×
كتاب لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -، يضم ثلاث رسائل في الصلاة مفيدة، وهي : 1- كيفية صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. 2- في وجوب أداء الصلاة في الجماعة. 3- أين يضع المصلي يديه في الصلاة بعد الرفع من الركوع.

 ثلاث رسائل في الصلاة

 [الرسالة الأولى: كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم]

من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى كل من يحب أن يصلي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» - رواه البخاري -. 1 - يسبغ الوضوء وهو أن يتوضأ كما أمره الله عملا بقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل صلاة بغير طهور» .

(1/1)


2 - يتوجه المصلي إلى القبلة وهي الكعبة أينما كان بجميع بدنه، قاصدا بقلبه فعل الصلاة التي يريدها من فريضة أو نافلة، ولا ينطق بلسانه بالنية؛ لأن النطق باللسان غير مشروع؛ لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم ينطق بالنية، ولا أصحابه رضي الله عنهم، ويسن أن يجعل له سترة يصلي إليها إن كان إماما أو منفردا؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. 3 - يكبر تكبيرة الإحرام قائلا: (الله أكبر) ناظرا ببصره إلى محل سجوده. 4 - يرفع يديه عند التكبيرة إلى حذو منكبيه، أو إلى حيال أذنيه. 5 - يضع يديه على صدره، اليمنى على كفه اليسرى. لورود ذلك من حديث وائل بن حجر، وقبيصة بن هلب الطائي، عن أبيه رضي الله عنهما. 6 - يسن أن يقرأ دعاء الاستفتاح، وهو: (اللهم باعد بيني

(1/2)


وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) . وإن شاء قال بدلا من ذلك (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك) ثم يقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم) ويقرأ سورة الفاتحة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» ويقول بعدها (آمين) جهرا في الصلاة الجهرية، ثم يقرأ ما تيسر من القرآن. 7 - يركع مكبرا رافعا يديه إلى حذو منكبيه أو أذنيه، جاعلا رأسه حيال ظهره، واضعا يديه على ركبتيه، مفرقا أصابعه، ويطمئن في ركوعه ويقول: (سبحان ربي العظيم) ، والأفضل: أن يكررها ثلاثا أو أكثر، ويستحب أن يقوله مع ذلك: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) .

(1/3)


8 - يرفع رأسه من الركوع، رافعا يديه إلى حذو منكبيه أو أذنيه، قائلا: (سمع الله لمن حمده) إن كان إماما أو منفردا، ويقول حال قيامه: (ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد) . وإن زاد بعد ذلك: (أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد) فهو حسن؛ لأن ذلك قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث الصحيحة. أما إن كان مأموما فإنه يقول عند الرفع: (ربنا ولك الحمد) إلى آخر ما تقدم. ويستحب أن يضع كل منهم يديه على صدره، كما فعل في قيامه قبل الركوع؛ لثبوت ما يدل على ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث وائل بن حجر، وسهل بن سعد رضي الله عنهما. 9 - يسجد مكبرا واضعا ركبتيه قبل يديه، إذا تيسر ذلك، فإن شق عليه قدم يديه قبل ركبتيه، مستقبلا بأصابع رجليه ويديه القبلة، ضامًّا أصابع يديه. ويكون على

(1/4)


أعضائه السبعة، الجبهة مع الأنف، واليدين، والركبتين، وبطون أصابع الرجلين، ويقول: (سبحان ربي الأعلى) ويكرر ذلك ثلاثا أو أكثر. ويستحب أن يقول مع ذلك: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك. . اللهم اغفر لي) ، ويكثر من الدعاء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم» وقوله صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء» . رواهما مسلم في صحيحه، ويسأل ربه له ولغيره من المسلمين من خير الدنيا والآخرة، سواء كانت الصلاة فرضا أو نفلا، ويجافي عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، ويرفع ذراعيه عن الأرض؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب» . 10 - يرفع رأسه مكبرا، ويفرش قدمه اليسرى ويجلس عليها، وينصب رجله اليمنى، ويضع يديه على فخذيه وركبتيه، ويقول: (رب اغفر لي، رب اغفر لي، رب اغفر لي، اللهم اغفر لي، وارحمني، وارزقني، وعافني، واهدني

