسناده"، وقال الذَّهبي عن "سلمة بن شريح" في الميزان (2/ 190) والمغني (1/ 275): "لا يُعْرَف"، وذكره ابن حبَّان في الثِّقات (4/ 318). وقد ذكر العراقي هذا الحديث في ترجمة سلمة في ذيل الميزان (ص/274)، وقال: "من عدا سلمة بن شريح فثقات". وبنحوه في مجمع الزَّوائد (4/ 216).

(1/70)


الدَّليل السَّادس: ما رواه معاذ بن جبلٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من ترك صلاةً مكتوبةً متعمِّدًا فقد برِئَت منه ذِمَّة الله". رواه الإمام أحمد (1). _________ (1) المسند (5/ 238) من طريق عبدالرحمن بن جبير بن نفير عن معاذٍ. قال المنذري في الترغيب (1/ 216): "صحيحٌ لو سلم من الانقطاع؛ فإن عبدالرحمن بن جبير ابن نفير لم يسمع من معاذ". وقال أبوالفضل العراقي ـ كما في تحفة التَّحصيل (ص/196) ـ: "روايته عنه مرسلة". وأخرجه الطبراني في الكبير (20/ 82)، وأبونعيم في الحلية (9/ 306) من طريق عمرو بن واقد عن يونس بن ميسرة عن أبي إدريس عن معاذ رضي الله عنه به. وفي إسناده: عمرو بن واقد القرشي، ضعَّفه غير واحدٍ، كالبخاري وأبي مسهر وأبي حاتم ودحيم، وقال النَّسائي والدَّارقطني والبرقاني: "متروك الحديث"، وكذَّبه مروان بن محمد. يُنْظَر: تهذيب الكمال (22/ 286)، والميزان للذَّهبي (3/ 291). وقد حسنه الألباني في الإرواء (2026) بشواهده.

(1/71)


ولو كان باقيًا على إسلامه لكانت له ذِمَّة الإسلام. الدَّليل السَّابع: ما رواه أبو الدَّرداء قال: "أوصاني أبوالقاسم - صلى الله عليه وسلم - أنْ لا أترك الصَّلاة متعمِّدًا، فمَن تركها متعمِّدًا فقد برِئَت منه الذِّمَّة". رواه عبدالرحمن بن أبي حاتم في "سننه" (1). الدَّليل الثَّامن: ما رواه معاذ بن جبل عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصَّلاة". وهو حديثٌ صحيحٌ، مختصرٌ (2). ووجه الاستدلال به: أنَّه أخبر أنَّ الصَّلاة من الإسلام بمنزلة العمود _________ (1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (18)، وابن ماجه (3972)، والبيهقي في الشعب (5/ 11)، واللَّالكائي في شرح الاعتقاد (1524)، وابن نصر في الصلاة (911)، من طريق راشد الحماني عن شهر بن حوشب عن أم الدَّرداء عن أبي الدَّرداء به. وفي إسناده شهر بن حوشب، وقد اختلفوا فيه، وحديثه لا ينزل عن الحسن، تُنْظَر ترجمته في: تهذيب الكمال (12/ 572)، والميزان للذَّهبي (2/ 283). وقد حسَّن إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (4/ 37)، والهيثمي في المجمع (4/ 217)، وقال ابن حجر في التلخيص (2/ 148): "في إسناده ضعفٌ". (2) أخرجه أحمد (5/ 237)، والترمذي (2616) وقال: "حسنٌ صحيحٌ"، وابن ماجه (3972)، والحاكم (2/ 86) وقال: "صحيحٌ على شرط الشَّيخين". وصحَّحه شيخ الإسلام كما في الفتاوى (17/ 26)، والمصنِّف.

(1/72)


الذي تقوم عليه الخيمة؛ فكما تسقط الخيمة بسقوط (1) عمودها، فهكذا يذهب الإسلام بذهاب الصَّلاة، وقد احتجَّ أحمد بهذا بعينه. الدَّليل التَّاسع: ما في "الصَّحِيحَين" (2)، و"السُّنن" (3)، و"المسانيد" (4)، من حديث عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بُنِي الإسلام على خمسٍ؛ شهادة أنْ لا إله إلَّا الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله، وإقام الصَّلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان" (5). ورواه الإمام أحمد، وفي بعض ألفاظه: "الإسلام خمسٌ" (6)، فذكره. ووجه الاستدلال به من وجوه: أحدها: أنَّه جعل الإسلام كالقُبَّة المبنيَّة على خمسة أركان، فإذا وقع ركنها الأعظم وقعت قُبَّة الإسلام. الثَّاني: أنَّه جعل هذه الأركان في كونها أركانًا لقُبَّة الإسلام قرينة _________ (1) س: "بسقط". (2) البخاري (8)، ومسلم (16). (3) الترمذي (2609)، والنسائي (5004). (4) مسند أحمد (2/ 26، 92، 120، 143)، ومسند أبي يعلى (5788)، ومسند الحميدي (703)، وعبد بن حميد (المنتخب/823). (5) س: "وصوم رمضان، وحج .. "، وفيه زيادة: "رواه مسلم". (6) لم أقف على هذه اللَّفظة في طبعات المسند، ولا في غيره من المصادر.

(1/73)


الشهادتين؛ فهما ركنٌ، والصَّلاة ركنٌ، والزَّكاة ركنٌ (1)؛ فما بال قبَّة الإسلام تبقى بعد سقوط أحد (2) أركانها دون بقيَّة أركانها! الثَّالث: أنَّه جعل هذه الأركان نفس الإسلام، وداخلة في مسمَّى اسمه (3)، وما كان اسمًا لمجموع أمورٍ إذا ذهب بعضها ذهب ذلك المسمَّى، ولا سيَّما إذا كان من أركانه، لا من أجزائه التي ليست بركنٍ (4) له، كالحائط للبيت؛ فإنَّه إذا سقط سقط البيت، بخلاف العُود والخشبة واللَّبِنَة ونحوها. الدَّليل العاشر: عن أنسٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (5): "مَنْ صلَّى صلاتنا، واستقبل قِبْلَتنا، وأكل ذبيحتنا فهو المُسلم، له ما لنا، وعليه ما علينا" (6). _________ (1) هـ زيادة: "والصوم ركن، والحج ركن ". (2) ض: "إحدى". (3) "اسمه" ليست في هـ. (4) س: "ركن". (5) ض وهـ: "الدليل العاشر: قال: قال رسول الله .. "، ط: "الدليل العاشر: قال رسول الله .. ". (6) أخرجه البخاري (391، 393) بنحوه، ولفظ المؤلف مجموع من الروايتين.

(1/74)


ووجه الدلالة فيه من وجهين: أحدهما: أنَّه إنَّما جعله مسلمًا بهذه الثَّلاثة (1)، فلا يكون مسلمًا بدونها. الثَّاني: أنَّه إذا صلَّى إلى الشَّرق لم يكن مسلمًا حتى يصلِّي إلى قبلة المسلمين، فكيف إذا ترك الصَّلاة بالكلِّيَّة! الدَّليل الحادي عشر: ما رواه الدَّارمي ـ عبدالله بن عبدالرحمن ـ (2) قال (3): حدثنا يحيى بن حسَّان حدثنا سليمان بن قرم عن أبي يحيى _________ (1) ض وس: "الأربعة". (2) لم أقف عليه في سنن الدَّارمي بطبعاته! ولم يذكره ابن حجر في إتحاف المهرة (3/ 315) واكتفى بعزوه لأحمد. وقد عزا إليه أيضًا المنذري في التَّرغيب (1/ 149)، والبُوصيري في إتحاف الخيرة (8/ 231)، والسُّيوطي في الدُّر المنثور (12/ 732). وقد أعلَّه البوصيري والمنذري بالقتَّات، وسيأتي الكلام على ضعفه. وقد أخرجه الترمذي (4)، وأحمد (3/ 340)، والطَّبراني في الأوسط (4/ 336)، والصَّغير (596)، وابن عدي في الكامل (3/ 257) وغيرهم، من طريق سليمان بن قَرْم عن أبي يحيى القتَّات عن مجاهدٍ عن جابر رضي الله عنه به. وفي إسناده سليمان بن قَرْم التَّميمي، وأبويحيى القتَّات الكوفي، اسمه زاذان وقيل غير ذلك، وهما ضعيفان. يُنْظَر: تهذيب الكمال (12/ 51) و (34/ 402)، والميزان للذَّهبي، (2/ 219) و (4/ 586). (3) "قال" ليست في س.

(1/75)


القتَّات (1) عن مجاهد عن جابر بن عبدالله عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مفتاح الجنَّة الصلاة". وهذا يدلُّ على أنَّ من لم يكن من أهل الصَّلاة لم تفتح له الجنَّة، وهي تفتح لكُلِّ مسلمٍ؛ فليس تاركها مسلمًا. ولا تناقض بين هذا وبين الحديث الآخر؛ وهو قوله: "مفتاح الجنَّة شهادة أنْ لا إله إلَّا الله" (2)؛ فإنَّ الشَّهادة أصل المفتاح، والصَّلاة وبقيَّة الأركان أسنانه، التي لا يحصل الفتح إلَّا بها؛ إذْ دخول الجنَّة (3) موقوفٌ على المفتاح وأسنانه. وقال البخاريُّ: "وقيل لوهب بن منبِّه: أليس مفتاح الجنة لا إله إلَّا الله؟ قال: بلى، ولكن ليس مفتاحٌ إلَّا وله أسنان، فإنْ جِئْت بمفتاحٍ له _________ (1) س: "العتاب". تحريفٌ. (2) أخرجه أحمد (5/ 242)، والبزَّار (7/ 104)، وابن عدي في كامله (4/ 38)، والبيهقي في الشعب (3/ 4)، وغيرهم، من طريق ابن عياش عن عبدالله بن أبي حسين عن شهر بن حوشب عن معاذٍ رضي الله عنه به. وفي إسناده: شهر، وتقدَّم الكلام فيه (ص/72)، وروايته عن معاذ مرسلة، قال البزَّار: "شهر لم يسمع من معاذ". ويُنْظَر: تحفة التَّحصيل (ص/197). وقال الهيثمي في المجمع (1/ 16): "فيه انقطاعٌ بين شهر ومعاذٍ، وإسماعيل بن عياش روايته عن أهل الحجاز ضعيفةٌ، وهذا منها". وقال البوصيري في إتحاف الخيرة (8/ 231)، وابن حجر في التغليق (2/ 453): "بسند ضعيف". (3) "الجنَّة" سقطت من هـ.

(1/76)


أسنان فتح لك، وإلَّا لم يفتح لك (1) " (2). الدَّليل الثَّاني عشر: ما رواه محجن بن الأدْرَع الأسلمي (3): أنَّه كان في مجلسٍ مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فأذَّن بالصَّلاة، فقام النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فصلَّى (4)، ثم رجع ومحجن في مجلسه، فقال له: ما منعك أن تصلِّي؟ ألستَ برجلٍ مسلمٍ؟ قال: بلى؛ ولكنِّي صلَّيت في أهلي، فقال له: "إذا جِئْتَ فَصَلِّ مع الناس وإن كنت قد صَلَّيْت". رواه الإمام أحمد، والنسائي (5). _________ (1) "لك" ليست في ض. (2) أخرجه البخاري معلَّقًا في أول كتاب الجنائز، ووصله في التاريخ الكبير (1/ 95)، وإسحاق كما في المطالب العالية (3/ 254)، وإتحاف الخيرة (8/ 230)، وأبونعيم في الحلية (4/ 66) كلُّهم من طريق عبدالملك الذماري عن محمد بن سعيد بن رمانة عن أبيه عن وهبٍ به. وقد حسَّن إسناده ابن حجر في المطالب، والبوصيري في الإتحاف. (3) كذا في النسخ كلها، والحديث في المصادر عن محجن الديلي وليس الأدرعي وهما صحابيان، كما في الإصابة (5/ 778، 779). (4) "فصلَّى" ليست في ط. (5) المسند (4/ 34)، والنسائي (857)، وقد أخرجاه من طريق مالكٍ (1/ 132) عن زيد ابن أسلم عن رجل من بني الدِّيل يقال له بسر بن محجن عن محجنٍ رضي الله عنه به. وأصله عند البخاري (344)، ومسلم (682)، من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا معتزلًا لم يصلِّ مع القوم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "يا فلان ما منعك أن تصلِّي مع القوم؟ ألست برجلٍ مسلمٍ! " الحديث بطوله.

(1/77)


فجعل الفارق بين المسلم والكافر الصَّلاة. وأنت تجد تحت ألفاظ الحديث: "إنَّك لو كنت مسلمًا لصلَّيْت". وهذا كما تقول: مالك لا تتكلَّم؟ ألستَ بناطقٍ! ومالك لا تتحرَّك؟ ألستَ بحيٍّ (1)! ولو كان الإسلام يثْبُت مع عدم الصَّلاة لما قال لمن رآه لا يصلِّي: "أَلَسْت برجلٍ مسلمٍ". فصْلٌ وأمَّا إجماع الصَّحابة فقال ابن زنجويه: حدثنا عمر بن الربيع حدثنا يحيى بن أيوب عن يونس عن ابن شهاب قال: حدثني عبيدالله (2) بن عبدالله بن عتبة أنَّ عبدالله بن عباس أخبره: أنَّه جاء عمر بن الخطاب حين (3) طُعِن في المسجد، قال: فاحتملْتُهُ أنا ورهطٌ كانوا معي في المسجد (4)، حتى أدخلناه بيته، قال: فأمر عبدَالرحمن بن عوف أنْ يصلِّي بالناس، قال: فلمَّا دخلنا على عمر بيته غُشِي عليه من الموت، فلم يزل في غشيته حتى أسفر، ثم أفاق فقال: هل صلَّى النَّاس؟ قال: فقلنا: نعم، فقال: "لا إسلام لمن ترك الصَّلاة". وفي سياقٍ آخر: "لا حظَّ في _________ (1) هـ: "بحجر". تحريفٌ. (2) هـ: "عبدالله". (3) ط: "حتى". تحريف. (4) "قال: فاحتملته .. المسجد" سقطت من ض.

(1/78)


الإسلام لمن ترك الصَّلاة"، ثم دعا بوَضُوءٍ، فتوضَّأ وصلَّى. وذكر القصَّة (1). فقال هذا بمحضرٍ من الصَّحابة، ولم ينكروه عليه. وقد تقدَّم مثل (2) ذلك عن معاذ بن جبل، وعبدالرحمن بن عوف، وأبي هريرة، ولا يُعلَم عن صحابيٍّ خلافهم. وقال الحافظ عبدالحق الإشبيلي رحمه الله في كتابه في الصَّلاة: "ذهب جملةٌ من الصَّحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم إلى تكفير تارك الصَّلاة متعمدًا؛ لتركها حتى يخرج جميع وقتها، منهم: عمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل، وعبدالله بن مسعود، وابن عباس، وجابر، وأبو الدَّرداء رضي الله عنهم، وكذلك رُوِي عن علي بن أبي طالب (3)، هؤلاء من الصَّحابة. ومِن غيرهم: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبدالله بن _________ (1) أخرجه بنحوه عبدالرزاق (581) من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبدالله عن ابن عباسٍ رضي الله عنه. وقد أخرج القِصَّة من طرقٍ وسياقات أخرى ابن سعدٍ في طبقاته (3/ 350 - 351). وقد تقدَّم تخريجه أيضًا (ص/14) من حديث المسور ابن مخرمة مختصرًا. (2) ض: "قبل". (3) ط زيادة: "كرَّم الله وجهه".

(1/79)


المبارك، وإبراهيم النَّخعي، والحكم بن عُتيبة (1)، وأيوب السِّختياني، وأبوداود الطيالسي، وأبوبكر بن أبي شيبة، وأبوخيثمة زهير بن حرب" (2). قال المانعون من التَّكفير: يجب حمل هذه الأحاديث وما شاكلها على كفر النِّعمة، دون كفر (3) الجُحود؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من تعلَّم الرَّمي ثم تركه (4) فهي نعمةٌ كَفَرَها" (5)، وقوله: "لا ترغبوا عن آبائكم؛ فإنَّه كُفْرٌ _________ (1) ض: "عنبسة"، ط: "عيينة". كلاهما تحريف! (2) الصلاة والتهجد لعبد الحق الإشبيلي (ص/59). (3) "يجب حمل .. دون كفر" سقطت من هـ. (4) س: "نسيه". (5) أخرجه بلفظه أحمد (4/ 146)، وأبوداود (2513)، والنسائي (3608)، والحاكم (2/ 104)، وغيرهم، من طرقٍ عن عقبة بن عامر رضي الله عنه بنحوه، وفي إسناده اختلافٌ. وقد صحَّح إسناده الحاكم. وقد أخرجه مسلم (1919) من حديث عقبة رضي الله عنه، ولفظه: "من علم الرَّمي ثم تركه فليس منَّا أو قد عَصَى". وأخرجه الطبراني في الأوسط (4/ 273)، وأبونعيم في تاريخ أصبهان (1/ 433)، والخطيب في تاريخه (12/ 61) وغيرهم، من طريق قيس بن الربيع عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه بمثل لفظه. قال المنذري في الترغيب (2/ 182): "بإسناد حسنٍ"، قال الهيثمي في المجمع (5/ 270): "فيه قيس بن الربيع وثَّقه شعبة والثُّوري وغيرهما، وضعَّفَه جماعةٌ، وبقية رجاله ثقاتٌ". وقال أبوحاتم الرَّازي كما في علل ابنه (1/ 313): "هذا حديثٌ منكرٌ".

(1/80)


بكم" (1)، وقوله: "تبرؤٌ من نسبٍ وإنْ دقَّ (2) كُفْرٌ بعد إيمانٍ" (3)، وقوله: "سِباب المسلم فسوقٌ، وقتاله كُفرٌ" (4)، وقوله: "من أتى امرأةً في دُبُرها فقد كَفَر بما أُنزل على محمَّد" (5)، وقوله: "مَنْ حَلَف بغير الله فقد كَفَر". _________ (1) أخرجه البخاري (6830) بهذا اللَّفظ من حديث عمر موقوفًا. وأخرجه مسلمٌ (62) من حديث أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: "فمن رغب عن أبيه فهو كفرٌ". (2) ض: "رق"، هـ: "تبرؤٌ من نسبٍ وإنْ تبرأ من نسب دقَّ". (3) أخرجه أحمد في مسنده (2/ 215)، وابن ماجه (2744) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه مرفوعًا. قال البوصيري في المصباح (3/ 150): "إسنادٌ صحيحٌ". وأخرجه الطبراني في الأوسط والبزَّار من غير طريقٍ، عن أبي بكرٍ مرفوعًا. وكلُّها لا تخلو من مقال. وأخرجه عبد الرزاق (9/ 51)، وابن أبي شيبة (26633) وغيرهما، من حديث أبي بكر موقوفًا. وقد رجَّح الدَّارقطني رواية الوقف، فقال في العلل (1/ 255): "الموقوف أشبهُ بالصَّواب"، وبنحوه في (1/ 264). (4) أخرجه البخاري (48)، ومسلم (64) من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. (5) أخرجه أحمد (2/ 408)، والترمذي (135)، وأبو داود (3904)، وابن ماجه (639) وغيرهم، من طرقٍ عن حكيم الأثرم عن أبي تميمة الهُجَيمي عن أبي هريرة رضي الله عنه به. وفي بعض ألفاظه: "من أتى حائضًا، أو امرأةً في دُبُرها، أوكاهنًا فصدَّقه بما يقول= فقد بريء ممَّا أنزل على محمَّد". قال الترمذيُّ: "لا نعرف هذا الحديث إلَّا من حديث حكيم الأثرم عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي هريرة .. وضعَّف محمدٌ ـ البخاري ـ هذا الحديث من قِبَل إسناده". وقال الحافظ في التَّلخيص (3/ 180): "قال البخاري: لا يعرف لأبي تميمة سماعٌ من أبي هريرة. وقال البزَّار: هذا حديثٌ منكرٌ، وحكيمٌ لا يُحْتَجُّ به، وما انفرد به فليس بشيءٍ". وصحَّحه الألباني في الإرواء (2006)، ونقل تصحيح الذهبي والعراقي له.

(1/81)


رواه الحاكم في "صحيحه" بهذا اللَّفظ (1)، وقوله: "ثنتان في أُمَّتي هما بهم كفرٌ؛ الطَّعن في الأنساب، والنِّياحة على الميِّت" (2). ونظائر ذلك كثيرةٌ. قالوا: وقد نفى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - اسم الإيمان عن الزَّاني، والسَّارق، وشارب الخمر، والمنتهِب، ولم يوجب زوال هذا الاسم عنهم كفر الجحود والخلود في النَّار؛ فكذلك كفر تارك الصلاة، ليس بكفر جُحُودٍ، ولا يوجب التَّخليد في الجحيم. وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا إيمان لمن لا أمانة له" (3). فنَفَى عنه الإيمان، _________ (1) المستدرك (1/ 65)، وقد أخرجه أحمد (2/ 69)، وابن حبَّان (4358)، وأبوداود (3251)، بلفظ: "أشْرك"، والترمذي (1535) بلفظ: "كَفَر أوأشْرك"، كلُّهم من حديث ابن عمر رضي الله عنه مرفوعًا. وقد حسَّنه الترمذي، وصحَّحه الحاكم على شرط الشَّيخين، والألباني في الإرواء (2561) والصَّحيحة (2042). (2) أخرجه بنحوه مسلمٌ (67) وغيره، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، ولفظه: "اثنتان في النَّاس هما بهم كفر: الطَّعن في النَّسب .. " الحديث. (3) أخرجه أحمد (3/ 135)، وابن خزيمة (2335)، وابن حبان (194)، والضِّياء في المختارة (5/ 74)، والبيهقي (4/ 97)، وغيرهم، من طرقٍ عن أنسٍ رضي الله عنه مرفوعًا. وقد صحَّحه ابن خزيمة وابن حبَّان، والألباني في تخريجه لكتاب الإيمان لابن أبي شيبة (12). وقد رُوِيَ من أحاديث عِدَّة من الصَّحابة، كابن عمر وأبي موسى وعبادة وغيرهم رضي الله عنهم، ولا يخلو أسانيدها من مقالٍ. ورُويَ مرسلًا من حديث الحسن البصري عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ورجَّح الدَّارقطني إرساله كما في المختارة للضياء (5/ 74).

(1/82)


ولا يوجب ترك أداء الأمانة أنْ يكون كافرًا كُفْرًا ينقل عن المِلَّة. وقد قال ابن عباسٍ في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة/44]: "ليس بالكفر الذي يذهبون (1) إليه" (2). وقال طاووس: سُئِل ابن عبَّاس عن هذه الآية فقال: "هو به كفرٌ، وليس كمَنْ كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله" (3). وقال أيضًا: "كفرٌ لا ينقل عن المِلَّة" (4). وقال سفيان عن ابن جريح عن عطاءٍ: "كُفرٌ دون _________ (1) س: "تذهبون". (2) أخرجه الحاكم (2/ 342) ومن طريقه البيهقي في الكبرى (8/ 20)، وابن أبي حاتم في تفسيره (4/ 1143)، وابن نصر في تعظيم قدر الصلاة (569)، وغيرهم، من طرقٍ عن هشام بن حجير عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنه به. وهشامٌ صدوقٌ. وقد صحَّح الحاكم إسناده، والألباني في الصَّحيحة (6/ 113). (3) أخرجه الثوري في تفسيره (ص/101)، وعبدالرزاق في تفسيره (1/ 191)، وابن جرير في تفسيره (8/ 465)، وابن أبي حاتم في تفسيره (4/ 1143)، وغيرهم، من طريق ابن طاووس عن أبيه به. قال الألباني في الصَّحيحة (6/ 113): "بإسنادٍ صحيحٍ". تنبيهٌ: في تفسير عبدالرزاق من طريق معمر عن ابن طاووس عن أبيه: سئل ابن عباس عن قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} فقال: "هي كفر". قال ابن طاووس: "وليس كمن كفر بالله وملائكته ورسله". (4) أخرجه الثوري في تفسيره (ص/101)، وعبدالرزاق في تفسيره (1/ 191)، وابن جرير في تفسيره (8/ 465) عن رجلٍ عن طاووس من قوله. ... = = ... وأخرجه ابن نصر في تعظيم قدر الصلاة (573) من طريق الثوري عن رجلٍ عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنه موقوفًا عليه من قوله. وفي إسناديهما راوٍ مبهمٌ. ثم أخرجه ابن نصر في تعظيم قدر الصلاة (574) من طريق الثوري عن سعيد المكي عن طاووس من قوله. وسعيد المكي هو ابن حسَّان المخزومي، وثَّقَه ابن معين وأبوداود والنسائي، وأخرج له مسلمٌ، كما في تهذيب الكمال (10/ 384). وسيأتي من كلام المصنِّف قريبًا نسبته إلى طاووس. وأخرجه الحاكم (2/ 342) ومن طريقه البيهقي في الكبرى (8/ 20)، وغيرهما من طريق هشام بن حجير عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنه، جملةً مكمِّلة للأثر السالف المخرَّج عنه: "ليس بالكفر الذي يذهبون، ليس كفرًا ينقل عن الملَّة". وتقدَّم تصحيحه.

(1/83)


كُفْرٍ، وظلمٌ دون ظلمٍ، وفِسقٌ دون فسقٍ (1).

  فصْلٌ في الحُكم بين الفريقين وفصْل الخِطاب بين الطَّائفتين

معرفة الصَّواب في هذه المسألة مبنيٌّ على معرفة حقيقة الإيمان والكفر، ثم يصحُّ النَّفي والإثبات بعد ذلك؛ فالكفر والإيمان متقابلان، إذا زال أحدهما خَلَفَه الآخر. _________ (1) أخرجه الثوري في تفسيره (ص/101)، وعبدالرزاق في تفسيره (1/ 191)، وابن جرير في تفسيره (8/ 464 - 465) وابن أبي حاتم في تفسيره (4/ 1149)، وابن نصر في تعظيم قدر الصلاة (575)، وغيرهم، من طريق ابن جريج عن عطاء به. قال الألباني في الصَّحيحة (6/ 114): "إسناده صحيحٌ".

(1/84)


ولمَّا كان الإيمان أصلًا (1)، له شعبٌ متعدِّدةٌ، وكُلُّ شعبةٍ منها (2) تُسَمَّى إيمانًا، فالصَّلاة من الإيمان، وكذلك الزَّكاة، والحج، والصِّيام، والأعمال الباطنة؛ كالحياء، والتوكُّل، والخشية من الله، والإنابة إليه، حتَّى تنتهي هذه الشُّعَب إلى إماطة الأذى عن الطَّريق؛ فإنَّه شعبةٌ (3) من شعب الإيمان. وهذه الشُّعَب منها ما يزول الإيمان بزوالها، كشُعْبة الشَّهادة، ومنها ما لا يزول بزوالها، كترك إماطة الأذى عن الطَّريق، وبينهما شُعَبٌ متفاوتةٌ تفاوتًا عظيمًا؛ منها ما يلحق شُعْبة الشَّهادة ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق شعبة إماطة الأذى، ويكون إليها أقرب. وكذلك الكفر ذو أصلٍ وشُعَبٍ، فكما أنَّ شُعَب الإيمان إيمانٌ (4) فشُعَب الكفر كفرٌ؛ فالحياء شُعْبةٌ من شُعَب الإيمان (5)، وقِلَّة الحياء شُعْبةٌ من شعب الكفر. والصِّدْق شعبةٌ من شعب الإيمان، والكذب شعبةٌ من شعب الكفر (6). والصَّلاة والزَّكاة والحج والصِّيام من شعب _________ (1) ض: "أصلٌ". (2) "منها" ليست في ض. (3) "شعبة" ليست في س. (4) "إيمان" ليست في هـ. (5) هـ وط: "من الإيمان". (6) "وقِلَّة الحياء .. الإيمان" سقطت من س. "والصدق .. الكفر" سقطت من هـ.

(1/85)


الإيمان، وتركها من شعب الكفر. والحكم بما أنزل الله من شعب الإيمان، والحكم بغير ما أنزل الله من شعب الكفر. والمعاصي كُلُّها من شعب الكفر، كما أنَّ الطَّاعات كلَّها من شعب الإيمان. وشعب الإيمان قِسْمان: قوليَّة، وفعليَّة. وكذلك شعب الكفر نوعان: قوليَّة، وفعليَّة. ومن شعب الإيمان القوليَّة شعبةٌ يوجب (1) زوالها زوال الإيمان، فكذلك من شُعَبِه (2) الفِعليَّة ما يوجب زوالها زوال الإيمان. وكذلك شعب الكفر القوليَّة والفعليَّة؛ فكما يكفر بالإتيان بكلمة الكُفْر اختيارًا ـ وهي شُعْبَةٌ من شعب الكفر ـ فكذلك يكفر بفعل شُعْبةٍ من شُعَبِه، كالسُّجود للصَّنَم، والاستهانة بالمصحف، فهذا أصلٌ. وههنا أصلٌ آخر، وهو: أنَّ حقيقة الإيمان مركَّبةٌ من قولٍ وعملٍ. والقول قِسْمان: قول القلب، وهو الاعتقاد. وقول اللِّسان، وهو التكلُّم بكلمة الإسلام. والعمل قِسْمان: عمل القلب، وهو نيَّتُه وإخلاصه. وعمل الجوارح. فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقيَّة الأجزاء؛ فإنَّ تصديق القلب شرطٌ _________ (1) ض: "توجب". (2) ض: "من شعب"، ط: "فكذلك ومن شعبه".

(1/86)


في اعتقادها، وكونها (1) نافعة. وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصِّدق فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السُّنَّة. فأهل السُّنَّة مجمعون على زوال الإيمان، وأنَّه لا ينفع التَّصديق مع انتفاء عمل القلب، وهومحبَّته وانقياده؛ كما لم ينفع (2) إبليس، وفرعون وقومه، واليهود، والمشركين (3) الذين كانوا يعتقدون صِدق الرسول؛ بل ويُقِرُّون به سِرًّا وجهرًا، ويقولون: ليس بكاذِبٍ، ولكن لا نتَّبِعه ولا نؤمن به. وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب فغير مستنكرٍ أنْ يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح؛ ولا سيَّما إذا كان ملزُوْمًا لعدم محبَّة القلب وانقياده؛ الذي هو ملزُوْمٌ لعدم (4) التَّصديق الجازم، كما تقدَّم تقريره. فإنَّه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب؛ إذْ لو أطاع القلب وانقاد أطاعت الجوارح وانقادت. ويلزم من عدم طاعة القلب (5) وانقياده عدم التَّصديق المستلزم للطَّاعة، وهو حقيقة الإيمان؛ فإنَّ _________ (1) س: "اعتبارها لكونها". (2) ض: "ينتفع". (3) ض: "والمشركون". (4) ض: "بعدم". (5) هـ وط: "عدم طاعته".

(1/87)


الإيمان ليس مجرَّد (1) التَّصديق ـ كما تقدَّم بيانه ـ وإنَّما هو التَّصديق المستلزم للطَّاعة والانقياد. وهكذا الهُدَى ليس هو مجرَّد (2) معرفة الحق وتبيُّنه (3)؛ بل هو معرفته المستلزمة لاتِّباعه، والعمل بموجبه، وإنْ سُمِّيَ الأول هُدًى فليس هو الهُدى التَّام المستلزم للاهتداء. كما أنَّ اعتقاد التَّصْديق وإنْ سُمِّيَ تصْديقًا فليس هو التَّصديق المستلزم للإيمان. فعليك بمراجعة هذا الأصل ومراعاته. فصْلٌ وههنا أصلٌ آخر، وهو أنَّ الكفر نوعان، كفر عملٍ، وكفر جحودٍ وعنادٍ؛ فكفر الجحود: أنْ يكفر بما عَلِم أنَّ الرَّسول جاء به من عند الله، جُحُودًا وعنادًا، من أسماء الرَّب وصفاته وأفعاله وأحكامه. وهذا الكفر يضادُّ الإيمان من كُلِّ وجهٍ. وأمَّا كفر العمل: فينقسم إلى ما يضادُّ الإيمان، وإلى ما لا يضادُّه. _________ (1) س: "بمجرد". (2) هـ: "ليس مجرد"، س: "ليس هو بمجرد". (3) س وض وط: "تبيينه".

(1/88)


فالسُّجُود (1) للصَّنَم، والاستهانة بالمصْحف، وقتل النَّبيِّ وسبُّه يضادُّ الإيمان. وأمَّا الحكم بغير ما أنزل الله، وترك الصَّلاة فهو من الكفر العملي قطعًا. ولا يمكن أن يُنْفَى عنه اسم الكفر، بعد أنْ أطلقه الله ورسوله عليه. فالحاكم بغير ما أنزل الله كافِرٌ، وتارك الصلاة كافِرٌ، بنصِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولكن هو كُفْرُ عمل، لا كفر اعتقادٍ. ومن الممتنع أنْ يسمِّي الله سبحانه الحاكم (2) بغير ما أنزل الله كافِرًا، ويُسَمِّي رسول الله (3) - صلى الله عليه وسلم - تارك الصلاة كافِرًا، ولا يُطْلَق عليهما اسم الكفر! وقد نفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4) اسم الإيمان عن الزَّاني، والسَّارق، وشارب الخمر (5)، وعمَّن لا يأْمَنُ جارُه بوائقَه (6). وإذا نفى عنه اسم الإيمان فهو كافرٌ من جهة العَمَل، وإنْ انتفى عنه كفر الجحود والاعتقاد. وكذلك قوله: "لا ترجعوا بعدي كفَّارًا، يضرِب بعضُكم رقاب _________ (1) س: "كالسجود". (2) س: "الله سبحانه يسمي الحاكم". (3) ض: "رسوله". (4) س: "النَّبي - صلى الله عليه وسلم -". (5) سيأتي تخريجه (ص/98). (6) أخرجه البخاري (6016)، بلفظ: "والله لا يؤمن". وأخرجه مسلم (46) بلفظ: "لا يدخل الجنة .. ".

(1/89)


بعض" (1)؛ فهذا كفر عملٍ. وكذلك قوله: "من أتى كاهِنًا فصدَّقه، أوامرأةً في دُبُرها فقد كفر بما أنزل على محمَّدٍ" (2). وقوله: " إذا قال الرَّجل لأخيه: يا كافر فقد باءَ بها أحدُهما" (3). وقد سمَّى الله سبحانه من عمل ببعض كتابه وترك العمل ببعضه مؤمنًا بما عمل به، وكافرًا بما ترك العمل به؛ فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ (4) أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ (5) وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ _________ (1) أخرجه البخاري (1739)، ومسلم (1679) من حديث ابن عباس رضي الله عنه مرفوعًا. وأخرجاه ـ أيضًا ـ من حديث ابن عمر، وابن عباس، وجرير، وغيرهم. (2) هو جزءٌ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "من أتى حائضًا أوامرأةً في دُبُرها .. ". وقد تقدَّم تخريجه قريبًا (ص/81). (3) أخرجه البخاري (6103)، ومسلم (60) من حديثي أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم مرفوعًا. (4) {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} ليست في ض. (5) {الْكِتَابِ} ليست في ض.

(1/90)


الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة/84 - 85]. فأخبر سبحانه أنَّهم أقرُّوا بميثاقه الذي أمرهم به، والتزموا به. وهذا يدلُّ على تصديقهم به؛ أنَّهم لا يقتل بعضهم بعضًا، ولا يخرج بعضهم بعضًا من ديارهم. ثمَّ أخبر (1) أنَّهم عصوا أمره، وقتل فريقٌ منهم فريقًا، وأخرجوهم من ديارهم؛ فهذا كُفْرُهم بما أَخَذَ عليهم في الكتاب. ثمَّ أخبر أنَّهم يفدون مَنْ أُسِر من ذلك الفريق، وهذا إيمانٌ منهم بما (2) أَخَذَ عليهم في الكتاب؛ فكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق، كافرين بما تركوه منه. فالإيمان العملي يضادُّه (3) الكفر العملي، والإيمان الاعتقادي يضادُّه الكفر الاعتقادي. وقد أعلن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بما قلناه في قوله في الحديث الصَّحيح: "سباب المسلم فُسُوقٌ وقتاله كفرٌ" (4). ففرَّق بين سِبَابِه وقتالِه (5)، وجعل أحدَهما فُسُوقًا لا يكفر به، والآخر كفرًا. _________ (1) س: "وأخبر". (2) هـ وط: "لما". (3) ض: "يضاد". وليس في س: "العملي". (4) تقدم تخريجه (ص/81) وأنه في الصحيحين. (5) هـ وط: "قتاله وسبابه".

(1/91)


ومعلومٌ أنَّه إنَّما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي. وهذا الكفر لا يخرجه من الدَّائرة الإسْلامية، والمِلَّة بالكُلِّيَّة، كما لم يخرج الزَّاني والسَّارق (1) والشَّارب من المِلَّة، وإنْ زال عنه اسم الإيمان. وهذا التَّفصيل هو قول الصَّحابة، الذين هم أعلم الأُمَّة بكتاب الله، وبالإسلام، والكفر، ولوازمهما (2)؛ فلا تُتَلَقَّى هذه المسائل إلَّا عنهم. فإنَّ المتأخِّرين لم يفهموا مرادهم، فانقسموا فريقين: فريقًا أخرجوا من المِلَّة بالكبائر، وقضوا على أصحابها بالخلود في النَّار. وفريقًا جعلوهم مؤمنين، كاملي الإيمان، فهؤلاء غلوا، وهؤلاء جفوا. وهدى الله أهل السُّنَّة للطَّريقة المثلى، والقول الوسط، الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل. فههنا كُفْرٌ دون كُفْرٍ، ونِفاقٌ دون نِفاقٍ، وشِرْكٌ دون شِرْكٍ، وفُسُوقٌ دون فُسُوقٍ (3)، وظُلمٌ دون ظُلمٍ. قال سفيان بن عيينة عن هشام بن حجير عن طاووس عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} _________ (1) ض: "لا يخرج السارق والزاني". (2) هـ وط: "لوازمها". (3) ليس في س: "وفسوق دون فسوق".

(1/92)


[المائدة/44]: "ليس هو بالكفر الذي يذهبون إليه (1) " (2). وقال عبدالرزَّاق: أخبرنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال: سُئِل ابن عباس عن قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة/44] قال: "هو بهم كُفْرٌ، وليس كَمَن كَفَر بالله وملائكته وكتبه ورسله" (3). وقال في روايةٍ أخرى عنه: "كفرٌ لا ينقل عن المِلَّة" (4). وقال طاووس: "ليس بكُفْرٍ ينقل عن المِلَّة" (5). وقال وكيع عن سفيان عن ابن جريج عن عطاءٍ: "كفرٌ دون كفرٍ، وظلمٌ دون ظلمٍ، وفسقٌ دون فسقٍ" (6). وهذا الذي قاله عطاء بيِّنٌ في القرآن لمن فهمه؛ فإنَّ الله سبحانه سمَّى الحاكم بغير ما أنزله كافِرًا، وسمَّى (7) جاحِد ما أنزله على رسوله كافرًا. وليس الكافران على حَدٍّ سواء. _________ (1) ض: "ليس الكفر .. ". هـ وس: " .. تذهبون .. ". (2) تقدَّم تخريجه قريبًا. (3) تقدَّم تخريجه قريبًا. (4) تقدَّم تخريجه قريبًا. (5) تقدَّم تخريجه قريبًا. (6) تقدَّم تخريجه قريبًا. (7) س: "أنزله الله .. ". ط: "ويسمِّي"، وهكذا هو فيه وفي (هـ) في المواضع الخمسة الآتية.

(1/93)


وسمَّى الكافر ظالمًا؛ كما في قوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة/254]. وسمَّى متعدِّي حدوده في النِّكاح، والطَّلاق، والرَّجعة، والخُلْع ظالمًا؛ فقال: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق/1]. وقال يونس رسوله ونبيُّه (1): {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء/87]. وقال صفيُّه آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (2)} [الأعراف/23]. وقال كليمُه موسى (3): {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص/16]. وليس هذا الظُّلم مثل ذلك الظُّلم. وسمَّى الكافر فاسقًا؛ كما في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} الآية [البقرة/26 - 27]. وقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} [البقرة/99]. وهذا كثيرٌ في القرآن. وسمَّى المؤمن العاصي فاسقًا؛ كما (4) في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ _________ (1) ليس في ط: "رسوله ونبيِّه". (2) تتمَّة الآية: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ .. الْخَاسِرِينَ} ليست في س وط. (3) "موسى" ليست في س. (4) "كما" ليست في هـ وس.

(1/94)


آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات/6]، الآية. نزلت في الحكم بن أبي العاص، وليس الفاسق كالفاسق. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور/4]. وقال عن إبليس: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف/50]. وقال: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ (1)} [البقرة/197]. وليس الفُسُوق كالفسوق. والكُفر كُفْران، والظُّلْم ظُلْمان، والفِسْق فِسْقان. وكذا (2) الجَهْل جهلان؛ جهْلٌ كُفْرٌ، كما في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف/199]. وجهْلٌ غيرُ كُفْرٍ، كقوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء/17]. وكذلك الشِّرْك شِركان؛ شركٌ ينقل عن المِلَّة، وهو الشِّرك الأكبر. وشركٌ لا ينقل عن المِلَّة، وهو الشِّرك الأصغر، وهو شرك العمل، كالرِّياء. _________ (1) س زيادة: {وَلَا جِدَالَ}. (2) هـ: "وكذلك".

(1/95)


وقال تعالى في الشِّرك الأكبر: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة/72]، وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج/31]. وفي شِرك الرِّياء: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف/110]. ومن هذا (1) الشِّرك الأصغر: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من حَلَف بغير الله فقد أشرك"، رواه أبوداود وغيره (2) (3). ومعلومٌ أنَّ حلفه بغير الله لا يخرجُه عن (4) المِلَّة، ولا يوجب له حكم الكفَّار. ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الشِّرْك في هذه الأمة أخفى من دَبِيْب النَّمل" (5). _________ (1) ط: "هذه". (2) ليس في ض: "وغيره". (3) تقدَّم تخريجه (ص/81). (4) ض: "من". (5) أخرجه المروزي في مسند أبي بكر (17)، وأبويعلى (58)، وغيرهما، من حديث أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه بنحوه، وفيه راوٍ مبهمٌ. وأخرجه الضياء في المختارة (1/ 150)، وأبونعيم في الحلية (7/ 112)، وابن عدي (7/ 240)، من حديث أبي بكرٍ أيضًا. وفيه أبوالنَّضْر يحيى بن كثير، ضعيفٌ جدًّا. وأعلَّه الدارقطني في العِلل (1/ 192). وأخرجه أحمد (4/ 403)، والطبراني في الأوسط (4/ 10)، وغيرهما، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وفيه راوٍ مبهمٌ. ... = = ... وقد رُوِي من حديث ابن عباس وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم، وكلُّها لا تسلم من مقال. وصحَّح الألباني الحديث في الضعيفة (3755) بهذه الشَّواهد والطُرق كلها.

(1/96)


فانظر كيف انقسم الشِّرك، والكُفر، والفُسُوق، والظُّلم، والجَهْل، إلى ما هو كفرٌ ينقل عن المِلَّة، وإلى ما لا ينقل عنها. وكذلك النِّفاق نِفاقان؛ نِفاق اعْتِقادٍ، ونِفاق عَمَلٍ. فنفاق الاعْتِقاد هو الذي أنكره (1) الله على المنافقين في القرآن، وأوجب لهم به الدَّرْك الأسفل من النَّار. ونفاق العَمَل، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصَّحيح: "آية المنافق ثلاثٌ؛ إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائْتُمِن خان" (2). وفي الصَّحيح أيضًا: "أربعٌ مَنْ كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومَنْ كانت فيه خِصلةٌ منهُنَّ كانت فيه خِصلةٌ من النِّفاق حتى يَدَعها؛ إذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا ائتُمِن خان" (3). فهذا نفاق عملٍ، قد يجتمع مع أصْل الإيمان (4)، ولكن إذا استحكم _________ (1) ض وس: "ذكره". (2) أخرجه البخاري (33)، ومسلم (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاري (34)، ومسلم (58) من حديث عبدالله بن عمروٍ رضي الله عنه. (4) ض وط: "يجمع .. ". س: " .. أصل الإسلام".

(1/97)


وكمل فقد ينسلخ صاحبُه عن الإسلام بالكُلِّيَّة، وإنْ صلَّى وصام وزَعَم أنَّه مسلمٌ؛ فإنَّ الإيمان ينْهَى المؤمن عن هذه الخِلال، فإذا كملت في العبد ولم يكن له عذرٌ (1) ما ينهاه عن شيءٍ منها فهذا لايكون إلَّا منافقًا خالصًا. وكلام الإمام أحمد يدلُّ على هذا، فإنَّ إسماعيل بن سعيد الشَّالَنْجِي (2) قال: "سألتُ أحمد بن حنبل عن المُصِرِّ على الكبائر؛ يطلُبُهَا بجهدِه، إلَّا أنَّه لم يترك الصَّلاة والزَّكاة والصَّوم، هل يكون مُصِرًّا مَنْ كانت هذه حاله؟ قال: هو مُصِرٌّ، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزني الزَّاني حين يزني وهو مؤمنٌ"، يخرج من الإيمان، ويقع في الإسلام. ونحو قوله: "لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمنٌ، ولا يَسْرق حين يَسْرق وهو مؤمنٌ" (3). ونحو قول ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة/44]. _________ (1) "عذر" ليست في س وط، وفي ض: "عذار". (2) ط: "السالحي". تحريفٌ! والشَّالَنْجِي بفتح الشِّين المعجمة واللَّام هو أبوإسحاق الكسائي الجرجاني، من أفاضل أصحاب أحمد، كان إمامًا، عالمًا، كبير القدر، وعنده مسائل كثيرةٌ عن أحمد ليست عند أحدٍ من أصحابه، توفي سنة 230 هـ. ترجمته في: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 104)، والأنساب للسمعاني (7/ 259). (3) أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (57)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(1/98)


قال إسماعيل: فقلتُ له: ما هذا الكفر؟ قال: كفرٌ لا ينقل عن المِلَّة. مثل الإيمان، بعضه دون بعض، فكذلك الكفر، حتى يجيء من ذلك أمرٌ لا يُخْتَلَفُ فيه" (1). فصْلٌ وههنا أصلٌ آخر، وهو: أنَّ الرجل قد يجتمع فيه كفرٌ وإيمانٌ، وشركٌ وتوحيدٌ، وتقوى وفجورٌ، ونفاقٌ وإيمانٌ. وهذا من أعظم أصول أهل السُّنة. وخالفهم فيه غيرهم من أهل البدع؛ كالخوارج، والمعتزلة، والقدريَّة. ومسألة خروج أهل الكبائر من النَّار، وتخليدهم فيها مبنيَّةٌ على هذا الأصل. وقد دلَّ عليه (2) القرآن، والسُّنَّة، والفِطْرة، وإجماع الصَّحابة. وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف/106]. فأثْبَت لهم إيمانًا به سبحانه مع الشِّرك. وقال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات/14]. فأثْبَت لهم إسلامًا، وطاعةً لله ورسوله، مع _________ (1) ذكره ابن نصر في تعظيم قدر الصلاة (2/ 527). (2) هـ: "وقد ذلك عليه"!

(1/99)


نفي الإيمان عنهم؛ وهو الإيمان المطلق الذي يستحقُّ اسمه بمطلقه الذين: {آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الحجرات/15]. وهؤلاء ليسوا منافقين في أصحِّ القولين؛ بل هم مسلمون بما معهم من طاعة الله ورسوله. وليسوا بمؤمنين، وإنْ كان معهم جزءٌ من الإيمان أخرجهم من الكفر. قال الإمام أحمد (1): من أتى هذه الأربعة أومثلهنَّ، أوفوقهنَّ ـ يريدُ الزِّنا، والسَّرقة، وشرب الخمر، والانتهاب ـ فهو مسلمٌ، ولا أسمِّيه مؤمنًا، ومَن أتَى دون ذلك ــ يريد: دون الكبائر ـ سمَّيتُه مؤمنًا (2) ناقص الإيمان. وقد دلَّ على هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فمن كانت فيه خَصْلةٌ منهنَّ كانت فيه خَصْلةٌ من النِّفاق" (3)؛ فدلَّ على أنَّه يجتمع في الرجل نفاقٌ وإسلامٌ. وكذلك الرِّياء شركٌ، فإذا راءَى الرجل في شيءٍ من عمله اجتمع فيه الشِّرك والإسلام، وإذا حكم بغير ما أنزل الله، أو فعل ما سمَّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفرًا ـ وهو ملتزمٌ للإسلام وشرائعه ـ فقد قام به كفرٌ وإسلامٌ. _________ (1) س زيادة: " .. بن حنبل". (2) ض وس: "مؤمن". (3) تقدَّم تخريجه قريبًا (ص/97).

(1/100)


وقد بيَّنَّا أنَّ المعاصي كُلَّها شُعبٌ من شُعب الكفر، كما أنَّ الطَّاعات كلها شُعبٌ من شُعب الإيمان. فالعبد تقوم (1) به شعبةٌ أوأكثر من شُعب الإيمان، وتقوم به شُعبةٌ أوأكثر من شُعب الكفر (2)، وقد يُسمَّى بتلك (3) الشُّعب مؤمنًا، وقد لا يُسمَّى، كما أنَّه قد يُسمَّى بشُعب الكفر كافرًا، وقد لا يُطْلق عليه هذا الاسم. فههنا أمران: أمرٌ اسميٌّ لفظيٌّ، وأمرٌ معنويٌّ حكميٌّ. فالمعنويُّ: هل هذه الخِصْلة كفرٌ أم لا؟ واللَّفظيُّ: هل يُسَمَّى مَن قامت به كافرًا أم لا؟ فالأمر الأول شرعيٌّ محضٌ، والثَّاني لغويٌّ وشرعيٌّ. فصْلٌ وههنا أصلٌ آخر، وهو: أنَّه لا يلزم مِن قيام شُعبةٍ من شُعب الإيمان بالعبد أنْ يُسمَّى مؤمنًا، وإنْ كان ما قام به إيمانًا، ولا من قيام شُعبةٍ من شُعب الكفر به أنْ يُسمَّى كافرًا، وإنْ كان ما قام به كفرًا. كما أنَّه لا يلزم من قيام جزءٍ من أجزاء العلم به أنْ يُسمَّى عالمًا، ولا _________ (1) ض وس: "يقوم"، وكذا في الموضع التالي بعده. (2) "وتقوم به .. الكفر" ليس في ط. (3) ض وس: "بذلك".

(1/101)


مِنْ معرفته (1)

 بعضَ مسائل الفقه والطِّب أنْ يُسمَّى فقهيًا ولا طبيبًا.

ولا يمتنع ذلك؛ أنْ تُسمَّى (2) شُعبة الإيمان إيمانًا، وشُعبة النِّفاق نفاقًا، وشُعبة الكفر كفرًا. وقد يطلق (3) عليه الفعل؛ كقوله: "فمن تركها فقد كفر" (4)، (5) وقوله: "من أتى كاهنًا فصدَّقَه بما يقول فقد كفر، ومن حَلَف بغير الله فقد كفر". رواه الحاكم في "صحيحه" بهذا اللَّفظ (6). فمَنْ صَدَر منه خُلَّةٌ من خِلال الكفر فلا يستحقُّ اسم كافرٍ على الإطلاق. وكذا يقال لمن ارتكب محرَّمًا: إنَّه فعل فُسُوقًا، وإنَّه (7) فسق بذلك المحرَّم، ولا يلزمه اسم فاسقٍ، إلَّا بغلبة ذلك عليه. وهكذا الزَّاني، والسَّارق، والشَّارب، والمنتهب، لا يُسمَّى مؤمنًا، وإنْ كان معه إيمانٌ. كما أنَّه لا يُسمَّى كافِرًا، وإنْ كان ما أتى به من خصال الكفر وشعبه؛ إذْ المعاصي كلُّها من شعب الكفر، كما أنَّ الطاعات كلَّها من شعب الإيمان. _________ (1) هـ وط: "معرفة". (2) ض وس: "يسمي". (3) س: "نطلق". (4) تقدَّم تخريجه (ص/68). (5) هـ وط زيادة: "ومن حلف بغير الله فقد كفر"، ولعلَّه انتقال نظرٍ للجملة التي بعدها. (6) تقدَّم تخريجه (ص/81). (7) ض: "وإن".

(1/102)


والمقصودُ: أنَّ سلْبَ اسم الإيمان (1) عن تارك الصَّلاة أولى من سلْبِه عن مرتكب الكبائر، وسلْب اسم الإسلام (2) عنه أولى من سلْبِه عمَّن لم يسلَم المسلمون من لسانه ويده. فلا يُسمَّى تارك الصَّلاة مسلمًا ولا مؤمنًا، وإنْ كان معه شُعْبة من شعب الإسلام والإيمان. يبقى (3) أنْ يقال: فهل ينفعه ما معه من الإيمان في عدم الخلود في النَّار؟ فيُقال: ينفعه إنْ لم يكن المتروك شرطًا في صحَّة الباقي واعتباره، وإنْ كان (4) المتروك شرطًا في اعتبار الباقي لم ينفعه؛ ولهذا لا (5) ينفع الإيمان بالله ووحدانيته، وأنَّه لا إله إلَّا هو مَنْ أنكر رسالة محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ولا تنفع الصَّلاة مَنْ (6) صلَّاها عمدًا بغير وضوء. فشعب الإيمان قد يتعلَّق بعضها ببعضٍ؛ تعلُّق المشروط بشَرْطِه، وقد لا يكون كذلك. فيبقى النَّظر في الصلاة، هل هي شرطٌ لصحَّة الإيمان؟ هذا سِرُّ المسألة. _________ (1) س: "اسم الإيمان". (2) س: "الإيمان". (3) ط: "نعم يبقى". (4) "كان"ليست في ض. (5) ط: "لم". (6) ض: "لمن".

(1/103)


والأدلَّة التي ذكرناها وغيرها تدلُّ (1) على أنَّه لا يقبل من العبد شيءٌ من أعماله إلَّا بفعل الصلاة. فهي مفتاح ديوانه، ورأس مال ربحه. ومُحالٌ بقاء الرِّبح بلا رأس مالٍ، فإذا خسرها خسر أعماله كلَّها، وإنْ أتى بها صورةً. وقد أشار إلى هذا في قوله: "وإنْ (2) ضيَّعها فهو لما سواها أضْيع" (3)، وفي قوله: "إنَّ أوَّل ما يُنْظَر (4) في أعماله الصَّلاة؛ فإنْ جازت (5) له نُظِرَ في سائر أعماله، وإنْ لم تجز له لم يُنْظَر في شيءٍ من أعماله بعدُ" (6). ومِن العَجب أنْ يقع الشَّكُّ في كفر من أصرَّ على تركها، ودُعِي إلى (7) فعلها على رؤوس الملأ، وهو يَرى بارقة السَّيف على رأسه، وشُدَّ للقتل، وعُصِبت عيناه، وقيل له: تصلِّي وإلَّا قتلناك؟ = فيقول: اقتلوني ولا أصلِّي أبدًا! ومَن لا يكفِّر تارك الصلاة يقول: هذا مؤمنٌ، مسلمٌ، يغسَّل، ويصلَّى _________ (1) "وغيرها" ليست في س. وفي هـ: "تدخل" بدل "تدل". (2) ض: "فمن". (3) تقدَّم تخريجه بنحوه (ص/39، 45). (4) "إن" ليست في س. وفي ض: "إنَّما ينظر .. ". (5) هـ: "أجازت". (6) تقدَّم تخريجه بنحوه (ص/39، 45). (7) ض: "على".

(1/104)


عليه، ويُدفن في مقابر المسلمين. وبعضهم يقول: إنَّه مؤمنٌ، كامل الإيمان، إيمانُه كإيمان جبرئيل (1) وميكائيل! أفلا (2) يستحي مَنْ هذا قولُهُ من إنكاره (3) تكفير من شهد بكفره الكتاب والسُّنَّة واتفاق الصَّحابة! والله الموفق. فصْلٌ في سياق أقوال العلماء من التَّابعين ومَنْ بعدهم، في كفر تارك الصَّلاة، ومَنْ حكى الإجماع على ذلك قال محمد بن نصر (4): حدَّثنا محمد بن يحيى حدَّثنا أبو النُّعمان حدَّثنا حمَّاد بن زيد عن أيوب قال: "ترك الصَّلاة كفرٌ لا يُخْتَلف فيه". وحكى محمد (5) عن ابن المبارك قال: "من أخَّر صلاةً (6) حتى يفوت وقتها متعمِّدًا من غير عُذرٍ فقد كفر". وقال علي بن الحسن بن شقيق: سمعت عبدالله بن المبارك يقول: _________ (1) ط: "جبريل". (2) هـ وط: "فلا". (3) ض: "إنكار". (4) تعظيم قدر الصلاة (978). (5) تعظيم قدر الصلاة (979). (6) ض وس: "الصَّلاة".

(1/105)


"من (1) قال: إنِّي لا أصلِّي المكتوبة اليوم فهو أكفر من الحمار (2) " (3). وقال يحيى بن معين: قيل لعبدالله بن المبارك: إنَّ هؤلاء يقولون: من لم يصُمْ ولم يُصَلِّ بعد أنْ يقرَّ به فهو مؤمنٌ مستكمل الإيمان! فقال عبدالله: "لا نقول نحن كما (4) يقول هؤلاء. مَنْ تَرَك الصَّلاة متعمِّدًا من غير عِلَّةٍ حتى أدْخَل وقتًا في وقتٍ فهو كافرٌ" (5). وقال ابن أبي شيبة: "قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَرَك الصَّلاة فقد كفر"، فيُقَال له: ارجع عن الكفر، فإنْ فَعَل وإلَّا قُتِل، بعد أنْ يؤجِّله الوالي (6) ثلاثة أيام" (7). وقال أحمد بن سيَّار (8): سمعت صدقة بن الفضل ـ وسُئِل عن تارك _________ (1) "وقال علي .. يقول: من" ليست في هـ. (2) هـ: "الكفر من حمار"! ط: " .. حمار". (3) تعظيم قدر الصلاة (980). (4) ض وط: "ما". (5) تعظيم قدر الصلاة (981). (6) "الوالي" ليست في ض. (7) تعظيم قدر الصلاة (988). (8) س: "سمار"، هـ وط: "يسار". وهو أحمد بن سيار بن أيوب بن عبد الرحمن المروزي، أبو الحسن الفقيه، ترجمته في تهذيب الكمال للمزِّي (1/ 323)، والسِّير للذَّهبي (12/ 609)، وغيرهما.

(1/106)


الصَّلاة ـ فقال: كافرٌ. فقال له السَّائل: أتَبِيْنُ منه امرأتُه؟ فقال صدقة: "وأين الكفر من الطَّلاق؟ لو أنَّ رجلًا كفر لم تطلق (1) امرأته! " (2). قال أبوعبدالله ابن نصر (3) (4): سمعت إسحاق يقول: "صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ تارك الصَّلاة كافرٌ، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا؛ أنَّ تارك الصَّلاة عمْدًا من غير عذرٍ حتى يذهب وقتها كافرٌ". فصْلٌ وأمَّا المسْألة الخامسة (5): وهي قوله: هل تحبط الأعمال بترك الصَّلاة أم لا؟ فقد عُرِف جوابُها ممَّا (6) تقدَّم، على أنَّا نفرد هذه المسألة بالكلام عليها بخصوصها (7). فنقول: أمَّا تركها بالكليَّة فإنَّه لا يُقْبَل معه عملٌ، كما لا يُقْبَل مع _________ (1) "كفر"ليست في ض. وفي هـ وط: " .. تطلق منه". (2) تعظيم قدر الصلاة (989). (3) ضُرِب في س على: "أبوعبدالله محمد بن نصر"، ط: "عبدالله بن نصر". (4) تعظيم قدر الصلاة (990). (5) ض وهـ وط: "الرَّابعة". وهو غلطٌ؛ فقد تقدَّمت الرابعة (ص/40)، وسيتوالى الخطأ في العدِّ تباعًا، كما سيأتي التَّنبيه عليه. (6) ض: "بما". (7) ض وهـ وط: "بخصوصيَّتها".

(1/107)


الشِّرك عملٌ؛ فإنَّ الصَّلاة عمود الإسلام كما صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (1)، وسائر الشَّرائع كالأطناب والأوتاد ونحوها، وإذا لم يكن للفُسْطاط عمودٌ لم يُنْتَفع بشيءٍ من أجزائه. فقبول (2) سائر الأعمال موقوفٌ على قبول الصلاة، فإذا رُدَّت رُدَّت عليه سائر الأعمال. وقد تقدَّم الدَّليل على ذلك (3). وأمَّا تركها أحيانًا فقد روى البخاري في "صحيحه" (4)، من حديث بريدة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بكِّرُوا بصلاة العصر؛ فإنَّ مَنْ ترك صلاة العصر فقد حَبِط عملُه" (5). وقد تكلَّم قومٌ في معنى هذا الحديث، فأَتَوا بما لا حاصل له. قال المهلَّب (6): معناه: من تركها مضيِّعًا لها، متهاونًا بفضل وقتها، مع قدرته على أدائها حَبِط عمله في الصَّلاة خاصَّة. أي: لا يحصل له أجر المصلِّي في وقتها، ولا يكون له عملٌ ترفعه الملائكة. _________ (1) تقدَّم تخريجه (ص/15، 72). (2) س: "فنقول". (3) (ص/39، 45). (4) حديث (553). (5) الذي في البخاري: قال بريدة: بكِّروا بصلاة العصر؛ فإنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ترك .. "، فتبيَّن أنَّ قوله: "بكِّروا بصلاة العصر" من كلام بريدة، لا من كلام النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. (6) ابن أبي صفرة، أحد شرَّاح البخاري. ونقله ابن بطال عنه في شرحه (2/ 176).

(1/108)


وحاصل هذا القول: أنَّ مَن تركها فاته أجرُها. ولفظ الحديث ومعناه يأبى ذلك، ويفيد (1) حُبُوط عملٍ قد ثَبَت وفُعِل، وهذا حقيقة الحُبُوط في اللُّغة والشَّرع. ولا يُقَال لمن فاتَه ثواب عمَلٍ من الأعمال: إنَّه قد حبِط عملُه، وإنَّما يُقَال: فاتَه أجر ذلك العمل. وقالت طائفةٌ: يحبط (2) عمل ذلك اليوم، لا جميع عمله؛ فكأنَّهم استصعبوا حبوط الأعمال الماضية كلِّها بترك صلاةٍ واحدةٍ، وتركها عندهم ليس برِدَّةٍ تُحْبِط (3) الأعمال، فهذا الذي اسْتَشْكله هؤلاء هو واردٌ عليهم بعينه في حبوط عمل ذلك اليوم. والذي يظهر في الحديث ـ والله أعلم بمراد رسوله ـ أنَّ التَّرك نوعان: تركٌ كُلِّيٌ، لا يصلِّيْها أبدًا؛ فهذا يُحبِط العمل جميعه. وتركٌ معيَّنٌ، في يوم معيَّنٍ؛ فهذا يُحبِط عمل ذلك اليوم. فالحبوط العامُّ في مقابلة التَّرك العام، والحبوط المعيَّن في مقابلة التَّرك المعيَّن. فإنْ قيل: كيف تحبط الأعمال بغير الرِّدَّة؟ قيل: نعم، قد دلَّ القرآن، والسُّنَّة، والمنقول عن الصَّحابة: أنَّ السَّيِّئات تحبط (4) الحسنات، كما _________ (1) ط: "ولا يفيد". (2) ط: "تحبط". (3) "عندهم" ليست في ض. وفي هـ وط: " .. يحبط". (4) هـ: "يحبط".

(1/109)


أنَّ الحسنات يذهبن (1) السَّيِّئات. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة/264]. وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات/2]. وقالت عائشة لأمِّ ولد زيد (2) بن أرقم: "أخبري زيدًا أنَّه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلَّا أنْ يتوب" (3)، لمَّا باع بالعِيْنة. وقد نصَّ الإمام أحمد على هذا، فقال: "ينبغي للعبد في هذا الزَّمان _________ (1) ض وس: "تذهب". (2) س وط: "لأم زيد". خطأٌ. (3) أخرجه الدَّارقطني في سننه (3/ 52)، والبيهقي في الكبرى (5/ 331) من طريق يونس بن أبي إسحاق السَّبيعي عن أُمِّه العالية عن عائشة به. وأخرجه عبد الرزاق (8/ 184)، وغيره، من طرقٍ عن أبي إسحاق السَّبيعي عن زوجه العالية عن عائشة به. وقد أعلَّه الشَّافعي في الأم (4/ 74) ثم الدارقطني بجهالة العالية بنت أيفع امرأة أبي إسحاق، وأنَّ المجهولة لا يحتجُّ بها. وقال ابن عبدالهادي في تنقيح التحقيق (2/ 558): "هذا إسنادٌ جيِّدٌ، وقول الدَّارقطني فيه نَظَرٌ". وقد احتجَّ من صحَّحه بأنَّ الحديث محفوظٌ، إذ رواه عن العالية ثقتان، زوجها أبوإسحاق وابنها، وأنَّه لا يُعلم فيها جرحٌ, فجهالتها ترتفع به، مع تصديق زوجها وابنها لها. وتُنْظَر: حاشية المصنِّف على سنن أبي داود (9/ 240).

(1/110)


أنْ يستدين ويتزوَّج؛ لئلَّا ينظر إلى ما لا يحلُّ، فيحبط عمله" (1). وآيات الموازنة في القرآن تدلُّ على هذا؛ فكما أنَّ السيِّئة تَذْهَبُ بحسنةٍ أكبر منها فالحسنة يَحبَطُ أجرُها بسيئةٍ (2) أكبر منها. فإنْ قيل: فأيُّ فائدةٍ في تخصيص صلاة العصر بكونها محبطة دون غيرها من الصَّلوات؟ قيل: الحديث لم ينف الحُبُوط بغير العصر، إلَّا بمفهوم لَقَبٍ، وهو مفهومٌ ضعيفٌ جدًّا. و تخصيص (3) العصر بالذِّكر لشرفها من بين الصَّلوات؛ ولهذا كانت هي الصَّلاة الوسطى بنصِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصَّحيح الصَّريح (4). ولهذا _________ (1) هو من مسائل الفضل بن زياد القطَّان عن الإمام أحمد، كما في بدائع الفوائد للمصنِّف (4/ 1406) قال الفضل: "سمعتُ أبا عبدالله، قيل له: ما تقول في التَّزويج في هذا الزمان؟ فقال: مثل هذا الزَّمان ينبغي للرجل أن يتزوَّج، ليت أنَّ الرجل إذا تزوَّج اليوم ثنتين يفلتُ، ما يأمن أحدُكم أن ينظر النَّظَر فيحبط عمله. قلت له: كيف يصنع؟ من أين يطعمهم؟ فقال: أرزاقهم عليك! أرزاقهم على الله عز وجل". (2) س: "تحبط أجرها سيئة". (3) ض: "إذ تخصيص". (4) يشير إلى ما أخرجه البخاري (2931)، ومسلم (627)، من حديث عليٍّ رضي الله عنه قال: لَمَّا كان يوم الأحزاب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَلَأَ الله بُيُوتهم وقُبورهم نارًا، شغلونا عن الصَّلاة الوسطى ـ صلاة العصر ـ حين غابت الشَّمس". أحد ألفاظ مسلم.

(1/111)


خصَّها بالذِّكر في الحديث الآخر، وهو قوله: "الذي تفوته صلاة العصر فكأنَّما وُتِر أهلَه ومالَه" (1). أي: فكأنَّما سُلِبَ أهلَه ومالَه، فأصبح بلا أهلٍ ولا مالٍ. وهذا تمثيلٌ لحبوط (2) عمله بتركها؛ كأنَّه شبَّه أعماله الصالحة في انتفاعه بها وتمتُّعه بها (3) بمنزلة أهله وماله، فإذا ترك صلاة العصر فهو كَمَنْ له أهلٌ ومالٌ، فخرج من بيته لحاجةٍ ـ وفيه أهله وماله ـ فرجع وقد اجْتِيْحَ الأهلُ والمالُ، فبقي وِتْرًا دونهم، ومَوْتُورًا بفقدهم. فلو بقيت عليه أعماله الصالحة لم يكن التَّمثيل مطابقًا. فصْلٌ والحبوط نوعان: عامٌّ، وخاصٌّ. فالعام حبوط الحسنات كلِّها بالرِّدَّة، والسَّيِّئات كلِّها بالتَّوبة. والخاص حبوط السيئات والحسنات بعضها ببعضٍ، وهذا حبوطٌ مقيَّدٌ جزئيٌّ، وقد تقدَّم دلالة القرآن والسُّنَّة والآثار وأقوال الأئمَّة عليه. ولمَّا كان الكفر والإيمان كُلٌّ منهما يُبْطِل الآخرَ ويذهِبُه كانت _________ (1) أخرجه البخاري (552)، ومسلم (626)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (2) ض: "بحبوط". (3) ط: "بانتفاعه .. "، وليس في ض: "بها" الثانية.

(1/112)


شُعب (1) كلِّ واحدٍ منهما لها تأثير (2) في إذهاب بعض شعب الآخر، فإنْ عظمت الشُّعبة أذْهَبَت في مقابلتها شعبًا (3) كثيرة. وتأمَّل قول أم المؤمنين في مُسْتَحلِّ العِيْنة: "إنَّه قد أبْطَل جهادَه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (4)، كيف قويت (5) هذه الشُّعبة التي أذن الله فاعلها بحربه وحرب رسوله - صلى الله عليه وسلم - على إبطال محاربة الكفار. فأبطل الحِرابُ (6) المكروهُ الحِرابَ المحبوبَ، كما تُبْطِل (7) محاربةُ أعدائِه التي يحبُّها محاربَتَه التي يبغضُها. والله المستعان. فصْلٌ وأمَّا المسألة السَّادسة (8): التي (9) هي قوله: "هل تُقْبَل صلاة اللَّيل بالنَّهار، وصلاة النَّهار باللَّيل، أم لا؟ ". فهذه المسألة لها صورتان: _________ (1) ض: "ويبطله كانت .. "، س: "ويذهبه فشعب"، هـ وط: "وكانت شعبة". (2) ط: "تأثيرا". (3) ط: "أذهب .. "، س: "مقابلها .. "، ض: " .. شعب". (4) تقدم تخريجه قريبًا. (5) س: "فوتت". (6) هـ: "الحرب". (7) هـ وط: "يبطل". (8) ض وهـ وط: "الخامسة"، وقد تقدَّمت الخامسة، وتقدَّم التَّنبيه على حصول الخطأ في العدِّ ابتداءً من المسألة الثالثة، فتوالى بعده. (9) "التي" ليست في ض.

(1/113)


إحداهما: تُقْبَل (1) فيها بالنَّص والإجماع، وهي: ما (2) إذا فاتته صلاة النَّهار بنومٍ أو نسيانٍ فصلَّاها باللَّيل، وعكسه. كما ثبت في "الصَّحيحين" (3)، من حديث أنس (4) بن مالك رضي الله عنه عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "مَنْ نسِي صلاةً أو نام عنها فكفَّارتها أنْ يصلِّيها إذا ذَكَرها". واللَّفظ لمسلمٍ. وروى مسلمٌ (5)، عنه ــ أيضًا ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رَقَد أحدكم عن الصَّلاة أو غَفَل عنها فلْيُصلِّها إذا ذَكَرها؛ فإنَّ الله يقول: {أَقِمِ (6) الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه/14] ". وفي "صحيح مسلمٍ" (7)، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قَفَل من غزوة (8) خيبر سار ليلةً، حتى إذا أدْرَكَه الكَرَى عَرَّس، وقال لبلال: "اكْلَأْ لنا اللَّيل". فصلَّى بلالٌ ما قُدِّر له، ونام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - _________ (1) هـ وط: "يقبل". (2) "ما" ليست في ض. (3) البخاري (597)، ومسلم (684). (4) ض: "عن أنس .. ". (5) حديث (684). (6) كذا: {أَقِمِ} دون واو، في لفظ الحديث عند مسلم. وفي رواية عنده: (وأقم). (7) حديث (680). (8) "حين" ليست في ض، وفي هـ: " .. عن غزوة".

(1/114)


وأصحابه. فلمَّا تقارب الفجر استند بلال إلى راحلته يُوَاجِه (1) الفجر، فغَلَبَت بلالًا عيناه، وهو مستند إلى راحلته. فلم يستيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا بلال، ولا أحدٌ من أصحابه حتى ضرَبَتهم الشمس. فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوَّلهم استيقاظًا (2)، ففزع (3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أي بلال! ". فقال بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، بأبي أنت وأمي يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "اقتادوا" (4)، فاقتادوا رواحلهم شيئًا. ثم توضَّأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمر بلالًا فأقام الصَّلاة، فصلَّى بهم الصُّبح، فلمَّا قضى الصَّلاة قال: "من نسِي الصلاة (5) فليصلِّها إذا ذَكَرها؛ فإنَّ الله قال (6): {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه/14] ". وفي "الصَّحيحين" (7)، من حديث عمران بن حصين، نحو هذه القصَّة. _________ (1) كذا في ض وس وهـ، وهو لفظ ابن حبان في صحيحه (2069). وفي ط: "فواجه". ولفظ صحيح مسلم المطبوع: "مواجه". (2) ط: "ايقاظًا". (3) "رسول الله .. ففزع" ليست في هـ. (4) هـ وط: "قال قتادة"! (5) في هـ زيادة: "أو نام عنها". (6) هـ وس وط: "يقول". والمثبَت من ض، وهو الموافق للفظ صحيح مسلم المطبوع. (7) البخاري (344)، ومسلم (682).

(1/115)


وفي "صحيح مسلمٍ" (1)، عن أبي قتادة (2) قال: ذَكَرُوا للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نومَهم عن الصلاة قال: "إنَّه ليس في النَّوم تفريطٌ، إنَّما التَّفريطُ على مَن لم يصلِّ الصَّلاة حتى يجيء وقت الأخرى (3) ". وفي "مسند الإمام أحمد" (4) من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: أقبل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية ليلًا، فنزلنا منزلًا دَهَاسًا (5) من الأرض، فقال: "مَن يكلؤنا؟ "، فقال بلال: أنا، قال: "إذًا تنام"، قال: "لا". فنام حتى طلعت الشمس، فاستيقظ فلان وفلان، فيهم عمر، فقال: أَهْضِبُوا (6). فاستيقظ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "افعلوا كما كنتم تفعلون"، فلمَّا فعلوا _________ (1) حديث (681). (2) هـ: "عن قتادة". خطأٌ. (3) كذا في النُّسخ كلِّها، ولفظ صحيح مسلم المطبوع: "وقت الصلاة الأخرى". (4) (1/ 386، 464). (5) ض: "دهسا"، س: "دها". في هامش ط: "الدَّهْسُ: ما سهُل ولانَ من الأرض، ولم يبلُغ أنْ يكون رَمْلًا". مجمع. انتهى. وفي النهاية لابن الأثير (2/ 145): "الدهاس والدهس ما سهل ولان ... ". (6) ض: "اهظبوا"، س: "اهصبوا"، هـ وط: "اهبطوا"، والتَّصحيح من المسند وكتب السُّنَّة الأخرى. ومعنى أَهْضِبُوا: تكلَّموا وامْضُوا. هَضَب في الحديث وأهْضَب: إذا اندفع فيه؛ كَرِهوا أنْ يوقظوه، فأرادوا أنْ يستيقظ بكلامهم. كما في النِّهاية (5/ 264).

(1/116)


قال: "هكذا فافعلوا لمن نام منكم أو نسي". فهذا متَّفقٌ عليه بين الأمَّة (1). واختلفوا في مسألتين؛ لفظيَّة، وحُكميَّة. فاللَّفظية هل تُسمَّى هذه الصَّلاة أداءً أوقضاءً؟ فيه نزاعٌ لفظيٌّ محضٌ. فهي قضاءٌ لما افترض (2) الله عليهم، وأداءٌ باعتبار الوقت في حقِّ النَّائم والنَّاسي؛ فإنَّ الوقت في حقِّهما وقت (3) الذِّكر والانتباه، فلم يصلِّياها إلَّا في وقتها الذي أُمِر (4) بإيقاعها فيه. وأمَّا ما يذكره الفُقهاء في كتبهم من قوله (5): "فليُصلِّها إذا ذَكَرَها، فإنَّ ذلك وقتها"، فهذه الزِّيادة لم أجدها في شيءٍ من كتب الحديث، ولا أعلم لها إسنادًا. ولكن قد روى البيهقي والدَّارقطني (6)، من حديث _________ (1) س: "الأئمة". (2) ط: "افترضه"، وفي هامشه: في نسخةٍ: "فرض". (3) س: "من وقت". (4) ط: "يصلها .. "، هـ وط: " .. أمرنا". (5) س: "تذكره .. من قولهم". (6) سنن البيهقي الكبرى (2/ 219)، سنن الدَّارقطني (1/ 423). وأخرجه الطبراني في الأوسط (8/ 350) وابن عديٍّ في الكامل (2/ 383) وغيرهم، كلُّهم من طريق حفص بن عمر بن أبي العطَّاف عن أبي الزناد به. وحفصٌ ضعيف جدًّا، وقد تفرَّد بهذه الجملة، كما قال الطبراني وابن عديٍّ، لذا أشار لضعفه البيهقي (2/ 219)، وابن عبدالهادي في المحرَّر (157)، وابن رجب في الفتح (5/ 132)، وابن حجر في التَّلخيص الحبير (1/ 155)، وغيرهم.

(1/117)


أبي الزِّناد عن الأعرج عن أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من نسِي صلاةً فوقتها إذا ذكرها". فصْلٌ وأمَّا المسألة الحكمية؛ فهل تجب (1) المبادرة إلى فعلها على الفور حين يستيقظ ويذكر، أم يجوز له التَّأخير؟ فيه قولان: أصحُّهما: وجوبها على الفور. وهذا قول جمهور الفقهاء؛ منهم إبراهيم النَّخعي، ومحمد بن شهاب الزهري، وربيعة بن أبي عبدالرحمن، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبوحنيفة، ومالك، والإمام أحمد، وأصحابهم، وأكثر العُلماء. وظاهرُ مذهب الشَّافعي: أنَّه على التَّراخي (2). واحتجَّ مَن نَصَر هذا (3) القول بأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يصلِّها في المكان الذي ناموا به؛ بل أمرهم فاقتادوا رواحلهم إلى مكانٍ آخر، فصلَّى (4) فيه. وفي حديث أبي قتادة: فلمَّا استيقظوا قال: "اركبوا"، فركبنا فسِرْنا، _________ (1) هـ: "يجب". (2) سيأتي نقل كلامه. وهو مذهب أصحابه، كما في المجموع للنووي (3/ 74). (3) س: "نظر .. "، ط: "نصَّ على هذا". (4) س: "فصلوا".

(1/118)


حتى إذا ارتفعت الشَّمس نزل، ثم دعا بمِيْضَأةٍ (1) فيها ماء فتوضَّأ، ثم أذَّن بلال بالصَّلاة، فصلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، ثم صلَّى الغداة. قالوا: ولو وجب القضاء على الفور لم يفارق منزله حتى يفعلها. قالوا: ولا يصحُّ الاعتذار عن هذا بأنَّ ذلك المكان كان فيه شيطانٌ، فلم يصلُّوا فيه؛ فإنَّ حضور الشيطان في المكان لا يكون عذرًا في تأخير الواجب. قال الشَّافعي (2): ولو كان وقت الفائتة يضيق (3) لما أخَّرَه لأجل الشَّيطان، فقد صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخنق (4) الشَّيطان (5). قال الشَّافعيُّ: فخَنْقُه الشَّيطانَ في الصَّلاة أبلغ من وادٍ فيه شيطان! قالوا: ولأنَّها عبادةٌ موقَّتةٌ، فإذا فاتت لم يجب قضاؤها على الفور، _________ (1) بكسر الميم، مهموز، و يمدُّ و يقصر: المِطْهَرة يتوضّأ منها. كما في: المصباح المنير للفيومي (2/ 663). (2) الأم (2/ 171) بنحوه. (3) ط: "كانت .. "، هـ: " .. تضيق". (4) ط: "قال - صلى الله عليه وسلم - ... مخنق"! (5) يشير إلى ما أخرجه البخاري (1210)، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الشيطان عرض لي فشدَّ عليَّ ليقطع الصلاة عليَّ، فأمكنني الله منه، فذعتُّه، ولقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية .. " الحديث. قال النَّضْر بن شميل: "فذَعَتُّه: بالذال، أي: خنقته". وأخرجه مسلم (541) بنحوه.

(1/119)


كصوم رمضان، بل أولى؛ لأنَّ الأداء متوسِّعٌ في الصلاة دون الصوم، فكانت التَّوسعة في القضاء أولى. وقال أبو (1) إسحاق المروزي (2): "إنْ أخَّرها لعذرٍ قضاها على التَّراخي؛ للحديث. وإنْ أخَّرَها لغير عذرٍ قضاها على الفور؛ لئلَّا يثبت بتفريطه ومعصيته (3) رخصةٌ لم تكن" (4). واحتجَّ الجمهور بما رواه مسلمٌ في "صحيحه" (5)، من حديث أبي قتادة: أنَّهم ذكروا للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نومهم عن الصَّلاة، فقال: "ليس في النَّوم تفريطٌ، فإذا نسي أحدكم صلاةً أو نام عنها فليصلِّها إذا ذكرها، لا كفَّارة لها إلَّا ذلك". _________ (1) "أبو" سقطت من ض. (2) وهو شيخ الشافعية وفقيهها ببغداد، إبراهيم بن أحمد، صاحب أبي العبَّاس ابن سُرَيج وأكبر تلامذته، صنَّف التَّصانيف وشرح المذهب ولخَّصه، وانتهت إليه رئاسته، وتخرَّج به أئمَّة، توفي بمصر سنة 340 هـ. ترجمته في: تاريخ بغداد للخطيب (6/ 11)، والسِّير للذَّهبي (15/ 429). (3) ض: "معضلته". (4) حكاه عنه الشيرازي في المهذَّب (1/ 54)، وذكره النَّووي وجهًا عندهم. كما في المجموع شرح المهذَّب (3/ 73 - 74). (5) حديث (681). وقد تقدَّم (ص/116) بلفظٍ آخر.

(1/120)


وفي "صحيحه" (1) أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من نسي الصَّلاة فليصلِّها إذا ذكرها؛ فإنَّ الله قال: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه/14] ". وعند الدَّارقطني (2) في هذا الحديث: "من نَسِيَ صلاةً فوقتها إذا ذكرها". وهذه الألفاظ صريحةٌ في الوجوب على الفور. قالوا: وأمَّا ما استدلَلْتُم به على جواز التَّأخير فإنَّما يدلُّ على التَّأخير اليسير، الذي لا يصير صاحبه مهملًا، معرضًا عن القضاء، بل (3) يفعله لتكميل الصلاة؛ من اختيار بقعةٍ على بقعةٍ، وانتظار رفقةٍ أوجماعةٍ يكثِّر بهم أجر (4) الصلاة ونحو ذلك، من تأخيرٍ يسيرٍ لمصلحتها وتكميلها. فكيف يؤخذ من هذا التَّأخير اليسير لمصلحتها جواز تأخيرها سنين عددًا! وقد نصَّ الإمام أحمد على أنَّ المسافر إذا نام في منزله عن الصَّلاة حتى فاتت أنَّه يستحبُّ له أنْ ينتقل عنه إلى غيره، فيقضيها فيه؛ _________ (1) حديث (680). وقد تقدم (ص/115). (2) ض: "الطبراني". سنن الدَّارقطني (1/ 423). وقد تقدَّم تخريجه قريبًا. (3) هـ: "معرضًا عن الفضائل"، وليس فيه: "بل". (4) هـ: "لكثرة أجر"، ط: "لتكثير أجر".

