×
رسالة قيّمة بين فيها مؤلفها بعض الأسباب المعينة للاستيقاظ لصلاة الفجر، منها : 1- النوم مبكرًا. 2- البعد عن المعاصي. 3- عمارة القلب بالإيمان والعمل الصالح، وغيرها من الاسباب المفيدة والنافعة.

 جبر الكسر في الأسباب المعينة لأداء صلاة الفجر

كتبها: بعض طلبة العلم

تقديم: الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

بسم الله الرحمن الرحيم

 تقديـم

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:

فقد قرأت هذه الرسالة الموسومة بـ «جبر الكسر»، فألفيتها قيّمة في موضوعها، وقد وفِّق الله الكاتب -جزاه الله خيرًا- عندما أدرك كثرة المتخلفين عن صلاة الصبح، ورأى المساجد تكاد أن تخلو من أغلب الناس في ذلك الوقت؛ بحيث لا يعمرها سوى كبار السن أو بعض من أعانهم الله من الشباب والكهول، بل قد تجاوز الأمر إلى أن تخلى الكثير من الشيوخ والمسنين عن هذه الصلاة جماعة، بل أصبحوا متكاسلين عن بقية الصلوات.

ولقد كان نبينا -عليه الصلاة والسلام- هو القدوة والأسوة في قيام الليل والانتباه لصلاة الصبح، وهو المعلم المرشد لذلك؛ حيث ثبت ذلك عنه بالفعل، وكان يكره النوم قبل العشاء والتحدث بعدها، وتبعه على ذلك صحابته والمسلمون بعدهم إلى زمن قريب؛ وحيث عرفوا أسباب الكسل والتثاقل عن الصلاة فرضًا ونفلاً، وحذروا منها، حتى قال بعضهم: إذا لم تقدر على قيام الليل فاعلم أنك محروم، كبلتك خطيئتك. وسُئل الحسن البصري رحمه الله: ما لنا لا نقدر على قيام الليل؟ فقال: قيدتكم خطاياكم.

وقد ضعفت الهمم وقلَّ الإحساس، وكاد أن يتلاشى قدر هذه الصلاة في قلوب أولئك المتخلفين، وإلا فلو كان هناك دوافع وهمم قوية ما تغلب عليهم النوم، ولو سهروا أول الليل فنحن نشاهد أحدهم إذا حدد له موعد لعمل أو لمصلحة عاجلة أولاه اهتمامًا وانتبه في حينه أو قبل، ولم يهنأ بالنوم والراحة مخافة أن يعاقب أو يقتطع شيء من جرابته، فعلى هذا لا عذر لأحد في التخلف عن هذه الصلاة، وقد يسر الله -وله الحمد- في هذه الأزمنة وجود هذه الساعات المنبهة بأجراسها على الوقت المختار، فتوقظ من حولها إن كان له همة وحاجة، ولكن أولئك الكسالى إنما يستعملونها لأوقات العمل الوظيفي ونحوه، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله في المتخلفين: «لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء».

وبالجملة، فعلى من يريد نجاة نفسه من صفات المنافقين أن يتجرد من الكسل، ويستعمل أسباب النشاط ويطبق ما في هذه الرسالة من الأسباب، ويعوِّد نفسه على المبادرة ويدرك ما يفوته وما يفوت المتخلفين من الأسباب الصحيحة ومن الأجر الكبير، فسوف يتغير -إن شاء الله- إلى أحسن، ويتدارك ما فاته وما سبقه به الأولون، والله تعالى الموفق والمعين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

جبر الكسر في الأسباب المعينة لأداء صلاة الفجر

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، أما بعد:

فإن من الظواهر السيئة والبوادر الخطيرة التي تنذر بالخطر والعقوبة وتبعث على الخوف وتستدعي منا الوقوف والتأمل ومعرفة الأسباب والعلاج- ما نراه من تخلُّف كثير من المصلين عن صلاة الفجر وأدائها في غير وقتها، ولعل السبب في ذلك السهر الطويل، والعكوف على أجهزة اللهو الساعات الطوال، ولقد كان آباؤنا وأجدادنا إلى زمن ليس بالبعيد يحرصون أشد الحرص على النوم مبكرين، فيغلقون بيوتهم بعد صلاة العشاء ويتخففون من الطعام، فيقوم الواحد منهم لصلاة الفجر وهو طيب النفس، لذلك عاشوا عيشة هنيئة مليئة بالاستقرار النفسي والصحي، وأحسوا بطعم الحياة، ولما دخلت علينا المدنية الحديثة أفسدت علينا ديننا ودنيانا؛ فكان من نتيجة ذلك أن دبَّ الكسل والخمول في النفوس، وترهلت الأجسام، وتراكمت الشحوم عليها، وقلّت الحركة وكثُر نوم الإنسان وعجز عن القيام ببعض الأعمال البسيطة، ولعلنا من خلال هذا الموضوع أن نتلمس الأسباب المعينة للاستيقاظ لصلاة الفجر.

 فمن الأسباب لمعينة للاستيقاظ لصلاة الفجر:

 1- أن يحرص الإنسان على النوم مبكرًا:

وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها، وقد استثنى من ذلك حالات؛ منها ما ذكرها الإمام النووي في شرحه على مسلم، قال رحمه الله: سبب كراهة الحديث بعدها أن يؤدي إلى السهر، ويُخَاف منه غلبة النوم عن قيام الليل أو عن صلاة الصبح في وقتها الجائز، أو في وقتها المختار، أو الأفضل، والمكروه من الحديث بعد صلاة العشاء هو ما كان في الأمور التي لا مصلحة فيها، أما ما فيه مصلحة وخير فلا كراهة فيه؛ كمُدَارسة العلم وحكايات الصالحين، ومحادثة الضيف والعروس للتأنيس، ومحادثة الرجل أهله وأولاده للملاطفة والحاجة، ومحادثة المسافرين بحفظ متاعهم أو أنفسهم، والحديث في الإصلاح بين الناس والشفاعة إليهم في خير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإرشاد إلى مصلحة، ونحو ذلك، فكل هذا لا كراهة فيه.

 2- أن يحرص المسلم على آداب النوم:

كالدعاء قبل النوم، وجمع الكفين والنفث فيهما والنوم على طهارة، ويحرص على أداء ركعتي الوضوء، كما أن على المسلم أن يستعين بمن حوله من أهله ووالديه وأقاربه وجيرانه فيوصيهم بالاستيقاظ، وعليه أن يبادر إلى الاستيقاظ إذا أُوقظ، ولا يتثاقل ويتكاسل حتى لا يتصف بصفات المنافقين الذين إذا أتوا إلى الصلاة أتوا وهم كسالى.

 3- عمارة القلب بالإيمان والعمل الصالح:

فمتى كان الإيمان حيًّا يقظًا دفع صاحبه إلى العلم الصالح، وشمَّر عن ساعد الجد وواصل المسير بلا كلل ولا ملل؛ فشجرة الإيمان في القلب تثمر إذا سُقيت بروافد العمل الصالح؛ فتؤتي أكلها سلوكًا وتعاملاً حسنًا مع المجتمع، فالإيمان يَذْبُل وينكمش على حسب قوة الروافد وضعفها، وعلى حسب المؤثرات الخارجية التي ترد على القلب من الشهوات ونحوها، والقلب القاسي هو الذي لا تؤثر فيه المواعظ؛ لذا كان لزامًا على المسلم أن يتجنب ما يكون سببًا في قسوة قلبه من فضول الطعام والشراب والكلام والنظر والسماع، ويحرص على تحقيق قلبه من المؤثرات الخارجية.

 4- البعد عن المعاصي:

بصرف البصر عما يحرم النظر إليه، وكذا حفظ اللسان والسمع وسائر الجوارح وإشغالها بما يخصها من عبودية، فيشغل البصر بالنظر في كتاب الله وتلاوة آياته والتفكر فيما في هذا الكون من مخلوقات ومطالعة كتب العلم، وهكذا سئل أحد السلف عن السبب في عجزهم عن القيام لصلاة الليل، فقال: قيدتكم ذنوبُكم.