(1/5)


، واجبرني) ويطمئن في هذا الجلوس حتى يرجع كل فقار إلى مكانه، كاعتداله بعد الركوع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل اعتداله بعد الركوع، وبين السجدتين. 11 - يسجد السجدة الثانية مكبرا، ويفعل فيها كما فعل في السجدة الأولى. 12 - يرفع رأسه مكبرا، ويجلس جلسة خفيفة مثل جلوسه بين السجدتين، وتسمى: جلسة الاستراحة، وهي مستحبة في أصح قولي العلماء. وإن تركها فلا حرج، وليس فيها ذكر ولا دعاء، ثم ينهض قائما إلى الركعة الثانية معتمدا على ركبتيه إن تيسر ذلك، وإن شق عليه اعتمد على الأرض، ثم يقرأ الفاتحة وما تيسر له من القرآن بعد الفاتحة. ثم يفعل كما فعل في الركعة الأولى، ولا يجوز للمأموم مسابقة إمامه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذر أمته من ذلك، وتكره موافقته للإمام، والسنة له أن تكون أفعاله بعد إمامه من دون تراخي وبعد انقطاع صوته؛ لقول النبي صلى

(1/6)


الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا كبر فكبروا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد فإذا سجد فاسجدوا» الحديث متفق عليه. 13 - إذا كانت الصلاة ثنائية، أي: ركعتين كصلاة الفجر، والجمعة والعيد، جلس بعد رفعه من السجدة الثانية ناصبا رجله اليمنى، مفترشا رجله اليسرى، واضعا يده اليمنى على فخذه اليمنى، قابضا أصابعه كلها إلا السبابة، فيشير بها إلى التوحيد، وإن قبض الخنصر والبنصر من يده وحلق إبهامها مع الوسطى وأشار بالسبابة فحسن. لثبوت الصفتين عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأفضل أن يفعل هذا تارة، وهذا تارة، ويضع يده اليسرى على فخذه اليسرى وركبته، ثم يقرأ التشهد في هذا الجلوس. وهو (التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا

(1/7)


الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) . . ثم يقول: (اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد) . ويستعيذ بالله من أربع فيقول: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) ، ثم يدعو بما شاء من خير الدنيا والآخرة، وإذا دعا لوالديه أو غيرهما من المسلمين فلا بأس، سواء كانت الصلاة فريضة، أو نافلة، ثم يسلم عن يمينه وشماله، قائلا: (السلام عليكم ورحمة الله. . السلام عليكم ورحمة الله) . 14 - إن كانت الصلاة ثلاثية كالمغرب، أو رباعية كالظهر والعصر والعشاء، قرأ التشهد المذكور آنفا، مع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم نهض قائما معتمدا على ركبتيه، رافعا يديه إلى حذو منكبيه، قائلا: (الله أكبر) ، ويضعهما أي يديه على صدره، كما

(1/8)


تقدم، ويقرأ الفاتحة فقط. وإن قرأ في الثالثة والرابعة من الظهر زيادة عن الفاتحة في بعض الأحيان فلا بأس؛ لثبوت ما يدل على ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، ثم يتشهد بعد الثالثة من المغرب، وبعد الرابعة من الظهر والعصر والعشاء، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويتعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، وفتنة المسيح الدجال، ويكثر من الدعاء، كما تقدم ذلك في الصلاة الثنائية. لكن يكون في هذا الجلوس متوركا، واضعا رجله اليسرى تحت رجله اليمنى، ومقعدته على الأرض، ناصبا رجله اليمنى؛ لحديث أبي حميد في ذلك. ثم يسلم عن يمينه وشماله، قائلا: السلام عليكم ورحمة الله. . السلام عليكم ورحمة الله، ويستغفر الله ثلاثا، ويقول: (اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك

(1/9)


وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون) . ويسبح الله ثلاثا وثلاثين، ويحمده مثل ذلك، ويكبره مثل ذلك، ويقول تمام المائة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) . ويقرأ آية الكرسي، وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، بعد كل صلاة. ويستحب تكرار هذه السور الثلاث، ثلاث مرات بعد صلاة الفجر، وصلاة المغرب؛ لورود الحديث الصحيح بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما يستحب أن يزيد بعد الذكر المتقدم بعد صلاة الفجر وصلاة المغرب قول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير) عشر مرات؛ لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإن

(1/10)


كان إماما انصرف إلى الناس وقابلهم بوجهه بعد استغفاره ثلاثا، وبعد قوله: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام. ثم يأتي بالأذكار المذكورة، كما دل على ذلك أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم. وكل هذه الأذكار سنة وليست بفريضة. ويستحب لكل مسلم ومسلمة، أن يحافظ على اثنتي عشرة ركعة في حال الحضر، وهي أربع قبل الظهر، وثنتان بعدها، وثنتان بعد المغرب، وثنتان بعد صلاة العشاء، وثنتان قبل صلاة الصبح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحافظ عليها، وتسمى الرواتب. وقد ثبت في صحيح مسلم، عن أم حبيبة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من صلى اثنتي عشرة ركعة في يومه وليلته تطوعا بنى له بيتا في الجنة» . وقد فسرها الإمام الترمذي في روايته لهذا الحديث بما ذكرنا. أما في السفر فكان النبي صلى الله عليه

(1/11)


وسلم يترك سنة الظهر والمغرب والعشاء، ويحافظ على سنة الفجر والوتر، ولنا فيه أسوة حسنة، لقول الله سبحانه. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] وقوله عليه الصلاة والسلام «صلوا كما رأيتموني أصلي» والله ولي التوفيق. . . وصلى الله وسلم على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

(1/12)


 [الرسالة الثانية في وجوب أداء الصلاة في الجماعة]

من عبد العزيز بن عبد الله بن باز، إلى من يراه من المسلمين، وفقهم الله لما فيه رضاه، ونظمني وإياهم في سلك من خافه واتقاه، آمين. . سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد بلغني أن كثيرا من الناس قد يتهاونون بأداء الصلاة في الجماعة ويحتجون بتسهيل بعض العلماء في ذلك فوجب علي أن أبين عظم هذا الأمر وخطورته، وأنه لا ينبغي للمسلم أن يتهاون بأمر عظَّم الله شأنه في كتابه العظيم، وعظَّم شأنه رسوله الكريم، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم. ولقد أكثر الله سبحانه من ذكر الصلاة في كتابه الكريم، وعظم شأنها، وأمر بالمحافظة عليها وأدائها في

(1/13)


الجماعة، وأخبر أن التهاون بها والتكاسل عنها، من صفات المنافقين، فقال تعالى في كتابه المبين: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] وكيف تعرف محافظة العبد عليها، وتعظيمه لها، وقد تخلف عن أدائها مع إخوانه وتهاون بشأنها، وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] وهذه الآية الكريمة نص في وجوب الصلاة في الجماعة، والمشاركة للمصلين في صلاتهم. ولو كان المقصود إقامتها فقط لم تظهر مناسبة واضحة في ختم الآية بقوله سبحانه: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] لكونه قد أمر بإقامتها أول الآية، وقال تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] الآية. فأوجب سبحانه أداء الصلاة في الجماعة في حال الحرب، فكيف بحال السلم؟ ولو كان أحد يسامح في ترك

(1/14)


الصلاة في جماعة، لكان المصافون للعدو، المهددون بهجومه عليهم أولى بأن يسمح لهم في ترك الجماعة، فلما لم يقع ذلك، علم أن أداء الصلاة في جماعة من أهم الواجبات، وأنه لا يجوز لأحد التخلف عن ذلك. وفي الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا أن يصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم» الحديث. وفي صحيح مسلم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: «لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق علم نفاقه، أو مريض، وإن كان المريض ليمشي بين الرجلين حتى يأتي الصلاة» . وقال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى، وأن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه» . وفيه أيضا عنه قال: «من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن فإن الله شرع لنبيكم سنن