(1/121)


للخبر (1)، مع أنَّ مذهبه وجوب فعلها على الفور (2). وإذا كانت أوامر الله ورسوله المطلقة على الفور فكيف المقيَّدة؟ ولهذا أوجب الفوريَّة في المقيَّدة أكثرُ مَنْ نفاها في المطلقة. وأمَّا ما تمسَّكوا به من القياس على قضاء رمضان فجوابه من وجهين: أحدهما: أنَّ السُّنَّة فرَّقت بين الموضعين؛ فجوَّزت تأخير قضاء رمضان، وأوجبت فعل المنسيَّة عند ذكرها، فليس لنا أنْ نجمع ما (3) فرَّقت السُّنَّة بينهما. الثَّاني: أنَّ هذا القياس حُجَّة عليهم، فإنَّ تأخير رمضان إنَّما يجوز إذا لم يأتِ رمضان آخر، وهم يجوِّزون تأخير ال فائتة وإنْ أتى عليها أوقات صلواتٍ كثيرة، فأين القياس؟ وأمَّا قولهم: لو وجب الفور لما جاز التَّأخير لأجل الشيطان (4) فقد تقدَّم جوابه. وهو: أنَّ الموجبين للفور (5) يجوِّزون التَّأخير اليسير _________ (1) "للخبر" ليست في س. (2) المغني لابن قدامة (2/ 347)، والشرح الكبير لابن أبي عمر (3/ 193). (3) ض وس: "بين ما". (4) س: "الشياطين". (5) ض: "الموقتين بالفور"، س: "القائلين بالفورية".

(1/122)


لمصلحة التَّكميل. وأمَّا نقضهم بخنق النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الشَّيطان في صلاته (1) فمِن أعجب النَّقض؛ فإنَّ التَّأخير اليسير للعدول عن مكان الشَّيطان لا تُتْرَك به الصَّلاة، ولا يذهب به وقتها، ولا يقطعها المصلِّي. بخلاف من عَرَض له الشَّيطان في صلاته؛ فإنَّه لو تركها لأجله لكان قد أبطل صلاته وقطعها بعد دخوله فيها، ولعلَّه إنْ تعرَّض له في الصَّلاة الثانية (2) فيقطعها، فيترك الصلاة بالكُلِّيَّة. فأين إحدى المسألتين من الأخرى! والله أعلم. فصْلٌ وأمَّا الصُّورة الثَّانية، وهي: ما إذا ترك الصلاة عمدًا حتى خرج وقتها، فهي مسألة عظيمة، تنازع فيها الناس. هل ينفعه القضاء ويُقْبَل (3) منه؟ أم لا ينفعه، ولا سبيل له إلى استدراكها أبدًا؟ (4) فقال أبوحنيفة، والشافعي، وأحمد، ومالك (5): يجب عليه _________ (1) "في صلاته" ليست في س. (2) س: "أن يعرض .. الفايتة". (3) س: "وتقبل". (4) وقد بحثها المصنف أيضًا في مدارج السالكين (1/ 380 - 390). (5) وقد قال ابن قدامة في المغني (3/ 357): "ولا نعلم بين المسلمين خلافًا في أنَّ تارك الصلاة يجب عليه قضاؤها".

(1/123)


قضاؤها، ولا يُذْهِب القضاءُ عنه إثمَ (1) التفويت، بل هو مستحقٌّ للعقوبة، إلَّا أنْ يعفو الله عنه. وقالت طائفةٌ من السَّلف والخَلَف (2): مَن تعمَّد تأخير الصلاة عن وقتها من غير عذرٍ يجوِّز له التَّأخير فهذا لا سبيل له إلى استدراكها، ولايقدر على قضائها أبدًا، ولا تقبل (3) منه. ولا نزاع بينهم أنَّ التَّوبة النَّصوح تنفعه، ولكن هل من تمام توبته قضاء تلك الفوائت التي تعمَّدَ تركها، فلا تصحُّ التوبة بدون قضائها؟ أم لا تتوقَّف التَّوبة على القضاء؛ فيحافظ عليها في المستقبل، ويستكثر من النَّوافل، وقد تعذَّرَ عليه استدراك ما مضى؟ هذا محلُّ الخلاف. ونحن نذكر حُجج الفريقين. قال الموجبون للقضاء: لمَّا أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - النَّائم والنَّاسي بالقضاء ــ وهما معذوران غير مفرِّطَيْن ـ فإيجاب القضاء على المفرِّط العاصي أولى وأحرى. قالوا (4): فلو كانت الصَّلاة لا تصحُّ إلَّا في وقتها لم ينفع (5) _________ (1) ط: "اسم"! (2) سيأتي ذكر هؤلاء في كلام المصنِّف. (3) هـ وط: "يقبل". (4) "قالوا" ليست في هـ وط. (5) هـ وط: "تنفع".

(1/124)


قضاؤها بعد الوقت في حق النَّائم والنَّاسي. قالوا: وقد صلَّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - العصر بعد المغرب يوم الخندق هو وأصحابه (1). ومعلومٌ قطعًا أنَّهم (2) لم يكونوا نائمين ولا ساهين عنها، فلو اتَّفَق النِّسيان لبعضهم لم يتَّفِق للجميع. قالوا: وكيف يكون المفرِّط بالتَّأخير أحسن حالًا من المعذور؛ فيُخَفَّف عن المفرِّط، ويُشَدَّد على المعذور! قالوا: وإنَّما أنام الله - سبحانه وتعالى - رسولَه وأصحابه (3) ليبيِّن للأمَّة حُكم من فاتته الصلاة، وأنَّها لا تسقط عنه بالتَّفويت، بل يتداركها (4) فيما بعد. قالوا: وقد أَمَر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من أفطر بالجماع في رمضان أنْ يقضي يومًا مكانه (5). قالوا: والقياس يقتضي وجوب القضاء؛ فإنَّ الأمر متوجِّهٌ على المكلَّف بفعل العبادة في وقتها، فإذا فرَّط في الوقت وتركه لم يكن ذلك مسقطًا لفعل العبادة عنه. _________ (1) تقدَّم تخريجه (ص/111) وأنه في الصحيحين من حديث علي. (2) س: "أنه". (3) هـ وط: "والصحابة". (4) س: "بتداركها". (5) سيأتي ذكر لفظ الحديث، وإعلاله من كلام المصنِّف.

(1/125)


قال الآخَرون (1): أوامر الرَّب تبارك وتعالى نوعان: نوعٌ مطلقٌ، غير مؤقَّتٍ، فهذا يُفْعَل في كلِّ وقتٍ. ونوعٌ مؤقَّت بوقتٍ محدودٍ (2)، وهو نوعان: أحدهما: ما وقْتُه بقدْرِ فعلِه، كالصَّيام. والثَّاني: ما وقْتُه أوسع من فِعْلِه، كالصلاة. وهذا القِسم فعله في وقته شرطٌ في كونه عبادة مأمورًا بها؛ فإنَّه إنَّما أمر به على هذه الصِّفة، فلا يكون عبادةً على غيرها. قالوا (3): فما أمر الله به في الوقت فتَرَكَه المأمورُ حتى فات وقته لم يمكن فعله بعد الوقت شرعًا، وإن أمكن حِسًّا. بل لا يمكن حسًّا أيضًا؛ فإنَّ المأتي به بعد الوقت أمرٌ غير المشروع (4). قالوا: ولهذا لا يمكن فعل الجمعة بعد خروج وقتها، ولا الوقوف _________ (1) سياق المصنِّف رحمه الله لأدلَّة القائلين بعدم القضاء للتارك لها عمدًا متوافق مع كثيرٍ من حجج ابن حزم في المحلَّى (2/ 235 - 244) مع فوارق، وإضافات، ووجوه أخرى لم يذكرها ابن حزمٍ هناك. وسيشار إلى ذلك ـ إنْ شاء الله ـ كل في موضعه. (2) هـ وط: "معدود". (3) يُنْظَر: المحلَّى لابن حزم (2/ 237). (4) هـ: "الآتي به .. "، ط: "إتيانه به .. ". ض: " .. غير مشروع".

(1/126)


بعرفة بعد وقته. قالوا (1): ولا مشروع إلَّا ما شرعه الله ورسوله. وهو سبحانه لم (2) يشرع فعل الصلاة والصيام والحج إلَّا في أوقاتٍ مختصَّةٍ به، فإذا فاتت تلك الأوقات (3) لم تكن مشروعة. ولم يشرع الله سبحانه فعل الجمعة يوم السبت، ولا الوقوف بعرفة في اليوم العاشر، ولا الحج في غير أشهره. وأمَّا الصَّلوات الخمس فقد ثَبَت بالنَّصِّ والإجماع أنَّ المعذور بالنَّوم والنِّسيان وغلبة العقل يصلِّيها إذا زال عذره. وكذلك صوم رمضان، شرع الله سبحانه قضاءه بعُذْر المرض والسفر والحيض. وكذلك شرع الله ورسوله الجمع بين الصلاتين المشتركتين في الوقت للمعذور بسفرٍ، أومرضٍ، أوشغلٍ يبيح الجمع. فهذه يجوز تأخيرها عن وقتها المختصِّ إلى (4) وقت الأخرى للمعذور، ولا يجوز لغيره بالاتفاق، بل هو من الكبائر العظام، كما قال _________ (1) يُنْظَر: المحلَّى (2/ 235). (2) ط: "ما". (3) هـ: "تلك الصلاة". (4) س: "في".

(1/127)


عمر بن الخطَّاب: "الجمع بين الصَّلاتين من غير عذرٍ من الكبائر" (1). ولكن يجب عليه فعلها، وإنْ أخَّرها إلى وقت الثَّانية في هذه الصُّورة؛ لأنَّها تُفْعَل في هذا الوقت في الجملة. وقد أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالصَّلاة خلف الأمراء الذين يؤخِّرون الصلاة عن وقتها. وقيل له - صلى الله عليه وسلم -: ألَا نقاتلهم؟ قال: "لا، ما صلَّوا" (2). وهم كانوا _________ (1) أخرجه عبدالرزاق (1/ 535)، وابن أبي شيبة (8338)، والبيهقي في الكبرى (3/ 169)، كلُّهم من طريق أبي العالية الرِّياحي عن عمر رضي الله عنه نحوه. وقد أُعِلَّ بالانقطاع؛ وبأنَّ أبا العالية لم يسمع من عمر، كما نقل البيهقي عن الشَّافعي ذلك وتابعه. واستدرك الذَّهبي في المهذَّب (4948) عليهما فقال: "بلى سمع منه". وفي العلل ومعرفة الرجال لعبدالله بن أحمد (2/ 521): "قلتُ لأبي: أبوالعالية الرِّياحي سمع من عمر؟ قال: يقولون ذاك". وفي تهذيب التَّهذيب لابن حجر (1/ 610): "قال ابن المديني: أبوالعالية سمع من عمر .. ". وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 932)، والبيهقي في الكبرى (3/ 169) من طريق أبي قتادة العدوي عن عمر رضي الله عنه نحوه. قال البيهقي عقبه: "أبو قتادة العدوي أدرك عمر رضي الله عنه، فإن كان شهده كتب فهو موصولٌ، وإلَّا فهو إذا انضمَّ إلى الأوَّل صار قويًّا". وجزم بصحَّته الحافظ ابن كثير في تفسيره (1/ 485) فقال: "إسنادٌ صحيحٌ". وقد رُوِي مرفوعًا إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا يصحُّ. كما قال البيهقي (3/ 169) وغيره. (2) تقدَّم تخريجه (ص 11)، وأنَّه في مسلمٍ.

(1/128)


يؤخِّرون الظهر خاصةً إلى وقت العصر، فأمر بالصلاة خلفهم؛ وتكون (1) نافلةً للمصلِّي، وأمَرَه أنْ يصلِّي الصلاة في وقتها، ونَهَى عن قتالهم. قالوا: وأمَّا مَن أخَّر صلاة النَّهار فصلَّاها باللَّيل، أوصلاة اللَّيل فصلَّاها بالنَّهار، فهذا الذي فَعَلَه غير الذي أُمِرَ به، وغير ما شرعه الله ورسوله؛ فلا يكون صحيحًا ولامقبولًا. قالوا: وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من ترك صلاة العصر حبط عمله" (2)، وقال: "الذي تفوته صلاة العصر فكأنَّما وُتِر أهلَه ومالَه" (3). فلو كان يمكنه استدراكها باللَّيل لم يحبط عمله (4)، ولم يكن موتورًا من أعماله، بمنزلة الموتور من أهله وماله. قالوا: وقد صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "مَنْ أدرك ركعةً من العصر قبل أنْ تغرب الشَّمس فقد أدرك العصر، ومَنْ أدرك ركعةً من الصُّبح قبل أنْ تطلع الشَّمس فقد أدرك الصُّبح" (5). ولو كان فعلها بعد المغرب وطلوع الشَّمس صحيحًا مطلقًا لكان _________ (1) ط: "ويكون". (2) تقدَّم تخريجه (ص/108)، وأنَّه في البخاري. (3) تقدَّم تخريجه (ص/112)، وأنَّه في الصَّحيحين. (4) ض: "تحبط .. "، وليس في س: "عمله". (5) أخرجه البخاري (556)، ومسلم (608) من حديث أبي هُريرة بنحوه.

(1/129)


مُدْرِكًا، سواء أدرك ركعةً، أو أقلَّ من ركعةٍ، أو لم يدرك منها شيئًا. فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يُرِد أنَّ من (1) أدرك ركعةً صحَّت صلاته بلا إثْمٍ؛ إذْ لاخلاف بين الأمَّة أنَّه لا يحِلُّ له تأخيرها إلى أنْ يضيق وقتها عن كمال فعلها، وإنَّما أراد بالإدراك الصِّحَّة والإجزاء. وعندكم تصحُّ وتجزئ، ولو أدرك منها قدر تكبيرةٍ، أو لم يدرك منها شيئًا. فلا معنى للحديث عندكم ألبتَّة! قالوا: والله سبحانه قد جعل (2) لكلِّ صلاةٍ وقتًا محدود الأول والآخر، ولم يأذن في فعلها قبل دخول وقتها، ولا بعد خروج وقتها، والمفعول قبل الوقت وبعده أمرٌ غير المشروع. فلو كان الوقت ليس شرطًا في صِحَّتها لكان لا فرق في الصِّحَّة بين فعلها قبل الوقت وبعده؛ لأنَّ كلا الصَّلاتين صلَّاها في غير وقتها. فكيف قُبِلَت من هذا المفرِّط بالتَّفويت، ولم تُقْبَل من المفرِّط بالتَّعجيل. قالوا: والصَّلاة في الوقت واجبةٌ على كُلِّ حالٍ، حتى إنَّه يترك جميع الواجبات والشُّرُوط لأجل الوقت؛ فإذا عَجَز عن الوضوء، أوالاستقبال، أوطهارة الثَّوب والبدن، أوستر العورة، أو قراءة الفاتحة، أوالقيام في الوقت، وأمْكَنَه أنْ يصلِّي بعد الوقت بهذه الأمور= فصلاته _________ (1) "من" مِن س. (2) س: "وقد جعل الله سبحانه".

(1/130)


في الوقت بدونها هي التي شرعها الله وأوجبها، ولم يكن له أنْ يصلِّي بعد الوقت مع كمال هذه الشُّروط والواجبات. فعُلِمَ أنَّ الوقت مقدَّمٌ عند الله ورسوله على جميع الواجبات. فإذا لم يكن إلَّا أحد الأمرين وجب أنْ يصلِّي في الوقت بدون هذه الشُّروط والواجبات. ولو كان له سبيلٌ إلى استدراك الصَّلاة بعد خروج وقتها لكان صلاته بعد الوقت مع كمال الشُّروط والواجبات خيرًا من صلاته في الوقت بدونها، وأحبَّ إلى الله. وهذا باطلٌ بالنَّص والإجماع. قالوا (1): وأيضًا فقد توعَّد الله سبحانه مَن فوَّتَ الصلاة عن وقتها بوعيد التَّارك لها، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون/4 - 5]. وقد فسَّر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السَّهو عنها بأنَّه: تأخيرها عن وقتها؛ كما ثبَت ذلك عن سعد بن أبي وقاص. وفيه حديثٌ مرفوع (2). وقال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم/59]. وقد فسَّر الصَّحابة والتَّابعون إضاعتها بتفويت وقتها (3). _________ (1) يُنْظَر: المحلى (2/ 235). (2) تقدَّم تخريج الأثر والحديث (ص/52، 53). (3) تقدَّم تخريجه (ص/52).

(1/131)


والتَّحقيق أنَّ إضاعتها يتناول تركها، وترك وقتها، وترك واجباتها وأركانها. وأيضًا (1) فإنَّ مؤخِّرها عن وقتها عمدًا متعدٍّ لحدود الله، كمقدِّمِها عن وقتها، فما بالها تُقْبَل مع تعدِّي هذا الحدِّ، ولا تُقْبل مع تعدِّي الحدِّ الآخر (2)! قالوا (3): وأيضًا فنقول لمن قال: إنَّه يستدركها بالقضاء: أَخْبِرْنا عن هذه الصَّلاة التي تأمر بفعلها، أهي التي أمر الله بها (4)؟ أم هي غيرها؟ فإنْ قال: هي هي (5)، بعينها. قيل له: فالعامد بتركها (6) حينئذٍ ليس عاصيًا؛ لأنَّه قد فعل ما أمر الله به بعينه، فلا يلحقه الإثم والملامة. وهذا باطلٌ قطعًا. وإنْ قال: ليست هي التي أمر الله بها. قيل له: فهذا من أعظم حُجَجنا عليك؛ إذ (7) ساعَدْتَ أنَّ هذه غير مأمورٍ بها. _________ (1) "وأيضًا" ليست في ض. (2) ينظر: المحلَّى (2/ 236). (3) ينظر: المحلَّى (2/ 235 - 236). (4) ض وس: "إنَّه سيدركها .. ". ض: " .. أمره الله". س: " .. أمر الله بفعلها" (5) س وط: "هي" مرة واحدة. (6) س: "تركها" (7) س وط: "إذا".

(1/132)


ثم نقول أيضًا (1): ما تقولون (2) فيمن تعمَّد تفويتها حتى خرج وقتها، ثم صلَّاها، أطاعةٌ صلاتُه تلك، أم معصيةٌ؟ فإنْ قالوا: صلاته طاعةٌ لله (3) وهو مطيعٌ بها، خالفوا الإجماع، والقرآن، والسُّنن الثَّابتة. وإنْ قالوا: هي (4) معصيةٌ. قيل: فكيف يُتَقَرَّب إلى الله بالمعصية! وكيف تنوب المعصية عن الطَّاعة (5)! فإنْ قلتم: هو مطيعٌ بفعلها، عاصٍ بتأخيرها، وهو إنَّما تقرَّب بالفعل الذي (6) هو طاعة، لا بالتفويت الذي هو معصية. قيل لكم: الطَّاعة هي موافقة الأمر، وامتثاله على الوجه الذي أمر به، فأين أمر الله ورسوله من تعمُّد تفويت الصَّلاة بفعلها بعد خروج وقتها حتى يكون مطيعًا (7) له بذلك؟ فلو ثبت ذلك لكان فاصلًا للنِّزاع في المسألة. _________ (1) ينظر: المحلى (2/ 236). (2) هـ وط: "يقولون". (3) "لله" ليست في هـ وط. (4) س: "بل هي" (5) "عن الطاعة" ليست في ض. (6):"هو مطيع ... بالفعل الذي" سقطت من هـ. وفي ط: " .. أنها تقرب .. ". (7) ض: "مضيعًا".

(1/133)


قالوا (1): وأيضًا فغير أوقات العبادة لا تَقْبَل تلك العبادة بوجهٍ، كما أنَّ اللَّيل لا يقبل الصِّيام، وغير أشهر الحجِّ لا يقبل (2) الحج، وغير وقت الجمعة لا يقبل الجمعة. فأيُّ فرقٍ بين مَن قال: أنا أفطر النَّهار وأصوم اللَّيل. أو قال: أنا أفطر رمضان في هذا الحرِّ الشديد، وأصوم مكانه شهرًا في الربيع. أو قال: أنا أؤخِّر الحجَّ من أشهره (3) إلى المحرَّم، أو قال: أنا أصلِّي الجمعة بعد العشاء الآخرة، أو أصلِّي العيدين (4) في وسط الشهر= وبين من قال: أنا أؤخِّر صلاة النَّهار إلى اللَّيل، وصلاة اللَّيل إلى النَّهار؟ فهل يمكن أحدًا قطُّ أنْ يفرِّق بين ذلك؟! قالوا: وقد جعل الله سبحانه للعبادات أمكنةً، وأزمنةً, وصفات، فلا ينوب مكانٌ عن المكان (5) الذي جعله الله ميقاتًا (6) لها؛ كعرفة، ومزدلفة، ومنى، ومواضع الجمار، والبيت (7)، والصَّفا والمروة. ولا _________ (1) ينظر: المحلَّى (2/ 237). (2) س: "تقبل" (3) ط: "من شهره". (4) ض وس: "عشاء .. العيد". (5) س: "عن مكان". (6) ط: "مكانا ميقاتا". (7) هـ وط: "والمبيت".

(1/134)


تنوب (1) صفةٌ مِن صفاتها التي أوجبها الله عليها عن صفةٍ، فكيف ينوب زمانٌ عن (2) زمانها الذي أوجبها الله فيه عنه؟ قالوا (3): وقد دلَّ النَّص والإجماع على أنَّ من أخَّر الصلاة عن وقتها عمدًا أنَّها قد فاتته، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "من فاتته صلاة العصر فكأنَّما وُتِر أهلَه ومالَه" (4). وما فات فلا سبيل إلى إدراكه ألبتَّة، ولو أمكن أنْ يدرك لما سُمِّيَ فائتًا. وهذا ممَّا لا شكَّ فيه لغةً وعرفًا. وكذلك هو في الشَّرع، وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يفوت الحجُّ حتى يطلع (5) الفجر من يوم عرفة (6) " (7). أفلا تراه جعله فائتًا بفوات وقتِهِ، لمَّا لم _________ (1) ض وس: "ينوب". (2) س: "غير". (3) بمعناه في: المحلَّى (2/ 238). (4) تقدَّم تخريجه (ص/112) وأنه في الصحيحين. (5) ط: "تطلع .. ". (6) قوله: "يوم عرفة" كذا في كلِّ النسخ! وهو مخالف للفظ الرِّواية كما سيأتي تخريجها. (7) أخرجه البيهقي في الكبرى (5/ 174) من طريق ابن وهب أخبرني ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح قال: "لا يفوت الحج حتى ينفجر الفجر من ليلة جمعٍ". قال: قلتُ لعطاء: أبَلَغَك ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال عطاء: نعم. قال الألباني في الإرواء (1065): "هذا سندٌ صحيحٌ إنْ كان ابن جريجٍ سمعه من أبي الزُّبير؛ فإنَّه مدلِّسٌ. ومثلُه أبو الزبير أيضًا، لكنَّه قد سمعه من جابر، بدليل رواية = = ... الأثرم". ويقصد برواية الأثرم ما أخرجه ــ كما في المغني (5/ 66) ــ عن أبي الزبير عن جابر أنَّه قال ذلك، قال أبو الزبير: فقلت له: أقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك؟ قال: نعم. وقد أخرجه البيهقي (5/ 174) موقوفًا دون سؤال أبي الزبير إياه عن رفعه.

(1/135)


يمكن أنْ يُدْرَك في يومٍ بعد ذلك اليوم. وهذا بخلاف المنسيَّة، والتي (1) نام عنها؛ فإنَّها لا تسمَّى فائتةً؛ ولهذا لم تدخل في قوله: "الذي تفوته (2) صلاة العصر فكأنَّما وُتِر أهلَه ومالَه" (3). قالوا (4): والأمَّة مجمعةٌ على أنَّ من ترك الصلاة عمدًا حتى خرج (5) وقتها فقد فاتته، ولو قُبِلَت منه وصحَّت بعد الوقت لكان تسميتها فائتةً لغوًا وباطلًا؛ إذْ كيف يفوت ما يُدْرَك! قالوا: وكما أنَّه لا سبيل إلى استدراك الوقت الفائت أبدًا فلا سبيل إلى استدراك فرضه ووظيفته (6). _________ (1) ض وس وهـ: "والذي". (2) ض وس: "لم يدخل .. ". هـ: " .. يفوته". (3) تقدَّم تخريجه (ص/112) وأنه في الصحيحين. (4) ينظر: المحلَّى (2/ 238). (5) ط: "يخرج". (6) ط: "ووصفه".

(1/136)


قالوا: وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه أحمد وغيره (1): "من أفطر يومًا من (2) رمضان من غير عذرٍ لم يقضه عنه صيام الدَّهر". فأين هذا من قولكم: يقضيه عنه صيام يومٍ من أي شهرٍ أراد! قالوا (3): وقد أمَرَ الله سبحانه المسلمين ـ حال مواجهة (4) عدوِّهم ـ أنْ يصلُّوا صلاة الخوف؛ فيقصروا من أركانها، ويفعلوا فيها الأفعال الكثيرة، ويستدبرون فيها القبلة، ويسلِّمون قبل الإمام، بل يصلُّون رجالًا وركبانًا، حتى _________ (1) المسند (2/ 386). وقد أخرجه أيضًا البخاري معلَّقًا بصيغة التمريض (2/ 683)، وابن خزيمة (3/ 238)، وأبوداود (2396)، والترمذي (723)، وابن ماجه (1672)، وغيرهم، من طرقٍ عن أبي المطوس عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه به. وقد أشار لضعفه البخاري حين علَّقه بقوله: "ويُذْكَر عن أبي هريرة". وكذا ابن خزيمة في صحيحه في الترجمة فقال: "إنْ صحَّ الخبر، فإنِّي لا أعرف ابن المطوس ولا أباه". وضعَّفه أيضًا ابن عبدالبر، والمنذري، والبغوي، والقرطبي، والذهبي، والدميري، وابن حجر، ثم الألباني. وقد أُعِلَّ بثلاث عللٍ: الاضطراب، والجهالة، والانقطاع. يُنظَر بيان ذلك في: فتح الباري (4/ 161) والتغليق (3/ 171) وتمام المنَّة (396). (2) "أفطر" سقطت من هـ. وفي س: " .. في رمضان". (3) ينظر: المحلَّى (2/ 242 - 243). (4) س: "مواجهتهم".

(1/137)


لو لم يمكنهم إلَّا الإيماء أتَوا (1) بها على دوابِّهم، إلى غير القبلة في وقتها. ولو قُبِلَت منهم في غير وقتها وصحَّت لجاز (2) لهم تأخيرها إلى وقت الأمن، وإمكان الإتيان بها. وهذا يدلُّ على أنَّها بعد خروج وقتها لا تكون صحيحةً (3) جائزةً ولا مقبولةً منهم، مع هذا العذر الذي أصابهم في سبيله، وجهاد أعدائه. فكيف تُقْبَل وتصحُّ من صحيحٍ مقيمٍ، لا عذر له ألبتَّة، وهو يسمع داعي الله جهرةً، فيَدَعها حتى يخرج وقتها، ثم يصلِّيها في غير الوقت؟! وكذلك لم يُفْسَح في تأخيرها عن وقتها للمريض (4)، بل أمره أنْ يصلِّي على جنبه، بغير قيامٍ ولا ركوعٍ ولا سجودٍ، إذا عَجَز عن ذلك. ولو كانت تُقْبَل منه وتصحُّ (5) في غير وقتها لجاز له تأخيرها إلى زمن الصِّحَّة. فأَخْبِرُونا: أي كتابٍ، أو سنةٍ، أو أثَرٍ عن صاحبٍ نَطَق بأنَّ من أخَّر الصَّلاة وفوَّتها (6) عن وقتها الذي أمر الله بإيقاعها فيه عمدًا= يقبلها الله منه بعد خروج وقتها، وتصحُّ منه، وتبرأ ذمَّته منها، ويثاب عليها ثواب من أدَّى _________ (1) ض: "يمكنهم إلا بما .. ". س: " .. وأتوا". (2) س: "لأجاز". (3) "صحيحة" ليست في س وط. (4) هـ وط: "للمرض". (5) ط: "يصح". (6) "وفوَّتها" ليست في س.

(1/138)


فرائضه (1)؟ هذا والله ما لا سبيل لكم إليه ألبتَّة حتى تقوم السَّاعة! ونحن نُوْجِدُكم عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما قلناه، وخلاف قولكم. فصلٌ في قول أبي بكرٍ الصِّديق رضي الله عنه، الذي لم يُعْلَم (2) أنَّ أحدًا من الصَّحابة أنكر عليه. قال عبدالله بن المبارك (3): أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن [زبيد] (4): أنَّ أبا بكرٍ قال لعمر بن الخطاب: "إنِّي موصيك بوصيَّةٍ إنْ حفظتها. إنَّ لله حقًّا بالنَّهار لا يقبله باللَّيل، و [إنَّ] (5) له حقًّا باللَّيل لا يقبله بالنَّهار. وإنَّها لا (6) تُقْبَل نافلةٌ حتى تُؤدَّى الفريضة. وإنَّما ثقلت موازين مَن ثقلت موازينه يوم القيامة باتِّباعهم في الدُّنيا الحق، وثقله (7) عليهم. وحُقَّ لميزانٍ لا يوضع فيه إلَّا الحق أنْ يكون ثقيلًا. _________ (1) هـ: "فرضه"، ط: "فريضة". (2) س: "نعلم". (3) في الزُّهد له (914). (4) في النسخ كلها "زيد"، وهو تحريفٌ، إذ هو اليامي، وهو على الصواب في الزهد (914)، وسيأتي كذلك في رواية هناد. (5) الزيادة من كتاب الزهد. (6) ض وس: "وإنها لن". (7) س: "ثقلت".

(1/139)


وإنَّما خفَّت موازين مَنْ خفَّت موازينه (1) يوم القيامة باتِّباعهم الباطل، وخِفَّته (2) عليهم. وحُقَّ لميزانٍ لا يوضع فيه إلَّا الباطل أنْ يخفَّ. وإنَّ الله عز وجل ذَكَر أهلَ الجنَّة، وصالِح ما عملوا، وتجاوز عن سيِّئاتهم، فإذا ذكرتُهم خفتُ ألَّا أكون منهم. وذَكَر أهلَ النَّار وأعمالهم، فإذا ذكرتُهم قلتُ: أخشى أنْ أكون منهم (3). وذكر آية الرحمة وآية العذاب؛ ليكون المؤمن راغبًا راهبًا، فلا يتمنَّى على الله غير الحق، ولا يُلقي بيده إلى التهلكة. فإنْ حفظت قولي فلا يكوننَّ غائبٌ (4) أحب إليك من الموت، ولا بدَّ لك منه. وإنْ ضيَّعت وصيَّتي فلا يكونَّن (5) غائبٌ أحب إليك من الموت، ولن تعجزه". _________ (1) هـ: "خفت موازين". (2) س: "حقيقته". (3) ض: "تكون منهم". وجملة: "فإذا ذكرتُهم خفتُ .. أخشى أنْ أكون" ليست في الزهد لابن المبارك ولا لهنَّاد. وقد أخرجها أبونعيم في الحلية (1/ 36) بنحوها. بل سياق ابن المبارك وهنَّاد وسعيد بن منصور (5/ 132) وابن أبي شيبة (35574) وأبوداود في الزهد (28) وغيرهم= "ذكر أهل الجنَّة .. فيقول قائل: أنا أفضل من هؤلاء"، وعند بعضهم زيادة: "وذكر أهل النَّار .. فيقول القائل: أنا خيرٌ من هؤلاء". (4) ض: "فلا يكون غائبًا". وكذا في الموضع التالي. (5) جملة: "أحب إليك من الموت .. فلا يكونَّن" الأولى سقطت من س.

(1/140)


وقال هناد بن السَّري (1): حدَّثنا عَبْدة عن إسماعيل بن أبي خالد عن زُبَيْد (2) اليامي قال: "لمَّا حَضَرَت أبا بكر الوفاة .. "، فذكره. قالوا: فهذا أبوبكرٍ يقول: "إنَّ الله لا يقبل عمل النَّهار باللَّيل، ولا عمل اللَّيل بالنَّهار". ومن يخالفنا بهذه المسألة يقولون بخلاف هذا صريحًا، وأنَّه يقبل صلاة العشاء الآخرة وقت الهاجرة، ويقبل صلاة العصر نصف اللَّيل (3)! قالوا (4): فهذا قول أبي بكرٍ، وعمر، وابنه عبدالله، وسعد بن أبي وقاصٍ، وسلمان الفارسي، وعبدالله بن مسعود، والقاسم بن محمد بن أبي بكرٍ، وبُدَيل (5) العقيلي، ومحمد بن سيرين، ومطرِّف بن عبدالله، وعمر بن عبدالعزيز رضي الله عنهم، وغيرهم. قال شعبة عن يعلى بن عطاء (6) عن عبدالله بن خراش (7) قال: رأى _________ (1) الزهد لهنّاد (1/ 496). (2) س: "زيد". (3) س: "وتقبل .. ". ط: " .. نصف النهار". (4) يُنْظَر: المحلَّى لابن حزم (2/ 238). (5) ط: "هذيل"! (6) ض: "يعلى عطا". (7) ط وس: "حراش".

(1/141)


ابن عمر (1) رجلًا يقرأ في صحيفةٍ فقال له: "يا (2) هذا القارئ، إنَّه لا صلاة لمن لم يصلِّ الصَّلاة لوقتها، فصلِّ، ثم اقرأ ما بدا لك" (3). قالوا (4): ولا يصحُّ تأويلكم ذلك على أنَّه: لا صلاة كاملة؛ لوجوهٍ: أحدها: أنَّ النَّفي يقتضي نفي حقيقة المسمَّى، والمسمَّى هنا هو الشَّرعي، وحقيقته (5) منتفيةٌ. هذا حقيقة اللَّفظ، فما (6) الموجب للخروج عنها؟ الثَّاني: أنَّكم إنْ (7) أردتم بنفي الكمالِ الكمالَ المستحبَّ فهذا باطلٌ؛ فإنَّ الحقيقة الشرعيَّة لا تنتفي لنفي مستحبٍّ فيها، وإنَّما تنتفي لنفي ركنٍ من أركانها، وجزءٍ من أجزائها. وهكذا كل نفيٍ وَرَد على حقيقةٍ شرعيَّةٍ؛ _________ (1) س: "عمر". وذكر الشَّيخ أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على هذا الأثر في المحلَّى (2/ 238) أنَّه في إحدى نسخ المحلَّى: عمر، قال: "ولا أعرف أيُّهما الصَّواب؛ فإنِّي لم أجد هذا الأثر إلَّا هنا". (2) ط: "ما". (3) أخرجه ابن حزم في المحلَّى معلَّقًا (2/ 239)، ولم أقف عليه عند غيره. (4) بنحوه في: المحلَّى (2/ 241 - 242). (5) "الشرعي" ليست في ط. وفيه وهـ زيادة: "الترتيب" قبلها. وفي ط: "حقيقة". (6) "فما" ليست في س. (7) "أنكم" ليست في ض. وفي ط: "أنكم إذا".

(1/142)


كقوله: "لا إيمان لمن لا أمانة له" (1)، و"لا صلاة لمن لا وضوء له" (2)، و"لا عمل لمن لا نيَّة له" (3)، و"لا صيام لمن لا يبيِّت الصِّيام من _________ (1) تقدَّم تخريجه (ص/82). (2) أخرجه أحمد (2/ 418)، وأبو داود (101)، وابن ماجه (399)، والحاكم (1/ 246)، وغيرهم، من طريق يعقوب بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه به مرفوعًا. وقد صحَّحه الحاكم، ووُهِّمَ في هذا، ورُدَّ عليه بجهالة وضعف بعض رواته. وفي الباب حديث جمعٍ من الصَّحابة، ولكن لا يكاد يسلم كلُّ واحدٍ منها من مقالٍ. وقد ضعَّف الحديث جماعةٌ؛ فقال أبوحاتم وأبوزرعة الرَّازيَّان: "ليس عندنا بذاك الصَّحيح"، وقال أحمد: "لا أعلم في هذا الباب حديثًا له إسنادٌ جيِّدٌ"، وقال أيضًا: "ليس فيه شيءٌ يثبت". وصحَّحه بمجموع طرقه ابن الصلاح وابن عبدالهادي والمنذري وابن كثيرٍ وابن حجر والألباني. يُنْظَر في جميع ما تقدَّم: علل ابن أبي حاتم (129)، وعلل الترمذي (1/ 112)، والتعليقة على العلل لابن عبدالهادي (144)، والتَّلخيص الحبير (1/ 73)، وإرواء الغليل (81). (3) أخرجه البيهقي في الكبرى (1/ 41) والخطيب في الجامع (1/ 315) من طريق خالد ابن خداش عن عبدالله بن المثنى الأنصاري قال: حدثني بعض أهل بيتي عن أنسٍ رضي الله عنه به مرفوعًا. قال الحافظ في التلخيص الحبير (1/ 150): "في سنده جهالةٌ". وأخرجه ابن عساكر في أماليه من طريق الأنصاري عن التَّيمي عن أنسٍ به، وقال: "غريب جدًّا". قال الحافظ في التلخيص (1/ 150): "وهو شاذٌّ؛ لأنَّ المحفوظ عن يحيى بن سعيد من حديث عمر بغير هذا السِّياق". ورُوِي موقوفًا على عمر وابن مسعود، ولا يصحُّ، كما في جامع العلوم والحكم لابن رجب (1/ 13).

(1/143)


اللَّيل" (1)، و"لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب" (2). ولو انتفت الحقيقة لانتفاء (3) بعض مستحبَّاتها فما مِن عبادة إلَّا وفوقها من جنسها ما هو أحبُّ إلى الله منها. وقد ساعدتمونا على أنَّ الوقت من واجباتها، فإذا نُفِيت لنفي واجبٍ فيها لم تكن (4) صحيحةً ولا مقبولةً. الثَّالث: أنَّه إذا لم يكن نفي حقيقة المسمَّى فنفي صحَّته والاعتداد _________ (1) أخرجه أبوداود (2454)، والنسائي (2333)، والترمذي (730)، وابن ماجه (1700)، وغيرهم، من طرقٍ عن سالمٍ عن ابن عمر عن حفصة زوج النَّبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعًا، بنحو لفظه. وقد اختلف في رفعه ووقفه على حفصة أو ابن عمر. فصحَّح رفعه الحاكم، والدارقطني، وابن خزيمة، والبيهقي، والخطابي، وعبدالحق الإشبيلي، وابن حزم، والألباني. ورجَّح وقفه أبوحاتم كما في علل ابنه (ص/385)، وأحمد، والبخاري كما في علل الترمذي (1/ 148)، والنَّسائي في الكبرى (2/ 117)، والترمذي في سننه (730)، وابن عبدالهادي في التنقيح (2/ 280). ويُنْظَر: البدر المنير (5/ 650)، والتَّلخيص الحبير (2/ 188)، وإرواء الغليل (914). (2) أخرجه البخاري (756)، ومسلم (394)، من حديث عبادة رضي الله عنه مرفوعًا. (3) س: "لانتفى". (4) هـ وط: "فإن انتفت بنفي .. ". وفي هامش هـ: في نسخة: "فإذا نفيت بنفي موجبه .. ". هـ: " .. لم يكن".

(1/144)


به أقرب (1) إلى نفيه من كماله المستحبِّ. وقال محمد بن المثنى: حدَّثنا عبدالأعلى حدثنا سعيد بن أبي عروبة (2) عن قتادة قال: ذُكِر لنا أنَّ عبدالله بن مسعود كان يقول: "إنَّ للصَّلاة وقتًا (3) كوقت الحجِّ، فصلُّوا الصَّلاة لميقاتها (4) " (5). فهذا عبدالله قد صرَّح بأنَّ وقت الصَّلاة كوقت الحجِّ، فإذا كان الحجُّ لا يُفْعَل في غير وقته فما بال الصَّلاة تجزئ في غير وقتها؟ وقال عبدالرزَّاق (6): عن معمر عن بُدَيل العقيلي قال: بَلَغني أنَّ _________ (1) س هنا زيادة: "به". (2) ط: "عبدالأعلى عن ابن مسعود حدثنا سعيد .. ". (3) ض: "للصلاة وقتٌ" وليس فيها: "إن". (4) "كان يقول .. الصَّلاة لميقاتها". سقطت من هـ. (5) أخرجه عبدالرزاق (3747)، ومن طريقه ابن جرير (7/ 451)، وابن أبي حاتم في تفسيره (5918)، والطبراني في الكبير (9/ 275) وغيرهم، من طريق قتادة عن ابن مسعود نحوه، دون ذكر الآية وجملة: "فصلُّوا .. ". وإسناده منقطعٌ؛ فإنَّ قتادة لم يسمع من ابن مسعود، وأُبْهِمت الواسطة بينهما، وإلى هذا أشار الهيثمي في المجمع (1/ 305). (6) المصنَّف (2234). وقد رُوِي مرفوعًا. فأخرجه الطبراني في الأوسط (3/ 263) من طريق عباد بن كثير عن أبي عبيدة عن أنس رضي الله عنه نحوه مرفوعًا للنَّبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي إسناده عبَّاد بن كثير، وهو متروك الحديث. وإلى هذا أشار الهيثمي في المجمع (1/ 302). وتُنْظَر ترجمته في: تهذيب الكمال (1/ 145)، وميزان الاعتدال (2/ 371). وفي الباب حديث عبادة رضي الله عنه نحوه مرفوعًا، وسيأتي (ص/288).

(1/145)


العبد إذا صلَّى الصَّلاة لوقتها صعدت ولها نورٌ ساطعٌ (1) في السَّماء، وقالت: "حَفِظْتَني حفظك الله، وإذا صلَّاها لغير وقتها طُوِيَت كما يُطْوَى الثَّوب الخَلَق، فضُرِب (2) بها وجهه". فصلٌ قال الذين يعتدُّون بها بعد الوقت، ويُبْرِئُون بها الذِّمَّة، واللَّفظ لأبي عمر ابن عبدالبَر؛ فإنَّه انتصر لهذه المسألة أتمَّ انتصار. ونحن نذكر كلامه بعينه. قال في "الاستذكار" (3) في باب النَّوم عن الصَّلاة: قرأتُ على عبدالوارث أنَّ قاسمًا حدَّثهم: حدَّثنا أحمد بن زهير حدَّثنا ابن الأصبهاني حدثنا عبيدة بن حميد (4) عن يزيد بن [أبي] زياد (5) عن تميم ابن سلمة عن مسروقٍ عن ابن عباس قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ، _________ (1) هـ: "صادع". ط: "صارع". (2) ط: "فتضرب". (3) الاستذكار (1/ 299) وما بعدها. (4) س: "حميدة". (5) في النسخ كلِّها: "بن زياد". والتَّصويب من الاستذكار (1/ 299) ومصادر الحديث كمسند أحمد (1/ 259)، وأبي يعلى (4/ 263)، وغيرهما. ويزيد هو: القرشي الهاشمي الكوفي، ضُعِّف. ترجمته في: تهذيب الكمال (32/ 135)، وميزان الاعتدال (4/ 423).

(1/146)


فعرَّسوا (1) من آخر اللَّيل، فلم يستيقظوا حتى طلعت الشمس، فأمر بلالًا فأذَّن، ثم صلَّى ركعتين". قال ابن عباس: "فما يسرُّني بها الدُّنيا وما فيها". يعني: الرُّخصة. قال أبو عمر: ذلك عندي ـ والله أعلم ـ لأنَّه كان سببًا (2) إلى أنْ أعْلَمَ أصحابه (3) المبلِّغين عنه إلى سائر أمَّته بأنَّ مراد الله من (4) عباده في الصَّلاة وإنْ كانت مؤقَّتة: أنَّ مَن لم يصلِّها في وقتها يقضيها أبدًا متى ما (5) ذكرها، ناسيًا كان لها، أونائمًا عنها، أومتعمِّدًا لتركها. ألَا ترى إلى حديث مالكٍ (6) في هذا الباب، عن ابن شهاب عن سعيد ابن المسيب: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن نسِي الصَّلاة فليصلِّها إذا ذَكَرَها". والنِّسيان في لسان العرب يكون للتَّرك (7) عمدًا، ويكون ضدَّ الذِّكْر، قال الله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة/67]، أي: تركوا طاعة الله والإيمان بما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتركهم الله من رحمته. وهذا ممَّا لا _________ (1) التَّعريس: النُّزول آخر اللَّيل، كما في الاستذكار نفسه (1/ 294). (2) هـ: "شيئًا" تحريف! (3) س: "الصحابة". (4) س: "عن". (5) "ما" ليست في هـ وط. (6) الموطأ (25). وقد تقدَّم تخريجه (ص/114، 115) موصولًا. (7) هامش هـ: "بمعنى الترك".

(1/147)


خلاف فيه، ولا يجهله من له أقلُّ علمٍ بتأويل القرآن (1). فإنْ قيل: فلِمَ خصَّ النَّائم والنَّاسي بالذِّكر في قوله في غير (2) هذا الحديث: "مَن نام عن الصَّلاة أونسيها فلْيصلِّها إذا ذَكَرها" (3). قيل: خصَّ النَّائم والنَّاسي ليرتفع التَّوهُّم والظَّن فيهما؛ لرفع القلم في سقوط التَّأثيم عنهما بالنَّوم والنِّسيان. فأبان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ سقوط الإثم عنهما غير مسقطٍ لما لزمهما من فرض الصَّلاة، وأنَّها واجبة عليهما عند الذِّكر لها، يقضيها كُلُّ واحدٍ منهما بعد خروج وقتها إذا ذكرها. ولم يَحْتَج إلى ذكر العامد معهما؛ لأنَّ العلَّة المتوهَّمة (4) في النَّاسي والنَّائم ليست فيه، ولا عذر له في ترك فرضٍ قد وجب عليه من صلاته إذا كان ذاكرًا له. وسوَّى الله تعالى في حكمهما (5) على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - بين حكم الصَّلاة المؤقَّتة والصِّيام المؤقَّت في شهر رمضان؛ بأنَّ (6) كُلَّ واحدٍ _________ (1) في هامش هـ هنا: "هذا الكلام صحيحٌ لغةً؛ إلَّا أنَّه يأباه قوله في آخر الحديث: فليصلِّها إذا ذكرها. فتأمَّل". انتهى. (2) "غير" ليست في س. (3) تقدَّم تخريجه بنحوه (ص/115). (4) س: "بعد خروج المتوهمة". (5) الاستذكار (1/ 301): "حكمه". (6) ض وهـ وط: "بل".

(1/148)


منهما يُقْضَى بعد خروج وقته. فنصَّ على النَّائم والنَّاسي في الصَّلاة كما وَصَفْنا، ونصَّ على المريض والمسافر في الصَّوم. وأجمعت الأمَّة (1) ونقلت الكافَّة فيمَن لم يصم شهر رمضان عامدًا، وهو مؤمنٌ بفرضه، وإنَّما تَرَكه أشرًا وبطرًا، تعمَّد ذلك ثم تاب منه (2) = أنَّ عليه قضاءه. وكذلك مَن تَرَك الصلاة عامدًا. فالعامد والنَّاسي في القضاء للصلاة والصيام سواء، وإنْ اختلفا في الإثم، كالجاني (3) على الأموال، المتْلِفِ لها، عامدًا وناسيًا سواء إلَّا في الإثم. وكان الحكم في هذا النَّوع (4) بخلاف رمي الجمار في الحجِّ، الذي لا يُقضَى في غير وقته لعامدٍ ولا لناسٍ؛ لوجوب الدَّم فيما ينوب عنها. وبخلاف الضَّحايا أيضًا؛ لأنَّ الضَّحايا ليست بواجبةٍ فرضًا، والصَّلاة والصِّيام كلاهما فرضٌ واجبٌ، ودَيْنٌ ثابتٌ، يؤدَّى أبدًا وإنْ خَرَج الوقت المؤجَّل لهما. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دَيْن الله أحقُّ أنْ يُقضَى" (5). _________ (1) ض وس: "الأئمة". (2) ض وس: "بفريضته .. ". ض وس وهـ: " .. وبطرًا بعد ذلك .. "، ط: " .. وبطرًا ثم تاب منه بعد ذلك .. ". وتصويب السياق من الاستذكار (1/ 301). (3) س: "كالخاين". (4) الاستذكار (1/ 301): "في هذا الشرع". (5) أخرجه البخاري (1953)، ومسلم (1148)، من حديث ابن عباس رضي الله عنه.

(1/149)


وإذا كان النَّائم والنَّاسي للصَّلاة ـ وهما معذوران ـ يقضيانها بعد خروج وقتها، كان المتعمِّد (1) لتركها، الآثم في فعله ذلك ـ وإنْ أبى ـ لا يسقط عنه فرض الصلاة، وأنْ يحكم عليه بالإتيان بها؛ لأنَّ التَّوبة من عصيانه في تعمُّد تركها هي أداؤها، وإقامتها (2)، مع النَّدم على ما سلَف مِن تَرْكِه لها في وقتها. وقد شذَّ بعض أهل الظَّاهر، وأقدم على خلاف جمهور علماء المسلمين، وسبيل المؤمنين؛ فقال (3): ليس على المتعمِّد لترك الصَّلاة في وقتها أنْ يأتي بها في غير وقتها؛ لأنَّه غير نائم ولا ناسٍ، وإنَّما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من نام عن صلاةٍ (4) أونسيها فليصلِّها إذا ذَكَرها" (5). قال: والمتعمِّد غير النَّاسي والنَّائم (6). قال: وقياسه عليهما (7) غير جائزٍ عندنا، كما أنَّ من قتل الصَّيد ناسيًا _________ (1) ط: "للمتعمِّد". (2) الاستذكار (1/ 302): "وإقامة تركها". (3) نحوه في: المحلَّى لابن حزم (2/ 235). (4) ط: "صلاته". (5) تقدَّم تخريجه نحوه (ص/116). (6) "والنائم" ليست في ض. (7) هـ: "عليهم".

(1/150)


لا يجزيه عندنا (1)! فخالف في المسألتين (2) جمهور العلماء، وظنَّ أنه يستتر (3) في ذلك بروايةٍ شاذَّةٍ، جاءت عن بعض التَّابعين (4)، وشذَّ فيها (5) عن جماعة علماء (6) المسلمين، وهو محجوجٌ بهم، مأمورٌ باتِّباعهم. فخالف هذا الظَّاهري طريق النَّظر والاعتبار، وشذَّ عن جماعة علماء الأمصار، ولم يأت فيما ذهب إليه من ذلك بدليلٍ يصحُّ في العقول. ومن الدَّليل على (7) أنَّ الصَّلاة تُصلَّى وتُقْضَى بعد خروج وقتها كالصِّيام سواء، وإن كان إجماع الأمَّة الذين (8) أُمِر من شذَّ عنهم _________ (1) "ناسيًا" ليست في ض وهـ وط، وفي س: "أن قتل الصيد ناسيًا لا .. ". والتصويب من الاستذكار (1/ 302). ولعلَّ مراده بقوله: "لا يجزيه عندنا" أي: فدية قتل الصيد في الإحرام. وانظر كلام ابن حزمٍ في هذه المسألة في المحلَّى (7/ 214). (2) ض وس: "المسلمين". (3) س: "يسير". (4) يُنْظَر: المحلَّى (2/ 238 - 241). (5) س: "التابعين فيها وشذ". وفي ض و هـ و ط والاستذكار (1/ 302): "شذ" دون واو. (6) ض وهـ وط: "من علماء". وفي الاستذكار (1/ 302): "عن جماعة المسلمين". (7) "على" ليست في هـ. (8) هـ وط: "الذي".

(1/151)


بالرجوع إليهم، وترك الخروج عن سبيلهم يغني عن الدَّليل في ذلك= قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أدرك ركعةً من العصر قبل أنْ تغرب الشمس فقد أدرك العصر، ومَن أدرك ركعةً من الصبح قبل أنْ تطلع الشمس فقد أدرك الصُّبح" (1). ولم يستثن متعمِّدًا من ناسٍ. ونَقَلَت الكافَّة عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّ من أدرك ركعةً من صلاة العصر قبل الغروب صلَّى تمام صلاته (2) بعد الغروب، وذلك بعد خروج الوقت عند الجميع. ولا فرق بين عمل صلاة العصر كلِّها لمن تعمَّد، أونسي، أوفَرَّط، وبين عمل بعضها في نظرٍ ولا اعتبار. ودليلٌ آخر، وهو أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يصلِّ هو ولا أصحابه يوم الخندق صلاة الظَّهر والعصر حتى غَرَبَت الشَّمس (3)؛ لشغله بما نَصَبه (4) المشركون من الحرب، ولم يكن يومئذ نائمًا ولا ناسيًا، ولا كانت بين المسلمين والمشركين (5) يومئذٍ حربٌ قائمةٌ ملتحمةٌ، وصلَّى يومئذٍ الظهر والعصر في اللَّيل (6). _________ (1) تقدَّم تخريجه (ص/129)، وأنَّه في الصَّحيحين. (2) هـ: "تمام العصر"، ط: "تمام صلاة العصر". (3) تقدم تخريجه (ص/111) وأنه في الصحيحين. (4) س: "نصب له". (5) ط: "والكافرين". (6) ض وهـ وط: "باللَّيل".

(1/152)


ودليلٌ آخر أيضًا، وهو أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال بالمدينة لأصحابه يوم انصرافه من الخندق: "لا يُصلينَّ أحدٌ منكم العصر إلَّا في بني قريظة" (1)، فخرجوا مبادرين (2)، وصلَّى بعضهم العصر دون بني قريظة؛ خوفًا من خروج وقتها المعهود، ولم يصلِّها بعضهم إلَّا في بني قريظة (3)، بعد غروب الشمس؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُصلينَّ أحدكم العصر إلَّا في بني قريظة". فلم يعنِّف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى (4) الطَّائفتين، وكلُّهم غير ناسٍ ولا نائمٍ (5)، وقد أخَّرَ بعضهم الصلاة حتى خرج وقتها ثم صلَّاها، وقد علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك فلم يقل لهم: إنَّ الصَّلاة لا تصلَّى إلَّا في وقتها (6)، ولا تقضى (7) بعد خروج وقتها. _________ (1) أخرجه البخاري (946)، ومسلم (1770)، من حديث ابن عمر رضي الله عنه. وهذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: "الظهر". مع اتِّحاد مخرج الحديث عندهما! وقد بيَّن الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح (7/ 408) وجه الجمع بين اللَّفظتين مع اتِّحاد مخرجهما وسندهما عند الشَّيخين، فلْيراجع هناك. (2) الاستذكار (1/ 304): "متبادرين". (3) "خوفًا من .. بني قريظة" سقطت من س. (4) هـ وط: "أحدًا من". (5) س: "غير نائم ولا ناسٍ". (6) هـ: "لم تصلَّ .. ". ط: "لم تصلَّ في وقتها" (7) هـ وط: "يقضى".

(1/153)


ودليلٌ آخر، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "سيكون بعدي أمراء يؤخِّرون الصَّلوات عن ميقاتها". قالوا: أفنصلِّيها (1) معهم؟ قال: "نعم". حدثنا عبدالوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ (2) حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي حدثنا أبوحذيفة موسى (3) بن مسعود حدثنا سفيان الثوري عن منصور عن هلال بن يساف (4) عن أبي المثنَّى الحمصي عن أَبِي أُبَي ابن امرأة (5) عبادة بن الصَّامت عن عبادة بن الصامت قال: كنَّا عند النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنَّه سيجيء بعدي أمراء، تشغلهم أشياء، حتى لا يصلُّوا الصَّلاة لميقاتها". قالوا: نصلِّيها (6) معهم _________ (1) ض وهـ: "فنصليها". (2) تحرَّفت في هـ: "أضيع"، وفي ط: "أصبع". (3) في الاستذكار (1/ 304): "يوسف"! (4) س: "منصور بن هلال بن يسار"! (5) ض: "الحمصي أبي أبي ابن امرأة"، س: "الحمصي عن أبي بن امرأة"، هـ: "الحمصي أتى بي امرة"، ط: " .. الحمصي أتى إليَّ امرأة .. ". والتَّصويب من الاستذكار (1/ 304)، ومن مصادر الحديث، وكتب التراجم. و"أبو أُبَي" هو الأنصاري النجَّاري، وهو ابن أمِّ حرام بنت ملحان، امرأة عبادة، وخالة أنس بن مالك، وقيل: بل هو ابن أخت عبادة، واسمه: عبدالله بن أُبَي، وقيل: ابن كعب، أو ابن عمرو بن قيس. صحابيٌّ، إسلامه قديمٌ، وروى عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -. تُنْظَر ترجمته في: الإصابة لابن حجر (7/ 5)، وتهذيب الكمال للمزِّي (33/ 12)، وغيرهما. (6) س: "أنصلِّيها".

(1/154)


يا رسول الله؟ قال: "نعم" (1). قال أبوعمر: أبومثنَّى الحِمْصي هو: الأملوكي ثقةٌ (2). وفي هذا الحديث أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أباح الصَّلاة بعد خروج ميقاتها، ولم يقل: إنَّ الصلاة لا تُصَلَّى إلَّا في وقتها! والأحاديث في تأخير الأمراء الصَّلاة (3) حتى يخرج وقتها كثيرة جدًّا. وقد كان الأمراء من بني أميَّة أو أكثرهم (4) يصلُّون الجمعة عند الغروب (5). وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما التَّفريط على مَن لم يُصَلِّ الصلاة حتى _________ (1) وأخرجه أحمد (5/ 315)، وأبوداود (433)، وابن ماجه (1257)، والضياء في المختارة (8/ 317)، والطَّبراني ـ كما في المجمع (1/ 325) ـ وغيرهم، من طريق هلال بن يساف عن أبي المثنى به. قال الهيثمي: "رجاله رجال الصَّحيح". وفي الباب حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند مسلمٍ (534) وغيره، قال: "إنَّه ستكون عليكم أمراء، يؤخرون الصلاة عن ميقاتها، فإذا رأيتموهم قد فعلوا ذلك فصلُّوا الصلاة لميقاتها، واجعلوا صلاتكم معهم سُبْحة". (2) تحرَّفت في هـ وط: "الأسلوكي"، وفي س: "الأيلوكي". واسم هذا الرَّاوي: ضمضم. وقد وثَّقه العجلي أيضًا. وقال ابن القطان: مجهولٌ، ولم يقبل توثيق ابن عبدالبر، وتعقَّبه ابن الموَّاق بأنَّه لا فرق بين أنْ يوثِّقه الدارقطني أوابن عبد البر. تُنْظَر ترجمته في: تهذيب الكمال (13/ 329)، وتهذيب ابن حجر (4/ 406). (3) هـ وط: "بالصلاة". (4) ض و هـ وط: "وأكثرهم". والمثبت من س موافق لما في الاستذكار (1/ 305). (5) يُنظر: مصنف عبدالرزاق (2/ 385)، ومصنف ابن أبي شيبة (4/ 146)، = = ... (5/ 194) ففيهما تأخير الوليد بن عبدالملك والحجاج بن يوسف وعبيد الله بن زياد لصلاة الجمعة والعصر حتى المساء.

(1/155)


يدخل وقت الأخرى" (1). وقد أعْلَمَهُم أنَّ وقت الظهر في الحَضَر ما لم يدخل وقت العصر، رُوِي ذلك عنه من وجوهٍ صحاحٍ، قد ذكرتُ بعضها في صدر الكتاب ـ يعني: الاستذكار ـ (2)، في المواقيت (3). وحدثنا عبدالله بن محمد بن أسد (4) حدثنا حمزة بن محمد بن علي حدثنا أحمد بن شعيب النَّسوي حدثنا سويد بن نصر (5) حدثنا عبدالله ــ يعني: ابن المبارك ــ عن سليمان بن المغيرة عن ثابت عن عبدالله بن رباح (6) عن أبي قتادة: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس في النَّوم تفريطٌ؛ إنَّما التَّفريط على من لم يصلِّ الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى" (7). _________ (1) سيأتي تخريجه والكلام عليه قريبًا. (2) ض وس: "في صدر هذا .. "، وليس فيهما: "يعني: الاستذكار". (3) الاستذكار (1/ 191 - 193)، و (1/ 235 - 246). (4) هـ وط: "راشد"، ض: "أشد". والتَّصويب من الاستذكار (1/ 306)، وقد أكثر عنه ابن عبدالبر، ترجمته في: السِّير للذهبي (17/ 83) وتاريخ الإسلام (27/ 315). (5) ط: "نضر". (6) س: "بن أبي رباح". (7) وأخرجه مسلم (681)، بطولٍ وفيه قِصَّة. وأخرجه مختصرًا كما هي رواية ابن عبدالبر: أبودواد (441)، والنسائي (615)، والترمذي (177)، وابن ماجه (698)، وغيرهم، كلهم من طريق ثابت عن ابن رباح عن أبي قتادة به.

(1/156)


فقد سمَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فعل هذا مفرِّطًا، والمفرِّط ليس بمعذورٍ، وليس كالنَّائم والنَّاسي عند الجميع من جهة العُذر، وقد أجاز رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته على ما كان من تفريطه. وقد رُوِي في حديث أبي قتادة هذا أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "وإذا كان الغد فليصلِّها لميقاتها" (1). وهذا أبعد وأوضح في أداء المفرِّط للصلاة عند الذِّكر وبعد الذِّكر. وحديث أبي قتادة هذا صحيح الإسناد، إلَّا أنَّ هذا المعنى قد عارضه حديث عمران بن الحصين، في نوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن (2) صلاة الصُّبح بسفره، وفيه: قالوا: يا رسول الله، ألَا نصلِّيْهَا لميقاتها من الغد؟ قال: "لا، إنَّ الله لا ينهاكم عن الرِّبا، ثم يقبله منكم! " (3). ورُوِيَ من حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مثله. وقد ذكرنا الأسانيد _________ (1) جزءٌ من حديث أبي قتادة السابق عند مسلم (681)، ولفظه عنده: "فإذا كان الغد فليصلِّها عند وقتها". وسيأتي لاحقًا ما يذكره المصنِّف من إعلال الحفَّاظ لها. (2) هـ وط: "في". (3) أخرجه أحمد (4/ 441)، وابن حبان (1416)، وابن خزيمة (994)، والدارقطني (1/ 385)، والبيهقي (2/ 217)، والطبراني (18/ 157) وغيرهم، كلهم من طريق الحسن البصري عن عمران رضي الله عنه به. وإسناده منقطعٌ، إذ لم يسمع الحسن من عمران، قاله القطان وابن المديني وأبوحاتم وأحمد وابن معين. يُنْظَر: العلل لابن المديني (ص/51)، وتحفة التحصيل (ص/71)، وتنقيح التحقيق لابن عبدالهادي (1/ 496).

(1/157)


بذلك كله في "التَّمهيد" (1). وقد روى عبدالرحمن بن علقمة الثَّقفي ـ وهو مذكور في الصحابة ـ قال: "قدم وفد ثقيفٍ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعلوا يسألونه، فلم يصلِّ يومئذ الظُّهر إلَّا مع العصر" (2). وأقلُّ ما في هذا أنَّه أخَّرها عن وقتها الذي كان يصلِّيها فيه لشغلٍ اشتغل به. وعبد الرحمن بن علقمة من ثقات التَّابعين وكبارهم. وقد أجمع العلماء على أنَّ تارك (3) الصلاة عامدًا حتى يخرج وقتها عاصٍ لله. وذكَر بعضهم أنَّها كبيرةٌ من الكبائر. وأجمعوا (4) على أنَّ على العاصي أنْ يتوب من ذنبه بالنَّدم عليه، واعتقاد ترك العود إليه. قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ _________ (1) (1/ 215 - 216). (2) أخرجه النسائي (3758)، وابن أبي شيبة (33402)، والطيالسي (1433)، وغيرهم، من طريق أبي حذيفة عن عبد الملك بن محمد بن نسير عن عبدالرحمن بن علقمة بنحوه. وقد اختلف في صحبة عبدالرحمن، قال الدارقطني وابن عبدالبر: لا تصحُّ له صحبة، وإن ذكره في الصَّحابة جماعة ممَّن ألف فيهم، منهم خليفة، ويعقوب بن سفيان، وابن مندة. كما في: الإصابة (4/ 337)، وتهذيب التهذيب (6/ 211). وأبوحذيفة وعبدالملك: مجهولان، ولم يتبيَّن سماع بعضهم من بعضٍ، كما قال البخاري في تاريخه (5/ 431). ولذا فقد ضعَّفه الألباني في الضعيفة (5014). (3) ط: "أن من ترك". (4) س: "واجتمعوا".

(1/158)


الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور/31]. ومَن لزمه حقٌّ لله أولعباده (1) لزمه الخروج منه. وقد شبَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق الله - عز وجل - بحقوق الآدميين، وقال: "دَيْن الله أحقُّ أنْ يُقْضَى" (2). والعجب من هذا الظَّاهري في نقضه أصله بجهله، وحبِّه لشذوذه (3). وأصلُ أصحابه فيما وجب من الفرائض بإجماعٍ: أنَّه لا يسقط إلَّا بإجماعٍ مثله، أوسنَّةٍ ثابتةٍ لا تَنَازُع (4) في قبولها. والصَّلوات (5) المكتوبات واجباتٌ بإجماع. ثم جاء من الاختلاف بشذوذٍ (6) خارجٍ عن أقوال علماء الأمصار، فاتَّبعه دون سُنَّةٍ رُوِيَت في ذلك، وأسقط به الفريضة المجمع على وجوبها، ونَقَض أصله، ونسي نفسه! ثم ذكر أنَّ مذهب داود وأصحابه وجوب قضاء الصَّلاة إذا فوَّتها عمدًا، ثم قال: فهذا قول داود، وهو وجه أهل الظَّاهر. وما أرى هذا الظَّاهري إلَّا وقد خرج عن جماعة العلماء من السَّلف _________ (1) هـ: "حق الله أولعباده". (2) تقدَّم تخريجه (ص/149)، وأنَّه في الصَّحيحين. (3) "وحبه" سقطت من س. (4) هـ وط: "ينازع". (5) هـ: "والصلاة". (6) س وهـ: "شذوذ".

(1/159)


والخلف، وخالف جميع فرق الفقهاء، وشذَّ عنهم. ولا يكون إمامًا في العلم من أخذ بالشَّاذِّ من العلم (1). وقد أوْهَمَ في كتابه (2) أنَّ له سلفًا من الصحابة والتابعين، تجاهلًا منه أوجهلًا. فذكر عن ابن مسعود، ومسروق، وعمر بن عبدالعزيز في قوله: {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} [مريم/59]: "أنَّ ذلك عن مواقيتها، ولو تركوها لكانوا بتركها كفَّارًا" (3). وهو لا يقول بتكفير (4) تارك الصَّلاة عمدًا إذا أبى إقامتها، ولا يقتله إذا كان مقرًّا بها؛ فقد خالفهم فكيف يحتجُّ بهم! على أنَّه معلومٌ أنَّ من قضى الصلاة فقد تاب من تضييعها، قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه/82]. ولا تصحُّ (5) لمضيِّع الصَّلاة توبةٌ إلَّا بأدائها، كما لا تصحُّ التَّوبة من دَيْن الآدمي إلَّا بأدائه. ومن قضى صلاةً فرَّط فيها فقد تاب وعمل _________ (1) هذه العبارة طرفٌ من قولٍ مأثورٍ عن ابن مهديٍّ، أسنده إليه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم (2/ 820) وغيره. (2) يُنْظَر: المحلَّى لابن حزم (2/ 240 - 241) ولكن ليس فيه شيءٌ عن مسروق. (3) أثر ابن مسعودٍ لم أره في تفسير هذه الآية عينها. بل قيل له: إنَّ الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن، {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} و {عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} و {عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} فذكر نحو ماذكر. أخرجه ابن جرير (15/ 569)، والطبراني في الكبير (9/ 190)، وابن أبي شيبة (3229)، وغيرهم، من طرقٍ عن ابن مسعود رضي الله عنه به. (4) "بتكفير" سقطت من ض. (5) س: "ولا يصح".

(1/160)


صالحًا، والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا. وذَكَر عن سلمان أنَّه قال: "الصَّلاة مِكيالٌ، فمَنْ وَفى وُفِّي له، ومن طفَّفه فقد علمتم ما قال الله في المطفِّفين" (1). وهذا لا حُجَّة فيه؛ لأنَّ الظَّاهر من معناه: أنَّ المطفِّف قد يكون مَن لم يكمل صلاته بركوعها وسجودها وحدودها، وإنْ صلَّاها في وقتها. وذَكَر عن ابن عمر أنَّه قال: "لا صلاة لمن لم يصلِّ الصلاة لوقتها" (2). وكذلك نقول (3): لا صلاة له كاملة الأجر (4)؛ كما جاء: "لا صلاة لجار المسجد إلَّا في المسجد" (5)، و"لا إيمان لمن لا أمانة _________ (1) أخرجه عبدالرزاق (3750)، وابن أبي شيبة (2996)، والبيهقي في الكبرى (2/ 291)، وابن المبارك في الزهد (1192)، وغيرهم، من طريق سالم بن أبي الجعد عن سلمان الفارسي رضي الله عنه موقوفًا عليه. وسالمٌ يرسل عن جمعٍ من الصَّحابة ويدلِّس. لذا فقد قال الذهبي في المهذَّب (3171): "منقطعٌ". وضعَّف إسناده الألباني في الضَّعيفة (3809). ويُنْظَر: جامع التحصيل للعلائي (ص/179)، وتهذيب الكمال للمِزِّي (10/ 130). (2) تقدَّم تخريجه (ص/142). (3) هـ وط: "وكذا .. ". ط: " .. يقول". (4) هـ وط: "الأجزاء". وفي الاستذكار (1/ 310): "كاملة" دون: "الأجر". (5) أخرجه الحاكم (1/ 373)، والدَّارقطني (1/ 420)، والبيهقي (3/ 57)، وغيرهم، من طريق سليمان بن داود اليمامي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه به مرفوعًا. ... = = ... وفي إسناده اليمامي، قال عنه ابن معين: ليس بشيءٍ، وقال البخاري: منكر الحديث، كما في الميزان للذهبي (2/ 202) وغيره. وفي الباب حديث عائشة، وجابر مرفوعًا، وعليٍّ موقوفاً. ولكن لا يسلم واحدٌ منها من عِلَّةٍ. لذا قال الحافظ ابن حجر: "ضعيفٌ، ليس له إسنادٌ ثابتٌ". ويُنْظَر: العلل المتناهية (1/ 210)، والتَّلخيص الحبير (2/ 31)، والإرواء (491)، والضعيفة للألباني (183).

(1/161)


له" (1). ومن قضى الصلاة فقد صلَّاها، وتاب من سَيِّئ (2) عمله بتركها. وكُلُّ ما ذكر في هذا المعنى فغير صحيحٍ، ولا له في شيءٍ منه حجَّة؛ لأنَّ ظاهره خلاف ما تأوَّله. فصلٌ قال المانعون من صحَّتها بعد الوقت وقبولها: لقد أرعدتم وأبرقتم، ولم تنصفونا في حكاية قولنا على وجهه، ولا في نقلنا مذاهب السَّلف، ولا في حججنا! فإنَّا لم نقل قطُّ ولا أحدٌ من أهل الإسلام: إنَّها سَقَطت من ذمَّته بخروج وقتها، وإنَّها لم تبق واجبةً عليه، حتى تجلبوا علينا بما أجْلَبتم (3)، وتشنِّعوا علينا بما شنَّعْتم. _________ (1) تقدَّم تخريجه (ص/82). (2) ط: "من نسي"! (3) س: "تحيلوا .. أحلتم".

(1/162)


بل قولنا وقول من حكينا قوله من الصَّحابة والتَّابعين أشد على مؤخِّر الصلاة ومفوِّتها من قولكم؛ فإنَّه قد تحتَّمَت عقوبته، وباء بإثمٍ لا سبيل له إلى دَرْكه (1) إلَّا بتوبةٍ يحدثها، وعملٍ يستأنفه. وقد ذكرنا من الأدلَّة ما لا سبيل لكم إلى ردِّهِ، فإن وجدتم السَّبيل إلى الردِّ فأهلًا بالعِلم أين كان، ومع من كان، فليس القصد إلَّا طاعة الله وطاعة رسوله، ومعرفة ما جاء به. ونحن نبيِّن ما في كلامكم من مقبولٍ ومردودٍ. فأمَّا قولكم: إنَّ سرور ابن عباس بتلك الصلاة التي صلَّاها بعد طلوع الشمس لأنَّه كان سبيلًا إلى أنْ أعلم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه المبلِّغين عنه إلى سائر أمته بأنَّ مراد الله من عباده في الصلاة وإنْ كانت موقَّتةً: أنَّ من لم يصلِّها في وقتها يقضيها أبدًا، ناسيًا كان لها، أونائمًا، أومتعمِّدًا لتركها= فهذا ظنٌّ محضٌ منكم أنَّ ابن عباس أراده! ومعلومٌ أنَّ كلامه لا يدلُّ على ذلك بوجهٍ من وجوه الدلالات (2)، ولا هو يُشْعِر به. ولعلَّ ابن عباس إنَّما سُرَّ بها ذلك السُّرور العظيم لكونه صلَّاها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وفَعَل مثل ما فعلوا، وحصل له من _________ (1) هـ وط: "إدراكه". (2) ط: "الدلالة". س زيادة بعدها: "قولًا".

(1/163)


الأجر سهمان (1)، كما حصل للصَّحابة. وخصَّ تلك الصَّلاة بذلك تنبيهًا للسَّامع أنَّها مع كونها ضُحًى (2) قد فُعِلت بعد طلوع الشمس، فلا يُظنُّ أنَّها ناقصة، وأنَّها لا أجر فيها: "فما يسرُّني بها الدُّنيا وما فيها". وليس ما فهمتموه عن ابن عباس أولى من هذا الفهم. أولعلَّه أراد أنَّ ذلك من رحمة الله بالأمَّة؛ ليقتدي به من نام عن الصَّلاة، ولم يفرِّط بتأخيرها. فمن أين يدلُّ كلامه هذا على أنَّ سروره بتلك الصلاة لأنَّها تدلُّ على أنَّ من لم يصلِّ وأخَّر صلاة اللَّيل إلى النَّهار عمدًا، وصلاة النَّهار إلى اللَّيل= أنَّها تصحُّ منه وتُقْبَل، وتَبْرأ بها ذِمَّتُه؟ وإنَّ فَهْمَ هذا من كلام ابن عباس لمن أعْجَب العجب. فأخبرونا كيف وقع لكم هذا الفهم من كلامه، وبأيِّ طريقٍ فهمتموه (3)؟ فصلٌ وأمَّا قولكم: إنَّ النِّسيان في لغة العرب هو التَّرك، كقوله: {نَسُوا اللَّهَ _________ (1) هـ وط: "سهمان من الأجر". وأشار في هامش هـ إلى هو مثبت. (2) "ضحىً" ليست في ض، وفي س: "صبحًا". (3) "وإنَّ فهم هذا .. فهمتموه" ليست في س.

(1/164)


فَنَسِيَهُمْ} [التوبة/67] الى آخره (1). فنَعَم، لعمرالله (2) إنَّ النسيان في القرآن على وجهين: نسيان تركٍ، ونسيان سهوٍ. ولكن حمل الحديث على نسيان التَّرك عمدًا باطلٌ (3)؛ لأربعة أوجهٍ (4): أحدها: أنَّه قال: "فليصلِّها إذا ذكرها". وهذا صريحٌ في أنَّ النِّسيان في الحديث نسيان سهوٍ، لا نسيان عمدٍ؛ وإلَّا كان قوله: "إذا ذكرها" كلامًا (5) لا فائدة فيه؛ فالنِّسيان إذا قُوْبِل بالذِّكر لم يكن إلَّا نسيان سهو، كقوله تعالى: {وَاذْكُرْ (6) رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف/24]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا نسيت فذكِّرُوني" (7). الثَّاني: أنَّه قال: "فكفَّارتها أنْ يصلِّيها إذا ذكرها". ومعلومٌ أنَّ من تركها عمدًا لا يكَفِّرُ عنه فعلُها بعد الوقت إثمَ التَّفويت. هذا ممَّا (8) لا _________ (1) هـ وط: "الخ". (2) س: "لعمروالله". (3) س: " .. التَّرك أنَّه أولى باطلٌ". (4) ض: "وجوه". (5) س: "كلام". (6) هـ: (فاذكُر). (7) أخرجه البخاري (401)، ومسلم (572)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، في قِصَّة سهوه - صلى الله عليه وسلم - في صلاته. (8) ض وس: "هذا ما".

(1/165)


خلاف فيه بين الأمَّة. ولا يجوز نسبته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ يبقى معنى الحديث: مَن ترك الصلاة عمدًا حتى خرج وقتها فكفارة إثْمِه صلاتُها بعد الوقت! وشناعة هذا القول أعظم من شناعتكم علينا القول (1) بأنَّها لا تنفعه، ولا تُقْبَل منه! فأين هذا من قولكم؟ الثَّالث: أنَّه قابَل النَّاسي في الحديث بالنَّائم، وهذه المقابلة تقتضي (2) أنَّه السَّاهي، كما يقول حَمَلة الشرع (3): النَّائم والنَّاسي غير مؤاخَذَيْن. الرَّابع: أنَّ النَّاسي في كلام الشَّارع ـ ـ إذا عَلَّق به الأحكام ـ لم يكن مراده إلَّا السَّاهي. وهذا مطَّردٌ (4) في جميع كلامه؛ كقوله: "من أكل أوشرب ناسيًا فلْيُتمَّ صومه؛ فإنَّما أطعمه الله وسقاه (5) " (6). _________ (1) س: "لأجل القول". (2) ط:"يقتضي". (3) ط: "جملة أهل الشرع". (4) س: "يطرد". (5) "وسقاه" ليست في هـ وط. (6) أخرجه البخاري (1933)، ومسلم (1155) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، بنحوه.

(1/166)


فصْلٌ وأمَّا قولكم: "وسوَّى الله سبحانه في حكمهما ـ أي: بين العامد (1) والنَّاسي ـ على لسان رسوله بين حكم الصلاة الموقَّتة والصِّيام الموقَّت في شهر رمضان، بأنَّ كل واحدٍ منهما يُقْضَى بعد خروج وقته؛ فنَصَّ على النَّائم والنَّاسي (2) في الصلاة كما وصفنا، ونصَّ على المريض والمسافر في الصَّوم. وأجمعت (3) الأمَّة ونقلت الكافَّة فيمَن لم يصم شهر رمضان عامدًا، وهو مؤمنٌ بفَرْضِه ـ وإنْ تَرَكَه أشرًا وبطرًا ـ ثمَّ تاب منه أنَّ عليه قضاءه" إلى آخره= فجوابُه من وجوهٍ: أحدها: قولكم: "إنَّ الله سبحانه سوَّى بينهما"، أي: بين العامد والنَّاسي فكلامٌ باطلٌ على إطلاقه؛ فما سوَّى الله سبحانه بين عامدٍ وناسٍ أصلًا. وكلامنا في هذا العامد العاصي، الآثم، المفرِّط غاية التَّفريط. فأين سوَّى الله سبحانه بين حكمهما في صلاةٍ أو صيامٍ؟ وقولكم: "فنصَّ على النَّائم والنَّاسي في الصلاة كما وصفنا" قد تقدَّم أنَّ النِّسيان المذكور في الصلاة لا يصحُّ حمله على العمد بوجهٍ، وأنَّ الذي نصَّ عليه في الحديث هو نسيان السَّهو، الذي هو نظير النَّوم، _________ (1) "بين" ليست في س. وفي هـ: "بين العامل"! (2) هـ وط:"والساهي". (3) ط:"واجتمعت".

(1/167)


فلا تعرُّضَ فيه للعامد. وأمَّا نصُّه على المريض والمسافر في الصَّوم فهما وإنْ أفطرا عامِدَيْن فلا يمكن أخذ حكم تارك (1) الصلاة عمدًا من حكمهما. وما سوَّى الله ولا رسوله بين تارك الصلاة عمدًا وأَشَرًا حتى يخرج وقتها وبين تارك الصوم لمرضٍ أو سفرٍ أبدًا (2)، حتى يؤخذ حكم أحدهما من الآخر. فمؤخِّر الصَّوم في المرض والسفر كمؤخِّر الصلاة لنومٍ أونسيانٍ، وهذان هما اللَّذان سوَّى الله ورسوله بين حكمهما. فنصَّ الله سبحانه على حكم المريض والمسافر في الصَّوم المعذورَيْن، ونصَّ رسول الله (3) - صلى الله عليه وسلم - على حكم النَّاسي والنَّائم (4) في الصَّلاة المعذورَيْن. فقد استوى حكمهما في الصَّوم والصَّلاة، ولكن أين استوى حكم العامد المفرِّط الآثم، والمريض والمسافر والنَّائم والنَّاسي المعذُوْرِين! يوضِّحُه: أنَّ الفِطْر (5) بالمرض قد يكون واجبًا؛ بحيث يحرم عليه _________ (1) "حكم" ليست من س. (2) ط: "سفر بر"! (3) ض وس: "رسوله". (4) ط: "النائم والناسي". (5) ض: "المفطر".

(1/168)


الصَّوم. والفِطر في السَّفر إمَّا واجبٌ عند طائفةٍ من السَّلف والخلف (1). أوأنَّه (2) أفضل من الصَّوم عند غيرهم (3). أوهما سواءٌ (4). أوالصَّوم أفضل منه ـ لمن لا (5) يشقُّ عليه ـ عند آخرين (6). _________ (1) هو مروِيٌّ عن عمر، وعائشة، وابن عمر، وابن عباس، وعبدالرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وابن المسيب، وعطاء، وغيرهم، والظَّاهريَّة. كما في: المحلَّى لابن حزم (6/ 243، 256 - 258)، والاستذكار (10/ 79)، والمجموع للنَّووي (6/ 271). (2) س وهـ وط: "وأنه". (3) هو مروِيٌّ عن ابن عمر، وابن عباس، وابن المسيب، والشعبي، وعمر بن عبدالعزيز، ومجاهد، وقتادة، والأوزاعي، وابن الماجشون، وابن راهويه، وأحمد. كما في: المحلَّى (6/ 247)، والاستذكار (10/ 79)، والمجموع (6/ 271). (4) هو محكيٌّ عن الشافعي، وإسماعيل بن عليَّة. كما في: الاستذكار (10/ 79). (5) ض وس: "لئلا". (6) قاله عثمان بن أبي العاص، وأنس، وحذيفة، وعروة، والأسود، وابن جبير، والنخعي، والفضيل، وأبو حنيفة، ومالك، والثوري، وابن المبارك، وأبوثور، وابن المنذر، والشافعيَّة. كما في: المحلَّى (6/ 247)، والاستذكار (10/ 79)، والمجموع (6/ 271).

(1/169)


وعلى كلِّ تقديرٍ فإلحاق تارك الصَّلاة والصوم عمدًا وعدوانًا به من أفسد الإلحاق وأبطل القياس. وهذا ممَّا لا خفاء به عند كُلِّ عالمٍ. وقولكم: إنَّ الأمَّة أجمعت والكافَّة نقَلَت أنَّ مَن لم يصم شهر رمضان عامدًا ـ أشرًا وبطرًا ـ ثم تاب منه فعليه قضاؤه. فيُقال لكم: أوْجِدُونا عشرةً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمَنْ دونهم صرَّح بذلك، ولن تجدوا إليه سبيلًا! وقد أنكر الأئمَّة كالإمام أحمد والشَّافعي وغيرهما دعوى هذه الإجماعات، التي حاصلها عدم العلم بالخلاف، لا العلم بعدم الخلاف؛ فإنَّ هذا ممَّا لا سبيل إليه، إلَّا فيما عُلِم بالضَّرورة أنَّ الرسول- صلى الله عليه وسلم - جاء به. وأمَّا ما قامت الأدلَّة الشَّرعيَّة عليه فلا يجوز لأحدٍ أنْ ينفي حكمه، لعدم علمه بمن قال به؛ فإنَّ الدَّليل يجب (1) اتِّباع مدلوله. وعدم العلم بمَن قال به لا يصلح (2) أنْ يكون مُعَارِضًا بوجهٍ ما. فهذه طريقة جميع الأئمَّة (3) المقتدى بهم. _________ (1) س: "الدليل تحت". (2) هـ وط: "يصح". (3) ط: "فهذا طريق .. ". س: " .. الأمة".