فلا شك أن الذنوب تكون سببًا في حرمان العبد الطاعة والتلذذ بها، والذنوب -كما قال الإمام ابن القيم- جراحات، ورب الجرح وقع في مقتل.

 5- أن يدرك ما ورد في فضل صلاة الفجر من الأجر العظيم والثواب الجزيل:

 وما ورد في ذم تاركها مع الجماعة ومؤخرها عن وقتها من الزجر والتوبيخ، من ذلك ما رواه عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله» رواه مالك ومسلم واللفظ له، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم والنسائي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل نام ليلة حتى أصبح قال: «ذاك رجل بال الشيطان في أذنه أو قال: في أذنيه». والبول حقيقي كما قال الإمام القرطبي، فهو يبول وينكح ويتناسل بكيفية لا يعلمها إلا الله( )، وإن أردت أن تتحقق من هذا فانظر إلى وجوه الذين يأتون للأعمال ولم يشهدوا صلاة الفجر مع الجماعة، انظر إلى وجوههم في أول الدوام إذا رأيت وجوههم تستعيذ بالله من شأنهم وحالهم، وماذا يكون حال إنسان بال الشيطان في أذنيه.

 6- أن يدرك الآثار المترتب على التخلف:

من تكدر النفس وانقباضها وفوات كثير من المنافع الدينية والدنيوية، وأن يدرك نقيض ذلك: يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد؛ يضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله تعالى انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها؛ فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان» رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود.

والوقت الذي يعقب صلاة الفجر كله خير وبركة، حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على اغتنامه وشغله بالذكر، فلقد كان يجلس بعد صلاة الفجر يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم يصلي ركعتين، لقد حرص السلف الصالح على الالتزام بهذه السنة، فها هو شيخ الإسلام ابن تيمية -كما ينقل عنه تلميذه ابن القيم- يجلس بعد الصلاة يذكر الله وكان يقول: «إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة» يعني بذلك ما يحصل للعابد من لذة المناجاة التي لا نسبة بينها وبين لذات الدنيا بأسرها، وكان يقول -رحمه الله- -كما ينقل عنه تلميذه-: «هذه غدوتي، ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي»( ).

ووقت ما بعد صلاة الفجر كله خير وبركة، دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته فيه بالخير والبركة، فقال عليه الصلاة والسلام: «اللهم بارك لأمتي في بكورها»؛ لذا نجد أصحاب الحرف والمهن والتجارة يحرصون على اغتنام هذا الوقت الفضيل؛ لما فيه من الخير والبركة، روى الترمذي عن صخر الغامدي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم بارك لأمتي في بكورها» قال: وكان إذا بعث سرية أو جيشًا بعثهم أول النهار، وكان صخرٌ رجلاً تاجرًا، وكان إذا بعث تجارة بعث أول النهار، فأثرى وكثر ماله( ). والذين ينامون في هذا الوقت الثمين ويستغرقون في نومهم في الصحوة حرموا أنفسهم بركة هذا الوقت.

أما الفوائد الصحية التي يجنيها الإنسان بيقظة الفجر فهي كثيرة؛ منها: «تكون أعلى نسبة لغاز الأوزون(3) في الجوِّ عند الفجر، وتقل تدريجيًّا حتى تضمحل عند طلوع الشمس، ولهذا الغاز تأثير مفيد للجهاز العصبي ومنشط للعمل الفكري والعضلي؛ بحيث يجعل الإنسان عندما يستنشق نسيم الفجر الجميل المسمى بريح الصبا يجد لذة ونشوة لا شبيه لها في أي ساعة من ساعات النهار والليل»( ).

 7- أن يحرص المسلم على أن ينفي عن نفسه صفة المنافقين:

فإن حضور صلاة الفجر مع الجماعة دليل على قوة الإيمان والبراءة من النفاق؛ لمشقة هذا الوقت على النفس؛ لذلك قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي أخرجه مسلم والبخاري: «إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا» ويقسم الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود فيقول: «ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق»( ). وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا فيه الظن» رواه البزار والطبراني وابن خزيمة في صحيحه( ).