(1/15)


الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف» . وفي صحيح مسلم أيضا، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلا أعمى قال: «يا رسول الله إنه ليس لي قائد يلائمني إلى المسجد فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " هل تسمع النداء بالصلاة "؟ قال: نعم، قال: "فأجب» . والأحاديث الدالة على وجوب الصلاة في الجماعة، وعلى وجوب إقامتها في بيوت الله التي أذن الله أن ترفع

(1/16)


ويذكر فيها اسمه، كثيرة جدا، فالواجب على كل مسلم العناية بهذا الأمر، والمبادرة إليه، والتواصي به. مع أبنائه وأهل بيته وجيرانه وسائر إخوانه المسلمين، امتثالا لأمر الله ورسوله، وحذرا مما نهى الله عنه ورسوله، وابتعادا عن مشابهة أهل النفاق الذين وصفهم الله بصفات ذميمة، من أخبثها تكاسلهم عن الصلاة، فقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا - مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 142 - 143] ولأن التخلف عن أدائها في الجماعة من أعظم أسباب تركها بالكلية. ومعلوم أن ترك الصلاة كفر وضلال وخروج عن دائرة الإسلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة» خرجه مسلم في صحيحه، عن جابر رضي الله عنه. وقال صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد

(1/17)


كفر» والآيات والأحاديث في تعظيم شأن الصلاة، ووجوب المحافظة عليها وإقامتها كما شرع الله والتحذير من تركها كثيرة ومعلومة. فالواجب على كل مسلم أن يحافظ عليها في أوقاتها، وأن يقيمها كما شرع الله، وأن يؤديها مع إخوانه في الجماعة في بيوت الله؛ طاعة لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وحذرا من غضب الله وأليم عقابه. ومتى ظهر الحق واتضحت أدلته، لم يجز لأحد أن يحيد عنه، لقول فلان أو فلان؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] ويقول سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] ولا يخفى ما في الصلاة في الجماعة من الفوائد الكثيرة، والمصالح الجمة، ومن أوضح ذلك التعارف، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه.

(1/18)


وتشجيع المتخلف، وتعليم الجاهل، وإغاظة أهل النفاق، والبعد عن سبيلهم، وإظهار شعائر الله بين عباده، والدعوة إليه سبحانه بالقول والعمل، إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة. وفقني الله وإياكم لما فيه رضاه وصلاح أمر الدنيا والآخرة، وأعاذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ومن مشابهة الكفار والمنافقين، إنه جواد كريم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

(1/19)


 [الرسالة الثالثة: أين يضع المصلي يديه بعد الرفع من الركوع؟]

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه. أما بعد، فقد كثر السؤال من الداخل والخارج عن موضع اليدين إذا رفع المصلي رأسه من الركوع فرأيت أن أجيب عن ذلك جوابا مبسوطا بعض البسط، نصحا للمسلمين، وإيضاحا للحق، وكشفا للشبهة، ونشرا للسنة، فأقول: قد دلت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه كان يقبض بيمينه على شماله إذا كان قائما في الصلاة. كما دلت على أنه كان عليه الصلاة والسلام يأمر بذلك. قال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: (باب وضع اليمنى على اليسرى) حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك

(1/20)


، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال «كان الناس يُؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة» (قال أبو حازم: لا أعلمه إلا ينمي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم) . انتهى المقصود. ووجه الدلالة من هذا الحديث الصحيح على شرعية وضع اليمين على الشمال حال قيام المصلي في الصلاة قبل الركوع وبعده أن سهلا أخبر أن الناس كانوا يُؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة، ومعلوم أن السنة للمصلي في حال الركوع أن يضع كفيه على ركبتيه، وفي حال السجود أن يضعهما على الأرض حيال منكبيه، أو حيال أذنيه، وفي حال الجلوس بين السجدتين وفي التشهد أن يضعهما على فخذيه وركبتيه، على التفصيل الذي أوضحته السنة في ذلك. فلم يبق إلا حال القيام، فعلم أنه المراد من حديث سهل. وبذلك يتضح أن المشروع للمصلي في حال قيامه في الصلاة، أن يضع يده اليمنى على ذراعه اليسرى، سواء كان ذلك في القيام قبل