(1/170)


قال الإمام أحمد في رواية ابنه عبدالله (1): "من ادَّعى الإجماع فهو كاذبٌ (2)؛ لعلَّ الناس اختلفوا! هذه دعوى بِشْر المريسي والأصمِّ، ولكن يقول (3): لا نعلم للنَّاس اختلافًا، إذْ لم يبلغه" (4). وقال في رواية المرُّوْذِي (5): "كيف يجوز للرجل أن يقول: أجمَعُوا! إذا سمعتهم (6) يقولون: أجمَعُوا فاتَّهِمْهُم! لو قال: إنِّي لا أعلم مخالفًا كان أسلم" (7). وقال في رواية أبي طالب: "هذا كذبٌ، ما عِلْمُه (8) أنَّ النَّاس مجمعون؟ ولكن يقول: لا (9) أعْلَمُ فيه اختلافًا؛ فهو أحسن من قوله إجماع النَّاس". _________ (1) مسائل عبدالله (3/ 1314). (2) في المسائل: "فهو كذبٌ". (3) ض وهـ وط: "نقول". (4) س: " .. الناس اختلفوا .. تبلغه". في المسائل: " .. لا يعلم الناس يختلفون، أو لم يبلغه ذلك، ولم ينته إليه، فيقول: لا نعلم الناس اختلفوا .. ". (5) ض وط: "المروزي". (6) ض وس: "سمعهم". (7) "أسلم" ليست في س. (8) س: "مما علمه". (9) ط: "نقول: ما .. ".

(1/171)


وقال في رواية أبي الحارث: "لا ينبغي لأحدٍ أنْ يدَّعِيَ الإجماع؛ لعلَّ الناس اختلفوا" (1). وقال الشَّافعي (2) ـ في أثناء مناظرته لمحمد بن الحسن ـ: "لايكون لأحدٍ أنْ يقول: أجمعوا، حتى يعلم (3) إجماعهم في البلدان، ولا يقبل على أقاويل من نأت داره منهم ولا قربت (4)، إلَّا خبر الجماعة عن الجماعة. فقال لي: يضيق (5) هذا جدًّا. قلتُ له: وهو مع ضِيْقِه غير موجودٍ". وقال في موضع آخر (6)، وقد بيَّن ضعف دعوى الإجماع، وطالب من يناظره بمطالباتٍ عجز عنها، فقال له المناظر: "فهل من إجماعٍ؟ قلتُ: نعم، نحمد الله (7)، كثيرًا، في كل (8) الفرائض التي لا يسع _________ (1) ذكر المصنِّف هذه الروايات ـ أيضًا ـ في إعلام الموقِّعين (2/ 228). (2) في جماع العلم، المطبوع مع الأم (9/ 36 - 37). (3) هـ: "تعلم". (4) س: "من باب .. قريب". ط: "من ناءت". (5) ض وهـ وط: "تضيق". (6) جماع العلم (9/ 29). (7) ط: "الحمد لله"، ض وهـ: "بحمدالله". (8) جماع العلم: " في جملة". وفي بعض نسخه كما أشار المحقق: "جمل".

(1/172)


جهلها (1). وذلك الإجماع هو الذي إذا قلتَ: "أجمع النَّاس" لم تجد حولك أحدًا يعرف شيئًا يقول لك (2): ليس هذا بإجماع. فهذه الطَّريق التي يُصَدَّق بها من ادَّعى الإجماع فيها". وقال بعد كلامٍ طويلٍ حكاه في مناظرته (3): "أوَمَا كفاك عيب الإجماع أنَّه لم (4) يُرْوَ عن أحدٍ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوى الإجماع؛ إلَّا فيما لم يختلف فيه (5) أحدٌ، إلى أنْ كان أهل زمانك هذا. قال له المناظر: فقد ادَّعاه بعضكم (6)! قلتُ: أفحمدت ما ادَّعى منه؟ قال: لا. قلتُ: فكيف صِرْتَ إلى أنْ تدخل فيما ذممت في أكثر ما (7) عِبْت ألَّا تستدلَّ من طريقك أنَّ الإجماع هو (8) ترك ادِّعاء الإجماع، فلا _________ (1) س: "حملها". (2) ط: "لم تجد أحدًا يقول .. ". (3) جماع العلم (9/ 32). (4) س: "في المناظرة .. أن لم". (5): "لم" ليست في س. وفي جماع العلم: "لا". (6) جماع العلم: "بعضهم". (7) س: "أكبر .. ". جماع العلم: "أكثر ممَّا". (8) هـ وط: "عبت الاستدلال .. عن الإجماع وهو". وهمَّش في هـ كالمثبت أعلاه.

(1/173)


تحسن (1) النَّظَر لنفسك، إذا قلت: هذا إجماع؛ فتجد حولك من أهل العلم (2) من يقول لك: معاذ الله أنْ يكون هذا إجماعًا". وقال الشَّافعي في "رسالته" (3): "ما لا يُعْلَم (4) فيه خلافٌ فليس إجماعًا". فهذا كلام أئمَّة أهل العلم في دعوى الإجماع كما ترى. فلْنَرجع إلى المقصود، فنقول: من قال من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنَّ من ترك الصَّلاة عمدًا بغير (5) عذرٍ حتى خرج وقتها أنَّها تنفعه بعد الوقت، وتُقْبَل منه (6) وتبرأ ذمَّته؟ فالله يعلم أنَّا لم نظفر عن (7) صاحبٍ واحدٍ منهم قال ذلك! وقد نقلنا عن الصَّحابة والتابعين ما تقدَّم حكايته. وقد صرَّح الحسن البصري بما قلناه. فقال محمد بن نصر المروزي _________ (1) س وهـ وط: "يحسن". (2) جماع العلم: "فتجد سواك .. ". س: "فوجد .. ". وجملة: "من أهل العلم" ليست في هـ وط. (3) في رسالته الجديدة، كما ذكر ذلك المصنِّف في إعلام الموقِّعين (2/ 53). (4) "يعلم" ليست في ض وهـ. (5) هـ وط: "لغير". (6) "منه" ليست في هـ وط. (7) هـ و ط: "على".

(1/174)


في كتابه في الصلاة (1): حدثنا إسحاق حدثنا النَّضر عن الأشعث عن الحسن قال: "إذا ترك الرجل صلاةً واحدةً متعمِّدًا فإنَّه لا يقضيها". قال محمد (2): "وقول الحسن هذا يحتمل معنيين: أحدهما: أنَّه كان يكفِّره بترك الصَّلاة متعمِّدًا؛ فلذلك لم يَرَ عليه القضاء؛ لأنَّ الكافر لا يُؤْمَر بقضاء ما ترك من الفرائض في كُفْره. والثَّاني: أنَّه لم يكفِّره بتركها، فإنَّه ذهب إلى أنَّ الله - عز وجل - إنَّما فرض أنْ يأتي بالصلاة في وقتٍ معلومٍ، فإذا تركها حتى يذهب وقتها فقد لزمته المعصية؛ لتركه الفرض في الوقت المأمور (3) بإتيانه فيه. فإذا أتى به بعد ذلك فإنَّما أتى به في وقتٍ لم يُؤْمَر بإتيانه فيه، فلا ينفعه أنْ يأتي بغير المأمور به عن المأمور به. وهذا قولٌ غير مستنكرٍ في النَّظر، لولا أنَّ العلماء قد أجمعت على خلافه. قال: ومن ذهب إلى هذا قال في النَّاسي للصَّلاة حتى يذهب وقتها، وفي النَّائم أيضًا: لو لم يأت الخبر عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "من نام عن _________ (1) تعظيم قدر الصلاة (1078). (2) تعظيم قدر الصلاة (2/ 1000 - 1001). (3) في النسخ كلها زيادة: "به" هنا، والصواب حذفها.

(1/175)


صلاةٍ أو نسيها فلْيُصلِّها إذا استيقظ أو ذكر" (1)، وأنَّه نام عن صلاة (2) الغداة، فقضاها بعد ذهاب الوقت= لما وجب عليه في النَّظر قضاؤها أيضًا؛ فلمَّا جاء الخبر عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك وجب عليه قضاؤها، وبطل حظُّ النَّظر". فقد نقل محمدٌ (3) الخلاف صريحًا، وظنَّ أنَّ الأمَّة أجمعت على خلافه. وهذا يحتمل معنيين: أحدهما: أنَّه يرى أنَّ الإجماع ينعقد بعد الخلاف. والثَّاني: أنَّه لايرى خلاف الواحد قادحًا في الإجماع. _________ (1) تقدَّم أنَّه في الصَّحيحين بلفظ: "فكفَّارتها أنْ يصلِّيها إذا ذَكَرها". وقد أخرجه بهذا اللَّفظ أبويعلى (895)، وابن أبي شيبة (4773)، والطبراني (22/ 107)، وغيرهم، من طريق عبدالجبار بن العبَّاس الهمداني عن عون بن أبي جحيفة عن أبي جحيفة رضي الله عنه عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - به. قال الهيثمي في المجمع (1/ 322): "رجاله ثقات"، وقال البوصيري في إتحاف الخيرة (2/ 237): "إسنادٌ حسنٌ، عبدالجبَّار بن العباس مختلفٌ في توثيقه، وباقي رجال الإسناد محتجٌّ بهم في الصَّحيح"، وقال الألباني في الصَّحيحة (396): "إسنادٌ جيدٌ، رجاله كلُّهم ثقاتٌ، رجال الشَّيخين غير عبدالجبَّار، وهو صدوقٌ يتشيَّع، والتشيُّع لا يضرُّ في الرواية عند المحدِّثين .. ". (2) "أو نسيها .. صلاة" سقطت من س. (3) يعني: ابن نصر المروزي.

(1/176)


وفي المسألتين نزاعٌ معروفٌ. وأمَّا قوله: "إنَّ القياس يقتضي أنْ لا يقضي (1) النَّائم والنَّاسي؛ لولا الخبر" فليس كما زعم (2)؛ لأنَّ وقت النَّائم والنَّاسي هو وقت ذِكْره وانتباهه، لا وقت له غير ذلك، كما تقدَّم. والله أعلم. وأمَّا قولكم: "إنَّ الكافَّة نَقَلت، والأمَّة أجْمَعَت أنَّ من لم يصم شهر رمضان أشرًا وبطرًا أنَّ عليه قضاءه"، فأين النَّقل بذلك إيجادًا (3) عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وقد روى عنه أهل "السُّنن" (4)، والإمام أحمد في "مسنده" (5)، من حديث أبي هريرة: "مَنْ أفطر يومًا من رمضان من غير عذرٍ لم يقضه عنه صيام الدَّهر وإنْ صامه". فهذه الرِّواية المعروفة. فأين الرِّواية عنه، أوعن أصحابه: من أفطر رمضان أوبعضه أجزأ عنه أنْ يصوم مثله؟ وأمَّا قولكم: "إنَّ الصَّلاة والصِّيام دَيْنٌ ثابتٌ يؤدَّى أبدًا، وإنْ خرج _________ (1) هـ: "يقتضي". (2) ط: "زعمتم". (3) ض وهـ وط: "إذا جاء". (4) أبوداود (2396)، والترمذي (723)، وابن ماجه (1672). (5) (2/ 386). وقد تقدَّم تخريج الحديث، وبيان ضعفه (ص/137).

(1/177)


الوقت المؤجَّل لهما؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دَيْن الله أحقُّ أنْ يُقْضَى" .. " فيُقال (1): هذا الدَّليل مبنيٌّ على مقدِّمتين: إحداهما (2): أنَّ الصلاة والصِّيام دَيْنٌ ثابتٌ في ذِمَّة من تركهما (3) عمدًا. والمقدِّمة الثَّانية: أنَّ هذا الدَّيْن قابلٌ للأداء، فيجب أداؤه (4). فأمَّا المقدِّمة الأولى فلا نزاع فيها، ولانعلم أنَّ أحدًا من أهل العلم قال بسقوطها من ذمَّته بالتَّأخير. ولعلَّكم توهَّمتم علينا أنَّا نقول بذلك، فأخذتم في الشَّناعة علينا، وفي التَّشغيب (5). ونحن لم نقل ذلك، ولا أحدٌ من أهل الإسلام. وأمَّا المقدِّمة الثَّانية ففيها وقع النِّزاع. وأنتم لم تقيموا عليها دليلًا؛ فادِّعاؤكم لها هو دعوى محلُّ النِّزاع بعينه، جعلتموه مقدِّمة من مقدِّمات الدِّليل، وأثبتُّم (6) الحكم بنفسه! فمنازعوكم يقولون: لم يبق للمكلَّف طريقٌ إلى استدراك هذا _________ (1) هـ وط: "فنقول". (2) س: "أحدهما". (3) هـ وط: "تركها". (4) هـ وط: "أداءه". ض: "أداه". (5) س: "التشعب". (6) س: "وأبيتم".

(1/178)


الفائت، وإنَّ الله تعالى لا يقبل أداء هذا الحق إلَّا في وقته، وعلى صفته التي شَرَعه (1) عليها، وقد أقاموا على ذلك من الأدلَّة ما قد سمعتم. فما الدَّليل على أنَّ هذا الحق قابِلٌ للأداء في غير وقته المحدود له شرعًا؟ وأنَّه يكون (2) عبادة بعد خروج وقته؟ (3). وأمَّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اقضوا الله، فالله أحقُّ بالقضاء" (4)، وقوله: "دَيْنُ الله أحقُّ أنْ يُقْضَى" (5) فهذا إنَّما قاله في حقِّ المعذور لا المفرِّط. ونحن نقول: إنَّ مثل هذا الدَّين يقبل القضاء. وأيضًا: فإنَّ هذا إنَّما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النَّذر (6) المطلق، الذي ليس له وقتٌ محدودُ الطَّرفين. ففي "الصَّحيحين" (7)، من حديث ابن عباسٍ: أنَّ امرأةً قالت: يا رسول الله، إنَّ أمِّي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: "أرأيْتِ لو كان على أمِّكِ دَينٌ فقضَيْتِيه، أكان _________ (1) س: "شرعه الله". (2) س: "قد يكون". (3) هنا زيادة في س: "كما كان في وقته". (4) قد تقدَّم تخريجه بلفظٍ آخر في الصَّحيحين (ص/151)، وهو الآتي بعده، وأمَّا بهذا اللَّفظ فقد أخرجه أيضًا البخاري (6699)، ومسلم (1148). (5) تقدَّم تخريجه (ص/149). (6) هـ: "البدل". تحريف. (7) البخاري (1953)، ومسلم (1148).

(1/179)


يؤدِّي (1) ذلك عنها؟ ". قالت: نعم. قال: "فصومي عن أمِّك". وفي روايةٍ: أنَّ امرأةً ركبت البحر، فنَذَرَت إنْ نجَّاها الله (2) أنْ تصوم شهرًا، فأنجاها الله - سبحانه وتعالى -، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت قرابةٌ لها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك، فقال: "صومي عنها". رواه أهل "السُّنن" (3). وكذلك جاء عنه (4) الأمر بقضاء هذا الدَّين في الحج، الذي لا يفوت وقته إلَّا بنفاد العمر. ففي "المسند" (5)، و"السُّنن" (6) من حديث عبدالله بن الزبير قال: جاء رجلٌ من خثعم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّ _________ (1) هـ: "تؤدي". (2) ض وس: "إن الله نجاها". (3) أبوداود (3310)، والنَّسائي (3816)، وغيرهما من طرقٍ عن سعيد بن جبير عن ابن عباسٍ رضي الله عنه به. وقد صحَّحه الألباني في الصَّحيحة (1946)، فقال عن أحد طرقه: "إسنادٌ صحيحٌ، على شرط الشَّيخين". (4) ط: "منه". (5) مسند أحمد (4/ 5). (6) سنن النسائي (3635). وأخرجه أيضًا الضياء في المختارة (9/ 351)، وغيرهم، كلهم من طريق يوسف بن الزبير عن ابن الزبير به. ويوسف مجهول، قال البيهقي في الكبرى (6/ 87): "لا يعرف بسبب يثبت به حديثه".

(1/180)


أبي أدركه الإسلام وهو شيخٌ كبيرٌ لا يستطيع ركوب الرَّحل (1)، والحجُّ مكتوبٌ عليه، أفأحجُّ عنه؟ قال: "أنت أكبر ولده (2)؟ ". قال: نعم. قال: "أرأيتَ لو كان على أبيك دَيْنٌ فقضَيْتَه عنه، أكان ذلك يجزئ (3) عنه؟ " قال: نعم. قال: "فحُجَّ (4) عنه". وعن ابن عباسٍ: أنَّ امرأةً من جهينة جاءت إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: إنَّ أمِّي نَذَرت أنْ تحجَّ فلم تحجَّ حتى ماتت، أفأحجُّ عنها؟ قال: "نعم، حجِّي عنها. أرأيْتِ لو كان على أمِّكِ دَينٌ أكنتِ قاضِيَته؟ اقضوا الله، فاللهُ أحقُّ بالوفاء". متَّفق على صحَّته (5). وعن ابن عباسٍ أيضًا قال: أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ، فقال: إنَّ أبي مات وعليه حجَّة الإسلام، أفأحجُّ عنه؟ قال: "أرأيتَ لو أنَّ أباك ترك دَيْنًا عليه فقضَيْتَه، أكان يجزئ عنه؟ ". قال: نعم. قال: "فاحجج (6) عن أبيك". _________ (1) "كبير" ليست في هـ وط، ط: " .. رحل". (2) "ولده" ليست في هـ وض. (3) س: "مما يجزي". (4) س: "فاحجج". (5) كذا، ولفظة: "من جهينة" أخرجه البخاري (1852) وحده، كما نصَّ عليه غير واحدٍ. (6) ض وط: "فحج"، هـ: "فأحج". والمثبت من س، وكذا في سنن الدَّارقطني المطبوعة.

(1/181)


رواه الدَّارقطني (1). ونحن نقول في مثل هذا الدَّيْن القابل للأداء: دَيْنُ الله أحقُّ أنْ يُقْضَى؛ فالقضاء المذكور في هذه الأحاديث ليس بقضاءِ عبادةٍ موقَّتةٍ، محدودة الطَّرَفين. وقد جاهرَ اللهَ (2) سبحانه بتفويتها بَطَرًا وعدوانًا، فهذا الدَّين مستحقُّه لا يَعتدُّ به، ولا يقبله إلَّا على صفته التي شَرَعه عليها؛ ولهذا لو قضاه على غير تلك الصِّفة لم تنفعه. فصلٌ وأما قولكم: "وإذا كان النَّائم والنَّاسي للصَّلاة ـ وهما معذوران ـ يقضيانها بعد خروج وقتها كان المتعمِّد لتركها أولى"= فجوابه من وجوهٍ: أحدها: المعارضة بما هو أصحُّ (3) منه، أومثله، وهو أنْ يُقال: لا يلزم من صِحَّة القضاء بعد الوقت من المعذور، المطيع لله ورسوله، الذي لم يكن منه تفريطٌ في فعل ما أُمِر به، وقبوله منه= صحَّته وقبوله من متعدٍّ لحدود الله، مضيِّعٍ لأمره، تاركٍ لحقِّه عمدًا وعدوانًا. فقياس _________ (1) سنن الدَّارقطني (2/ 260). (2) ط: "بمعصية الله". (3) س: "أوضح".

(1/182)


هذا على هذا في صحَّة العبادة، وقبولها منه، وبراءة (1) الذِّمَّة بها من أفسد القياس. الوجه الثَّاني: أنَّ المعذور بنومٍ أونسيانٍ لم يصلِّ الصَّلاة في غير وقتها، بل في نفس وقتها الذي وقَّته الله له؛ فإنَّ الوقت في حقِّ هذا حين يستيقظ ويذكر، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "من نَسِي صلاةً فوقتُها إذا ذَكَرها". رواه البيهقي، والدَّارقطني (2). وقد تقدَّم. فالوقت وقتان: وقت اختيارٍ، ووقت عذرٍ. فوقت المعذور بنومٍ أوسهوٍ هو وقت ذِكْرِه واستيقاظه؛ فهذا لم يصلِّ الصَّلاة إلَّا في وقتها، فكيف يُقَاس عليه من صلَّاها في غير وقتها عمدًا وعدوانًا! الثَّالث: أنَّ الشَّريعة قد فرَّقت في مصادرها ومواردها بين العامد والنَّاسي، وبين المعذور وغيره، وهما ممَّا لا خفاء به؛ فإلحاق أحد النَّوعين بالآخر غير جائزٍ. الرَّابع: أنَّا لم نسقطها عن العامد المفرِّط، ونأمر بها المعذور حتى _________ (1) ط: "برأة". (2) سنن البيهقي (2/ 219)، سنن الدارقطني (1/ 423). وتقدَّم تخريجه وبيان ضعفه (ص/117).

(1/183)


يكون ما ذكرتم حجَّةً علينا؛ بل ألزمنا بها المفرِّط (1) المتعدِّي على وجهٍ لا سبيل له إلى استدراكها؛ تغليظًا عليه، وجوَّزنا قضاءها للمعذور غير المفرِّط. فصْلٌ وأمَّا استدلالكم بقوله (2) - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أدرك ركعةً من العصر قبل أنْ تغرب الشمس فقد أدرك العصر" (3) فما أصحَّه من حديثٍ، وما أراه على مقتضى قولكم؛ فإنَّكم تقولون هو مدركٌ للعصر، ولو لم يدرك من وقتها شيئا ألبتَّة. بمعنى: أنَّه مدركٌ لفعلها، صحيحة منه، مبرئة لذمَّته، فلو كانت تصحُّ بعد خروج وقتها وتُقْبَل منه لم يعلَّق (4) إدراكها بركعةٍ. ومعلومٌ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُرِد أنَّ من أدرك ركعةً من العصر صحَّت صلاتُه بلا إثمٍ، بل هو آثمٌ بتعمُّد ذلك اتِّفاقًا؛ فإنَّه أُمِر أنْ يوقع جميعها في وقتها. فعُلِم أنَّ هذا الإدراك لا يرفع الإثم، بل هو مدركٌ آثمٌ، فلو كانت تصحُّ بعد الغروب لم يكن فرقٌ بين أنْ يدرك ركعةً من الوقت، أولا _________ (1) "ونأمر بها .. بها المفرِّط" سقطت من س. (2) ط: "لقوله". (3) تقدَّم تخريجه (ص/129)، وأنَّه في الصَّحيحين. (4) ط: "يتعلق".

(1/184)


يدرك منه شيئًا! فإنْ قلتم: إذا أخَّرها إلى بعد الغروب كان أعظم إثمًا. قيل لكم: النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لم يفرِّق بين إدراك (1) الرَّكعة وعدمها في كثرة الإثم وخفَّته، وإنَّما فرَّق بينهما في الإدراك وعدمه. ولا ريب أنَّ المُفَوِّت لمجموعها في الوقت أعظم (2) من المُفَوِّت لأكثرها، والمُفَوِّت لأكثرها فيه أعظم من المُفَوِّت لركعةٍ منها. فنحن نسألكم، ونقول: ما هذا الإدراك الحاصل بركعةٍ، أهو (3) إدراكٌ يرفع الإثم؟ فهذا لا يقوله أحدٌ. أوإدراكٌ يقتضي الصِحَّة؟ فلا فرق فيه بين أن يفوِّتَها بالكليَّة، أويفوِّتها إلَّا ركعةً منها. فصلٌ وأمَّا احتجاجكم بتأخير النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لها يوم الخندق، من غير نومٍ ولا نسيانٍ، ثم قضاها بعدُ (4)، فيُقال: يالله العجب! لو أتينا نحن بمثل هذا لقامت قيامتكم، وأقمتم قيامتنا بالتَّشنيع علينا! _________ (1) س: "من أدرك". (2) س: "أعظم إثمًا". (3) ط: "أهذا". (4) "بعد" ليست في هـ وط.

(1/185)


فكيف تحتجُّون (1) على تفويتٍ صاحبُه عاصٍ لله (2)، آثمٌ، متعدٍّ لحدوده، مستوجبٌ لعقابه= بتفويتٍ صدر من أطوع الخلق لله، وأرضاهم له، وأتبعهم لأمره، وهو مطيعٌ لله في ذلك التَّأخير، متبعٌ مرضاته فيه! وذلك التَّأخير منه صلوات الله (3) وسلامه عليه إمَّا أنْ يكون لنسيانٍ (4) منه، أويكون أخَّرها عمدًا. وعلى التَّقديرين فلا حُجَّة لكم فيه بوجهٍ؛ فإنَّه إنْ كان نسيانًا فنحن وسائر الأمة نقول بموجبه، وأنَّ النَّاسي يصلِّيها متى ذَكَرها. وإنْ كان عامدًا فهو تأخيرٌ لها من وقتٍ إلى وقتٍ أُذِن فيه، كتأخير (5) المسافر والمعذور الظهر إلى وقت العصر، والمغرب إلى وقت العشاء. وقد اختلف النَّاس فيمَنْ أدركته الصلاة وهو مشغولٌ بقتال العدو، على ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّه يصلِّي حال القتال على حسب حاله، ولا يؤخِّر الصلاة. _________ (1) هـ وس: "يحتجون". (2) هـ: "عاص الله". (3) ط زيادة: "عليه". (4) هـ: "نسيانًا"، ط: "نسيان". (5) ض: "يؤخر"، س: "كما يؤخر".

(1/186)


قالوا: وتأخير يوم (1) الخندق منسوخٌ. وهذا مذهب مالك (2)، والشافعي (3) (4)، والإمام أحمد في المشهور عنه من مذهبه (5). الثَّاني: أنَّها تؤخَّر كما أخَّر (6) النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق. وهذا مذهب أبي حنيفة (7). والأوَّلون يجيبون عن هذا: بأنَّه كان قبل أنْ تُشْرع صلاة الخوف، فلمَّا شُرِعت صلاة الخوف لم يؤخِّرْها بعد ذلك في غزاةٍ واحدةٍ (8). والحنفيَّة تجيب عن ذلك بأنَّ صلاة الخوف إنَّما شُرِعَت على تلك الوجوه ما لم يلتحم القتال؛ فإنَّه (9) يمكنهم أنْ يصلُّوا صلاة الخوف كما أمر الله سبحانه؛ بأنْ يقوموا صفَّين، صفًّا (10) يصلُّون، وصفًّا يحرسون. _________ (1) "يوم" ليست في ض وس. (2) يُنْظَر: الذَّخيرة للقرافي (2/ 441)، والإشراف لعبدالوهاب البغدادي (1/ 341). (3) ط: "وهذا هو مذهب الإمام الشافعي والإمام مالك .. ". وأشار في هامش هـ أنَّه في نسخةٍ: "وهو" بدل "وهذا". (4) يُنْظَر: الأم للشافعي (2/ 465)، والحاوي للماوردي (2/ 470). (5) يُنْظَر: المغني لابن قدامة (3/ 316)، والإنصاف للمرداوي (5/ 146). (6) س: "أخرها". (7) يُنْظَر: الهداية للمرغيناني (1/ 89)، وبدائع الصنائع للكاساني (2/ 154). (8) يُنْظَر: المغني لابن قدامة (3/ 298). (9) هـ وط: "فإنهم". (10) "صفًّا" سقطت من س.

(1/187)


وأمَّا حال الالتحام فلا يمكن ذلك (1). فالتَّأخير وقع حال الاشتغال بالقتال، وصلاة الخوف شُرِعت حال المواجهة قبل الاشتغال بالقتال، فهذا له موضع، وهذا له موضع. وهذا في القوَّة (2) كما ترى. وقالت طائفةٌ ثالثةٌ: يخيَّر بين تقديمها والصَّلاة على حسب حاله، وبين تأخيرها حتى يتمكَّن من فعلها. وهذا مذهب جماعةٍ من الشَّاميين (3)، وهو إحدى الرِّوايتين عن الإمام أحمد (4). لأنَّ الصَّحابة فعلوا هذا وهذا (5) في قصَّة بني قريظة، كما سنذكره (6) بعد هذا، إن شاء الله تعالى. وعلى الأقوال الثَّلاثة فلا حُجَّة للعاصي، المفرِّط، المتعدِّي، الذي قد باء بعقوبة الله وإثم التَّفويت في ذلك بوجهٍ من الوجوه. وبالله التوفيق. _________ (1) يُنْظَر: بدائع الصنائع للكاساني (2/ 154 - 155). (2) ط: "القول". (3) هو قول الأوزاعي، كما في الاستذكار لابن عبدالبر (7/ 81، 82). (4) الإنصاف للمرداوي والشرح الكبير لابن أبي عمر (5/ 146). (5) "وهذا" ليست في هـ. (6) ط وس: "سنذكر".

(1/188)


فصلٌ وبهذا خرج الجواب عن استدلالكم بتأخير الصَّحابة العصر إلى بعد غروب الشمس (1) عمدًا؛ حين قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يصلينَّ أحدٌ (2) العصر إلَّا في بني قريظة" (3). فأدْرَكَت طائفةٌ الصلاة في الطَّريق، فقالوا: لم يُرِد منَّا تأخيرها، فصلَّوها في الطريق. وأبَت طائفةٌ أخرى أنْ تصلِّيها إلَّا في بني قريظة، فصلَّوها بعد العشاء (4). فما عنَّف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة (5) من الطَّائفتين. فإنَّ الذين أخَّروها كانوا مطيعين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، معتقدين وجوب ذلك التَّأخير، وأنَّ وقتها الذي أُمِرُوا به حيث أدركهم في بني قريظة. فكيف يُقَاس العاصي المتعدِّي لحدود الله على المطيع له، الممتثل لأمره. فهذا من أبْطَل قياسٍ في العالم وأفسده. وبالله التوفيق. _________ (1) س: "الغروب". (2) ض: "أحدكم". (3) تقدَّم تخريجه (ص/153). (4) روايات الحديث في كتب السُنَّة: أنَّ الصَّحابة رضي الله عنهم أدركتهم صلاة العصر عند الغروب، وليس فيها أنَّ الآخرين صلَّوها بعد المغرب أوالعشاء. ولكن عند ابن إسحاق في السِّيرة: أنَّهم صلوها في وقت العشاء، وعند موسى بن عقبة: أنَّهم صلوها بعد أنْ غابت الشمس. يُنْظَر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 33)، والفتح لابن حجر (7/ 410). (5) ض: "النبي - صلى الله عليه وسلم - .. ". س: " .. أحدًا".

(1/189)


وقد فضَّلت طائفةٌ من العلماء الذين أخَّروها إلى بني قريظة على الذين صلَّوها في الطريق. قالوا: لأنَّهم امتثلوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الحقيقة، والآخرون تأوَّلوا؛ فصلَّوها في الطريق. فصلٌ وأمَّا استدلالكم بأمر النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يصلِّي نافلةً (1) مع الأمراء الذين كانوا يضيِّعون الصلاة عن وقتها، ويصلُّونها في غير الوقت= فلا حُجَّة فيه (2)؛ لأنَّهم لم يكونوا يؤخِّرون صلاة النَّهار إلى اللَّيل، ولا صلاة اللَّيل إلى النَّهار؛ بل كانوا يؤخِّرُون صلاة الظهر إلى وقت العصر، وربَّما كانوا يؤخِّرون العصر إلى وقت الاصفرار. ونحن نقول: إنَّه متى أخَّر إحدى صلاتَي الجَمْع إلى وقت الأخرى صلَّاها في وقت الثَّانية وإنْ كان غير معذورٍ. وكذلك إذا أخَّر العصر إلى الاصفرار (3)؛ بل إلى أنْ يبقى منها قدر ركعةٍ، فإنَّه يصلِّيها بالنَّص. وقد جَمَع النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، من غير خوفٍ ولا مطرٍ؛ أراد أنْ لا يُحْرِج أُمَّته (4). فهذا التَّأخير لا يمنع صِحَّة الصلاة. _________ (1) هـ وط: "تصلى". وليس في س: "نافلة". (2) ض: "حجة به". (3) جملة: "ونحن نقول: إنَّه .. إلى الاصفرار" سقطت من س. (4) يشير إلى ما أخرجه مسلم (705) وغيره، من حديث ابن عباس رضي الله عنه بلفظ: "جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، بالمدينة .. " الحديث.

(1/190)


وأمَّا قولكم: قد أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة من أخَّر الظهر إلى وقت العصر، مع تفريطه، مع خروج وقت الظَّهر. فجوابه: أنَّ الوقت مشتركٌ بين الصلاتين في الجملة. وقد جَمَع رسول الله بالمدينة من غير خوفٍ ولا مرضٍ (1)، وهذا لا يُنَازع (2) فيه. ولكن هل أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصُّبح في وقت الضُّحى من غير نومٍ ولا نسيان (3)؟ وأمَّا قولكم: وقد رُوِي من حديث أبي قتادة: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فيْمَن نام عن صلاة الصبح قال (4): "وإذا كان الغد فلْيُصلِّها لميقاتها" (5) = إنَّ هذا أوضح في أداء المفرِّط للصَّلاة، عند الذِّكر وبعد الذِّكر، وهو حديث صحيح الإسناد. فيالله العجب! أين في هذا الحديث ما يدلُّ بوجهٍ من وجوه الدلالة ــ نصِّها أوظاهرها، أوإيمائها ـ على أنَّ العاصي المتعدِّي لحدود الله بتفويت _________ (1) قوله: "ولا مرضٍ" كذا في جميع النسخ، ولم أقف عليه مسندًا من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنه ـ المتقدِّم ـ ولا غيره. فلعلَّه سبق قلمٍ. (2) ض: "لا تنازع .. ". (3) هـ: "الصبح في وقت الصبح .. "! س: " .. أونسيان". (4) "قال" ليست في ط. (5) تقدَّم أنَّه جزءٌ من حديث أبي قتادة عند مسلم (681)، ولفظه: "فإذا كان الغد فليصلِّها عند وقتها".

(1/191)


الصلاة عن وقتها= تصحُّ منه بعد الوقت، وتبْرأ ذِمَّته منها، وهي أهلٌ أن تقبل منه؟ وكأنَّكم فهمتم من قوله: "فإذا كان الغد فليصلِّها لميقاتها" أمره بتأخيرها إلى الغد! وهذا باطلٌ قطعًا، لم يُرِدْه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والحديث صريحٌ في إبطاله؛ فإنَّه أمَرَه أنْ يصلِّيها (1) إذا استيقظ أو ذَكَرها. ثم رُوِي في تمام الحديث هذه الزِّيادة، وهي قوله: "فإذا كان من الغد فلْيُصلِّها لميقاتها". وقد اختلف النَّاس في صحَّة هذه الزِّيادة ومعناها. فقال بعض الحفَّاظ: هذه الزِّيادة وهمٌ من عبدالله بن رباح، الذي روى الحديث عن أبي قتادة، أومن أحد الرُّواة. وقد حُكِي (2) عن البخاري (3) أنَّه قال: لا يُتَابَع في قوله: "فليُصلِّ إذا ذكرها ولوقتها (4) من الغد". وقد روى الإمام أحمد في "مسنده" (5) عن عِمران بن حُصَين قال: _________ (1) ط: "يصلها". (2) هـ وط: "روي". (3) التاريخ الكبير (5/ 84)، وأسنده عنه أيضًا البيهقي في الكبرى (2/ 216). (4) ض: "فليصلي .. ". هـ وط: "لوقتها" دون واو. وما أثبتُّه ـ بالواو ـ موافق للفظه في التاريخ، ولما أسنده عنه البيهقي. (5) (4/ 441) وتقدَّم تخريج الحديث، وبيان ضعفه (ص/157).

(1/192)


سِرْتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا كان من (1) آخر اللِّيل عرَّسنا، فلم نستيقظ حتى أيقظتنا (2) الشمس، فجعل الرجل يقوم دَهَشًا (3) إلى طهوره. فأمَرَهم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يسكنوا، ثم ارتحل، فسرْنا حتى إذا ارتفعت الشمس توضَّأ، ثمَّ أمر بلالًا فأذَّن، ثمَّ صلَّى الركعتين قبل الفجر، ثم أقام، فصلَّينا. فقالوا: يارسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ألَا نعيدها في وقتها من الغد؟ قال: "أينهاكم (4) ربُّكم تبارك وتعالى عن الرِّبا، ويقبله منكم! ". قال الحافظ أبوعبدالله محمد بن عبدالواحد المقدسي (5): "وفي هذا دليلٌ على ما قال البخاري؛ لأنَّ عمران بن الحصين كان حاضرًا، ولم يذكر ما قال عبدالله بن رباح عن أبي قتادة". وعندي أنَّه لا تعارض (6) بين الحديثين، ولم يأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإعادتها من الغد، وإنَّما الذي أَمَرَ به فعلَ الثانية في وقتها، وأنَّ الوقت لم يسقط بالنَّوم والنِّسيان، بل عاد إلى ما كان عليه. والله أعلم. _________ (1) ض وس: "في". (2) ط: "العصنا". تحريفٌ! (3) قال الفيومي في المصباح (1/ 202): "دَهِشَ دَهَشًا، من باب تَعِب: ذهب عقله حياءً أو خوفًا". (4) س: "أنهاكم". (5) في كتابه: "السُّنن والأحكام" (1/ 283). (6) س: "يعارض".

(1/193)


قوله: "وقد روى عبد الرحمن بن علقمة الثَّقفي قال: قَدِم وفد ثقيفٍ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعلوا يسألونه، فلم يصلِّ يومئذٍ الظهر إلَّا مع العصر .. " إلى آخره. فقد تقدَّم جواب هذا وأمثاله مرارًا، وأنَّ هذا التَّأخير كان طاعةً لله تعالى وقُربةً. وغايته أنَّه جمع بين الصَّلاتين (1) لشغلٍ مهمٍّ من أمور المسلمين، فكيف يصحُّ إلحاق تأخير المتعدِّي لحدود الله به؟ ولقد ضعفت مسألةٌ تُنْصَر بمثل هذا! قوله: "وليس ترك الصلاة حتى يخرج وقتها عمدًا مذكورًا عند الجمهور في الكبائر". فيُقَال: يالله العجب! وهل تَقْبَل هذا المسألة نِزاعًا؟ وهل ذلك إلَّا من أعظم الكبائر، وقد جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفويت صلاة العصر محبِطًا للعمل! فأيُّ كبيرةٍ تقوى على إحباط العمل سوى تفويت الصلاة! وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "الجمع بين الصَّلاتين من غير عذرٍ من (2) الكبائر" (3). ولم يخالفه صحابيٌّ واحد في ذلك، بل الآثار الثابتة عن الصحابة كلُّها توافق ذلك. _________ (1) س: "صلاتين". (2) هـ: "كبيرة من". (3) تقدم تخريجه (ص/128).

(1/194)


هذا والجامع بين الصَّلاتين قد صلَّاهما في وقت إحداهما للعذر (1). فماذا نقول (2) فيمن صلَّى الصبح في وقت الضُّحى عمدًا وعدوانًا، والعصر نصف اللَّيل من غير عذرٍ؟ وقد صرَّح الصِّدِّيق أنَّ الله لا يقبل هذه الصَّلاة (3). ولم يخالف الصِّدِّيق صحابيٌّ واحد. وقد توعَّد الله سبحانه بالويل والغيِّ لمن سها عن صلاته وأضاعها. وقد قال الصَّحابة ـ وهم أعلم الأمَّة بتفسير الآية ـ: إنَّ ذلك تأخيرها عن وقتها. كما تقدَّم حكايته (4). ويا لله العَجَب! أيُّ كبيرةٍ أكبر من كبيرةٍ تُحْبِط العمل، وتجعل الرجل بمنزلة من قد وُتِر أهلَه ومالَه. وإذا لم يكن تأخير صلاة النَّهار إلى اللَّيل، وتأخير صلاة اللَّيل إلى النَّهار من غير عذرٍ من الكبائر= لم يكن فطر شهر رمضان من غير عذرٍ ويصوم بدله شوال من الكبائر (5). ونحن نقول: بل ذلك أكبر من كُلِّ كبيرةٍ بعد الشِّرك بالله، ولَأَنْ يلقى اللهَ العبدُ بكلِّ ذنبٍ ما خلا الشِّرك به خير له من أن يؤخِّر صلاة النَّهار إلى اللَّيل، وصلاة اللَّيل إلى النَّهار، عدوانًا عمدًا بلا عذرٍ. _________ (1) ض وس: "للمعذور". (2) ض وهـ: "تقول". (3) تقدم سياقه و تخريجه (ص/139 - 140). (4) (ص/52). (5) هـ: "من شوال .. ". وجملة: "لم يكن فطر .. الكبائر" سقطت من س.

(1/195)


وقد روى هشام بن عروة عن أبيه عن سليمان بن يسار عن المسور ابن مخرمة (1) أنَّه دخل مع ابن عباس على عمر حين طُعِنَ، فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، الصَّلاة! فقال: "أجل (2)، أُصَلِّي؛ إنَّه لا حظَّ في الإسلام لمن أضاع الصلاة" (3). وقال إسماعيل بن عُليَّة عن أيوب عن محمد بن سيرين قال: "نُبِّئتُ أنَّ أبا بكر وعمر كانا يعلِّمان الناس الإسلام؛ تعبد الله، ولاتشرك به شيئًا، وتقيم الصَّلاة (4) التي افترض الله بمواقيتها، فإنَّ في تفريطها الهلكة" (5). وقال محمد بن نصر المروزي (6): "وسمعت إسحاق يقول: صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ تارك الصلاة كافرٌ. وكذلك كان رأي أهل العلم، من لدن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (7) إلى يومنا هذا: أنَّ تارك الصلاة عمدًا من غير عُذرٍ _________ (1) س: "وروى هشام عن سلمان عن المستور". تحريفٌ! (2) "أجل" ليست في س. (3) تقدَّم تخريجه (ص/14، 79). (4) ض: "يعبد .. يشرك .. يقيم" بالياء في كلها. (5) أخرجه ابن أبي شيبة (3132)، وعبدالرزاق (20683)، وابن نصر في تعظيم قدر الصلاة (932)، وغيرهم، من طريق أيوب عن ابن سيرين نحوه. وهو ظاهر الانقطاع، لقوله: "نُبِّئتُ". (6) تعظيم قدر الصلاة (929 - 930). (7) س: "رسول الله - صلى الله عليه وسلم -".

(1/196)


حتى يذهب وقتها كافرٌ. وذهاب الوقت أنْ يؤخِّر الظُّهر إلى غروب الشمس، والمغرب إلى طلوع الفجر. وإنَّما جعل آخر (1) أوقات الصَّلاة بما وصفنا (2) لأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الصلاتين بعرفة والمزدلفة، وفي (3) السفر، فصلَّى إحداهما في وقت الأخرى. فلمَّا جعل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الأولى منهما وقتًا للأخرى (4) في حالٍ، والأخرى وقتًا للأولى (5) في حالٍ صار وقتاهما وقتًا واحدًا في حال العذر، كما أُمِرَت الحائض إذا طهُرت قبل غروب الشمس أنْ تصلِّي الظهر والعصر، وإذا طهُرت (6) آخر اللَّيل أنْ تصلِّي المغرب والعشاء" (7). _________ (1) "آخر" ليست في هـ. (2) هـ وط: "ذكرنا". (3) ط: "في السفر" دون واو. (4) جملة: "فلمَّا جعل .. وقتًا للأخرى" سقطت من ض. (5) ض: "وقت الأولى". (6) "وإذا طهرت" ليست في هـ وط. (7) أمر الحائض بذلك جماعة من الصحابة والتابعين، كعبدالرحمن بن عوف وابن عباس، وعطاء وطاووس وغيرهم، يُنْظَر في ذلك: مصنف ابن أبي شيبة (5/ 84 - 86)، والأوسط لابن المنذر (2/ 243).

(1/197)


وإذا كان صلاة الذي يؤخِّر (1) العصر حتى تصير الشمس بين قرني شيطان (2) صلاةَ المنافق بنصِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3)، فما يقول (4) ـ بأبي هو وأمي ـ صلوات الله عليه وسلامه فيمن يصلِّيها بعد العشاء؟ وقد قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء/31]. فإذا اجتنب الرجل كبائر المنهيات، واستمرَّ على صلاة الصبح في وقت الضُّحى، والعصر بعد العشاء كان على قولكم مغفورًا له، غير آثمٍ ألبتَّة! وهذا ما لا يقوله (5) أحدٌ. قوله: "والعجب من هذا الظَّاهري كيف نقض أصله؛ فإنَّه يقول: ما وجب بإجماعٍ فإنَّه لا يسقط إلَّا بالإجماع (6) ". فيُقَال: غاية هذا أنَّ منازعكم تناقض (7)؛ فلا يكون تناقضه مصحِّحًا لقولكم. _________ (1) جملة: "الظهر والعصر .. الذي يؤخر" سقطت من س. (2) ط: "الشيطان". (3) يشير إلى ما أخرجه مسلم (622) وغيره، من حديث أنسٍ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قَرْني الشيطان قام، فنقرها أربعًا، لا يذكر الله فيها إلَّا قليلًا". (4) ض وس: "تقول". (5) س: "من غير إثم .. ". هـ وط: " .. ما يقوله". (6) س: "تسقط .. " وليس فيه: "فإنه". ض وس: " .. إلَّا بإجماع". (7) "غاية هذا" ليست في س. ط: " .. يناقض".

(1/198)


وإنْ أردتم بذلك الاستدلالَ بالاستصحاب، وأنَّ الصلاة كانت في ذِمَّته بإجماعٍ، فلا تسقط إلَّا بإجماعٍ، وهو مفقود (1) = قيل لكم: ومن ذا (2) الذي قال بسقوطها من ذِمَّته بالتَّأخير، وأنَّ ذمته قد برئت منها! فمَن قال بهذا فقوله أظهر بطلانًا من أنْ يحتاج (3) إلى دليلٍ عليه. والذي يقول منازعوكم: إنَّها قد استقرَّت في ذِمَّته على وجهٍ لا سبيل له إلى أدائها واستدراكها، إلَّا بعود ذلك الوقت بعينه. وهذا محالٌ! ثم يُعَارَضُ هذا الإجماع بإجماعٍ مثله أوأقوى منه؛ فنقول (4): أجمع المسلمون على أنَّه عاصٍ، متعدٍّ، مفرِّطٌ بإضاعة الوقت. فلا يرتفع هذا الإجماع إلَّا بإجماعٍ مثله، أو أقوى منه. فنقول: (5) ولم يجمعوا على أنَّه يرتفع عنه الإثم والعدوان بالفعل بعد الوقت؛ بل لعلَّ هذا لم يقله أحدٌ. فهذا ما يتعلَّق بالحِجَاج من الجانبين. _________ (1) ض: "يسقط .. ". س: " .. مقصود". (2) "ذا" ليست في ض وس. (3) ط: "نحتاج". (4) ض وط: "ثم تعارض .. ". س: " .. فيقول". (5) "إلَّا بإجماعٍ" ليست في هـ. وكذا: "أو أقوى منه، فنقول" ليست في هـ وط.

(1/199)


وليس لنا غرضٌ فيما وراء ذلك. وقد بان مَنْ هو أسعد بالكتاب والسُّنَّة وأقوال السَّلف في هذه المسألة. والله المستعان. فصلٌ فإنْ قيل: فقد أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المفطر (1) متعمِّدًا في نهار (2) رمضان بالقضاء في موضعين: أحدهما: المجامِع. والثَّاني: المستقيء. ففي "السُّنن" (3)، من حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قد جامع أهله في رمضان .. فذكر الحديث، وقال فيه: فأُتِيَ بعَرَقٍ (4) فيه تمرٌ، قدر خمسة عشر صاعًا. وفيه قال: "كُلْه أنت وأهل بيتك، وصُمْ يومًا، واستغفر الله عز وجل". وعند ابن ماجه (5): "وصُمْ (6) يومًا مكانه". _________ (1) س: "المفرط". (2) س: "في شهر". (3) أبوداود (2393) بهذا السِّياق، من طريق هشام بن سعد عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه به. وسيأتي الكلام عليه قريبًا. (4) بفتح العين والراء، هو: المكتل الضخم المنسوج من الخوص. يُنْظَر: المصباح المنير (2/ 405)، والنهاية لابن الأثير (3/ 219). (5) حديث (1671). من طريق عبدالجبار بن عمر الأيلي عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه به. وسيأتي الكلام عليه أيضًا. (6) ض وس وهـ: "يصوم".

(1/200)


وفي "السُّنن"، و"المسند" (1)، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من ذَرَعَه القيءُ وهو صائمٌ فليس عليه قضاءٌ، ومن استقاء فلْيَقض". قيل: الحديثان معلولان، لا يثبتان! أمَّا قصَّة المجامِع في رمضان فقد رواها أصحاب الصَّحيح (2)، ولم يذكر أحدٌ منهم هذه الزِّيادة. والذي ذكرها لا تقوم (3) به الحُجَّة؛ فإنَّها من رواية (4) عبدالجبار بن عمر الأيلي، وقد ضعَّفه الأئمَّة. _________ (1) أبو داود (2380)، والترمذي (720)، وابن ماجه (1676)، والنسائي في الكبرى (3130)، والمسند (2/ 498). وأخرجه ابن حبان (3518)، وابن خزيمة (1961)، والحاكم (1157)، وغيرهم، من طُرقٍ عن هشام بن حسَّان القردوسي عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه به مرفوعًا. وقد صحَّحه ابن خزيمة، وابن حبَّان، والحاكم، والألباني في الإرواء (930). وقد أعلَّه جمعٌ من الحفَّاظ بالوقف على أبي هريرة، ورأوا أنَّ هشامًا وهم في رفعه، وأنَّ الصواب فيه الوقف؛ كأحمد والبخاري والترمذي والنَّسائي، وغيرهم. وسيأتي بيانه من كلام المصنِّف. ويُنْظَر: التَّلخيص لابن حجر (2/ 189)، وتغليق التعليق (3/ 176). (2) البخاري (1935)، ومسلم (1111)، وغيرهما. (3) ض: "يقوم". (4) س: "فإنه من رواته".

(1/201)


قال يحيى بن معين: "ليس بشيءٍ، ولا يكتب حديثه" (1)، وقال مرَّةً: "ضعيف" (2). وكذلك قال أبوزرعة (3)، والسَّعدي (4)، والنَّسائي (5). وقال البُخاري (6): "ليس بالقويِّ، عنده مناكير". وقال ابن عديٍّ (7): "عامَّة ما يرويه يُخالَف فيه، والضَّعف (8) بيِّن على رواياته". ورواه أئمَّة أصحاب ابن شهاب عنه ـ كمالكٍ وغيره ـ فلم يذكروا قوله: "صُم يومًا مكانه". ورواه أبو مروان العثماني عن إبراهيم بن سعد عن اللَّيث عن ابن شهاب عن حميد (9) عن أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له في هذه القصَّة: "اقضِ يومًا مكانه". وكذا رُوِيَ عن الدَّراوَرْدي عن إبراهيم بن سعد عن اللَّيث. _________ (1) في رواية الدوري (3/ 180): "ليس بشيءٍ"، وأسنده ابنُ عدي في الكامل (5/ 324) بسياق المصنّف. (2) رواية الدوري عنه (3/ 165)، وفي الجرح والتعديل لابن أبي حاتم عنه (6/ 137): "ضعيفٌ، ليس بشيءٍ". ويُنظر: الكامل لابن عدي (5/ 324). (3) سؤالات البرذعي (ص/637)، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (6/ 137). (4) أي: الجوزجاني، في كتابه أحوال الرجال (265). (5) الضُّعفاء له (ص/172). (6) في التاريخ (6/ 108): "عنده مناكير"، وفي الضعفاء (ص/78): "ليس بالقويٍّ عندهم". وقد أسنده عنه بنحو سياق المصنّف ابنُ عدي في الكامل (5/ 324) وغيره. (7) الكامل (5/ 324). (8) س: "والضعيف". (9) س: "حمده"!

(1/202)


قال البيهقي (1): وإبراهيم عنده الحديث عن الزهري، بلا هذه الكلمة. وقد رواه حجاج بن أرطاة عن إبراهيم بن علي، كذا مرَّ عن ابن المسيب (2)، وعن الزهري عن حميد عن أبي هريرة. ورواه حجاج عن عمرو بن شعيب (3) عن أبيه عن جدِّه. وقال فيه عمرو: "وأمره أنْ يقضي يومًا مكانه". وقد رواه هشام بن سعد عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وقال فيه: "وصُم يومًا مكانه، واستغفر الله". فخالف هشامٌ النَّاس في روايته عن أبي سلمة، والحديث لحميد (4) عن أبي هريرة. ورواه ابن (5) أبي أويس قال: حدثني أبي أنَّ ابن شهاب أخبره عن حميد أنَّ أباهريرة حدَّثه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الذي يفطر في رمضان أنْ يصوم يومًا مكانه. ولكن هذا يخالف رواية أصحاب ابن شهاب؛ فإنَّهم لم يذكروا هذه الزِّيادة! _________ (1) في سننه الكبرى (4/ 226 - 227) بنحو ما نقله المصنِّف عنه مختصرًا كلامه. (2) س: "أبطاه عن إبراهيم بن عامر عن ابن المسيب"! (3) هـ: "حجاج بن عمرو بن شعيب"، ط: "حجاج بن عمر وابن شعيب"! (4) س: "لحمزة". (5) ط: "عن ابن .. ".

(1/203)


وقال الشَّافعي: أخبرنا مالك عن عطاء الخراساني عن ابن المسيب قال: أتى أعرابيٌّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فذكر الحديث، وقال في آخره: "وصُمْ يومًا مكان ما أصبت" (1). وهذا مرسلٌ، ولكنَّه من مراسيل ابن المسيَّب (2). ورواه داود بن أبي هند عن عطاء، فلم يذكر قوله: "وصُم يومًا مكانه". وعطاءٌ كذَّبَه ابنُ المسيب (3)، وقال ابن حبَّان: "كان رديء الحِفْظ، يخطئ، ولا يعلم (4)، فبطل الاحتجاج به" (5). وأمَّا حديث المستقيء عمدًا فهو حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن ذَرَعَه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء" فقال الترمذي: "هذا حديث حسنٌ غريبٌ". وقال: قال محمدٌ ـ يعني: البخاري ـ: "لا أراه محفوظًا" (6). _________ (1) الأم (3/ 249)، مسند الشافعي (ص/105). (2) فإنَّه من أصحِّ المراسيل. ويُنْظر في الكلام عليها: جامع التحصيل (89). (3) أسند تكذيب سعيدٍ لعطاء في ذكر هذه الزِّيادة بخصوصها في هذا الحديث البخاريُّ في تاريخه الكبير (1/ 270)، وابن عدي في الكامل (3/ 358)، والعقيلي في الضُّعفاء (3/ 406)، وغيرهم. (4) "كان" ليست في هـ. وفي س: "كما روى الحافظ نخطيء ولا نعلم .. " تحريفٌ. (5) المجروحين (2/ 130). (6) في سننه (3/ 720). وقال في التاريخ الكبير (1/ 91): "لم يصِحَّ".

(1/204)


وقال أبو داود: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: "ليس من ذا شيءٌ" (1). وقال التِّرمذي في "كتاب العِلل" (2): حدَّثنا علي بن حُجْر حدثنا عيسى بن يونس عن هشام بن حسَّان عن ابن سيرين عن أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن ذَرَعَه القيء فليس عليه قضاءٌ، ومَن استقى عمدًا فلْيَقض". قال الترمذي: سألت أبا عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث، فلم يعرفه إلَّا من حديث عيسى بن يونس عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة، قال: "ما أراه محفوظًا". قال (3): "وقد روى يحيى بن أبي كثير عن عمر بن الحكم أنَّ أبا هريرة كان لا يرى القيء يفطِّر الصَّائم" (4). وبتقدير صِحَّة الحديث فلا حُجَّة فيه؛ إذْ المراد به: المعذور الذي _________ (1) كذا في نسخة الخطابي كما في معالم السنن (2/ 112) وهي مثبتة في نسختين للسُنن، إحداهما من رواية ابن داسة، كما ذكر ذلك محمد عوامة في تحقيقه (3/ 156). (2) ترتيب العلل لأبي طالب (1/ 342). (3) يعني: البخاري. (4) علَّقه البخاري في صحيحه، باب الحجامة والقيء للصائم: وقال لي يحيى بن صالح حدثنا معاوية بن سلام حدثنا يحيى عن عمر بن الحكم بن ثوبان سمع أبا هريرة رضي الله عنه: "إذا قاء فلا يفطر، إنَّما يخرج ولا يولج". ويُنْظر: تغليق التعليق (3/ 176 - 178).

(1/205)


اعتقد أنَّه يجوز له الاستقاء، أوالمريض الذي احتاج أنْ يستقيء فاستقاء؛ فإنَّ الاستقاء في العادة لا يكون إلَّا لعذرٍ. وإلَّا فلا يقصد العاقل أنْ يستقيء من غير حاجةٍ؛ فيكون المستقيء متداويًا بالاستقاء، كما لو تداوى (1) بشرب دواءٍ، وهذا يقبل منه القضاء، و (2) يؤمر به اتفاقًا. وقد اختلف الفقهاء في المُجَامِع في نهار رمضان إذا كفَّر، هل يجب (3) عليه أن يقضي يومًا مكان الذي أفطره؟ على ثلاثة أقوالٍ، وهي للشافعي (4): أحدها: يجب عليه (5). والثَّاني: لا يجب عليه (6). والثَّالث: إنْ كفَّر بالعِتق أو الإطعام وجب عليه الصِّيام، وإنْ كفَّر بالصَّوم لم يجب عليه قضاء ذلك اليوم. _________ (1) س: "يداوى". (2) هـ و ط: "أو". (3) ط: "تجب". (4) جعل النَّووي رحمه الله في روضة الطَّالبين (2/ 379) هذه الأقوال كما حكاها المصنِّف ثلاثةً في المذهب، أوقولين ووجهًا. والصَّحيح من مذهبهم هو القول الثاني كما في البيان للعمراني (3/ 520) وغيره. (5) "عليه" ليست في هـ وط. (6) "عليه" من س.

(1/206)


فصْلٌ وأمَّا المسألة السَّابعة (1)، وهي: هل تصحُّ صلاة من صلَّى وحده، وهو يقدر على الصَّلاة جماعةً، أم لا؟ فهذه المسألة مبنيَّةٌ على أصْلَين: أحدهما: أنَّ صلاة الجماعة فرضٌ أم سُنَّة؟ وإذا قلنا: هي فرضٌ فهل هي شرطٌ لصحَّة الصَّلاة، أم تصحُّ بدونها (2) مع عصيان تاركها؟ فهاتان مسألتان. أمَّا المسألة الأولى: فاختلف الفقهاء فيها (3). فقال بوجوبها عطاء ابن أبي رباح، والحسن البصري، وأبو عمرو الأوزاعي، وأبو ثور (4). والإمام أحمد في ظاهر مذهبه (5). ونصَّ عليه الشَّافعي في «مختصر المزني»، فقال: «وأمَّا الجماعة فلا أرخِّص في تركها إلَّا من عذر» (6). _________ (1) ض وط: «السادسة»، هـ: «السابع». غلطٌ متوالٍ في العدِّ، تقدَّم التَّنبيه عليه. (2) س: «أم لا بدونها». (3) «فيها» ليست في ط. (4) المغني (3/ 5)، والمجموع (4/ 87). (5) المغني (3/ 5)، والشَّرح الكبير لابن أبي عمر مع الإنصاف (4/ 265). (6) مختصر المزني (ص/35)، وبنحوه في الأم (2/ 291 - 292)، وسيأتي. فائدة: لم يذكر المصنِّف رحمه الله المذهب عند أتباع الشَّافعيِّ، وهي ليست واجبة على الأعيان عندهم، بل هي على وجوه؛ فرض كفاية، وهو المذهب عندهم، أوفرض عين، أوسُنَّةٌ. كما في البيان للعمراني (2/ 361)، وروضة الطالبين للنَّووي (1/ 339).

(1/207)


وقال ابن المنذر في «كتاب الأوسط» (1): «ذكر [إيجاب (2)] حضور الجماعة على العميان، وإنْ بعدت منازلهم عن المسجد. ويدلُّ ذلك على (3) أنَّ شهود (4) الجماعة فرضٌ لا ندبٌ». ثمَّ ذكر حديث ابن أمِّ مكتوم أنَّه قال (5): يا رسول الله، إنَّ بيني وبين المسجد نخلًا وشجرًا (6)، فهل يسعني أنْ أُصلِّي في بيتي؟ قال: «تسمعُ الإقامة؟» قال: نعم. قال: «فَأْتِهَا» (7). _________ (1) (4/ 132). (2) «إيجاب» ليست في جميع النسخ، وقد ألحقت من الأوسط؛ إذ السِّياق يقتضي ذكرها. (3) هـ و ط: «على ذلك». (4) ض: «حضور». (5) س: «فقال». (6) ض وهـ وط: «نخل وشجر». (7) أخرجه أبوداود (552)، وابن ماجه (792)، وأحمد (3/ 423)، وابن خزيمة (1480)، والحاكم (1/ 375)، والبيهقي (3/ 58)، من طريق عاصم بن أبي النجود عن أبي رزين مسعود بن مالك الأسدي عن ابن أم مكتوم. وأعلَّه ابن القطَّان في بيان الوهم والإيهام (2/ 551) باحتمال الانقطاع بين أبي رزين وابن أم مكتوم. وأخرجه أحمد (3/ 423)، وابن خزيمة (1479)، والحاكم (1/ 374)، من طريق الحصين بن عبدالرحمن عن عبدالله بن شداد عن ابن أم مكتومٍ بنحوه. قال المنذري في التَّرغيب (1/ 168): «إسناده جيِّدٌ». وقال الهيثمي في المجمع (2/ 42): «رجاله رجال الصَّحيح».

(1/208)


قال ابن المنذر (1): «ذِكْر تخوُّف النِّفاق على تارك شُهُود العشاء والصُّبح في جماعةٍ». ثُمَّ قال في أثناء الباب: «فدلَّت الأخبار التي ذكرتُ (2) على وجوب فرض الجماعة على من لا عذر له. فمِمَّا دلَّ عليه: قولُه لابن أم مكتومٍ ـ وهو ضريرٌ ـ: «لا أجد لك رخصة» (3). فإذا كان الأعمى لا رخصة له فالبصير أولى أنْ لا يكون له رخصة. قال: وفي اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بأنْ يحرِّق على قومٍ تخلَّفُوا (4) عن الصَّلاة بيوتهم (5) أبينُ البيانِ على وجوب فرض الجماعة؛ إذ غير جائزٍ أنْ يتهدَّد الرسول (6) - صلى الله عليه وسلم - من تخلَّف عن ندبٍ، وعمَّا ليس بفرضٍ. قال: ويؤيِّدُه حديث أبي هريرة: أنَّ رجلًا خرج من المسجد بعدما أَذَّن المؤذِّنُ فقال: «أمَّا هذا فقد عَصَى أبا القاسم» (7). ولو كان المرء مخيَّرًا في ترك الجماعة وإتيانها لم يجز أنْ يعصي من تخلَّف عمَّا لا يجب عليه أنْ يحضره. _________ (1) الأوسط (4/ 134). (2) س: «ذكرتم». (3) أحد ألفاظ حديث ابن أم مكتوم، وقد تقدَّم قريبًا. (4) هـ: «تخلوا». (5) سيأتي ذكره بتمامه قريبًا في كلام المصنِّف (ص/218). (6) ط: «رسول الله». (7) أخرجه مسلم (655).

(1/209)


ولمَّا (1) أمر الله تعالى ذكره بالجماعة في حال الخوف دلَّ على أنَّ ذلك في حال الأمن أوجب. والأخبار المذكورة في أبواب الرُّخصة في التخلُّف عن الجماعة لأصحاب العذر تدلُّ (2) على فرض الجماعة على من لا عذر له. ولو كان حال العذر وغير حال العذر سواء لم يكن للتَّرخيص في التخلُّف عنها في أبواب العذر معنىً. ودلَّ على تأكيد فرض الجماعة قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من يسمع النِّداء فلم يجب فلا صلاة له» (3). ثم ساق الحديث (4) في ذلك. ثم قال: وقال الشافعي (5): ذكَرَ اللهُ الأذان بالصَّلاة فقال: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة/58]، وقال (6): {إِذَا (7) نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة/9]. وسنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأذان _________ (1) هـ وط: «وإنما لما»، و «لما» ليست في س وض. وفي الأوسط (4/ 135): «ولما أمر». (2) هـ وط: «الأعذار .. ». س: «يدل». (3) سيأتي تخريجه والكلام عليه من كلام المصنِّف (ص/227). (4) هـ وس: «الأحاديث». (5) الأم (2/ 290 - 292)، بنحوه. (6) هـ وط: «وقال تعالى». (7) هـ وط: (وإذا). وكذا في الأوسط (4/ 138).

(1/210)


للصَّلوات (1) المكتوبات، فأشبه ما وصفتُ، أنْ لا يحلَّ ترك أنْ يصلَّى كلُّ مكتوبةٍ في جماعةٍ (2)، حتى لا يخلو (3) جماعةٌ مقيمون أومسافرون من أن يُصَلَّى فيهم (4) صلاة جماعةٍ، فلا أرخِّص لمن قدر على صلاة الجماعة في ترك إتيانها إلَّا من عذرٍ. وإنْ تخلَّف أحدٌ فصلَّاها منفردًا لم تكن عليه إعادتها، صلَّاها قبل الإمام أوبعده، إلَّا صلاة الجمعة؛ فإنَّ على من صلَّاها ظهرًا قبل صلاة الإمام كان عليه إعادتها؛ لأنَّ إتيانها فرضٌ». هذا كُلُّه لفظ ابن المنذر. وقالت الحنفيَّة (5)، والمالكية (6): هي سُنةٌ مؤكَّدةٌ، ولكنَّهم يُؤَثِّمُون تارك السُّنن المؤكَّدة، ويصحِّحُون الصَّلاة بدونها، فالخلاف بينهم وبين من قال «إنَّها واجبةٌ، لا شرطٌ» لفظيٌّ (7) (8). وكذلك صرَّح بعضهم بالوجوب. _________ (1) س: «للصلاة». (2) ط: «أن لا يحل أن يصلي كل مكتوبة إلا في جماعة». (3) ض: «حتى لا تخلو»، هـ: «حتى تخلو». (4) هـ وط: «يصلي بهم». (5) الهداية للمرغيناني (1/ 55)، وشرح فتح القدير لابن الهمام (1/ 243). (6) الإشراف لعبدالوهَّاب المالكي (1/ 291)، ومواهب الجليل (2/ 81). (7) ط: «واجبة شرط لفظي». (8) قال الكمال بن الهمام في شرح فتح القدير (1/ 243): «وحاصل الخلاف في المسألة أنَّها فرض عينٍ إلَّا من عذر .. وفي المفيد: إنَّها واجبة، وتسميتها سنَّة لوجوبها بالسُّنَّة».

(1/211)


قال الموجِبُون: قال الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَاءِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء/ 102]. ووجه الاستدلال بالآية من وجوه: أحدها: أمرُه سبحانه لهم بالصَّلاة في الجماعة، ثم أعاد هذا الأمر سبحانه مرَّةً ثانيةً في حقِّ الطَّائفة الثَّانية، بقوله: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ}. وفي هذا دليلٌ على أنَّ الجماعة فرضٌ على الأعيان؛ إذْ لم يسقطها سبحانه عن الطَّائفة الثَّانية بفعل الأولى. ولو كانت الجماعة سُنَّةً لكان أولى الأعذار بسقوطها عذر الخوف. ولو كانت فرض كفاية لسَقَطَت بفعل الطَّائفة الأولى. ففي الآية دليلٌ على وجوبها على الأعيان. فهذه على ثلاثة أوجه: أمرُهُ بها أوَّلًا. ثُمَّ أمرُهُ بها ثانيًا. وأنَّه لم يرخِّص لهم في تركها حال الخوف. الدَّليل الثَّاني: قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم/42 - 43].

(1/212)


ووجه الاستدلال بها: أنَّه سبحانه عاقبهم يوم القيامة، بأنْ حال بينهم وبين السُّجُود (1) لمَّا دعاهم إلى السُّجود (2) في الدنيا فأَبَوا أنْ يجيبوا الدَّاعي. إذا ثبت هذا فإجابة الدَّاعي هي إتيان المسجد بحضور (3) الجماعة، لا فعلها في بيته وحده. هكذا فسَّرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الإجابة؛ فروى مسلمٌ في «صحِيْحِه» (4)، عن أبي هريرة قال: أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ أعمى، فقال: يا رسول الله، ليس لي قائدٌ يقودني إلى المسجد، فسأل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يرخِّص له. فرخَّص له، فلمَّا ولَّى (5) دعاه، فقال: «هل تسمع النِّداء بالصَّلاة (6)؟» قال: نعم، قال: «فأَجِب». فلم يجعله مجيبًا له بصلاته (7) في بيته إذا سَمَع النِّداء؛ فدلَّ على أنَّ الإجابة المأمور بها هي إتيان المسجد للجماعة. ويدلُّ عليه حديث ابن أمِّ مكتوم، قال: يا رسول الله، إنَّ المدينة _________ (1) بعده في س: «له إذا أذن فيه للمصلين». (2) «لمَّا دعاهم إلى السُّجود» سقطت من ض. وفي س: «لأنَّهم دعوا إلى .. ». (3) هـ وس: «لحضور». (4) حديث (653). (5) «ولَّى» سقطت من هـ. (6) «بالصلاة» سقطت من هـ وط. (7) ط: «فلم يجعل .. ». س: « .. في صلاته».

(1/213)


كثيرة الهوام والسِّباع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تسمعُ (1) حيَّ على الصَّلاة، حيَّ على الفلاح؟» قال: نعم. قال: «فحيَّ هَلا». رواه أبوداود (2)، والإمام أحمد (3). و «حيَّ هَلا» اسم فعلِ أمرٍ، معناه: أقْبِل وأَجِب، وهو صريحٌ في أنَّ إجابة هذا الأمر بحضور الجماعة، وأنَّ المتخلِّف عنها لم يجبه. وقد قال غير واحدٍ من السَّلف (4) في قوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم/43] قال: «هو قول المؤذن: حيَّ على الصَّلاة، حيَّ على الفلاح» (5). فهذا الدَّليل مبنيٌّ على مقدِّمتين: _________ (1) «تسمع» سقطت من ض. (2) حديث (553). (3) لم أرَهُ في المسند بهذا اللَّفظ، وقد أخرجه عن ابن أمِّ مكتوم بنحوه (3/ 423). وأخرجه النسائي (851)، وابن خزيمة (1478)، والبيهقي (3/ 58) كلُّهم من طريق سفيان عن عبد الرحمن بن عابس عن ابن أبي ليلى عن ابن أم مكتومٍ به. وأخرجه الحاكم (1/ 374) وأسقط ابن أبي ليلى بينهما، وقال: «صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه إن كان ابن عابس سمع من ابن أم مكتومٍ، وله شاهد بإسناد صحيحٍ». قال ولي الدين العراقي في تحفة التحصيل (ص/199): «سقوط ابن أبي ليلى وهمٌ من الحاكم أو ممَّن فوقه، ومع ذلك ففي سماع ابن أبي ليلى من ابن أم مكتومٍ نظرٌ». (4) س: «عنها لم نحبه .. من السالف». تحريفات! (5) تفسير الطبري (23/ 196 - 197)، والدُّر المنثور للسيوطي (14/ 648 - 649).

(1/214)


إحداهما: أنَّ هذه الإجابة واجبة. والثَّانية: (1) لا تحصل إلَّا بحضور الصَّلاة في الجماعة. وهذا هو الذي فهمه أعلم الأمَّة (2) وأفقههم من الإجابة، وهم الصَّحابة رضي الله عنهم. قال ابن المنذر في «كتاب الأوسط» (3): «روينا عن ابن مسعود وأبي موسى (4) أنَّهما قالا: «من سمع النِّداء ثُمَّ لم يجب من غير عذرٍ فلا صلاة له». وعن عليٍّ (5) أنَّه قال: «من سمع النِّداء ثُمَّ لم يأته (6) فإنَّه لا تجاوز صلاتُه رأسَه، إلَّا من عذر». قال: ورُوِيَ عن عائشة أنَّها قالت: «من سمع النِّداء فلم يجب لم يُرِد خيرًا، ولم يُرَدْ به». وعن أبي هريرة أنَّه قال: «لأَنْ تمتليء أُذُنَا ابن آدم رصاصًا مُذَابًا خيرٌ له من أن يسمع المنادي ثم لا يجيبه» (7). فهذا وغيره يدلُّ أنَّ الإجابة عند الصَّحابة هي حضور الجماعة، وأنَّ _________ (1) «واجبة. والثانية» سقطت من س. (2) س: «الأئمة». (3) (4/ 136). (4) ض: «ابن أبي موسى». (5) هـ وط زيادة: «كرَّم الله وجهه». (6) هـ وط: «ثم لم يجب». (7) سيأتي تخريج هذه الآثار كلِّها والكلام عليها من كلام المصنِّف قريبًا.

(1/215)


المتخلِّف عنها غير مجيبٍ، فيكون عاصيًا. الدَّليل الثَّالث: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة/43]. ووجه الاستدلال بالآية: أنَّه سبحانه أمرهم بالركوع، وهو الصَّلاة. وعبَّر عنها بالرُّكوع لأنَّه من أركانها (1)، والصَّلاة يُعَبَّر عنها بأركانها وواجباتها، كما سمَّاها الله سُجودًا، وقرآنًا، وتسبيحًا. فلا بد لقوله: {مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة/43] من فائدةٍ أخرى، وليست إلَّا فعلها مع جماعة المصلِّين، والمعيَّة تفيد ذلك. إذا ثبت هذا فالأمر المقيَّد (2) بصفةٍ أوحالٍ لا يكون المأمور ممتثلًا له (3) إلَّا بالإتيان به على تلك الصِّفة والحال. فإنْ قيل: فهذا ينتقض بقوله تعالى: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران/43]. والمرأة لا يجب عليها حضور الجماعة. _________ (1) هـ: «من أعظم أركانها». (2) س: «المفيد». (3) «له» ليست في هـ وط.

(1/216)


قيل: الآية لم (1) تدلَّ على تناول الأمر بذلك لكلِّ امرأةٍ، بل مريم بخصوصها أُمِرَت بذلك، بخلاف قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة/43]. ومريم كانت لها خاصَّة لم تكن لغيرها من النساء؛ فإنَّ أمَّها نَذَرَتها أنْ تكون محرَّرةً لله، ولعبادته، ولزوم المسجد، فكانت لا تفارقه؛ فأُمِرَت أنْ تركع مع أهله. ولمَّا اصطفاها الله وطهَّرها واصطفاها (2) على نساء العالمين أمَرَها مع (3) طاعته بأمرٍ اختصَّها به على سائر النِّساء. قال تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران/42 - 43]. فإنْ قيل: كونهم مأمورين أنْ يركعوا مع الرَّاكعين لا يدلُّ على وجوب الركوع معهم حال ركوعهم، بل يدلُّ على الإتيان بمثل ما فعلوا، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة/119]. فالمعيَّة تقتضي المشاركة في الفعل، ولا تستلزم المقارنة (4) فيه. _________ (1) ض: «لا». (2) «واصطفاها» من س. (3) ض وهـ وط: «من». (4) هـ: «تقتضي المشاكلة .. ولا تستلزم المقارفة».

(1/217)


قيل: حقيقة المعيَّة مصاحبةُ (1) ما بعدها لما قبلها، وهذه المصاحبة تفيد قدرًا زائدًا على المشاركة، ولا سيَّما في الصلاة؛ فإنَّه إذا قيل: «صلَّى مع الجماعة»، أو «صلَّيت مع الجماعة» لا يُفْهَم منه إلَّا اجتماعهم على الصَّلاة. الدَّليل الرَّابع: ما ثبت في «الصَّحِيْحَين» (2) ـ وهذا لفظ البخاري ـ عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده لقد هَمَمتُ أنْ آمر بحطبٍ فيُحْتَطب، ثمَّ آمر بالصَّلاة فيؤذَّن لها، ثمَّ آمر رجلًا فيؤمَّ النَّاس، ثمَّ أخالف إلى رجالٍ، فأحرِّق عليهم بيوتهم. والذي نفسي بيده لو يعلم أحدُهم أنَّه يجد عَرْقًا سمينًا أومِرْمَاتَيْن حَسَنَتَين (3) لشهد العشاء». وعن أبي هريرة: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ (4) أثقل الصَّلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبْوًا، ولقد همَمَتُ أنْ آمر بالصَّلاة فتُقَام، ثُمَّ آمُرَ رجلًا يصلِّي بالنَّاس، _________ (1) ض وس: «لمصاحبة». (2) البخاري (644)، ومسلم (651). (3) ض: «مراتين». س: «مرمايتين حسنين». كلاهما تحريف. قوله: «عَرْقًا» بفتح العين وسكون الرَّاء، أي: قطعة لحم. وقوله: «مِرْمَاتَين» تثنية مِرْماة بكسر الميم، وحُكِيَ الفتح، أي: ما بين ظِلْفي الشَّاة من اللَّحم. كما في الفتح لابن حجر (2/ 129). (4) «إن» ليست في هـ.

(1/218)


ثُمَّ أنطلق معي برجالٍ، معهم حُزَمٌ من حَطَبٍ، إلى قومٍ لا يشهدون الصَّلاة فأحرِّق عليهم بيوتهم بالنَّار». متَّفقٌ على صِحَّته (1)، واللَّفظ لمسلم. وللإمام أحمد (2)، عنه: «لولا ما في البيوت من النِّساء والذُّرِّيَّة أقمت صلاة العشاء، وأمَرْتُ فتياني يحرقون ما في البيوت بالنَّار». قال المسقطون لوجوبها: هذا لا يدلُّ على وجوب صلاة الجماعة لوجوهٍ: أحدها: أنَّ هذا الوعيد إنَّما جاء في المتخلِّفين عن الجمعة؛ بدليل ما رواه مسلمٌ في «صحيحه» (3)، من حديث عبدالله بن مسعود: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لقومٍ يتخلَّفون عن الجمعة: «لقد همَمَت أنْ آمر رجلًا يصلِّي بالنَّاس، ثُمَّ أحرِّق على رجالٍ يتخلَّفُون عن الجمعة بيوتهم». الثَّاني: أنَّ هذا كان (4) جائزًا لمَّا كانت العقوبات الماليَّة جائزةً، ثمَّ نُسِخَ لمَّا نُسِخَت (5) العقوبات الماليَّة. _________ (1) البخاري (657)، ومسلم (651). (2) المسند (2/ 367). (3) حديث (652). (4) «كان» ليست في هـ. (5) هـ وط: «بما .. ». س: «فسخ .. انفسخت».

(1/219)


الثَّالث (1): أنَّه هَمَّ ولم يفعل. ولو كان التَّحريق جائزًا لكان واجبًا؛ فإنَّ العقوبة لا تكون (2) مستوية الطَّرفين؛ بل إمَّا واجبةً، أومحرَّمةً؛ فلمَّا لم يفعل ذلك دلَّ على عدم جوازه (3). قالوا: والحديث يدلُّ على سقوط فرض الجماعة؛ لأنَّه همَّ بالتخلُّف عنها، وهو (4) لا يهمُّ بترك واجبٍ. قالوا: وأيضًا فالنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما همَّ بإحراق بيوتهم عليهم بالنَّار لنفاقهم (5)، لا لتخلُّفهم عن حضور الجماعة. قال الموجبون: ليس فيما ذكرتم ما يُسْقِط دلالة الحديث. أمَّا قولكم: «إنَّ الوعيد إنَّما هو في حقِّ تارك الجمعة» فنعم، هو في حقِّ تارك الجمعة (6)، وتارك الجماعة؛ فحديث أبي هريرة صريحٌ في أنَّه في حقِّ (7) تارك الجماعة، وذلك بيِّنٌ في أوَّل الحديث وآخره. _________ (1) هـ: «الثالثة». (2) هـ: «يكون». (3) ط: «عدم الجواز». (4) «هو» ليست في ض. (5) هـ وط: «ليعاقبهم». (6) «فنعم .. الجمعة» سقطت من س. (7) س: «أنه حق».

(1/220)


وحديث (1) ابن مسعود صريحٌ في أنَّ ذلك لتارك الجمعة أيضًا، فلا تنافي بين الحديثين. وأمَّا قولكم: «إنَّه منسوخٌ» فما أصعب هذه الدَّعوى، وأصعب إثباتها! فأين شروط النَّسْخ من وجود معارضٍ مقاومٍ متأخِّرٍ؟ ولن تجدوا أنتم ولا أحدٌ من أهل الأرض سبيلًا إلى إثبات ذلك، إلَّا بمجرَّد الدَّعوى. وقد اتَّخذ كثيرٌ من النَّاس دعوى النَّسخ والإجماع سُلَّمًا إلى إبطال كثيرٍ من السُّنن الثَّابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا ليس بالهيِّن. ولا تُتْرَك (2) لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُنَّةٌ صحيحةٌ أبدًا بدعوى إجماع ولا دعوى نسخٍ، إلَّا (3) أنْ يُوْجَد ناسخٌ صحيحٌ صريحٌ متأخِّرٌ، نقلَتْه الأُمَّةُ وحَفِظَتْه؛ إذ محالٌ على الأمَّة (4) أنَّ تضيِّع النَّاسخَ الذي يلزمُهَا حفظه، وتحفظ (5) المنسوخ الذي قد بطل العمل به. ولم يبق من الدِّين وكثير من المقلِّدة (6) المتعصِّبين إذا رأَوْا حديثًا يخالف مذهبهم (7) يتلقَّونه بالتَّأويل، _________ (1) س: «وآخره من حديث». (2) س: «ولا يترك». (3) ط: «إلى». (4) ط: «نقلته الأئمَّة .. ». وقوله: «وحفظته .. الأمة» سقطت من س. (5) هـ وط: «ويحفظ». (6) س: «ولم يكن من الدين .. ». ط: « .. من المولدة». (7) س: «مذاهبهم».

(1/221)


وحَمْله على خلاف ظاهره ما وجدوا إليه سبيلًا. فإذا جاءهم من ذلك ما يغلبهم فزِعُوا إلى دعوى الإجماع على خلافه، فإنْ رأوا من الخلاف ما لا يمكنهم معه (1) دعوى الإجماع فزِعُوا إلى القول بأنَّه منسوخٌ! وليست هذه طريق أئمَّة الإسلام، بل أئمَّة الإسلام كلُّهم على خلاف هذه (2) الطَّريق، وأنَّهم إذا وجدوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُنَّةً صحيحةً صريحةً لم يبطلوها بتأويلٍ، ولا دعوى إجماعٍ، ولانسخٍ. والشَّافعي وأحمد من أعظم النَّاس إنكارًا لذلك. وبالله التَّوفيق. وإنَّما لم يفعل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ما همَّ به للمانع الذي أخبر أنَّه مَنَعَه منه؛ وهو اشتمال البيوت على مَنْ لا تجب عليه الجماعة، من النِّساء والذُّرِّيَّة، فلو أحرقها عليهم لتعدَّت العقوبة إلى من لا يجب عليه (3)، وهذا لا يجوز. كما إذا وَجَبَ الحدُّ على حاملٍ فإنَّه لا يُقَام عليها حتى تضع؛ لئلَّا تَسْرِي العقوبة إلى الحَمْل، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يَهمُّ بما لا يجوز فعله أبدًا. وقد أجاب عنه بعض أهل العلم بجوابٍ آخر (4)، وهو: أنَّ القوم كانوا أخوف لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أنْ يَسْمَعُوه يقول هذه المقالة، ثم _________ (1) «دعوى الإجماع .. يمكنهم معه» سقطت من هـ. (2) ط: «هذا». (3) «الجماعة .. لا يجب عليه» سقطت من س. (4) س: «بجواب حسن».

