وقفات مع صلاة الوتر وأسرار ومعاني دعاء القنوت
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
- وقفات
مع صلاة الوتر وأسرار ومعاني دعاء القنوت
- مقدمة
- الوقفة
الأولى: أحكام ومسائل سريعة مختصرة وهامة:
- أولاً: ما حكم صلاة الوتر؟
- ثانيًا: ما وقت الوتر؟
- ثالثًا: إذا طلع الفجر ولم يوتر الإنسان فهل يوتر بين الأذان والإقامة أم لا؟
- رابعًا: هل الأولى تقديم الوتر أم تأخيره؟
- خامسًا: ما أقل الوتر؟ وما أكثره؟
- سادسًا: ما موطن دعاء القنوت في صلاة الوتر؟
- سابعًا: هل يداوم على دعاء القنوت؟
- ثامنًا: هل يقنت في غير الوتر؟
- تاسعًا: ما أفضل ما يتبع في دعاء القنوت؟
- عاشرًا: أخيرًا، ما يستحب قراءته في صلاة الوتر؟
وقفات مع صلاة الوتر وأسرار ومعاني دعاء القنوت
ميادة بنت كامل آل ماضي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي عم برحمته العباد، وخص أهل طاعته بالهداية والإرشاد إلى سبيل ووفقهم بلطفه لصالح الأعمال ففازوا ببلوغ المراد.
الحمد لله الذي ميز طريق الهداية عن متاهات الغواية، وبيَّن محاسن الأخلاق الإيمانية، وجعلها مدارج صاعدة إلى جنانه مفتوحة أمام أولي الهمة من العابدين.
الحمد لله أحمده حمد معزة بجزيل الأرفاد، وأعوذ به من وبيل الطرد والإبعاد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أدخرها ليوم المعاد.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، مُوَضِّح طريق الهدى والسداد، والمبعوث رحمة للعالمين بالكتاب المبين الفاروق بين الهدى والضلال والغي والرشاد.
صلى الله عليه وعلى آله والأمجاد، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
يقول ابن القيم: اقشعرت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات، وقلَّت الخبرات، وهزلت الوحوش، وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، بكى ضوء النهار، وظلمة الليل؛ من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وشكى الكرام الكاتبون، والمعقبات إلى ربهم من كثر الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح.
وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، مؤذن بليل بلاءٍ قد ادلهم ظلامه.
ولكنه الرحمن الرحيم، الهادي إلى طريق مستقيم لا يزال يكنف عباده بحلمه ورأفته وجوده وكرمه، وكيف لا!، وهو أرحم الراحمين، وأجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، سبقت رحمته كل شيء، ووسعت كل شيء، فسمى نفسه الرحمن الرحيم، الرؤوف الكريم، يعلم بعلمه الأزلي ضعف وخذلان بني آدم أمام المغريات والشهوات وزينة الدنيا، ويشفق عليهم من عدوهم الأبدي شيطان الغواية، فهيأ لهم مواسم الخير تترى كلما انتهى موسم أقبل آخر، كيف لا ! وهو القائل:
﴿كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ [النحل: 81].
وهذا موسم عظيم هلت أنواره، واقترب انبثاق هلاله، فتحت أبواب التوبة تهيؤًا له وغلقت أبواب جهنم كرامة له، وصفدت مردة الجان، وتنزلت الرحمات من رب البريات تزينت الجنة لخطابها، وداعي الرضوان يدعوكم إلى رضوانه فهلا عزلتم عن سبيل الغي بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة والباب مفتوح.
كيف يكن أخياتي والباب قد أغلق، وبالرهن قد غُلِّق [أي استحقه المرتهن] وبالجناح قد عُلق ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: 227].
ها هو رمضان بين أيدينا فهل نعلم أندركه أم لا؟ فأما من مَنَّ الله عليها بإدراكه فلتخر ساجدة لله أن أمهلها لتلحق بركب التائبين والآيبين، وليكن قولها كما قال العابدون الأول: «اللهم قد أظلنا شهر رمضان، وحضر، فسلمه لنا وسلمنا له، وارزقنا صيامه وارزقنا فيه الجد والاجتهاد والنشاط، وأعذنا فيه من الفتن، وتسلمه منا متقبلاً».