وإذا أردت أن تزن إيمان الرجل ومدى صدقه وإيمانه فانظر إلى حاله مع صلاة الفجر؛ فإن كان ممن يشهد صلاة الفجر مع الجماعة فذلك مؤشر على قوة الإيمان، وإذا كان لا يشهدها مع الجماعة فهذا برهان على خلل في إيمانه وقسوة قلبه واستسلامه لنفسه وهواه وانهزامه أمام نفسه، وإذا كان الرجل يشهد صلاة الفجر فلنشهد له بالإيمان؛ فهي المحك على صدق إيمان العبد؛ لأنه حقق أكبر انتصار وهو انتصاره على نفسه وتغلبه على لذة النوم والفراش.

فكيف يهنأ هذا المتخلف بالنوم والناس في المساجد مع قرآن الفجر يعيشون، وإلى لذيذ خطاب الله يستمعون، وفي ربيع جناته يتقلبون، إن من آثر لذة الفراش على لذة المناجاة إنه في الحقيقة هو الخاسر المحروم.

 صافي الينبوع في الأسباب المعينة على الخشوع

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الصادق الأمين - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فهذه نبذة يسيرة كتبها بعض طلبة العلم الناصحين لإخوانهم المسلمين، تتضمن بعض الأسباب النافعة الجالبة للخشوع في الصلاة، الذي هو لبها وروحها، فمن تأمل هذه الأسباب واجتهد في تطبيقها فلابد أن يتأثر ويكتسب صفات تحمله على الإقبال على الصلاة، وحضور القلب فيها، والانتفاع بما يقول ويفعل داخل صلاته فرضًا أو نقلاً، كما هي حالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته وأهل التقى والعلم من أتباعه، حيث عرفوا الحكمة من شرعية هذه الصلوات فجعلوها قرة العين وسرور القلب وراحة البدن، يتلذذون بها كما يتلذذ غيرهم بشهوات البطن والفرج، ويفرحون ويُسرون بالدخول فيها كما يفرح غيرهم باللهو والمرح والطرب؛ ذلك لأن قلوبهم خالية عن الميل إلى الدنيا وزخرفها وزينتها، متعلقة بكل ما يحبه ربهم وما يقربهم من رضاه، فمتى دخل أحدهم في صلاته خشعت جوارحه وسكنت عن الحركة؛ حتى ليشبه أحدهم بالخشبة المنصوبة من طول القيام، وحتى ليقع الطير على رأس أحدهم عندما يراه منتصبًا لا يتحرك منه سوى لسانه مخافته، ولا شك أن تلك الصلاة هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتزيد في العمل وتكفر بها الذنوب والخطايا، فأهلها عند الدخول فيها يستحضرون القيام بين يدي ربهم، ويتمثلون جلاله وكبرياءه، فيتأملون كل كلمة تمر على ألسنتهم في قراءة أو دعاء أو ذكر؛ مستحضرين لمعناها متفقدين لأنفسهم في العمل بها أو تركه، وهكذا يخشعون ويخضعون في كل ركن من أركان الصلاة، متأملين الحكمة في شرعيته ومعنى كونه عبادة، فهذه الصلاة هي التي يُستعان بها على أمور الدين والدنيا كما في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ يعني أن مثل هذه الصلاة ثقيلة شاقة على غيرهم حيث تغلب على الأكثر الأوهام وتتوارد عليه الوساوس وحديث النفس، ويتذكر في صلاته ما كان ناسيًا، ويجول قلبه في شهواته ومكاسبه كما هو الواقع في هذه الأزمنة، وكما يُشاهد من كثرة السهو والغفلة وكثرة الاضطراب والحركة بيد أو رجل أو رأس؛ بحيث أصبحت الصلاة عادة لا عبادة، إنما يؤديها الأغلب مجاراة ومتابعة، فلا يأتون فيها بسنن ولا يتأثرون بها في حياتهم، ولو أنهم تأملوا ما تأمله الأولون لكانوا مثلهم أو قريبًا منهم، فالله المستعان وعليه التكلان، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