(1/222)


يُصِرُّون على التخلُّف عن الجماعة. وأمَّا قولكم: «إنَّ الحديث يدلُّ على عدم وجوب الجماعة؛ لكونه همَّ بتركها» فممَّا لا يُلْتَفت إليه. ولا يُظَنُّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه يهمُّ بعقوبة طائفةٍ من المسلمين بالنَّار، وإحراق بيوتهم لتركهم (1) سُنَّةً لم يوجبها الله عليهم ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يخبر أنَّه كان يصلِّي وحده، بل كان يصلِّي جماعةً هو وأعوانه الذين ذهبوا معه إلى تلك البيوت. وأيضًا فلو صلَّاها وحده لكان هناك واجبان. واجبُ الجماعة، وواجبُ عقوبة العُصاة وجهادهم؛ فتَرَكَ أدنى الواجِبَيْن لأعلاهما، كالحال في صلاة الخوف. وأمَّا قولكم: «إنَّه إنَّما هَمَّ بعقوبتهم على نفاقهم (2)، لا على تخلُّفهم عن الجماعة» فهذا يستلزم محذُوْرَيْن (3): إلغاء ما اعتبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلَّق الحكم به، من التخلُّف عن الجماعة. والثَّاني: اعتبار ما ألغاه؛ فإنَّه لم يكن يعاقب المنافقين على نفاقهم؛ بل كان يقبل منهم علانيتهم، ويَكِلُ سرائرَهم إلى (4) الله. _________ (1) ض وس: «بتركهم». (2) س: «على اتفاقهم»! (3) هـ وط: «محظورين». وفي س زيادة بعده: «اثنين». (4) ض: «أسرارهم .. ». ط: « .. على».

(1/223)


الدَّليل الخامس: ما رواه مسلمٌ في «صحيحه» (1): أنَّ رجلًا أعمى قال: يا رسول الله، ليس لي قائدٌ يقودني إلى المسجد، فسأل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يرخِّص له، فرخَّص له (2)، فلمَّا ولَّى دَعَاه، فقال: «هل تسمع النِّداء؟» قال: نعم، قال: «فأَجِب». وهذا الرَّجل هو ابن أمِّ مكتوم. واختُلِف في اسمه، فقيل: عبدالله، وقيل: عَمْرو. وفي «مسند الإمام أحمد» (3)، و «سنن أبي داود» (4)، عن عمرو بن أمِّ مكتوم قال: قلتُ: يا رسول الله (5) أنا ضريرٌ، شاسع الدَّار، ولي قائدٌ لا يلائمني، فهل تجد لي رخصة أنْ أُصَلِّي في بيتي؟ قال: «تسمع النِّداء (6)؟» قال: نعم، قال: «ما أجِدُ لك رخصةً». قال المسقطون لوجوبها: هذا أمرُ استحبابٍ، لا أمر إيجابٍ. وقوله: «لا أجد لك رخصةً» أي: إنْ أردْتَ فضيلة الجماعة. قالوا: وهذا منسوخٌ. قال الموجبون: الأمر المطلق للوجوب، فكيف إذا صرَّح صاحب _________ (1) حديث (653)، بنحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) «فرخص له» سقطت من ض. وفي س قبلها زيادة: «فيصلي في بيته». (3) (3/ 423). (4) (552). وقد تقدَّم تخريج حديث ابن أم مكتوم (ص/208). (5) «قال: قلتُ: يا رسول الله» سقطت من ض. (6) ض وس: «أتسمع».

(1/224)


الشَّرع بأنَّه لا رخصة للعبد في التخلُّف عنه لضريرٍ شاسعِ الدَّار، لا يلائمه قائدُه. فلو كان العبدُ مخيَّرًا بين أن يصلِّي وحده أوجماعةً لكان أولى النَّاس بهذا التَّخيير مثل هذا الأعمى. قال أبو بكر ابن المنذر (1): «ذِكْر [إيجاب (2)] حضور الجماعة على العميان وإن بعُدَت منازلهم عن المسجد. ويدلُّ ذلك على أنَّ شهود الجماعة فرضٌ (3) لاندبٌ. وإذا قال لابن أمِّ مكتوم (4) وهو ضريرٌ: «لا أجِدُ لك رخصةً»، فالبصير أولى أنْ لا تكون (5) له رخصة» (6). الدَّليل السَّادس: ما رواه أبوداود (7)، وأبوحاتم ابن حِبَّان في «صحيحه» (8)، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سمع النِّداء _________ (1) الأوسط (4/ 132 - 134). (2) «إيجاب» ليست في جميع النسخ، وقد ألحقت من الأوسط؛ إذ السِّياق يقتضي ذكرها. (3) «منازلهم .. فرض» سقطت من هـ. (4) ض: «لابن مكتوم». (5) ض هـ وط: «يكون». (6) في هامش ض هنا: «قلتُ: قول ابن أمِّ مكتوم: هل تجد لي رخصةً؟ دليل قاطعٌ على أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أوجب عليهم حضورها، وأنَّه ما أحدٌ من أصحابه استأذنه في ذلك، غير هذا الضَّرير، ثمَّ تعلَّل بأنَّه لا قائد له، فهذا أوضح دليل. قال ذلك كاتبه». (7) حديث (551). (8) حديث (2064).

(1/225)


فلم يمنعه (1) من اتباعه عذرٌ». قالوا: وما العُذر؟ قال: «خوفٌ أو مرضٌ= لم تقبل منه الصَّلاة التي صلَّاها» (2). قال المسقطون للوجوب: هذا الحديث فيه عِلَّتان: إحداهما (3): أنَّه من رواية مِغْرَاء (4) العبدي، وهو ضعيفٌ عندهم (5). الثَّانية: أنَّه (6) إنَّما يُعْرَف عن ابن عباس، موقوفًا عليه (7). _________ (1) س: «فلم تمنعه»، هـ: «فلم يمنع». (2) ض وس: «صلى». (3) ض: «أحدهما». (4) ض: «مغر»، هـ: «مغرى»، س: «معر»، ط: «معرى». تحريفات. (5) وقد تعقَّب ابن القطَّان في بيان الوهم (3/ 96 - 97) إعلاله بمغراء العبدي، وأعلَّه بما هو أولى منه ضعفًا، وهو أبوجناب يحيى بن أبي حيَّة الكلبي؛ فقد ضُعِّف، وتُنْظَر ترجمته في: تهذيب الكمال (31/ 284)، وميزان الاعتدال (4/ 371). (6) «أنه» ليست في هـ وط. (7) وقد أخرجه الحاكم (1/ 372) وقال: «هذا حديثٌ قد أوقفه غندرٌ وأكثر أصحاب شعبة، وهو صحيحٌ على شرط الشَّيْخَين ولم يخرِّجاه .. »، وقال البيهقي في الكبرى (3/ 57): «رواه الجماعة عن سعيد موقوفًا على ابن عباس رضي الله عنه».

(1/226)


قال الموجبون (1): قد قال قاسم بن أصبغ في «كتابه» (2): حدَّثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدَّثنا سليمان بن حرب حدَّثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت (3) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «من سمع النِّداء فلم يجب فلا صلاة له إلَّا من عُذرٍ». وحسبك بهذا الإسناد صِحَّةً. ورواه ابن المنذر: حدَّثنا علي بن عبدالعزيز حدَّثنا عمرو (4) بن عوف حدَّثنا هشيم عن شعبة عن عدي بن ثابتٍ عن سعيد ابن جبير عن ابن عباسٍ مرفوعًا. _________ (1) ذكره بنحوه عبدالحق الإشبيلي في الأحكام (1/ 274). وقال في أوَّله: «والصحيح موقوفٌ على ابن عباس». وقد ساق قاسم بن أصبغ هذا الحديث من طريق إسماعيل بن إسحاق موقوفًا أولًا، كما في التَّنقيح لابن عبدالهادي (2/ 8) قال: «ثنا حفص بن عمر وسليمان بن حرب وعمرو بن مرزوق قالوا: ثنا شعبة عن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباسٍ قال: من سمع النِّداء .. قال إسماعيل: فبهذا الإسناد رواه النَّاس عن شعبة ... ». ثم ساقه مرفوعًا، كما ذكره المصنِّف. (2) مصنف أبي محمد قاسم بن أصبغ رحمه الله، صنَّفه على كتاب سُنَن أبي داود، وكان قد رحل من الأندلس، فوجد أبا داود السِّجستاني قد توفِّي قبل وصوله بيسيرٍ، فعمل مصنَّفًا في السُّنن على تراجم سنن أبي داود، وخرَّج الحديث من روايته عن شيوخه. يُنْظَر: الفهرست لابن خير الإشبيلي (103)، وسير أعلام النبلاء (15/ 473). (3) هـ: «بن ثابت». (4) س: «عمر».

(1/227)


قالوا (1): ومِغْرَاء (2) العَبْدي قد روى عنه أبو إسحاق السَّبيعي على جلالته. ولو قُدِّر أنَّه لم يصحَّ رفعُهُ فقد صحَّ عن ابن عباسٍ بلا شكٍّ، وهو قول صاحبٍ لم يخالفه صاحبٌ (3). الدَّليل السَّابع: ما رواه مسلمٌ في «صحيحه» (4)، عن عبدالله بن مسعود قال: «من سَرَّه أنْ يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصَّلوات حيث يُنَادَى بهنَّ، فإنَّهنَّ من سنن الهُدَى، وإنَّ الله شرع لنبيِّكم سنن الهُدَى (5). ولو أنَّكم (6) صلَّيتم في بيوتكم كما يصلِّي هذا المتخلِّف في بيته لتركتم سُنَّة نبيِّكم، ولو (7) تركتم سُنَّة نبيِّكم لضَلَلْتُم. وما من رجلٍ (8) يتطهَّرُ فيحسن الطهور، ثم يَعْمِد إلى مسجدٍ من هذه المساجد إلَّا كتب الله له بكل خطوةٍ يخطوها حسنةً، ويرفعه بها درجةً، ويحطُّ عنه بها سيئةً. ولقد رأيْتُنا وما يتخلَّف عنها إلَّا منافقٌ معلوم _________ (1) بنحوه في الأحكام لعبدالحق الإشبيلي (1/ 274). (2) تحرَّفت في النسخ كلها، كما سبقت الإشارة إليه (ص/226). (3) هـ: «لم يخالف صاحبا». (4) حديث (654). (5) في «صحيح مسلمٍ» تقديم وتأخير، والسياق فيه: «فإنَّ الله شرع ... وإنَّهنَّ من سنن .. ». (6) ط: «وإنكم لو». (7) هـ وط: «ولو أنكم». (8) «رجل» ليست في س، وبيَّض مكانها.

(1/228)


النِّفاق، ولقد كان الرَّجل يُؤْتَى يُهَادَى بين الرَّجلين حتى يُقَام (1) في الصَّفِّ». وفي لفظٍ (2): «وقال: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علَّمَنا سنن الهُدَى، وإنَّ من سنن الهُدَى الصَّلاة في المسجد الذي يؤذَّنُ فيه». فوجه الدلالة: أنَّه جعل التخلُّف (3) عن الجماعة من علامات المنافقين المعلوم نفاقهم. وعلامات النِّفاق لا تكون (4) لترك مستحبٍّ، ولا لفعل مكروهٍ. ومن (5) استقرأ علامات النِّفاق في السُّنَّة وجدها إمَّا ترك فريضةٍ، أوفعل محرَّمٍ. وقد أكَّد هذا المعنى بقوله: «من سرَّه أنْ يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصَّلوات حيث يُنَادى بهنَّ». وسمَّى تاركها، المصلِّي في بيته: متخلِّفًا، تاركًا للسُّنَّة التي هي طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، التي كان عليها، وشريعته التي شرعها لأُمَّته. وليس المراد بها السُّنَّة التي من شاء فعلها ومن شاء تركها؛ فإنَّ تَرْكَها لا يكون ضلالًا، ولا من علامات النِّفاق، كترك الضُّحى، وقيام اللَّيل، وصوم الاثنين والخميس. _________ (1) «يقام» سقطت من هـ. (2) عند مسلم (654). (3) ض: «المتخلف». (4) ض: «يكون». (5) ض: «وقد» تحريفٌ.

(1/229)


الدَّليل الثَّامن: ما رواه مسلمٌ في «صحيحه» (1)، من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كانوا ثلاثةً فليؤمَّهُم أحَدُهم، وأحقُّهم بالإمامة أقرؤُهُم». ووجه الاستدلال به: أنَّه أمر بالجماعة، وأمْرُهُ على الوجوب. الدَّليل التَّاسع: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ من صلَّى وحْدَه خلف الصَّفِّ أنْ يعيد الصَّلاة. فروى وابصة بن معبد: «أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا يصلِّي خلف الصَّفِّ وحده، فأمَرَه أن يعيد الصَّلاة». رواه الإمام أحمد (2)، وأهل «السُّنن» (3)، وأبوحاتم ابن حبَّان في «صحيحه» (4)، وحسَّنه التِّرمذي (5). وعن علي بن شيبان قال: خرجنا حتى قدمنا على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فبايعناه، وصلَّينا خلْفَه. قال: ثمَّ صلَّينا وراءَهُ صلاةً أخرى، فقضى _________ (1) حديث (672). (2) المسند (4/ 228). (3) أبو داود (682)، والترمذي (230، 231)، وابن ماجه (1004). (4) حديث (1198 - 2201). (5) السُّنن (1/ 447). وثبَّته أحمد وإسحاق كما سيأتي في كلام المصنِّف، وحكم ابن عبدالبر على إسناده بالاضطراب، وينظر: التنقيح لابن عبدالهادي (2/ 33)، والإلمام لابن دقيق العيد (1/ 217)، والبدر المنير لابن الملقن (4/ 473) , والإرواء للألباني (541).

(1/230)


الصَّلاة، فرأى رجلًا فرْدًا خلف الصَّفِّ، فوقف عليه حتى (1) انصرف، وقال: «اسْتَقْبِل صلاتَك؛ لا صلاة للَّذي خلف الصَّفِّ». رواه الإمام أحمد (2)، وابن حبَّان (3). وفي رواية الإمام أحمد: صلَّيْتُ خلف النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فانْصَرَف (4) فرأى رجلًا يصلِّي فرْدًا (5) خلف الصَّفِّ، فوقف نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انصرف الرجل (6)، فقال له: «استقبل صلاتك، فلا صلاة لفردٍ (7) خلف الصَّفِّ». قال ابن المنذر (8): «وثبَّتَ هذا الحديث أحمدُ وإسحاقُ». فوجه الدلالة: أنَّه أبْطَل صلاة المنفرد عن الصَّفِّ وهو في جماعةٍ، وأَمَرَه بإعادة صلاته، مع أنَّه لم ينفرد إلَّا في المكان خاصَّةً، فصلاة المنفرد عن الجماعة والمكان أولى بالبُطلان. يوضِّحُه أنَّ غاية هذا الفذِّ أنْ يكون منفردًا، ولو صحَّت صلاة _________ (1) ض وهـ وط: «حين». (2) المسند (4/ 23). (3) حديث (2202). (4) «فانصرف» ليست في هـ وط. (5) س: «فذا». (6) ض وهـ وط: «حين انصرف على الرجل». (7) س: «لفذ»، هـ و ط: «لمنفرد». (8) الأوسط (4/ 184). ويقصد حديث وابصة بن معدب المتقدم قريبًا.

(1/231)


المنفرد لما (1) حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفيها، وأَمَرَ من صلَّى كذلك أنْ يعيد صلاته (2). قال المسقطون للوجوب: لايمكنكم الاستدلال بهذا الحديث إلَّا بعد إثبات بطلان صلاة الفذِّ خلف الصَّفِّ (3)، وهذا قولٌ شاذٌّ مخالفٌ لجمهور أهل العلم. وقد دلَّ على صِحَّتها إجماع النَّاس على صِحَّة صلاة المرأة وحدها خلف الصَّفِّ، وقد صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلف جبرئيل (4). فروى جابر بن عبدالله: «أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبرئيلُ يعلِّمُه مواقيت الصَّلاة، فتقدَّم جبرئيلُ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلْفَه، والنَّاس خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلَّى الظُّهر حين زالت الشمس، وأتاه حين كان الظِّلُّ مثل شَخْصِهِ، فصَنَع كما صَنَع، فتقدَّم جبرئيلُ ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خلْفَه (5)، والنَّاس خلفَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -». رواه النَّسائي (6). فقد صلَّى رسول الله _________ (1) «لما» سقطت من ض. (2) س: «لذلك أنْ يعيد الصلاة». (3) بحثها المصنف في تهذيب سنن أبي داود (2/ 376 - 380). (4) س: «جبرائيل»، وفي سنن النسائي وط: «جبريل». وكذا في المواضع الأربعة التَّالية. (5) «كما صنع .. خلفه» سقطت من هـ. (6) حديث (514)، وقد اختصره المصنِّف.

(1/232)


- صلى الله عليه وسلم - خلف جبرئيل (1) مقتديًا (2) به. قالوا: وقد أحْرَمَ أبوبكرة فذًّا خلف الصَّف، ثمَّ مشى حتى دخل الصفَّ، ولم يأمره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة (3). قالوا: وقد أحْرَم ابن عباس عن يساره - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ بيده، فأداره عن يمينه، ولم يأمره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - باستقبال الصَّلاة، بل صحَّحَ (4) إحرامه فذًّا (5)، فهذا في النَّفْل. وحديث جابرٍ في الفَرْض، أنَّه قام عن يسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ بيده، فأقامه عن يمينه (6). قال الموجبون: العجب من معارضة الأحاديث الصَّحيحة الصَّريحة بمثل ذلك؛ فإنَّه لا تَعَارض بين الأحاديث بوجهٍ من الوجوه. وأمَّا قولكم: «إنَّ هذا قول شاذٌّ» فلَعَمْر الله ليس بشاذٍّ (7)، ومعه _________ (1) «رواه .. جبريل» سقطت من س. (2) ض: «فاقتديا»! (3) أخرجه البخاري (783)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. (4) س: «صحيح»! (5) يشير لما أخرجه البخاري (117)، ومسلم (763)، من حديث ابن عباس رضي الله عنه. (6) أخرجه أحمد (3/ 326)، وابن ماجه (974)، وابن خزيمة (1535)، وغيرهم، من حديث جابر رضي الله عنه، أنَّ ذلك كان في صلاة المغرب. وهو عند مسلم (766) عنه رضي الله عنه، ولكن ليس فيه أنَّه كان في الفرض. (7) «ليس» سقطت من هـ. ط وهـ: «شاذ».

(1/233)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسُنَّته الصَّحيحة الصَّريحة، ولو تَرَكَها مَنْ تَرَكَها. فلا يكون ترك السُّنن لخفائها على من تركها، أو لنوع تأويلٍ مسوِّغًا لتركها لغيره. وكيف يقدَّم (1) ترك التَّارك لهذه السُّنَّة عليها؟ هذا (2) وقد قال بهذه السُّنَّة جماعةٌ من أكابر التَّابعين، منهم سعيد ابن جبير، وطاووس، وإبراهيم النَّخَعي. ومن دُوْنَهم، كالحكم، وحمَّاد، وابن أبي ليلى، والحسن بن صالح (3)، ووكيع (4). وقال بها الأوزاعيُّ ــ حكاه الطَّحاوي عنه ــ، وإسحاق بن راهويه، والإمام أحمد، وأبو بكر ابن المنذر، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة (5). فأين الشُّذوذ؟ وهؤلاء القائلون، وهذه السُّنة! وأمَّا معارضتكم بموقف المرأة؛ فمِنْ أفسد المعارضات؛ لأنَّ ذلك هو موقف (6) المرأة المشروع لها، حتى لو وَقَفَت في صفِّ الرِّجال أفْسَدَت _________ (1) ض وس: «تقدم». (2) «هذا» ليست في س. (3) الحسن بن صالح بن حيٍّ الهمداني الثَّوري، أبوعبدالله الكوفي، فقيهٌ من أئمَّة الإسلام، توفي سنة 169 هـ، ترجمته في: السِّير للذهبي (7/ 361). (4) «ووكيع» سقطت من ض. (5) يُنْظَر: الأوسط لابن المنذر (4/ 183)، والمغني لابن قدامة (3/ 10). (6) هـ: «موقوف».

(1/234)


صلاة مَن يليها عند أبي حنيفة (1)، وأحد (2) القولين في مذهب أحمد (3). فإنْ قيل: لو وَقَفَت فذَّةً خلف صفِّ (4) النِّساء صحَّت صلاتُها؟ قيل: ليس كذلك؛ بل إذا انفرَدَت (5) المرأة عن صفِّ النِّساء لم تصحَّ صلاتُها، كالرجل الفذِّ خلف صفِّ الرِّجال. ذكر ذلك القاضي أبويعلى في «تعليقه» (6)؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا صلاة لفردٍ (7) خلف _________ (1) يُنْظَر: الهداية للمرغيناني (1/ 57)، وشرح فتح القدير لابن الهمام (1/ 255). (2) ض: «وإحدى». (3) يُنْظَر: المغني (3/ 41)، والشرح الكبير لابن أبي عمر (4/ 426). (4) س: «فذا .. »، و «صف» ليست فيها. (5) ط: «انفذَّت». (6) وكذا عزاه إليه المرداوي في الإنصاف (4/ 463)، فقال: «على الصَّحيح من المذهب، قطع به القاضي في التَّعليق». وكتاب التَّعليق، أو الخلاف الكبير، أو اختلاف الفقهاء، ثلاثة أسماء لكتاب القاضي أبي يعلى، وهو محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفرَّاء، المتوفى سنة 458 هـ، وكتابه حُقِّق في رسالة جامعيَّة كما في المدخل المفصَّل لبكر أبوزيد (2/ 1060). وأفاد الدكتور سليمان العمير أنهما رسالتان. ويُنْظَر في ترجمته وكتابه: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (2/ 193)، وسير أعلام النبلاء (18/ 89)، والمدخل المفصَّل لبكر أبوزيد (1/ 471)، و (2/ 969 - 970). (7) س: «لفذٍّ».

(1/235)


الصَّفِّ» (1). خَرَج من هذا ما إذا كانت وحدها خلف الرِّجال؛ للحديث الصَّحيح. بقي فيما عداه (2) على هذا العموم. وأمَّا قِصَّة صلاته ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ خلف جبرئيل وحده، والصحابة خلفه فقد أجيب عنها: بأنَّها كانت في أوَّل الأمر، حين علَّمَه مواقيت الصَّلاة. وقِصَّة أمرِهِ - صلى الله عليه وسلم - للَّذي صلَّى خلف الصَّفِّ فَذًّا (3) بالإعادة متأخِّرةٌ بعد ذلك. وهذا جوابٌ صحيحٌ. وعندي فيه جوابٌ آخر، وهو أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان هو إمام المسلمين، فكان بين أيديهم، وكان هو المؤتمَّ بجبرئيل وحده، وكان تقدُّم جبرئيل عليه (4) أبلغ في حصول التَّعليم من أنْ يكون إلى جانبه. كما أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بهم على المنبر (5)؛ ليأتمُّوا به وليتعلَّمُوا صلاته، وكان ذلك لأجل التَّعليم. لم يدخل في نهيِهِ - صلى الله عليه وسلم - الإمامَ إذا _________ (1) تقدَّم تخريجه (ص/231). (2) س: «نفي .. ». هـ: « .. عداها». (3) «فذا» ليست في ض. (4) ط: «عليه السلام». (5) يشير إلى ما أخرجه البخاري (377)، ومسلم (544)، من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، بنحوه.

(1/236)


أمَّ الناس أنْ يقوم في مقامٍ أرفع منهم (1). وأمَّا قصة أبي بكرة (2) فليس فيها أنَّه رفع رأسه من الرُّكوع قبل دخوله في الصَّفِّ، وإنَّما يمكن التمسُّك بها لو (3) ثَبَتَ ذلك، ولا سبيل إليه! وقد اختلفت (4) الرِّواية عن الإمام أحمد فيمن ركع دون الصَّفِّ، ثُمَّ مشى راكعًا حتى دخل فيه بعد أنْ رفع الإمامُ رأسَه من الركوع، وعنه في ذلك ثلاث روايات. إحداها: تصحُّ (5) مطلقًا (6). وحُجَّة هذه الرِّواية: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أبا بكرة (7) بالإعادة، ولا استفصله: هل أدركه قبل رفع رأسه من الركوع، أم لا. ولو اختلف الحال _________ (1) يشير إلى ما أخرجه أبوداود (598) ومن طريقه البيهقي (3/ 109)، عن ابن جريج عن أبي خالد عن عديِّ بن ثابتٍ الأنصاري عن رجلٍ عن حذيفة رضي الله عنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أمَّ الرَّجلُ القومَ فلا يقم فى مكان أرفع من مقامهم». قال ابن عبدالهادي في التنقيح (2/ 33): «في إسناد هذا الحديث رجلٌ مبهمٌ، وأبو خالدٍ ليس بمعروفٍ، ويحتمل أن يكون الدَّالاني، وفيه كلامٌ». وضعَّفه بهذا السِّياق الألبانيُّ في إرواء الغليل (544). (2) هـ وط: «أبي بكر». (3) ض وس: «أن لو». (4) ط: «اختلف». (5) هـ وط: «أحدها .. ». هـ: «يصح». (6) يُنْظَر: الإنصاف للمرداوي (4/ 438). (7) ط: «أبا بكر».

(1/237)


لاستفصله: وروى سعيد بن منصور في «سُنَنه» (1)، عن زيد بن ثابتٍ: «أنَّه كان يركع قبل أن يدخل في الصَّفِّ، ثم يمشي راكعًا، ويعتدُّ بها، وَصَل الصَّف أمْ لم يَصِل (2)». والرِّواية الثَّانية: أنَّها لا تصحُّ. نصَّ عليها في رواية إبراهيم بن الحارث، ومحمد بن الحكم. وفرَّق بينه وبين من أدرك الركوع في الصَّف؛ لأنَّه لم يُدْرِك في الصَّف ما يُدْرِك به الرَّكعة، فأشبه ما لو أدركه وقد سجد. وهذه الرِّواية أصحُّ عند أكثر (3) أصحابه (4). والرِّواية الثَّالثة: إنْ كان عالمًا بالنَّهي لم تصحَّ صلاته، وإلَّا صحَّت (5)؛ لقِصَّة أبي بكرة (6)، وقول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - له: «لا تَعُد»، والنَّهي _________ (1) وعزاه إليه وساقه كسياق المصنِّف الزَّركشيُّ في شرحه على مختصر الخرقي (2/ 119)، وليس في المطبوع من السُّنن. وأخرج عنه بنحوه ابن أبي شيبة (2639، 2640)، والبيهقي (2/ 90 - 91)، وعبدالرزاق (2/ 283 - 284)، وغيرهم. وعندهم آثار أخرى عن جملةٍ من الصَّحابة والتَّابعين رضي الله عنهم، ويُنْظر فيه أيضًا: شرح الزركشي (2/ 118 - 120)، وفتح الباري لابن رجب (7/ 116 - 118). (2) ض وس: «أو لم». ط: «أم لا». (3) س: «أكبر». (4) الإنصاف للمرداوي (4/ 438)، وقال: «وعليه جماهير الأصحاب». (5) الإنصاف للمرداوي (4/ 438)، وذكر رواياتٍ أخرى، منها: أنَّها تصحُّ في النَّفل فقط، وأنَّها تصحُّ إن خاف تضييقًا أولعذرٍ. (6) ط: «أبي بكر». وقد تقدم تخريجه (ص/233) وأنه في البخاري.

(1/238)


يقتضي الفساد، ولكن تُرِك في الجاهل به، حيث لم يأمره (1) بالإعادة، وكانت هذه حال أبي بكرة. وأمَّا قصَّة ابن عباسٍ وجابرٍ في ترك أمرهما بابتداء الصَّلاة وقد أحرما فَذَّيْنِ= فهذا أولًا (2) ليس فيه أنَّهما كانا قد دخلا في الصَّلاة، وإنَّما فيه أنَّهما وقفا عن يساره فأدارهما إلى يمينه. فأدارهما عند أوَّل وقوفهما. ولو قُدِّر أنَّهما أحرما كذلك، فمَن أحرم فَذًّا صحَّ إحرامه بالصَّلاة ودخوله فيها، وإنَّما الاعتبار بالركوع وحده. وإلَّا فمَنْ وقف معه آخر قبل الركوع صحَّت صلاته. ولو اعتبرنا إحرام المأمومين جميعًا لم ينعقد تحريم أحدٍ (3) حتى يتَّفق هو ومَنْ إلى جانبه في ابتداء التَّكبير وانتهائه، وهذا من أعظم الحرج والمشقَّة؛ ولهذا لم يعتبره أحدٌ أصلًا. والله أعلم. الدَّليل العاشر: ما رواه أبوداود في «سُنَنه» (4)، والإمام أحمد في _________ (1) هـ: «يأمر». (2) هـ وط: «فهذه .. ». ض: «في ابتداء .. فهذا أولى». (3) ض وس: «تحريمة». س: «آخر». (4) حديث (547). وليس فيه لفظة: «لا يؤذَّن».

(1/239)


«مسنده» (1) (2)، من حديث أبي الدَّرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من ثلاثةٍ في قريةٍ لا يؤذَّن ولا تقام فيهم الصَّلاة إلَّا استحوذ عليهم الشَّيطان، فعليك بالجماعة؛ فإنَّما يأكل الذِّئبُ القاصيةَ». فوجه الاستدلال منه: أنَّه أخبر باستحواذ الشَّيطان عليهم بترك صلاة (3) الجماعة، التي شعارها الأذان، وإقامة الصَّلاة. ولو كانت الجماعة (4) ندبًا، يخيَّرُ الرجل بين فعلها وتركها لما استحوذ الشيطان على تاركها وتارك شعارها (5). الدَّليل الحادي عشر: ما رواه مسلمٌ في «صحيحه» (6)، من حديث _________ (1) (5/ 196). وأخرجه النَّسائي (848)، وابن خزيمة (1486)، وابن حبَّان (2101)، والحاكم (1/ 374) وقال: «صحيح الإسناد»، وغيرهم، من طريق زائدة بن قدامة عن السائب بن حبيش الكلاعي عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه به. وقد صحَّحه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، والنَّووي في الخلاصة (1/ 277)، وابن الملقِّن في البدر المنير (3/ 387). (2) «في مسنده» ليست في ض وس. (3) «صلاة» ليست في هـ وط. (4) ض: «الصلاة». (5) هنا زيادة في س: «الأذان وإقامة الصَّلوات». (6) حديث (655).

(1/240)


أبي الشعثاء (1) المحاربي قال: كُنَّا قعودًا في المسجد، فأذَّنَ المؤذِّن، فقام رجلٌ من المسجد يمشي، فأتْبَعَه أبوهريرة بصَرَه حتى خرج من المسجد، فقال أبوهريرة: أمَّا هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -. وفي روايةٍ (2): سمعتُ أباهريرة وقد رأى رجلًا يجتاز في المسجد خارجًا بعد الأذان، فقال: أمَّا هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - (3). ووجه الاستدلال به: أنَّه جعله عاصيًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخروجه (4) بعد الأذان؛ لتركه الصلاة جماعةً. ومن يقول: الجماعة ندبٌ يقول: لا يعصي الله ولا رسوله مَنْ خرج بعد الأذان وصلَّى وحده! وقد احتجَّ ابن المنذر في «كتابه» (5) على وجوب الجماعة بهذا الحديث، وقال: «لو كان المرءُ مخيَّرًا في ترك الجماعة أوإتيانها لم يجز (6) أنْ يعصي من تخلَّف عمَّا لا يجب عليه أنْ يحضره». والذي يقول: صلاة الجماعة ندبٌ، إنْ شاء فعلها وإنْ شاء تَرَكها= _________ (1) س: «الشعباء»! (2) لمسلمٍ أيضًا حديث (655). (3) «وفي رواية .. أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -» سقطت من ض وس. (4) س زيادة هنا: «من المسجد». (5) الأوسط (4/ 135). (6) هـ: «لم يخبر»!

(1/241)


يجوِّز للرجل أنْ يخرج من المسجد وقد أخذ المؤذِّن في إقامة الصَّلاة، بل يجوِّز له أن يجلس فلا يصلِّي مع الإمام والجماعة، فإذا صلَّوا قام (1) فصلَّى وحده! ولو رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من يفعل هذا لأنكروا (2) عليه غاية الإنكار. بل قد أنْكَرَ ما هو دون هذا، وهو (3) على مَنْ لا يصلِّي مع الجماعة اكتفاءً بصلاته في رَحْلِه، وقال: «مالَكَ لا (4) تصلِّي معنا؟ ألسْتَ برجلٍ مسلمٍ؟» (5). وأَمَرَ بالصَّلاة في الجماعة لمن صلَّى ثُمَّ أتى مسجد الجماعة، فقال: «إذا صلَّيْتُما في رحالكما (6) ثُمَّ أتيتما مسجد جماعةٍ فصلِّيا معهم، فإنَّها لكما (7) نافلة» (8). الدَّليل الثَّاني عشر: إجماع الصَّحابة رضي الله عنهم، ونحن نذكر _________ (1) س: «أقام». (2) س: «لأنكر». (3) «وهو» ليست في ض. (4) ط وس: «ألا». (5) تقدَّم تخريجه بنحوه (ص/77). (6) س: «رحالكم». (7) ط: «لكم». (8) سيأتي تخريجه قريبًا (ص/251).

(1/242)


نصوصهم. قد تقدَّم قول ابن مسعودٍ: «ولقد رأيتُنَا وما يتخلَّف عنها إلَّا منافقٌ معلوم النِّفاق» (1). وقال الإمام أحمد (2): حدَّثنا وكيع حدَّثنا سليمان بن المغيرة عن أبي موسى الهلالي عن ابن مسعود (3) قال: «من سمع المنادي فلم يجب من غير عذرٍ فلا صلاة له». وقال أحمد (4) أيضًا: حدَّثنا وكيع حدَّثنا مسعر عن أبي الحصين عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال: «من سمع المنادي فلم يجب من غير (5) عذرٍ فلا صلاة له» (6). _________ (1) تقدَّم تخريجه (ص/228). (2) مسائل أحمد لابنه صالح (2/ 37). وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنَّفه (3486) من طريق وكيعٍ عن سليمان به. (3) هـ: «أبي مسعود». تحريفٌ! (4) مسائل أحمد لابنه صالح (2/ 36). وأخرجه ابن أبي شيبة (3482) من طريق وكيعٍ، والبيهقي (3/ 174) من طريق أبي نعيم= كلاهما عن مسعرٍ به. ورُوِي مرفوعًا، لكن قال الحافظ البزَّار في مسنده (8/ 141): «قد رواه غير واحد عن أبي حصين عن أبي بردة عن أبي موسى موقوفًا». (5) ط: «بغير». (6) «وقال أحمد أيضًا .. صلاة له» سقطت من س.

(1/243)


وقال أحمد (1): حدَّثنا وكيع عن سفيان عن أبي حيَّان (2) التَّيمي عن أبيه عن عليٍّ قال: «لا صلاة لجار المسجد إلَّا في المسجد». قيل: ومَنْ (3) جار المسجد؟ قال: «من سمع المنادي». وقال سعيد بن منصور (4): حدَّثنا هُشيم (5) أخبرنا (6) منصور عن الحسن عن علي (7) قال: «من سمع النِّداء فلم يأْتِه لم تجاوز صلاتُه رأسَه، إلَّا من عذر». وقال عبدالرزَّاق (8): عن إسرائيل (9) عن أبي إسحاق عن الحارث _________ (1) مسائل أحمد لابنه صالح (2/ 38). وأخرجه عبدالرزاق (1/ 497) من طريق السفيانين وابن أبي شيبة (3488) من طريق هشيم، والبيهقي (3/ 57) من طريق زائدة وسفيان= كلُّهم عن أبي حيَّان به. قال الألباني في الضعيفة (183): «بسندٍ صحيحٍ». (2) ض وس وط: «أبي حبان». هـ: «ابن حبان». (3) س: «وما». (4) ليس في المطبوع من سُننه، وقد ساقه من طريق سعيدٍ الإمامُ ابن المنذر في الأوسط (4/ 136). وأخرجه ابن أبي شيبة (3489) من طريق هشيمٍ به. (5) ط: «هيثم». (6) س: «أنبأنا». (7) هـ وط: «بن علي». (8) المصنَّف (1916)، وأخرجه البيهقي (3/ 57)، والدَّارقطني (1/ 420) كلاهما من طريق أبي إسحاقٍ به. وفي إسناده الحارث الأعور، ضعَّفوه جدًّا. (9) ط: «أنس». وفي المصنَّف (1/ 498): «الثوري».

(1/244)


عن عليٍّ قال: «من (1) سمع النِّداء من جيران المسجد فلم يجب (2) وهو صحيحٌ من غير عذرٍ فلا صلاة له». وقال وكيع (3): عن عبدالرحمن بن حصين عن أبي نجيح المكي عن أبي هريرة قال: «لَأَنْ تمتليء (4) أُذُنَا ابن آدم رصاصًا مُذَابًا خيرٌ له من أنْ يسمع المنادي ثُمَّ لا يجيبه». وقال الإمام أحمد (5): حدَّثنا وكيع عن سفيان عن منصورٍ عن عدي ابن ثابت عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «من سمع المنادي فلم يجب عن غير عذرٍ، فلم يجد خيرًا، ولم يُرَدْ به». قال وكيع (6): حدَّثنا شعبة عن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «من سمع النِّداء ثُمَّ لم يجب من غير عذرٍ فلا صلاة له» (7). _________ (1) «من» سقطت من هـ. (2) «فلم يجب» سقطت من هـ وط. (3) أخرجه من طريق وكيعٍ ابنُ أبي شيبة (3484) ومن طريقه ابن المنذر في الأوسط (4/ 137). (4) ط: «يمتليء». (5) مسائل أحمد لابنه صالح (2/ 37). وأخرجه ابن أبي شيبة (3485). (6) وأخرجه من طريق وكيعٍ ابنُ أبي شيبة (3483). وقد تقدَّم الخلاف فيه موقوفًا ومرفوعًا وأنَّ الموقوف أصحُّ. (7) الأسطر من قوله: «وقال عبدالرزاق» إلى: «فلا صلاة له» سقطت كلُّها من س.

(1/245)


وقال عبدالرزَّاق (1): عن الثَّوري (2) عن ليث عن مجاهد قال: سأل (3) رجلٌ ابنَ عباس، فقال: رجلٌ يصوم النَّهار ويقوم اللَّيل، لا يشهد جمعةً ولا جماعةً؟ فقال ابن عباسٍ: «هو في النَّار». ثم جاء الغد، فسأله عن ذلك، فقال: «هو في النَّار». قال: فاختلف إليه قريبًا من شهرٍ يسأله (4) عن ذلك ويقول ابن عباس: «هو في النَّار». فهذه نصوص الصَّحابة كما تراها صِحَّةً وشهرةً وانتشارًا، ولم يجئ عن صحابيٍّ واحدٍ خلاف ذلك. وكلٌّ من هذه الآثار دليلٌ مستقلٌّ في المسألة لو كان وحده (5)، فكيف إذا تعاضدت وتضافرت؟! وبالله التَّوفيق. فصْلٌ وأمَّا المسألة الثَّامنة (6)، وهي: هل الجماعة شرْطٌ في صِحَّة الصَّلاة أم لا؟ فاختلف الموجبون لها في ذلك، على قولين: _________ (1) حديث (1990). وأخرجه من طريقه ابن المنذر في الأوسط (4/ 137). (2) «عن الثوري» سقطت من هـ وط. (3) هـ: «فسأل». (4) هـ: «فسأله». (5) «لو كان وحده» سقطت من س. (6) هـ: «الثامن». ض وط: «السابعة». وتقدَّم كونه غلطًا متواليًا في العد.

(1/246)


أحدهما: أنَّها فرضٌ، يأثم تاركها، وتبرأ ذِمَّته بصلاته وحْده. وهذا قول أكثر المتأخِّرين من أصحاب أحمد (1). ونصَّ عليه أحمد في رواية حنبل، فقال: «إجابة الدَّاعي إلى الصَّلاة فرضٌ، ولو أنَّ رجلًا قال: هي عندي سُنَّةٌ، أُصلِّيها في بيتي مثل الوتر وغيره لكان خلاف الحديث، وصلاته جائزة». وعنه روايةٌ ثانيةٌ، ذكرها أبو الحسن ابن الزَّاغوني (2) في كتاب «الإقناع» (3): أنَّها شرطٌ للصِّحَّة، فلا تصحُّ صلاة من صلَّى وحْدَه. وحكاه القاضي عن بعض الأصحاب، واختاره أبوالوفاء ابن عقيل، _________ (1) يُنْظَر: المغني لابن قدامة (3/ 6)، والإنصاف للمرداوي (4/ 265). (2) «ابن» ليست في هـ وط. س: «الزاعوني»، ط: «الزعفراني»! وهو أبوالحسن علي بن عبيدالله بن نصر بن عبيد الله بن سهل بن الزَّاغُونِي البغدادي، شيخ الحنابلة ببغداد، كان إمامًا فقيهًا، متبحِّرًا في الأصول والفروع، متفنِّنًا، واعظًا، مشهورًا بالصَّلاح والدِّيانة والورع والصِّيانة، كثير التَّصانيف، توفي سنة 527 هـ، ترجمته في: الذيل على طبقات الحنابلة (1/ 401)، والسِّير للذَّهبي (19/ 605)، وتاريخ الإسلام (36/ 154). (3) وفي الإنصاف للمرداوي (4/ 265): «في الواضح والإقناع». وقد ذكر ابن رجب في الذَّيل على طبقات الحنابلة (1/ 405) أنَّ الإقناع في مجلَّدٍ.

(1/247)


وأبو الحسن التَّميمي (1). وهو قول داود وأصحابه، قال ابن حزمٍ: «وهوقول جميع أصحابنا» (2). ونحن نذكر حجج الفريقين. قال المشترطون: كُلُّ دليلٍ ذكرناه في الوجوب يدلُّ على أنَّها شرطٌ؛ فإنَّها إذا كانت واجبةً فتَرَكَها المكلَّفُ لم يفعل ما أُمِرَ به، فبقي في عُهْدَة الأمر. قالوا: ولو صحَّت الصَّلاة بدونها لما قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّه لا صلاة له». ولو صحَّت لما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «من (3) سَمِع المنادي ثم لم يجبه لم تُقْبَل (4) منه الصَّلاة التي صلَّى» (5). فلمَّا وقف القبول عليها دلَّ على اشتراطها، كما أنَّه لمَّا وقف القبول على الوضوء من الحَدَث دلَّ على اشتراطه. قالوا: ونفي القبول إمَّا أنْ يكون لفوات رُكْنٍ، أو شرطٍ. ولا (6) _________ (1) المغني (3/ 6 - 7)، والإنصاف (4/ 265). (2) المحلَّى (4/ 196). (3) س: «إن من». (4) هـ: «يقبل». (5) تقدَّم تخريجه والكلام عليه (ص/226 - 228)، من حديث ابن عباسٍ بنحوه. (6) س: «أو لا».

(1/248)


ينتقض هذا بنفي القبول عن صلاة العبد الآبق (1)، وشارب الخمر أربعين يومًا (2)؛ لأنَّ امتناع القبول هناك لارتكاب أمرٍ محرَّمٍ قارَنَ الصَّلاة فأبْطل أجرها. قالوا: ولو صحَّت صلاة المنفرد لما قال ابن عباس: «إنَّه في النَّار». قالوا: ولو صحَّت صلاتُه أيضًا لما كانت واجبةً؛ فإنَّه إنَّما تصحُّ (3) عبادة من أدَّى ما أُمِرَ به. وقد ذكرنا من أدلَّة الوجوب ما فيه كفاية. قال المصحِّحُون لها ــ وهم ثلاثة أقسام: قسمٌ يجعلها سُنَّةً، إنْ شاء فعلها وإنْ شاء تَرَكها. وقسمٌ يجعلها فرض (4) كفايةٍ، إذا قام بها طائفةٌ سَقَطت عمَّن عداهم. وقسمٌ يقول: هي فرضٌ على الأعيان، وتصحُّ _________ (1) يشير إلى ما أخرجه مسلمٌ (70) وغيره، من حديث جرير بن عبدالله البجلي: أنَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة». (2) يشير إلى ما أخرجه أحمد (2/ 176)، وابن ماجه (3377)، والنسائي (5673)، وابن حبَّان (5357)، والحاكم (1/ 388)، وقال: «على شرط الشيخين»، وأخرجه في (4/ 162) من طريق أخرى، وقال: «صحيح الإسناد»، كلهم من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «من شرب الخمر فسكر لم تقبل صلاته أربعين صباحًا .. » الحديث. وأخرجه الترمذي (1862) من حديث ابن عمر رضي الله عنه، وقال: «حديث حسنٌ». (3) هـ وط: «وأنه .. ». س وهـ وط: «يصح». (4) هـ: «فرضًا».

(1/249)


بدونها ــ: قد ثَبَت في «الصَّحِيْحَيْن (1)» (2)، من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صلاة الجماعة تفْضُل على صلاة الفَذِّ بسبعٍ وعشرين درجةً». وفيهما (3)، عن أبي هريرة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «صلاة الرجل في جماعةٍ تُضَعَّف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسًا وعشرين ضعفًا (4)، وذلك أنَّه إذا توضَّأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلَّا الصَّلاة لم يخْطُ خطوةً إلَّا رُفِعَت له بها درجةٌ، وحُطَّت (5) عنه بها خطيئةٌ. فإذا صلَّى لم تزل الملائكة تصلِّي عليه ما دام في مصلَّاه ـ ما (6) لم يحدِثْ ـ: «اللَّهم صلِّ عليه، اللَّهم ارحمه»، ولا يزال في صلاةٍ ما انتظر الصَّلاة». قالوا: فلو كانت صلاة المنفرد باطلةً لم يفاضل بينها وبين صلاة الجماعة؛ إذ لا مفاضلة بين الصَّحيح والباطل. _________ (1) س وط: «الصحيح». (2) البخاري (645)، ومسلم (650) بنحوه. (3) البخاري (647)، ومسلم (649) وهذا لفظ البخاري. (4) هـ: «وعشرون». س: «درجة». (5) ض وس: «وحط». (6) «ما» ليست في هـ.

(1/250)


قالوا: وفي «صحيح مسلمٍ» (1)، من حديث عثمان بن عفان: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صلَّى العشاء في جماعةٍ فكأنَّما قام نصف اللَّيل، ومن صلَّى الصُّبح في جماعةٍ فكأنَّما قام اللَّيل كلَّه». قالوا: فشَبَّهَ فعلها في جماعةٍ بما ليس بواجبٍ. والحكم في المُشَبَّه كهُوَ في المشبَّه به أو دونه في التَّأكيد. قالوا: وقد روى يزيد بن الأسود قال: شهدْتُ مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَجَّتَه، فصلَّيْتُ معه صلاة الصُّبح في مسجد الخيف، فلمَّا قَضَى صلاته انحرف، فإذا هو برجلين في آخر القوم لم يُصَلِّيَا، قال: «عليَّ بِهِما». فجيء بهما، تُرْعَدُ فرائِصُهما. قال: «ما منعكما أنْ تُصَلِّيَا معنا؟». فقالا: يا رسول الله، قد صلَّيْنَا في رِحالنا. قال: «فلا تفعلا، إذا صلَّيْتُما في رِحَالِكما (2) ثم أتيتما مسجد جماعةٍ فصَلِّيا معهم؛ فإنَّها (3) لكما نافلة» رواه أهل «السُّنن» (4). _________ (1) حديث (656). (2) س: «رحالكم». (3) س: «معهما، فإنهما». (4) النَّسائي (858)، وأبوداود (575)، والترمذي (219)، وقال: «حسنٌ صحيحٌ». وأخرجه أحمد (4/ 160)، وابن خزيمة (1279)، وابن حبان (1564)، وغيرهم، كلُّهم من طريق يعلى بن عطاء عن جابر بن يزيد بن الأسود السوائي عن أبيه رضي الله عنه به. ... = = ... ونُقِل عن الشَّافعي تجهيله لإسناده؛ وعُلِّل بأنَّ يزيد بن الأسود ليس له راوٍ غير ابنه جابر، ولا لجابر راوٍ غير يعلى؛ كما في سنن البيهقي (2/ 301)، وقال: «وكان يحيى بن معين وجماعة من الأئمَّة يوثِّقون يعلى بن عطاء، وهذا الحديث له شواهد قد تقدَّم ذكرها، فالاحتجاج به وبشواهده صحيحٌ». وقال ابن حجر في التَّلخيص (2/ 29): «وقد وجدنا لجابر بن يزيد راويًا غير يعلى، أخرجه ابن منده في المعرفة». وقد صحَّح الحديث الترمذي وابن خزيمة وابن حبَّان وابن السَّكن كما في التَّلخيص الحبير (2/ 29)، وابن الملقِّن في البدر المنير (4/ 413).

(1/251)


وعند «أبي داود» (1): «إذا صلَّى أحدكم في رَحْلِه ثم أدرك مع الإمام فلْيُصَلِّها (2) معه، فإنَّها له نافلةٌ». قالوا: ولولا صِحَّة الأولى لم تكن (3) الثَّانية نافلةً. وعن محجن بن الأدرع (4) قال: أتيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَحَضَرَت الصلاةُ، فصلَّى ـ يعني: ولم أُصَلِّ ـ فقال لي: «أَلَا صَلَّيْتَ؟». قلتُ: يا رسول الله، قد صلَّيْتُ في الرَّحْل، ثمَّ أتيتك. قال: «فإذا جِئْتَ فصَلِّ معهم، واجعلها _________ (1) حديث (575). (2) ط: «فليصليها». (3) هـ: «لم يكن». (4) هـ: «أذرع».

(1/252)


نافلةً». رواه الإمام أحمد (1). وفي الباب عن أبي هريرة (2)، وعن (3) أبي ذر (4)، وعبادة (5)، وعبدالله بن عمر. ولفظ حديث ابن عمر: عن سليمان مولى ميمونة قال: أتيتُ على ابن عمر ـ وهو بالبلاط ـ والقوم يصلُّون في المسجد، فقلتُ: ما يمنعك أنْ تصلِّي مع النَّاس؟ قال: إنِّي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تصلُّوا صلاةً في يومٍ مرَّتين». رواه أبوداود (6)، والنَّسائي (7). _________ (1) المسند (4/ 34). وأخرجه مالك (132)، والنسائي (857)، وابن حبان (2405)، والحاكم (1/ 371) وقال: «حديثٌ صحيحٌ»، من حديث زيد بن أسلم عن بسر ابن محجن عن محجنٍ رضي الله عنه به. وقد أعلَّه ابن القطَّان في بيان الوهم (5/ 22) بأنَّ بسرًا لا يعرف بغير رواية زيد بن أسلم عنه ولا تعرف حاله، وردَّ على هذا الحاكم بقوله في الموضع السابق: «ومالك بن أنس الحَكَم في حديث المدنيين، وقد احتجَّ به في الموطأ»، وقد صحَّحه الألباني في الإرواء (534). (2) أخرجه البخاري (694) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يصلُّون لكم؛ فإنْ أصابوا فلكم، وإن أخطؤوا فلكم وعليهم». (3) «أبي هريرة وعن» ليست في ض وس. (4) أخرجه مسلم (648) من حديث أبي ذرٍ الغفاري رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخِّرُون الصَّلاة عن وقتها، ـ أو يميتون الصَّلاة عن وقتها ـ» قال: قلتُ: فما تأمرني؟ قال: «صلِّ الصلاة لوقتها، فإنْ أدْرَكْتَها معهم فصلِّ، فإنَّها لك نافلة». (5) تقدَّم تخريجه. (6) حديث (579). (7) حديث (860). وأخرجه أحمد (2/ 19)، وابن خزيمة (1641)، وابن حبان ... = = ... (2396)، والبيهقي (2/ 303)، من طريق عمرو بن شعيب عن سليمان بن يسار أنَّه رأى ابن عمر رضي الله عنه به. وقد صحَّحه ابن خزيمة وابن حبَّان وابن السَّكن كما في التَّلخيص الحبير (1/ 156)، وابن الملقِّن في البدر المنير (2/ 664). فائدةٌ: قال البيهقي: «أي: كلتاهما على وجه الفرض، ويرجع ذلك على أنَّ الأمر بإعادتها اختيارٌ، وليس بحتمٍ»، وقال ابن حجر في التَّلخيص: «وهو محمولٌ على إعادتها منفردًا، أمَّا إن كان صلَّى منفردًا ثم أدرك جماعةً فإنَّه يعيد معهم».

(1/253)


فصْلٌ قال الموجبون: التَّفضيل (1) لا يستلزم براءة الذِّمَّة من كلِّ وجهٍ، سواء كان مطلقًا أومقيَّدًا؛ فإنَّ التَّفضيل (2) يحصل مع مناقضة المفضَّل للمفضَّل (3) عليه من كُلِّ وجهٍ، كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان/24]، وقوله تعالى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} [الفرقان/15]. وهو كثيرٌ. فكون (4) صلاة الفَذِّ جزءًا واحدًا من سبعة وعشرين جزءًا من صلاة الجمع (5) لا يستلزم إسقاط فرض الجماعة، ولزوم كونها ندبًا بوجهٍ من الوجوه. _________ (1) «التفضيل» سقطت من هـ. (2) ط: «التفضل». (3) س: «التفصيل .. التفصيل .. المفصل للمفصل». تحريفٌ! (4) س: «يكون». (5) ض وط وهـ: «الجميع».

(1/254)


وغايتها أنْ يتأدَّى (1) الواجب بهما، وبينهما من الفضل ما بينهما؛ فإنَّ الرجلين يكون مقامهما في الصفِّ واحدًا وبين صلاتهما (2) في الفضل كما بين السماء والأرض. وفي «السُّنن» (3)، عنه - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ العبد (4) ليصلِّي الصَّلاة ولم يُكْتَب له من الأجر (5) إلَّا نِصْفُها، ثُلُثُها، رُبُعُها، خُمُسُها» حتى بلغ عُشُرها. فإذا عُقِلَ (6) اثنان يصلِّيان فرضهما، صلاةُ أحدهما أفضل من صلاة الآخر بعشرة أجزاء ــ وهما فرضان ــ فهكذا يُعْقَل (7) مثلُه في صلاة الفذِّ وصلاة الجماعة. _________ (1) س: «وغايتهما .. ينادى»! (2) ض: «صلاتيهما». (3) أبوداود (796)، من حديث عمَّار بن ياسر رضي الله عنه. بلفظ: «إنَّ الرَّجل لينصرف وما كُتِبَ له إلَّا عُشْر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها». وأخرجه أحمد (4/ 321)، والبيهقي (2/ 281) وغيرهما، من طريق ابن عجلان عن سعيد المقبري عن عمر بن الحكم عن عبدالله بن عَنَمة المزني عن عمَّار به. وقد صحَّحه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (1/ 120). (4) ض: «الرجل». (5) «له» ليست في هـ وط. وفي ض: «من الأجر له». (6) ض: «غفل»، وكذا في الموضع التَّالي بعده! (7) س: «ولهما .. يفعل».

(1/255)


وأبلغ من هذا قوله: «ليس لك من صلاتك إلَّا ما عَقَلت منها» (1)، فإذا لم يَعْقِل في صلاته إلَّا في جزءٍ واحد كان له من الأجر بقدر ذلك الجزء، وإنْ برِئَت ذِمَّتُه من الصلاة. فهكذا المصلِّي وحده، له جزءٌ واحدٌ من الأجر، وإنْ برِئَت الذِّمَّة (2). ومثل هذه الصَّلاة لا يُسمِّيها الشَّارع صحيحةً، وإنْ اصْطَلح الفقهاء على تسميتها صلاةً (3)؛ فإنَّ الصَّحيح المطلق ما ترتَّبَ عليه أثره، وحصل به مقصوده. وهذه قد فات معظم أثرها، ولم يحصل منها جُلُّ مقصودها، فهي أبعد شيء من الصِّحَّة، وأحسن أحوالها أنْ تَرْفَع عنه العقاب (4)، وإنْ حصَّلَت شيئًا من الثواب فهو جزءٌ. وما هذا إلَّا (5) على قول من لا يجعلها شرطًا للصِّحَّة. وأمَّا مَن جعلها شرطًا لا تصحُّ بدونه فجوابه: أنَّ التفضيل إنَّما هو بين صلاتين صحِيْحَتَين. وصلاة الرَّجل وحده إنَّما تكون صحيحةً للعُذْر، وأمَّا بدون العذر فلا صلاة له، كما قال الصَّحابة رضي الله عنهم. _________ (1) لم أقف عليه، وقد عزاه إلى ابن عبَّاسٍ موقوفًا عليه من كلامه غير واحدٍ. (2) «من الصلاة .. الذِّمَّة» سقطت من ض. (3) س: «صحيحة». (4) س: «ترتفع عنه»، وليس فيه: «العقاب». (5) «إلا» سقطت من ض وس.

(1/256)


وهؤلاء لو أجابوا بهذا أورد عليهم منازعوهم أنَّ المعذور يُكَمَّل له أجرُه؛ فأجابوا عن (1) ذلك بأنَّه لا يستحقُّ بالفعل إلَّا جزءًا واحدًا. وأمَّا التَّكميل (2) فليس من جِهَة الفعل؛ بل بالنِّيَّة، إذا كان من عادته أنْ يصلِّي جماعةً، فمرض أو حُبِس أو سافر، وتعذَّرت عليه الجماعة، والله يعلم أنَّ من نيَّته أنْ لو قدر على الجماعة لما تركها؛ فهذا يُكَمَّل له أجره، مع أنَّ صلاة الجماعة أفضل من صلاته من حيث العَمَلَين. قالوا: ويتعيَّن هذا ولا بد؛ فإنَّ النُّصوص قد صرَّحت بأنَّه لا صلاة لمن سمع النِّداء ثم صلَّى وحده؛ فدلَّ على أنَّ من له جزءٌ من سبعة وعشرين جزءًا هو المعذور الذي له صلاة (3). قالوا: والله تعالى يفضِّل العامل (4) القادر على العاجز وإنْ لم يؤاخذه، فذلك فضله (5) يؤتيه من يشاء. وفي «صحيح البخاري» (6)، عن عمران بن حصين قال: سألت _________ (1) هـ: «على». (2) «وأما التكميل» سقطت من ض. (3) س: «الذي لا صلاة له». (4) هـ: «فضل». و «العامل» ليست في هـ وط. (5) س: «فضل». (6) حديث (1115).

(1/257)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الرجل وهو قاعدٌ، فقال: «من صلَّى قائمًا فهو أفضل، ومن صلَّى قاعِدًا فله نصف أجر القائم، ومن صلَّى نائمًا فله نصف أجر القاعد (1)». فهذا إنَّما هو في المعذور، وإلَّا فغير المعذور ليس له من الأجر شيءٌ إذا كانت الصلاة فرضًا. وإنْ كانت نفلًا لم يجز له التَّطوُّع على جَنْبٍ؛ فإنَّه لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا من الدَّهر، ولا أحدٌ من أصحابه (2) ألبتَّة، مع شِدَّة حِرْصهم على أنواع العبادة، وفعل كلِّ خيرٍ. ولهذا جمهور الأمَّة يمنع منه، ولا تجوز (3) الصلاة على جنبٍ إلَّا لمن لم يستطع القُعُود؛ كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن حصين: «صلِّ قائمًا، فإنْ لم تستطع فقاعدًا، فإنْ لم تستطع فعلى جَنبٍ» (4). وعمران ابن الحصين (5) هو راوي الحديثين، وهو الذي سأل عنهما النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. _________ (1) ض: «أجر نصف .. » في الموضعين! (2) هـ: «الصحابة». (3) ض: «ولا تصح». (4) أخرجه البخاري (1117). (5) «ابن الحصين» ليست في س.

(1/258)


فصْلٌ وأمَّا استدلالكم بحديث عثمان بن عفان: «من صلَّى العشاء في جماعةٍ فكأنَّما قام نصف اللَّيل» فمن أفسد الاستدلال. وأظهر ما في نقضه عليكم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من صام رمضان وأتْبَعَه سِتًّا (1) من شوَّال فكأنَّما صام الدَّهر» (2). وصيام الدَّهر غير واجبٍ، وقد شُبِّه به الواجب، بل الصَّحيح أنَّ صيام الدَّهر كلِّه مكروهٌ؛ فقد شُبِّه به (3) الصَّوم الواجب، فغير ممتنعٍ تشبيه الواجب بالمستحبِّ في مضاعفة الأجر على الواجب القليل، حتى يبلغ ثوابه ثواب المستحب الكثير. فصْلٌ وأمَّا استدلالكم بحديث يزيد بن الأسود، ومحجن بن الأدرع، وأبي ذرٍّ، وعبادة= فليس في حديث واحدٍ منهم (4) أنَّ الرجل كان قد صلَّى وحده منفردًا مع قدرته على الجماعة ألبتَّة. ولو أَخْبَرَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما أقرَّه على ذلك، وأنكرعليه. وكذلك ابن عمر لم يقل: صلَّيْتُ وحدي _________ (1) ض وس: «بستٍّ». (2) أخرجه مسلم (1164)، عن أبي أيوبٍ الأنصاري رضي الله عنه، بلفظ: «ثمَّ أتبعه». (3) «الواجب بل .. شبه به» سقطت من س. و «به» ليست في هـ. (4) ط: «منهما».

(1/259)


وأنا أقدر على الجماعة. ونحن نقول: إنَّه لم يصلِّ من ترك الجماعة وهو يقدر عليها، ونقول كما قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّه لا صلاة له». فحيث يثبت لهؤلاء صلاة فلا بُدَّ من أحد أمرين (1)؛ أن يكونوا صلَّوا جماعةً مع غير هذه الجماعة. أويكونوا معذورين وقت الصلاة. ومن صلَّى وحده لعذرٍ ثم زال عذره في الوقت لم يجب عليه إعادة الصَّلاة، كما لو صلَّى بالتَّيمُّم ثم وجد الماء في الوقت، أوصلَّى قاعدًا لمرض ثم برئ في الوقت، أو صلَّى عُريانًا ثم وجد السُّترة في الوقت (2). ونحو ذلك (3). قالوا: وقد دلَّت أحكام الشَّريعة على أنَّ صلاة الجماعة فرضٌ على كُلِّ أحدٍ (4)، وذلك من وجوهٍ: أحدها: أنَّ الجمع لأجل المطر جائزٌ، وليس جوازه إلَّا محافظة على الجماعة، وإلَّا فمن الممكن أنْ يصلِّي كُلُّ واحدٍ في بيته منفردًا. ولو كانت الجماعة ندبًا لما جاز ترك الوقت الواجب، وتقديم الصلاة _________ (1) هـ وط: «الأمرين». (2) «أو صلَّى قاعدا .. في الوقت» سقطت من ض. (3) «ونحو ذلك» ليست في هـ وط. (4) هـ وط: «واحد».

(1/260)


عن وقتها لأجل ندبٍ محضٍ. الثَّاني: أنَّ المريض إذا لم يستطع القيام في الجماعة وأطاق القيام إذا صلَّى وحده صلَّى جماعةً وترك القيام. ومُحَالٌ أنْ يترك ركنًا من أركان الصلاة لمندوبٍ محضٍ. الثَّالث: أنَّ الجماعة حال الخوف يفارقون الإمام، ويعملون العمل الكثير في الصلاة، ويجعلون الإمام منفردًا في وسط الصلاة؛ كُلُّ ذلك لأجل تحصيل الجماعة، وكان من (1) الممكن أن يصلُّوا وحدانًا بدون هذه الأمور. ومُحَالٌ أنْ يُرْتَكب ذلك وغيره لأجل أمرٍ مندوبٍ، إنْ شاء فعَلَه وإنْ شاء لم يفْعَله. وبالله التَّوفيق. فصلٌ وأمَّا المسألة التَّاسعة (2)، وهي: هل له فعلها في بيته، أم يتعيَّن المسجد؟ فهذه المسألة فيها قولان للعلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد (3). _________ (1) «من» ليست في ض. (2) ض وط: «الثامنة»، س: «الثالثة»، هـ: «التاسع». وتقدَّم أنَّه خطأٌ توالى في العدِّ. (3) المغني (3/ 8)، الإنصاف للمرداوي (4/ 272). والرواية الأولى هي الصَّحيح من المذهب عندهم، والذي عليه أكثرهم.

(1/261)


إحداهما (1): له فعلها في بيته. وبذلك قالت الحنفيَّة (2)، والمالكيَّة (3)، وهو أحد الوجهين للشَّافعية (4). والثَّانية (5): ليس له فعلها في البيت إلَّا من عُذرٍ. وفي المسألة قول ثالثٌ: أنَّ (6) فعلها في المساجد فرض كفاية. وهو الوجه الثَّاني (7) لأصحاب الشَّافعي. فوجه القول الأول: حديث الرَّجُلَين اللَّذَيْن (8) صلَّيا في رِحَالهما؛ فإنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَدَبَهما إلى فعلِها (9) في المسجد، ولم ينكر عليهما فعلها (10) في رِحَالهما. وكذلك حديث محجن بن الأدرع، وحديث عبدالله بن عمر. وقد _________ (1) هـ وط: «أحدهما». (2) شرح فتح القدير لابن الهمام (1/ 244)، وحاشية ابن عابدين (1/ 578). (3) الشرح الكبير للدَّردير (1/ 320)، ومواهب الجليل (2/ 17). (4) البيان للعمراني (2/ 363)، ومغني المحتاج (1/ 230). (5) هـ وط: «والثاني». (6) «أن» ليست في هـ وط. (7) س: «الذي». (8) هـ: «اللَّذان». (9) ط: «فعلهما». (10) س: «فعلهما».

(1/262)


تقدَّمت هذه الأحاديث. وفي «الصَّحِيْحَين» (1)، عن أنس بن مالكٍ قال: «كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أحسن النَّاس خُلُقًا، فرُبَّما حَضَرَت الصَّلاة وهو في بيتنا، فيأمر بالبِسَاط الذي تحته، فيُكْنَس ويُنْضَح، ثم يقوم - صلى الله عليه وسلم - ونقوم خلفه، فيصلِّي بنا». وفي «الصَّحِيْحَين» (2) عنه ـ أيضًا ـ قال: «سَقَط النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن فرسٍ، فجُحِشَ (3) شِقُّهُ الأيمن، فدخلنا عليه نعودُهُ، فحَضَرت الصلاة، فصلَّى قاعدًا». وفي «الصَّحِيْحَين» (4) ـ أيضًا ـ عن أبي ذرٍّ قال: سألتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ مسجدٍ وُضِعَ في الأرض أول؟ قال: «المسجد الحرام، ثمَّ المسجد الأقصى، ثم حيثما أدركتك الصلاة فصَلِّ؛ فإنَّه مسجدٌ». وصحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم -: «جُعِلَت لي كُلُّ أرضٍ طيِّبةٍ مسجدًا وطهورًا» (5). _________ (1) البخاري (6203)، ومسلم (659)، بنحوه. (2) البخاري (689)، ومسلم (411). (3) جُحِشَ: أي: انخدش جلده، كما في النِّهاية لابن الأثير (1/ 241). (4) البخاري (3425)، ومسلم (520). (5) أصله في البخاري (335)، ومسلم (521)، من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه، بلفظ: «وجُعِلَت لي الأرض .. ». وقد أخرجه الضِّياء في المختارة (5/ 43)، وابن الجارود في المنتقى (124)، من حديث أنسٍ رضي الله عنه، قال الحافظ في الفتح (1/ 438): «بإسنادٍ صحيحٍ» ..

(1/263)


ووجه الرِّواية الثَّانية: ما تقدَّم من الأحاديث الدَّالة على وجوب الجماعة؛ فإنَّها صريحةٌ في إتيان المساجد (1). وفي «مسند الإمام أحمد» (2)، عن ابن أمِّ مكتوم: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَتَى المسجد، فرأى في القوم رِقَّةً، فقال: «إنِّي لأهمُّ أنْ أجعل للنَّاس إمامًا، ثُمَّ أخرج، فلا أقدر على إنسانٍ يتخلَّف عن الصَّلاة في بيتِهِ إلَّا أحرقته عليه». وفي لفظٍ لأبي داود (3): «ثُمَّ آتي قومًا يصلُّون في بيوتهم، ليست بهم عِلَّةٌ، فأحرِّق عليهم (4) بيوتهم». وقال له ابن أمِّ مكتومٍ ـ وهورجلٌ أعمى ـ: هل تجد لي رخصةً أنْ أصلِّي في بيتي؟ قال: «لا أجد لك رخصة» (5). وقال ابن مسعود: «لو صلَّيْتُم في بيوتكم كما يصلِّي هذا المتخلِّف في بيتِهِ لتركتم سُنَّة نبيِّكم، ولو تركتم سُنَّة نبيِّكم لضَلَلْتُم» (6). _________ (1) ض: «المسجد». (2) (3/ 423). (3) حديث (553). (4) «عليهم» ليست في س. (5) تقدَّم تخريجه (ص/209، 224). (6) تقدَّم تخريجه (ص/228)، وأنَّه في صحيح مسلم.

(1/264)


وعن جابر بن عبدالله قال: فَقَدَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قومًا في صلاةٍ، فقال: «ما خلَّفَكم (1) عن الصَّلاة؟» فقالوا: لماءٍ كان بيننا (2). فقال: «لا صلاة لجار المسجد إلَّا في المسجد». رواه الدَّارقطني (3). وقد تقدَّم هذا المعنى عن علي بن أبي طالبٍ وغيره من الصَّحابة رضي الله عنهم (4). فإنْ خالَفَ وصلَّى في بيته جماعةً من غير عذرٍ، ففي صِحَّة صلاته قولان. قال أبوالبركات في «شرحه» (5): «فإنْ خالف وصلَّاها في بيته _________ (1) هـ: «أخلفكم». (2) ض: «كان في بيتنا»، س: «لحالٍ .. ». (3) السُّنن (1/ 419)، من طريق أبي السكين عن جنيد بن حكيم عن محمد بن سكين عن عبدالله بن بكير عن محمد بن سوقة عن ابن المنكدر عن جابر رضي الله عنه به. قال ابن القطَّان في بيان الوهم والإيهام (3/ 343): «فيه من لا تعرف حاله، وهما أبوسكين زكرياء بن يحيى الطائي، وجنيد بن حكيم». وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة مرفوعًا، وعن عليٍّ رضي الله عنهم موقوفًا. وقد تقدم بعضها (ص/161، 162). (4) (ص/243 - 246). (5) يعني: أبا البركات عبدالسَّلام بن تيميَّة جد شيخ الإسلام، المتوفي سنة 652 هـ، في كتابه: شرح الهداية لأبي الخطَّاب. وقد ذكر الحافظ ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة (4/ 6) أنَّ اسم كتابه: «منتهى الغاية في شرح الهداية»، وقال: «بيَّض منه أربع مجلَّدات كبار، إلى أوائل الحج، والباقي لم يبيِّضه». ويُنْظَر أيضًا: تاريخ الإسلام للذَّهبي (48/ 128).

(1/265)


صحَّت. ويتخرَّج أن لا (1) تصحَّ من غير عذرٍ؛ بناءً على ما اختاره ابن عقيل في ترك (2) الجماعة، حيث ارتكب النَّهي. ويعضده قوله: «لا صلاة لجار المسجد إلَّا في المسجد». قال: والمذهبُ الصِّحَّة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «صلاة الرجل في جماعةٍ تضاعف على صلاته في بيته أو في سوقه خمسًا وعشرين (3) ضِعفًا» (4). ويُحْمَل قوله: «لا صلاة لجار المسجد إلَّا في المسجد» على نفي الكمال جمعًا بينهما. قال: والرِّواية الأولى اختيار أصحابنا، وأنَّ حضور المسجد لا يجب (5). وهي عندي بعيدةٌ جدًّا إنْ حُمِلَت على ظاهرها؛ فإنَّ الصَّلاة في المساجد من أكبر شعائر الدِّين وأعلامه (6)، وفي تركها بالكليَّة أوفى المفاسد، ومحو (7) آثار الصَّلاة؛ بحيث تفضي إلى فتور هِمَم (8) أكثر الخلق عن أصل فعلها؛ ولهذا قال عبدالله بن مسعودٍ: «لو صلَّيْتُم في _________ (1) ط: «في بيته جماعة»، وسقطت منه جملة: «صحَّت، ويتخرَّج أن لا». (2) ط: «تركه». (3) ض وط وهـ: «خمس». هـ: «وعشرون». (4) تقدَّم تخريجه قريبًا بنحوه (ص/250)، وأنَّه في الصَّحيحين. (5) ض: «حضور الجماعة لا تجب». (6) هـ وط: «في المسجد .. وعلاماته». (7) س: «يمحو». (8) ض: «فتورهم»، س: «قبورهم»!

(1/266)


بيوتكم كما يصلِّي هذا المتخلِّف في بيته لتركتم سُنَّة نبيِّكم، ولو تركتم سُنَّة نبيِّكم لضَلَلْتم» (1). قال: وإنَّما معنى هذه الرِّواية ـ والله أعلم ـ أنَّ فعلها في البيت جائزٌ لآحاد النَّاس إذا كانت تُقَام في المساجد. فيكون فِعْلُها في المساجد (2) فرض كفايةٍ على هذه الرِّواية، وعلى الأخرى فرض عينٍ. قال: ويدلُّ على ذلك جواز الجمع بين الصَّلاتين للأمطار. ولو كان الواجب فعل الجماعة فقط، دون الفعل في المسجد لما جاز الجمع لذلك؛ لأنَّ أكثر الناس قادرون على الجماعة في البيوت، فإنَّ الإنسان غالبًا لا يخلو أنْ يكون (3) عنده زوجة أوولدٌ أوغلامٌ أوصديق، أونحوهم، فيمكنهما (4) الصَّلاة جماعةً، وغير ذلك (5). فلا يجوز ترك الشَّرط ـ وهو الوقت ـ من أجل سُنَّة (6). فلمَّا جاز الجمع عُلِمَ أنَّ الجماعة في المساجد فرضٌ، إمَّا على الكفاية، وإمَّا على الأعيان». هذا كلامُه. _________ (1) تقدَّم تخريجه (ص/228) وأنه في مسلم. (2) هـ وط: «المسجد». (3) هـ وط: «تكون». (4) هـ: «نحوها»، ض وس: «نحوه». ط: «فيمكنه». (5) «وغير ذلك» ليست في ط. (6) هـ وط: «السنة».

(1/267)


ومن تأمَّل السُّنَّة حقَّ التَّأمُّل تبيَّن له أنَّ فعلها في المساجد فرضٌ على الأعيان، إلَّا لعارضٍ يجوز معه ترك الجمعة والجماعة. فترك حضور المسجد لغير عذرٍ كترك أصل الجماعة لعذرٍ، وبهذا تتَّفق (1) جميع الأحاديث والآثار. ولمَّا مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبَلَغ أهلَ مكة موتُه خطَبَهُم سُهَيلُ (2) بن عمروٍ، وكان عتَّاب بن أَسِيد ـ عامله على مكَّة ـ قد تَوَارى خوفًا من أهل مكة، فأخرجه سُهَيل، وثبَّت أهل مكَّة على الإسلام. فخطبهم بعد ذلك عتَّابٌ (3)، وقال: «يا أهل مكَّة (4)، والله لا يبلُغُنِي أنَّ أحدًا منكم تخلَّفَ عن الصَّلاة في المسجد في الجماعة إلَّا ضربتُ عُنُقَه» (5). وشَكَرَ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الصَّنِيع، وزاده رفعةً في أعينهم. فالذي ندين الله به أنَّه لا يجوز لأحدٍ التخلُّف عن الجماعة في المسجد، إلَّا من عذرٍ. والله أعلم. _________ (1) ط: «الجماعة لغير عذر». س: «يتفق». (2) «أهل» ليست في ض. س: «سهل» وكذا في الموضع التالي بعده. (3) ض زيادة: «بن أسيد». (4) «على الإسلام .. مكة» سقطت من هـ. (5) ذكره بنحوه ابن هشام في السِّيرة (6/ 89) بلفظ: «فمن رابنا ضربنا عنقه»، وليس فيه: «تخلَّف عن الصَّلاة في المسجد»، ويُنْظَر: البداية لابن كثير (8/ 172) وغيره.

(1/268)


فصْلٌ وأمَّا المسألة العاشرة (1)، وهي: حكم من نَقَر الصَّلاة، ولم يتمَّ ركوعها ولا سجودها. فهذه المسألة قد شفى فيها (2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكفى، وكذلك أصحابه من بعده. فلا مَعْدل لناصحِ نفسِهِ عمَّا جاءت به السُّنَّة في ذلك. ونحن نسوق مذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في ذلك بألفاظه. فعن أبي هريرة: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد، فدخل رجلٌ فصلَّى، ثمَّ جاء فسلَّم على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فرَدَّ عليه السَّلام، فقال: «ارجع، فَصَلِّ؛ فإنَّك لم تُصَلِّ» ثلاثًا (3). فقال: والذي بعثك بالحقِّ ما أُحْسِن غيره! فعلِّمْنِي. قال: «إذا قُمْتَ إلى الصَّلاة فأسْبِغ الوضوء، ثُمَّ استقبل القِبْلة، فكبِّر، ثُمَّ اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن، ثُمَّ اركع حتى تطمئنَّ راكعًا، ثُمَّ ارفع حتى تعتدل (4) قائمًا، ثُمَّ اسجد حتى تطمئنَّ ساجدًا، ثُمَّ ارفع حتى تطمئنَّ جالسًا، ثُمَّ اسجد حتى تطمئنَّ ساجدًا (5)، ثُمَّ افعل ذلك في _________ (1) ض وط: «التاسعة»، هـ: «العاشر». وتقدَّم التنبيه على خطأ العد المتوالي. (2) «فيها» ليست في هـ وط. (3) «ثلاثًا» ليست في س. وبدلًا منها أعيدت جملة: «فرجع فصلَّى كما صلَّى، ثمَّ جاء فسلَّم على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ارجع فَصَلِّ فإنَّك لم تُصَلِّ» ثلاث مراتٍ. (4) هـ وط: «تعدل». (5) «ثم ارفع .. ساجدًا» ليست في ض وس.

(1/269)


صلاتك (1) كلِّها». متَّفقٌ على صِحَّته، وهذا لفظُ البخاري (2). وفيه دليلٌ على تعيُّن التَّكبير للدُّخول في الصَّلاة، وأنَّ غيره لا يقوم مقامَه، كما يتعيَّن (3) الوضوء، واستقبال القبلة. وعلى وجوب القراءة وتقيِيدها (4) بما تيسَّر لا ينفي تعيُّن الفاتحة بدليلٍ آخر؛ فإنَّ الذي قال هذا هو الذي قال: «كُلُّ صلاةٍ لا يُقرأ فيها بأُمِّ القرآن فهي خداجٌ» (5)، وهو الذي قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (6). ولا تُضْرَبُ سُنَّتُه (7) بعضُها ببعضٍ. وفيه (8) دليلٌ على وجوب الطُّمأنينة، وأنَّ مَنْ تَرَكَها لم يفعل ما أُمِرَ به، فيبقى مُطَالبًا بالأمر. وتأمَّل أمره بالطُّمأنينة في الركوع، والاعتدال في الرَّفع منه؛ فإنَّه لا يكفي مجرَّد الطُّمأنينة في ركن الرفع حتى يعتدل _________ (1) ط: «صلواتك». (2) البخاري (757)، ومسلم (397). (3) س: «تعين». (4) ط: «تقيدها». (5) أخرجه مسلم (395)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، بلفظ: «من صلَّى صلاةً لم يقرأ .. ». (6) تقدم تخريجه (ص/144) وأنه في الصحيحين. (7) ض وس: «يضرب». ط: «سننه». (8) هـ: «وفي».

(1/270)


قائمًا، فيجمع (1) بين الطُّمأنينة والاعتدال. خلافًا لمن قال (2): إذا ركع ثُمَّ سجد من ركوعه ولم يرفع رأسه صحَّت صلاتُه! فلم يكتف مَنْ شَرَع الصلاة بمجرد الرفع حتى يأتي به كاملًا، بحيث يكون (3) معتدلًا فيه. ولا ينفي هذا وجوب التَّسبيح في الركوع والسُّجود، والتَّسميع والتَّحميد في الرفع منه (4) بدليلٍ آخر؛ فإنَّ الذي قال هذا وأَمَر به هو الذي أمر بالتَّسبيح في الركوع، فقال لمَّا نزلت {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة/74] (5): «اجعلوها في ركوعكم» (6). وأَمَرَ بالتَّحميد _________ (1) س: «فجمع». هـ وط زيادة: «قلنا» قبلها. (2) هو مذهب أبي حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن. فعندهما أنَّ الاستواء بعد الركوع قائمًا ليس بفرضٍ، وكذا الجلسة بين السَّجدتين، والطُّمأنينة في الركوع والسُّجود. يُنْظَر: شرح فتح القدير لابن الهمام (1/ 210). (3) ض زيادة: «العبد». (4) «والسجود»، و «منه» ليستا في هـ وط. (5) هـ وط بعده: «قال». (6) أخرجه أحمد (4/ 155)، وأبوداود (869)، وابن ماجه (887)، وابن خزيمة (600)، وابن حبَّان (1898)، والحاكم (1/ 347)، و (2/ 519)، وقال: «صحيح الإسناد»، من طرقٍ عن موسى بن أيوب الغافقي عن إياس بن عامر عن عقبة بن عامر الجهني بنحوه، وتتمَّة الحديث: فلمَّا نَزَلَت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى/1] قال: «اجعلوها في سجودكم». وحسَّن النَّووي إسناده في المجموع (3/ 372). ... = = ... وقال أبوداود عقبه: «انفرد أهل مصر بإسناده .. ». وضعَّفه الألباني في الإرواء (334)؛ لجهالة إياس بن عامرٍ. ولكن إياس بن عامر قال عنه ابن حبان في صحيحه عقب حديثه: «من ثقات المصريين»، وقال الحاكم في المستدرك (1/ 347): «صحيح الإسناد، وقد اتَّفقا على الاحتجاج برواته، غير إياس بن عامرٍ، وهو عمُّ موسى بن أيوب القاضي، ومستقيم الإسناد»، وقال في (2/ 519): «صحيح الإسناد». وقال ابن حجر في التهذيب (1/ 196): «قال العجليُّ: لا بأس به، وذكره ابن حبَّان في الثِّقات، وصحَّح له ابن خزيمة، ومن خطِّ الذَّهبيِّ في تلخيص المستدرك: ليس بالقوي». وقال في التقريب (589): «صدوقٌ». ولكن في سؤالات ابن أبي شيبة لابن المديني (ص/160): «موسى بن أيوب الغافقي فقال: كان ثقة، وأنا أنكر من أحاديثه أحاديث رواها عن عمِّه، فكان يرفعها».

(1/271)


في الرَّفع، فقال: «إذا قال الإمام (1): سَمِع اللهُ لمن حمِدَه فقولوا: ربَّنا ولك الحمد» (2). فهو الذي أَمَرَنا (3) بالرُّكوع، وبالطُّمأنينة فيه، وبالتَّسبيح، والتَّحميد. وقال في الرَّفع من السُّجود: «ثم ارفع حتى تطمئنَّ جالِسًا» (4)، وفي _________ (1) «الإمام» ليست في ض وس. (2) أخرجه البخاري (796)، ومسلم (409)، من حيث أبي هريرة بنحوه. (3) ض وس: «أمر». (4) تقدم تخريجه (ص/270).