اللهم نعماؤك لا تحصى، وفضائلك لا تدرك، وجودك لا ينتهي، وكرمك لا ينقطع، وأنت سبحانك القائل: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل: 18].
نسألك كما سألك نبيك وقرة عيوننا محمد الأمين - صلى الله عليه وسلم -، نسألك أجل نعمة وأعظمها بعد نعمة الإسلام نسألك الهداية فيمن هديت، يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، نسألك بأنا نشهد أنك الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، أن تهدينا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تبارك ربنا وتعاليت، اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك، وبك منك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أبدًا ما أبقيتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
مع هذا الدعاء وقفتنا هذا اليوم:
الوقفة الأولى: أحكام ومسائل سريعة مختصرة وهامة:
ما حكم صلاة الوتر؟ وما أقل الوتر وأكثره؟ وما وقت الوتر؟ وهل إذا طلع الفجر والإنسان لم يوتر فهل يوتر أم لا؟ ما هي مواطن دعاء القنوت؟ هل القنوت في الوتر فقط؟
أولاً: ما حكم صلاة الوتر؟
حكم صلاة الوتر على أرجح الأقوال سنة مؤكدة.
ثانيًا: ما وقت الوتر؟
وقت الوتر بين صلاة العشاء والفجر، مع التنبه إلى أن وقت الوتر يدخل من حين أن تصلى العشاء، سواء صليت في وقتها أو صليت مجموعة إلي المغرب تقديمًا.
ثالثًا: إذا طلع الفجر ولم يوتر الإنسان فهل يوتر بين الأذان والإقامة أم لا؟
الجواب: لا يوتر، فالوتر ينتهي بطلوع الفجر.
دليل سنة الوتر قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، صلاة الوتر بين العشاء إلى طلوع الفجر».
ودليل أن الإنسان لا يوتر بطلوع الفجر قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة فأوترت له ما قد صلى» [رواه البخاري ومسلم]. ولكن يقول أهل العلم يقضي الوتر وقت الضحى مشفوعًا بركعة، أي إذا كان من عادة الإنسان أن يوتر بثلاث يقضي وتره في الضحى أربع، وإذا كان وتره خمسًا قضاه ستًا وهكذا.
رابعًا: هل الأولى تقديم الوتر أم تأخيره؟
الجواب: دلت السنة أن من طمع أن يقوم آخر الليل فالأفضل تأخيره لأن صلاة الليل أفضل وهي مشهودة، ومن خاف أن لا يقوم أوتر قبل أن ينام.
خامسًا: ما أقل الوتر؟ وما أكثره؟
الجواب: أقله ركعة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الوتر ركعة من آخر الليل» [صحيح مسلم].
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «صلاة الليل مثني فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة فأوترت له ما قد صلى» [متفق عليه]، وأدنى الكمال: ثلاث ركعات بسلامين، ويجوز صلاتها بسلام واحد على أن لا يتشهد بينهما بل يسردها سردًا ثم يتشهد تشهدًا واحدًا ويسلم سلامًا واحدًا، والحكمة من ذلك حتى لا تشبه صلاة المغرب.
ويمكن أن يوتر بخمس وسبع لا يجلس إلا في آخرها.
ويوتر بتسع يجلس في الثامنة ويتشهد ولا يسلم بل يقوم للتاسعة ثم يتشهد ويسلم.
سادسًا: ما موطن دعاء القنوت في صلاة الوتر؟
الجواب: هو من السنن المتنوعة فقد يفعل قبل الركوع، ويفعل بعده، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ الألباني رحمهما الله: لا بأس من جعل القنوت بعد الركوع لأنه أكثر وأقيس فإنه سماع الدعاء، مناسب لقول العبد: سمع الله لمن حمده... إلخ.
سابعًا: هل يداوم على دعاء القنوت؟
الجواب: يفعل أحيانًا ويترك أحيانًا، فهو سنة من شاء فعله ومن شاء تركه.
