دقائق الليل الغالية
التصنيفات
- فقه >> العبادات >> الصلاة >> صلاة التطوع >> صلاة الليل
المصادر
الوصف المفصل
دقائق الليل الغالية
أبو الحسن بن محمد الفقيه
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.. وبعد:
فإن الليل مدرسة الزاهدين.. وخلوة العابدين.. وشرف الصالحين.. وسلوان المؤمنين.. يجددون فيه الإيمان.. ويحيون فيه الجنان.. ويقمعون به الشيطان..
فساعاته مباركة.. ولحظاته طيبة.. ونسماته تتدفق بالرحمة والسكينة واللذة والطمأنينة.
فهو دأب الصالحين.. ووقت تضرع المحتاجين.. واستغفار التائبين.. وقضاء حوائج الراغبين.
يحيون ليلهم بطاعة ربهم | ||||
بتلاوة وتضرع وسؤال | ||||
وعيونهم تجري بفيض دموعهم | ||||
مثل انهمال الوابل الهطال | ||||
في الليل رهبان وعند جهادهم | ||||
لعدوهم من أشجع الأبطال | ||||
فطوبى لمن أحياه بالقيام.. وآثره على المنام.. فحاز به شرف الدنيا وحسن الختام!
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» [رواه مسلم].
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الصلاة أفضل؟ قال: «طول القنوت» [رواه مسلم].
فتعال – أخي – نطلع على فوائد القيام وفضائله.. ونتنسم من عبير السلف نسمات تحيي في النفوس همة التبتل والعبادة.. والطاعة والزهادة..
فضائل قيام الليل
لحظات السحر.. لحظات خير وفضيلة.. ومغفرة ووسيلة.. وعبادة جليلة.
ففيها تتنزل البركات.. وتتغشى العابدين الرحمات.. وتستجاب السؤالات.. ويتجاوز فيه الله سبحانه عن الزلات والخطيئات.
بل وينزل سبحانه إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلال وجهه وعظيم ذاته، إكرامًا للسائلين.. وإيقاظًا لهمم العارفين.. وتسلية لعباده المؤمنين.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» [رواه البخاري ومسلم].
فيا لها من لحظات ساكنة.. ويا له من جود عريض.. وكرم سخي.. وإحسان وفيّ!
فأين من يستثمر تلك اللحظات في دعوة صادقة، وتوبة ناصحة ، يصلح الله له بها أمر دينه؛ فلا ينثلم، وأمر رزقه فلا ينعدم، وأمر مآله فلا يخيب أبدًا.
فيا أيها الإنسان ما أجهلك.. وما أعجلك تؤثر نوم ساعة على نيل راحة خالدة..!
ويا أيها الإنسان ما أظلمك... تعصي ويعرض عليك الغفران فتأبى!
وسبحانك ربي ما أرحمك وأحلمك.. تبسط يدك بالليل ليتوب مسيء النهار وتبسط يدك بالنهار ليتوب مسيء الليل!
يا نائم الليل كم ترقد | ||||
قم يا صديقي قد دنا الموعد | ||||
وخذ من الليل وأوقاته | ||||
وردًا إذا ما هجع الرقد | ||||
من نام حتى ينقضي ليله | ||||
متى يبلغ المنزل أو يسعد | ||||
ومن أجلّ فوائد القيام:
1- خلوة السحر:
فخلوة السحر سكينة النفوس.. وطمأنينة القلوب.. تنساب فيها دموع المخلصين على خدودهم تترى.. قبل دخولهم على الله بالصلاة.. ويحصل بها هدوء الطبع.. وسمت الخلُق.. وسكون الأعضاء منسجمة في سكونها مع سبات الليل الهاديء.. وصماته الهامد..!
وإن المستيقظ من فراش المنام.. إلى رحاب القيام.. ليستيقظ يقظة ليس من نومه فقط وإنما من غفلة طالما حجبت قلبه عن الله.. وحرمته من لذة لقاه.. فهو بقومته الليلة يجلو ظلمات نهارية تخللته في يومه.. ولازمته في يقظته ونومه.. فاستيقظ يغسل قلبه.. ويذهب ذنبه.. ويستغفر ربه.. ليحيى حياة من جديد ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود: 114].