(1/21)


الركوع أو بعده؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما نعلم التفريق بينهما. ومن فرق فعليه الدليل، وقد ثبت في حديث وائل بن حُجْر عند النسائي بإسناد صحيح، «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان قائما في الصلاة قبض بيمينه على شماله» . وفي رواية له أيضا ولأبي داود بإسناد صحيح عن وائل «أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم بعدما كبر للإحرام، وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد» . وهذا صريح صحيح في وضع المصلي حال قيامه في الصلاة كفه اليمنى على كفه اليسرى، والرسغ والساعد. وليس فيه تفريق بين القيام الذي قبل الركوع والذي بعده. فاتضح بذلك شمول هذا الحديث للحالين جميعا. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح على ترجمة البخاري المذكورة آنفا ما نصه قوله: (باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة) أي في حال القيام، قوله: (كان الناس يُؤمرون) هذا حكمه الرفع؛ لأنه محمول على أن الآمر لهم بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي، قوله: (على ذراعه) أبهم موضعه من

(1/22)


الذراع، وفي حديث وائل عند أبي داود والنسائي (ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد) وصححه ابن خزيمة وغيره. وأصله في صحيح مسلم بدون الزيادة. والرسغ بضم الراء وسكون السين المهملة بعدها معجمة، هو المفصل بين الساعد والكف. وسيأتي أثر علي نحوه في أواخر الصلاة. ولم يذكر أيضا محلهما من الجسد، وقد روى ابن خزيمة من حديث وائل (أنه وضعهما على صدره) ، والبزار عند صدره، وعند أحمد في حديث هُلْب الطائي نحوه، وهُلْب بضم الهاء، وسكون اللام بعدها موحدة، وفي زيادات المسند من حديث علي أنه وضعهما تحت السرة، وإسناده ضعيف، واعترض الداني في أطراف الموطأ، فقال هذا معلوم؛ لأنه ظن من أبي حازم، ورُدَّ بأن أبا حازم لو لم يقل: لا أعلمه إلخ، لكان في حكم المرفوع؛ لأن قول الصحابي: (كنا نؤمر بكذا) يصرف بظاهره إلى من له الأمر، وهو النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابي في مقام تعريف الشرع. فيحمل على من صدر عنه الشرع. ومثله قول عائشة رضي الله عنها (كنا نؤمر بقضاء الصوم)

(1/23)


فإنه محمول على أن الآمر بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم، وأطلق البيهقي: أنه لا خلاف في ذلك بين أهل النقل. والله أعلم. وقد ورد في سنن أبي داود، والنسائي، وصحيح ابن السكن شيء يستأنس به على تعيين الآمر والمأمور، فروي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «رآني النبي صلى الله عليه وسلم واضعا يدي اليسرى على يدي اليمنى فنزعها، ووضع اليمنى على اليسرى» إسناده حسن، قيل: لو كان مرفوعا ما احتاج أبو حازم إلى قوله: لا أعلمه إلخ. والجواب: أنه أراد الانتقال إلى التصريح، فالأول لا يقال له مرفوع، وإنما يقال: له حكم الرفع. قال العلماء: الحكمة في هذه الهيئة أنه صفة السائل الذليل، وهو أمنع من العبث وأقرب إلى الخشوع، وكأن البخاري رحمه الله لحظ ذلك، فعقبه بباب الخشوع، ومن اللطائف قول بعضهم: القلب موضع النية والعادة أن من احترز على حفظ شيء جعل يديه عليه. قال ابن عبد البر: (لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف. وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين، وهو الذي ذكره مالك في الموطأ،

(1/24)


