×
الصلاة وأسرارها النفسية بالمفاهيم السلوكية المعاصرة: كل من تحدَّث عن الصلاة أحسنَ وأجادَ؛ فتحدَّث الفُقهاءُ بمفاهيم التشريع والإيمان، وتحدَّث المُتصوِّفة بمفاهيم الروح وصفاء النفس، وتحدَّث الأطباء المسلمون عن أسرار الصلاة بمفاهيم الجسم والحركة، وهذا ما سوف نُفصِّلها في الفصل الأول من هذا الكتاب في الحديث عن حركات الصلاة. ويبقى الجانب النفسي بمفاهيم النفس المعاصرة شاغرًا لم يتطرَّق إليه أحد، إلا في إشارات تُحقِّقُ المفهوم دون أن تسبُر أغواره أو تُحدِّدَ أبعاده، وهذا ما يُحاولُ الكتابَ أن يصِلَ إلى بعض حقائقه.

سلسلة ثقافتك الإسلامية (11)

 الصلاة وأسرارها النفسية بالمفاهيم السلوكية المعاصرة

·       حركات الصلاة في الإسلام ليست يوجا.

·       التوبة في الإسلام بين الاعتراف والتحليل النفسي.

·       الوضوء وآثاره النفسية.

·       تلاوة القرآن وأثرها على اطمئنان النفس.

·       الميكانيكية السلوكية في آيات القرآن الكريم "وكيف تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر"؟



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وبعد..

أيها القارئ الكريم يسر قطاع الشئون الثقافية – بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية – ممثلاً بإدارة الثقافة الإسلامية.

أن يقدم لك إصداره الحادي عشر من سلسلة "ثقافتك الإسلامية" تحت عنوان "الصلاة وأسرارها" لمؤلفه الدكتور محمد يوسف خليل (مستشار الطب النفسي) وتهدف هذه السلسلة الثقافية إلى نشر الثقافة الإسلامية، وإثراء المكتبة العربية بالنافع والمفيد في مجال التمسك بقيمنا الفاضلة والتعريف بتاريخنا الإسلامي وصناعة الرجال الأفذاذ.

فالحضارة الإسلامية هي حضارة [الثقافة والعلم والبحث]ولذا كانت كلمة (اقرأ) هي مفتاح هذا الدين.

إن إصدارات "ثقافتك الإسلامية" هي إحدى مهام إدارة الثقافة الإسلامية التي أخذت على عاتقها نشر الثقافة الإسلامية من خلال الإصدارات الشهرية مثل صحيفة المنتدى الشهرية، ومن خلال الإصدارات الدورية، ومشاركات المسابقات الأدبية [الشعر/ البحث/ القصة القصيرة/ الخط العربي] هذا بالإضافة إلي الندوات، والمحاضرات، والبرامج والأنشطة الثقافية.

أيها القارئ الكريم:

نأمل أن يحوز إصدارنا هذا على رضا ك وأن تجد فيه ما ينفعك وأن يحظى بالقبول من الباحثين المهتمين بالشأن الثقافي.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

الكويت 2002م

قطاع الشئون الثقافية

إدارة الثقافة الإسلامية

مقدمة الكتاب

قصور مناهج النفس البشرية

وحاجة النفس إلي التدعيم الإيماني

أخي الكريم..

السلام عليك ورحمة الله وبركاته... وبعد...

لعلك تتساءل في نفسك وأنت تقرأ عنوان هذا الكتاب: ما هو الجديد الذي يمكن أن يضيفه الإنسان الباحث بعد أن كتب كثير من العلماء حول الصلاة.

وهذا قول صادق واضح لا خلاف عليه ‍‍، فالقول الفصل عن الصلاة، هو ما جاء به القرآن الكريم في جملته، وما حوته السنة المطهرة في تفصيلها. والآية الجامعة الشاملة من سورة العنكبوت تؤكد هذا المعنى.

يقول سبحانه:

(اتل ما أوحى إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون)

( العنكبوت: 45)

ويقول من سورة المعارج:

(إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين الذين هم على صلاتهم د دائمون)

( المعارج: 19-23)

وهذا يؤكد بصراحة ووضوح أن المصلين الذين يحافظون على صلاتهم هم أبعد الناس عن آفات النفس وعللها وأمراضها، وهذا المعنى لا يختلف عليه أحد.

والقرآن الكريم والسنة المطهرة يحتويان على الكثير من الآيات والأحاديث التي تدل على فضل الصلاة وعلى عظم نفعها وفائدتها، بعلم الله وتقديره، وكل ما يشرعه الله للإنسان في الدنيا فهو مفيد له في جسمه ونفسه ومجتمعه.

ومن هنا كانت فائدة الصلاة شاملة كاملة متسعة،هذا الاتساع والشمول في أسرارها ولقد تحدث بها العلماء والفقهاء والمتصوفة ، وكل ما تحدثوا به عن الصلاة من مفاهيم وأسرار له طعمه ومذاقه ، وكله جميل ومستساغ.

وكل من تحدث عن الصلاة أحسن وأجاد فتحدث الفقهاء بمفاهيم التشريع والإيمان ، وتحدث المتصوفة بمفاهيم الروح وصفاء النفس وتحدث الأطباء المسلمون عن أسرار الصلاة بمفاهيم الجسم والحركة ، وهذا ما سوف نفصّلها في الفصل الأول من هذا الكتاب في الحديث عن حركات الصلاة.

ويبقى الجانب النفسي بمفاهيم النفس المعاصرة شاغراً لم يتطرق إليه أحد، إلا في إشارات تحقق المفهوم دون أن تسبر أغواره أو تحدد أبعاده ، وهذا ما يحاول الكتاب أن يصل إلى بعض حقائقه.


(بداية مشواري مع مفاهيم الحركة)

في الثلث الأخير من الستينيات بدأت معرفتي بمفاهيم الحركة، وكان هذا بالتحديد في المملكة في سنة 1967، عندما انتهت إلى فكري مفاهيم الحركة النفسية ومفاهيم المدرسة السلوكية المعاصرة، ومن هذا التاريخ وأنا وراء أسرار الحركة في الصلاة بالمفاهيم النفسية، بل وراء أسرار كل أركانها، وكان هذا بالنسبة لي فتحاً جديداً لمعرفة بعض أسرار النفس في منهج العقيدة، ومنابع التشريع مليئة بأصول نفسية لا حدود لها.

وعدت إلي القاهرة وأنا أحمل معي مفتاح هذا الكنز، وعندما بدأت في ممارسة مهنتي بعد عودتي وجدت ميلاً شديداً لأن أ تعامل مع المعالجة النفسية بلمسات إيمانية في حذر وتحفظ على قدر علمي القليل. ولهذا كنت أتخير المريض الذي لا تستعصي مفاهيمه الإيمانية، فإذا وصلت إلي صراعات نفسه بمفاهيم النفس المتعارف عليها فإنني أنفذ إليها من الناحية العلاجية بمفاهيم الإيمان، وكنت أجد استجابة محسوسة ملموسة ومؤكدة، وخصوصاً في حالات المخاوف من المرض والموت والفقر وكل ما يتصل بالغيبيات التي لا يملك زمامها إلا الخالق وحده سبحانه.

وفي أوائل السبعينيات ذهبت إلى المملكة العربية السعودية خبيراً لرسام المخ الكهربائي، ولكن الظروف لم تسمح بممارسة هذا العمل لعدم توفر أجهزته إلا بعد ثلاث سنوات قضيتها في إنشاء أول عيادة نفسية بمستشفى الرياض المركزي.

ولم تكن البداية سهلة، فأهل البادية في كل الأقطار العربية بلا استثناء يتعاملون مع الطب العربي أو الشعبي، وكان لابد أن أشق طريقي، وساعدتني خبرتي السابقة في أن أبدأ بداية معقولة لا تخلو من الصعاب، وكان زملائي من الأطباء الذين يعملون بالسعودية يعرفون هذه الحقيقة، وزارني صديق منهم وسألني عن أحول عملي وكيف أتعامل مع أهل البادية، وفي مكر ودهاء قص علي هذه القصة: قال: إن ممن سبقونا للعمل بالمملكة طبيب لا يعمل بالحكومة، ولكنه افتتح عيادة للمعالجة النفسية، وهو من قطر شقيق تلقى دراسته في جامعة غربية وجاءه أول مريض بدوي يشكو من أعراض حيرته وحيرت الأطباء معه، والطبيب ينتظر هذه اللحظة ويريد أن يثبت فنه ويعزز مكانته- فبدأ البداية التي هي من مقدمات الفحص، وهي التعرف على المريض في كل أحواله سواء كانت شخصية أو عائلية أو اجتماعية، ويبدو أن الطبيب ترك لمريضه الوقت ليقول الكثير دون ان يتطرق إلى الحالة المرضية، ولما طال الوقت أنهى الطبيب الجلسة على ان يستكمل المريض الحديث في جلسة أخرى حدد له موعدها.

ونفض البدوي عباءته وهو ينصرف، ولكن الطبيب استوقفه وطلب منه أتعاب الزيارة أو أجر الكشف ‍فتعجب المريض ونظر إلى الطبيب متسائلاً:

تبغي كشفية ؟ ليش يا رجال ؟ إيش سويت؟ لا سماعة حطيت ولا حجنة طجيت؟تسولف معي (تحدث) وعايز جروش؟هه.الله يرحم والديك.

وترك المريض البدوي عيادة الطبيب وانصرف، والطبيب يضرب كفاً بكف على مجهوده الضائع، وهذا التصرف الفطري الصادق من المريض البدوي دليل قاطع على أنه لم يجد ثمرة من لقاء الطبيب، ومعنى ذلك أن الطيب لم ينجح في الوصول إلى نفس المريض لأن العلاج النفسي ليس مجرد نظريات تطبق دون تصرف ودون معرفة بأحوال الناس وثقافاتهم وأعرافهم وتقاليدهم، ولقد أفادتني هذه القصة في كيفية التعامل مع أهل البادية بما فيهم من بساطة وسماحة وفطرة غير مطموسة، فكنت أختصر الحديث وأهتم بالفحص الجسمي بعد أن أصل إلى جوهر ما يعاني منه المريض، وأمزج بين المعالجة الكيماوية والنصائح النفسية السهلة بمفهوم الدين، ولم أتحقق من نجاحي مع البدو إلا بعد ان جاءني "فيحان" بهديته التي أخفاها تحت ثوبه وأمسك بها دون أن يراها أحد.

ناداني بلغة البدو وأنا في طريقي إلى العيادة النفسية بالمستشفى: خليل، خليل.

فعرفته .. أنه " فيحان "لأنه تردد عليّ أكثر من مرة وكان بدويا خفيف الظل واضح الأسارير ، وربطتني به مودة وصداقة.

فقلت له إيش فيه يا فيحان؟ فابستم في وجهي ابتسامة عريضة وقال أنا جبت لك هدية ،زين، من البر، وأخرج من فتحة جلبابه حيواناً يتحرك في حجم السلحفاة الصغيرة،ولكن بذيل غليظ ورقبة ورأس دقيق وكأنه بلغتنا (برص كبير) ففزعت من منظره وابتعدت خائفاً فقال فيحان : يا رجال تخاف من الضب؟ وكنت قد سمعت عنه. الآن رأيته، عرفت بعد ذلك أنه من الهدايا القيمة التي يعتز بها البدو ولا يقدمونها إلا لمن يحملون له مودة ومعزة.

فقلت له يا فيحان إيش أسوي بهذا الضب؟

قال: أكله زين، فقلت له: لا زين ولا شين آكل برص. روعتني يا شيخ، أعمل معروفا أبعده عني، فأخذه وهو يضحك بملء فيه، ويقول: خليل يخاف من الضب!!

إذن فقد عرفت الطريق إلى نفوس أهل البادية والحمد لله، وأن سر النجاح في المعالجة النفسية هي العلاقة الطيبة والثقة، ولكن هؤلاء كانوا قلة، فهم يتعاملون مع الطبيب الشعبي الذي يسمونه بالطبيب العربي – ولكن كثرة المترددين كانت من الطبقة المتعلمة ومنهم شباب ورجال وشيوخ أفاضل يحضرون بصحبة أبنائهم إذا اختلت تصرفاتهم ، فالمتعلمون جميعاً على دراية بالمرض النفسي، أما من فتح أمامي باب الاجتهاد في الوصول إلى المفاهيم النفسية للصلاة فهو شاب من أبناء الحجاز الذين يعملون بالرياض ، وكان متفهما تعلم في الخارج ويشغل منصباً مرموقاً ، وكان يتردد عليّ بين الحين والحين ، وهو من الشباب السعودي الذي تعلم خارج المملكة وتزوج من فتاة في مثل ثقافته ولكنها متحضرة .

وهذا يعني أنها غير ملتزمة بتقاليد البيئة وأعراف المجتمع، وهذا كان يضيق دائرتهم الاجتماعية، فلا يختلطون إلا بمن على شاكلتهم، ومن تعلموا في الخارج، وتأثرت مفاهيمهم بالعلمانية الغربية وعاشوا في انطلاق وحرية بلا روابط أو قيود.

وبدأت مشاكل صديقي بعد عودته إلى الوطن ، فاستبدت صراعات نفسه بين فطرة طمستها مبادئ العلمانية وحرية مطلقة عاشها ابتعدت به عن تقاليده الاجتماعية والدينية وابتعدت به كذلك عن مبادئ الدين وقيم العقيدة ، فأصبح غريبا في وطنه وفي مجتمعه ، وجاءني يشكو صراعات نفسه وبلبلة فكره وحيرة خواطره.

وبدأ معه رحلة علاجية كما تعلمنا ومارسنا وتمرسنا، وتحسنت حالة مريضي أو صديقي- فقد ربطتني به مودة وصداقة علاجية – وهي علاقة مطلوبة ومرغوبة بين المريض وطبيبه، تحكمها المودة والصداقة والود والاحترام المتبادل، وإذا حدثت فهي من أهم العوامل التي تسهل مهمة الطبيب وتساعده في تحقيق هدفه وبلوغ غايته.

وبعد فترة جاءني هذا الصديق يشكو من بعض ما كان يجده من أعراض، ومع أنها أخف بكثير إلا أنها بالنسبة له غير مستساغة ولا مرغوبة، وعرفت أنه لا زال في حاجة إلي تدعيم نفسي، فهو لا يزال في مفترق الطرق، فالأعراض تحسنت ولكن المريض لم يصل إلى درجة الشفاء أو إلى جوهر الاطمئنان الذي يحقق راحته وسعادته.

والحقيقة أن الكثير من الحالات النفسية يتوقف عند هذا الحد، وأوضح تفسير لهذه الظاهرة، هو قصور في المعالجة النفسية أو قصور في مقدرة المعالج نفسه، فهو لا يقوى على أن يجتاز بمريضه هذه الثغرة. وهذا ما حدث معي.. فقد توقفت عند حد من الصعب اجتيازه.

وقصور المعالجة في وقتنا الحاضر راجع إلى أنها تعتمد على الكيماويات والعقاقير، وهذه بدورها تخفف حدة الأعراض، ولكنها لا تصل إلى تدعيم النفس بما يحقق شفاءها، لأن المرض النفسي بكافة صوره سواء كانت قلقاً أو خوفاً أو رهبةً أو هماً أو ضيقاً أو قهراً أو هلعاً أو وسوسةً أو خجلاً أو انطواءً ، هذه الأعراض ببعض ملامحها النفسية قد توجد في الإنسان العادي بصورة محتملة ، ولكنها لا تصبح مرضا إلا إذا زادت عن حدودها، وكان ذلك سببا في تغيير السلوك واضطراب العاطفة والوجدان ، فإذا لم تجد الأعراض المرضية حلا فهي تزداد سيطرة على المريض،وتضيق بها نفسه ، ويكثر بها همه،وتؤثر على نشاطه ، فتتقلص اهتماماته وتهدأ دوافعه ، وتقل رغباته ، ولا يهنأ بوقته ولا يسعد بأسرته، وربما استبد به الأرق وأحاط به اليأس .

وهذه الصورة الجديدة التي خيمت على المريض ليست هي أول ما بدأ به المرض، وليست هي مضاعفاته، ولكنها درجة اكتئابية صبغت صورة المرض وغطتها وطغت عليها.

والمريض غالباً ما يستشير الطبيب في هذا الوقت ولا يخطئ أي طبيب في تشخيص هذه الحالة، فهي أعراض اكتئابية واضحة المعالم لا تحتاج إلى جهد في معرفتها، بل هي تفصح عن نفسها ولا تحتاج من الطبيب سوى أن يترجمها إلى مفهومها العلمي وهو الاكتئاب .

والمعالجة بالعقاقير ومضادات الاكتئاب سهلة ميسورة ومحققة النتيجة، فسرعان ما يتحسن المريض، وسبب التحسن هو زوال الأعراض الاكتئابية – والمريض يسعد كثيرا بزوال أعراض الاكتئاب ويعتقد أنه شفى من مرضه لأن أعراض الاكتئاب غير محتملة ومع أن القلق والخوف وما يحيط بهما من اضطراب لا زال موجوداً إلا أن المريض لا يشعر به إلا بعد حين، فهو يستمر فترة يشعر بتحسن وراحة فإذا انتهت سكرة الشفاء من الكآبة، عادت إليه مخاوفه وقلقه واضطراب شخصيته، لأنها لا تتأثر بالكيماويات، فماذا يجدي تعاطي المهد ئات والعقاقير لحالات الخوف من الموت أو المرض أو الفقر وغير ذلك من أعراض القلق الكثيرة ؟ أنها غير مجدية .. ولهذا فلا مناص من أن يعود المريض إلى الطبيب فالمريض يحتاج إلى العلاج النفسي ، وحتى ينتزع الطبيب من نفسه أسباب الخوف ، والجبن والتردد ويظل المريض يدور في فلك المعالجة النفسية ، يترد د على المشاهير منهم ، فإن وجد عطاءاً استمر ، وإن لم يجد انصرف إلى طبيب آخر .

هذا هو حال مريض النفس اليوم، فلماذا يتوقف شفاء المريض عند هذه المرحلة؟

قلنا إ ن العيب قد يكون في قصور المعالجة النفسية عندما يقوم بها الفرد ، لأن المعالجة النفسية معالجة فريق تتمثل فيه كل الجوانب التي يتطلبها مفهوم الصحة النفسية الشامل ، فهناك الجانب الجسمي والنفسي والاجتماعي والروحي ،وكل جانب من هذه الجوانب له من يقوم به ، والطبيب له دوره وهو الذي يرأس هذا الفريق وبهذا يكون النجاح أ سهل ، ففريق يتعاون خير من فرد يتحكم .

والطبيب مهما كان حاذقاً في فنه أو متمكناً من علمه ، فهو لن يقوى على استيفاء أركان المعالجة النفسية كلها – سواء كانت اجتماعية أو نفسية أو روحيه – وليس بمقدرته أ ن يصحح مسيرة المريض في أسرته وعمله – وهذا ما تقوم به الخدمة الاجتماعية وهي شرط في نجاح المعالجة، فإذا انفرد الطبيب بها فهي عبء ثقيل لن يصل به إلى تحقيق هدفه.

ولابد أن نعترف أن معالجة الفرد لها عيوبها ، لأن الفرد يخطئ فهو بشر مهما ارتفع علمه، وأول خطأ قد يبدأ به الطبيب هو إلا يفتح صدره للمريض، وإ ذا شعر المريض بذلك فلا خير في هذه المعالجة النفسية ، ورسالة الطبيب النفسي التي لابد أن يلتزم بها هي أن يبدأ بعلاقة طيبة حتى يأنس المريض ويثق ويطمئن ، وأن يعطيه وقتا كافيا دون تذمر أو ملل – فليس من المعقول والمقبول أن يبدأ المريض الحديث مع الطبيب ا لمتخصص وصاحب الشهرة فيضيق بحديثه من كثرة ما يتردد عليه من المرضى، وهو بالنسبة له حديث متكرر فيقول للمريض: عارف عارف ، هات من الآخر .

أو يقول له : اختصر فليس عندي وقت .

إذا سمع المريض هذا فكيف يعبر عن نفسه ؟ طبيب النفس لابد أ ن يتسع صدره لكل ما يقوله المريض دون أن تظهر عليه ملامح الضيق أو علامات الضجر .

والمريض عادة ما يبدأ بإزاحة ما يثقل كاهله ، فهو يستفرغ ما يتفاعل فيها وكل ما يحيره من أمرها ، والطبيب الناجح المتفهم يعلم تماماً أن بداية عمله تبدأ بعد أن يكتمل حديث مريضه، وليس للخبرة دخل في هذه المسألة ، فإذا استنفد المريض كل ما يريد أن يقول ، فتبدأ بعد هذا مهمة الطبيب وتساعده اعترافات المريض ليستكشف بها تضاريس نفسه وما يتفاعل فيها ، ومهما أظلمت أو ضاقت عليه فلابد ان يقطع أشواك الصراع المتشابكة فيها – والصراعات  متداخلة بين ماض مؤلم ، فالطفولة معذبة ، والأسرة مفككة ، وغير ذلك مما يجب ان يحيط الطبيب النفسي بمعرفته ، والماضي كله حلقة واحدة من حلقات المعرفة وإذا سلم الماضي ، فقد تتعايش أسباب العلة النفسية مع الحاضر بما فيه من صراع وإحباط وفشل وخوف .أما أشد أنواع العلة النفسية فهي أ ن يسقط المريض مخاوفه على المستقبل فتهتز شخصيته وتنزوي دوافعه ، ويحيط به التشاؤم واليأس  ، وهذه صراعات النفس بين الماضي والحاضر والمستقبل ، قد تتعانق وتتشابك ، ولابد للطبيب من أن يقطع أشواك هذا الصراع المتشابك في داخل النفس البشرية التي أظلمت على صاحبها .

فإذا نجح ومهّد أرضها فهو يحاول ان يضيء فيها مصابيح الأمل، ويزرع فيها بذ ور المحبة ويغرس معها فسيلة الاطمئنان ، وهذه أسس الصحة النفسية .

وما أكثر ما يصيب هذه الرسالة من معوقات في وقتنا هذا لأن المعالج النفسي أصبح قليل العطاء لا يقوى على غرس الاطمئنان في نفس المريض بصورته السليمة الكاملة ، لأن الطبيب والمريض يعيشان الوقت ،وقد انصهرا معا في أتون المادة ومتطلبات العصر، وأصبح الطبيب بفضل ما اكتسب من ملامح عصره قليل العطاء لا يجد اطمئنان نفسه كاملاً ، وفاقد الشيء لا يعطيه.

وهذا واضح وصريح ولا خلاف عليه .

واطمئنان النفس بصورته المرغوبة أصبح صعب المنال فقد انفتح المجتمع بكل طوائفه على العالم كله بما فيه من مساوئ وآفات وتطرف وشذوذ، وتطوع الإعلام مشكورا بنقل هذا كله بصورته الفضائية وقنوات الاتصال المتعددة التي تُنشر بها هذه المفاسد ، فتثير بها الشهوات وتغري بالإباحية وتنادي بحرية التعامل مع الغرائز بلا قيود ولا حدود ،ولهذا اختفت القيم وتصدعت أواصر المحبة بين الناس ، و اختفى الاطمئنان وضاعت معه راحة الضمير وراحة الحس وسعادة الوجدان ، وهذه أسس الصحة النفسية ، فماذا بقى بعد ذلك .

بقى شيء آخر لا ينتبه إليه الأطباء أنفسهم ، إ نها زلات اللسان وأخطاء الحديث التي تفلت من الطبيب أثناء تعامله مع مريضه ، فيقول الكلمة لا يلقي لها بالاً ، فإذا بها تهدم صرح المعالجة النفسية من أساسه وتقوض أركانه.

ولعلك تتعجب أ أيها القارئ الكريم كيف يكون ذلك – ولكني أزودك بما صادفني في حياتي المهنية ، وما تفعله الكلمة غير المحسوبة من أثر مدمر سيئ، وكل طبيب يمكنه أن يتعرض لمثل هذه الأخطاء فهي زلات لسان – والطبيب بشر يخطئ – وأخطرها ما يصدر عن الطبيب المتخصص الذي يعالج النفس ، وهو أول مثل أسوقه مع حالة من حالات الرهبة أو الخوف المرضي ، والخوف من المرض والخوف من الموت والرعب عند مشاهدة الجنازة وسماع صوت من ينوح وغير ذلك مما يحيط بمثل هذه المخاوف من أعراض الجسم وسرعة دقات القلب والنهجان أو الإعياء والإغماء .

هذه الأعراض أصابت سيدة في شبابها ، والسيدة من الإسكندرية وأنا صديق الزوج، ولما استشارني في نهاية الخمسينيات وأنا أ درس للتخصص في الطب النفسي ، أشرت عليه بأستاذ توسمت فيه الخير ، فهو أستاذ لنا يباشر مهنة التحليل النفسي، وأطباء هذا التخصص قليلون.

المهم أن السيدة ذهبت إليه ، فإذا به يغلق عليها الحجرة وينفذ منها إلى حجرة أخرى وتكرر ذلك ، فالعيادة متسعة وهي من المباني القديمة التي لا تتوفر الآن.. فتسرب الخوف إلى نفس المريضة ونظرت إليه قائلة : أنت موديني على فين ؟ فقال لها بسرعة : سأذبحك.

كلمة عابرة جاءت على لسان الطبيب مزاحاً دون أن يلقي لها بالاً .

وعليك ان تتصور أ أيها القارئ الكريم مريضة تخاف الموت وتشك في كل شيء فماذا يكون من أمرها عندما تسمع هذا من الطبيب المعالج ؟

نكسة حدثت ، وجاءتني تندب حظها ، وتعاتبني لماذا نصحت لها أن تقصد هذا الطبيب الذي قتلها بكلمته ، وكانت رحلة علاجية طويلة استمرت سنين مع أطباء النفس، ولم تستقر حالتها وتهدأ أو تحس بالراحة إلا عندما انتظمت لتتلقى تعاليم الدين مع سيدات الإسكندرية اللاتي يحرصن على المداومة على هذه الدروس. وانتهى بها المطاف وشعرت بالراحة في حلقات الدرس التي ينظمها الداعية المعروف الشيخ ياسين رشدي بمسجد المؤاساة ، فوجدت نفسها وسعادتها .

أما المثل الثاني من أمثلة الكلمة وأثرها السيئ عندما يتحرك بها اللسان دون ضوابط، فيكون أثرها مدمراً هداماً ، فهي حالة مريض جاءني يحمل معه مجموعة من تذاكر العلاج لعدد لا حصر له من الأطباء ، وهؤلاء نوعية من المرضى يتعاملون مع أطباء الجسم والنفس معاً ، وأمراضهم مصنفة تحت مسمى الأمراض النفسجسمية أو السيكوسوماتيك pschosomatic وهذه أمراض القولون والحساسية والأزمات الصدرية والروماتيزمية وأعراض الذبحة الكاذبة، وغير ذلك من الأمراض التي تكمن في النفس ولكن أعراضها تظهر معالمها على الجسد ، والمريض من هؤلاء من كثرة ما يذهب إلى الأطباء فهو يتعرض لمساوئ الكلمة ، والمريض الذي جاء يستشيرني هو من أولئك الذين يعانون من اضطرابات القولون المزمن، وكانت شكواه الواضحة من الخوف - الخوف من الموت والخوف من الأمراض المستعصية- وما يصاحب هذا الخوف من قلق وفقدان شهية وأرق وضيق وتشاؤم ، وكان لابد أن أصل لأسباب مضاعفات حالته ، وليست هذه أعراض القولون النفسية ، ولكنها مضاعفاتها ، فهو من فترة طويلة يشكو من التهاب القولون، ولكنه اليوم جاء خائفا متوهماً ، واستدرجته في الحديث حتى انتهيت إلى معرفة أسباب علته أو مضاعفات مرضه، والسبب كلمة الطبيب  الذي يعالجه ، هل تصدق ؟ والقصة من بدايتها أنه عندما اشتدت عليه أعراض القولون ذهب إلى أشهر أطباء الجهاز الهضمي حتى يستريح ، والمريض أحسن اختيار الكلمة عندما عرض حالته على الطبيب طلب منه أن يريحه مما يشعر وعقد عليه الأمل ،ولكن الطبيب بعد أن فحص المريض واطلع على كل ما معه من وصفات علاجية لعدد من مشاهير الأطباء قال له بالحرف الواحد ( أنت جاي بعد خراب مالطة ).

ولم يناقش المريض طبيبه ، فقد يكون خراب مالطة عند الطبيب إ ن المرض اصبح مزمناً ، ولابد ان يتعايش المريض معه دون أن ينزعج أو يستبد به الهم .

فكل مرضى القولون يتعايشون مع المرض ، ومع المتابعة والمداومة والتحفظ في الطعام تستقر حياتهم ، هذا لا محالة ما كان سيقوله الطبيب للمريض – لو  أن المريض استوضح معنى الجملة ، ولكن المريض كتم المعنى في نفسه ، ووصلته المعاني السيئة ، وخرج من عند الطبيب يجر قدميه ، فقد خربت مالطة – وليس بعد خرابها إصلاح.

وساءت حالة المريض ، فقد دخل الخوف إلى نفسه ودخل في دوامة المعالجة النفسية.

والحقيقة أن علل الأجساد أهون من علة النفوس، ولهذا يجب ان يكون الطبيب الباطني وغيره من أصحاب التخصصات الأخرى متفهماً للطب النفسي – وكلما كان ملماً به كان ناجحاً مع مرضاه، وهذا سر شهرة طبيب وطبيب . وأما الكلمة الأخرى ، فقد أصابت نفس موظف في منتصف العمر كان يعمل في وزارة الصحة في مستشفى باب الشعرية ،وكان قبلها يعمل بالصعيد ، وأثناء عمله هناك أحس بصداع مفاجئ، فذهب إلى طبيب الوحدة يعرض عليه الأمر ، ففحصه الطبيب وبعد ان قرأ قياس الضغط ، نظر إليه متسائلا : كيف حضرت إلى مكان عملك ؟ فقال له : سيراً على الأقدام، فقال له : في هذا الجو الحار ! عليك أن تحمد الله لأنك لم تمت في الطريق – فضغط الدم عندك مرتفع ، ومن السهولة ان ينفجر شريان من شرايين المخ في أي لحظة .

إن هذا الكلام هو ما تعلمه الطبيب عن مضاعفات الضغط المرتفع، ولكن هل علمه أساتذته أن يتطوع بهذه المعلومة لمريضه دون أن يلقي بالاً لأثر الكلمة ؟

وأصبح هذا المريض يتوهم المرض ويخاف الموت ، وإذا عرف بموت شخص فيحاول جاهداً  أن يعرف سبب وفاته ، فإذا عرف ذلك في الصباح فهو يشكو أعراض هذا المرض في المساء، وإذا عرفه في المساء فيصبح مريضا ويشكو من نفس الأعراض وتصبح حياته جحيماً لا يطاق- حتى ينتهي إلى المعالجة النفسية يطلب النجدة ليعود إليه اطمئنان نفسه .

وما أقصده من سرد هذه الأمثلة هو أن يعلم القارئ أن البشر يخطئون مهما كان حرصهم ، وأن الخطأ قد يكون قاتلاً ، وأن معظم حالات الخوف من المرض أو الموت أو الغيب المجهول تتحسن بالمعالجة النفسية دون أن تصل إلي درجة الشفاء ، ولهذا فهؤلاء جميعاً يحتاجون إلى تدعيم إيماني يجتاز بهم جسر الخوف إلى بر الأمان الرباني في ظل رحمة الله وفضله وهو وحده سبحانه الذي يملك زمام النفس – ويصل بها إلى الاطمئنان والراحة دون سواه ، لأن الطبيب لا تتعدى متابعته لمثل هذه الحالات إلا بالتصرف بالمعالجة الكيماوية وبعض النصائح النفسية المتكررة التي حفظها المريض.

وأعود إلى صديقي الذي تحسنت حالته ولكنها لم تصل إلى حد الشفاء ولم تصل نفسه إلى صدق راحتها واطمئنانها .

وعز علي كثيرا أن أتوقف بمجهودي معه عند هذا الحد- فهديت بفضل من الله  وتوفيقه أنه اتجه به إلى الدين رغم علمي أن صديقي هذا قد ابتعد عنه نتيجة ما أصابه من مساوئ الاغتراب في رحلته العلمية ، وفي لقائي معه سألته عن صلاته ؟ فأخبرني أنه لا يحافظ عليها إلا إذا ذهب إلى المدينة المنورة مسقط  رأسه ، وفي المدينة يحرص عليها كل الحرص، ولا تفوته فريضة في المسجد النبوي الشريف ، وكان هذا هو المدخل إلى تدعيم نفسه بمفاهيم الصلاة ، وبمفاهيم المدرسة السلوكية عن الحركة وفائدتها في معالجة النفس البشرية ، وكانت هذه النقلة مباركة مثمرة ، فقد تحقق بها في وقت قصير ما لم يتحقق من الجلسات النفسية التي سبقت وتكررت .

وعندما عدت إلى القاهرة ، انشغلت بالبحث عن أسرار الصلاة ، ومافيها وفي أركانها من جوهر نفسي أصيل لا يمكن ان تصل إلى أبعاده والى أسراره ، واجتهدت ، وقدمت خلاصة البحث في مؤتمر عالمي عن القلق النفسي ، وأذكر أن الأبحاث كانت باللغة الإنجليزية، مختصرة مركزة ، فكانت لا تتجاوز  العشر دقائق ، وسألني الكثير من العلماء الأجانب – وكانت لغتهم أحيانا غير واضحة ، فساعدني في الرد عليهم زميلي الأستاذ الدكتور عمر شاهين أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة ، وكان يحضر المؤتمر ، ومن هذا التاريخ لازمني الحديث عن الصلاة في كل المؤتمرات العلمية ، حتى أنني سمعت من زميلي الفاضل الدكتور محمود سامي عبد الجواد- وهو وقتئذ أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة – يقول لي مرة : يا محمد يا يوسف إ يه حكايتك كل كلامك عن الصلاة ، فقلت له : والله إ ن قدر الصلاة لعظيم ، ولو وفقت في حديثي عنها لكفتني من رحلتي مع الطب النفسي كله . والذي يدعوني لأذكر هذا للقارئ أن يعلم أن الحديث عن الصلاة وأسرارها استغرق وقتا طويلا ولعله استغرق العمر كله – فقد كانت وصية والدي رحمه الله وهو يبعث إلينا وهو في الوادي الجديد بالرسائل أنا وأخي الأكبر في  مدرسة المساعي الثانوية بشبين الكوم – كانت كلها لا تخلو من النصح بالصلاة وإ قامتها والمحافظة عليها ، ولعل هذا استقر في ذهني – يغفر الله لوالدي ويرحمه فقد كان ممن يعظمون قدر الصلاة وينصح بها – وكان من ثمرة نصحه وإخلاصه هذه الركيزة، وهذا البحث.

ولما اكتملت أول حلقات البحث بعد هذه المحاولات قدمت مفاهيم الحركة في الصلاة وأسرارها النفسية في مؤتمر الإعجاز العلمي للقرآن الكريم سنة 1985م ، وكان في جامعة الدول العربية تحت إشراف العالم الفاضل الدكتور " الزنداني" وسجلته المملكة العربية السعودية مختصراً في عشرة دقائق في أفلام الفيديو التي تتحدث عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم .

أما حديثي عن أسرار الوضوء النفسية ، فقد سجلته في إ ذاعة القرآن الكريم في القاهرة من داخل مؤتمر الإعجاز العلمي للسنة المطهرة سنة 1987م ، ولم يكن التسجيل واضحًا لسرعة القاء البحث – فالمؤتمرات تشترط وقتا ، والسرعة توفر الالتزام.

أما البحث الخاص بتلاوة القرآن الكريم وأثرها على اطمئنان النفس ، فقد قدمته في دار الإفتاء وكان ذلك سنة 1993م ، بمناسبة مرور عشر سنوات على إنشاء الجمعية الإسلامية النفسية .

يبقى حديثي عن التوبة في الإسلام بين الاعتراف والتحليل النفسي وكان ذلك سنة 1970من في أول مؤتمر عالمي حضرناه في القاهرة عن مشاكل الشباب وكان في جامعة الدول العربية وحضره كل أساتذتنا من رواد الطب النفسي الذين تعلمنا  على أيديهم – يرحمهم الله جميعا رحمة واسعة. أما آخر ما تحدثت فيه فهو بحث جديد لم يتحدث فيه أحد، لا  من العلماء ولا من الأطباء وهو عن الميكانيكية السلوكية في القرآن الكريم،وكيف يصل الإنسان بتلاوة القرآن الكريم وبالصلاة  معاً إلى نقاء نفسه وطهارة سلوكه تحقيقا لقوله تعلى :

( أتل ما أوحى  إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون  ) العنكبوت : 45.

أخي القارئ الكريم .

هكذا يحقق التدعيم الإيماني للنفس البشرية مالا يحققه تدعيم المعالج النفسي الذي استلهم معالجته من واقع النظريات النفسية  التي صاغها البشر وما فيها من قصور ، فالبشر في علومهم لن يصلوا إلى الكمال خصوصاً في الوصول إلى أسرار النفس التي اختص الله بعلمها – فهو سبحانه الذي خلقها فسواها والهمها فجهورها وتقواها ، وجعل تزكيتها في منهجه فقال سبحانه :

( قد أفلح من ذكاها وقد خاب من دساها ) ( الشمس : 9-10 )

ثم جعل الصلاة من أهم أسباب تزكيتها فقال سبحانه :

( قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى )  ( الأعلى: 14-15)

ورب العباد سبحانه هو القادر على تصحيح مسار الانحراف النفسي ، فهو الذي يملك بعلمه وقدرته وحكمته موازين النفس البشرية ، وهو أعلم بآفاتها بما في ذلك من حرص وشح وبخل، وبما يصاحب ذلك من كره وبغض وحسد ، وكبر وغطرسة ، وطمع.

هذه آفات نفسية وهي دائماً تصاحب المرض النفسي . تصاحب القلق وتصاحب الهلع والفزع والرهب، والخوف من المرض والموت، والفقر صورة مرضية من صور الاضطراب النفسي التي تنبئ عن قلة الرصيد الإيماني وضحالته في النفس البشرية ، ولهذا فهي تحتاج إلى تدعيم الإيمان ، حتى يتحقق لها الاطمئنان الذي لا يصاحبه خوف ، والرضا الذي لا يلازمه جزع، والسعادة التي لا يشوبها كدر.. والعزة التي لا ترهقها ذلة .

وليس هذا دعوة إلى عدم الأخذ بأساليب العلم والطب والخبرة في معالجة نفوس البشر – هذا ما لا يقول به أحد ، لأن علوم البشر مهما كان فيها من قصور فهي اجتهادات لها ثمرتها ولها نتائجها وإ يجابياتها والعلماء والأطباء وكل من يشتغل بمعالجة النفس يحقق خيراً باجتهاده – وهذا ما لاينكره أحد، ولكن معظم اجتهادات الطب والعلم في مجال المعالجة النفسية تخفف حدة المرض وشدته ، وتخفف الأعراض التي تكون سبباً في أن يلحق المريض ضررا بنفسه أو بأسرته أو مجتمعه ، فمثلا حالات الهياج وحالات الاختلاط العقلي وحالات الاكتئاب الشديد التي تصل إلى رفض الحياة كلها ، هذه يسيطر عليها الطب النفسي والأطباء سيطرة كاملة ، ولكن هل هناك ضمان باختفاء ما يرا ود النفس من أعراض؟ أو هل هناك ضمان لعدم عودة مثل هذه الاضطرابات ؟ هذا ما لا يضمنه الطب ومالا يضمنه الأطباء، ولذلك فهناك علاج تحفظي ، وهو إما معالجة كيماوية في جرعات أقل أو علاج نفسي تدعيمي يتردد المريض خلاله على طبيبه بين الحين والحين، ولكن المريض النفسي يتمرد على العلاج الطويل الأمد، ولهذا فهو يقطعه ، ويرفضه، وإذا فعل ذلك انتكست حالته،وهذا معروف ومشاهد في كل حالات المرض المزمنة ، مثل الفصام وبعض أعراض الوساوس والقهر الشديد.

والمريض إذا رفض الدواء فقد يستسهل الذهاب إلى طريق آخر، وربما قاده جهل من حوله إلى أن يطرق باب الدجل والشعوذة ، وهذا ما يرفضه الدين ولا يرضى به الشرع-وينهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في  أحاديثه الصحيحة .

أما المدخل الديني الذي أقرته الصحة العالمية في مؤتمرها العالمي الذي عقد بفندق ماريوت بالقاهرة سنة 1987 فهو دعوة واضحة صريحة إلى عودة الدين إلى ساحة المعالجة النفسية –وإني إذ أشير إليه مجرد الإشارة فما ذلك إلاَّ لأنني قد خصصت له الجزء الرابع من هذه السلسلة ، وهو تحقيق لكل ما قالت به الصحة العالمية وما نادي به علماؤها ، وهم يعلنون على الملأ اختفاء القيم الروحية من نفوس الشباب ، ويطلبون عودتها إلى مكانها الطبيعي من النفس البشرية، ويعلنونها صراحة وبوضوح أن عودة الدين إلى ساحة المعالجة النفسية هو الاستراتيجية النفسية لما بعد سنة 2000. وهذا يتحقق باشتراك عالم الدين في الفريق المعالج، أو يكون المعالج النفسي صاحب دين وخبرة تؤهله لذلك ، وهذه هي استراتيجية الصحة العالمية للقرن الواحد والعشرين اعلنتها على رؤوس الأشهاد سنة 1987.

أخي القارئ الكريم ..

هذه الاستراتيجية النفسية التي يطالب بها علماء النفس بعد أن أفلست نظرياتهم فلم تحقق للشباب طوال هذا القرن اطمئنان نفوسهم أو راحة ضمائرهم هي نفسها المنهج الذي ارتضاه ربنا سبحانه لعباده منذ الأزل، فكل أسرار صحة النفس البشرية تكمن في منهج العقيدة ، ومن أهم شعائر هذا المنهج : الصلاة ، فهي الشعيرة التي فرضها الله سبحانه وتعالى على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من فوق سبع سماوات، لعظم شأنها وجلال قدرها . أنها الصلاة في الإسلام ، موسوعة نفسية تصل بالنفس إلى حقيقة الطهر والتعفف والاستقامة ، وتبتعد بالسلوك عن كل فحش ومنكر تصديقا لقول الحق سبحانه وتعالى :

( أتل ما أوحى  إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ) العنكبوت : 45.

ففي كل صلاة يقف الإنسان بكل ما تحمله نفسه من خطايا وذنوب وعيوب ، فيصلح الخالق سبحانه عيوبها ويقوي ضعفها ويصحح مسيرتها بما في منهجه من علم وأسرار ، وعلى قدر استحضار العبد لعظمة ربه ، وعلى قدر تجرده من فجور نفسه تكون الثمرة والنتيجة ، فليس لإنسان من صلاته إلا ما عقل منها ، هذه هي حقيقة الصلاة بمفاهيم المعالجة النفسية ، إنها صنعة الخالق سبحانه تعرض عليه خمس مرات،كما يقول فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي في خواطره الإيمانية- إنها النهر الذي يغتسل منه خمس مرات في اليوم والليلة ، فهل يبقى ذلك من درنه ؟

والكتاب الذي بين يديك أيها القارئ الكريم يحقق بالتحليل النفسي وبالمفاهيم السلوكية المعاصرة صدق ما تحمله الصلاة في كل أركانها من سمو هذه المعاني  النفسية لتصل إلى جوهرها السلوكي في النفس البشرية .

وأسأل الله سبحانه ان تصل هذه المفاهيم إلى نفوس الشباب ، وأن تكون الصلاة طريقاً إلى سلامة سلوكهم ، وإلى اطمئنان نفوسهم وراحة ضمائرهم ، والله وحده هو المسؤول والمستعان وهو الهادي إلى سبل الخير والسلام . والسلام عليك ورحمة الله وبركاته،،،

د. محمد يوسف خليل


 الفصل الأول كلمة عن حركات الصلاة

مالكم معشر الشباب ذا تحدثتم عن الحركة في الرياضة الجسمية عامة ، وعن رياضة اليوجا خاصة تحمستم وارتضيتموها لأنفسكم منهجا يقوي أجسامكم ويحافظ على لياقة أبدانكم ، وربما اكتسبتم منها هدوء مشاعركم واطمئنان نفوسكم ، فإذا ذكرت حركات الصلاة اثاقلتم إلى الأرض، مع أنكم تعلمون تمام العلم أن الصلاة بحركاتها ليست من تصميم البشر ، بل هي أمر من خالق البشر.

وهي حركات تآلفت وتتابعت وانسجمت ، فلا تذهب بوقار المتعبد ولا تنال من هيبة العبادة .

وهذا النظام في تتابع حركاته ، وانسجام أدائه ، يقول عنه البعض منكم ، إنه مجرد رمز للعبودية ، بل مجرد طقوس لاستشعار عظمة المعبود وما دام العبد قد آمن بدينه ، واستشعر عظمة ربه، فهذا هو جوهر العبادة وهذه غايتها ، وربنا سبحانه رب قلوب، ورب جوهر ولا يهمه المظهر ، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله لا ينظر إلىأجسادكم وصوركم وأجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم " وبهذا المنطق تتكاسلون عن الصلاة ولو قصرت المفاهيم إلى هذا الحد، فلم تستوعب أسرار الحركة في الصلاة ، فإن استشعار عظمة الخالق ومعرفة قدر المعبود هو غاية العبادة.

ويكون مظهر الصلاة محققا لجوهرها ، وهذا أدعى أن نحافظ على الصلاة وفاءً والتزاماً بحق العبادة . والحقيقة التي تختفي وراء هذه المفاهيم ، أن هؤلاء الشباب ما عرفوا الله حق معرفته ، ولا قدروه حق قدره وأنه سبحانه غني عنا وعن عبادتنا وليست الحركة في الصلاة هي مراد الخالق منها ، أو هي مراد العبد من صلاته، لأن الصلاة منهج متكامل بحركاتها وسكناتها وبما فيها من قراءة ودعاء وتسبيح، هذا المنهج المتكامل يصل بالجسم إلى صيانة أعضائه وأحشائه ، وإلى المحافظة على قوته وتجديد نشاطه، ويصل بالنفس إلى راحتها وهدوء مشاعرها وسعادة حسها ، واستقرار وجدانها بل ويتعدى هذا كله إلى أن يصل بالسلوك إلى منتهى الاستقامة والتعفف والبعد عن كل فحش ومنكر بما ينتهي إليه قول الحق سبحانه من سور العنكبوت 

( اتل ما أوحى إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون) ( العنكبوت : 45)

فالحركة في الصلاة لها كمال الفائدة التي تعود على العبد بالنفع والغنى .

ويقول سبحانه وتعالى :

( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ) ( فاطر : 15 )

فرب العزة سبحانه غني عنا وعن عبادتنا ، وخضوعنا له بالحركة وبغير الحركة ، لا يحقق عظمته أو يؤكد سلطانه ، لأنه عظيم في ملكوته،عظيم في سلطانه ، سواء ركعنا أو سجدنا أو تجاهلنا وتناسينا ، هذا كله لا ينال من عظمته ولا يحجب من سلطانه ، ومع هذه العظمة والقوة ، فهو عليم حكيم تتسع حكمته إلى ما يحيط به علمه ، وليس من المعقول ولا من المقبول أن يتعبدنا هذا العظيم بشيء لا عظمة فيه ولا فائدة منه ولا جدوى له ، وليس من المنطق أن تكون هذه الحركات التي خلقها الله بعلمه واستودعها عبادته منزوعة الفائدة ، وهي في الوقت نفسه تؤدي فائدة في مناهج البشر سواء في الرياضة البدنية أو رياضة اليوجا التي يقول عنها أهلها أنها طريق الصحة والسعادة والشباب ، ونحن لا نقول: إن الحركة في الصلاة  رياضة ولكن نقول: إن اليوجا في  حقيقتها صلاة عند أصحابها الهندوس ، ومن هذه الحقيقة اكتسبت اليوجا أسرارها عندهم فحركات رياضة اليوجا جاءت من حركات عبادة اليوجا، وهي عبادة خضوع وسجود للشمس مع ترديد آيات الحمد والثناء عليها، والسر الأعظم ان عبادة اليوجا وهي عبادة شركية أخذت طقوسها من الحكم التي ذكرها الفلاسفة والكهان ثم انحرفت هذه العبادة إلى كوكب الشمس لما لهذا الكوكب من قوة وهيمنة وتأثير على حياة الكون كله عند هؤلاء الوثنيين .

ولا يخطئ أحد في أن من صور العبادة اتجاه العبد إلى الله المعبود والركوع والسجود له وترديد آياته التي تضمنتها كتبه المنزلة بمافيها من حمد وثناء ، وتمجيد ودعاء . وعبادة اليوجا أخذت هذه الأركان كلها بعد أن حورتها إلى عبادة شركية وأصبح عباد اليوجا يتجهون إلى الشمس في شروقها وغروبها ويسجدون أمامها ، ويرددون آيات الحمد والثناء عليها بمقاطع صوتية يضاهئون بها آيات الكتب السماوية وأسموها المانترات ، وهي كلها عبارات تحمد الشمس وتمجدها . ومع ارتقاء العلم انقرضت عبادة الشمس، ولكن أهل اليوجا احتفظوا بأركان العبادة محورة لتستبقي فائدة ما فيها ، فأصبحت حركة السجود تدريبات رياضية هي " سوريا ناماسكار اليوجا"وأصبحت آيات الحمد والثناء على المعبود كلمات لا معنى لها تحقق تنظيم التنفس بالشهيق والزفير وتسمى المانترات ، أما الاتجاه  للمعبود فقد اصبح بالتصور وتركيز الانتباه  ، وهذا النظام الذي استبقاه فلاسفة الهند والصين في الرياضة انتقل بمفاهيم علماء النفس إلى منهج سلوكي معاصر يعالج آفات النفس بنفس نظام اليوجا بعد أن لبس من ثياب علم النفس المعاصر ، وخرجت المدرسة السلوكية تعالج بهذا النظام المتطور آفات النفس وأمراضها هذا هو تاريخ الحركة في العبادة ، نزيده إيضاحا عندما نأتي إلى الحديث عن مسيرة الحركة في العبادات القديمة وكيف انتهت إلى مفهوم نفسي .

والصلاة منذ أن فرضها الله سبحانه على أنبيائه ورسله تستوفي هذه الأركان ، وهي الأصل الثابت الذي لا يتغير ولا يتبدل وانتقلت إ لينا كما هي عليه من عهد أبينا إبراهيم عليه السلام .

يقول سبحانه :

( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ) ( البقرة : 125)

وبعد أن أتم إبراهيم بناء البيت دعا ربه :

( ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون)(إبراهيم:37)

هذه هي الصلاة منذ فرضها الله سبحانه على إبراهيم وعلى الأنبياء من بعده ، وظل عهد الصلاة قائماً حتى بعث الله خاتم أنبيائه ورسله ، وانتهت إلى ما هي عليه ، فريضة واجبة الأداء، لا تهاون فيها ولا إ بطاء ، وبقيت على مظهرها التعبدي الذي ارتضاه ربنا سبحانه لأنبيائه ولأممهم . وهذا البحث هو تفصيل لهذا كله ، يحقق هذه المعاني بصورة أوضح، ويضيف جديداً إلى مفاهيم الحركة الجسمية التي قال بها الأطباء المسلمون وعلى راس هؤلاء أستاذنا الفاضل الدكتور محمد زكي سويدان رئيس الأقسام الباطنة بجامعة عين شمس ، يرحمه الله رحمة واسعة ، فقد خرج كتابه في بداية السبعينات " الصلاة صحة ووقاية وعلاج" على نمط كتاب آخر ( اليوجا صحة وسعادة وشباب) لسفير الهند في ذلك الوقت ( أبابانت) عن أسرار الحركة بالمفاهيم الجسمية ، ويفتح الباب للحديث عن أسرارها النفسية .

وهذا الكتاب الذي بين يديك ، يأتي بعد أكثر من عشرين عاماً ، ليحقق بالمفاهيم العلمية المعاصرة فائدة الحركة وأسرارها النفسية في الصلاة . وإذا كان كتاب أستاذنا الدكتور سويدان في نفس تخصصه بمفاهيم الجسم ، فإن كتابه هذا يأتي مع التخصص الذي أمارسه وهو الطب النفسي ،وبهذا تكتمل المفاهيم عن أسرار الحركة في الصلاة.

وحتى لا يتساءل القارئ عن أسرار الحركة الجسمية ، فإنني قد أضفت ملخصاً موجزاً يوضح ما قال به أستاذنا الفاضل وفي الوقت نفسه أكون قد أعطيت لأستاذي حقه من الوفاء ، وهذا أقل ما يجب لذكراه الطيبة في نفوس تلاميذه ولم يقتصر حديثي عن أسرار الحركة في الصلاة بالمفاهيم النفسية المعاصرة ، بل إنني تحدثت عن أركان الصلاة كلها بمفاهيم النفس ، فتحدثت عن الوضوء وأثاره النفسية وعن التوبة في الإسلام وكيف تتسامى بمفاهيمها النفسية عن الاعتراف والتحليل النفسي ، ثم أضفت الجديد إلى تلاوة القرآن الكريم وأثره على اطمئنان النفس وختمت الكتاب ببحث جديد شيق عن الميكانيكية السلوكية في القرآن الكريم  وأتمنى ان أصل بما قدمته إلى عقل القارئ وقلبه ، فكتاب أسرار الصلاة بمفاهيم النفس مجهود اًستغرق ما لا يقل عن ربع قرن ، بل إ ن بدايته الحقيقية كانت سنة1967م عندما بدأت معرفتي بالمفاهيم السلوكية في المملكة المتحدة ، وهي الخلفية العلمية وراء هذا كله ، ويهون كل ما  بذلته من جهد إذا استقر هذا الحديث في عقول الشباب، وانتهى إلى قلوبهم .

يقول الفقهاء :

الله اكبر .. الله اكبر          نادى المؤذن للصلاة

فلبى كل عظيم وكل ذي مكانة ، كلٌ قد عرف قدره ومكانه ، وتناسى عظمته وسلطانه، خلع رداء جبروته وهيلمانه.

انهزمت النفوس أمام عظمة ربها ، وخضعت لذات خالقها.

وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا

هكذا يقف المصلى أمام ربه ملبياً – الله أكبر

لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك

إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك

اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ويركع مناجياً – الله أكبر :

اللهم لك ركعت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت، ولك أسلمت، سبحان ربي العظيم عدد خلقه ورضا نفسه ، وزنة عرشه ومداد كلماته ويرفع حامداً سمع الله لمن حمده حمداً كثيرا طيبا طاهرا كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.

ويسجد داعياً – الله أكبر :

اللهم لك سجدت ولك خضعت وبك آمنت وعليك توكلت ، أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك ، برحمتك أستغيث ، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ، انخفضت الرؤوس وخضعت النفوس ، فمن تعالى على الناس خضع لرب الناس ، ومن تكبر عليهم ذل تواضعاً لعظمة ربه وخالقه، والذي شمخ بأنفه زهواً وغروراً ووضعها على الأرض وساوي بها جبهته وكفيه وقدميه وسجدوا جميعا لله الواحد القهار.

فأين عظمة المتعاظم وكبرياء المتكبر وجبروت المتجبر .. الجميع خضعوا وذلوا بعد أن انخفض أعلاهم وارتفع أسفلهم- كلهم سجدوا وكلهم في مقام العبودية سواء.

قال تعالى : ( وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً ) ( طه: 111)

ويقعد . راجيا . الله أكبر:

اللهم اغفر لي وارحمني وسامحني وعافني وأعف عني وارزقني واجبرني ، هذه هي الصلاة  لمن عرف قدر الصلاة.

ويقول العلماء :

الصلاة أعظم فرائض الإسلام قدراً وفضلا وهي الركن الأول من أركان  الإسلام الخمسة بعد الشهادتين ، وهي أول ما ينبغي أ ن يتعلمه الطفل المسلم في صغره قبل أن يبلغ الحلم ، يقول صلى الله عليه وسلم " مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين واضربوهم عليها لعشر سنين " اخرجه أبو داود وهو حسن لغيره، ومن فرط أهميتها لم يفتأ صلى الله عليه وسلم يوصي بها طول حياته ، ولم ينس ذلك أبداً ، حتى وهو يجود بآخر أنفاسه الطاهرة، فكان يردد " الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم " .

وكان يقول عنها أنها الفارق بين الكفر والإيمان ، وما ورد عنه في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر " أخرجه الترمذي والنسائي وان ماجه وأحمد وهو حسن.

أما في عظم فضلها ، فيقول فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي من خواطره الإيمانية ، إن الصلاة تجتمع عليها كل فرائض الإسلام في رمزية واضحة ظاهرة، وهذا ما لا يجتمع لغيرها من الفرائض ، ويبدأ المصلي بالشهادتين وهو يستعد للدخول في الصلاة بألفاظ الإقامة فإذا اتجه إلى الكعبة فهذه رمزية لحج بيت الله الحرام ، فإذا كبر تكبيرة الإحرام ،فقد صام عن الكلام والطعام وكل ما أحله الله ،إنه الصوم في صدق معناه ، أما رمزية الزكاة ، فتتجلى واضحة فيما تستغرقه الصلاة من وقت ، فالوقت الذي ينفقه المصلي حتى يفرغ من صلاته ، هو أعظم زكاة ، فنحن لا نجني ثمرة العمل إلا من خلال الوقت، وعلىقدر ما نبذل من جهد ووقت يكون العطاء ، نحن نزكي ونتصدق ونفعل الخير كله من فضل هذا العطاء ، وبهذا تتحقق رمزية الزكاة في الصلاة ، ثم هي بعد ذلك كله صلاة ، فريضة موقوتة ، يقول الحق سبحانه : (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا ) ( النساء : 103)

وعلة الصلاة إقامتها ، سواء عرفنا أسرارها أو لم نعرفها وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أي الأعمال أفضل – فقال : " الصلاة لوقتها " فلا تهاون في حقها ، ولا عذر في تركها ،تخفًف عن المسافر ولا  تسقط عن المريض ، يؤديها الإنسان في كل أحواله ، قائما أو قاعداً أو على جنبه ، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن عجز فبحركة أعضائه ، فإن لم يستطع فبقلبه، لا عذر لها أبداً ، إلا أن يفقد الإنسان وعيه أو يلقى ربه .

والصلاة فريضة متعددة الأركان، الوضوء يسبقها ، والتوبة تلاحقها ، وتآلف الحركة يميزها ، والتكبير والتسبيح والتحميد والدعاء يحتويها وتلاوة القرآن تجمّلها ، وقراءة أم الكتاب تكللها فلا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب ، ومن ترك قراءتها فصلاته خداج.

وكل ركن من أركان الصلاة له أسراره الجسمية والنفسية ، وأهم ما يميز الصلاة الحركة فيها والحركة في الصلاة ، مفهوم متعمق، يتميز بالاتساع والحكمة.

والحديث عن هذه الأسرار متجدد ، لا ينفد عطاؤه، ولا يمكن أن نسبر أغواره ، أو نحيط بأسراره، لأن الحركة هي الحياة نفسها ، فإذا توقفت الحركة ، توقفت معها معالم الحياة.

والحركة في الإنسان ، سر من أسرار وجوده، وأسرار الحياة فيه ، فكل ما في داخل الإنسان من حياة كله في حركة ، والحياة تبدأ من الخلية ، وحياة الخلية حركة دائمة إن لم تتحرك بنفسها كحركة الدماء ، ففي داخل مركباتها ومكوناتها حركة مستمرة وهذا من إعجاز الخالق سبحانه في خلقه ، بل هو من فيض حكمته وإحاطة علمه والأعضاء كلها في حركة فالقلب في انتظام دقاته، والتنفس في تتابع حركاته ، وكل ما في داخل الإنسان من أحشاء، ومافي خارجه من أعضاء لا تستقيم حياتها إلا بالحركة .

ومن اتساع حكمة أسرار الحركة ، أن يتحرك الإنسان أثناء نومه ، لا تتوقف حركته ، وتغير حركة الأعضاء، من أسرار استمرار صحتها وقوتها ، لأن الأعضاء لو سكنت على وضع واحد، ضعفت وتقرحت، ولهذا كانت حكمة الله أن يتحرك الإنسان  في نومه رغما عنه ، والمثل واضح في آيات الكتاب الكريم من قصة أهل الكهف ، هؤلاء الفتية الذين ناموا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً صان الله سبحانه أجسامهم بالحركة ، وهو وحده سبحانه القادر على أن يصون أجسامهم بغير حركة لقوله سبحانه :

( وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو أطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا) ( الكهف : 18)

هذه ملامح عن بعض أسرار الحركة في صيانة الجسم والأعضاء والأحشاء.

هذه الحركة جعلها الله سبحانه ، مهراً لأهم العبادات في الإسلام، والحركة في الصلاة ، قيام وقعود ، وركوع وسجود، وخفض ورفع ،وقبض وبسط ، حركات تتابعت وتآلفت وانسجمت ، فلا تذهب بوقار المتعبد ولا تنال من هيبة العبادة .

وأسرار الحركة وفائدتها شاملة جامعة للإنسان في جسمه ونفسه وروحه ، وفي دينه ودنياه وآخرته فالحركة تصون الجسم وتصون النفس والروح، وبهذا تصل حكمتها إلى الدين والدنيا والآخرة .


 الفصل الثاني المتصوفة أول من تحدثوا عن أسرار الحركة في الصلاة

وأول من تحدث عن أسرار الحركة في الصلاة علماء التصوف  القدامى وذلك قبل أن يتحدث عنها الأطباء وعلماء النفس، تحدثوا عن الحركة بمفهوم متصوف،وهو مفهوم روحي أقرب ما يكون إلى المفاهيم  السلوكية المعاصرة ، فهم يقولون: إ ن حركة السجود وحدها  حركة عميقة المعنى ، قوية الدلالة، فالإنسان إذا خضع لربه وسجد لعظمته ، لا يمكن أ ن يتعالى على أحد  من خلق الله ، فهو في سجوده قد أنخفض بأعلى ما فيه فوضع جبهته وأنفه على الأرض وحاذي بهما قدميه – وارتفع بأسفل ما فيه ، فهل بعد هذا الخضوع لعظمة المعبود ، يبقى في النفس مكان لكبر أو تعاظم ، أم هو التواضع والإخبات.

فإذا تكرر هذا السجود ، في كل أوقات الصلاة ، في ليله ونهاره، وحله وأسفاره ، هل يبقى في النفس بعد هذا السلوك التعبدي غرور أو خيلاء يتعالى به الأغنياء على الفقراء ، ويترفع بها الأقوياء على الضعفاء، فالجميع  أمام الله سواء فالعظمة لله وحده، صاحب الملك والملكوت ، والعزة والجبروت ،فأين مكان المتعالي إ نه نسى مكانه وتناسى عظمته وسلطانه ووقف مع الناس خاشعاً خاضعاً لرب الناس  الكل أمامه سواء ، لا فضل لعربي على أعجمي ، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى .

( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) ( الحجرات : 13)

هذه بعض مفاهيم المتصوفة عن أسرار الحركة في الصلاة – قبل أ ن يدلي العلماء والأطباء بدلائهم – ليصلوا إلى بعض أسرار مفاهيم الحركة في الصلاة.

ومن أراد أن يستزيد فليرجع إلىما كتبه الإمام الغزالي في " إحياء علوم الدين" باب " أسرار الصلاة ومهماتها " .

الأطباء المسملون تحدثوا عن فائدة الحركة في الصلاة :

بعد أن تحدث فقهاء التصوف القدامى عن أسرار حركات الصلاة بمفهوم الروح، تحدث الأطباء المسلمون عن أسرار الحركة بمفاهيم الجسم.

والحديث عن أسرار الحركة البدنية أو الجسمية بمفاهيم العلم والطب ، قديم ولكنه متجدد ، ومن أبطالنا  المعاصرين الذين تحدثوا عن أسرار الحركة الجسمية بمفاهيم الصحة البدنية ، هو أستاذنا الدكتور محمد زكي سويدان رئيس الأقسام الباطنة بجامعة عين شمس – ورائد من رواد الطب الباطني في العالم العربي ، تحدث سيادته في تفصيل علمي طبي عن فائدة حركات الصلاة وأثرها في صيانة الجسم والأعضاء – وصيانة المفاصل والغضاريف ، تصونها من التيبس والانزلاق، حتى إ ن فقرات العنق تأخذ حظها من أسرار الحركة بالتسليم في نهاية الصلاة وأول ما تحدث سيادته كان عن حركة الوقوف وقال سيادته :إ ن حركة الوقوف تشمل انقباض عضلات الجذع والإليتين والفخذين والساقين ، وتشمل عضلات الرقبة عندما تنثني قليلاً إلى الأمام .

أما حركة الركوع :

فتنقبض عضلات الجذع الأمامية وخاصة الظهر والبطن، وتنقبض عضلات الجذع الخلفية عند الانحناء.

أما في السجود :

فتنثني عضلات الفخذين والركبتين وذلك بانقباض عضلات البطن وذلك بثني الرقبة وبسط اليدين على الأرض .

وفي القعود :

تنثني عضلات الظهر وعضلات الرقبة الخلفية .

وهذا كله يؤدي في النهاية  إلى انقباض جميع العضلات مع اختلاف حركات الصلاة ، ومع حركة العضلات تتحرك جميع المفاصل وهذا يقوي العمود الفقري ويمنع تيبسه وانزلاقه وما يترتب على ذلك من أمراض عصبية ومن المعلوم أن العلاج الطبيعي في حالة ضعف العمود الفقري، وهو بنفس حركات الصلاة بصورة  أعنف وبمفهوم علمي والكعبان من أهم ما يتحرك في الوقوف والسجود في الصلاة، وهي من المفاصل التي تساعد في المشي – والصلاة وحركاتها من أهم ما يقوي عضلات ومفاصل الكعبين .

وحركة السجود تمنع تراكم المواد الدهنية والتكرش.

ومن المعلوم ان الرياضة البدنية الصحيحة هي التي تأخذ في الاعتبار تقوية جميع عضلات الجسم ، فلا تهتم بجزء وتترك بقية الأجزاء.

ثم إ ن القراءة والتكبير والتسبيح يقول عنها الأستاذ الدكتور سويدان إنها تدريبات تنفس منتظمة .

وهذا سيأتي الحديث عنه بتفصيل في غير هذا الباب .

فوائد الحركة :

تقوية العضلات مع تتابع حركات الصلاة وما يحدث من الشد العضلي أثناء الراحة يمنع ارتخاء العضلات ويمنع ضمورها .

زيادة احتراق المواد الغذائية يمنع ترسب ألد هنيات ، مما يحافظ  على جدار الشرايين من التصلب الذي هو من أهم أسباب التجلط أو الانسداد الذي لـه مخاطره الصحية إذا حدث في الأجهزة الحيوية مثل القلب والمخ.

تتابع حركات الصلاة بهذا النظام يساعد على حفظ التوازن فلا يحدث الدوخان وهذا يؤدي إلى أن تحتفظ الشرايين والأوردة بسريان الدم معها أثناء الحركة دون أي خلل – وساعد ذلك في أن تصل كمية الدم المتدفقة إلى الجسم بمعدله الطبيعي فلا ينقص أو يختل سريانه فتحدث بذلك الدوخة ، ويتسبب في عدم حصول الخلايا على ما يلزمها من الغذاء بصورة سليمة ومن جهة أخرى يؤثر هذا على المنظمات العصبية التي توجد في الشرايين الرئيسية وهذه هي المسؤولة عن حفظ كمية الدم ثابتة في كل أحوال حركة الإنسان حتى في حالة وقوف الإنسان ، فلا يتحرك الدم إلى اسفل نتيجة الجاذبية – ولهذا يحفظ الجسم توازنه .

هذا ملخص ما تحدث به دكتور سويدان عن مفاهيم الحركة وفائدتها في تقوية الجسم وصيانته وتقوية المفاصل  والفقرات والغضاريف .

أسرار الحركة في الصلاة بمفاهيم النفس المعاصرة :

أما أسرار الصلاة بالمفاهيم النفسية المعاصرة ، فهذه إضافة جديدة ، لم تتحقق إلا في عصرنا الحديث بعد أ ن ارتقى علم النفس وعرف الطب  النفسي وفروعه-والطب النفسي الفسيولوجي وطرق التعلم بالارتباط الشرطي ، فقد سارت الحركة مع هذه العلوم مسيرة طويلة عبر التاريخ والأجيال قبل أن تجود بأسرارها العلمية والنفسية أعظم الحركات انتظاما وتآلفاً وترابطاً حركات الصلاة لأنها من الخالق عز وجل فقد انسجمت في تتابع وترابط لتحمل في ثناياها أسرار الحركة الجسمية والنفسية والروحية  والأحاديث التي وردت عن الصلاة ، كثيرة ووفيرة ، وهناك من الأحاديث التي وردت عن الصلاة ، ما له جوانب نفسية واضحة صريحة : يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم " وجعلت قرة عيني في الصلاة " ـ وكان يقول لبلال: " يا بلال أقم الصلاة ، أرحنا بها " ، " وكان إذا حزبه أمر صلى " .

والوصول بهذه الأحاديث إلى عمق معناها النفسي ، يقتضي أن نسترجع معاً التاريخ العقائدي لهذه الفريضة العظيمة ، متى فرضت وأين؟


فمتى وأين فرضت الصلاة ؟

كل مسلم يعلم أ ن الصلاة فرضت في ليلة الإسراء والمعراج من فوق سبع سماوات . ولم ينزل به جبريل كما نزل بكل أمور الدين ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم  ارتفع إلى سماء ربه إلى سدرة المنتهى حيث شاء الله له أ ن يرتفع وتلقى الأمر من ربه دون وساطة .

أما كيفيتها التي نزل بها جبريل وعلّمها لرسولنا صلى الله عليه وسلم فهذا ما سنوضحه والإسراء والمعراج كانت رحلة ذات شقين رحلة أرضية وهي مسرى الرسول  من مكة إلى بيت المقدس – ورحلة سماوية وهي معراجه صلى الله عليه وسلم إلى سماوات ربه.

