×
آداب تشييع الجنائز : مقالة باللغة العربية؛ للشيخ عبد الرحمن الشثري - أثابه الله - اشتملت على بعض آداب تشييع الجنائز.

    آدابُ تشييعِ الجنائز

    للشيخ عبد الرحمن بن سعد الشثري

    بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

    ينبغي للمُشيِّعِ أن يكون مُتفكِّراً في مآلهِ، مُتعظاً بالموتِ، وبما يَصيرُ إليهِ الْميِّتُ، وينبغي أن يكون ساكناً مُتفكِّراً مُتَّعظاً بما يَراهُ، لأنَّ هذه الهيئة أثرٌ يَدُلُّ على الانتفاعِ بالموعظةِ والذكرى.

    ولهذا فالكلامُ في أُمورِ الدُّنيا والضحك حالَ تشييعِ الجنائزِ، وعندَ القُبورِ، دليلٌ على قسوةِ القلوبِ، والغفلةِ عن هذا المصيرِ المحتومِ، (وليحذر من التعاظمِ والتعظيمِ في هذه الحالةِ وغيرِها، والتواضع أشبهُ بهِ في كُلِّ حالٍ، خصوصاً هذهِ) [1].

    فعن جابرِ بنِ عبد الله k قالَ: (مرَّتْ جنازةٌ فقَامَ لها رسولُ اللهِ g وقُمْنا مَعَهُ، فقلنا: يا رسولَ اللهِ إنها يهُوديَّةٌ؟ فقال: إنَّ الْمَوتَ فَزَعٌ، فإذا رأيتُم الجنازةَ فقُومُوا) [2].

    (قوله g: «إن الموتَ فزَعٌ» أي: يُفزعُ إليهِ ومنهُ، وهو تنبيهٌ على استذكارهِ وإعظامهِ، وجعله من أهمِّ ما يَخطرُ بالإنسانِ، والمقصودُ من هذا الحديثِ: ألاَّ يَستمرَّ الإنسانُ على غفلتهِ عندَ رُؤيةِ الْميِّتِ، فإنه إذا رأى الْميِّتَ، ثمَّ تمادَى على ما كانَ عليهِ من الشغلِ، كان هذا دليلاً على غفلتهِ، وتساهلهِ بأمرِ الموتِ، وأمَرَ الْمُشرِّعُ g أن يَتركَ ما كان عليه من الشُّغلِ، ويقوم تعظيماً لأمرِ الموتِ، واستشعاراً به) [3].

    وعن ابن عباس k: (أنَّ رسولَ اللهِ g كانَ إذا شهدَ جنازةً رُئيتْ عليهِ كآبةٌ، وأكثرَ حديثَ النفسِ) [4].

    وعن أبي بحر العبسي: (أن ابن مسعود h رأى رَجُلاً يَضحكُ في جنازةٍ، فقال h: تَضْحَكُ في جنازةٍ! لا أُكلِّمُكَ بكلمةٍ أبداً) [5].

    وعن قتادة قال: (بلَغَنا أنَّ أبا الدرداء h نظَرَ إلى رَجُلٍ يَضحَكُ في جنازةٍ، فقال: أمَا كان في ما رأيتَ من هَوْلِ الْموتِ ما يَشغلُكَ عن الضَّحكِ) [6].

    وعن أبي قلابة قال: (كُنَّا في جنازةٍ فرَفَعَ ناسٌ من القُصَّاصِ أصواتَهُم، فقال أبو قلابة: كانوا يُعظِّمُون الْميِّتَ بالسكينةِ) [7].

    وعن قيس بن عبَّادٍ قال: (كان أصحابُ رسولِ اللهِ g يكرهُونَ رَفْعَ الصوتِ عندَ ثلاثٍ: عندَ القتالِ، وعندَ الْجَنائزِ، وعندَ الذِّكْرِ) [8].

    قال ابنُ قدامة: (ويُستحبُّ لِمُتَّبع الجنازةِ أن يكون مُتخشِّعاً مُتفكِّراً في مآلهِ، مُتَّعظاً بالموتِ وبما يَصيرُ إليه الميتُ، ولا يَتحدَّثُ بأحاديثِ الدُّنيا ولا يَضحكُ.

