الصدقة
التصنيفات
- فقه >> العبادات >> الزكاة فضائل وأحكام >> صدقة التطوع
المصادر
الوصف المفصل
- الصدقة
- كرم الصدِّيقة بنت الصدِّيق
- كثيراً ما يتصدَّق بالسُّكر
- من حفر بئر رومة فله الجنة
- إنَّ الله أعطاني بكلِّ درهمٍ عشرة دارهم
- سقاه الله من سلسبيل الجنة
- بات أَرِقًا من ماله
- أبو المساكين:
- فهلاَّ ما هو خير من ذلك هو لوجه الله
- يعشي ثمانين كل ليلة
- لا يُصلحني القليل
- إنما جمعته للفقراء
- إذا أمسى تصدَّق بما في بيته
- فهي عليّ
- عشرين سنة لا يتغدَّى ولا يتعشَّى إلا مع الناس
- مجلس لحوائج الناس
- أكرم الناس
- لا يرضى إلا بالخروف والخبيص
- أود لو أنَّ الدنيا بيدي
- فنـزع عمامته
- كتب صكًّا على نفسه
- إن أحب أموالي بيرحاء
- تعبَّدوا وأنا أقوم بخدمتكم
- يُفطر خمسمائة
- ما أملك إلا هذا
- كسبتُ سبعمائة ألف
- أعطيتموني ثمن قراي
- علي بن أبي طالب رضي الله عنه
- الصَّدقة المقبولة
- *** فوائد الصَّدقة
- *** مراتب الجود
الصدقة
عبد الله بن سليمان العتيق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الكريم الجواد، والصلاة والسلام على أجود العباد، وعلى آله وصحبه ومن سلك دَربهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنَّ من عظيم مواهب الله تعالى لعباده المال؛ فهو قوام عيش المرء، وهو عماد دُنياه.
وكان من تمام نعمة الله في هذا المال أن جعل له مصرفًا يضمن للمرء منفعة ماله، ويحفظ له جماله، ذاك هو باب «الصدقة».
فهي من خير موارد المال، وهي الباقية للمرء بعد تمتُّعه ببعضه في حياته، والتفاوت واضح بين المالَين (مال الصدقة، ومال الكنَز)؛ ذلك أنَّ اللقمة إذا أُكِلَت صارت أذًى وقبائح في الحشّ، وإذا تصدَّق بها صارت إذن مدائح عند العرش([1]).
ومن هنا كان البدارُ من كرام النفوس نحو الإنفاق والجود، فإلى رياضٍ من أخبارهم..
***
لا تخش إقلالاً
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنفق يا بلال؛ ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً»([2]).
أَنْفِقْ وَلاَ تَخْشَ إقْلاَلاً فَقَدْ قُسِمَتْ | ||
عَلَى العِبَادِ مِنَ الرَّحْمَنِ أَرْزَاقُ | ||
لاَ يَنْفَعُ البُخُلُ مَعَ دُنْيَا مُوَلِّيَةٍ | ||
وَلاَ يَضُرُّ مَعَ الإقْبَالِ إنْفَاقُ([3]) | ||
***
خياركم من أطعم الطعام:
عن حمزة بن صُهيب، عن أبيه رضي الله عنه قال:
قال عمر لصهيب : فيك سرفٌ في الطعام! فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خيارُكم من أطعم الطعام»([4]).
***
أبو الضيفان:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كان أول من أضاف الضَّيف إبراهيم»([5]).
قال المناوي:
"كان يُسمَّى «أبا الضيفان» إبراهيم u، كان يمشي الميل والميلين في طلب من يتغدَّى معه".
وفي الكشاف: كان لا يتغدى إلاَّ مع ضيف([6]).
***
لا أسابقك إلى شيء أبدًا:
قال عمر بن الخطاب:
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أن نتصدَّق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت : اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يومًا، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَا أَبقَيْتَ لأَهْلِك؟»، فقلت : مثله.. قال: وأتى أبو بكر بكلِّ ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك؟»، قال: «أبقيت لهم الله ورسوله»، قلت: «لا أسابقك إلى شيءٍ أبداً»([7]).