بقلم فضيلة الشيخ

 عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

* * * *

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي جعل الصلاة عمود الدين وقال تعالى: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ والصلاة والسلام على نبينا محمد، كان آخر وصيته لأمته عند خروجه من الدنيا الحض على الصلاة؛ لما لها من الأهمية في الدين، وعلى آله وصحابته أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

 الخشوع – أهميته وأثره:

إن الظواهر التي تظهر على الكثير -من قسوة القلب وقحط العين وانعدام التدبر- هي بسبب المادية التي طغت على قلوبنا فأصبحت تشاركنا في عبادتنا، ولا يمكن للقلوب أن ترجع لحالتها الصحيحة حتى تتطهر من كل ما علق بها من أدران. فهذا هو أمير المؤمنين عثمان بن عفان يضع يده على الداء لهذه الظاهرة فيقول: «لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام الله عز وجل»( ).

والخشوع الحق يطلق عليه الإمام ابن القيم (خشوع الإيمان)، ويُعرفه بأنه (خشوع القلب لله بالتعظيم والإجلال والوقار والمهابة والحياء، فينكسر القلب لله كسرة مُلتئمة من الوجل والخجل والحب والحياء، وشهود نعم الله، وجناياته هو، فيخشع القلب لا محالة؛ فيتبعه خشوع الجوارح)( ).

ومما يدل على أهمية الخشوع كونه السبب الأهم لقبول الصلاة التي هي أعظم أركان الدين بعد الشهادتين، وفي السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن العبد لينصرف من صلاته، ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، إلا سبعها، إلا ثمنها، إلا تسعها، إلا عشرها».

كما أن الخشوع يُسهل فعل الصلاة ويُحببها إلى النفس، قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: 45]: أي فإنها سهلة عليهم خفيفة؛ لأن الخشوع وخشية الله ورجاء ما عنده يوجب له فعلها منشرحًا بها صدره، لترقبه للثواب وخشيته من العقاب( ).

كما أن الخشوع هو العلم الحقيقي؛ قال ابن رجب -رحمه الله- في شرح حديث أبي الدرداء في فضل طلب العلم: رُوي عن عبادة بن الصامت وعوف بن مالك وحذيفة أنهم قالوا: «أول علم يُرفع من الناس الخشوع، حتى لا ترى خاشعًا».. وساق أحاديث أخر في هذا المعنى، ثم قال: ففي هذه الأحاديث أن ذهاب العلم بذهاب العمل، وأن الصحابة فسروا ذلك بذهاب العلم الباطن من القلوب وهو الخشوع. وقد ساق محقق الكتاب للأثر السابق عدة طرق وقال: إنه يتقوى بها( ).

فالصلاة إذًا صلة بين العبد وربه، ينقطع فيها الإنسان عن شواغل الحياة، ويتجه بكيانه كله إلى ربه، ويستمد منه الهداية والعون والتسديد، ويسأله الثبات على الصراط المستقيم( )، ولكن الناس يختلفون في هذه الصلة؛ فمنهم من تزيده صلاته إقبالاً على الله، ومنهم من لا تؤثر فيه صلاته إلى ذلك الحد الملموس، بل هو يؤديها بحركات وقراءة وذكر وتسبيح، ولكن من غير شعور كامل لما يفعل ولا استحضار لما يقول. والصلاة التي يريدها الإسلام ليست مجرد أقوال يلوكها اللسان وحركات تؤديها الجوارح، بلا تدبر من عقل، ولا خشوع من قلب. ففي سنن الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيئًا قال الرب عز وجل: انظروا، هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة؟ ثم تكون سائر أعماله على هذا».

ولما يعانيه كثير من الناس من قلة الخشوع في الصلاة، فقد رأينا أن نلتمس بعض الأسباب التي تعيدنا إلى الصلاة الحقيقية التي توثق صلتنا بربنا -عز وجل- وهي صلاة القلب والجوارح وتذللها لله تبارك وتعالى.

وقد امتدح الله -عز وجل- أهل هذه الصفة من المؤمنين حيث قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون: 1، 2].

