×
حرمة الغش وفداحته: خطبةٌ ألقاها فضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - في المسجد النبوي يوم الجمعة 5/ 3/ 1431 هـ، وتحدَّث فيها عن الغش وأنه مثل الكذب، وذكر صور الغش في المعاملات المالية؛ من النجش، ومدح السلع بغير ما فيها، كما تحدَّث عن الغش في المقاولات، وذكر الأدلة من الكتاب والسنة على تحريم الغش بكل صوره وأشكاله.

    الخطبة الأولى

    الحمد لله؛ أمر بالصدق والأمانة، ونهى عن الكذب والغش والخيانة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله ومصطفاه من خلقه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على آله وصحبه.

    أما بعد، فيا أيها المسلمون:

    أوصيكم ونفسي بتقوى الله - جل وعلا -، فبها تحصل السعادة، ويتحقَّق الفلاح والنجاة.

    إخوة الإسلام:

    يقول أهل العلم: «تنحصر مثارات الذنوب في صفات منها أوصاف شيطانية، هذه الأوصاف الشيطانية يتشعَّب منها: الحسد، والبغي، والحِيَل، والخداع، والمكر، والغش، والنفاق، والأمر بالفساد، ونحو ذلك».

    ألا وإن أعظم ما حاربه الشرع المُطهَّر: الغش بشتى أنواعه، ومختلف صوره، وفي جميع الميادين، وكافة مجالات الحياة، يقول - جل وعلا -: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1 ]، ويقول - عزَّ شأنه -: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ} [الشعراء: 183 ].

    وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مرَّ على صُبْرةِ طعامٍ فأدْخَل يدَه فيها فنَالَتْ أصابعُه بلَلًا، فقَال: ما هَذا يا صَاحِبَ الطِّعَام؟ قال: أصَابتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ الله، قال: أفَلا جَعَلْتَهُ فوْقَ الطَّعامِ كي يرَاهُ النَّاس، مَنْ غشَّ فليْسَ منَّا»؛ رواه مسلم، وفي رواية: «مَنْ غشَّنا فلَيسَ منَّا».

    عباد الله:

    الغش طريقٌ مُوصلٌ إلى سخط الجبار - جل وعلا -، ووسيلةٌ إلى دخول النار، وسببٌ لحرمان البركة في هذه الدار، يقول - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمِنُ غِرٌّ كرِيم»؛ أي: سليم الصدر، حسن الباطن والظاهر، وفي تمام الحديث: «والفَاجِرُ خِبء لئِيم»؛ أي: ذو مكرٍ، وغشٍّ، وخِداعٍ، والحديثُ حسنٌ عند أهل العلم.

    وفي حديثٍ آخر: «لا يدْخُلُ الجنَّةَ خِبءٌ، ولا مَنَّانٌ، ولا بخِيل»؛ رواه الترمذي، وقال: حسنٌ غريبٌ، وحسَّنه المنذري، والخِبءُ: هو الخدَّاع. وفي حديثٍ آخر: «المكرُ والخديعةُ في النَّار»؛ قال ابن حجر: إسنادُه لا بأس به.

    ومن مُنطلق هذه النصوص العظيمة عَدَّ أهلُ العلم الغِشَّ بسائر أنواعه من الكبائر لنفي الإسلام عمن فعله.

    إخوة الإسلام:

    إن المُتأمِّل في واقع بعض الناس اليوم يجد تفنُّنًا في الغش، وتحايُلًا في التمويه، والتزوير، والخِدَاع مما لا يرضي الله - جل وعلا -، ومما يُخشَى معه من عقوباتٍ نازلةٍ، ومَثُلاتٍ واقعة.

    فاتقوا الله - عباد الله - واحذروا سخطه، وأليم عقابه.

    معاشر المسلمين:

    الغِشُّ يدخل في مجالاتٍ كثيرةٍ؛ منها: الغِشُّ في النصيحة، والغِشُّ من الحكام للرعية، والغِشُّ في أمور الزواج والنكاح، ولكن أظهر صُوَره وأكثرها انتشارًا في مجتمعات المسلمين: الغِشّ في المعاملات المالية؛ فإن من المُمَارَسَات البعيدة عن شرع الله - جل وعلا -: ما يُحدِثُه بعضُ الناس، بعضُ المُتعامِلين في المعاملات المالية بيعًا أو شراءً أو غيرهما من الغش الذي قاعدتُه: إظهارُ ما ليس في باطن الأمر مما لو اطَّلَع عليه المُتعامِل لا يرضى به، ولا يبذل ماله فيه.

    وما يكون أيضًا من التصرُّفات مبنيٌّ على الكذب، وعدم البيان بحقيقة الحال، وما يكون فيه كتمُ ما لا يُحمَد في السلع بشتَّى أنواعها؛ كإخفاء العيوب، أو إظهار ما ظاهره الحسن وباطنه القبيح المُستَتِر، وسواءٌ كان في ذات السلعة، أو عناصرها، أو وزنها، أو صفاتها، أو مصدرها.