كان أبو بكر – كما وصفه عمر – سباقاً إلى الطاعات، ومن سبقه حاز على دخول الجنة من أبوابها الثمانية.
وهذه حال السابقين الراغبين في القربى إلى الله تعالى، وتلك المرتبة لا تنال بالتمنِّي، ولكنها بالأفعال والجهد في ذلك.
تَرَاهُ إذَا مَا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلاً | ||
كَأَنَّكَ تُعْطِيهِ الَّذِي أَنْتَ سَائِلُه | ||
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي كَفِّهِ غَيرُ رُوحِهِ | ||
لَجَادَ بِهَا فَلْيَتَّقِ اللهَ سَائِلُه | ||
هُوَ البَحْرُ مِنْ أَيِّ النَّوَاحِي أَتَيْتَهُ | ||
فَلُجَّتُهُ المَعْرُوفُ واَلجُودُ سَاحِلُه | ||
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أعتق أبو بكر رضي الله عنه سبعة ممن كان يُعذَّب في الله عز وجل، منهم بلال وعامر بن فهيرة([8]).
أَبُو بَكْرِ حُبًّا فِي اللهِ مَالاَ | ||
وَأَعْتَقَ فِي مَحَبَّتِهِ بِلاَلاَ | ||
وَقَدْ وَاسَى النَّبِيَّ بِكُلِّ فَضْلٍ | ||
وَأَسْرَعَ فِي إجَابَتِهِ بِلاَلاَ | ||
لَوْ أَنَّ البَحْرَ يَقْصُدُه بِبَعْضٍ | ||
لَمَا تَرَكَ الإلَهُ بِهِ بَلاَلاَ | ||
***
كرم الصدِّيقة بنت الصدِّيق
بعث عبد الله بن الزبير رضي الله عنه إلى عائشة رضي الله عنها بمالٍ في غرارتين، فيهما ثمانون ومائة ألف درهم، وهي صائمة، فجعلت تُقسِّم بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهم، فلما أمست قالت: يا جارية، هلمِّي فطوري، فجاءتها بخبزٍ وزيت، فقالت لها: أما استطعتِ فيما قسمت هذا اليوم أن تشتري لنا لحما بدرهم؟ قالت: لا تُعنِّفيني، لو كنت ذكَّرتني لفعلت([9]).
***
كثيراً ما يتصدَّق بالسُّكر
قال الأعمش:
كنت يومًا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأتى باثنين وعشرين ألف درهم، فلم يقُم من مجلسه حتى يُفرقها..!
• وكان إذا أعجبه شيءٌ من ماله تصدَّق به، وكان كثيرا ما يتصدَّق بالسكر، فقيل له في ذلك فقال: إني أحبُّه، وقد قال تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران:92]([10]).
وهذه من أفعال عمر رضي الله عنه التي يجب أن نأخذها فائدة وقدوة؛ وهي أهمية الإنفاق من الشيء المحبوب للنفس، ولا يعني هذا أن يُنفق الإنسان أحبَّ ما عنده ويترك لنفسه ما دون ذلك؛ فليس من الصواب أو الحكمة أن ينفق البعض على الغير ما هو بحاجة إليه، ويترك نفسه بلا اكتفاء بما أنفق.
***
من حفر بئر رومة فله الجنة
عن أبي عبد الرحمن أنَّ عثمان رضي الله عنه حين حُوصر، أشرف عليهم وقال: أُنشدكم الله، ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ألستم تعلمون أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «مَن حفر رومة فله الجنة»، فحفرتها؟ ألستم تعلمون أنه قال: «من جهز جيش العسرة فله الجنة» فجهَّزته؟ قال: فصدَّقوه بما قال.
وكان عثمان رضي الله عنه قد اشترى بئر رومة بأربعين ألف درهم، وأنفق في جيش العسرة عشرة آلاف درهم.
