فقد آذنته بالحرب
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
فقد آذنته بالحرب
زاهر بن محمد الشهري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.. وبعد,
فهذه رسالة تشتمل على وقفات مع حديث قدسي شريف جمعتها من كلام أهل العلم وخاصة كلام الإمامين الجليلين؛ شيخ الإسلام ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام وتلميذه ابن قيم الجوزية رحمهما الله تعالى.
فأغلب ما في هذه الرسالة هو من تقريراتهما وإبداعاتهما وإن لم يحصل إحالة عليه.
والله أسأل أن ينفع بهذه الرسالة, وأن يعفو عن الهفوات والزلات بمنِّه وكرمه.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كتبه
أبو محمد
زاهر بن محمد الخشرمي الشهري
ص.ب 73690 – الخبر 31952
* * * *
نص الحديث
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله قال: من عادي لي وليًا» وفي رواية: من آذى لي وليًا فقد آذنته بالحرب» [وفي رواية: «فقد استحل محاربتي»] [وفي أخرى: «فقد بارز الله بالمحاربة»] وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به. وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه. ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته»([1]).
قال الطوفي: «هذا حديث أصل في السلوك إلى الله تعالى، والوصول إلى معرفته ومحبته. وطريقة أداء المفروضات الباطنة وهي الإيمان والظاهرة وهي الإسلام، والمركب منهما وهو الإحسان، كما تضمنه حديث جبريل - عليه السلام -. والإحسان يتضمن مقامات السالكين من الزهد والإخلاص والمراقبة وغيرها»([2]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وهو أشرف حديث روي في صفة الأولياء»([3]).
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله: «حديث من عادى لي وليًا قد اشتمل على فوائد كثيرة النفع جليلة القدر لمن فهمها حق فهمها, وتدبرها كما ينبغي».
قلت: ولهذا ألف الشوكاني رحمه الله كتابًا شرح فيه هذا الحديث سماه «قطر الولي على حديث الولي» والعبارة السابق منه.
* * * *
تعريف الولاء
تعريف الولاء لغة:
يطلق الولاء لغة على عدة معان منها: المحبة.. والنصرة.. والاتباع.. والقرب من الشيء.. والدنو منه.
والموالاة ضد العداوة.. والولي ضد العدو.
وتطلق كذلك على المتابعة.. والتولي.. والإعراض, فهي من أسماء الأضداد.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ [محمد: 38]. أي: تعرضوا عن الإسلام.
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: 51] أي: يتبعهم.
تعريف الولاء شرعًا:
هو موافقة العبد ربه فيما يحبه ويرضاه من الأقوال والأفعال والاعتقادات والذوات, فسِمَتُ ولي الله هو محبته لما يحب الله، ورضاه بما يرضى الله، وعمله بذلك كله، وميله إليه على وجه الملازمة له.
فالولاية: مرتبة في الدين عظيمة لا يبلغها إلا من قام بالدين ظاهرًا وباطنًا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «الولاية ضد العداوة. وأصل الولاية: المحبة والتقرب. وأصل العداوة: البغض والبعد.. والولي: القريب. يقال: هذا يلي هذا أي يقرب منه.. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر»([4]) أي لأقرب رجل إلى الميت, فإذا كان ولي الله هو الموافق المتابع له فيما يحبه ويرضاه.. ويبغضه ويسخطه ويأمر به وينهى عنه، كان المعادي لوليه معاديًا له، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾ فمن عادى أولياء الله فقد عاداه. ومن عاداه فقد حاربه ولهذا جاء في الحديث: «ومن عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة»([5]). اهـ.
* * * *
صفة أولياء الله في القرآن
قال الله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يونس: 62، 63].
وصف الله عز وجل أولياءه في هذه الآية بصفتين هما:
الأولى: الإيمان. وهو عند أهل السنة والجماعة قول وعمل واعتقاد يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. وأهله متفاوتون في أصله وفي شعبه بالإيمان عند أهل السنة يتضمن خمسة أمور هي:
1- قول اللسان. 2- وعمل الأركان.
3- واعتقاد الجنان. 4- وطاعة الرحمن.
5- وعصيان الشيطان.
والولي عند أهل السنة والجماعة: هو من جمع كل هذه الخمس.. وبناء عليه, فأهل السنة والجماعة أكبر وأعلى الناس ولاية لله تعالى.
الثانية: التقوى:
أي تقوى الله بتوحيده.. واتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - فامتثال الأوامر واجتناب المناهي.. ومنها الورع بأنواع وهو ترك ما لا بأس به حذرًا مما به بأس.
فصارت مراتب التقوى ثلاثةً:
1- التوحيد.
2- ثم الطاعة في فعل الواجبات واجتناب المحرمات.
3- ثم الورع والزهد بدرجات متفاوتة.
والتقوى تتفاضل وتتبعض، فلابد من المرتبة الأولى.. ثم يتفاضل الناس في المرتبة الثانية والثالثة.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [الجاثية: 19].
* * * *
تفاضل الناس في الولاية
الولاية مبنية على الإيمان والتقوى.. وكلاهما متفاضل كما سبق, فكل مؤمن تقي له نصيب من الولاية.. ومن عظم إيمانه وتقواه زاد الوصف فيه واستحق وصفه به.. وظهر جليًا.. وإلا فالعاصي قد اجتمع فيه شيء من إيمان وغيره.
وقد تكون ولاية الله لأحد الصالحين أعظم من ولاية الله لآجر؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإذا كان أولياء الله هم المؤمنون المتقون, فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته تعالى؛ فمن كان أكمل إيمانًا وتقوى كان أكمل ولاية لله؛ فالناس متفاضلون في ولاية الله عز وجل بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى، وكذلك يتفاضلون في عداوة الله بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق»([6]). اهـ.
* * * *
الولاية توجد في جميع أصناف الأمة
إذا تقرر أن منزلة الولاية تتفاضل وتتبعض, فلا شك أنها توجد في جميع أصناف الأمة لمن آمن بالله عز وجل واتقاه ما لم يكونوا من أهل البدع الظاهرة والفجور.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض حديثه عن أولياء الله: «فيوجدون في أهل القرآن، وأهل العلم.. ويوجدون في أهل الجهاد والسيف ويوجدون في التَّجار والصنَّاع والزرَّاع. وقد ذكر الله أصناف أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ [المزمل: 20].
«وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات؛ فلا يتميزون بلباس دون لباس إذا كان كلاهما مباحًا، ولا بحلق شعر أو تقصيره أو ظفره إذا كان مباحًا؛ كما قيل: كم من صدِّيق في قباء وكم من زنديق في عباء»([7]).
وليكن شعارك: ﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾؛ فالمسلم مهما كانت جنسيته ووطنه ولونه أخو المسلم، له من الولاء والنصرة والمحبة والتقريب بحسب ما عنده من إيمان وهدى، وله من البراء والعداوة بحسب ما عنده من فسوق ومعاص.
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أبيض ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، كلكم لآدم وآدم من تراب»([8]).
* * * *
الولاية والعصمة
ليس من شرط ولي الله أن يكون معصومًا لا يغلط ولا يخطئ؛ بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين، والناس في هذا على ثلاثة أصناف؛ طرفان ووسط:
(1) فمن الناس من إذا اعتقد في شخص أنه ولي لله وافقه في كل ما يظن أنه حدَّث به قلبه عن ربه، وسلَّم إليه جميع ما يفعله.