وهذه الخلوة هي – والله – مدرسة الإخلاص.. فيها ينشأ وينمو.. وفيها يكبر ويزهو.. وبها يحفظ ويربو.. لأنها عبادة غائبة عن أعين الناس.. وعن مديح الناس.. فلا يقدم عليها إلا مخلص يبتغي بها وجه الله والدار الآخرة.
ولذا فإن لها حلاوة أيما حلاوة! ولذاذة أيما لذاذة!
فالخالي في الأسحار.. بالتبتل والأذكار.. والدعوات والاستغفار.. لا يشعر بغربة في نفسه ولا بوحدة في حسه.. بل هو في أنس الله يرتعي.. وفي اجتماعه به ينعم.. وبقربه يتسلى.. وبحبه يتلذذ.. وبمعيته يسعد.. وبالخضوع الصادق يتعبد.
اطلبوا لأنفسكم | مثل ما وجدت أنا | |
قد وجدت لي سكنا | ليس في هواه عنا | |
إن بعدت قربني | وإن قربت منه دنا |
ومن عظيم حب المخلص في القيام للقيام؛ أنه يشتاق لليل إذا حل النهار.. ويظل ينتظر من النهار أفوله.. ومن الليل حلوله.. لما يجده في تلك الخلوات من متعة العبادة ونشوة وسعادة.. بل إنه يستثقل في نفسه كثرة المخالطة بالناس.. ولا يحصل له الأنس ولا السكينة إلا في خلوة السحر السكينة!
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي | ||||
متأخر عنكم ولا متقدم | ||||
أجد الملامة في هواك لذيذة | ||||
حبًا لذكرك فليلمني اللوَّم | ||||
ولا تزال تلك الخلوة تؤتي أكلها حتى تدفع المؤمن إلى العزوف عن الدنيا وأوحالها.. وترك الاشتغال بأزبالها..
فإنما هي جيفة مستحيلة | ||||
عليها كلاب همهن اجتذابها | ||||
فإن تجتنبها كنت سلمًا لأهلها | ||||
وإن تجتذبها نافستك كلابها | ||||
ولا تزال تلك الخلوة بالمؤمن حتى تهذب لسانه وتقوم مقاله وتزين فعاله.. وتطهر نفسه وترقق حسه.. فإذا به حيي كريم رفيق رحيم.
ولا تزال به حتى تكسوه نضارة الوجه.. وحلاوة البشر.. ومهابة القدوم.. ورفعة الشأن، فإذا به يخطو نحو الكمال.
فأين ساعة غطيط وشخير.. من هذه الفوائد الذهبية.. في خلوة السحر!!
ومن فوائدها أيضًا:
1- أنها ساعة مباركة.. يُكثر الله فيها القليل.. ويُربي فيها الضئيل.. ويجزي على العبادة فيها خيرًا كثيرًا.
2- أنها تمرس العبد على الصدق مع الله.. وعلى عدم التزين للمخلوق، وتشغله بخاصة نفسه.. ومطالعة عيبه والاستغفار لذنبه..
3- أنها تعلمه الزهد في الدنيا وتميت الطمع والحرص عليها في قلبه، وتجعله مقبلاً على الله مدبرًا عن الدنيا.
4- أنها تورثه رقة القلب.. ورفق الطبع.. والتواضع والخلق..
5- أنها ترغبه في العزلة المحمودة، والأنس بالله على كل حال، فإن حلاوة أنسه بالله في خلوة الليل تدفعه إلى طلبها في النهار فيستثقل الاجتماع بالناس في غير ذكر الله تعالى.