***
إنَّ الله أعطاني بكلِّ درهمٍ عشرة دارهم
وأخرج المناوي في «الدر المنضود»:
أنه أصاب الناس قحطٌ في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فلما اشتدَّ بهم الأمر، جاءوا إلى أبي بكر الصديق وقالوا: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنَّ السماء لم تُمْطر، والأرض لم تنبت، وقد توقَّع الناس الهلاك، فما نصنع؟ فقال : انصرفوا واصبروا؛ فإني أرجو الله ألاَّ تمسوا حتى يُفرِّج الله عنكم.
فلما أصبحوا خرجوا يتلقَّونها، فإذا هي ألف بعيرٍ موثوقة بُرًّا وزيتًا ودقيقًا، فأناخت بباب عثمان رضي الله عنه، فجعلها في داره، فجاء إليه التجار، فقال: ما ترَون؟ قالوا: إنك لتعلم ما نريد، فقال : كم تربحوني؟ قالوا: اللهم درهمين، قال: أُعطِيتُ زيادةً على هذا، قالوا: أربعة، قال: أُعِطِيت أكثر، قالوا: خمسة، قال: أُعطيت أكثر، قالوا: ليس في المدينة تجار غيرنا، فمن الذي أعطاك؟
قال: «إنَّ الله أعطاني بكلِّ درهم عشرة دراهم، أعندكم زيادة؟.
قالوا: لا.
قال: «فإني أُشهِدكم الله تعالى أني جعلتُ ما حملت العير صدقةً لله على الفقراء والمساكين»([11])..!
***
سقاه الله من سلسبيل الجنة
قال عبد الرحمن بن جعفر: حَدَّثَتْنَا أُمُّ بَكْرٍ بِنْتُ الْمِسْوَرِ، قال الخزاعي عن أُمِّ بَكْرٍ بِنْتِ الْمِسْوَرِ إن عَبْدَ الرحمن بن عَوْفٍ بَاعَ أَرْضاً له من عُثْمَانَ بن عَفَّانَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فَقَسَمَهُ في فُقَرَاءِ بني زُهْرَةَ وفي الْمُهَاجِرِينَ وَأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، قال الْمِسْوَرُ فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ بِنَصِيبِهَا، فقالت من أَرْسَلَ بهذا؟ فقلت: عبد الرحمن، قالت أَمَا أني سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: وقال الخزاعي إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ يَحْنُو عَلَيْكُنَّ بعدي إلا الصَّابِرُونَ»، سَقَى الله عَبْدَ الرحمن بن عَوْفٍ من سَلْسَبِيلِ الْجَنَّةِ([12]).
***
بات أَرِقًا من ماله
وصحَّ عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال:
باع طلحة أرضًا له بسبعمائة ألف، فبات ذلك عنده ليلة، فبات أرِقًا من مخافة المال، حتى أصبح ففرَّقه!
***
أبو المساكين:
عن أبي هريرة قال: كنا نسمي جعفرًا «أبا المساكين»، كان يذهب بنا إلى بيته، فإذا لم يجد لنا شيئًا، أخرج إلينا عكة أثرها عسل، فنشقُّها ونلعقها([13]).
***
فهلاَّ ما هو خير من ذلك هو لوجه الله
عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر قال:
أعطي ابن جعفر عبد الله بن عمر بـ«نافع» عشرة آلاف أو ألف دينار، فدخل عبد الله على صفية، فقال لها: إنه أعطاني ابن جعفر بنافع عشرة آلاف أو ألف دينار، فقالت: يا أبا عبد الرحمن، فما تنتظر أن تبيعه؟ فقال: فهلاَّ ما هو خيرٌ من ذلك، هو لوجه الله.
قال أبي: فكان يُخيَّل إليّ أن عبد الله بن عمر كان ينوي قول الله عزَّ وجل ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران : 92]([14]).
***
يعشي ثمانين كل ليلة
وكان سعد بن عبادة يرجع كلَّ ليلةٍ إلى أهله بثمانين من أهل الصفة يُعشِّيهم.