    قال - صلى الله عليه وسلم - في كلامٍ عظيمٍ عليه أنوار السنة: «البيِّعانِ بالخيَارِ مَا لم يتفرَّقا، فإِنْ صدَقَا وبيَّنَا بُورِكَ لهمَا في بيْعِهِمَا، وإِنْ كَتَمَا وكَذَبَا مُحِقَتْ بركَةُ بيْعِهِمَا»؛ متفق عليه، وفي حديثٍ آخر: يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحِلُّ لامرِىءٍ مسلِمٍ يبيِعُ سِلْعةً يعلَمُ أنَّ بها داءً إلا أخْبَر بِه»؛ قال الحافظ: إسنادُه حسن، ورواه البخاري تعليقًا مجزومًا به، ولكن موقوفٌ على عقبة بن عامر - رضي الله عنه -.

    إخوة الإيمان:

    ومن صور الغش: ما يفعله بعض المتعاملين في أيِّ تعامل مالي من الحلف على مدح معاملته أو سلعته، وكونها حسنة، وهو في باطن الأمر كاذبٌ مُخادِع، قال - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهمُ الله يومَ القيامةِ، ولا ينْظرُ إليهِم، ولا يزكِّيهمْ، ولهمْ عذابٌ أليم»، وذكر منهم: «ورجلٌ حلَفَ علَى سلْعةٍ لقدْ أُعطِي بها أكثرُ مما أعْطيَ وهُوَ كاذِب».

    ومن صور الغش: النَّجْش، وهو: الزيادةُ في ثمن السلعة وهو لا يريد الشراء، وإنما يريد التغرير بالمشترين والحاضرين للسلعة، ويريد نفع البائع؛ فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النَّجْش، وقال: «لا تَنَاجَشُوا»؛ متفق عليه، وقال ابن أبي أوفى - رضي الله عنه -: (النَّاجشُ آكِلُ رِبَا خَائِن)؛ رواه البخاري.

    ومن ذلك: من يمدَح سلعة غيره ويطلبها بالثمن، ثم لا يشتري، وإنما يريد أن يُسمِع غيره ذلك الأمر حتى يزيد في الثمن.

    إخوة الإسلام:

    ومن المجالات التي يقع فيها الغش: ما يقع كثيرًا في المقاولات المعمارية - ومن ابتُلِي بالقضاء عَرَفَ ذلك كثيرًا في واقع المسلمين -؛ بحيث يُهمِل المقاوِل في تنفيذ العقد، ويخالف في الشروط حال غفلةٍ من صاحب الشأن، أو عدم معرفته بما يقع معه ما لا يُحمَد عقباه من النتائج السيئة، والعواقب القبيحة، وسواءٌ كان ذلك مع الأفراد، أو مع الدول؛ فكلُّ ذلك محرمٌ في شريعة الله - جل وعلا -، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119 ].

    بارك الله لي ولكم في القرآن، ونَفَعَنَا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    الخطبة الثانية

    الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ عليه وعلى آلهِ وأصحابه.

    أما بعد، فيا أيها المسلمون:

    أوصيكم ونفسي بتقوى الله - جل وعلا -، فهي وصيةُ الله للأولين والآخرين.

    إخوة الإسلام:

    من أنواع الغش في المعاملات المالية: الغَبْنُ الفاحشُ بالمسلمين، فإذا كان المُشترِي لا يعرفُ قدرَ قيمة السلعة، ولا يُحسِنُ المُمَاكَسة – أي: المُجَادَلة في انتقاص الثمن، أو الاستحطاط منه -، فلا يجوز لبائعٍ أن يستغِلَّ هذه الصفة فيبيعه سلعةً بأكثر من ثمنها المعتاد مُستغِلًّا جهلَ المشتري وانخداعه بالسوق، فإن ما نسمعه بأن البيع والشراء شطارةٌ وكِياسةٌ ليس ذلك من الشرع.

    قد كان أحد الصحابة - رضي الله عن الصحابة أجمعين - يُخدَع في البيوع، فاشتكى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا بايعْتَ فقُلْ: لا خِلابَة»؛ متفق عليه، والخِلابة: هي الخديعة.

    ولذا تقرَّر في الفقه الإسلامي ما يُسمَّى بـ (خيار الغَبْن) دفعًا لما حصل من الأمور المحرمة التي غرّرت بالمشتري، وأوقَعَتْه في ثمنٍ ليس هو ثمن المثل.

    ثم إن الله – جل وعلا - أمرنا بأمرٍ عظيمٍ، ألا وهو: الصلاةُ والسلامُ على النبي الكريم، اللهم صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن الآل ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أصلِح أحوالَنا وأحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوالَنا وأحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوالَنا وأحوال المسلمين.

    اللهم عليك بأعداء المسلمين، اللهم عليك بأعداء المسلمين، اللهم أرِنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم إنهم بَغَوا وأفسدوا، فأرِنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أرسِل عليهم جندك، اللهم أرسِل عليهم جندك.

    اللهم يا ذا الجلال والإكرام اغفر لكل مؤمن ومؤمنة، ولكل مسلم ومسلمة.

    اللهم آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

    اللهم ولِّ على المسلمين خيارَهم، اللهم ولِّ على المسلمين خيارَهم، اللهم ولِّ على المسلمين خيارَهم، اللهم وجنِّبهم شِرارهم وفُجَّارهم، اللهم وجنِّبهم شِرارهم وفُجَّارهم يا ذا الجلال والإكرام.

    اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحب وترضى، اللهم وفِّقه لما تحبه وترضاه يا ذا الجلال والإكرام.

    عباد الله:

    اذكروا الله ذكرًا كثيرًا، وسبِّحُوه بكرةً وأصيلًا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.