ليس للناس موضع في فؤادي | ||||
زاد فيه هواك حتى ملاهُ | ||||
2- استجابة الدعوات:
وقيام الليل هو مفتاح استجابة الدعاء.. وقضاء الحوائج.. ونزول العطاء.. قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة، إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة» [رواه مسلم].
ولقد عرفتُ – ممن عرفت – رجلاً دينًا خلوقًا كان يملك محلاً تجاريًا مرموقًا.. وقع أن جرّنا الحديث إلى الكلام عن دعوات السحر وأن الله جل وعلا يستجيبها ويتعاهدها بالقبول.. فما كان من ذلك الرجل الصالح إلا أن هش وبش بالفرح ثم قال لي:
والله لقد كنت قبل شهرين في غم وهم وكنت أتجول في الأسواق النائية البعيدة.. وربما منعني البعد من الرجوع إلى البيت فأنام على الأرض هربًا من تكاليف الفنادق.. ولم يكن لي من التجارة إلا بضعة أكياس زهيدة الثمن لا أربح من بيعها إلا ما يعولني أنا وعيالي لبضعة أيام..
وفي يوم خرجت قبل الفجر بنحو ساعة ونصف كعادتي في الخروج إلى السوق.. وتأخرت حافلة النقل.. فنظرت عن يمينى ثم عن شمالي فلم أر أحدًا.. ورأيت محلاً تجاريًا وسط الشارع.. فنظر إلى السماء ثم قلت مبتهلاً باكيًا: اللهم يسر لي في محل كهذا أقوت به عيالي.. وأتخلص من عذاب هذا السفر ومفارقتي للأسرة والأولاد..
ثم لبثت ما شاء الله أدعو – حتى أذن الفجر – فصليت وانطلقت إلى السوق.
وقال: ثم نسيت أمر دعائي.. حتى ذكرت ذلك وأنا أبيع في هذا المحل.. وهو المحل الذي كنت نظرت إليه في ذلك السحر.. ومن وقتها عظم شأن السحر عندي فلا أترك فيه الدعاء أبدًا.
أتهزأ بالدعاء وتزدريه | ||||
ولا تدري ما صنع الدعاء | ||||
سهام الليل لا تخطى ولكن | ||||
لها أمد وللأمد انقضاء | ||||
وعن عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أقرب ما يكون العبد من ربه في سجوده، وإذا قام يصلي في ثلث الليل الأخير، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن»([1]).
3- غفران الذنوب:
وقد تقدم في الحديث أن الله جل وعلا ينزل في الثلث الأخير من الليل إلى سماء الدنيا فيقول: «من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» [رواه البخاري ومسلم].
ويد الله سبحانه وتعالى مبسوطة للمستغفرين بالليل والنهار.. ولكن استغفار الليل يفضل استغفار النهار بفضيلة الوقت وبركة السحر. ولذلك مدح الله جل وعلا المستغفرين بالليل فقال: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾ [آل عمران: 17].
وذلك لأن الاستغفار بالسحر.. فيه من المشقة ما يكون سببًا لتعظيم الله له.. وفيه من عنت ترك الفراش ولذاذة النوم والنعاس.. ما يجعله أولى بالاستجابة والقبول.. لاسيما مع مناسبة نزول المولى جل وعلا إلى سماء الدنيا وقربه من المستغفرين.. فلا شك أن لهذا النزول بركة تفيض على دعوات السائلين وتوبة المستغفرين وابتهالات المبتهلين!!
فعن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» [رواه مسلم].
قطع الليل رجال | ورجال وصلوه | |
رقدوا فيه أناس | وأناس شهدوه | |
لا يميلون إلى النو | م ولا يستعذبوه | |
فكأن النوم شيء | لم يكونوا يعرفوه |
وقد امتدح الله جل وعلا عباده الصالحين فقال: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات: 17، 18].
قال الحسن: كابدوا الليل ومدوا الصلاة إلى السحر، ثم جلسوا في الدعاء والاستكانة والاستغفار.
وقال تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [السجدة: 16].