ولعلنا بعدما نقرأ قوله سبحانه: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45] نسأل أنفسنا: ما بال الكثيرين منا يخرجون من صلاتهم ثم يأتون بأفعال وأمور منكرة؛ شتان بينها وبين ما تتركه صلاة الخاشعين الأوابين من أثر على أصحابها الذين يخرج أحدهم من صلاته وهو يُحسُ بأن كل صلاة تغسل ما في قلبه من أدران الدنيا، وتقربه إلى الله عز وجل.

أسباب الخشوع:

إذًا، فلابد من أسباب لقلة الخشوع، ولا ريب أن هناك خللاً ونقصًا في أدائها للصلاة، ولعلنا في هذه العجالة نستعرض بعض الأسباب المعينة -بإذن الله- على الخشوع في الصلاة وهي:

1- الإيمان الصادق:

والاعتقاد الجازم بما يترتب على الخشوع من فضل عظيم في الدنيا والآخرة، من الإحساس بالسكون والطمأنينة وراحة لا مثيل لها، وطيب نفس يفوق الوصف. قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ وروى مسلم عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله» والآيات والأحاديث الدالة على فضل الخشوع كثيرة.

2- الإكثار من قراءة القرآن والذكر والاستغفار:

وعدم الإكثار من الكلام بغير ذكر الله، كما في الحديث: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله؛ فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله تعالى قسوة للقلب! وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي» رواه الترمذي. فقراءة القرآن وتدبره من أعظم أسباب لين القلوب، قال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 23]. فالقراءة والذكر حصنٌ من الشيطان ووساوسه، وهي سببٌ لاطمئنان القلوب الذي يفقده الكثير من الناس، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28].

كما إن الإكثار من ذكر الله -عز وجل- سببٌ للفلاح، قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الجمعة: 10]. وليس المقام لبيان فضل الذكر، ولكن أردنا التنويه إلى أنه سببٌ من أسباب الخشوع، ومن يريد معرفة ذلك -فضل الذكر- فعليه الرجوع إلى كتاب الله والأذكار التي ثبتت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

ومع هذا أيضًا: الحرص على مجاهدة الشيطان، وذلك بأن يعقد العزم على مجاهدته من قبل القيام إلى الصلاة، وإن دخل عليه في أول صلاته فلا يستسلم له في وسطها أو آخرها، بل ينبغي أن يجاهد الشيطان حتى اللحظة الأخيرة من الصلاة، فالشيطان يسعى إلى تشتيت الذهن حتى لا يعقل المصلي شيئًا من صلاته، روى مسلم عن عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه - أنه قال: يا رسول الله، إن الشيطان حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي؛ يلبسها علي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ذاك شيطان يقال له: خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل عن يسارك ثلاثًا» ويقول راوي الحديث: ففعلت ذلك فأذهبه الله -عز وجل- عني.

إذًا، فينبغي أن يستمر المصلي في المجاهدة ولا ينقطع بأن يشمر عن ساعد الجد، فإذا لم يخشع في هذه الصلاة فليعقد العزم على الخشوع في الأخرى، وإن قل خشوعه في هذه فليحرص على كمال الخشوع في التي تليها وهكذا، ولا يتضجر من طول المجاهدة. ويسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يُعينه على ذلك.

3- دوام محاسبة النفس ولومها على ما لا ينبغي:

من الاعتقاد والقول والفعل، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر: 18]. وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر»( ).

وأيضًا البعد عن المعاصي بصرف البصر عما يحرم النظر إليه، وكذا حفظ اللسان والسمع وسائر الجوارح وإشغالها بما يخصها من عبودية، وصرفها بالنظر في كتاب الله والكتب العلمية المفيدة، وما يباح النظر إليه، والتفكر في مخلوقاته سبحانه وتعالى، والاستماع إلى الطيب من القول، والتحدث في المفيد، فلا شك أن الذنوب تقيد المرء وتحجزه عن أداء العبادات على الوجه المطلوب، فكل إنسان يعرف ما هو واقع فيه من الذنوب، وعليه أن يسعى في إصلاح حاله، والإصلاح متعلق بمحاسبة النفس؛ حيث إن المرء إذا حاسب نفسه بحث عما يُصلحها.