ثامنًا: هل يقنت في غير الوتر؟
الجواب: القنوت يجوز في الوتر وفي الفرائض عند حدوث النوازل، وعلى هذا فلا قنوت في الفرائض إلا إذا نزلت بالمسلمين نازلة تحتاج إلى ذلك.
وأما القنوت في الفجر دائمًا فقد صرح غير واحد من العلماء أنه بدعة محدثة.
تاسعًا: ما أفضل ما يتبع في دعاء القنوت؟
أ- أن يقتصر تارة على ما ورد من صيغة القنوت التي علمها النبي - صلى الله عليه وسلم - للحسن - رضي الله عنه -.
ب- تارة أن يزيد ما شاء ليعلم الناس أنه لا بأس بذلك.
ج- وتارة أخرى يترك الدعاء بالكلية ليعلم الناس أن دعاء القنوت ليس بواجب.
ويقول الناظم شعرًا في هذا:
ولا تقنتن في كل وترك يا فتى | فتجعله كالواجب المتأكد | |
ولكن قانتًا حينا وحينا فتاركا | لذلك تسعد بالديل وتهتدي | |
ففعل وترك سنة وكلاهما | أتت عن رسول الله إن كنت مقتد |
عاشرًا: أخيرًا، ما يستحب قراءته في صلاة الوتر؟
هذا سر من أسرار النبوة الكريمة، واختبار له دلالات رائعة جمعت من مشكاة من أوتي جوامع الكلم.
فتدبري وتأملي من خلال هذه الوقفة مع السور التي كان يقرأها - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الوتر.
«تنبيه» هذه السور قراءتها سنة ويستحب الإتيان بغيرها أحيانًا لتمييزها عن الواجب، عن أبي بن كعب - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بـ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى﴾ و﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ و﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾. سبحان الله تنزيه وبراءة وتوحيد!
وزادت عائشة: «والمعوذتين» رواه النسائي وابن ماجه وأبو داود والبغوي والبيهقي.
فما الحكمة والسر وراء اختيار هذا السور الكريمة من رسول الرحمة - صلى الله عليه وسلم -؟
(سورة الأعلى):
عن عقبة بن عامر قال: لما نزلت ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اجعلوها في ركوعكم»، فلما نزلت ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى﴾ قال: «اجعلوها في سجودكم». رواه أبو داود وابن ماجه.
وعن علي - رضي الله عنه - قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب هذه السورة» رواه أحمد.
وحق لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحب هذه السورة وهي تحيل الكون كله معبدًا تتجاوب أرجاؤه بتسبيح ربه الأعلى وتمجيده، تسبيح من العابد للخالق وتنزيه ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى﴾.
وحق لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحبها وهي تتضمن قواعد الإيمان الثابت من توحيد الرب الخالق المقدر الهادي المنزه سبحانه عن كل ما لا يليق به في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه، فهو سبحانه الذي خلق كل شيء فسواه ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾.
فأكمل صنعته وبلغ به غاية الكمال الذي يناسبه.
ثم هو سبحانه قدر لكل مخلوق وظيفته وغايته فهداه إلى ما خلقه: ﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: 49-50].
«اللهم اهدنا فيمن هديت» هداه إلى ما خلقه لأجله، وقدر له ما يصلحه مدة بقائه، وهداه أيضًا إليه بآياته الكونية والشرعية، وبيَّن له سبيل النجاة أو الشقاء، وهدى الأنعام لمرتعها، وهدى الطيور للعودة من مهاجرها، فالعصفور الهزاز يهاجر جنوبًا في الخريف ليعود إلى عشه في الربيع التالي، والحمام الزاجل إذا تحير من جراء أصوات جديدة عليه في رحلته الطويلة يحوم برهة ثم يقصد قدمًا إلى موطنه دون أن يضل فسبحان ربي الأعلى ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾، والنحلة تجد خليتها مهما طمست الريح في هبوبها على الأعشاب والأشجار ﴿قَدَّرَ فَهَدَى﴾.
والحصان العجوز لو ترك وحده فإنه يلزم الطريق مهما اشتدت ظلمة الليل، ويقدر أن يرى ولو في غير وضوح لأنه يلحظ اختلاف درجة الحرارة في الطريق وجانبيه، ويرى بعينين باثرتا قليلاً بالأشعة تحت الحمراء التي للطريق فسبحان ربي الأعلى ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾.