ولم يحك ابن المنذر وغيره عن مالك غيره، وروى ابن القاسم عن مالك الإرسال، وصار إليه أكثر أصحابه، وعنه التفرقة بين الفريضة والنافلة، ومنهم من كره الإمساك، ونقل ابن الحاجب أن ذلك حيث يمسك متعمدا لقصد الراحة) انتهى المقصود من كلام الحافظ، وهو كاف شاف في بيان ما ورد في هذه المسألة، وفيما نقله عن الإمام ابن عبد البر الدلالة على أن قبض الشمال باليمين حال القيام في الصلاة هو قول أكثر العلماء، ولم يفرق ابن عبد البر رحمه الله بين الحالين. وأما ما ذكره الإمام الموفق في المغني وصاحب الفروع، وغيرهما عن الإمام أحمد رحمه الله أنه رأى تخيير المصلي بعد الرفع من الركوع بين الإرسال والقبض فلا أعلم له وجها شرعيا، بل ظاهر الأحاديث الصحيحة المتقدم ذكرها يدل على أن السنة القبض في الحالين، وهكذا ما ذكره بعض الحنفية من تفضيل الإرسال في القيام بعد الركوع لا وجه له؛ لكونه مخالفا للأحاديث السابقة، والاستحسان إذا خالف الأحاديث لا يعول عليه، كما نص عليه أهل العلم. أما ما ذكر ابن عبد البر عن أكثر المالكية من تفضيل الإرسال فمراده في الحالين أعني قبل الركوع وبعده، ولا شك أنه قول مرجوح مخالف للأحاديث الصحيحة، ولما عليه

(1/25)


جمهور أهل العلم كما سلف، وقد دل حديث وائل بن حجر، وحديث هلب الطائي على أن الأفضل وضع اليدين على الصدر حال القيام في الصلاة. وقد ذكرهما الحافظ، كما تقدم. وهما حديثان جيدان لا بأس بإسنادهما. أخرج الأول (أعني حديث وائل) الإمام ابن خزيمة رحمه الله وصححه. كما ذكره العلامة الشوكاني في النيل. وأخرج الثاني (أعني حديث هلب) الإمام أحمد رحمه الله بإسناد حسن. وأخرج أبو داود رحمه الله، عن طاوس عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يوافق حديث وائل وهلب. وهو مرسل جيد، فإن قلت: قد روى أبو داود عن علي رضي الله عنه أنه قال: السنة وضع الكف على الكف، في الصلاة تحت السرة فالجواب أنه حديث ضعيف، كما صرح بذلك الحافظ ابن حجر كما تقدم في كلامه رحمه الله، وسبب ضعفه أنه من رواية عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي، ويقال: الواسطي، وهو ضعيف عند أهل العلم، لا يحتج بروايته. ضعفه الإمام أحمد، وأبو حاتم، وابن معين، وغيرهم. وهكذا حديث أبي هريرة عند أبي داود مرفوعا (أخذ الأكف على الأكف في الصلاة تحت السرة) لأن في إسناده عبد الرحمن بن إسحاق المذكور، وقد عرفت حاله.

(1/26)


وقال الشيخ أبو الطيب محمد شمس الحق في (عون المعبود شرح سنن أبي داود) بعد كلام سبق ما نصه: فمرسل طاوس، وحديث هلب، وحديث وائل بن حجر تدل على استحباب وضع اليدين على الصدر، وهو الحق. وأما الوضع تحت السرة أو فوق السرة فلم يثبت فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث انتهى. والأمر كما قال رحمه الله للأحاديث المذكورة. فإن قيل: قد ذكر الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني في حاشية كتابه: (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم) ص 145 من الطبعة السادسة ما نصه: (ولست أشك في أن وضع اليدين على الصدر في هذا القيام (يعني بذلك القيام بعد الركوع) بدعة ضلالة؛ لأنه لم يرد مطلقا في شيء من أحاديث الصلاة وما أكثرها، ولو كان له أصل لنقل إلينا، ولو عن طريق واحد، ويؤيده أن أحدا من السلف لم يفعله ولا ذكره أحد من أئمة الحديث فيما أعلم) انتهى.