(1/272)


لفظٍ (1): «حتى تعتدل جالسًا» (2). فلم يكتف بمجرَّد الرَّفع كحدِّ السَّيف حتى تحصل الطُّمأنينة والاعتدال. ففيه أمرٌ بالرَّفع، والطُّمأنينة فيه، والاعتدال. ولا يمكن التمسُّك بما لم يُذْكَر في هذا الحديث على إسقاط وجوبه عند أحدٍ من الأئمَّة؛ فإنَّ الشَّافعي يوجب الفاتحة، والتَّشهُّد الأخير، والصَّلاة على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولم يُذْكَر فيه. وأبوحنيفة يوجب الجلوس مقدار التشهُّد، والخروج من الصَّلاة بالمنافي، ولم يُذْكَر ذلك فيه. ومالكٌ يوجب التَّشهُّد، والسَّلام، ولم يُذْكَر فيه. وأحمد يوجب التَّسبيح في الركوع والسُّجود، والتَّسميع والتَّحميد، وقول: «ربِّ اغفر لي»، ولم يُذْكَر في الحديث. فلا يمكن لأحدٍ أنْ يُسْقِط كُلَّ ما لم يذكر فيه. فإنْ قيل: فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أقرَّه على تلك الصَّلاة مرَّتين، ولو كانت باطلةً لم يقرَّه عليها؛ فإنَّه لا يُقِرُّ على باطلٍ (3). قيل: كيف يكون قد أقرَّه وهو - صلى الله عليه وسلم - يقول له: «ارجع فصَلِّ، فإنَّك لم تُصَلِّ»؟ فأَمَرَه (4)، ونفى عنه مُسَمَّى الصَّلاة التي شرعها، وأيُّ إنكارٍ أبلغ من هذا! _________ (1) س زيادة: «آخر». (2) أخرجه ابن خزيمة (590). وصححَّه ابن الملقِّن في البدر المنير (3/ 670). (3) هـ: «الباطل». (4) هـ زيادة: «بالصلاة».

(1/273)


فإنْ قيل: فهو لم يُنْكِر عليه في نفس الصَّلاة. قيل: نعم؛ لما في ذلك من التَّنفير له، وعدم تمكينه (1) من التَّعليم كما ينبغي، كما أقرَّ الذي بال في المسجد على إكمال بولته (2) حتى قَضَاها، ثمَّ علَّمه (3). وهذا من رِفْقِه، وكمال تعليمه، ولطفه. صلوات الله وسلامُه عليه. فإنْ قيل: فهلَّا قال له في نفس الصلاة: اقطعها. قيل: كما (4) لم يَقُل للبَائِل: «اقطع بولك»، (5) وأولى. نعم، لو أقرَّهُ على تلك الصَّلاة، ولم يأمره بإعادتها، ولم ينف عنه مسمَّى الصَّلاة الشَّرعية كان فيه متمسَّكًا لكم. _________ (1) ض وهـ وط: «تمكنه». (2) ط: «بوله». (3) يشير إلى ما أخرجه مسلمٌ (285)، عن أنسٍ رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء أعرابيٌّ، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَهْ مَهْ! قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُزْرِمُوه، دَعُوْه»، فتركوه حتى بال، ثُمَّ إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه فقال له: «إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيءٍ من هذا البول ولا القذر؛ إنَّما هي لذكر الله عز وجل، والصَّلاة، وقراءة القرآن» .. قال: فأمر رجلًا من القوم، فجاء بدلوٍ من ماءٍ فشنَّه عليه. (4) «كما» ليست في هـ وط. (5) ط زيادة: «وهذا».

(1/274)


فإنْ قيل: قوله: «لم تُصَلِّ» أي: لم تصلِّ صلاةً كاملةً. قلنا: وكذلك نقول سوى أنَّ من لم تصحَّ صلاته لم يُصَلِّ صلاةً كاملةً (1)، وإنَّما الممتنع أنْ تكون له صلاةٌ صحيحةٌ، قد أخلَّ ببعض مستحبَّاتها، ثم يقول (2) له: «ارجع، فصَلِّ، فإنَّك لم تصل»، هذا في غاية البطلان! وعن رفاعة بن رافعٍ: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما هو جالسٌ في المسجد يومًا ونحن معه إذْ جاء رجلٌ كالبَدَويِّ، فصلَّى فأخفَّ صلاته، ثم انْصَرَف، فسَلَّم على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «وعليك (3)، فارجع فَصَلِّ؛ فإنَّك لم تُصَلِّ». ففعل ذلك مرَّتين أوثلاثًا، كُلَّ ذلك يأتي النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فيُسلِّم على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فيقول النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (4): «وعليك، فارجع فَصَلِّ؛ فإنَّك لم تُصلِّ». فعاف (5) النَّاس وكبُرَ عليهم أنْ يكون مَنْ أخَفَّ صلاتَه _________ (1) «قلنا .. كاملة» سقطت من هـ وط. (2) ض: «الممتنع أن يصلي صلاة .. أخل بنقض .. ثم أقول». (3) «النبي» ليست في ط، وفي هـ زيادة: «له»، و «وعليك» ليست في س. (4) «فيسلم على .. فيقول النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -» ليست في ض. (5) كلمة «فعاف» كذا وقعت في النُّسخ كلِّها. وهكذا هي في مخطوطة السنن ـ نسخة الكروخي (25/ب)، وصحَّح عليها، وكتب في هامشها: «فخاف»، وكأنَّها إشارة إلى نسخةٍ. وفي طبعة بشَّار عوَّاد من سُنن التِّرمذي (1/ 333) وطبعة شعيب الأرناؤوط (1/ 356)، وفي شرح السُّنَّة للبغوي (553)؛ حيث أخرج الحديث من طريق التِّرمذي، وفي جامع الأصول لابن الأثير (5/ 420)؛ حيث نصَّ على سياق الترمذي. وأشار بشَّار إلى أنَّه وقع في بعض النسخ: «فخاف»، وخطَّأه. بينما صوَّب الشيخ أحمد شاكر في طبعته للسُّنن (1/ 102) «فخاف» وأثبتها، وخطَّأَ في هامشه ما هنا. وهو كذلك في المطبوع من صحيح ابن خزيمة (545).

(1/275)


لم يُصَلِّ. فقال الرجل في آخر ذلك: فأرني وعلِّمْنِي؛ فإنَّما أنا بشرٌ، أصيب وأخطئ! فقال: «أجل، إذا قُمْتَ إلى الصَّلاة، فتوضَّأ كما أمر الله، ثم تشهَّد، وأقم، فإنْ كان معك قرآنٌ فاقرأ، وإلَّا فاحمد الله وكبِّره وهلِّلْه، ثم اركع فاطمئنَّ راكعًا، ثم اعتدل قائمًا، ثم اسجد فاعتدل ساجدًا، ثم اجلس فاطمئنَّ جالسًا (1)، ثم قُمْ، فإذا فعلت ذلك فقد تمَّتْ صلاتُك، وإنْ انتقصت منه شيئًا انتقصت من صلاتك». قال: فكان هذا أهون عليهم من الأوَّل (2)، أنَّه من انتقص من ذلك (3) شيئًا انتقص من صلاته، ولم تذهب (4) كلُّها. رواه الإمام أحمد (5)، وأهل «السُّنَن» (6). _________ (1) هـ تكرَّرت جملة: «ثم اسجد فاعتدل ساجدًا، ثم اجلس فاطمئنَّ جالسًا» مرتين. (2) هـ: «أول». (3) هـ وط: «هذا». (4) ط: «تنقص». (5) (4/ 340). (6) أبوداود (858)، والنَّسائي (1053)، والتِّرمذي (302) وهذا لفظه، وقال: «حديث حسنٌ، وقد رُوِيَ عن رفاعة هذا الحديث من غير وجهٍ»، وأخرجه ابن ماجه مختصرًا (460). وصحَّحه ابن خزيمة (545)، وابن حبان (1787)، وقال الحاكم (1/ 368): «صحيحٌ على شرط الشَّيخين». وتعقَّبه الألباني في الإرواء (289) فقال: «على شرط البخاريِّ وحده؛ فإنَّ عليَّ بن يحيى بن خلَّاد لم يخرج له مسلم شيئًا». وقد اختُلِف في إسناده كما تقدَّم من كلام التِّرمذي، ويُنْظَر: علل ابن أبي حاتم (1/ 82).

(1/276)


وفي رواية أبي داود (1): «وتقرأ بما شئت من القرآن، ثم تقول: الله أكبر». وعنده: «فإنْ كان معك قرآنٌ فاقرأ به». وفي روايةٍ لأحمد (2): «إذا أردْتَ أنْ تصلِّي فتوضَّأ، فأحْسِن وضوءك، ثم استقبل القبلة فكبِّر، ثم اقرأ بأمِّ القرآن، ثم اقرأ بما شِئْت، فإذا رَكَعْت فاجعل راحتَيْك (3) على رُكبَتَيْك، وامدُد ظهرَك، ومكِّن لركوعك، فإذا رَفَعْتَ رأسك فأقم صُلْبَك، حتى ترجع العِظام إلى مفاصلها، فإذا سجدْتَ فمكِّن لسجودك، فإذا رَفَعْتَ رأسك فاعتمد (4) على فخذك اليُسْرَى، ثم اصنع ذلك في كُلِّ ركعةٍ وسجدةٍ». فإذا ضَمَمْتَ قولَه في هذا الحديث: «توضَّأ كما أَمَرَك الله» إلى قوله في الصَّفا والمروة: «ابدؤوا بما بدأ الله به» (5) أفاد وجوب الوضوء على _________ (1) حديث (861). (2) (4/ 340). (3) ض: «راحتك». (4) س: «فاجلس». وأشار في الهامش إلى المثبت أعلاه. (5) هو جزءٌ من حديث جابرٍ رضي الله عنه الطويل، في صفة حجَّته - صلى الله عليه وسلم -. وقد أخرجه النَّسائيُّ (2962) وغيره بهذا اللَّفظ: «فابدؤوا»، وصحَّحه ابن حزم في المحلَّى (2/ 48) وابن عبدالهادي في المحرَّر (ص/109). ... = = ... وأخرجه مسلم (1218) بلفظ: «أبدأُ». وأخرجه التِّرمذي (862)، وأبوداود (1905)، وابن ماجه (3074)، بلفظ: «نبدأُ». ومخرج الحديث واحدٌ عند من أخرجه مع اختلاف ألفاظهم، فهو من رواية جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر رضي الله عنه به. وقد اجتمع مالك وسفيان والقطَّان على رواية «نبدأُ» بنون الجمع، وهُمْ أحفظ من غيرهم. يُنْظَر: الإلمام لابن دقيق (1/ 73)، والبدر المنير لابن الملقن (6/ 213)، والتَّلخيص الحبير (2/ 250)، والإرواء للألباني (1120).

(1/277)


التَّرتيب الذي ذكره الله سبحانه. وقوله في الحديث: «اقرأ بأمِّ القرآن، ثم اقرأ بما شئت» تقييدٌ لمطلق قوله: «اقرأ بما تيسَّر معك من القرآن». وهذا معنى قوله (1): «وتقرأ بما شئت من القرآن»، وقال: «فإنْ كان معك قرآنٌ وإلَّا فاحمد الله وكبِّره وهلِّلْه». فألفاظ الحديث يبيِّنُ (2) بعضُها بعضًا، وهي تبيُّن مراده - صلى الله عليه وسلم -، فلا يجوز أنْ يُتَعَلَّق بلفظٍ منها، ويترك بقيَّتها (3). وقوله: «ثم تقول (4): الله أكبر» فيه تعيين هذا اللَّفظ دون غيره، _________ (1) ط زيادة: «في الحديث». وفي ض وهـ: «معنى الحديث قوله». (2) ض: «تبين». (3) هـ: «نتعلق .. ونترك». س: «أويترك». (4) هـ: «يقول»، ض: «قولي»!

(1/278)


وهو التَّكبير المعهود في قوله: «تحريمها التَّكبير» (1). وقوله: «فإذا رَفَعْتَ رأسك فأقِمْ صُلبك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها» صريحٌ في وجوب الرَّفع، والاعتدال منه، والطُّمأنينة فيه. وعن أبي مسعود البدْرِيِّ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُجزئ صلاةُ الرجل حتى يقيم ظهرَه في الرُّكوع والسُّجود». رواه الإمام أحمد (2)، _________ (1) يشير إلى ما أخرجه أحمد (1/ 123)، وأبوداود (461)، والترمذي (3)، وابن ماجه (275)، كلهم من طريق عبدالله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفيَّة عن أبيه علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مفتاح الصَّلاة الطهور، وتحريمها التَّكبير، وتحليلها التَّسليم». وفي الباب حديث أبي سعيد وعائشة وغيرهما رضي الله عنهم، وحديث عليٍّ أصحُّ. قال التِّرمذيُّ عنه: «هذا الحديث أصحُّ شيءٍ في هذا الباب وأحسن، وعبدالله بن محمد بن عقيل هو صدوقٌ، وقد تكلَّم فيه بعض أهل العلم من قِبَل حفظه .. وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: كان أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم والحميدي يحتجُّون بحديث عبدالله بن محمد بن عقيل». وقد حسَّن حديث عليٍّ رضي الله عنه البغويُّ في شرح السُّنَّة (3/ 17)، وصحَّحه الحاكم وابن السَّكن كما في التَّلخيص الحبير (1/ 216)، وصحَّح إسناده ابن حجر في الفتح (2/ 323)، وحسَّنه الألباني في الإرواء (300) ثمَّ صحَّحه بمجموع شواهده. (2) (4/ 119).

(1/279)


وأهل «السُّنن» (1)، وقال التِّرمذي: «حديث حسنٌ صحيحٌ». وهذا نصٌّ صريحٌ في أنَّ الرَّفع من الرُّكوع، وبين السَّجدتين (2)، والاعتدال فيه، والطمأنينة فيه (3) ركنٌ لا تصحُّ الصلاة إلَّا به. وعن علي بن شيبان قال: خَرَجْنا حتى قَدِمْنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبايعناه، وصلَّيْنَا خلفه، فلَمَحَ بمُؤْخِرِ عينه (4) رجلًا لا يُقِيْم صلاتَه ــ يعني: صُلْبَه في الركوع والسُّجود ــ، فلمَّا قَضَى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا معشر المسلمين، لا صلاة لمن لم يُقِمْ صُلْبَه في الركوع والسُّجُود». رواه _________ (1) أبوداود (855)، والنسائي (1027)، والترمذي (265)، وابن ماجه (870)، وغيرهم، من طريق عمارة بن عمير عن أبي معمر عبدالله بن سخبرة الأزدي عن أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري رضي الله عنه بألفاظ متقاربةٍ. وقد صحَّحه التِّرمذي وابن خزيمة (591)، وابن حبَّان (1892)، والبيهقي (2/ 88)، فقال: «إسنادٌ صحيحٌ»، والبغوي في شرح السُّنَّة (3/ 98) فقال: «حسنٌ صحيحٌ». (2) ض وط: «السجود». (3) «فيه» ليست في ض. (4) هـ: «فألح بمؤخر». تحريفٌ. ط: «عينيه». وقوله: «مُؤْخِر» هذا الضَّبط الصَّحيح لها. قال الفيُّومي في المصباح (ص/7): «ساكن الهمزة: ما يلي الصُّدغ»، وفي مختار الصِّحاح (ص/4): «بوزن مُؤْمِن: ما يلي الصُّدْغ».

(1/280)


الإمام أحمد (1)، وابن ماجه (2). وقوله: «لا صلاة» يعني: تجزئه (3)؛ بدليل قوله: «لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسُّجود». ولفظ أحمد في هذا الحديث: «لا ينظر الله إلى رجلٍ لا يقيم صُلْبه بين ركوعه وسجوده». وعن أبي هريرة: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (4): «لا ينظر الله إلى صلاة رجلٍ لا يقيم صُلْبَه بين ركوعه وسجوده». رواه الإمام أحمد (5). _________ (1) المسند (4/ 23). (2) حديث (871). وأخرجه ابن خزيمة (593)، وابن حبَّان (1891)، والبيهقي (3/ 105) وغيرهم، من طريق عبدالله بن بدرٍ عن عبد الرحمن بن علي عن أبيه علي بن شَيْبان رضي الله عنه مرفوعًا بنحوه. قال الذَّهبيُّ في المهذَّب (2/ 1036): «إسناده صالحٌ»، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (324): «إسنادٌ صحيحٌ، رجاله ثقاتٌ». (3) ض وس: «مجزية». (4) «أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال» ليست في ض. (5) المسند (2/ 525). من طريق عامر بن يساف ثنا يحيى بن أبي كثير عن عبدالله بن بدر الحنفي عن أبي هريرة رضي الله عنه به. قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: «بإسناد صحيحٍ». وفي إسناده: عامر بن عبدالله بن يساف، وثَّقه ابن معين وقال أبوحاتم: صالحٌ، وقال أبوداود: ليس به بأسٌ، رجل صالح، وقال العجلي: يكتب حديثه وفيه ضعفٌ، وذكره ابن حبان في الثَّقات، وقال ابن عديٍّ: منكر الحديث عن الثقات، ومع ضعفه يكتب حديثه. يُنْظَر: الكامل لابن عدي (5/ 85)، واللِّسان لابن حجر (3/ 224).

(1/281)


وفي «سنن البيهقي» (1)، عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجزئ صلاةٌ لا يقيم الرجل فيها صُلْبَه في الركوع والسُّجود». وقد نهى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن نَقْر المصلِّي صلاته، وأخبر أنَّها صلاة المنافقين. ففي «المسند» (2)، و «السُّنن» (3)، من حديث عبدالرحمن بن شبل قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نقرة (4) الغراب، وافتراش السبع، وأنْ _________ (1) السُّنن الكبرى (2/ 88)، وقال: «تفرَّد به يحيى» يعني: ابن أبي بكير، وقال الذَّهبي في المهذَّب (2302): «الإسناد الأوَّل أولى» يقصد: من حديث أبي معمر عن أبي مسعود. (2) (3/ 428، 444). (3) أبوداود (862)، والنسائي (1112)، وابن ماجه (1429). كلُّهم من طريق تميم ابن محمود عن عبد الرحمن بن شبلٍ رضي الله عنه مرفوعًا به. وقد أخرجه مصحِّحًا له ابن خزيمة (662)، وابن حبَّان (2277)، والحاكم (1/ 352) فقال: «حديثٌ صحيحٌ». وفي إسناده تميم بن محمود اللَّيثي قال عنه البخاري في تاريخه (2/ 154): «فيه نظر». وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وذكره العقيلي، والدولابي في الضُّعفاء، وقال العقيلي: لا يُتَابع عليه، ويُنْظَر: تهذيب التَّهذيب (1/ 451)، وميزان الاعتدال (2/ 79). فإسناده على هذا ضعيفٌ؛ لكن قد حسَّنه الألباني في الصَّحيحة (1168) بشواهد أخرى له. (4) س: «نقر».

(1/282)


يوطِّن (1) الرجل المكان في المسجد كما يوطِّن (2) البعير». فتضمَّن الحديث النَّهي في الصَّلاة عن التَّشبُّه بالحيوانات؛ بالغراب في النقرة (3)، وبالسَّبع بافتراشه ذراعيه في السُّجود، وبالبعير في لزومه مكانًا معيَّنًا من المسجد، يوطِّنُه كما يوطِّن البعير (4). وفي حديثٍ آخر: «نهى عن التفاتٍ كالتفات الثَّعلب، وإقْعَاء كإقْعَاء الكلب، ورفع الأيدي كأذناب الخيل». أخرجه أحمد (5) (6). فهذه ستُّ حيواناتٍ نهى عن التشبُّه (7) بها. _________ (1) هـ وط: «عن توطن». (2) هـ: «توطن». (3) س: «عن التشبيه .. نقره». (4) ط: «توطنه .. توطن». (5) لم أره في المسند المطبوع باللَّفظ الذي ساقه المصنِّف، ولكن فيه (2/ 311)، من طريق شريك عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أَمَرَني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاث ونهاني عن ثلاثٍ ... ونهاني عن نقرةٍ كنقرة الدِّيك، وإقعاءٍ كإقعاء الكلب، والتفاتٍ كالتفات الثعلب». وقد حسَّن إسناده المنذري في التَّرغيب (1/ 208)، والهيثمي في المجمع (2/ 80). (6) «أخرجه أحمد» ليست في هـ. (7) س: «التشبيه».

(1/283)


وأمَّا ما وَصَفَه من صلاة النَّقَّار بأنَّها صلاة المنافقين، ففي «صحيح مسلمٍ» (1) عن العلاء بن عبدالرحمن: أنَّه دخل على أنس بن مالكٍ في داره بالبصرة، حين انصرف من الظُّهر، قال: فلمَّا دخلنا عليه قال: أصلَّيْتُم العصر؟ فقلنا: إنَّما انصرفنا السَّاعة من الظُّهر، قال: تقدَّمُوا (2) فصلُّوا العصر، فقمنا فصلَّيْنَا، فلما انصرفنا قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «تلك صلاة المنافق، يجلس (3) يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قَرْنَي الشَّيطان قام فنقرها أربعًا، لا يذكر الله فيها إلَّا قليلًا». وقد تقدَّم قول ابن مسعود: «ولقد رأيتُنَا وما يتخلَّف عنها ـ يريد: الجماعة ـ إلَّا منافقٌ معلوم النِّفاق» (4). وقد قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النِّساء/142]. فهذه سِتُّ صفاتٍ في الصَّلاة من علامات النِّفاق؛ الكَسَل عند القيام إليها، ومُراءاة النَّاس في فعلها، وتأخيرها (5)، ونقرها، وقلَّة ذكر الله فيها، والتَّخلُّف عن جماعتها. _________ (1) حديث (622). (2) هـ: «فقدموا». (3) س وهـ وط: «المنافقين». س: «فجلس». (4) تقدَّم (ص/228). (5) هـ: «وتأخير وقتها».

(1/284)


وعن أبي عبدالله الأشعري قال: صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه، ثم جلس في طائفةٍ منهم، فدخل رجلٌ (1)، فقام يصلِّي، فجعل يركع وينقر في سجوده، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إليه، فقال: «تُرَوْنَ هذا لو ماتَ ماتَ على غير مِلَّة محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ينقر صلاته كما ينقر الغراب الدَّم، إنَّما مثل الذي يصلِّي ولا يركع، وينقر في سجوده كالجائع؛ لا يأكل إلَّا تمرة أو تمرتين، فما يغنيان عنه. فأسْبِغُوا الوضوء، وويلٌ للأعقاب من النَّار، فأتمُّوا الرُّكُوع والسُّجود». وقال أبوصالحٍ: فقلتُ لأبي عبدالله الأشعريِّ: من حدَّثَك بهذا الحديث؟ قال: أمراء الأجناد، خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان. كُلُّ هؤلاء سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه أبو بكر ابن خزيمة في «صحيحه» (2). _________ (1) هـ وط زيادة: «منهم». (2) حديث (665). وأخرجه ابن ماجه (455) مختصرًا، والبيهقي (2/ 89)، وأبويعلى (7184) وغيرهم، من طريق الوليد بن مسلم عن شيبة بن الأحنف عن أبي سلَّام الأسود عن أبي صالح الأشعري أنَّه سمع أبا عبدالله الأشعري رضي الله عنه فذكره. وفي إسناده شيبة بن الأحنف الأوزاعي، مجهولٌ. ولكن قال الذَّهبي في المهذَّب (1/ 534): «شيبة روى عنه أيضًا محمد بن شعيب، وما علمتُ به بأسًا، وهذا حديثٌ حسن الإسناد غريب»، وكذا حسَّن إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (185)، والهيثمي في المجمع (2/ 121).

(1/285)


فأخبر أنَّ نقَّار الصَّلاة لو مات مات على غير الإسلام. وفي «صحيح البخاري» (1)، عن زيد بن وهب قال: رأى حذيفة رجلًا لا يتِمُّ الركوع ولا السُّجود فقال: «ما صلَّيْتَ، ولو مِتَّ مِتَّ على غير الفِطرة التي فطر الله عليها محمَّدًا - صلى الله عليه وسلم -». ولو أجزأت (2) صلاةُ النَّقَّار وصحَّت لما أخرجه عن فِطرة الإسلام بالنَّقر. وقد جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِصَّ الصَّلاة وسارقها شرًّا من لصِّ الأموال وسارقها، ففي «المسند» (3)، من حديث أبي قتادة قال: قال _________ (1) حديث (791). (2) هـ وط: «أخبر أنَّ». (3) (5/ 310). وأخرجه ابن خزيمة (663)، وابن حبَّان (1888)، والحاكم في المستدرك (1/ 353) من طريق الحكم بن موسى القنطري عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن عبدالله بن أبي قتادة عن أبيه رضي الله عنه به. قال الحاكم: «صحيحٌ على شرط الشَّيخين». وقال الهيثمي في المجمع (2/ 120): «رجاله رجال الصحيح». وفي الباب حديث أبي هريرة وأبي سعيد وعبدالله بن مغفل رضي الله عنهم. وقد اختلف في إسناده؛ حيث تفرَّد الحكم بن موسى به عن حديث أبي قتادة رضي الله عنه، ورواه الأوزاعي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الدَّارقطنيُّ في علله (6/ 141): «ويشبه أنْ يكون حديث أبي هريرة أثبت». ويُنْظَر: علل ابن أبي حاتم (2/ 422).

(1/286)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أسوأ النَّاس سرقةً الذي يسرق من صلاته». قالوا: يا رسول الله، كيف يسرق من صلاته؟ قال: «لا يتمُّ ركوعها ولا سجودها»، أو قال: «لا يقيم صُلْبَه في الركوع والسُّجود». فصرَّح بأنَّه أسوأ حالًا من سارق الأموال، ولا ريب أنَّ لص الدِّين شرٌّ من لِصِّ الدُّنيا. وفي «المسند» (1)، من حديث سالم بن (2) أبي الجعد عن سلمان ــ هو الفارسي ــ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الصَّلاة مِكيال، فمَنْ وَفَى وُفِّيَ له (3)، ومن طفَّف فقد علمتم ما قاله الله في المطفِّفين». قال مالكٌ (4): «وكان يُقَال: في كُلِّ شيءٍ وفاءٌ وتطفيفٌ». فإذا توعَّدَ الله سبحانه بالويل للمطفِّفِين في الأموال، فما الظنُّ بالمطفِّفِين في الصَّلاة! وقد ذكر أبوجعفر العقيلي (5)، عن الأحوص بن حكيم عن خالد بن _________ (1) لم أره في مسند أحمد، بل لم أقف عليه مرفوعًا. وقد تقدَّم تخريجه (ص/161) موقوفًا على سلمان رضي الله عنه بإسنادٍ ضعيفٍ. (2) ط: «عن». (3) هـ: «وفى وفي قوله». (4) الموطأ (1/ 12)، بنحوه. (5) في كتابه الضُّعفاء (1/ 121). وأخرجه ـ أيضًا ـ الطيالسي (585)، والبزَّار (كشف 1/ 177) وغيرهم، كلُّهم من طريق الأحوص بن حكيم الحمصي به. ... = = ... والأحوص بن حكيمٍ الحمصي ضعيفٌ، قال ابن معين وابن المديني: ليس بشيءٍ، وضعَّفه النَّسائي. ترجمته في ميزان الاعتدال (1/ 167). وقد تقدَّم تخريج الحديث والكلام عليه من حديث أنس رضي الله عنه (ص/145).

(1/287)


معدان عن عبادة بن الصَّامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا توضَّأ العبدُ (1) فأحسن وضوءه، ثم قام إلى الصَّلاة، فأتمَّ ركوعها وسجودها، والقراءة فيها قالت له الصَّلاة: حفِظَك الله كما حفظتني، ثم يُصْعَد (2) بها إلى السَّماء ولها ضوءٌ ونورٌ، وفُتِحَت لها أبواب السَّماء، حتى تنتهي إلى الله تبارك وتعالى، فتشفع لصاحبها، وإذا ضيَّع وضوءها، وركوعها، وسجودها، والقراءة فيها قالت له الصَّلاة: ضيَّعَك الله كما ضيَّعْتَني، ثم صُعِد بها إلى السَّماء، فغُلِّقَت دونها أبواب السَّماء، ثم تُلَفُّ كما يُلَفُّ الثَّوب الخَلَق، ثم يُضْرَب بها وجه صاحبها». وقال الإمام أحمد في «رواية مهنَّا بن يحيى الشَّامي» (3): «جاء الحديث: إنَّ العبد (4) إذا توضأ فأحسن الصلاة» (5)، ثم ذكره تعليقًا. _________ (1) «العبد» ليست في س. (2) ط: «تصعد». وكذا في الموضع التالي بعده. (3) س: «الساماني». (4) «إن العبد» ليست في ض وهـ وط. (5) رسالة الصَّلاة، وهي في طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 364).

(1/288)


فصْلٌ وأما المسألة الحادية عشرة (1)، وهي: مقدار صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فهي من أجلِّ المسائل وأهمِّها، وحاجة النَّاس إلى معرفتها أعظم من حاجتهم إلى الطَّعام والشَّراب. وقد ضيَّعَها النَّاس من عهد أنس بن مالك رضي الله عنه. ففي «صحيح البخاري» (2)، من حديث الزهري قال: دخلتُ على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلتُ له (3): ما يبكيك؟ فقال: «لا أعرف شيئًا ممَّا أدركت إلَّا هذه الصَّلاة، وهذه الصَّلاة قد ضُيِّعت». وقال موسى بن إسماعيل: حدثنا مهديٌّ عن غيلان عن أنسٍ قال: ما أعرف شيئًا ممَّا كان على عهد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -! قيل: فالصَّلاة؟ قال: «أليس قد صنعتم ما صنعتم فيها! (4)». أخرجه البخاريُّ (5) عن موسى. وأنسٌ رضي الله عنه تأخَّر حتى شاهَدَ من إضاعة أركان الصَّلاة، وأوقاتها، وتسبيحها (6) في الركوع والسجود، وإتمام تكبيرات الانتقال _________ (1) ض وط: «العاشرة»، هـ: «الإحدى عشرة»، س: «الثانية عشر». (2) حديث (530). (3) «له» ليست في ض وس. (4) «ما صنعتم» ليست في هـ، وفي س: «ضيعتم ما ضيعتم». (5) حديث (529). (6) هـ: «وتسبيحا».

(1/289)


فيها= ما أنكره، وأخبر أنَّ هَدْي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بخلافه، كما ستقف عليه مفصَّلًا إنْ شاء الله. ففي «الصَّحِيْحَين» (1)، من حديث أنس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُوْجِزُ الصَّلاة ويكملها». وفي «الصَّحِيْحَين» (2)، عنه أيضًا قال: «ما صلَّيْتُ وراء إمامٍ قطُّ أخف صلاةً ولا أتمَّ من صلاة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -». زاد البخاريُّ: «وإنْ كان ليسمع بكاء الصَّبيِّ فيخفِّف مخافة أنْ تُفْتَن (3) أُمُّه». فوَصَف صلاته - صلى الله عليه وسلم - بالإيجاز والتَّمام. والإيجاز هو الذي كان يفعله، لا الإيجاز الذي (4) يظنُّه من لم يقف على مِقْدار صلاته؛ فإنَّ الإيجاز أمرٌ نسبيٌّ (5) إضافيٌّ، راجِعٌ إلى السُّنَّة، لا إلى شهوة (6) الإمام ومَنْ خلفه. فلمَّا كان يقرأ في الفجر بالسِّتين إلى المائة (7) كان هذا إيجازًا _________ (1) البخاري (706)، ومسلم (469). (2) البخاري (708)، ومسلم (469). (3) ض: «فيخف». ض وس: «تفتتن». (4) هـ وط زيادة: «كان». (5) هـ: «النبي» تحريفٌ! (6) هـ: «الشهرة» تحريفٌ! (7) يشير إلى حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه الذي في الصَّحيحين، وسيأتي ذكره قريبًا.

(1/290)


بالنِّسبة إلى ستمائة آيةٍ (1) إلى ألفٍ. ولمَّا قرأ في المغرب بالأعراف (2) كان هذا الإيجاز (3) بالنِّسبة إلى البقرة. ويدلُّ على هذا أنَّ أنسًا نفسه قال في الحديث الذي رواه أبوداود (4)، والنَّسائي (5)، من حديث عبدالله بن إبراهيم بن كيسان (6) حدثني أبي عن وهب بن مانوس (7) سمعت سعيد بن جبير يقول: _________ (1) هـ وط: «الإيجاز». و «آية» ليست في ط. (2) يشير إلى حديث زيد بن ثابت وعائشة رضي الله عنهم الذي عند البخاري، وسيأتي ذكره قريبًا. (3) «بالنسبة .. الإيجاز» ليست في ض. (4) حديث (888). (5) حديث (1135). وأخرجه أحمد (3/ 162)، والبيهقي (1/ 110) وغيرهم، كلُّهم من طريق ابن كيسان عن ابن مانوس به. قال الذَّهبي في المهذَّب (2407): «غريبٌ، لا يُعرف إلَّا بهذا السَّند». ووهب بن مانوس وقيل مابوس أوماهنوس أوميناس، قال ابن القطَّان في بيان الوهم والإيهام (4/ 169): «مجهول الحال». وقال الذَّهبي في ميزان الاعتدال (8/ 205): «ذكره ابن حبَّان في الثِّقات، وروى عنه غير واحد»، وقال في «الكاشف» (2/ 357): «ثقةٌ». ويُنْظَر في ترجمته: تهذيب الكمال للمزِّي (31/ 139). وسيأتي (ص/320) شاهدٌ للحديث عند النَّسائي وغيره بغير هذا السياق والإسناد، وتصحيح المصنِّف وغيره له. (6) هـ: «عبدالله إبراهيم .. »، س: «بن إبراهيم من كتاب» تحريفٌ! (7) هـ وط: «مايوس» تحريفٌ!

(1/291)


سمعت أنس بن مالك يقول: «ما صلَّيْتُ وراء أحدٍ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشبه صلاةً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ هذا الفتى». يعني: عمر بن عبدالعزيز. فحَزَرْنَا (1) في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحاتٍ. وأنسٌ أيضًا هو القائل في الحديث المتَّفق عليه (2): «إنِّي لا آلو أن أصلِّي بكم كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي بنا». قال ثابت: «كان أنسٌ يصنع شيئًا لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع (3) انتصب قائمًا حتى يقول القائل: قد نسي (4)، وإذا رفع رأسه من السَّجدة مكث حتى يقول القائل: قد نسي». وأنسٌ هو القائل هذا، وهو القائل: «ما صَلَّيْتُ وراء إمامٍ قطُّ أخفَّ (5) صلاةً ولا أتمَّ من صلاة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -». وحديثُه لا يُكَذِّب بعضُه بعضًا. وممَّا يبيِّن ما ذكرناه ما رواه أبوداود في «سُنَنه» (6)، من حديث _________ (1) ض: «فحررنا». (2) البخاري (821)، ومسلم (472). (3) هـ: «ركوع». (4) «إذا رفع .. قد نسي» سقطت من س. (5) «قط» سقطت من س. وفي ض: «أخف من». (6) حديث (853). وأخرجه البخاري (787)، ومسلم (472، 473) بنحوه، لكن من حديث ثابتٍ وحده.

(1/292)


حماد بن سلمة أخبرنا (1) ثابت وحميد عن أنس بن مالك قال: «ما صلَّيْتُ خلف رجلٍ أوجز صلاةً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تمام، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: «سمِعَ الله لمن حمده» قام حتى نقول: قد أوْهَم، ثم يكبِّر (2)، ثم يسجد، وكان يقعد بين السَّجدتين حتى نقول (3): قد أوْهَم». هذا سياق حديثه. فجمع أنس رضي الله عنه في هذا الحديث الصَّحيح بين (4) الإخبار بإيجاز النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الصلاة وإتمامها، وبيَّن فيه أنَّ من إتمامها الذي أخبر به إطالة الاعتدالين، حتى يظنَّ الظَّانُّ أنَّه قد أوْهَم أونسي من شدَّة الطُّول، فجمع بين الأمرين في الحديث. وهو القائل: إنَّه (5) ما رأى أوْجَزَ من صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أتمَّ. فيشبه أنْ يكون الإيجاز عاد إلى القيام، والإتمامُ إلى الركوع والسجود والاعتدالين بينهما؛ لأنَّ القيام لا يكاد يُفْعَل إلَّا تامًّا، فلا يحتاج إلى الوصف بالإتمام، بخلاف الركوع والسُّجود والاعتدالين. _________ (1) «حديث» سقطت من س، وفيه: «أنبأنا ثابت». (2) «نقول» ليست في ض. وفي س: «حتى يقول»، وفيه: «ثم كبر». (3) ض وس: «يقول». (4) ض: « .. الصحيح من». (5) «إنه» ليست في هـ وط.

(1/293)


وسرُّ ذلك: أنَّه بإيجاز القيام وإطالة الركوع والسجود والاعتدالين (1) تصير الصَّلاة تامَّة؛ لاعتدالها وتقاربها، فيَصْدُق قوله: «ما رأيتُ أوجز ولا أتمَّ من صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». وهذا هو الذي كان (2) يعتمده صلوات الله وسلامه عليه في صلاته؛ فإنَّه كان يعدلها، حيث يعتدل قيامها، وركوعها، وسجودها، واعتدالها. ففي «الصَّحيحين» (3) عن البراء بن عازب قال: «رَمَقْتُ الصلاة مع محمد - صلى الله عليه وسلم -، فوجدتُ قيامه، فركعته، فاعتداله بعد ركوعه، فسَجْدَته، فجلسته بين السَّجدتين، فسَجْدَته، فجلسته ما بين التَّسليم والانصراف= قريبًا من السواء». وفي لفظٍ لهما (4): «كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قيامه، وركوعه، وإذا رفع رأسه من الركوع، وسجوده، وما بين السَّجدتين= قريبًا من السَّواء». ولا يناقض (5) هذا ما رواه البخاريُّ (6) في هذا الحديث: «كان _________ (1) «وسر ذلك .. والاعتدالين» سقطت من س وهـ. (2) ض: «وكان هذا الذي». (3) البخاري (820)، ومسلم (471)، وهذا لفظ مسلمٍ. (4) البخاري (801)، ومسلم (471)، وهذا لفظ مسلمٍ. (5) س: «ينتاقض». (6) حديث (792).

(1/294)


ركوع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وسجوده، وبين (1) السَّجدتين، وإذا رفع رأسه، ما (2) خلا القيام والقعود قريبًا من السَّواء»؛ فإنَّ البراء هو القائل هذا وهذا؛ فإنَّه في السِّياق الأول أدخل في ذلك قيام القراءة، وجلوس التشهُّد. وليس مراده أنَّهما بقدر ركوعه وسجوده، وإلَّا ناقض السِّياقَ الثَّاني (3)؛ وإنَّما المراد أنَّ طولهما كان مناسبًا لطول الرُّكوع والسُّجود والاعتدالين، بحيث لا يظهر التَّفاوت الشَّديد في طول هذا وقِصَر هذا؛ كما يفعله كثيرٌ ممَّن (4) لا علم عنده بالسُّنَّة، يُطيل القيام جدًّا، ويخفِّف الركوع والسُّجود، وكثيرًا ما يفعلون هذا في التراويح! وهذا هو الذي أنكره أنسٌ بقوله: «ما صلَّيْتُ وراء إمامٍ قطُّ أخفَّ صلاة ولا أتمَّ من صلاة (5) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -»؛ فإنَّ كثيرًا من الأمراء في زمانه كان يطيل القيام جدًّا، فيثقل على المأمومين، ويخفِّف الركوع والسُّجود والاعتدالين، فلا يكمل الصَّلاة. فالأمران اللَّذان وصف بهما أنسٌ صلاةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هما اللَّذان كان الأمراء يخالفونهما، وصار ذلك ـ أعني: تقصير الاعتدالين ـ شعارًا، حتى _________ (1) ط: «وما بين». (2) «ما» ليست في ض وهـ. (3) هـ: «السياق الأول الثاني»، ط: «الأول والثاني». (4) س: «مما». (5) هـ: «ولا أتم صلاة من».

(1/295)


استحبَّه بعض الفقهاء، وكرِهَ إطالتهما؛ ولهذا قال ثابتٌ: «وكان أنسٌ يصنع شيئًا لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائمًا، حتى يقول القائل: قد نسي». فهذا الذي فعله أنسٌ هو الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله، وإنْ كرِهَهُ مَنْ كَرِهَه، فسُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى وأحقُّ بالاتباع. وقول البراء في السِّياق الآخر: «ما خلا القيام والقعود» بيان أنَّ ركن القراءة والتشهُّد أطول من غيرهما. وقد ظنَّ طائفةٌ أنَّ مراده بذلك قيام الاعتدال من الركوع، وقعود الفصل بين السَّجدتين، وجعلوا الاستثناء عائدًا إلى تقصيرهما، وبنوا على ذلك أنَّ السُّنَّة تقصيرهما، وأبطل من غلا منهم (1) الصلاةَ بتطويلهما. وهذا غلطٌ؛ فإنَّ لفظ الحديث وسياقه يُبْطِل ذلك، وفِعْلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهَدْيُه الثابت عنه (2) يبطل ظنَّ هؤلاء؛ فإنَّ لفظ البراء: «كان ركوعه، وسجوده، وبين السَّجدتين، وإذا رفع رأسه ما خلا القيام والقعود قريبًا من السواء». فكيف يقول: وإذا رفع رأسه من الركوع ما خلا رفع رأسه من الركوع؟! هذا باطلٌ قطعًا. وأمَّا فِعْل النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقد تقدَّم حديث أنسٍ: «أنَّه صلَّى بهم صلاة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فكان يقوم بعد الركوع حتى يقول القائل: قد نسي، ويمكث _________ (1) ط: «من كلامهم علامتهم». هـ: «من كل منهم علامتهم»! وفي ض بياضٌ. (2) «يبطل ذلك .. عنه» ليست في هـ وط.

(1/296)


بين السَّجدتين حتى يقول القائل: قد نسي (1)، وكان يقول بعد رفع رأسه من الركوع: سمع الله لمن حمده، اللَّهُم ربَّنا لك (2) الحمد، ملءَ السموات، وملءَ الأرض، وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، أهلَ الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكُلُّنا لك عبدٌ، اللَّهُم (3) لا مانع لما أعطيت، ولامُعْطِي لما مَنَعْت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجدُّ». رواه مسلم، من حديث أبي سعيد (4). ورواه من حديث ابن أبي أوفى (5)، وزاد فيه بعد قوله: «من شيءٍ بعد»: «اللَّهُمَّ طهِّرْني بالثَّلج والبَرَد والماء البارد، اللَّهُمَّ طهِّرْني من الذُّنوب والخطايا كما يُنقَّى الثَّوبُ الأبيضُ من الدَّنَس (6)». وكذلك كان هَدْيُه في صلاة اللَّيل؛ يركع قريبًا من قيامه، ويرفع رأسه بقدر (7) ركوعه، ويسجد بقدر ذلك، ويمكث بين السَّجدتين بقدر _________ (1) «ويمكث .. قد نسي» ليست في هـ وط. (2) س: «ولك». (3) «اللهم» ليست في ض. (4) حديث (477). (5) حديث (476). (6) وفي روايةٍ قبلها: «من الوسخ». (7) ض: «رأسه بعد».

(1/297)


ذلك (1). وكذلك فعل في صلاة الكسوف، أطال ركن الاعتدال قريبًا من القراءة (2). فهذا هديه الذي كأنَّك تشاهده وهو يفعله (3). وهكذا فعل خلفاؤه الرَّاشدون من بعده. قال زيد بن أسلم: «كان عمرُ يخفِّفُ القيام والقعود، ويتمُّ الركوع والسجود» (4). _________ (1) أخرجه أحمد (5/ 398)، وأبوداود (874)، والنسائي (1069)، وغيرهم، من طريق عمرو بن مرة عن أبي حمزة مولى الأنصار عن رجلٍ من بني عبسٍ عن حذيفة رضي الله عنه: «أنَّه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي من اللَّيل .. ». الحديث، وفيه: «ثم استفتح فقرأ البقرة، ثم ركع فكان ركوعه نحوًا من قيامه .. ثم رفع رأسه من الركوع، فكان قيامه نحوًا من ركوعه .. ثُمَّ سجد، فكان سجوده نحوًا من قيامه .. وكان يقعد فيما بين السَّجدتين نحوًا من سجوده». وظاهر الإسناد فيه جهالةٌ، لكن الرَّجل من عبسٍ هو: صلة بن زفر، وأبوحمزة هو طلحة بن يزيد الأنصاري، وقد صحَّحه الألباني في الإرواء (335) بعد ذكر ما تقدَّم، قال: «فالإسناد صحيحٌ متَّصلٌ، رجاله كلُّهم ثقاتٌ». وأصل الحديث عند مسلم (771) من طريق الأعمش عن سعد بن عبيدة عن المستورد بن الأحنف عن صلة بن زفر عن حذيفة قال: «صلَّيْتُ مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلةٍ، فافتتح البقرة .. » فساق نحوه مختصرًا، وليس فيه قعوده فيما بين السَّجدتين نحوًا من سجوده. (2) أخرجه البخاري (1044)، ومسلم (901)، من حديث عائشة رضي الله عنها. (3) ض: «فعله». (4) لعلَّ المقصود بعمر في هذا الأثر هو: ابن عبدالعزيز، وليس ابن الخطَّاب رضي الله عنه. وانظر ما سيأتي (ص/320).

(1/298)


فأحاديث أنسٍ رضي الله عنه كلُّها تدلُّ على أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يطيل الركوع والسُّجود والاعتدالين، زيادةً على ما يفعله أكثر الأئمَّة ـ بل (1) كلُّهم ـ إلَّا النَّادر. فأنسٌ أنكر تطويل القيام على ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله، وأنكر تقصير الركوع والسُّجود والاعتدالين عمَّا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله (2)، وقال: «كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقاربةً»، أي: (3) يقرب بعضها من بعض. وهذا موافقٌ لرواية البراء بن عازب: «أنَّها كانت قريبًا من السواء». فأحاديث الصَّحابة في هذا الباب يصدِّق بعضها بعضًا (4). فصْلٌ وأمَّا قدْر قيامِه للقراءة فقال أبو بَرْزَة الأسْلميُّ: «كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي الصُّبح، فينصرف الرجل فيعرف جليسه، وكان يقرأ في الركعتين أوإحداهما ما بين السِّتِّين إلى المائة». متَّفقٌ على صِحَّته (5). _________ (1) «بل» ليست في ض. (2) «وأنكر تقصير .. يفعله» سقطت من ط. وسقطت «يفعله» من س. (3) «أي» ليست في هـ وط. (4) س: «بأحاديث .. ». هـ وط: «تصدق .. ». هـ: «بعضها بعض». (5) البخاري (771)، ومسلم (647)، وهذا لفظ البخاري.

(1/299)


وفي «صحيح مسلمٍ» (1)، عن عبدالله بن السَّائب قال: «صلَّى لنا النَّبيُّ (2) - صلى الله عليه وسلم - الصُّبح بمكَّة، فاستفتح سورة المؤمنين (3)، حتى جاء ذِكر موسى وهارون ـ أوذِكر عيسى ـ أخَذَت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَعْلةٌ فرَكَع». وفي «صحيح مسلمٍ» (4)، عن قطبة بن مالك: أنَّه سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ (5) في الفجر: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق/10]، وربَّما قال: {ق}. وفي «صحيح مسلمٍ» (6) أيضًا عن جابر بن سمرة: «أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الفجر بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق/1]، وكانت صلاته بعدُ تخفيفًا». فقوله: «وكانت (7) صلاته بعدُ تخفيفًا» أي: بعد صلاة الصُّبح أخفَّ من قراءتها، ولم يُرِدْ أنَّه كان بعد ذلك يخفِّف قراءة الفجر عن {ق}. _________ (1) حديث (455). (2) س: «بنا». هـ: «رسول الله». (3) س: «المؤمنون». (4) حديث (457). (5) س: «يقول». (6) حديث (458). (7) «بعد» سقطت من ض. وفيه: «تخفيفًا كأنه كان .. ».

(1/300)


ويدلُّ عليه ما رواه مسلمٌ في «صحيحه» (1)، من حديث شعبة عن سماك عن جابر بن سمرة قال: «كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظُّهر بـ {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [اللَّيل/1]، وفي العصر نحو ذلك (2)، وفي الصُّبح أطول من ذلك». وفي «صحيح مسلمٍ» (3)، عن زهير عن سماك بن حرب (4) قال: سألت جابر بن سمرة عن صلاة النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «كان يخفِّف الصَّلاة، ولا يصلِّي صلاة هؤلاء». قال: وأنبأني أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الفجر بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق/1] ونحوها. فأخبر أنَّ هذا كان تخفيفه. وهذا ممَّا يبيِّن أنَّ قوله: «وكانت صلاته بعدُ (5) تخفيفًا» أي: بعد الفجر؛ فإنَّه جمع بين وصف صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتَّخفيف، وبين قراءته فيها بـ {ق}، ونحوها. وقد ثبت في «الصَّحِيح» (6)، عن أمِّ سلمة: أنَّها سمعت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - _________ (1) حديث (459). (2) هـ وط: «بنحو». (3) الموضع السَّابق. (4) هـ وط: «حارث» تحريفٌ! (5) س: «تعد». (6) البخاري (1619) بمعناه.

(1/301)


يقرأ في الفجر بالطُّور، في حجَّة الوداع، وهي تطوف من [وراء (1)] النَّاس، تسمع قراءته. وما عاش بعد حجَّة الوداع (2) إلَّا قليلًا. والطُّور قريبٌ (3) من {ق}. وفي (4) «الصَّحِيح» (5)، عن ابن عباس أنَّه قال: إنَّ أمَّ الفضل سمِعَتْهُ وهو يقرأ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [المرسلات/1]، فقالت: «يا بُنيَّ لقد ذكَّرْتَنِي بقراءَتِك هذه السُّورة، فإنَّها لآخر ما سمعتُ من النَّبيِّ (6) - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في المغرب». فقد أخْبَرَت أمُّ الفضل أنَّ ذلك آخر ما سمِعَتْهُ يقرأ بها في المغرب، وأمُّ الفضل لم تكن من المهاجرات (7)، بل هي من المستضعفين، كما قال ابن عباسٍ: «كنتُ أنا وأمِّي من المستضعفين الذين عذر الله» (8). فهذا السَّماع كان متأخِّرًا بعد فتح مكة قطعًا. _________ (1) «وراء» ليست في النُّسخ كلِّها، وتمام السياق والمعنى يقتضي إثباتها. (2) «وهي تطوف .. الوداع» سقطت من هـ وط. (3) ض وس: «قريبًا». (4) «في» سقطت من هـ. (5) البخاري (763)، ومسلم (462). (6) هـ: «رسول الله». (7) ط: «المهاجرين». (8) أخرجه البخاري (1357، 4587).

(1/302)


وفي «صحيح البخاري» (1) عن مروان بن الحكم قال: قال لي زيد (2) بن ثابتٍ: «مالَكَ تقرأ في المغرب بقِصَار المفصَّل، وقد سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ فيها بطُولَى الطُّولَيَين». وسُئِل ابنُ أبي مليكة (3) ـ أحد (4) رواته ـ ما طُولَى الطُّولَيَين؟ فقال مِنْ قِبَل نفسه: «المائدة والأعراف». ويدلُّ على صِحَّة تفسيره حديث عائشة أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: «أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف، فرَّقها في الرَّكعتين». رواه النَّسائي (5). _________ (1) حديث (764). (2) هـ وط: «لزيد» تحريفٌ! (3) كما في سنن أبي داود (812). (4) ض: «إحدى» تحريفٌ! (5) حديث (991). قال ابن القيم في حاشيته على سنن أبي داود (3/ 77): «بإسنادٍ صحيحٍ». وقال ابن الملقِّن في البدر المنير (3/ 183): «إسنادٌ حسنٌ، وذكره ابن السكن في سننه الصِّحاح، وقال: هو حديثٌ مختلفٌ فيه». وقد أعلَّ البخاري إسناد هشام عن أبيه من حديث عائشة، وصحَّحه من حديث أبي أيوب أو زيد بن ثابت، كما في علل الترمذي (ص/73). وأعلَّ أبوحاتم وصل إسناده، فقال كما في العلل لابنه (1/ 169): «هذا خطأ إنَّما هو عن أبيه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مرسلٌ». ويُنْظَر: سنن البيهقي (2/ 392) والتَّلخيص الحبير (1/ 176).

(1/303)


وروى النَّسائي (1) أيضًا من حديث ابن مسعودٍ: «أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب بالدُّخان». وفي «الصَّحِيحَين» (2) عن جُبَير بن مطعمٍ قال: «سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ (3) بالطُّور في المغرب». فأمَّا العِشاء: فقال البراء بن عازب: «سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العشاء {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين/1]، وما سمعتُ أحدًا أحسن صوتًا منه». متَّفقٌ عليه (4). وفي «الصَّحِيحَين» (5) أيضًا عن أبي رافعٍ قال: «صلَّيتُ مع أبي هريرة العَتَمَة، فقرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق/1]، فسَجَد، فقلتُ له، فقال: سجدْتُ بها خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -، فلا أزال أسجد بها _________ (1) حديث (988). وليس من حديث عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه، كما يظهر من كلام المصنِّف رحمه الله، بل من حديث معاوية بن عبدالله بن جعفر عن عبدالله بن عتبة بن مسعودٍ رفعه. وعبدالله بن عتبة بن مسعود الهذلي تابعيٌّ، لم يدرك النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. فهو مرسلٌ. وقد حسّنه ابن حجر في نتائج الأفكار (1/ 450). (2) البخاري (765)، ومسلم (463). (3) س: «قرأ». وهي رواية البخاري. (4) البخاري (769)، ومسلم (464). (5) البخاري (766)، ومسلم (578).

(1/304)


حتى ألقاه». وفي «المسند» (1)، والتِّرمذي (2)، من حديث بريدة قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العشاء الآخرة بـ {الشَّمْسِ (3) ... وَضُحَاهَا} [الشمس/1]، ونحوها من السُّور». قال الترمذي: «حديثٌ حسنٌ». وقال لمعاذٍ في صلاة العشاء (4) الآخرة: «اقرأ بـ {الشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس/1]، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى/1]، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق/1]، و {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [اللَّيل/1]». متَّفقٌ عليه (5). وأمَّا الظُّهر والعصر ففي «صحيح مسلمٍ» (6)، من حديث أبي سعيدٍ الخدري قال: «كانت صلاة الظهر تُقام فينطلق أحدُنا إلى البقيع، فيقضي _________ (1) (5/ 355). (2) حديث (309). وأخرجه النسائي (999)، كلهم من طريق زيد بن الحباب وعلي ابن الحسن بن شقيق حدثنا حسين بن واقد عن عبدالله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه به. وصححه الألباني في صفة الصلاة، الأصل (2/ 490). (3) س: «الآخرة: وَالشَّمْسِ». ورسم المصحف: {وَالشَّمْسِ}. (4) ض وس: «عشاء». (5) البخاري (705)، ومسلم (465). (6) حديث (454).

(1/305)


حاجته، ثمَّ يأتي أهله فيتوضَّأ، ثم (1) يرجع إلى المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرَّكعة الأولى». وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي بنا، فيقرأ في الظهر والعصر في الرَّكعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين (2)، ويُسْمِعُنا الآية أحيانًا، وكان يطوِّل (3) الرَّكعة الأولى من الظُّهر، ويقصِّر الثَّانية، ويقرأ في الرَّكعتين الأُخْرَيَيْن (4) بفاتحة الكتاب». متَّفقٌ عليه، ولفظه لمسلمٍ (5). وفي روايةٍ للبخاري (6) (7): «وكان يطوِّل الأولى من صلاة الصُّبح، ويقصِّر في الثَّانية». وفي روايةٍ لأبي داود (8) قال: «فظنَّنا أنَّه يريد أنْ (9) يُدْرِك النَّاسُ الرَّكعة الأولى». _________ (1) «ثم» ليست في هـ. (2) «بفاتحة الكتاب وسورتين» ليست في ض. (3) ض: «يطيل». (4) ض وس وهـ: «الأخرتين». (5) البخاري (776)، ومسلم (451). (6) س وهـ وط: «رواية البخاري». (7) حديث (759). (8) حديث (800)، من طريق معمر عن ابن أبي كثيرٍ عن عبدالله بن أبي قتادة عن أبيه. (9) «يريد أن» ليست في ض.

(1/306)


وفي «مسند الإمام أحمد» (1)، عن عبدالله بن أبي أوفى: «أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم في الرَّكعة الأولى من صلاة الظُّهر حتى لا يُسْمَع وقع (2) قدمٍ». وقال سعد بن أبي وقاصٍ لعمر: «أمَّا أنا فأمدُّ في الأُولَيَيْن، وأحذفُ في الأُخْرَيَيْن (3)، وما آلو ما اقتديتُ به من صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -»، فقال له _________ (1) (4/ 356). وأخرجه أبوداود (802)، من طريق محمد بن جحادة عن رجلٍ عن عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه به. قال ابن الملقِّن رحمه الله في البدر المنير (4/ 410 - 411): «حديثٌ ضعيفٌ بجهالة هذا الرجل، لكن قال الحافظ جمال الدِّين المزي في أطرافه: روى هذا الحديث أبو إسحاق الخميسي عن محمد بن جحادة عن كثير الحضرمي عن ابن أبي أوفى بطوله. قلتُ: والظاهر أنَّ كثيرًا هذا هو «كثير بن مُرَّة»، الذي روى عن معاذ وجماعةٍ من الصَّحابة، وهو ثقةٌ كما شهد له بذلك ابن سعد والعجلي وابن حبَّان، وقال النَّسائي: لا بأس به. فإن يكُنْه فإسناده صحيحٌ. ثم رأيت بعد ذلك في شرح المهذَّب للنَّووي: أنَّ بعض الرواة سمَّى هذا الرجل المجهول، فقال: «طرفة الحضرمي». قلتُ: فإنْ يَكُنْه ففي كتاب الأزدي: أنَّ طرفة الحضرمي لا يصحُّ حديثه». انتهى كلامه. (2) «وقع» ليست في ض. (3) ض وس: «الأولتين .. الأخرتين». وكذا في جميع المواضع التالي ذكرها في روايات حديث سعد التي يسوقها المصنِّف في الأسطر التالية.

(1/307)


عمر: «ذاك ظنِّي فيك (1)». رواه البخاري ومسلم (2). وقال أبو سعيد الخدري: «كُنَّا نَحْزِرُ قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظُّهر والعصر، فحزرنا قيامه في الرَّكعتين الأُولَيَيْن من الظُّهر قدر {الم تَنْزِيلُ} السجدة، وحَزَرْنا قيامه (3) في الأُخرَيَيْن قدر النِّصف من ذلك (4). وحَزَرْنا (5) قيامه في الرَّكعتين الأُولَيَين من العصر على قدر قراءته (6) في الأُخْرَيَيْن من الظُّهر، وفي الأُخرَيَيْن من العصر (7) على النِّصف من ذلك». وفي روايةٍ بدل قوله: «{تَنْزِيلُ} السَّجدة»: «قدر ثلاثين آية، وفي الأُخْرَيَيْن قدر خمس (8) عشرة آية. وفي العصر في الرَّكعتين الأُوْلَيَيْن في كُلِّ ركعةٍ قدر خمس عشرة، وفي الأُخْرَيَيْن قدر نِصْف ذلك». هذه الألفاظ كلُّها في «صحيح مسلمٍ» (9). _________ (1) س: «بك». (2) البخاري (755)، ومسلم (453). (3) «في الركعتين .. قيامه» سقطت من س. (4) «وحزرنا .. ذلك» ليست في ض. (5) س وهـ: «نحرز .. فحرزنا .. وحرزنا». ض: «نحرر .. فحررنا .. وحررنا». (6) كذا في النسخ كلها، وفي مسلم: «قيامه». (7) «على قدر .. العصر» سقطت من ط. (8) س: «خمسة». (9) حديث (452).

(1/308)


وقد احتجَّ به من استحبَّ قراءة السُّورة بعد الفاتحة في الأُخْرَيَيْن، وهو ظاهر الدلالة لو لم يجئ (1) حديث أبي قتادة المتَّفق على صِحَّته (2)، أنَّه كان يقرأ في الأُوْلَيَيْن بفاتحة الكتاب وسورتين، وفي الأُخْرَيَيْن بفاتحة الكتاب. فذِكْرُه (3) السُّورتين في الرَّكعتين الأُولَيين، واقتصاره على الفاتحة في الأُخرَيَيْن يدلُّ على اختصاص (4) كُلِّ ركعتين بما ذكر من قراءتهما. وحديث سعدٍ يحتمل لما (5) قال أبوقتادة، ولما قال أبوسعيد. وحديث أبي سعيدٍ ليس صريحًا في قراءة السُّورة في الأُخْرَيَيْن (6)، فإنَّما هو حَزْرٌ و تخمينٌ. وقال جابر بن سمرة: «كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظُّهر بـ {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [اللَّيل/1]، وفي العصر نحو ذلك، وفي الصُّبح أطول من ذلك». رواه مسلمٌ (7). _________ (1) ض: «الدلالة ولم يجيء». (2) تقدم (ص/306). (3) هـ وط: «فذكر». (4) هـ: «اختصار». (5) هـ: «بما». وكذا في الموضع التالي بعده. (6) ط: «الأخرتين». وفي كل المواضع من ض وس في الأسطر السبعة المتوالية: «الأولتين .. الأخرتين». (7) حديث (459).

(1/309)


وعنه: «أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظُّهر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى/1]، وفي الصُّبح بأطول من ذلك». رواه مسلمٌ (1) أيضًا. وعنه: «أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر والعصر {وَالسَّمَاءِ (2) ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج/1]، {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق/1]، ونحوهما (3) من السُّور». أخرجه أحمد (4)، وأهل «السُّنَن» (5). وفي «سنن النَّسائي» (6)، _________ (1) حديث (460). (2) ض وس: «بالسَّماء». (3) ض: «ونحوها». (4) المسند (5/ 103). (5) أبوداود (805)، والنسائي (979)، والترمذي (307). وأخرجه أيضًا ابن حبَّان (1827) وغيرهم، كلُّهم من طرقٍ عن حمَّاد بن سلمة عن سماك بن حربٍ عن جابر بن سمرة رضي الله عنه به. قال التِّرمذي: «حسنٌ صحيحٌ»، وقد صحَّحه أيضًا ابن حبَّان، والنَّووي في الخلاصة (1/ 384). (6) حديث (971). ولفظ النَّسائي: «الآية بعد الآيات». وأخرجه ابن ماجه (830)، كلاهما من طريق سلم بن قتيبة عن هاشم بن البريد عن أبي إسحاق السَّبيعي عن البراء رضي الله عنه به. والسَّبيعي كثير التَّدليس، وقد اختلط أونسي. قال العلائي في جامع التَّحصيل (145): «قال البرديجي: سمع أبوإسحاق من الصَّحابة، من البراء .. »، ثم قال العلائي: «قال أحمد العجلي: سمع أبوإسحاق من ثمانية وثلاثين صحابيًّا وحديثه عن البراء أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بناسٍ من الأنصار وهم جالسون في الطَّريق قال ابن المديني: لم يسمعه أبوإسحاق من البراء». وقد عنعن هذا الخبر مع اختلاطه، وبهما ضعَّفه الألباني في الضَّعيفة (4120). وحسَّنه الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار (1/ 437).

(1/310)


عن البراء بن عازب (1) قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي بنا الظُّهر، فنسمع (2) منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذَّاريات». وفي «السُّنَن» (3)، من حديث ابن عمر: «أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سجد في صلاة الظُّهر، ثم قام فركع، فرأينا أنَّه قرأ {تَنْزِيلُ} السجدة». _________ (1) «بن عازب» ليست في ط. (2) هـ: «فتسمع». (3) أبوداود (807). وأخرجه أحمد (2/ 83)، والحاكم (1/ 343)، والبيهقي (2/ 322)، وغيرهم، من طرقٍ عن معتمر بن سليمان ويزيد بن هارون وهشيم كلهم عن سليمان التَّيمي عن أميَّة عن أبي مجلز ــ أو سليمان عن أبي مجلزٍ دون ذكر أميَّة ــ، عن ابن عمر رضي الله عنه به. قال محمد بن عيسى الطَّبَّاع: «لم يذكر أميَّةَ أحدٌ إلَّا معتمر». وسليمان التَّيمي لم يسمع الحديث من أبي مجلز، كما في رواية أحمد في المسند، ولهذا الإرسال أشار إلى إعلاله أحمد كما في مسائل أبي داود عنه (267). وأميَّةُ ـ الواسطة بينهما ـ «لا يُعْرَف»؛ كما قال أبوداود في رواية الرملي عنه، ثمَّ الذَّهبي في المهذَّب (3328). وبه ضعَّفه ابن القطَّان في بيان الوهم والإيهام (5/ 32) والألباني. وقد صحَّحه الحاكم على شرط الشَّيخين وتابعه الذَّهبي، ثم القسطلَّاني والزَّرقاني. وكذا الحافظ ابن حجر في الفتح (2/ 378)، وحسَّنه في نتائج الأفكار (1/ 442). وأعلَّه في التَّلخيص الحبير (2/ 10) بما تقدَّم آنفًا. وينظر: البدر المنير لابن الملقِّن (4/ 264 - 265)، وتمام المنَّة للألباني (ص/271).

(1/311)


وفيه دليلٌ على أنَّه لا يُكْرَه قراءة السَّجدة في صلاة السِّرِّ، وأنَّ الإمام إذا قرأها سجد، ولا يخيَّر المأمومون بين اتِّباعه وتركِه (1)، بل يجب عليهم متابعته. وقال أنسٌ: «صلَّيتُ مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - صلاة الظُّهر، فقرأ لنا بهاتين السُّورتين في الرَّكعتين: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}». رواه النَّسائي (2). والصَّحابة رضي الله عنهم أنكروا (3) على من كان يبالغ في تطويل القيام، وعلى من كان يخفِّف الأركان، ولا سيَّما رُكْنَي الاعتدال، وعلى من كان لا يتمُّ التَّكبير، وعلى من كان يؤخِّر الصَّلاة إلى آخر وقتها، وعلى من كان يتخلَّف عن جماعتها. وأخبروا عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، التي ما زال يصلِّيها حتى مات، _________ (1) ض وهـ وط: «المأمومين .. ». هـ: «بترك اتباعه وتركها». (2) حديث (972)، من طريق محمد بن شجاع المرُّوذي قال حدثنا أبوعبيدة عبدالواحد بن واصل الحدَّاد عن عبدالله بن عبيد قال: سمعت أبا بكر بن النَّضر بن أنسٍ قال: كُنَّا بالطَّفِّ عند أنسٍ رضي الله عنه فصلَّى بهم الظُّهر، فلمَّا فَرَغ قال: «إنِّي صَلَّيْتُ مع النَّبي - صلى الله عليه وسلم - .. »، فذكره. وقد حسَّنه ابن حجر في نتائج الأفكار (1/ 440)، وفي إسناده أبوبكر بن النَّضر، وهو مجهولٌ. (3) هـ: «والصحابة أجمعين .. ». و «أنكروا» سقطت من ض.

(1/312)


ولم يذكر أحدٌ منهم أصلًا أنَّه نَقَصَ من صلاته في آخر حياته - صلى الله عليه وسلم -، ولا أنَّ تلك (1) الصَّلاة التي كان يصلِّيها منسوخةٌ. بل استمرَّ خلفاؤُه الرَّاشدون على منهاجه في الصَّلاة، كما استمرُّوا على منهاجه في غيرها. فصلَّى الصِّدِّيق صلاة الصَّبح، فقرأ فيها بالبقرة كلِّها، فلمَّا انصرف منها قالوا: يا خليفة رسول الله، كادت الشَّمس تطلع! قال: «لو طَلَعَت لم تجدنا غافلين» (2). وكان عمر يصلِّي الصُّبح بالنَّحل، ويونس، وهود، ويوسف، ونحوها من السُّور (3). _________ (1) هـ: «ولأن .. ». و «تلك» ليست في ض. (2) أخرجه عبدالرزَّاق (2711)، وابن أبي شيبة (3565) من طرقٍ عن الزِّهري عن أنسٍ رضي الله عنه بنحوه، وفيه: «فاستفتح البقرة، فقرأها في ركعتين، فقام عمر حين فرغ قال: يغفر الله لك، لقد كادت الشَّمس تطلع قبل أن تسلِّم! قال: لو طَلَعت لألفتنا غير غافلين». وهذا إسنادٌ ظاهر الصِّحَّة. وأخرجه عبدالرزَّاق (2712)، والبيهقي في الكبرى (1/ 379) من طريق قتادة عن أنسٍ بنحوه، وفيه: «فقرأ آل عمران». (3) أخرج البخاري (3700)، في قصَّة مقتل عمر رضي الله عنه، من حديث عمرو بن ميمون، وفيه: «ورُبَّما قرأ سورة يوسف أوالنَّحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى، حتى يجتمع النَّاس .. ». وأخرج ابن أبي شيبة (3566) من طريق المعتمر عن الزُّبير بن الخرِّيت عن عبدالله بن شقيق عن الأحنف قال: «صلَّيْتُ خلف عمر الغداة فقرأ يونس وهود ونحوهما». ... = = ... وأخرجه عبدالرزاق (2710) من طريق معمر عن أيوب عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد: «أنَّ عمر رضي الله عنه قرأ في صلاة الفجر بالكهف ويوسف، أو يوسف وهود، فتردَّدَ في يوسف، فلمَّا تردَّد رجع إلى أول السُّورة فقرأ، ثُمَّ مضى فيها كلِّها». وأخرجه ابن أبي شيبة (3568)، وعبدالرزَّاق (2715) من طرقٍ عن عبدالله بن عامر بن ربيعة عن عمر رضي الله عنه بنحوه.

(1/313)


قال المخفِّفُون: إنَّكم وإنْ تمسَّكْتُم بالسُّنَّة في التَّطويل فنحن أسعدُ بها منكم في الإيجاز والتَّخفيف؛ لكثرة الأحاديث بذلك وصحَّتِها، وأَمْرِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالإيجاز والتَّخفيف، وشدَّة غضبِه على المطوِّلين، وموعظته لهم، وتسميتهم منفِّرين. فعن أبي موسى (1): أنَّ رجلًا قال: والله يا رسول الله إنِّي لأتأخَّر (2) عن صلاة الغداة من أجل فلانٍ؛ ممَّا (3) يطيل بنا! فما رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في موعظةٍ أشد غضبًا منه يومئذٍ، ثم قال: «أيُّها النَّاس إنَّ منكم (4) منفِّرين، فأيُّكم ما صلَّى بالنَّاس فليتجوَّز، فإنَّ فيهم الضَّعيف والكبير وذا _________ (1) كذا في النُّسخ كلِّها، والذي في الصَّحيحين ـ كما أحال المصنِّف إليهما ـ إنَّما هو من حديث أبي مسعودٍ الأنصاري رضي الله عنه. (2) ض: «لا أتأخر»، تحريفٌ! (3) هـ: «بما». (4) ض: «أشد منه غضبا .. وقال .. إنكم». و «أيها الناس» ليست في س.

(1/314)


الحاجة». رواه البخاري، ومسلم (1). وفي رواية البُخاريِّ (2): «فإنَّ فيهم المريض والضَّعيف وذا الحاجة». وعن أبي هريرة: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أمَّ أحدُكُم فليُخَفِّف؛ فإنَّ فيهم الصَّغير والكبير (3) والضَّعيف والمريض، وإذا صلَّى وحده فلْيُصلِّ كيف شاء». رواه البخاري ومسلم، واللَّفظ لمسلمٍ (4). وعن عثمان بن أبي العاص الثَّقفي: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: «أُمَّ قومَك». قال: قلتُ: يا رسول الله، إنِّي أجد في نفسي شيئًا. قال: «اُدْنُه»، فأجلسني بين يديه، ثم وضع كَفَّه في صدري بين ثديَيَّ (5)، ثمَّ قال: «تحوَّل»، فوضعها في ظهري، بين كتِفَيَّ، ثم قال: «أُمَّ قومك، فمَنْ أَمَّ قومًا فلْيُخَفِّف؛ فإنَّ فيهم الكبير، وإنَّ فيهم المريض، وإنَّ فيهم الضَّعيف (6)، وإنَّ فيهم ذا الحاجة، وإذا صلَّى أحدُكُم وحْدَه فلْيُصَلِّ _________ (1) البخاري (704)، ومسلم (466). (2) حديث (90). (3) ض: «الكبير والصغير». (4) البخاري (703)، ومسلم (467). (5) «بين ثديي» ليست في س. (6) «فإن فيهم .. الضعيف» سقطت من هـ.

(1/315)


كيف شاء». رواه مسلم (1). وفي روايةٍ: «إذا أَمَمْتَ قومًا فأخِفَّ (2) بهم الصَّلاة» (3). وقال أنس بن مالكٍ: «كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُوجِزُ الصَّلاة ويكملها». وفي لفظٍ: «يُوجِز ويُتِمُّ». متَّفقٌ عليه (4). وقال أنس أيضًا «ما صلَّيْتُ وراء إمامٍ قطُّ أخفَّ صلاةً، ولا أتمَّ من صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان ليَسْمَعُ بكاء الصَّبيِّ فيُخَفِّف؛ مخافة أنْ تُفْتَن (5) أُمُّه». متَّفق عليه، وسياقه للبخاري (6). وعن عثمان بن أبي العاص أنَّه قال: يا رسول الله، اجعلني إمام قومي. قال: «أنت إمامهم، فاقتد بأضْعَفِهم، واتَّخذ مؤذِّنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا». رواه الإمام أحمد (7)، وأهل السُّنن (8). _________ (1) حديث (468). (2) ض: «فخفف». (3) رواها مسلم أيضًا (468). (4) البخاري (706)، مسلم (469). اللَّفظ الأوَّل للبخاري، والثاني بنحوه لمسلمٍ. (5) ض وس: «تفتتن». (6) تقدم تخريجه (ص/290). (7) المسند (4/ 21). (8) أبوداود (531)، والنسائي (672). وأخرجه ابن خزيمة (423)، والحاكم (1/ 314) وقال: «على شرط مسلمٍ»، من طرقٍ عن الجريري عن أبي العلاء عن مطرِّف ابن عبدالله عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه به. وقد صحَّحه ... = = ... ابن خزيمة والحاكم، وقال ابن عبدالهادي في التنقيح (3/ 64): «إسناده جيِّدٌ». وأخرجه التِّرمذي (209)، وابن ماجه (714) من طرقٍ عن أشعث بن سوَّار عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه بنحوه. وفي إسناده: أشعث بن سوار الكندي، وقد ضعَّفوه. وقال الترمذي عقبه: «حسنٌ صحيحٌ». وصحَّحه الألباني بطرقه في الإرواء (1492).

(1/316)


ورواه أبوداود في «سُنَنه» (1)، من حديث الجُرَيْري (2) عن السَّعدي عن أبيه أوعمِّه قال: «رَمَقْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في صلاته، فكان يتمكَّن في ركوعه وسجوده قدر ما يقول: سبحان الله وبحمده ثلاثًا». ورواه أحمد أيضًا في «مسنده» (3). وروى أبوداود في «سننه» (4)، من حديث ابن وهبٍ: أخبرني سعيد _________ (1) حديث (885). وأخرجه أحمد (5/ 271) ولكن عنده: «عن أبيه عن عمِّه». وفي إسنادهما السَّعدي وأبوه وعمُّه، وهم مجاهيل، وبهم أعلَّ ابن القطَّان الفاسي الحديثَ في بيان الوهم والإيهام (3/ 376)، وإنِ اندفعت مضرَّة جهالة الأب أوالعم لكونهما أوأحدهما صحابيًا فتبقى جهالة السَّعديِّ على حالها. وقد نقل المصنِّف كلام ابن القطَّان في حاشيته على سنن أبي داود (3/ 140) مقرًّا له. (2) ض: «الحريري». تحريفٌ! (3) تقدم ذكره في تخريج الحديث آنفًا. (4) حديث (4904). وأخرجه الضِّياء في المختارة (6/ 173) مصحِّحًا له. وقد ضعَّفه الألباني في الضَّعيفة (3468) ثم قال عن إسناده: «يحتمل التَّحسين». ثمَّ صحَّح الحديث في الصَّحيحة (3124) لشواهده، ويُنْظَر تفصيله هناك. وسيأتي كلام المصنِّف عليه في الصَّفحة التَّالية.

(1/317)


ابن عبد الرحمن (1) بن أبي العمياء أنَّ سهل بن أبي أمامة حدَّثه: أنَّه دخل هو وأبوه على أنس بن مالكٍ بالمدينة، فقال: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «لا تُشدِّدُوا على أنفسكم فيُشَدَّد عليكم؛ فإنَّ قومًا شدَّدُوا على أنفسهم، فشدَّد الله عليهم (2)، فتلك بقاياهم في الصَّوامع والدِّيارات؛ {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد/27]». هذا الذي في رواية اللُّؤْلُؤي عن أبي داود. وفي رواية ابن داسة عنه: أنَّه دخل وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة، في زمن عمر بن عبدالعزيز ـ وهو أمير المدينة ـ فإذا هو يصلِّي صلاةً خفيفةً، كأنَّها صلاة مسافر، أوقريبًا منها، فلمَّا سلَّم قال: يرحمك الله، أرأيْتَ هذه الصَّلاة، هي المكتوبة أوشيءٌ تنفَّلْتَ به؟ قال: إنَّها المكتوبة، وإنَّها لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! كان يقول: «لا تُشَدِّدُوا على أنفسكم، فيُشَدَّد عليكم؛ فإنَّ قومًا شدَّدُوا على أنفسهم فشُدِّد عليهم، فتلك بقاياهم في الصَّوامع والدِّيار؛ {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد/27]». ثم غدا من الغد، فقال: ألا تركب؛ لتنظر وتعتبر؟ قال: نعم، فركبوا جميعًا، فإذا بدِيارٍ باد أهلها، وانقضوا وفنوا، _________ (1) س: «أبي وهب». ض: «سعد»، وليس فيه: «بن عبدالرحمن». (2) «فشدد الله عليهم» ليست في هـ وط.

(1/318)


خاويةً على عروشها (1). قال: أتعرف هذه الدِّيار؟ قال: ما أعْرَفَني بها وبأهلها، هؤلاء أهل ديارٍ (2) أهلكهم البغي والحسد. إنَّ الحسد يطفئ نور الحسنات، والبغي يصدِّق ذلك أويكذِّبه، والعين تزني، والكفُّ والقَدَم والجَسَد واللِّسان (3)، والفَرْج يصدِّق ذلك أو يكذِّبه». فأمَّا سهل بن أبي أمامة فقد وثَّقه يحيى بن معين وغيره (4)، وروى له مسلمٌ. وأمَّا ابن أبي العَمْياء فمِن (5) أهل بيت المقدس، وهو وإنْ جُهِلَت حاله فقد رواه أبوداود وسكَتَ عنه؛ وهذا يدلُّ على أنَّه حسنٌ عنده (6). قالوا: وهذا يدلُّ على أنَّ الذي أنكره أنس من تغيير الصَّلاة هو شِدَّة تطويل الأئمَّة لها، وإلَّا تناقضت أحاديث أنس؛ ولهذا جمع بين الإيجاز والإتمام. وقوله: «ما صلَّيْتُ وراء إمامٍ أخفَّ صلاة ولا أتمَّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» ظاهرٌ في إنكاره التَّطويل. وقد جاء هذا مفسَّرًا عن أنس نفسه. _________ (1) ض: «على عرفها». تحريفٌ! (2) ض: «هذه ديار». (3) س: «والعين ترى والكف واللسان والقدم والجسد». (4) انظر: تهذيب الكمال للمزِّي (12/ 172). (5) ض: «فهو من». (6) نحو كلام شيخ الإسلام ابن تيميَّة في اقتضاء الصِّراط (1/ 298).

(1/319)


فروى النَّسائي (1)، من حديث العطَّاف بن خالد عن زيد بن أسلم قال: دخلنا على أنس بن مالكٍ، فقال: (2) أصلَّيْتُم؟ فقلنا: نعم. قال: «يا جارية هلمِّي لي وَضُوءًا، ما صلَّيْتُ وراء إمامٍ قطُّ أشبه (3) بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إمامكم هذا». قال زيدٌ: «وكان عمر بن عبدالعزيز يتمُّ الركوع والسُّجود، ويخفِّف القِيَام والقُعُود (4)». وهو حديثٌ صحيحٌ. وقد صرَّح بذلك (5) عمران بن الحصين لمَّا صلَّى خلف عليٍّ بالبصرة، قال عمران: «لقد ذكَّرني هذا صلاةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، _________ (1) حديث (981). وأخرجه أحمد (3/ 225)، وأبويعلى (3669)، وغيرهما، من طريق العطَّاف به. وقال ابن تيميَّة في الاقتضاء (1/ 268): «وهذا حديث صحيحٌ، فإنَّ العطَّاف بن خالد المخزومي قال فيه يحيى بن معين غير مرَّةٍ: هو ثقةٌ، وقال أحمد بن حنبل: هو من أهل مكة، ثقةٌ صحيح الحديث، روي عنه نحو مائة حديث، وقال ابن عدي: يروي قريبًا من مائة حديثٍ، ولم أر بحديثه بأسًا إذا حدَّث عنه ثقة». وتُنْظَر ترجمة العطَّاف في: تهذيب الكمال للمزِّي (20/ 138). وقد تقدَّم للحديث شاهد (ص/291 - 292). (2) «فقال» سقطت من هـ. (3) ض: «ما صليت صلاة أشبه». (4) ض: «وتخفيف». وليس فيه ولا في س: «والقعود». (5) هـ وط: «به».

(1/320)


وكانت (1) صلاة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - معتدلة، كان يخفِّف القيام والقعود، ويطيل الركوع والسُّجود». وهو حديثٌ صحيحٌ (2). وفي «الصَّحِيحَين» (3)، عن جابر بن عبدالله: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذٍ ـ لمَّا طوَّل بقومه في عشاء الآخرة ـ: «أفتَّانٌ أنت (4)؟»، أو قال: «أفاتنٌ أنت؟، ثلاث مرات؛ فلولا صلَّيْتَ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى/1]، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس/1]، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [اللَّيل/1]؛ فإنَّه يُصَلِّي وراءك الكبير والضَّعيف وذو الحاجة (5)». وعن معاذ بن عبدالله الجهني: أنَّ رجلًا من جُهَينة أخبره: «أنَّه سمع النَّبيَّ (6) - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الصُّبح {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} [الزلزلة/1] في الركعتين كلتيهما، فلا أدري نسي (7) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أم قَرَأ ذلك عمدًا». _________ (1) هـ وط: «وكان». (2) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقد أخرجه البخاري (826)، ومسلم (393) وغيرهما، بلفظ «كان إذا سجد كبَّر، وإذا رفع رأسه كبَّر، وإذا نهض من الركعتين كبَّر» وليس فيه: «وكانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - معتدلة ... الخ». (3) البخاري (705)، ومسلم (465). (4) س زيادة: «يا معاذ». (5) هـ وط: «وذا الحاجة»، وزيادة: «والصغير». (6) هـ وط: «رسول الله». (7) ط: «سها». وفي سنن أبي دواد المطبوع: «أنسي».

(1/321)


رواه أبوداود (1). وفي «صحيح مسلمٍ» (2) عن عمرو بن حريث: أنَّه سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (3)} [اللَّيل/1]. وعن عقبة بن عامر قال: «كنتُ أقود برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقته، فقال لي: أَلَا أعلِّمُك سورتين لم يُقْرَأ بمثلهما؟ قلت: بلى، فعلَّمَنِي {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، فلم يَرَني أُعْجِبْتُ (4) بهما، فلمَّا نزل للصُّبح قرأ بهما، ثم قال: كيف رأيت يا (5) عقبة؟» (6). وفي لفظٍ (7): «أَلَا أُعَلِّمُك خير سورتين قُرِئَتَا (8)؟» قلتُ: بلى. _________ (1) حديث (816). وأخرجه من طريقه البيهقي (2/ 390) عن أحمد بن صالح ثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن معاذ بن عبدالله الجهني رضي الله عنه به. إسناده حسنٌ؛ فابن أبي هلال ومعاذ الجهني لا بأس بهما، وبقيَّة رجاله ثقاتٌ. قال الحافظ في نتائج الأفكار (1/ 435): «رجاله موثقون». (2) حديث (456). (3) س: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ}! (4) ض وهـ وط: «أعجب». وفي رواية أبي داود: «سررت». (5) ط: «أيا». (6) أخرجه أحمد (4/ 149). وسيأتي تخريجه. (7) هـ وط: «وفي روايةٍ». (8) ط: «قرييا».