وهذه طريقة الصوفية الذين يقولون: كن بين يدي الشيخ كالميت بين يدي المغسل، ولا تعترض على شيء؛ فكل ما تراه من الشيخ أو رئيس الحضرة فهو حق وصواب وإن كان باطلاً وخطأ؛ فالأعيان تنقلب له؛ فالخمر التي يشاهدها الناس خمرًا تنقلب في بطن الولي لبنًا خالصًا، والزانية الفاجرة التي يرى الناس الولي بصحبتها تكون زوجة؛ بل إنهم جعلوا للولي تصرُّفًا في الكون، وأنه يقول للشيء كن فيكون.
وأقول: فما أبقوا لله عز وجل؟! تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
ومن المؤسف أن كثيرًا من بلاد المسلمين قد انتشر فيها هؤلاء الصوفية الضلَّال، وإن الواجب على علماء المسلمين وطلبة العلم كبير في بيان بدع هؤلاء القوم وتحذير العامة منهم ومقاومة الحجة بالحجة، ومجادلتهم بالتي هي أحسن؛ لعل الله أن يهديهم إلى طريق الحق والصواب.
وإن أمكن مجالدتهم – إن أصروا على بدعتهم – بعد مجادلتهم فهو الواجب لمن قدر عليه بضوابطه الشرعية؛ بشرط ألا يترتب على ذلك مفاسد.
(2) ومن الناس من إذا رأى شخصًا قال أو فعل ما ليس بموافق للشرع أخرجه عن ولاية الله بالكلية, وإن كان مجتهدًا مخطئًا، ولا شك أن هذا خطأ وانحراف في الفهم. وعليه فلا يمكن لأحد أن يكون وليًا لله.
(3) وخيار الأمور أوساطها، وهو أن لا يُجعل معصومًا ولا مأثومًا إذا كان مجتهدًا مخطئًا، فلا يُتبع في كل ما يقوله، ولا يحكم عليه بالكفر والفسق مع اجتهاده.
والواجب على الناس اتباع ما بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ قال أبو القاسم الجنيد: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصح له أن يتكلم في علمنا أو قال: لا يقتدى به.
وقال أبو عثمان النيسابوري: من أمرَّ السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمرَّ الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة؛ لأن الله يقول: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ [النور: 54].
الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان
لقد ذكر الله عز وجل في كتابه أن للشيطان أولياء كما أن للرحمن أولياء في آيات كثيرة منها:
قوله تعالى: ﴿فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 76].
وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ [آل عمران: 175].
وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ [الأنعام: 121].
ولهذا كان على المؤمن أن يفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان, كما يفرق الصيرفي بين الدرهم الجيد والدرهم الرديء, وكما يفرق من يعرف الخيل بين الفرس الجيد والفرس الرديء.. وكما يفرق من يعرف الفروسية بين الشجاع والجبان، وكما أنه يجب الفرق بين النبي الصادق وبين المتنبئ الكذاب؛ فيفرق بين محمد الصادق الأمين رسول رب العالمين، وموسى والمسيح وغيرهم، وبين مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وطليحة الأسدي، والحارث الدمشقي ([9]) وغيرهم من الكذابين.
ولو بلغ الرجل في الزهد والعبادة والعلم ما بلغ ولم يؤمن بجميع ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - فليس بمؤمن ولا ولي لله تعالى؛ كالأحبار والرهبان من علماء اليهود والنصارى وعبادهم الذين قالوا: ﴿نحن أبناء الله وأحباؤه﴾ وكذلك المنتسبين إلى العلم والعبادة من المشركين مشركي العرب الذين زعموا أنهم أولياء الله من دون الناس كما قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الجمعة: 6].
وكذلك كل من كان من حكماء الهند والترك وله علم أو زهد وعباده في دينه, وليس مؤمنًا بجميع ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر عدو لله, وإن ظن طائفة أنه ولي لله؛ كما كان حكماء الفرس من المجوس كفارًا مجوسًا, وكذلك كان حكماء اليونان, مثل: أرسطو وأمثاله كانوا مشركين يعبدون الأصنام والكواكب.
ولهذا تنزلت عليهم الشياطين واقترنت بهم, فصاروا من أولياء الشيطان, لا من أولياء الرحمن ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزخرف: 36] وذكر الرحمن هو الذكر الذي بعث به رسوله - صلى الله عليه وسلم - مثل: القرآن, فمن لم يؤمن بالقرآن ويصدق خبره، ويعتقد وجوب أمره, فقد أعرض عنه, فيقيض له الشيطان فيقترن به؛ قال تعالى:﴿وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ﴾ [الأنبياء: 50] وقال: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ [طه: 124، 125].
فدل ذلك على أن ذكره هو آياته التي أنزلها، ولهذا لو ذكر الله سبحانه وتعالى الرجلُ دائمًا ليلاً ونهارًا مع غاية الزهد، وعبده مجتهدًا في عبادته, ولم يكن متبعًا الذي أنزله القرآن كان من أولياء الشيطان, ولو طار في الهواء أو مشى على الماء فإن الشيطان يحمله في الهواء.
﴿إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 27].
قال ابن القيم رحمه الله: «فأولياء الرحمن هم المخلصون لربهم المحكمون لرسوله في الحرم والحل. الذين يخالفون غيره لسنته، لا يخالفون سنته لغيرها، فلا يبتدعون، ولا يدعون إلى بدعة، ولا يتحيزون إلى فئة غير الله ورسوله وأصحابه، ولا يتخذون دينهم لهوًا ولعبًا، ولا يستحبون سماع الشيطان على سماع القرآن، ولا يؤثرون صحبة الأفتان على مرضاة الرحمن ولا المعازف والمثاني على السبع المثاني:
برئنا إلى الله من معشر | بهم مرض مورد للضنا | |
وكم قلت: يا قوم أنتم على | شفا جرف من سماع الغنا | |
فلما استهانوا بتنبيهنا | تركنا غويًا وما قد جنى | |
وهل يستجيب لداعي الهدى | غوي أصار الغنا ديدنا | |
فعشنا على ملة المصطفى | وماتوا على (تاتنا تنتنا) |
ولا يشتبه أولياء الرحمن بأولياء الشيطان إلا على فاقد البصيرة والإيمان، وأنى يكون المعرضون عن كتابه وهدي رسوله وسنته، المخالفون له إلى غيره أولياءه وقد ضربوا لمخالفته جأشًا، وعدلوا عن هدي نبيه وطريقته، ﴿وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 34].
فأولياء الرحمن المتلبسون بما يحبه وليهم، الداعون إليه، المحاربون لمن خرج عنه، وأولياء الشيطان المتلبسون بما يحبه وليهم قولاً وعملاً يدعون إليه، ويحاربون من نهاهم عنه.
فإذا رأيت الرجل يحب السماع الشيطاني، ومؤذن الشيطان، وإخوان الشياطين، ويدعو إلى ما يحبه الشيطان من الشرك والبدع والفجور علمت أنه من أوليائه، فإن اشتبه عليك, فاكشفه في ثلاثة مواطن: في صلاته ومحبته للسنة وأهلها ونفرته عنهم، ودعوته إلى الله ورسوله وتجريد التوحيد والمتابعة وتحكيم السنة, فزنه بذلك لا تزنه بحال ولا كشف ولا خارق، ولو مشى على الماء وطار في الهواء([10]).