فلا يستقربهم حال، ولا يثبت لهم نوم.. ولا يغمض لهم جفن لخوفهم من الوعيد ورجاءهم فيما عند الله من النعيم.
وقد صدق الله جل وعلا: ﴿أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 9].
وكيف يستوي من تحمل مشقة السهر.. ومؤنة الوقوف.. وآثرَ على المنام لذةَ القيام خوفَ وعيد ورجاء موعود.. كيف يستوي هو ومن ضيع ليله نائمًا هائمًا.. لم يرغبه وعد ولا أخافه وعيد.
بهذا الليل فلتفرح فإنه | ||||
لما ترجوه من خير مظنه | ||||
وفي جلبابه إن تدر عنه | ||||
لكل مخافة درع وجُنّه | ||||
فخذه مرسلاً فيه جفونًا | ||||
كأن دموعها سحب مزنه | ||||
وقم فيه ولو تحت المواضي | ||||
وقف فيه ولو فوق الأسنّه | ||||
وأنت بقلب محزون أثارت | ||||
به الأحزان نارًا مستكنه | ||||
4- دخول الجنة:
فعن أبي يوسف عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام»([2]).
ولا شك أن إفشاء السلام وإطعام الطعام وصلة الأرحام أقل مشقة من القيام، بل إن مفتاح تلك العبادات هو قيام الليل لأنه يهذب النفس فتسلم ويزكيها بالرقة والرحمة فتصل الرحم وتطعم!
ومن هنا كان قيام الليل مفتاح الخير الكبير، وسببًا للفوز بالجنان ورضى الرحمن!
ويروى عن ثابت أنه قال: كان أبي من القوامين لله في سواد الليل، قال: رأيت ذات ليلة في منامي امرأة لا تشبه النساء، فقلت لها: من أنت؟ فقالت: حوراء أمة الله، فقلت لها: زوجيني نفسك، فقالت: اخطبني من عند ربي وأمهرني. فقلت: وما مهرك؟ فقالت: طول التهجد ([3]).
يا خاطب الحور في خدرها | ||||
وطالبًا ذاك على قدرها | ||||
انهض بجد لا تكن وانيًا | ||||
وجاهد النفس عن صبرها | ||||
وجانب الناس وافضهم | ||||
وحالف الوحدة في ذكرها | ||||
وقم إذا الليل بدا وجهه | ||||
وصم نهارًا فهو مهرها | ||||
فلو رأت عيناك إقبالها | ||||
وقد بدت رمانتا صدرها | ||||
وهي تماشي بين أترابها | ||||
وعقدها يشرق في نحرها | ||||
لهان في نفسك هذا الذي | ||||
تراه في دنياك من زهرها | ||||
وقال مالك بن دينار: كان لي أحزاب أقرؤها كل ليلة، فنمت ذات ليلة، فإذا أنا في المنام بجارية ذات حسن وجمال، وبيدها رقعة، فقالت أتحسن أن تقرأ؟ فقلت: نعم، فدفعت إلى الرقعة، فإذا مكتوب هذه الأبيات:
لهاك النوم عن طلب الأماني | ||||
وعن تلك الأوانس في الجنان | ||||
تعيش مخلدًا لا موت فيها | ||||
وتلهو في الخيام مع الحسان | ||||
تنبه من منامك إن خيرًا | ||||
من النوم التهجد بالقرآن ([4]) | ||||
أخي الكريم..
فلا يفوتنك ربح القيام.. ولا يستهوينك المنام.. فإنما الدنيا أسواق لاكتساب الآخرة.. وسوق الليل تجارة لا تبور..
فجاهد نفسك في تحصيله.. واحفظ لليل دقائقه الغالية.. فإنها أوقات مباركة تستجاب فيها دعوتك.. وتقضى فيها حاجتك..
فاحرص على إحياءها بقراءة القرآن.. ومناجاة الرحمن فإنها ساعة تفيض فيها النفحات على الأرواح.. وتنساب عليها السكينة فترتاح..