    قال سعدُ بنُ معاذٍ: «ما تَبعتُ جنازةً فحدَّثتُ نفسي بغيرِ ما هُوَ مفعُولٌ بها».

    ورأى بعضُ السلَفِ رَجُلاً يَضحكُ في جنازةٍ فقال: «أتضحكُ وأنتَ تَتبعُ الجنازةَ؟ لا كلَّمتُك أبداً») [9].

    (وقد كان السَّلَفُ رضي الله عنهم في حُضُورِ جَنائزِهم يَتَناكرُ بعضُهُم من بعضٍ... حتى إذا رجَعُوا للبلدِ تعارفُوا على عادتهِم في وُدِّهِم الشَّرعيِّ.

    ثُمَّ العَجَبُ من بعضهم في كونهم يَسبقُون الجنازةَ، ويجلسُون ينتظرونها، ويتحدَّثون إذْ ذاكَ في التِّجاراتِ والصَّنائعِ، وفي مُحاولةِ أُمورِ الدُّنيا.

    ومَن كان على هذهِ الصِّفةِ كيفَ يُرجَى قبولُ شفاعتهِ؟

    بل بعضُهُم يفعلُ ذلكَ والْميِّتُ يُقبرُ في الغالبِ، بل بعضُهُم يتضاحكونَ حينَ يتكلَّمُونَ، وآخرُونَ يَتبسَّمُونَ، وآخرونَ يستمعُونَ، وكُلُّ ذلكَ مُخالفٌ للسُّنةِ المطهَّرةِ، فإنا للهِ وإنا إليهِ راجعُون) [10].

    (وقال مُطرِّفُ بن عبد الله بن الشخير عن أبيه: أنه كان يلقى الرَّجُلَ في الجنازةِ من خاصَّةِ إخوانهِ قد بَعُدَ عهدُهُ به فلا يَزِيدُه على السلام، حتى يَظُنَّ الرَّجل أنَّ في صدرِه عليهِ مُوجدة، كلُّ ذلك لانشغاله بالجنازة وتفكُّره فيها وفي مصيرها، حتى إذا فرغَ من الجنازةِ لقيهُ وسألهُ ولاطفه، وكان منه أحسن ما عهد) [11].

    (وقال ثابت البناني: «كُنَّا نشهدُ الجنائزَ فلا نرى إلاَّ مُتقنِّعاً باكياً».

    فهكذا كان خوفهم من الموت، والآن لا ننظر إلى جماعةٍ يحضرون جنازة إلاَّ وأكثرُهم يَضحكون ويلهون، ولا يتكلَّمون إلاَّ في ميراثهِ وما خلَّفَهُ لورثتهِ، ولا يتفكَّر أقرانه وأقاربه إلاَّ في الحيلةِ التي بها يتناول بعض ما خلَّفه، ولا يتفكَّر واحدٌ منهم - إلاَّ ما شاءَ اللهُ - في جنازةِ نفسهِ، وفي حالهِ إذا حُملَ عليها، ولا سببٌ لهذه الغفلةِ إلاَّ قسوة القلوب بكثرة المعاصي والذنوب، حتى نسينا الله تعالى واليوم الآخر، والأهوال التي بين أيدينا، فصرنا نلهو ونغفل ونشتغلُ بما لا يعنينا، فنسألُ الله تعالى اليقظة من هذه الغفلة، فإنَّ أحسنَ أحوال الحاضرين على الجنائز بكاؤُهم على الْميِّت، ولو عقلوا لبكوا على أنفسهم لا على الْميِّت) [12].

    وقال شيخنا محمد العثيمين: (ومما لا ينبغي فعلُه أيضاً: أن بعض الناس إذا كانوا ينتظرون دفن الجنازة تجدهم يجتمعون أوزاعاً ويتحدَّثون حديثَ المجالس، حتى أنَّ بعضهم تسمع له قهقهة، وما أشبه ذلك، وهذا خطأ وليس هذا موضعه، ولهذا قالوا: ينبغي للإنسان المشيِّع أن يكون وقوراً، وأن يكون مفكِّراً في مآله، وأنه الآن ينتظر دفن هذا الميت، وغداً سوف ينتظرُ الناس دفنه هو، كما دفن غيره يدفن) [13].