والرحلة في جوهرها وحقيقتها النفسية رحلة تثبيت لرسولنا وتسلية لنفسه وتدعيم لرسالته وتقوية لعزيمته ، وتثبيت الرسل أمر سبق للرسل جمعياً فهم بشر يتعرضون للأذى وتشحن نفوسهم ممن يتصدون لدعوتهم فتكون لهم من الله آيات ومعجزات تثبتهم وتقويهم  وتشد من عزمهم ليقوموا بأعباء رسالاتهم على الوجه الذي يرتضيه ربنا سبحانه وقصص الأنبياء وما تعرضوا له من ابتلاء وكيف أيدهم الله ونصرهم؟ تعرض لها القرآن في منهجه، وقصه ربنا سبحانه على رسوله تثبيتا له وتدعيماً لنفسه – قال تعالى:

( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ) ( هود : 120)

ورحلة الإسراء والمعراج كانت هذه غايتها وهدفها ، والأحاديث الصحيحة وكتب السيرة تحكي القصة كاملة ، وكلها توضح لنا حقيقة ما حدث وما رآه رسولنا من آيات ومعجزات ، أن الله سبحانه قد أطلع رسوله على ملكوته  وما أراد له أن يطلع عليه ، حقا إن الإسراء والمعراج قمة التكريم والتثبيت لعبد الله ورسوله محمد بن عبد الله فقد اصطفاه وكرمه تكريما لم يحظ به أحد قبله ولا بعده فهو على موعد مع ربه ليريه من آياته الكبرى حيث قال سبحانه :

( لقد رأى من آيات ربه الكبرى )  ( النجم : 18 )

في وقت اشتد فيه أذى الكفار من قريش فهم ينكرونه وينكرون رسالته وينالون منه ويشتدون عليه بعد أن فقد مساندة عمه وزوجه، فقد ارتحلا عنه في عام واحد، وكانا أكبر عون له في مجابهة ظلم قريش وتعسفها ، وفي أوج هذه المحنة كانت رحلة الإسراء والمعراج، بعد عودته من رحلته المشهورة إلى الطائف التي خذله فيها أهلها وأغروا به صبيانهم وسفهاءهم يؤذونه  فكان دعاؤه المشهور عند بستان شيبة بن ربيعة اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي ، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني ، أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك ، وكانت استجابة السماء تكريما وتشريفاً وتعظيما لهذا النبي الذي صدق ما عاهد الله عليه فكانت رحلة إسرائه رحلة تكريم حقيقي وتثبيتاً عملياً للإيمان والاطمئنان في نفس رسول الإسلام ، تحقق رسولنا من كل ما أخبر عنه ربنا سبحانه من غيب نحن نؤمن به ونصدقه ولا نعلم عنه ، ولكن الرسول رأى الغيب بعينيه وتحقق منه ، فأصبح الغيب الذي أراد الله أن يطلعه عليه معلوماً باليقين، فأي تدعيم أكبر من هذا وأي تثبيت أعظم وأي اطمئنان يغمر نفس هذا الرسول العظيم ، يصل نبينا إلى هذه الدرجة من التكريم والتعظيم في سماء ربه وبين أنبيائه وملائكته ، يعرفونه ويكلمونه وأهل الأرض من أهله وعشيرته يكذبونه، وينكرونه .

وعند سدرة المنتهى يكون التكريم الأعظم وتتحقق المعجزة ا لكبرى ، لقاء بين محمد وربه تغمره أنواره وتحيط به أسراره. أنه أعظم لقاء ، لم يتحقق لنبي قبله ولن يتحقق لأحد بعده ، رسول عظيم اختتم الله به الرسالات وارتفع إلى السماء، ورأى الملك والملكوت والعظمة والجبروت ورأى الجمال والكمال، والمهابة والجلال.

اجتمعت هذه المعاني كلها واكتملت في نفس رسولنا صلى الله عليه وسلم فألهمته الفطرة و أنطقته القدرة بالتحية اللائقة ،- التحيات لله والصلوات والطيبات – ويتلقى محمد تحية ربه  - السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته- ومع هذه التحية وما فيها من المودة والرحمة ، تتفاعل نفس رسولنا صلى الله عليه وسلم بأطيب الكلمات فينطق بالشهادة : " أشهد أن لا إله إلا الله " ، ويتلقى محمد شهادة ربه له بالرسالة والعبودية الصادقة" وأشهد أن محمداً عبده ورسوله " .

إنه الوسام الذي نزل من السماء، شرفاً وتواضعاً ، لا كبر فيه ولا خيلاء، ولهذا كان يعتز الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بعبوديته لله ، إ ن كلمة التوحيد اختلطت بنفسه وترددت في خلاياه وحناياه – وكان دائما يرددها ويقول إنما أنا عبد الله ورسوله. هذا الموقف الذي فرضت فيه الصلاة - موقف كله روعة وجلال – يهز الكيان والوجدان ، وتصل به نفس الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قمة الاطمئنان  - وبين الجمال والكمال والمهابة والجلال وبين الأنوار والأسرار، تفرض الصلاة تكريما وتشريفا لمحمد صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده .

المفهوم النفسي لهذا التكليف وهذا التشريف :

لكي ندرك حقيقة ما تحمله الصلاة من معان نفسية بالطريقة التي فرضت بها ، وبالتوقيت الذي لازمها فإننا نتجاوز بالتشبيه الحدث العظيم لبعض ما يدور في حياتنا العامة من مناسبات، والحدث هو أعظم حدث في الإسلام ، وهو رحلة الإسراء والمعراج، أو رحلة التثبيت والتحقيق الكبرى ، والحياة تطالعنا كل يوم بعظماء وأمراء وكبراء من أهل الدنيا يزورون بلاداً غير بلادهم بدعوة من حكامها وأمرائها ، ويعود الأمير من زيارته وقد حمل معه من هدايا المكان الذي زاره بما يذكره بالمكان وأهله ، وهذا ما حدث في رحلة الإسراء والمعراج ، فكانت الصلاة هي أعظم هدية لرسول الله ولأمته من بعده هدية تحمل معها معاني الذكرى وآثارها – هدية تناسب قدر المُهدى ، وعطاء المُعطِى – فكانت الصلاة ختاماً لرحلة الاطمئنان الكبرى – وانتهت رحلة الإسراء والمعراج ، وبقيت الصلاة تحمل حقائق تلك الرحلة وذكرياتها تحمل الاطمئنان والسكينة لمن أداها وحافظ عليها والتزم بها .

ولنتصور معاً حقيقة الذكرى ، وما يصاحبها من صدق المشاعر في نفس رسولنا عليه الصلاة والسلام عندما عاد من رحلة إسرائه وحضرته أول صلاة ، نزل إليه جبريل يعلمه كيفية الصلاة وأركانها ، كما أرادها الله لعباده – وجبريل كان رفيقه بالأمس وهو أمامه الآن في الصلاة ، يرفع جبريل يديه مكبرا فيرفع الرسول قائلاً : " الله اكبر " ، في هذه اللحظة، ألم يترك رسول الله الدنيا كلها وراء ظهره ويشير إليها بظهر يديه ويقبل على الله – نعم – رسول الله ترك الدنيا وراء ظهره وذهب إلى ربه بعقله وكيانه ومشاعره ووجدانه فالوقت قريب جداً من الأمس – وما زالت الصورة ماثلة أمام عينيه – صورة المشاهد الحسية التي سمعها ورآها وما زال يعيش حلاوة الموقف وجلال المكان وما زالت الرهبة تملأ مشاعره وما زال يجد ريح الجنة ويسمع زفير النار ، مع هذه الصورة الحية النابضة وصوت جده آدم وأبيه إبراهيم وأخيه موسى وهارون وإدريس ويوسف وعيسى كل هذا ما زال يطرق سمعه ، مع هذا كله هل يبقى للدنيا في نفس رسولنا صلى الله عليه وسلم أو في عقله أي شيء كان ؟ إ نه بكل ما تعني الكلمة ذهب إلى ربه يحمده ويمجده ، يسبحه ويدعوه ويناجيه ويرجوه ، وهل الصلاة غير هذا ؟ - هذه هي الصلاة ،رحلة مع الله ، ولهذا بقيت أسرار الصلاة في حقيقتها كما أرادها الله لرسوله وللمؤمنين برسالته. صلة بين العبد وربه- صلة تتجدد ولا تتبدد.- رحلة لا تنقطع خمس صلوات في اليوم والليلة – وخمسون في الأجر ترغيبا فيها .

( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين )   ( الأنعام : 162 – 163 )

ثم يقرأ :

أعوذ بالله من الشطيان الرجيم

(بسم الله الرحمن الرحيم* الحمد لله رب العالمين* الرحمن الرحيم* مالك يوم الدين* إياك نعبد وإياك نستعين* أهدنا الصراط المستقيم* صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين )  ( الفاتحة : 1-7)

هل من شك في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما حضرته أول صلاة ارتفع إلى ملكوت ربه ارتفاع هذه المعاني من سورة الفاتحة- أنه ارتفع بها بفكره إلى حيث هي حقيقة صادقة – أليست هذه المعاني كلها حقائق مجسدة وغيبا معلوماً في مفاهيم رسولنا وفي سمعه وبصره؟

والعبد إذا صدقت منه العبادة ، ووقف أمام الله موقف العبد من المعبود – الواثق  من وعده الخائف من وعيده – هل يبقى للدنيا معه شأن ، وهل تبقى في فكره وحسه ؟ وإذا كان هذا حال العبد ، فما هي حقيقة مشاعر رسولنا وقد انكشفت أمامه حجب الغيب ، وهو الآن يقف أمام ربه حامداً عابداً ممجداً مناجياً .

أنه يرتفع بفكره ووجدانه إلى السماء، حيث رأى من آيات ربه الكبرى ، وذاق حلاوة اللقاء وعاش لحظات من القرب والود – لحظة منها خير من الدنيا ولو اجتمعت في يده- إنه مع ربه بفكره وعقله – بنفسه وروحه ، بمشاعره وعواطفه بل بكيانه ووجدانه فليس للدنيا في هذه اللحظات معه شأن ولا شأن له بها –إنه في لقاء مع ربه إنه الاطمئنان الكامل الذي يعيشه اليوم إحساساً وقد ذاقه بالأمس يقينا وإيمانا – فهل يسهل علينا الآن أن نتفهم حقيقة حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي تقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمنا ونكلمه – فإذا حضرت الصلاة فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه) وهل تتسع بنا المفاهيم لندرك صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول ( وجعلت قرة عيني في الصلاة ) فإذا قال صلى الله عليه وسلم:( أرحنا بها يا بلال)فإن المعنى النفسي يزيد اتساعا، فتكون الصلاة راحة من عناء الدنيا وضيق ما فيها إلى اتساع  رحمة الله وفضل عطائه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ، وبهذا تزداد المعاني النفسية اتساعاً ، وتصبح الصلاة في عمق معناها صلة بالله، والتجاء إليه ، ثم يأتي قول ربنا سبحانه في سورة البقرة :

( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) ( البقرة : 45 )

فتفيض المعاني وتغدق ، هذه  حقيقة الصلاة عندما تصدق لقاء مع الله – التجاء إليه – استعانة به – اطمئنان ، وتصبح الصلاة في عمق أدائها ، وسيلة تعبدية تصل بها النفس إلى حقيقة الاطمئنان النفسي وصدق ربنا سبحانه وهو يقول في سورة الرعد :

( الذين أمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب )  ( الرعد : 28)

وكل مظاهر الصلاة توقيفية وليس للبشر تدخل في نظامها الحركي بما فيه من قراءة وتسبيح ، وهي نظام ثابت محكم تبدأ بالتكبير وتنتهي بالتسليم فقد نزل بها جبريل وعلمها لرسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.

والاطمئنان في الأداء الحركي للصلاة شرط لصحتها ولهذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للرجل المسيء صلاته "والذي نقرها نقر الغراب :صل فإنك لم تصل- فأعاد الرجل صلاته ولم يحسنها – فكررها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً – فعجز الرجل وقال يا رسول الله – لا أحسن غيرها – فعلمني – فعلمه رسول الله كيفية الصلاة " وكانت وصيته له ولكل مسلم أن يطمئن في قيامه وقعوده وركوعه وسجوده وكذلك في أركان الصلاة كلها .

وهذه هي الحقيقة الواضحة التي تحيط بهذه الفريضة العظيمة الشأن ، فهي لابد وأن تستوفي الاطمئنان في مظهرها لأنها لو فقد ذلك فلن تصل إلى حقيقة الاطمئنان في جوهرها – ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن صلاة الحاقن والذي يدافعه الأخبثان – وكان صلى الله عليه وسلم يبدأ بالطعام إذا حضر في وقت الصلاة أو ينصح بذلك.

هذه هي الصلاة في مضمونها الحقيقي ، اطمئنان كامل يجتمع عليها ويتحقق في كل ركن من أركانها وهذا هو جوهرها الحقيقي الأصيل ، إ نها حقا تكليف وتشريف ، وهذه هي مسيرتها في نفس المسلم ،وهذا الجوهر الذي هو غاية الصلاة له مظهر يحكمه،وله إطار يحدده ، ومظهر الصلاة وإطارها هو نظام الحركة فيها .

مسيرة الحركة وكيف انتهت إلى مفهوم نفسي :

الصلاة بمفاهيم الحركة ليست يوجا ، ولكن اليوجا بمفاهيم الحركة صلاة عند أصحابها الوثنيين ، ولقد بدأت مسيرة الحركة مع الإنسان من بداية خلقه، خلق الله سبحانه آدم عليه السلام فسجد الملائكة تعظيماً وتسبيحاً بقدرته ، قال تعالى :

( إذ قال ربك للملائكة إ ني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إ بليس استكبر وكان من الكافرين ) (سورة ص:71-74).

ثم سجد آدم لربه نادما خاضعا ، معترفا بعظمة ربه وقوته وقدرته وهيمنته وسلطانه.

(فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إ نه هو التواب الرحيم ) ( البقرة:37)

واستمر السجود بالحركة ، عبادة خالصة لله وحده لا شريك له وعلى فترة من الرسل ، نسى الناس معبود هم الحق، وفي ظلمان الجهل عبد الناس مصادر القوة في حياتهم ،فعبدوا الأصنام والطواغيت والكواكب ، وتوارثوا هذه العبادات ، ولم يستجيبوا لرسالات الأنبياء والرسل ، فكان منهم العناد والمكابرة لقوله سبحانه :

( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ) ( البقرة : 170)

عبادة الكواكب : - اليوجا عبادة – اليوجا رياضة :

في هذا التيه من الجهل وفساد العقيدة تأخذ الكواكب حظها من التعظيم والتبجيل في عقول الناس ، وتأتي رسالة نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام ، وما زال الناس على ما هم عليه من فساد العقيدة .

وهذا ما يوضحه قول ربنا سبحانه من سورة الأنعام :

( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين)(الأنعام:74)

ثم يقص القرآن الكريم موقف إبراهيم عليه السلام في شأن هؤلاء الذين عبدوا الكواكب، يقول سبحانه: (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين* فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكو نن من القوم الضالين* فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون*إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين* وحاجَّة قومه قال أ تحاجوني في الله وقد هدانِ ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا  وسع رب كل شئ علماً أفلا تتذكرون ) ( الأنعام : 75-80)

وتتعاقب رسالات التوحيد ، ويأتي عهد نبي الله سليمان، وما زالت مملكة بأسرها تعبد الشمس، ويقص القرآن قصة مملكة سبأ على لسان الهدهد.

(فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ) ( النمل 22-24)

  وتأتي رسالة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم ومازالت عبادة الكواكب تجد لها صدى في نفوس البشر ، ويتصدى القرآن الكريم لهؤلاء، فيقول سبحانه : ( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر  لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون لـه بالليل وهم لا يسئمون)(فصلت : 37-38)

وتنتهي عبادة الكواكب في شبه الجزيرة بإسلام أهلها ، ولكنها تستمر وتكثر في الهند ، والهند من اكثر البلاد التي شاعت فيها عبادات الشرك وتعددت فيها الآلهة ، حتى عبد الناس الحيوانات والمظاهر الطبيعية ، ولكن ظلت عبادة الكواكب هي الشائعة في الهند ، ومن أهم العبادات فيها عبادة الشمس ، وأكثر طوائفها هم طائفة اليوجا.

اليوجا عبادة شركية:

ومذهب اليوجا –مع أنه عبادة وثنية شركية تعبد الشمس- إلا أنه يحمل في داخله مفاهيم فلسفية ويهدف إلى غاية متصوفة ، ويحل في داخله جوهراً أخلاقيا ، يأمر بالزهد ومكارم الأخلاق ولهذا اشتهروا وانتشر مذهبهم .

مظهر العبادة الشركية :

الاتجاه للشمس في شروقها وغروبها . السجود أمامها بالحركة  مع استشعار قوتها وهيمنتها فهي التي تبعث الحياة وتنشر الدفء في الأرض .

ولهذا الاعتقاد ، كان المتعبد يردد أثناء سجوده واتجاهه للمعبود آيات الحمد والثناء على المعبود بعبارات هندية . ومن هذه العبارات . سو ريانا ماه ، رافاي ناماه . ميتريا ناماه . وكلها عبارات تحمد الشمس وتمجدها ،وتثني عليها .

ومن الواضح الذي لا يحتاج إلى تعمق في فهمه هو أ ن هذه الأركان ، وهي الاتجاه للمعبود والسجود له بالحركة وترديد آيات الثناء عيه ، هذه الأركان وإن كانت من مظاهر التوحيد والعبادة ، إلا أنها عند أهل اليوجا عبادة شركية وثنية لأنها ا اتجهت إلى كوكب الشمس، وسجد أهلها لغير الله .

يقول سبحانه مؤكداً هذه الحقيقة من أول سورة الأنعام :

( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) ( الأنعام : 1 )

ويقول سبحانه :

(ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون ) ( فصلت : 37)

اليوجا رياضة:

ورياضة اليوجا هي التي اشتهرت بين الناس لأن العبادة اندثرت ، وجاءت الرياضة تحمل أسرر العبادة مختفية مقنعة وهذه الرياضة يعرفها الشباب ويمارسها الكهول والشيوخ ، ويعلمون أن المداومة عليها في انتظام ومثابرة تكسب الجسم نشاطه وحيويته، وتجدد طاقته وشبابه ، بل إ ن أهل اليوجا يتعصبون لها ، ويقولون إ ن رياضتهم طريق الصحة والسعادة والشباب ، وهذا ما يقول به كل من كتب عن رياضة اليوجا ، وهذا ما قال به سفير الهند السابق في مصر " ا بابانت" مؤلف كتاب " اليوجا صحة وسعادة وشباب"

ورياضة اليوجا احتفظت بأركان عبادة اليوجا مختفية مقنعة فحركات القيام والسجود أمام المعبود ، أصبحت تدريبات رياضية أطلقوا عليها اسم سوريا ناما سكار اليوجا، هذه الحركات فائدتها تقوية الجسم والاحتفاظ بحيويته ومرونته ونشاطه.

أما ترديد آيان الحمد والثناء على المعبود فقد أصبحت تدريبات لتنظيم التنفس أسموها مانترات ، وهي كلمات فارغة من المعنى ، تقال ممدودة منغمة بإيقاع وتنغيم يتحقق بها تنظيم التنفس ، بالشهيق الممتلئ والزفير الكامل ، وهذا يحقق الاسترخاء الفسيولوجي الذي يبعد الشد والتوتر نتيجة تجمع ثاني أكسيد الكربون ونتيجة الضغط السلبي في القفص الصدري بهذا يحدث الاسترخاء ، إما التنغيم فهو يحرك الأحبال الصوتية في الحنجرة لتصل ذبذباتها إلى عظام الأذن والرأس ومنها إلى الأعصاب والخلايا في الجسم فتسبب النشوة في الخلايا والنشاط  في الأعضاء والسعادة في الحس والوجدان وهذا ما قال به فلاسفة الهنود، وهو ما يتحقق في القرآن الكريم بقراءته الصحيحة المتواترة . أما الركن الثالث وهو الاتجاه للمعبود، واستشعار قوته وهيمنته فقد حوروه وجعلوه تصورا ، بأن يضع المتريض أمامه شيئاً يركز عليه الانتباه ،والقاعدة العامة تركيز المتريض انتباهه على فائدة الرياضة على الأعضاء.

كيف انتهت الحركة في اليوجا إلى مفهوم نفسي ؟

هذه الأركان الثلاثة التي تتآلف في رياضة اليوجا، وهي تغيير الحركة وتنظيم التنفس والتصور وتركيز الانتباه ، عندما جاء بها علماء النفس أخضعوها للتحليل والدراسة  خرجت مدرسة جديدة من مدارس علم النفس المعاصر التي أخذت أركانها من العبادات القديمة ، والعبادات القديمة أساسا هي عبادات توحيد أصيلة حرفها الفلاسفة والكهان إلى عبادات الشرك وانتهت في مفهومها النفسي إلى رياضة اليوجا ولهذا فإنه من نافلة القول أن نقول إن المدرسة السلوكية، ا انحدرت من أصل ديني.

فما هي هذه المدرسة السلوكية؟

والمدرسة السلوكية مدرسة جديدة من مدارس علم النفس المعاصر، تعالج آفات النفس بما فيها من قلق ومخاوف ووساوس وآفة وشذوذ ، بمنهج سلوكي هو تغيير الحركة بتدريبات الاسترخاء Relaxation techniques  وتنظيم التنفس بالشهيق الممتلئ والزفير الكامل ، ومنهج التصور بتركيز الانتباه ، وهذا ما انحدر إليها من مفاهيم اليوجا ومفاهيم الفلاسفة القدامى من الهند والصين .

هذه المفاهيم القديمة التي تعالج السلوك، أخذها علماء النفس والبسوها من ثياب العلم المعاصر بعد أن عرف الطب النفسي الفسيولوجي طرق التعلم بالارتباط الشرطي وقالت المدرسة السلوكية بمفهومها  الجديد، إن المرض النفسي بكل أنواعه ما هو إلا عادة سيئة ارتبطت في نفس صاحبها بمؤثر غير سليم أصابت الجسم بالشد والتوتر وفي سبيل معالجتها ، لابد من إبعاد الشد والتوتر عن الأعضاء بتدريبات الاسترخاء .

وتساعد الاسترخاء بعملية تنظيم التنفس بالشهيق الممتلئ والزفير الكامل وتبدأ المعالجة بتصور المواقف بأسلوب جديد متدرج يصممه طبيب النفس ويطلق عليه علماء النفس Hierarch .

كيف تتم المعالجة السلوكية؟

كأي معالجة تبدأ بلقاء المريض بطبيبه ليتحقق من مرضه ومن نوعية الأعراض التي يشكو منها التي تؤرقه ويضطرب معها سلوكه، فإذا تأكد الطبيب من أن ما يشكو منه المريض ، يدخل ضمن دائرة المعالجة السلوكية ، فهذا أول الطريق.

ومن أمثلة ما يخضع للمعالجة السلوكية المخاوف المرضية ، وأنواعها كثيرة ومتعددة وشائعة بين  الناس ، وأهمها الخوف من المرتفعات agoraphobia والخوف من الزحام claustrophobia وهو ما سنتعرض له لأنه شائع والمريض من هذا النوع لا يمكنه أ ن يقابل الأعداد الكثيرة من الناس، ولا يمكنه أن يرتاد الأماكن العامة المزدحمة ، مهما كان فيها من مغريات أو مرغبات،حتى المساجد والكنائس ، فإذا أجبر عليها ، فإن ما يحدث له يجعل استمراره في هذه الأمكنة مستحيلا، فهو يرتعد ويلهث ويتغير لونه وتسرع دقات قلبه ويحس بالدوار أو يشعر بغثيان وربما فقد السيطرة على توازنه ووقع على الأرض، ولا مناص من إبعاده عن المكان .

فماذا يفعل المعالج السلوكي :

يصمم الطبيب للمريض نظاما متدرجا يواجه به عددا قليلا من الأفراد يبدأ بالواحد والاثنين والثلاثة والجماعات الصغيرة ، ثم ينتهي إلى المحافل الكبيرة ، مثل النوادي والمسارح ودور السينما والكنائس والمساجد وغيرها وهذا هو نظام السلم المتدرج .

ولكن لابد من التحضير أولا قبل أن يبدأ الطبيب المعالج تطبيق هذه الطريقة العلاجية ، وأولى خطوات المعالجة هو استرخاء المريض بمعنى أن يبتعد الشد والتوتر عن أعضائه ، وهذا يتحقق بتدريبات الاسترخاء السلوكية Relaxation techniques ويساعد التدريبات عملية تنظيم التنفس بالشهيق الممتلئ والزفير الكامل، وهي ما يطلق عليها Breathing excercises حتى إذا تأكد الطبيب من استرخاء المريض فإنه يبدأ معه برنامج السلم المتدرج وذلك بمنهج التصور  وتركيز الانتباه ، وهذا هو الركن الثالث من أركان المعالجة السلوكية  ، ويبدأ المريض في تصور المواقف في الخيال، فهو يتصور أنه يقابل شخصا أو شخصين أو ثلاثة وهو مسترخ تماما في خياله مع تركيز الانتباه وقد لا تسبب الأعداد الصغيرة التي يتصورها أي تغير في حالة المريض ولكنه عند زيادة الأعداد وكثرتها تبدأ  أعراض الخوف ، وهنا يكرر الطبيب المواقف على المريض حتى تتلاشى الأعراض .

وبعدها تبدأ سلسلة أخرى من المواجهة بنفس النظام المتدرج ولكن في الواقع، فالمريض يذهب بنفسه لمقابلة الناس ومواجهة الأعداد متدرجا من القلة إلى الكثرة بمساعدة الطبيب أو من يختاره الطبيب لمراقبة المريض ومع تكرار المواجهة تقل أعراض الخوف حتى تنعدم تماماً ثم يواجه المريض بنفسه دون مساعدة أحد ويعيش حياته بين الناس فإذا تحق ذلك فقد تمت المعالجة السلوكية ، وهذه هي نهاية المطاف..

هذه المعالجة السلوكية في بساطة مفاهيمها تحقق نجاحا ، على أن المدرسة السلوكية تعالج هذه المخاوف من البداية على  أنها عادات سيئة ارتبطت في نفس صاحبها بالخوف والمعالجة بهذه الطريقة تفك ارتباط العادة بعملية سلوكية desenstization

ثم تعيد ارتباطها بمؤثر الأمان بدل الخوف وهذا ما يطلق عليه Reconditioning>

هذه هي المعالجة السلوكية في أبسط صورها ، وبانتهاء المعالجة ،   بأن ما كان يعاني منه  ما هو إلا خوف مرضي وتوهمات، وليست مرضا عضويا يستعصي علاجه ، بل هي عادة سيئة انتهت وتلاشت بالمعالجة السلوكية بدون عقاقير.

وليس هذا كل حظ تغيير الحركة بالمفاهيم السلوكية، بل  إن المدرسة السلوكية تعطي لتغيير الحركة قدراً آخر من  الاهتمام فتجعله وحده برنامجا علاجيا يحقق هدوء النفس وراحتها دون الالتزام ببقية الأركان ودون ا لاستعانة بالطبيب، وهؤلاء الذين شحنت نفوسهم وأصابتهم أمراض النفس بما فيها من قلق وخوف وهم وأرق وهواجس ووساوس تنصحهم المدرسة السلوكية بالاسترخاء أمام جهاز (البيوفيدباك) Biofeedback ، وهو جهاز إلكتروني يقيس كمية الاسترخاء الفسيولوجي، يسترخي أمامه كل من ضاقت نفسه وكثر همه وزاد أرقه ، وكل من اجتمعت على نفسه مساوئ العلة النفسية. هؤلاء جميعاً يصل منهج الاسترخاء وحده بنفوسهم إلى الهدوء والراحة والطمأنينة لمجرد تغيير الحركة وبدون الاستعانة بالطبيب.

وهذه سمة العصر أجهزة وآلات حاسبة يستغني بها الإنسان عن نفسه فالعلة النفسية طغت وعمت، وطبيب النفس معها في حيرة، ومهما أظلمت نفس المريض أو ضافت عليه فهو يحاول جاهدا أن يضيء فيها مصابيح الأمل ويزيل منها حواجز اليأس ، ويقطع أشواك الصراع المتشابكة فيها ، فإذا مهد أرضها زرع فيها بذور الاطمئنان ، وهو أساس الصحة النفسية.

هذا العطاء الذي يلتزم به الطبيب ليس الآن سهلاً على طبيب النفس ، فالطبيب ومريضه قد انصهرا معاً في أتون واحد، أتون المادة ومتطلبات العصر ،وهو بفضل ما أصابه أصبح قليل العطاء.

وبهذا كان جهاز (البيوفيدباك) أحد ملامح العصر يخدم المريض والطبيب معاً ، فيسترخي أمامه كل من ضافت نفسه وضاق وقته دون الاستعانة بالطبيب، ولمجرد الاسترخاء بتغيير الحركة تهدأ النفس وتستقر.


 الفصل الثالث أصالة المفاهيم السلوكية في الصلاة

بهذا المفهوم الواضح لتغير الحركة ولمجرد تغير الحركة تعالج المدرسة السلوكية آفات النفس وعللها ، وتغير الحركة له مفهوم نفسي أصيل نحن تتبعنا مسيرته من عبادات التوحيد الأصلية حتى انحرفت المسيرة من عبادة التوحيد إلي عبادات الشرك ، ومع هذا ظل السجود بالحركة هو مظهر عبادة الشرك ، وظهر هذا واضحا في عبادة اليوجا ، ولما انقرضت العبادة وتحولت إلى رياضة احتفظ الهنود بحقائق العبادة فيها محورة مقنعة، ثم لما ارتقى العلم وعرف الطب وفروعه وعلم النفس وفروعه أخذ علماء النفس هذا القديم الموروث وألبسوه ثوبا جديدا من ثياب العلم المعاصر ، وخرجت المدرسة السلوكية بمنهج جديد تعالج به آفات النفس وعللها وأهم ركن في المنهج السلوكي الجديد هو منهج الاسترخاء بتغير الحركة يتآلف معه تنظيم التنفس بالشهيق والزفير ومنهج تركيز الانتباه بالتصور  وليس هذا فحسب ، بل إن المدرسة السلوكية جعلت تغير الحركة وحده وسليه علاجية يسترخي به من ضاقت نفسه و كثر همه وضاق وقته أمام جهاز "البيوفيدباك " دون الاستعانة بالطبيب .

فهل بعد هذا الوضوح العلمي للأبعاد النفسية لتغير الحركة مازالت الأعين تحتاج إلي مزيد من الضوء لتبصر من قريب ما يتحقق في الصلاة في الإسلام من فائدة نفسية أصيلة ، بما يكمن في مظهر ها الحركي .

من تغير أصيل أصالته وصدقه في صدق من افترضها وجعلها كتابا موقوتا يلزم به أهل طاعته و أهل شريعته .

الأصالة كلها في الصلاة والصدق كله فيها وليس من المقبول أو المعقول أن يتحقق بتغير الحركة في غير الصلاة فائدة نفسية، أو المعقول أن يتحقق بتغيير الحركة في غير الصلاة قائدة نفسية ، ولا يتحقق بتغيير الحركة في الصلاة فائدة نفسية ؟

هل يتحقق من مناهج البشر الموضوعة والتي يتألف فيها تغيير الحركة وتنظيم التنفس Iأهلومنهج التصور وتركيزا لانتباه – فائدة نفسية – ثم إذا استوفته الصلاة بعمق وشمول وإحاطة انسلخت عنه مفاهيم النفس وجردت الصلاة من مفاهيمها النفسية . 

( ذلكم بأنه إذا  دعي الله وحده كفرتم وإن يُشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير)(غافر آية:12)

الأصالة كلها في الصلاة والصدق كله فيها ، فحركات الصلاة قيام وقعود وركوع وسجود ، وخفض ورفع وقبض وبسط حركات تتابعت وانسجمت فلا تذهب بوقار المتعبد ولا تنال من هيبة العبادة .

وبالمنهج السلوكي بمفاهيم البشر تستوفي الصلاة كل ما يتحقق من تآلف الحركة في الصلاة بمنهج الاسترخاء الفسيولوجي بما يتآلف على الاعضاء من انقباض وانبساط وتعادل بينهما وهذا تستوفيه الصلاة باطمئنان الحركة فيها ، وبإحسان الأداء ، وهذا ما تستوجبه السنة المطهرة في الصلاة فيقول (رسول الله ) عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم :" صلوا كما رأيتموني أصلي " وأمر الرجل المسيء صلاته المتعجل فيها والذي لم يحقق اطمئنان الحركة فيها ، وقال له صل فإنك لم تصل أعادها عليه ثلاثا ولما عجز الرجل قال :يا رسول الله لا أحسن غيرها فعلمني فعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت وصيته له أن يطمئن في ركوعه وسجوده وقيامه وقعوده وكذلك في أركان الصلاة كلها.

بهذا الأداء المطمئن يتحقق الاسترخاء الفسيولوجي في تتابع حركات الصلاة وانسجام أدائها بحكمة  الخالق سبحانه – هذه هي الأصالة في الصلاة ، فإن أردت أن تزداد وضوحاً في حقيقة ما يتحقق في الصلاة من فائدة نفسية بعيداً عن مفاهيم البشر بعيداً عن مفاهيم علماء النفس، بل بمفاهيم الإسلام نفسها ، فها هو ذا رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم يضع يده على أسرار تغيير الحركة وما يحدث فيها من فائدة نفسية ، ويعالج بتغيير الحركة وحده آفات النفس قبل أن يولد علماء  النفس وقبل أن تعرف مدارس علم النفس وقبل أن تنشأ المدرسة السلوكية، وقبل أن يعرف مفهوم التوتر الفسيولوجي بمئات السنين.

يعالج رسول الله صلى الله عليه وسلم آفة الغضب بتغيير الحركة، والغضب كلنا يعلم أنه شدة وحدة ورعونة وطيش وانفعال وعدوان، هذا كله يعالجه رسول الإسلام بتغيير الحركة، فيقول الصادق المصدوق عليه أفضل السلام وأتم التسليم : " إذا غضب أحدكم وكان قائماً فليقعد أو قاعداً فليتكئ أو عليه بالوضوء" حركة واحدة من القيام إلى القعود يعالج بها رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم آفة الغضب في أكبر تجمع لآفات النفس لمجرد تغيير الحركة من القيام إلى القعود،فما بالك إذا تآلف مع القيام والقعود والركوع والسجود والخفض والرفع والقبض والبسط.

هل تتسع بنا المفاهيم الآن لندرك من قريب صدق الحق سبحانه، وهو يستثني المصلين من آفات النفس فيقول الحق سبحانه:

(إن الإنسان خُلق هلُوعاً إذَا مسهُ الشرُ جزوعاً وإذا مسهُ الخيرُ مَنوعاً إلا المصَلّينَ الذين هم على صلاتهم دائمون)(المعارج 19-23)

وإذا تآلف مع تغيير الحركة بالقيام والقعود والركوع والسجود والخفض والرفع والقبض والبسط ،إذا تآلف مع هذه الحركات المتناسقة المنسجمة في الأداء تنظيم التنفس بأجمل أداء يخطر على قلب بترتيل القرآن الكريم بأحكامه الصحيحة المتواترة التي يتصل سندها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام عن رب العزة سبحانه فيتحقق للمصلي كل معالم تنظيم التنفس بما في التلاوة من أداء سليم – فالمد الطبيعي والمد اللازم وعارض السكون هذا ما يتحقق في أم  الكتاب من قواعد الترتيل الصحيحة، وبهذا الأداء السليم المتواتر تتحقق عملية تنظيم التنفس بكل أبعادها، والسنة المطهرة توضح ذلك .