ولك في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة.. فلقد كان قوامًا لليل حتى تفطرت قدماه - صلى الله عليه وسلم - فقيل له: أتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» [رواه البخاري ومسلم].
وتذكر أن التوفيق لهذه العبادة الجليلة منحة ربانية يهبها الله جل وعلا للصالحين من عباده، لذا فهي تقتضي تهذيب النفس والأخذ بالأسباب حتى يوفق إلى نيلها العبد المسلم.
وإليك جملة من الأسباب النافعة المعينة على قيام الليل.
* * *
أسباب تعين على قيام الليل
أخي الكريم...
قيام الليل عبادة جليلة وقربة عظيمة لا ينالها إلا من جاهد نفسه فأصلحها، ودافع دنياه فودعها، ودحر شيطانه فغلبه، وردع هواه فجانبه، وهيأ نفسه باتخاذ أسباب اليقظة والاستيقاظ أملاً في التهجد في تلك الدقائق الغالية!
وأما الأسباب المعينة على القيام، فتنقسم إلى قسمين:
* أسباب ظاهرة. * وأسباب باطنة.
أولاً: الأسباب الظاهرة:
وهي أربعة أمور:
1- قلة الأكل والشرب: فإن كثرة الأكل تدعو إلى غلبة النوم لاسيما أكل العشاء هذا إذا كان الأكل حلالاً أما إذا كان الأكل حرامًا، فلا بركة فيه قليلاً كان أم كثيرًا لأنه من مثبطات القيام وموانعه. قال احد السلف: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بسبب ذنب أصبته.
وأما الإسراف في الحلال والشبع المفرط منه فإنه يثقل عن الطاعة عامة وعن قيام الليل خاصة، لأنه يكون أشق على من كان شبعه مفرطًا. ولقد قيل: البطنة تذهب الفطنة.
وهي قاعدة طبية صحيحة: فإن الدم الذي يؤهل الإنسان إلى الانتباه من النوم والغفلة يكون في الرأس، لكنه ينزل إلى الجهاز الهضمي في حالة الشبع لتسهيل هضم الطعام فينتج عن ذلك قلة الانتباه.
مع أن كثرة الأكل توسع مجاري الشيطان، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، وفي الحديث: «ما ملأ آدمي وعاء شرًا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لابد فاعلاً فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه»([5]).
«ويحكى أن إبليس – لعنه الله – عرض ليحيى بن زكريا عليهما السلام، فقال له يحيى: هل نلت مني شيئًا قط؟ قال: لا، إلا أنه قدم إليك الطعام ليلة فشهيته إليك حتى شبعت منه، فنمت عن وردك، فقال يحيى: لله علي أن لا اشبع من طعام أبدًا.
فقال إبليس: وأنا لله علي أن لا أنصح آدميًا أبدًا ([6]).
فاحرص – أخي الكريم – على قلة الأكل وكثرة الصوم لتكون خفيف الدم رقيق الحسن فلا يفوتك القيام.
2- تنظيم النوم: وتنظيم النوم يزيل أضراره ويبقي منافعه، وضرر النوم يتعلق بشيئين: بمدة النوم وبوقته.
فكثرة النوم تورث الغفلة والخمول وفساد المزاج وانحراف النفس.
كما أن النوم في طرقي النهار ضرره أكثر من نفعه، وأفضله نوم وسط النهار.. ومن هذه المقدمة يتبين أن أعدل النوم ما كان في نصف الليل الأول وسدسه الأخير، ثم إذا تخلل هذه الفترة انقطاع كالقيام وقراءة القرآن ونحوه، يستعان على تعويضه بالقيلولة في وسط النهار.
وقد امتدح الله جل وعلا عباده بإحياء الليل بالقيام والأذكار فقال: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾ [الذاريات: 17] وفيه الترغيب في مدافعة النوم ومغالبته من أجل العبادة والقيام، ولا يعني هذا تركه بالكلية أو تعويضه بالنهار بالكلية. بل العدل والتوازن مطلوب في كل شيء. فينبغي تقسيم الليل بحسب حاجة الإنسان في الليل والتعود على ذلك شيئًا فشيئًا مع الاستعانة بنوم وسط النهار، وقلة الأكل، وإلا فإن مدافعة النوم جملة وإطالة السهر قد يتلف الدماغ والصحة.