***
لا يُصلحني القليل
وعن عروة بن الزبير قال:
كان منادي سعد بن عبادة ينادي على أطمه: من كان يريد شحمًا ولحمًا فليأتِ سعدًا..
وكان سعد يقول: «اللهم هب لي حمدًا، وهب لي مجدًا، لا مجدًا إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال، اللهم إنه لا يصلحني القليل، ولا أصلح عليه»([15]).
فبعض الناس لا يصلحه إلا المال الكثير فيكون مُقوِّيًا له على العبادة والصدقة، وبعض لا يُصلحه إلا الفقر؛ فلو اغتنى لفسق وفسد.
وهذه من حكمة الله تعالى في تقسيم الرزق بين عباده.
***
إنما جمعته للفقراء
عن علي رضي الله عنه أنه خطب وقال: «إنَّ الحسن قد جمع مالاً، وهو يُريد أن يُقسِّمه بينكم، فحضر الناس، فقام الحسن فقال: إنما جمعته للفقراء، فقام نصف الناس»([16]).
***
أَنْفِقِ المَالَ قَبْلَ إنْفَاقِكَ العُمر | ||
فَفِي الدَّهْرِ رِيبَةٌ وَمنُونَة | ||
قَلَّمَا يَنفَعُ الثَّرَاءُ بَخِيلاً | ||
غُلقَت فِي الثَّرَى المَهِيلِ رُهُونَه([17]) | ||
***
إذا أمسى تصدَّق بما في بيته
وَعن أصبغ بن زيد:
كان أويس إذا أمسى تصدَّق بما في بيته من الفضل من الطعام والشراب، ثم قال: «اللهم من مات جوعًا فلا تؤاخذني به، ومن مات عريًا لا تؤاخذني به»([18]).
ونرى أنَّ فعل أويس رحمه الله كان مقيدًا بما زاد من طعام بيته، أما إن لم يزد فليس مُنفقًا له كما هو واضح سياق الحكاية.
وهنا تنبيه:
فبعض الناس يُنفق ما يملكونه من مال ولا يكون معهم غيره، ثم يضعون أنفسهم في موضع حرج وضيق، والله لم يأمر بذلك، وإنما أمر بما زاد عن قوته.
***
فهي عليّ
عن عمرو بن دينار قال: دخل علي بن الحسين على محمد بن أسامة بن زيد في مرضه فجعل يبكي، فقال: ما شأنك؟ قال: على دَين، قال: كم هو؟ قال: خمسة عشر أو بضعة عشر ألف دينار، قال: فهي علي!
***
عشرين سنة لا يتغدَّى ولا يتعشَّى إلا مع الناس
وقال عبد الله بن عباس:
صحبت الليث عشرين سنة، لا يتغدَّى ولا يتعشَّى إلا مع الناس.
مجلس لحوائج الناس
وكان له كل يوم ربعة مجالس، منها مجلسٌ لحوائج الناس، لا يسأل أحد فيردُّه، كبرت حاجته أو صغرت .. وكان يطعم الناس في الشتاء الهرائس بعسل النحل وسمن البقر، وفي الصيف سويق اللوز في السكر([19]).
***
إذَا مَا شَحَّ ذُو المَالِ | ||
شَحَّ الدَّهْرُ بِإيهَابِه | ||
إذَا لَمْ يُثْمِرِ العُودُ | ||
فَقَطْعُ العُودِ أَولَى بِه | ||
***
أكرم الناس
قال خالد:
إنَّ أكرم الناس من أعطى من لا يرجوه، وأعظم الناس عفوًا من عفا عن قُدرةٍ، وأوصل الناس من وصل عن قطيعةٍ([20]).
***
لا يرضى إلا بالخروف والخبيص
عن يَحيى الوحاظي:
ما رأيت رجلاً كان أكبر نفسًا من إسماعيل بن عياش، كنا إذا أتيناه إلى مزرعته لا يرضى لنا إلا بالخروف والخبيص([21]).