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

(بسم الله الرحمن الرحيم)

الحمد لله رب العالمين* الرحمن الرحيم* مالك يوم الدين* إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم* صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) (الفاتحة1-7)

فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ الفاتحة آية آية، ويقف على رأس كل آية ويمد بها صوته أي أنه يشبع المد العارض للسكون فإذا وصل القارئ إلى آخر آية في أم الكتاب ولم يتحقق له تنظيم التنفس بالمد الطبيعي وعارض السكون فإنه يجتمع عليه في كلمة الضالين وحدها مد لازم في الألف  قبل اللام المشددة – مقداره ست حركات-ومد العارض للسكون في الياء قبل النون الساكنة فإذا أشبع اجتمعت على المصلي اثنتا عشرة حركة هي وحدها كافية أن يخرج المصلي كل ما في جوفه من زفير يستنشق بعدها شهيقاً كاملاً ممتلئاً وهذا هو هدي رسول الإسلام ، فقد كان له وقفة بعد التلاوة وقبل الركوع بمقدار ما يحتاج  أليه نفسه، لم يقل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أم الكتاب تستوفى عملية تنظيم التنفس، ولكنه ألزم بقراءتها فقال صلى الله عليه وسلم : " لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب " وتستوفى بقية أحكام التلاوة الصحيحة المتواترة .

عملية الإيقاع والتنغيم التي ينادي بها الهنود ويقولون إنها تثير النشوة في الخلايا والنشاط في الأعضاء، والسعادة في الحس والوجدان، وهذا ما توارثه الهنود وأهملته المدرسة السلوكية، ولكنها حقيقة نستوفيها  حقها فهي تتحقق في تلاوة القرآن الكريم بقواعده الصحيحة المتواتره  وذلك كإخراج الحروف من مخارجها الطبيعية وإعطائها حقها في الغنة والإخفاء والإقلاب والإدغام والإشمام والروم، وما يتآلف على ذلك من المدود الطبيعية والمد اللازم والمنفصل والمتصل ومد العارض للسكون وربنا سبحانه يلزم بتلاوة القرآن بأدائها المتواتر فيقول عز من قائل :(ورتل القرآن ترتيلاً)(المزمل : 4)

وترتيل القرآن الكريم فرض عين، وكل مسلم مطالب بترتيل القرآن فإن لم يستطع ترتيله كله فليرتل  ما يتعبد به ليشافه به عالماً ممن تلقوا القراءة بسندها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه هي السنة المطهرة، وهذا هو الهدي النبوي يحقق بالتلاوة الصحيحة كل ما جاء به علماء المدرسة السلوكية وكل ما توارثه الهنود من فائدة الإيقاع والتنغيم، وهو حقيقة توارثها الهنود من العبادات القديمة، ومزامير داود أمرها شائع ومعروف – القرآن وهو علم الأولين والآخرين يستوفي هذه الحقيقة كاملة.

هذه هي الصلاة تستوفي كل مفاهيم البشر السلوكية فتتحقق فائدتها النفسية دون أن تضع لها العقيدة عنواناً يميزها بل جعلها الله غيباً، وجعل ما تنتهي إليه من فائدة، حقيقة إيمانية، عهداً ووفاء لمن آمن بالله و اتبع سبيله وهداه.

يقول الحق سبحانه في أول سورة البقرة :

(الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وما رزقناهم ينفقون والذي يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك و بالأخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون)(البقرة : 1-5)

فهل يمكن بعد هذا المنهج السلوكي الذي يتحقق في الصلاة أن نتابع قول ربنا سبحانه عن هؤلاء المصلين الذين استثناهم من آفات النفس – فزكاهم وزكى نفوسهم – ولهذا تستمر الآيات تعدد أوصافهم فيقول الحق سبحانه : استكمالاً لآيات سورة المعارج,

(إلا المصلين* الذين هم على صلاتهم دائمون* والذين في أموالهم حق معلوم* للسائل والمحروم* والذين يصدقون بيوم الدين* والذين هم من عذاب ربهم مشفقون* إن عذاب ربهم غير مأمون* والذين هم لفروجهم حافظون* إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين* فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون* والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون* والذين هم بشهاداتهم قائمون* والذين هم  على صلاتهم يحافظون *أولئك في جنات مكرمون)(المعارج:22-35)

فإذا تحقق الركن الثالث من أركان المعالجة السلوكية وهو منهج التصور وتركيز الانتباه فماذا يكون من أمر هذه العبادة – هل تسمو وتعلو علو الخالق على المخلوقين وهذه حقيقتها؟

والتصور في الصلاة هو إحسان في العبادة علو لا يرتفع عليه علو، وهو أعلى مقام في تركيز الانتباه والتصور، والإحسان من حديث جبريل الذي رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

 فإن حانت الصلاة وأقمت وكبرت " الله أكبر"فقد أقبلت على الله وأدبرت عن كل ما سواه هذا وحده ينقلك إلى مرتبة الإحسان في العبادة أعمق موقف للتصور .

فإن أردت أن تتحقق من عمق هذا المعنى فلنرجع على أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة إسرائه ومعراجه فقد نزل إليه جبريل يعلمه كيفية الصلاة وأركانها ومواقيتها كما أرادها الله لعباده، وجبريل كان رفيقه في الرحلة بالأمس وهو الآن إمامه في الصلاة.

يرفع جبريل يديه مكبراً فيرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه قائلاً " الله أكبر" في هذه اللحظة ألم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا كلها وراء ظهره ويشير إليها بظهر يديه ويقبل على الله.

-نعم-رسول الله ترك الدنيا وراء ظهره وذهب إلى ربه بعقله وكيانه بمشاعره ووجدانه فالوقت قريب جداً من الأمس وما زالت الصورة ماثلة أمام عينيه صورة المشاهد الحسية التي رآها في سماء ربه، وما زال يجد ريح الجنة وما زال يعيش حلاوة الوقت وجمال المكان وما زالت الرهبة تملأ مشاعره.

مع هذه الصورة الحية النابضة وصورة جده آدم وأبيه إبراهيم وأخيه موسى وهارون وعيسى وإ إدريس ويوسف، كل هذا ما زال يطرق سمعه، مع هذه الصورة التي رآها رأي العين، وتحقق منها يقيناً بالأمس، وهو الآن يعيشها إحساناً فيرتفع عليها بفكره وتصوره وهذه قمة عالية من قمم العبادة، والإسلام يأمرنا أن نعبد الله بمرتبة الإحسان مرتبة المراقبة والمحاسبة نراه في كل أمورنا وهو يرانا، وهذه المرتبة هي جوهر العبادة الصادقة وهي منهج المعالجة السلوكية في القرآن الكريم نفسه.

هذه المرتبة تتحقق مع ما في الصلاة من خشوع وخضوع وهو الإحسان في كل معانيه، فأي ارتفاع هذا الذي ترتفع إليه حقيقة المعاني النفسية في الصلاة، تسمو به على كل ما عداها من برامج نفسية قال بها البشر، وهذا ما ينتهي إليه قول ربنا سبحانه:

(قد أفلح المؤمنون* الذين هم في صلاتهم خاشعون)(المؤمنون:1-2)

إنها الصلاة في الإسلام موسوعة نفسية، كل ركن فيها يأخذ بك ويرتفع مع درجة أو درجات، ترتفع بنفسك وروحك فتعرج إلى ربها يراها وتراه فتخشع وتخضع وتسبح وتمجد وتحمد وتدعو وتبتهل وتناجي، فالوضوء يرتفع بالنفس راحةً وطهراً، والتوبة ترتفع بك إيماناً، وحركات الصلاة ترتفع بك اطمئناناً، وتلاوة القرآن ترتفع بك إلى سماء ربك فإذا وصلت إلى ربها دعت لك وقالت أمام ربها: حفظك الله كما حفظتني وهذه مرتبة الإحسان في العبادة، مرتبة التصور وتركيز الانتباه الذي يعالج بها علماء النفس علل النفس، وآفاتها، انظر كيف تتحقق في الصلاة وانظر  إلى حقيقة الجزاء من الله، وهذا ما يشير إليه الحق سبحانه في محكم كتابه من أول سورة لقمان – يقول ربنا سبحانه:

(الم* تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين* الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالأخرة يوقنون* أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون)(لقمان 1-5)

هذه هي حقيقة الصلاة جوهرها ومظهرها يسيران إلى حقيقة سلوكية واضحة.

فإن أردت أن تزداد ووضوحاً في حقيقة ما يحدث إذا ابتعد الإنسان عن الصلاة يقول ربنا سبحانه في مقابلة للآية التي يستثنى فيها المصلين من آفات النفس .

(كل نفس بما كسبت رهينة* إلا أصحاب اليمين* في جنات يتساءلون * عن المجرمين* ما سلككم في سقر* قالوا لم نكُ من المصلين* ولم نكُ نطعم المسكين* وكنا نخوض مع الخائضين* وكنا نكذب بيوم الدين* حتى أتانا اليقين)(المدثر:38-47)

وهنا أمسكت آفات النفس بتارك الصلاة ولم تفلته حتى أهلكته وأردته في الجحيم ثم تابع معي القراءة من كتاب ربك وهذا ما ذكرناه في مقدمة البحث عن تارك الصلاة قبل أن نحقق مفاهيمها .

(فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى)(القيامة:31-32)

(فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة وأتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً)(مريم : 59)

(الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون)(الماعون:5-7)

ثم تعود الصلاة إلى ملازمة النفوس المطمئنة:

(وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين)(الأنبياء:73)

(وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات  ذلك ذكرى للذاكرين)(هود:114)

(وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إ نما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)(الأحزاب:33)

هل عرفت حقيقة ما تفعله الصلاة وأنها برنامج يصل بالنفس إلى حقيقة التزكية وحقيقة الاطمئنان يقول سبحانه:

(قد أفلح من تزكي *وذكر اسم ربه فصلى)(الأعلى:14-15)

ألم تذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لأصحابه : " أرأيتم لو أن نهراً  بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء قالوا :لا يبقى من درنه شيء قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا".

فهل بعد هذا الوضوح يكون هناك من شك أو  ريبة في حقيقة ما تفعله الصلاة وحركات الصلاة أهم ركن فيها، ومهما أنكر بعض الشباب فائدة الحركة، فإن الصلاة بكل أبعادها موسوعة نفسية تصل بالنفس إلى حقيقة التزكية وتصل بالسلوك إلى حقيقة الطهر والاستقامة، و إ ن مفاهيم البشر مهما سارت إليها فهي وسيلة إ إيضاح توضح مفهوماً ولا تسبر غوراً ، تبلي ضوءاً ولا تحدد بعداً ، وتظل الصلاة شامخة مرتفعة، ولا يمكن لأي منهج بشري سواء كان رياضة بدنية أو رياضة يوجا-أو ديناً وضعياً  يلزم صاحبه بسلوك معين أو فلسفة معينة، هذه البرامج البشرية مهما تعمقت فهي لن تصل إلى حقيقة ما تصل إليه الصلاة فشتان بن خالق يشرع برنامجاً يهدي به العباد وبين عباد  هم أنفسهم مخلوقون يحتاجون للهداية.

(قُل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يُتَّّبَعَ أمن لا يَهِدّى إلا أن يُهدَى فما لكم كيف تحكمون)(يونس:35)

وتظل الصلاة شامخة مرتفعة تبقى دائماً منهجاً متكاملاً يهدي به الله عباده، ولا يمكن لمفاهيم البشر أن بسبر أغوارها أو تحيط بأسرارها وينتهي العلم فيها إلى قول الحق سبحانه:

(أتل ما أوحى إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون)(العنكبوت:45)


 الفصل الرابع التوبة في الإسلام بين الاعتراف والتحليل النفسي

بالمفاهيم النفسية المعاصرة

والتوبة كما يرغب فيها الإسلام عبادة وتقرب إلى الله وهي في حقيقتها اعتراف من العبد لربه وندم على ما أقترف من ذنوب وآثام وهي رفض لما حدث، وعزم وتصميم على عدم العودة  إ ليه.

هذه المعاني كلها تحملها التوبة في صيغتها المعروفة والمألوفة : " اللهم إني تبت إليك ورجعت إليك وندمت على ما فعلت وعزمت على ألا أعود".

التوبة في كتاب الله وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:

قال الله سبحانه وتعالى في سورة النساء:

(إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب ا لله عليهم وكان الله عليماً حكيماً)(النساء:17)

ويقول سبحانه في سورة الأنعام :

(وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم)(الأنعام :54)

ويقول سبحانه في سورة النور :

(وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون)(النور : 31)

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " وا لله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة".(رواه البخاري والترمذي)

وعن الأغر بن يسار المزني رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه ليغانُ على قلبي وإني لاستغفر الله في اليوم مائة مرة" (.أخرجه مسلم وأبو داود وأحمد)

والاستغفار يحمل في داخل عباراته معاني التوبة، وهذه المعاني تحملها صيغة سيد الاستغفار بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم :"اللهم أنت ربي لا له إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذ نبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت "

والبشر في توبتهم واستغفارهم أصدق ما يكونون اعترافاً بكل ما يداخل النفس من مشاعر الندم:

اعتراف ببشرية العبد وضعفه وقلة حيلته أمام شهوات نفسه – واعتراف بأن الله وحده هو الذي يملك العفو والمغفرة  يقول سبحانه في سورة طه :(وإني لغفار لمن تاب وأمن وعمل صالحاً ثم اهتدى).(طه:82)

التوبة في الإسلام عبادة :

والتوبة في الإسلام شأنها شأن العبادات كلها تدور في فلك العقيدة تدور حول كلمة التوحيد وتدور حول الاستسلام للمعبود اعترافاً بقدرته وهيمنته وعظمته وجبروته واعترافاً بفضله ورحمته-وبعفوه ومغفرته .

ومواقف التوبة في اليوم الواحد كثيرة  ومتعددة، وهي ممتدة لا يحددها الوقت ولا يضيق بها المكان فهي بالقلب واللسان.

وفي الصلاة بالذات تتعدد مواقف التوبة، ففي بداية الصلاة ومع دعاء الاستفتاح توبة، وفي دعاء السجود توبة واستغفار، وبين السجدتين وفي دعاء التشهد الأخير وفي ختام الصلاة كل هذه مواضع يمكن للمصلي أن يتوب فيها ويكرر توبته واستغفاره .

وبعد الوضوء توبة جميلة مستحبة يرفع المتوضئ يديه إلى السماء ويتجه إلى الكعبة بهذا الدعاء أو يدعو حيثما كان " أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أ ن محمداً عبده ورسوله  اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين "رواه الترمذي والنسائي وهو حسن لغيره  . " سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك".رواه أبو داود وهو حسن.

وبعد سماع النداء للصلاة توبة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم  مرغوبة ومطلوبة، فالرسول صلى الله عليه وسلم ينصح الذي يسمع الأذان بأن يردد مثلما يقول المؤذن فإذا فرغ كان هناك هذه الصلاة وهذا الدعاء:

" اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد".

ثم يقول: " رضينا بالله رباً بالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً وفي رواية ورسولاً " – " اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني ... أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت".

التوبة بين الدين وعلماء النفس :

وبهذا الوضوح تصبح التوبة بمفاهيم علماء النفس  عملية إسقاطية وهي ما يطلق عليه profection، وفيها يسقط التائب ذنوبه بمعنى أن يخرجها من سجنها الذي تتفاعل فيه، فوجودها في ظلمات النفس يحرك في الضمير معالم الندم والإحساس بالذنب، وهذه كلها مشاعر تؤرق لا يهنأ صاحبها ولا يهدأ لأن في داخل النفس صراعاً بين الخير والشر بين الفضيلة والرذيلة هذا الصراع في تناقضه لا يحقق للإنسان راحة ولا يسير به إ لى اطمئنان وسكينة إلا من عصم ربي ورحم – لقوله سبحانه :

(وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم)(يوسف:53)

ورحم الله الإمام الحسن البصري وهو يقول :

"إن أهل الدنيا وإ ن هملجت بهم الرواحل ووطئ الناس أعقابهم فلا يزالون يجدون ذل المعصية في نفوسهم".

إنه ذل الندم يتفاعل في النفس.

فهؤلاء القادة والرؤساء والزعماء الذين سار الناس في ركابهم والتفوا حولهم مهما كانت مظاهر عظمتهم فهم يحملون في داخلهم أدران نفوسهم بما فيها من تلك المعاصي التي اقترفوها فربما سرقوا ونهبوا وارتشوا وضلوا وأضلوا وكذبوا وتسلقوا أكتاف العباد حتى وصلوا إلى ما هم عليه، والناس لا يعلمون عما بداخلهم ويتعاملون معهم بظاهر عظتهم وسلطانهم.

وهؤلاء الكبراء في الدنيا من البشر مهما علا شأنهم وارتفعت مكانتهم فذل المعصية يتصارع في نفوسهم ولا يغفرون لأنفسهم انحطاط وسيلتهم ودناءة غايتهم مهما كانوا في سلطان ومكانة وعظمة ومهابة، وتظل مهانة نفوسهم تلاحقهم أينما كانوا وأينما ذهبوا.

ولن يعود إليهم اطمئنان نفوسهم-وراحة ضمائرهم إلا بالتوبة. أما الإمام ابن القيم رحمه الله فقد وصف النفس بأنها تحمل في داخلها كل صفات الحيوان بما فيه من ريبة السلوك-فهو يقول : " إن النفس يجتمع فيها من صفات الحيوان الكثير، ففيها حرص الغراب وشره الكلب ورعونة الطاووس ودناءة الجعل وعقوق الضب وحقد الجمل وثوب الفهد وصوله الأسد وفسق الفأرة وخبث الحية وعبث القرد وجمع النملة ومكر الثعلب وخفة الفراشة ونوم الضبع، وفيها من كبر إبليس وحسد قابيل وعتو عاد وطغيان ثمود وجراءة النمرود واستطالة فرعون وبغي قارون وقحة هامان وهوى بلعام وحيل أصحاب السبت وتمرد الوليد وجهل أبي جهل".انظر زاد المعاد.

والنفس جبلت على حب الذات، وركبت على حب الشهوات هكذا خلقها الله خلقاً معجزاً، لا يدرك البشر أعماقه فهو يجمع بين التقوى والفجور في وقت واحد في  مكان واحد وهكذا تتعايش النفس بفجورها وتقواها مصداقاً لقول خالقها :

(ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها)(الشمس : 7-8)

النفس والروح:

هذا التقارب في مكان التقوى والفجور من النفس البشرية جعل الناس يخلطون بين مفهوم النفس والروح، لأن الخالق سبحانه عندما نفخ الروح في جسد آدم تحرك الجسد بقدرة خالقه سبحانه وتحركت في الجسد أعضاؤه وأجهزته وأحشاؤه، وهذه حياة الجسد، وفي الوقت نفسه دبت الحياة في النفس، وأول ما تفاعل فيها هو جانب التقوى وهو الجانب المضيء من النفس البشرية ودليل ذلك أن آدم عاش فترة طويلة بين الملائكة كما تعايش فيها إبليس من قبل، فلم يكتسب خطيئة أو إثماً وكل اكتسابه طاعة وعبادة، وكان في الشجرة ابتلاؤه في الجنة، وكان في الأكل منها شقاؤه في الدنيا، وكان ابتلاء إبليس في غطرسته وتكبره وعدم الإذعان لأمر ربه، ولكنه كان قبل ذلك يعيش في الجنة مع الملائكة حتى ظن الناس أن إبليس كان قبل المعصية ملاكاً، ولكن الله حسم القضية بقوله سبحانه:

(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذوُنه وذُريتهُ أولياء من دوني وهُم لكُم عدُوُ بئس لِلظالمينَ بَدَلاً)(الكهف:50)

والنفس خلق معنوي، لازمت خلق الإنسان المادي وهي تلازم العقل في وظائفه وتهيمن عليه، أما مطلق علمها فهو لله وحده سبحانه .

بهذا التوضيح نتفهم تماماً لماذا حدث خلط بين مفهوم النفس والروح لأن النفس في بداية خلقها تفاعلت بالطاعة بعد أن نفخ الله من روحه في آدم – يقول الحق سبحانه :

(إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين* فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين* فسجد الملائكة كلهم أجمعون* إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين).    (سورة ص:71-74).

وهذا يعني في وضوح ظاهر أنه في الوقت الذي بدأت فيه نفس آدم بالتقوى انتهت نفس إبليس إلى الفجور .

والنفس في بداية خلقها كانت على الفطرة مشرقة مضيئة بما فيها من التقوى وبهذا اختلط مفهوم الروح بمفهوم النفس، لأن آدم كان من بداية خلقه جسماً ونفساً وروحاً وكانت نفسه تقية زكية لا تتفاعل بفجور ومعصية فعاش في الجنة ما شاء الله أن يعيش فيها ملاكاً طاهراً، كانت النفس روحانية لم تلطخها المعصية والروح كما هي الروح-فليست الروح  نفساً وجاء الخلط بين مفهوم النفس والروح لأن النفس تفاعلت بالتقوى أول ما تفاعلت ودبت فيها الحياة بروح الله سبحانه، فأصبح كل ما هو مشرق مضيء في سلوك الإنسان ينسب إلى الروح مع أن نسبته الحقيقية إلى النفس أو إلى جانب التقوى من النفس، وبهذا أصبح السلوك المتميز في حياة الإنسان يطلق عليه القيم الروحية مع أنها في حقيقة تفاعلها قيم نفسية، وبعد أن تعايشت النفس مع رغباتها-استسلمت لشهواتها وزين لها الشيطان أعمالها حتى أكل آدم من الشجرة ونسى نداء ربه، واستجاب لنداء إبليس، وعندئذ تمكن جانب التقصير من النفس البشرية، وبدأت النفس تعمل بطاقتها التي أرادها الله لها، وبهذا اكتمل بناء النفس بصورته التي نحن عليها بعد أن أكل آدم من الشجرة، وبعدها ظهرت معالم المعصية مجسدة وهذا ما اخبرنا به ربنا سبحانه من قصة آدم وإبليس حين يقول سبحانه:

(فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من  ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين).(الأعراف:22)

فما هي هذه الشجرة ؟

اختلف المفسرون رضي الله عنهم في حقيقة هذه الشجرة وما نوعها، والحقيقة التي لا يختلف عليها أحد أن الشجرة تختلف ثمارها عن ثمار الجنة وإن تشابهت في مظهرها، بمعنى أن من يأكل من ثمار هذه الشجرة تتفاعل أمعاؤه وأحشاؤه بطريقة تختلف، فالثمار لها قشور عسرة الهضم ويتم هضمها في الأمعاء شأن طعام الدنيا الذي تتفاعل له الأمعاء والأحشاء لأن بيولوجيته تختلف عن بيولوجية ثمار الجنة التي لا فضلات لها إطلاقاً أما ثمار هذه الشجرة فهي بمواصفات الدنيا تحرك الغرائز وتحرك الأمعاء وتحرك الشهوات ولهذا عندما تفاعلت في الجسم بدت لهما سوءاتهما وظهرت العورة تفصح عن مكان الغريزة.

وفي الدنيا أصبح آدم إنساناً يحمل نفساً تجمع بين الملائكية التي عاش بها في الجنة وبين الغريزية التي أكل بها من الشجرة، وظلت النفس تحمل التقوى والفجور معاً، ولعلني قد وضحت بعض ما يلتبس على الناس وهم يخلطون في المفهوم بين النفس والروح-أما الروح فعلمها لله وحده، وكل ما يصل إليه علم البشر أن الجسم خلق مادي عضوي، والنفس خلق معنوي وربنا سبحانه سوى الجسد بعلمه فقال سبحانه(سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى)(الأعلى : 1-2)

وسوى النفس بحكمته فقال :(ونفس وما سواها)(الشمس :7)

والروح بينهما من أمر الله تسير الجسم والنفس معاً، فإذا خرجت الروح فلا جسم يتحرك ولا نفس تشتهي وصدق  ربنا سبحانه وتعالى  وهو يقول :

(ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)(الإسراء:85)

وأصبح من توجيهات رسالات السماء إلى البشر أن يصلوا إلى تزكية نفوسهم بمنهج الخالق سبحانه مصداقاً لقوله تعالى :

(قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دساها)(الشمس:9-10)

وكان آدم عليه السلام بعد هبوطه على الأرض أول من حمل رسالة السماء، وكانت نفسه هي أول نفس زكاها ربها بكلماته، وأصبحت هذه الكلمات أعظم توبة تتحقق لمسلم عندما ينتهي إلى هذا المكان.

(فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم)(البقرة: 37)

التوبة المجسدة:

وأعظم توبة عندما يذهب التائب في موسم الحج ويقف حيث هبط آدم بخطيئته في وادي عرفه وعند جبل الرحمة، حيث التقى آدم وحواء كما تقول بعض الروايات وفي نفس المكان يقف البشر جميعاً بخطاياهم، وكما غفر الله لآدم وتاب عليه فالله سبحانه يتوب على عباده جميعاً الذين خلعوا رداء الدنيا متجردين من كل شيء، كما نزل آدم وزوجه متجردين إلا من أوراق الشجر التي تواري سوءاتهما والبشر كذلك، تركوا أموالهم وديارهم وأبناءهم ومناصبهم وسلطانهم وذهبوا يحملون أوزارهم وخطاياهم قاصدين رباً غفوراً كريماً يقرعون باب رحمته، وباب توبته، الباب الكبير الذي لا يوصد أبداً، إنها التوبة الكبرى في حياة الإنسان توبة أبينا آدم عليه السلام  في نفس المكان الذي حدثت فيه.

يقف الناس جميعاً يتوبون ويدعون ربهم ويلحون في الدعاء ويخلصون فيه في وقت واحد ومكان واحد، هذه المجموعة المحتشدة التي جاءت تعترف لله سبحانه بخطاياها وترجو رحمته وتخاف عقابه، هؤلاء هم أهل الموقف يوم عرفة.

والحج كما يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم : " الحج عرفة "(وفي رواية الحج عرفات، وفي رواية الحج يوم عرفة).

ويطلع ربنا سبحانه على هؤلاء جميعاً ويقول  لملائكته-جاؤوني من كل مكان شعثاً غبراً يرجون رحمتي ويخافون عذابي أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم.

ويعود الحاج كيوم ولدته أمه فقد غفر الله له ذنبه وقبل توبته وأبر حجته ويلقاه الناس بالبشر والترحاب حج مبرور وذنب مغفور فقد لبيت نداء ربك –"إنها توبة أبيه آدم عليه السلام ".

لبيك اللهم لبيك-لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك .

التوبة بين الاعتراف والتحليل النفسي :

التوبة في جوهرها النفسي اعتراف لله، وهي دعاء هامس بين الإنسان وربه، يعترف التائب اعترافاً واضحاً صريحاً بذنوبه وخطاياه، عن رغبة صادقة. لا يكتمها ولا يصر عليها، يفرغ بها محتوى  نفسه، خباياها، خطاياها، وما هو أخفى من ذلك لا يكتم شيئاً ولا يضمره ولا يحقره مهما كان صغيراً أو مستتراً وهذه هي توبة الإسلام النصوح.

إنه يطرح هذه الذنوب عن كاهله، ويدفعها بعيداً عن نفسه، فلا يختزنها لتتعايش معها مشاعر الندم، فلطالما جثمت على صدره، بما فيها من معالم الهم والضيق نتيجة ما احتوته من سوء الفعل وانحطاط الغريزة، واستبداد الشهوة . هذا هو ما يتحقق بالتوبة في الإسلام. فهي في جوهرها اعتراف مطلق لله سبحانه، محاسبة نفس-إقرار بالذنب-إحساس بالندم-خضوع لله واستسلام لتعاليم شريعته ومنهج دينه-وعهد وتصميم على عدم العودة، إنها الصدق مجسداً بين العبد وربه، ولا وساطة فيها وهو وحده الذي يعلم صدقها في النفس فهي سر بين العبد وربه.

فهل هذا الصدق في الاعتراف في التوبة الخالصة لله وحده هو ما يحدث عندما يعترف الإنسان للكاهن أو الطبيب؟

ولننظر إلى حقيقة هذا الاعتراف عندما يستسلم المريض لطبيب النفس، بمعنى أن يترك الطبيب للمريض حرية الحديث عن صراعات نفسه بأسلوب التداعي الحر Free assosiation بمفهوم التحليل النفسي، ليصل الطبيب بحديث المريض إلى مطلق الصراع في نفسه.

فالمريض يكتم ذكرياته المؤلمة بعملية لا شعورية هي الكبت Repression أو القمع Suppression، والكبت والقمع من تعبيرات مدرسة التحليل النفسي بمعنى أن كل ما هو سيئ مذموم من سلوك البشر يحاول الإنسان أن يخفيه في ظلمات النفس بعملية الكبت والقمع، حتى لا يؤرق صاحبه، لأن ما يختفي في النفس لا يهدأ ولا يستقر ويتحرك في داخلها بعنف، وقد يفصح عن نفسه عندما يخرج مقنعاً مع الأحلام أو مع زلات القلم واللسان.

والصراعات في داخل النفس البشرية إن لم تجد لها متنفساً للخروج لتعلن عن نفسها فهي تصيب الشخص بأعراض المرض النفسي في صورة القلق والوساوس والمخاوف والضيق وعدم الاطمئنان، وهذا ينعكس بصورة واضحة على سلوك المريض الذي يفقد الكثير من نشاطه واهتماماته، ولا مناص من أن يُعرض على طبيب النفس الذي يحاول أن يستخرج مخزون الصراع في نفس المريض، وهو ذكريات مؤلمة لا يحب الشخص أن يذكرها .

وهو يحسب أنه قد نسيها أو نجح في إخفائها، ولكنها تعيش في داخله لا تهدأ ولا تستقر، وتصيبه بالمرض أو العلة النفسية في أي صورة من صورها المتعددة، ومهمة الطبيب النفسي أن يدخل في نفس  مريضه ويسير في متاهاتها ويحاول أن يصل إلى حقيقة الصراع الناتج عن مجموعة من المتناقضات وكمّ هائل من الرغبات والشهوات ينازع بعضها بعضاً، فالصراع يكون بين الفضيلة والرذيلة بين الصدق والكذب، بين الصراحة والنفاق، بين الأمانة والخيانة ،بين المحبة والغيرة ، بين المودة والحسد ، بين الصفح والعدوان أو بين العفو والانتقام، وخلاصة ما ينهي الصراع هو الصراع الأبدي بين التقوى والفجور, ومهمة الطبيب المتخصص أن يصل إلى حقيقة هذه المتناقضات وكيف تتصارع في نفس صاحبها , ولا يمكن للطبيب أو غيره أن يصل إلى أسرار النفس إلا من خلال اعتراف صاحبها , ولهذا فإن بداية المعالجة النفسية هي الوصول إلي خبايا النفس بالاعتراف الصادق , وهذا ليس أمرًا سهلا , كما يظن البعض , بالاعتراف بخبايا النفس  بمدرسة التحليل النفسي يستغرق وقتًا وجهدًا،  والتحليل العميق ربما يستمر سنين طويلة , والسبب هو أن النفس البشرية محاطة بأغطية كثيفة من الغموض تختفي تمامًا عن صاحبها , والإنسان سواء كان سليمًا أو مريضًا لا يعرف ما يختفي في داخل نفسه من متناقضات  وأسرار ورغبات وخبايا , فإذا عرف الإنسان شيئًا عن صراعاته فهذه أسرار النفس اللوامة لأنها قريبة من العقل الواعي، أما أسرار النفس الأمارة فهي في عالم مظلم شديد العتامة  تكمن فيها الغرائز وتكمن فيها الصفات الحيوانية كلها التي قال بها الإمام ابن القيم رحمه الله , وهي مجموعة من المتناقضات محاطة بأسوار وحواجز يصعب اختراقها , والطبيب المختص في التحليل النفسي هو الذي يتعلم كيف يخترق هذه الحواجز، لأنه هو نفسه قد تعرض للتحليل , وعرف كيف يتعامل مع هذه السلسلة من الدفاعات النفسية التي تحيط بالنفس البشرية 0

ولهذا فان من يحاول أن يستكشف أغوار النفس يصدم بهذه العقبات التي تعرف عند علماء النفس بالمقاومة Resistanec  أو الحواجز النفسية 0

ولابد لطبيب النفس أن يخترق هذه المقاومة وحواجزها الدفاعية ليصل إلي خبايا النفس , فإذا نجح بكفاءته ومهارته في اختراق هذه الحواجز وبدأت النفس تتكشف أمامه , فإن المريض يفاجأ بغرابة ما يتفاعل في داخل نفسه وتبدأ سلسله أخري من الدفاعات اللاشعورية والحيل النفسية , وأولها الإنكار Denial، وقد يكون الإنكار بالمراوغة وقد يكون الدفاع بعملية التبرير Rationalisationفيبرر غرابة سلوكه بأن الظروف  كانت أقوى منه، فإن لم يفلح التبرير أسقطها على غيره، وهي عملية الإسقاط Projection كما يسقط الطالب فشله على اضطهاد أستاذه.

هذه بعض ملامح حيل النفس من المقاومة بالإنكار والمراوغة والتبرير عندما تعترف أمام البشر، وهذه الأمور لا تحدث إطلاقاً عند الاعتراف المطلق لله سبحانه بالتوبة الخالصة الصادقة " النصوح".

وربما يكون الاعتراف للكاهن مختلفاً عن الاعتراف للطبيب، لأنه يأخذ صورة دينية عقائدية، ومهما استنفد من وقت فهو لا يقاس بالنسبة للاعتراف بالتحليل النفسي، ومهما استنفد من وقت فهو لا يقاس بالنسبة للاعتراف بالتحليل النفسي، وقد يكون الفارق بين الاعتراف للطبيب أو للكاهن هو أن الاعتراف الديني للكاهن اعتراف مجمل، أما الاعتراف الطبي فهو اعتراف تحليلي عن خبايا النفس ودوافعها.

عيوب الاعتراف للبشر ومشكلاته العلاجية :

لن أتوسع في عيوب الاعتراف للبشر إلا بقدر تسليط الضوء على عيوبه ومساوئه، ومن هذه العيوب الواضحة، التفاعلات الوجدانية للمريض أثناء الاعتراف، فربما سخط على الطبيب أو كرهه وربما كانت صورة الكراهية عدوانية خصوصاً إذا كان التحليل لمريض أصابه المرض العقلي، فالتحليل النفسي بالنسبة للمريض العقلي صعب ويحتاج لخبرة ودراية وتمرس، فإن كان الطبيب واثقاً من نفسه وفنه فهو يحتاط لتقلبات المريض الوجدانية، فتقلبات المرض العقلي غير مأمونة العاقبة .