(1/27)


والجواب عن ذلك أن يقال: نعم. قد ذكر أخونا العلامة الشيخ ناصر الدين في حاشية كتابه المذكور ما ذكر والجواب عنه من وجوه: (الأول) : أن جزمه بأن وضع اليمنى على اليسرى في القيام بعد الركوع بدعة ضلالة، خطأ ظاهر، لم يسبقه إليه أحد فيما نعلم من أهل العلم، وهو مخالف للأحاديث الصحيحة المتقدم ذكرها، ولست أشك في علمه وفضله وسعة اطلاعه وعنايته بالسنة، زاده الله علما وتوفيقا، ولكنه قد غلط في هذه المسألة غلطا بينا، وكل عالم يؤخذ من قوله ويترك، كما قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله: (ما منا إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر) يعني: النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا قال أهل العلم قبله وبعده، وليس ذلك يغض من أقدارهم، ولا يحط من منازلهم، بل هم في ذلك بين أجر وأجرين، كما صحت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حكم المجتهد: «إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر» . (الوجه الثاني) : أن من تأمل الأحاديث السالفة (حديث سهل، وحديث وائل بن حجر، وغيرهما) اتضح له دلالتها على

(1/28)


شرعية وضع اليمنى على اليسرى في حال القيام في الصلاة قبل الركوع وبعده؛ لأنه لم يذكر فيها تفصيل، والأصل عدمه. ولأن في حديث سهل الأمر بوضع اليمنى على ذراع اليسرى في الصلاة، ولم يبين محله من الصلاة. فإذا تأملنا ما ورد في ذلك اتضح لنا أن السنة في الصلاة وضع اليدين في حال الركوع على الركبتين، وفي حال السجود على الأرض، وفي حال الجلوس على الفخذين والركبتين، فلم يبق إلا حال القيام، فعلم أنها المرادة في حديث سهل. وهذا واضح جدا. أما حديث وائل ففيه التصريح من وائل رضي الله عنه بأنه «رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقبض بيمينه على شماله إذا كان قائما في الصلاة» خرجه النسائي بإسناد صحيح. وهذا اللفظ من وائل يشمل القيامين بلا شك، ومن فرق بينهما فعليه الدليل، وقد سبقت الإشارة إلى

(1/29)


ذلك في أول هذا المقال. (الوجه الثالث) : أن العلماء ذكروا: أن من الحكمة في وضع اليمين على الشمال أنه أقرب إلى الخشوع والتذلل، وأبعد عن العبث، كما سبق في كلام الحافظ ابن حجر، وهذا المعنى مطلوب للمصلي قبل الركوع وبعده. فلا يجوز أن يفرق بين الحالين إلا بنص ثابت يجب المصير إليه. أما قول أخينا العلامة: (إنه لم يرد مطلقا في شيء من أحاديث الصلاة وما أكثرها: ولو كان له أصل لنقل إلينا ولو عن طريق واحد) . فجوابه: أن يقال: ليس الأمر كذلك، بل قد ورد ما يدل عليه من حديث سهل ووائل وغيرهما، كما تقدم. وعلى من أخرج القيام بعد الركوع من مدلولها الدليل الصحيح المبين لذلك. وأما قوله وفقه الله: (ويؤيده أن أحدا من السلف لم يفعله ولا ذكره أحد من أئمة الحديث فيما أعلم) . فجوابه: أن يقال: هذا غريب جدا. وما الذي يدلنا على أن أحدا من السلف لم يفعله؟ بل الصواب: أن ذلك دليل على أنهم كانوا يقبضون في حال القيام بعد

(1/30)