* * * *
شروط ولاية الله
لا يكون العبد وليًا إلا إذا توافرت فيه الأمور التالية:
(1) العقل: فلا ولية لمجنون حال جنونه؛ لأن المجنون رفع عنه القلم، فلا يصح شيء من عباداته باتفاق العلماء، ولا يصح منه إيمان ولا كفر ولا صلاة ولا غير ذلك من العبادات, بل لا يصلح هو عند عامة العقلاء لأمور الدنيا كالتجارة والصناعة؛ فلا يصلح أن يكون بزازًا ولا عطارًا ولا حدادًا ولا نجارًا, ولا تصح عقوده باتفاق العلماء.. فلا يصح بيعه ولا شراؤه.. ولا نكاحه ولا طلاقه ولا إقراره ولا شهادته. ولا غير ذلك من أقواله، بل أقواله كلها لغو لا يتعلق بها حكم شرعي، ولا ثواب ولا عقاب.
فإذا كان المجنون بهذه المثابة فلا يصح أن يكون وليًا لله تعالى, ولا يجوز لأحد أن يعتقد أنه ولي لله تعالى، خلافًا لمن زعم ذلك.
أما إذا كان يُجن أحيانًا.. ويُفيق أحيانًا، فإذا كان في حال إفاقته مؤمنًا بالله ورسوله ويؤدي الفرائض ويجتنب المحارم، فهذا إذا جُن لم يكن جنونه مانعًا من أن يثيبه الله تعالى على إيمانه وتقواه الذي أتى به في حال إفاقته, ويكون له من الولاية بحسب ذلك.
وكذلك من طرأ عليه الجنون بعد إيمانه وتقواه، فإن الله تعالى يثيبه ويأجره على ما تقدم من إيمانه وتقواه، ولا يحبطه بالجنون الذي ابتلي به من غير ذنب فعله, والقلم مرفوع عنه في حال جنونه.
وضلت طائفة من هذه الأمة عن طريق الحق, فادعت الولاية في المجانين ويسمونهم «المجاذيب» أي انجذبت روحهم وعقولهم نحو الله تعالى. ولا يسمونه مجنونًا بل مجذوبًا جذبه الله عز وجل إليه, فذهب من عالم الحسِّ إلى عالم الغيب على زعمهم.
ولا شك أن هذا ضلال وانحراف عن شرع الله, وإن هذا الموقف الخطير من «المجانين» ليدل على مدى الانحدار والسقوط الذي وقعت فيه الأمة, حين ركن الجمهور فيها إلى المجاذيب والمجانين يحبونهم ويهابونهم.. ويخافون منهم.. ويجلونهم.. ويكرمونهم.. ويغضون الطرف عن فضائحهم وقبائحهم.. ويستشفون الغيب منهم, وصار الأولياء في عرف الناس هم المجاذيب والمجانين والمعتوهون؛ لهذا استحقت الأمة أن تغزى في عقر دارها.. وأن تستباح بيضتها، وأن تُجتاح بلادها.. وأن يُغرب أهلها.. وتُمسخ هويتها, وهو ما وقع بالفعل.
(2) البلوغ: فلا ولاية لمن لم يبلغ من الصبيان والمميزين؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «رفع القلم عن ثلاثة» وذكر منهم: «وعن الصبي حتى يحتلم».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والحديث رواه أهل السنن من حديث علي وعائشة رضي الله عنهما, واتفق أهل المعرفة على تلقيه بالقبول, لكن الصبي المميز تصح عبادته، ويثاب عليها عند جمهور العلماء.
(3) موافقته لله تعالى فيما يحب ويكره؛ لأن هذا هو معنى الولاية كما سبق، ولأن الله عز وجل وصف أولياءه بالإيمان والتقوى.
(4) العلم بأصول الدين حتى يعرف ما يحب الباري عز وجل من توحيده، والإيمان به، ومعرفة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما يتبع هذين الأصلين من التصديق بالأخبار الشرعية والإيمان بمدلولها.
(5) العلم بفروع الشريعة والتي بها يعرف الحلال من الحرام، ويدرك ما يصح به عبادته؛ فمن الناس من يؤمن بالرسل إيمانًا مجملاً، وأما الإيمان المفصل, فيكون قد بلغه كثير مما جاءت به الرسل ولم يبلغه بعض ذلك؛ فيؤمن بما بلغه عن الرسل، وما لم يبلغه لم يعرفه، ولو بلغه لآمن به، ولكن آمن بما جاءت به الرسل إيمانًا مجملاً.. فهذا إذا عمل بما علم أن الله أمره به مع إيمانه وتقواه فهو من أولياء الله تعالى.
له من ولاية الله بحسب إيمانه وتقواه وما لم تقم عليه الحجة فإن الله تعالى لم يكلفه معرفته والإيمان المفصل به فلا يعذبه على تركه لكن يفوته من كمال ولاية الله بحسب ما فاته من ذلك؛ فمن علم بما جاء به الرسول وآمن به إيمانا مفصلا وعمل به، فهو أكمل إيمانا لله ممن لم يعمل ذلك مفصلا ولم يعمل به، وكلاهما ولي لله تعالى.
(6) أن يتخلق بالأخلاق المحمودة مع اجتناب المحرمات وفعل الواجبات مع إخلاص العمل والمتابعة لما جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
(7) ملازمة الخوف من الله، واحتقار النفس ومطالعة عيوبها، والرحمة بالخلق، والنصيحة لهم، مع الحرص على معرفة محاسن الشريعة، والخوف من سوء الخاتمة.
أقسام أولياء الله
أولياء الله على «طبقتين»؛ سابقون مقربون.. وأصحاب يمين متقصدون، ذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز.. في أول سورة الواقعة.. وآخرها.. وفي سورة الإنسان، والمطففين، وفي سورة فاطر؛ فقال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ [فاطر: 32-35].
وهذا التقسيم في الآيات لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. وإليك تفصيل أحوالهم من كلام الإمام ابن القيم:
أولاً: حال الظالمين لأنفسهم:
فالظالم لنفسه قطع مراحل عمره في غفلاته وإيثاره شهواته، ولذاته على مراضي الرب سبحانه وأوامره مع إيمانه بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، لكن نفسه مغلوبة معه مأسورة مع حظه وهواه.. يعلم سوء حاله ويعترف بتفريطه ويعزم على الرجوع إلى الله.