أما المشاعر الوجدانية التي تحدث للمريض بعد الاعتراف البشري فتتوقف على ما بداخل النفس من غرابة وشذوذ وتتفاوت مشاعر المريض بين المهانة والضآلة ومشاعر النقص والخجل والندم.

فإذا كان الشخص صاحب جاه وسلطان فهو يشعر بأن المهابة والاحترام والمكانة العلمية التي يتمتع بها ما هي إلا مظهر خادع، ويصدق عليه قول الإمام الحسن البصري رحمه الله : " إن أهل الدنيا وإن هملجت بهم الرواحل ووطئ الناس أعقابهم فلا يزالون يجدون ذل المعصية في نفوسهم".

هذه بعض ملامح الاعترافات للبشر، ولا يمكن ان نضعها في ميزان المقارنة مع الاعتراف للخالق سبحانه والتوبة له .

فالتوبة أصدق، لأنها اعتراف بلا كذب ولا خداع ولا مراوغة ولا إنكار ولا تبرير ولا إسقاط، الشخص يستجمع كل ماضيه في ذاكرته في لحظة، بما في ذلك خطاياه وآثامه و  ذنوبه                       

ويعترف اعترافاً مفصلاً بدقائق ما فعل، لأنه من خلال إيمانه يعلم أن الله سبحانه مطلع عليه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور – يقول سبحانه في سورة المجادلة :

(يوم ببعثهم الله جميعاً فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد)(المجادلة:6).

ولهذا فإن التائب يغالي في تحليل خطاياه بنفسه دون أن يطلب منه ذلك مبالغة في الصدق مع ربه.

"اللهم إني أستغفرك لكل ذنب قوي عليه بدني بعافيتك، ونالته قدرتي بفضل نعمتك، وانبسطت إليه يداي بسعة رزقك، واحتجبت فيه عن الناس بسترك، واتكلت فيه على أمانك ووثقت فيه بحلمك، وعولت فيه على كرمك وعفوك"

" اللهم اغفر لي برحمتك يا أرحم الراحمين".

والتائب يلح في الدعاء وهو موقن بالإجابة فهو يعلم أ نه يخاطب رباً غفوراً رحيماً سبقت رحمته غضبه، وسبقت مغفرته عذابه وهو سبحانه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات .

هذا ما يؤمن به المعترف الذي يتوب إلى الله في أمانة وصدق وصراحة وعمق ومع هذه التوبة الصادقة والاعتراف المطلق، فإن التائب يداخله خوف من الله ورهبة من صفات الجلال فيه فهو سبحانه منتقم  جبار معز مذل قادر مقتدر.

فيخشى التائب غضب ربه ويخشى انتقامه قبل أن يتوب فإذا تاب صادقاً فإن مشاعر الحق يبدلها الله للعباد أمناً وسلاماً مصداقاً لقوله سبحانه :

(قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إ نه هو الغفور الرحيم)(الزمر:53)

ويقول سبحانه في سورة نوح:

(فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً)(نوح:10-12)

هذه حقيقة ما يتفاعل في نفس التائب، وبمفاهيم الإيمان فإن، التائب قد طهر نفسه باعترافه وزكاها بتوبته، وهذا يعني أن جانب التقوى من النفس البشرية عاد إلى مكانه من النفس يقود مسيرة السلوك البشري بما فيه من استقامة وصلاح.

والتوبة في الإسلام ليس لها ما يعترضها أو ما يعوقها من مشاكل أو ما يؤخرها، ولكن الاعتراف له عيوبه ومشكلاته التي يقول بها علماء النفس .

مشكلة التعلق Transference :

فبعد الاعتراف وبعد التوبة تحدث عملية نفسية غاية في الأهمية وغاية في الخطورة إنها مشكلة التعلق.

والمريض والمعترف للبشر إذا أحس بمقدرة الطبيب وكفاءته وهو يخترق حواجز المقاومة في نفسه فإن هذه المشاعر تنقلب إلى صورة من صور الإعجاب ويرى المريض في طبيبه ما يجعله يتعلق به ويحس بعاطفة المحبة نحوه وهذه المشكلة من أسوأ مشاكل الاعتراف للبشر وهي من أهم عيوب التحليل النفسي .

ولكن علماء النفس لهم رأي في هذا التعلق ويعتبرون التعلق مرحلة علاجية، والطبيب الحاذق الواثق يمكنه ان يستفيد من هذه العلاقة في تحويل مشاعر المريض إلى هدف علاجي سليم-هذه نظرة علماء النفس إلى مشكلة التعلق .

ولكن المشكلة صعبة وهي تعتبر من مآسي المهنة إذا لم يكن المعترف إليه صاحب دين وحكمة وعقيدة .

هذه المشكلة بحذافيرها تحدث في التوبة إلى الله ويحدث التعلق من التائب بمحبة ربه، وهذه في حد ذاتها ليست مشكلة بل هي عبادة مرغوبة وهي أصل من أصول العقيدة-يقول ربنا سبحانه في سورة آل عمران :

(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم)(آل عمران:31)

ويقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم :

"ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما".

فمحبة الله في منهج العقيدة عبادة، ومحبة التائب لربه عبادة ،حتى إن فقهاء التصوف يعتبرون محبة الله في المقام الأول، وابن الفارض ورابعة العدوية أمثلة من المتصوفة الذين هاموا بحب ربهم ولم يعب عليهم أحد.

وها هي ذي را بعة العدوية تقول وهي تتغنى بحب ربها: " ولو أنني لا أميل إلى هذا النوع من الشعر المتصوف لأنني أرى فيه ما لا يتناسب مع جلال الله وقدره وتنزهه عن الحوادث ولكنني أستشهد به في مقام التعلق الروحي".

أحبك حبين حب الهوى               وحبا لأنك أهل لذاكا

فأما الذي هو حب الهوى             فذكر شُغلت به عمن سواكا

وأما الذي أنت أهل له                          فكشف الحجب حتى أراكا

وما الحمد في ذا وذاك لي              ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

وتقول أيضاً :

إذا صح منك الود فالكل هين                   وكل الذي فوق التراب تراب

هذه بعض معالم التعلق بين التوبة والاعتراف بالوساطة البشرية .

فالتعلق من أصعب مشاكل الاعتراف للبشر، ولهذا فان علماء النفس والأطباء الذين يحترفون مهنة التحليل النفسي العميق هؤلاء قد يصيبهم المرض النفسي من كثرة ما يرهق نفوسهم من اعترافات البشر وغرابة سلوكهم وتفاعلات نفوسهم مع غرائزها وشهواتها ومناقضاتها، فالنفس تتكشف لهم وتتعرى أمامهم وربما كان هذا سببا في تعرية نفوس الذين يمارسون المهنة فيرون في داخلها بعد أن ينكشف غطاؤها غير ما ألفوه وعرفوه، وهذا يعرضهم للعلة أو المرض النفسي .

مشكلة التعلق العكسي Counter Teansference :

تبقى بين الاعتراف والتحليل النفسي مشكلة التعلق العكسي وهي تنعدم تماماً في التوبة إلى الله .

والتعلق العكسي معناه في وضوح كامل تعلق الطبيب بمريضه أو تعلق المعترف إليه بالمعترف .، وهذه المشكلة العاطفية لو حدثت فهي وخيمة العاقبة خصوصاً إذا حادت الأمور عن مسيرتها العلاجية .

والطب النفسي يتعرض لعلاج المشكلة، وينصح الطبيب الذي لا يمكنه السيطرة على عواطفه وانفعالاتها أن يتعرض هو للتحليل النفسي حتى تصقل عواطفه وتنضج وتأخذ مسيرتها دونه انحراف أو تطرف فإذا فعل فيمكنه ممارسة هذا العمل، وإلا فليس له مكان في هذا الحقل من التخصص.

ومن الغريب أن الطب النفسي قد عالج مشكلة التعلق العكسي بما أخذه عن المسيحية وهي تأخذ الحيطة الكاملة لاستقامة الكاهن الذي يعترف الناس له –فالكاهن لا يصل إلى هذا المكان إلا بعد أن يقطع شوطاً طويلا ُ وطريقاً صعباً في المجاهدة وقتل شهوات النفس حتى يكون أهلاً لهذا العمل الصعب، ومع هذا كانت الكنيسة أصدق ما يكون وهي لا تنفض عن الكاهن بشريته، عندما جعلت له أباً روحياً يعترف له إذا وجد في نفسه الحاجة لهذا الاعتراف.

والتعلق العكسي حقيقة صادقة إيمانية بمفاهيم التوبة في الإسلام، ولكنها عيب واضح صريح بمفاهيم الاعتراف البشري لأن الله سبحانه يحب التوابين المتطهرين ويرضى عنهم، وإذا أحب الله العبد بعد توبته فهذا دليل قبول التوبة الصادقة التي علم الله صدقها وإخلاصها من العبد يقول الحق سبحانه ف سورة التحريم :

(يا أيها الذين أمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخُزى الله النبي والذين أمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا وأغفر لنا إنك على كل شيء قدير)(التحريم:8)

وهذه سنة الله في خلقه هو سبحانه الذي شرع التوبة لعباده-يقول سبحانه في سورة التوبة:

(وعلى الثلاثة الذين خُلفُواْ حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحُبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب   الرحيم)(التوبة: 118)

وهذا ما يؤكده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أبي موسى عبد الله بن قيس الأسدي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها " .

هذه هي التوبة في الإسلام بين الاعتراف والتحليل النفسي-فهي عبادة خالصة وطاعة لله ورسوله، ولها من الأثر النفسي ما يجعلها بحق مدخلاً من مداخل الاطمئنان الذي يتحقق في كل من أركان الصلاة ،وفي كل ما يسبق الصلاة من شعائر.

"اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، اللهم أغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم"، " اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وأوله وآخره وعلانيته وسره" .

هذه كلها وما أكثرها و أصدقها من عبارات ومأثورات يدعو المصلي بها في الصلاة وفي غير الصلاة، وهي تعود بالنفس إلى هدوء مشاعرها وصدق اطمئنانها وصفاء وجدانها ونقاء جوهرها.

وفي هذه العبادة الخالصة والتوبة الصادقة يكون التعلق من الله سبحانه لعباده.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال : " أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإ ن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة".

وعن أبي حمزة أ ن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم استيقظ على بعيره قد أضله بأرض فلاة".

اللهم اجعلنا من التوابين واجعلنا من المتطهرين.


 الفصل الخامس الوضوء وآثاره النفسية الوضوء استعداد للصلاة:

الوضوء في حقيقة تشريعه فريضة تسبق الصلاة وهو استعداد لها، فالصلاة لقاء مع الله ولقاء العظيم لابد أن يكون له آدابه العامة التي تتناسب مع عظمته وكمال صفاته.

هذا الاستعداد للقاء الخالق ليس التزاماً صعباً أو بلغة العصر وبروتوكولات معقدة كالتي يلتزم بها الناس عند لقاء ملوكهم ورؤسائهم(ولله المثل الأعلى)، بل هي شروط سهلة ميسرة لا تعقيد فيها وإذا التزم بها العبد فهي تنتهي به آلي  خير دينه ودنياه وآخرته، وهذه حكمة التشريع في كمالها وشمولها وإحاطتها .

ومن هذه الشعائر التي لها مطلق الحكمة وكمال الإحاطة شعيرة الوضوء قبل الصلاة، وهو بمثابة تحضير لها ،فالمصلي يهتم بنظافة جسمه قبل أن يقف بين يدي ربه مسبحاً وداعياً ومناجياً، ولهذا فإن الوضوء في حكمة تشريعه يصل إلى ما تنتهي إليه الصلاة في حكمة تشريعها فالصلاة في جوهرها، اطمئنان نفس، وسكينة فؤاد، وسعادة وجدان، لقوله سبحانه وتعالى:

(الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)(الرعد:28)

والوضوء في مظهره طهارة جسم، ولكنه في جوهره اطمئنان نفسي وهذا ما يسير إليه الوضوء في عمق معناه وحقيقة تشريعه بمظهره وجوهره فالله سبحانه يأمر بالوضوء عند كل صلاة فإذا التزم العباد فقد لحقتهم أسرار العبادة بما لها من مطلق الحكمة وكمال العلم : يقول سبحانه وتعالى في سورة المائدة :

(يا أيها الذين أمنوا إذا قمتم إلي الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيدكم إلى  المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنباً فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته وعليكم لعلكم تشركون)(المائدة:6)

وعن لقيط بن صبرة .عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء-قا ل أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً ".

كيفية الوضوء وفوائده البدنية:

أعضاء الوضوء تحددها السنة المطهرة فيما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول والفعل، وقد ألزمت السنة المطهرة بأصول الآية الكريمة ثم زادت على هذه الأعضاء غسل اليدين إلى الرسغين والمضمضة والاستنشاق ومس الأذنين تعمياً لفائدة إسباغ الماء على الأعضاء وبهذا يتم الوضوء ويكتمل .

(ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب)(الحشر:7)

أما طريقة الوضوء فهي متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يختلف الفقهاء في تفسير أصولها،وأخذاً بأقوال الأئمة جميعاً وكلها سنة مطهرة ومجمل هذا كله أن الوضوء يستوفي ثلاثة أفعال:

إسباغ الماء،المسح على الجلد،تدليك الأعضاء.

والوضوء بهذه الكيفية يجزئ عنه الغسل إذا حدث، وقد روى عن عائشة رضي الله عنها قولها : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوضأ بعد الغسل".

فائدة الوضوء:

والوضوء في ظاهرة نظافة بدن وطهارة أعضاء وهو تحضير للمصلى قبل أن يقف بين يدي ربه متعبداً وداعياً ومناجياً، وهو شرط من شروط صحة الصلاة، هذا هو الوضوء بمفهومه التشريعي.

أما فوائده:

من الناحية الطبية الوقائية والعلاجية، فقد تحدث عنها الأطباء المسلمون فأجادوا وأحسنوا، ومن أراد أن يستزيد فليقرأ كتاب الأستاذ الدكتور محمد ز كي سو يدان " الصلاة صحة ووقاية وعلاج" فهو مرجع طيب تحدث عن فائدة الوضوء الجسمية وهذا البحث يتحدث عن أسرار الوضوء النفسية.

وكما أوجزت ما قاله الأستاذ الدكتور محمد زكي سويدان عن حركات الصلاة – فإنني سأتحدث بإيجاز عما قاله عن الوضوء، وعن فائدته الجسمية الصحية وقائية وعلاجية.

قدم سيادته للوضوء بالحديث عن الأمراض المعدية، وعن مصادر العدوى، وكيف يتعرض الإنسان للأمراض المعدية نتيجة ما يخرج من فضلاته ومن إفرازات جهازه الهضمي والبولي، وما قد يعلق بيديه من ميكروبات تحتاج إلى مراعاة النظافة في التعامل معها-والوضوء بمشروعيته هو السبب المباشر في الوقاية من أمراض كثيرة وخطيرة مثل الدوسنتاريا والتيفود والتسممات الكبدية ، والطفيليات بمختلف أنواعها والديدان المعوية وغير ذلك مما ينتقل عن طريق الفم والأنف.

وأستاذنا الكبير قد فصّل هذا كله تفصيلاً علمياً بما يناسب قدره في المعرفة الطبية وتعدى حديثه إلى إفرازات الفم وإفرازات الرئة وعن الدرن ومشاكله، بل تعدى ذلك كله إلى الحديث عن الأمراض التناسلية التي تنتقل عن طريق الجهاز البولي والتناسلي.

وإني إذ أشير إلى هذا مجرد إشارة، فإنني أنبه القارئ إلى أهمية الوضوء الوقائية، فهو وقاية من هذا البلاء كله، لأن الوضوء بما فيه من غسل اليدين والوجه والساعدين، وبما فيه من المضمضة والاستنشاق، ومسح الرأس والأذنين وغسل القدمين، هذا كله مع غسل الوجه وما فيه من عينين، ومسح الرأس والأذنين، هو محافظة من الإصابة بالرمد والتهابات الجلد لما قد يعلق به من طفيليات تنتشر في الجو، والوضوء وقاية من هذا كله ويتضح من هذا أن أستاذنا الفاضل رحمه الله ركز على الجانب الوقائي الجسمي للوضوء وما قد يصاحبه من جانب علاجي .

ولكن سيادته لم يتحدث عن الفائدة النفسية للوضوء ولم يشر إليها كما أشار إلى حركات الصلاة . .

وهذا البحث يستكمل عظمة الوضوء من الناحية النفسية، وبالله التوفيق.


فائدة الوضوء وأسراره النفسية

أما الفائدة النفسية للوضوء فقبل أن يحقق العلم الحديث مفاهيمه فهي متواتر ة فيما يتواصى به الناس من إسباغ الماء على الجسم أو الأعضاء لكل من يصيبه الإعياء النفسي أو الضيق، فيستعيد نشاط جسمه وصفاء نفسه دون أي التزام تعبدي والفائدة النفسية في الوضوء بمفهومها العلمي الحديث تتحقق باستيفاء الأركان الثلاثة من مسح وتدليك وإسباغ الماء على الأعضاء، ويزيد عليها مفهوم المدرسة السلوكية المعاصرة وهو تغيير حركة الأعضاء أثناء الوضوء وهذا ما يتناوله البحث تفصيلاً .

إسباغ الماء وأثره البيولوجي والفسيولوجي:

والأطباء والعلماء يعرفون قدر الماء وفائدته المتخصصة في المعالجة الطبيعيةHydrotherapy والماء يستعمل في علاج الحالات النفسية والعصبية من قديم وأول استعمال طبي له كان للهذيان واختلال الوعي الذي يصاحب ارتفاع الحرارة وهذا قبل أن تعرف الأعشاب المهبطة، والمصحات العقلية أول من يحرص على المعالجة بالماء والحمّام المائي من لوازم استقبال المريض العقلي إلى يومنا هذا، وهذا يساعد كثيراً في تخفيف حدة ما يعانيه مريض العقل من القلق والهياج والعدوان والاكتئاب والأرق، وطرق المعالجة بالماء كثيرة متقدمة في أنحاء متفرقة من العالم، ويوفرون لها أماكن متخصصة حسب نوعية الأمراض والأعراض هذا ما تحرص عليه من طرق المعالجات الأخرى فهناك الحمامات المستمرة continuos tubs والحمامات الساخنة والباردة Hot foments-cold baths jet sprays-fan douches needle-، وتستعمل كلها في علاج الأعراض النفسية والعقلية المختلفة، وتخفف حدة الأعراض التي تصيب المرضى من ضيق وتوتر وقلق وهياج ومخاوف وعدوان، واستعمال الماء من الأمور التي لا يزال العلم يبحث عنها ويجد فيها الجديد.

الآثار النفسية للوضوء:

والإسلام دين الفطرة يلزم بالوضوء قبل الصلاة ويلزم بالاغتسال في حالات الجنابة، وبعد انتهاء الطمث عند السيدات ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : " الطهور شطر الإيمان"، وإذا كان إسباغ الماء على الأعضاء قد حقق العلماء والأطباء بعض مفاهيمه النفسية ولا يزال العلم يجد فيها الجديد، فإن هناك من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ومن آيات القرن الكريم ما يعطي للوضوء قدراً آخر من الفائدة النفسية المتخصصة، فيقول الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: " إذا غضب أحدكم وكان قائماً فليقعد أو قاعداً فليتكئ أو عليه بالوضوء"، والغضب كلنا يعلمه حدة وشدة ورعونة وطيش وانفعال وعدوان، هذا هو مظهر الغضب إذا اشتعلت ثورته.

أما بيولوجيته وتفاعلاته الداخلية فتشترك فيها أجهزة الجسم كلها، يضطرب القلب ويسرع التنفس ويرتفع ضغط الدم ويزداد إفراز الأدرينالين ويكثر العرق ويصفر الوجه وترتعش الأطراف وترتجف الأعضاء هذه هي بيولوجية الغضب الداخلي.

ويتحدث الرسول الكريم عن عمق هذا المعنى في حديث آخر عن الغضب، فيقول صلى الله عليه وسلم عن الغضب وعن بيولوجيته الداخلية : " إن الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم".

وهذه فائدة الماء في عمومية نفعه يعالج أمراض النفس ومنها الغضب، وهذا هو الوضوء بخصوصية تشريعه يعالج بما فيه من إسباغ الماء، وليس هذا هو الدليل الوحيد في العقيدة عن علاج أمراض النفس بإسباغ الماء، بل إن هناك دليلا دامغا قوياً يحقق صدق فائدة الماء في علاج النفوس وما يعتريها من قلق أو هواجس ومخاوف واكتئاب، هذا الدليل من القرآن الكريم نفسه وما أنزله الله سبحانه وتعالى من آيات بينات تصف مخاوف المحاربين في موقعة  بدر فقد كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر، عدتهم قليلة وعتادهم أقل، يقابلون ألفاً اكتملت عدتهم وعتادهم وهي بلغة الحروب معركة غير متكافئة .

والمسلمون الأوائل لا يخافون الحرب ولا يهابون القتال، ولكنهم يخافون على الدعوة ويخافون على نبيهم ويخافون الهزيمة، وكان الخوف يداخل نفوسهم والهواجس تستبد بهم والقلق يؤرقهم فكان دعاؤهم واستغاثتهم وطلب العون من ربهم فعلم الله ما في نفوسهم فقال سبحانه وتعالى :

(إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدُكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم)(الأنفال:9-10)

ومع هذا التدعيم المادي كان هناك تدعيم آخر تدعيم نفسي ومعنوي تولاه ربنا سبحانه بعلمه وحكمته فقال تعالى :

(إذ يغشيكم النعاس آمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام)(الأنفال:11)

هذا هو التدعيم النفسي بنزول الماء أزال به مخاوفهم وربط على قلوبهم، وثبت أقدامهم على الرمال المتحركة تثبيتاً مادياً ومعنوياً  فهدأت نفوسهم واطمأنت بعد القلق والضيق والخوف  فكان النصر الذي تناقلته الجزيرة كلها، وما زال هذا التدعيم الإلهي بنزول الماء حديثاً متجدداً لا يمله الناس فهو قرآن يتلى حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

وهذا هو مفهوم العقيدة في عمومية فائدة الماء النفسية حققها العلم والعلماء والأطباء، يوضح فائدة الوضوء النفسية في خصوصية تشريعه، ولمجرد إسباغ الماء، أما المسح والتدليك على الأعضاء أثناء الوضوء فهو إضافة نفسية واضحة،فالمسح على الجلد وتأثيره النفسي لا يحتاج إلى جهد علمي في تفسيره فمن المعروف أن الجلد والجهاز العصبي ينشآن من نسيج واحد، ومن هنا كان المسح على الجلد يرتبط بالجهاز العصبي ارتباطاً مباشراً فتهدأ به النفس وتسترخي به العضلات وهذا واضح لنا جميعاً فنحن نمسح على رأس الطفل أثناء بكائه فيهدأ ونمسح على جسد الحيوان فيأنس ويستكين، وهذا ما أشار إليه قول ربنا سبحانه من قصة سليمان عن الخيل بعد أن توارت بالحجاب فقال:

(ردوها علىّ فطفق مسحاً بالسوق والأعناق)(ص:33)

وكان المسيح عليه السلام يمسح على جلد المريض فيبرأ صاحبه بإذن الله، ثم يأتي التدليك على الأعضاء، وهذا ما يشترطه الإمام مالك لصحة الوضوء وهو من طرق المعالجة الطبيعية Physiotherapy تسترخي به الأعضاء المتوترة وتنشط دورتها الدموية ويهدأ الناس هدوءاً واضحاً قد ينام بعده ملء جفونه.

هذه العمليات كلها تدخل في   ميكانيكية الوضوء وكلها مفاهيم نفسية تتكامل مع بعضها فهي سلسلة متصلة : من الحركة تسير كلها إلى مفهوم نفسي واضح.

تغير الحركة مع الوضوء بالمفاهيم السلوكية المعاصرة:

بقى في ميكانيكية الوضوء مفهوم نفسي جديد من مفاهيم علم النفس المعاصر هو مفهوم تغير الحركة، وتغير الحركة في الوضوء يحدث في حركة أعضاء الوضوء نفسها أو هو يحدث بوضوح كامل في حركات الصلاة بعد الوضوء، وتغير الحركة مفهوم أصيل عرفته المدرسة السلوكية بعد أن ارتقى العلم وعرف الطب وفروعه وعلم النفس وفروعه والطب النفسي الفسيولجي ، وخرجت المدرسة السلوكية بمفهوم جديد عن التوتر الفسيولوجي فقالت :إ ن العلة النفسية أو المرض النفسي إذا حدث فهو يصيب أعضاء الجسم بالشد والتوتر الفسيولوجي فإذا أ بعدنا هذا التوتر فان النفس تهدأ ولذا فهي تبعد هذا التوتر بتغيير الحركة أو تدريبات الاسترخاء السلوكية Relaxation techniques .

ننصح هؤلاء الذين شحنت نفوسهم بالضيق واجتمع عليهم القلق وأرقهم الهم ولم يجدوا الوقت لاستشارة الطبيب. هؤلاءوغيرهم تنصحهم المدرسة السلوكية لمجرد الاسترخاء بتغيير الحركة أمام جهاز " البيوفيدباك" وهو جهاز يقيس كمية الاسترخاء العضلي فإذا استرخت الأعضاء فإن النفس تهدأ وتطمئن وبالمداومة يصبح الاسترخاء سلوكاً .

وتغير الحركة هذا، هو ما يعالج به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثورة الغضب في أكبر تجمع لآفات النفس بتغيير حركة واحدة من القيام إلى القعود أو من القعود إلى الاتكاء ولا بد أن نشير هنا إلى مفهوم تغيير الحركة هذا يكتمل تماماً في حركات الصلاة، والوضوء لم يشرع إلا لصحة الصلاة، فالوضوء والصلاة متلازمان فلا صلاة بلا وضوء وحتى لو حدث الوضوء في غير وقت الفريضة فالرسول صلى الله عليه وسلم يرغّب في الوضوء والصلاة ركعتين بعد الوضوء من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم التي حث عليها كما ورد من حديث بلال، والعامة يتواتر ون الصلاة بعد الوضوء ولهذا يتكامل معنى تغيير الحركة بما في الصلاة من تغيير حركي أصيل، فالقيام والقعود يعالج الغضب، فما بالك    إ ذا تآلف مع القيام والقعود الركوع والسجود والخفض والرفع والقبض والبسط، إن هذا حقاً يصل إلى النفس بمفهوم تغيير الحركة بأبعاد متسعة شاملة، وهذا ما يظهر واضحاً في قول الحق سبحانه وتعالى في سورة المعارج وهو يستثني المصلين من آفات النفس:

(إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جذوعا وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون)(المعارج : 19-23)

إسباغ الماء وبيولوجية المعصية :

وإذا كان تغير الحركة لا يظهر واضحاً في الوضوء وضوحه في الصلاة فإن إسباغ الماء يحقق له ما يتسامى به من الناحية النفسية في تهدئة النفس فتتغير به ملامح ثورة الغضب تغييراً كاملاً حقيقياً .

وهذا الحديث إعجازه العلمي خارق فهو يشير على ما يحدث بداخل الجسم من تفاعلات الغضب وما فيها من بيولوجية مشتعلة ثائرة ففي الغضب تتغير كيماويات الدم(البلازما)وتنشط الغدد الصماء فيفرز الأدرينالين-ويترفع الضغط-ويسرع النبض-ويضطرب التنفس،ويتصبب العرق،وتتسع الأوعية الدموية،وتنتفخ الأوداج ، وتجحظ العينان،وترتعش الأطراف،وتهتز المفاصل.

هذه البيولوجية التي تحدث في الغضب هي ما يحدث في كل تفاعلات النفس بصورة متفاوتة، فهي تحدث في الأمراض النفسية عموماً وهي الآن حقل من حقول البحث المتقدمة فيمكن تسجيلها بما هو معروف Electrobiography ويستفاد بها في تشخيص الأمراض النفسية ومعالجتها ومتابعتها.

بيولوجية المعصية :

وبنفس هذه الملامح البيولوجية تتفاعل المعاصي والآثام والذنوب في نفس الإنسان، ويمكن تسجيلها وتحليل بيولوجيتها.

فالمعاصي ما هي إلا رغبات ونزوات وصراعات ملحة مستبدة طاغية فإن تحركت دون إشباع فهي أقرب إلى العلة النفسية، وإن لم تشبع فإن بيولوجيتها تقترب في حدتها مع بيولوجية الغضب، وتختلف الأعراض حسب قوة الدافع ومعوقات الإشباع، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعطي هذه الصورة البيولوجية للمعصية عموماً في حديث البر فيقول صلى الله عليه وسلم : " البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس".

ولهذا تشابه البيولوجيات كلها بما فيها من غضب وقلق ومخاوف وآثام ومعاص وتتفاوت حسب درجتها وحدة ما يتصارع في نفس صاحبها وكلها إذا حدثت وتفاعلت في النفس فهي تصيب أعضاء الجسم بالتوتر وتصيب النفس بالضيق وعدم الاطمئنان.

فإذا أُسبغ الماء على أعضاء الجسم فإن الماء يحقق الهدوء والراحة والاسترخاء بعمومية فائدته، ويحققه الوضوء في خصوصية تشريعه، ويتسامى الوضوء بما فيه من مسح وتدليك وتغير حركي في الأعضاء فتهدأ به النفس ويتحقق منه كل ما جاء عن المحو في الأحاديث الصحيحة المتواترة عن الوضوء ،وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لأصحابه : " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا بلى يا رسول الله  قال إسباغ الوضوء على المكارة وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط".

وعن أبي هريرة وعن عثمان بن عفان رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من توضأ فأحسن الوضوء، خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره".

معنى هذا الحديث بالبيولوجية العلمية أن الوضوء بما فيه من مسح وتدليلك وإسباغ الماء هدأت به الأعضاء وسكنت النفس واطمأنت الجوارح وتغيرت ملامح البيولوجية وتعادلت شحنات ما فيها من إفرازات الغدد الصماء ومع الإسباغ وتعميم الماء على الأعضاء يزول أثر ما في النفس من ثورات وانفعالات وصراعات وأثام، كلها تتفاعل في النفس فتهدأ النفس وتطمئن، ومع الاطمئنان تزول رواسب الغدد الصماء، وتخرج شحناتها مع الوضوء ومع قطرات الماء خروجا معنويا علميا بمفاهيمنا، أما بعلم الخالق فهذا له سبحانه وهذا هو المحو البيولوجي، فلم يعد هناك تغيرات في الدم تتفاعل في داخل الجسم حتى أنها وهي تمر من الشريان إلى الوريد في أكبر تجمع لهذه الشعيرات من تحت الأظافر أو من تحت الجلد مع قطرات الماء تمر متعادلة ليس فيها شحنات أو عوائق أو شوائب بيولوجية وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لعثمان بن عفان إن المعاصي والذنوب تخرج من تحت أظافر العبد مع الوضوء. أو من تحت الجلد في أكبر تجمعات للشعيرات الدموية .

ولعل هذا المعنى البيولوجي يلقي الضوء على كل ما جاء عن المحو من الأحاديث الصحيحة دون أن يحدد أبعادها أو يسبر أغوارها.

فالمحو البيولوجي ما هو إلا وسيلة إيضاح لما في علم الله من اتساع وإحاطة وشمول ورضي الله عن السيدة نفيسة فقد قالت عندما علمت بموت الإمام الشافعي : " رحم الله الشافعي فقد كان رجلاً يحسن الوضوء"وليس هذا انتقاصاُ من قدر علم الإمام، ولكنه تعبير عن اتساع علمه وفضله فقد عرف أسرار الوضوء فأجاده وأحسنه والإحسان في الوضوء إحسان للصلاة وإحسان للعبادات كلها.

فالوضوء وحده موسوعة نفسية وهو مدخل إلى الصلاة فإن لم يؤت الوضوء ثمرته فان الصلاة تكمله بنفس مفاهيمه ونفس فائدته، تمحو الخطايا كما يمحوها الوضوء، بل في اتساع وشمول وإحاطة وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لاصحابه : " أر أيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء قالوا لا يبقى من درنه شيء قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا". ولهذا كان إحسان الوضوء هو إحسان للصلاة نفسها فهما شعيرتان متتابعتان وكلاهما يسير إلى النفس بأعماق نفسية حقيقية صادقة وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من توضأ هكذا فأحسن الوضوء غفر له ما تقدم من ذنبه وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة .

وبهذا يكتمل المفهوم النفسي لأسرار الوضوء على قدر ما استحدثه البشر من علوم دون إحاطة تصل إلى حقيقة أعماقه وأبعاده، ولكنها محاولة للتنقيب عن جوهر السنة المطهرة وما فيها من كنوز وأسرار وهي شمعة على الطريق.وبالله التوفيق.


 الفصل السادس الدخول في الصلاة  وأسراره النفسية

ودين الإسلام لم يترك شيئا من تشريعاته إلا كملها وجملها، ومن هذا التكامل الجميل الدخول في الصلاة، فكل ما يسبق الصلاة من شعائر هو في حقيقته تحضير  لإقامة هذه الفريضة العالية القدر، فالوضوء والتوبة والدعاء كلها تسبق الصلاة وكلها من خصوصيات التحضير لها قبل الدخول فيها ثم يأتي أدب استئذان المصلي عندما يقرع باب رحمة ربه قبل أن يدخل إلى ساحة مناجاته فيتجه إلى القبلة، ويردد عبارات الأذان، دون أن يكررها، وفي سرعة دون إبطاء، وهذه صيغة الإقامة كما جاء في حديث جابر" إذا أ ذّنت فترسل في أذانك وإذا أقمت فأحدر" وهي بمثابة الاستئذان قبل أن يدخل المصلي في صلاته والأذان هو البداية، وهو النداء للإعلام بحلول وقت الصلاة، ويبدأ  الأذان بالتكبير وينتهي بالتهليل وكل مقاطع الأذان عبودية خالصة لله سبحانه فالعبارات كلها تدور في فلك العبودية، وفي فلك التوحيد الخالص، وهو أجمل وأصدق عبارات تعلن عن حقيقة ما تدعوا إليه . والأذان رمز لعظمة الله وعظمة دينه وعظمة الصلاة نفسها وعظمة ما تهدف إليه، مظهر الأذان جوهره دعوة إلى الهدى والفلاح " حي على الصلاة حي على الفلاح"ها قد حان وقت الصلاة، فعلينا أن نبادر فنتهيأ ونستعد ونترك ما في أيدينا، إلا أن يكون مصلحة عامة لا يجوز تأخيرها أو أمرا يتعلق بحياة إنسان، فهذه أمور يجوز أن تؤخر الصلاة من أجلها، وفقه العبادات يحدد ذلك ويوضحه الله أكبر الله أكبر من كل ما نحن فيه، الله أكبر من الدينا كلها ولو اجتمعت، أشهد أن لا إله إلا الله لا نعبد غيره ولا نركع لسواه.

فلنترك إذن  ما نحن فيه، فلا خير في عمل يشغلنا عن طاعة الله، ويبعدنا عن رحمته.