والبومة تبصر الفأر اللطيف وهو يجري على العشب البارد مهما تكن ظلمة الليل، ونحن نقلب الليل نهارًا بما نسميه الضوء، فسبحان ربي الأعلى ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ وكل الحيوانات تسمع الأصوات التي يكون كثير منها خارج دائرة الاهتزازات الخاصة بنا، وذلك دقة تفوق كثيرًا حاسة السمع المحدودة عندنا.
وإحدى العناكب الماشية أوتيت من علم الهندسة والتركيب والملاحة الجوية ما يجعلها قادرة على أن تنسج عشًّا على شكل بالون من خيوط العنكبوت، وتعلقه بشيء من تحت الماء تمسك ببراعة فقاعة هواء بشعر جسمها وتحملها إلى الماء ثم تطلقها تحت العش، وتكرر هذا العملية حتى ينتفخ العش وتلد صغارها وتربيها آمنة عليها من هبوب الهواء فسبحان ربي الأعلى.
وإذا حمل الريح فراشة أنثى من خلال نافذة بيتك فإنها لا تلبث حتى ترسل إشارة خفية وقد يكون الذكر على مسافة بعيدة ولكنه يتلقى الإشارة ويجاوبها مهما أحدثنا من روائع لتضليلها، ترى هل لتلك المخلوقة الضئيلة محطة إذاعة وهل لذكر الفراشة سلك لاقط للصوت إن التلفون والراديو هما من العجائب الآلية وهما يتيحان لنا الاتصال السريع، ولكنا مربوطون في شأنهما بسلك وعلى ذلك لا تزال الفراشة متفوقة علينا. فسبحان ربي الأعلى.
وفي أنواع المخلوقات التي خلقها فسواها الخالق القدير بعضها من يبدي ذكاءً عاليًا أو يبدي درجة عالية من أشغال معينة من الغريزة التي بها هداها الله لما يصلح شأنها، فالدبور يحفر حفرة في الأرض ثم يصيد جندبًا نطاطًا فيحزُّ الجندب في المكان المناسب تمامًا حتى يفقد وعيه، ويعيش كنوع من اللحم المحفوظ، وتأتي أنثى الدبور فتضع بيضها في الحفرة دون أن تقتل الحشرة (الجندب الفاقد الوعي) مع أنه من غذائها ثم تغطي الحفرة وترحل فرحة وتموت ولا تعلم ماذا يحدث لصغارها الذي كبروا وتغذوا على هذا الجندب فسبحان ربي الأعلى.
فتأملي سر الدعاء «اهدني فيمن هديت»
إذا حق له أن يحبها - صلى الله عليه وسلم - وهي تضرب مثلاً لهذه الدنيا الفانية بمرعى أخرجه ربه فاستوى فاستغلظ على سوقه يعجب الزراع نباته، ثم أصبح هشيمًا تذروه الرياح فكان هذا المرعى غثاءً أحوي.
فالمرعى كل نبات، وما من نبات إلا وهو صالح لخلق من خلق الله، الذي خلق على هذه الأرض وقدر فيها أقواتها لكل حي يدب فوق ظهرها أو يختبئ في جوفها أو يطير في جوها، وهذا المرعى يصلح أن يكون طعامًا وهو أخضر، ويصلح أن يكون طعامًا وهو غثاء أحوى بتقدير الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى.
والحياة الدنيا كهذا المرعى الذي ينتهي فيكون غثاءً أحوى والآخرة خير وأبقى. فسبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، سبحان الله العليم العالم بالسر والعلانية، يعلم الجهر وما يخفى، فالسر عنده علانية فهو العليم أحاط علمًا بالذي في الكون من سر ومن إعلان.