لعلَّ مراده بذلك اللحم – أي بالخروف – إذا كانوا قلَّة، أو المراد هو كاملاً إن كانوا جماعة .. ومن المؤسف أن أصبح هذا من قبيل التفاخر حتى لو يترتب عليه دين، أو إهدار للمأكول.
وهذا هو التبذير والإسراف المذمومَين شرعًا.
***
أود لو أنَّ الدنيا بيدي
قال الإمام عبد القادر الجيلاني:
"فتشت الأعمال كلَّها، فما وجدتُ فيها أفضل من إطعام الطعام، أودُّ لو أنَّ الدنيا بيدي فأُطعمها الجياع، كفِّي مثقوبة لا تضبط شيئًا، لو جاءني ألف دينار لم أبيتها([22]).
***
فنـزع عمامته
قال الشيخ عبد الله بن أحمد بن سعيد:
كنت يومًا جالسا بحضرة شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه، فجاءه إنسان فسلَّم عليه، فرآه الشيخ محتاجًا إلى ما يعتمُّ به، فنـزع الشيخ عمامته، من غير أن يسأله الرجل ذلك، فقطعها نصفين، واعتمَّ بنصفها، ودفع النصف الآخر إلى ذلك الرجل.
***
كتب صكًّا على نفسه
دخل سعيد بن خالد على سليمان بن عبد الملك، وكان سعيد رجلاً جوادًا، فإذا لم يجد شيئاً لمن سأله كتب صكًّا على نفسه حتى يخرج عطاؤه، فلمَّا نظر إليه تمثل بهذا البيت فقال:
إنِّي سَمِعْتُ مَعَ الصَّبَاحِ مُنادِيًا | ||
يَا مَن يُعِينُ عَلَى الفَتَى المِعْوان | ||
ثم قال: ما حاجتك؟
قال: دَينٌ علي.
قال: وكم هو؟
قال: ثلاثون ألف دينار.
قال: لك دَينك ومثله.
والمراد: كتب على نفسه عهدًا أن يقضي حاجة فلان إذا أتاه مال يستطيعه.
إن أحب أموالي بيرحاء
قال أنس: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحبُّ أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب .. قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران : 92]..
قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنَّ الله تبارك وتعالى يقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، وإن أحب أموالي إلى بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله..
قال:
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخٍ، ذلك مالٌ رابح، ذلك مالٌ رابح، وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين».
فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله .. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمِّه([23]).
***
تعبَّدوا وأنا أقوم بخدمتكم
هذا إبراهيم التيمي: كان رحمه الله يجمع كلَّ قليلٍ جماعةً من الفقراء ويُجلِسهم في المسجد ويقول لهم: «تعبَّدوا وأنا أقوم بخدمتكم ومؤنتكم»([24]).
***
يُفطر خمسمائة
ذُكِر عن حمَّاد بن أبي سليمان أنه كان رحمه الله ذا دنيا متسعة، وكان يُفطِر في رمضان خمسمائة إنسان، وكان يُعطيهم بعد العيد لكلِّ واحدٍ مائة درهم ([25]).
***
ما أملك إلا هذا
ركب شعبة حمارًا له، فلقيه سليمان بن المغيرة فشكا إليه، فقال له شعبة: والله ما أملك إلا هذا الحمار، ثم نزل ودفعه إليه([26]).
***
كسبتُ سبعمائة ألف
قال علي بن عيسي الوزير: كسبت سبعمائة ألف دينار، أخرجت منها في وجوه البر ستمائة ألف وثمانين ألفًا([27]).
***
أعطيتموني ثمن قراي
قالوا لقيس بن سعد يومًا: هل رأيت أسخى منك؟
قال: نعم، نزلنا بالبادية على امرأة حضر زوجها، فقالت: إنه نزل بك ضيفان. فجاء بناقة فنحرها، وقال: شأنكم .. فلمَّا كان من الغد جاء بأخرى فنحرها، فقلنا: ما أكلنا من التي نُحِرت البارحة إلا اليسير، فقال: إني لا أطعم ضيفاني البائت، فبقينا عنده يومين أو ثلاثة، والسماء تُمطِر وهو يفعل ذلك، فلمَّا أردنا الرحيل وضعنا مائة دينار في بيته، وقلنا للمرأة: اعتذري لنا إليه، ومضينا.