(1/322)


قال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}. فلمَّا نَزَل - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بهما صلاة (1) الغداة. قال: «كيف ترى يا عقبة؟». رواه الإمام أحمد، وأبو داود (2). _________ (1) «صلاة» ليست في هـ وط. (2) المسند (4/ 149، 153)، سنن أبي داود (1462)، وقد أخرجه أيضًا ابن خزيمة (535)، والحاكم (1/ 366) وغيرهم، كلُّهم من طريق معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث عن القاسم بن عبدالرحمن مولى معاوية عن عقبة بن عامر رضي الله عنه به. وأخرجه أحمد (4/ 144)، وابن خزيمة (534)، والنسائي (5437)، من طرقٍ عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر عن القاسم بن عبدالرحمن بمعناه. وأخرجه ابن خزيمة (536)، والنسائي (5434)، من طرقٍ عن سفيان عن معاوية ابن صالح عن عبدالرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عقبة بمعناه. قال ابن خزيمة (1/ 268): «أصحابنا يقولون: الثَّوري أخطأ في هذا الحديث، وأنا أقول غير مستنكرٍ: لِسُفْيَانَ أنْ يروِيَ هذا عن معاوية وعن غيره». وللحديث طرقٌ أخرى بألفاظ متقاربةٍ وزيادات في بعضها دون بعض، يُنْظَر فيها: الصحيحة للألباني (3499). وأصله عند مسلم (814) من طريق قيس بن أبي حازم عن عقبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألم تَرَ آياتٍ أنزلت اللَّيلة لم يُرَ مثلُهُنَّ قطُّ، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}». هكذا مختصرًا دون ذكر قراءته - صلى الله عليه وسلم - بهما في صلاته.

(1/323)


وفي «مسند الإمام أحمد» (1)، و «سُنن النَّسائي» (2)، من حديث عمار بن ياسر أنَّه صلَّى صلاةً (3) فأوجز فيها، فأنكروا ذلك (4)، فقال: ألم أُتِمَّ الركوع والسجود؟ قالوا: بلى. قال: «أَمَا إنِّي دعوتُ فيها بدعاءٍ، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو به: اللَّهُمَّ بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحْيِنِي ما علِمْتَ الحياة خيرًا لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرِّضا، والقصد في الفقر والغِنى، ولذَّة النَّظَر إلى وجهك، والشَّوق إلى لقائك، وأعوذ بك من ضرَّاء مُضِرَّة، ومن فتنة مُضِلَّة، اللَّهُمَّ زيِّنَّا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين». _________ (1) (4/ 264). (2) (1305). أمَّا حديث النَّسائي فأخرجه أيضًا ابن خزيمة في التَّوحيد (1/ 29)، ومن طريقه ابن حبَّان (1971)، والحاكم (1/ 705) من طرقٍ عن حماد بن زيد عن عطاء بن السَّائب عن أبيه عن عمَّار به. وعطاء قد اختلط؛ ولكنَّ حمَّادًا سمع منه قبل الاختلاط، يُنْظَر: الكواكب النَّيِّرات لابن الكيَّال (ص/324). وقد صحَّح الحديث ابن خزيمة وابن حبَّان، والحاكم فقال عقبه: «صحيح الإسناد». وقد تُوبِع السَّائب فيه أيضًا؛ فأخرجه النَّسائي (1306)، وأحمد (4/ 264) وغيرهما، من طريق شريك عن أبي هاشم الواسطي عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن عمَّار بنحوه. (3) ض: «الغدات» وليس فيه «صلاة»، س: «صلاة الغداة» ثم ضرب على الثانية. (4) ض وهـ وط: «فأنكروا عليه».

(1/324)


قالوا: فأين هذه الأحاديث من أحاديث التَّطويل صِحَّةً وكثرةً وصراحةً. وحينئذٍ فيتعيَّن حملها على أنَّها كانت في أوَّل الإسْلام؛ لمَّا كان في المصلين قِلَّة، فلمَّا كثروا، وانتشرت رفعة (1) الإسلام شُرِعَ التَّخفيف، وأُمِرَ به؛ لأنَّه أدْعَى إلى القبول (2) ومحبَّة العبادة، فيدخل فيها برغبةٍ، ويخرج (3) منها باشتياقٍ، ويبادر (4) بها الوَسْواس؛ فإنَّها متى طالت استولى الوَسْواس فيها على المصلِّي، فلا يفي ثواب إطالته بنقصان أجره. قالوا: وكيف يُقاس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيرُه من الأئمَّة؟ من (5) محبَّة الصَّحابة له، والقيام خلفَه؛ وسماع (6) صوته بالقرآن غَضًّا كما أُنْزِل، وشِدَّة رغبة القوم في الدِّين، وإقبال قلوبهم على الله، وتفريغها له في العبادة، ولهذا قال: «إنَّ منكم منفِّرين»، ولم يكونوا يَنْفِرُون من طول صلاته - صلى الله عليه وسلم - (7)، فالذي كان يحصل للصَّحابة خلفه في الصَّلاة كان _________ (1) هـ: «رفقة»، ط: «تشرف رفعة». ولعلَّ المعنى المناسب لقوله: «انتشرت رفعة الإسلام» يعني: انتشر أمر ارتفاعه وعلوِّه. والعبارة المشهورة في مثل هذا التَّعبير: «رقعة الإسلام»، يعني: قاعدته وتوسُّعه. (2) س: «داعي».ض: «أدعى القول» تحريف! (3) «إلى القبول .. ويخرج» سقطت من س. (4) هـ: «ولا يبادر»، ط: «وينادر» تحريفٌ! (5) س: «في». (6) هـ: «فاستماع»، ط: «فالسماع». (7) «غضًا كما .. صلاته - صلى الله عليه وسلم -» سقطت من ض.

(1/325)


يحملهم (1) على أنْ يَرَوا صلاته وإنْ طالت= خفيفةً على قلوبهم وأبدانهم؛ فإنَّ الإمام يحمل (2) المأمومين بقلبه، وخشوعه، وصوته، وحاله. فإذا عَرِيَ من ذلك كلِّه كان كَلًّا على المأمومين، وثِقَلًا عليهم؛ فليخفِّف من ثقله عليهم ما أمكنه؛ لئلَّا يُبَغِّضهم الصِّلاةَ (3). وقد ذَمَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخوارج بشدَّة تنطُّعهم في الدِّين (4)، وتشدُّدهم في العبادة، بقوله: «يحقِرُ أحدُكم صلاته مع صلاتهم (5)، وصيامه مع صيامهم» (6). ومَدَح الرِّفق وأهله، وأخبر عن محبَّة الله له، وأنَّه يعطي عليه ما لا يعطي على العُنْف (7)، وقال: «لن يشادَّ الدِّين أحدٌ إلَّا غَلَبَه» (8)، وقال: «إنَّ هذا الدِّين متينٌ، فأوغلوا فيه برفقٍ (9)» (10). _________ (1) ض: «كان عملهم». تحريفٌ! (2) ط: «محمل». تحريفٌ! (3) س: «للصلاة». (4) هـ وط: «لشدة». و «في الدين» ليست في ض وس. (5) «مع صلاتهم» ليست في س. ط: «صلواتهم». (6) أخرجه البخاري (3610)، ومسلم (1064) من حيث أبي سعيد الخدري. (7) س: «عنف». (8) أخرجه البخاري (39) من حديث أبي هريرة. (9) س: «رفق». (10) أخرجه عبدالله بن أحمد في زوائد مسند أبيه (3/ 199) قال: وجدُّت في كتاب أبي بخطِّ يده، ومن طريقه الضِّياء في المختارة (6/ 120) قال: حدثنا زيد بن ... = = ... الحباب قال عن عمرو بن حمزة عن خلف بن مهران أبي الربيع عن أنس رضي الله عنه به مرفوعًا. وفي إسناده: «عمرو بن حمزة» وهو ضعيفٌ، ضعَّفه الدَّارقطني، وقال ابن عديٍّ: عامَّة ما يرويه غير محفوظ، وقال البخاري: لا يُتابع على حديثه. ينظر: الميزان للذهبي (3/ 255). وقد أسنده حنبلٌ عن أحمد مثله ـ كما في المنتخب من العِلل للخلَّال (ص/90) ـ ثمَّ قال: «حدَّث به أبوعبدالله، ثم تركه، وقال: هو منكرٌ». قلتُ: فلعلَّه من الأحاديث التي أمر أحمد بمحوها من مسنده. وقد رُوِيَ من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص، ومن حديث ابن المنكدر مرَّة عن جابرٍ، ومرَّةً عن عائشةَ رضي الله عنهم، ومرَّةً مرسلًا، وهو الأصحُّ، كما قال البخاري في التاريخ الكبير (1/ 102). قال الدَّارقطني بعد أن ذكر طرفًا من طرق الحديث: «وليس فيها حديثٌ ثابتٌ». كما في العلل المتناهية لابن الجوزي (2/ 822). وانظر تفصيل طرق الحديث وتخريجها في تحقيق الشيخ شعيب الأرناؤوط للمسند (13052).

(1/326)


فالدِّين كلُّه في الاقتصاد في السَّبيل والسُّنَّة، والله تعالى يحبُّ ما داوم عليه العبد من الأعمال، والصَّلاةُ القصْدُ هي التي يمكن المداومة عليها، دون المتجاوزة في الطُّول. فصْلٌ قال المكمِّلُون للصَّلاة: أهلًا وسهلًا بكُلِّ ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعلى الرأس والعينين، وهل نُدَنْدِنُ إلَّا حول الاقتداء به، ومتابعة هدْيِهِ

(1/327)


وسُنَّته، ولا نضرب سُنَّته بعضها ببعضٍ، ولا نأخذ منها ما سهل، ونترك منها ما شقَّ علينا؛ لكسلٍ وضعف عزيمةٍ واشتغالٍ بدنيا قد ملأت القلوب، ومَلَكَت الجوارح، وقرَّت بها العيون، بدل قُرَّتِها (1) بالصَّلاة. فصارت أحاديث الرُّخصة في حقِّها شُبْهةً صادَفَت شهوةً، وفتورًا في العزم، وقِلَّة رغبةٍ في بذل الجهد في النَّصيحة في الخدمة، واستسهلت (2) حقَّ الله تعالى. وجعلت (3) كرمه وغناه من أعظم شبهاتها في التَّفريط فيه، وإضاعته، وفعله بالهوينا (4) تحلَّة القَسَم، ولهجت بقولها: ما استقصى كريمٌ حقَّه قطُّ، وبقولها: حقُّ الله مبنيٌّ على المسامحة والمساهلة والعفو، وحقُّ العباد مبنيٌّ على الشُّحِّ والضِّيق والاستقصاء. فقامت في خدمة المخلوقين؛ كأنَّها على الفرش الوثيرة، والمراكب الهنيَّة (5)، وقامت في حقِّ خدمة ربِّها وفاطرها كأنَّها على الجمر المُحْرِق، تعطيه الفضلة (6) من قواها وزمانها، وتستوفي لأنفسها كمال الحظِّ. _________ (1) س: «قررها». (2) ط: «واستهلت». (3) هـ: «رجعت». (4) هـ: «بالهويئا». (5) ط: «الهينة». (6) هـ وط: «يعطيه». ض: «بعطيه الفضيلة».

(1/328)


ولم تحفظ (1) من السُّنَّة إلَّا «أفتَّان أنت يا معاذ؟» (2)، و «أيُّها النَّاس إنَّ منكم منفِّرين» (3)! ووَضَعَت (4) الحديث على غير موضعه، ولم تتأمَّل ما قبله وما بعده. ومن لم تكن (5) قُرَّةُ عيْنِهِ في الصَّلاة، ونعيمُه وسرورُه ولذَّتُه فيها، وحياةُ قلبه، وانشراحُ صدره= فإنَّه لا يناسبه إلَّا هذا الحديث وأمثاله، بل لا يناسبه إلَّا صلاة السُّرَّاق والنَّقَّارين، فنقر (6) الغراب أولى به من استفراغ وسْعِهِ في خدمة ربِّ الأرباب. وحديث: «أفتَّانٌ أنت يامعاذ»، الذي لم يفهمه، أولى به من حديث: «كانت صلاة الظهر تقام، فينطلق أحدُنا إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثم يأتي أهله فيتوضَّأ، ثم يُدْرِك رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في الركعة الأولى» (7)! وحديث صلاته - صلى الله عليه وسلم - الصُّبح بالمعوِّذَتَيْن (8)، وكان هذا في السَّفر، _________ (1) هـ وط: «يحفظ». (2) تقدَّم تخريجه (ص/4). (3) تقدَّم تخريجه (ص/314 - 315). (4) هـ وط: «ووضعه». (5) ض: «يكن». (6) هـ وط: «فنقرة». (7) تقدَّم تخريجه (ص/305)، وأنَّه عند مسلمٍ. (8) تقدَّم تخريجه قريبًا من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.

(1/329)


أولى به من حديث صلاته في الحضر بمائة آية (1) إلى ستِّين (2)! وحديث صلاته - صلى الله عليه وسلم - المغرب بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، الذي انفرد ابن ماجه (3) بروايته، أولى به من الحديث الذي رواه البخاري في «صحيحه» (4): «أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ فيها _________ (1) «آية» ليست في س. (2) تقدَّم تخريجه (ص/299)، وأنَّه في الصَّحيحين. (3) حديث (833). وأخرجه أيضًا الطبراني في الكبير (12/ 377) وأبونعيم في أخبار أصبهان (1/ 268)، كلهم من طريق أحمد بن بديل ثنا حفص بن غياث ثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه به. قال الحافظ ابن حجر في الفتح (2/ 248): «وظاهر إسناده الصِّحَّة، إلَّا أنَّه معلولٌ، قال الدَّارقطنيُّ: أخطأ فيه بعض رواته». يريد بذلك «أحمد بن بديل»، فهو صدوق صاحب أوهام، ولا يحتمل مثله التفرُّد، وقد تفرَّد برواية هذا الحديث، وعُدَّ ذلك من أوهامه. قال الحافظ ابن عدي في الكامل (1/ 186): «يروي عن حفص بن غياث وغيره مناكير». وهذا الحديث ممَّا أُنكِرَ عليه كما ذكر الحافظ المزي في تهذيب الكمال (1/ 271) في ترجمته، ثم نقل عن النَّضر بن محمَّد قال: «ذكرت هذا الحديث لأبي زُرْعَة يعني: الرازي، فقال: من حدَّثك به؟ قلت: ابن بديل، قال: شرٌّ له!». ثم نقل عن البرقاني قال: قال لنا الدَّارقطنيُّ: «تفرَّد به حفص بن غياث عن عبيد الله». قلت: كذا في تهذيب الكمال، والذي في تهذيب التهذيب لابن حجر (1/ 17): «تفرَّد به أحمد عن حفص بن غياث». وينظر: فتح الباري لابن رجب (7/ 30 - 32). (4) حديث (764)، وقد تقدَّم (ص/303).

(1/330)


بطُولَى الطُّولَيَيْن»، وهي الأعراف. فهو يميل (1) من السُّنَّة إلى ما يناسبه، ويأخذ منها بما يوافقه، ويتلطَّف إنْ أحسن (2) في تأويل ما يخالفه، ودفعه بالتي هي أحسن! ونحن نبرأُ إلى الله من سلوك هذه الطَّريقة، ونسأله أنْ يعافينا ممَّا ابتلى به (3) أربابها، بل ندين الله (4) بكُلِّ ما صحَّ عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا نجعل بعضه لنا وبعضه علينا، فنُقِرُّ مالنا على ظاهره، ونتأوَّل ما علينا على خلاف ظاهره، بل الكُلُّ لنا، لا نفرِّق بين شيءٍ من سُنَنِه، بل نتلقَّاها كُلَّها بالقبول، ونقابلها بالسَّمع والطَّاعة، ونتبعها أين توجَّهت ركائبها (5)، وننزل معها أين نزلت مضاربها. فليس الشأن في الأخذ ببعض سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وترك بعضها؛ بل الشأن في الأخذ (6) بجميعها، وتنزيل كُلِّ شيءٍ منها منزلته، ونضعه بموضعه. فنقول وبالله التَّوفيق: الإيجاز والتَّخفيف المأمور به، والتَّطويل المنهي عنه لا يمكن أنْ يُرْجَع فيه إلى عادة طائفةٍ، وأهل بلدٍ، وأهل _________ (1) س: «ميل». ض: «فهي تميل». (2) هـ وط: «لمن خشن». (3) «به» ليست في س. (4) ط: «لله». (5) س: «ركابها». (6) ض: «بالأخذ».

(1/331)


مذهبٍ، ولا إلى شهوة المأمومين ورضاهم، ولا إلى اجتهاد الأئمَّة الذين يصلُّون بالناس، ورأيهم في ذلك؛ فإنَّ ذلك لا ينضبط، وتضطرب (1) فيه الآراء والإرادات أعظم اضطراب، ويفسد وضع الصَّلاة، ويصير مقدارها تبعًا لشهوة النَّاس. ومثل هذا لا تأتي به شريعةٌ؛ بل المرجع في ذلك والتَّحاكم إلى ما كان يفعله من شَرَع الصَّلاة للأمَّة (2)، وجاءهم بها من عند الله، وعلَّمهم حقوقها، وحدودها، وهيئاتها، وأركانها. وكان يصلِّي وراءَه الصغير، والكبير، والضعيف، وذو الحاجة (3)، ولم يكن بالمدينة إمامٌ غيره، صلوات الله وسلامه عليه. فالذي كان يفعله صلوات الله وسلامه عليه (4) هو الذي كان يأمر به؛ فإنَّه كان إذا أمر بأمرٍ كان (5) أوَّل الناس وأولاهم أخذًا به، وإذا نهى عن شيءٍ كان أحقَّ الناس وأولاهم بتركه؛ ولهذا قال شعيبٌ صلوات الله وسلامه عليه (6): {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود/88]. _________ (1) هـ وط: «ويضطرب». (2) ض: «للأيمة». (3) هـ وط: «الضَّعيف، والكبير، والصغير، وذو الحاجة». (4) هـ وط: «عليه وسلامه». (5) «كان» سقطت من ض. (6) «هو الذي كان .. وسلامه عليه» سقطت كلُّها من هـ وط.

(1/332)


وقد سُئِل بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته عن صلاته؛ فأجابوا من سألهم بصلاته التي كان يصلِّيها حتى قَبَضَه الله. كما روى قَزَعة (1) قال: رأيتُ أبا سعيدٍ الخدري وهو مكثورٌ عليه، فلمَّا تفرَّق الناس عنه قلتُ: إنِّي لا أسألك (2) عمَّا يسألك هؤلاء عنه؟ أسألك عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3)، فقال: مالَكَ في ذلك من خيرٍ (4)؟ فأعادها عليه، فقال: «كانت صلاة الظهر تُقَام، فينطلق أحدنا إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثُمَّ يأتي أهلَه، فيتوضَّأ، ثم يرجع إلى المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرَّكعة الأولى؛ ممَّا يطوِّلها». رواه مسلم في «الصَّحيح» (5). وهذا يدلُّ على أنَّ الذي أنكره أبوسعيد، وأنس، وعمران بن حصين (6)، والبراء بن عازب= إنَّما هو حذف الصَّلاة، والاختصار فيها (7)، والاقتصار _________ (1) س وض: «أبوقزعة». والتَّصويب من صحيح مسلمٍ وغيره. وهو قزعة بن يحيى، ويقال: ابن الأسود، أبو الغادية البصري. تُنْظَر ترجمته في: تهذيب الكمال (23/ 597). (2) ض: «ألا أسألك». س: «لأسألك». والتَّصويب من صحيح مسلمٍ وغيره. (3) «بعد موته ... رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» سقطت كلها من هـ وط. (4) س: «خبر». (5) حديث (454). (6) هـ وط: «الحصين». (7) س: «منها».

(1/333)


على بعض (1) ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله. ولهذا لمَّا صلَّى بهم أنسٌ قال: «إنِّي لا آلو أنْ أصلِّي بكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». قال ثابتٌ: «فكان أنسٌ يصنع شيئًا لا أراكم تصنعونه، كان إذا انتصب قائمًا يقوم حتى يقول (2) القائل: قد أوْهَمَ، وإذا جلس بين السَّجدتين مَكَث (3) حتى يقول القائل: قد أوْهَمَ (4)» (5). فهذا ممَّا أنكره أنسٌ على الأئمَّة؛ حيث كانوا يقصرون هذين الرَّكنين، كما أنكر عليهم تقصير الركوع والسُّجود، وأخبر أنَّ أشبههم صلاةً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر بن عبدالعزيز، فحَزَرُوا تسبيحه في الركوع والسُّجُود عشرًا عشرًا. ومن المعلوم أنَّه لم يكن يسبِّحها هذًّا مسرعًا (6) من غير تدبُّرٍ! فحالهم (7) أجلُّ من ذلك. وقد بُلِيَ أنسٌ بِمَنْ وهَّمَه في ذلك، كما (8) بُلِي بمن وهَّمَه في _________ (1) «بعض» ليست في ض. (2) «يقول» سقطت من هـ. (3) س: «يمكث». (4) «وإذا جلس .. أوهم» سقطت من ض. (5) تقدَّم تخريجه بنحوه (ص/292)، وأنَّه في الصَّحيحين. (6) هـ وط: «سرعًا». (7) س زيادة: «كان». (8) س: «كمن».

(1/334)


روايته ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاته الجهر بـ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، وقالوا: كان صغيرًا يصلِّي وراء الصُّفوف، فلم يكن يسمع جهرهم بها. وكما بُلِيَ بِمَن وهَّمَه في إحرام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحجِّ والعمرة معًا، وقالوا: كان بعيدًا منه، لا يسمع إحرامه، حتى قال لهم: «ما تعدُّونَنا إلَّا صبيانًا (1)! كنت تحت بطن ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسمِعْتُه يُهِلُّ (2) بهما جميعًا» (3). وقَدِم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ولأنسٍ عشر سنين، فخَدَمَه واختصَّ به، وكان يُعَدُّ من أهل بيته، وكان غلامًا كيِّسًا فَطِنًا، وتوفِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو رجلٌ كاملٌ، له عشرون سنةً، ومع هذا كلِّه فيغلط على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قراءته، وقدر (4) صلاته، وكيفية إحرامه! ويستمرُّ غلَطُه على خلفائه الراشدين من بعده، ويستمرُّ على صلاته في مؤخر المسجد، حيث لا يسمع قراءة (5) أحدٍ منهم؟ _________ (1) س: «يعدوننا .. ». ط: «صبيا». (2) س: «هل». (3) أخرجه مسلم (1232، 1233) وغيره، وسياق مسلمٍ: عن بكر بن عبدالله المزني عن أنسٍ رضي الله عنه قال: «سمعت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يلبِّي بالحجِّ والعمرة جميعًا». قال بكرٌ: فحدَّثْتُ بذلك ابن عمر فقال: لبَّى بالحجِّ وحده، فلقيتُ أنسًا فحدَّثْتُه بقول ابن عمر، فقال أنسٌ: ما تعدُّوننا إلَّا صبيانًا! سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لبَّيك عمرةً وحجًّا». (4) «قراءته وقدر» ليست في ض. (5) ط: «قراة».

(1/335)


وقد اتَّفق الصَّحابة رضي الله عنهم على أنَّ صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت معتدلةً، فكان ركوعه، ورفعه منه، وسجوده، ورفعه منه= مناسبًا لقيامه، فإذا كان يقرأ في الفجر بمائة آية إلى ستِّين آيةً فلا بُدَّ أنْ يكون ركوعُه وسجودُه مناسبًا لذلك؛ ولهذا قال البراء بن عازبٍ: «إنَّ ذلك كلَّه كان قريبًا من السَّواء» (1). وقال عمران بن حصين: «كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتدلة» (2). وكذلك كان قيامه باللَّيل وصلاة الكسوف (3). وقال عبدالله بن عمر: «إنْ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليأمُرُنا بالتَّخفيف، وإنْ كان ليَؤُمُّنا (4) بالصَّافات». رواه الإمام أحمد (5)، والنَّسائي (6). _________ (1) تقدَّم بنحوه (ص/294) وأنَّه في الصَّحيحين. (2) تقدَّم بنحوه (ص/321) وتقدم التنبيه على ما فيه. (3) تقدَّم تخريجه (ص/297 - 298). (4) هـ: «قيامنا». (5) المسند (2/ 26). (6) حديث (826). وأخرجه ابن خزيمة (1606)، وابن حبَّان (1817)، من طريق ابن أبي ذئب قال أخبرني الحارث بن عبدالرحمن عن سالم بن عبدالله عن ابن عمر رضي الله عنهما به. وقد صحَّحه ابن خزيمة وابن حبَّان. وإسناده حسنٌ، رجاله كلُّهم ثقاتٌ، غير الحارث فلا بأس به. وتُنْظَر ترجمته في: تهذيب الكمال (5/ 255)، وميزان الاعتدال (2/ 173).

(1/336)


فهذا أمرُهُ، وهذا فعلُه المفسِّر له، لا ما يظنُّ الغالط المخطئُ، أنَّه كان يأمرهم بالتَّخفيف، ويفعل هو خلاف ما أَمَر به. وقد أمر ـ صلاة (1) الله وسلامه عليه ـ الأئمَّة أنْ يصلُّوا بالنَّاس كما كان (2) يصلِّي بهم. ففي «الصَّحِيحَين» (3) عن مالك بن الحويرث قال: أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن شَبَبَةٌ متقاربون، فأَقَمْنَا (4) عنده عشرين ليلةً، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحيمًا رفيقًا، فظنَّ أنَّا قد اشتقنا أهلنا، فسَأَلَنا عمَّن تركنا من أهلنا فأخبرناه، فقال: «ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعلِّمُوهم، ومُرُوهم، فلْيُصلُّوا (5) صلاةَ كذا في حين كذا، وصلاةَ كذا في حين كذا، وإذا حَضَرَت الصَّلاة فليؤذِّن لكم أحدكم، وليؤمَّكم أكبرُكم، وصلُّوا كما رأيتموني أصلِّي». والسِّياق للبُخاري. فهذا خطابٌ للأئمَّة قطعًا، وإنْ لم يختصَّ بهم. فإذا أَمَرَهم (6) أنْ يُصَلُّوا بصلاته، وأَمَرَهم بالتَّخفيف عُلِمَ بالضَّرورة أنَّ الذي كان يفعله هو الذي (7) _________ (1) س: «صلوات». (2) س زيادة: «هو». ض: «كما هو». (3) البخاري (7246) وفي مواضع كثيرةٍ أخصر من هذا السياق، ومسلم (674). (4) س: «فأقاما». (5) هـ: «فلتصلوا». (6) س: «فأمرهم». (7) س: «والذي».

(1/337)


أَمَرَ به. يوضِّحُ ذلك أنَّه ما من فعلٍ في الغالب إلَّا وقد يُسمَّى خفيفًا بالنِّسبة إلى ما هو أطول منه، ويُسمَّى طويلًا بالنِّسبة إلى ما هو أخفُّ منه، فلا حدَّ له في اللُّغة يُرْجَع فيه إليه (1). وليس من الأفعال العُرْفِيَّة التي يُرْجَع فيها إلى العُرْف؛ كالحِرْزِ (2)، والقبض، وإحياء الموات (3). والعبادات يُرْجَع (4) إلى الشَّارع، في مقاديرها، وصفاتها، وهيئاتها، كما يُرْجَع إليه في أصلها. فلو جاز الرُّجوع في ذلك إلى عُرف النَّاس وعوائدهم في مسمَّى التَّخفيف والإيجاز لاختلفت أوضاع الصَّلاة ومقاديرها اختلافًا متباينًا لا ينضبط. ولهذا لمَّا فهم بعض من نكس الله قلبه أنَّ التَّخفيف المأمور به هو ما يمكن من التَّخفيف اعتقد أنَّ الصَّلاة كلَّما خُفِّفت (5) وأُوجِزَت كانت أفضل! فصار كثيرٌ (6) منهم يمرُّ فيها مرَّ السَّهم، ولا يزيد على «الله أكبر» في الركوع والسُّجود بسرعة، ويكاد سجوده يسبق ركوعه، وركوعه يكاد يسبق _________ (1) «إليه» ليست في هـ. (2) س: «كالحرر» تحريفٌ! (3) ط: «الأموات» تحريفٌ! (4) ض: «ترجع». وكذا في الموضع التَّالي بعده قريبًا. (5) س وط: «خفت». (6) ط: «كثيرا».

(1/338)


قراءته (1)، وربَّما ظنَّ أنَّ الاقتصار على تسبيحةٍ واحدةٍ أفضل من ثلاثٍ! ويُحْكَى عن بعض هؤلاء أنَّه رأى غلامًا له يطمئنُّ (2) في صلاته فضَرَبه، وقال: لو بَعَثك السُّلطان في شغلٍ أكنت تبطئُ في شغله مثل هذا الإبطاء! وهذا كلُّه تلاعبٌ بالصَّلاة، وتعطيلٌ لها، وخداعٌ من الشيطان، وخلافٌ لأمر الله ورسوله، حيث قال تعالى: {وَأَقِيمُوا (3) ... الصَّلَاةَ} [البقرة/43]. فأَمَرَنا (4) بإقامتها، وهو الإتيان بها قائمةً، تامَّة القيام والركوع والسجود والأذكار. وقد علَّق الله سبحانه الفلاح بخشوع المصلِّي في صلاته، فمن فاته خشوع الصَّلاة لم يكن من أهل الفلاح (5). ويستحيل حصول (6) الخشوع مع العَجَلة والنَّقر قطعًا، بل لا يحصل الخشوع قطُّ إلَّا مع الطُّمأنينة، وكُلَّما زاد طمأنينةً ازداد (7) خشوعًا، وكُلَّما قَلَّ خشوعُه اشتدَّت (8) عَجَلَتُه حتى _________ (1) ض وط: «قراته». (2) ض: «بطي». (3) ض وهـ وط: {أَقِيمُوا} دون واوٍ. (4) س: «فأمر». (5) «في صلاته .. الفلاح» سقطت من ض. (6) «حصول» ليست في ض. (7) س: «زاد». (8) ط: «اشتد».

(1/339)


تصير حركة بدنه (1) بمنزلة العَبَث، الذي لا يصحبُهُ خشوعٌ ولا إقبالٌ على العبوديَّة، ولا معرفة حقيقة (2) العبوديَّة. والله سبحانه قد قال: {أَقِيمُوا (3) الصَّلَاةَ} [البقرة/43]، وقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [المائدة/55]، وقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} [هود/114]، وقال: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [النِّساء/103]، وقال: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} [النِّساء/162]. وقال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} [إبراهيم/40]، وقال لموسى: {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه/14]. فلن تكاد (4) تجد ذكر الصلاة في موضعٍ من التَّنزيل إلَّا مقرونًا بإقامتها. فالمصلُّون في الناس قليلٌ، ومقيمو (5) الصَّلاة منهم أقل القليل، كما قال عمر رضي الله عنه: «الحاجُّ قليلٌ، والرَّكب كثير (6)» (7). _________ (1) هـ وط: «يديه». (2) س: «حقائق». (3) كذا في النُّسخ كلِّها، والآيات في كتاب الله في مثل هذا السِّياق مسبوقة بواو، كالآية السابق ذكرها قريبًا، وفي آية الأنعام [82]: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ}. (4) ض: «يكاد». (5) هـ وط: «ومقيم». (6) س: «والراكب». هـ: «كثرة». (7) لم أره عن عمر، ولكن عند عبدالرزاق (8836) أن رجلًا قال عند ابن عمر: ما أكثر الحاج، فقال ابن عمر: «ما أقلهم». ... = = ... وأخرجه عبدالرزاق (8837) من حديث شريح العراقي قال: «الحاج قليل، والركبان كثير». وفي الإحياء للغزالي (1/ 263) نحوه عن ابن عمر.

(1/340)


فالعاملون يعملون الأعمال المأمور بها على التَّرويح (1) تحلَّة القَسَم، ويقولون: يكفينا (2) أدْنى ما يقع عليه الاسم، وليتنا نأتي به! ولو علم هؤلاء أنَّ الملائكة تصعد بصلاتهم؛ فتعرضها على الرَّبِّ جل جلاله، بمنزلة الهدايا التي يتقرَّب بها الناس إلى ملوكهم وكبرائهم. فليس مَنْ عَمَدَ إلى أفضل ما يقدر عليه، فيزيِّنُه ويحسِّنُه ما استطاع، ثم يتقرَّب به إلى من يرجوه ويخافه= كَمَنْ يعمد إلى أسْقَط ما (3) عنده وأهونه عليه، فيستريح منه، ويبعثه إلى مَنْ لا يقع عنده بموقع. وليس من كانت الصَّلاة ربيعًا لقلبه، وحياةً له وراحةً، وقرَّةً لعينه، وجلاءً لحزنه، وذهابًا لهمِّه وغمِّه، ومَفْزَعًا له يلجأ (4) إليه في نوائبه ونوازله= كمن هي سَحْتٌ (5) لقلبه، وقيدٌ لجوارحه، وتكليفٌ له، وثقلٌ عليه. فهي كبيرةٌ على هذا، وقرَّة عينٍ وراحةٌ لذلك. قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا _________ (1) هـ وط: «الترويج». (2) س: «تكفينا». (3) س: «أسقاط». ض: «إلى ما أسقط». (4) هـ وط: «مضرعًا له»، وليس فيهما «يلجأ». (5) ط: «سخت». وفي هامشه: «سخت هو الشَّديد، يُقال: هذا حرٌّ سخت، يُستعمل في كلام العرب والعجم». انتهى. والسحت: العذاب والهلاك.

(1/341)


بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة/45 - 46]. فإنَّما كبرت على غير هؤلاء لخلوِّ (1) قلوبهم من محبَّة الله تعالى وتكبيره وتعظيمه والخشوعِ له، وقِلَّة رغبتهم فيه؛ فإنَّ حضور العبد في الصَّلاة، وخشوعه فيها، وتكميله لها، واستفراغه وُسْعَه (2) في إقامتها، وإتمامها= على قدر رغبته في الله. قال الإمام أحمد في رواية مهنَّا بن يحيى: «إنَّما حظُّهُم من الإسلام (3) على قدر حظِّهم من الصَّلاة، ورغبتهم في الإسلام على قَدْر رغبتهم في الصَّلاة. فاعْرف نفسك يا عبدالله، واحْذَر أنْ تلقى الله - عز وجل - ولا قدر للإسلام عندك؛ فإنَّ قدْرَ الإسلام في قلبك كقدر الصَّلاة في قلبك» (4). وليس حظُّ القلب العامر بمحبَّة (5) الله وخشيته والرَّغبة فيه وإجلاله وتعظيمه من الصَّلاة كحظِّ القلب الخالي الخراب من ذلك. فإذا وقف الاثنان (6) بين يدي الله في الصَّلاة، وقف هذا بقلبٍ _________ (1) ض: «على غيره ولا يخلو»، س: «يخلو فانهم»! (2) ط: «وسعيه». (3) س: «من الصلاة بعد الإسلام». (4) تُنْظَر رسالة الصلاة للإمام في طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 354). (5) هـ وط: «لمحبة». (6) س: «الإنسان».

(1/342)


مُخْبتٍ له (1)، خاشعٍ له، قريبٍ (2) منه، سليمٍ من معارضات السُّوء، قد امتلأت أرجاؤه بالهيبة، وسَطَع (3) فيه نور الإيمان، وكشف عنه حجاب النَّفس، ودخان الشَّهوات؛ فيرتع في رياض معاني القرآن، وخالط قلبَه بشاشةُ الإيمان بحقائق الأسماء والصِّفات، وعلوِّها، وجلالها (4)، وكمالها الأعظم، وتفرُّد الرَّب سبحانه بنعوت جلاله وصفات كماله، فاجتمع همُّه (5) على الله، وقَرَّت (6) عينه به، وأحسَّ (7) بقُرْبِه من الله قربًا لا نظير له، ففرَّغ (8) قلبه له، وأقبل عليه بكلِّيَّتِه. وهذا الإقبال منه بين إقبالين من ربِّه؛ فإنَّه سبحانه أقبل عليه أوَّلًا، فانجذب قلبه إليه بإقباله، فلمَّا أقبل (9) على ربِّه حظي منه بإقبالٍ آخر أتمَّ من الإقبال (10) الأوَّل. _________ (1) «له» ليست في هـ وط. (2) ض: «قرب». (3) ض وس: «ويسطع». (4) هـ وط: «وجمالها». (5) ض: «همته». (6) س: «وقرة». (7) هـ: «وأحسن». (8) هـ: «ففزع». (9) س: «فا تخذت النية إليه .. ». ض: «قلبه يلي قباله .. ». وكلمة: «أقبل» ليست في هـ. (10) «الإقبال» ليست في هـ وط.

(1/343)


وههنا أمرٌ عجيبٌ (1)، يحصل لمن تفقَّه قلبه في معاني الأسماء والصِّفات (2)، وخالط بشاشة الإيمان بها قلبه، بحيث يرى لكُلِّ (3) اسمٍ وصفةٍ موضعًا من صلاته، ومحلًّا منها. فإنَّه إذا انتصب قائمًا بين يَدَي الرَّب تبارك وتعالى شاهد بقلبه قيُّومِيَّته (4). وإذا قال: «الله أكبر» شاهد كبرياءه. فإذا قال: «سبحانك اللَّهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدُّك، ولا إله غيرك» شاهد بقلبه ربًّا منزَّهًا عن كُلِّ عيبٍ، سالمًا من كُلِّ نقصٍ، محمودًا بكُلِّ حمدٍ. فحَمْدُه يتضمَّنُ وصْفه بكُلِّ كمالٍ، وذلك يستلزم براءَتَه من كُلِّ نقصٍ، تبارك اسمه. فلا يُذْكَر على قليلٍ إلَّا كثَّره، ولا على خيرٍ إلَّا أنْمَاه وبارك فيه (5)، ولا على آفةٍ إلَّا أذهبها، ولا على شيطانٍ إلَّا ردَّه خاسئًا داحِرًا. وكمال الاسم من كمال مسمَّاه، فإذا كان هذا شأن اسمه الذي لا _________ (1) هـ: «وههنا عجيبة وعجاب». ط: «وههنا عجيبة عجائب». (2) ض وهـ وط: «معاني القرآن الأسماء .. ». (3) هـ: «يرا الملك»! (4) هـ: «قيومته». (5) «فيه» ليست في هـ وط.

(1/344)


يضرُّ معه شيءٌ في الأرض ولا في السَّماء، فشأن المسمَّى أعْلى وأجلُّ. و «تعالى جدُّه» أي: ارتفعت عظمتُه، وجلَّت فوق كُلِّ عظمةٍ، وعلا شأنُه على كُلِّ شأنٍ، وقَهَر سلطانُه على كُلِّ سلطانٍ. فتعالى جدُّه أن يكون معه شريكٌ في ملكه وربوبيته، أو في إلهيَّته، أو في أفعاله، أو في صفاته، كما قال مؤمنو (1) الجنِّ: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} [الجن/3]. فكم في هذه الكلمات من تجلٍّ لحقائق (2) الأسماء والصِّفات على قلب العارف بها، غير المعطِّل لحقائقها (3). فإذا قال: «أعوذ بالله من الشَّيطان الرجيم» فقد آوى إلى ركنه الشَّديد، واعتصم بحولِه وقوَّتِه من عدوِّه، الذي يريد أنْ يقطعه عن ربِّه، ويباعده عن قُرْبِه، ليكون أسوأ حالًا (4). فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة/2] وقف هنيئةً (5) _________ (1) هـ: «مؤمني». ط: «مؤمن». (2) هـ: «الكمالات .. ». ض: « .. بحقائق». (3) س: «بحقائقها». (4) س: «من ربه .. ليكونا سواء»، و «حالا» من هـ وط. (5) هكذا في جميع النُّسخ، وفي س: «هنئة». وستتكرَّر هذه الكلمة كما أثبتُّه في مواضع تالية. قال النَّووي في شرح صحيح مسلمٍ (5/ 96): «قوله: «سكت هنيَّة» هي بضمِّ الهاء وفتح النُّون وتشديد الياء بغير همزة، وهي تصغير هَنَةٍ، أصلها هنوة، فلمَّا صُغِّرت صارت هُنَيْوَة، فاجتمعت واوٌ وياءٌ، وسُبِقت إحداهما ... = = ... بالسُّكون، فوجب قلب الواو ياءً، فاجتمعت ياءان، فادغمت إحداهما في الأخرى، فصارت هُنَيَّة، ومن همزها فقد أخطأ، ورواه بعضهم: «هنيهَةً»، وهو صحيحٌ أيضًا». قال الحافظ ابن حجر في الفتح (2/ 229): «وهنيَّة بالنُّون بلفظ التَّصغير، وهو عند الأكثر بتشديد الياء. وذكر عياض والقُرطبي أنَّ أكثر رواة مسلمٍ قالوه بالهمزة .. قال غيره: لا يمنع ذلك إجازة الهمز؛ فقد تقلب الياء همزة، وقد وقع في رواية الكشميهني: «هنيهةً» بقلبها هاء، وهي رواية إسحاق والحميدي في مسنديهما».

(1/345)


يسيرةً، ينتظر جواب ربِّه له، بقوله: «حمدني عبدي». فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة/3] انتظر الجواب بقوله: «أثْنى علَيَّ عبدي». فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة/4] انتظر جوابه: «يمجِّدُني عبدي» (1). فيا لذَّة قلبه، وقُرَّة عينه، وسرور نفسه بقول ربِّه: «عَبْدِي» ثلاث مرَّاتٍ. فوالله لولا ما على القلوب من دخان الشَّهوات، وغيم النُّفُوس لاسْتُطِيرت (2) فرحًا وسرورًا بقول ربِّها وفاطرها ومعبودها: «حمدني عَبْدي»، و «أثنى عليَّ عَبْدي»، و «مجَّدَني عَبْدي». ثم يكون لقلبه مجالٌ في شهود هذه الأسماء الثَّلاثة، التي هي أصول الأسماء الحُسْنى، وهي: «الله»، و «الرَّب»، و «الرَّحمن». _________ (1) «فإذا قال: مالك .. عبدي» سقطت من هـ. (2) ض: «وغيم النعوس .. ». هـ وط: « .. لاستطيره». س: « .. لاستطربت».

(1/346)


فشاهَدَ قلبُه من ذكر اسم «الله» تبارك وتعالى إلهًا معبودًا موحَّدًا (1) مخوفًا، لا يستحقُّ العبادة غيره، ولا تنبغي (2) إلَّا له، قد عَنَت له الوجوه، وخضعت له الموجودات (3)، وخشعت له الأصوات، {تُسَبِّحُ (4) لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ (5)} [الإسراء/ 44]، {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم/26]. وكذلك خَلَق السَّموات والأرض وما بينهما، وخلق الجنَّ والإنس، والطَّير والوحش، والجنَّة والنَّار، وكذلك أرْسَل الرسل، وأنزل الكتب، وشرع الشَّرائع، وألزم العباد الأمر (6) والنَّهي. وشاهد من ذكر (7) اسمه «ربِّ العالمين» قيُّومًا قام بنفسه، وقام به كل شيءٍ، فهو قائمٌ على كلِّ نفسٍ بخيرها وشرِّها، قد استوى على عرشه، وتفرَّد بتدبير ملكه (8). فالتَّدبير كلُّه بيَدَيْه (9)، ومصير الأمور كلِّها إليه، _________ (1) ض وهـ وط: «موجودا». (2) ض وهـ وط: «ينبغي». (3) ض وس: «الوجودات». (4) هـ وط: «يسبح». (5) ض زيادة: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}. (6) س: «العبادة والأمر .. ». (7) «ذكر» ليست في ض. (8) س: «مملكته». (9) س: «بيده».

(1/347)


فمراسيم التَّدبير (1) نازلة من عنده، على أيدي ملائكته بالعطاء والمنع، والخفض والرفع، والإحياء والإماتة، والتَّولية والعزل، والقبض والبسط، وكشف الكروب، وإغاثة الملهوفين، وإجابة المضطرِّين، {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي (2) السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن/29]، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا معقِّب لحكمه، ولا رادَّ لأمره، ولا مبدِّل لكلماته، تعرج الملائكة والرُّوح إليه، وتُعْرَض الأعمال أول النَّهار وآخره عليه؛ فيقدِّر المقادير، ويوقِّت لها (3) المواقيت، ثم يسوق المقادير إلى مواقيتها، قائمًا بتدبير ذلك كلِّه وحفظه ومصالحه. ثم يشهد عند ذكر اسم (4) «الرَّحمن» جل جلاله ربًّا محسنًا إلى خلقه بأنواع الإحسان، متحبِّبًا إليهم بصُنُوف النِّعم، وسع كلَّ شيءٍ رحمة وعلمًا، وأوسع (5) كلَّ مخلوقٍ نعمةً وفضلًا. فوَسِعَت رحمتُه كلَّ شيءٍ، وسَعَت (6) نعمتُه إلى كلِّ حيٍّ. فبَلَغَت رحمتُهُ حيث بلغ علمُه؛ فاستوى على عرشه برحمته، وخلق _________ (1) هـ وط: «فمن أشيم التدبيرات»! (2) {في} سقطت من هـ. (3) «لها» ليست في هـ وط. (4) ض وس: «شهد .. ». س: « .. اسمه». (5) هـ: «وواسع». (6) ض وهـ وط: «ووسعت».

(1/348)


خلقه برحمته، وأنزل كتبه برحمته (1)، وأرسل رسله برحمته، وشرع شرائعه برحمته، وخلق الجنَّة برحمته، والنَّار أيضًا برحمته؛ فإنَّها سوطه الذي يسوق به عباده المؤمنين إلى جنَّته، ويطهِّر بها أدران الموحِّدين من أهل معصيته، وسجنه الذي يسجن فيه أعداءه من خليقته. فتأمَّل ما في أمره ونهيه، ووصاياه ومواعظه؛ من الرَّحمة البالغة، والنِّعمة السَّابغة، وما في حشو مخلوقاته (2) من الرَّحمة والنِّعمة. فالرحمة (3) هي السَّبب المتَّصل منه بعباده، كما أنَّ العبودية هي السَّبب المتَّصل به منهم (4)، فمِنهم إليه العبوديَّة، ومنه إليهم الرَّحمة. ومن أخصِّ مشاهد هذا الاسم: شهود المصلِّي نصيبه من الرَّحمة، الذي أقامه بين يَدَي ربِّه، وأهَّلَه لعبوديته ومناجاته، وأعطاه (5) ومنع غيره، وأقبل بقلبه وأعرض بقلب غيره، وذلك من رحمته (6) به. فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة/4] فهنا شهد المجد الذي لا _________ (1) «وأنزل كتبه برحمته» ليست في س. (2) ض وهـ وط: «وما في حشوها». (3) «فالرحمة» ليست في هـ. (4) «به» ليست في س. و «منهم» ليست في هـ وط. (5) ط: «وإعطاءه». (6) هـ: «الرحمة».

(1/349)


يليق بسوى الملك الحقِّ المبين؛ فيشهد (1) ملكًا قاهرًا، قد دانت له الخليقة، وعَنَت له الوجوه، وذلَّت لعظمته الجبابرة، وخضع لعِزَّته كلُّ عزيزٍ، فيشهد بقلبه: مَلِيكًا على عَرشِ السَّماء مُهَيْمِنًا (2) ... لِعِزَّتِه تَعْنُو الوُجُوهُ وتسْجُدُ (3) وإذا لم يُعَطِّل (4) حقيقة صفة المُلْكِ أطْلَعَتْهُ على شهود حقائق الأسماء والصِّفات، التي تعطيلها تعطيلٌ لمُلْكِه وجحدٌ له؛ فإنَّ الملِكَ الحقَّ، التَّامَّ المُلْكِ لا يكون إلَّا حيًّا، قيُّومًا، سميعًا، بصيرًا، مُريدًا، قادِرًا، متكلِّمًا، آمِرًا، ناهيًا، مستويًا على سرير مملكته، يرسل رسله إلى أقاصي (5) مملكته بأوامره، فيرضى على من يستحقُّ الرِّضا، ويثيبُه ويكْرِمُه ويُدْنِيه، ويغضب على من يستحقُّ الغضب، ويعاقبه ويهينُه ويقْصِيه؛ فيعذِّب من يشاء، ويرحم من يشاء، ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء (6)، ويقرِّب من يشاء، ويُقْصِي من يشاء، له دار عذابٍ (7) وهي _________ (1) س: «فشهد». وكذا الموضع التالي بعده. (2) ط: «ملكا .. ». س: «مهيبًا». (3) البيت لأميَّة بن أبي الصَّلت، في ديوانه (ص/34). وفيه: «مليكٌ .. مهيمنٌ». (4) هـ تكرر ذكر البيت ههنا. وفيه و ض و ط: «تعطل». (5) س: «قاضي». (6) «ويمنع من يشاء» ليست في ض وط. (7) ض وس: «عدل».

(1/350)


النَّار، وله دار سعادة وهي الجنَّة. فمَنْ أبطل شيئًا من ذلك، أوجحده، أوأنكر حقيقته= فقد قدح في ملكه سبحانه وتعالى، ونفى عنه كماله وتمامه. وكذلك من أنكر عموم قضائه وقدره، فقد أنكر عموم ملكه وكماله، فيشهد المصلِّي مجد الرَّبِّ تعالى في قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة/4]. فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة /4] ففيهما (1) سِرُّ الخلق والأمر، والدُّنيا والآخرة، وهي متضمِّنة لأَجَلِّ الغايات، وأفضل الوسائل، فأجلُّ الغايات عبوديَّتُه (2)، وأفضل الوسائل إعانته، فلا معبود يستحقُّ العبادة إلَّا هو، ولا معين على عبادته غيره، فعبادته أعلى الغايات، وإعانته أجلُّ الوسائل. وقد أنزل الله سبحانه وتعالى مائة كتابٍ وأربعة كتبٍ (3)، جمع معانيها في أربعة كتبٍ (4)، وهي التَّوراة والإنجيل والقرآن والزَّبور، وجمع معانيها في القرآن، وجمع معانيه في المفصَّل، وجمع معانيه في _________ (1) هـ: «ففيها». (2) «وأفضل .. عبوديته» سقطت من س. (3) «كتب» ليست في هـ. (4) «كتب» ليست في هـ وط.

(1/351)


الفاتحة، وجمع معانيها في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) [الفاتحة /4]. وقد اشتملت هذه الكلمة على نَوْعَي التَّوحيد، وهما توحيد الرُّبُوبية، _________ (1) يشير المصنِّف رحمه الله بهذا إلى أثر الحسن البصري الذي أخرجه البيهقي في الشُّعب (2371) عن الحسن قال: «أنزل الله عز وجل مائة وأربعة كتبٍ من السَّماء، أودع علومها أربعة منها، التَّوراة والإنجيل والزَّبور والفرقان، ثم أودع علوم التَّوراة والإنجيل والزَّبور الفرقان، ثم أودع علوم القرآن المفصَّل، ثم أودع علوم المفصَّل فاتحة الكتاب، فمن علم تفسيرها كان كمَنْ علم تفسير جميع كتب الله المنزلة». وليس فيه: «وجمع معانيها في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}». وقد جاء ذكر عدد الكتب المنزَّلة في حديث أبي ذر رضي الله عنه الطويل في عدد الأنبياء قال: قلت: يا رسول الله كم كتاب أنزله الله؟ قال: «مائة كتاب وأربعة كتب .. » الحديث بطوله. أخرجه ابن حبَّان في صحيحه (361) مصحَّحاً له، وأبو نعيم في الحلية (1/ 166 - 167) وغيرهما، من طريق إبراهيم بن هشام بن يحيى الغسَّاني حدثنا أبي عن جدِّي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه به. وفي إسناده إبراهيم بن هشام الغسَّاني، تفرَّد به، وقد كذَّبُوه. فقد كذَّبه أبوحاتم وأبوزرعة كما في الجرح والتَّعديل (2/ 142). وقال الذَّهبي: «متروكٌ». ويُنْظَر: ميزان الاعتدال (1/ 73)، (4/ 378). قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/ 470): «ولا شكَّ أنَّه قد تكلم فيه غير واحد من أئمَّة الجرح والتعديل من أجل هذا الحديث». وذكره المنذري في الترغيب (3/ 132) وقال: «انفرد به إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني، عن أبيه». وقد حسَّن الألباني الحديث في الصَّحيحة (2668).

(1/352)


وتوحيد الإلهية، وتضمَّنَت التعبُّد باسم «الرَّبِّ» واسم «الله»، فهو يُعْبَد بألوهيَّته، ويُستَعان (1) بربوبيَّته، ويهدي إلى الصِّراط المستقيم برحمته. فكان أول السُّورة ذكر اسمه «الله» و «الرَّبِّ» و «الرَّحمن» مطابقًا (2) لأَجَلِّ المطالبِ (3)؛ من عبادته وإعانته وهدايته. وهو المتفرِّد (4) بإعطاء ذلك كلِّه، لا يعين على عبادته سواه، ولا يهدي سواه. ثم يشهد الدَّاعي بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة/6] شدَّة فاقته وضرورته إلى هذه المسألة، التي ليس هو إلى شيءٍ أشدّ فاقةً (5) وحاجةً منه إليها ألبتَّة؛ فإنَّه محتاجٌ (6) إليه في كُلِّ نَفَسٍ وطرفة عينٍ. وهذا المطلوب من هذا الدُّعاء لا يتمُّ إلَّا بالهداية إلى الطريق الموصل إليه سبحانه، والهداية فيه، وهي هداية التَّفصيل (7)، وخلق القدرة على الفعل، وإرادته وتكوينه وتوفيقه لإيقاعه له على الوجه المرضيِّ المحبوب للرَّبِّ سبحانه وتعالى، وحفظه عليه من مفسداته حال فعله _________ (1) هـ: «متعبد .. ومستعان»، ط: «تعبد». (2) ض وهـ: «يتطابقا»، ط: «تتطابقا». (3) هـ وط: «الطالب». (4) س: «التفرد». ط: «المنفرد». (5) «وضرورته .. فاقة» سقطت من ض. (6) س: «يحتاج». (7) س: «الفصل»، ض: «التفضيل».

(1/353)


وبعد (1) فعله. ولمَّا كان العبد مفتقرًا في كُلِّ (2) حالٍ إلى هذه الهداية، في جميع ما يأتيه ويذَرُهُ (3)، من أمورٍ قد أتاها على غير الهداية، فهو يحتاج إلى التَّوبة منها. وأمورٍ هُدِي إلى أصلها دون تفصيلها، أو هُدِي إليها من وجهٍ دون وجهٍ، فهو يحتاج إلى تمام (4) الهداية فيها؛ ليزداد هُدًى. وأمورٍ هو يحتاج إلى أن يَحْصُل (5) له من الهداية فيها بالمستقبل (6) مثل ما حصل له في الماضي. وأمورٍ هو خالٍ عن اعتقادٍ فيها، فهو يحتاج إلى الهداية فيها. وأمورٍ لم يفعلها، فهو يحتاج إلى فعلها على وجه الهداية. وأمورٍ قد هُدِي إلى الاعتقاد الحقِّ والعمل الصَّواب فيها، فهو محتاجٌ (7) إلى الثَّبات عليها. إلى غير ذلك من أنواع الهدايات= فَرَضَ الله - سبحانه وتعالى - عليه أنْ يسأله هذه الهداية في أفضل أحواله، مرَّاتٍ متعدَّدةً في اليوم واللَّيلة (8). _________ (1) ض: «فعله وحال». (2) «كل» ليست في ض وهـ وط. (3) «في جميع» سقطت من ض. س: «ويدبره». (4) س: «محتاجٌ .. ». هـ وط: « .. إتمام». (5) هـ وط: «تحصل». (6) هـ: «تاما لمستقبل». (7) هـ: «يحتاج». (8) يُنْظَر في أنواع الهداية أيضًا: بدائع الفوائد للمصنِّف (2/ 448 - 450).

(1/354)


ثم بيَّن أنَّ أهل هذه الهداية هم المختصُّون بنعمته (1)، دون {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، وهم (2) الذين عرفوا الحق ولم يتَّبعُوه، ودون {الضَّالِّينَ}، وهم الذين عبدوا الله بغير علمٍ. فالطَّائفتان اشتركتا في القول على الله (3) في خلقه، وأمره، وأسمائه وصفاته بغير علمٍ. فسبيل المُنْعَمِ عليه مغايرةٌ لسبيل أهل الباطل كُلِّها علمًا وعملًا. فلمَّا فرغ من هذا الثَّناء والدُّعاء والتَّوحيد شرع له أنْ يطبع على ذلك بطابعٍ من التَّأمين، يكون كالخاتم له، وافق فيه ملائكة السَّماء. وهذا التَّأمين من زِينة (4) الصَّلاة، كرفع اليَدَيْن الذي هو زِينة الصَّلاة (5)، واتباع للسُّنَّة، وتعظيم أمر الله، وعبوديَّة لليَدَيْن (6)، وشعار الانتقال (7) من ركنٍ إلى ركنٍ. ثم يأخذ في مناجاة ربِّه بكلامه، واستماعه من الإمام بالإنصات، وحضور القلب وشهوده. _________ (1) س: «بنعمه». (2) «هذه الهداية .. وهم» سقطت من هـ. (3) «على الله» سقطت من هـ وط. (4) س: «رتبة». وكذا في الموضع التَّالي بعده. (5) «كرفع .. الصلاة» ليست في ض. (6) س وض: «عبوديته». ط: «اليدين». (7) ض: «للانتقال».

(1/355)


وأفضل أذكار الصَّلاة ذكر القيام، وأحسن هيئات المصلِّي هيئات (1) القيام (2)؛ فخُصَّت بالحمد والثَّناء والمجد، وتلاوة كلام الربِّ جل جلاله؛ ولهذا نُهِي عن قراءة القرآن في الركوع والسُّجود؛ لأنَّهما حالتا ذُلٍّ وخضوعٍ وتطامنٍ وانخفاضٍ؛ ولهذا شُرِع فيهما من الذِّكر ما يناسب هيئتهما (3)، فشُرِع للرَّاكع أنْ يذكر عظمة ربِّه في حال انخفاضه هو وتطامنه (4) وخضوعه، وأنَّه سبحانه يُوْصَف بوصف (5) عظمته عمَّا يضادُّ كبرياءه وجلاله (6) وعظمته. فأفضل ما يقول الرَّاكع على الإطلاق «سبحان ربي العظيم»؛ فإنَّ الله سبحانه أمر العِبَاد بذلك، وعيَّن المبلِّغَ عنه، السَّفِير بينه وبين عباده هذا المحلَّ لهذا الذِّكر، لمَّا نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة/74]، قال: «اجعلوها في ركوعكم» (7). وأبطل كثيرٌ من أهل العِلْم صلاة من تركها عمدًا، وأوْجَبَ سجود _________ (1) ط: «هيئة المصلي هيئة». (2) بحث المصنف المفاضلة بين القيام والسجود في الزاد (1/ 235 - 237). (3) ط: «هيئتها». (4) هـ: «تطأمنه». (5) «يوصف» ليست في ض، «بوصف» ليست في س. (6) س: «جلالته». (7) تقدَّم تخريجه (ص/271).

(1/356)


السَّهو على من سَهَا عنها. وهذا مذهب الإمام أحمد، ومن وافقه من أئمَّة الحديث والسُّنة (1). والأمر بذلك لا يقصر عن الأمر بالصَّلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - في التشهُّد الأخير، ووجوبه لا يقصُر عن وجوب مباشرة المصلَّى بالجبهة واليَدَين. وبالجملة: فسِرُّ الرُّكُوع تعظيم الرَّبِّ جل جلاله بالقلب والقالب والقول؛ ولهذا قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أمَّا الرُّكوع فعظِّمُوا (2) فيه الرَّب» (3). فصْلٌ ثم يرفع رأسه عائدًا إلى أكمل هيئاته (4)، وجعل شعار هذا الركن حمد الله والثَّناء عليه وتمجيده (5). فافتتح هذا الشِّعار بقول المصلِّي: «سمِعَ اللهُ لمَنْ حَمِدَه»، أي: سَمِعَ سَمْعَ قبولٍ وإجابةٍ. ثم شفَع بقوله: «ربَّنا ولك الحمد، مِلءَ السَّموات والأرض، ومِلءَ _________ (1) والرِّواية الثَّانية عن الإمام أحمد أنَّها ليست واجبةً وعليها أكثر الفقهاء، ويُنْظَر: المغني لابن قدامة (2/ 385 - 386)، والإنصاف للمرداوي (3/ 670). (2) ط: «فأعظموا». (3) أخرجه مسلم (479)، من حديث ابن عبَّاس رضي الله عنه. (4) هـ وط: «حديثه». (5) هـ وط: «وتحميده».

(1/357)


ما بينهما، ومِلءَ ما شِئتَ من شيءٍ بعد (1)». ولا يهمل أمر هذه (2) الواو في قوله: «ربَّنا ولك الحمد»؛ فإنَّه قد نُدِب الأمر بها في «الصَّحيحَين» (3). وهي تجعل الكلام في تقدير جملتين قائمتين بأنفسهما؛ فإنَّ قوله: «ربَّنا» متضمِّنٌ (4) في المعنى: أنت الرَّبُّ والملك القيُّوم، الذي بيديه أَزِمَّة الأمور، وإليه مرجعها، فعطف على هذا المعنى المفهوم من قوله: «ربَّنا» قولَه: «ولك الحمد»، فتضمَّن ذلك معنى (5) قول الموحِّد: «له الملك وله الحمد». ثمَّ أخبر عن شأن (6) هذا الحمد، وعظمته قدرًا وصفةً، فقال: «مِلءَ السَّموات ومِلءَ الأرض، ومِلءَ ما بينهما، ومِلءَ ما شئتَ من شيءٍ بعد (7)». أي: قدر ملءِ العالِم العلوي والسُّفلي، والفضاء الذي بينهما. _________ (1) «بعد» من س. (2) هـ: «هذا». (3) البخاري (689)، ومسلم (411)، من حديث أنسٍ رضي الله عنه. (4) هـ: «يتضمن». (5) س: «بمعنى». (6) س: «بيان». (7) «بعد» من س.

(1/358)


فهذا الحمد قد ملأ (1) الخلق الموجود، وهو يملأ ما يخلقه الرَّبُّ تبارك وتعالى بعد ذلك ممَّا يشاؤه، فحمده قد ملأ كلَّ موجودٍ، وملأ ما سيوجد. فهذا أحسن التَّقديرَيْن. وقيل: «ما شئتَ من شيءٍ» وراء العالم؛ فيكون قوله: «بعد» للزَّمان على الأول، وللمكان على الثَّاني. ثمَّ أتْبَعَ ذلك بقوله (2): «أهلَ الثَّناء والمجْد»، فعاد الأمر بعد الرَّكعة إلى ما افتتح به الصَّلاة قبل الرَّكعة، من الحمد والثَّناء والمجد. ثمَّ أتْبَعَ ذلك بقوله: «أحق ما قال العبد» تقريرًا لحمده وتمجيده والثَّناء عليه، وأنَّ ذلك أحق ما نَطَق به العبد، ثمَّ أتْبَع ذلك بالاعتراف بالعبوديَّة، وأنَّ ذلك حُكمٌ عامٌّ لجميع العبيد. ثمَّ عقَّب ذلك بقوله: «لا مانع لما أعطيت، ولامعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَد». وكان يقول ذلك بعد انقضاء الصَّلاة أيضًا. فيقوله في هذين الموضِعَين اعترافًا بتوحيده، وأنَّ (3) النِّعم كلَّها منه. وهذا يتضمَّن أمورًا: _________ (1) «الحمد قد ملأ» سقطت من س. (2) «بقوله» ليست في ض. (3) هـ: «فإن».

(1/359)


أحدها: أنَّه المتفرِّد (1) بالعطاء والمنع. الثَّاني: أنَّه إذا أعطى (2) لم يُطِق أحدٌ منع مَنْ أعطاه، وإذا مَنَع لم يُطِق أحدٌ (3) إعطاء من (4) مَنَعَه. الثَّالث: أنَّه لاينفع عنده، ولا يخلص من عذابه، ولا يُدْني من كرامته جُدُودُ بني آدم وحظوظُهم؛ من المُلْك، والرِّئاسة، والغنى، وطيب العَيش، وغير ذلك؛ إنَّما ينفعهم عنده التَّقرُّب إليه بطاعته، وإيثار مرضاته. ثمَّ ختم ذلك بقوله: «اللَّهُمَّ اغسلني من خطايَاي بالماء والثَّلج والبَرَد»؛ كما افتتح به الرَّكعة في أول الاستفتاح، كما كان يختم الصَّلاة بالاستغفار. وكان الاستغفار في أوَّل الصَّلاة، ووسطها، وآخرها. فاشتمل هذا الرَّكن على أفضل الأذكار وأنفع الدُّعاء؛ من حمده، وتمجيده، والثَّناء عليه، والاعتراف له بالعبوديَّة والتَّوحيد، والتنصُّل (5) إليه من الذُّنوب والخطايا. فهو ذِكْرٌ مقصودٌ في ركنٍ مقصودٍ، ليس بدون _________ (1) ط: «المنفرد». (2) «الثاني .. أعطى» سقطت من هـ. (3) «منع .. أحد» سقطت من هـ. (4) س: «ما». (5) ض وهـ وط: «والتنضل».

(1/360)


 فصْلٌ الركوع والسُّجود.

ثمَّ يكبِّر ويخرُّ لله ساجدًا، غير رافعٍ يديه؛ لأنَّ اليدين تنحطَّان (1) للسُّجود كما ينحطُّ الوجه، فهما تنحطَّان (2) لعبوديتهما، فأغْنَى ذلك عن رفعهما؛ ولذلك لم يُشْرَع رفعُهُما عند رفع الرَّأس من السُّجود؛ لأنَّهما يرفعان معه كما يوضعان معه (3). وشُرِع السُّجود على أكمل الهيئات (4) وأبلغِها في العبوديَّة، وأعمِّها لسائر الأعضاء؛ بحيث (5) يأخذ كلُّ جزءٍ من البَدَن بحظِّه من العبوديَّة. والسُّجُود سِرُّ الصلاة، وركنها الأعظم، وخاتمة الركعة. وما قبله من الأركان كالمقدِّمات له، فهو شِبْهُ (6) طواف الزِّيارة في الحجِّ؛ فإنَّه مقصود الحجِّ، ومحلُّ الدُّخول على الله وزيارته، وما قبله كالمقدِّمات له؛ ولهذا أقرب ما يكون العبد من ربِّه وهو ساجدٌ (7). وأفضل _________ (1) ض وهـ وط: «ينحطان». (2) ض و س: «منحطان»، و هـ و ط: «ينحطان». (3) ض: «منه». وجملة: «كما يوضعان معه» سقطت من س. (4) ط: «الهيئة». (5) «بحيث» ليست في ض. (6) س: «يشبه». (7) يشير إلى ما أخرجه مسلم (482)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(1/361)


أحواله (1) حالٌ يكون فيها أقرب إلى الله؛ ولهذا كان الدُّعاء في هذا (2) المحلِّ أقرب إلى الإجابة. ولمَّا خلق الله سبحانه العبد من الأرض كان جديرًا بأنْ لا يخرج عن أصله؛ بل يرجع إليه إذا تقاضاه الطَّبْع والنَّفس بالخروج عنه؛ فإنَّ العبد لو تُرِكَ وطبعه ودواعي نفسه لتَكَبَّرَ، وأَشِرَ، وخرج عن أصْله الذي خُلِق منه، ولوَثَب (3) على حقِّ ربِّه، من الكبرياء والعَظَمة، فنازعه إيَّاهما؛ فأُمِر بالسُّجود خضوعًا لعظمة ربِّه وفاطره، وخشوعًا (4) له، وتذلُّلًا بين يديه، وانكسارًا له. فيكون هذا الخشوع، والخضوع، والتذلُّل رادًّا له إلى (5) حكم العبوديَّة، ويتدارك به (6) ما حصل له من الهفوة والغفلة، والإعراض الذي خرج به عن أصله، فَيتَمَثَّل له (7) حقيقة التراب الذي خلق منه. _________ (1) هـ وط: «الأحوال له». (2) «هذا» ليست في ض. (3) س: «وتوثب». (4) «لعظمة .. وخشوعًا» سقطت من ض. (5) هـ وط: «ردا .. ». س: « .. له في». (6) «به» ليست في ض و هـ و ط. (7) ض وس: «فيمثل». و «له» سقطت من ض.

(1/362)


وهو يضع أشرف شيءٍ منه وأعلاه ـ وهو الوجه ـ فيه (1)، وقد صار أعلاه أسفله؛ خضوعًا بين يَدَي ربِّه الأعلى، وخشوعًا له، وتذلُّلًا لعظمته، واستكانةً لعِزَّته. وهذا غاية خشوع الظَّاهر. فإنَّ الله سبحانه خَلَقَه من الأرض التي هي مذلَّلةٌ للوطء (2) بالأقدام، واستعمره (3) فيها، وردَّه إليها، ووعده بالإخراج منها، فهي أُمُّه وأبوه وأصْلُه وفصْلُه، فضمَّته (4) حيًّا على ظهرها، وميِّتًا في بطنها، وجُعِلَت له طُهْرًا ومسجدًا، فأُمِر بالسُّجود؛ إذ هو غاية خشوع الظَّاهر، وأجمع العبوديَّة لسائر الأعضاء، فيُعَفِّر وجهه في التُّراب؛ استكانةً وتواضعًا وخضوعًا وإلقاءً باليدين. وقال مسروقٌ لسعيد بن جبير: «يا سعيد (5)، ما بقي شيءٌ يُرْغَب (6) فيه إلَّا أن نعفِّر وجوهنا في هذا التَّراب له» (7). وكان النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا يتَّقي الأرض بوجهه قصدًا؛ بل إذا اتَّفَق له ذلك _________ (1) «فيه» ليست في هـ وط. (2) س: «للواطيء». (3) هـ وط: «واستعمله». (4) س: «تظمه». (5) «يا سعيد» ليست في هـ وط. (6) ض: «نرغب». (7) أخرجه أحمد في الزهد (ص/349)، وهنَّاد في الزهد (1/ 312)، وأبونعيم في الحلية (2/ 96) وغيرهم، من طريق سفيان أويونس عن أبي إسحاق السَّبيعي عن سعيدٍ به.

(1/363)


فَعَله؛ ولذلك سَجَد (1) في الماء والطِّين (2). ولهذا كان (3) من كمال السُّجود الواجب أنْ (4) يسجد على الأعضاء السَّبعة: الوجه، واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين؛ فهذا فرضٌ أمر الله به رسولَه - صلى الله عليه وسلم -، وبلَّغَه الرسول لأُمَّته. ومن كماله الواجب أوالمستحبِّ: مباشرةُ مصلَّاه بأديم وجْهِه، واعتماده على الأرض؛ بحيث ينالها ثِقْل رأسه، وارتفاع أسافله على (5) أعاليه، فهذا من تمام السُّجود. ومن كماله: أنْ يكون على هيئاتٍ (6)، يأخذ كلُّ عضوٍ من البَدَن بحظِّه من الخضوع؛ فيقل بطنه عن فخِذَيه، وفخِذَيه عن ساقَيه، ويجافي عضدَيه عن جنْبَيه، ولا يفرشهما على الأرض؛ ليستقلَّ كلُّ عضوٍ منه بالعبوديَّة. ولذلك إذا رأى الشَّيطان ابن آدم ساجدًا لله اعتزل ناحيةً يبكي، _________ (1) ض وس: «وكذلك .. ». ض: « .. يسجد». (2) يشير إلى ما أخرجه البخاري (2016)، ومسلم (1167)، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه. (3) «كان» ليست في ض. (4) ط: «أنه». (5) ط: «أسفاله». «على» ليست في س. (6) هـ وط: «هيئة».

(1/364)


ويقول: «يا ويلَهُ، أُمِر ابن آدم بالسُّجود فسَجَد (1) فله الجنَّة، وأُمِرتُ بالسُّجود فعَصَيتُ فلي النَّار» (2). ولذلك أثنى الله سبحانه على الذين يخرُّون سُجَّدًا عند سماع كلامه، وذمَّ من لا يقع ساجدًا عنده. ولذلك كان قول من أوْجَبَه قويًّا في الدَّليل. ولمَّا علِمَت السَّحَرة صِدْق موسى وكذب فرعون خَرُّوا سُجَّدًا (3) لربِّهم، فكانت تلك السَّجدة أول سعادتهم، وغفران ما أفنوا فيه أعمارهم من السِّحر. ولذلك أخبر سبحانه عن سُجُود جميع المخلوقات له؛ فقال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (4) مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (5)} [النَّحل/49 - 50]. فأخبر عن إيمانهم بعلوِّه وفوقيَّته، وخضوعهم له بالسُّجود تعظيمًا (6) وإجلالًا. _________ (1) س زيادة: «له». (2) كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلمٍ (81). (3) س وهـ: «سجودا». (4) ض: {والأرض}! (5) {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} من س. (6) «تعظيمًا» ليست في س.

(1/365)


وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج/18]. فالذي حقَّ عليه العذاب (1) هو الذي لا يَسْجُد له سبحانه، وهو الذي أهانه بترك السُّجود له، وأخبر أنَّه لا مُكْرِم له، وقد هان على ربِّه، حيث لم يسجد له. وقال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد/15]. ولما كانت العبوديَّة غاية كمال الإنسان، وقُرْبُه من الله بحسب (2) نصيبه من عبوديَّته (3)، وكانت الصَّلاة جامعةً لمتفرِّق العبوديَّة، متضمِّنةً لأقسامها= كانت أفضل أعمال العبد، ومنزلتها من الإسلام بمنزلة عمود الفسطاط منه، وكان السُّجود أفضل أركانها الفِعليَّة، وسرَّها الذي شُرِعَت لأجله، وكان تكرُّره (4) في الصَّلاة أكثر من تكرُّر سائر الأركان، وجعله (5) خاتمة _________ (1) «العذاب» سقطت من ض وهـ. (2) «بحسب» سقطت من هـ. (3) ض زيادة: «غاية». (4) ط: «تكريره». (5) ض: «وجعل»، س: «وفعل».

(1/366)


الركعة وغايتها، وشُرِع فعله بعد الرُّكوع؛ فإنَّ الركوع توطئةٌ له، ومقدِّمةٌ بين يَدَيه، وشُرِعَ فيه من الثَّناء على الله ما يناسبه، وهو قول العبد: «سبحان ربِّي الأعلى»، فهذا أفضل ما يُقَال فيه. ولم يَرِد عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أمره في السُّجود بغيره؛ حيث قال: «اجعلوها في سجودكم» (1). ومَن تَرَكَه عمدًا فصلاتُه باطلةٌ عند كثيرٍ من العُلماء، منهم الإمام أحمد وغيره (2)؛ لأنَّه لم يفعل ما أُمِر به. وكان وصْفُ الرَّبِّ بالعُلُوِّ (3) في هذه الحال في غاية المناسبة؛ لحال السَّاجد الذي قد انحطَّ إلى السُّفُل (4) على وجهه، فذكر علو ربِّه في حال سُفُولِه، وهو (5) كما ذكر عظمته في حال خضوعه في ركوعه، ونزَّه ربَّه عمَّا لايليق به ممَّا يضادُّ عظمَتَه وعلوَّه. ثم لمَّا شُرِعَ السُّجود بوصف التِّكرار لم يكن بُدٌّ من الفصل بين السَّجدتين، ففَصَل بينهما بركنٍ مقصودٍ، وشَرَع فيه من الدُّعاء ما يليق به ويناسبه، وهو سؤال العبد المغفرة والرَّحمة والهداية والعافية _________ (1) تقدَّم تخريجه (ص/271). (2) والرِّواية الثَّانية عن الإمام أحمد أنَّها ليست واجبةً وعليها أكثر الفقهاء، ويُنْظَر: المغني لابن قدامة (2/ 385 - 386)، والإنصاف للمرداوي (3/ 670). (3) س: «بالعلوي». (4) س: «بحال .. السفلى». (5) هـ وط: «سقوطه .. ». و «هو» ليست في ض.

(1/367)


والرزق (1)؛ فإنَّ هذه تتضمَّن جلب خير الدُّنيا والآخرة، ودفعَ شَرِّ الدُّنيا والآخرة. فالرَّحمة تحصِّل الخير، والمغفرة تقي الشَّرَّ، والهداية توصل إلى هذا وهذا، والرزق إعطاء ما به قِوَام البَدَن من الطَّعام والشَّراب، وما به قوام الرُّوح والقلب من العلم والإيمان. وجُعِل جلوس الفصْل محلًّا لهذا الدُّعاء لما تقدَّمه من حمد (2) الله والثَّناء عليه والخضوع له، فكان هذا (3) وسيلة للدَّاعي، ومقدِّمة بين يَدَي حاجته. فهذا الرُّكن مقصودٌ، والدُّعاء فيه مقصودٌ (4)، فهو ركنٌ وُضِع (5) للرَّغبة، وطلب العفو والمغفرة والرَّحمة؛ فإنَّ العبد لمَّا أتى بالقيام والحمد والثَّناء والمجد، ثم أتى بالخضوع وتنزيه الرَّبِّ وتعظيمه، ثم عاد إلى الحمد والثَّناء (6)، ثم كمَّل ذلك بغاية التذلُّل والخضوع _________ (1) يشير رحمه الله إلى حديث ابن عباسٍ رضي الله عنه الآتي في الذكر بين السَّجدتين. (2) هـ وط: «رحمة». (3) ض: «هداه». (4) «مقصود» الثانية ليست في ط. وفي هـ: «مقصود الدعاء فيه». (5) «وضع» سقطت من س. (6) س زيادة: «والمجد».

(1/368)


والاستكانة= بقي (1) سؤال حاجته واعتذاره وتنصُّلُه (2)؛ فشَرَع له أنْ يتمثَّل في الخدمة، فيقصد فعل العبد الذَّليل جاثيًا على ركبَتَيه، كهيئة (3) الملقي نفسه بين يَدَي سيِّده، راغبًا، راهبًا، معتذرًا إليه، مستعديًا (4) إليه على نفسه الأمَّارة بالسُّوء. ثمَّ شَرَع له تكرار (5) هذه العبوديَّة مرَّةً بعد مرَّةٍ إلى إتمام الأربع، كما شَرَع له تكرير الذِّكر مرَّةً بعد مرَّةٍ (6)؛ لأنَّه أبلغ في حصول المقصود، وأدْعى إلى الاستكانة (7) والخضوع. فلمَّا أكمل ركوع الصَّلاة، وسجودها، وقراءتها، وتسبيحها، وتكبيرها شُرِعَ له أنْ يجلس في آخر صلاته جلسة المتخشِّع المتذلِّل المستكين (8)، جاثيًا على ركبتيه. ويأتي في هذه الجلسة بأكمل التَّحيَّات وأفضلها، عوضًا عن تحيَّة _________ (1) ض: «بغى». (2) ض وهـ وط: «وتنضله». (3) ض زيادة: «العبد». (4) هـ: «مستعيذا». ط: «مسعدا». (5) ط: «تكرر». (6) «إلى إتمام .. مرة» سقطت من ض. (7) س: «وأرعى .. ». هـ: « .. استكانته». (8) هـ: «المتمسكن».

(1/369)


المخلوق للمخلوق إذا واجَهَه أو دخل عليه. فإنَّ النَّاس يحيُّون ملوكهم وأكابرهم بأنواع التحيَّات التي يتَحبَّبُون بها إلى قلوبهم (1). فبعضهم يقول: أنعم صباحًا، وبعضهم يقول: لك البقاء والنِّعمة، وبعضهم يقول: أطال الله بقاءك، وبعضهم يقول: تعيش (2) ألف عام، وبعضهم يسجد للملوك، وبعضهم يسلِّم. فتحيَّاتهم بينهم تتضمَّن ما يحبُّه المُحَيَّا من الأقوال والأفعال. والمشركون يحيُّون أصنامهم. قال الحسن: «كان أهل الجاهليَّة يتمسَّحُون بأصنامهم، ويقولون: لك الحياة الدَّائمة؛ فلمَّا جاء الإسلام أُمِرُوا أن يجعلوا لله (3) أطيب تلك التَّحيَّات، وأزكاها، وأفضلها» (4). فـ «التحيَّات (5)» هي تحيَّةٌ من العبد للحيِّ الذي لا يموت، وهو سبحانه أولى بتلك التحيَّات من كُلِّ ما سواه؛ فإنَّها تتضمَّن الحياة والبقاء والدَّوام، ولا يستحقُّ أحدٌ هذه التحيَّات إلَّا الحيُّ الباقي الذي لا يموت، ولا يزول ملكُه. _________ (1) هـ وط: «يحيُّوْنَ بها قلوبهم». (2) هـ: «تعش». (3) «لله» من س. (4) لم أقف عليه. (5) هـ وط: «فالتحية».

(1/370)


وكذلك قوله: «والصَّلوات»؛ فإنَّه لا يستحق أحدٌ الصَّلاة إلَّا الله - عز وجل -، والصَّلاة (1) لغيره من أعظم الكفر والشِّرك به. وكذلك قوله: «والطَّيِّبات»، هي صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ (2)؛ أي: الطَّيِّبات من الكلمات (3) والأفعال والصِّفات والأسماء لله وحده (4). فهو طيِّبٌ، وكلامه طيِّبٌ (5)، وأفعاله طيِّبةٌ، وصفاته أطيب شيءٍ، وأسماؤه أطيب الأسماء، واسمه «الطَّيِّب»، ولا يصدر عنه إلَّا طيِّبٌ، ولا يصعد إليه إلَّا طيبٌّ، ولا يقرب منه إلَّا طيِّبٌ. فكلُّه طيِّبٌ، و {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر/10]، وفعله طيِّبٌ، والعمل الطيِّب يعرج إليه. فالطيِّبات كلُّها له، ومضافةٌ (6) إليه، وصادرةٌ عنه، ومنتهيةٌ إليه. قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله طيِّبٌ لا (7) يقبل إلَّا طيِّبًا» (8). وفي حديث رقية _________ (1) ط: «والصلوات». (2) هـ: «صفته». ط: « .. الموصوف محذوف». (3) س: «من الكمال». (4) هـ: «والصفات وكذلك قوله والأسماء الله وحده»! (5) «وكلامه طيب» ليست في هـ وط. (6) هـ: «ومضاف». (7) ض: «ولا». (8) أخرجه مسلم (1015)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(1/371)


المريض، الذي رواه أبوداود وغيره (1): «أنت ربُّ الطَّيِّبِين». ولا يجاوِرُه من (2) عباده إلَّا الطيِّبُون؛ كما يُقال لأهل الجنَّة: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر/73]. وقد حكم سبحانه ـ بشرعه (3) وقدره ـ أنَّ الطَّيبات للطَّيِّبين (4). _________ (1) حديث (3892). وأخرجه الحاكم (1/ 494)، والنَّسائي في الكبرى (10809)، كلُّهم من طرقٍ عن زيادة بن محمد الأنصاري عن محمد بن كعب القرظي عن فضالة بن عبيد عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من اشتكى منكم شيئًا أو اشتكاه أخٌ له، فلْيَقل ربنا الله الذي في السماء، تقدَّس اسمك، أمرك في السَّماء والأرض، كما رحمتك في السماء، فاجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت ربُّ الطيِّبين، أنزل رحمةً من رحمتك، وشفاءً من شفائك على هذا الوجع، فيبرأ». وقد قال البخاري وابن حبَّان والنسائي عن زيادة الأنصاري: «منكر الحديث». وقال الذَّهبي في الميزان (3/ 145) في ترجمة زيادة: «وقد انفرد بحديث الرقية». وقد أخرجه أحمد (6/ 20) من طريق أبي اليمان عن أبي بكر بن أبي مريم عن الأشياخ عن فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه بنحوه. وأخرجه النسائي في الكبرى (10807) من طريق منصور عن طلق بن حبيبٍ العنزي عن أبيه به. وأخرجه النسائي في الكبرى (10808) من طريق يونس بن خباب عن طلق بن حبيب عن رجلٍ من أهل الشام عن أبيه به. وقد حسَّن الحديث ابن تيميَّة في «الواسطيَّة»، يُنْظَر: مجموع الفتاوى (3/ 139). (2) هـ وط: «يجاوزه عن». (3) هـ وط: «شرعه». (4) يشير إلى قوله - سبحانه وتعالى - في الآية: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النُّور/26].