ثانيًا: حال المقتصدين:
وأما المقتصد المؤدي للفرائض المجتنب للمحارم فهو الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث عن ربه تعالى: «وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه». وهؤلاء المقتصدون – كما يقول ابن قيم الجوزية:
قطعوا مراحل سفرهم بالاهتمام بإقامة أمر الله وعقد القلب على ترك مخالفته ومعاصيه؛ فهممهم مصروفة إلى القيام بالأعمال الصالحة واجتناب الأعمال القبيحة؛ فأول ما يستيقظ أحدهم من منامه يسبق إلى قلبه القيام إلى الوضوء والصلاة كما أمره الله؛ فإذا أدى فرض وقته اشتغل بالتلاوة والأذكار إلى حين تطلع الشمس؛ فيركع الضحى، ثم يذهب إلى ما أقامه الله فيه من الأسباب؛ فإذا حضر فرض الظهر بادر إلى التطهر والسعي إلى الصف الأول من المسجد فأدى فريضته كما أمُر مكملاً لها بشرائطها وأركانها وسننها وحقائقها الباطنة من الخشوع والمراقبة والحضور بين يدي الرب؛ فينصرف من الصلاة وقد أثرت في قلبه وبدنه وسائر أحواله آثارًا تبدو على صفحاته ولسانه وجوارحه، ويجد ثمرتها في قلبه من الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور وقلة التكالب والحرص على الدنيا وعاجلها، قد نهته صلاته عن الفحشاء والمنكر، وحببت إليه لقاء ربه ونفرته من كل قاطع يقطعه عن الله؛ فهو مهموم كأنه في سجن حتى تحضر الصلاة، فإذا حضرت قام إلى نعيمه وسروره وقرة عينه وحياة قلبه؛ فهو لا تطيب له الحياة إلا بالصلاة؛ هذا وهم في ذلك كله مراعون لحفظ السنن، لا يخلُّون منها بشيء ما أمكنهم؛ فيقصدون من الوضوء أكمله، ومن الوقت أوله، ومن الصفوف أولها عن يمين الإمام أو خلف ظهره، ويأتون بعد الفريضة بالأذكار المشروعة كالاستغفار ثلاثًا وقوله: «اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام» وقوله: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولما معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون». ثم يسبِّحون ويحمدون ويكبرون تسعًا وتسعين ويختمون المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ومن أراد المزيد قرأ آية الكرسي والمعوذتين عقيب كل صلاة؛ فإن فيها أحاديث رواها النسائي وغيره، ثم يركعون السنة على أحسن الوجوه هذا دأبهم في كل فريضة.
فإذا كان قبل غروب الشمس توفروا على أذكار المساء الواردة في السنة نظير أذكار الصباح الواردة في أول النهار لا يخلُّون بها أبدًا؛ فإذا جاء الليل كانوا فيها على منازلهم من مواهب الرب سبحانه التي قسمها بين عباده.
فإذا أخذوا مضاجعهم أتوا بأذكار النوم الواردة في السنة، وهي كثيرة تبلغ نحوًا من أربعين، فيأتون منها بما علموه وما يقدرون عليه من قراءة سورة الإخلاص والمعوذتين ثلاثًا، ثم يمسحون بها رؤوسهم ووجوههم وأجسادهم ثلاثًا، ويقرؤون آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة ويسبحون ثلاثًا وثلاثين، ويحمدون ثلاثًا وثلاثين ويكبرون أربعًا وثلاثين، ثم يقول أحدهم: (اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت).
وإن شاء قال: (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فاغفر لها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين).
وإن شاء قال: (اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، ربي ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل دابة أنت أخذ بناصيتها؛ أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر).
وبالجملة فلا يزال يذكر الله على فراشه حتى يغلبه النوم وهو يذكر الله، فهذا منامه عبادة وزيادة له في قربه من الله.
فإذا استيقظ عاد إلى عادته الأولى، ومع هذا فهو قائم بحقوق العباد من عيادة المرضى وتشييع الجنائز وإجابة الدعوة والمعاونة لهم بالجاه والبدن والنفس والمال وزيارتهم وتفقدهم، وقائم بحقوق أهله وعياله؛ فهو منتقل في منازل العبودية كيف نقله فيها الأمر، فإذا وقع منه تفريط في حق من حقوق الله بادر إلى الاعتذار والتوبة والاستغفار، ومحوه ومداواته بعمل صالح يزيل أثره؛ فهذه وظيفته دائمًا.
ثالثًا: حال السابقين المقربين:
وأما السابقون المقربون فنستغفر الله الذي لا إله إلا هو أولاً من وصف حالهم وعدم الاتصاف به، بل ما شممنا له رائحة؛ ولكن محبة القوم تحمل على تعرف منزلتهم والعلم بها، وإن كانت النفوس متخلفة منقطعة عن اللحاق بهم ففي معرفة حال القوم فوائد عديدة.
فنبأ القوم عجيب، وأمرهم خفي إلا على من له مشاركة مع القوم؛ فإنه يطلع من حالهم على ما يريه إياه القدر المشترك، وجملة أمرهم أنهم قوم قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وغمرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته، فسرت المحبة في أجزائهم فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب؛ قد أنساهم حبه ذكر غيره، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه، قد فنوا بحبه عن حب من سواه، وبذكره عن ذكر من سواه، وبخوفه ورجائه والرغبة إليه والرهبة منه والتوكل عليه والإنابة إليه والسكون إليه والتذلل والانكسار بين يديه عن تعلق ذلك منهم بغيره؛ فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه، واجتمع همه عليه متذكرًا صفاته العلى وأسماءه الحسنة، ومشاهدًا له في أسمائه وصفاته، قد تجلت على قلبه أنوارها فانصبغ قلبه بمعرفته ومحبته؛ فبات جسمه في فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبه قد أوى إلى مولاه وحبيبه فآواه إليه وأسجده بين يديه خاضعًا خاشعًا ذليلاً منكسرًا من كل جهة من جهاته.
فيا لها من سجدة ما أشرفها من سجدة؛ لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء.. فإذا استيقظ أحدهم إلى قلبه هذا الشأن فأول ما يجري على لسانه ذكر محبوبه والتوجه إليه واستعطافه والتملق بين يديه والاستعانة به؛ أن لا يخلي بينه وبين نفسه، وأن لا يكله إليها؛ فيكله إلى ضعة وعجز وذنب وخطيئة؛ بل يكلؤه كلاءة الوليد الذي لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا؛ فأول ما يبدأ به: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور) متدبرًا لمعناها من ذكر نعمة الله عليه بأن أحياه بعد نومه الذي هو أخو الموت وأعاده إلى حاله سويًا سليمًا محفوظًا مما لا يعلمه ولا يخطر بباله من المؤذيات أو الأذى... ثم يدعو ويتضرع، ثم يقوم إلى الوضوء بقلب حاضر مستصحب لما فيه، ثم يصلي ([11]) ما كتب الله صلاة محب ناصح لمحبوبه متذلل منكسر بين يديه، لا صلاة مدل بها عليه، يرى من أعظم نعم محبوبه عليه أن أقامه وأنام غيره، واستزاره وطرد غيره وأهله وحرم غيره؛ فهو يزداد بذلك محبة إلى محبته، ويرى أن قرة عينه وحياة قلبه وجنة روحه ونعيمه ولذته وسروره في تلك الصلاة؛ فهو يتمنى طول ليله ويهتم بطلوع الفجر، كما يتمنى المحب الفائز بوصل محبوبه ذلك؛ فهو كما قيل:
يود أن ظلام الليل دام له | وزيد فيه سواد القلب والبصر |
فهو يتملق فيها مولاه تملق المحب لمحبوبه العزيز الرحيم، ويناجيه بكلامه معطيًا لكل آية حظها من العبودية فتجذب قلبَه وروحه إليه آيات المحبة والوداد، والآيات التي فيها الأسماء والصفات، والآيات التي تعرَّف بها إلى عباده بآلائه وإنعامه عليهم وإحسانه إليهم، وتُطيبُ له السير آيات الرجاء والرحمة وسعة البر والمغفرة؛ فتكون له بمنزلة الحادي الذي يطيب له السير ويهونه، وتقلقه آيات الخوف والعدل والانتقام وإحلال غضبه بالمعرضين عنه العادلين به غيره، المائلين إلى سواه، فيجمعه عليه ويمنعه أن يشرد قلبه عنه.