    قال النووي: (ويُكره اللَّغَطُ في الجنازة) [14]، و(الأصوات المرتفعة) [15].

    فجنائزُ السَّلَفِ (كانتْ على التزامِ الأدَبِ والسُّكُونِ والخُشُوعِ والتَّضَرُّعِ، حتَّى إنَّ صاحبَ الْمُصيبةِ كانَ لا يُعْرَفُ من بينهِم لكثرةِ حُزْنِ الجميعِ، وما أخذَهُم من القلقِ والانزعاجِ بسَبَبِ الفكرةِ فيما هُم إليهِ صائرُونَ، وعليهِ قادمُونَ، حتَّى لقد كانَ بعضُهم يُريدُ أن يَلقى صاحبهُ لضَرُوراتٍ تقَعُ لهُ عندَهُ فيلقاهُ في الجنازةِ فلا يَزيدُ على السلامِ الشَّرعيِّ شيئاً، لشُغلِ كُلٍّ منهما بما تقدَّمَ ذكرُهُ، حتَّى إنَّ بعضَهم لا يَقدرُ أن يأخُذ الغذاءَ تلكَ اللَّيلَةَ لشدَّةِ ما أصابَهُ من الجَزَعِ، كما قال الحسنُ البصريُّ رضي الله عنه: « ميِّتُ غَدٍّ يُشيِّعُ ميِّتَ اليومِ») [16].

    وإنَّ من العَجَب ما يُسمعُ من صوت الموسيقى من هواتف بعض الْمُشيِّعين، والاسترسال من بعضهم في المكالمات الهاتفية أثناء تشييع الجنائز، وهذا من الغفلةِ، نسأل الله لنا وللمسلمين العافية.

    قال ابنُ المنذر رحمه الله: (فليُكثر [مَن][17] تبعَ الجنازة حيثُ مشى منها ذكرَ الموتِ، والتفكُّرِ في صاحبهِم، وأنهم صائرونَ إلى ما صارَ إليهِ، وليستعدَّ للموتِ ولِما بعده، سهَّلَ اللهُ لنا حُسْنَ الاستعدادِ واللِّقاءِ به) [18]، اللهم آمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وآله وصحبه.

    --------------------

    [1] مجلس في أحكام الموتى وما يتعلَّق بهم من الغسل والتكفين والصلاة والدَّفن والمنتهى ص398 لعلاء الدين علي بن إبراهيم العطار الشافعي ت724. تحقيق: محمد المطيران. مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية بالكويت مج26 عدد 84 عام 2011م.

    [2]رواه مسلم 2 /660 ح78-960 (باب القيام للجنازة).

    (والحكمة من كونه إذا رأى الجنازة يقوم: هو تنبيه النفس على هذا الأمر الذي هو مآلُ كلِّ حيٍّ، وهو الموت) شرح بلوغ المرام 5/565 لشيخنا ابن عثيمين رحمه الله.

    [3] المفهم شرح صحيح مسلم 3 /1603-1604 للقرطبي ت671. تحقيق: جماعة بدار الكتاب المصري.

    تنبيه: (احتجَّ بعضُ المغترِّينَ بحضارةِ الغربِ، وبعض الداعين إلى التقريب بين الأديان - وهي فكرةٌ خبيثةٌ ماكرةٌ هدَّامةٌ- بقيام النبيِّ صلى الله عليه وسلم لجنازةِ اليهودي، بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قام تكريماً للإنسان واحتراماً له مهما كانت ديانته!.