الركوع، ولو فعلوا خلاف ذلك لنقل؛ لأن الأحاديث السالفة تدل على شرعية القبض حال القيام في الصلاة، سواء كان قبل الركوع أو بعده، وهو مقتضى ترجمة الإمام البخاري رحمه الله التي ذكرناها في أول هذا المقال. كما أن ذلك هو مقتضى كلام الحافظ ابن حجر عليها، ولو أن أحدا من السلف فعل خلاف ذلك لنقل إلينا. وأكبر من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه أرسل يديه حال قيامه من الركوع، ولو فعل ذلك لنقل إلينا، كما نقل الصحابة رضي الله عنهم ما هو دون ذلك من أقواله وأفعاله عليه الصلاة والسلام. وسبق في كلام ابن عبد البر رحمه الله (أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف القبض) ، وأقره الحافظ. ولا نعلم عن غيره خلافه. فاتضح بما ذكرنا أن ما قاله أخونا فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين في هذه المسألة حجة عليه لا له عند التأمل والنظر ومراعاة القواعد المتبعة عند أهل العلم. فالله يغفر لنا وله. ويعاملنا جميعا بعفوه. ولعله بعد اطلاعه على ما ذكرنا في هذه

(1/31)


الكلمة يتضح له الحق فيرجع إليه، فإن الحق ضالة المؤمن، متى وجدها أخذها. وهو بحمد الله ممن ينشد الحق ويسعى إليه ويبذل جهوده الكثيرة في إيضاحه والدعوة إليه. تنبيه هام ينبغي أن يعلم أن ما تقدم من البحث في قبض الشمال باليمين ووضعهما على الصدر أو غيره قبل الركوع وبعده كل ذلك من قبيل السنن، وليس من قبيل الواجبات عند أهل العلم. فلو أن أحدا صلى مرسلا ولم يقبض قبل الركوع أو بعده فصلاته صحيحة. وإنما ترك الأفضل في الصلاة، فلا ينبغي لأحد من المسلمين أن يتخذ من الخلاف في هذه المسألة وأشباهها وسيلة إلى النزاع والتهاجر والفرقة، فإن ذلك لا يجوز للمسلمين، حتى ولو قيل: إن القبض واجب، كما اختاره الشوكاني في (النيل) ، بل الواجب على الجميع بذلك الجهود

(1/32)


في التعاون على البر والتقوى، وإيضاح الحق بدليله، والحرص على صفاء القلوب وسلامتها من الغل والحقد من بعضهم على بعض. كما أن الواجب الحذر من أسباب الفرقة والتهاجر؛ لأن الله سبحانه أوجب على المسلمين أن يعتصموا بحبله جميعا، وأن لا يتفرقوا، كما قال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم» . وقد بلغني عن كثير من إخواني المسلمين في أفريقيا وغيرها أنه يقع بينهم شحناء كثيرة، وتهاجر، بسبب مسألة القبض والإرسال. ولا شك أن ذلك منكر لا يجوز وقوعه منهم. بل الواجب على الجميع التناصح والتفاهم في معرفة الحق بدليله، مع بقاء المحبة والصفاء والأخوة الإيمانية، فقد كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم والعلماء بعدهم رحمهم الله يختلفون في المسائل الفرعية، ولا يوجب ذلك بينهم فرقة ولا تهاجرا؛ لأن هدف كل واحد منهم

(1/33)


معرفة الحق بدليله، فمتى ظهر لهم اجتمعوا عليه، ومتى خفي على بعضهم لم يضلل أخاه، ولم يوجب له ذلك هجره ومقاطعته وعدم الصلاة خلفه. فعلينا جميعا معشر المسلمين أن نتقي الله سبحانه، وأن نسير على طريقة السلف الصالح قبلنا في التمسك بالحق، والدعوة إليه، والتناصح فيما بيننا، والحرص على معرفة الحق بدليله، مع بقاء المحبة والأخوة الإيمانية، وعدم التقاطع والتهاجر من أجل مسألة فرعية قد يخفى فيها الدليل على بعضنا فيحمله اجتهاده على مخالفة أخيه في الحكم. فنسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا: أن يزيدنا وسائر المسلمين هداية وتوفيقا، وأن يمنحنا جميعا الفقه في دينه، والثبات عليه ونصرته والدعوة إليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه، ومن اهتدى بهداه وعظم سنته إلى يوم الدين.

(1/34)