فتأمل هذه الثلاثة وتفقه فيها، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله. وبالجملة فيشاهد المُتَكَلِمُ سبحانه وقد تجلى في كلامه ويعطي كل آية حظها من عبودية قلبه الخاصة الزائدة على نفس فهمها ومعرفة المراد منها، ثم شأن آخر لو فطن له العبد لعلم أنه كان قبلُ يلعب كما قيل:
وكنت أرى أن قد تناهى بي الهوى | إلى غاية ما بعدها لي مذهب | |
فلما تلاقينا وعاينت حسنها | تيقنت أني إنما كنت ألعب |
فوا أسفاه! ووا حسرتاه! كيف ينقضي الزمان وينفذ العمر والقلب محجوب ما شم لهذا رائحة، وخرج من الدنيا كما دخل إليها وما ذاق أطيب ما فيها؛ بل عاش فيها عيش البهائم وانتقل منها انتقال المفاليس؛ فكانت حياته عجزًا وموته كمدًا ومعاده حسرة وأسفًا.
اللهم فلك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك؛ فإذا صلى ما كتب الله جلس مطرقًا بين يدي ربه هيبة له وإجلالاً، واستغفره استغفار من قد تيقن أنه هالك إن لم يغفر له ويرحمه، فإذا قضى من الاستغفار وطرًا وكان عليه بعد ليل اضطجع على شقه الأيمن مجمًا نفسه مريحًا لها مقويًا على أداء وظيفة الفرض؛ فيستقبله نشيطًا بجدِّه، وهمَِّتِه كأنه لم يزل طول ليلته لم يعمل شيئًا؛ فهو يريد أن يستدرك ما فاته في صلاة الفجر، فيصلي السنة ويبتهل إلى الله بينها وبين الفريضة؛ فإن لذلك الوقت شأنًا يعرفه من عرفه، ويكثر فيه من قول:
«يا حيُّ يا قيوم لا إله إلا أنت» فلهذا الذكر في هذا الموطن تأثير عجيب, ثم ينهض إلى صلاة الصبح قاصدًا الصف الأول عن يمين الإمام أو خلف قفاه، فإن فاته ذلك قصد القرب منه مهما أمكن فإن للقرب من الإمام تأثيرًا في سر الصلاة، ولهذا القرب تأثير في صلاة الفجر خاصة, يعرفه من عرف قوله تعالى: ﴿وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: 78].. فإذا فرغ من صلاة الصبح أقبل بكليته على ذكر الله والتوجه إليه بالأذكار التي شرعت أول النهار, فيجعلها وردًا له لا يخل بها أبدًا، ثم يزيد عليها ما شاء من الأذكار الفاضلة أو قراءة القرآن حتى تطلع الشمس فإذا طلعت فإن شاء ركع ركعتي الضحى وزاد ما شاء، وإن شاء قام من غير ركوع ثم يذهب متضرعًا إلى ربه سائله أن يكون ضامنًا عليه متصرفًا في مرضاته بقية يومه.. فلا ينقلب إلا في شيء يظهر له فيه مرضاة ربه، وإن كان من الأفعال العادية الطبيعية قلَبَه عبادة بالنية وقصد الاستعانة به على مرضاة الرب، وبالجملة, فيقف عند أول الداعي إلى فعله، فيفتش ويستخرج منه منفذًا ومسلكًا يسلك به إلى ربه فينقلب في حقه عبادة وقربة.. فإذا جاء فرض الظهر بادر إليه مكملاً له ناصحًا فيه لمعبوده؛ كنصح المحب الصادق المحبة لمحبوبه الذي قد طلب منه أن يعمل له شيئًا ما.
وبالجملة فهذا حال هذا العبد مع ربه في جميع أعماله فهو يعلم أنه لا يوفي هذا المقام حقه...([12]).
أخي الكريم:
قبل أن تقلب الصفحة قف مع نفسك وقفة صادقة هل أنت ظالم لنفسك؟
أم أنت مقتصد؟
أم أنت من السابقين المقربين؟
فهنيئًا لك إن كنت من السابقين المقربين.
وجبر الله مصيبتك إن كنت من المقتصدين.
وعظَّم الله أجرك إن كنت من الظالمين لأنفسهم.
وإياك ثم إياك ثم إياك من ركوب بحر التمني، وهو بحر لا ساحل له، وهو البحر الذي يركبه مفاليس العالم كما قيل: إن المنى رأس أموال المفاليس، وبضاعة ركابه مواعيد الشيطان وخيالات المحال والبهتان.
فكن صاحب همة عالية وأماني حائمة حول العلم والإيمان والعمل الذي يقربك إلى الله ويدنيك من جواره ([13]).
* * * *
ثمرات الولاية
للولاية ثمرات كثيرة منها:
(1) ما ذكره الله تعالى في قوله: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ﴾ [يونس: 62-64].
ففي هذه الآية يخبر الله تعالى أن من كان وليًا لله تعالى, فله عدة ثمرات وكرامات:
أ- لا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أهوال الآخرة.
ب- ولا هم يحزون على ما وراءهم في الدنيا.
ج- أن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وقد فسَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - المراد بالبشرة أنها الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له كما جاء ذلك عن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت.
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات».
قالوا: وما المبشرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة».
(2) إعلام الولي بأن الله معه بنصره, وتأييده, وهذه المعية معية خاصة؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [المائدة: 54، 55].
وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128].
وقال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر: 51].
(3) إعلام الولي بما أعده الله عز وجل له في الآخرة من النعيم والرضوان. قال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [البقرة: 25].
(4) ثناء الناس على عمله دون قصد منه, يدل لهذا حديث أبي ذر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «تلك عاجل بشرى المؤمن»([14]).
(5) تبشير الملائكة له عند النزع الأخير وخروج الروح.
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ﴾ [فصلت: 30، 31].
قال ابن كثير رحمه الله: «أي تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار نحن كنا أولياءكم أي: قرناءكم في الحياة الدنيا نسددكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر الله وكذلك نكون معكم في الآخرة نؤنس منكم الوحشة في القبور وعند النفخة في الصور، ونؤمنكم يوم البعث والنشور، ونجاوز بكم الصراط المستقيم ونوصلكم إلى جنات النعيم»([15]). اهـ.
(6) إجابة الدعوة. كما جاء في الحديث: «ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه».
فهذا يدل على أن ولي الله تعالى مستجاب الدعوة إما عجلاً وإما آجلاً على التفصيل الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «ما من مسلم يدعو، ليس بإثم ولا بقطيعة رحم – إلا أعطاه الله إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدَّخرها له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها» قال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: إذا نكثر. قال: «الله أكثر»([16]).
وقد كان بعض الصحابة رضوان الله عليهم مجاب الدعوة مثل البراء بن مالك؛ فعن أنس بن مالك قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: «كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له.. لو أقسم على الله لأبره.. منهم البراء بن مالك»([17]).