3- تجنب التعب الذي لا فائدة منه: لأن الإرهاق يؤدي إلى انهماك الجسم، ويضطره إلى النوم بحيث لا يستطيع معه القيام، ولكن الذي ينبغي تجنبه ليس هو التعب المحمود من أجل لقمة العيش وكسب الرزق أو طلب العلم أو الدعوة في سبيل الله أو غيرها من الفضائل، وإنما التعب الذي لا يرجى منه مصلحة كالإفراط في المشي لغير حاجة أو السباحة أو غيرها مما يجهد الجسم ويهده.
ولكي لا يتمكن التعب من جسدك – أخي الكريم – وتكون أقوى على مدافعته لأجل قيام الليل ينبغي لك المحافظة على ذكر عظيم الفائدة كثير النفع.
فقد علم النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته فاطمة وعليًا رضي الله عنهما أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا مضاجعهما ثلاثا وثلاثين، ويحمدا ثلاثًا وثلاثين، ويكبرا أربعًا وثلاثين لما سألته الخادمة، وشكت إليه ما تقاسيه من الطحن والسعي والخدمة، فعلمها ذلك، وقال: «إنه خير لكما من خادم» [رواه البخاري ومسلم].
قال ابن القيم رحمه الله: فقيل: إن من داوم على ذلك؛ وجد قوة في يومه مغنية عن خادم!([7]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بلغنا أنه من حافظ على هذه الكلمات، لم يأخذه إعياء فيما يعانيه من شغل وغيره ([8]).
وقد حكي عن غير واحد من أهل العلم أن لهذا الذكر سرًا عجيبًا في تقوية الجسم والتخلص من العياء والفشل لاسيما عند المداومة عليه، فلا يجدر بمن كان القيام هدفه أن يتركه ليلة واحدة رغبة في تنشيط الجسم وإذهاب الوهن.
4- البعد عن المحرمات: فإنها توجب الأضرار والعقوبات، ومن عقوباتها الحرمان من الطاعة، فإن المعصية تدعو إلى أختها، وتصد عن الطاعة.
ومن المثبطات عن الطاعة؛ التهاون بالأوامر، فإنك إذا تهاونت بالأمر إذا حضر وقته ثبطك الله وأقعدك عن مراضيه وأوامره عقوبة لك، قال تعالى: ﴿فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ﴾ [التوبة: 83]([9]).
ومن هنا وجب على المسلم إذا أحس من نفسه استثقالاً على القيام في الليل، أن يبادر إلى التفكير في عيوبه ومحاسبة نفسه، وأن يبادر بالتوبة النصوح ويكثر من الاستغفار بالنهار ليرحمه الله جل وعلا ويمكنه من القيام بالليل.
وقد تقدم أنه حكي عن بعض السلف أنه حرم قيام الليل بسبب ذنب واحد خمسة أشهر! فما بالنا نحن وذنوبنا أكثر من ذلك!
مولاي جئتك والرجا | ء قد استجار بحسن ظني | |
أبغي فواضلك التي | تمحو بها ما كان مني | |
فانظر إلي بحق لطفك | يا إلهي واعف عني |
ثانيًا: الأسباب الباطنة:
وهي كذلك أربعة أمور:
1- الوقوف على فضائل القيام: فإن معرفة فواضله وفوائده تنشط النفس إليه وتشجع على ابتغائه وتحصيله، فإن من أحب شيئًا بذل في سبيله الجهد وصابر التعب والنصب لأجله.
ولو لم يكن من القيام في الظلمات إلا أنه سبب للفوز بالجنات لكان كافيًا وداعيًا إلى التشمير إليه، ونيله وتحصيله، وقد بينا في أول هذا الكتاب جملة من فضائله العظيمة.