(1/372)


فإذا كان هو ــ سبحانه ـ الطَّيِّب على الإطلاق فالكلمات الطَّيِّبات، والأفعال الطَّيِّبات، والصِّفات الطَّيِّبات، والأسماء الطَّيِّبات= كلُّها له سبحانه، لا يستحِقُّها أحدٌ سواه، بل ما طاب شيءٌ قطُّ إلَّا بطيبه (1) سبحانه، فطِيبُ كل ما سواه من آثار طيبه (2)، ولا تصلح هذه التحيَّةُ الطَّيِّبة إلَّا له. ولمَّا كان السَّلام من أنواع التحيَّة، وكان المسلِّم داعيًا لمن يحيِّيه (3)، وكان الله سبحانه هو الذي يُطْلَبُ منه السَّلام، لا يُطْلَبُ له السَّلام ـ فإنَّه السَّلام، ومنه السَّلام ـ= شُرِع أنْ يُطْلَب منه السَّلام (4) لعباده الذين اختصَّهم بعبوديَّته، وارتضاهم لنفسه. وشرع أنْ يبدأ بأكرمهم (5) عليه، وأحبِّهم إليه، وأقربهم منه منزلةً في هذه التَّحيَّة. ثم خُتِمَت هذه التحيَّة (6) بالشَّهادتين اللَّتَيْن هما مفتاح الإسلام، فشرع أنْ يكون خاتمة الصَّلاة. فدخل فيها بالتَّكبير والتَّحميد (7) والثَّناء _________ (1) ض وهـ وط: «بطيبته». (2) ض وهـ وط: «طيبته». (3) س: «راغبا به .. ». ض: « .. لمن يحبه». (4) «لا يُطْلَبُ له .. منه السَّلام» من ض. (5) ض: «باكرامهم». (6) «ثم خُتِمَت هذه التَّحية» سقطت من هـ وط. (7) ض وهـ وط: «والحمد».

(1/373)


والتَّمجيد (1)، وتوحيد الرُّبوبيَّة والإلهيَّة، وختمها بشهادة أنْ لا إله إلَّا الله وأنَّ محمَّدًا عبده ورسوله. وشُرِعَت هذه التَّحيَّة في وسط الصَّلاة إذا (2) زادت على ركعتين، تشبيهًا (3) لها بجلسة الفصل بين السَّجدتين، فهي بين الرَّكعتين الأُوليَيْن والأُخْرَيَيْن كالجلوس بين السَّجدتين (4). وفيها مع الفصل راحة للمصلِّي؛ لاستقباله الرَّكعتين الأُخْرَيَيْن (5) بنشاطٍ وقوةٍ، بخلاف ما إذا وَالَى بين الركعات. ولهذا كان الأفضل في النَّفل مثنى مثنى، وإنْ تطوَّع بأربع جلس في وسطهنَّ. فصْلٌ وجُعِلَت كلمات التَّحيَّات في آخر الصَّلاة بمنزلة خطبة الحاجة أمامها؛ فإنَّ المصلِّي إذا فرغ من صلاته جلس جلسة الرَّاغب الرَّاهب، يستعطي من ربِّه (6) ما لا غنى به عنه، فشُرِع له (7) أمام استعطائه كلمات _________ (1) هـ: «والتحميد». (2) هـ: «فإذا». (3) س: «تشبها». (4) «فهي بين .. السجدتين» ليست في هـ وط. وفي ض وس: «الأولتين .. الأخرتين». (5) ض وس وط: «الأخرتين». (6) «ربه» سقطت من ض. (7) «له» ليست في ض.

(1/374)


التَّحيَّات، مقدمةً بين يدَيْ سؤاله (1)، ثُمَّ يُتْبِعها بالصَّلاة على من نالت أُمَّته هذه النِّعمة على يده وبسفارته (2). فكأنَّ المصلِّي توسَّل (3) إلى الله سبحانه بعبوديَّته، ثم بالثَّناء عليه، والشَّهادة له بالوحدانيَّة، ولرسوله بالرِّسالة، ثم بالصَّلاة على رسوله، ثُمَّ قيل له: تخيَّر من الدُّعاء أحبَّه إليك (4). فذاك الحقُّ الذي عليك، وهذا الحقُّ الذي لك. وشُرِعت الصَّلاة على آله مع الصَّلاة عليه تكميلًا لقُرَّة (5) عينه، بإكرام آله (6) والصَّلاة عليهم. وأنْ يصلِّي (7) عليه وعلى آله كما صلَّى على أبيه إبراهيم وآله. والأنبياء (8) كلُّهم بعد إبراهيم من آله؛ ولذلك (9) _________ (1) س: «سؤله». (2) س: «يديه .. ». هـ وط زيادة: « .. وسعادته». و « .. بسفارته» ليست في ط. (3) س: «يتوسل». (4) يشير إلى ما أخرجه البخاري (835)، ومسلم (402) من حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه في تعليم النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - التشهُّد لأصحابه، وفي آخره: «ثُمَّ يتخيَّر من الدُّعاء أعجبه إليه». (5) هـ: «بقوة»! (6) «آله» سقطت من ض. (7) س: «تصلي». (8) ط: «وآله الأنبياء». (9) س: «وكذلك».

(1/375)


كان المطلوب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةً مثل الصَّلاة على إبراهيم، وعلى جميع الأنبياء بعده، وآله المؤمنين؛ فلهذا كانت هذه الصَّلاة أكمل ما (1) يصلَّى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها وأفضل. فإذا أتى بها المصلِّي أُمِر أنْ يستعيذ بالله من مجامع الشَّرِّ كلِّه؛ فإنَّ الشر إمَّا عذاب الآخرة، وإمَّا (2) سببه. فليس الشرُّ إلَّا العذاب وأسبابه. والعذاب نوعان: عذابٌ في البَرْزخ، وعذابٌ في الآخرة. وأسبابه الفتنة، وهي نوعان: كُبرى، وصُغرى. فالكُبْرى فتنة الدَّجال وفتنة الممات، والصُّغرى فتنة الحياة التي يمكن تداركها بالتَّوبة، بخلاف فتنة الممات وفتنة الدَّجَّال؛ فإنَّ المفتون بهما لا يَتَدَاركهما (3). ثمَّ شُرِع له من الدُّعاء ما يختاره من مصالح دنياه وآخرته. والدُّعاء في هذا المحلِّ قبل السَّلام أفضل من الدُّعاء بعد السَّلام، وأنفع للدَّاعي (4). وهكذا كانت عامَّة أدعية النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، كلُّها (5) كانت في الصلاة من _________ (1) «هذه .. » ليست في س. وفي س وهـ وط: « .. ممَّا». (2) س: «فإما». (3) هـ وط: «فيهما». ط: «لا يتداركها». (4) وهو ترجيح شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية، كما في مجموع الفتاوى (22/ 480). (5) «كلها» ليست في ض.

(1/376)


أولها إلى آخرها. فكان يدعو في الاستفتاح أنواعًا من الدُّعاء، وفي الركوع، وبعد رفع رأسه منه، وفي السُّجود، وبين السَّجدتين، وفي التشهُّد قبل التَّسليم. وعلَّم الصِّدِّيق دعاءً يدعو به في صلاته (1). وعلَّم الحسن بن علي دعاء يدعو به في قنوت الوتر (2). وكان إذا دعا لقومٍ أوعلى قومٍ جعله في الصَّلاة بعد الرُّكوع (3). _________ (1) أخرجه البخاري (779)، ومسلم (2705) من حديث أبي بكرٍ رضي الله عنه أنَّه قال للنَّبي - صلى الله عليه وسلم -: علِّمني دعاءً أدعو به فى صلاتي، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «قُلْ: اللَّهم إنِّي ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذُّنوب إلَّا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنَّك أنت الغفور الرَّحيم». (2) أخرجه أحمد (1/ 199)، وأبوداود (1425)، والنَّسائي (1745)، والترمذي (464)، وابن ماجه (1178)، وابن خزيمة (1095)، وابن حبَّان (722)، وغيرهم، من طريق بريد بن أبي مريم أبي الحوراء السعدي عن الحسن بن عليٍّ رضي الله عنه. وقد صحَّحه ابن خزيمة، وابن حبَّان، وحسَّنه التِّرمذي، وقال: «لا نعرف عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في القنوت في الوتر شيئًا أحسن من هذا». ورُوِي من غير هذا الوجه. وصحَّحه النَّووي في الخلاصة (1/ 455)، والعراقي في تخريج أحاديث الإحياء (1/ 110)، وابن الملقِّن في البدر المنير (3/ 630)، والألباني في الإرواء (429). (3) أخرجه البخاري (4560)، ومسلم (675) من حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يدعو على أحدٍ أو يدعو لأحدٍ قَنَت بعد الرُّكوع». لفظ البخاري.

(1/377)


وسِرُّ ذلك (1): أنَّ المصلِّي قبل سلامه في محلِّ المناجاة والقُرْبة بين يَدَي ربِّه، فسؤاله في هذه الحال أقرب إلى الإجابة من سؤاله بعد انصرافه من بين يدي ربِّه (2). وقد سُئِل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الدُّعاء أسمع؟ فقال: «جوف اللَّيل، وأدبار الصَّلاة المكتوبة» (3). ودُبُر الصَّلاة جزؤها (4) الأخير، كدُبُر الحيوان، ودُبُر الحائط. وقد يُرَاد بدُبُرِها ما بعد انقضائها، بقرينةٍ تدلُّ عليه؛ كقوله: «تسبِّحُون _________ (1) هـ وط: «ومن ذلك». (2) ض وهـ وط: «بين يديه». (3) أخرجه الترمذي (3499)، والنَّسائي في عمل اليوم والليلة (45)، من طريق ابن جريج عن عبدالرحمن بن سابط عن أبي أمامة الباهليِّ رضي الله عنه قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الدُّعاء أسمع؟ .. وساقه بنحوه. قال التِّرمذي عقبه: «حديثٌ حسنٌ»، وفي نتائج الأفكار (2/ 247): «حسنٌ غريبٌ». وقد أعلَّ إسناده ابنُ القطَّان الفاسي في بيان الوهم (2/ 385)، وكذا الزَّيلعي في نصب الراية (2/ 235) بالانقطاع بين ابن سابط وأبي أمامة رضي الله عنه، ونقلوا عن ابن معين ذكر إرساله، وعدم سماعه منه. وممَّا ذُكِر في علله: عنعنة ابن جريج، وشذوذ إسناده؛ فإنَّه جاء عن جماعةٍ من أصحاب أبي أمامة من رواية أبي أمامة عن عمرو بن عبسة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ويُنْظَر: نتائج الأفكار لابن حجر (2/ 247). قال التِّرمذي: «وقد رُوِيَ عن أبي ذر وابن عمر عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: جوف اللَّيل الآخر الدُعاء فيه أفضل أو أرجى أو نحو هذا». (4) س: «وجزؤها».

(1/378)


الله، وتحمدونه، وتكبرونه (1)، دُبُر كل صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين» (2). فهنا دُبُرُها بعد الفراغ منها. وهذا نظير انقضاء الأجل؛ فإنَّه يُرَاد به آخر المدَّة ولمَّا يفرغ (3)، ويُرَاد به فراغها وانتهاؤها. فصْلٌ ثم خُتِمَت بالتَّسليم وجُعِل تحليلًا لها، يخرج به المصلِّي منها كما يخرج بتحليل الحجِّ منه، وجُعِل هذا التَّحليل دعاء الإمام لمن وراءه بالسَّلامة، التي هي أصل الخير وأساسه. فشُرِع لمن وراءه أنْ يتحلَّل (4) بمثل ما تحلَّل به الإمام. وفي ذلك دعاءٌ له (5) وللمصلِّين معه بالسَّلام، ثم شُرِع ذلك لكلِّ (6) مصلٍّ وإن كان منفردًا. فلا أحسن من هذا التَّحليل للصَّلاة، كما أنَّه لا أحسن من كون التَّكبير تحريمًا لها. فتحريمها تكبير الرَّبِّ تعالى، الجامع لإثبات كلِّ كمالٍ له، وتنزيهه عن كلِّ نقصٍ وعيبٍ، وإفراده وتخصيصه (7) بذلك، _________ (1) هـ وط: «يسبحون .. يحمدونه .. يكبرونه». (2) أخرجه البخاري (843)، ومسلم (595)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) هـ: «المدته .. »! ض: «تفرغ». (4) س: «يتحللو». و «أن» ليست في هـ. (5) «له» ليست في س. (6) ط: «بكل». (7) «وتنزيهه .. وتخصيصه» سقطت من س.

(1/379)


وتعظيمه وإجلاله. فالتَّكبير يتضمَّن تفاصيل أفعال الصَّلاة، وأقوالها، وهيئاتها؛ فالصَّلاة من أوَّلها إلى آخرها تفصيلٌ لمضمون «الله أكبر». فلا أحسن من هذا التَّحريم المتضمِّن للإخلاص والتَّوحيد، ومن (1) هذا التَّحليل المتضمِّن للإحسان إلى إخوانه المؤمنين؛ فافتُتِحَت بالإخلاص، وخُتِمَت بالإحسان. فصْلٌ قال المكمِّلُون للصَّلاة: فصلاةٌ وُضِعَت على هذا (2) النَّحو وهذا التَّرتيب، لا يمكن أن يحصل (3) ما ذكرناه من مقاصدها ـ التي هي (4) جزءٌ يسيرٌ من قدرها وحقيقتها ـ إلَّا مع الإكمال والإتمام والتمهُّل الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله. ومحالٌ حصول ما ذكرناه مع النَّقر والتَّخفيف، الذي يرجع (5) إلى شهوة الإمام والمأمومين. ومن أراد أنْ يصلِّي هذه الصَّلاة الخاصَّة فلا بُدَّ له من مزيد تطويلٍ، وأمَّا الصَّلاة _________ (1) «ومن» من هـ. (2) ط: «فالصلاة .. على هذه». (3) هـ وط: «تحصل». (4) هـ: «هو». (5) س: «رجع».

(1/380)


الحرجيَّة (1) فلا تتوقَّف (2) على ذلك. وأمَّا استدلالكم بأحاديث الأمر بالإيجاز فقد بيَّنَّا أنَّ الإيجاز هو (3) الذي كان يفعله، وعليه داوم، حتى قبَضَه الله إليه، فلا يجوز غير هذا ألبتَّة. وأمَّا قراءتُه في الفجر بالمعوِّذَتَين فهذا إنَّما كان في السَّفر؛ كما هو مصرَّحٌ به في الحديث، والمسافر قد أُبِيح له ـ أو أُوجِب (4) عليه ـ قصر الصَّلاة لمشقَّة السَّفر، فأُبِيحَ له تخفيف أركانها، فهلَّا عملتم (5) بقراءَتِه في الحضر بمائة آيةٍ في الفجر! وأمَّا قراءتُه ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ بسورة التَّكوير في الفجر فإنْ كان في السَّفر فلا حُجَّة لكم فيه، وإنْ كان في الحضَر فالذي حَكَى عنه ذلك لم يقل: إنَّه كان يواظب على ذلك؛ بل سمعه يقرأ بها مرَّةً، وهذا لا يخالف رواية من (6) رَوَى عنه أنَّه كان يقرأ فيها بالسِّتين إلى المائة، وبـ «ق» ونحوها؛ فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يدخل في الصَّلاة وهو يريد إطالتها، _________ (1) س: «الخرجية». ومعنى «الحرجيَّة» أي: التي يُضيِّقها ويخفِّفها بترك التمهُّل والتَّطويل، مأخوذٌ من «الحرج»، وهو: تجمُّع الشيء وضيقه. (2) ط: «فلا يتوقف». (3) ض: «هذا». (4) ض: «وأوجب». (5) هـ: «علمتم» تحريفٌ! (6) «لم يقل .. رواية مَنْ» ليست في هـ وط.

(1/381)


فيخفِّفُها لعارضٍ؛ من بكاء صبيٍّ وغيره. وأمَّا حديث تسبيحه في الركوع والسُّجود ثلاثًا فلا يثبت، والأحاديث الصَّحيحة بخلافه. وهذا السَّعدي مجهولٌ، لا يُعْرف عينُه ولا حاله. وقد قال أنسٌ: إنَّ عمر بن عبدالعزيز كان أشبه النَّاس صلاةً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1)، وكان مقدار ركوعه وسجوده عشر تسبيحاتٍ (2). وأنسٌ أعلم بذلك من السَّعدي عن أبيه أوعمِّه لو ثبت. فأين عِلْم من صلَّى مع النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين كوامل إلى عِلْم مَنْ لعلَّه (3) لم يصلِّ معه إلَّا تلك الصَّلاة الواحدة، أو صلواتٍ يسيرةٍ؛ فإنَّ عمَّ هذا السَّعدي أوأباه ليس من مشاهير الصَّحابة المداومين الملازمة (4) لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كملازمه أنسٍ، والبراء بن عازب، وأبي سعيد الخدري، وعبدالله بن عمر، وزيد بن ثابت، وغيرهم ممَّن ذكر صفة صلاته - صلى الله عليه وسلم - وقدرها. وكيف يقوم - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع حتى يقولوا: «قد نسي» (5)، ويسبِّح فيه _________ (1) ض وس: «بصلاة رسول الله». (2) تقدَّم تخريجه (ص/292). (3) «لعلَّه» ليست في هـ وط. (4) «الملازمة» ليست في ض وس. (5) تقدم تخريجه (ص/292).

(1/382)


ثلاث تسبيحات، فيجعل القيام منه بقدره أضعافًا مضاعفةً، وكذلك جلوسه بين السَّجدتين حتى يقولوا: «قد أوهم»؟ ولا ريب أنَّ سجوده وركوعه إمَّا مساوٍ لهذين الرُّكنين أو أطول منه، وأنتم تقولون: إنَّ (1) ركوعه وسجوده كان أطول (2) من قيامه بعد الركوع، وجلوسه بين السَّجدتين، حتى تكرهوا إطالتهما، ويغلو من يغلو منكم فيبطل الصلاة بإطالتهما (3)! وقد شهد البراء بن عازب أنَّ ركوعه وسجوده كان نحوًا من قيامه (4)، ومحالٌ أنْ يكون مقدار ذلك ثلاث تسبيحاتٍ. ولعلَّه خفَّف مرَّةً لعارضٍ، فشهده عمُّ السَّعدي أو أبوه فأخبر به. وقد حكم النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ طول صلاة الرجل من فِقْهِه، وهذا الحكم أولى من الحُكْمِ (5) له بقلَّة الفقه؛ فحُكْمُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الحُكْمُ الحق، وما خالفه الحكم الباطل الجائر. فروى مسلمٌ في «صحيحه» (6)، من حديث عمَّار بن ياسر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ _________ (1) «سجوده وركوعه .. إنَّ» سقطت من هـ وط. (2) هـ وط: «كان نحوا». (3) ض وس: «بإطالتها». (4) تقدَّم تخريجه (ص/294)، وأنَّه في الصَّحيحين. (5) ض وس: «حكم». (6) حديث (869).

(1/383)


طول صلاة الرجل وقِصَر خطبته مئنَّةٌ من فقهِهِ، فأطيلوا الصَّلاة، واقْصُروا الخطبة». والمَئِنَّة: العلامة. وعند سُرَّاق الصلاة أنَّ العجلة فيها من علامات الفقه، فكلَّما سَرَق (1) ركوعها وسجودها وأركانها كان ذلك علامة فضيلته وفقهه. وفي «صحيح ابن حبان» (2)، و «سنن النَّسائي» (3)، عن عبدالله بن أبي أوفى قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ الذِّكْرَ، ويقلُّ اللَّغوَ، ويطيل الصَّلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنفُ يمشي (4) مع الأرملة والمسكين، فيقضى له الحاجة». فهذا فعلُه، وذاك قولُه في مثل صلاة الجمعة التي يجتمع لها الناس، وكان يقرأ فيها بسورة الجمعة والمنافقين كاملتين (5)، ولم يقتصر _________ (1) هـ: «أسرق». (2) حديث (1129). (3) حديث (1414). وأخرجه الحاكم (2/ 671) وغيرهم، من طريق الحسين بن واقد عن يحيى بن عقيل عن ابن أبي أوفى رضي الله عنه به. وقد صحَّحه ابن حبَّان والحاكم حيث قال: «صحيحٌ على شرط الشَّيخين»، وقال التِّرمذي في عِلَله (1/ 360) بعد أنْ أخرجه: سألتُ محمَّدًا عن هذا الحديث فقال: «هو حديثٌ حسنٌ، وهو حديث الحسين بن واقد، تفرَّد به». (4) هـ: «شيء». ط: «لشيء» تحريفٌ! (5) يشير إلى ما أخرجه مسلم (877)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضًا (879)، من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما.

(1/384)


على الثلاث (1) آيات من آخرهما في جمعةٍ واحدةٍ أصلًا. فعطَّل كثيرٌ من الناس سُنَّته، فاقتصر (2) على آخرهما، ولم يقرأ بهما كاملتين أصلًا. وكذلك كان يقرأ في فجر يوم الجمعة سورة {تَنْزِيلُ} السَّجدة، و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان/1] كاملتين في الركعتين، مع قراءته المترسِّلة على مُهْلةٍ وتأنٍّ (3). فعطَّل كثيرٌ من الأئمَّة ذلك، واقتصروا (4) على بعض هذه وهذه، أو على إحدى السُّورتين في الرَّكعتين. ومن يقرأ بهما كاملتين فكثيرٌ منهم يقرأ بهما هذًّا بسرعة، وهذا مكروهٌ للإمام. وكُلُّ هذا فِرار من هَدْيِه - صلى الله عليه وسلم -. فإنْ جاءهم (5) حديثٌ صحيحٌ يخالف (6) ما ألِفُوه واعتادوه قالوا: هذا منسوخٌ، أوخلاف الإجماع، والعيار على ذلك عندهم مخالفة أقوالهم. ولو كانت أحاديث التَّطويل منسوخةً لكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - _________ (1) هـ: «ثلاث». (2) ض: «واقتصر». و «بعض» ليست في هـ وط. (3) يشير إلى ما أخرجه البخاري (891)، ومسلم (880)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وتقدَّم قريبًا نحوه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند مسلمٍ. (4) ض: «واقتصر». (5) هـ: «جاء»، ط: «جاءه». (6) هـ وط: «خالف».

(1/385)


أعلم بذلك، ولما احتجُّوا بها على من لم يعمل بها، ولا عمل بها أعلم الأمَّة به، وهم الخلفاء الرَّاشدون. فهذا صِدِّيقُ الأمَّة وشيخ الإسلام، صلَّى الصُّبح، فقرأ البقرة من أوَّلها إلى آخرها ـ وخَلْفه الصَّغير والكبير وذو الحاجة ـ فقالوا له: يا خليفة رسول الله، كادت الشمس تطلع! فقال: «لو طلعت الشمس لم تجدنا غافلين» (1). ومَضَى على منهاجه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، وكان يقرأ في الفجر بالنَّحل ويوسف، وبهود ويونس، وبني إسرائيل، ونحوها من السور (2). وقد تقدَّم حديث عبدالله (3) بن عمر: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا (4) بالتَّخفيف، ويؤمُّنَا بالصَّافات» (5). فالذي فعله هو الذي أمر به. وقد تقدَّم حكاية الذِّكر والدُّعاء الذي كان يقوله في ركن الاعتدال من الرُّكوع، وأنَّه كان يطيله حتى يقول مَنْ خلفه: «قد أوْهَم». وتقدَّم حديث أبي سعيد في دخوله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الظُّهر: «فيذهب الذَّاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ويأتي أهله، فيتوضَّأ ثم يأتي المسجد، فيدركه في الركعة _________ (1) تقدَّم تخريجه (ص/313). (2) تقدَّم تخريجه (ص/313). (3) «عبدالله» ليست في ض. (4) هـ وط: «يأمر». (5) تقدَّم تخريجه (ص/336).

(1/386)


الأولى (1)» (2). فيالله العجب! ما الذي حرَّم الاقتداء به في ذلك، أوجعله مكروهًا؟ ونحن نقول: كلَّا والذي بعثه بالحق، إنَّ الاقتداء به في ذلك مرضاة لله ورسوله، وإنْ تَرَكَها مَنْ تَرَكَها. وأمَّا حديث سعيد بن عبدالرحمن بن أبي العمياء، ودخول سهل بن أبي أمامة على (3) أنس بن مالك، فإذا هو يصلِّي صلاةً خفيفةً كأنَّها صلاة مسافر، فقال: «إنَّها لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (4) = فهذا ممَّا تفرَّد به ابن أبي العمياء، وهو شِبْه المجهول. والأحاديث الصَّحيحة عن أنسٍ كلُّها (5) تخالفه. كيف يقول أنسٌ هذا وهو القائل: إنَّ أشبه (6) من رأى صلاةً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر بن عبدالعزيز، وكان يسبِّح عشرًا عشرًا؟ وهو الذي كان يرفع رأسه من الركوع حتى يُقَال: «قد نسِيَ»، وكذلك (7) بين _________ (1) ض وس زيادة: «بعد». و «الأولى» ليست في ض. (2) تقدَّم تخريجه (ص/305)، وأنَّه في مسلم. (3) ض وهـ وط: «سهيل .. »، ط: « .. عن». (4) تقدَّم تخريجه (ص/317 - 319). (5) س: «كلها عن أنس .. ». (6) هـ: «شبه». (7) هـ وط زيادة: «من».

(1/387)


السَّجدتين، ويقول: «ما آلو أنْ أصلِّي لكم (1) صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (2). وهو الذي يبكي على إضاعتهم الصَّلاة؟ ويكفي في ردِّ حديث ابن أبي العمياء ما تقدَّم من الأحاديث الصَّحيحة الصَّريحة، التي لا مَطْعَن في سندها، ولا شبهة في دلالتها (3). فلو صحَّ حديث ابن أبي العمياء ـ وهو بعيدٌ عن (4) الصِّحَّة ـ لوجب حمله على أنَّ تلك صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للسُّنَّة الرَّاتبة، كسُّنَّة الفجر والمغرب والعشاء، وتحيَّة المسجد، ونحوها، لا أنَّ تلك صلاته التي كان يصلِّيها بأصحابه دائمًا. وهذا ممَّا يقطع ببطلانه، وتردُّه (5) سائر الأحاديث الصَّحيحة الصَّريحة. ولا ريب أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخفِّف بعض الصَّلاة، كما كان يخفِّف سُنَّة الفجر، حتى تقول عائشة أم المؤمنين: «هل قرأ فيها بأمِّ القرآن (6)؟» (7). وكان يخفِّف الصَّلاة في السَّفر، حتى كان ربَّما قرأ في _________ (1) س: «بكم». (2) تقدَّم تخريجه (ص/292)، وأنَّه في الصَّحيحين. (3) هـ: «أدلتها». (4) ض وس: «من». (5) س وض: «ويرده». (6) ض: «الكتاب». (7) أخرجه البخاري (1171)، ومسلم (724).

(1/388)


الفجر بالمعوِّذَتين (1). وكان يخفِّف إذا سمع بكاء الصَّبي (2). فالسُّنَّة التَّخفيف حيث خفَّف، والتَّطويل حيث أطال، والتوسُّط غالبًا. فالذي أنكره أنسٌ هو التَّشديد، الذي لا يخفِّف صاحبُه على نفسه، مع حاجته إلى التَّخفيف، ولا ريب أنَّ هذا خلاف سُنَّته وهَدْيه. وأمَّا حديث معاذٍ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أفتَّانٌ أنت يا معاذ؟» فلم يتعلَّق السُّرَّاق منه إلَّا بهذه الكلمة، ولم يتأمَّلوا أوَّل الحديث وآخره! فاسْمَع سياق (3) قصَّة معاذٍ. فعن جابر بن عبدالله قال: أقبل رجلٌ بناضِحَين (4) وقد جنح اللَّيل، فوافق معاذًا يصلِّي، فترك ناضِحَيه، وأقبل إلى معاذٍ (5)، فقرأ بسورة البقرة أو النِّساء، فانطلق الرجل، وبَلَغه أنَّ معاذًا نال منه، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فشكا (6) إليه معاذًا، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أفتَّانٌ أنت (7)، أو قال: أفاتنٌ _________ (1) تقدَّم تخريجه (ص/322) من حديث عقبة بن عامر. (2) تقدَّم تخريجه (ص/290)، وأنَّه في الصَّحيحين. (3) «سياق» ليست في هـ وط. (4) النواضح: هي الإبل التي يستقى عليها من النَّهر أوالبِئْر. يُنْظَر: النَّهاية لابن الأثير (5/ 68). (5) ض وس: «ناضحه .. ». و «معاذ» ليست في ض. (6) «فشكى» سقطت من ط. (7) س زيادة: «يا معاذ».

(1/389)


أنت؟ ثلاث مرار (1)، فلولا صليت بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى/1]، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس/1]، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [اللَّيل/1]؛ فإنَّه يصلِّي وراءك الكبير، والضَّعيف، وذو الحاجة». رواه البخاري ومسلم، ولفظه للبخاري (2). وفي «مسند الإمام أحمد (3)» (4)، من حديث أنس بن مالكٍ قال: كان معاذ بن جبل يؤمُّ قومه، فدخل حرامٌ (5) وهو يريد أنْ يسقي نخْلَهُ، فدخل المسجد مع القوم، فلمَّا رأى معاذًا طوَّل تجوَّزَ في صلاته، ولحق بنخْلِهِ يسقيه، فلمَّا قضى معاذٌ الصَّلاة قيل له ذلك، فقال: إنَّه لمنافقٌ، أيعجل عن الصَّلاة من أجل سقي (6) نخله! قال: فجاء حرامٌ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ــ ومعاذ عنده ــ فقال: يا نبيَّ الله، إنِّي أردت أن أسقي نخلًا لي، فدخلت المسجد لأصلِّي مع القوم، فلمَّا طوَّل تجوَّزْتُ في صلاتي، ولحقت بنخلي أسقيه، فزعم أنِّي منافقٌ! فأقبل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على معاذٍ، فقال: «أفتَّانٌ _________ (1) هـ وط: «مرات». (2) البخاري (705)، ومسلم (465). (3) «أحمد» ليست في ض. (4) (3/ 101)، من طريق ابن عُلَيَّة عن عبدالعزيز بن صُهَيب عن أنسٍ رضي الله عنه به، وهذا إسناد صحيح، ويُنظر: إرواء الغليل للألباني (295). (5) هـ وط: «حزام». وكذا في الموضع التَّالي بعده قريبًا. (6) ط: «أتعجل .. تسقي».

(1/390)


أنت؟ لا تطوِّل بهم، اقرأ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى/1]، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس/1]، ونحوها». وعن معاذ بن رفاعة الأنصاري عن سليم ــ رجلٍ من بني سلمة (1) ـ: أنَّه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنَّ معاذ بن جبل يأتينا بعد ما ننام (2) ــ ونكون في أعمالنا بالنَّهار ــ فينادي بالصَّلاة، فنخرج إليه، فيطوِّل علينا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا معاذ بن جبل، لا تكن فتَّانًا، إمَّا أنْ تصلِّي معي، وإمَّا أنْ تخفِّف على قومك». ثُمَّ قال: «يا سُليم، ما معك من القرآن؟» قال: إنِّي أسأل الله الجنة، أوقال: أسأله (3) الجنَّة، وأعوذ به من النَّار، والله ما أحسن دَنْدَنَتَك ولا دَنْدَنَة معاذ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وهل تصير دندنتي ودندنة معاذ إلَّا أنْ نسأل (4) الله الجنة، ونعوذ به من النار!». قال سليمٌ: سترون غدًا إذا التقى القوم إنْ شاء الله، قال: والنَّاس يتجهَّزُون إلى أُحدٍ، فخرج فكان في الشُّهداء رحمه الله. رواه الإمام أحمد (5). _________ (1) ض: «بني سليم». (2) س: «ينام». (3) هـ وط: «أسأل». وجملة: «أو قال: أسأله الجنة» ليست في س. (4) ط: «يسأل». (5) في المسند (5/ 74)، وأخرجه الطَّبراني (7/ 67)، كلاهما من طريق عمرو بن يحيى عن معاذ بن رفاعة به. ومعاذ بن رفاعة لم يُدرك الرجل الذي من بني سلمة؛ لأنَّه استشهد بأحدٍ، ومعاذٌ تابعيٌّ، لا صحبة له؛ فإسناده منقطعٌ. ويُنظر: نتائج الأفكار (1/ 466)، ومجمع الزَّوائد للهيثمي (2/ 72).

(1/391)


فإنْ قيل: فقد روى الإمام أحمد (1)، من حديث بريدة: أنَّ معاذ بن جبل صلَّى بأصحابه صلاة العشاء، فقرأ فيها {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر/1]، فقام رجلٌ قبل أنْ يفرغ فصلَّى وذهب، فقال له معاذٌ قولًا شديدًا، فأتى الرَّجلُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فاعتذر إليه، فقال: إنِّي كنت أعمل في نخلي وخِفْتُ على الماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صلِّ بـ {الشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس/1]، ونحوها من السُّور» = فقد أجيب عن هذا بأنَّ قصة معاذ تكرَّرت. وهذا جوابٌ في غاية البُعْد عن الصَّواب؛ فإنَّ معاذًا كان أفقه في دين الله من أنْ ينهاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيءٍ (2) ثم يعود له. وأجودُ من هذا الجواب: أنْ يكون قرأ في الرَّكعة الأولى بالبقرة، وفي الثَّانية بـ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر/1]، فذكر بعضهم قراءته في الأولى (3) فقال: «صلَّى بالبقرة»، وبعضهم قراءته في الثَّانية، فقال: «صلَّى بـ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر/1]». _________ (1) في المسند (5/ 355)، من طريق زيد بن الحباب عن حسين بن واقد عن عبدالله ابن بريدة عن بريدة رضي الله عنه به. وقد حسَّن إسناده ابن حجر في نتائج الأفكار (1/ 461)، وصحَّحه الألباني في الإرواء (295). (2) «عن شيءٍ» ليست في هـ وط. (3) «بسورة البقرة .. الأولى» سقطت من هـ وط.

(1/392)


والذي في «الصَّحِيحَين (1)» أنَّه قرأ بسورة البقرة، وشكَّ بعض الرُّواة فقال: «بالبقرة أوالنِّساء». وقصَّة قراءته بـ {اقْتَرَبَتِ} لم تُذْكَر في «الصَّحيح». والذي في «الصَّحِيْحَين» (2) أولى بالصِّحَّة منها. وقد حفظ الحديث جابرٌ فقال: «كان معاذٌ يصلِّي مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - العشاء، ثُمَّ أتى قومه فأمَّهُم، فافتتح بسورة البقرة». وذكر القِصَّة. فهذا جابرٌ أخبر أنَّه فعل ذلك مرَّةً، وأنَّه قرأ بالبقرة ولم يشكَّ، وهذا الحديث متَّفقٌ على صِحَّته، أخرجاه في «الصَّحِيْحَين» (3). والله أعلم. فصْلٌ وقد ظهر بهذا أنَّ التعمُّق والتنطُّع والتَّشديد الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المخالف لهَدْيه وهَدْي أصحابه، وما كانوا عليه. وأنَّ موافقته فيما فعله هو وخلفاؤه من بعده هو محض المتابعة، وإنْ أباها مَنْ أباها، وجهلها مَنْ جهلها. فالتعمُّق والتَّنطُّع: مخالفة ما (4) جاء به، وتجاوزه، والغلوُّ فيه. _________ (1) تقدَّم (ص/389). (2) هـ وط: «الصحيح». (3) البخاري (701)، ومسلم (465). (4) ض: «لما».

(1/393)


ويقابِلُهُ (1): إضاعته، والتَّفريط فيه، والتَّقصير عنه. وهما خطأٌ وضلالةٌ، وانحرافٌ عن الصَّراط المستقيم والمنهج القويم. ودين الله بين الغالي فيه (2) والجافي عنه (3). وقد قال علي بن أبي طالبٍ (4): «خير النَّاس النَّمط الأوسط؛ الذي يرجع إليهم الغالي، ويلحق بهم التَّالي». ذكره ابن المبارك عن محمد ابن طلحة عن عليٍّ (5). _________ (1) هـ وط: «ومقابله». (2) «والتقصير .. فيه» سقطت من ض. (3) «عنه» سقطت من ض. (4) ط زيادة: «كرَّم الله وجهه». (5) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (35639) من طريق يزيد بن هارون عن محمد ابن طلحة عن زبيد قال: قال عليٌّ: «خير النَّاس هذا النَّمَط الأوسط، يلحق بهم التَّالي، ويرجع إليهم العالي». وهذا إسنادٌ منقطعٌ؛ فزبيدٌ هو: ابن الحارث اليامي، لم يلق عليًّا، بل لم يلق أحدًا من الصَّحابة، كما في جامع التَّحصيل (ص/176)، وتحفة التَّحصيل (ص/109). تنبيه: قوله: «العالي» هكذا أثبته محقِّق المصنَّف، وأشار في الهامش إلى أنَّه «الغالي» في بعض النسخ الأخرى. وهو المشهور، والمناسب من جهة المعنى. وأخرجه اللَّالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السُّنة (2679) من طريق أبي عبيد القاسم بن سلَّام عن أبي بدرٍ شجاع بن الوليد بن قيسٍ عن خلف بن حوشب عن الوليد بن قيسٍ عن عليٍ رضي الله عنه نحوه. ولم أقف على من ذكر سماعًا للوليد من عليٍّ.

(1/394)


وقال ابن عائشة (1): «ما أمر الله عباده بأمرٍ إلَّا وللشَّيطان فيه نزغتان؛ فإمَّا إلى غلوٍّ، وإمَّا إلى تقصير» (2). وقال بعض السَّلف: «دينُ الله بين الغالي فيه والجافي عنه» (3). وقد مَدَح تعالى أهل التَّوسُّط بين الطَّرَفين المنْحَرِفَيْن في غير موضعٍ من كتابه، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان/67]. وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء/29]. وقال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء/26]. فمَنْعُ ذي القُرْبى والمسكين وابن السَّبيل حقَّهُم انحرافٌ في جانب الإمساك، والتَّبذيرُ انحرافٌ في جانب البَذْل، ورضا الله فيما بينهما؛ ولهذا كانت هذه الأمَّة أوسط الأُمم، وقبلتها أوسط القِبَل بين القِبْلَتَيْن المنحَرِفَتَيْن، والوسط دائمًا محميٌّ بالأطراف (4)، فالخَلَل إليها أسرع، _________ (1) في هامش ط: «هو: عبيدالله بن محمد بن حفص». تقريب. (2) أخرجه الخطَّابي في العُزْلة (ص/237) قال: أخبرني إبراهيم بن عبد الرحيم العنبري قال حدثنا ابن أبي قماش عن ابن عائشة، فذكره، وتتمَّته: «فبأيِّهما ظفر قنع». (3) أخرجه الدارمي (1/ 296) من طريق شريك عن المبارك بن فضالة عن الحسن قال: «سُنَّتكم والله الذي لا إله إلا هو بينهما، بين الغالي والجافي ... ». (4) هـ وط: «الأطراف».

(1/395)


كما قال الشَّاعر (1): كانت هي الوسط المحْمِي فاكتَنَفَتْ ... بها الحوادث حتَّى أصبحَتْ طَرَفَا فقد اتَّفق شرع الرَّب تعالى وقدره على أنَّ خيار الأمور أوساطها. وأمَّا قولهم: إنَّ محبَّة الصَّحابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولصوته وقراءته يحملهم على احتمال إطالته، فلا يجدون لها مشقَّةً= فلعمر الله (2) إنَّ الأمر كما ذكروه (3)، بل حبُّهم له يحملهم على بذل نفوسهم وأموالهم بين يديه، وعلى وقاية نَفْسِه الكريمة بنفوسهم؛ فكانوا يتقدَّمون إلى الموت بين يَدَيْه تقدُّم المحبِّ إلى رضا محبوبه. ولعمر الله هذا شأن أتباعه من بعده إلى يوم القيامة، لا تأخذهم في متابعة سُنَّته (4) لومة لائمٍ، ولا يثنيهم (5) عنها عذْلُ عاذلٍ، فهم يحتملون _________ (1) البيت لأبي تمَّام وروايته في ديوانه (شرح الصولي 2/ 67، شرح التبريزي 1/ 425)، قال: كانت هي الوسط الممنوع فاستَلَبَت ... ما حولها الخيلُ حتى أصبَحَت طَرَفا ونسبه إليه على هذا الوجه أبو حيان في البحر المحيط في تفسير قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ ... } وغيره. (2) هـ وط: «يجدون بها .. ». س وض: « .. فلعمرو الله». وكذا في الموضع الآتي بعده. (3) هـ وط: «ذكروا». (4) هـ وط: «يأخذهم .. ». س: « .. سننه». وكذا في الموضع التَّالي بعده. (5) ض: «ينهنهم»، ط: «يشنهم». تحريفٌ.

(1/396)


في متابعته والاهتداء بهَدْيِه لوم اللَّائمين وطعن الطَّاعنين ومعاداة الجاهلين، الذين رضوا من سُنَّته بآراء الرجال بدلًا، وتمسَّكُوا بها، فلا يبغون عنها حِوَلًا، وعرضوا عليها نصوص السُّنَّة والقرآن عرض الجيوش على السُّلطان، فما وافقها قبلوه، وما خالفها تلطَّفُوا في ردِّه بأنواع التَّأويل (1). فمرَّةً يقولون: هذا متروك الظَّاهر، ومرَّةً يقولون: لا يُعْلَم به قائلٌ، ومرَّةً يقولون: هو منسوخٌ، ومرَّةً يقولون: متبوعنا أعلم به مِنَّا، وما خالفه إلَّا وقد صحَّ عنده ما يقتضي مخالفته. فأَتْبَاعُه في مجاهدة هذه الفِرَق دائبون، وعلى متابعة سُنَّته (2) دائرون، فإن كان قد غاب عن أعينهم شخصه الكريم فقد شاهدوا ببصائرهم ما كان عليه الهَدْي المستقيم. فصْلٌ فهاك سياق صلاته - صلى الله عليه وسلم -، من حين استقباله القبلة وقوله: «الله أكبر» إلى حين سلامه، كأنَّك تشاهده عيانًا، ثم اختر لنفسك بعدُ ما شئت. كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصَّلاة واستقبل القِبْلة ووقف في مصلَّاه= رفع يَدَيْه إلى فروع أُذُنَيه (3)، واستقبل بأصابعه القبلة _________ (1) س زيادة: «ودفعوه». (2) هـ وس: «سننه». (3) يشير إلى ما أخرجه مسلم (391)، من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه: = = «أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كبَّر رفع يَدَيه حتى يحاذي بهما أذنيه، وإذا ركع رفع يَدَيه حتى يحاذي بهما أذنيه، وإذا رفع رأسه من الركوع فقال: سمع الله لمن حمده فعل مثل ذلك»، وفي روايةٍ: «حتى يحاذي بهما فروع أذنيه». وفي الباب أحاديث ظاهر ألفاظها التَّعارض، فوردت بلفظ: «يحاذي بهما المنكبين»، وبلفظ: «حيال أذنيه»، وبلفظ: «قريبًا من أذنيه». قال المصنِّف في الزاد (1/ 202): «قيل: هو من العمل المخيَّر فيه، وقيل: كان أعلاها إلى فروع أذنيه وكفَّاه إلى منكبيه، فلا يكون اختلافًا».

(1/397)


ونشرها (1)، وقال: «الله أكبر» (2). ولم يكن يقول قبل ذلك: نَوَيْتُ (3) أصلِّي كذا وكذا، مستقبل (4) _________ (1) يشير إلى ما أخرجه الترمذي (239)، وابن خزيمة (458)، وابن حبَّان (1769)، والحاكم (1/ 359)، وغيرهم، من طريق يحيى بن اليمان عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن سمعان عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينشر أصابعه في الصلاة نشرًا». وقد خطَّأ غير واحدٍ يحيى بن اليمان في لفظ هذا الحديث، وأنَّ المحفوظ قوله: «رفع يَدَيْه مدًّا». يُنْظَر: كلام الدَّرامي في سنن الترمذي عقب الحديث، وعلل ابن أبي حاتم (265، 458)، ومسائل أحمد لأبي داود (1854). وأخرجه ابن خزيمة (459)، والحاكم (1/ 359)، من طريق أبي عامر العقدي عن ابن أبي ذئب به، بلفظ: «كان إذا قام إلى الصَّلاة قال هكذا، وأشار أبوعامرٍ بيده، ولم يفرِّج بين أصابعه ولم يضمَّها». (2) أحاديث تكبيره - صلى الله عليه وسلم - عند قيامه للصلاة كثيرة، منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم (392)، وحديث وائل بن حجر رضي الله عنه عنده أيضًا (401). وانظر: صفة صلاة النَّبي - صلى الله عليه وسلم - للألباني، الأصل (1/ 176 - 192). (3) ط زيادة: «أنْ». (4) ض: «استقبل».

(1/398)


القبلة، أربع ركعاتٍ، فريضة الوقت، أداءً لله تعالى، إمامًا أو مأمومًا (1)! ولا كلمةً واحدةً من ذلك في مجموع صلاته من أوَّلها إلى آخرها؛ فقد نَقَل عنه أصحابه (2) حركاته وسكناته وهيئاته، حتى اضطراب لحيته في الصَّلاة (3)، حتى إنَّه حَمَل بنت ابنته مرَّةً في الصَّلاة (4)، فنقلوه ولم يهملوه. فكيف يتَّفق مَلَؤُهُم ـ من أوَّلهم إلى آخرهم ـ على ترك نقل هذا المهمِّ، الذي هو شِعَار الدُّخول في الصَّلاة؟ ولعمر الله لو ثبت عنه من هذا كلِّه (5) كلمة واحدة لكُنَّا أول من اقتدى به فيها، وبادر إليها. ثم كان يمسك شماله بيمينه، فيضعها عليها فوق المِفْصَل، ثم يضعهما (6) _________ (1) «مأمومًا» من هـ. (2) س: «أصحابه عنه». (3) يشير إلى ما أخرجه البخاري (746)، من حديث خبَّاب بن الأرتِّ رضي الله عنه أنَّه سئل: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظُّهر والعصر؟ قال: نعم، قلنا: بم كنتم تعرفون ذاك؟ قال: باضطراب لحيته. (4) يشير إلى ما أخرجه البخاري (516)، ومسلم (494)، من حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه: «أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلِّي وهو حامل أمامة بنت زينب .. فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها». وفي روايةٍ لمسلم: «يؤمُّ النَّاس .. فإذا ركع وضعها وإذا رفع من السُّجود أعادها». (5) هـ وط: «ثبت منه .. »، و «كله» ليست فيهما. (6) س وهـ وط: «يضعها».

(1/399)


على صَدْرِه (1)، ثُمَّ يقول: «سبحانك اللَّهُم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى _________ (1) أمَّا وضع اليد اليُمْنى على اليُسْرى: فأخرجه البخاري (740) من حديث سهل بن سعدٍ رضي الله عنه قال: «كان الناس يُؤْمَرون أنْ يضع الرجل اليد اليُمْنى على ذراعه اليُسْرَى في الصلاة»، وأخرجه مسلم (401) من حديث وائل بن حجر رضي الله عنه، في صلاته - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: «وضع يده اليمنى على اليُسْرَى». وأمَّا وضع يده اليُسْرَى على مفصل اليمنى: فأخرجه أبوداود (727)، والنسائي (889)، وابن خزيمة (480)، وابن حبان (1860)، وغيرهم، من طرقٍ عن عاصم بن كليب قال: حدثني أبي عن وائل بن حجر رضي الله عنه، وفيه: «وضع يده اليمنى على ظهر كفِّه اليُسْرَى والرُّسغ والسَّاعد». وقد صحَّحه ابن خزيمة وابن حبَّان والنَّووي والمصنِّف والألباني، ويُنْظَر: إرواء الغليل (352). وأمَّا وضعهما على الصَّدر: فأصحُّ ما فيه حديث وائل بن حجر، أخرجه ابن خزيمة (497) من حديث وائل بن حجر قال: «صلَّيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره». صحَّحه ابن خزيمة. وقد تفرَّد مؤمَّل بن إسماعيل بزيادة «على صدره»؛ إذ حديث وائلٍ عند مسلم كما تقدَّم قريبًا بغير هذه اللَّفظة. ومؤمَّلٌ لا يحتمل مثله التفرُّد، فقد قال أبوحاتم عنه: «صدوقٌ، كثير الخطأ يكتب حديثه»، وقال أبوزُرْعة: «في حديثه خطأٌ كثيرٌ»، وقال البخاريُّ: «منكر الحديث»، وقال أبوداود: «يَهِمُ في الشَّيء»، وقال الدَّارقطني: «ثقةٌ كثير الخطأ»، وقال محمد بن نصر المروزي: «إذا انفرد بحديثٍ وجب أن يتوقَّف ويثبت فيه؛ لأنه كان سيِّء الحفظ، كثير الغلط». يُنْظَر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (8/ 374)، وتهذيب الكمال (29/ 176)، وميزان الاعتدال (4/ 228)، وتهذيب التهذيب (4/ 193). وقد صحَّح الشيخ الألباني رحمه الله في صفة الصلاة، الأصل (1/ 215 - 225) وضع اليدين على الصَّدر، وضعَّف ما ورد بخلافه.

(1/400)


جَدُّك، ولا إله غيرك» (1). وكان أحيانًا يقول (2): «اللَّهم باعِد بيني وبين خطاياي كما باعَدْت بين المشرق والمغرب، اللَّهُمَّ نَقِّنِي من خطايَاي كما يُنَقَّى الثَّوب الأبيض من الدَّنَس، اللَّهُمَّ اغسل خطايايَ بالماء والثَّلْج والبَرَد» (3). وكان يقول أحيانًا: «وجَّهْتُ وجهي للَّذي فَطَر السَّماوات والأرض، حنيفًا (4)، وما أنا من المشركين، {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام/162 - 163]. اللَّهُمَّ _________ (1) الحديث مرويٌّ من حديث عدَّةٍ من الصَّحابة، عائشة، وأبي سعيد، وغيرهما، مرفوعًا إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا يسلم شيءٌ منها من مقال، حتى قال ابن خزيمة في صحيحه (1/ 237): «لا نعلم في هذا خبرًا ثابتًا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عند أهل المعرفة بالحديث». وقال (1/ 239): «هذا صحيحٌ عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه .. لا عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -». وقال الترمذي (242): «قال أحمد: لا يصحُّ هذا الحديث». وقد أخرجه مسلم موقوفًا على عمر رضي الله عنه (399) من حديث عبدة: أنَّ عمر رضي الله عنه كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: «سبحانك اللهم .. ». وانظر: زاد المعاد (1/ 205)، والتلخيص الحبير (1/ 229)، وإرواء الغليل للألباني (341). (2) «اللهم وبحمدك .. يقول» سقط كلُّه من ط. وسقط من هـ: «وكان أحيانًا يقول». (3) أخرجه البخاري (744)، ومسلم (598)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (4) ط زيادة: «مسلمًا».

(1/401)


أنت الملك، لا إله إلَّا أنت، أنت ربِّي (1) وأنا عبدك، ظلمتُ نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، لا يغفر الذُّنوب إلَّا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلَّا أنت، واصرف عنِّي سيِّئَها، لا يصرِفُ عنِّي سيِّئَها إلَّا أنت، لبَّيْكَ وسَعْدَيْك والخير كلُّه في يَدَيك، والشَّرُّ ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعالَيْت، استغفرك وأتوب إليك» (2). ولكن هذا إنَّما حُفِظ عنه في صلاة اللَّيل (3). وربَّما كان يقول: «الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، الحمد لله كثيرًا، الحمد لله كثيرًا (4)، وسبحان الله بكرةً وأصيلًا» (5). _________ (1) «أنت ربي» ليست في هـ وط. (2) أخرجه مسلم (771)، من حديث علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه. (3) لفظ حديث عليٍّ رضي الله عنه السَّابق عند مسلمٍ: «كان إذا قام إلى الصَّلاة»، وفي روايةٍ عنده: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استفتح الصَّلاة». وفي روايةٍ للتِّرمذي (3423): «كان إذا قام إلى الصَّلاة المكتوبة». وقال عقبه: «وقال بعض أهل العلم من أهل الكوفة وغيرهم: يقول هذا في صلاة التَّطوُّع ولا يقوله فى المكتوبة». وأخرجه النسائي (898) من حديث محمد بن مسلمة رضي الله عنه: «أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام يصلِّي تطوُّعًا .. »، وذكر نحوه. (4) جملة: «الله أكبر كبيرًا» كُرِّرت مرتين في هـ وط. وكُرِّرت «الحمد لله كثيرًا» مرَّتين في النُّسخ كلِّها. (5) يشير إلى ما أخرجه مسلمٌ (601) من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: بينما نحن نصلِّي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال رجلٌ من القوم: الله أكبر كبيرًا، = = والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من القائل كلمة كذا وكذا؟» قال رجلٌ من القوم: أنا يا رسول الله، قال: «عجبتُ لها، فُتِحَت لها أبواب السَّماء». وقد أخرجه أبوداود (764)، وابن ماجه (807)، وأحمد (4/ 85)، وابن خزيمة (468)، وابن حبَّان (1780)، والحاكم (1/ 360)، وغيرهم، من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن عاصم العنزي عن ابن جبير بن مطعم عن أبيه عنهما: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصَّلاة قال: «الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا، ثلاث مرات، اللَّهُمَّ إنِّي أعوذ بك من الشيطان الرجيم، من نفخه ونفثه وهمزه». ولفظ ابن حبَّان: «أعوذ بالله من الشَّيطان .. ». قال الحاكم: «صحيح الإسناد». وعند ابن حبان أيضًا (2601) بنحو ما ذكروه، لكن بتكرار الجمل الثلاثة ثلاث مرات. وأخرجه ابن خزيمة (469) من طريق حصين بن عبد الرحمن عن عمرو بن مرة عن عباد بن عاصم عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه، بنحوه. قال ابن خزيمة عقبه: «عاصم العنزي وعباد بن عاصم مجهولان، لا يدرى من هما، ولا يُعْلَم الصَّحيح ما روى حصين أو شعبة». وقد أشار إلى ضعفه الألباني في الإرواء (342) للجهالة في إسناده، وحسَّنه بشواهده.

(1/402)


ورُبَّما كان يقول: «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلَّا أنت، لا إله إلَّا أنت، سبحان الله وبحمده، سبحان الله وبحمده، سبحان الله وبحمده (1)» (2). _________ (1) جملة: «الله أكبر» و «سبحان الله وبحمده» كرِّرت مرتين في هـ وط. (2) يشير إلى ما أخرجه أحمد (5/ 253) من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: «كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة كبَّر ثلاث مرات، ثم قال: لا إله إلَّا الله، ثلاث مرات، وسبحان الله وبحمده، ثلاث مرَّات».

(1/403)


ثُمَّ يقول: «أعوذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم» (1)، ورُبَّما قال: «أعوذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم، من نفْخِه ونفْثِه وهَمْزِه» (2). ورُبَّما قال: «اللَّهُمَّ إنِّي أعوذ بك من الشَّيطان الرَّجيم، وهَمْزِه ونفْخِه ونفْثِه» (3). ثم يقرأ فاتحة الكتاب، فإنْ كانت (4) الصَّلاة جهرية أسْمَعَهُم القراءة، ولم يُسْمِعهم «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، فربُّه أعلم هل كان (5) يقرؤها أم لا (6). وكان يقطِّع قراءته آيةً آيةً، ثُمَّ يقف على {رَبِّ الْعَالَمِينَ}، _________ (1) قال الحافظ في التلخيص (1/ 230): «قوله: ورد الخبر بأنَّ صيغة التعوُّذ «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» هو كما قال ... وفي مراسيل أبي داود [32] عن الحسن: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوَّذ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم». وقد تعقَّبه الألباني في الإرواء (342)، فقال: «صحيحٌ لكن بزيادتين يأتي ذكرهما، أمَّا بدونهما فلا أعلم له أصلًا، وإن أوْهَم خلاف ذلك الحافظ ابن حجر في التلخيص .. ثم إنَّ هذه الزيادة هي في حديث الحسن أيضًا في مراسيل أبي داود». (2) تقدَّم تخريجه قريبًا من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه، وأنَّه لفظ ابن حبَّان. (3) تقدَّم تخريجه قريبًا، من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه. (4) ض: «كان». (5) «كان» ليست في ض. (6) قال المصنِّف في الزاد (1/ 207) عن أحاديث الجهر بها: «صحيحُ تلك الأحاديث غير صريحٍ، وصريحُها غير صحيحٍ، وهذا موضع يستدعي مجلَّدًا ضخمًا».

(1/404)


ثم يبتديء {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، ويقف، ثُمَّ يبتديء {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}. على ترسُّلٍ (1) وتمهُّلٍ وترتيل، يمدُّ {الرَّحْمَنِ}، ويمُدُّ {الرَّحِيمِ} (2). وكان يقرأ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} بالألف (3). _________ (1) «ترسل» ليست في هـ. (2) يشير إلى ما أخرجه البخاري (5046)، من حديث قتادة قال: سُئل أنس رضي الله عنه: كيف كانت قراءة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: «كانت مدًّا، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، يمد ببسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم». (3) يشير إلى ما أخرجه أحمد (6/ 302) وأبوداود (4001) والحاكم (2/ 252)، وغيرهم من طريق ابن جريج عن ابن أبى مليكة عن أم سلمة أنَّها سُئِلَت عن قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: «كان يقطِّع قراءته آيةً آيةً، {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}». قال أبودواد: وسمعتُ أحمد يقول: «القراءة القديمة: ملِك يوم الدين»، وقال الحاكم: «قال ابن أبي مليكة: وكانت أمُّ سلمة تقرؤها «ملِك يوم الدين»، هذا حديث صحيحٌ على شرط الشَّيخين ... وله شاهدٌ بإسناد صحيح على شرطهما عن أبي هريرة» ثمَّ أسنده من طريق أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه به، قال الدَّارقطني في العلل (8/ 176): «والصَّحيح عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أنَّه كان يقرؤها: مالك يوم الدين». وانظر أيضًا: الإرواء للألباني (343).

(1/405)


وإذا ختم السُّورة قال: «آمين»، يجهر بها، ويمدُّ بها صوتَه (1)، ويجهر بها مَنْ خلفه، حتى يرتجَّ المسجد (2). واختلفت الرِّواية عنه، هل كان يسكت بين الفاتحة وقراءة السُّورة، أم كانت سكتته (3) بعد القراءة كلِّها؛ فقال يونس عن الحسن عن سمرة (4): «حَفِظْتُ سكتتين، سكتةً إذا كبَّر الإمام حتى يقرأ، وسكتةً إذا فرغ من فاتحة الكتاب وسورة (5) عند الرُّكوع»، وصدَّقَهُ أُبَيُّ بن كعبٍ على _________ (1) يشير إلى ما أخرجه الترمذي (248)، وأبوداود (932)، وابن حبَّان (1805)، من طريق سلمة بن كهيل عن حجر الحضرمي عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ {وَلَا الضَّالِّينَ} قال: آمين، ورفع بها صوته». وقد صحَّحه ابن حبَّان، والدَّارقطني في سننه (1/ 333)، وابن حجر في التَّلخيص (1/ 236)، وردَّ إعلال ابن القطَّان له بما وهَّمه فيه. (2) أخرجه أبوداود (934)، وابن ماجه (853) من طريق بشر بن رافع عن أبي عبدالله ابن عمِّ أبي هريرة عن أبي هريرة قال: ترك الناس التأمين وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قال: آمين، حتى يسمعها أهل الصَّفِّ الأول، فيرتجُّ بها المسجد». هذا لفظ ابن ماجه. ولفظ أبي داود: «حتى يسمع من يليه من الصف الأول». قال الحافظ في التَّلخيص (1/ 238): «وبشر بن رافع ضعيفٌ، وابن عمِّ أبي هريرة قيل: لا يعرف، وقد وثَّقه ابن حبان». وانظر: البدر المنير لابن الملقِّن (3/ 587)، والسلسلة الضَّعيفة للألباني (952). (3) ط: «سكتةً». (4) س: «بن سمرة». تحريفٌ. (5) هـ وط: «وسكتة».

(1/406)


ذلك (1). ووافق يونسَ أشعثُ الحمراني (2) عن الحسن فقال: «سكتة إذا استفتح، وسكتة إذا فرغ من القراءة كلِّها» (3). وخالفهما قتادة، فقال عن الحسن: أنَّ سمرة بن جندب وعمران بن الحصين تذاكرا، فحدَّث سمرة أنَّه حفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سكتتين، سكتة إذا كبَّر، وسكتة إذا فرغ من قراءة {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقط، فحفظ ذلك سمرة، وأنكر عليه عمران بن حصين، فكتبا في ذلك إلى أُبيِّ بن كعب، فكان في كتابه إليهما: «أنَّ سمرة قد (4) حفظ» (5). وقال قتادة أيضًا عن الحسن عن سمرة: «سكتتان حفظتهما (6) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا دخل في الصَّلاة، وإذا فرغ من القراءة»، ثم قال بعد: _________ (1) أخرجه أحمد (5/ 21)، وأبوداود (779)، وابن ماجه (845). قال الدَّارقطني في سننه (1/ 336): «الحسن مختلفٌ في سماعه من سمرة، وقد سمع منه حديثًا واحدًا، وهو حديث العقيقة». وينظر أيضًا: جامع التَّحصيل للعلائي (ص/165). وقد ضعَّف الألباني الحديث في الإرواء (505). (2) هـ: «وأشعث الحراني». (3) أخرجه أبوداود (777 - 778)، والترمذي (251). (4) «إليهما» ليست في هـ وط. و «قد» ليست في هـ. (5) أخرجه أبوداود (779)، وابن ماجه (844). (6) ط: «حفظهما».

(1/407)


«وإذا قال {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}» (1). فقد اتَّفَقَت الأحاديث أنَّها (2) سكتتان فقط: إحداهما: سكتة الاستفتاح، والثَّانية مختلف فيها؛ فالذي قال: إنَّها بعد قراءة الفاتحة هو قتادة، وقد اختلف عليه، فمرَّةً (3) قال ذلك، ومرَّةً قال: «بعد الفراغ من القراءة». ولم يختلف على يونس وأشعث أنَّها بعد فراغه من القراءة كلِّها، وهذا أرجح الرِّوايتين. والله أعلم. وبالجملة فلم يُنْقل عنه - صلى الله عليه وسلم - بإسنادٍ صحيحٍ ولا ضعيفٍ أنَّه كان يسكت بعد قراءة الفاتحة حتى يقرأها مَنْ خَلْفه، وليس في سكوته في هذا المحلِّ إلَّا هذا الحديث المختلف فيه كما رأيتَ. ولو كان يسكت هنا (4) سكتة طويلة يدرك فيها المأموم قراءة الفاتحة لما خفي (5) ذلك على الصَّحابة، ولكان معرفتهم به (6) ونَقْلهم له أهم من سكتة الاستفتاح (7). _________ (1) أخرجه أبوداود (780). (2) ط: «أنهما». (3) ض وس: «عليه سمرة». هـ وط: «عليه سمرة فمرة». (4) هـ: «هناك». (5) «المأموم» ليست في هـ وط. وفيهما: « .. اختفى». (6) ض وس: «معرفته بهم». (7) «له .. » ليست في هـ وط. وفيهما: «الافتتاح».

(1/408)


ثم يقرأ بعد ذلك سورةً، طويلةً تارةً، وقصيرةً تارةً، ومتوسِّطةً تارةً، كما تقدَّم ذِكر الأحاديث به. ولم يكن يبتدئ من وسط سورةٍ (1) ولا من آخرها؛ وإنَّما كان يقرأ من أوَّلها، فتارةً يكملها، وهو أغلب أحواله، وتارةً يقتصر على بعضها، ويكملها في الرَّكعة الثانية. ولم ينقل أحدٌ عنه أنَّه (2) قرأ بآيةٍ من سورةٍ أو بآخرها إلَّا في سُنَّة الفجر؛ فإنَّه كان يقرأ فيها بهاتين الآيتين: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة/136] الآية، و {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران/64] الآية (3). وكان يقرأ بالسُّورة في الرَّكعة، وتارةً يعيدها في الرَّكعة الثَّانية، وتارةً يقرأ بسورتين في ركعةٍ (4). أمَّا الأوَّل: فكقول (5) عائشة: «إنَّه قرأ في المغرب بالأعراف، فرَّقها في الرَّكعتين» (6). وأمَّا الثَّاني: فقراءته في الصُّبح {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة/1] في الرَّكعتين _________ (1) ط: «السورة». (2) س: «بأنه». (3) أخرجه مسلم (727)، من حديث ابن عبَّاس رضي الله عنه. (4) هـ وط: «سورتين في الركعة». (5) س: «فلقول». (6) تقدَّم تخريجه (ص/303).

(1/409)


كِلْتَيهما. والحديثان في «السُّنن» (1). وأمَّا الثَّالث: فكقول ابن مسعود: «لقد (2) عَرَفتُ النَّظائر التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرن بينها (3)». فذكر عشرين سورةً من المفصَّل، سورتين في ركعةٍ (4). وهذا في «الصَّحيحَين» (5). وكان يمدُّ قراءة الفجر ويطيلها أكثر من سائر الصَّلوات، وأقصر ما حُفِظ عنه أنَّه قرأ به (6) فيها في الحَضَر {ق} ونحوها (7). وكان يجهر بالقراءة في الفجر، وفي (8) الأُولَيَين من المغرب والعشاء، ويُسِرُّ فيما سوى ذلك. وربَّما كان يُسْمِعُهم الآية في صلاة (9) السِّرِّ أحيانًا (10). _________ (1) تقدَّم تخريجه (ص/321). (2) س: «فلقول .. ». هـ وط: « .. ولقد». (3) «يقرن بينها» سقطت من س. وفي ض وط: «بينهما». (4) ض: «ركعتين». هـ: «الركعة». (5) البخاري (775)، ومسلم (722). ولفظه عندهما: «يقرن بينهنَّ». (6) هـ وط: « .. أنه كان يقرأ». ط: «بها». (7) تقدَّم تخريجه (ص/300)، وأنَّه في مسلم. (8) «وفي» من س. (9) هـ وط: «قراءة». (10) تقدم تخريجه (ص/306) وأنه في الصحيحين.

(1/410)


وكان يقرأ في فجر يوم الجمعة سورة (1) {الم (1) تَنْزِيلُ} السَّجدة، و {هَلْ أَتَى} [الإنسان/1] كاملتين (2). ولم يقتصر على إحداهما، ولا على بعض هذه وبعض هذه قط. وكان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين كاملتين (3)، ولم يقتصر على أواخرهما يومًا من الدَّهر (4). ورُبَّما كان يقرأ بسورة الأعلى والغاشية (5). وكان يقرأ في العيدين بسورة {ق} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر/1] كاملتين (6)، ولم يقتصر على أواخرهما يومًا من الدَّهر (7). وكان يقرأ في صلاة السِّرِّ بسورةٍ (8) فيها السَّجدة أحيانًا، فيسجد للسَّجدة ويسجد _________ (1) ض وس: «بسورة». (2) تقدَّم تخريجه (ص/385)، وأنَّه في البخاري، ومسلم. (3) تقدَّم تخريجه (ص/384)، وأنَّه في مسلم. (4) «يومًا من الدَّهر» ليست في هـ وط. (5) أخرجه مسلم (878)، من حديث النُّعمان بن بشير رضي الله عنه. (6) أخرجه مسلم (819)، من حديث أبي واقد اللَّيثي رضي الله عنه. (7) «يومًا من الدَّهر» من س. (8) ط: «سورة».

(1/411)


معه مَنْ خَلْفه (1). وكان يقرأ في الظُّهر قدر {الم (1) تَنْزِيلُ} السَّجدة، ونحو ثلاثين آية (2). ومرَّةً كان يقرأ فيها بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى/1] (3)، و {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [اللَّيل/1] (4) و {السَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج/1] و {السَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق/1]، ونحوها من السُّور (5). ومرةً بلقمان والذَّاريات (6). وكان يقوم في الرَّكعة الأولى منها حتى لا يُسْمَع وقعُ قَدَمٍ (7). وكذلك كان يطيل الرَّكعة الأولى من كُلِّ صلاةٍ على الثَّانية (8). وكانت قراءته في العصر في الرَّكعتين الأُوْلَيَيْن (9) في كُلِّ ركعة قدر _________ (1) أخرجه مسلم (575)، من حديث ابن عمر رضي الله عنه: «أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ القرآن، فيقرأ سورة فيها سجدة فيسجد ونسجد معه، حتى ما يجد بعضنا موضعًا لمكان جبهته». (2) تقدم تخريجه (ص/308) وأنه عند مسلم. (3) تقدم تخريجه (ص/310) وأنه عند مسلم. (4) تقدم تخريجه (ص/309) وأنه عند مسلم. (5) تقدم تخريجه (ص/310). (6) تقدم تخريجه (ص/310). (7) تقدَّم تخريجه (ص/307). (8) أخرجه البخاري (759)، ومسلم (415)، من حديث أبي قتادة رضي الله عنه. وتقدم نحوه من حديث سعد (ص/307). (9) ض وس: «الأولتين».

(1/412)


خمس (1) عشرة آية (2)، وكان يقرأ في المغرب بالأعراف تارةً، وبالطُّور تارةً، والمرسلات تارةً، وبالدُّخان تارةً (3). ورُوِيَ عنه أنَّه قرأ فيها بـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون/1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص/1] انفرد به ابن ماجه (4). ولعلَّ أحد رواته وهم من قراءته بهما في سُنَّة المغرب، فقال: «كان (5) يقرأ بهما في المغرب». أوسَقَطَت «سُنَّة» (6) من النُّسْخة. فالله أعلم. وكان يقرأ في عشاء الآخرة بـ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين/1] (7)، وسورة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق/1]، ويسجد فيها، ويسجد معه (8) جميع مَنْ خَلْفَه (9)، وبـ {الشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس/1]، ونحو ذلك من السُّور (10). _________ (1) ض: «خمسة». (2) تقدم تخريجه (ص/308) وأنه في مسلم. (3) تقدَّم تخريج هذه الأحاديث (ص/303، 304، 302). (4) حديث (833). وقد تقدَّم الكلام (ص/331) على إعلاله بأحمد بن بديل. (5) ط: «فكان»، وليس فيه: «فقال». (6) «سنة» ليست في ض وس. (7) تقدم تخريجه (ص/304) وأنه في الصحيحين. (8) ط: «ويسجد فيها». (9) تقدم تخريجه (ص/304) وأنه في الصحيحين .. (10) تقدم تخريجه (ص/305).

(1/413)


وكان إذا فَرَغ من القراءة سَكَت هُنَيْئةً (1)؛ لتراجع (2) إليه نَفَسُه (3). فصْلٌ ثُمَّ كان يرفع يَدَيه إلى (4) أنْ يحاذي بهما فروع أُذُنَيْه، كما رفعهما في الاستفتاح، صحَّ عنه ذلك (5) كما صحَّ التَّكبير للرُّكوع، بل الذين رَوَوْا عنه رفع اليَدَين ههنا أكثر من الذين رَوَوْا عنه التَّكبير. ثُمَّ يقول: «الله أكبر»، ويخرُّ راكعًا، ويَضَع يديه على ركبتيه، فيمكِّنُهُما من ركبتيه، وفرَّج بين أصابعه، وجافى مِرْفَقَيه عن جَنْبَيه، ثُمَّ اعتدل، وجعل رأْسَه حِيَال ظهره، فلم يرفع رأْسَه ولم يصوِّبْه، وهَصَر ظهره، أي: مَدَّه ولم يجمعه (6). _________ (1) تقدَّم الكلام على همز هذه الكلمة وما قيل فيها (ص/345 - 346). (2) ط: «ليراجع». (3) تقدَّم تخريجه (ص/406 - 408)، وأنَّه من حديث الحسن عن سمرة رضي الله عنه، وفي بعض ألفاظه: «وكان يعجبه إذا فرغ من القراءة أن يسكت حتى يترادَّ إليه نَفَسه». (4) ض: «حتى». (5) تقدَّم تخريجه (ص/397 - 398) وأنَّه عند مسلم. (6) أمَّا وضعهما على الركبتين ممكَّنتين ومجافاة مرفقيه ورفع ظهره ورأسه: فأخرجه البخاري (828)، من حديث أبي حميد السَّاعدي رضي الله عنه، بلفظ: «وإذا ركع أمْكَن يَدَيْه من ركبتيه، ثم هصر ظهره» وسيأتي في كلام المصنِّف بطوله. ... = = وأخرجه أبوداود (734)، والترمذي (260) وقال: «حسن صحيح»، بلفظ: «ركع فوضع يديه على ركبتيه؛ كأنَّه قابضٌ عليهما، ووتر يديه فنحَّاهما عن جَنْبَيه». وفي بعض ألفاظ حديث أبي حميد ـ وسيأتي قريبًا ـ: «فلم يصوِّب رأسه ولم يُقْنِعه». وأمَّا تفريج الأصابع: فأخرجه ابن خزيمة (594)، وابن حبان (1920)، والحاكم، وقال: «صحيحٌ على شرط مسلم»، من حديث وائل بن حجر رضي الله عنه: «أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ركع فرَّج أصابعه، وإذا سجد ضمَّ أصابعه».

(1/414)


ثُمَّ قال: «سبحان ربِّي العظيم» (1). ورُوِيَ عنه أنَّه كان يقول: «سبحان ربِّي العظيم وبحمده». قال أبوداود: «وأخاف أنْ لا تكون هذه _________ (1) أخرجه مسلم (772)، من حديث حذيفة رضي الله عنه، في صفة صلاته - صلى الله عليه وسلم - باللَّيل، وفيه: «ثم ركع، فجعل يقول: سبحان ربي العظيم». وأخرجه أبوداود (886)، والترمذي (261)، وابن ماجه (890)، من طريق إسحاق ابن يزيد الهذلي عن عون بن عبدالله بن عتبة عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مراتٍ: سبحان ربي العظيم، وذلك أدناه، وإذا سجد فليقل: سبحان ربي الأعلى ثلاثًا، وذلك أدناه». قال أبوداود: «هذا مرسلٌ، عونٌ لم يدرك عبدالله»، وقال الترمذي: «ليس إسناده بمتصلٍ؛ عون بن عبدالله بن عتبة لم يلق ابن مسعود»، وقال الحافظ في التلخيص (1/ 242): «وفيه انقطاعٌ .. وأصل هذا الحديث عند أبي داود وابن ماجه والحاكم وابن حبان من حديث عقبة بن عامر قال: لمَّا نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوها في ركوعكم، فلمَّا نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال: اجعلوها في سجودكم». وقد تقدَّم تخريج هذا الحديث والكلام عليه (ص/271).

(1/415)


الزِّيادة محفوظةً» (1). وربَّما مكث قدر ما يقول القائل عشر مرَّات، وربَّما مَكَث فوق ذلك ودونه. وربَّما قال: «سبحانك اللَّهم ربَّنا (2) وبحمدك، اللَّهم اغفر لي» (3). وربَّما قال: «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، ربُّ الملائكة والرُّوح» (4). وربَّما قال: «اللَّهم لك رَكَعت، وبك آمنتُ، ولك أسلمت، وعليك توكَّلْت، أنت ربِّي، خشع قلبي، وسمعي، وبصري، ودمي، ولحمي، وعظمي، وعصبي، لله ربِّ العالمين» (5). وربَّما كان يقول: «سبحان ذي الجبروتِ، والملكوتِ، والكِبرياءِ، والعَظَمة» (6). وكان ركوعه مناسبًا لقيامه في التَّطويل والتَّخفيف (7). وهذا بيِّنٌ في سائر الأحاديث. _________ (1) السُّنن (870). وقد توسَّع في ذكر طرقه وتحسينه الحافظ ابن حجر في التلخيص (1/ 242)، وضعَّفه الألباني في الإرواء (334). (2) «ربنا» ليست في ط. (3) أخرجه البخاري (794)، ومسلم (484)، من حديث عائشة رضي الله عنها. (4) أخرجه مسلم (487)، من حديث عائشة رضي الله عنها. (5) أخرجه مسلم (771)، من حديث عليٍّ رضي الله عنه. (6) أخرجه أحمد (6/ 24)، وأبوداود (873)، والنَّسائي (1049)، من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه. قال النَّووي في الخلاصة (1/ 396): «بإسنادٍ صحيحٍ». (7) تقدَّم تخريجه (ص/294) من حديث البراء في الصَّحيحين: «كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قيامه وركوعه وإذا رفع رأسه من الركوع وسجوده وما بين السَّجدتين قريبًا من السَّواء».

(1/416)


فصْلٌ ثم كان يرفع رأسه، قائلًا: «سمع الله لمن حمده» (1)، ويرفع يَدَيه كما رفعهما عند الركوع (2). فإذا اعتدل قائمًا قال: «ربَّنا ولك الحمد» (3) (4). وربَّما قال: «ربَّنا لك الحمد»، وربَّما قال: «اللَّهم ربَّنا لك (5) الحمد، ملءَ السَّموات وملءَ الأرض، وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، أهلَ الثَّناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلُّنا لك عبدٌ، اللَّهم لا مانع لما أعطيت، ولا مُعْطِي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَّد» (6). وربَّما زاد على ذلك: «اللَّهم طهِّرني بالثَّلج والبَرَد والماء البارِد، اللَّهم طهِّرني من الذُّنُوب والخطايا كما ينقَّى الثَّوب الأبيض من الوَسَخ (7)» (8). _________ (1) الأحاديث الصِّحاح في هذه السُّنَّة كثيرة، منها ما أخرجه البخاري (789)، ومسلم (392)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صفة صلاته - صلى الله عليه وسلم -: «ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركوع». (2) تقدَّم تخريجه (ص/397 - 398). (3) «ربنا ولك الحمد» ليست في ط. (4) أخرجه البخاري (789)، ومسلم (392)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (5) ط: «ولك». (6) أخرجه مسلم (477)، من حديث أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه. (7) هـ: «الدنس». (8) أخرجه مسلم (476)، من حديث عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه.

(1/417)


وكان يُطِيْل هذا الرُّكن حتَّى يقول القائل: «قد نَسِي» (1). وكان يقول في صلاة اللَّيل فيه: «لربِّي الحمد، لربِّي الحمد» (2). فصْلٌ ثُمَّ يكبِّرُ ويخرُّ ساجدًا، ولا يرفع يَدَيه، وكان يَضَع رُكْبَتَيه قبل يَدَيه (3)، هكذا قال عنه وائل بن حجر (4)، وأنس بن مالك (5). _________ (1) تقدَّم تخريجه (ص/292)، وأنَّه في الصَّحيحين. (2) أخرجه أحمد (5/ 398)، وأبوداود (874)، والنسائي (1069)، من طريق عمرو ابن مرة عن أبي حمزة مولى الأنصار عن رجل من بني عبس عن حذيفة رضي الله عنه به. وقد تقدَّم الكلام على إسناده (ص/298). (3) بحثها المصنف أيضًا في الزاد (1/ 223 - 231). (4) أخرجه أبوداود (838)، والنَّسائي (1089)، والتِّرمذي (268)، وابن ماجه (882)، وابن خزيمة (626)، وابن حبان (1912)، كلُّهم من طريق شريك بن عبدالله عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجرٍ رضي الله عنه قال: «رأيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد وضع رُكْبَتَيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يَدَيه قبل ركبتيه». قال التِّرمذي: «حَسَنٌ غريبٌ، لا نعرف أحدًا رواه مثل هذا عن شريكٍ». قال ابن الملقِّن في البدر المنير (3/ 656): «قال الدارقطنيُّ: قال ابن أبي داود: وضع الركبتين قبل اليدين تفرَّد به شريكٌ القاضي عن عاصم بن كليبٍ، وشريكٌ ليس بقويٍّ فيما ينفرد به، قال الدَّارقطنيُّ: ولم يحدِّث به عن عاصمٍ غير شريكٍ، وقال البيهقيُّ: هذا الحديث يعدُّ في أفراد شريكٍ القاضي، وإنَّما تابعه همَّام مرسلًا، هكذا ذكره البخاريُّ وغيره من الحفَّاظ المتقدِّمين .. ». وسيأتي كلام المصنِّف أيضًا في إعلاله، وضعفه الألباني في صفة الصلاة، الأصل (3/ 715 - 716). (5) أخرجه الدَّارقطني (1/ 345)، والحاكم (1/ 349) وقال: «إسنادٌ صحيحٌ على = = ... شرط الشَّيخين، ولا أعرف له عِلَّة»، ومن طريقه البيهقي (2/ 99)، من طريق العلاء بن إسماعيل العطار حدثنا حفص بن غياث عن عاصم الأحول عن أنسٍ رضي الله عنه قال: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبَّر حتى حاذى بإبهاميه أذنيه، ثم ركع حتى استقر كُلُّ مفصلٍ منه في موضعه، ثم رفع رأسه حتى استقر كلُّ مفصلٍ منه في موضعه، ثم انحطَّ بالتَّكبير فسبقت ركبتاه يَدَيْه». قال أبو حاتم الرازي كما في علل ابنه (1/ 188): «حديث منكر». وقال الدَّارقطني: «تفرَّد به العلاء بن إسماعيل عن حفص بهذا الإسناد». وضعفه الألباني في صفة الصلاة، الأصل (3/ 716).

(1/418)


وقال عنه ابن عمر: «إنَّه كان يضعُ يَدَيه قبل رُكْبَتَيه» (1). واختُلِفَ على أبي هريرة، ففي «السُّنَن» (2)، عنه (3)، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: _________ (1) أخرجه ابن خزيمة (627)، والحاكم (1/ 348)، وغيرهما، من طريق الدراوردي عن عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر: أنَّه كان يضع يديه قبل ركبتيه، وقال: «كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك». وأخرجه البخاري تعليقًا في صحيحه، باب يهوي بالتكبير حين يسجد، عن نافعٍ به. وقد صحَّحه ابن خزيمة، والحاكم، والألباني في الإرواء (357). وصفة الصلاة، الأصل (3/ 714). (2) أبوداود (840)، والنَّسائي (1091)، وأخرجه أحمد (2/ 381)، كلُّهم من طريق الدراوردي عن محمد بن عبدالله بن حسن عن أبي الزِّناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه به. وأخرجه أبوداود (841)، والنَّسائي (1090)، والترمذي (269)، من طريق عبدالله بن نافع عن محمد بن عبدالله بن حسن عنه به، بلفظ: «يعمد أحدكم في صلاته فيبرك كما يبرك الجمل». وقد صحَّحه النَّووي والزرقاني والمناوي وعبدالحق الإشبيلي والألباني، يُنْظَر: إرواء الغليل (357). (3) «عنه» ليست في ط.

(1/419)


«إذا سجد أحدُكُم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يَدَيه قبل رُكْبَتَيه». وروى عنه المقبري عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سجد أحَدُكم فليبدأ برُكْبَتَيْه قبل يَدَيْه» (1). فأبو هريرة قد تعارضت الرِّواية عنه، وحديث وائل وابن عمر قد تعارَضَا. فرجَّحَت طائفةٌ حديث ابن عمر، ورجَّحَت طائفةٌ حديث وائل بن حجرٍ، وسَلَكت طائفةٌ مسلك النَّسخ، وقالت: كان الأمر الأوَّل وضع اليَدَين قبل الرُّكبتين، ثم نُسِخ بوضع الرُّكبتين أولًا. وهذه طريقة ابن (2) خزيمة قال (3): «ذكر الدَّلائل (4) على أنَّ الأمر بوضع اليَدَين عند السجود منسوخٌ؛ وأنَّ وضْعَ الرُّكبتين قبل اليَدَين ناسخٌ». ثُمَّ روى من طريق [إبراهيم بن إسماعيل (5)] بن يحيى بن سلمة بن كهيل [حدَّثني _________ (1) أخرجه البيهقي (2/ 100) من طريق عبدالله بن سعيد المقبري عن جدِّه عن أبي هريرة عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - به. قال البيهقي: «عبدالله بن سعيد المقبري ضعيفٌ». وقال الألباني في الإرواء (357): «حديثٌ باطلٌ .. ابن سعيد المقبري واهٍ جدًّا .. ». تُنْظَر ترجمته في: تهذيب الكمال (14/ 31)، وميزان الاعتدال (2/ 429). (2) ض: «لابن». (3) «قال» ليست في ط، وفي هـ: «في ذكر». (4) كذا في النُّسخ كلِّها، وفي صحيح ابن خزيمة المطبوع: «الدليل». (5) في النُّسخ كلها: «إسماعيل بن إبراهيم». والتَّصويب من صحيح ابن خزيمة وكتب التَّراجم.