وإن البراء لقي زحفًا من المشركين, فقال له المسلمون: أقسم على ربك قال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم. فمنحهم أكتافهم. ثم التقوا مرة أخرى. فقالوا: أقسم على ربك فقال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وألحقتني بنبيك - صلى الله عليه وسلم - فمنحوا أكتافهم وقتل البراء - رضي الله عنه -.
وممن هو مستجاب الدعوة كذلك سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -؛ فعن جابر بن سمرة قال: شكا أهل الكوفة سعدًا إلى عمر بن الخطاب واستعمل عليهم عمارًا فشكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي.
فأرسل إليه فقال: يا أبا إسحاق. إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي. فقال: أما أنا.. والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أخرم عنها. أصلي صلاتي العشاء فأركد في الأوليين وأخف في الآخرين. قال: قال: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق. وأرسل معه رجلاً أو رجالاً إلى الكوفة يسأل عنه أهل الكوفة, فلم يدعْ مسجدًا إلا سأل عنه، ويثنون معروفًا حتى دخل مسجدًا لبني عبس فقام رجل منهم يقال له: أسامة بن قتادة يكنى أبا سعدة. فقال: أما إذا نشدتنا فإن سعدًا كان لا يسير بالسرية. ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية. قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا قام رياء وسمعة.. فأطل عمره.. وأطل فقره.. وعرضه للفتن. وكان بعد ذلك إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون. أصابتني دعوة سعد.
يقول جابر بن سمرة: فأنا رأيته بَعْدُ قد سقط حاجباه على عينه من الكبر. وإنه ليتعرض للجواري في الطرق فيغمزهن.
وممن هو مستجاب الدعوة أيضًا سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل - رضي الله عنه -؛ فعن عروة بن الزبير أن سعيداً بن زيد خاصمته أروى بنت أوس إلى مروان بن الحكم.. وادعت أنه أخذ شيئًا من أرضها فقال سعيد: أنا كنت آخذ من أرضها شيئًا بعد الذي سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: ماذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه إلى سبع أرضين».
فقال له مروان: لا أسألك بينة بعد هذا. فقال سعيد: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها.. واقتلها في أرضها. قال: فما ماتت حتى ذهب بصرها، وبينما هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت».
وذكر من هم مجابو الدعوة يضيق المقام عن حصرهم.
ولكن ينبغي للمسلم أن يحذر من ظلم الناس, فربما يظلم إنسانًا له منزلة عند الله تعالى, فيرفع يديه وتُستجاب دعوته.
(7) ومن ثمرات ولاية الله رعاية الله عز وجل لوليه بتوفيقه وحفظ جوارحه عن المعاصي كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [البقرة: 257].
وكما جاء في الحديث: «فإذا أحببته كنت سمعه الذين يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها».
وقد استشكل قوم؛ كيف يكون الباري جلَّ وعلا سمع العبد وبصره ويده ورجله؟
وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله جوابًا على هذا سبعة أقوال:
القول الأول: أنه ورد على سبيل التمثيل، والمعنى: كنت سمعه وبصره في إيثاره أمره.. فهو يحب طاعتي ويؤثر خدمتي كما يحب هذه الجوارح.
القول الثاني: أن المعنى: كليته مشغولة بي فلا يصغى بسمعه إلا إلى ما يرضيني، ولا يرى ببصره إلا ما أمرته به.
القول الثالث: المعنى: أجعل له مقاصده كأنه ينالها بسمعه وبصره... الخ.
القول الرابع: كنت له في النصرة كسمعه وبصره ويده ورجله في المعاونة على عدوه.
القول الخامس: قال الفاكهاني -وسبقه إلى معناه ابن هبيرة: هو فيما يظهر لي أنه على حذف مضاف، والتقدير: كنت حافظ سمعه الذي يسمع به, فلا يسمع إلا ما يحل استماعه، وحافظ بصره كذلك... الخ.
القول السادس: يحتمل معنى آخر أدق من الذي قبله، وهو أن يكون معنى سمعه مسموعه؛ لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول مثل: فلان أملي بمعنى مأمولي، والمعنى أنه لا يسمع إلا ذكري ولا يلتذ إلا بتلاوة كتابي ولا يأنس إلا بمناجاتي ولا ينظر إلا في عجائب ملكوتي ولا يمد يده إلا فيما فيه رضاي ورجله كذلك وبمعناه قال ابن هبيرة أيضًا.
القول السابع: قال الخطابي: وقد يكون عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء، والنجح في الطلب، وذلك أن مساعي الإنسان كلها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة.
وقال بعضهم وهو منتزع مما تقدم: لا يتحرك له جارحة إلا في الله ولله؛ فهي كلها تعمل بالحق للحق.
والمعاني هذه كلها صحيحة ([18]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «والحديث حق كما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن ولي الله لكمال محبته لله.. وطاعته لله يبقى إدراكه لله وبالله.. وعمله لله وبالله.. فما يسمعه مما يحبه الحق أحبه.. وما يسمعه مما يبغضه الحق أبغضه.. وما يراه مما يحبه الحق أحبه.. وما يراه مما يبغضه الحق أبغضه.. ويبقى في سمعه وبصره من النور ما يميز به بين الحق والباطل كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته:
«اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا، وفي سمعي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا، وفوق نورًا.. وتحتي نورًأ وأمامي نورًا.. وخلفي نورًا.. واجعل لي نورًا».
فولي الله فيه من الموافقة لله ما يتحد به المحبوب والمكروه.. والمأمور والمنهي ونحو ذلك.. فيبقى محبوب الحق محبوبه.. ومكروه الحق مكروهة ومأمور الحق مأموره.. وولي الحق وليه.. وعدو الحق عدوه..»([19]). اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «المراد من هذا الكلام أن من اجتهد بالتقرب إلى الله تعالى بالفرائض ثم بالنوافل قربه إليه ورقاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان؛ فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة كأنه يراه.. فيمتلئ قلبه بمعرفة الله تعالى ومحبته وعظمته وخوفه ومهابته وإجلاله والأنس به والشوق إليه حتى يصير هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهدًا له بعين البصيرة.. ولا يزال هذا الذي في قلوب المحبين المقربين يقوى حتى تمتلئ قلوبهم به، فلا يبقى في قلوبهم غيره ولا تستطيع جوارحهم أن تنبعث إلى بموافقة ما في قلوبهم.. فمتى امتلأ القلب بعظمة الله تعالى محا ذلك من القلب كل ما سواه ولم يبقَ للعبد شيء من نفسه وهواه ولا إرادة إلا لما يريده منه مولاه.. فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره.. ولا يتحرك إلا بأمره.. فإن نطق نطق بالله.. وإن سمع سمع به.. وإن نظر نظر به.. وإن بطش بطش به.. فهذا هو المراد..»([20]). اهـ.
* * * *
الكرامة والولاية
مذهب أهل السنة والجماعة أن الكرامة أمر خارق للعادة يظهره الله على أيدي المؤمنين المتقين.. لكنها لا تصل إلى الخوارق التي يظهرها الله على أيدي أنبيائه ورسله المسماة في القرآن والسنة بـ «الآية» و «البرهان» والمسماة عند العلماء بـ «المعجزة» وليس من شرط الولاية حدوث الأمر الخارق للعادة؛ لأنه قد يحدث على يد من يُستدرج.