وكما أن للصلاة وما يسبقها وما يلحقها من شعائر أسرارا نفسية، فإن للأذان كذلك أسراره ولا يمكن للإنسان أن يحصي ما يختفي في جوهر العبادات من أسرار، ولكن هناك من الأسرار ما يمكن أن نصل إليه بمفاهيم العلم، عندما نتمسك بنصوص السنة، فالسنة المطهرة توصي من يستمع  إلى الأذان أن يردد مقاطعه كما يسمعها من المؤذن ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول  : " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد .. اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة  آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد " .

فإذا صدقت الاستجابة للنداء، وترك كل مسلم ما يشغله وما يعمله، دون مضرة تلحق به أو تلحق بغيره، إذا حدث هذا فإن أسرار  الأذان النفسية تتحقق، لمجرد قطع الأعمال، وتغيير السلوك، والأعمال تتفاوت أثناء سماع النداء، فمنها الحسن وما هو خير، فإذا قطع الأذان هذا العمل، فهو إلى الصلاة، وبهذا ينتهي العمل إلىما هو خير منه وأفضل، وهذا بلغه علم النفس تثبيت وتدعيم Reinforcement أما الأعمال السيئة، فان في انقطاعها أعظم فائدة سلوكية، فإذا كان الحديث أثناء الأذان غيبة أو نميمة أو سلوكاً غير حميد، فان النداء يقطع هذا السلوك، ويردد المستمع عبارات النداء ويصلي على النبي ويدعو له بالوسيلة والفضيلة ويستغفر ويتوب ولمجرد أن يفعل المسلم ذلك فإن الفائدة النفسية قد شملت وعمت، فقد انقطع العمل السيئ، وترك كل مسلم ما يشغله من لهو وتجارة وعبث، فإذا تكرر ذلك، فهذا يصل بمفاهيم المدرسة السلوكية إلى اضمحلال العمل السيئ وتلاشيه بطريقة التدرج السلوكي وهو ما يعرف Desenstization وبالمداومة على الصلاة، والمحافظة عليها تتحقق عملية أخرى سلوكية، وهي إعادة ارتباط السلوك السيئ بسلوك سليم قويم وهو  ما يعرف في المدرسة السلوكية بإعادة الارتباط Reconditioning وهذا ما انتهى إليه المفهوم النفسي لحركات الصلاة ،والأذان مدخل إلى هذا كله، فهو يؤدي دوره في قطع السلوك الذي يجب أن ينتهي الناس عنه، فإذا تكرر انقطاعه ضعف أثره، وأصبح تغييره أسهل وأيسر، وكانت هداية الله أقرب لمن يلتزم بأوامره وأيسر على النفس الملتزمة بطاعته وهذه مجرد إشارة لما يتحقق بالأذان من المفاهيم السلوكية المعاصرة، وهذا ما يشير إليه قول ربنا سبحانه من سورة الجمعة :

(يا أيها الذين أمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين)(الجمعة :9-11)

وإذا كانت الدعوة إلى نداء الجمعة خاصة، فهذا بخصوصية السبب، أما بعمومية التشريع، فإن النداء يتعدى الجمعة إلى الصلوات كلها .هذا بعض ما يتحقق من الأذان بمفاهيمه السلوكية إذا التزم المصلي بآداب السنة ومتطلباتها العملية وهو قليل نعلمه من كثير علْمه لله سبحانه، فإذا أقيمت الصلاة فهذا التزام بالدخول فيها، ومن آداب الدخول في الصلاة، أن يستشعر المصلي عظمة ربه، وأن يكون دخوله في الصلاة بنية الصلاة بمرتبة الإحسان في العبادة، وهي أعلى مراتب التصور بمفاهيم علماء النفس، وأعلى مراتب تركيز الانتباه بمفاهيم أهل اليوجا.

الإحسان في العبادة :

والإحسان من حديث جبريل الذي رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

وبمرتبة الإحسان تصل الصلاة إلى غايتها من الهداية والرحمة.

يقول الحق سبحانه في سورة لقمان:

(الم* تلك آيات الكتاب الحكيم* هدى ورحمة للمحسنين* الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالأخرة هم يوقنون* أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون)(لقمان:1-5)

وبهذه المرتبة العالية من الإحسان يرتفع الإنسان بتصوره العميق وتركيز انتباهه إلي مرتبة المراقبة من ربه فيراه مطلعاً عليه ويعلم سره ونجواه، وهذه حقيقة صادقة إنها صلة العبد بربه إذا أخلص وصدق

يقول ربنا سبحانه مدعماً موقف موسى وأخيه هارون في سورة طه :

(أذهبا إلى فرعون إنه طغى* فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى* قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى* قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى)(طه : 43-46)

فإذا بدأت العبادة بهذه المرتبة من التصور والاعتقاد فهي أولى درجات الخضوع لعظمة المعبود، فإذا خضع العبد خشع القلب وهذه درجة عالية من درجات العبادة الصادقة.

يقول سبحانه من سورة المؤمنين :

(قد أفلح المؤمنون* الذين هم في صلاتهم خاشعون)(المؤمنون : 1-2)

وبهذا الأداء المتميز تصل الصلاة إلى غايتها في تزكية النفس وتهذيب السلوك، ولهذا تستمر الآيات بعد ذلك تؤكد صدق هذا المعنى.

(والذين هم عن اللغو معرضون* والذين هم للزكاة فاعلون* والذين هم لفروجهم حافظون* إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين* فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون* والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون* والذين هم على صلواتهم يحافظون* أولئك هم الوارثون *الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون)(المؤمنون:3-11)

والإحسان في العبادة يبدأ مع المصلي عندما يدخل صلاته ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل في مرتبة الإحسان بمجرد أن يسمع النداء، وهذا ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمنا ونكلمه حتى إذا حضرت الصلاة فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه".

فقد كان إحسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيناً، فقد فرضت عليه الصلاة في حضرة ربه وفي ملكوته، وبهذا كان أقوى الناس إحسانا وأسرعهم استجابة.

وهذه خصوصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد عاش اليقين والإحسان معاً ولهذا فليس هناك أعظم درجة من إحسان رسولنا في صلاته، فقد كان أعلم الناس بربه وأشدهم منه خشية وهذه الدرجة من الإحسان يتفاوت فيها البشر تفاوتاً ملحوظاً كما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في " مدارج السالكين": " إ ن العبد يقف بجوار العبد في الصلاة، وما بين صلاتيهما كما بين السماء والأرض".

تكبيرة الإحرام " الله أكبر" أول مراتب الإحسان :

إ ذا قالها العبد فقد دخل في الصلاة وأقبل على الله، ,وأدبر عن كل ما سواه.

وهي مفتاح العبادة يقولها كل من يريد الدخول في الصلاة وبعدها يستفتح المصلي صلاته بما كان يستفتح به رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين  إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين  اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ، اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس،اللهم اغسلني من  خطاياي بالماء والثلج والبرد".

والإنسان في صلاته متعبد استأذن ربه ليقف بين يديه، فالرب سبحانه أمر بهذا، وها هو ذا العبد يجيب، وهو الآن في موقف من مواقف العبودية الصادقة، فهو في حضرة مولاه الذي يعلم سره ونجواه، وقد صدق العبد عندما قالها خالصة من قلبه، الله اكبر من الدنيا وما فيها ، الله اكبر وإن لم تره عيني فهو يراني الله أكبر فأنا مع ربي بقلبي وكياني بعقلي وفكري ووجداني .

" سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك".

من أسرار أم الكتاب:

أنت الآن مع ربك في لقاء ومناجاة ودعوة ورجاء، ولاشك أنك تريد أن تبدأ مناجاته بما يناسب عظمته وجاهه وسلطانه، موقف عسير أليس كذلك ؟ فلو وقفت أمام عظيم من أهل الدنيا تريد أن تسمعه أو تريده أن يستمع إليك، فإن كلماتك ربما تعثرت أو تبعثرت، وربما خانتك فلم تجدها أساسا على لسانك فما بالك مع رب  الأرباب وملك الملوك مع العظيم الأعظم،

هل تظل صامتاً ساكناً لا يتحرك لسانك ويتجمد كلامك من هيبة المقام وعظمة السلطان ؟أم تظل حائراً تبحث عن الكلمات والعبارات، وإن وجدتها فهل يناسب المقال المقام؟

مهما ملكت زمام اللغة وأحاط علمك بأساليب البيان-وأحسنت الصياغة وأحسنت الاختيار فلترقى بكلماتك إلى المعبود لتحقق غاية العبادة.

هذا كله وما هو أخفى منه قد علمه سبحانه عن عباده، علم ضعفهم علم قدرهم وأحاط سبحانه بما لم يحيطوا به، فلن ترقى كلماتهم لتصل إلى كمال المعبود، ولهذا اقتضت حكمته ومشيئته وعلمه أن تكون العبارات التي نتعبد بها من كلامه ومن آيات قرآنه.

إنها رحمته سبحانه أدركت عباده فكانت أم الكتاب آيات محكمات، يناجي بها المصلي ربه، يحمده ويمجده، ويدعوه ويرجوه ويسأله الهداية منفصلة.

الآيات سبع من المثاني والقرآن العظيم كلمات من كلام رب العالمين، لو كان البحر مداداً لمعانيها لنفد البحر قبل  أن تنفد الكلمات.

كلمات وآيات وصف ربنا بها نفسه، وأحاط بمدلولها ومكنونها فهي أصدق حديث وأجمل قول  صاغها بعلمه ورتبها بحكمته واستودعها جوهر عبادته-وترك للعبد أن يتعبد بها فإذا صدق في عبادته وأحاط بمدلولها ومعانيها  يكون الجزاء، فليست هي كلمات جوفاء  يرددها المتعبد ترديد الببغاء،أُمُّ الكتاب آيات تتآلف وتتعانق وتتسامى وتحيط وتتسع لتصل إلى حقيقة العبادة فهي أجمل كلام يقوله المتعبد في حضرة المعبود.

اختارها الله سبحانه لتحيط معانيها بجلاله وكماله، ولتحيط بأبعاد عظمته وقدرته وهيمنته وسلطانه.

ولو أراد العبد أن يردد غيرها في مقام العبادة، لظهر ضعف العباد أمام قدر المعبود.

ولهذا كانت أم الكتاب من الله وإلى الله أروع ما في القرآن من إيجاز وإعجاز، يقرأ المصلي ويتصور عظمة ربه بما تحمله الآيات من معانيها الواضحة، ومن مطلق الحكمة وكمال العلم أن تكون أم الكتاب موجزاً متكاملاً لما في القرآن كله، وبهذا عظمت أم الكتاب وخفيت أسرارها، وثقلت موازينها عند الله سبحانه.

إذا أراد العبد أن يحيط بمعنى آية منها فلابد أن يسترجع القرآن كله .

فإذا بدأ بالبسملة فقد بدأت بأول آية فيها كما يقول بعض أئمة الأداء، ولكن الجمهور يقول " الحمد لله " هو أول آيات أم الكتاب، ولهذا فقد سميت سورة الحمد وللقارئ أن يجهر بالبسملة أو يسر بها في نفسه ولكن لابد أن يبدأ بها وألا ينسى الاستعاذة في بداية القراءة .

وأم الكتاب أعظم آيات القرآن قدراً ومكانة فإذا تدبرت قراءتها، صدقت في العبادة.

الحمد لله رب العالمين

ينطق بها اللسان ويصدقها القلب فهي قمة الرضا وقمة الثقة في  عدله والرضا بقضائه الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه .

فالمكروه منه عدل، وصبرنا عليه نعمة منه وفضل، واحتسابنا له أجر وجزاء،يقولها الذي أنعم الله عليه شكراً وحمداً، واعترافا ً بنعمته وتقديراً لإحسانه، ويقولها الذي ابتلاه فقدر عليه رزقه دعاءً ورجاءً وصبراً وثباتاً فالحمد لله على كل حال.

الحمد لله يقولها العبد الذي ابتلاه ربه فزاده من فضله ورزقه من الطيبات، ويقولها الذي ابتلاه ربه بنقص من المال والأنفس والثمرات، فالحياة عند الله ابتلاء.

(فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن* وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن)(الفجر:15-61)

كلا .. إ نهما عند الله سواء، ولكنها حكمته وعدله، أما فضله، فيصيب به من يشاء، نحمدك الله  فنحن عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك نواصينا بيدك ماض فينا حكمك عدل فينا قضاؤك فلا يحمد على النعمة إلا أنت ولا يحمد على المكروه سواك.

فإذا صدقت كلمة الحمد من العبد يقول الرب سبحانه لملائكته : " حمدني عبدي".

الرحمن الرحيم :

ومع ما نحن فيه من شدة وكرب أو محنة وخطب، ومهما كان من أمر دنيانا، أقبلت أم أدبرت، ضاقت أم انفرجت مهما كان أمرها معنا وأمرنا معها ، فهي رحمتك تصيب بها من تشاء من عبادك فالرحمة منك وإليك وأنت أرحم الراحمين .(الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين أمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فأغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم)(غافر :7)

فعلمك بنا وإحاطتك بأحوالنا ما يصلحنا وما يفسدنا-رحمتنا به من أنفسنا فحبست عنا نعمة تنسينا، وزويت عنا جاهاً يطغينا، وحرمتنا عافية لو بقيت لكانت مصدر هلاك لنا في ديننا ودنيانا أو مصدر شقاء لنا في أخرانا-فكل ما نحن فيه بفضل رحمتك يا أرحم الراحمين برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا لأنفسنا طرفة عين.

(قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)(الأعراف:23)

فإذا قالها العبد موقناً بها قال الرب سبحانه :" أثنى علي عبدي".

مالك يوم الدين:

قمة التمجيد لله الواحد سبحانه وقمة التعظيم لجلاله، فقد ملك سبحانه الدنيا والآخرة لا ينازعه أحد من خلقه وها هو ذا  رب العزة  سبحانه يملك يوم الدين ملكاً خاصاً لا ينازعه فيه أحد.

(يوم هم على النار يفتنون* ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون).(الداريات:13-14)

(يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً)(آل عمران : 30)

(ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً يا ليتني لم أتَّخذ فلاناً خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً)(الفرقان:27-29)

(يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليمٍ)(الشعراء:88-89)

(اليوم تُجزى كل نفس بما كسبت لا ظُلم اليوم إن الله سريع الحساب)(غافر:17)

(اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون)(يس:65)

(يوم لا تملك نفسٌ لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله)(الانفطار:19)

سبحانك ربي ملكت الدنيا والآخرة، وهذا يوم الدين يوم الفصل جمعناكم والأولين.

(لمن الملك اليوم لله الواحد القهار)(غافر:16)

فإذا قال العبد " مالك يوم الدين" قال الرب(مجدني عبدي)

إياك نعبد وإياك نستعين:

موقف عبودية واستكانة، وموقف ضراعة ودعاء فأنت المعبود يا الله وأنت المسؤول يا الله فلا نعبد غيرك ولا نسأل سواك أنت الأول بلا بدايةوأنت آخر بلا نهاية، فأنت وحدك المسؤول وأنت وحدك المستعان لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك تبرأنا ممن استعان بغيرك أو عبد سواك : فإذا قالها العبد.

قال الرب سبحانه:"هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل".

أهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين:

    دعاء خالص واعتراف مطلق بأن الهدى هدى الله .

سبحانك لا هادي إلامن هديت لا ضال ا لا من أضللت.

اهدنا كما هديت من سبقونا إلى طاعتك وإلى صراطك المستقيم أهدنا كما هديت عبادك الصالحين.

اهدنا كما هديت من أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ونسألك يا ربنا أن تبعدنا عن صراط الذين غضبت عليهم فضلوا ولم ينعموا برضوانك ولم يسعدوا بمغفرتك.

اللهم صراطك المستقيم اهدنا إليه وقربنا منه فإذا قالها العبد قال الرب :" هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " .

حقاً إنها أم الكتاب إ يجاز وإ عجاز:

الآية منها إذا تدبرت معانيها تتسلسل المعاني وتتداعى بمفاهيمها وحقائقها لتصل إلى ترابط الآيات كلها في نسيج واحد فإذا قرأت الآيات كما أحكمها الله، فإن المعاني تتلاحق وتتشابك بما هو أعمق وأكمل وأشمل، فإذا أردت أن تستجمع معاني أم الكتاب فلن تصل إلى مرادك أبداً إلا إذا استجمعت القرآن كله، هذه حقيقة أم الكتاب آياتها موجز رباني لما في القران كله من تفاصيل فهي حقاً أم الكتاب جمعت فأوعت وليس هذا فحسب، بل إن الآية الواحدة لو تأملناها وتدبرناها نجد أن كل آية منها موسوعة عقائدية تسير بك إلى حقيقة المعبود، وتسير بك إلى حقيقة التوحيد، وتصل بها إلى حقيقة العبادة وصدق العبودية لله، فإذا تلوت أي آية منها بعيداً عن بقية الآيات لمجرد التدبر دون تعمد، فهي تقودك إلى الآيات مجتمعة، فإذا تدبرنا قول ربنا سبحانه:(مالك يوم الدين) وأردنا أن نتحقق من إحاطة المعنى فإن الآيات تتسلسل معك في سهولة ويسر، فمن الذي يملك يوم الدين؟إنه المعبود الحق الذي نعبده والذي نستعين به(إياك نعبد وإياك نستعين) فإذا كان هو المعبود فهو الذي نطلب منه الرحمة، فهو(الرحمن الرحيم) وهو الذي نسأله من فضله، لأنه يملك ويرحم فنسأله الهداية، (أهدنا الصراط المستقيم)، فإذا كان هو الهادي أليس هو المحمود (الحمد لله رب العالمين).

فهل بقى بعد تسلسل هذه المعاني آية واحدة لا تشير إليها(مالك يوم الدين) فإذا أردنا أن نتسلسل بالمعاني من نهاية أم الكتاب، دون أ ن نقصد القراءة(فهذا لا يجوز أصلاً)أن نقرأ الفاتحة بغير ترتيب من البداية إلى النهاية .

فإذا دعونا(أهدنا الصراط المستقيم) تداعت معانيها لتصل إلى تسلسل الآيات كلها ، فالله سبحانه وتعالى الذي نطلب منه الهداية هو المسؤول والمستعان وهو الهادي الذي يهدي الناس، وإذا كان هو الهادي فهو الرحمن الرحيم الذي أنقذك من الضلال، وهو الرب – رب العالمين – وهو الذي يملك الدنيا والدين سبحانه وتعالى عما يشركون، فهل بقي من الآيات آية واحدة لا تشير إليها ولا تتسلسل معها لتصل إلى تكامل الآيات كلها حتى إنه إذا تداعت معك البسملة نفسها وهي آية من الفاتحة عند بعض الأئمة – فقرأت بسم الله الرحمن الرحيم، فهي وحدها تسير بك إلى كل المعاني التي تحتويها آيات الفاتحة،فإذا ذكر الرحمن فهو الرحيم،وهو المعبود وهو مالك يوم الدين وهو المسؤول المستعان وهو الذي نطلب منه الهداية.

هذه حقيقة أم الكتاب لمن أراد أن يتدبر بعض أسراره-فهي أم تحتضن آيات الكتاب كلها، فإذا تدبر المصلي آيات  الفاتحة، فهو يستجمع كتاب ربه كاملاً ليصل إلى معنى الآية تستجمعه من الكتاب كله، والآيات مجتمعة هي الكتاب في تكامل معانيه، هذه حقيقة أم الكتاب إيجاز وإعجاز.

مظهر التلاوة وطريقة الأداء:

ومن كمال الإعجاز أن يحقق مظهر التلاوة وطريقة الأداء ما يحققه جوهر التلاوة، بل إن جوهر التلاوة وتدبر آيات أم الكتاب لن يتحقق إلا إذا استوفى المصلي طريقة تلاوتها وحسن أدائها النبوي الذي لم يترك لنا أن نقرأ القرآن اجتهاداً ولكنه ألزم بحسن التلاوة وجمال الأداء، وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءة أم الكتاب، أنه كان يقرأ الفاتحة آية آية  يقف على راس كل آية ويمد بها صوته أي أنه يشبع المد العارض للسكون.

الحمد لله رب العالم ي ي ي ي ين.

الرحمن الرح ي ي ي ي يم.

ويجوز للقارئ أن يقصر المد إلى حركتين أو يتوسط بأربع أو يشبع بست حركات والحركة بمقدار قبض أو بسط الإصبع، فإذا وصل إلى كلمة الضالين، كان فيها مد لازم بمقدار قبض أو بسط الإصبع، فإذا وصل إلى كلمة الضالين كان فيها مد لازم بمقدار ست حركات في الألف بعد الضاد وقبل اللام المشددة،ومد الياء قبل النون الساكنة من كلمة الضالين عند إشباع العارض للسكون.

هذه قواعد الترتيل في أم الكتاب،ليس فيها بعد ذلك إلا أن يستوفي المصلي كيفية نطق الحروف من مخارجها ولا ينسى القارئ أن الغين(غ) والضاد(ض) حروف استعلاء(تفخيم) وهذه قراءة حفص ووصل آيات الفاتحة لا يصل به المصلي على تدبر المعنى كاملاً لأن كل آية موسوعة عقائدية وحدها فالوصل صحيح في مقام العبادة، ولكنه لا يصل إلى صدق الفهم  وكمال التدبر فالاتفاق في قراءة أم الكتاب هو الوقوف على رؤوس الآيات، والصلاة صحيحة بفضل من الله إذا قرأت أم الكتاب صحيحة، ولكن صحة الصلاة ليس معناه إجادتها وتمامها، ويتفاوت أجرها عند الله حسب الإجادة والكمال معاً.

هذه القراءة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفس هذا الأداء المتميز تحقق فائدة نفسية واضحة، وهو تنظيم التنفس بالتدريب الإيقاعي Breathing Excercises .

وأول من تحدث عن تنظيم التنفس الإيقاعي بترديد فقرات إيقاعية منغمة هم خبراء رياضة اليوجا عندما ألزموا المريض أن يردد أثناء تدريبات الجسم كلمات هرووووومم هري ييييي م م هر آآآآ م م . وأخذ عنهم أستاذنا الدكتور محمد زكي سويدان في كتابه الصلاة صحة ووقاية وعلاج، وقال : إن قراءة أم الكتاب تحقق تنظيم التنفس . وقال إن في أم الكتاب ما يقرب من عشرين مَداً  هي التي يحدث بها تنظيم التنفس وتحقق بمفاهيم الصحة الجسمية القوة والنشاط، ولكن المدرسة السلوكية المعاصرة التي أخذت عن اليوجا تحقق فائدة أخرى بمفاهيم علماء النفس ويقولون إن تنظيم التنفس يبعد الشد والتوتر عن الأعضاء، ويحقق للنفس اطمئنانها وراحتها، وبهذا تستقر المفاهيم على قراءة أم الكتاب بمفاهيم الصحة الجسمية تحقق القوة وتجدد النشاط وبمفاهيم الصحة النفسية تبعد الشد والتوتر عن الأعضاء، وهذه إضافة جديدة بمفاهيم علماء المدرسة السلوكية المعاصرة.

وتصبح القراءة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم محققة لهذه الفائدة الجسمية والنفسية معاً.

فقد كان رسول الله صلى الله عيه وسلم يقف على راس كل آية ويمد بها صوته، فإذا انتهى إلي كلمة الضالين كان هذا كافيا أن يخرج ما في صدره من زفير يستنشق بعدها شهيقاً كاملاً ممتلئاً، ويتحقق هذا بما ذكره الإمام ابن القيم في " زاد المعاد" بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له وقفة بعد قراءة الفاتحة بمقدار ما يتراد إليه نفسه، ، ولم يقل لنا صلى الله عليه وسلم إن أم الكتاب تستوفي تنظيم التنفس ولكنه  ألزم بقراءتها في الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب".

وقال ﷺ‬ كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج فهي خداج"

هذه بعض أسرار أم الكتاب لا يمكن أن نصل إلى أبعادها أو أن نسبر أغوارها ومن أسرارها العظيمة دعوة مستجابة .

فما حقيقة هذه الدعوة ؟إنها الصراط المستقيم، إنها تلاوة القرآن الكريم.

من أسرار أم الكتاب الدعوة المستجابة :

وفيما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله تعالى:" قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال الرحمن الرحيم قال الله سبحانه " أثنى علي عبدي " وإذا قال مالك يوم الدين قال " مجدني عبدي" وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل".

وهذه الاستجابة من المعبود لعباده جميعاً  حقيقة صادقة واضحة لا تتأخر لحظة، فماذا بعد تلاوة أم الكتاب أليست هي تلاوة الكتاب نفسه والسنة المطهرة توضح ذلك ؟

وقد كان رسول الله ﷺ‬ يقرأ القرآن كله في الصلاة لا يفضل آية على آية، ولا يفضل سورة على سورة، ولكن ما روي عنه ﷺ‬ أنه لم يترك سورة واحدة من المفصل طويلة أو قصيرة إلا وقرأها في الصلاة، وكان يطيل القراءة أحياناً وقد يتوسط فيها أو يقصرها حسب ما يرى من أحوال الناس، وكان يدخل في الصلاة يريد إطالتها فيسمع بكاء الطفل فيتجوز فيها رحمة بأمه هذا هو هديه ﷺ‬ وما اشتهر عنه.

وما هو معلوم من الدين بالضرورة لكل مسلم أن القرآن هو الصراط المستقيم وهو النور المبين، وهو حبل الله المتين، عصمة من تمسك به، ونجاة من اتبعه، لا يعوج فيقوم ولا يزيغ فيستتب ولا يخلق من كثرة الرد.

يقول سبحانه :(وأن هذا صر اطي مستقيما فأتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلك وصاكم به لعلكم تتقون).(الأنعام : 153)

ويقول سبحانه من سرو ة المائدة :(يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين* يهدي به الله من أتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم)(المائدة : 15-16)

ويقول سبحنه من سورة فصلت :

(إن الذين كفروا بالذكر لما جاء هم وإنه لكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)(فصلت : 41-42)

هذا القران هو دستور الحياة كلها الهادي إلى الطريق المستقيم . فإذا قال العبد اهدنا الصراط المسقتيم كانت استجابة الدعاء في التو واللحظة هداية من الله لعباده،وهو قرآن كريم ،يرتله بعد أم الكتاب فهو الصراط المستقيم الذي يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور، هذه هي الاستجابة، هذه هي الهداية وهذا هو الطريق المستقيم.

ولهذا كانت كلمة آمين اصدق ما تكون استجابة بعد قراءة الفاتحة في الصلاة فكل من قال آمين،هُدي إلى الصراط المستقيم، هداية دلالة، فالقرآن الكريم هو الهادي إلى الخير وإلى الطريق المستقيم .

يقول سبحانه :

(وأن هذا صرا طي مستقيماً فأتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلك وصاكم به لعلكم تتقون)(الأنعام : 153)

ويقول سبحانه :

(إن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراًَ)(الإسراء : 9)


 الفصل السابع تلاوة القرآن في الصلاة وأسرارها النفسية

والقرآن الكريم هو الصراط المستقيم وهو حظ كل مصلٍ من دعائه " اهدنا الصراط المستقيم " إنه طريق الهداية، وهو الصراط المستقيم " لأنه طريق الهداية، وهو الصراط المستقيم وطريق الخير إلى كل نفس، والقرآن يقرأ في الصلاة مناجاة ويقرأ ذكراً ودعاء ويقرأ تعظيماً وتمجيداً ويقرأ حمداً وثناء، ويقرأ خشوعاً وخضوعاً، ويقرأ خوفاً ورجاءً ويقرأ ترغيباً لقول الحق سبحانه :

(الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثانى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يُضلل الله فما له من هادٍ)(الزمر:23)

ويقرأ القرآن، في الصلاة سراً وجهراً .

(ولا تجهر  بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً)(الإسراء : 110)

والقرآن يقرأ في غير الصلاة تعلماً ومدارسة.

يقول الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم : " ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم .. إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده"([1])

ولقوله سبحانه :

(إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين* وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين)(النمل:91-92)

وتدبر القرآن عبادة لقوله سبحانه:

(أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)(محمد : 24)

[2]ومهما تدبر قارئ القرآن، فالتدبر في الصلاة أقوى وأعمق فالمصلي يتعبد بقراءته وهو في منزلة الإحسان من ربه، فيجتمع عليه حلاوة القراءة وصدق العبادة، ولهذا فإن القرآن في الصلاة، قمة العبادة، وهو مضاعف الأجر يقول سبحانه:

(إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فأقرؤوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فأقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً واستغفروا الله إن الله غفور رحيم)(المزمل:20)

فالمصلي بالقرآن مع ربه يراه في خلْقه ويراه في ملكوته، ويراه في سمائه ويراه في أرضه، ويراه في علمه، وحكمته، ويراه في عدله وفضله، ويراه في عظمته وسلطانه، ويراه في عفوه وانتقامه، ويراه في رحمته وجبروته.

والقرآن يتلى في الصلاة في كل ركعاتها، فأنت بالقرآن وبالصلاة في لقاء مع الله ، وأنت معه بكلامه مع تعاليمه وتشريعه تستمع إلى إرشاده وتوجيهه، تتعلم أمور دينك وتحيط بأحوال دنياك، تتعلم الحلال والحرام، فتأتمر بأوامره، وتتحصن بمواعظه وآدابه، إنه دستور الحياة كلها، يصل إليك من خلال كلام ربك، فيستقر إيمانك ويكتمل اطمئنانك.

(قل نزلـه روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهُدى وبشرى للمسلمين)(النحل:102)

فإذا انتهيت إلى ختام صلاتك، كان جلوسك للتشهد الأخير ولا زلت في مرتبة الإحسان من عبادتك فتعرج بروحك إلى سماء ربك لتشاهد عظمة اللقاء لقاء محمد صلى الله عليه وسلم بربه عندما فرضت عليه الصلاة وعبارات التشهد تفرض عليك أن تصعد بفكرك وعقلك ووجدانك وبإحسانك وإيمانك تشهد الموقف.

التحيات لله والصلوا ت والطيبات

السلام عليك أيها النبي ورحمة لله وبركاته

السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين

اشهد أن لا اله إلا الله واشهد أن محمدا عبده ورسوله .([3])

وهنا تتحقق من عبودية نبيك وبشريته، فلا سيادة في هذا المقام إلا لله وحده، إن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم نال الشرف كله لصدق العبودية في نفسه وهذا أسمى مراتب التشريف.

حقاً أيها القارئ الكريم إن الصلاة معراج المسلم، وإنها في صدق أدائها صلة بين العبد وربه، وما أعظم اللقاء و ما أعظم الجزاء!

والجزاء على قدر إتقانك، وعلى قدر إحسانك يكون أنسك بربك واطمئنانك في جنابه.

فإذا تدبرت قراءة  القرآن وأحسنت الأداء، فقد فهمت المراد وأصلحت الفؤاد، و إذا نقرت الصلاة نقر الغراب، فقد جهلت الطريقة وابتعدت تماما عن الحقيقة، وهذا مالا ينبغي أبداً لقارئ يصلي بين يدي ربه أن يفعله، ففي هذا الموقف يصل كلام الله إلى عقلك وقلبك، ويملك عليك زمام حسك ووجدانك ويصل إلى أعماق كيانك، ولهذا فالإنسان أكثر ما يكون تدبراً لكلام الله في صلاته.

وفي هذا المقام يخاطب ربنا سبحانه عباده جميعا، كل على قدره وعلى قدر تفاوت درجاتهم في العلم والمعرفة تصل معاني القرآن الكريم إلى مفاهيمهم، والقرآن يصل إلى الناس جميعاً، يخاطب العقل والوجدان.

يقول الله سبحانه :(ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر)(القمر : 17)

العالم يقرأ أو يستمع فيغوص بعلمه في بحار الحقيقة التي لا شاطئ لها ولا  حدود تنتهي إليها، فيسترجع قول ربه خاشعاً .

(ويسألونك عن الروح قل الروح من  أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)(الإسراء(85)

ويعلم يقينا أن فوق كل ذي علم عليم.

(قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً)(الكهف:109)

يستمع الأمي الذي لم يتعلم ولم يكتب ولم يقرأ، فيخشع قلبه وتهدأ نفسه، وتتحرك عواطفه، وتفيض عيناه.

(كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً)(الإسراء:20)

وربنا سبحانه بعزته ورحمته واتساع حكمته، قد أمدّ كلامه بهذه الأسرار المتسعة ليصل إلى كل نفس على قدرها، وينتهي إلى القلب فيخشع ويخضع ويسكن ويطمئن كل إنسان حسب طاقته وحسب نورانيته في استقبال كلام ربه.

وصدق ربي سبحانه وهو يقول في محكم آيات كتابه من سورة الرعد:

(الذين أمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)(الرعد:28)


اطمئنان النفس بتلاوة القرآن

واطمئنان النفس بتلاوة القرآن الكريم قضية محسومة مؤكدة حسمها قول الحق سبحانه من سورة الرعد:

(الذين أمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)(الرعد : 28)

هذا جوهر القرآن

، وهذه أسرار ه واضحة صريحة.

والقرآن كلام الله سبحانه وهو صفة من صفاته، وكل صفات الله تصل إلى الكمال وتنتهي بمقاصدها إلى مطلق الحكمة وكمال الإحاطة والعلم، فإذا انتهى جوهر التلاوة إلى الاطمئنان فإن مظهر التلاوة وطريقة الأداء والالتزام بآداب القراءة المتواتر يصل إلى اطمئنان النفس كما يصل إليه جوهر التلاوة لا يختلف ولا ينحرف، فتنتهي بفضل من الله وحكمته إلى اطمئنان النفس وهدوء المشاعر واستقرار العاطفة وسعادة الوجدان .

هذه حقيقة ما ينتهي إليه مظهر التلاوة، وطريقة الأداء بأحكامها الصحيحة، وقراءة القرآن لا تصح إلا ترتيلاً، ولا يجوز لأي قارئ أن يقرأ كلام الله من المصحف كما يقرأ صحيفة عادية، بل هو صحف مكرمة مرفوعة مطهرة لها طريقة أداء وآداب تلاوة، ولابد للقارئ الذي يريد أن يقرأ كلام الله أن يشافه بقراءته عالماً صحيح القراءة ممن تلقوا القراءة بسندها المتواتر عن شيخه ويتواصل سندها حتى يصل إلى نافع شيخ القراء، ثم تستمر متصلة السند حتى تنتهي إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم جميعاً أمثال زيد بن ثابت وأبيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وينتهي السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تلقاها عن جبريل عليه السلام عن رب العزة سبحانه.

ولهذا فليست التلاوة قراءة عادية ولكنها قراءة لها قواعد وضوابط  وآداب متبعة وأول ما يبدأ به المتلقي لكتاب الله أن يتعلم من شيخه مخارج الحروف بالمشافهة وأن ينطق الحرف من مخرجه الطبيعي حتى تكون القراءة خالية من عيوب النطق أو عيوب الكلام، ثم تأتي القراءة بنظامها المتميز بما فيه من غنة وإخفاء وإظهار وإدغام وإقلاب وإشمام وروم وبما تحمله من نظام المد المنفصل والمتصل و ا لمد العارض للسكون، وحركة المد مقننة لها وقت مضبوط لا تزيد ولا تنقص عنه، وهو بمقدار قبض أو بسط الأصبع ثم هناك آداب الوقف والابتداء وهي من أهم ما يجب أن يتعلمه القارئ تأدباً مع كلام الله وحفظاً لحقه ومعناه .