فلما طلع النهار إذا نحن برجلٍ يصيح خلفنا:
قفوا أيها الركب اللئام، أعطيتموني ثمن قراي!
ثم إنه لحقنا، وقال: لتأخذنه أو لأُطاعنكم برُمحِي، فأخذناه وانصرف.
***
علي بن أبي طالب رضي الله عنه
عن أبي جعفر قال: ما مات علي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى بلغت غلَّته مائة ألف، ولقد مات يوم مات وعليه سبعون ألفًا دينًا .. فقلت:من أين كان عليه هذا الدَّين؟ قال: كان تأتيه حامته من أصهاره ومعارفه، ممن لا يرى لهم في الفيء نصيبًا، فيُعطيهم، فلمَّا قام الحسن بن علي باع وأخذ من حواشي ماله حتى قضى عنه، ثم كان يعتق عنه في كل عامٍ خمسين نسمة حتى هلك، ثم كان الحسين يعتق عنه خمسين نسمة حتى قُتل، ثم لم يفعله أحد بعدهما([28]).
***
الصَّدقة المقبولة
ويقال: سبع خصال تربو بها الصدقة وتعظم:
أولها: إخراجها من حلال؛ لأنَّ الله تعالى قال: ﴿أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾ [البقرة : 267].
والثاني: إعطاؤها من جهدٍ مقلّ، يعني يُعطي من مال قليل.
والثالث: تعجيلها مخافة الفوت.
والرابع: تصفيتها مخافة البخل، يعني يعطيها من أحسن أمواله؛ لأنَّ الله تعالى قال: ﴿وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾ [البقرة : 267].
والخامس: يُعطيها في السِّر مخافة الرياء.
والسادس: بُعد الْمَنِّ عنها مخافة إبطال الأجر.
والسابع: كفُّ الأذى عن صاحبها مخافة الإثم؛ لأنَّ الله تعالى قال: ﴿لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾ [البقرة : 264]([29]).
*** فوائد الصَّدقة
إخواني:
إنَّ في الصَّدقة فوائدُ جليلةٌ في الدنيا والآخرة..
أولاً- فوائد الصَّدقة في الدُنيا:
من فوائد الصَّدقة في الدُنيا:
1- أنها تطهير للمال ونماء له، كما قال صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال».
2- أنها تطهير للبدن من الذنوب كما قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ﴾ [التوبة : 103].
3- أنَّ فيها دفعًا للبلاء والأمراض، كما قال صلى الله عليه وسلم: «داووا مرضاكم بالصدقة».
4- أنَّ فيها إدخال السرور على المساكين، وإدخال السرور على المؤمنين هو من أفضل الأعمال.
5- أنَّ فيها بركة في المال وسِعة في الرزق، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾ [سبأ : 39].
ثانيًا- فوائد الصدقة في الآخرة:
ومن فوائد الصدقة في الآخرة:
1- أنها تكون ظلاًّ لصاحبها في شدَّة الحر.
2- أنها سبب لتخفيف الحساب.
3- أنها تثقل الميزان.
4- الجواز على الصراط.
5- زيادة الدرجات في الجنة([30]).
*** مراتب الجود
وعن مراتب الجود والسخاء قال ابن القيم:
المراتب ثلاثة:
الأولى- ألاَّ يُنقصه البذل ولا يصعب عليه، فهو منـزلة «السخاء».
الثانية- أن يُعطي الأكثر ويُبقِي له شيئًا، أو يُبقِي مثل ما أعطى، فهذا «الجود».
الثالثة- أن يُؤثِر غيره بالشيء مع حاجته إليه، وهو مرتبة «الإيثار»([31]).
والجود عشر مراتب:
1- الجود بالنفس: وهو أعلى مراتبه.