4- تدبر وتفهم ما يُقال في الصلاة:

وعدم صرف البصر فيما سوى موضع السجود، مستشعرًا بذلك رهبة الموقف، يقول الإمام ابن القيم في الفوائد( ): «للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه، فمن قام بحق الموقف الأول هُوِّن عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفِّه حقه شُدد عليه ذلك الموقف» قال تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا * إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا﴾ [الإنسان: 26، 27].

فلابد من إعطاء هذا الموقف حقه من خضوع وخشوع وانكسار؛ إجلالا لله عز وجل، واستشعارًا بأن هذه الصلاة هي الصلاة الأخيرة في الدنيا. لو استقر هذا الشعور في نفس المصلي لصلى صلاة خاشعة، روى الإمام أحمد عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، عظني وأوجز، فقال عليه الصلاة والسلام: «إذا قمت في صلاتك فصلِّ صلاة مودع، ولا تكلم بكلام تعْذُرُ منه غدًا، واجمع اليأس مما في أيدي الناس».

وأيضًا هناك أسباب أخرى للخشوع نذكر منها:

* الهمة: فإنه متى أهمك أمر حضر قلبك ضرورة، فلا علاج لإحضاره إلا صرف الهمة إلى الصلاة، وانصراف الهمة يقوى ويضعف بحسب قوة الإيمان بالآخرة واحتقار الدنيا( ).

* إدراك اللذة: التي يجدها العباد في صلاتهم، وهي التي عبر عنها ابن تيمية -رحمه الله- بقوله: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.

ولا تظن أن مسلمًا وجد هذه اللذة وذاق طعمها يُفرط فيها ويتساهل في طلبها. وهذه اللذة -كما قال ابن القيم رحمه الله- تقوى بقوة المحبة وتضعف بضعفها؛ لذا ينبغي للمسلم أن يسعى في الطرق الموصلة إلى محبة الله.

* التبكير إلى الصلاة: وذلك بأن يُهيئ القلب للوقوف أمام الله عز وجل، فينبغي للمسلم أن يأتيَ إلى الصلاة مبكرًا، ويقرأ ما تيسر من القرآن بتدبر وخشوع، فذلك أدعى للخشوع في الصلاة، يقول -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه...» الحديث. وفرق بين شخص جاء إلى الصلاة من مجلس كله لغو وحديث في الدنيا، وبين شخص قام إلى الصلاة وقد هيأ قلبه للوقوف أمام الله؛ لما قرأه من كلام الله عز وجل، فلا شك أن حال الثاني مع الله أفضل من الأول بكثير.

* أن يستحي العبد من الله: أن يتقرب إليه -عز وجل- بصلاة جوفاء خالية من الخشوع والخوف، فالشعور بالاستحياء من الله يدفع المسلم إلى إتقان العبادة والتقرب إلى الله بصلاة خاشعة فيها معاني الخوف والرهبة.

* أن يدرك المسلم حال الصحابة والسلف في الصلاة: فقد ذكر ابن تيمية -رحمه الله- أن مسلمة بن يسار كان يُصلي في المسجد فانهدم طائفة منه وقام الناس، وهو في الصلاة- لم يشعر. وكان عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - يسجد، فأتى المنجنيق فأخذ طائفة من ثوبه، وهو في الصلاة لا يرفع رأسه، وقالوا لعامر بن عبد القيس: أتُحدث نفسك بشيء في الصلاة؟ فقال: أوَشيء أحب إليَّ من الصلاة أحدث به نفسي؟! قالوا: إنا لنحدث أنفسنا في الصلاة، فقال: أبالجنة والحور ونحو ذلك؟ فقالوا: لا، ولكن بأهلينا وأموالنا، فقال: لأن تختلف الأسنة (الرماح) فيَّ أحب إليَّ من أن أحدث نفسي بذلك! وأمثال هذا متعدد( ).

تلك بعض الأسباب المعينة -بإذن الله- على الخشوع في الصلاة، والله نسأل أن يعيننا على طاعته -عز وجل- على الوجه الذي يرضيه عنا.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

تمت بفضل الله وكرمه.