وليست الكرامة دليلاً على الولاية وكمالها؛ فمن يحدث على يديه الخارق للعادة مع إيمانه وتقواه، فإنه لا يدل على أنه أفضل ممن سواه من أولياء الله المؤمنين. بل قد يكون من لا يخرج على يديه الخارق أفضل.. ولذا كانت نسبة وجود الخارق للعادة على من بعد الصحابة أكثر من الصحابة؛ لأن حاجتهم لتقوية الإيمان أقل. وضعف الإيمان فيمن بعدهم أكثر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ومما ينبغي أن يعرف أن الكرمات قد تكون بحسب حاجة الرجل, فإذا احتاج إليها الضعيف الإيمان أو المحتاج أتاه منها ما يقوي إيمانه ويسد حاجته ويكون من هو أكمل ولاية لله منه مستغنيًا عن ذلك, فلا يأتيه مثل ذلك؛ لعلو درجته وغناه عنها لا لنقص ولايته, ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة.. بخلاف من يجري على يديه الخوارق لهدي الخلق ولحاجتهم, فهؤلاء أعظم درجة»([21]).
وللكرامة شروط في نفسها تميزها عن أحوال الشياطين وأعمال السحرة والمشعوذين, وشروط فيمن تحدث على يديه من أهمها:
(1) أن يكون صاحبها مؤمنًا تقيًا:
قال تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يونس: 62، 63].
فيؤدي ما افترضه الله عليه من الفروض والواجبات، ويجتنب ما نهاه الله عنه من المحرمات, ثم يعمل المستحبات ويترك المكروهات.
(2) أن لا يدعي صاحبها الولاية:
فدعوى الولاية هي دعوى علم الغيب أولاً.. ثم إنها تزكية للنفس ثانيًا, وليس من لازم الكرامة الولاية كما سبق.
(3) أن لا يغتر بها من تحدث له ولا يفخر بها مرائيًا.
(4) أن لا تكون سببًا في ترك شيء من الواجبات؛ لأن الكرامة يحصل عليها الولي بسبب طاعته لله, فليزم من ذلك أن لا تخالف ما كان سببًا في حصولها.
ومثال ذلك: الذي يحمله الجني إلى عرفة ليلة عرفة, فيحج مع الناس ثم يعيده إلى بلده من غير إحرام ولا ميقات. فذلك ليس كرامة ولكنه خداع من الجني الكافر.
(5) أن لا تخالف أمرًا من أمور الدين:
فلو رأى في المنام أو في اليقظة أن شخصًا في صورة ملك أو نبي أو صالح يقول له: قد أبحت لك الحرام أو حرمت عليك الحلال أو أسقطت عنك التكاليف أو نحو ذلك فلا يصدقه؛ لأن الدين قد اكتمل قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * * *
معاداة أولياء الله
ينبغي للعبد أن يعلم أن جميع المعاصي محاربة لله تعالى.
قال الحسن بن آدم: هل لك بمحاربة الله من طاقة ؟ فإن من عصى الله فقد حاربه، لكن كلما كان الذنب أقبح كانت المحاربة لله أشد، ولهذا سمى الله تعالى أكلة الربى وقطاع الطريق محاربين لله تعالى ورسوله لعظم ظلمهم لعباده وسعيهم بالفساد في بلاده وكذلك كل من يؤذي مؤمنًا تقيًا أو يعتدي عليه في ماله أو نفسه أو عرضه, فإن الله تعالى يُعلمه أنه محارب له.. وإذا حارب الله عبدًا أهلكه وهو يُمهل ولا يُهمل.. ويمد للظالمين مدًا ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: 102].
وكما في الحديث: «من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب».
والمعاداة التي توعد الله بها من عادى أولياءه هي ما كانت بسبب امتثاله لأوامر الله واجتنابه عن نواهيه.. ودعوته إلى منهجه. أما إذا كانت المعاداة من أجل نزاع أو خصومة على ما يقتضي النزاع عليه. فهذا لا يدخل في الحديث.
ثم علينا أن لا نحكم لإنسان آذى أولياء الله ثم لم يُعاجل بمصيبة في نفسه أو ماله أو ولده. بأنه يسلم من انتقام الله تعالى له, فقد تكون مصيبته في غير ذلك مما هو أشبه عليه؛ كالمصيبة في الدِّين مثلاً.
والله عز وجل قد وعد أنه ينصر رسله وأولياءه؛ فقال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ [غافر: 51، 52].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «قد أورد أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [غافر: 51، 52] سؤالاً, فقال: قد عُلم أن بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قتله قومه بالكلية؛ كيحيى وزكريا وشعياء ومنهم من خرج من بين أظهرهم إما مهاجرًا كإبراهيم وإما إلى السماء كعيسى فأين النصرة في الدنيا؟
ثم أجاب عن ذلك بجوابين:
أحدهما: أن يكون الخبر خرج عامًا والمراد به البعض؛ قال وهذا سائغ في اللغة.
الثاني: أن يكون المراد بالنصر والانتصار لهم ممن آذاهم وسواءً كان ذلك بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد موتهم, كما فعل بقتلة يحيى وزكريا وشعياء سلط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك دماءهم.
وقد ذُكر أن النمرود أخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، وأما الذين راموا صلب المسيح - عليه السلام - من اليهود, فسلط الله تعالى عليهم الروم, فأهانوهم وأذلوهم وأظهرهم الله تعالى عليهم، ثم قبل يوم القيامة سينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام إمامًا عادلاً وحكمًا مقسطًا, فيقتل المسيح الدجال وجنوده من اليهود, ويقتل الخنزير ويكسر الصليب، ويضع الجزية, فلا يقبل إلا الإسلام وهذه نُصرة عظيمة وهي سنةُ الله تعالى في خلقه في قديم الدهر وحديثه؛ أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا, ويقر أعينهم ممن آذاهم؛ ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يقول الله تبارك وتعالى من عادى لي وليًا فقد بارزني بالحرب» وفي الحديث الآخر: «إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث بالحرب» وفي الحديث الصحيح: «من كنت خصمه خصمته». ولهذا أهلك الله عز وجل قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وقوم لوط وأهل مدين وأشباههم وأضرابهم ممن كذب الرسل وخالف الحق. وأنجى الله تعالى من بينهم المؤمنين؛ فلم يُهلك منهم أحدًا وعذب الكافرين؛ فلم يُفلت منهم أحدًا، قال السُّدي: لم يبعث الله عز وجل رسولاً قط إلى قوم فيقتلونه أو قومًا من المؤمنين يدعون إلى الحق, فيُقتلون فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى لهم من ينصرهم؛ فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم وهم منصورون فيها. وهكذا نصر الله نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على من خالفه وناوأه وكذبه وعاداه فجعل كلمته هي العليا ودينه هو الظاهر على سائر الأديان، وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى المدينة النبوية وجعل له فيها أنصارًا وأعوانًا ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر فنصره عليهم وخذلهم به وقتل صناديدهم، وأسر سُراتهم فاستاقهم مقرَّنين في الأصفاد، ثم منَّ عليهم بأخذه الفداء منهم ثم بعد مدة قريبة فتح عليه مكة؛ فقرت عينه ببلده وهو البلد المحرم الحرام المشرف المعظم فأنقذه الله تعالى به مما كان فيه من الكفر والشرك وفتح له اليمن ودانت له جزيرة العرب بكاملها ودخل الناس في دين الله أفواجًا، ثم قبضه الله تعالى إليه لما له عنده من الكرامة العظيمة فأقام الله تبارك وتعالى أصحابه خلفاء بعده فلبَّغوه عنه دين الله عز وجل ودعوا عباد الله تعالى إلى الله جلَّ وعلا، وفتحوا البلاد والرساتيق والأقاليم والمدائن والقرى والقلوب حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها. ثم لا يزال هذا الدين قائمًا منصورًا ظاهرًا إلى قيام الساعة ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر: 51] أي: يوم القيامة تكون النُّصرة أعظم وأكبر وأجل»([22]).