وروي عن يحيى بن عيسى بن صرار السعدي وكان قد بكى شوقًا إلى الله ستين عامًا قال: رأيت كأن ضفة نهر يجري بالمسك الأذخر، حافتاه شجر اللؤلؤ ونبت من قضبان الذهب، فإذا بجوار مزينات يقلن بصوت واحد:
سبحان المسبح بكل لسان، سبحان الموجود بكل مكان ([10]) سبحان الدائم في كل زمان، سبحانه سبحانه، قال: فقلت: من أنتن؟ قلن: خلق من خلق الله سبحانه، قلت: وما تصنعن ها هنا؟ قلن:
يناجون رب العالمين لحقهم | ||||
وتسرى هموم القوم والناس نوم | ||||
ذرانا إله الناس رب محمد | ||||
لقوم على الأقدام بالليل قوم | ||||
فقلت: بخ، بخ، لهو من هؤلاء، لقد أقر الله أعينهم.
فقلن: أما تعرفهم.
فقلت: والله ما أعرفهم.
قلن: هؤلاء المتهجدون بالليل أصحاب السهر ([11]).
2- سلامة الصدر من الأحقاد: فإن الحقد يوجع القلب ويزعج النفس، ويسبب القسوة، وغالبًا ما يكون سببه التنافس في الدنيا أو الحسد، ومن كان هذا خلقه، لم يكن الله مبتغاه، لأن القلب لا يحتمل متعلقين، فإما التعلق بالدنيا أو التعلق بالآخرة.
ومن غلب تعلق قلبه بالدنيا فنافس عليها ووالى وعادى عليها حرم الأنس بالله، وفاته القيام إذا أراده إلا أن يتوب.
ومن خلط في ذلك فعلق قلبه بالدنيا قليلاً وبالله قليلاً، جزاه الله بحسب تخليطه، فتارة يقوم وتارة يخذل.
ومن صفّى صُفّي له!
قال مالك بن دينار: خرج أهل الدنيا من الدنيا ولم يذوقوا أطيب شيء فيها، قيل: وما هو؟ قال: معرفة الله تعالى ([12]).
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له | ||||
من الله في دار المقام نصيب | ||||
فإن تعجب الدنيا رجالاً فإنه | ||||
متاع قليل والزوال قريب | ||||
3- الخوف من الله جل وعلا: فقد أخبر الله جل وعلا أن الخوف منه والطمع في رحمته هو ما جعل عباده الصالحين يتقلبون ليلاً في الفراش كأنهم على مقلاة، لا يغمض لهم جفن ولا يهدأ لهم بال: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [السجدة: 16].
قد باتوا يتلون كتاب الله يراوحون بين أقدامهم وجباههم، فبين صارخ وباكي.. وبين متأوه وشاكي، يعجبون إلى ربهم من مقام ندم واعتراف.. ويجأرون إليه: ربنا.. ربنا.. يطلبون فكاك رقابهم.
ينظر الله إليهم في جوف الليل منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، قد أكلت الأرض ركبهم وأيديهم وجباههم، واستقلوا ذلك في جنب الله»([13]).
أخي الكريم...
وهذا الخوف من أهم أسباب القيام، فهو يولد في النفس القدرة على القيام، بل ويفزعها للقيام كما تفزع من شيء تخاف ضرره في الدنيا.
إذا ما الليل أظلم كابدوه | ||||
فيسفر عنهم وهم ركوع | ||||
أطار الخوف نومهم فقاموا | ||||
وأهل الأمن في الدنيا هجوع | ||||
4- حب الله جل وعلا: وهو أقوى دوافع قيام الليل، والتبتل في خلوة الأسحار بالصلاة والاستغفار.. فإذا أدت الناس إلى بيوتها، وغلقت المحلات أبوابها، وأسلمت الأنفس أرواحها وخلا كل حبيب بحبيبه، قام أهل الليل، فأبواب السماء لهم مفتحة، وعين الرحمن لهم ناظرة.