2- الجود بالرياسة: وهو ثاني مراتب الجود.
3- الجود براحته ورفاهيته، وإجمام نفسه.
4- الجود بالعلم وبذله.
5- الجود بالنفع بالجاه.
6- الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه .. وفي ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«على كل سلامى من الناس صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس قال ابن أبي السري عليه الشمس قال يعدل بين اثنين صدقة ويعين الرجل في دابته ويحمل عليها أو يرفع له عليها متاعه صدقة والكلمة الطيبة صدقة وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة ويميط الأذى عن الطريق صدقة» [متفق عليه].
7- الجود بالعرض..
فقد كان علبة بن زيد بن حارثة رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما حضَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على الصدقة جاء كلُّ رجلٍ منهم بطاقته وما عنده، فقال علبة بن زيد: اللهم إنه ليس عندي ما أتصدَّق به، اللهم إني أتصدَّق بعرضي على من ناله من خلقك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديًا فنادى: أين المتصدِّق بعرضه البارحة؟ فقام علبة فقال: «قد قُبِلت صدقتك».
8- الجود بالصبر:
قال صلى الله عليه وسلم: «من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يُخيِّره من الحور العين، يُزوِّجه منها ما شاء».
9- الجود بالخُلق والبشر:
قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا تُحقِّرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط إليه».
10- الجود بتركه ما في أيدي الناس عليهم.
قال عبد الله بن المبارك فيه: «سخاء النفس عمَّا في أيدي الناس أفضل من سخاءٍ لنفس بالبذل»([32]).
***
إخواني:
لقد بان الهدى ولاحت الطريق، فشمِّر أيها البخيل واخرج من المضيق.
إيَّاك والدنيا؛ فكم قتلت من صديق، افعل بها فعل عليِّ أو فعل الصدِّيق.
يا هذا..
من صفة المؤمن الكرم، والكريم من يُعطي ما لا يجب وأنت تبخل بالواجب!
يا عجبًا ممن لا يُخرج اليسير المرذول، كيف يُطلَب منه الكثير المحبوبة؟
إخواني:
هذه صورٌ مضيئةٌ، وصفحاتٌ برَّاقة تحكي أحوال السلف في الإنفاق والصدقة، فها هي حقائق ما ينقل عنهم نراه واقعا حياتهم.
اللهم ألحقنا بهم، وأَعطِنا خيرًا من حالهم.
وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمد.
([1])صلاح الأمة (2/506) .
([2]) صحيح الجامع (1885).
([3]) مكاشفة القلوب (123).
([4]) صحيح الترغيب (1/396).
([5]) قرى الضيف لابن أبي الدنيا.
([6]) فيض القدير (4/543).
([7]) فضائل الصحابة لأحمد.
([8]) أخرجه الحاكم في المستدرك.
([9]) «الدر المنضود» المناوي – ص (64).
([10]) تنبيه الغافلين.
([11]) الدر المنثور ص (66).
([12]) أخرجه أحمد في مسنده (6 - 103).
([13]) السير (217).
([14]) رواه أحمد في الزهد.
([15]) السير (1/276).
([16]) انظر تنبيه الغافلين ص (311 ، 312).
([17]) غلقت رهونه : استحقها المرتهن .
([18]) السير (4/30).
([19]) تاريخ بغداد (13/9).
([20]) السير (8/410).
([21]) السير (18/312) .. و«الخبيص»: نوع من الحلوى المطبوخة.
([22]) سير أعلام النبلاء (20/447).
* * *
([23]) رواه البخاري في كتاب الزكاة.. و«بيرحاء» اسم مال وموضع في المدينة (لسان العرب).
([24]) تنبيه المغتربين ص (91).
([25]) سير أعلام النبلاء (5/231-239).
([26]) حلية الأولياء (7/147).
([27]) السير (15/300).
([28]) مكارم الأخلاق ص (106).
([29]) تنبيه الغافلين ص (318).
([30]) السير (3/261).
([31]) المدارج (2/278).
([32]) المدارج :(2/279).