    وهو استدلالٌ باطلٌ، واستنباطٌ عاطلٌ، لا يدلُّ عليه الحديث لا من قريب ولا من بعيد، بل تعليل النبيِّ صلى الله عليه وسلم يردُّه ويُبطله، وكذلك فهم الصحابة رضي الله عنهم وإنكارهم وتعليلهم يدلُّ علة نقيض هذا الاستدلال، ولم يفهم أحد من العلماء السابقين ولا الأئمة المتبوعين هذا الفهم السقيم، فإن الصحابة رضي الله عنهم لما استغربوا القيام لجنازة اليهودي علَّل النبيٌّ صلى الله عليه وسلم القيام بقوله: «إن الموتَ فزَعٌ»، وفي رواية: «إن للموت فزَعاً»، أي: أن القيام ليس لذات الشخص، وإنما القيام لأمر الموت وهوله وفزعه، فيستوي في ذلك المسلم والكافر، وفي الحديث الآخر: «أليست نفساً»، معناه: أليست الجنازة نفساً قُبضت؟.

    قال الإمام السندي: «ومعنى قوله: ‹فإذا رأيتم الجنازة فقوموا›، أي: تعظيماً لهول الموت وفزعه، لا تعظيماً للميِّت، فلا يختصُّ القيام بميِّتٍ دون ميِّت») حكم قيام الْمُتَّبع للجنازة حتى توضع. للدكتور: صالح رمضة. مجلة الإصلاح بالجزائر مج7 ع37 ص23 س2013.

    [4] رواه الطبراني في الكبير 11 /106 ح11189.

    وقال القاري: (ثبتَ أنه عليهِ الصلاةُ والسلامُ إذا رأى جنازةً رُئيَتْ عليهِ كآبةٌ، أي: حُزنٌ شديدٌ، وأقلَّ الكلامَ) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 8 /534 ح5352 (كتاب الرقاق. باب البكاء والخوف).

    [5] رواه وكيع في الزهد واللفظ له 2 /461 ح210 (باب في الحزن وفضله)، وأحمد في الزهد ص201، والبيهقي في شعب الإيمان 7 /11 ح9271 (باب في الصلاة على مَن مات من أهل القبلة).

    وقال ابن عبد البر: (وهذا أصلٌ عند العلماء في مجانبة مَن ابتدع وهجرته وقطع الكلام معه، وقد حلَفَ ابنُ مسعودٍ أن لا يُكلِّم رجلاً رآه يضحكُ في جنازة) التمهيد 4 /87.

    [6] تاريخ مدينة دمشق 47 /194.

    [7] رواه ابن أبي شيبة في مصنفه 7 /201 ح11312 (في رفع الصوت في الجنازة).

    [8] رواه ابن أبي شيبة 7 /201 ح11313 (رفع الصوت في الحرب)، والبيهقي في السنن الكبرى 4 /124 ح7182 (باب كراهية رفع الصوت في الجنائز، والقدر الذي لا يُكره منه).

    وقال الألباني: (بسندٍ رجاله ثقاتٌ) أحكام الجنائز وبدعها ص92 رقم 48.

    [9] المغني 3 /396-397.

    [10] المدخل 3 /250 لمحمد بن محمد العبدري الفاسي المالكي المعروف بابن الحاج ت737.

    والكتاب على فائدته في بابه وقَعَ فيه تسويغٌ لكثيرٍ من البدع: كالدُّعاء عند مَن تُرجى بركته من أصحابِ القبور، والتوسُّل إلى الله بهم، والتوسُّل بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم بعد موته، والتبرُّك بزيارة قبور الصالحين... إلخ، فكن من ذلك أيها القارئ على حذر، نسأل الله العافية.

    [11] العاقبة في ذكر الموت ص154 لعبد الحق الإشبيلي.

    [12] إحياء علوم الدين 5 /171-172 لأبي حامد محمد الغزالي.

    [13] شرح رياض الصالحين 4 /560.

    [14] منهاج الطالبين 1 /355.

    [15] حاشية عميرة على كنز الراغبين شرح منهاج الطالبين 2/992.

    [16] المدخل 3 /244.

    [17] في المطبوع (مع) ولعلَّ الصواب ما أثبته، كما نبَّهني على ذلك أحد العلماء حفظه الله تعالى.

    [18] الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف 5 /384.