«ألا وإن لليل أهلا! هم في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم»([14]).
فقيام الليل دافعه حب العبد لله، وثمرته حب الله للعبد، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه» [رواه البخاري].
مالي شغل سواه مالي شغل | ||||
ما يصرف عن هواه قلبي عذل | ||||
ما أضع إن جفا وخاب الأمل | ||||
مني بدل ومالي منه بدل | ||||
نسمات من قيام السلف
وإليك – أخي – نبذة عن حال السلف في القيام:
إذا استيقظ أحدهم، فأول ما يجري على لسانه ذكر الله جل وعلا والتوجه إليه واستعطافه والخشوع بين يديه والاستعانة به أن لا يخلي بينه وبين نفسه، وأن لا يكله إليها فيكله إلى ضعة وعجز وذنب وخطيئة.. فأول ما يبدأ به «الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور»([15]) ثم يدعو ويتضرع ثم يقوم إلى الوضوء بقلب حاضر مستصحب لما فيه، ثم يصلي ما كتب الله صلاة محب ناصح لمحبوبه متذلل منكسر بين يديه، لا صلاة مدل بها عليها، يرى من أعظم نعم محبوبه عليه أن أقامه وأنام غيره، واستزاره وطرد غيره، وأهّله، وحرم غيره، فهو يزداد بذلك محبة إلى محبة ويرى أن قرة عينه وحياة قلبه وخبة روحه ونعيمه ولذته وسروره في تلك الصلاة. فهو يتمنى طول ليله.
يود أن ظلام الليل دام له | ||||
وزيد فيه سواد القلب والبصر | ||||
فهو يخشع في صلاته إلى مولاه، معطيا لكل آية حظها من العبودية، فتجذب روحه وقلبه آيات المحبة والوداد، وآيات الإنعام والإحسان، وآيات الأسماء والصفات، وآيات الرحمة والغفران، وتقلقه: آيات الخوف والعدل والانتقام فيزداد خوفه وخشيته من الله سبحانه.
فإذا صلى ما كتب الله، جلس مطرقًا بين يدي ربه هيبة له وإجلالاً، واستغفره استغفار من قد تيقن أنه هالك إن لم يغفر له ويرحمه.. فإن قضى من الاستغفار اضطجع على شقه الأيمن استعدادًا لفريضة الفجر.
ثم ينهض إلى صلاة الصبح قاصدًا الصف الأول عن يمين الإمام أو خلف قفاه، أو قربه ما أمكن فإن للقرب من الإمام تأثيرًا في صلاة الفجر خاصة. قال تعالى: ﴿وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: 78]. فإذا فرغ من صلاة الفجر أقبل لكليته على ذكر الله والتوجه بأذكار أول النهار فيجعلها وردًا لا يُخلّ بها أبدًا. ثم يزيد عليها ما شاء الله من الأذكار الفاضلة، أو قراءة القرآن حتى تطلع الشمس ثم يصلي ركعتين إن شاء وينصرف حامدًا شاكرًا ([16]).
* * *
([1]) رواه الترمذي والنسائي والحاكم وصححه.
([2]) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
([3]) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة لأبي عبد الله القرطبي 2/274.
([4]) التذكرة 2/275.
([5]) رواه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (5674).
([6]) مدارج السالكين لابن القيم 1/453.
([7]) صحيح الوابل الصيب لابن القيم، ص144.
([8]) المرجع السابق نفسه، ص74.
([9]) انظر بدائع الفوائد لابن القيم (2/180).
([10]) أي بعلمه ومعيته لا بذاته.
([11]) التذكرة 2/276.
([12]) مدارج السالكين 2/233.
([13]) من كلام أبي حمزة الخارجي. انظر عمل المسلم في اليوم والليلة، محمد طارق محمد صالح، ص294.
([14]) عمل المسلم في اليوم والليلة، ص294.
([15]) حديث مرفوع رواه البخاري.
([16]) باختصار من طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم ص325-332.