(1/420)


أبي (1)] عن أبيه عن سلمة عن مصعب بن سعد قال: «كُنَّا نَضَع اليَدَين قبل الرُّكْبَتين، فأُمِرْنا بالرُّكبتين (2) قبل اليَدَين» (3). وهذا لو ثَبَت لكان فيه الشِّفاء، لكن يحيى بن سلمة (4) بن كهيل قال البخاريُّ: «عنده مناكير» (5)، وقال ابن معين: «ليس بشيءٍ، لا يُكْتَب حديثه» (6)، وقال النَّسائي: «متروك الحديث» (7). وهذه القِصَّة ممَّا وُهِّمَ فيها يحيى أوغيره، وإنَّما المعروف عن مصعب بن سعد عن أبيه نسخ التَّطبيق في الرُّكوع بوضع (8) اليَدَين على الرُّكبتين، فلم يحفظ هذا الرَّاوي (9)، وقال: «المنسوخ وضع اليَدَين قبل الرُّكبتين» (10). _________ (1) الزِّيادة من صحيح ابن خزيمة. (2) ط: «بوضع». (3) صحيح ابن خزيمة (1/ 319). (4) ض: «سالم». تحريف. (5) التاريخ الكبير (8/ 227)، ولفظه فيه: «في حديثه مناكير». (6) تاريخ ابن معين للدوري (3/ 277، 313)، والكامل لابن عدي (7/ 196). (7) الضعفاء والمتروكون للنسائي (631)، والكامل لابن عدي (7/ 196). (8) هـ: «بوضعين». (9) وكذا قال البيهقي، حيث أخرجه في الكبرى (2/ 100)، ثم قال: «كذا قال، والمشهور عن مصعب عن أبيه حديث نسخ التَّطبيق». (10) هو قول ابن خزيمة في صحيحه (1/ 319).

(1/421)


قال السَّابقون باليَدَين: قد صحَّ حديث ابن عمر؛ فإنَّه من (1) رواية عبيدالله عن نافع عنه. قال ابن أبي داود: «وهو قول أهل الحديث». قالوا: وهم أعلم بهذا من غيرهم؛ فإنَّه نقلٌ محضٌ. قالوا: وهذه سُنَّةٌ رواها أهل المدينة، وهم أعلم بها من غيرهم. قال ابن أبي داود: ولهم فيها إسنادان: أحدهما: محمد بن عبدالله ابن حسن عن أبي الزِّناد عن الأعرج عن أبي هريرة. والثَّاني: الدَّراوردي عن عبيدالله (2) عن نافع عن ابن عمر. قالوا: وحديث وائل بن حُجْر له طريقان، وهما معلولان، في إحداهما (3) شريكٌ، تفرَّد به. قال الدَّارقطنيُّ: «وليس بالقويِّ فيما يتفرَّدُ به» (4). والطَّريق الثَّاني: من رواية عبدالجبار بن وائل عن أبيه، ولم يسمع منه (5) (6). _________ (1) «من» ليست في ض. (2) هـ: «عبيدالله الدراوردي». (3) هـ وط: «أحدهما». (4) السُّنن (1/ 345). (5) هـ وط: «من أبيه». (6) ويُنْظر: جامع التَّحصيل للعلائي (ص/219).

(1/422)


قال السَّابقون بالرُّكبتين: حديث وائل بن حُجْر أثبت من حديث أبي هريرة وابن عمر. قال البخاريُّ (1): «حديث أبي الزِّناد عن الأعرج عن أبي هريرة= لا يُتَابَع عليه (2) محمد بن عبدالله بن الحسن». قال: «ولا أدري سمع من أبي الزِّناد أم لا؟». وقال الخطَّابيُّ (3): «حديث وائل بن حُجْر أثبت منه». قال: «وزَعَم بعض العُلماء أنَّه منسوخٌ؛ ولهذا لم يحسِّنه التِّرمذي، وحكم بغرابته، وحسَّن حديث وائلٍ». قالوا: وقد قال في حديث أبي هريرة: «لا يبرك كما يبرك البعير»، والبعير إذا برك بدأ بيَدَيه قبل ركبتيه، وهذا النَّهْي لا يمانِعُ قوله: «وليضع يَدَيه قبل ركبتيه»، بل ينافيه. ويدلُّ على أنَّ هذه الزِّيادة غير محفوظةٍ، ولعلَّ لفظها انقلب على بعض الرِّواة. قالوا: ويدلُّ على ترجيح هذا أمران آخران: أحدهما: ما رواه أبوداود (4)، من حديث ابن عمر: «أنَّ رسول الله _________ (1) في التاريخ الكبير (1/ 139). (2) ض زيادة: «فيه» هنا. (3) في معالم السُّنن (1/ 208). (4) السُّنن (992). وأخرجه ابن خزيمة (692)، والحاكم (1/ 353)، وقال: «حديث صحيحٌ على شرط الشيخين»، كلُّهم من طريق إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه به. وقد ضعَّفه الألباني في الضَّعيفة (967).

(1/423)


- صلى الله عليه وسلم - نهى أنْ يعتمد الرجل على يَدَيه في الصَّلاة». وفي لفظٍ: «نهى أن يعتمد الرَّجل على يَدَيْه إذا نَهَض في الصَّلاة (1)» (2). ولا ريب أنَّه إذا وضع يَدَيه قبل رُكْبَتيه اعتمد عليهما، فيكون قد أوقع جُزْءًا من الصَّلاة معتمِدًا على يَدَيه بالأرض. وأيضًا فهذا الاعتماد في السُّجود نظير الاعتماد في الرَّفع منه سواء؛ فإذا نهى عن ذلك كان نظيره كذلك. الثَّاني: أنَّ المصلِّي في انحطاطه ينحطُّ منه إلى الأرض الأقرب إليها أوَّلًا، ثُمَّ الذي مِنْ (3) فَوْقِهِ، ثُمَّ الذي مِنْ فَوْقِهِ، حتى ينتهي إلى أعلى ما فيه، وهو وجهه، فإذا رفع رأسه من السُّجود ارتفع أعلى ما فيه (4) أوَّلًا، ثُمَّ الذي دونه، ثُمَّ الذي دونه، حتى يكون آخر ما يرتفع منه ركبتاه. والله أعلم. _________ (1) «وفي لفظٍ .. في الصَّلاة» سقطت من ض. (2) همَّش في هـ بما يلي: «قلتُ: يعارض هذا الحديث حديث مالك بن الحُوَيْرِث عند الشَّافعي، بلفظ: «واعتمد بيَدَيْه على الأرض»، وعند البخاري: «واعتمد على الأرض»، بغير ذكر: «يَدَيْه». وهو في الوسيط للشافعي، من حديث ابن عباس، بلفظ: «وضع يَدَيْه على الأرض كما يصنع العاجن»، وضعَّفوه. وفي الأوسط للطبراني: أنَّ ابن عمر كان يعتمد على يَدَيْه كما يقعد الذي يعجن العجين». انتهى. (3) «من» ليست في هـ. (4) هـ وط زيادة: «وهو».

(1/424)


فصْلٌ ثم كان يسجد على جبهته وأنفه ويَدَيه ورُكْبَتيه وأطراف قَدَمَيه (1)، ويستقبل بأصابع يَدَيه ورِجْلَيه القبلة. وكان يعتمد على إلْيَتَي كَفَّيْه، ويرفع مِرْفَقيه، ويجافي عضديه عن جَنْبَيه، حتى يبدو بياض إبْطَيْه (2)، ويرفع بطنه عن فَخِذَيه، وفخِذَيه عن ساقيه، ويعتدل في سجوده، ويمكِّن وجهه من الأرض مباشرًا به للمصلَّى، غير ساجدٍ على كور العمامة. قال أبوحُمَيْد السَّاعدي ـ وعشرة من الصَّحابة يسمعون كلامه ـ: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصَّلاة اعتدل قائمًا، ورفع يَدَيه حتَّى يحاذي بهما مِنْكَبَيه، فإذا أراد أنْ يركع رفع يَدَيه حتى يحاذي بهما مَنْكِبَيه، ثُمَّ قال: «الله أكبر»، فركع ثُمَّ اعتدل، فلم يصوِّب (3) رأسه ولم يُقْنِعه، ووضع يَدَيه على ركبتيه، ثُمَّ قال: «سمع الله لمن حمده»، ثُمَّ رفع واعتدل، حتى رجع كُلُّ عظمٍ (4) في موضعه، معتدلًا، ثُمَّ هوى ساجدًا، وقال: «الله أكبر»، ثُمَّ جافى وفتح عضدَيْه عن بطنه، وفتح أصابع رِجْلَيه (5)، ثُمَّ ثَنَى رِجْله اليُسْرى، وقعد عليها، واعتدل (6)، حتى يرجع كُلُّ عظمٍ موضعه معتدلًا، ثُمَّ هَوَى ساجدًا، _________ (1) أخرجه البخاري (812)، ومسلم (490)، من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أُمِرتُ أنْ أسجد على سبعة أعظم، الجبهة وأشار بيده على أنفه، واليدين، والرجلين، وأطراف القدمين، ولا نكفت الثِّياب ولا الشَّعر». (2) أخرجه البخاري (390)، ومسلم (495)، من حديث عبدالله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه: «أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلَّى فرَّج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه». (3) ض وس: «يصب». (4) هـ وط: «عضو». (5) «ثُمَّ جافى .. رِجْلَيه» سقطت من ض. (6) «اليسرى» و «واعتدل» ليستا في ض.

(1/425)


وقال: «الله أكبر»، ثم ثَنَى رجله وقعد عليها، حتى يرجع كُلُّ عضوٍ إلى موضعه، ثُمَّ نَهَض فصنع في الركعة الثَّانية مثل ذلك، حتى إذا قام من السَّجْدَتين كبَّر ورَفَع يَدَيه حتى يحاذي بهما مَنْكِبَيْه، كما (1) صَنَع حين افتتح الصَّلاة، ثُمَّ صنع كذلك، حتى إذا كانت الرَّكعة التي تنقضي فيها الصَّلاة أخَّر (2) رِجْلَه اليُسرى، وقعد على شِقِّه متورِّكًا، ثُمَّ سلَّم» (3). وكان يقول في سجوده: «سبحان ربِّي الأعلى» (4). ورُوِيَ أنَّه كان يزيد عليها: «وبحمده» (5). وربَّما قال: «اللَّهم لك (6) سجدتُّ، وبك آمنت، ولك أسلمت، _________ (1) «منكبيه كما» سقطت من هـ. (2) س: «أخرج». (3) أخرجه البخاري (827 - 828)، وأبوداود (733)، والترمذي (304) وغيرهم، يزيد بعضهم على بعض. (4) تقدَّم تخريجه (ص/415). (5) تقدَّم تخريجه (ص/415 - 416). (6) «لك» ليست في ض.

(1/426)


سجد (1) وجهي للَّذي خلقه، وصوَّره، وشقَّ سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين» (2). وكان يقول أيضًا: «سبحانك اللَّهمَّ وبحمدك، اللَّهم اغفر لي» (3). وكان يقول: «سبحانك اللَّهم وبحمدك (4)، لا إله إلَّا أنت» (5). وكان يقول: «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ ربُّ الملائكة والرُّوح» (6). وكان يقول: «اللَّهم اغفر لي ذنبي كُلَّه، دِقَّه وجِلَّه، وأوَّله وآخره، وعلانيته وسِرَّه» (7). وكان يقول: «اللَّهم إنِّي أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» (8). _________ (1) س: «وجهت». (2) أخرجه مسلم (771)، من حديث عليٍّ رضي الله عنه. (3) أخرجه البخاري (794)، ومسلم (484)، من حديث عائشة رضي الله عنها. (4) «اللَّهم اغفر .. وبحمدك» سقطت من ض. (5) أخرجه مسلم (485)، من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: افتقدتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلةٍ، فظننتُ أنَّه ذهبَ إلى بعض نسائه، فتحسَّستُ، ثم رجعت فإذا هو راكعٌ أو ساجدٌ، يقول: «سبحانك وبحمدك لا إله إلَّا أنت .. ». (6) تقدَّم تخريجه (ص/416)، وأنَّه عند مسلم. (7) أخرجه مسلم (483)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (8) أخرجه مسلم (486)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

(1/427)


وكان يجعل سجوده مناسبًا لقِيامه، ثُمَّ يرفع رأسه قائلًا: «الله أكبر»، غير رافعٍ يَدَيه، ثُمَّ يفرش رِجْله اليُسرى، ويجلس عليها، وينصب اليُمْنى، ويضع يَدَيه على فخذيه، ثُمَّ يقول: «اللَّهُم اغفر لي، وارحمني، واجبرني، واهدني، وارزقني». وفي لفظٍ: «وعافني» بدل: «واجبرني». هذا حديث ابن عباس (1). وقال حذيفة: كان يقول بين السَّجدَتَين: «ربِّ اغفر لي» (2). والحديثان في «السُّنن». وكان يُطِيل هذه الجلسة حتى يقول القائل: «قد أوهم»، أو «قد نسي» (3). فصْلٌ ثُمَّ يكبِّر ويسجد، غير رافع يَدَيه، ويصنع في الثَّانية كما (4) صنع في _________ (1) أخرجه أحمد (1/ 315)، وأبوداود (850)، والترمذي (284)، وابن ماجه (898)، والحاكم (1/ 393)، من طريق كامل أبي العلاء عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباسٍ رضي الله عنه به، وقال: «صحيح الإسناد». وحسَّن إسناده النَّووي في الخلاصة (1/ 415)، وابن حجر في «نتائج الأفكار» (2/ 118)، وصحَّحه ابن الملقِّن في البدر المنير (3/ 672). (2) أخرجه أبودواد (874)، وابن ماجه (897)، من طريق صِلَة بن زُفَر عن حذيفة، وأخرجه الحاكم (1/ 405)، وابن خزيمة (684) عن طلحة بن يزيد عن حذيفة به، وصحح إسناده الألباني في صفة الصلاة (3/ 811). (3) تقدَّم تخريجه (ص/292)، وأنَّه في الصَّحيحين. (4) هـ وط: «مثل ما».

(1/428)


الأولى، ثُمَّ يرفع رأسه مكبِّرًا، وينهض على صدور قَدَمَيه، معتمدًا على رُكْبَتيه وفَخِذيه (1). وقال مالك بن الحويرث: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان (2) في وترٍ من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدًا» (3). فهذه تُسَمَّى جلسة الاستراحة، ولا ريب أنَّه - صلى الله عليه وسلم - فعلها، ولكن هل فَعَلها على أنَّها من سنن الصَّلاة وهيئاتها كالتَّجافي وغيره، أو لحاجته إليها لما أسنَّ وأخذه اللَّحم؟ وهذا الثَّاني أظهر؛ لوجهين: أحدهما: أنَّ فيه جمعًا بينه وبين حديث وائل بن حجر (4)، وأبي هريرة: «أنَّه كان ينهض على صدور قدميه». الثَّاني: أنَّ الصَّحابة الذين كانوا أحرص النَّاس على مشاهدة أفعاله _________ (1) أخرجه الترمذي (288) من طريق خالد بن إلياس عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ينهض في الصَّلاة على صدور قدميه». قال الترمذي: «وخالد بن إلياس هو ضعيفٌ عند أهل الحديث». وضعَّفه الألباني في الإرواء (362). (2) ض: «إذا نهض». (3) أخرجه البخاري (823). (4) أخرجه أبوداود (736) من حديث عبد الجبار بن وائل عن أبيه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «وإذا نهض نهض على ركبتيه، واعتمد على فخذه». وقد تقدَّم أنَّ عبدالجبَّار لم يدرك أباه.

(1/429)


وهيْئات صلاته كانوا ينهضون على صدور أقدامهم؛ فكان عبدالله بن مسعود يقوم على صُدُور قدميه في الصَّلاة، ولايجلس. رواه البيهقي عنه (1). ورواه عن ابن عمر، وابن عباس، وابن الزُّبير، وأبي سعيد الخدري، من رواية عطيَّة العوفي عنهم (2)، وهو صحيحٌ عن ابن مسعودٍ. ولم يكن يرفع يَدَيه في هذا القيام. وكان إذا اسْتَتَمَّ قائمًا أخذ في القراءة، ولم يسكت، وافتتح قراءته بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. فإذا جلس في التَّشهد الأول جلس مفترشًا كما يجلس بين السَّجدتين، ويضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، واليمنى على فخذه اليمنى، وأشار بأصبعه السَّبَّابة، ووضع إبهامه على أصبعه الوسطى، كهيئة الحلقة، وجعل بصره إلى موضع إشارته، وكان يرفع إصبعه السَّبَّابة ويحنيها قليلًا، يوحِّدُ بها ربَّه - عز وجل - (3). _________ (1) السُّنن الكبرى (2/ 125)، من طريق الأعمش عن إبراهيم النخعي حدثني عبدالرحمن بن يزيد أنَّه رأى عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه فذكره. (2) السُّنن الكبرى (2/ 125). (3) أخرجه مسلم (579) من حديث ابن الزبير رضي الله عنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعد يدعو وضع يده اليُمْنى على فخذه اليُمْنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بإصبعه السَّبَّابة، ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى، ويلقم كفَّه اليسرى ركبته». ... = = ... وأخرجه مسلم (580) من حديث ابن عمر رضي الله عنه بنحوه، وفيه: «وعقد ثلاثة وخمسين، وأشار بالسَّبَّابة». وأخرجه أبوداود (911)، وابن حبَّان (1946)، من حديث مالك بن نمير الخزاعي أنَّ أباه حدَّثه: أنَّه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة واضعًا اليُمْنى على فخذه اليُمْنى رافعًا أصبعه السَّبَّابة، قد حناها شيئًا». وأخرجه النسائي (1160)، وابن خزيمة (719)، وابن حبَّان (1947)، من حديث ابن عمر رضي الله عنه، وفيه: «وأشار بأصبعه التي تلي الإبهام إلى القبلة، ورمى ببصره إليها». وصحَّح إسناده الألباني في الإرواء (366).

(1/430)


وذكر أبوداود (1)، من حديث ابن عباسٍ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «هكذا الإخلاص»، يشير بإصبعه التي تلي الإبهام، «وهكذا الدُّعاء»، فرفع يَدَيه حذو مَنْكِبَيه، «وهكذا الابتهال»، فرفع يَدَيه مدًّا. وقد رُوِي موقوفًا (2). ثُمَّ كان يقول: «التَّحيَّات لله والصَّلوات والطَّيبات، السَّلام عليك أيُّها النَّبيُّ ورحمة الله وبركاته، السَّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين، أشهد أنْ لا إله إلَّا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده _________ (1) في سننه (1491) بنحوه، وفيه: «الاستغفار» بدل: «الإخلاص». وقد أخرجه الحاكم (4/ 356) وقال: «صحيح الإسناد»، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (2/ 133)، من طريق العباس بن عبد الله بن معبد ابن عباس عن أخيه إبراهيم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر نحوه. (2) أخرجه أبوداود (1489)، وعبد الرزاق (3247)، وغيرهما، من طريق عباس بن عبد الله بن معبد عن عكرمة عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما موقوفًا.

(1/431)


ورسوله» (1). وكان يعلِّمُه أصحابه، كما يعلِّمُهُم القرآن، وكان أيضًا يقول: «التَّحيَّات المباركات الصَّلوات الطَّيبات لله» (2). هذا تشهُّد ابن عباسٍ، والأوَّل تشهُّد ابن مسعودٍ، وهو أكمل؛ لأنَّ تشهد ابن مسعود يتضمَّن جُمَلًا متغايرةً، وتشهُّد ابن عباسٍ جملةٌ واحدةٌ. وأيضًا فإنَّه في «الصَّحِيحَين»، وفيه زيادة الواو، وكان يعلِّمهم إيَّاه كما يعلِّمُهُم القرآن. ورَوَى ابن عمر (3) عنه: «التَّحيَّات لله الصَّلوات الطَّيِّبات» (4). وفيه أنواع أُخَر، كُلُّها جائزةٌ. وكان يخفِّف هذه الجلسة، حتى كأنَّه جالسٌ على الرَّضَف (5) (6). وهي: الحجارة المُحْمَاة، ثُمَّ يكبِّر وينهض، فيصلِّي الثَّالثة والرَّابعة، _________ (1) أخرجه البخاري (831)، ومسلم (402)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (2) أخرجه مسلم (403)، من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما. (3) «ابن عمر» ليست في ض. (4) أخرجه أبوداود (971). قال ابن عبدالهادي في التنقيح (1/ 413): «قال الدارقطني: هذا إسنادٌ صحيحٌ». (5) س: «الرظف». هـ: «الرضيف». (6) أخرجه أبوداود (995)، والنسائي (1176)، والترمذي (366). من طريق أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه به، وهو منقطعٌ؛ لأنَّ أبا عبيدة لم يسمع من أبيه. وينظر: التَّلخيص الحبير (1/ 263).

(1/432)


ويخفِّفُهما عن الأُوْلَيَين (1)، وكان يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب، ورُبَّما زاد عليها أحيانًا (2). فصْلٌ وكان إذا قَنَت (3) لقومٍ أو على قومٍ يجعل قنوتَه في الرَّكعة الأخيرة، بعد رفع رأسه من الرُّكوع، وكان أكثر ما يفعل ذلك في صلاة الصُّبح. وقال حميد عن أنسٍ: «قَنَت (4) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرًا بعد الركوع في _________ (1) ض وس: «الأولتين». (2) تقدَّم ذكره من كلام المصنِّف من حديث أبي سعيد الخدري ـ عند مسلمٍ ـ قال: «كُنَّا نَحْزِرُ قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظُّهر والعصر، فحزَرْنَا قيامه في الرَّكعتين الأُولَيَيْن من الظُّهر قدر {الم تَنْزِيلُ} السجدة، وحَزَرْنا قيامه في الأُخْرَيَيْن قدر النِّصف من ذلك، وحَزَرْنا قيامه في الرَّكعتين الأُولَيَيْن من العصر على قدر قراءته .. »، وفي روايةٍ: بدل قوله: «{الم تَنْزِيلُ} السَّجدة»: «قدر ثلاثين آية، وفي الأُخْرَيَيْن قدر خمس عشرة آية. وفي العصر في الرَّكعتين الأُولَيَيْن في كُلِّ ركعةٍ قدر خمس عشرة، وفي الأُخْرَيَيْن قدر نِصْف ذلك». وقد صحَّح الألباني في كتابه صفة الصلاة (الأصل 2/ 468) إسناد أثر قراءة أبي بكرٍ رضي الله عنه في الثالثة من صلاة المغرب، ممَّا أخرجه مالك والبيهقي. (3) «إذا قنت» سقطت من ض. (4) هـ: «قلت»، وكذا في الموضع التالي بعده. تحريفٌ!

(1/433)


صلاة الصُّبح، يدعو على رِعْلٍ وذَكْوَان» (1). وقال ابن سيرين: قلتُ لأنسٍ: قَنَت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الصُّبح (2)؟ قال: «نعم، بعد الركوع يسيرًا». وقال ابن سيرين عن أنسٍ: «قَنَت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرًا بعد الركوع في صلاة الفجر، يدعو على عُصَيَّة» (3). متَّفقٌ على هذه الأحاديث. فهؤلاء أعلم النَّاس بأنسٍ قد حَكَوا عنه أنَّ قنوته كان بعد الركوع، وحُمَيدٌ هو الذي روى عن أنسٍ أنَّه سُئِل عن القُنُوت فقال: «كُنَّا نقنت قبل الركوع وبعده» (4). والمراد بهذا القُنُوت طول القيام. وقد أخبر أبوهريرة مثل ما أخبر به أنسٌ سواء، أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قَنَت بعد الركوع لمَّا قال: «سمع الله لمن حمده» قال قبل أنْ يسجد: «اللَّهم نَجِّ (5) عيَّاش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، والمستضعفين من المؤمنين». متَّفقٌ عليه (6). وقال ابن عمر: إنَّه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من الركوع في _________ (1) أخرجه البخاري (1003)، ومسلم (677). (2) س زيادة: «يدعوا». (3) أخرجه البخاري (1001)، ومسلم (677). (4) أخرجه ابن ماجه (1183). وقد صحَّح إسناده الألباني في الإرواء (424) وحكم على قوله: «قبل الركوع» بالشذوذ. (5) ض: «انج». (6) البخاري (4560)، ومسلم (675).

(1/434)


الركعة الأخيرة من الفجر يقول: «اللَّهمَّ العن فلانًا وفلانًا» بعدما يقول: «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد» (1). فقد اتَّفقت الأحاديث أنَّه قَنَت بعد الركوع، وأنَّه قَنَت لعارضٍ، ثُمَّ تَرَكه. ثم قال أنسٌ: «القنوت في المغرب والفجر». رواه البخاري (2). وقال البراء: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقنت في صلاة الفجر والمغرب». رواه مسلمٌ (3). وقَنَت أبوهريرة في الركعة الأخيرة من الظهر، وعشاء (4) الآخرة، وصلاة الصُّبح، بعدما يقول: «سمع الله لمن حمده» يدعو للمؤمنين، ويلعن الكُفَّار، وقال: «لأُقَرِّبَنَّ (5) بكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». ذكره البخاري (6). وقال أحمد (7): «وصلاة العصر» مكان «صلاة العشاء». _________ (1) أخرجه البخاري (4559). (2) حديث (1004). (3) حديث (678). (4) ط: «والعشاء». (5) هـ: «لأقرئن». ومعنى: «لأقربنَّ» أي: آتيكم بما يقربه ويشبهه. (6) حديث (797). (7) رواه في موضعين من المسند (2/ 255، 470) كما في لفظ البخاري، وليس في المطبوع باللَّفظ الذي ذكره المصنِّف.

(1/435)


وقال ابن عباسٍ (1): «قَنَت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرًا متتابعًا، في الظُّهر والعصر والمغرب والعشاء والصُّبح، في دُبُر كُلِّ صلاةٍ، إذا قال: «سمع الله لمن حمده» من الرَّكعة الأخيرة، يدعو على حيٍّ من بني سُلَيمٍ، ويؤمِّن مَنْ خَلْفَه». ذكره أحمد (2)، وأبوداود (3). وقد اتَّفقت الأحاديث كما تَرَى على أنَّه في الرَّكعة الأخيرة بعد الرُّكوع، وأنَّه عارِضٌ لا راتِبٌ. وفي «صحيح مسلمٍ» (4)، عن أنسٍ: «قَنَت شهرًا (5) يدعو على أحياء من أحياء العرب، ثُمَّ تَرَكه». وعند الإمام أحمد (6): «قَنَت شهرًا ثُمَّ تَرَكه». وقال أبومالكٍ الأشجعي: قلت لأبي: يا أبتِ، إنَّك قد صلَّيْتَ خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ بالكوفة ههنا قريبًا من خمس (7) سنين= أكانوا يقنتون؟ قال: أيْ بُنَيَّ، إنَّه محْدَثٌ. قال _________ (1) س: «وقال عباس». (2) في المسند (1/ 301). (3) حديث (1443). (4) حديث (677). وهو في البخاري أيضًا دون قوله: «ثم تركه». (5) «شهرًا» ليست في هـ وط. (6) في المسند (3/ 191). (7) ط: «خمسة».

(1/436)


التِّرمذي: «هذا حديثٌ صحيحٌ» (1). ورواه النَّسائي (2)، ولفظه: «صلَّيْتُ خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يقنت، وصلَّيْتُ خلف أبي بكرٍ فلم يقنت، وصلَّيْتُ خلف عمر فلم يقنت، وصلَّيْتُ خلف عثمان فلم يقنت، وصلَّيْتُ خلف عليٍّ فلم يقنت»، ثُمَّ قال: «يا بُنَيَّ، بِدْعةٌ!».فمَنْ كره القُنُوت في الفجر احتجَّ بهذه الأحاديث، وبقول أنسٍ: «ثُمَّ تَرَكه». قالوا: فهو منسوخٌ. ومن استحبَّه قبل الرُّكوع فحُجَّتُه الآثار عن الصَّحابة والتَّابعين بذلك. قال أبوداود الطَّيالسي: حدَّثنا سعيد بن أبي عروبة عن أبي رجاء عن أبي مغفل (3): «أنَّه قنت في الفجر قبل الركوع» (4). وقال مالكٌ (5): عن هشام بن عروة عن أبيه: «أنَّه كان يقنت في _________ (1) حديث (402). (2) حديث (1080). (3) كذا في هـ وط، وفي ض وس: «أبي معيل»! (4) لم أقف عليه في مسنده المطبوع! (5) في رواية أبي مصعب الزُّهري والقَعْنبي وسويد بن سعيد، عن مالك عن هشام بن عروة: أنَّ أباه كان لا يقنت في شيءٍ من الصلاة، ولا في الوتر، إلَّا أنَّه كان يقنت في صلاة الفجر قبل أن يركع الرَّكعة الآخرة إذا قضى قراءته». يُنْظَر: الموطأ برواياته الثمانية للهلالي (2/ 44).

(1/437)


الفجر قبل الركوع» (1). وذكر أبوبكر ابن المنذر عن عمر بن عبدالعزيز: أنَّه كان يقنت قبل الركوع (2). وقال أصْبَغ بن الفَرَج والحارث بن مسكين وابن أبي الغمر (3): حدَّثنا عبدالرحمن بن القاسم قال: سُئِلَ مالكٌ عن القنوت في الصُّبح، أيُّ ذلك أعجبُ إليك؟ قال: الذي أدركت النَّاس عليه، وهو أمر النَّاس القديم: القنوت قبل الركوع. قلتُ: أيُّ ذلك تأخذ به (4) في خاصَّة نفسك؟ قال: القنوت قبل الركوع. قلتُ: فالقنوت في الوتر؟ قال: ليس فيه قنوتٌ. _________ (1) تكرَّرت: «وقال مالكٌ .. الركوع» مرَّتين في ط، وثلاثًا في هـ، ودون كلمة: «الفجر» في الثانية أوالثَّالثة عندهما. وقد أشار إلى هذا التِّكرار في هامش ط. وسيأتي أنَّه تحرَّف فتكرَّر. (2): «وذكر .. الركوع» سقطت كلها من ط وهـ. ولعلَّها تحرَّفت إلى الجملة السَّابقة المتقدِّم أنَّها تكررَّت فيهما. (3) هـ وط: «العمر»، س: «النعمان». وأشار في هامش هـ أنَّه في نسخة: «العميا»! وابن أبي الغمر هو: عبد الرحمن بن أبي الغمر عمر بن عبد الرحمن أو: عبدالعزيز، أبو زيد السهمي مولاهم، المصري، الفقيه، صاحب ابن القاسم، توفي سنة 234 هـ. يُنْظَر: تاريخ الإسلام للذهبي (17/ 242)، وتهذيب التَّهذيب (2/ 534). (4) «به» ليست في هـ وط.

(1/438)


فصلٌ ومن استحبَّه بعد الرَّكوع فذهب إلى الأحاديث التي صرَّحَت (1) بأنَّه بعد الركوع، وهي صِحاحٌ كُلُّها. قال الأثرم: قلت لأبي عبدالله: يقول أحدٌ في حديث أنسٍ: «إنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَنَت قبل الركوع» غير عاصم الأحول؟ قال: ما علمتُ أحدًا يقولُه غيره خالف عاصمًا. قلتُ: هشام (2) عن قتادة عن أنسٍ: «أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَنَت (3) بعد الركوع»، والتَّيمي عن أبي مجلز عن أنس: «أنَّ (4) النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَنَت بعد الرُّكوع»، وأيُّوب عن محمَّدٍ قال: سألتُ أنسًا، وحنظلة السَّدوسي عن أنس، أربعة وجوهٍ. قيل لأبي عبدالله: وسائر الأحاديث أليس إنَّما هي بعد الركوع؟ قال: بلى كُلُّها، خِفَاف بن إيماء (5) وأبو هريرة. _________ (1) ض: «خرجت». (2) ض: «هشاما». (3) هـ: «وقنت». (4) ض وس: «عن». (5) هـ وط: «خفاف أين إنما». تحريفٌ. وخفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري، وكان إمام بني غفار وسيَّدهم، له ولأبيه صحبةٌ، وشهد الحديبية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». ترجمته في: تهذيب الكمال (8/ 271)، والإصابة لابن حجر (2/ 335).

(1/439)


قلتُ لأبي عبدالله: فلِمَ ترخِّصُ (1) إذًا في القنوت قبل الركوع، وإنَّما صحَّ الحديث (2) بعد الركوع؟ فقال: القنوت في الفجر بعد الركوع، وفي الوِتْر نختاره بعد الركوع، ومن قَنَت قبل الركوع فلا بأس؛ لفعل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختلافهم فيه، فأمَّا في الفجر فبعد الركوع، والذي فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو القُنُوت في النَّوازل، ثُمَّ تَرَكَه، ففِعْله سُنَّةٌ، وتَرْكُه سُنَّةٌ، وعلى هذا دَلَّت جميع الأحاديث، وبه تتَّفِق السُّنَّة. وقال عبدالله بن أحمد (3): سألتُ أبي عن القُنُوت في أيِّ صلاةٍ؟ قال: في (4) الوتر بعد الرُّكوع، فإنْ قَنَت رجلٌ في الفجر، اتِّباع ما روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قَنَت دعاءً للمستضعفين فلا بأس، فإنْ قَنَت رجلٌ بالنَّاس، يدعو لهم ويستنصر الله تعالى فلا بأس. وقال إسحاق الحربيُّ (5): سمعت أباثورٍ يقول لأبي عبدالله أحمد _________ (1) س: «يرخص». (2) ط: «الأحاديث». (3) مسائل عبدالله (2/ 304) بنحوه. (4) «في» ليست في هـ. (5) إسحاق بن الحسن بن ميمون بن سعد، أبو يعقوب الحربي، ترجم له القاضي ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (1/ 112) ثم نقل عن الخلال أنَّه قال عنه: «نقل عن إمامنا مسائل حسانًا».

(1/440)


ابن حنبل: ما تقول في القنوت في الفجر؟ فقال أبوعبدالله: إنَّما يكون القنوت في النَّوازل. فقال له أبوثورٍ: أيُّ نوازل أكبر من هذه النَّوازل (1) التي نحن فيها؟ قال: فإذا كان كذلك فالقنوت. وقال الأثرم: سألتُ أبا عبدالله عن القنوت في الفجر، فقال: نعم، في الأمر يحدث (2)، كما قَنَت النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يدعو على قومٍ. قلتُ له: ويرفع صوته؟ قال: نعم، ويؤمِّن مَنْ خلفه، كذلك فعل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. قال: وسمعت أبا عبدالله يقول: القنوت في الفجر بعد الركوع. وسمعتُه قال لَّما سُئِلَ (3) عن القنوت في الفجر (4) فقال: إذا نزل بالمسلمين أمرٌ قَنَت الإمام، وأمَّن مَنْ خلفه. ثُمَّ قال: مثل ما نزل بالنَّاس من هذا الكافر، يعني: بابك (5). _________ (1) هـ وط: «أكثر .. ». وقوله: «فقال له .. النَّوازل» سقطت من ض. (2) «يحدث» ليست في ض. (3) «لمَّا سُئل» ليست في ض وس. (4) «بعد الركوع .. في الفجر» سقطت من هـ. (5) بابك الخُرَّمي، صاحب فتنة كبرى زمن بني العبَّاس، كان ولد زنا، خرَّميًّا مجوسيًّا، يقول بتناسخ الأرواح، وكان في أوَّل أمره فقيرًا أجيرًا في قريته بأذربيجان، فأمَّره قوم من الخُرَّمية، وانضمَّ إليه طائفة من قطَّاع الطريق والفلَّاحين، ثمَّ استفحل أمره وعظم شرُّه، ودامت فتنته نحو عشرين عامًا، تمكَّن فيها واستولى على حصون ومدائن وقتل وسبى، إلى أن قتله المعتصم سنة 223 هـ. يُنْظَر: تاريخ الإسلام للذَّهبي (16/ 11)، و (20/ 235).

(1/441)


وقال عبدوس بن مالك العطَّار (1): سألت أبا عبدالله أحمد بن حنبل فقلت: إنِّي رجلٌ غريبٌ من أهل البصرة، وإنَّ قومًا قد اختلفوا عندنا في أشياء، وأحبُّ أنْ أعلم رأيك فيما اختلفوا فيه. قال: سَلْ عمَّا أحببت، قلتُ: فإنَّ بالبصرة قومًا يقنتون (2)، كيف ترى في الصَّلاة خلف من يقنت؟ فقال: قد كان المسلمون يصلُّون خلف من يقنت (3)، وخلف من لا يقنت، فإنْ زاد في القنوت حرفًا، أو دعا بمثل «إنَّا نستعينك»، أو «عذابك الجد»، أو «نحفد». فإنْ كنتَ في الصَّلاة فاقطعها. فصْلٌ وشرع لأمَّته أنْ يصلُّوا عليه في التَّشهُّد الأخير، فيقولوا: «اللَّهم صلِّ على محمَّدٍ وعلى آل محمَّدٍ، كما صلَّيْتَ على آل إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيدٌ، وبارك على محمَّدٍ وعلى آل محمَّدٍ، كما باركت على آل إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيدٌ» (4). _________ (1) عبدوس بن مالك، أبو محمد العطار، نقل القاضي ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (2/ 166) عن الخلَّال قال: «روى عن أبي عبدالله مسائل لم يروها غيره، ولم تقع إلينا كلُّها، مات ولم تُخَرَّج عنه، ووقع إلينا منها شيء». (2) ض: «يفتنون». (3) «فقال: قد .. من يقنت» سقطت من ض. (4) أخرجه البخاري (4797)، ومسلم (406)، من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه.

(1/442)


وأَمَرَهم أنْ يتعوَّذُوا بالله من عذاب النَّار، وعذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدَّجَّال (1). وعَلَّم الصِّديِّق أنْ يدعو في صلاته: «اللَّهم إنِّي ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، وإنَّه لا يغفر الذُّنوب إلَّا أنت، فاغفرلي مغفرةً من عندك، وارحمني، إنَّك أنت الغفور الرَّحيم» (2). وكان من آخر ما يقول بين التَّشهُّد والتَّسليم: «اللهُمَّ اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، وما أنت أعلم به منِّي، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر، لا إله إلَّا أنت» (3). ثُمَّ كان يسلِّم عن يمينه: «السَّلام عليكم ورحمة الله»، وعن يساره: «السَّلام عليكم ورحمة الله» (4). وروى ذلك خمسة (5) عشر صحابيًّا. _________ (1) أخرجه البخاري (1377)، ومسلم (588)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) تقدم تخريجه (ص/377) وأنه في الصحيحين. (3) أخرجه مسلم (771)، من حديث عليٍّ رضي الله عنه. (4) أخرجه أبوداود (996)، والترمذي (295)، وابن ماجه (914)، والنسائي (1322)، وابن خزيمة (728)، وابن حبَّان (1990)، من طريق أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلِّم عن يمينه حتى يبدو بياض خدِّه: السَّلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره مثل ذلك». وقد صحَّحه الألباني في الإرواء (326). وأخرج مسلم (431)، من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: «كُنَّا إذا صلَّيْنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلنا: السَّلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله .. ». الحديث. (5) س: «خمس».

(1/443)


وكان إذا سلَّم قال: «أستغفر الله» ثلاثًا، «اللَّهُم أنت السَّلام ومنك السَّلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» (1)، «لا إله إلَّا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كُلِّ شيءٍ قدير، اللَّهُم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ» (2)، «لا إله إلَّا الله، ولا نعبد إلَّا إيَّاه، له النِّعمة وله الفضل وله الثَّناء الحسن (3)، لا إله إلَّا الله مخلصين له الدِّين ولو كره الكافرون» (4). وشَرَع لأمته التَّسبيح والتَّحميد والتَّكبير عقيب الصلاة (5). وأمَرَ عقبة بن عامر أنْ يقرأ بالمعوِّذتين عقيب كلِّ صلاةٍ (6). _________ (1) أخرجه مسلم (591)، من حديث ثوبان رضي الله عنه. (2) أخرجه البخاري (844)، ومسلم (593)، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. (3) س زيادة: «الجميل». (4) أخرجه مسلم (594)، من حديث عبدالله بن الزبير رضي الله عنه. (5) تقدم تخريجه (ص/379) وأنه في الصحيحين. (6) أخرجه النَّسائي (1336)، وابن خزيمة (755)، وابن حبان (2004)، والحاكم (1/ 383)، من طريق الليث بن سعد عن حنين بن أبي حكيم عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعًا، بلفظ: «اقرؤا المعوِّذات في دبر كل صلاة». وقد صحَّحه ابن خزيمة وابن حبَّان والحاكم على شرط مسلمٍ، وحسَّن إسناده الألباني في الصَّحيحة (645، 1514).

(1/444)


وروى عنه النَّسائي (1)، من حديث أبي هريرة أنَّه قال: «من قرأ آية الكرسي عقيب (2) كُلَّ صلاةٍ لم يمنعه من دخول الجِنَّة إلَّا أنْ يموت». وكان يصلِّي قبل الظُّهر أربعًا، وبعدها ركعتين دائمًا (3)، ولمَّا شُغِلَ عنهما يومًا صلَّاهما بعد العصر (4). ونَدَب إلى أربعٍ بعدها، فقال: «مَنْ _________ (1) في الكبرى (6/ 30)، وعمل اليوم واللَّيلة (100)، والطبراني (8/ 114)، لكنَّه من حديث أبي أمامة لا أبي هريرة رضي الله عنه، فقد روياه من طريق محمد بن حمير عن محمد بن زياد عن أبي أمامة رضي الله عنه به، وعزاه ابن كثيرٍ في التفسير (1/ 308) إلى ابن حبَّان، وقال عن إسناده: «على شرط البخاري». وقال المصنِّف في الزاد (1/ 304): «وقد روي هذا الحديث من حديث أبي أمامة وعلي بن أبي طالب وعبدالله بن عمر والمغيرة بن شعبة وجابر بن عبدالله وأنس بن مالك، وفيها كلها ضعف، ولكن إذا انضم بعضها إلى بعض مع تباين طرقها، واختلاف مخارجها دلَّت على أنَّ الحديث له أصل». وصحَّحه ابن عبدالهادي في المحرَّر (278)، وجوَّد إسناده الهيثمي في المجمع (10/ 102). (2) ض: «عقب». (3) أخرجه البخاري (1182) من حديث عائشة رضي الله عنها: «أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدع أربعًا قبل الظُّهر». وأخرج مسلم (730) من حديثها قالت: «كان يصلِّي في بيتي قبل الظهر أربعًا، ثُمَّ يخرج فيصلِّي بالنَّاس، ثم يدخل فيصلِّي ركعتين .. » الحديث، وفيه ذكر باقي الرَّواتب. (4) أخرجه البخاري (1233)، ومسلم (834) من حديث أم سلمة رضي الله عنها، في قصَّة انشغال النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بوفد عبدالقيس، ثمَّ صلاته لركعتي الظَّهر بعد العصر.

(1/445)


حافظ على أربع ركعاتٍ قبل الظُّهر وأربع (1) بعدها حرَّمَه الله على النَّار». قال الترمذي: «حديثٌ صحيحٌ» (2). ولم يُنْقَل عنه أنَّه كان يُصَلِّي قبل العصر حديثٌ صحيحٌ. وفي «السُّنن» (3)، عنه أنَّه قال: «رحم الله امرأً صلَّى قبل العصر أربعًا». وكان يصلِّي بعد المغرب ركعتين، وبعد العشاء ركعتين، وقبل الصُّبح ركعتين (4)؛ فهذه اثنتا عشرة (5) ركعة، سننًا راتبةً، والفرائض سبع عشرة (6) ركعة. _________ (1) هـ وط زيادة: «ركعات». (2) السُّنن (428). وأخرجه أحمد (6/ 426)، وأبودواد (1269)، والنَّسائي (1816)، وابن ماجه (1160)، وابن خزيمة (1190)، وغيرهم، من طرقٍ عن أمِّ حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما. (3) أبوداود (1271)، والترمذي (430)، وقال: «حسنٌ غريب»، وأخرجه أيضًا أحمد (2/ 217)، وابن خزيمة (1193)، وابن حبَّان (2453)، كلّهم من طريق محمد بن مهران القرشي حدَّثني جدِّي أبوالمثنى عن ابن عمر رضي الله عنهما به. وقد صحَّحه ابن خزيمة وابن حبَّان، وحسَّنه الترمذي وابن الملقِّن في البدر المنير (4/ 287). وفي إسناده محمد بن مهران، فيه مقالٌ، لذا ضعَّفه ابن القطَّان الفاسي في بيان الوهم والإيهام (5/ 702)، وابن عديٍّ في الكامل (6/ 243) حيث ذكره في ترجمة ابن مهران ممَّا أنكر عليه، وقال: «ليس له من الحديث إلَّا اليسير، ومقدار ما له من الحديث لا يتبيَّن صدقه من كذبه». (4) أخرجه البخاري (1180)، ومسلم (729)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (5) ض: «اثنا عشر». هـ وط: «اثنتي .. ». (6) ض: «سبعة عشر». هـ وط: «سبعة .. ».

(1/446)


وكان يصلِّي من اللَّيل عشر ركعاتٍ، وربما صلَّى اثنتي عشرة (1) ركعة، ويوتر بواحدة (2). فهذه أربعون ركعة، كانت وِرْده دائمًا، الفرائضُ وسننُها، وقيام اللَّيل والوتر. ولم يكن من سُنّته (3) الدُّعاء بعد الصُّبح والعصر، وإنَّما كان من هَدْيه الدُّعاء في الصَّلاة، وقبل السَّلام منها، كما تقدَّم. والله أعلم (4). * * * _________ (1) ض: «عشر». (2) أخرجه البخاري (1139)، ومسلم (738)، من حديث عائشة رضي الله عنها. (3) س وهـ وط: «سننه». (4) في آخر نسخة ض: «الحمدلله رب العالمين على تمام هذه النُّسخة النَّافعة العظيمة، رحم الله مصنِّفها رحمةً واسعةً، وجعل عملنا وعمله خالصًا مضاعفًا، اللَّهُمَّ اغفر لكاتبها الفقير إلى الله عثمان بن عبدالله بن بشر، اللَّهُمَّ اغفر ذنوبه، واستر عيوبه في الدُّنيا والآخرة، وقد فرغت من نسخها يوم الأربعاء، الثالث عشر من جمادى الأولى، سنة ألفٍ ومئتين وإحدى وسبعين 1271، سبحان ربِّك ربِّ العِزَّة عمَّا يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّد وآله وصحبه وسلم». وفي جانبي هذه الخاتمة: «رحم الله امرأً دعا لكاتبها بالمغفرة». (وفي آخر نسخة س: «آخر الجواب. والحمدلله وحده، وصلى الله وسلَّم على من لا نبيَّ بعده، وآله وصحبه وسلَّم. تمَّ الكتاب المبارك المسمَّى: كتاب الصلاة، للإمام الشَّهير، الشيخ محمَّد بن أبي بكر الزُّرعي، المعروف بابن القيِّم، رحمه الله تعالى وعفى عنه، والحمد لله ربِّ العالمين». وفي جانب الخاتمة الأيمن: «هذا الكتاب ممَّا يسَّره الله ومنَّ به على عبده الفقير إليه، محمَّد بن فيصل بن تركي بن عبدالله بن محمَّد آل سعود، رحمهم الله تعالى وعفى عنهم».

(1/447)


 * فهْرَس المَرَاجِع والمَصَادر*

- إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة للبوصيري، ت: دار المشكاة للبحث، بإشراف: أبوتميم ياسر بن إبراهيم، دار الوطن للنشر، 1420 هـ. - إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة، للحافظ ابن حجر، ت: مجموعة من الباحثين بمركز خدمة السُّنَّة والسيرة النَّبويَّة بالجامعة الإسلاميَّة، طبع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشَّريف، الأولى، 1415 هـ. - الأحاديث المختارة، للضِّياء محمد بن عبد الواحد المقدسي، ت: عبد الملك بن دهيش، مكتبة النهضة الحديثة بمكة المكرمة، الأولى، 1410 هـ. - أحاديث ومرويَّات في الميزان، لمحمد عمرو عبداللطيف، نشر: ملتقى أهل الحديث، مكة المكرمة، الأولى 1426 هـ. - الأحكام الشرعية الكبرى، لعبد الحق الإشبيلي، ت: حسين بن عكاشة، مكتبة الرشد، الأولى، 1422 هـ. - الأحكام الوسطى، لعبدالحق الإشبيلي، ت: حمدي السَّلفي وصبحي السَّامرَّائي، مكتبة الرشد، 1416 هـ. - أحوال الرِّجال، للجوزجاني، ت: صبحي السامرائي، مؤسسة الرسالة. - إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي، نشر دار االمعرفة ببيروت. - أخبار الصَّلاة، لعبدالغني بن عبدالواحد المقدسي، ت: مجدي عطيَّة حمُّودة، مكتبة ابن عباسٍ بمصر، الأولى، 1424 هـ. - الأدب المفرد، للبخاري، ت: محمد فؤاد عبدالباقي، دار البشائر الإسلامية، الثالثة، 1409 هـ. - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السَّبيل، للشيخ الألباني، المكتب الإسلامي، الثانية، 1405 هـ. - الاستذكار الجامع لمذاهب علماء الأمصار لابن عبدالبر، ت: عبدالمعطي قلعجي، دار الوعي ومكتبة الثقافة الدينيَّة، الأولى، 1413 هـ. - أسرار الصَّلاة، المنسوب للإمام ابن قيِّم الجوزيَّة، ت: إياد القيسي، دار ابن حزم بلبنان، 2003 م.

(1/535)


- الإشراف على نكت مسائل الخلاف لقاضي عبدالوهاب البغدادي، ت: الحبيب بن طاهر، دار ابن حزم، الأولى، 1420 هـ. - الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني، ت: علي البجاوي، نشر دار الجيل، الأولى، 1411 هـ. - أصل كتاب صفة صلاة النَّبي - صلى الله عليه وسلم - من التَّكبير إلى التَّسليم كأنَّك تراها، للألباني، مكتبة المعارف، الأولى، 1420 هـ. - إعلام الموقِّعين عن رب العالمين، لابن قيم الجوزية، ت: محمد محيي الدِّين عبدالحميد، دار الفكر، الثانية، 1397 هـ. - إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن قيم الجوزية، ت: مشهور حسن سلمان، دار ابن الجوزي، الأولى 1423 هـ. - الأعلام، لخيرالدِّين الزِّركلي، دار العلم للملايين، الخامسة عشرة، 2002 م. - الأصنام، لهشام بن محمد الكلبي، ت: أحمد زكي باشا، مطبة دار الكتب المصريَّة، الثالثة، 1995 م. - اقتضاء الصِّراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت: ناصر بن عبدالكريم العقل، نشر دار عالم الكتب، توزيع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف بالمملكة العربيَّة السَّعوديَّة، السَّابعة، 1419 هـ. - الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب، للحافظ ابن ماكولا، نشر: دار الكتب العلميَّة، الأولى، 1411 هـ. - الالمام بأحاديث الأحكام، لابن دقيق العيد، ت: حسين إسماعيل الجمل، دار المعراج الدولية، الثانية، 1423 هـ. - الانتصار في المسائل الكبار، لأبي الخطَّاب الكلوذاني، مكتبة العبيكان، الأولى، 1413 هـ. - الأم، للشافعي، ت: رفعت فوزي عبدالمطلب، دار اللواء بمصر، الأولى 1422 هـ. - الأنساب، للسَّمعاني، ت: عبد الله عمر البارودي، دار الفكر ببيروت، الأولى، 1998 م. - الإيمان، لابن أبي شيبة، ت: الألباني، المكتب الإسلامي، الثانية، 1403 هـ. - البحر الزخَّار من مسند البزَّار، للبزَّار، ت: محفوظ الرحمن زين الله، مؤسسة علوم القرآن ,ومكتبة العلوم والحكم، الأولى، 1409 هـ.

(1/536)


- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للكاساني، دار الكتاب العربي، الثانية، 1982 م. - بدائع الفوائد، لابن قيِّم الجوزيَّة، ت: علي بن محمد العمران، دار عالم الفوائد،، الأولى، 1425 هـ. - البداية والنِّهاية، لابن كثير،، ت: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، دار هجر. - البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السَّابع، للشوكاني، دار المعرفة ببيروت. - البدر الطَّالع بمحاسن من بعد القرن السَّابع، للشوكاني، ت: محمد حسن حلَّاق، دار ابن كثير بدمشق، الأولى، 1427 هـ. - البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشَّرح الكبير، لسراج الدين ابن الملقِّن، ت: مصطفى أبو الغيط وعبدالله بن سليمان وياسر بن كمال، نشر دار الهجرة بالرياض، الأولى، 1425 هـ. - بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام، للحافظ ابن القطَّان الفاسي، ت: حسين آيت سعيد، نشر دار طيبة بالرياض، الأولى، 1418 هـ. - البيان في مذهب الإمام الشَّافعي للعمراني، ت: قاسم محمد النوري، دار المنهاج. - تاج العروس من جواهر القاموس، للزبيدي، ت: مجموعة من المحققين، نشر: دار الهداية. - التَّاج المكلَّل من جواهر مآثر الطِّراز الأوَّل والآخر، لصدِّيق حسن خان القنُّوجي، ت: عبدالحكيم شرف الدِّين، المطبعة الهنديَّة العربيَّة بالهند، 1382 هـ. - تاريخ ابن معين، رواية الدُّوري، ت: أحمد محمد نور سيف، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بمكة المكرمة، الأولى، 1399 هـ. - تاريخ أصبهان، لأبي نعيم الأصبهاني، ت: سيد كسروي حسن، دار الكتب العلميَّة، الأولى، 1410 هـ. - تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، للذهبي، ت: عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، الأولى، 1407 هـ. - التاريخ الأوسط، للبخاري، ت: محمد بن إبراهيم اللَّحيدان، دار الصُّميعي، الأولى، 1418 هـ. - التاريخ الأوسط، للبخاري، ت: محمود إبراهيم زايد، دار الوعي بحلب، الأولى، 1397 هـ. - التاريخ الكبير، للإمام محمد بن إسماعيل البخاري،، تصوير دار الكتب العلميَّة.

(1/537)


- تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، نشرة دارا لفكر. - تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف، للحافظ جمال الدِّين المزِّي، ومعه: النُّكت الظراف على الأطراف، للحافظ ابن حجر، ت: عبدالصَّمد شرف الدِّين، نشر دار الفاروق الحديثة، عن مطبوعة دار الكتاب الإسلامي بالقاهرة، الثانية، 1414 هـ. - تحفة التَّحصيل في ذكر رواة المراسيل، للحافظ أبي زرعة العراقي، ت: عبدالله نوارة، نشر: مكتبة الرشد بالرياض، 1999 م. - ترتيب علل التِّرمذي الكبير، للقاضي أبي طالب الأصبهاني، ت: حمزة ديب مصطفى، مكتبة الأقصى، الأولى، 1406 هـ. - التَّرغيب والتَّرهيب، للمنذري، ت: إبراهيم شمس الدِّين، دار الكتب العلمية، الأولى، 1417 هـ. - تسهيل السَّابلة لمريد معرفة الحنابلة، لصالح بن عبدالعزيز العُثيمين، ت: بكر أبوزيد، الرسالة، الأولى، 1410 هـ. - تعظيم قدر الصَّلاة، لمحمد بن نصر المروزي، عبدالرحمن بن عبدالجبَّار الفريوائي، مكتبة الدَّار في المدينة النبويَّة، الأولى، 1406 هـ. - تعليقة على العلل لابن أبي حاتم، لابن عبد الهادي، دار أضواء السلف، ت: سامي بن محمد بن جاد الله، الأولى، 1423 هـ. - تغليق التَّعليق على صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، ت: سعيد عبدالرحمن القزقي، المكتب الإسلامي و دار عمار، الأولى، 1405 هـ. - تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، دار الفكر ببيروت، 1401 هـ. - تفسير القرآن، لابن أبي حاتم الرازي، ت: أسعد محمد الطيب، نشر المكتبة العصرية بصيدا. - تفسير القرآن، لعبد الرزاق الصنعاني، ت: مصطفى مسلم محمد، مكتبة الرشد، الأولى، 1410 هـ. - تفسير سفيان الثوري، نشر دار الكتب العلمية، الأولى، 1403 هـ. - التَّلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرَّافعي الكبير، للحافظ ابن حجر العسقلاني، تصحيح وتعليق: عبدالله هاشم اليماني، تصوير دار المعرفة ببيروت. - تمام المنَّة في تخريج أحاديث فقه السُّنَّة، للشيخ الألباني، دار الرَّاية بالرياض، الثَّالثة، 1409 هـ.

(1/538)


- التَّمهيد لما في الموطَّأ من المعاني والأسانيد لابن عبدالبر، ت: أسامة إبراهيم، الفاروق الحديثة، الأولى، 1420 هـ. - تنقيح تحقيق أحاديث التعليق، لابن عبدالهادي، ت: أيمن صالح شعبان، دار الكتب العلمية، الأولى، 1998 م. - تهذيب التَّهذيب، لابن حجر العسقلاني، ت: إبراهيم الزيبق وعادل مرشد، مؤسسة الرسالة، 1416 هـ. - تهذيب الكمال في أسماء الرجال، للحافظ جمال الدِّين المزِّي، ت: بشَّار عوَّاد معروف، مؤسة الرسالة، السادسة، 1415 هـ. - التَّوحيد وإثبات صفات الرَّب عزَّوجل، لابن خزيمة، ت: عبد العزيز بن إبراهيم الشهوان، مكتبة الرشد، الخامسة، 1414 هـ. - الثِّقات، لأبي حاتم ابن حبَّان البُستي، مصوَّرة دار الفكر للطبعة الهنديَّة. - جامع الأمَّهات لابن الحاجب، ت: الأخضر الأخضري، اليمامة، الثَّانية، 1421 هـ. - جامع بيان العلم وفضله، لابن عبدالبر، ت: أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، الرابعة، 1419 هـ. - جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لابن جرير الطَّبري، ت: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، دار هجر، الأولى، 1422 هـ. - جامع التَّحصيل في أحكام المراسيل، للحافظ العلائي، ت: حمدي السَّلفي، نشر عالم الكتب ببيروت، الثانية، 1407 هـ. - جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم، لابن رجب الحنبلي، ت: شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة، السابعة، 1417 هـ. - الجامع لأخلاق الرَّاوي وآداب السَّامع، للخطيب البغدادي، ت: محمود الطَّحَّان، مكتبة المعارف، 1403 هـ. - الجرح والتَّعديل، لابن أبي حاتم الرازي، مصوَّرة دار الكتب العلميَّة للطبعة الهنديَّة. - حاشية ابن عابدين، وهو رد المحتار على الدر المختار، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، الثالثة، 1404 هـ. - حاشية الدسوقي على الشَّرح الكبير للدَّردير، للدسوقي، نشر دار الفكر ببيروت.

(1/539)


- عون المعبود في شرح سنن أبي داود، للعظيم أبادي، مع تهذيبه لابن قيِّم الجوزيَّة، ت: عبدالرحمن محمد عثمان، نشر محمد عبدالمحسن صاحب المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، الثانية، 1388 هـ. - الحاوي الكبير، للماوردي، نشر دار الكتب العلميَّة، الأولى، 1419 هـ. - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، للحافظ أبي نعيم الأصبهاني، نشر دار الرَّيَّان للتراث بالقاهرة، الخامسة، 1407 هـ. - خلاصة الأحكام في مهمَّات السنن وقواعد الاسلام، للنَّووي، ت: حسين إسماعيل الجمل، مؤسسة الرسالة، الأولى، 1418 هـ. - الدُّر المنثور في التفسير بالمأثور، للسِّيوطي، ت: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، دار هجر، الأولى، 1424 هـ. - الدُّرُّ المنضَّد في ذكر تراجم أصحاب الإمام أحمد، لأبي اليمن العُليمي، ت: عبدالرحمن العُثيمين، مكتبة دار التوبة. - درَّة الغوَّاص في أوهام الخواص، للحريري، ت: عبدالحفيظ فرغلي، دار الجيل، الأولى، 1417 هـ. - الدِّيباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، لابن فرحون، دار الكتب العلميَّة. - ديوان أميَّة بن أبي الصَّلت، مع شرحه، تقديم وتعليق: سيف الدِّين الكاتب، أحمد عصام الكاتب، منشورات دار مكتبة الحياة ببيروت. - الذَّخيرة للقرافي،، ت: مجموعة من المحققين، دار الغرب الإسلامي، الأولى، 1994 م. - ذيل تاريخ بغداد، تأليف: محب الدين ابن النجار، دار الكتب العلمية. - الذَّيل على طبقات الحنابلة، لابن رجب الحنبلي، ت: عبدالرحمن العثيمين، مكتبة العبيكان، الأولى، 1425 هـ. - ذيل ميزان الاعتدال، للعراقي، ت: عبدالقيوم عبدرب النبي، نشر: مركز التراث بجامعة أم القرى، الأولى، 1406 هـ. - الرسالة، للشَّافعي، ت: أحمد محمد شاكر، تصوير المكتبة العلميَّة ببيروت. - الروض الدَّاني إلى المعجم الصغير للطَّبراني، محمد شكور محمود الحاج أمرير، المكتب الإسلامي ودار عمار، الأولى، 1405 هـ. - روضة الطَّالبين وعمدة المفتين، للنَّووي، المكتب الإسلامي، الثالثة، 1412 هـ.

(1/540)


- زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن قيِّم الجوزيَّة، ت: شعيب الأرناؤوط وعبدالقادر الأرناؤوط، مؤسسة الرِّسالة ومكتبة المنار الإسلاميَّة، الرَّابعة عشر، 1407 هـ. - الزهد لهنَّاد بن السَّري، ت: عبدالرحمن الفريوائي، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الأولى، 1406 هـ. - الزُّهد، لأبي داود السِّجستاني، ت: ياسر إبراهيم، وغنيم الغنيم، نشر: دار المشكاة، الأولى، 1414 هـ. - الزُّهد، لعبدالله بن المبارك، ت: حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية. - سؤالات ابن أبي شيبة لابن المديني في الجرح والتَّعديل، ت: موفَّق بن عبدالله عبدالقادر، مكتبة المعارف، الأولى، 1404 هـ. - سؤالات أبي داود السجستاني للإمام أحمد، ت زياد محمد منصور، مكتبة دار العلوم والحكم بالمدينة المنورة، الأولى 1414 هـ. - سؤالات الحاكم النيسابوري للدَّارقطني في الجرح والتَّعديل، ت: موفَّق بن عبدالله بن عبدالقادر، مكتبة المعارف، الأولى، 1404 هـ. - سلسلة الأحاديث الصَّحيحة وشيءٌ من فقهها وفوائدها، للشيخ الألباني، طبعة الكتب الإسلامي، الرابعة، 1405 هـ. وط بمكتبة المعارف، الثانية، 1407 هـ. - سلسلة الأحاديث الضَّعيفة والموضوعة وأثرها السَّيئ في الأمَّة، للشيخ الألباني، الخامسة، بمكتبة المعارف، 1412 هـ. - سنن ابن ماجه، ت: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر ببيروت. - سنن ابن ماجه، نشر: دار السلام، الثانية، 1421 هـ. - سنن أبي داود، نشر: دار السلام، الثانية، 1421 هـ. - سنن أبي دواد السجستاني، ت: عزَّت عبيد الدَّعَّاس وعادل السَّيِّد، دار الحديث ببيروت، الأولى، 1388 هـ. - سنن أبي دواد، ت: محمَّد عوَّامة، دار القبلة بجدة ومؤسَّسة الريَّان ببيروت، الثانية، 1425 هـ. - سنن الترمذي، ت: أحمد محمد شاكر، ط مصطفى البابي الحلبي، مصوَّرة دار الكتب العلميَّة. - سنن الترمذي، ت: بشَّار عوَّاد معروف، دار الغرب الإسلامي، الأولى، 1996 م.

(1/541)


- سنن الترمذي، نشر: دار السلام، الثانية، 1421 هـ. - سنن الدَّارقطني، ت: السَّيِّد عبدالله هاشم اليماني، وبذيله التعليق المغني على الدَّارقطني للعظيم آبادي، دارا لمحاسن للطباعة بالقاهرة. - السُّنن الكبرى، للإمام النسائي، أشرف على تحقيقه: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الأولى، 1422 هـ. - سنن النسائي الصغرى، نشر: دار السلام، الثانية، 1421 هـ - السُّنن والأحكام عن المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، للضياء محمد بن عبدالواحد المقدسي، ت حسين عكاشة، دار ماجد عسيري، الأولى 1425 هـ. - سير أعلام النُّبلاء، للحافظ الذَّهبي، ت: مجموعة من المحقِّقين، أشرف عليهم: شعيب الأرناؤوط، نشر مؤسسة الرِّسالة، الحادية عشرة، 1419 هـ. - السِّيرة النبوية، لابن هشام، ت: طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل، الأولى، 1411 هـ. - الشَّجرة في أحوال الرجال، للجوزجاني، ت عبدالعليم البستوي، نشاط أكادمي، فيصل أباد، باكستان، توزيع دار الطحاوي بالرياض، الأولى 1411 هـ. - شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة، للحافظ هبة الله اللَّالكائي، ت: أحمد ابن سعد حمدان الغامدي، ط دار طيبة، السادسة، 1420 هـ. - شرح السُّنَّة، للبغوي، ت: زهير الشاويش وشعيب الأرناؤوط. - شرح العمدة في الفقه، لابن تيمية، ت: سعود صالح العطيشان، مكتبة العبيكان، الأولى، 1413 هـ. - شرح ديوان أبي تمام، للخطيب التَّبريزي، ت راجي الأسمر، نشر: دار عالم الكتب، الأولى، 1413 هـ. - شرح ديوان أبي تمام، للصُّولي، ت: خلف رشيد نعمان، منشورات وزارة الثَّقافة والفنون بالجمهورية العراقية، سنة 1978 م، دار الطليعة للطباعة والنشر ببيروت. - شرح صحيح البخاري، لابن بطَّال، ت: ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد، الثانية، 1423 هـ. - شرح صحيح مسلم، للنَّووي، نشر دار إحياء التراث العربي ببيروت، الثانية، 1392 م.

(1/542)


- شرح فتح القدير على الهداية للمرغيناني، لكمال الدين بن الهمام السيواسي، وبهامشه الهداية، وشرحه العناية للبابرتي، مصوَّرة دار صادر ببيروت لطبعة الأميريَّة ببولاق، 1315 هـ. - شرح مختصر الخرقي، لشمس الدين محمد بن عبدالله الزَّركشي، ت: عبدالله الجبرين، ط مكتبة العبيكان، الأولى 1413 هـ. - شرح مشكل الآثار، لأبي جعفر الطَّحاوي، ت: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، الأولى، 1408 هـ. - شعب الإيمان، للبيهقي، ت: محمد السعيد بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، الأولى، 1410 هـ. - صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، ت: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، الثالثة، 1418 هـ. - صحيح ابن خزيمة، ت: محمد مصطفى الأعظمي، نشر المكتب الإسلامي، الثانية، 1412 هـ. - صحيح البخاري، نشر دار السلام، الثانية، 1421 هـ. - صحيح مسلم، ت: محمد فؤاد عبد الباقي، نشر: دار إحياء التراث العربي ببيروت. - صحيح مسلم، نشر دار السلام، الثانية، 1421 هـ. - الصَّلاة والتهجُّد، لعبدالحق الإشبيلي، ت: عادل أبوالمعاطي، في دار الوفاء بمصر، الأولى، 1413 هـ. - الصَّلاة ومقاصدها، للحكيم التِّرمذي، ت: حسني نصر زيدان، مطابع دار الكتاب العربي بمصر، 1965 م. - الصَّلاة، لأبي نعيم الفضل بن دكين، ت: صلاح بن عايض الشَّلاحي، مكتبة الغرباء الأثرية بالمدينة النبويَّة، الأولى، 1417 هـ. - الضُّعفاء الصَّغير، للبخاري، ومعه: الضعفاء والمتروكين، للنسائي، ت: محمود إبراهيم زايد، دار الوعي بحلب، الأولى، 1396 هـ. - الضُّعفاء الصَّغير، للبخاري، ومعه: الضعفاء والمتروكين، للنسائي، ت: محمود إبراهيم زايد، دار المعرفة ببيروت، 1406 هـ. - الضعفاء الكبير، للعقيلي، ت: عبد المعطي أمين قلعجي، دار المكتبة العلمية، الأولى، 1404 هـ.

(1/543)


- الضُّعفاء وأجوبة الرَّازي على سؤالات البرذعي، ت: سعدي الهاشمي، دار الوفاء، الثانية، 1409 هـ. - الضُّعفاء والمتروكون، للحافظ الدَّارقطني، ت: موفَّق بن عبدالله بن عبدالقادر، مكتبة المعارف، الأولى، 1404 هـ. - الضعفاء والمتروكون، للنسائي، ت: بوران الضناوي وكمال الحوت، مؤسسة الكتب الثقافية، الأولى، 1405 هـ. - طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى الفرَّاء، ت: عبدالرحمن العثيمين، الأمانة العامَّة للاحتفال بمرور مائة عام، 1419 هـ. - طبقات الشَّافعية الكبرى، لتاج الدِّين السبكي، ت: عبدالفتاح الحلو، ومحمود الطَّناحي، دار هجر، الثانية، 1413. - الطَّبقات الكبرى، لابن سعد، نشر دار صادر ببيروت. - طبقات المفسِّرين لشمس الدِّين الدَّاوودي، مكتبة وهبة بمصر، الأولى، 1392 هـ. - العُزلة، للخطَّابي، ت: ياسين بن محمد السَّوَّاس، دار ابن كثير، الثانية، 1410 هـ. - علل التِّرمذي الكبير، رتَّبه القاضي أبوطالب الأصبهاني، ت: صبحي السَّامرَّائي، وأبوالمعاطي النوري، ومحمود خليل الصَّعيدي، نشر دار عالم الكتب، الأولى، 1409 هـ. - علل الحديث، لابن أبي حاتم، ت: فريق من الباحثين، بإشراف سعد الحميد وخالد الجريسي، الأولى 1427 هـ، طبعة مختصرة الحواشي. - علل الحديث، لابن أبي حاتم، دار المعرفة، 1405 هـ. - العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، للحافظ ابن الجوزي، ت: إرشاد الحق الأثري، نشر إدارة ترجمان السُّنَّة، بلاهور، - العلل الواردة في الأحاديث، للدَّارقطني، ت: محفوظ الرَّحمن السَّلفي، دار طيبة بالرياض، 1420 هـ. - العلل ومعرفة الرجال، لأحمد بن حنبل، ت: وصي الله بن محمد عباس، نشر المكتب الإسلامي ودار الخاني, الأولى، 1408 هـ.

(1/544)


- العلل، لعلي بن المديني، ت: محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، الثانية،1980 م. - عنوان المجد في تاريخ نجد، لعثمان بن عبدالله بن بشر، ت: عبدالرحمن بن عبداللَّطيف آل الشيخ، مطبوعات دارة الملك عبدالعزيز، الرابعة، 1403 هـ. - عمل اليوم واللَّيلة، للنَّسائي، ت: فاروق حمادة، مؤسسة الرسالة، الثانية، 1406 هـ. - غوث المكدود بتخريج منتقى ابن الجارود، لأبي إسحاق الحويني، دار الكتاب العربي، الأولى، 1408 هـ. - فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، ت: محب الدِّين الخطيب، دار المعرفة ببيروت. - فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن رجب الحنبلي، ت: مجموعة من الباحثين، مكتبة الغرباء الأثرية، 1426 هـ. - فهرسة ابن خير الإشبيلي، دار الكتب العلميَّة، ت: محمد فؤاد منصور، الأولى، 1419 هـ. - الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب السِّتَّة، للذَّهبي، ت: محمد عوامة وأحمد محمد نمر الخطيب، دار القبلة للثقافة الإسلامية، الأولى، 1413 هـ. - الكافي، لابن قدامة المقدسي، ت: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، دار هجر، الأولى، 1417 هـ. - الكامل في ضعفاء الرجال، لابن عدي، ت: يحيى غزَّاوي، دار الفكر ببيروت، الثالثة، 1409 هـ. - كشف الأستار عن زوائد البزَّار، للهيثمي، ت: حبيب الرَّحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة، الثانية 1404 هـ. - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، مصطفى بن عبدالله (حاجي خليفة)، نشر: دار الكتب العلمية، 1413 هـ. - الكواكب النَّيِّرات في معرفة من اختلط من الرواة الثقات، لابن الكيَّال، ت: عبدالقيُّوم بن عبدربِّ النَّبي، المكتبة الإمداديَّة، الثانية، 1420 هـ. - لسان العرب، لابن منظور، نشر دار صادر ببيروت، الأولى. - لسان الميزان، للحافظ ابن حجر العسقلاني، ت: غنيم بن عباس بن غنيم، دار الفاروق الحديثة، الأولى، 1416 هـ.

(1/545)


- المبدع في شرح المقنع، لابن مفلح، المكتب الإسلامي، 1400 هـ. - المجْتَبى من السُّنن، المعروف بـ «السُّنن الصُّغرى»، للإمام النسائي، ت: عبدالفتاح أبو غدة، نشر مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب، الثانية، 1406 هـ. - المجروحين من المحدِّثين والضُّعفاء والمتروكين، لأبي حاتم ابن حبان البستي، ت: محمود إبراهيم زايد، دار المعرفة ببيروت، الأولى، 1412 هـ. - مجمع الزَّوائد ومنبع الفوائد، للهيثمي، دار الريَّان للتُّراث ودار الكتاب العربي, 1407 هـ. - المجموع شرح المهذَّب للنووي، ت: محمد نجيب المطيعي، دار إحياء التراث الإسلامي، 1415 هـ. - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع عبدالرحمن بن قاسم وابنه، طبعة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشَّريف بالمدينة المنورة، 1426 هـ. - المحرَّر في الحديث، لابن عبدالهادي، ت: عادل الهدبا ومحمد علوش، دار العطاء، الأولى 1422 هـ. - المحرَّر في الحديث، لابن عبدالهادي، ت: يوسف عبد الرحمن المرعشلي، ومحمد سليم إبراهيم سمارة، وجمال حمدي الذهبي، دار المعرفة بلبنان، الثالثة،1421 هـ. - المحلَّى، لابن حزم، ت: أحمد محمد شاكر، تصوير مكتبة دار التراث بالقاهرة. - مختصر المزني، لإسماعيل بن يحيى المزني، دار الكتب العلميَّة، الأولى 1419 هـ. - مختصر زوائد البزَّار، لابن حجر العسقلاني، ت: صبري عبدالخالق، مؤسسة الكتب الثقافية، الثالثة 1414 هـ. - مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن قيم الجوزية، ت: محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي، الأولى، 1410 هـ. - المدونة الكبرى، لسحنون، نشر: دار صادر ببيروت. - المدخل المفصَّل إلى فقه الإمام أحمد وتخريجات الأصحاب، لبكر بن عبدالله أبوزيد، دار العاصمة، الأولى، 1417 هـ. - المراسيل، لأبي داود السِّجستاني، ت: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرِّسالة، الأولى، 1408 هـ.

(1/546)


- المراسيل، للحافظ ابن أبي حاتم الرازي، ت: نعمة الله قوجاني، مؤسسة الرسالة، الثانية، 1418 هـ. - مراصد الصِّلات في مقاصد الصَّلاة، لابن القسطلاني، تعليق: محمد صديق المنشاوي السوهاجي، دار الفضيلة في القاهرة بمصر. - مسائل أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، رواية إسحاق الكوسج، ت: خالد الرباط، وآخران، دار الهجرة بالرياض، الأولى 1425 هـ. - مسائل الإمام أحمد بن حنبل، رواية ابنه عبدالله، ت: علي سليمان المهنا، مكتبة الدَّار بالمدينة النبوية، 1406 هـ. - مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه صالح، ت: فضل الرَّحمن دين محمد، الدَّار العلمية بدلهي الهند، الأولى 1408 هـ. - مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود السِّجستاني، ت: طارق عوض الله، مكتبة ابن تيميَّة، الأولى 1420 هـ. - المسائل الفقهيَّة من كتاب الروايتين والوجهين للقاضي أبي يعلى، ت عبدالكريم اللَّاحم، مكتبة المعارف، الأولى 1405 هـ. - المستدرك على الصَّحيحين، للحاكم النيسابوري، نشر: دار الكتب العلميَّة، الأولى، 1411 هـ. - مسند أبي بكر الصِّديق، لأبي بكر المروزي، ت: شعيب الأرناؤوط، المكتب الإسلامي. - مسند أبي داود الطَّيالسي، ت: محمد بن تركي التركي، دار هجر بمصر، الأولى 1420 هـ. - مسند أبي يعلى الموصلي، ت: حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، الثانية، 1410 هـ. - مسند الإمام أحمد بن حنبل، ت: مجموعة من الباحثين، أشرف عليهم: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، مؤسسة الرسالة، الثانية، 1420 هـ. - مسند الإمام أحمد بن حنبل، وبهامشه: منتخب كنز العمَّال في سنن الأقوال والأفعال، الطبعة الميمنيَّة، تصوير دار الفكر. - مسند الدَّارمي، المعروف بـ «السنن»، ت: حسين سليم أسد الدَّاراني، دار المغني، الأولى، 1421 هـ.

(1/547)


- مسند الدَّارمي، المعروف بـ «السنن»، ت: فوَّاز زمرلي، وخالد السبع، دار الكتاب العربي، الثانية، 1417 هـ. - مسند الشافعي، دار الكتب العلمية ببيروت. - المسند، للحميدي، ت: حبيب الرَّحمن الأعظمي، دار الكتب العلميَّة ومكتبة المتنبي بالقاهرة. - المسند، للحميدي، ت: حسين سليم أسد، دار السقا، الأولى، 1996 م. - المسند، للشَّاشي، ت: محفوظ الرحمن زين الله، مكتبة العلوم والحكم بالمدينة، الأولى، 1410 هـ. - مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه، للبوصيري، ت: محمد المنتقى الكشناوي، دار العربية ببيروت، الثانية، 1403 هـ. - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، للفيومي، نشر المكتبة العلمية ببيروت. - المصنَّف، لابن أبي شيبة، ت: محمد عوامة، دار القبلة ومؤسسة علوم القرآن، الأولى 1427 هـ. - المصنَّف، للإمام عبد الرزَّاق الصنعاني، ت: حبيب الرحمن الأعظمي، نشر دار المكتب الإسلامي، الثانية، 1403 هـ. - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية لابن حجر العسقلاني، ت: مجموعة من الباحثين، تنسيق: سعد بن ناصر الشِّثري، دار العاصمة، 1419 هـ. - معالم السُّنن، للخطَّابي، تصحيح: محمد راغب الطَّبَّاخ، الأولى، 1351 هـ. - المعجم الأوسط، للطَّبراني، ت: طارق بن عوض الله و عبد المحسن الحسيني، دار الحرمين، 1415 هـ. - المعجم الكبير، للطَّبراني، ت: حمدي بن عبدالمجيد السلفي، مكتبة الزهراء، الثانية، 1404 هـ. - معجم المؤلفين، عمر رضا كحالة، مؤسسة الرسالة، الأولى 1414 هـ. - مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، للخطيب الشِّربيني، نشر دار الفكر ببيروت. - المغني شرح الخرقي لابن قدامة المقدسي، ت: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، وعبدالفتاح الحلو، دار هجر، الثانية، 1412 هـ.

(1/548)


- المغني عن حمل الأسفار في الأسفار، للحافظ أبوالفضل العراقي، ت: أشرف عبد المقصود، نشر مكتبة طبرية بالرياض، الأولى، 1415 هـ. - مقاصد الصَّلاة، لعزالدِّين، عبدالعزيز بن عبدالسَّلام، ت: إياد الطَّبَّاع، بدار الفكر بدمشق، الثانية، 1995 م. - المقنع لابن قدامة، ومعه: الشَّرح الكبير على المقنع لابن أبي عمر، والإنصاف في معرفة الرَّاجح من الخلاف للمرداوي، كلُّها في نسقٍ واحدٍ، ت: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، وعبدالفتاح الحلو، دار هجر، الأولى، 1414 هـ. - المنتخب من العِلل للخلَّال، لابن قدامة المقدسي، ت: طارق بن عوض الله، دار الراية، الأولى، 1419 هـ. - المنتخب من مسند عبد بن حميد، ت: صبحي البدري السامرائي , ومحمود محمد خليل الصعيدي، مكتبة السنة بالقاهرة، الأولى، 1408 هـ. - المنتخب من مسند عبد بن حميد، ت: مصطفى بن العدوي، دار بلنسية، الثانية، 1423 هـ. - المنتقى من السنن المسندة، لابن الجارود، ت: عبدالله عمر البارودي، الأولى، مؤسسة الكتاب الثقافية، 1408 هـ. - المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد، لأبي اليمن العُليمي، ت: عبدالقادر الأرناؤوط وآخرون، دار صادر بلبنان، الأولى، 1997 م. - المهذَّب في اختصار السُّنن الكبير للبيهقي، للذَّهبي، ت دار المشكاة بإشراف: أبوتميم ياسر بن إبراهيم، دار الوطن للنشر، الأولى 1422 هـ. - المهذَّب في فقه الإمام الشافعي، لأبي إسحاق الشيرازي، نشر: دار الفكر ببيروت. - مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، للحطَّاب الرعيني، نشر: دار الفكر، الثالثة، 1413 هـ. - الموضوعات من الأحاديث المرفوعات، للإمام ابن الجوزي، ت: نورالدِّين شكري جيلار، نشر مكتبة أضواء السَّلف بالرياض، الأولى، 1418 هـ. - موطأ الإمام مالك برواياته الثمانية، لسليم الهلالي، مجموعة الفرقان للنشر، 1424 هـ. - موطأ الإمام مالك، ت: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي بمصر. - ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للذَّهبي، ت: علي البجاوي، دار الفكر.

(1/549)


- نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار، للحافظ ابن حجر العسقلاني، ت: حمدي السَّلفي، نشر دار ابن كثير بدمشق، الأولى، 1421 هـ. - نصب الرَّاية لأحاديث الهداية، للزَّيلعي، تصحيح: محمَّد عوَّامة، المكتبة المكِّيَّة، دار القبلة، مؤسسة الرَّيَّان. - النِّهاية في غريب الحديث والأثر والرواية، لابن الأثير، ت طاهر الزواوي، ومحمود الطَّناحي، المكتبة العلمية، 1399 هـ. - النَّوادر والزِّيادات على ما في المدوَّنة من غيرها من الأمَّهات لابن أبي زيد القيرواني، ت: عبدالفتاح الحلو، دار الغرب الإسلامي، الأولى، 1990 م. - الهداية شرح بداية المبتدي، للمرغياني، المكتبة الإسلامية. - الهداية، لأبي الخطاب الكلوذاني، ت: إسماعيل الأنصاري وصالح العمري، مطابع القصيم، الأولى، 1391 هـ. - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزَّمان، لابن خلكان، ت: إحسان عباس، دار الثقافة بلبنان.

(1/550)