ومن الأمثلة الواضحة لذلك من كلام الحق سبحانه عن لسان الشيطان :

(ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمونِ من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم)(إبراهيم : 22)

فلا يصح الوقف على كلمة إني كفرت ولا حتى الابتداء بها، وهذه مجرد إشارة لما يقع من أخطاء شائعة لا ينتبه إليها القارئ المبتدئ.

والوقف له آدابه المتبعة، ومع أن الوقف ليس توقيفاً إلا على رؤوس الآيات إلا أن المصحف قد حدده، ونظمه باجتهاد علماء الأداء والفقهاء والمفسرين ولهذا كان الالتزام بها اضمن لسلامة القراءة .

هذا هو مظهر التلاوة وطريقة الأداء التي يجب أن يلتزم به القارئ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خير من التزم بأصح الأداء فقد تلقاه صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن رب العزة سبحانه ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس قراءة وأنداهم صوتا، وكان يقطع قراءته فلم تكن قراءته هذرمة ولا عجلة ولكنها كانت مفسرة حرفاً حرفاً يقف عند رأس كل آية ويتنفس عندها .

هذا الأداء القرآني المتميز ليس فيه مشقة على أي مسلم يريد أ ن، يتعلم تلاوة كتاب الله فبمجرد العزم والإرادة والنية الصادقة يأتي فضل الله سريعاً لا يبطئ فقد يسر الله قراءته وكلامه على كل من يريد أن يصل إلى تعلمه ومدارسته يقول سبحانه:

(ولقد يسرنا  القرآن للذكر فهل من مدكر)(القمر:32)

أما من يقرؤون من المصحف أو يستمعون إلى المرتل من أجهزة التسجيل دون أن يجلسوا إلى معلم أجيزت قراءته فلن يصل هذا بهم إلى تعلم القراءة الصحيحة ولو أنفقوا أعمارهم كاملة .

فلابد من التلقي والمشافهة، وهذه هي طريقة التعلم الصحيحة لتلاوة القرآن بأصوله  المتواترة .

وبهذا الأداء السليم لقراءة القرآن الكريم يجنى المصلي والقارئ والمستمع ثمرة ما يتحقق من القراءة، وما يصل إلى نفسه من الاطمئنان وما يتحقق له من استقرار العاطفة وسعادة الحس والوجدان فكيف يتحقق ذلك ؟


مظهر التلاوة وأسراره النفسية

ومظهر التلاوة أو طريقة الأداء بالترتيل القرآني لم يتعرض للدراسة العلمية إلا من وقت قريب، فالناس في الماضي لم يشغلوا أذهانهم بمثل هذه الدراسات فقد عرفوا أن التلاوة ذكر وأن الذكر هو الاطمئنان والسكينة وراحة النفس وسعادة الحس والوجدان .

ومن قريب ونحن في عصر العلم تعرض كل شيء للإيضاح العلمي وأخذ الإعجاز العلمي والطبي للقرآن الكريم حظه بلغة العصر حتى وصل ذلك إلى الأداء القرآني وإلى مظهر التلاوة وتعرض هذا الأداء القرآني إلي التحليل العلمي .

ومع أن الأداء القرآني متواتر بسنده وهو توقيفي لا يتغير ولا يتبدل وكل ما هومن الله له حكم عظيمة وفوائد جليلة سواء عرفناها أو لم نعرفها، حققها العلم أو لم يحققها ومع ذلك فقد اقترب العلم المعاصر وفتح لنا نافذة تطل منها على أسرار التلاوة بمظهرها وطريقة أدائها وهو ما يعرف بعلم التجويد ، وهو ما يصل إلينا متواتراً عن طريق علماء القراءة وأئمة الأداء الذين حفظوا هذا العلم وأجادوه وهذا ما يتحقق به الإيقاع والتنغيم وتتميز به القراءة الصحيحة .


الإيقاع والتنغيم وأسراره النفسية

ويتحقق الإيقاع والتنغيم في تلاوة الكتاب الكريم عندما يستوفي القارئ قواعد التلاوة وأصول الأداء السليم بما فيه من غنة وإخفاء وإدغام وإقلاب، وما فيه من المد بأنواعه، المد الطبيعي والمد المنفصل والمتصل والمد اللازم والمد العارض للسكون وما في التلاوة الصحيحة من آداب الوقف على رؤوس الآيات، وأنواع الوقف الحسن والجائز والوقف اللازم، والوقف والابتداء من آداب التلاوة التي يتحقق بها حسن الأداء .

هذا الأداء القرآني بأحكامه الصحيحة هو ما يحقق التنغيم والإيقاع المتعارف عليه وهو الذي يعطي للقراءة جمال النغم وانسجام الإيقاع، ولابد أن تكون القراءة بقواعدها المتواترة الصحيحة وهذا هو الفارق الكبير بين الأداء القرآني وبين لحون البشر ومن الغريب الذي تلاحظه أن الأداء القرآني السليم يحسّن صوت القارئ إذا لم يكن جميل الصوت وتصل القراءة الصحيحة السليمة إلى الأسماع حسنة مقبولة تؤدي فائدتها دون تفاوت، وهذا يظهر بصورة أوضح في قراءة الإمام في الصلاة لأن المصلي يستقبل كلام ربه استقبال عبادة أما في غير الصلاة فيستقبله استقبال طرب، والإيقاع والتنغيم الذي يستقبله المستمع لكتاب الله تناوله الأستاذ الدكتور سويدان فىكتابه " الصلاة  صحة ووقاية وعلاج " نقلاً عن مفاهيم اليوجا فقال إن الهنود توارثوا فائدة الإيقاع والتنغيم من العبادات القديمة قبل عصر العلم، وفي عبادة اليوجا بالذات أثناء ترديد المانترات التي تمجد الشمس ولما انقرضت العبادة جعلوه في رياضة اليوجا في كلمات هرووووم م هر ي ي ي ي م م تقال بالمد والتنغيم ثم جعلوه بعد ذلك في غنائهم، ولعل هذا ما يتميز  به الغناء الهندي إلى اليوم من التنغيم مع رعشة الصوت وتردده وإطالة المد .

هذا الأداء يصل عن طريق النطق والكلام، لأن الهواء الذي يخرج مع الزفير يمر على الحنجرة فيحدث ذبذبة في أحبال الصوت ،هذه الذبذبة تتردد في الهواء بموجات صوتية وتصل إلى الأذن وإلى عظام الجمجمة وإلى الجهاز العصبي ومنها إلى خلايا الجسم كلها فتثير النشوة في الخلايا والنشاط في الأعضاء والسعادة في الحس والوجدان، وهذا الذي قال به الهنود هو ما يتحقق بتلاوة القرن الكريم بأدائه المتميز الذي يكتمل باستيفاء الغنة في الميم والنون المشددتين ويتحقق كذلك في الإخفاء والإقلاب والإدغام ورحم الله شيخنا فضيلة الشيخ عامر عثمان عندما كان يصحح للقارئ ولا يسمح له أن يتجاوز في مخارج الغنة خصوصاً في الإقلاب والإخفاء الشفهي فلا بد أن تخرج من أعلى الأنف " الخيشوم " وليس من الأنف، وهذا يحقق انتشارها .

ويمكن للقارئ أن يحقق هذا بنفسه، فالغنة الصحيحة لها أثرها في الانتشار وتصل إلى الأذن إلي عظام الرأس والى الجهاز العصبي وإلى خلايا الجسم كلها ويستمع المصلي للإمام الذي يجيد القراءة فلا يمل الاستماع ولا يحس بالإجهاد أو التعب .


في دار الإفتاء

قدمت خلاصة هذه الدراسة :

وعندما وقفت بين العلماء والفقهاء ورجال الدعوة بوزارة الأوقاف لأتحدث عن تلاوة القرآن وأثرها على اطمئنان النفس، وكان هذا في دار الإفتاء بالدرّاسة بمناسبة مرور عشر سنوات على إنشاء جمعية الطب النفسي الإسلامي، تقدمت فقلت إنني أتحدث اليوم في عرين الأسد بين أساتذة أجلاء نتعلم منهم ونترقب أحاديثهم في وسائل الإعلام لنتعلم منهم، وإني إذ أتقدم إليهم اليوم على استحياء فإنني أضع بين أيديهم ما حققه العلم والعلماء في الفترة الأخيرة وما أجتهد فيه الأطباء لمعرفة بعض أسرار تلاوة الكتاب الحكيم .

وسأحاول قدر استطاعتي أن أستجمع كل ما عرفته وكل ما اجتهد فيه زملائي وأساتذتي في هذا الشأن وألقي عليها ضوءاً من علم النفس المعاصر حتى نحقق به الظلال النفسية لأسرار تلاوة القرآن الكريم، وكيف تصل التلاوة بالقارئ والمستمع إلى حقيقة اطمئنان النفس واستقرار العاطفة دون أن أدّعي أويدّعي غيري أننا نفسر شيئاً من كتاب الله أو أننا يمكن أن نصل إلى أسرار الاطمئنان الحقيقي الذي جعله الله خصوصية من خصوصيات ذكره عموماً وتلاوة كتابه خاصة فهو افضل الذكر وأجمله لقوله سبحان:

(الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)(الرعد : 28)

ويقول صلى الله عليه وسلم : " ما أجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده"

وهذه المعاني التي ينتهي إليها قول ربنا سبحانه وقول رسوله الكريم صلى الله  عليه وسلم واضحة الأسرار عميقة الأغوار وليس  لأي إنسان فيها قول بعد هذا القول الفصل.

والعلم المعاصر إذا أراد أن يصل إلى بعض هذه الأسرار فإنما هو بذلك يلقي ضوءاً ولا يحدد بعدا يوضح مفهوماً ولا يسبر غوراً لأن الغاية أبعد من مداه، وهذا قدره .يقول سبحانه:

(ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)(الإسراء:85)

ثم كان حديثي بعد ذلك بما سبق أن تناولته عن الكيفية التي يتحقق بها تنظيم التنفس بترتيل القرآن الكريم وما جاء عن التنغيم والإيقاع في تلاوة القرآن الكريم، بالمفاهيم النفسية لعلماء المدرسة السلوكية المعاصرة التي أخذت منهجها عن فلاسفة الهند والصين.

واختتمت الحديث عن هذا الموضوع ببحث ممتع لزميل فاضل هو الدكتور أحمد القاضي عن تلاوة القرآن الكريم وأثره على اطمئنان النفس، والدكتور القاضي يعمل مع فريق متكامل بولاية فلوريدا بأمريكا وفي بلدة " بنما سيتي " ويمارسون أبحاثهم في عيادة طبية اسمها عيادة " أكبر " والبحث عرضه الدكتور القاضي في مؤتمر الإعجاز الطبي الأول للقرآن الكريم الذي عقد في منتصف الثمانينيات في الجامعة العربية، وتواكب هذا البحث مع البحث الذي قدمته عن أسرار الحركة في الصلاة بالمفاهيم النفسية، والحقيقة أن بحث الدكتور القاضي يحقق ما جاء قبله من أبحاث ودراسات فهو بحث عملي تطبيقي مقنن موثق بالأرقام والإحصاءات ونتائجه مسجلة بالآلات الحاسبة ومبرمجة بأجهزة الكمبيوتر .

بقى أن نلم بأطراف هذا البحث.

خلاصة البحث الذي قدمه الدكتور أحمد القاضي :

والدكتور القاضي وفريقه يبحثون أساساً في أسرار قراءة القرآن الكريم وتأثيرها على جهاز المناعة في الإنسان بما يحقق الشفاء من العلل والأمراض وهو الموضوع الذي يفرض نفسه على الساحة، هذه هي الغاية التي يهدف إليها البحث، ولكني سأستقطع هذه الغاية من البحث وأكتفي بالنتائج الأولية التي تحققت فهي تدعم كل ما جاء من دراسات سبقت بخصوص اطمئنان النفس وانشراح الصدر بتلاوة القرآن الكريم أو الاستماع إليه، وهذا ما اكتفى به، والبحث قد حقق فيها أعظم النتائج، فقد جمع الدكتور القاضي وفريقه عينات عشوائية من البشر منهم من يعرف اللغة العربية ومنهم من لا يعرفها ومنهم المسلم ومنهم غير المسلم منهم من يعرف القرآن ومنهم من لا يعرف وعينة تعرف القرآن ولا تعرف معاني كلماته وبجوارها عينة أخرى شرحت لها المعاني، وبهذا استوفى الدكتور القاضي كل ما يمكن من الاحتمالات، بقي أهم ما في البحث وهو العينة الأخيرة التي استمعت إلى جمل وعبارات بنفس أوزان الآيات القرآنية ولكنها ليست قرآنا ولكنها من كلام البشر وهؤلاء لا يعرفون اللغة العربية ولا القرآن .

النتائج:

هؤلاء جميعاً استمعوا إلى القرآن الكريم مرتلاً بأدائه الصحيح فتحقق بنسبة 97% هدوء واستقرار نفسي ظهر واضحًا في النتائج الفسيولوجية لقياسات وظائف الأعضاء والقياسات البيولوجية ، ومنها النبض والحرارة والتنفس وضغط الدم واتساع ا لشرايين أو ضيقها وإفراز العرق وانقباض العضلات مع القياس النفسي ورسام المخ الكهربائي .

وأما الجزء الثاني من البحث فقد كانت لعينة من الذين لا  يعرفون العربية ولا يعرفون القرآن ولا يعلمون أنه كلام مقدس وأسمعهم آيات القرآن ثم أسمعهم مقاطع مماثلة في الصياغة ومعنى ذلك أنه فرّغ كلمات القرآن من نظامها وصياغتها الإلهية ومن معانيها فأصبحت كلمات بشرية بأوزان القرآن، والنتائج تشير إلى أن كلمات القرآن بذاتها وبغض النظر عن معناها لها أثر فسيولوجي مهدئ ويصل إلى راحة النفس واطمئنانها بنسبة 90% أما الكلمات البشرية التي نظمت بأوزان قرآنية فلم تكن لها أي أثر نفسي ونتائجها سلبية ولا فائدة تحققت من سماعها . هذا ما تحققه أبحاث الدكتور أحمد القاضي وفريقه.

وبهذا يحقق هذا البحث الافتراض الذي يقول ويؤكد أن مظهر التلاوة في حد ذاته بعيداً عن المعنى تصل إلى حقيقة الاطمئنان النفسي كما يتحقق لجوهر التلاوة بما ينتهي إليه قول ربنا سبحانه من سورة الرعد :

(الذين أمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)(الرعد 28)

سواء فهم القارئ المعنى أو لم يفهم المعنى:

ولهذا كانت مجرد تلاوة القرآن بأدائها الصحيح المتواتر عبادة، والله  سبحانه وتعالى يثيب عليها ترغيباً للقارئ حتى يناله ثمرة ما تحققه من اطمئنان النفس وانشراح الصدر ، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها ،لا أقل آلم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" .

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يرغب في التلاوة ليتحقق منها اطمئنان النفس وابتعادها عن الشد والتوتر اللذين يصاحبان العلة النفسية فتنتهي النفس إلى الراحة والهدوء وينتهي كل ذلك إلى سعادة الحس والوجدان .

وإذا كنت قد حاولت تحقيق هذه الجزئية من الدراسة عن تأثير مظهر التلاوة وعما تصل إليه من اطمئنان النفس وانشراح الصدر وإذكاء النشوة في خلايا الجسم والانتهاء إلي سعادة الحس والوجدان فإن هذا كله جاء بفضل الله مما استجمعته ممن سبقوا بداية من فلاسفة الهنود وخبراء رياضة اليوجا وما قال به أستاذنا الدكتور محمد زكي سويدان وما حققه الدكتور أحمد القاضي عن تلاوة الكتاب وأثرها على اطمئنان النفس، ويعتبر هذا بمفاهيم المدرسة السلوكية تحضيراً نفسياً لتقبل ما في جوهر القرآن من ميكانيكية سلوكية تنتهي إلى معالجة آفات النفس وتصل إلى راحة الضمير وطهارة النفس.

مما يحقق قول الحق سبحانه:

(أتل ما أوحي إليك من الكتاب و أقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكرة ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون)(العنكبوت : 45)

فكيف تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر بمناهج المدرسة السلوكية .


الميكانيكية السلوكية في

القرآن الكريم

كيف تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر ؟

يقول الحق سبحانه وتعالى :

(أتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله اكبر والله يعلم ما تصنعون)(العنكبوت : 45)

هذه الآية الجامعة الشاملة ذات شقين أولهما تلاوة القرآن الكريم والشق الثاني إقامة الصلاة وبهما معا يتحقق وعد الله سبحانه(إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) وتأتي عظمة الصلاة في عظمة من افترضها، وجعل القرآن الكريم يتوج ركعاتها، والقرآن، هو الدستور التشريعي الذي لا بد أن يستقر في عقل المسلم وضميره، ومن حكمة الله واتساع علمه وفضله أن جعل هذا الدستور ماثلاً دائما في عقل المسلم لا يبتعد عنه ولا يغيب و ذلك  بالصلاة وتلاوة القرآن .

فالصلاة هي الصلة الوثيقة بمنهج الخالق سبحانه، خمس مرات يلتقي المسلم بكلام ربه، يأمره وينهاه ويحاسبه ويجازيه، وينصحه ويعظه، وقد يردعه ويزجره، ويصل ذلك بالقرآن إلى نفوس البشر لا يغيب عنهم أبدا، حقاً إن الصلاة هي الإيمان كله كما يقول ربنا سبحانه من سورة البقرة :

(وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم)(البقرة:143)

وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان "

واقتضت حكمة الله سبحانه، أن تكون الصلاة أول ما يتعلمه المسلم بالمنهج السلوكي المعاصر بطريق الارتباط الشرطي conditioning، فإذا أصبحت الصلاة سلوكاً فهذا أول الطريق، لأن الصلاة هي الوعاء الذي يحمل تعاليم الإسلام إلى المصلي بتلاوة القرن وبهذا وبغيره تفضل صلاة الجماعة صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، فهو يستمع فيها إلى الإمام فيتلقى منهج ربه، وأحب الأوقات التي يرغب فيها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في الصلاة، هي صلاة العشاء وصلاة الصبح، يقول صلى الله عليه وسلم  في الصلاة، هي صلاة العشاء وصلاة الصبح، يقول صلى الله عليه وسلم " لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوها ولو حبواً "  ففي هذين الوقتين يستحب إطالة القراءة .

ولهذا فالصلاة بأبعادها النفسية، مدرسة سلوكية، تعالج السلوك، وتنفرد بنظامها الحركي و نظامها التعبدي، لتصل إلى غاية أهدافها من اطمئنان النفس، واستقرار العاطفة والوجدان والابتعاد عن الفحش  والمنكر فإذا تآلف على الصلاة، بقية أركانها وما يسبقها من شعائر الوضوء والتوبة والدعاء والتسبيح، فيعظم بذلك اطمئنان النفس، وسعادة الحس، وبهذا يستقبل المصلي كلام ربه يستقبل منهجه ويستقبل تعاليمه ودستوره ويكون هذا طريقاً إلى فقه الدين، وحظ كل مسلم إن يتعلم من دينه ما هو لازم وضروري حتى تستقيم عباداته وسلوكه ومعاملاته، وهذا يصل إلى المسلم بطرق متعددة بالتلقي والقراءة أو بوسائل الإعلام المختلفة، ومع هذا تظل الصلاة رائدة في هذا المجال، بما تحمله تلاوة القرآن للمصلي، من تعاليم فيأتمر بأوامر القرآن وينتهي بنواهيه وصدق الله سبحانه وهو يقول:

(إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)(العنكبوت:45)

هذا عهد من الله، وليس على المصلي إلا أن، يحسن الأداء، ولهذا فالرسول صلى الله عليه وسلم قال للرجل المسيء صلاته " ارجع فصل فإنك لم تصل "، وأعادها عليه ثلاثا ولما عجز الرجل علّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يطمئن في حركات الصلاة في أركانها كلها .

فالصلاة عهد بين الخالق سبحانه وبين عباده تعالج سلوكهم بالطريقة التي أرادها الله سبحانه، فقد سأل السائل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له إن الرجل يصلي معنا العشاء ويصبح فيسرق، قال سينهاه ما تقول، وأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكيفية التي تنهى بها الصلاة الرجل عن السرقة، والواضح من هذا الحديث، إن الصلاة تصل بالمصلي إلى استقامة سلوكه، وليس هناك ضرورة لمعرفة الكيفية التي تنهى بها الصلاة عن الفحشاء والمنكر، ولكن إذا تدبرنا كلام ربنا، وسرنا مع العلم المعاصر، وهو يفتح لنا آفاقا جديدة نطل منها على أسرار الصلاة، فليس هناك اعتراض، طالما أيقنا أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، بهذا الطريق أو بغيره، فليس لعلم الله حدود وكل ما يفعله البشر، هو الارتفاع بقوانين العلم المعاصر، لنحقق بمفاهيمه التي استحدثها بعض هذه الأسرار والعلم هنا وسيلة إيضاح والمدرسة السلوكية من المدارس المعاصرة، انحدرت من أصل ديني رغم أنها أُخذت عن عبادات الشرك، إلا أن الأصل هو التوحيد الخالص.

فتغير الحركة مفهوم سلوكي معاصر، أصله الثابت الحقيقي من أول حركة تعبدية في الوجود، وهي حركة السجود، عندما سجد الملائكة بأمر ربهم بعد خلق آدم عليه السلام، فلم يكن قبل السجود حركة، فالحركة من أول الخلق عبادة خالصة لله وحده سبحانه، ثم افترض الله الصلاة، بما فيها من حركة، هذه الحركة جعلها الله في الصلاة منهجاً سلوكياًَ، يصل بالنفس إلى راحتها واطمئنانها، ويتآلف مع تغيير الحركة في الصلاة، تنظيم التنفس بتلاوة القرآن الكريم، ثم يكتمل المنهج بركن التصور وهو ما يتحقق بالإحسان في العبادة هذا هو جوهر المنهج السلوكي وهذه أركانه التي يستوفيها طبيب النفس قبل أن تبدأ المعالجة بالجلسات النفسية السلوكية بنظام السلم المتدرج Hierarche والطبيب هو الذي يتولى هذه المهمة كاملة، فيصمم بنفسه طريقة التدرج حسب الأعراض التي يشكو منها المريض، ومنها المخاوف بأنواعها المختلفة تبدأ بالمعالجة بتصور المواقف التي تسبب أعراض الخوف، وهذا التصور يجعل المريض يتفاعل معها وكأنها تحدث في الحقيقة .

ويكرر الطبيب على المريض هذه المعالجة، ومع تكرار الجلسات تتحسن الأعراض وتخف حدة المعاناة.

وبعد نجاح هذه المحاولة يبدأ الطبيب مع مريضه سلسلة أخرى من الجلسات النفسية، بالمواجهة الحقيقية في الحياة العامة بنفس النظام المتدرج، فإذا كان المريض يخاف من الزحام أو يخجل من مواجهة الناس، فيبدأ الطبيب معه، بمواجهة شخص واحد، ثم شخصين، ثم ثلاثة ويتدرج بمواجهته حتى يصل إلى الأعداد الكبيرة .

هذه الطريقة السلوكية التي استحدثها علماء النفس، ليعالجوا بها الآفات النفسية، تتحقق بطريقة اضمحلال العادة، وهو ما أطلق عليه علماء المدرسة السلوكية Desenstization وذلك باستعمال السلم المتدرج فإذا تذكرنا أن المدرسة السلوكية، انحدرت من أصل ديني، فليس من العسير أن نعود بحقائق هذا العلم إلى أصله الحقيقي

فهل يخطر ببالك أيها القارئ الكريم أن السلم المتدرج Hierarche أصل من أصول العلم الذي جاء به القرآن الكريم في محكم آياته، وإذا كان العلماء القدامى والكهان وفلاسفة الهند والصين جاؤوا به، فقد التقطوه من أصول ديانات سماوية انحرفت أو اندثرت وبقيت آثارها تحمل بقايا أصالتها وتشهد على صدق منبعها، والدليل أوضح من أن نختلف عليه، لأنني سأحدثك عن أول سلم متدرج عرفه البشر، جاء به القرآن من عند الله، وهذا يعني أنه، علم نزل إلى الأرض من بداية الرسالات، وعلى هذا فللبشر أن يأخذوا به وأن يرتقوا فيه .

أول سلم متدرج عرفته البشرية Hierarche :

إنه تنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلب رسوله الكريم، وأودع فيه أسرار نجاحه .

إن السلم الذي تدرج بنفوس العرب فهيأها وخلصها من أسوأ الآفات  النفسية التي تحكمت في سلوكياتهم فكان بينهم العداوة والبغضاء  والشحناء وسفك الدماء، إنها آفة شرب الخمر .

ولنذهب مع هذا السلم من البداية وهو يهيئ نفوس العرب، ويقرب إليهم المفاهيم، ويحدثهم عن المادة التي تصنع منها الخمر، وأنها من نعم الله وفضله على العباد، يقول سبحانه في سورة النحل :

(ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون)(النحل : 67)

وهذا أول التدرج في تحريم الخمر، فقد سلب الله محاسن النعمة من السكر، فلم يدخل في مضمون الرزق الحسن .

ثم تأتي آية سورة البقرة إيضاحاً وتحديدا لمفهوم الخمر وما تحتويه .

(يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما)(البقرة : 219)

أما الدرجة الثالثة من درجات السلم، فهي درجة من  درجات التحريم الوقتي فقد كان هناك من يصلي فتأخذ الخمر برأسه، فيأثم بتلاوة الكتاب بما يحدث فيها من سهو وخطأ .

يقول سبحانه :

(يا أيها الذين أمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون)(النساء:43)

ولا يخفى أن الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة وهذا ما حدد أوقات تعاطي الخمر، فكان من يتعاطاها ينتظر إلى نهاية اليوم بعد صلاة العشاء الآخرة، ويضيق صدر المؤمنين الصادقين بما يحدث من أعراض تناول الخمر، ويرفع عمر بن الخطاب يديه إلى السماء، ويطلب من الله أن ينزل في الخمر قولاً فاصلاً، ويستجيب الله وينزل قوله سبحانه :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ الأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {90} إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ(المائدة 90 –91)

وقال أهل المدينة بلسان واحد انتهينا يا ربنا انتهينا، وانتهت هذه الآفة التي تفشت فيهم من عهود أجدادهم، وكانت سبباً في كل مصائبهم .

وأصبح هذا السلم المتدرج، أشهر سلم متدرج عرفته البشرية، لم يعالج فرداً ولكنه عالج أمة بأسرها، وأصبح هذا في عقل كل مسلم آيات محكمات، قرآنا يتلى، فظل ماثلاً في الفكر والضمير والوجدان، وتقرر الصحة العالمية في إحصاءاتها أن إدمان الخمر في البلاد الإسلامية لا يكاد يُقارن بما يحدث في بلاد العالم كله .

وهكذا نجح هذا المنهج السلوكي عندما تدرج معهم، وكان سبباً في تهيئة عقولهم واقتلاع فتيل العناد والمكابرة من نفوسهم وعندما نزلت آية التحريم، كانت الاستجابة سريعة فعّالة، لم تتأخر لحظة واحدة، وكان هذا أعظم سلم متدرج عالج الله به نفوس العرب في جاهليتهم .

وبعد فترة من الزمان، يصل العلم المعاصر إلى أصالة السلم المتدرج، ويصبح طريقاً من طرق المعالجة السلوكية المعاصرة، والمدرسة السلوكية لها طرق متعددة في معالجة السلوك السيئ، فقد استعملت طريقة أخرى في معالجة إدمان الخمر وغيره من آفات النفس بطريقة العقاب الوقتي الذي يصاحب الفعل وهو ما يسمى Aversion، فإذا طبقناها في علاج إدمان الخمر، فإن المدمن يتعاطى عقاراً كيماوياً يتفاعل مع الخمر يسمى Antebuse ومع تفاعله يحدث أعراضا غير مستساغة يشعر المدمن معها بألم في أمعائه أو بغثيان قد يلفظ معه كل ما في جوفه.

فإذا تكرر التعاطي، وتكرر معه استعمال Antebuse، فإن عادة الشراب ترتبط بمؤثر سيئ، وهو الألم والغثيان والقيء، ويكون ذلك من وسائل امتناع المريض، وقد يستبدل العقار الكيمائي بمؤثر كهربائي خفيف، يحدث ألماً ولا يترك أثراً بطريقة Galvanic Stimulation وهذه وسائل سلوكية سهلة، تحقق نتائجها بدون مشكلات، والعقوبة التي يحدثها العقار أو يحدثها المؤثر الكهربائي، يمكن أن تكون تصوراً، وفي الخيار، فإذا تصور المريض ألم العقوبة هذا يفقده متعة النشوة، والميكانيكية السلوكية تحدث من انطفاء العادة نتيجة الألم الذي يصاحب الأعراض، وهذا تسميه المدرسة السلوكية Receprocal inhibtion، وهذا يكفي لانتهاء العادة السيئة"المرض النفسي " وذلك بفك ارتباطها نتيجة ما يصاحب العادات والآفات من ألم ومما جاء في القرآن الكريم يعالج بعض آفات النفس وسلوكها السيئ، وهو ما يتم تحقيقه بمنهج العقاب الوقتي بالتصورAversion، قول الحق سبحانه في معالجة أكل أموال اليتيم.

(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)(النساء:10)

وقوله سبحانه من سورة الحجرات في معالجة آفة التجسس والغيبة :

(وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (الحجرات : 12)

وقوله سبحانه في معالجة آفة الربا من سورة البقرة :

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي بتخبطه الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)(البقرة:275)

وهذه الآيات يقرأها المصلي إذا كان قارئاً أو يستمع إليها من الإمام فتصل إلى عقله ووجدانه، وهو مستغرق في صلاته فيقشعر بدنه، وترتجف أوصاله، وتشمئز نفسه من بشاعة تصورها في النفس وكأنها حقيقة مجسدة، إنها أسرار كلام الله سبحانه، استودعها منهجه و قرآنه، وهي بمفاهيم المدرسة السلوكية، معالجة نفسية بطريقة العقاب الوقتي والحقيقة التي لا يختلف عليها المؤمن الصادق، أن القرآن ينفرد بمنهجه السلوكي، فيتحقق به كل ما جاء به البشر من اجتهادات، إلا أن القرآن يبقى هو الأصل الثابت الذي لا يعوّج فيقوم أو يزيغ فيستعتب، بل دائماً وأبداً لا تنقضي عجائبه.


الترغيب والترهيب والثواب والعقاب

منهج سلوكي معاصر تأخذ به المدرسة السلوكية في علاج آفات النفس، وهو في الحقيقة منهج قرآني غاية في الروعة والعظمة عندما يعالج النفوس ويصلح فسادها ويقوّم اعوجاجها، ولا أحد ينكر قدرة نفاذه إلى العقل والوجدان وقوة تأثيره في علاج النفوس.

ومع أن علماء المدرسة السلوكية يأخذون بهذا المنهج إلا أنهم في الحقيقة لا يملكون أسبابه كاملة إلا في فترة الطفولة ولهذا فإن المنهج بتطبيقاته العلمية والعملية بمفاهيم البشر وعلمائهم يقصر دائماً عن تحقيق غايته وهدفه، فقد لا يقتنع الإنسان بالثواب الذي يناله، أو ربما يستهين بالعقاب الذي يلحق به لأن الجزاء والعقاب دنيوي محدود الغاية لا يعوض عن المتعة التي يجدها الشخص من السلوك السيئ سواء كان إدماناً أو شذوذاً لأن المدمن أو صاحب  الآفة يستجمع متع الدنيا كلها في لحظة أو لحظات.

هذه بعض جوانب القصور في منهج الترغيب والترهيب البشري.

ومع هذا القصور الواضح، فهو منهج معترف به، تأخذ به المدرسة السلوكية في علاج آفات النفس خصوصاً في حالات الإدمان والشذوذ، ويطلق عليه علماء النفس Operaantcanditoning.

ومنهج الترغيب والترهيب والثواب والعقاب صادق أصيل، بمفاهيم العقيدة ، ومن أراد أن يستزيد من معرفة فاعلية هذا المنهج فليرجع إلى كتاب الترغيب والترهيب للإمام المنذري فهو كتاب غني في مادته.

أما ما جاء في الكتاب الكريم من الترغيب والترهيب فأمثلته لا تحصى ولا تعد وحتى أوضح ذلك فإنني سأتحدث عن منهج القرآن في علاج آفة واحدة، وهي آفة الشح والبخل والتقتير في الإنفاق لأنها فطرة في الإنسان، وهذا ما يكفي لنضع هذا المنهج على قمة المناهج السلوكية بمفاهيم العقيدة.

يقول سبحانه :

(قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خزائن رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً)(الإسراء:100)

الشح والبخل هما من ابتلاءات الدنيا الواضحة التي لا ينجو منها إلا من عصم ربي.

وآفة الشح والبخل من شهوات النفس، وهي من ابتلاء النفس الأمارة التي تحب الشهوات وتؤثر ذاتها والله سبحانه خلق النفس بفجورها وتقواها،وجعل الشح من صفات فجورها، والكرم من صفات تقواها وعلى الإنسان أن يروض نفسه حتى ينتهي إلى مكارم الأخلاق(قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا {9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)(الشمس:9-10)

ومع هذا لم يترك ربنا سبحانه هذا الأمر، دون توضيح، بل إن الله سبحانه أظهر لنا مساوئ الشح، والبخل وكيف ينتهي بالإنسان إلى الهلاك، ووضح لنا كيف يرتفع الإنسان بالكرم إلى أرفع الدرجات ومن أمثلة ذلك .

قوله سبحانه في سورة الحشر :

(وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(الحشر:9)

ويقول سبحانه من سورة الليل:

(فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى {5} وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى {6} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى {7} وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى {8} وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى {9} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى {10} وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى)(الليل :5-11)

هذا كله يتم في تسلسل عجيب معجز يسير مع القرآن كله من بدايته إلى نهايته.

هذا التسلسل الفريد من نوعه وهو يعالج آفة الشح ويرغّب في البذل والعطاء، انتهى أثناء مسيرته إلى أعظم فريضة  عملية وهي فريضة الزكاة افترضها الله سبحانه حتى يهوّن الأمر على البشر في طريق تدريبهم على السماحة والعطاءلأن الزكاة فريضة واجبة الأداء ولا مناص من الوفاء  ولا يتم الإسلام إلا بأدائها.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج".أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي

حتى إذا استقرت فريضة الزكاة في النفس، وأصبح للفقير حق معلوم كما جاء في سورة المعارج:

(وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ {24} لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)(المعارج:24-25).

واصل المسلسل مسيرته ليرغب في العطاء والبذل والسخاء تطوعاً بعد الفريضة كما جاء في سورة الذارات.

(وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)(الذاريات : 19)

ولم يقف مسلسل الترهيب من البخل والبخلاء والترغيب في البذل والعطاء، بل واصل مسيرته حتى انتهى إلى علاج أكبر آفة نفسية اجتماعية عرفتها البشرية إنها آفة الربا وإذا كان مسلسل تحري الخمر استمر مدة خمسة عشر عاماً فإن مسلسل تحريم الربا استمر مدة الرسالة ومدة التنزيل من أول نزول الوحي إلى آخر آية في القرآن سورة البقرة.

(وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)(البقرة:281)

مسلسل تحريم الربا وكيف بدأ هذا المسلسل وكيف انتهى؟

يقول فضيلة الأستاذ محمد علي الصابوني في كتابه"تفسير آيات الأحكام"لقد مر تحريم " الربا" بأربعة أدوار كما حدث في تحريم الخمر، وذلك تمشياً مع قاعدة التدرج.

الدور الأول:نزول قوله تعالى :

(وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)(الروم:39)

وهذه آية مكية وموعظتها سلبية كما جاء عن الخمر .. ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً ".

الدور الثاني : نزول قوله تعالى من سورة النساء:

(فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً {160} وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ واعتدنا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً)(النساء:160-161).

وهي درس عن سيرة اليهود عندما أكلوا الربا وهو تحريم بالتلويح لا بالتصريح،وهو كما جاء عن الخمر في قوله سبحانه:

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)(البقرة:219)

الدور الثالث:نزل قوله تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {130} وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ {131} وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(آل عمران :130-132)

وهذه الآية تحريم جزئي للربا الفاحش كما جاء في الخمر.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ)(النساء:43)

الدور الرابع: نزل التحريم الكلي القاطع الذي لا يفرق بين القليل والكثير.

يقول سبحانه :

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {278} فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)(البقرة:278-279)

هذا ما قال به فضيلة الأستاذ الصابوني، إلا أن فضيلته وقد وضع يده على بداية مسلسل تحريم الخمر بداية صحيحة مبكرة في قول السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت:"إنما نزل أول ما نزل سورة المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء، لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبداً " . والحقيقة أن هذه البداية التي قال بها أستاذنا الفاضل الكريم هي البداية التي تصلح للخمر والربا معاً، وإذا كان مسلسل الخمر قد حظي بالشهرة أكثر من مسلسل الربا، إلا أن البداية الحقيقية لتحريم الربا بدأت كما قلت من مسلسل علاج آفة البخل والشح والتقتير وفي أثناء مسيرة هذا المسلسل فرضت الزكاة، وفي نهاية هذا المسلسل حرم الربا . وهذا مجرد تحليل على ضوء ما جاء في مسلسل تحريم الخمر وتعتبر أولاً وأخيراً وجهة نظر وأسأل الله العافية".

وللنظر إلى بداية التسلسل في معالجة النفس وترهيبها من الشح والبخل والحرص على جمع المال لقوله سبحانه في سورة الهمزة وهي مكية من أول ما نزل من القرآن:

(وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ {1} الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ {2} يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ {3} كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ {4} وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ)(الهمزة:1-4)

ثم يأتي قوله سبحانه من سورة العاديات:

(} إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ {6} وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ {7} وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ {8} أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ {9}‏ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ {10} إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ)(العاديات:6-11)

وقوله سبحانه وتعالى من سورة الفجر:

(وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً {19} وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً)(الفجر:19-20)

ويقول سبحانه في سورة الليل في الترغيب في العطاء والترهيب من البخل:

(فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى {5} وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى {6} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى {7} وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى {8} وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى {9} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى {10} وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى {11} إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى {12} وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى {13} فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى {14}‏ لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى {15} الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى {16} وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى {17} الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى {18} وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى {19} إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى {20} وَلَسَوْفَ يَرْضَى)(الليل:5-21)

ويقول سبحانه من سورة المعارج مشيراً إلى فريضة الزكاة:

(وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ {24} لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)(المعارج:24-25)

ويقول سبحانه في سورة الذاريات مرغباً في التطوع بالإنفاق:

(وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ {19} وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ)(الذاريات:19-20)

والحقيقة أن القرآن الكريم يحتوي الكثير من هذه المعاني التي تحيط بآفة الشح والبخل والترهيب منها، والترغيب في كل أنواع البر، ويسير التسلسل القرآني بين الآيات المكية والمدنية في إعجاز خارق وبالكيفية التي تخترق فيها أساليب القرآن الكريم كل دفعات النفس البشرية التي تحيط بآفة الحرص على المال والتقتير في إنفاقه، فتأتي سورة الحديد توضح أن المال ليس ملكاً ولا احتكاراً، بل إن المال كله مال الله والإنسان مستخلف فيه، يقول سبحانه:

(آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ)(الحديد:7)

(وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 10) مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ)(الحديد:10-11)

ثم تأتي آيات من سورة التوبة منفرة ومرهبة ومتوعدة للذين يكنزون المال يقول الحق سبحانه :

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {34} يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ)(التوبة : 34-35)

إن الترغيب في الإنفاق والترهيب من الشح والبخل والتقتير، يتغلغل في القرآن كله يقول سبحانه:

(لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ والملائكة وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ والسائلين وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)(البقرة:177)

فإذا انتقل التسلسل القرآني إلى آخر سورة البقرة، بداية الآية(261) تلاحقت الآيات وتداعت في جمال وروعة وإحكام .

(مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ ماِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(البقرة:261)

ثم تستمر الآيات تتعانق وتتلاحق، وتتبارى في الوصول إلى جوهر النفس، بما يحببها في الإنفاق وينفرها من الشح والبخل ويرغبها في البذل والعطاء والسخاء بعيداً عن مساوئ المن والأذى أو التباهي والمفاخرة، ويصل القرآن الكريم إلي مقاصده هذه بالحكمة والموعظة الحسنة وبالمثل الرائع الجميل، حتى يتحقق له الوصول إلى مواجيد النفس البشرية، فتقبل على الخير وتسير في الطريق إلى كل معالم البر التي ينادي بها الحق سبحانه، وهذا ما ينتهي إليه مسلسل تحريم الربا فيقول سبحانه ختاماً لسورة البقرة:

(الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {262} قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ {263} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ {264}‏ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {265} أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ {266} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ {267} الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {268} يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ {269}‏ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ {270} إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {271} لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ {272} لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ {273} الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {274}‏ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي بتخبطه الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {275} يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ {276} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {277} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {278} فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ {279} وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {280} وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)(البقرة : 262-281)

تسلسل قرآني معجز، من بداية ما نزل بمكة حتى انتهى إلى آخر آية نزلت بالمدينة،كل هذا التسلسل على مدى ثلاثة وعشرين عاماً بدأ بعلاج النفوس من الشح والبخل وانتهى بأكبر آفاته وهي آفة الربا ، تلك الآفة التي تجمع بين مساوئ الشح والبخل والجشع والاستغلال والأنانية وحب الذات، والتحكم في الثروات واحتكارها وإيقاف النمو الاقتصادي، وحرمان الناس من الاستفادة باستثمار أموالهم، إنها آفة الآفات، ولهذا استغرق علاجها مدة التشريع كله ، عالج الله نفوس العرب من اشد آفاتهم ضراوة وعالج معها نفوس البشر جميعاً، وفي حجة الوداع وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في جموع الحجيج يقول :

" .. وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا عباس ابن عبد المطلب فإنه موضوع كله".أخرجه مسلم وأبو داود وأحمد

هذا مثل واضح من أمثلة الترغيب والترهيب في المعالجة السلوكية في القرآن الكريم، وأمثلته في القرآن كثيرة ووفيرة، وهي تتداخل مع منهج الثواب والعقاب، فالكل نسيج واحد متكامل، ولا يمكن للبشر أن يحيطوا بأبعاد المنهج، وإن نجحوا في الوصول إلى بعض جزئياته من بعض ما استنبطه الفلاسفة والكهان من الديانات القديمة، ومن خلالهم وصل إلى علماء النفس بمفاهيم المدرسة السلوكية المعاصرة، إلا أن المنهج لا يتكامل إلا في القرآن الكريم، وإذا حقق المنهج السلوكي لعلماء النفس نجاحاً فعلى قدر اجتهادهم دون أن يصلوا إلى أبعاد هذا لمنهج وإلى أعماقه والموضوع جديد بمفاهيم علوم البشر النفسية، ولكنه قديم بمفاهيم العقيدة، فكل ما عرفه البشر من مناهج نفسية يحيط به الكتاب الكريم ويتداخل ويختفي ضمن آياته وأحكامه لأن مناهج النفس في القرآن كثيرة وفيرة غاية في الروعة والإعجاز، غاية في الثراء والعطاء.

والجزء الرابع من هذه السلسلة(مدخل إلى مناهج النفس في العقيدة)محاولة مخلصة يفتح الباب لعلماء النفس والفقهاء والدارسين لمزيد من البحث والدراسة، فالموضوع مثير مغدق يجني من ثماره كل من يسير بين أشجاره ونسأل الله السداد والرشاد.


من مناهج النفس في العقيدة

التثبيت Fixation والتدعيم Reinforcment

وهذا ما تقول به المدرسة السلوكية، فإن علماء النفس إذا تحققوا من نجاح المعالجة السلوكية، فإنهم يعملون على تدعيمها وتثبيتها بالمفاهيم السلوكية، بالمداومة والتكرار وقد يكون الترهيب والترغيب والمكافأة والجزاء من أسباب التدعيم في النفس البشرية.

ولا أعتقد أن أحداً يخالفني الرأي أن التثبيت والتدعيم النفسي هو من أصول منهج القرآن، في علاج النفس البشرية، وأسبابه كله بيد الله سبحانه،وهذا ما يؤكده قول الله سبحانه:

(يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)(إبراهيم:27)

ويعتبر هذا المنهج من الأسس السلوكية في تدعيم الاطمئنان في النفس البشرية بالقرآن نفسه:

(الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(الرعد:28)

والقرآن الكريم من أسمى غاياته تثبيت الإيمان وتدعيم الاطمئنان ومن أراد أن يحيط بهذا المعنى وهذا المنهج فليسترجع القرآن كله، حتى يحيط ببعض ما يصل إلى النفوس من تثبيت وتدعيم بمنهج الخالق سبحانه.

ولعل أوضح تثبيت للإيمان في النفس، هو تثبيت الإيمان في نفوس شباب أهل الكهف، هؤلاء الذين هربوا بدينهم من تعسف حكامهم فكانت عناية الله بهم وتثبيته لهم، وتدعيم نفوسهم حتى قبضهم إليه يقول سبحانه :

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى {13} وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَا مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً)(الكهف:13-14)

ومن الأمثلة المماثلة تثبيت المؤمنين في غزوة بدر، وكانوا أحوج ما يكونون إلى هذا التدعيم الرباني، بعد أن ملأ الخوف قلوبهم على الدعوة وعلى نبيهم ، وبعد أن رأوا تفوق جيش الكفار من أهل مكة يقول سبحانه:

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ)(الأنفال:11)

ويقول سبحانه :

(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ)(الأنفال:12)

ويقول سبحانه:

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ {9} وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(الأنفال:9-10)

والحقيقة أن أمثلة التدعيم والتثبيت كثيرة ووفيرة في المنهج القرآني وإذا أخذ علماء المدرسة السلوكية بعض ما يحتاجون إليه منه  فيبقى منهج الخالق هو الأساس الثابت، والعلم كله لله سبحانه:

(وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)(الإسراء:85)

لأن المنهج السلوكي كما قلت أبعد مدى من علوم البشر وإذا كنا نشير إليه، فإنما هي تذكرة لمن يريد أن يتدبر آيات الكتاب فهي تحتوي أساس العلم وكنوزه الأصيلة وربنا سبحنه يعطي كل متدبر على قدره، لا يحرم أحداً من فضله ولا من فضل عطائه يقول سبحانه:

(ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر)(القمر:17)

منهج الإغراق في المعالجة السلوكية Flooding techinique:

هذا المنهج ببساطة شديدة، هو منهج سلوكي لا يعتمد على التدرج في علاج الآفات النفسية، ولكنه يعتمد على منهج الإغراق فالطفل الذي يخاف من السباحة في الماء، نقذفه في الماء ونراقبه من حيث لا يعلم، هذا الطفل سيستميت في المحاولة عندما يحس بالخطر لينقذ نفسه من الغرق، وهذه طريقة سلوكية معترف بها.

وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن، ولكنها تأتي مع القصة، ومع الموعظة ومع الأمثال التي يضربها الله للناس لعلهم يتفكرون-ومن هذه قصة قارون يقول سبحانه:

(إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مفاتحة لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ {76} وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ {77}‏ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ {78} فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ {79} وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ {80} فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ {81} وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ {82} تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(القصص : 76-83)

والقصة، من قصص الظلم والبغي والفساد في الأرض، وجوهرها عبرة لأمثال قارون في عالمنا المعاصر، لكن الإغراق هنا إغراق لا نجاة منه فهو هلاك للشخص، ولكنه نجاة لكل من يعتبر، بهذه القصة وأمثالها .

هذه هي نقطة الخلاف لأن صاحب القصة لا نجاة له ولكن النجاة لمن يعتبر.

وما يماثلها في القرآن قصة أصحاب الجنة، فهي من القصص التي تعالج البخل والشح في النفس البشرية فأصحاب الجنة بخلوا على الفقراء، وأرادوا أن يحصدوا ثمار حديقتهم قبل أن يستيقظ الفقراء من نومهم حتى يستأثروا بالثمر كله دون أن يعطوا للفقير منه شيئاً .

(إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ {17} وَلَا يَسْتَثْنُونَ {18} فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ {19} فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ {20} فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ {21} أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ {22} فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ {23} أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ {24} وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ {25} فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ {26} بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ {27} قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ {28} قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ {29} فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ {30} قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ {31} عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ)(القلم:17-32)

وتختلف نهاية هذه القصة فهي من أمثلة الإغراق الحقيقي لأن أصحاب الجنة تابوا وأنابوا، وتعلق أملهم  بمستقبل مشرق جديد بدأ بتوبتهم عن الشح والبخل وحرمان المساكين وعادوا إلى ربهم تائبين نادمين طائعين، هذه بعض ملامح القصص القرآني على قدر ما أدركت من أمثلة الإغراق،ولكني كما قلت إن هذا الباب أوسع بكثير من أن نحيط به –ولكني كما قلت إن هذا الباب أوسع بكثير من أن نحيط به ،ويكفي أن أشير إلى المنهج السلوكي في القرآن الكريم وأفتح الباب لهذا الموضوع الذي يحتاج إلى موسوعة في العلم والمعرفة والمقدرة على الاستنباط والتدبر والحمد لله رب العالمين .

العلاج النفسي الفردي : Individual psychotherapy

والعلاج النفسي الجماعي : Group psychotherapy

ومن الأمثلة الفردية التي تعالجها الصلاة، هي حالات القلق والمخاوف النفسية بما فيه من هلع وفزع وهي ما يطلق عليها panic states والصلاة تعالج هذه المواقف، وتتعداها إلى كل معالم العلة النفسية، وما قد يتآلف على ذلك من آفات النفس، وهذا كله يجتمع في قول الحق سبحانه من سورة المعارج.

(إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً {19} إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً {20} وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً {21} إِلَّا الْمُصَلِّينَ {22} الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ)(المعارج: 19-23)

ومن المواقف التي تعالجها الصلاة، علاجاً فردياً مواقف التردد النفسي في اختيار الحل compromise فإذا تردد الصراع في النفس ولم يجد حلاً كانت صلاة الاستخارة هي الحل ، وإذا كان الصراع نتيجة الكبت في أي صورة من صور الإحباط Frustration فإن صلاة الحاجة تعالج الموقف، أما إذا كان الموقف للدعاء والرجاء والاستعانة بالله سبحانه، فهذا يتحقق بالصلاة كما في صلاة السفر، فإذا كان الموقف شكراً له واعترافاً بفضله وعجز اللسان عن الوفاء فإن سجود الشكر يحقق الغاية.

أما المواقف الجماعية التي تعالجها الصلاة، فأمثلتها كثيرة ومنها صلاة الخوف في الحروب، وكذلك صلاة الكسوف والخسوف، وصلاة الاستسقاء، كل هذه الصلوات تعالج القلق المكاني والزماني وهو ما يطلق عليه Situational anxiety.

ومن أهم المواقف الجماعية التي تعالجها الصلاة، موقف الموت، وهو من أصعب المواقف التي تهتز لها مواجيد البشر، وتعصف باطمئنان نفوسهم، ولكن الصلاة تعالج هذا الموقف الصعب، بمنهج غاية في البساطة إنه منهج الإزاحة Displacement، فتصرف اهتمام الناس وينتقل الموقف من العويل والبكاء إلى الصلاة والدعاء، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه، وإن كن مسيئاً فتجاوز عنه، اللهم اغفر لنا وله وألحقنا به على الإيمان، ولا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده.

صلاة الجنازة وأبعادها النفسية

وبهذه الميكانيكية النفسية وهي منهج الإزاحة Displacement تعالج العقيدة نفوس البشر من أثر مصيبة الموت، وما زال الحدث في أوج شدته وطغيان فجاءته.

ورغم شدة هذه المحنة التي تنزعج لها نفوس البشر، إلا أن التشريع الإلهي مهد لها في نفوس البشر، ليستقبل الإنسان الموت عن معرفة ويقين، ثم تأتي صلاة الجنازة لتمتص الأثر النفسي السيئ بمافية من خلخلة تجتاح النفس البشرية، والعقيدة تغرس تعليمها في النفوس البشرية بالصلاة، فها هو ذا المصلي الذي يحافظ على صلاته ويداوم عليها، يصل إليه قول ربه سبحانه وتعالى من أول سورة الملك:

(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {1} الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)(الملك:1-2)

فإذا كانت القراءة من سورة الجمعة فيصل إليه قول الحق سبحانه:

(قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {6} وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ {7} قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)(الجمعة:6-8)

فإذا وصلت القراءة  إلى سورة آل عمران فسيصل إليه قول الحق سبحانه:

(كُلُّ نَفْسٍ ذائقة الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)(آل عمران:185)

فإذا انتهى القارئ إلى سورة البقرة، فيستمع إلى قول السميع العليم:

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ {156} أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(البقرة:155-157)

ثم يأتي قول ربنا سبحانه من سور الواقعة، موضحا الكيفية التي تصل به النفوس إلى حقيقة الموت فيقول ربنا سبحانه :

(فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ {83} وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ {84} وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ {85} فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ {86} تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)(الواقعة:83-87)

هذا هو منهج العقيدة وهو يمهد للموت نفوس البشر، ثم تأتي صلاة الجنازة، فتخفف حدة ما يعانيه الأهل من فجأة الموت وألم الفراق، ولهذا كانت متابعة الجنازة مضاعفة الأجر عند الله سبحانه، وهي في ميزان العبد يوم القيامة .

وفوق هذا الترغيب الديني، فإن من يسير في الجنازات، يعتبر بما يتجسد أمامه من آثار الموت، فهو يرى هذا العظيم الذي كانت الطرقات تضيق بموكبه، يصير إلى حفرة لا تتسع لغيره، وتنتهي أفكار المشيعين الذين يتابعون الميت إلى حقيقة صادقة، لا خلاف عليها، وهي ضآلة الحياة  الدنيا وتفاهة قدرها، فهي كما قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو  كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء ".أخرجه الترمذي وابن ماجة وهو ضعيف

هذه الميكانيكية السلوكية الفريدة من نوعها، تعالج نفوس البشر بتحقير الدنيا، وتصغير شأنها، وهذا عكس ما ألفه البشر بمفاهيمهم فالناس يعظمون الحياة وما فيها من متع ومتاع، فيعظمون الثراء والجاه والسلطان ويعظمون النعيم بكل أنواعه ويكرهون الفقر والبلاء والوضاعة والشفاء، ومع هذا التعظيم للدنيا في نفوس البشر، يأتي قول ربنا سبحانه موضحاً قيمة الدنيا وهو سبحانه الذي خلقها، وهو أعلم بها، فيقول سبحانه في سورة الكهف:

(وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً {45}‏ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)(الكهف:45-46)

ويقول سبحانه في سورة الحديد :

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)(الحديد:20)

ويأتي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو  كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء ".

ومع هذه الدرجة من الضآلة والتداني في الحقارة والصغر، إلا أن أهل الدنيا تكالبوا عليها وتصارعوا على ما فيها، فتحاسدوا وتباغضوا، واحتدمت بينهم العداوة والبغضاء والشحناء ولم يقف الصراع عند الأفراد والعائلات، بل تعداه إلى الأمم والشعوب، فالشعوب تتصارع وتتقاتل، وينتهي الأمر بينها إلى حروب تهلك فيها الأنفس وتضيع الأموال وتقل الثمرات، وبهذا فقدت الحياة طعمها وأمنها واستقرارها، واختلت فيها الموازين، وتصدعت فيها جوانب الاطمئنان النفسي، ومع الخوف وعدم الأمان انشغل كل إنسان بنفسه، وأصبح يلهث وراء آماله، وآمال البشر مع قصر الأمد، طموحاته لا تنتهي عند حد، فالإنسان تتسع آماله لكل ما تشتهيه نفسه، ويعتقد أن النجاح في طلب الرزق تعب ومهارة وتخطيط واجتهاد والحقيقة ليست كذلك   أبداً، فقد يجمع الإنسان بمهارته ودأبه ومثابرته ثراء ولكنه يفقد معها صحته وعافيته،وقد يحقق جاهاً ومنصباً وشهرة ولكنه لا يحقق سعادة، وما حصله وما ضاع منه بمفهوم العقيدة سواء لأنه ابتلاء، يقول ربنا سبحانه في سورة الفجر :

(فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ {15} وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ {16} كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ)(الفجر15-17)

كلا لأن حسابات البشر مادية بحتة، ولهذا انتهت بهم الحياة إلى صراع، وانتهت نفوسهم إلى ضياع، ومما جاء من حكم ابن مسعود رضي الله عنه في باب الزهد في الدنيا من كتاب الفوائد لابن القيم : " ولكل زارع مثل ما زرع ولا يسبق بطئ بعمله ولا يدرك حريص ما لم يقدر له " .

وحرص البشر على إدراك ما لم يقدر لهم، انتهى بنفوسهم إلى الصراع فالإنسان مطالب بالعمل والسعي، ولكنه في الوقت نفسه مطالب بالرضا بما قسم الله له، فلما اختلت الموازين وابتعد الرضا عن النفس، انتهت النعمة بصاحبها إلى نقمة، وأصبح الغني الثري من فرط ثرائه يخاف الفقر فيزيده ذلك تكالباً على الدنيا واستكثاراً من أرزاقها، فيرهق نفسه ويرهق أهله، فهو ضنين شحيح بما يجمع ويلهث طوال الوقت وراء الدنيا يجمع ما ليس له، ولا يتقي الله في وسائل الوصول إليه، فإذا أضناه التعب والجهد وأراد أن يخلد إلى الراحة فهو لا يجد طعمها، لأن مخاوفه تلاحقه وتحتويه، فيؤرقه الهم ويستبد به الأرق، إنه يلهث في كلا الحالين، إنه يلهث في عمله بجهده وتعبه وعنائه، ويلهث في راحته بصراعات نفسه وشتات فكره وشقائه وهذا ما يبعده عن حظيرة الإيمان وهذا المعنى توضحه الظلال النفسية لقول ربنا سبحانه في سورة الأعراف:

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ {175} وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(الأعراف:175-176)

والذين ابتعدوا عن حقيقة مفهوم الرزق هم أشد الناس إنكاراً لقول ربنا سبحنه في سورة الذاريات:

(وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ {22} فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ)(الذاريات:22-23)

" إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل أجلها ورزقها فأجملوا في طلب الرزق ولا تطلبوه من حرام"

والميكانيكية النفسية لفلسفة الموت وشهود الجنازات تضع حداً لهذه المهزلة، مهزلة الإنسان المتكالب على الحياة، والذي ابتعد بمفاهيمه الدنيوية عن حظيرة الإيمان فلو اعتبر هؤلاء بهذا المحسوس الملموس وهزتهم مفاجآت الموت هزة عنيفة، فربما يستيقظ معها النائم من سباته ويفيق بها اللاهث من غيبوبته، إنه يرى بعينيه أن حظه من الحياة كلها قبر يحتويه لا يتسع لغيره، وإن اتسع لغيره فالأموات يتجاورون وكل يرضى بمكانه لا يطمع أحد في شبر واحد من مكان غيره.

يا لها من موعظة، إن الدنيا لا تستحق من البشر ما هم فيه من جشع وطمع وتحاسد وتقاتل، لابد أن تصفو النفوس وتهدأ الأطماع حتى ينتهي الإنسان إلى اطمئنانه وأمنه وأمانة، فالفارق كبير بين نفس اطمأنت ونفس تصارعت.

(فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {81}‏ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)(الأنعام :81-82)

صدق الله العظيم، فإن النفس بهذا تنتهي إلى حقيقة الاطمئنان.

(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ {27} ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً {28} فَادْخُلِي فِي عِبَادِي {29} وَادْخُلِي جَنَّتِي)(الفجر:27-30)

ولهذا يقف المصلي وهو في صلاة الجنازة يدعو ويقول : اللهم من أحييته منا فأحيه على الإيمان ومن توفيته فتوفه على الإسلام.

وأسعدنا بلقائك وطيبنا للموت وطيبه لنا واجعل فيه راحتنا ومسرتنا، ما أطيب هذه النهاية!نهاية بلا صراع..

" اللهم أجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم لقائك".


الصلاة الجامعة

وتعتبر صلاة الجمعة وصلاة العيدين وصلاة يوم عرفة صلوات جامعة Group meeting والأبعاد النفسية لهذه الصلوات الجامعة واضحة المعالم، وكلها تتميز بما فيها من موعظة، وهي الخطبة، وكل المواعظ تنتهي إلى هدف واحد، فهي تعريف بأمور الدين بالقدر الذي يجب أن، يعلمه المصلي، وهو ما يطلق عليه الفقهاء " المعلوم من الدين بالضرورة " فصلاة الجمعة عبادة، وخطبتها دروس في الدين بكل تفرعاته.

وصلاة العيدين عبادة، ودروس في المعاملات وما يجب أن يكون عليه سلوكيات المسلم تجاه نفسه وأسرته وأقربائه ومجتمعه، والأعياد لها أخلاقيات تنفرد بها وكلها بشْر وسرور ومودة ومحبة وتجاور وتزاور ووفاء وإخاء، وعطف وتراحم بين الناس جميعا غنيهم وفقيرهم، وهي في مجموعها قيم أخلاقية نفسية اجتماعية روحية، تزرع أسس الصحة النفسية بما فيها من محبة واطمئنان في نفوس البشر.

ثم تأتي صلاة يوم عرفة وهو يوم خاص له قدسيته وله تشريعه فهو فريضة واجبة وسنة متبعة  والخطبة فيها تحدد كل مناسك الحج  بأركانه وواجباته وسننه وآدابه وسلوكياته، وما هو معلوم من آدابه العامة قول الحق سبحانه من سورة البقرة:

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ)(البقرة:197)

والحج اجتماع عالمي-والجمعة اجتماع أسبوعي والعيدان اجتماع سنوي أما الحج فهو عالمي له خصوصيته في طريقة التعارف والتآلف والتدارس، إنه موسم اجتماعي روحي، يتجدد كل عام، يفتح أبواب الرزق ويؤلف بين الشعوب ويجدد العلاقات ويصلح الخلافات وينتهي بفضل من الله إلى رحمة منه وغفران.

الأعياد كلها اجتماعات فرح وسعادة وبهجة وسرور، بعيداً عن الانطواء وهي مودة ومحبة وإخاء لا مكان فيها للشحناء والبغضاء، بل هي التآلف والصفاء إنها مواسم خير تجدد العلاقات وترسخ القيم الاجتماعية الروحية بين الأفراد والأسر والمجتمعات، وهي خير وشعارها خير وبركة.

(كل عام وأنتم بخير).. وهي بمفاهيم الصحة النفسية Group meeting.

هذه هي الصلاة في الإسلام، وهذا هو منهجها السلوكي، وحتى تحقق الصلاة  ثمرتها، وتصل إلى غايتها، فلابد أن يؤديها الإنسان على الوجه الذي ارتضاه ربنا سبحانه لعباده، وهي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم 

(وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)(الحشر:7)

فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس أداءً للصلاة، وكان يصلي ويأمر أصحابه أن يقتدوا به، ويقول لهم ناصحاً ومرشداً ومعلماً : " صلوا كما رأيتموني أصلي"


 الخاتمة

صلوا كما رأيتموني أصلي

كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم

كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس أداءً للصلاة، وكان يحرص عليها الحرص كل الحرص ويحبب فيها ويرغب، ومن ترغيبه صلوات الله عليه في الصلاة قال صلى الله عليه وسلم : " ما افترض الله على العباد بعد التوحيد شيئا أحب إليه من الصلاة، ولو كان شيء أحب إليه من الصلاة لتعبد بها الملائكة فمنهم راكع وساجد وقائم وقاعد".

وكان صلى الله عليه وسلم أعرف الناس بقدر الصلاة.

قالت عائشة رضي الله عنها : " كان رسول الله يكلمنا ونكلمه فإذا حضرت الصلاة فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه " .

والأذان من السنن التي تسبق الصلاة وهي بمثابة الإعلان والإعلام بوجوب الصلاة، فإذا اجتمع الناس في المسجد أقيمت الصلاة، وكما للأذان صيغته المعروفة فإن للإقامة صيغتها المألوفة، وبعد إقامة الصلاة يسر المصلي في نفسه بما ينوي إقامته من الصلاة ثم يرفع المصلي يديه إلى منكبيه أو إلى أذنيه ثم يجهر بقوله الله أكبر، وهذه تكبيرة الإحرام .

فإذا قالها المصلي فقد دخل في الصلاة مقبلا على الله مدبرا عن كل ما عداه بعيدا عن كل ما يشغله في دنياه.

وبعد تكبيرة الإحرام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح صلاته بقوله:{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)(الأنعام : 161-163)

وهذا بعض ما يقوله رسولنا صلى الله عليه وسلم فىدعاء الاستفتاح  وما ورد في ذلك : " اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسلني من الخطايا بالماء والثلج والبرد"

أو كان يقول: " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك"

وربما قال : " اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت  لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت، أنا بك وإليك لا منجا إلا إليك تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك"

هذا ما ورد عن رسولنا في أدعية الاستفتاح.

ثم بعد دعاء الاستفتاح يستعيذ المصلي من الشيطان الرجيم  يسر بها ويجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وكان رسولنا يجهر بها تارة ويخفيها تارة وكان إذا قرأ الفاتحة يمد بها صوته فإذا فرغ من الفاتحة وكان جاهراً بها جهر بآمين ورفع بها صوته وجهر بها من خلفه وكان له سكتة التكبيرة وسكتة بعد الفاتحة ثم يأخذ في قراءة سورة يطيلها أحياناً ويقصرها أحياناً لعارض من سفر أو غيره ويتوسط فيها غالباً، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : " ما من المفصل سورة قصيرة ولا طويلة إلا وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم الناس بها في الصلاة المكتوبة، وكان يطيل الركعة الأولى عن الثانية وكان إذا فرغ من القراءة سكت بمقدار ما يتراد إليه نفسه " .

ولقد تناولنا آداب التلاوة وأصولها عندما سار بنا الحديث عن تنظيم التنفس وأثره من الناحية النفسية، وأن التلاوة الصحيحة المرتلة هي تنظيم حقيقي لعملية التنفس، ولهذا كان رسولنا (ص) يقرأ ترتيلاً ويقطع قراءته حرفاً حرفاً يعطي كل حرف حقه ومستحقه في الأداء ويقف على رؤوس الآيات ولو تعلق المعني بما بعدها .

وفي الركوع كان يرفع يديه قبل أن يركع وإذا ركع وضع كفيه على ركبتيه كالقابض عليهما، ولم ينصب رأسه ولم يخفضه بل يجعله معادلاً .

وكان تسبيحه في الركوع سبحان ربي العظيم يقولها باطمئنان ويكررها إلى عشر تسبيحات، فإن أنقصت فأقلها ثلاث، وكان تارة يقول في التسبيح " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك" .

وكان يقول في رفعه من الركوع : سمع الله لمن حمده ، اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد  أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد ، لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد حمداً كثيراً كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك .

ثم يكبر ويخر ساجداً ولا يرفع يديه ويضع ركبتيه قبل يديه ثم يضع جبهته وأنفه .

وكان ينحي يديه عن جنبيه وهو ساجد ويضعهما حذو منكبيه، وفي صحيح مسلم " إذا سجدت فضع يديك وارفع مرفقيك " .

وكان يعتدل في سجوده ويستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة وكان يبسط كفيه وأصابعه ولا يفرج بينهما ولا يقبضهما .

وفي صحيح ابن حيان كان إذا ركع فرج أصابعه فإذا سجد ضم أصابعه، وكان يقول " سبحان ربي الأعلى – سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم أغفر لي" .

ويقول :" اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " .

ويقول : " اللهم أغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت به أعلم أنت الله لا إله إلا أنت " .

وكان إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود وكان يرفع رأسه مكبراً ثم يجلس مفترشاً رجله اليسرى ناصباً اليمنى واضعاً يديه على فخذيه جاعلاً مرفقه على فخذه وطرف يديه على ركبتيه .وكان يجلس بين السجدتين بقدر السجود ويقول "اللهم أغفر لي وارحمني وأجرني واهدني وارزقني وارفعني "وكان ينهض على صدر قدميه وركبتيه معتمداً على فخذيه ولا يعتمد على الأرض بيديه، عن أبي هريرة عن النبي ص " إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر لك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم افعل ذلك في صلاتك كلها".

هذه بعض صلاة النبي (ص) وهي في حقيقتها تثبيت لمعالم الاطمئنان في نفس المصلي عندما يعطيها حقها من الأداء، وهي قمة ما تهدف إليه من الناحية النفسية، ولهذا فليست الصلاة التي أمرنا أن نقيمها هي حركات بهلوانية سريعة لا يكاد يتبين من يتابع المصلي حقيقة ما يؤدي وهذا الأداء الذي يتميز بالسرعة والعجلة واللهفة ليس هدياً يأمرنا به بل هو إخلال ينهانا عنه .

ولهذا فقد أمر رسول الله رجلاً  كان يصلي في عجلة وعدم اطمئنان وقال له : صل فإنك لم تصل وأعاده عليه، ولما عجز الرجل قال علمني يا رسول الله فإني لا أحسن غير ما أفعل، فعلّمه رسولنا كيف يطمئن كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

ولولا أن الصلاة بهذه العجلة لا فائدة منها ولا تحقق الغرض الذي من أجله شرعت ما أمر الرسول هذا الرجل المسيء صلاته أن يعيدها .

ويصبح العمق في صلاتنا هو الأداء المطمئن والاطمئنان في كل حركات الصلاة، وهذا ما أمرنا به الرسول فقال : " صلوا كما رأيتموني أصلي " .

فكانت كل صلاته مطمئنة وأسرع ما كان في صلاته هو القعود للتشهد بين الركعتين، فقد كان ص يقعد له وكأنه على الرضف والله تعالى أعلم .



[1] - الحديث أخرجه مسلم وأبو داود واحمد غيرهم.

[3] - أحاديث التشهد أخرجها مسلم وأبو داود والنسائي والشافعي ومالك .