وهو العليم بما يوسوس عبده | في نفسه من غير نطق لسان | |
بل يستوي في علمه الداني مع الـ | قاصي وذو الإسرار والإعلان | |
فهو العليم بما يكون غدًا وما | قد كان والمعلوم في ذا الآن | |
وبكل شيء لم يكن لو كان كيـ | ـف يكون موجودًا لذي الأعيان | |
فهو السميع يرى ويسمع كل ما | في الكون من سر ومن إعلان | |
فهو البصير يرى دبيب النملة السـ | وداء تحت الصخرة الصوان | |
ويرى خيانات العيون بلحظها | إي والذي برأ الورى ويراني | |
فهو الحميد لكل حمد واقع | أو كان مفروضًا على الأزمان | |
فهو أهله سبحانه وبحمده | كل المحامد وصف ذي الإحسان | |
ولك المحامد ربنا حمدًا كما | يرضيك لا يغني على الأزمان | |
ملأ السموات العلى والأرض | والموجود بعد ومنتهى الإمكان | |
وكما تشاء وراء ذلك كله | حمدًا بغير نهاية بزمان |
فسبح باسم ربك الأعلى حق له – فداه أبي وأمي وصلوات ربي عليه – أن يحبها وقد بشره ربه فيها بشارات عظيمة ولأُمَّته من بعده.
﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى * وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى * فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى﴾.
أ- أما البشارة الأولى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى﴾:
رفع عناء حفظ القرآن والكد في إمساكه عن عاتقه عليه الصلاة والسلام، وهو النبي الأمي الذي لا يحسن القراءة ولا الكتابة، فهذه البشرى تريحه وتطمئنه أن عليه القراءة عن ربه، وربُّه هو المتكفل بعد ذلك بقلبه فلا ينسى ما قرأ.
وفي هذه البشرى ما يهدئ روع النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا القرآن الحبيب إلى قلبه، فيندفع بعاطفة الحب له والشعور بالحرص عليه إلى ترديده آية آية وجبريل يحمله إليه، خيفة أن ينسى حرفًا منه.
ب- البشارة الثانية: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾:
سنقرئك فلا تنسى فلا تجعل عليك في الدين من حرج ولا مشقة، فهي الحنيفية السمحة ملة أبينا إبراهيم، وشرعًا مستقيمًا لا حرج فيه ولا عسر.
وأخيرًا حق له أن يحبها - صلى الله عليه وسلم - وهي تبين عدل الله وحكمته وترسي القاعدة الأخيرة في قواعد الإيمان، قاعدة الجزاء في الآخرة.
﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾.
فطوبى لمن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى وطوبى لمن آثر ما يبقى على ما يفنى، ولكن الإنسان الظلوم الجهول قل ما يتذكر هذا وينسى أن إيثار الحياة الدنيا هو أساس كل بلوى.
وتأملي وتدبري معي تسميتها الدنيا، فلا تجيء مصادفة فهي الهابطة والدانية أي العاجلة، وأما الآخرة فهي خير في نوعها وأبقى في أمدها، وبعد هذا طريق هداية الله للعالمين... من لدن نوح إلى صحف إبراهيم وموسى إلى لدن محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم.
ثانيًا: سورة الكافرون:
كان عليه الصلاة والسلام يقرأ في الركعة الثانية بسورة البراءة من الشرك والكفر وأعمال المشركين.
سورة التوحيد العملي (توحيد الطلب والقصد) سورة الكافرون، وفي هذه السورة نتبرأ إلى الله البراءة الكاملة من الكافرين بلا ترقيع ولا مداهنة ولا أنصاف حلول ولا التقاء في منتصف الطريق فلهم دينهم ولنا دين.
وتدبري معي هذه السورة وسنربطها إن شاء الله بدعائنا في القنوت بقوله - صلى الله عليه وسلم - «تولنا فيمن توليت».
ما أحوج المسلمين اليوم إلى هذه البراءة من الكفار وما أحوج فتيان وفتيات الإسلام الذين بهم يقوم المجتمع الإسلامي المتميز بعقيدته، والمتميز بسلوكياته إلى الشعور بعزة الإسلام، وبعزة دينهم والتخلص من شوائب وكدر الكفار، ما أحوج الأمهات المسلمات إلى العودة إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها، وتنشئة جيل معتز بدينه وليس بجيل إمعة، إن أحسن الناس أحسنوا وإن أساؤوا أساؤوا.