* * * *
الولاية والتواضع
ترجم الإمام البخاري- رحمه الله- في كتاب الصحيح المسمى «الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسننه وأيامه»([23]).
لهذا الحديث بـ «باب التواضع».
واستشكل العلماء دخول هذا الحديث في باب التواضع.
وقد التمس الحافظ ابن حجر- رحمه الله- لذلك عدة أجوبة منها:
(1) أن التقرب إلى الله بالنوافل لا يكون إلا بغاية التواضع لله والتوكل عليه.
(2) أن موالاة الأولياء لا تتأتى إلا بغاية التواضع؛ إذ منهم الأشعث الأغبر الذي لا يؤبه له، وقد ورد في الحث على التواضع عدة أحاديث صحيحة لكن ليس شيء منها على شرطه فاستغنى عنها بحديثي الباب...»([24]). اهـ.
صفة التردد
وصف الله عز وجل نفسه في هذا الحديث بصفة التردد، وهي صفة ثابتة. نثبتها لله كما يليق بجلاله وكماله، ولا تشبه صفة المخلوقين, فكما أننا نثبت لله صفة السمع والبصر والحياة والعلم, فإننا كذلك نثبت صفة التردد.
قال الله تعالى في نهاية هذا الحديث: «وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته».
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن معنى تردد الله فأجاب: (والتحقيق: أن كلام رسوله حق وليس أحد أعلم بالله من رسوله، ولا أنصح للأمة منه ولا أنصح ولا أحسن بيانًا منه، فإذا كان كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس وأجهلهم وأسوئهم أدبًا، بل يجب تأديبه وتعزيره، ويجب أن يصان كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الظنون الباطلة والاعتقادات الفاسدة، ولكن المتردد منا وإن كان تردده في الأمر؛ لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منه، فإن الله ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، ثم هذا باطل؛ فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب، وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد؛ فيريد الفعل لما فيه من المصلحة، ويكرهه لما فيه من المفسدة لا لجهله منه بالشيء الواحد الذي يُحب من وجه ويكره من وجه كما قيل:
الشيب كره وكره أن أفارقه | ||||
فأعجب لشيء على البغضاء محبوب | ||||
وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه, بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب، ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في هذا الحديث، فإنه قال: «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه», فإن العبد الذي هذا حاله صار محبوبًا للحق محبًا له، يتقرب إليه أولاً بالفرائض وهو يحبها، ثم اجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها؛ فأتى بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق.
فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين يقصد اتفاق الإرادة بحيث يحبه محبوبه، ويكره ما يكرهه محبوبه، والرب يكره أن يسور عبده ومحبوبه، فلزم من هذا أن يكره الموت؛ ليزداد من محاب محبوبه. والله سبحانه وتعالى قد قضى بالموت، فكل ما قضى به, فهو يريده ولابد منه، فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه، وهو مع ذلك كاره لمساءة عبده، وهي المساءة التي تحصل له بالموت, فصار الموت مرادًا للحق من وجه مكروهًا له من وجه.
وهذا حقيقة التردد وهو أن يكون الشيء الواحد مرادًا من وجه مكروهًا من وجه، وإن كان لابد من ترجح أحد الجانبين, كما ترجح إرادة الموت, لكن مع وجود كراهة مساءة عبده...([25]).
الخاتمـة
في ختام هذه الرسالة المختصرة يمكن أن نستفيد من الحديث مع ما سبق عدة فوائد منها:
1) تقديم الإعذار على الإنذار, وذلك من قوله - صلى الله عليه وسلم -. «قال الله تعالى: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب».
2) قال الحافظ ابن حجر: «يؤخذ من قوله: «ما تقرب إليَّ عبدي بأحب مما افترضته عليه...» أن النافلة لا تقدم على الفريضة؛ لأن النافلة إنما سميت نافلة؛ لأنها تأتي زائدة على الفريضة فما لم تؤدَ الفريضة لا تحصل النافلة.. ومن أدى الفرض ثم زاد عليه النفل وأدام ذلك تحقق منه إرادة التقرب.
3) من أعظم الفرائض المقربة إلى الله الصلاة, ومن أعظم النوافل المقربة إلى الله كثرة تلاوة القرآن وسماعه بتفكر وتدبر وتفهم وكثرة ذكر الله الذي يتوطأ عليه القلب واللسان.
4) النافلة تجير الفرائض, قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة.. فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر وإن انتقص من فريضة قال الرب: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمَّل بها ما انتقص من الفريضة, ثم يكون سائر عمله على ذلك».
5) أن العبد مهما بلغ أعلى الدرجات فينبغي له ألا ينقطع عن الطلب من الله تعالى؛ وذلك لما فيه من إظهار الذل والخضوع له.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
([1]) الحديث أخرجه البخاري (الفتح 11/414 «6502») دون الزيادات، انظر السلسلة الصحيحة للألباني رحمه الله رقم (183).
([2]) فتح الباري 14/130.
([3]) الفتاوى 18/129.
([4]) أخرجه البخاري 12/11 (6732)، ومسلم 3/1233 (1615).
([5]) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص7.
([6]) الفتاوى 11/175.
([7]) الفتاوى 11/194.
([8]) أخرجه أحمد في المسند 5/411، وصححه الألباني في تعليقه على شرح العقيدة الطحاوية ص361.
([9]) وهؤلاء ممن ادعوا النبوة كذبًا وزورًا وإلا فمحمد - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم الأنبياء والمرسلين.
([10]) الروح لابن القيم ص257ط، دار الفكر.
([11]) المراد بالصلاة هنا قيام الليل في الثلث الأخير من الليل.
([12]) طريق الهجرتين وباب السعادتين ص314 وما بعدها.
([13]) بتصرف من مدارج السالكين لابن القيم 1/454.
([14]) رواه مسلم 4/2034 (2642).
([15]) تفسير ابن كثير 4/107.
([16]) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (710) وقال الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد (547): «صحيح».
([17]) انظر: صحيح الجامع وزيادته للألباني (4573).
([18]) انظر: فتح الباري 11/418.
([19]) مجموع الفتاوى 2/373.
([20]) جامع العلوم والحكم ص443.
([21]) الفتاوى 11/283.
([22]) تفسير ابن كثير 4/90.
([23]) وهذه التسمية أصبحت مهجورة بين طلاب العلم فضلاً عن غيرهم.
([24]) فتح الباري 11/422.
([25]) الفتاوى 18/129.