ليس جيلا كغثاء السيل زبدًا رابيًا، لأن الزبد يذهب وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض هذا هو ديننا، التوحيد الخالص الذي يتلقى قيمه وسلوكياته وشريعته من الله الواحد القهار دون شريك. وبغير هذا سيبقى الغش وتبقى المداهنة، ويبقى الترقيع ويبقى الذل.
ثالثًا: سورة الإخلاص:
ويختم - صلى الله عليه وسلم - شفعه بركعة توتر له ما قد صلى.
يوتر بسورة أخلصها الله لنفسه، ليس فيها شيء إلا التحدث عن صفاته العلى.
سورة تخلص قارئها من الشرك والتعطيل لأن الإقرار بها ينافي الشرك والتعطيل.
سورة أدخلت صاحبها الجنة لمحبته إياها.: كما ورد في صحيح البخاري أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ يرددها فلما أصبح جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، وكأن الرجل تقالها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن».
وفي البخاري أيضًا عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلاً على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟» فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أخبروه أن الله تعالى يحبه» وفي رواية أخري قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن حبك إياها أدخلك الجنة».
وسميت هذه السورة بأسماء عديدة منها التفريد، أو التجريد، أو التوحيد، أو النجاة، أو الولاية لأن من قرأها صار من أولياء الله، أو المعرفة، وتسمى كذلك سورة الأساس لاشتمالها على أصول الدين.
تأملي وتدبري معي كيف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقرن بها وبين سورة الكافرين للتبرؤ من جميع أنواع الشرك والكفر، وهذه كما قلت سورة التوحيد العملي (توحيد الطلب والقصد) وهذه السورة إثبات التوحيد لله سبحانه المتميز بصفات الكمال، والمقصود على الدوام المنزه عن الشرك والشبه، فهي سورة التوحيد العملي.
لذا قرن بينهما في ركعتي الفجر، والطواف، وسنة المغرب، وصلاة المسافر، وركعتي الشفع والوتر، ولهذا الاقتران مغزاه ومعناه.
جاء في صحيح البخاري: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولدًا وهو يرزقهم ويعافيهم».
وروى البخاري أيضًا عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله عز وجل: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدًا وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوًا أحد».
ويكفي هذه السورة بعد أن أثبتت صفات الله العلي فهو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي يصمد إليه الخلائق في حوائجهم ومسائلهم، وهو السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الله سبحانه هذه صفته ﴿الصَّمَدُ﴾ لا تنبغي إلا له، ليس له كفء وليس كمثله شيء، سبحانه الواحد القهار.
فهي كذلك ردت على كل عقيدة باطلة، كالثنوية القائلين بوجود إلهين اثنين للعالم، وهما النور، والظلمة، والنصارى القائلين بالتثليث، والصابئة القائلين بعبادة الأفلاك والنجوم، واليهود القائلين عزير ابن الله، والمشركين القائلين الملائكة بنات الله.
ثم يقنت عليه الصلاة والسلام، والقنوت لله له معان:
1- الخشوع: الإمساك عن الكلام في الصلاة، والإقرار بالعبودية والقيام بالطاعة التي ليس معها معصية كما قال تعالى: ﴿وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ﴾ وكما في قوله: ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ ﴿كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾ أي مطيعون، فالقانت المطيع والقانت الذاكر لله تعالى، كما قال تعالى: ﴿أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا﴾ وقيل: العابد، وقيل: قنت له أي ذل.
2- وقيل القنوت طول القيام: روى جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الصلاة أفضل؟ فقال: «طول القنوت» يريد طول القيام.
وقال عليه السلام والسلام: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت الصائم» أي المصلي [رواه مسلم].
3- وقيل الدعاء: والمشهور في اللغة أن القنوت هو الدعاء، كما هو هنا وعلى هذا فحقيقة القنوت العبادة، والدعاء لله عز وجل في حال القيام.
والقنوت شرعًا:
هو ذكر مخصوص مشتمل على دعاء وثناء ويشمل قنوت الوتر وقنوت الفجر، وقنوت النوازل.
ودعاء القنوت هو الدعاء الذي ذكرناه آنفًا.
وبعد:
فهذا ما تيسر من بعض معاني وأحكام صلاة الوتر، وصلاة الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.